بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله الَّذِي أبان معالم الْحق فأوضحها، وأنار مناهج الدّين فبينها، وَأنزل الْقُرْآن فصرف فِيهِ الْحجَج، وَأرْسل مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقطع بِهِ الْعذر، فَبلغ الرَّسُول وَبَالغ واجتهد وجاهد، وَبَين للْأمة السَّبِيل، وَشرع لَهُم الطَّرِيق لِئَلَّا يَقُولُوا: مَا جَاءَنَا من بشير وَلَا نَذِير، ولينذر من كَانَ حَيا ويحق الْحق على الْكَافرين، وَإِلَى الله أَرغب فِي حسن التَّوْفِيق لما يقرب إِلَيْهِ من صَوَاب القَوْل وَالْفِعْل، وأستعفيه من الْخَطَأ والزلل إِنَّه ولي الْعِصْمَة والتوفيق، وَبِيَدِهِ الْهِدَايَة والتسديد.
وَحين رَأَيْت قوام الْإِسْلَام بالتمسك بِالسنةِ، وَرَأَيْت الْبِدْعَة قد كثرت، والوقيعة فِي أهل السّنة قد فَشَتْ، وَرَأَيْت اتِّبَاع السّنة عِنْد قوم نقيضة،(1/93)
والخوض فِي الْكَلَام دَرَجَة رفيعة، رَأَيْت أَن أملي كتابا فِي السّنة يعْتَمد عَلَيْهِ من قصد الِاتِّبَاع وجانب الابتداع، وَأبين فِيهِ اعْتِقَاد أَئِمَّة السّلف، وَأهل السّنة فِي الْأَمْصَار، والراسخين فِي الْعلم فِي الأقطار، ليلزم الْمَرْء اتِّبَاع الْأَئِمَّة الماضين، ويجانب طَريقَة المبتدعين، وَيكون من صالحي الْخلف لصالحي السّلف، (وسميته كتاب " الْحجَّة فِي بَيَان المحجة وَشرح التَّوْحِيد وَمذهب أهل السّنة) . أعاذنا الله من مُخَالفَة السّنة وَلُزُوم الابتداع، وَجَعَلنَا مِمَّن يلْزم طَرِيق الِاتِّبَاع وَصلى الله على مُحَمَّد أفضل صَلَاة وأزكاها وأطيبها وأنماها، وَأَحْيَانا على مِلَّته، وأماتنا على سنته، وحشرنا فِي زمرته، إِنَّه الْمُنعم الْوَهَّاب.(1/94)
بَابٌ فِي التَّوْحِيدٍ
1 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنا وَالِدِي أَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ نَا أَبُو مَسْعَودٍ أَحْمَدُ بْنُ الْفُرَاتِ أَنا أَبُو مَعْمَرٍ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ عَمْرٍو نَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنِي حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ، أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا تَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يموتون ".(1/95)
2 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو أَنا وَالِدِي أَنا خَيْثَمَةُ بن سُلَيْمَان ثَنَا مُحَمَّد بن عَوْف ابْن سُفْيَانَ نَا أَبُو الْمُغِيرَةِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ نَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَدْعُو فَيَقُولُ: " أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، لَكَ الْمُلْكُ وَلَكَ الْحَمْدُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ وَعْدَكَ حَقٌّ وَلِقَاءَكَ حَقٌّ، وَالسَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّكَ تَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ".
3 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو أَنا وَالِدِي حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ صَالِحٍ وَغَيْرُهُ قَالا: نَا أَبُو زُرْعَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو ثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ نَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَمْرٍو ابْنِ أَخِي أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قَالَ: " كنت جَالِسا مَعَ النَّبِي فِي الْمَسْجِدِ. إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ يَا حَيّ يَا قيوم، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى ".(1/96)
4 - أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيُّ الْحَافِظ نَا عبد الصَّمد ابْن نصر العاصمي أَنا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْبُحَيْرِي نَا أَحْمد ابْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ نَا عَمِّي حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلالٍ أَنَّ أَبَا الرِّجَالِ حَدَّثَهُ عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ رَجُلا عَلَى سَرِيَّةٍ فَكَانَ يَقْرَأُ لأَصْحَابِهِ فِي صلَاتهم فيختم بقل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: سَلَوهُ لأَيِّ شَيْءٍ(1/97)
يَصْنَعُ ذَلِكَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: لأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا. قَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ ".
5 - أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ أَنا عَبْدُ الصَّمَدِ نَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْبَحِيرِيُّ نَا أَبُو حَفْصٍ الْبَحِيرِيُّ نَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ نَا وَكِيعٌ وَعَبْدُ الأَعْلَى وَأَبُو عَاصِمٍ قَالُوا: أَنا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ الْمَكِّيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: " إِنَّكَ تَأْتِي أَهْلَ كِتَابٍ فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ(1/98)
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ ".
6 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّد ابْن مُحَمَّدِ بْنِ يُونُسَ حَدَّثَنَا أُسَيْدُ بْنُ عَاصِمٍ، نَا أَبُو سُفْيَان صَالح ابْن مِهْرَانَ، نَا النُّعْمَانُ بْنُ عَبْدِ السَّلامِ، نَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " أَنَّ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ الأَحَدُ الصَّمَدُ (الَّذِي) لَمْ تَلِدْ وَلَمْ تُوْلَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَكَ كفوا أحد فَقَالَ(1/99)
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى ".
7 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصَّابُونِيُّ أَنا عَبْدُ الْغَافِرِ الْفَارِسِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، نَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، نَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " مَنْ وَحَّدَ اللَّهَ - وَفِي رِوَايَةِ مَرْوَانَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ - وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ ".(1/100)
فَصْلٌ
[فِي الإِيمَانِ بِصِفَاتِ اللَّهِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ صِفَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ]
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
" إِنَّ الأَخْبَارَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ جَاءَتْ مُتَوَاتِرَةً عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُوَافِقَةً لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَنَقَلَهَا الْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ مِنْ لَدُنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى عَصْرِنَا هَذَا عَلَى سَبِيلِ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالإِيمَانِ بِهِ، وَالتَّسْلِيمِ لِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي تَنْزِيلِهِ وَبَيَّنَهُ الرَّسُولُ عَنْ كِتَابِهِ مَعَ اجْتِنَابِ التَّأْوِيلِ وَالْجُحُودِ وَترك التَّمْثِيل(1/101)
وَالتَّكْيِيفِ، وَأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَزَلِيٌّ بِصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ الَّتِي وصف بهَا نَفسه وَوَصفه الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَيْر زَائِلَةٍ عَنْهُ وَلا كَائِنَة دُونَهُ، فَمَنْ جَحَدَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ بَعْدَ الثُّبُوتِ كَانَ بِذَلِكَ جَاحِدًا، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ لَمْ تَكُنْ ثُمَّ كَانَتْ عَلَى أَيِّ مَعْنًى تَأَوَّلَهُ دَخَلَ فِي حُكْمِ التَّشْبِيهِ بِالصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ مُحْدَثَةٌ فِي الْمَخْلُوقِ زَائِلَة بِفَنَائِهِ غَيْرَ بَاقِيَةٍ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ (عَزَّ وَجَلَّ) امْتَدَحَ نَفْسَهُ بِصِفَاتِهِ تَعَالَى، وَدَعَا(1/102)
عباده إِلَى مدحه بذلك، وَصدق الْمُصْطَفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَبَيَّنَ مُرَادَ اللَّهِ فِيمَا أَظْهَرَ لِعِبَادِهِ مِنْ ذِكْرِ نَفْسِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فَقَالَ، " كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفسه الرَّحْمَة ".
وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفسِي "، وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيَانًا لِقَوْلِهِ:
9 - " إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ، إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي ".
فَبَيَّنَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ نَفسهُ قَدِيمٌ غَيْر فَانٍ، وَأَنَّ ذَاتَهُ لَا يُوصَفُ إِلا بِمَا وَصَفَ، وَوَصفه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لِأَن المجاوز(1/103)
وصفهما يُوجب الْمُمَاثلَة، والتمثيل والتشبيه لَا يكون إِلا بِالتَّحْقِيقِ، وَلا يَكُونُ بِاتِّفَاقِ الأَسْمَاءِ، وَإِنَّمَا وَافَقَ اسْمُ النَّفْسِ اسْمَ نَفْسِ الإِنْسَانِ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ نَفْسًا مَنْفُوسَةً، وَكَذَلِكَ سَائِرَ الأَسْمَاءِ الَّتِي سَمَّى بِهَا خَلْقَهُ، إِنَّمَا هِيَ مُسْتَعَارَةٌ لِخَلْقِهِ مَنَحَهَا عِبَادَهُ لِلْمَعْرِفَةِ فَمِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ وَمَنَحَ خَلْقَهُ الْكَلام، فَاللَّهُ تَعَالَى يَتَكَلَّمُ كَلامًا أَزَلِيًّا غَيْرَ مُعَلَّمٍ وَلا مُنْقَطِعٍ، فَبِهِ يَخْلُقُ الأَشْيَاءَ، وَبِكَلامِهِ دَلَّ عَلَى صِفَاتِهِ الَّتِي لَا يَسْتَدْرِكُهَا مَخْلُوقٌ، وَلا يَبْلُغُهَا وَصْفُ وَاصِفٍ، وَالْعَبْدُ مُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ مُحْدَثٍ مُعلمٍ مُخْتَلِفٍ، فَإِنَّ بفنَائِهِ وَوَصْفِ وَجْهِهِ، فَقَالَ: {كُلُّ شَيْء هَالك إِلَّا وَجهه} فَأَخْبَرَ عَنْ فَنَاءِ وُجُوهِ الْمَخْلُوقِينَ وَبَقَاءِ وَجْهِهِ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَقَالَ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} وَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَمِيعٌ مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ لِكُلِّ الأَصْوَاتِ بَصِيرٌ بِكُلِّ الأَشْيَاءِ مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ، لَمْ يَزَلْ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ، وَلا يَزَالُ كَذَلِكَ، وَوَصَفَ عِبَادَهُ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ الْمُحْدَثِ الْمَخْلُوقِ الْفَانِي بِفَنَائِهِ الَّذِي يَكِلُّ وَيَعْجِزُ عَنْ جَمِيعِ حَقِيقَةِ الْمَسْمُوعِ وَالْمُبْصَرِ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَالرَّحْمَةِ، وَمَنَحَهَا عِبَادَهُ لِلْمَعْرِفَةِ عِنْدَ الْوُجُودِ فِيهِمْ وَالنَّكِرَة عِنْد(1/104)
وُجُودِ الْمُضَادِ فِيهِمْ، فَجَعَلَ ضِدَّ الْعِلْمِ فِي خَلْقِهِ الْجَهْلَ وَضِدَّ الْقُدْرَةِ الْعَجْزَ، وَضِدَّ الرَّحْمَةِ الْقَسْوَةَ، فَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْخَلْقِ غَيْر جَائِزَةٍ عَلَى الْخَالِقِ، فَوَافَقَتِ الأَسْمَاءُ وَبَايَنَتِ الْمَعَانِي مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ لَمْ يَزَلْ وَلا يَزَالُ مَوْصُوفًا بِالْعِلْمِ غَيْرَ مُعَلَّمٍ بَاقٍ غَيْرَ فَانٍ، وَالْعَبْدُ مُضْطَرٌّ إِلَى أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا لَمْ يعلم، ثُمَّ يَنْسَى ثُمَّ يَمُوت وَيَذْهَبَ عِلْمُهُ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَوْصُوفٌ بِالْعِلْمِ بِجَمِيعِ الأَشْيَاءِ مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ دَائِمًا بَاقِيًا، فَفِيمَا ذَكَرْنَا دَلِيلٌ عَلَى جَمِيعِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي (لَمْ) نَذْكُرْهَا، وَإِنَّمَا يَنْفِي التَّمْثِيلُ وَالتَّشْبِيهُ النِّيَّةَ وَالْعِلْمَ بِمُبَايَنَةِ الصِّفَاتِ وَالْمَعَانِي وَالْفَرْق بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ فِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ فِيمَا يُؤَدِّي إِلَى التَّمْثِيلِ وَالتَّشْبِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالزَّيْغِ وَوُجُوب الإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ وَأَخْبَرَ عَنهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَنَّ أَسَامِيَ الْخَلْقِ وَصِفَاتَهُمْ وَافَقَتْهَا فِي الاسْمِ (و) باينتها فِي جَمِيعِ الْمَعَانِي لِحُدُوثِ خَلْقِهِ وَفَنَائِهِمْ، وَأَزَلِيَّةِ الْخَالِقِ وَبَقَائِهِ، وَبِمَا أَظْهَرَ مِنْ صِفَاتِهِ وَمَنَعَ اسْتِدْرَاكَ كَيْفِيَّتِهَا فَقَالَ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} . وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا الْفَصْلَ لِئَّلا يَتَعَلَّقَ الضَّالُّونَ عَنِ الْهِدَايَةِ الزَّائِغُونَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَام رَسُوله
فَتَأَوَّلُوا الصِّفَاتَ وَالأَسْمَاءَ الَّتِي فِي كِتَابِهِ وَنَقَلَهَا الْخَلَفُ الصَّادِقُ عَنِ السَّلَفِ الطَّاهِرِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَن رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّذِينَ نَقَلُوًا دِينَ اللَّهِ وَأَحْكَامَهُ، وَبَلَّغُوا(1/105)
جَمِيعَ أَمْر اللَّهِ الَّتِي أُمِرُوا بِإِبْلاغِهَا مِنَ الصِّفَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَاجْتَنَبُوا وَعِيدَ اللَّهِ (تَعَالَى) فِي كِتَابِهِ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكتاب أُولَئِكَ يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} . فَبَلَّغُوا كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لائِمٍ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، جَعَلَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِمَّنْ يَتَّبِعُهُمْ بِإِحْسَانٍ إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ بِرَحْمَتِهِ ".
فَصْلُ
10 - أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمد ابْن عَمْرٍو أَبُو الطَّاهِرِ، نَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُس ابْن يَزِيدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَعَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوا لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجل ".(1/106)
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفَقِيهُ فِي كِتَابِهِ وَغَيْرُهُ قَالا: أَنا أَبُو عبد الرَّحْمَن ابْن أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ، أَنا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السّلمِيّ قَالَ: سَمِعت أَبَا نصر أَحْمد ابْن مُحَمَّد بْنَ حَامِدٍ الْجزي يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: قُلْتُ لأَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ سُرَيْجٍ مَا التَّوْحِيدُ؟ قَالَ: تَوْحِيدُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتَوْحِيدُ أَهْلِ الْبَاطِلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْخَوْضُ فِي الأَعْرَاضِ وَالأَجْسَامِ، وَإِنَّمَا بُعِثَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِنْكَارِ ذَلِكَ.
فَصْلٌ
فِي النَّهْيِ عَنْ طَلَبِ التَّكْيِيفِ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ
11 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّد ابْن الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ، أَنا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، نَا(1/107)
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الأَصَمِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيَسْأَلَنَّكُمُ النَّاسُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَسْأَلُوكُمْ، هَذَا اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ ".
12 - أَخْبَرَنَا وَالِدِي مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْمَرْوَزِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُف الْفربرِي، ثَنَا مُحَمَّد ابْن إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ، نَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، نَا اللَّيْثُ عَنْ عَقِيلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ، فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ ". قَالَ (الشَّيْخُ) (الإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ) أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْكَفِّ وَالانْتِهَاءِ عَنِ الْمُحَاجَّةِ وَالْمُنَاظَرَةِ فِي شَأْنِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ بِالْمَعْقُولِ وَاجْتِنَابِ مَا يُوَرِّثُ شُبْهَةً فِي الْقُلُوبِ وَالاسْتِعَاذَة بِاللَّهِ لِيَعْصِمَهُ فَلا يَتَسَلَّط الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ فَيُضِلّهُ.(1/108)
فَصْلٌ
فِي تَرْكِ التَّفْكِيرِ فِي شَأْنِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ
13 - أَخْبَرَنَا طَلْحَةُ بْنُ الْحُسَيْنِ الصَّالْحَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنا جَدِّي أَبُو ذَرٍّ الصَّالْحَانِيُّ نَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ، نَا يُوسُفُ بن يَعْقُوب النَّيْسَابُورِي بِبَغْدَاد، نَا أَحْمد ابْن عُثْمَانَ أَبُو الْجَوْزَاءِ، نَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عبد الْوَارِث، نَا عبد الْجَلِيل ابْن عَطِيَّةَ الْقَيْسِيُّ، نَا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " خرج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فِي خلق الله فَقَالَ: " فيمَ تتفكرون؟ قَالَ: نَتَفَكَّرُ فِيمَا خَلَقَ اللَّهُ، قَالَ: فَلا تَتَفَكَّرُوا فِي اللَّهِ، وَلَكِنْ تَفَكَّرُوا فِيمَا خَلَقَ اللَّهُ "، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَن
14 - النَّبِي قَالَ: " تَفَكَّرُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلا تَفَكَّرُوا فِي ذَاتِ اللَّهِ ".
فَصْلٌ
فِي الاجْتِنَابِ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ
15 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ وَغَيْرُهُ قَالا: أَنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ ابْن الْمَرْزُبَانِ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَكَمِ، نَا مُحَمَّد بن سُلَيْمَان، نَا إِبْرَاهِيم(1/109)
ابْن سعد عَن أيبه عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ ".
قَالَ الشَّيْخُ (الإِمَامُ) رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَنْكَرَ السَّلَفُ الْكَلامَ فِي الْجَوَاهِرِ وَالأَعْرَاضِ وَقَالُوا: لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ الله عَن(1/110)
الصَّحَابَةِ وَرَحِمَ التَّابِعِينَ، وَلا يَخْلُو أَنْ يَكُونُوا سَكَتُوا عَنْ ذَلِكَ وَهُمْ عَالِمُونَ بِهِ فَيَسَعُنَا السُّكُوتُ عَمَّا سَكَتُوا عَنْهُ، أَوْ يَكُونُوَا سَكَتُوا عَنْهُ وَهُمْ غَيْرُ عَالِمِينَ بِهِ فَيَسَعُنَا أَنْ لَا نَعْلَمَ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَقْتَضِي أَنَّ مَا تَكَلَّمَ فِيهِ الآخِرُونُ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ الأَوَّلُونَ يَكُونُ مَرْدُودًا.
قَالَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ: مَا وَجَدْنَا أَحَدًا مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي مَاضِي الأَزْمَانِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا رَجَعَ إِلَى قَوْلِ خَصْمِهِ، وَلا انْتَقَلَ عَنْ مَذْهَبِهِ إِلَى مَذْهَبِ مُنَاظِرِهِ، فَدَلَّ أَنَّهُمُ اشْتَغَلُوا بِمَا تَرْكُهُ خَيْرٌ مِنَ الاشْتِغَالِ بِهِ، وَقَدْ ذَمَّ السَّلَفُ الْجِدَالَ فِي الدِّينِ وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ وَهُمْ لَا يَذُمُّونَ مَا هُوَ الصَّوَاب.
أخبرنَا أَبُو عَليّ نصر الله بْنُ أَحْمَدَ الْخُشْنَامِيُّ بِنَيْسَابُورَ، أَنا أَبُو سَعِيدٍ(1/111)
الصَّيْرَفِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الأَصَمُّ، نَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحَارِثِيُّ، نَا أَبُو أُسَامَةَ عَنِ الْفَزَارِيِّ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَ الأَوْزَاعِيُّ: وَقَدْ سُئِلَ أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ حَقًّا؟ فَقَالَ: إِنَّ الْمَسَأَلَةَ عَمَّا سُئِلَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ بِدْعَةٌ، وَالشَّهَادَةُ عَلَيْهِ تَعَمُّقٌ لَمْ نُكَلَّفْهُ فِي دِينِنَا، وَلَمْ يُشَرِّعْهُ نَبِيُّنَا، لَيْسَ لِمَنْ سَأَلَ ذَلِكَ فِيهِ إِمَامٌ إِلا مِثْله الْقَوْل بِهِ جدل وَالْمُنَازَعَة فِيهِ حَدَث وَلَعمري مَا شَهَادَتُكَ لِنَفْسِكَ بِالَّتِي تُوجِبُ لَكَ تِلْكَ الْحَقِيقَةَ إِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ وَلا تَرْككَ الشَّهَادَةَ لِنَفْسِكَ بِهَا بِالَّذِي يُخْرِجُكَ مِنَ الإِيمَانِ إِنْ كُنْتَ كَذَلِكَ وَإِنَّ الَّذِي يَسْأَلُكَ عَنْ إِيمَانِكَ لَيْسَ يَشُكُّ فِي ذَلِكَ مِنْكَ، وَلَكِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُنَازِعَ اللَّهَ عِلْمَهُ فِي ذَلِكَ حِينَ يَزْعُمُ أَنَّ عِلْمَهُ وَعِلْمَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، فَاصْبِرْ نَفْسَكَ عَلَى السُّنَّةِ وَقِفْ حَيْثُ وَقَفَ الْقَوْمُ وَقُلْ فِيمَا قَالُوا وَكُفَّ عَمَّا كَفُّوا عَنْهُ وَاسْلُكْ سَبِيلَ سَلَفِكَ الصَّالِحِ فَإِنَّهُ يَسَعُكَ مَا وَسِعَهُمْ. لَقَدْ كَانَ أَهْلُ الشَّامِ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ حَتَّى قَذَفَهَا إِلَيْهُمْ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِمَّنْ دَخَلَ فِي تِلْكَ الْبِدْعَةِ بَعْدَ مَا رَدَّهَا عَلَيْهِ عُلَمَاؤُهُمْ وفقهاؤهم.(1/112)
فَصْلٌ
فِي ذِكْرِ مَنْ عَابَ الْكَلامَ وَذَمَّهُ من الْأَئِمَّة(1/113)
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفَقِيه فِي كِتَابه، نَا عبد الرَّحْمَن ابْن أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ، أَنا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودٍ الْفَقِيهُ الْمَرْوَزِيُّ بِهَا، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَيْرٍ الرَّازِيُّ، نَا أَبُو يَحْيَى زَكَرِيَّا بْنُ أَيُّوبَ الْعَلافُ التُجِيبِيُّ، نَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، نَا أَشْهَبُ بن عبد الْعَزِيز، قَالَ: سَمِعت مَالك ابْن أَنَسٍ يَقُولُ: " إِيَّاكُمْ وَالْبِدَعَ فَقِيلَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَمَا الْبِدَعُ؟ قَالَ: أَهْلُ الْبِدَعِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلامِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَلا يَسْكُتُونَ عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ ".(1/114)
قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ قَالَ: سَمِعت أَبَا الْوَلِيد حسان ابْن مُحَمَّدٍ الْفَقِيهُ يَقُولُ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بن خُزَيْمَة يَقُول: سَمِعت يُونُس ابْن عَبْدِ الأَعْلَى يَقُولُ: أَتَيْتُ الشَّافِعِيَّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا كَلَّمَهُ حَفْصٌ الْفَرْد فَقَالَ: غِبْتَ عَنَّا يَا أَبَا مُوسَى. ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَقَدِ اطَّلَعْتُ مِنْ أَهْلِ الْكَلامِ عَلَى شَيْءٍ وَاللَّهِ مَا تَوَهَّمْتُهُ قَطُّ، وَلأَنْ يُبْتَلَى الْمَرْءُ بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ خَلا الشِّرْكَ بِاللَّهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُبْتَلَى بِالْكَلامِ ".
قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، أَنا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَتُّوَيْهِ الْبَلْخِيُّ، نَا حَاتِمُ بْنُ رُسْتُمٍ عَنْ نُوحٍ الْجامع قَالَ: قُلْتُ لأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا(1/115)
تَقُولُ فِيمَا أَحْدَثَ النَّاسُ مِنَ الْكَلامِ وَالأَعْرَاضِ وَالأَجْسَامِ، فَقَالَ: مَقَالاتُ الْفَلاسِفَةِ، عَلَيْكَ بِالآيَةِ وَطَرِيقَةِ السَّلَفِ، وَإِيَّاكَ وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ فَإِنَّهَا بِدْعَةٌ ".
أخبرنَا مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب الْمَدِينِيّ أَنا أَبُو عبد الله الْحُسَيْن ابْن إِبْرَاهِيم الْجمال، نَا عبد الله بن جعفرٍ، نَا أَحْمد بن مهْدي، نَا بعض أَصْحَابنَا واسْمه عَليّ بن عمروسٍ الْبَغْدَادِيّ عَن بشر بن الْوَلِيد قَالَ: قَالَ أَبُو يُوسُف: " لَا تَطْلُبن ثَلَاثًا بثلاثٍ: لَا تطلب الدّين بالخصومات فَإِنَّهُ لم يمعن فِيهِ أحدٌ إِلَّا قيل زنديقٌ، وَلَا تطلب المَال بالكيمياء فَإِنَّهُ لم يمعن فِيهِ أحدٌ إِلَّا أفلس، وَلَا تطلب الحَدِيث بِكَثْرَة الرِّوَايَة حَتَّى تَأتي بِمَا لَا يعرف فَيُقَال كذابٌ ".
قَالَ (ابْن مهْدي) وبلغنا عَن أبي يُوسُف أَنه قَالَ: الْمعرفَة بالْكلَام هُوَ الْجَهْل.(1/116)
وَرُوِيَ من غير هَذَا الطَّرِيقِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: " مَنْ طَلَبَ الدِّينَ بِالْكَلامِ تَزَنْدَقَ وَمَنْ طَلَبَ غَرِيبَ الْحَدِيثِ كَذَبَ، وَمَنْ طَلَبَ الْمَالَ بِالكيمياء أَفْلَسَ ".
أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنا وَالِدي، أَنا مُحَمَّد ابْن يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ قَالَ: سَمِعْتُ الرَّبِيعَ بْنَ سُلَيْمَان يَقُول: سَمِعت مُحَمَّد ابْن إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ وَنَاظَرَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَخَرَجَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْكَلامِ فَقَالَ: " هَذَا مِنَ الْكَلامِ دَعْهُ " وَقَالَ: مَنْ أَظْهَرَ الْعَصَبِيَّةَ وَالْكَلامَ وَدَعَى إِلَيْهَا فَهُوَ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ " وَلأَنْ يَلْقَى الْعَبْدُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا خَلا الشِّرْكَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِشَيْءٍ مِنَ الأَهْوَاءِ ".
فَصْلٌ
فِي ذِكْرِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ
16 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَدْنَانَ سِبْطُ أَبِي نِزَارٍ أَنا جَدِّي الْمُطَهَّرُ بْنُ أَبِي نِزَارٍ أَنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَعْقُوبَ، أَنا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْفَسَوِيُّ، نَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ الْفَسَوِيُّ، نَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، نَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ(1/117)
ابْن زِيَادِ بْنِ أَنْعَمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ حَتَّى لَوْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَأْتِي أُمَّهُ عَلانِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَفَعْلُ ذَلِكَ، إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقُوا على اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَزِيدُونَ عَلَيْهَا مِلَّةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلا وَاحِدَةً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هِيَ؟ قَالَ: الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي ".(1/118)
17 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ أَشْتَهْ، نَا أَبُو سعيد النقاش، نَا مُحَمَّد ابْن إِبْرَاهِيمَ، نَا مُوسَى بْنُ إِسْحَاقَ، نَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ، أَنا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنِ الأَفْرِيقِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، ح، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَأَنا الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ، نَا يَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ الْحَكَمِ، نَا بُنْدَارٌ، نَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، نَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ... " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِي آخِرِهِ قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي.
18 - (و) أخبرنَا أَبُو عَدْنَانَ، أَنا جَدِّي، أَنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَعْقُوبَ، نَا الْحَسَنُ بْنُ عُثْمَانَ الْفَسَوِيُّ، نَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، نَا أَبُو صَالِحٍ عبد الله ابْن صَالِحٍ، نَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ أَنَّ الأَوْزَاعِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّ يَزِيدَ الرَّقَاشِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ _ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: وَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْغَفَّارِ أَنا أَبُو سَعِيدٍ النَّقَّاشُ، أَنا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ النَّهَاوَنْدِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ يَحْيَى، نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الْفَرَّاءُ أَنا عِيسَى بْنُ يُونُسَ (ح) قَالَ أَبُو سَعِيدٍ النَّقَّاشُ: (ح) وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيم، نَا عَليّ ابْن الْعَبَّاس البَجلِيّ، نَا عمر ابْن مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، نَا أَبِي، نَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ (ح) قَالَ أَبُو سَعِيدٍ النَّقَّاشُ: وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْمُحَسِّنِ الصَّوَّافُ، نَا بشر بن مُوسَى، نَا مُعَاوِيَة ابْن(1/119)
عَمْرٍو، نَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، كُلُّهُمْ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ أُمَّتِي تَفْتَرِقُ عَلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلا وَاحِدَةً وَهِيَ الْجَمَاعَةُ "، وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ " وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى كَذَا وَسَبْعِينَ فِرْقَةً " وَفِي رِوَايَتِهِ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا هَذِهِ الْوَاحِدَةُ؟ فَقَبَضَ يَدَهُ وَقَالَ الْجَمَاعَةُ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا} .
19 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، ثَنَا عَمْرُو بن عُثْمَان نَا عمار ابْن يُوسُفَ حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ (- رَضِيَ الله عَنهُ -) قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى على اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ ".
قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: " هُمُ الْجَمَاعَةُ ".
قَالَ الشَّيْخُ (الإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ) قَوْلَهُ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وأصحابي الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابُهُ مَا مَضَى عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الدِّينِ الْمَشْهُورُونَ فِي الْآفَاق قَالَ عمر(1/120)
ابْن عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ (سَنَّ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَوُلاةُ الأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ سُنَنَا الأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَتِهِ وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ لأَحَدٍ تَغْيِيرُهَا وَلا تَبْدِيلُهَا وَلا النَّظَرُ فِي رَأْيِ مَنْ خَالَفَهَا فَمَنِ اقْتَدَى بِمَا سَنُّوا اهْتَدَى، وَمَنِ اسْتَبْصَرَ بِهَا مُبْصِرٌ، وَمَنْ خَالَفَهَا وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَلاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى وَأَصْلاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: " الاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ وَالْعِلْمُ يُقْبَضُ قَبْضًا سَرِيعًا وَنَعْشُ الْعِلْمِ ثَبَاتُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَذَهَابُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي ذَهَابِ الْعِلْمِ ".
وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " عَلَيْكُمْ بِالسَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّهُ مَا عَلَى الأَرْضِ عَبْدٌ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ الرَّحْمَنَ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ فَيُعَذِّبُهُ أَبَدًا،(1/121)
وَمَا عَلَى الأَرْضِ عَبْدٌ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ الرَّحْمَنَ فِي نَفْسِهِ فَاقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ إِلا كَانَ مَثَلُهُ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ قَدْ يَبُسَ وَرَقُهَا فَهِيَ كَذَلِكَ إِذْ أَصَابَتْهَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَتَحَاتَّ عَنْهَا وَرقُهَا، إِلا حط عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتَّ عَنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ وَرقُهَا، وَإِنَّ اقْتَصَادًا فِي سَبِيلٍ وَسُنَّةَ خَيْرٍ مِنَ اجْتِهَادٍ فِي خِلافِ سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ، فَانْظُرُوا أَن يكون عَمَلكُمْ إِنْ كَانَ اجْتِهَادًا أَوِ اقْتِصَادًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى مِنْهَاجِ الأَنْبِيَاءِ وَسُنَّتِهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ".
فَصْلٌ
فِي النَّهْيِ عَنْ طَلَبِ كَيْفِيَّةِ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ السّرخسِيّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْبَلْخِيُّ، نَا بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ الْقَاضِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ التَّوْحِيدُ بِالْقِيَاسِ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الآيَاتِ الَّتِي يَصِفُ بِهَا نَفْسَهُ أَنَّهُ عَالِمٌ قَادِرٌ قَوِيٌّ مَالِكٌ، وَلَمْ يَقُلْ إِنِّي قَادِرٌ عَالِمٌ لِعِلَّةِ كَذَا أَقْدَرُ، وَلِسَبَبِ كَذَا أَعْلَمُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى أَمْلِكُ، فَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ فِي التَّوْحِيدِ، وَلا يُعْرَفُ إِلا بِأَسْمَائِهِ وَلا يُوصَفُ إِلا بِصِفَاتِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّه عز وَجل فِي كِتَابه: {يَا أَيهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قبلكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} الْآيَات،(1/122)
وَقَالَ: {أولم ينْظرُوا فِي ملكوت السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا خلق الله من شَيْء} وَقَالَ: {إِن فِي خلق السَّمَاوَات وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْر} إِلَى قَوْله {يعْقلُونَ} .
قَالَ أَبُو يُوسُفَ: " لَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ أَنَا الْعَالِمُ، وَكَيْفَ أَنَا الْقَادِرُ وَكَيْفَ أَنَا الْخَالِقُ وَلَكِنْ قَالَ: انْظُرْ كَيْفَ خلقت، ثمَّ قَالَ: {خَلقكُم ثمَّ يتوفاكم} وَقَالَ: {وَفِي أَنفسكُم أَفلا تبصرون} أَيْ تَعَلَّمْ أَنَّ هَذِهِ الأَشْيَاءَ لَهَا رَبٌّ يقلبها وَيُبْدِئُهَا وَأَنَّهُ مُكَوِّنُ ذَلك (مني) كونك، وَإِنَّمَا دَلَّ اللَّهُ خَلْقَهَ بِخَلْقِهِ لِيَعْرِفُوا أَنَّ لَهُمْ رَبًّا يَعْبُدُوهُ وَيُطيِعوُهُ وَيُوَحِّدُوهُ وَلْيَعْلَمُوا أَنَّهُ مُكَوِّنُهُمْ لَا هُمْ كَانُوا، ثُمَّ سَمَّى فَقَالَ: أَنَا الرَّحْمَنُ وَأَنَا الرَّحِيمُ، وَأَنَا الْخَالِقُ، وَأَنَا الْقَادِرُ، وَأَنَا الْمَالِكُ، أَي هَذَا الَّذِي كونكم يُسمى الْمَالِكَ، الْقَادِرَ، اللَّهَ،(1/123)
الرَّحْمَنَ، الرَّحِيمَ بِهَا يُوصَفُ، ثُمَّ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: " يُعْرَفُ اللَّهُ بِآيَاتِهِ وَبِخَلْقِهِ وَيُوصَفُ بِصِفَاتِهِ وَيُسَمَّى بِأَسْمَائِهِ كَمَا وَصَفَ فِي كِتَابِهِ، وَبِمَا أَدَّى إِلَى الْخَلْقِ رَسُولُهُ "، ثُمَّ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَكَ، وَجَعَلَ فِيكَ آلاتٍ وَجَوَارِحَ، عَجَزَ بَعْضُ جَوَارِحِكَ عَنْ بَعْضٍ وَهُوَ يَنْقُلُكَ عَنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ لِتَعْرِفَ أَنَّ لَكَ رَبًّا كَوَّنَكَ وَجَعَلَ نَفْسَكَ عَلَيْكَ حُجَّةً بِمَعْرِفَتِهِ تتعرف بِخَلْقِهِ، ثُمَّ وَصَفَ نَفْسَهُ فَقَالَ: أَنَا الرَّبُّ، وَأَنَا الرَّحْمَنُ، وَأَنَا اللَّهُ، وَأَنَا الْقَادِرُ، وَأَنَا الْمَالِكُ، فَهُوَ يُوصَفُ بِصِفَاتِهِ وَيُسَمَّى بِأَسْمَائِهِ قَالَ اللَّه: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلهُ الْأَسْمَاء الْحسنى} وَقَالَ: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ} وَقَالَ: {لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} .
فَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نُوَحِّدَهُ، وَلَيْسَ التَّوْحِيدُ بِالْقِيَاسِ لأَنَّ الْقِياسَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ لَهُ شَبَهٌ وَمَثَلٌ، وَاللَّهُ لَا شبه لَهُ وَلا مثل {تبَارك الله أحسن الْخَالِقِينَ} ، ثُمَّ قَالَ: " وَكَيْفَ يُدْركُ التَّوْحِيد بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ خَالِقُ الْخَلْقِ بِخِلافِ الْخَلْقِ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَقَدْ أَمَرَكَ اللَّهُ أَنْ تُؤْمِنَ بِكُل مَا أَتَى بِهِ نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: (قل يَا أَيهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي(1/124)
لَهُ ملك السَّمَاوَات وَالأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّه وكلماته واتبعوه لَعَلَّكُمْ تهتدون} .
فَقَدْ أَمَرَكَ اللَّهُ بِأَنْ تَكُونَ تَابِعًا سَامِعًا مُطِيعًا، وَلَوْ تَوَسَّعَ عَلَى الأُمَّةِ الْتِمَاس التَّوْحِيد ابْتِغَاءَ الإِيمَانِ بِرَأْيِهِ وَقِيَاسه وَهَوَاه إِذًا لَضَلُّوا، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحق أهواءهم لفسدت السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ} فَافْهَمْ مَا فسر لَكَ.
فَصْلٌ
فِي ذِكْرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ
هُوَ اللَّهُ الأَحَدُ الصَّمَدُ، يُعْبَدُ بِتَوْحِيدِهِ، وَيُشْهَدُ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ.
20 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، نَا أَبُو أُمَيَّةَ، نَا الأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، نَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ(1/125)
السَّبِيعِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -، أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ الأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ تَلِدْ وَلَمْ تُوْلَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَكَ كفوا أحد، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى "، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " الصَّمَدُ الَّذِي قَدِ انْتَهَى سُؤْدُدُهُ "، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " الصَّمَدُ الَّذِي يُصْمَدُ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ " وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " الصَّمَدُ الَّذِي لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ (وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ شَيْءٍ) الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ".
وَقَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ: " الصَّمَدُ الَّذِي لَا يَأْكُل الطَّعَام ".
من أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ، قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: الْخَالِقُ الَّذِي خَلَقَ النُّفُوسَ فِي الأَرْحَامِ وَصَوَّرَهَا كَمَا شَاءَ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ، وَهُوَ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ، فَهَذِهِ قُدْرَتُهُ، وَالْخَلْقُ مِنْهُ عَلَى ضُرُوبٍ: - مِنْهَا مَا خَلَقَ بِيَدَيْهِ فَقَالَ: {لما خلقت بيَدي} .(1/126)
- وَمِنْهَا مَا خَلَقَ بِمَشِيئَتِهِ وَكَلامِهِ، وَلَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بالخلق البارئ المصور.(1/127)
21 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو أَنا وَالِدِي، أَنا حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكِنَانِيُّ، نَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ، أَنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنَدُرٌ، نَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ بَشِيرِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: " اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغِفْرِ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ، فَإِنْ قَالَهَا بَعْدَمَا يُصْبِحُ مُوقِنًا (بِهَا) فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ كَانَ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ".
22 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بْنُ مهْرَان الْفَارِسِي، نَا مُحَمَّد ابْن إِبْرَاهِيمَ بْنِ جَنَّادٍ، نَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ، نَا أُنَيْسُ بْنُ سَوَّارٍ الْجَرْمِيُّ، نَا أَبِي عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ عَنِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقَ عَبْدٍ، فَجَامَعَ الرَّجُلُ الْمَرَأَةَ طَارَ مَاؤُهُ فِي كُلِّ عُضْوٍ وَعِرْقٍ، فَإِذَا كَانَ(1/128)
يَوْمُ السَّابِعِ جَمَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ أَحْضَرَهُ كُلُّ عِرْقٍ لَهُ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَهُ ".
23 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَيُّوبَ وَعَلِيُّ ابْن مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، نَا أَبُو سَلَمَةَ، نَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَمَّا صَوَّرَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ فِي الْجَنَّةِ تَرَكَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَتْرُكَهُ، فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يَطِيفُ بِهِ وَيَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ عَلِمَ أَنَّهُ خَلْقٌ لَا يَتَمَالَكُ ".
وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى: الْحَيُّ الْقَيُّومُ الدَّائِمُ الْقَائِمُ، قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: مَعْنَى الْحَيِّ حَيَاة لَا تُشْبِهُ حَيَاة الأَحْيَاءِ لَا تُسْتَدْرَكُ بِالْعُقُولِ، وَلا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ، وَلا مَوْتٌ. وَمَعْنَى الْقَيُّومِ: الْقَائِمُ الدَّائِمُ فِي دَيْمُومِيَّةِ أَفْعَالِهِ وَصِفَاتِهِ.
24 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو أَنا وَالِدِي، أَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نَا أَبُو مَسْعَودٍ أَحْمَدُ بْنُ الْفُرَاتِ، أَنا أَبُو مَعْمَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، نَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ عَنْ عبد الله ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّ رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، أَعُوذُ بعزتك لَا(1/129)
إِلَهَ إِلا أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي، أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ ".
25 - أَنا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكِنَانِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالُوا: أَنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، نَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَقِيلٍ قَالا: نَا حَفْصُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَدْعُو: " يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ ".
وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهِيَ صِفَةٌ معرفَة ذَاته قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: " مَعْنَى الأَوَّلِ هُوَ الأَوَّلُ بِالأَوَّلِيَّةِ، وَهُوَ خَالِقُ أَوَّلَ الأَشْيَاءِ وَمَعْنَى الآخِرُ هُوَ الآخِرُ الَّذِي لَا يَزَالُ آخِرًا دَائِمًا بَاقِيًا الْوَارِثُ لِكُلِّ شَيْءٍ بِدَيْمُومِيَّتِهِ وَبَقَائِهِ، وَمَعْنَى الظَّاهِرِ ظِاهَرٌ بِحِكْمَتِهِ وَخَلْقِهِ وصنائعه وَجمع نِعَمِهِ الَّذِي أَنْعَمَ بِهِ. وَمَعْنَى الْبَاطِنِ: الْمُحْتَجِبِ عَنْ ذَوِي الأَلْبَابِ كنه ذَاتِهِ وَكَيْفِيَّةِ صِفَاتِهِ.
26 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ حَبِيبٍ الرَّقِّيُّ، نَا هِلالُ بْنُ الْعَلاءِ، نَا حُسَيْنُ بْنُ عَيَّاشٍ نَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قَالَ: أَتَت فَاطِمَة - رَضِي الله عَنهُ -(1/130)
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تسأله خَادِمًا فَقَالَ لَهَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الَّذِي جِئْتِ تَطْلُبِينَ أَحَبُّ إِلَيْكِ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ فَحَسِبْتُ أَنَّهَا سَأَلَتْ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: مَا هُوَ خَيْرٌ، قَالَ: قُولِي: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ مُنَزِّلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ أَخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، إِنَّكَ أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَاغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ ".
وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى: الْقَادِرُ وَالْقَدِيرُ وَالْمُقْتَدِرُ، وَالْعَالِمُ وَالْعَلِيمُ وَالْعَلامُ. قَالَ اللَّه تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ}
وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وَقَالَ: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: مَعْنَى الْقَدِيرِ يَقْدِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ، وَقِيلَ مُقْتَدِرٌ: أَيْ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٍ، وَقَالَ: {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} وَقَالَ: (عَالِمُ الْغَيْبِ(1/131)
فَلَا يظْهر على غيبه أحدا} وَقَالَ: {علام الغيوب} .
27 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو أَنا وَالِدِي، أَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْبَغْدَادِيُّ بِمِصْرَ، نَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، نَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَحَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالا: نَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ، أَنا قُتَيْبَةُ قَالا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَن ابْن أَبِي الْمَوَالِ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ (عَنْهُ) أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُعَلِّمُهُمُ الاسْتِخَارَةَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: " إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ - يُسَمِّيهِ بِعَيْنِهِ - خَيْرٌ لِي فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، وَدِينِي وَمَعَاشِي، وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاقْدُرْهِ لِي، وَيَسِّرْهُ ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِلا فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ وَرَضِّنِي بِهِ ".(1/132)
28 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا أَبُو عَمْرو أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن إِبْرَاهِيمَ، نَا أَبُو أُمَيَّةَ، نَا أَبُو عَاصِمٍ، نَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، قَالَ أَبُو أُمَيَّةَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، نَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ جَمِيعًا عَنِ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ الله عَنهُ - يَقُول: سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: " اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ ".
فَصْلٌ
فِي تَفْسِيرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَوْلِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: " أَوَّلُ فَرْضٍ فَرَضَهُ اللَّهُ (تَعَالَى) عَلَى خَلْقِهِ مَعْرِفَتُهُ،(1/133)
فَإِذَا عَرَفَهُ النَّاسُ عَبَدُوهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله} . فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْرِفُوا أَسْمَاءَ اللَّهِ وَتَفْسِيرَهَا فَيُعَظِّمُوا اللَّهَ حَقَّ عَظَمَتِهِ ".
قَالَ: " وَلَوْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَتَزَوَّجَ إِلَى رَجُلٍ أَوْ يُزَوِّجُهُ أَوْ يُعَامِلُهُ طَلَبَ أَنْ يَعْرِفَ اسْمَهُ وَكُنْيَتَهُ، وَاسْمَ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، وَسَأَلَ عَنْ صَغِيرِ أَمْرِهِ وكبيره، فَالله الَّذِي خلقنَا ورزقنا وَنحن نرجوا رَحْمَتَهُ وَنَخَافُ مِنْ سَخَطِهِ أَوْلَى أَنْ نَعْرِفَ أَسْمَاءَهُ وَنَعْرِفَ تَفْسِيرَهَا ". فَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَفِي سُنَّةِ نَبِيِّهِ (مُحَمَّد) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْمُهُ تَعَالَى " اللَّهُ " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالق كل شَيْء} وَبَيَّنَ أَهْلُ اللُّغَةِ اخْتِلافَ هَلْ هُوَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ أَوْ مُشْتَقٌّ، فَرُوِيَ عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّهُ اسْمٌ عَلَمٌ لَيْسَ بِمُشْتَقٍّ فَلا يَجُوزُ حَذْفُ الأَلِفِ وَاللامِ مِنْهُ كَمَا يَجُوزُ مِنَ(1/134)
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قِيلَ: هُوَ أَكْبَرُ الأَسْمَاءِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهَذَا الاسْمِ أَحَدٌ سِوَاهُ.
29 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ خَلَفٍ، أَنا الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، نَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، نَا أَبُو النَّضْرِ، نَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن شَيْء، فَكَانَ يعجبنا أَنه يَأْتِيَهُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَيَسْأَلُهَ وَنَحْنُ نَسْمَعُ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ: أَتَانَا رَسُولُكَ فَزَعَمَ أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ، قَالَ: صَدَقَ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ قَالَ: اللَّهُ، قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الأَرْضَ؟ قَالَ: اللَّهُ، قَالَ: فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالُ؟ قَالَ: الله، قَالَ: فَمَنْ جَعَلَ فِيهَا هَذِهِ الْمَنَافِعَ؟ قَالَ: اللَّهُ، قَالَ: فَبِالَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ، وَنَصَبَ(1/135)
الْجِبَالَ وَجَعَلَ فِيهَا هَذِهِ الْمَنَافِعَ اللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: نعم: وَزَعَمَ رَسُولُكَ: أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا، قَالَ: صَدَقَ، قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا صَدَقَةً فِي أَمْوَالِنَا، قَالَ: صَدَقَ، قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا صَوْمَ شَهْرٍ فِي سَنَتِنَا، قَالَ: صَدَقَ، قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا، قَالَ: صَدَقَ، قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا. قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ، فَلَمَّا مَضَى قَالَ: لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ ".
قَالَ الشَّيْخُ: (الإِمَامُ) رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا حَدِيثٌ مُخَرَّجٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي النَّضْرِ.
وَقَالَ: قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: هُوَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ، يُقَالُ: أَله يأله إِلاهة، بِمَعْنَى عَبَدَ يَعْبُدُ عِبَادَةً، وَقُرِئَ: {ويذرك وألهتك} أَيْ عِبَادَتَكَ، وَالتَّأَلُّهُ التَّعَبُّدُ، فَمَعْنَى الإِلَهِ الْمَعْبُودِ، وَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، مَعْنَاهُ لَا معبود غير الله، وَإِلَّا بِمَعْنى غير لَا بِمَعْنى الِاسْتِثْنَاء.(1/136)
وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَالرَّحْمَنُ يَجْمَعُ كُلَّ مَعَانِي الرَّحْمَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَوْلُه: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سمياً} لَيْسَ أَحَدٌ يُسَمَّى الرَّحْمَنَ غَيْرهُ.
30 - وَقَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قَالَ اللَّهُ: أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي " وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى مُشْتَقَّةٌ مِنْ أَسْمَائِهِ، بِخِلافِ الْمَخْلُوقِ، مِثْلَ الرَّازِقُ وَالْخَالِقُ، تُقَدَّمُ أَسْمَاؤُهُ عَلَى أَفْعَالِهِ، وَأَسْمَاءُ الْمَخْلُوقِينَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ أَفْعَالِهِمْ.
وَأَمَّا الرَّحِيمُ: فَقِيلَ مَعْنَاهُ: الْمُبَالِغُ فِي الرَّحْمَةِ وَهُوَ مِنَ الأَسْمَاءِ الْمُسْتَعَارَةِ لِعَبِيدِهِ، إِذَا رَحِمَ اشْتق لَهُ اسْم الرَّحِيمِ مِنْ فِعْلِهِ، قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ: اسْمَانِ رقيقان أَحدهمَا أرق من الآخر، قيل الرَّحْمَن ضُرُوبٌ كَثِيرَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رحمت رَبك} يَعْنِي الْمَعَائِشَ، وَقَالَ: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَة من رَبك} يَعْنِي مَالا، فَهَذِهِ الرَّحْمَةُ الَّتِي هِيَ(1/137)
المَال والمعائش اشْتَرَكَ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ. وَالرَّحْمَةُ الأُخْرَى ادَّخَرَهَا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الآخِرَةِ لِيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ بِهَا فَقَدْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالرَّحْمَةِ الَّتِي اشْتَرَكَ فِيهَا أَهْلُ الدُّنْيَا، وَخص الْمُؤمنِينَ برحمته، وَرُوِيَ عَن سلمَان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ:
31 - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَمِنْهَا رَحْمَةٌ بِهَا يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ، وَأَخَّرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ".
وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى: السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، خَلَقَ الإِنْسَانَ صَغِيرًا لَا يَسْمَعُ، فَإِنْ سَمِعَ لَمْ يَعْقِلْ مَا يَسْمَعُ فَإِذَا عقل ميز بَين المسموعات، فَأجَاب عَن الْأَلْفَاظ بِمَا يَسْتَحِقُّ، وَمَيَّزَ بَيَّنَ الصَّوْتِ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ، وَمَيَّزَ الْكَلامَ الْمُسْتَحْسَنَ مِنَ الْمُسْتَقْبَحِ ثُمَّ كَانَ لِسَمْعِهِ مَدًى إِذَا جَاوَزَهُ لَمْ يَسْمَعْ، ثُمَّ إِنْ كَلَّمَهُ جَمَاعَةٌ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ عَجَزَ عَنِ اسْتِمَاعِ كَلامِهِمْ، وَعَنْ إِدْرَاكِ جَوَابِهِمْ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ السَّمِيعُ لِدُعَاءِ الْخَلْقِ وَأَلْفَاظِهِمْ عِنْدَ تَفَرُّقِهِمْ وَاجْتِمَاعِهِمْ، مَعَ اخْتِلافِ أَلْسِنَتِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ، يَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِ الْقَائِلِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ، وَيَعْجِزُ الْقَائِلُ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنْ مُرَادِهِ فَيَعْلَمُ اللَّهُ فَيُعْطِيهِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ، وَالْمَخْلُوقُ يَزُولُ عَنْهُ السّمع(1/138)
بِالْمَوْتِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ وَلا يَزَالُ يُفْنِي الْخَلْقَ وَيَرِثُهُمْ، فَإِذَا لَمْ يُبْقِ أَحَدًا قَالَ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ فَلا يَكُونُ مَنْ يَرُدُّ، فَيَقُولُ: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ.
وَأَمَّا الْبَصِيرُ: فَهَذَا الاسْمُ يَقَعُ مُشْتَرَكًا، فَيُقَالُ: فَلانٌ بَصِيرٌ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى، وَالرَّجُلُ قَدْ يَكُونُ صَغِيرًا لَا يُبْصِرُ وَلا يُمَيِّزُ بِالْبَصَرِ بَيْنَ الأَشْيَاءِ الْمُتَشَاكِلَةِ، فَإِذَا عَقَلَ أَبْصَرَ فَمَيَّزَ بَيْنَ الرَّدِيءِ وَالْجَيِّدِ، وَبَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ يُعْطِيهِ اللَّهُ هَذَا مُدَّةً ثُمَّ يسلبهُ ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يسلبه وَهُوَ حَيٌّ وَمِنْهُمْ مَنْ يسلبه بِالْمَوْتِ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ لَمْ يَزَلْ وَلا يَزُولُ وَالْخَلْقُ إِذَا نَظَرَ إِلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ عَمِيَ عَمَّا خَلْفَهُ وَعَما بعد مِنْهُ وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يعزب عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي خَفِيَّاتِ مَظَالِمِ الأَرْضِ فَكُلُّ مَا ذكر مَخْلُوقًا بِهِ وَصَفَهُ بِالنَّكِرَةِ، وَإِذَا وَصَفَ بِهِ رَبَّهُ وَصَفَهُ بِالْمَعْرِفَةِ.
وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْبَاقِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ(1/139)
ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام} قِيلَ مَعْنَى الْبَاقِي: الدَّائِمُ الْمَوْصُوفُ بِالْبَقَاءِ الَّذِي لَا يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْفَنَاءُ، وَلَيْسَتْ صِفَةُ بَقَائِهِ وَدَوَامِهِ كَبَقَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَدَوَامِهِمَا، وَذَلِكَ أَنَّ بَقَاءَهُ أَبَدِيٌّ أَزَلِيٌّ، وَبقاء الْجَنَّةِ وَالنَّارِ أَبَدِيٌّ غَيْرُ أَزَلِيٍّ، فَالأَزَلِيُّ مَا لَمْ يَزَلْ وَالأَبَدِيُّ مَا لَا يَزَالُ، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ كَائِنَتَانِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُونَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْله: {هُوَ الأول وَالْآخر} الأَوَّلُ الَّذِي لَا قبل لَهُ، وَالآخِرُ الَّذِي لَا بعد لَهُ، فَقيل وَبَعْدُ نِهَايَتَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَالآخِرُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ.
32 - وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيَسْأَلَنَّكُمُ النَّاسُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَسْأَلُوكُمْ هَذَا اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَمَنْ خَلَقَ الله؟ فَإِن(1/140)
سُئِلْتُمْ فَقُولُوا: اللَّهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ كَائِنٌ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ ".
33 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ خَلَفٍ - فِيمَا أَرَى - أَنا الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الشَّعْرَانِيُّ نَا جدي، نَا إِبْرَاهِيم ابْن حَمْزَةَ الزُّبَيْرِيُّ، نَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سُهَيْل بن أبي صَالح عَن مُوسَى ابْن عُقْبَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ: " اللَّهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَلا شَيْءَ قَبْلَكَ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلا شَيْءَ بَعْدَكَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ نَاصِيَتُهَا بِيَدِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الإِثْمِ وَالْكَسَلِ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ؛ وَمِنْ فِتْنَةِ الْغِنَى وَمِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ؛ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ ".
وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: الْكَبِيرُ: قِيلَ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْكِبْرِيَاءِ وَالْكِبْرِيَاءُ مِمَّا تَفَرَّدَ اللَّهُ بِهِ فَمَنْ نَازَعَهُ الْكِبْرِيَاءَ قَصَمَهُ، فَلا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَى أَحَدٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَاضَعَ، فَمَنْ تَوَاضَعَ رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجل: {وَله الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} .
وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْعَظِيمُ: الْعَظَمَةُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ لَا يَقُومُ لَهَا خَلْقٌ وَاللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ بَيْنَ الْخَلْقِ عَظَمَةً يُعَظِّمُ بِهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَمِنَ النَّاسِ(1/141)
مَنْ يُعَظَّمُ لِمَالٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَظَّمُ لِفَضْلٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَظَّمُ لِعِلْمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَظَّمُ لِسُلْطَانٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَظَّمُ لِجَاهٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَلْقِ إِنَّمَا يُعَظَّمُ لِمَعْنًى دُونَ مَعْنًى، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُعَظَّمُ فِي الأَحْوَالِ كُلِّهَا، فَيَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَ حَقَّ، عَظَمَةِ اللَّهِ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ يَكْرَهُهَا اللَّهُ، وَلا يَرْتَكِبُ مَعْصِيَةً لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ، إِذْ هُوَ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ.
وَمِنْ أَسْمَائِهِ: الْعَزِيزُ: الْعِزَّةُ الْكَامِلَةُ لِلَّهِ، وَقَدْ خَلَقَ الْعِزَّةَ فَأَعَزَّ بِهَا مَنْ شَاءَ مِنَ الْمُدَّةِ، ثُمَّ أَعْقَبَهُمُ الذلة وَأَعْقَبَ الذَّلِيلَ عِزَّةً فَهُوَ كَمَا قَالَ: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ من تشَاء وتذل من تشَاء} بَيْنَا هُوَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلا نَفْعًا، فَيَرْزُقُهُ اللَّهُ الْعَقْلَ فَتَرَاهُ عَزِيزًا مَنِيعًا آمِرًا نَاهِيًا، ثُمَّ تَرَاهُ وَضِيعًا خَامِلا، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ عَزِيزًا وَلا يَزَالُ عَزِيزًا لَا تَنْقُصُ عِزَّتُهُ وَلا تَفْنَى، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} .
34 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ أَنا وَالِدِي، أَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالا: نَا أَبُو مَسْعُودٍ، أَنا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ وَحَجَّاجٌ، قَالا: نَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَأَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ هَذِهِ الآيَةَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبضته يَوْم الْقِيَامَة وَالسَّمَاوَات مَطْوِيَّات بِيَمِينِهِ} الْآيَة وَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بيدَيْهِ هَكَذَا(1/142)
وَبَسَطَهُمَا وَجَعَلَ بَاطِنَهُمَا إِلَى السَّمَاءِ يُمَجِّدُ الرَّبُّ نَفْسَهُ تَعَالَى: " أَنَا الْجَبَّارُ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْعَزِيزُ أَنَا الْكَرِيمُ " فَرَجَفَ بِهِ الْمِنْبَرُ حَتَّى قُلْنَا لَيَخِرَّنَّ بِهِ الْمِنْبَرُ ".
وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى: الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ: كَانَ مِنْ دُعَاءِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " يَا بَارِئَ السَّمَوَاتِ، وَجَبَّارَ الْقُلُوبِ عَلَى فِطْرَتِهَا شَقِيِّهَا وَسَعِيدِهَا ". قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: الْبَارِئُ هُوَ الْخَالِقُ، وَالتَّصْوِيرُ، التَّخْطِيطُ وَالتَّشْكِيلُ.
قِيلَ إِنَّ بَعْضَ الْمُلْحِدَةِ قَالَ يَوْمًا: أَنَا أَخْلُقُ، فَقِيلَ: فَأَرِنَا خَلْقَكَ فَأَخَذَ لَحْمَا فَشَرَّحَهُ، ثُمَّ جَعَلَ بَيْنَهُ رَوْثًا ثُمَّ جَعَلَهُ فِي كوز وَخَتَمَهُ وَدَفَعَهُ إِلَى مَنْ حَفِظَهُ عِنْدَهُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ إِلَيْهِ فَكَسَرَ الْخَاتَمَ، وَإِذَا الْكُوزُ مَلآنٌ دُودًا فَقَالَ: هَذَا خَلْقِي، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ: فَكَمْ عَدَدُهُ، فَلَمْ يَدْرِ، فَقَالَ: فَكَمْ مِنْهُ ذُكُورٌ وَكَمْ مِنْهُ إِنَاثٌ. وَهَلْ تَقُومُ بِرِزْقِهِ؟ فَلَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ فَقَالَ لَهُ: الْخَالِقُ الَّذِي أَحْصَى كُلَّ مَا خَلَقَ عَدَدًا وَعَرَفَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى وَرَزَقَ مَا خَلَقَ، وَعَلِمَ مُدَّةَ بَقَائِهِ وَعَلِمَ نَفَادَ عُمُرِهِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} ، وَقَالَ: {الَّذِي أحسن كل شَيْء خلقه} خَلَقَ الإِنْسَانَ وَصَوَّرَهُ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَحَرَّمَ عَلَى الْخَلْقِ أَنْ يُصَوِّرُوا صُوَرًا، فَمَنْ صَوَّرَ شَيْئًا مِنَ الْخَلْقِ كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ لِيَرُدَّهُ إِلَى مَعْنَى الأَرْوَاحِ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ بِهِ النَّارَ، فَلا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ(1/143)
يُصَوِّرَ صُورَةً لأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَفَرَّدَ بِالْخَلْقِ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ، فَلَمَّا كَانَ اللَّهُ يَخْلُقُ الْخَلْقَ وَيُصَوِّرُهُ ثُمَّ يُخْرِجُهُ ذَا رُوحٍ قَابِضًا بَاسِطًا آكِلا شَارِبًا، وَلا يَقْدِرُ مَخْلُوقٌ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فتكلف مَالا يَسْتَطِيعُهُ عُذِّبَ بِذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: الْغَافِرُ وَالْغَفُورُ وَالْغَفَّارُ، وَهُوَ الَّذِي يَسْتُرُ الذُّنُوبَ عَنِ الْخَلْقِ، وَلا يُظْهِرُهَا، وَلَوْ عَلِمَ غَيْرُهُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ مَا يَعْلَمُهُ مِنْكَ لأَفْشَاهُ، وَلَعَلَّ مَخْلُوقًا لَوْ سَتَرَ عَلَيْكَ شَيْئًا عَلِمَهُ ثُمَّ غَضِبَ أَدْنَى غَضْبَةٍ لأَبْدَاهُ وَأَفْشَاهُ، وَأَنْتَ تَتَعَرَّضُ لِمَعَاصِي اللَّهِ (عَزَّ وَجَلَّ) فِي كُلِّ وَقْتٍ وَسِتْرُهُ عَلَيْكَ مُسْبَلٌ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ إِلَى خَلْقِهِ.
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْغَفَّارُ وَالْغَفُورُ السَّاتِرُ لِذُنُوبِ الْعِبَادِ وَعُيُوبِهِمْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {غفرانك رَبنَا} أَي اغْفِر لنا. وفعلان مِنْ أَسْمَاءِ الْمَصَادِرِ(1/144)
كَالْكُفْرَانِ، وَمِثْلُهُ سُبْحَانَكَ، وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا حَصَّبَ الْمَسْجِدَ قَالَ لِرَجُلٍ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ فَقَالَ: هُوَ أَغْفَرُ لِلنُّخَامَةِ، أَيْ أَسْتَرُ لَهَا، وَسُمِّيَ الْمِغْفَرُ مِغْفَرًا لِتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ وَالْمَغْفِرَةُ إِلْبَاسُ اللَّهِ النَّاسَ الْعَفْوَ.
وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: الْكَرِيمُ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: الْكَرِيمُ الْكَثِيرُ الْخَيْرِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الشَّيْءَ النَّافِعَ الَّذِي يَدُومُ نَفْعُهُ كَرِيمًا، وَيُقَالُ لِلنَّاقَةِ الْغَزِيرة اللَّبَن كَرِيمَةٌ لِغَزَارَةِ لَبَنِهَا، وَكَثْرَةِ دَرِّهَا، وَنَخْلَةٌ كَرِيمَةٌ كَثِيرَةُ الثَّمَرِ، وَقَدْ يُسَمَّى الشَّيْءُ الَّذِي لَهُ قَدْرٌ وَخَطر كَرِيمًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: {إِنِّي ألقِي إِلَيّ كتاب كريم} أَيْ جَلِيلٌ خَطِيرٌ، قِيلَ: وَجَدْتُ فِيهِ كَلامًا حَسَنًا وَقَالَ بَعْضُ الأَعْرَابِ وَقَدْ بَاعَ نَاقَةً لَهُ:
(وَقَدْ تنْزعُ الْحَاجَات يَا أُمَّ مَالِكٍ ... كَرَائِم مِنْ رَبٍّ بِهِنَّ ضَنِينٍ)
وَمِنْ كَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى: أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالنِّعْمَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ وَيَبْتَدِعُ بِالإِحْسَانِ مِنْ غَيْرِ اسْتَثَابَةٍ، وَيَغْفِرُ الذُّنُوبَ، وَيَعْفُو عَنِ الْمُسِيءِ.
وَيَقُولُ الدَّاعِي فِي دُعَائِهِ: يَا كَرِيمَ الْعَفْوِ، يُقَالُ: إِنَّ مِنْ كَرَمِ عَفْوِهِ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَابَ عَنِ السَّيِّئَةِ مَحَاهَا عَنْهُ وَكَتَبَ لَهُ مَكَانَهَا حَسَنَةً.
وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: الْحَمِيدُ: قِيلَ الْحَمِيدُ: اسْمُ الْفَرْدَانِيَّةِ لَا يُحْمَدُ وَلا يُشْكَرُ غَيْرُهُ.
35 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ حَبِيبٍ الرَّقِّيُّ، نَا هِلالُ بْنُ الْعَلاءِ، نَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ:(1/145)
سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ: لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فَقَالَ: أَلا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً خرج علينا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُلْنَا: قَدْ عَرَفْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ فَقَالَ: " قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ".
قَالَ بَعْضُ الْعلمَاء: الحميد الْمَحْمُود الَّذِي اسْتحق الْحَمد بفعاله وَهُوَ فعيل بِمَعْنى مفعول، وَهُوَ الَّذِي يحمد فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء، وَفِي الشدَّة والرخاء، لِأَنَّهُ لَا يجْرِي فِي أَفعاله الْغَلَط، وَلَا يَعْتَرِضهُ الْخَطَأ فَهُوَ مَحْمُود عَلَى كل حَال.
وَمن أَسْمَائِهِ: الْمجِيد: وَهُوَ الْوَاسِع الْكَرم، وأصل الْمجد فِي كَلَام الْعَرَب السعَة يُقَال: رجل ماجد إِذَا كَانَ وَاسع الْعَطاء. وَفِي الْمثل: " فِي كل شجر نَار، واستمجد المرخ والعفار " أَي استكثرا من النَّار وَقيل فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {ق وَالْقُرْآن الْمجِيد} أَي الْكَرِيم، وَقيل: الْمجِيد فِي صِفَات اللَّه تَعَالَى الْكَرِيم الفعال. وَرجل ماجد مفضال كثير الْخَيْر.
وَمن أَسْمَائِهِ تَعَالَى: الْحق: وَهُوَ المتحقق كَونه ووجوده وكل شَيْء صَحَّ وجوده وَكَونه فَهُوَ حق وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {الْحَاقَّةُ مَا الحاقة} أَي الكائنة(1/146)
حَقًا لَا شكّ فِي كَونهَا وَلَا مدفع لوقوعها قَالَ اللَّه تَعَالَى: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} وَقَالَ: {قَوْله الْحق} .
36 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو (عَبْدُ الْوَهَّابِ) أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن زِيَادٍ، نَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، نَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ عَنْ طَاوُوس عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَدْعُو إِذَا تَهَجَّدَ مِنَ اللَّيْلِ " اللَّهُمَّ لَك الْحَمد أَنْت نور السَّمَاوَات وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ ضِيَاءُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ حَقٌّ وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّار حق والنبيون حق وَمُحَمّد حق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلْيَكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ ". أَي أَن هَذِه الْأَشْيَاء كائنة لَا محَالة.
وَقد يكون الْحق بِمَعْنى الْوَاجِب فِي غير هَذَا الْموضع قَالَ الله عز وَجل: {فَحق عَلَيْهَا القَوْل} أَي فَوَجَبَ عَلَيْهَا الْوَعيد، وَقَالَ: (وَكَانَ حَقًّا علينا(1/147)
نصر الْمُؤمنِينَ} يُقَال: حققت عَلَيْهِ ذَلِك حَقًا أَي أوجبته عَلَيْهِ وَيُقَال: حاققته فحققته، أَي خاصمته فَخَصمته، وَالْحق فِي قَوْله تَعَالَى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ على الْبَاطِل} هُوَ الْقُرْآن وَالْبَاطِل الْكفْر، وَفِي قَوْله تَعَالَى: {مَا ننزل الْمَلَائِكَة إِلَّا بِالْحَقِّ} أَي بِالْأَمر الْمقْضِي.
وَمن أَسمَاء اللَّه عَزَّ وَجل: الرازق والرازق والرازق: المتكفل بالرزق والقائم عَلَى كل نفس بِمَا قيمها من قوتها، وسع الْخلق كلهم رزقه فَلم يخص بذلك مُؤمنا دون كَافِر، وَلَا وليا دون عَدو، يرْزق من عَبده وَمن عبد غَيره وَمن أطاعه وَمن عَصَاهُ، والأغلب من الْمَخْلُوق أَنه يرْزق فَإِذَا غضب منع، حُكيَ أَن بعض الْخُلَفَاء أَرَادَ أَن يكْتب جراية بعض الْعلمَاء فَقَالَ: لَا أريده، أَنا فِي جراية من إِذَا غضب عَليّ لم يقطع جرايته عني. قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا الله يرزقها وَإِيَّاكُم} يرْزق الضَّعِيف الَّذِي لَا حِيلَة لَهُ كَمَا يرْزق الْقوي، وَكَانَ من دُعَاء دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَام - " يَا رَازِق النعاب فِي عشه " يُرِيد فرخ الْغُرَاب، وَذَلِكَ أَنه إِذَا تفقأت عَنهُ الْبَيْضَة خرج أَبيض كالشحمة، فَإِذَا رَآهُ الْغُرَاب أنكرهُ لبياضه فَتَركه فيسوق اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ البق فَتَقَع عَلَيْهِ لزهومة رِيحه فيلقطها ويعيش بهَا إِلَى أَن يحمم ريشه فيسود فيعاوده الْغُرَاب عِنْد ذَلِك ويلقطه الْحبّ، والمخلوق إِذَا رزق فَإِنَّهُ يفنى(1/148)
مَا عِنْده فَيقطع عطاؤه عَمَّن أفضل عَلَيْهِ، فَإِن لم يفن مَا عِنْده فني هُوَ وَانْقطع الْعَطاء، وخزائن الله لَا تنفد وَملكه لَا يَزُول، وَقد يكون وُصُول الرزق بِطَلَب وَبِغير طلب، ويصل إِلَى الإِنسان من وَجه مُبَاح وَوجه غير مُبَاح وكل ذَلِك رزق اللَّه تَعَالَى جعله قوتا للْعَبد ومعاشا، قَالَ الله تَعَالَى: {رزقا للعباد} إِلا أَن الشَّيْء إِذَا كَانَ مَأْذُونا فِي تنَاوله فَهُوَ حَلَال حكما، وإِذَا كَانَ غير مَأْذُون فِيهِ فَهُوَ حرَام حكما وَجَمِيع ذَلِك رزق.
وَحكى عَنِ الْفضل بْن الرّبيع قَالَ: حججْت مَعَ هَارُون الرشيد فَلَمَّا صرنا بِالْكُوفَةِ، وَكُنَّا فِي طاق المحامل إِذَا نَحن ببهلول الْمَجْنُون قَاعد يلْعَب(1/149)
بِالتُّرَابِ فابتدر إِلَيْهِ الخدم فطردوه فأسرعت أَنا إِلَيْهِ، وَقلت هَذَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قد أقبل، فَلَمَّا حاذاه الهودج قَامَ قَائِما وَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: حَدَّثَنِي أَيمن بْن نايل قَالَ: حَدَّثَنِي قدامَة بْن عَبْد اللَّهِ قَالَ:
37 - رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بمنى عَلَى جمل أَحْمَر تَحْتَهُ رَحل رث وَلم يكن ضرب وَلَا طرد، فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: إِنه بهْلُول الْمَجْنُون، قَالَ: قد عرفت، قَالَ: قل وأوجز فَقَالَ:
(هَب أَنَّك قد ملكت الأَرْض طرا ... ودان لَك الْعباد فَكَانَ مَاذَا؟)
(أَلَسْت تصير فِي قبر ويحثو ... عَلَيْك ترابه هَذَا وَهَذَا)
فَقَالَ: أَجدت، قل وأوجز قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: من رزقه اللَّه مَالا وجمالا فعف فِي جماله وواسى من مَاله كتب عِنْد اللَّه من الْأَبْرَار، فَظن هَارُون أَن عَلَيْهِ دينا فَقَالَ: قد أمرنَا أَن يقْضى عَنْك دينك، قَالَ: لَا تفعل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، لَا يقْضى دين بدين ارْدُدْ الْحق إِلَى أَهله فَجَمِيع مَا فِي يَديك دين عَلَيْك، قَالَ: قد أمرنَا أَن يجرى عَلَيْك نَفَقَة، قَالَ: لَا تفعل، أتراه أجْرى عَلَيْك ونسيني، إِن الَّذِي أجْرى عَلَيْك هُوَ الَّذِي أجْرى عَليّ، ثُمَّ ولى وَأَنْشَأَ يَقُول:
(توكلت عَلَى اللَّه ... وَمَا أَرْجُو سوى اللَّه)
(وَمَا الرزق من النَّاس ... بل الرزق من اللَّه)
وَحكي عَن حَاتِم الْأَصَم: أَنه دخل عَلَى امْرَأَته فَقَالَ: " إِنِّي أُرِيد أَن(1/150)
أسافر، فكم أَضَع لَك من النَّفَقَة؟ قَالَت بِقدر مَا تخلف عَليّ من الْحَيَاة، قَالَ: مَا أَدْرِي كم تعيشين، قَالَت: كُله إِلَى من يعلم.
38 - وَقيل: أوحى اللَّه إِلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - " لَا أرْضى من نَفسِي أَن أخلق خلقا ثُمَّ لَا أرزقهم، وَلَا أرْضى من الْعباد أَن يَأْكُلُوا رِزْقِي ويعملوا لغيري، وَلَا أرْضى من نَفسِي أَن أطلب مِنْهُم الْيَوْم عمل الْغَد، فَلَا يطلبوا مني الْيَوْم رزق غَد ".
وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن السَّائِب: أخر عمر بْن الْخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْعشَاء فَصليت أَنا، فَدخل وَأَنا لَا أَدْرِي وَأَنا أَقرَأ " والذاريات " حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى قَوْله: {وَفِي السَّمَاء رزقكم وَمَا توعدون} فَرفع صَوته حَتَّى مَلأ الْمَسْجِد أشهد أشهد.(1/151)
وَقيل: مَا من زرع وَلَا ثَمَر إِلا مَكْتُوب عَلَيْهَا هَذَا رزق فلَان بْن فلَان، وَمَا من سَمَكَة فِي الْبَحْر إِلا مَكْتُوب عَلَى رَأسهَا اسْم من يأكلها، وَقيل: إِن اللَّه تَعَالَى لم يُعْط عباده أَرْزَاقهم جملَة لِأَنَّهُ لَو أَعْطَاهُم جملَة لم يكن لَهُم مَوضِع يضعونه فِيهِ، ولأظهروا الِاسْتِغْنَاء فَلم يتضرعوا إِلَيْهِ، وَالله يحب تضرع الْعباد إِلَيْهِ.
وَمن أَسمَاء اللَّه تَعَالَى: الْقَابِض الباسط: قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَالله يقبض ويبسط} وَمَعْنَاهُ: يُوسع الرزق ويقتره يبسطه بجوده ويقبضه بعدله عَلَى النّظر لعَبْدِهِ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْض} .
وَمن أَسْمَائِهِ: الْخَافِض الرافع: قيل الْخَافِض هُوَ الَّذِي يخْفض الجبارين، ويذل الفراعنة، والرافع هُوَ الَّذِي يرفع أولياءه وَيَنْصُرهُمْ على أعدائهم، ويخفض من يَشَاء من عباده فَيَضَع قدره ويخمل ذكره، وَيرْفَع من يَشَاء فيعلي مَكَانَهُ وَيرْفَع شَأْنه، لَا يَعْلُو إِلا من رَفعه وَلَا يتضع إِلَّا من وَضعه، وَقيل: بخفض الْقسْط وَيَرْفَعهُ.
39 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السِّمْسَارُ، نَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ، أَنا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّيْسَابُورِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عبد الْوَهَّاب الْفراء، أَنا جَعْفَر ابْن(1/152)
عَوْنٍ، أَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " قَامَ فِينَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَرْبَعٍ فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهَا لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ "، قَالَ: أَبُو عُبَيْدَة هَذِه الْآيَة {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ الله رب الْعَالمين} .
قَالَ أهل الْعلم: سبحات وَجهه جلال وَجهه، وَمعنى يخْفض الْقسْط وَيَرْفَعهُ، يخْفض الْعدْل بتسليطه ذَا الْجور وَيرْفَع الْعدْل بإظهاره الْعدْل، يخْفض الْقسْط بِأَهْل الْجور، وَيرْفَع الْعدْل بأئمة الْعدْل وَهُوَ فِي خفضه الْعدْل مرّة وَرَفعه أُخْرَى، يَبْتَلِي عباده، لينْظر كَيفَ صبرهم عَلَى مَا يسؤهم وشكرهم عَلَى مَا يسرهم.
وَمن أَسْمَائِهِ تَعَالَى: الْبَاعِث: وَهُوَ الَّذِي يبْعَث الْخلق بعد الْمَوْت أَي يحييهم فيحشرهم لِلْحسابِ.
40 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ أَنا وَالِدِي أَبُو عبد الله أَنا الْحسن ابْن مَرْوَانَ، نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، نَا سُفْيَان.(1/153)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَخْبَرَنَا عَبْدُوسُ بْنُ الْحُسَيْنِ، نَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، نَا أَبُو جَعْفَرٍ النُّفَيْلِيُّ، نَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ قَالا: أَنا أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا آوَى إِلَى فِرَاشِهِ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ الأَيْمَنِ وَيَقُولُ: {رَبِّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ} .
وَمِن أَسْمَائِهِ: الرَّقِيب: هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو عَبْد اللَّهِ من رِوَايَة صَفْوَان ابْن صَالح فِي أَسمَاء اللَّه التِّسْعَة وَالتسْعين، وَرَوَاهُ جَعْفَر الْفرْيَابِيّ عَن صَفْوَان ابْن صَالح فَجعل مَكَان الرَّقِيب الْقَرِيب. قَالَ الزّجاج: الرَّقِيب الْحَافِظ الَّذِي(1/154)
لَا يغيب عَنهُ شَيْء يُقَال: رقبت الشَّيْء أرقبه إِذَا رَعيته وحفظته، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيب عتيد} وَقَالَ النّحاس: الْقَرِيب الَّذِي علمه مُحِيط بِكُل شَيْء.
41 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو أَنا وَالِدِي أَنا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ هَارُونَ، نَا أَحْمَدُ ابْن شَيْبَانَ، نَا عَبْدُ الْمَلِكِ الْجَدِّيُّ، نَا شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قَالَ: " كُنَّا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَفَرٍ فَكَانَ النَّاسُ إِذَا صَعِدُوا أَو انْحَدَرُوا رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا ".
وَمن أَسْمَائِهِ تَعَالَى: الْمُبين: كَذَا هُوَ فِي أَكثر الطّرق عَن شُعَيْب بْن أَبِي حَمْزَة بِالْبَاء وَضم الْمِيم، وَمَعْنَاهُ الْمُبين أمره، وَقيل الْبَين الربوبية والملكوت،(1/155)
يُقَال: أبان الشَّيْء بِمَعْنى تبين، وَقيل مَعْنَاهُ: أبان لِلْخلقِ مَا احتاجوا إِلَيْهِ، وَرُوِيَ المتين بِالتَّاءِ وَفتح الْمِيم وَمَعْنَاهُ الشَّديد الْقُوَّة عَلَى مَا يَشَاء.
وَمن أَسمَاء اللَّه تَعَالَى: الْحَلِيم: حَلِيم عَمَّن عَصَاهُ لِأَنَّهُ لَو أَرَادَ أَخذه فِي وقته أَخذه، فَهُوَ يحلم عَنهُ ويؤخره إِلَى أَجله، وَهَذَا الِاسْم وَإِن كَانَ مُشْتَركا يُوصف بِهِ الْمَخْلُوق، فحلم المخلوقين حلم لم يكن فِي الصغر ثُمَّ كَانَ فِي الْكبر، وَقد يتَغَيَّر بِالْمرضِ وَالْغَضَب والأسباب الْحَادِثَة، ويفنى حلمه بفنائه، وحلم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لم يزل وَلَا يَزُول، والمخلوق يحلم عَن شَيْء وَلَا يحلم عَن غَيره، ويحلم عَمَّن لَا يقدر عَلَيْهِ، وَالله تَعَالَى حَلِيم مَعَ الْقُدْرَة.
وَمن أَسمَاء اللَّه تَعَالَى: الشاكر والشكور: الْمَخْلُوق يشْكر من أحسن إِلَيْهِ، وَالله يشْكر لنا إِحساننا إِلَى أَنْفُسنَا.
وَمن أَسْمَائِهِ تَعَالَى: التواب، وَمَعْنَاهُ: يقبل تَوْبَة عباده إِذَا أذنبوا، ويقبلهم إِذَا استقالوا والمخلوق تواب، لِأَنَّهُ يَتُوب إِلَى اللَّه، وَالله تواب يقبل تَوْبَة العَبْد.
وَمن أَسْمَائِهِ: الْوَهَّاب: يهب الْعَافِيَة، وَلَا يقدر الْمَخْلُوق أَن يَهَبهَا ويهب الْقُوَّة وَلَا يقدر الْمَخْلُوق أَن يَهَبهَا، تَقول: يَا رب هَب لي الْعَافِيَة وَلَا تسْأَل مخلوقا ذَلِك، وَإِن سَأَلته لم يقدر عَلَيْهِ، وَتقول عِنْد ضعفك: يَا رب هَب لي قُوَّة، والمخلوق لَا يقدر عَلَى ذَلِك.
وَمن أَسْمَائِهِ عَزَّ وَجَلَّ: الحسيب: قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكفى بِنَا حاسبين} والحساب يَقع عَلَى الْخَيْر(1/156)
وَالشَّر بمثاقيل الذَّر، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَال ذرة شرا يره} يعلم قدر الذّرة.
قَالَ بعض الْعلمَاء: " الشعيرة أَربع رزات، والرزة أَربع سمسمات، والسمسمة أَربع خردلات، والخردلة أَربع وَرَقَات نخالة، والورقة من النخالة أَربع ذرات ".
فَانْظُر مَا مِثْقَال الذّرة وَأَنت محاسب عَلَيْهَا فِيمَا تَأْخُذهُ وتعطيه مَأْخُوذ مِنْك ومحسوب لَك تعطاه من غَيْرك وَغَيْرك يعطاه مِنْك، فَلْيَكُن بِحَسب هَذَا إِشفاقك وخوفك وليحذر أهل الْغَفْلَة عَنِ النّظر فِي مَثَاقِيل الذّرة، وفقنا اللَّه لما يرضى من القَوْل وَالْعَمَل.
فصل
42 - أَخْبَرَنَا طَلْحَةُ بْنُ الْحُسَيْنِ الصَّالْحَانِيُّ أَنا جَدِّي أَبُو ذَرٍّ الصَّالْحَانِيُّ، أَنا أَبُو الشَّيْخِ، نَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْهَرَوِيُّ، نَا أَبُو عَامِرٍ الدِّمَشْقِيُّ، نَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، نَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -(1/157)
قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا غَيْرَ وَاحِدَةٍ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، إِنَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ ". قَالَ زُهَيْر فَبَلغنَا أَن غير وَاحِد من أهل الْعلم قَالَ: إِن أَولهَا أَن يفْتَتح بِلَا إِله إِلا اللَّه وَحده لَا شريك لَهُ، لَهُ الْملك وَله الْحَمد بِيَدِهِ الْخَيْر وَهُوَ عَلَى كل شَيْء قدير، لَا إِله إِلا اللَّه لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى، اللَّه، الْوَاحِد، الصَّمد، الأول، الآخر، الظَّاهِر، الْبَاطِن، الْخَالِق، البارئ، المصور، الْملك، الْحق، السَّلَام، الْمُؤمن، الْمُهَيْمِن، الْعَزِيز، الْجَبَّار، المتكبر، اللَّطِيف، الْخَبِير، السَّمِيع، الْبَصِير، الْعلي، الْعَظِيم، الْبَار، المتعالي، الْجَلِيل، الْجَمِيل، الْحَيّ، القيوم، الْقَادِر، القاهر، الْعَلِيم، الْحَكِيم، الْقَرِيب، الْمُجيب، الْمُغنِي، الْوَهَّاب، الْوَدُود، الشكُور، الْمَاجِد، الْوَاحِد، الْوَلِيّ، الرشيد، الْعَفو، الغفور، الْكَرِيم، الْحَلِيم، التواب، الرب، الحميد، الْمجِيد، الشَّهِيد، الْمُبين، الْبُرْهَان، الرؤوف، الرَّحِيم، المبدئ، المعيد، الْبَاعِث، الْوَارِث، الْقوي، الشَّديد، الضار، النافع، الْبَاقِي، الْوَدُود، الْخَافِض، الرافع، الْقَابِض، الباسط، الْمعز، المذل،(1/158)
الرَّزَّاق، ذُو الْقُوَّة المتين، الْقَائِم، الدَّائِم، الْحَافِظ، الْوَكِيل، الْعَادِل، الْمَانِع، الْمُعْطِي، المحيي، المميت، الْجَامِع، الْكَافِي، الْهَادِي، الأيد، الْعَالم، الصَّادِق، النُّور، الْمُنِير، الْقَدِيم، الْفَرد، الْوتر، الْأَحَد، الصَّمد، الَّذِي لم يلد وَلم يُولد وَلم يكن لَهُ كفوا أحد ".
قَالَ قَتَادَة: " القدوس: الْمُبَارك الْمُهَيْمِن: أنزل كِتَابه فَشهد عَلَيْهِ، الحبار، جبر خلقه عَلَى مَا شَاءَ من أمره، المتكبر، تكبر عَن كل سوء، لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى، قَالَ أَبُو الشَّيْخ رَحمَه اللَّه: " فَهَذِهِ أَسمَاء اللَّه تَعَالَى الَّذِي سمى بِهِ نَفسه فِي كِتَابه، وَمَا سَمَّاهُ بِهِ رَسُوله
، فَمن سمى اللَّه تَعَالَى بِغَيْر مَا(1/159)
سمى بِهِ نَفسه أَو سَمَّاهُ بِهِ رَسُول الله
أَو زَاد فِي صِفَاته صفة لم يسم بهَا نَفسه أَو رَسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهُوَ مُبْتَدع ضال.
فاسمه تَعَالَى: المتعال: أَي تَعَالَى عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا وَقيل: تَعَالَى فَوق خلقه، واسْمه تَعَالَى المقسط: أَي الْعَادِل فِي حكمه الَّذِي لَا يَحِيف وَلَا يجوز، واسْمه تَعَالَى: الْمَانِع: أَي يمْنَع أهل دينه، أَي يحيطهم ويحفظهم وَيَنْصُرهُمْ، وَقيل: يحرم من لَا يسْتَحق الْعَطاء.
43 - قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا مَانع لما أَعْطَيْت وَلَا معطي لما منعت " فَهُوَ تَعَالَى يملك الْمَنْع وَالعطَاء، يُعْطي تفضلا، وَيمْنَع ابتلاء، لَا راد لما أَرَادَ.
واسْمه تَعَالَى: النُّور، قيل مَعْنَاهُ: لَا منور لأبصار الْعُيُون وأبصار الْقُلُوب غَيره، وَقيل مَعْنَاهُ: هادي الْخلق إِلَى مصالحهم.
وَمن أَسْمَائِهِ عَزَّ وَجَلَّ: الشَّهِيد: أَي الشَّهِيد عَلَى الْعباد بأعمالهم وأحوالهم قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {إِلا كُنَّا عَلَيْكُم شُهُودًا إِذْ تفيضون فِيهِ} .(1/160)
فَيَنْبَغِي لكل عَامل أَرَادَ عملا صغر الْعَمَل أَو كبر، أَن يقف وَقْفَة عِنْد دُخُوله فِيهِ، فَيعلم أَن اللَّه شَهِيد عَلَيْهِ، فيحاسب نَفسه فَإِن كَانَ دُخُوله فِيهِ لله مضى فِيهِ، وإِلا رد نَفسه عَنِ الدُّخُول فِيهِ وَتَركه.
وَمن أَسْمَائِهِ: المقيت: ينزل الأقوات لِلْخلقِ، وَيقسم أَرْزَاقهم، وَقيل: المقيت الْقَدِير، وَفِي بعض الرِّوَايَات المغيث بالغين، وَفِي أَكثر الرِّوَايَات الْمُبين، وَفِي نُسْخَتي الْمُنِير بالنُّون وَالرَّاء، وَفِي رِوَايَة الْوَلِيد بْن مُسلم عَن شُعَيْب (المغيث) وَلَيْسَ فِيهِ (الرِّهَان) ، وَلَا (الأيد: وَفِي رِوَايَة شُعَيْب (الرَّقِيب) ، وَفِي رِوَايَة زُهَيْر بْن مُحَمَّد (الْقَرِيب) .
قَالَ بعض الْعلمَاء: الْمَحْفُوظ إِنما هُوَ (المقيت) بِالْقَافِ.
وَمن أَسْمَائِهِ عَزَّ وَجَلَّ: الْوَكِيل: قَالَ الْفراء: " الْوَكِيل: الْكَافِي ". وَقيل: هُوَ الْكَفِيل بأرزاق الْعباد والقائم عَلَيْهِم بمصالحهم " وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق:(1/161)
" الْوَكِيل هُوَ الَّذِي توكل بِالْقيامِ بِجَمِيعِ مَا خلق ".
وَمعنى قَوْله: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ، أَي نعم الْكَفِيل بأمورنا والقائم بهَا.
وَمن أَسْمَائِهِ: الْوَلِيّ: وَمَعْنَاهُ النَّاصِر لِعِبَادِهِ الْمُؤمنِينَ، وَقيل مَعْنَاهُ، الْمُتَوَلِي للأمور كلهَا، والقيم بهَا يُقَال: فلَان ولي هَذَا الْأَمر إِذَا كَانَ قيمه وَالْمُتوَلِّيّ لَهُ.
وَمن أَسْمَائِهِ تَعَالَى: القاهر والقهار: وَمَعْنَاهُ يحييهم إِذَا شَاءَ ويميتهم إِذَا شَاءَ ويمرضهم إِذَا شَاءَ ويصحهم إِذَا شَاءَ ويفقرهم إِذَا شَاءَ، ويغنيهم إِذَا شَاءَ، وَلَا يقدر أحد مِنْهُم إِذَا حكم عَلَيْهِ بِحكم أَن يزِيل مَا حكم اللَّه بِهِ.
وَمن أَسْمَائِهِ: الْوَاسِع،: وسعت رَحمته الْخلق أَجْمَعِينَ. وَقيل: وسع رزقه الْخلق أَجْمَعِينَ، لَا تَجِد أحدا إِلا وَهُوَ يَأْكُل رزقه، وَلَا يقدر أَن يَأْكُل غير مَا رزق.
وَمن أَسْمَائِهِ تَعَالَى: الْوَاجِد: بِالْجِيم يَعْنِي الْغَنِيّ الَّذِي لَا يفْتَقر وكل غَنِي مُحْتَاج إِلَيْهِ.(1/162)
وَمن أَسْمَائِهِ: الْبر: وَهُوَ العطوف عَلَى عباده، المحسن إِليهم الرَّحِيم بهم، وَمن بره بعباده إِمهاله العَاصِي، لَا يؤاخذه فيعجله عَنِ التَّوْبَة.
وَمن الْأَسْمَاء المضافة ذُو الْجلَال والإِكرام: وَالْمعْنَى أَن اللَّه مُسْتَحقّ أَن يجل ومستحق أَن يكرم وَلَا يكفر، وَقيل معنى الإِكرام: إِكرامه عباده الصَّالِحين بِأَن يُحِلهُمْ دَار كرامته، فَيكون الإِكرام من قبله للعباد لَا من الْعباد لَهُ.
44 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ أَنا وَالِدِي، أَنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ صَالِحٍ وَغَيْرُهُ قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، نَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَمْرِو ابْنِ أَخِي أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْمَسْجِدِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ، يَا حَيّ يَا قيوم، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَقَدْ دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِاسْمِهِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى ".
وَمن أَسْمَائِهِ: خير الفاصلين: الْفَاصِل: القَاضِي، يفصل بَين الْخلق وَيَقْضِي بَينهم، وَقد يكون فِي الْقُضَاة من يُخطئ فِي الحكم وَمِنْهُم من يقْضِي بالجور، وَالله تَعَالَى خير الفاصلين ينْتَقم للمظلوم من الظَّالِمين، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} وَهَذَا وَعِيد للظالم وتعزية(1/163)
للمظلوم، وَلَا أحد أظلم مِمَّن ظلم الضَّعِيف واليتيم والمسكين وَمن لَا نَاصِر لَهُ غير اللَّه فليحذر الظَّالِم، وليرد الْمظْلمَة وليخف دَعْوَة الْمَظْلُوم، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْآخِرَة دِينَار وَلَا دِرْهَم، وَلَا دَار وَلَا عقار، وَإِنَّمَا الحكم بِالْحَسَنَاتِ والسيئات، فَمن ظلم أحدا أَخذ الْمَظْلُوم مِنْهُ حَسَنَاته، فَإِن لم يكن لَهُ حَسَنَات زيد من سيئات الْمَظْلُوم عَلَى سيئاته، فليبادر الظَّالِم إِلَى رد الْمظْلمَة فِي الدُّنْيَا قبل يَوْم الْقِيَامَة حَيْثُ لَا يكون دِينَار وَلَا دِرْهَم.
وَمن أَسْمَائِهِ: ذُو المعارج: وَمَعْنَاهُ تعرج أَعمال الْخلق إِلَيْهِ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} ، فملائكة النَّهَار تعرج بأعمالكم بِالنَّهَارِ، وملائكة اللَّيْل تعرج بأعمالكم بِاللَّيْلِ فزينوا صحائفكم بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة والمواظبة عَلَى الصَّلَوَات فَإِن الصَّلَوَات يذْهبن السَّيِّئَات، قيل فِي التَّفْسِير الْحَسَنَات الصَّلَوَات الْخمس.
45 - وَرُوِيَ: " أَرَأَيْتُم لَو كَانَ بِبَاب أحدكُم نهر ينغمس فِيهِ كل يَوْم خمس مَرَّات مَا كَانَ يبْقى عَلَيْهِ من الدَّرن؟ " وللصلاة فِي الْجَمَاعَة فَضِيلَة على(1/164)
صَلَاة الْمُنْفَرد فَإِن الرَّكْعَة فِي الِانْفِرَاد رَكْعَة وَاحِدَة وَفِي الْجَمَاعَة سبع وَعِشْرُونَ رَكْعَة، فَإِذَا صليت فِي الْجَمَاعَة أَربع رَكْعَات كَانَت مائَة وثماني رَكْعَات.
وَمن أَسْمَائِهِ: خير الناصرين: النَّصْر والناصر بِمَعْنى، وَمَعْنَاهُ ينصر الْمُؤمنِينَ عَلَى أعدائهم وَيثبت أَقْدَامهم عِنْد لِقَاء عدوهم ويلقي الرعب فِي قُلُوب عدوهم، فَيَنْبَغِي لكل أحد إِذَا رأى مُنْكرا أَن ينْهَى عَنهُ، ويعتقد أَن اللَّه ينصره، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {إِنْ تنصرُوا الله ينصركم} . فَكل من كَانَ يُرِيد بقوله وَعَمله رضى الله ينصره الله ويعينه، فَيَنْبَغِي إِذَا رأى مُنْكرا أَن يُغَيِّرهُ بِيَدِهِ إِن قوي وإِلا فبلسانه إِن ضعف، فَإِن عجز عَنِ الْأَمريْنِ أنكر بِقَلْبِه، وَذَلِكَ أَضْعَف الْإِيمَان.
وَمن أَسْمَائِهِ: خير الفاتحين، وَخير الرَّاحِمِينَ، وَخير الغافرين، وأرحم الرَّاحِمِينَ.(1/165)
كل هَذِه الْأَسْمَاء مَمْنُوعَة لَا تكون إِلا لله عَزَّ وَجَلَّ يفتح للْمُسلمين أَبْوَاب أَرْزَاقهم، وَيفتح لَهُم أَبْوَاب النَّصْر عَلَى أعدائهم، وَيفتح لَهُم مسامع قُلُوبهم حَتَّى يعقلوا عَنِ اللَّه أمره وَنَهْيه وَقَوله: {خير الرَّاحِمِينَ} أَي يرحم الْمُؤمنِينَ فَيكْشف ضرهم عِنْد مرضهم، وَيكفر عَنْهُم بِهِ السَّيِّئَات.
46 - رُوِيَ: أَن أَبَا بكر الصّديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِين أنزل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وجدت انقصاما فِي ظَهْري، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " يَا أَبَا بكر أَلَسْت تمرض أَلَسْت تحزن أَلَسْت تصيبك اللأواء؟ قَالَ: بلَى، قَالَ: فَتلك بِتِلْكَ ".(1/166)
فَهَذَا أَبُو بكر الصّديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعَ شَهَادَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ بِالْجنَّةِ يَقُول هَذَا، فَمَا نصْنَع نَحن، وَرُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
47 - " حمى لَيْلَة كَفَّارَة سنة " وَهَذَا من لطف اللَّه وَرَحمته بِالْمُؤْمِنِينَ وإِحسانه إِليهم وَقَوله: {خَيْرُ الغافرين} فالمخلوق إِذَا غفر للمخلوق ذَنبا من بِهِ عَلَيْهِ، وَالله يغْفر وَلَا يوبخ.
وَمن الْأَسْمَاء المتكررة: الْقَدِير والقادر والمقتدر: قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخذ عَزِيز مقتدر} ، قيل: المقتدر التَّام الْقُدْرَة الَّذِي لَا يمْتَنع عَلَيْهِ شَيْء ووزنه مفتعل من الْقُدْرَة، وَقيل المقتدر الْمظهر قدرته، وَمِنْهَا الغفور والغفار والرازق والرزاق.
وَمن أَسْمَائِهِ تَعَالَى: السَّيِّد: (و) هَذَا اسْم لم يَأْتِ بِهِ الْكتاب وَإِنَّمَا ورد فِي الْخَبَر عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.(1/167)
48 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ أَنا وَالِدِي أَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى نَا أَبُو مَسْعُودٍ أَنا يَعْمُرُ نَا ابْنُ الْمُبَارَكِ نَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ الله ابْن الشِّخِّيرِ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: أَنْتَ سَيِّدُ قُرَيْشٍ فَقَالَ السَّيِّدُ اللَّهُ، فَقَالَ: أَنْتَ أَفْضَلُنَا فِيهَا قَوْلا وَأَعْظَمُنَا فِيهَا طولا، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لِيَقُلْ أَحَدُكُمْ بِقَوْلِهِ وَلا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ، وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: وَأَفْضَلُنَا فَضْلا، وَفِي رِوَايَةٍ: " قُولُوا بِقَوْلِكُمْ أَوْ بِبَعْضِ قَوْلِكُمْ ".(1/168)
49 - وَرُوِيَ عَن بُرَيْدَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَقولُوا لِلْمُنَافِقِ سيدنَا فإِنكم إِذَا قُلْتُمْ ذَلِك أسخطتم ربكُم ".
قيل السَّيِّد: الْمُحْتَاج إِلَيْهِ، والمحتاج إِلَيْهِ بالإِطلاق هُوَ اللَّه، لَيْسَ للْمَلَائكَة وَلَا الإِنس وَلَا الْجِنّ غنية عَنهُ لَو لم يوجدهم لم يوجدوا، وَلَو لم يبقهم بعد الإِيجاد لم يكن لَهُم بَقَاء، وَلَو لم يُعِنْهُمْ فِيمَا يعرض لَهُم لم يكن لَهُم معِين غَيره فَحق عَلَى الْخلق أَن يَدعُوهُ بِهَذَا الِاسْم.
وَمن أَسْمَائِهِ: البادئ: وَهُوَ فِي رِوَايَة عبد الْعَزِيز بْن الْحصين وَمَعْنَاهُ المبدئ، يُقَال: بدءا وإِبداءً، بِمَعْنى وَاحِد، قَالَ الله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدُو الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ} ابْتِدَاء الْأَشْيَاء من غير أصل.
وَمن أَسْمَائِهِ: الْحَكِيم: قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم} وَقَالَ: {الْعَزِيز الْحَكِيم} قيل الْحَكِيم: الَّذِي لَا يَقُول وَلَا يفعل إِلَّا الصَّوَاب.(1/169)
صفحة فارغة(1/170)
وَقيل: الْحَكِيم بِمَعْنى الْمُحكم، أَي هُوَ الْمُحكم لخلق الْأَشْيَاء صرف عَن مفعل إِلَى فعيل، وَمَعْنَاهُ: إِتقان التَّدْبِير فِي خلق الْأَشْيَاء وَحسن التَّقْدِير لَهَا قَالَ الله عز جلّ: {الَّذِي أحسن كل شَيْء خلقه} يَعْنِي حسن التَّدْبِير فِي إِنشاء كل شَيْء من خلقه على مَا أحب أَن ينشيه عَلَيْهِ، قَالَ الله عز وَجل: {خلق كل شَيْء فقدره تَقْديرا} . قَالَ بعض الْعلمَاء: " إِنما زَادَت هَذِه الْأَسْمَاء عَلَى التِّسْعَة وَالتسْعين اسْما فِي الْقُرْآن لِأَن بَعْضهَا متكرر، من ذَلِك الْعَالم والعليم، والغافر والغفور ".
وَمن أَسمَاء اللَّه تَعَالَى: الذارئ: وَمَعْنَاهُ المنشئ والمنمي، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يذرؤكم فِيهِ} أَي جعلكُمْ أَزْوَاجًا ذُكُورا وإِناثا لينشئكم فيكثركم وينميكم.
50 - وَرُوِيَ عَن أَبِي التياح قَالَ: قَالَ رجل لعبد الرَّحْمَن بْن خنبش: كَيفَ صنع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين كادته الشَّيَاطِين، فَقَالَ: تحدرت الشَّيَاطِين من الْجبَال والأودية يُرِيدُونَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَمِنْهُم شَيْطَان مَعَه شعلة من نَار يُرِيد أَن يحرق بهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمَّا رَآهُمْ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(1/171)
فزع مِنْهُم، وجاءه جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - فَقَالَ: يَا مُحَمَّد: قل. قَالَ: مَا أَقُول؟ قَالَ: قل: أعوذ بِكَلِمَات اللَّه التامات، اللَّاتِي لَا يجاوزن بر وَلَا فَاجر من شَرّ مَا خلق، وذرأ وبرأ، وَمن شَرّ مَا ينزل من السَّمَاء وَمن شَرّ مَا يعرج فِيهَا، وَمن شَرّ مَا ذَرأ فِي الأَرْض، وَمَا يخرج مِنْهَا، وَمن شَرّ فتن اللَّيْل وَالنَّهَار، وَمن شَرّ كل طَارق إِلا طَارق يطْرق بِخَير يَا رَحْمَن، قَالَ: فطفئت نَار الشَّيَاطِين وَهَزَمَهُمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
وَمن أَسمَاء اللَّه تَعَالَى: الصَّانِع: قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {صُنْعَ الله الَّذِي أتقن كل شَيْء} .(1/172)
51 - وَرُوِيَ عَن حُذَيْفَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ صنع كل صانع وصنعته " قيل: الصنع الاختراع والتركيب.
وَمن أَسْمَائِهِ: الفاطر: قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض} وَقيل: الفاطر، فَاتق المرتتق من السَّمَاء وَالْأَرْض، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كفرُوا أَن السَّمَاوَات وَالْأَرْض كَانَتَا رتقاً ففتقناهما} قَالَ الْخطابِيّ: " الفاطر هُوَ الَّذِي فطر الْخلق، أَي ابْتَدَأَ خلقهمْ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وَقَالَ أَبُو روق عَنِ ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لم أكن أعلم معنى فاطر(1/173)
السَّمَوَات وَالْأَرْض حَتَّى اخْتصم إِلي أَعْرَابِيَّانِ فِي بِئْر، فَقَالَ أَحدهمَا: أَنا فطرتها، يُرِيد استحدثت حفرهَا ".
وَمن أَسْمَائِهِ تَعَالَى: الْمُجيب، يُجيب الْمُضْطَر إِذا دَعَاهُ، ويغيب الملهوف إِذَا ناداه، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {أُجِيب دَعْوَة الداع إِذا دعان} .
وَمن أَسْمَائِهِ تَعَالَى: الْوَالِي: قيل: هُوَ الْمَالِك للأشياء وَالْمُتوَلِّيّ لَهَا والمتصرف بمشيئته فِيهَا.
(وَمن أَسْمَائِهِ: الْبر، أَي العطوف عَلَى عباده، المحسن إِليهم، الرَّحِيم بهم وَمن بره بعباده إِمهاله العَاصِي، لَا يؤاخذه فيعجله عَنِ التَّوْبَة) .
وَمن أَسْمَائِهِ: الرؤوف: وَهُوَ فعول من الرأفة، قيل: الرأفة: أبلغ الرَّحْمَة وأرقها، وَيُقَال: إِن الرأفة أخص وَالرَّحْمَة أَعم.
وَمن أَسْمَائِهِ عَزَّ وَجَلَّ: الْمَاجِد والواجد، وَالْوَاحد والأحد، خُولِفَ بَين بِنَاء الْمَاجِد والمجيد، ليؤكد معنى الْوَاجِد، الَّذِي هُوَ الْغَنِيّ فَيدل بِهِ عَلَى السعَة وَالْكَثْرَة، وليأتلف الاسمان، ويتقاربا فِي اللَّفْظ وَمعنى الْوَاحِد: الَّذِي لم يزل وَحده لم يكن مَعَه آخر، وَقيل: هُوَ الْمُنْقَطع القرين الْمَعْدُوم النظير، وَأما(1/174)
الْأَحَد: فَقَالَ أهل الْعَرَبيَّة: أَصله وحد، وَالْفرق بَين الْوَاحِد والأحد: أَن الْوَاحِد هُوَ الْمُنْفَرد بِالذَّاتِ، لَا يضامه آخر، والأحد هُوَ الْمُنْفَرد بِالْمَعْنَى لَا يُشَارِكهُ فِيهِ أحد، قيل: إِن الْأَحَد يصلح فِي مَوضِع الْجُحُود، وَالْوَاحد فِي مَوضِع الإِثبات، يُقَال: لم يأتني من الْقَوْم أحد، وَجَاءَنِي مِنْهُم وَاحِد وَلَا يُقَال: جَاءَنِي مِنْهُم أحد.
وَمن أَسْمَائِهِ الْجَامِع وَالْمَانِع، فالجامع: هُوَ الَّذِي يجمع الْخَلَائق ليَوْم لَا ريب فِيهِ، وَالْمَانِع: هُوَ النَّاصِر الَّذِي يمْنَع أولياءه أَي يحوطهم وَيَنْصُرهُمْ.
وَمن أَسْمَائِهِ: الْجَمِيل: وَهُوَ الْمُجْمل المحسن، فعيل بِمَعْنى مفعل، وَقيل: معنى الْجَمِيل: ذُو النُّور والبهجة، وَقد رُوِيَ فِي الحَدِيث:(1/175)
52 - " إِن اللَّه جميل يحب الْجمال ".
وَمن أَسْمَائِهِ: الْكَافِي: وَهُوَ الَّذِي يَكْفِي عباده المهم وَيدْفَع عَنْهُم الملم.
وَمن أَسْمَائِهِ: المليك: وَهُوَ الْمَالِك، وَبِنَاء فعيل للْمُبَالَغَة فِي الْوَصْف. وَقد يكون بِمَعْنى الْملك، كَقَوْلِه عَزَّ وَجَلَّ: {عِنْدَ مَلِيكٍ مقتدر} .
وَمن أَسْمَائِهِ: الصَّادِق وَالْمُحِيط، والمنان " فالصادق الَّذِي يصدق قَوْله وَيصدق وعده، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَمَنْ أصدق من الله قيلا} ، وَقَوله: {الْحَمد لله الَّذِي صدقنا وعده} . وَالْمُحِيط: هُوَ الَّذِي أحاطت قدرته بِجَمِيعِ خلقه، وَهُوَ الَّذِي أحَاط بِكُل شَيْء علما، وأحصى كل شَيْء عددا، والمنان: الْكثير الْعَطاء، والمن الْعَطاء، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَو أمسك بِغَيْر حِسَاب}(1/176)
والقريب: مَعْنَاهُ قريب بِعِلْمِهِ من خلقه قريب مِمَّن يَدعُوهُ بالإِجابة كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دعان} .
وَأما الحنان وَالديَّان: فالحنان ذُو الرَّحْمَة والعطف، قَالَ طرفَة:
(أَبَا مُنْذر أفنيت فَاسْتَبق بَعْضنَا ... حنانيك بعض الشَّرّ أَهْون من بعض)
أَي تَحَنن، وَارْحَمْ، وَأما الديَّان فَمَعْنَاه، الْمجَازِي، يُقَال: دنت الرجل إِذَا جزيته أدينه، وَالدّين الْجَزَاء، وَمِنْه الْمثل: " كَمَا تدين تدان ". وَالديَّان، أَيْضا الْحَاكِم قَالَ: أعشى مَازِن لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا سيد النَّاس وديان الْعَرَب " وَفِي رِوَايَة عبد الْعَزِيز بْن الْحصين عَن أَيُّوب وَهِشَام بْن حسان عَنِ ابْن سِيرِين أَسمَاء لَيست فِي رِوَايَة أَبِي الزِّنَاد عَنِ الْأَعْرَج مِنْهَا: البادي، وَالْكَافِي، والدائم، وَالْمولى، والنصير، وَالْمُحِيط، والمبين، والفاطر والعلام، والمليك، والأكرم، وَالْوتر، وَذُو المعارج. وَأكْثر هَذِه الْأَسْمَاء مَذْكُورَة فِي الْقُرْآن. وَقد تكلم أَصْحَاب الحَدِيث فِي عبد الْعَزِيز بْن الْحصين واعتمدوا عَلَى رِوَايَة صَفْوَان ابْن صَالح عَنِ الْوَلِيد بْن مُسلم عَن شُعَيْب بْن أَبِي حَمْزَة عَن أَبِي الزِّنَاد، قَالَ(1/177)
الْخطابِيّ: " وَمِمَّا جرت بِهِ عَادَة الْحُكَّام فِي تَغْلِيظ الْأَيْمَان وتوكيدها إِذَا حلفوا الرجل أَن يَقُولُوا: بِاللَّه الطَّالِب الْغَالِب الْمدْرك المهلك، فِي نظائرها، وَلَيْسَ يسْتَحق شَيْء من هَذِه أَن يُطلق فِي بَاب صِفَات اللَّه سُبْحَانَهُ وأسمائه. وَإِنَّمَا استحسنوا ذكرهَا فِي الْأَيْمَان ليَقَع الردع بهَا فَيكون أدنى أَن لَا يسْتَحل حق أَخِيه بِيَمِين كَاذِبَة، لِأَنَّهُ إِذَا توعد بالطالب وَالْغَالِب استشعر الْخَوْف وارتدع عَنِ الظُّلم إِذَا كَانَ يعلم أَن اللَّه سُبْحَانَهُ سيطالبه بِحَق أَخِيه، وَأَنه سيغلبه عَلَى انْتِزَاعه مِنْهُ وإِذَا قَالَ: الْمدْرك المهلك علم أَنه مدركه إِذَا طلبه، ويهلكه إِذَا عاقبه، وَإِنَّمَا أضيف هَذِه الْأَفْعَال إِلَيْهِ عَلَى معنى المجازاة مِنْهُ لهَذَا الظَّالِم عَلَى مَا يستبيحه من حق أَخِيه الْمُسلم فَلَو جَازَ أَن يعد ذَلِك فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاته لجَاز أَن يعد فِي أَسْمَائِهِ المخزي والمضل، لِأَنَّهُ قَالَ: {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافرين} . وَقَالَ: {كَذَلِك يضل الله من يَشَاء} فَإِذا لم يدْخل مثل هَذَا من صِفَاته لِأَنَّهُ كَلَام لم يرصد للمدح وَالثنَاء عَلَيْهِ، لم يدْخل مَا ذَكرْنَاهُ فِيهِ، قَالَ: وَمِمَّا جَاءَ فِي الحَدِيث مِمَّا لَا يُؤمن وُقُوع الْغَلَط فِيهِ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
53 - " فَإِن اللَّه هُوَ الدَّهْر " لَا يجوز أَن يتَوَهَّم متوهم أَن الدَّهْر من أَسمَاء اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا معنى هَذَا الْكَلَام: أَن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانَ من عَادَتهم إِذَا أصَاب الْوَاحِد(1/178)
مِنْهُم مَكْرُوه أَن يضيفه إِلَى الدَّهْر، فيسبون الدَّهْر عَلَى أَنه الْفَاعِل لذَلِك، وَلَا يرونه صادرا من فعل اللَّه وَكَائِنًا بِقَضَائِهِ، فأعلمهم أَن جَمِيع ذَلِك من فعل اللَّه تَعَالَى، وَأَن مصدرها من قبله، وأنكم مَتى سببتم فاعلها كَانَ مرجع السَّبَب إِلَى اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَأما مَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد: لَا تَقولُوا جَاءَ رَمَضَان، وَذهب رَمَضَان لِأَنَّهُ لَعَلَّه اسْم من أَسمَاء اللَّه تَعَالَى، فَهَذَا مِمَّا لَا وَجه لَهُ وَلَا يعرف فِي أَسمَاء اللَّه. هَذَا آخر مَا اتّفق من شرح الْأَسْمَاء التِّسْعَة وَالتسْعين، أسأَل اللَّه تَعَالَى أَن ينفع بِهِ (وَصلى اللَّه عَلَى مُحَمَّد وَآله) .(1/179)
فصل
ذكره بعض الْعلمَاء
قَالَ: رفع اللَّه أقدار الْمُؤمنِينَ، وَأَعْلَى مَرَاتِبهمْ، واختصهم لنَفسِهِ وجعلهم لَهُ وَبِه، وَسَمَّاهُمْ بأسمائه، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {السَّلَام الْمُؤمن} ، وَقَالَ: {إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات وَالْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} وَقَالَ: {إِنَّه هُوَ الْبر الرَّحِيم} وَسَمَّاهُمْ أبرارا فَقَالَ: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} وَتسَمى بالرحيم فَقَالَ: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رحِيما} وَسَمَّاهُمْ رحماء فَقَالَ: {رحماء بَينهم} ، وَتسَمى بالصادق فَقَالَ: {وَإِنَّا لصادقون} وَقَالَ: {والصادقين والصادقات} وَتسَمى بالشاكر فَقَالَ: {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} ، وَسَمَّاهُمْ شاكرين فَقَالَ: {وسنجزي الشَّاكِرِينَ} . وَتسَمى بأسماء كَثِيرَة سمى بهَا الْمُؤمنِينَ إِجلالا لَهُم وتعظيما لقدرهم ووصفهم بِكَثِير من صِفَاته من الْعلم والحلم وَالْكَرم والصدق(1/180)
والعزة فَقَالَ: {وَللَّه الْعِزَّة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ} ، وَجعل أَفعاله أفعالهم تَخْصِيصًا لَهُم فَقَالَ: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِن الله قَتلهمْ} . وَقَالَ لنَبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} . وَجعل مخادعة الْمُنَافِقين الْمُؤمنِينَ مخادعته فَقَالَ: {يُخَادِعُونَ الله وَالَّذين آمنُوا} وَجعل محاربتهم إِياهم محاربته فَقَالَ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُوله} وَتَوَلَّى الذب عَنْهُم حِين قَالُوا: {إِنَّمَا نَحْنُ مستهزئون} فَقَالَ: {الله يستهزئ بهم} وَقَالَ: {فيسخرون مِنْهُم سخر الله مِنْهُم} وَأجَاب عَنْهُم فَقَالَ: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} فأجل أقدارهم أَن يوصفوا بِصفة عيب وَتَوَلَّى المجازاة لَهُم فَقَالَ: {الله يستهزئ بهم} وَقَالَ: {سخر الله مِنْهُم} لِأَن هَاتين الصفتين إِذَا كَانَت من اللَّه لم تكن سفها لِأَن اللَّه حَكِيم والحكيم لَا يفعل السَّفه، بل مَا يكون مِنْهُ يكون صَوَابا وَحِكْمَة.(1/181)
صفحة فارغة(1/182)
بَاب
قَالَ عُلَمَاء السّلف: جَاءَت الْأَخْبَار عَنِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - متواترة فِي صِفَات اللَّه تَعَالَى مُوَافقَة لكتاب اللَّه تَعَالَى، نقلهَا السّلف عَلَى سَبِيل الإِثبات والمعرفة والإِيمان بِهِ وَالتَّسْلِيم، وَترك التَّمْثِيل والتكييف وَأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَزَلِيٌّ بِصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ الَّتِي وصف بهَا نَفسه، أَو وَصفه الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بهَا، فَمن جحد صفة من صِفَاته بعد الثُّبُوتِ كَانَ بِذَلِكَ جَاحِدًا، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا محدثة لم تكن ثُمَّ كَانَت دخل فِي حكم التشيبه فِي الصِّفَات الَّتِي هِيَ محدثة فِي الْمَخْلُوق، زَائِلَة بِفَنَائِهِ غَيْرَ بَاقِيَةٍ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى امتدح نَفسه بصفاته، ودعا عباده إِلَى(1/183)
مدحه بذلك وَصدق بِهِ الْمُصْطَفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَبَيَّنَ مُرَادَ اللَّهِ فِيمَا أَظْهَرَ لِعِبَادِهِ مِنْ ذكر نَفسه وأسمائه وَصِفَاته وَكَانَ ذَلِك مفهوما عِنْد الْعَرَب غير مُحْتَاج إِلَى تَأْوِيله، فَقَالَ تَعَالَى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} .
54 - وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفسِي ".(1/184)
55 - وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيَانًا لِقَوْلِهِ: " إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا عَلَى نَفسه فَهُوَ عِنْده، إِن رَحْمَتي تغلب غَضَبي " فَبَيَّنَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفسه تَعَالَى، وَبَين أَن نَفسه قديم غير فان بِفنَاء الْخلق وَأَن ذَاته لَا يُوصف إِلَّا بِمَا وصف تَعَالَى، وَوَصفه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَن المجاوز وصفهما يُوجب الْمُمَاثلَة والتمثيل والتشبيه لَا يَكُونُ إِلا بِالتَّحْقِيقِ، وَلا يَكُونُ بِاتِّفَاقِ الأَسْمَاءِ، وَإِنَّمَا وَافَقَ اسْمُ النَّفْسِ اسْمَ نَفْسِ الإِنْسَانِ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ نَفْسًا مَنْفُوسَةً، وَكَذَلِكَ سَائِرَ الأَسْمَاءِ الَّتِي سَمَّى بِهَا خَلْقَهُ إِنَّمَا هِيَ مستعارة لخلقه منحها عباده للمعرفة
فصل
فِي بَيَان ذكر الذَّات
قَالَ قوم من أهل الْعلم: ذَات اللَّه حَقِيقَته، وَقَالَ بَعضهم انْقَطع الْعلم دونهَا وَقيل: استغرقت الْعُقُول والأوهام فِي معرفَة ذَاته. وَقيل ذَات اللَّه مَوْصُوفَة بِالْعلمِ غير مدركة بالإِحاطة وَلَا مرئية بالأبصار فِي دَار الدُّنْيَا، وَهُوَ مَوْجُود بحقائق الإِيمان عَلَى الإِيقان بِلَا إِحاطة إِدراك، بل هُوَ أعلم بِذَاتِهِ، وَهُوَ مَوْصُوف غير مَجْهُول وموجود غير مدرك ومرئي غير محاط بِهِ لقُرْبه كَأَنَّك ترَاهُ، يسمع وَيرى، وَهُوَ الْعلي الْأَعْلَى، وعَلى الْعَرْش اسْتَوَى تبَارك تَعَالَى، ظَاهر فِي ملكه وَقدرته، قد حجب عَنِ الْخلق كنه ذَاته، ودلهم عَلَيْهِ بآياته،(1/185)
فالقلوب تعرفه والعقول لَا تكيفه، وَهُوَ بِكُل شَيْء مُحِيط، وعَلى كل شَيْء قدير.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ أَنا وَالِدِي أَبُو عبد الله أَنا أَحْمد بن سُلَيْمَان ابْن أَيُّوبَ، نَا أَبُو زُرْعَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو، نَا أَبُو الْيَمَانِ، نَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدِ بْنِ حَارِثَةَ الثَّقَفِيُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " بعث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَشْرَةً مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الأَنْصَارِيُّ عَيْنًا فَأَسَرُوهُمْ فَلَمَّا أَرَادُوا قَتْلَ خُبَيْبٍ " فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عِيَاضٍ أَنَّ بِنْتَ الْحَارِثِ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ حِينَ أَرَادَ الْمُشْرِكُونَ قَتْلَ خُبَيْبٍ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ:
(مَا أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ... عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي)
(وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ فِي أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ)
فَأَخْبَرَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ حِينَ أُصِيبُوا.
57 - وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا، قَالَ: " تَفَكَّرُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَفَكَّرُوا فِي ذَات اللَّه ".(1/186)
وَقَالَ حُذَيْفَة بْن الْيَمَان لعمر بْن الْخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِن جمعت فِي اللَّه وقسمته فِي ذَات اللَّه فَأَنت أَنْت وإِلا فَلَا.
وَمن صِفَات اللَّه تَعَالَى الَّتِي وصف بهَا نَفسه قَوْله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجهه} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام} وَكَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يستعيذ بِوَجْه اللَّه من النَّار والفتن كلهَا وَيسْأل بِهِ.
58 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو أَنا وَالِدِي أَنا خَيْثَمَةُ، نَا أَبُو قِلابَةَ الرَّقَاشِيُّ، نَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، نَا أَبُو عَوَانَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ سَأَلَكُمْ بِوَجْهِ اللَّهِ فَأَعْطُوهُ ".
59 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو أَنا وَالِدِي، أَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الصَّبَّاحِ، نَا أَبُو مَسْعُودٍ، أَنا أَبُو دَاوُدَ، نَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابت الْبنانِيّ عَن عبد الرَّحْمَن ابْن أَبِي لَيْلَى عَنْ صُهَيْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قَالَ: " النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ رَبِّهِمْ ".(1/187)
60 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو أَنا وَالِدِي، أَنا خَيْثَمَةُ بن سُلَيْمَان، نَا مُحَمَّد ابْن عَوْفٍ، نَا أَبُو الْمُغِيرَةِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ، نَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: " وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ ".
فصل
الْكَلَام فِي صِفَات اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مَا جَاءَ مِنْهَا فِي كتاب اللَّه، أَو رُوِيَ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَة عَن رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فمذهب السّلف رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ إِثباتها وإِجراؤها عَلَى ظَاهرهَا، وَنفي الْكَيْفِيَّة عَنْهَا، وَقد(1/188)
نفاها قوم فأبطلوا مَا أثْبته اللَّه، وَذهب قوم من المثبتين إِلَى الْبَحْث عَنِ التكييف.
والطريقة المحمودة هِيَ الطَّرِيقَة المتوسطة بَين الْأَمريْنِ، وَهَذَا لِأَن الْكَلَام فِي الصِّفَات فرع عَلَى الْكَلَام فِي الذَّات، وإِثبات الذَّات إِثبات وجود، لَا(1/189)
إِثبات كَيْفيَّة، فَكَذَلِك إِثبات الصِّفَات وَإِنَّمَا أثبتناها لِأَن التَّوْقِيف ورد بهَا وعَلى هَذَا مضى السّلف.
قَالَ مَكْحُول وَالزهْرِيّ: " أمروا هَذِه الْأَحَادِيث كَمَا جَاءَت " فَإِن قيل: كَيفَ يَصح الإِيمان بِمَا لَا نحيط علما بحقيقته؟ قيل: إِن إِيماننا صَحِيح بِحَق من كلفناه، وَعلمنَا مُحِيط بِالْأَمر الَّذِي ألزمناه، وَإِن لم نَعْرِف مَا تحتهَا حَقِيقَة كيفيته، وَقد أمرنَا بِأَن نؤمن بملائكة اللَّه وَكتبه وَرُسُله وباليوم الآخر وبالجنة وَنَعِيمهَا، وبالنار وعذابها، وَمَعْلُوم أَنا لَا نحيط علما بِكُل شَيْء مِنْهَا عَلَى التَّفْصِيل وَإِنَّمَا كلفناه الإِيمان بهَا جملَة.(1/190)
فصل
وَمن صِفَات اللَّه الَّتِي وصف بهَا نَفسه السّمع وَالْبَصَر، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ واصفا نَفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} وَقَالَ: {وَكَانَ الله سميعاً بَصيرًا} وَقَالَ: {وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} وَقَالَ: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِن الله فَقير وَنحن أَغْنِيَاء} وَقَالَ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تحاوركما} وَقَالَ لمُوسَى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وَأرى} . بَيَان ذَلِك من الْأَثر.
61 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو أَنا وَالِدِي، أَنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيل، وَأحمد ابْن مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الْبَصْرِيُّ قَالا: نَا سَعْدَانُ بْنُ نَصْرٍ الْمَخْزُومِيُّ، نَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ح قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَجَاءٍ الْهَرَوِيُّ بِمَكَّةَ نَا مُحَمَّد بن عَليّ ابْن زَيْدٍ الصَّايِغُ، نَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ تَمِيمِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتِ(1/191)
المجادلة إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تُكَلِّمُهُ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ مَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قَدْ سَمِعَ الله قَول الَّتِي تُجَادِلك فِي زَوجهَا} الآيَةَ.
62 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو أَنا وَالِدِي، أَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، نَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو بِشْرٍ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ النَّفِيسِيُّ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبِ بْنِ مُسْلِمٍ ح قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَأَخْبَرَنِي حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكِنَانِيُّ، نَا أَحْمد بن شُعَيْب، نَا أَحْمد ابْن عَمْرٍو أَبُو الطَّاهِرِ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ نَا مُوسَى بْنُ سَعِيدِ بن النُّعْمَان، نَا أَحْمد ابْن شَيْبَانَ بْنِ سَعِيدٍ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَت لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ عَلَيْكَ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكَ وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، أَنِّي عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا(1/192)
أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلٌ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَنَادَانِي: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَقَالَ ابْنُ يُوسُفَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا.
ذكر مَا يدل عَلَى الْفرق بَين سَماع الْخَالِق وَسمع الْمَخْلُوق الْمُحدث
63 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَيُّوبَ وَعلي ابْن مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ قَالا: نَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى الْبَغْدَادِيُّ ح قَالَ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَأَنا أَبُو الْحَسَنِ خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، نَا أَبُو يَحْيَى بْنُ أَبِي مَيْسَرَةَ، قَالا: نَا الْحُمَيْدِيُّ، نَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَعَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عبد الله ابْن سخيرة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ قُرَشِيَّانِ(1/193)
وَثَقَفِيٌّ أَوْ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟ فَقَالَ الآخَرُ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا، وَلا يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا، وَقَالَ الآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أبصاركم} ، الآيَةَ.
ذكر مَا امتدح اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهِ من الرُّؤْيَة وَالنَّظَر إِلَى خلقه
قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} وَقَالَ: {وَكَانَ الله سميعاً بَصيرًا} وَقَالَ فِي قصَّة إِبْرَاهِيم: {يأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} .
بَيَان ذَلِك من الْأَثر.
64 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبَانٍ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حَدَّثَنِي أَبِي نَا إِسْمَاعِيلُ بن عُلَيَّةَ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: " كَانَ جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ أَمِيرًا عَلَيْنَا فِي الْبَحْرِ سِتَّ سِنِينَ فَخَطَبَنَا ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: " دَخَلْنَا عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُلْنَا: حَدثنَا مَا سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: فَقَالَ: قَامَ فِينَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ:(1/194)
أُنْذِرُكُمُ الْمَسِيحَ أُنْذِرُكُمُ الْمَسِيحَ، وَهُوَ رَجُلٌ مَمْسُوحٌ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْوَرَ، لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْوَرَ.
أَخْبَرَنَا طَلْحَة بْن الْحُسَيْنِ الصَّالْحَانِيُّ، أَنا جَدِّي أَبُو ذَرٍّ الصَّالْحَانِيُّ، نَا أَبُو الشَّيْخ، نَا إِسْحَاق بْن أَبِي حسان الْأنمَاطِي، نَا أَحْمَد بْن أَبِي الْحوَاري، نَا الْوَلِيد بْن مُسلم عَنِ الْأَوْزَاعِيّ، قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيّ: " من اللَّه الْعلم وعَلى رَسُول اللَّه الْبَلَاغ، وعلينا التَّسْلِيم، أمروا أَحَادِيث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا جَاءَت ".
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخ حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَبِي حَاتِم قَالَ: سَمِعت أَحْمد ابْن سِنَان يَقُول: " المشبهة الَّذين غلوا فجاوزوا الحَدِيث فَأَما الَّذين قَالُوا بِالْحَدِيثِ، فَلم يزِيدُوا عَلَى مَا سمعُوا ".
فَهَؤُلَاءِ أهل السّنة والمتمسكون بِالصَّوَابِ وَالْحق وَلَيْسَ هم بالمشبهة من شبهوا هَؤُلَاءِ إِنما آمنُوا بِمَا جَاءَ بِهِ الحَدِيث، هَؤُلَاءِ مُؤمنُونَ مصدقون بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالْكتاب وَالسّنة.(1/195)
فصل
فِي إِثبات رُؤْيَة اللَّه لخلقه
قَالَ الله تَعَالَى: {واصنع الْفلك بأعيننا ووحينا} وَقَالَ: {تجْرِي بأعيننا} وَقَالَ: {ولتصنع على عَيْني} وَقَالَ: {واصبر لحكم رَبك فَإنَّك بأعيننا} فَوَاجِب عَلَى كل مُؤمن أَن يثبت من صِفَات اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مَا أثْبته اللَّه لنَفسِهِ، وَلَيْسَ بِمُؤْمِن من يَنْفِي عَنِ اللَّه مَا أثْبته اللَّه لنَفسِهِ فِي كِتَابه، فرؤية الْخَالِق لَا يكون كرؤية الْمَخْلُوق، وَسمع الْخَالِق لَا يكون كسمع الْمَخْلُوق، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُوله والمؤمنون} وَلَيْسَ رُؤْيَة اللَّه تَعَالَى بني آدم كرؤية رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالْمُؤمنِينَ وَإِن كَانَ اسْم الرُّؤْيَة يَقع عَلَى الْجَمِيع، وَقَالَ تَعَالَى: {يأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} جلّ وَتَعَالَى عَن أَن يشبه صفة شَيْء من خلقه صفته، أَو فعل أحد من خلقه فعله فَالله تَعَالَى يرى مَا تَحت الثرى وَمَا تَحت الأَرْض السَّابِعَة السُّفْلى وَمَا فِي السَّمَوَات العلى، لَا يغيب(1/196)
عَن بَصَره شَيْء من ذَلِك وَلَا يخفى: يرى مَا فِي جَوف الْبحار ولججها كَمَا يرى مَا فِي السَّمَوَات، وَبَنُو آدم يرَوْنَ مَا قرب من أَبْصَارهم وَلَا تدْرك أَبْصَارهم مَا يبعد مِنْهُم، وَلَا يدْرك بصر أحد من الْآدَمِيّين مَا يكون بَينه وَبَينه حجاب، وَقد تتفق الْأَسَامِي وتختلف الْمعَانِي.
65 - أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ أَنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عمر بن أَحْمد ابْن عُثْمَانَ، أَنا أَبِي نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، نَا جَدِّي، نَا مُحَمَّدُ بْنُ مُيَسَّرٍ أَبُو سَعْدٍ الصَّغَانِيُّ، نَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -: " أَن الْمُشْركين قَالُوا لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " انْسِبْ لَنَا رَبَّكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {قُلْ هُوَ الله أحد الله الصَّمد} قَالَ: الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ؛ لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُولَدُ إِلا سَيَمُوتُ وَلَيْسَ شَيْءٌ يَمُوتُ إِلا سَيُورَثُ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَمُوتُ، وَلا يُورَثُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، قَالَ: لَمْ يَكُنْ لَهُ شَبِيهٌ وَلا عِدْلٌ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ".
قَالَ عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ لَنَا ابْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَ بِهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ وَجَدِّي، وَقَالَ جَدِّي: سَمِعْنَاهُ مِنْهُ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَمِائَةٍ.(1/197)
فصل
66 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ أَنا وَالِدِي، أَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى، نَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، نَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نَا جَرِيرٌ عَنْ عَاصِمٍ ح قَالَ إِسْمَاعِيلُ، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: " كُنَّا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَفَرٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ وَيَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ، فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّكُم تدعون سميعاً قَرِيبا وَهُوَ مَعكُمْ ".
وَقَالَ عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الحَدِيث الَّذِي ذَكرْنَاهُ " سُبْحَانَ الَّذِي وسع سَمعه الْأَصْوَات " أخْبرت رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنه كَانَ يخفى عَلَيْهَا بعض كَلَام المجادلة مَعَ قربهَا مِنْهَا، وسَمعه الرب عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ فَوق سبع سموات وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نسْمع سرهم ونجواهم بلَى} وَقَالَ: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وَأرى} .
فصل
فِي ذكر بَيَان مَا يدل عَلَى النّظر من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَى عَبده
67 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّرِيِّ قَالا: نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الله الْعَبْسِي، نَا وَكِيع ابْن(1/198)
الْجَرَّاحِ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ، قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ثَلاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ رَجُلٌ عِنْدَهُ فَضْلُ مَاءٍ مَنَعَهُ مِنَ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ كَاذِبًا فَصَدَّقَهُ كَاذِبًا وَاشْتَرَاهَا وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامَا لَا يُبَايِعُهُ إِلا لِلدُّنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ وَفَّى، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ لَمْ يَفِ لَهُ ".
68 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ، نَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ الَّذِي يَجُرُّ ثَوْبَهُ مِنَ الْخُيَلاءِ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "
فصل
قَالَ اللَّه تَعَالَى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، وتقلبك فِي الساجدين} {يَعْنِي تقلبه فِي أصلاب الْأَنْبِيَاء من آبَائِك الساجدين مثل إِبْرَاهِيم ونوح عَلَيْهِم السَّلَام} . قَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " من نَبِي إِلَى نَبِي حَتَّى ابتعثه اللَّه عز(1/199)
وَجل نَبيا. وَقَالَ تَعَالَى {الر} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْلُه {الر} قَالَ: أَنا اللَّه أرى.
69 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ، نَا أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ يَحْيَى، نَا عَبْدُ الْوَهَّابِ ح قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَعْقُوبَ الْبَغْدَادِيُّ بِمِصْرَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ حَمَّادٍ، نَا يزِيد ابْن هَارُونَ، قَالا: نَا كَهْمَسُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ عبد الله بن بُرَيْدَة عَن يحيى ابْن يَعْمُرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - سَأَلَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الإِحْسَانِ فَقَالَ: " أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ".(1/200)
فصل
فِي إِثبات الْيَد لله تَعَالَى صفة لَهُ
قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لإِبليس: {مَا مَنعك أَن تسْجد لما خلقت بيَدي} . وَقَالَ تَكْذِيبًا للْيَهُود حِين قَالُوا يَد اللَّه مغلولة: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} .
ذكر الْبَيَان من سنة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى إِثبات الْيَد مُوَافقا للتنزيل
70 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو (عَبْدُ الْوَهَّابِ) أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو أَبُو الطَّاهِرِ، نَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، نَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: يَا رَبِّ، (أَيْنَ) أَبُونَا الَّذِي أَخْرَجَنَا وَنَفْسَهُ مِنَ(1/201)
الْجَنَّةِ؟ فَأَرَاهُ اللَّهُ آدَمَ فَقَالَ لَهُ مُوسَى: " أَنْتَ آدَمُ؟ قَالَ: نَعَمْ: قَالَ: أَنْتَ الَّذِي نَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَخَلَقَكَ بِيَدِهِ وَعَلَّمَكَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا، وَأَمَرَ الْمَلائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِنَ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى، قَالَ: أَنْتَ كَلَّمَكَ اللَّهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ رَسُولا مِنْ خَلْقِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ: قَالَ: فَمَا وَجَدْتَ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فِيمَ تَلُومُنِي فِي شَيْءٍ قَدْ سَبَقَ مِنَ اللَّهِ فِيهِ الْقَضَاء قبلي؟ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلامُ ".
قَالَ أَبُو الشَّيْخ: حكى إِسماعيل بْن زُرَارَة قَالَ: سَمِعت أَبَا زرْعَة الرَّازِيّ يَقُول: " المعطلة النافية الَّذين يُنكرُونَ صِفَات اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الَّتِي وصف(1/202)
بهَا نَفسه فِي كِتَابه وعَلى لِسَان نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ويكذبون بالأخبار الصِّحَاح الَّتِي جَاءَت عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الصِّفَات ويتأولونها بآرائهم المنكوسة عَلَى مُوَافقَة مَا اعتقدوا من الضَّلَالَة وينسبون رواتها إِلَى التَّشْبِيه، فَمن نسب الواصفين رَبهم تبَارك وَتَعَالَى بِمَا وصف بِهِ نَفسه فِي كِتَابه وعَلى لِسَان نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من غير تَمْثِيل وَلَا تَشْبِيه إِلَى التَّشْبِيه فَهُوَ معطل ناف ويستدل عَلَيْهِم بنسبتهم إِياهم إِلَى التَّشْبِيه أَنهم معطلة نَافِيَة، كَذَلِك كَانَ أهل الْعلم يَقُولُونَ مِنْهُم: عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارك ووكيع بْن الْجراح.
71 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ أَنا وَالِدِي، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، أَنا أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن زِيَادٍ، نَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، نَا روح بن عبَادَة، نَا هِشَام ابْن أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّسْتُوَائِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيُّ الْحَافِظُ أَنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ نَصْرٍ الْعَاصِمِيُّ، نَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْبَحِيرِيُّ، نَا أَبُو حَفْصٍ الْبَحِيرِيُّ حَدَّثَنِي أَبِي نَا مُسلم ابْن إِبْرَاهِيمَ، نَا هِشَامٌ، نَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَهْتَمُّونَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا فَيَأْتُونَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَيَقُولُونَ يَا آدَمُ: أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ،(1/203)
وَأَسْجَدَ لَكَ مَلائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَقُولُ لَهُمْ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، وَلَكِنْ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَن، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيم فَيَقُول: لسن هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطَايَا أَصَابَهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا قَالَ: فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، لَكِنِ ائْتُوا عِيسَى رَسُولَ اللَّهِ وَرُوحَهُ وَكَلِمَتَهُ، فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ لَهُمْ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا(1/204)
رَسُولا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنبه وَمَا تَأَخّر، قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فَيَأْتُونِي فَأَنْطَلِقُ مَعَهُمْ، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ لَهُ سَاجِدًا فَيَدَعَنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَسَلْ تُعْطَهُ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا ثُمَّ أَحُدُّ لَهُمْ حَدًّا ثَانِيًا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ الثَّالِثَةَ فَأَسْتَأَذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤذن لي، فَإِذا رَأَيْت رَبِّي عَلَيْهِ الْخُلُودُ أَوْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ.
72 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِبَغْدَادَ، أَنا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، نَا الْحُسَيْنُ، أَنا ابْنُ الْمُبَارَكِ أَنا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ الْمُحَارِبِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: " مَا تَصَدَّقَ رَجُلٌ بِصَدَقَةٍ إِلا وَقَعَتْ فِي يَدِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ السَّائِلِ وَهُوَ يَضَعُهَا فِي يَدِ السَّائِلِ ثُمَّ قَرَأَ {أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} .
73 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّد بن عبيد الله ابْن أَبِي رَجَاءٍ، نَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، نَا حَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، نَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى(1/205)
الأَشْيَبُ، نَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلا الطَّيِّبُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، رَوَاهُ أَبُو النَّضْرِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ: تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ عَنْ عبد الله، وَاسْتشْهدَ بِحَدِيث مُسلم ابْن أَبِي مَرْيَمَ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَسُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ.
74 - أَخْبَرَنَا شَيْخُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَعَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ عَبْدَوَيْهِ وَعَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ قَالا: نَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، نَا أُمَيَّةُ، نَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نَا روح ابْن الْقَاسِمِ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَصَدَّقُ بِالتَّمْرَةِ مِنَ الْكَسْبِ الطَّيِّبِ فَيَضَعُهَا فِي حَقِّهَا، فَيَقْبَلُهَا اللَّهُ بِيَمِينِهِ ثُمَّ لَا يَبْرَحُ يُرَبِّيهَا أَحْسَنَ مَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ أَوْ أَكْبَرَ " وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلا يُعْطِي إِلا اللَّهُ. وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ إِلا أَخَذَهَا الرَّبُّ(1/206)
بِيَمِينِهِ. وَفِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ.
فصل
أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن الْحُسَيْن الطريثيثي، أَنا هبة الله بن الْحسن، أَنا أَحْمد ابْن مُحَمَّد بْن أَحْمَد الْفَقِيه، أَنا عمر بْن أَحْمَد، نَا مُحَمَّد بْن هَارُون بْن حميد، نَا أَبُو همام، نَا بَقِيَّة قَالَ: (لي) الْأَوْزَاعِيّ: يَا أَبَا يحمد: مَا تَقول فِي قوم يبغضون حَدِيث " نَبِيّهم " - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ قَالَ: قلت: قوم سوء، قَالَ: لَيْسَ من صَاحب بِدعَة تحدثه عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِخِلَاف بدعته إِلا أبْغض الحَدِيث ".
قَالَ: وَأخْبرنَا عمر بْن أَحْمَد، نَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل، نَا الْفضل ابْن زِيَاد. قَالَ: سَمِعت أَبَا عَبْد اللَّهِ أَحْمَد بْن حَنْبَل رَحمَه اللَّه يَقُول: " من رد حَدِيث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهُوَ عَلَى شفا هلكة ".
أَخْبَرَنَا أَحْمَد أَنا هبة اللَّه أَنا عَليّ بْن عمر بْن إِبْرَاهِيم، نَا عُثْمَان ابْن أَحْمَد، نَا عبد الْكَرِيم بْن الْهَيْثَم، نَا سعيد بن الْمُغيرَة الصياد، نَا مخلد ابْن الْحُسَيْن قَالَ: قَالَ لي الْأَوْزَاعِيّ: " يَا أَبَا مُحَمَّد: إِذا بلغك عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَدِيث فَلَا تَظنن غَيره، فَإِن مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ مبلغا عَن ربه ".(1/207)
قَالَ: وَأخْبرنَا هبة اللَّه بْن الْحُسَيْن، أَنا أَحْمد بن عبيد، أَنا مُحَمَّد ابْن الْحُسَيْن، نَا أَحْمَد بْن زُهَيْر، نَا عَبْد الْوَهَّابِ بْن نجدة الحوطي، نَا بَقِيَّة، نَا الْأَوْزَاعِيّ قَالَ: " كَانَ الزُّهْرِيّ وَمَكْحُول يَقُولَانِ: أمروا الْأَحَادِيث كَمَا جَاءَت ".
أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن الْحُسَيْن، أَنا هبة اللَّه بْن الْحسن قَالَ: سَمِعت أَبَا مُحَمَّد الْحسن بْن عُثْمَان بْن جَابر يَقُول: سَمِعت أَبَا نصر أَحْمَد بْن يَعْقُوب ابْن زَاذَان قَالَ: " بَلغنِي أَن أَحْمَد بْن حَنْبَل رَحمَه اللَّه، قَرَأَ عَلَيْهِ رجل {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة وَالسَّمَاوَات مَطْوِيَّات بِيَمِينِهِ} قَالَ: ثُمَّ أَوْمَأ بِيَدِهِ فَقَالَ لَهُ أَحْمَد: قطعهَا اللَّه، قطعهَا اللَّه قطعهَا اللَّه، ثُمَّ حرد وَقَامَ ".
75 - أخبرنَا أَبُو بكر الصَّابُونِي، أَنا وَالِدِي إِسماعيل الصَّابُونِي، قَالَ: روى يزِيد بْن هَارُون فِي مَجْلِسه حَدِيث إِسماعيل بْن أَبِي خَالِد عَن قيس ابْن(1/208)
أَبِي حَازِم عَن جرير بْن عَبْد اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الرُّؤْيَة، وَقَول الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنكم تنْظرُون إِلَى ربكُم كَمَا تنْظرُون إِلَى الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر "، فَقَالَ رجل فِي مَجْلِسه: يَا أَبَا خَالِد مَا معنى هَذَا الحَدِيث؟ فَغَضب وحرد، وَقَالَ: مَا أشبهك بصبيغ وأحوجك إِلَى مثل مَا فعل بِهِ، وَيلك من يدْرِي كَيفَ هَذَا؟ وَمن يجوز لَهُ أَن يُجَاوز هَذَا القَوْل الَّذِي جَاءَ بِهِ الحَدِيث أَو يتَكَلَّم فِيهِ بِشَيْء من تِلْقَاء نَفسه إِلا من سفه نَفسه، واستخف بِدِينِهِ، إِذَا سَمِعْتُمْ الحَدِيث عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاتَّبعُوهُ، وَلَا تبتدعوا فِيهِ، فإِنكم إِن اتبعتموه وَلم تماروا فِيهِ سلمتم، وَإِن لم تَفعلُوا هلكتم.
وروى حَمَّاد بْن زيد عَن يزِيد بن أبي حَازِم عَن سُلَيْمَان ابْن يسَار أَن رجلا من بني تَمِيم يُقَال لَهُ: صبيغ قدم الْمَدِينَة، فَكَانَت عِنْده كتب، فَجعل يسْأَل عَن متشابه الْقُرْآن فَبلغ ذَلِك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَبعث إِلَيْهِ(1/209)
وَقد أعد لَهُ عراجين النّخل فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ جلس فَقَالَ: من أَنْت؟ قَالَ: أَنا عَبْد اللَّهِ صبيغ، قَالَ: وَأَنا عَبْد اللَّهِ عمر، ثُمَّ أَهْوى إِلَيْهِ فَجعل يضْربهُ بِتِلْكَ العراجين فَمَا زَالَ يضْربهُ حَتَّى شجه فَجعل الدَّم يسيل عَلَى وَجهه، فَقَالَ: حَسبك (يَا) أَمِير الْمُؤمنِينَ، فقد ذهب وَالله الَّذِي كنت أجد فِي رَأْسِي، وَفِي رِوَايَة يحيى ابْن سعيد أَمر بِهِ فَضرب مائَة سَوط ثُمَّ جعله فِي بَيت حَتَّى إِذَا برأَ دَعَا بِهِ، ثُمَّ ضربه مائَة سَوط أُخْرَى، ثُمَّ حمله عَلَى قتب وَكتب إِلَى أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَن حرم عَلَيْهِ مجالسة النَّاس فَلم يزل كَذَلِك حَتَّى أَتَى أَبُو مُوسَى فَحلف بالأيمان الْمُغَلَّظَة مَا يجد فِي نَفسه مِمَّا كَانَ يجده شَيْئا، فَكتب إِلَى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُخبرهُ، فَكتب إِلَيْهِ مَا أخاله إِلا قد صدق خل بَينه وَبَين مجالسة النَّاس، وَفِي رِوَايَة حَمَّاد بْن زيد عَن قطن بْن كَعْب قَالَ: سَمِعت رجلا من بني عجل يُقَال لَهُ: فلَان بْن زرْعَة يحدث عَن أَبِيه قَالَ: " لقد رَأَيْت صبيغ بْن عسل بِالْبَصْرَةِ كَأَنَّهُ بعير أجرب يَجِيء إِلَى الْحلق، فَكلما جلس إِلَى قوم لَا يعرفونه ناداهم أهل الْحلقَة الْأُخْرَى عَزمَة أَمِير الْمُؤمنِينَ.
فصل
قَالَ: بعض الْعلمَاء: لَا هدى إِلا فِي الْقُرْآن كَلَام رَبنَا عَزَّ وَجَلَّ ووحيه، وتنزيله الَّذِي هُوَ علمه، وَفِيمَا سنه لنا رَسُوله مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَا اجْمَعْ عَلَيْهِ الصَّحَابَة(1/210)
الهداة المهديون رضوَان اللَّه عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ، وَمَا مضى عَلَيْهِ بعدهمْ خِيَار التَّابِعين ثُمَّ أَئِمَّة الْمُحدثين وَسلف الْعلمَاء من الْفُقَهَاء المرضيين، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} وسنت لكم السّنَن فَعَلَيْكُم بالعتيق، وَلُزُوم وَاضح الطَّرِيق، وإِياكم ومحدثات الْأُمُور، فَكل محدثة بِدعَة، وكل بِدعَة ضَلَالَة، وكل ضَلَالَة فِي النَّار.
76 - وروى جَعْفَر بْن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقوم فِي خطبَته يحمد اللَّه ويثني عَلَيْهِ بِمَا هُوَ لَهُ أهل ثُمَّ يَقُول: " من يهده اللَّه فَلَا مضل لَهُ وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ، وَإِن أصدق الحَدِيث كتاب اللَّه، وَأحسن الْهدى هدى مُحَمَّد وَشر الْأُمُور محدثاتها وكل محدثة بِدعَة وكل بِدعَة ضَلَالَة وكل ضَلَالَة فِي النَّار ". وَمذهب أهل السّنة: إِثبات مَا أثبت اللَّه لنَفسِهِ من الْوَجْه وَالْيَد، وَسَائِر مَا أخبر اللَّه بِهِ عَن نَفسه، وَلَيْسَ قَوْلنَا: إِن لله وَجها ويدا مُوجبا تشبيهه بخلقه أصلا بل كل مَا أخبر بِهِ عَن نَفسه فَهُوَ حق، وَقَوله الْحق، نقُول مَا قَالَ، وَلَا نزيد شَيْئا وحسبنا اللَّه وَنعم الْوَكِيل.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، أَنا وَالِدِي أَبُو عَبْدِ الله، أَنا مُحَمَّد ابْن (سَعِيدِ) بْنِ إِسْحَاقَ، نَا عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْجَمَّالُ، نَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ ح(1/211)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى، نَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالا: نَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ".
78 - (و) أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا أَبُو عَمْرو أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن إِبْرَاهِيمَ، نَا أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الرَّازِيّ، نَا أَبُو الْيَمَان، نَا شُعَيْب ابْن أَبِي حَمْزَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فَإِنَّهُ لم ينْقض مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ ".
قَالَ أَبُو زرْعَة: المعطلة النافية الَّذين يُنكرُونَ صِفَات اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الَّتِي وصف بهَا نَفسه فِي كِتَابه، وعَلى لِسَان نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ويكذبون بالأخبار الصِّحَاح الَّتِي جَاءَت عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الصِّفَات ويتأولونها بآرائهم(1/212)
المنكوسة عَلَى مُوَافقَة مَا اعتقدوا من الضَّلَالَة وينسبون رواتها إِلَى التَّشْبِيه فَمن نسب الواصفين رَبهم تبَارك وَتَعَالَى بِمَا وصف بِهِ نَفسه فِي كِتَابه وعَلى لِسَان نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من غير تَمْثِيل وَلَا تَشْبِيه إِلَى التَّشْبِيه فَهُوَ معطل ناف، ويستدل عَلَيْهِم بنسبتهم إِياهم إِلَى التَّشْبِيه أَنهم معطلة نَافِيَة، كَذَلِك كَانَ أهل الْعلم يَقُولُونَ، مِنْهُم عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارك، ووكيع ابْن الْجراح.
79 - أَخْبَرَنَا طَلْحَةُ بْنُ الْحُسَيْنِ الصَّالْحَانِيُّ، أَنا جدي أَبُو ذَر الصالحاني نَا أَبُو الشَّيْخ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رَاشِدٍ، نَا أَبُو سعيد الْأَشَج، نَا عقبَة ابْن خَالِدٍ، نَا سَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ، ح وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ الرَّمْلِيُّ، نَا الْعَبَّاس بن الْفضل، نَا إِسْمَاعِيل ابْن أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلالٍ عَنْ سعد بن سعيد ح وَأخْبرنَا طَلْحَة ابْن الْحُسَيْنِ وَلَفْظُ الْحَدِيثِ لَهُ أَنا جَدِّي أَبُو ذَرٍّ، نَا أَبُو الشَّيْخِ، نَا أَبُو بَكْرٍ الْفِرْيَابِيُّ، نَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقَدَّمِيُّ، نَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، نَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ مَرْجَانَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا حَيْثُ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفُ اللَّيْلِ، فَيَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ، مَنْ يَدْعُونِي فَأُجِيبَ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، ثُمَّ يَبْسُطُ يَدَيْهِ فَيَقُولُ: مَنْ يُقْرِضُ الْغَنِيَّ غَيْرَ عَدُومٍ وَلَا ظلوم ".(1/213)
قَالَ: وَحدثنَا أَبُو الشَّيْخ، أَنا أَبُو بَكْرٍ الْفِرْيابِيُّ، نَا تَمِيمُ بْنُ الْمُنْتَصِرِ، نَا يَزِيدُ أَنا شَرِيكٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَبْسُطُ يَدَهُ فَيَقُولُ: مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ ".(1/214)
بَاب
ذكر إِثبات وَجه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي وَصفه بالجلال والإِكرام والبقاء فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَام} . وَقَالَ لنَبيه مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ والعشي يُرِيدُونَ وَجهه} وَقَالَ: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجه الله} وَقَالَ: {للَّذين يُرِيدُونَ وَجه الله} وَقَالَ: {إِنَّمَا نطعمكم لوجه الله} وَقَالَ: {إِلَّا ابْتِغَاء وَجه ربه الْأَعْلَى} .
وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق: " وَجَمِيع عُلَمَائِنَا من أهل الْحجاز، وتهامة، واليمن وَالْعراق، وَالشَّام، ومصر، يثبتون لله عَزَّ وَجَلَّ مَا أثْبته اللَّه لنَفسِهِ من غير تَشْبِيه وَجه الْخَالِق بِوَجْه أحد من المخلوقين عز رَبنَا وَجل عَن شبه المخلوقين، وَجل عَن مقَالَة المعطلين.(1/215)
بَيَان ذَلِك من قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
80 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا وَالِدِي، أَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى، نَا أَبُو مَسْعُودٍ، أَنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَمْرو بن دِينَار عَن جَابر ابْن عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُم عذَابا من فَوْقكُم} قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعوذ بِوَجْهِك {أَو من تَحت أَرْجُلكُم} قَالَ: أعوذ بِوَجْهِك {أَو يلْبِسكُمْ شيعًا} قَالَ: " هَذِهِ أَهْوَنُ ".
81 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عُتْبَةَ، نَا الْقَاسِمُ بْنُ اللَّيْثِ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي صَفْوَانَ، نَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، نَا أَبِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيه عَن عبد الله ابْن جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَعَا يَوْمَ خَرَجَ إِلَى الطَّائِفِ فَقَالَ فِيهِ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَضَاءَتْ لَهُ السَّمَوَات ".(1/216)
82 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُونُسَ قَالا: نَا أُسَيْدُ بْنُ عَاصِمٍ، نَا الْحُسَيْنُ بْنُ حَفْصٍ، نَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " قَامَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِينَا بِأَرْبَعٍ فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَرْفَعُ الْقِسْطَ وبخفضه يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ حِجَابُهُ النَّارُ أَوِ النُّورُ لَوْ كَشَفَهَا لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ ".
قَالَ مُجَاهِدٌ: " بَيْنَ الْمَلائِكَةِ وَبَيْنَ الْعَرْشِ سَبْعُونَ حِجَابًا، حِجَابٌ مِنْ نُورٍ وَحِجَابٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، وَحِجَابٌ مِنْ نُورٍ وَحِجَابٌ مِنْ ظُلْمَةٍ ".
قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق فِي قَوْله: {وَيبقى وَجه رَبك ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام} . دلَالَة عَلَى أَن وَجه اللَّه صفة من صِفَات اللَّه صفة الذَّات، لَا أَن وَجه اللَّه هُوَ اللَّه، وَلَا أَن وَجهه غَيره؛ لأَنَّ وَجهه لَو كَانَ اللَّه لقرئ وَيبقى وَجه رَبك ذِي الْجلَال والإِكرام.
قَالَ: " وَزَعَمت الْجَهْمِية أَن أهل السّنة ومتبعي الْآثَار الْقَائِلين بِكِتَاب(1/217)
رَبهم وَسنة نَبِيّهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - المثبتين لله عَزَّ وَجَلَّ من صِفَاته مَا وصف اللَّه بِهِ نَفسه فِي مُحكم تَنْزِيله، الْمُثبت بَين الدفتين، وعَلى لِسَانه نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِنَقْل الْعدْل عَنِ الْعدْل مَوْصُولا إِلَيْهِ مشبهة، جهلا مِنْهُم بِكِتَاب رَبنَا وَسنة نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَنحن نقُول وعلماؤنا جَمِيعًا إِن لمعبودنا عَزَّ وَجَلَّ وَجها كَمَا أعلمنَا اللَّه فِي مُحكم تَنْزِيله، وَوَصفه بالجلال والإِكرام، وَحكم لَهُ بِالْبَقَاءِ، وَهُوَ مَحْجُوب عَن أبصار أهل الدُّنْيَا لَا يرَاهُ بشر مَا دَامَ فِي الدُّنْيَا، وَوجه رَبنَا قديم لم يزل بَاقٍ لَا يزَال، فنفي عَنهُ الفناء، ووجوه بني آدم محدثة مخلوقة لم تكن فكونها اللَّه فانية غير بَاقِيَة فَهَل فِي هَذَا تَشْبِيه وَجه رَبنَا عَزَّ وَجَلَّ بِوُجُوه بني آدم غير اتِّفَاق اسْم الْوَجْه وإِيقاع اسْم الْوَجْه عَلَى وَجه بني آدم كَمَا سمى اللَّه تَعَالَى وَجهه وَجها، وَزَعَمت الْجَهْمِية أَن معنى الْوَجْه فِي الْكتاب وَالْخَبَر كَمَا تَقول الْعَرَب وَجه الْكَلَام وَوجه الثَّوْب، وَوجه الدَّار، فَمن زعم ذَلِك فقد شبه وَجه اللَّه بِوَجْه الْخلق حاشى لله أَن يكون أحد من أهل الْأَثر وَالسّنة يشبه خالقه بِأحد من المخلوقين، فقد قُلْنَا إِن إِيقاع اسْم الْوَجْه للخالق لَيْسَ بِمُوجب تَشْبِيه وَجه الْخَالِق بِوُجُوه بني آدم.(1/218)
وَقد أَخْبَرَنَا اللَّه فِي كِتَابه أَنه يسمع وَيرى فَقَالَ: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وَأرى} وَقَالَ فِي قصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام: {يأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلَا يُغني عَنْك شَيْئا} علم أَن خَلِيل اللَّه صلوَات اللَّه عَلَيْهِ لَا يوبخ أَبَاهُ على عباده مَالا يسمع وَلَا يبصر، ثُمَّ يَدعُوهُ إِلَى عبَادَة من لَا يسمع وَلَا يبصر، فَيَقُول لَهُ: فَمَا الْفرق بَين معبودك ومعبودي؟ فَتوهم الْجَهْمِية لجهلهم بِالْعلمِ أَن من وصف اللَّه بِالصّفةِ الَّتِي وصف بهَا نَفسه، وَقد أوقع اسْم تِلْكَ الصّفة عَلَى بعض خلقه فقد شبهه بخلقه، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أخبر أَنه سميع بَصِير، وَذكر أَنه جعل الإِنسان بَصيرًا، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصيرًا} وسمى نَفسه حَلِيمًا وسمى خَلِيله حَلِيمًا فَقَالَ: {إِن إِبْرَاهِيم لأواه حَلِيم} وسمى نَفسه رؤوفاً رحِيما وَقَالَ فِي صفة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {بِالْمُؤْمِنِينَ رءوف رَحِيم} .
فَإِن كَانَ عُلَمَاء الْآثَار الَّذين يصفونَ اللَّه بِمَا وصف بِهِ نَفسه فِي كِتَابه وعَلى لِسَان نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى زعم الْجَهْمِية، فَكل أهل الْقبْلَة إِذَا قرأوا كتاب اللَّه فآمنوا بِهِ بإِقرار اللِّسَان وتصديق الْقلب، وَسموا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهَذِهِ الْأَسَامِي، وَسموا المخلوقين بهَا، فَجَمِيع أهل التَّوْحِيد مشبهة.(1/219)
أخبرنَا أَبُو بكر الصَّابُونِي، أَنا وَالِدِي إِسماعيل الصَّابُونِي قَالَ: " وعلامات أهل الْبدع شدَّة معاداتهم لحملة أَخْبَار النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - واحتقارهم لَهُم وتسميتهم إِياهم حشوية وجهلة وظاهرة ومشبهة اعتقادا مِنْهُم فِي أَخْبَار رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهَا بمعزل من الْعلم، وَأَن الْعلم مَا يلقيه الشَّيْطَان إِليهم من نتائج عُقُولهمْ الْفَاسِدَة، ووساوس صُدُورهمْ الْمظْلمَة، وهواجس قُلُوبهم الخالية عَنِ الْخَيْر العاطلة، وحججهم بل شبههم الداحضة الْبَاطِلَة، {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} . {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِن الله يفعل مَا يَشَاء} .
سَمِعت أَبَا بكر قَالَ: سَمِعت وَالِدِي قَالَ: سَمِعت الْحَاكِم أَبَا عبد الله الْحَافِظ يَقُول: سَمِعت أَبَا عَليّ الْحُسَيْن بْن عَليّ الْحَافِظ يَقُول: سَمِعت جَعْفَر ابْن أَحْمَد بْن سِنَان الوَاسِطِيّ يَقُول: سَمِعت أَحْمَد بْن سِنَان الْقطَّان يَقُول: " لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مُبْتَدع إِلا وَهُوَ يبغض أهل الحَدِيث، فَإِذَا ابتدع الرجل نزعت حلاوة الحَدِيث من قلبه ".(1/220)
فصل
فِي التَّغْلِيظ فِي مُعَارضَة الحَدِيث بِالرَّأْيِ والمعقول
أَخْبَرَنَا الإِمَامُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأنْصَارِيّ فِي كِتَابه، أَنا الْحُسَيْن ابْن مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَسَّانِيُّ، أَنا الْحُسَيْنُ بْنُ إِدْرِيسَ، أَنا خَالِد ابْن الْهَيَّاجِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدٍ يَرُدُّهُ عَلَى ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " إِنَّ أَصْحَاب الرَّأْي أَعدَاء السّنة أعيتهم الْأَحَادِيث أَن يحفظوها وتلفتت مِنْهُمْ فَلَمْ يَعُوهَا وَاسْتَحْيَوْا حِينَ سُئِلُوا أَنْ يَقُولُوا لَا عِلْمَ لَنَا فَعَارَضُوا السُّنَنَ بِرَأْيِهِمْ إِيَّاكَ وَإِيَّاهُمْ.
قَالَ: وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، نَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحِسِّيِّ، نَا أَبِي، نَا عِيسَى ابْن مُوسَى عَنْ غَالِبٍ يَعْنِي ابْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: " قَامَ عُمَرُ ابْن الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي النَّاسِ فَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ: أَلا إِنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ أَعْدَاءَ السّنة أَعْيَتْهُمُ الأَحَادِيثَ أَنْ يَحْفَظُوهَا، وَتَفَلَّتَتْ مِنْهُمْ أَنْ يَعُوهَا وَاسْتَحْيَوْا إِذْ سَأَلَهَمُ النَّاسُ أَنْ يَقُولُوا: لَا نَدْرِي، فَعَانَدُوا السُّنَنَ بِرَأْيِهِمْ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا كَثِيرًا، وَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ مَا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَلا رَفَعَ الْوَحْيَ عَنْهُمْ حَتَّى أَغْنَاهُمْ عَنِ الرَّأْيِ، وَلَوْ كَانَ الدِّينُ يُؤْخَذُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَحَقَّ بِالْمَسْحِ مِنْ ظَهْرِهِ، فَإِيَّاكَ وَإِيَّاهُمْ ثُمَّ إِيَّاكَ وَإِيَّاهُمْ.
قَالَ: وَأَخْبرنِي يَحْيَى بْن عمار، أَنا أَبُو عصمَة الْمُنَادِي، نَا إِسْمَاعِيل ابْن مُحَمَّد بْن الْوَلِيد، نَا حَرْب بْن إِسماعيل، نَا أَبُو بكر، نَا عبد الْغفار بْن الْوَلِيد عَن(1/221)
أَبِي جَعْفَر الرَّازِيّ عَنِ الْعَلَاء بْن الْمسيب عَن أَبِيه قَالَ: " أَنا نتبع وَلَا نبتدع، ونقتدي وَلَا نبتدي، وَلنْ نضل مَا تمسكنا بالآثار ".
فصل
رُوِيَ عَنِ ابْن عون عَنِ ابْن سِيرِين قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: مَا دَامَ عَلَى الْأَثر فَهُوَ عَلَى الطَّرِيق، وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: " إِنما الدّين الْآثَار ". وَقَالَ بنْدَار: " ذكر الآراء عِنْد عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مهْدي بِالْبَصْرَةِ فَأَنْشَأَ يَقُول:
(دين النَّبِيّ مُحَمَّد آثَار ... نعم المطية للفتى الْأَخْبَار)
(لَا تخدعن عَنِ الحَدِيث وَأَهله ... فَالرَّأْي ليل والْحَدِيث نَهَار)
(فلربما غلط الْفَتى سبل الْهدى ... وَالشَّمْس بازغة لَهَا أنوار)(1/222)
وَقَالَ يَحْيَى بْن الْفضل البُخَارِيّ:: رَأَيْت فِيمَا يرى النَّائِم كَأَنِّي فِي قريتي ببخارى جَالس على طَرِيق الْمَدِينَة وَرَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخرج من الْمَدِينَة رَاجِلا ومُحَمَّد بْن إِسماعيل هُوَ البُخَارِيّ عَلَى أَثَره ينظر كلما رفع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدَمَيْهِ يضع قدمه فِي ذَلِك الْمَكَان.
فصل
83 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا وَالِدِي، أَنا خَيْثَمَةُ، نَا أَبُو قِلابَةَ نَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، نَا أَبُو عَوَانَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ سَأَلَكُمْ بِوَجْهِ اللَّهِ فَأَعْطُوهُ ".
أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بن عبد السَّلَام، نَا خير ابْن موفق، نَا أَحْمَد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ الْقرشِي قَالَ: " جَاءَ يُوسُف بْن عمر إِلَى عمي عَبْد اللَّهِ بْن وهب فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا مُحَمَّد أَخْبرنِي عَنِ الْجنَّة الَّتِي خلق فِيهَا آدم وَأخرج مِنْهَا أَهِي الْجنَّة الَّتِي يعود إِليها آدم ويدخلها الْمُؤْمِنُونَ، وَهِي الْجنَّة الَّتِي فِيهَا الْعَرْش؟ فَقَالَ لَهُ: أَي شَيْء هَذَا الْكَلَام؟ ! من تجَالس؟ فَقَالَ مَا أجالس إِلا أَصْحَابنَا، وَلَكِن تَذَاكَرُوا شَيْئا أردْت أَن أَسأَلك عَنهُ، فَقَالَ عمي: نعم؟ هِيَ الْجنَّة الَّتِي خلقهَا اللَّه وَكَانَ فِيهَا آدم وإِليها يعود، وَهِي الْجنَّة الَّتِي(1/223)
يدخلهَا الْمُؤْمِنُونَ وَهِي الْجنَّة الَّتِي فِيهَا الْعَرْش، إِنما أنفقنا الْأَمْوَال وضربنا إِلَى الْعلمَاء لهَذَا وأشباهه، إِن مَالك بْن أَنَس قَالَ لي: يَا عَبْد اللَّهِ لَا تحملن النَّاس عَلَى ظهرك، وَمَا كنت لاعبا بِهِ من شَيْء فَلَا تلعبن بِدينِك.
فصل
آخر فِي ذمّ الْأَئِمَّة لعلم الْكَلَام
أَخْبَرَنَا طَلْحَة بْن الْحُسَيْن الصالحاني، أَنا جدي أَبُو ذَر الصالحاني، نَا أَبُو الشَّيْخ، نَا أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي حَاتِم، نَا يُونُس بْن عبد الْأَعْلَى قَالَ: سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول: " لِأَن يبتلى الْمَرْء بِكُل مَا نهى اللَّه عَنهُ مَا عدا الشّرك بِاللَّه خير لَهُ من النّظر فِي الْكَلَام فإِني قد اطَّلَعت من أهل الْكَلَام عَلَى أَشْيَاء مَا ظننته قطّ ".
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخ، نَا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن دَاوُد عَن حَرْمَلَة عَنِ الشَّافِعِي قَالَ: " فر من الْكَلَام كَمَا تَفِر من الْأسد ". وَقَالَ: " الْعلم بالْكلَام جهل بِهِ وَقَالَ: " مَا ارتدى أحد بالْكلَام فأفلح ".
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخ، نَا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَبِي حَاتِم قَالَ: قَالَ أَحْمَد ابْن حَنْبَل فِيمَا كتب إِلَى المتَوَكل " لست بِصَاحِب كَلَام، وَلَا أرى الْكَلَام فِي شَيْء(1/224)
من هَذَا إِلا مَا كَانَ فِي كتاب الله أَو حَدِيث عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو عَن أَصْحَابه أَو عَنِ التَّابِعين فَأَما غير ذَلِك فَالْكَلَام فِيهِ غير مَحْمُود ".
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخ قَالَ: حكى أَبُو زرْعَة قَالَ: " كَانَ الشَّافِعِي يكره الْكَلَام كُله، وَلم يضع كتاب الْكَلَام " وَقَالَ: " آخر صَاحب الْكَلَام إِلَى الزندقة ".
قَالَ أَبُو الشَّيْخ: وَحكى الْمُزنِيّ عَنِ الشَّافِعِي قَالَ: " عَلَيْك بالفقه وإِياك وَالْكَلَام، فَلِأَن يُقَال لَك أَخْطَأت خير من أَن يُقَال لَك كفرت ".
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخ قَالَ: قَالَ زَكَرِيَّا السَّاجِي: حَدثنِي مُحَمَّد ابْن إِسماعيل قَالَ: سَمِعت أَبَا ثَوْر وحسنا يَقُولَانِ: سمعنَا الشَّافِعِي رَحمَه اللَّه يَقُول: " حكمي فِي أَصْحَاب الْكَلَام أَن يضْربُوا بِالْجَرِيدِ، ويحملوا عَلَى الإِبل، وَيُطَاف بهم فِي العشائر والقبائل، وينادى عَلَيْهِم: هَذَا جَزَاء من ترك الْكتاب وَالسّنة وَأخذ فِي الْكَلَام.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخ قَالَ: وَحكى أَبُو بكر بْن أَبِي دَاوُد قَالَ: سَمِعت أَحْمَد بْن سِنَان الوَاسِطِيّ يَقُول: كَانَ الْوَلِيد الْكَرَابِيسِي خَالِي، وَكَانَ من أعلم النَّاس بالْكلَام، وَيُقَال إِن حُسَيْنًا الْكَرَابِيسِي تعلم مِنْهُ، فَلَمَّا حَضرته(1/225)
الْوَفَاة، قَالَ لَهُ بنوه: أوصنا، قَالَ: أوصيكم بِوَاحِدَة إِن لزمتموها كُنْتُم بِخَير هَل تعلمُونَ أحدا أعلم بالْكلَام مني؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَعَلَيْكُم بِمَا عَلَيْهِ أَصْحَاب الحَدِيث، فإِني رَأَيْت الْحق يَدُور مَعَهم، لست أعنيكم أَصْحَاب القلانس، وَلَكِن هَؤُلَاءِ الممزقين، ألم تروا إِلَى الْوَاحِد مِنْهُم يَجِيء إِلَى الرجل الْجَلِيل فيبدعه، ويمزق فِي وَجهه.(1/226)
بَاب
الدَّلِيل من الْكتاب والأثر عَلَى أَن اللَّه تَعَالَى لم يزل متكلما آمرا ناهيا بِمَا شَاءَ لمن شَاءَ من خلقه مَوْصُوفا بذلك(1/227)
قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} فَبَان بقوله أَن أمره غير خلقه، وبأمره خلق ويخلق، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {أَمْرًا مِنْ عندنَا} .(1/228)
بَيَان ذَلِك من الْأَثر وَالْفرق بَين القَوْل وَالْعلم والإِرادة وَالْفِعْل:
84 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا وَالِدِي، أَنا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ ابْن هَارُونَ التِّنِّيسِيُّ، نَا أَبُو أُمَيَّةَ ح قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ ابْن أَيُّوبَ وَعَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَعْقُوبَ قَالا: نَا أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ، نَا أَبُو مُسْهِرٍ عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ مُسْهِرٍ، نَا سَعِيدُ بْنُ عبد الْعَزِيز عَن ربيعَة ابْن يَزِيدَ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ: " يَا عِبَادِي: إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ مُحَرَّمًا فِيمَا بَيْنَكُمْ فَلا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي: إِنَّكُمُ الذِّينَ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَلا أُبَالِي فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي: كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي: كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ وَحَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ لَمْ يَزِدْ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أفجر قلب رجل مِنْكُم لم ينْقض ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي: لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمُ اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مَا سَأَلَ لم ينْقض ذَلِك من ملكي شَيْئا إِلَّا كَمَا ينْقض الْبَحْرُ أَنْ يُغْمَسَ فِيهِ الْمِخْيَطُ غَمْسَةً وَاحِدَةً، يَا عِبَادِي: إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أَحْفَظُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ ". قَالَ: وَكَانَ أَبُو إِدْرِيسَ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَثَى عَلَى رُكْبَتَيْهِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ غَنْمٍ عَن أبي ذَر عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَحْوَهُ، وَزَادَ فِيهِ: " إِنِّي جَوَّادٌ مَاجِدٌ عَطَائِي كَلامٌ وَعَذَابِي كَلامٌ، وَإِذَا أَرَدْتُ أَمْرًا فَإِنَّمَا أَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ".(1/229)
فصل
ذكره مُحَمَّد بْن إِسْحَاق بْن خُزَيْمَة رَحمَه اللَّه قَالَ: قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ من كلم الله} فأجمل ذكر من كَلمه، فَلم يذكرهُ باسم، وَبَين فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تكليماً} فَبين لِعِبَادِهِ الْمُؤمنِينَ مَا كَانَ أجمله فِي قَوْله: {مِنْهُم من كلم الله} فَسمى فِي هَذِه الْآيَة كليمه، وَأعلم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي آيَة أُخْرَى أَنه اصْطفى مُوسَى برسالته وبكلامه فَقَالَ تَعَالَى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصطفيتك على النَّاس برسالاتي وبكلامي} وَقَالَ فِي سُورَة طه: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طوى} إِلَى آخر الْقِصَّة، وَقَالَ فِي سُورَة النَّمْل: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّار} إِلَى قَوْله: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيز الْحَكِيم} وَقَالَ فِي سُورَة الْقَصَص: (فَلَمَّا(1/230)
{أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنا الله رب الْعَالمين} إِلَى آخر الْقِصَّة، فَبين اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي الْآي الثَّلَاث بعض مَا كلم بِهِ مُوسَى مِمَّا لَا يجوز أَن يكون من أَلْفَاظ ملك مقرب، وَلَا ملك غير مقرب غير جَائِز أَن يُخَاطب ملك مقرب مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَيَقُول: {إِنِّي أَنا الله} أَو يَقُول: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} وَقَالَ عز وَجل: {وتمت كلمة رَبك الْحسنى} أعلم عَزَّ وَجَلَّ أَن لَهُ كلمة يتَكَلَّم بهَا.
85 - وَمِمَّا ورد فِي الْأَثر بِنَقْل الْعدْل عَن الْعدْل مَوْصُولا إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِذَا تكلم بِالْوَحْي سَمعه أهل السَّمَوَات.
86 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ ابْن يُوسُفَ، نَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، نَا ابْنُ وَهْبٍ ح.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو نَا يُونُسُ ابْن عَبْدِ الأَعْلَى، نَا ابْنُ وَهْبٍ، نَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: حَدَّثَنِي رِجَالٌ من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الأَنْصَارِ أَنَّهُمْ بَيْنَا هُمْ جُلُوسٌ لَيْلَةً مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذْ رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَاذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا رُمِيَ بِمِثْلِ هَذَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، كُنَّا نقُول: ولد(1/231)
اللَّيْلَةَ عَظِيمٌ أَوْ مَاتَ عَظِيمٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فَإِنَّهَا لَا تُرْمَى لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنْ رَبُّنَا إِذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيُخْبِرُونَهُمْ، فَيُسَبِّحُ أَهْلُ السَّمَوَاتِ حَتَّى يَبْلُغَ الْخَبَرُ أَهْلَ هَذِهِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَخْطَفُ الْجِنُّ السَّمْعَ فيذهبون بِهِ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ، فَمَا جاؤا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقٌّ وَلَكِنَّهُمْ يَقْرِفُونَ فِيهِ وَيَزِيدُونَ " قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {حَتَّى إِذا فزع عَن قُلُوبهم} .
87 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصَّابُونِيُّ فِي كِتَابِهِ أَنا وَالِدِي إِسْمَاعِيلُ الصَّابُونِيُّ، أَنا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة، نَا يَعْقُوب ابْن إِبْرَاهِيمَ الدُّورِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: إِنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " يَا نَبِيَّ اللَّهِ ائْذَنْ لِي أَنْ آتِيَ أَرْضًا أَعْبُدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا لَا أَخَافُ أَحَدًا، قَالَ: فَأَذِنَ لَهُ فَأَتَى أَرْضَ الْحَبَشَةِ قَالَ: فَحَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْ قَالَ: قَالَ عَمْرو ابْن الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا رَأَيْتُ جَعْفَرًا وَأَصْحَابَهُ آمِنِينَ بِأَرْضِ النَّجَاشِيِّ حَسَدْتُهُ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّجَاشِيَّ فَقُلْتُ: إِنَّ بِأَرْضِكَ رَجُلا ابْنُ عَمِّهِ بأرضنا يزْعم أَنه لَيْسَ النَّاس إِلَهٌ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَإِنَّكَ وَاللَّهِ(1/232)
لَئِنْ لَمْ تَقْتُلْهُ وَأَصْحَابَهُ لَا أَقْطَعُ إِلَيْكَ هَذِهِ النُّطْفَةَ أَبَدًا أَنَا وَلا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِي، قَالَ: اذْهَبْ إِلَيْهِ فَادْعُهُ، قَالَ: قُلْتُ: إِنَّهُ لَا يَجِيءُ مَعِي فَأَرْسِلْ مَعِي، قَالَ: فَأَرْسَلَ مَعِي رَسُولا، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ بَيْنَ ظَهْرَيْ أَصْحَابِهِ يُحَدِّثُهُمْ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ: أَجِبْ، قَالَ: فَجِئْنَا إِلَى الْبَاب، فناديت إئذن لعَمْرو ابْن الْعَاصِ فَرَفَعَ صَوْتَهُ يَعْنِي جَعْفَرًا فَقَالَ: ائْذَنْ لِحِزْبِ اللَّهِ قَالَ: فَسَمِعَ صَوْتَهُ، فَأَذِنَ لَهُ قَبْلِي قَالَ: وَقَعَدَ جَعْفَرٌ بَيْنَ يَدَيِ السَّرِيرِ وَأَصْحَابُهُ حَوْلَهُ عَلَى الْوَسَائِدِ، قَالَ عَمْرٌو: فَجِئْتُ، فَلَمَّا رَأَيْتُ مَجْلِسَهُ قَعَدْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَدَيِ السَّرِيرِ فَجَعَلْتُهُ خَلْفَ ظَهْرِي، قَالَ: وَأَقْعَدْتُ بَيْنَ كُلِّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِي، قَالَ: قَالَ النَّجَاشِيُّ نخر يَا عَمْرُو ابْنَ الْعَاصِ أَيْ تَكَلَّمْ قَالَ: فَقَالَ: ابْنُ عَمِّ هَذَا بِأَرْضِنَا يَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلنَّاسِ إِلَهٌ لَا إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَإِنَّكَ وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَقْتُلْهُ وَأَصْحَابَهُ لَا أَقْطَعُ إِلَيْكَ هَذِهِ النُّطْفَةَ أَبَدًا أَنَا وَلا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِي، قَالَ: نخّر يَا حِزْبَ اللَّهِ نخر، قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: صَدَقَ هُوَ ابْنُ عَمِّي، وَأَنَا عَلَى دِينِهِ، قَالَ عَمْرٌو فَوَاللَّهِ إِنَّ أَوَّلَ مَا سَمِعْتُ التَّشَهُدَّ قَطُّ لَيَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَوَضَعَ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ يَدَهُ عَلَى جَبِينِهِ، وَقَالَ: أَوَّهْ أَوَّهْ، حَتَّى قُلْتُ فِي نَفْسِي: أَلْعَنُ الْعَبْدَ الْحَبَشِيَّ إِلا يَتَكَلَّمُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ فَقَالَ: نَامُوسٌ مِثْلُ نَامُوسِ مُوسَى، مَا يَقُولُ فِي عِيسَى؟ قَالَ: يَقُولُ: هُوَ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، قَالَ: فَأَخَذَ شَيْئًا تَافِهًا مِنَ الأَرْضِ، وَقَالَ: مَا أَخْطَأَ مِنْهُ مِثْلَ هَذِهِ، قُمْ يَا حِزْبَ اللَّهِ فَأَنْتَ آمِنٌ بِأَرْضِي، مَنْ قَاتَلَكَ قَتَلْتُهُ وَمَنْ سَبَّكَ غَرَّمْتُهُ، قَالَ: وَقَالَ: لَوْلا مُلْكِي وَقَوْمِي لاتَّبَعْتُكَ فَقُمْ، وَقَالَ لآذِنِهِ: انْظُرْ هَذَا فَلا تَحْجِبَنَّهُ عَنِّي إِلا أَنْ أَكُونَ مَعَ أَهْلِي فَإِنْ أَبَى إِلا أَنْ يَدْخُلَ فَأْذَنْ لَهُ، وَقُمْ أَنْتَ يَا عَمْرُو بْنَ الْعَاصِ، فَوَاللَّهِ مَا أُبَالِي أَلا تَقْطَعَ إِلَيَّ هَذِهِ النُّطْفَةَ أَبَدًا أَنْتَ وَلا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ قَالَ: فَلَمْ يَعْدُ أَنْ خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَلْقَاهُ خَالِيًا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ جَعْفَرٍ، قَالَ: فَلَقِيتُهُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي سِكَّةٍ(1/233)
فَنَظَرْتُ لَمْ أَرَ خَلْفَهُ فِيهَا أَحَدًا وَلَمْ أَرَ خَلْفِي أَحَدًا قَالَ: فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، قَالَ: قُلْتُ تَعْلَمُ أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَالَ: فمز يَدِي، وَقَالَ: هَدَاكَ اللَّهُ فَاثْبُتْ قَالَ: فَأَتَيْتُ أَصْحَابِي فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّمَا شَهِدُونِي وَإِيَّاهُ، قَالَ: فَأَخَذُونِي فَأَلْقَوْا عَلَى وَجْهِي قَطِيفَةً فَجَعَلُوا يُغَمُّونِي بِهَا، وَجَعَلْتُ أُمَارِسُهُمْ قَالَ: فَأَفْلَتُّ عُرْيَانًا مَا عَلَيَّ قِشْرَةً، فَأَتَيْتُ عَلَى حَبَشِيَّةٍ فَأَخَذْتَ قِنَاعَهَا مِنْ رَأْسِهَا، قَالَ: وَقَالَتْ لِي بِالْحَبَشِيَّةِ كَذَا وَكَذَا وَقلت لَهُ كَذَا وَكَذَا قَالَ: فَأَتَيْتُ جَعْفَرًا، وَهُوَ بَيْنَ ظَهْرَيْ أَصْحَابِهِ، قَالَ: قُلْتُ مَا هُوَ إِلا أَنْ فَارَقْتُكَ فَعَلُوا بِي وَفَعَلُوا بِي، وَذَهَبُوا بِكُلِّ شَيْءٍ هُوَ لِي مِنَ الدُّنْيَا، وَمَا هَذَا الَّذِي تَرَى عَلَيَّ إِلا قِنَاعُ حَبَشِيَّةٍ قَالَ: فَانْطَلَقَ، وَأَتَى الْبَابَ فَنَادَى ائْذَنْ لِحِزْبِ اللَّهِ، قَالَ: فَخَرَجَ الآذِنُ فَقَالَ: إِنَّهُ مَعَ أَهْلِهِ، قَالَ: اسْتَأْذِنْ لِي قَالَ: فَأَذِنَ لَهُ فَدَخَلَ، وَقَالَ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَدْ تَرَكَ دِينَهُ وَاتَّبَعَ دِينِي، قَالَ: كَلا، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: كَلا قُلْتُ: بَلَى قَالَ: كَلا قُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ لآذِنِهِ: اذْهَبْ فَإِنْ كَانَ كَمَا يَقُولُ فَلا يَكْتُبَنَّ لَكَ شَيْئًا إِلا أَخَذْتَهُ، قَالَ: فَكَتَبْتُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى كَتَبْتُ الْمِنْدِيلَ، وَحَتَّى كَتَبْتُ الْقَدَحَ، قَالَ: وَلَوْ أَشَاءُ أَنْ آخُذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِلَى مَالِي فَعَلْتُ، قَالَ: ثمَّ كنت فِي الَّذين جاؤوا فِي سُفُنِ الْمُسْلِمِينَ ". قَالَ أهل التَّفْسِير فِي قَوْله تَعَالَى: {بِكَلِمَة مِنْهُ اسْمه الْمَسِيح} سمي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام كلمة؛ لأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ لَهُ: كن من غير أَب فَكَانَ.(1/234)
أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمد بن إِسْحَاق ابْن أَيُّوبَ، نَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، نَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ نَا سُفْيَانُ ح.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ، نَا حَفْصُ بْنُ عمر وَسليمَان ابْن حَرْبٍ وَحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ح.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْحِمْصِيُّ، نَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ ابْن سَعِيدٍ الْقَاضِي نَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٌ قَالُوا: أَنا سُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ الأَعْمَشُ.
88 - قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، نَا أَبُو شِهَابٍ عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ نَافِعٍ وَعَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ قَالا: نَا الأَعْمَشُ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: حَدثنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: " إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيَقُولُ: اكْتُبْ أَجَلَهُ وَرِزْقَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلا ذِرَاعٌ فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الَّذِي قَدْ سَبَقَ فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الَّذِي قَدْ سَبَقَ فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَفْظُ حَدِيثِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنِ الأَعْمَشِ وَرَوَاهُ أَبُو الطُّفَيْلِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ، وَعَنْهُ أَبُو الزبير وَعِكْرِمَة ابْن خَالِد.(1/235)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّد بن نصر يَقُول: سَمِعت الْعَبَّاس ابْن الْفَضْلِ الأَسْقَاطِيُّ يَقُولُ: سَمِعْتُ خَالِي مُحَمَّدَ بْنَ يزِيد يَقُول: رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْمَنَامِ وَمعه أَبُو بكر وَعمر وَعلي - رَضِي اللَّه عَنْهُم - وَرجل كَانَ يكنى أَبَا يَعْقُوب الْحَضْرَمِيّ أَصَابَهُ فِي وَجهه ذَاك الرّيح الْخَبيث فَقلت: يَا أَبَا يَعْقُوب هَا هُنَا؟ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أعطي بِمَا ابْتُلِيَ، قلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَنِ الْأَعْمَش عَن زيد بْن وهب عَن عَبْد اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ الصَّادِق المصدوق يَعْنِي ذكر الحَدِيث بِتَمَامِهِ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنا وَالَّذِي لَا إِله إِلا هُوَ حدثت ابْن مَسْعُود، رحم اللَّه عَبْد اللَّهِ، ورحم زيد بْن وهب ورحم من يحدث بِهِ بعده.
89 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ وَحَمْزَةُ قَالا: نَا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، نَا خَالِدُ بْنُ الْحَرْبِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: " مر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِجُوَيْرِيَةٍ وَهِيَ فِي ذِكْرٍ، ثُمَّ مَرَّ بِهَا قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ، فَقَالَ لَهَا: " مَا زلت بعْدهَا هُنَا، فَقَالَ: أَلا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ: سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خلقه أَعَادَهَا ثَلَاث مَرَّات سُبْحَانَ الله رَضِي نَفْسِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ ثَلاثَ مَرَّات ".(1/236)
قَالَ عُلَمَاء السّلف: قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {أَلا لَهُ الْخلق وَالْأَمر} فَفرق بَين الْخلق وَالْأَمر، وَأَعْلَمنَا فِي كِتَابه أَنه يخلق الْخلق بِكَلَامِهِ وَقَوله فَقَالَ: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كن فَيكون} أعلمنَا أَنه يكون كل مكون من خلقه بقوله: كن، وَقَوله: كن هُوَ كَلَامه الَّذِي يكون الْخلق، فَكَلَامه الَّذِي يكون بِهِ الْخلق غير الْخلق الَّذِي يكون مكونا بِكَلَامِهِ، وَفِيمَا روينَاهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيَان أَن كَلَام اللَّه غير مَخْلُوق. قَالَ: " سُبْحَانَ الله عدد خلقه ورضى نَفسه وزنة عَرْشه ومداد كَلِمَاته "، وَلَو كَانَت كَلِمَات اللَّه من خلقه، لما فرق بَينهمَا، أَلا ترى حِين ذكر الْعَرْش الَّذِي هُوَ مَخْلُوق ذكره بِلَفْظَة لَا تقع عَلَى الْعدَد، فَقَالَ: " زنة عَرْشه " وَالْوَزْن غير الْعدَد. وَقَالَ فِي كِتَابه: {قل لَو كَانَ الْبَحْر مداراً لكلمات رَبِّي} الْآيَة، يفسره قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْض من شَجَرَة أَقْلَام} الْآيَة يَعْنِي يكْتب بهَا كَلِمَات اللَّه، وَكَانَ الْبَحْر مداداً، فنفد مَاء الْبَحْر لَو كَانَ مدادا لم ينْفد كَلِمَات رَبنَا وَلم يرد بالبحر بحرا وَاحِدًا، أعلم اللَّه تَعَالَى: أَنه لَو جِيءَ بِمثل الْبَحْر مدادا، وَزيد عَلَى مَائه سَبْعَة أبحر لم تنفد كَلِمَات اللَّه، فَدلَّ بِهَذِهِ الْأَشْيَاء أَن كَلِمَات رَبنَا لَيست بمخلوقه.(1/237)
وَأخْبرنَا طَلْحَة بْن الْحُسَيْن الصالحاني، أَنا جدي أَبُو ذَر الصالحاني، أَنا أَبُو الشَّيْخ قَالَ: " إِن الْقُرْآن كَلَام اللَّه تكلم بِهِ، فِيهِ أمره وَنَهْيه ووعده ووعيده، وَذكر رَحمته ونقمته، وعذابه وَسخطه، وَذكر النَّعيم والمنن، والأهوال والشدائد فِي التَّرْغِيب والترهيب، بقوله الصَّادِق وَعلمه النَّافِذ ومشيئته السَّابِقَة وحجته الْبَالِغَة، وَذكر سُلْطَانه الدَّائِم، وَلَيْسَ مِنْهَا شَيْء مَخْلُوق لأَنَّهَا كلهَا قَوْله من علمه الأزلي من أَوله إِلَى آخِره كَلَام اللَّه غير مَخْلُوق، فالمنكر فِيهِ كالشاك، وَالشَّكّ والإِنكار فِيهِ كفر، فالمنكر الجهمي والشاك الوَاقِفِي، وَهُوَ كَلَامه فِي الْأَحْوَال كلهَا حَيْثُ تلِي وَتصرف فِي الدفتين بَين اللَّوْحَيْنِ، وَفِي صُدُور الرِّجَال، وَحَيْثُ مَا قرئَ فِي المحاريب وَغَيرهَا، وَحَيْثُ مَا(1/238)
سمع أَو حفظ، أَو كتب، أَو تلِي، مِنْهُ بدا وإِلَيْهِ يعود، وَمن زعم أَن الْقُرْآن أَو بعضه، أَو شَيْئا من مَخْلُوق، فَلَا يشك فِيهِ عندنَا وَعند أهل الْعلم من أهل السّنة وَالْفضل وَالدّين أَنه كَافِر كفرا انْتقل بِهِ عَنِ الْملَّة، وَمن زعم أَن الْقُرْآن كَلَام اللَّه ووقف وَلم يقل غير مَخْلُوق فَهُوَ جهمي أَخبث قولا من الأول وَشر مِنْهُ، وَمن(1/239)
قَالَ: لَا أَقُول مَخْلُوق وَلَا غير مَخْلُوق فَهُوَ جهمي، وَمن شكّ فِي كفر من قَالَ: الْقُرْآن مَخْلُوق بعد علمه وَبعد أَن سمع من الْعلمَاء المرضيين ذَلِك فَهُوَ مثله، وَمن وقف عِنْد اللَّفْظ فَهُوَ واقفي وَمن وقف عِنْد الْقُرْآن فَهُوَ جهمي.
قَالَ أَبُو الشَّيْخ: نَا عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن زَكَرِيَّا، نَا مُوسَى بْن عَبْد اللَّهِ الطرسوسي، قَالَ: سَمِعت أَحْمَد بْن حَنْبَل رَحمَه اللَّه يَقُول: " من قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق فَهُوَ جهمي، وَمن زعم أَن هَذِه الْآيَة مخلوقة {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فاعبدني} فقد كفر، وَمن زعم أَن هَذِه الْآيَة مخلوقة {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى، إِذْ نَادَاهُ ربه} وَقَالَ الله: {وَلَكِن حق القَوْل مني} فَالْقَوْل مِمَّن هُوَ؟ إِنما هُوَ مِنْهُ، وَالْقُرْآن من علم اللَّه فَمن زعم أَن من علم اللَّه شَيْئا مَخْلُوق فقد كفر.(1/240)
90 - قَالَ أَبُو الشَّيْخ: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن حَمَّاد، أَنا يَحْيَى بْن حَكِيم، نَا يَحْيَى الْقطَّان وَابْن أَبِي عدي عَنِ الْحجَّاج الصَّواف، نَا يَحْيَى بْن أَبِي كثير عَن هِلَال بْن أَبِي مَيْمُونَة، عَن عَطاء بْن يسَار عَن مُعَاوِيَة بْن الحكم السّلمِيّ - رَضِي الله عَنهُ -: أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِن صَلَاتنَا هَذِه لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام النَّاس إِنما هُوَ ذكر وتسبيح وتلاوة الْقُرْآن ".
91 - قَالَ: ونا عَبْدَانُ بْنُ أَحْمَدَ، نَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، نَا إِسْرَائِيلُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْد عَن جَابر ابْن عَبْد اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوْقِفِ يَقُولُ: " أَلا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلامَ رَبِّي ". وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يسمع كَلَام الله} .
حَدَّثَنَا أَبُو عَليّ بْن إِبْرَاهِيمَ، نَا مُحَمَّد بن هِشَام البحتري، نَا عمار ابْن نصير، نَا مُحَمَّد بْن شُعَيْب بْن شَابُور قَالَ: بَلغنِي فِي قَول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله} قَالَ: هُوَ الْقُرْآن.(1/241)
قَالَ أَبُو الشَّيْخ: فجبرائيل سَمعه من اللَّه عز وَجل، وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمعه من جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وَأَصْحَاب النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - و - رَضِي الله عَنهُ - سمعُوا من النَّبِي ثُمَّ الأول فَالْأول هَلُمَّ جرا إِلَى يَوْمنَا هَذَا، وبعدنا يكون كَمَا كَانَ قبلنَا، وَهُوَ كَلَام اللَّه غير مَخْلُوق، وَمن زعم أَن الْقُرْآن أَو بعضه مَخْلُوق أَو شَيْء مِنْهُ فِي حَالَة من الْحَالَات بِجِهَة من الْجِهَات، فقد زعم أَن جِبْرَائِيل سمع من اللَّه مخلوقاً، وَأدّى إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مخلوقاً، وَأدّى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى أمته مخلوقا، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَن يبدلوا كَلَام الله} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا مبدل لكلمات الله} .(1/242)
بَاب
مَا ورد فِي كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ من بَيَان أَن الْقُرْآن كَلَام اللَّه غير مَخْلُوق
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، أَنا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ، أَنا الْحُسَيْن ابْن أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، نَا الْحَسَنُ بْنُ طَاهِرٍ، نَا مَسِيحُ بْنُ حَاتِمٍ، نَا عَبْدُ الأَعْلَى ابْن عَبْدِ الْكَرِيمِ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - فِي قَوْله {قراناً عَرَبيا غير ذِي عوج لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ} قَالَ: غير مَخْلُوق، وَرُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وَمن بَاب مَا ورد فِي الْكتاب بِدَلِيل الاستنباط قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كن فَيكون} .
فَقَالَ الْبُوَيْطِيّ: " إِنما خلق اللَّه كل شَيْء بكن، فَإِن كَانَت " كن " مخلوقة فمخلوق خلق مَخْلُوق، وَقَالَ الْعلمَاء: لَو كَانَ كن الأول مخلوقا فَهُوَ مَخْلُوق بِأُخْرَى وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى مَالا يتناهى وَهُوَ مُسْتَحِيل.(1/243)
وَقَالَ الْوَلِيد بْن عبَادَة بْن الصَّامِت، وَسُئِلَ كَيفَ كَانَت وَصِيَّة أَبِيك حِين حَضَره الْمَوْت فَقَالَ: دَعَاني فَقَالَ: يَا بني سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول:
92 - " أول مَا خلق اللَّه الْقَلَم قَالَ: اكْتُبْ فَكتب مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِن ".
قَالَ الْعلمَاء: إِذَا كَانَ أول الْخلق الْقَلَم فَالْكَلَام قبل الْقَلَم، وَإِنَّمَا جرى الْقَلَم بِكَلَام اللَّه الَّذِي قبل الْخلق.
استنباط آيَة أُخْرَى: وَهُوَ قَوْله: {أَلا لَهُ الْخلق وَالْأَمر} .
قَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة: " الْخلق خلق اللَّه وَالْأَمر الْقُرْآن ".
وَرُوِيَ ذَلِك عَن أَحْمَد بْن حَنْبَل، وَمُحَمّد بن يحيى الذهلي وَأحمد ابْن سِنَان وَجَمَاعَة من الْعلمَاء.
استنباط آيَة أُخْرَى: وَهُوَ قَوْله {وَلَكِن حق القَوْل مني} وَمَا كَانَ مِنْهُ فَهُوَ غير مَخْلُوق.(1/244)
قَالَ وَكِيع بْن الْجراح: " من زعم أَن الْقُرْآن مَخْلُوق فقد زعم أَن شَيْئا من اللَّه مَخْلُوق، قيل لَهُ من أَيْن قلت هَذَا؟ قَالَ: لِأَن اللَّه تَعَالَى يَقُول: {وَلَكِنْ حق القَوْل مني} وَلَا يكون من اللَّه شَيْء مَخْلُوق، وَكَذَلِكَ فسره أَحْمد بن حَنْبَل، وَالْحسن بن الْبَزَّار، وَعبد الْعَزِيز بْن يَحْيَى الْمَكِّيّ.
استنباط آيَة أُخْرَى: وَهُوَ قَوْله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ من شَجَرَة أَقْلَام} الْآيَة، والمخلوقات كلهَا تنفد وتفنى، وكلمات اللَّه لَا تفنى وتصديق ذَلِك قَوْله تَعَالَى حِين يفني خلقه: {لمن الْملك الْيَوْم} فيجيب اللَّه تَعَالَى نَفسه يَقُول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ القهار} قَالَ قَتَادَة فِي الْآيَة: " قَالَ الْمُشْركُونَ: إِنَّمَا هَذَا كَلَام يُوشك أَن ينْفد فَأنْزل اللَّه تَعَالَى مَا تَسْمَعُونَ، يَقُول: لَو كَانَ شجر الأَرْض أقلاما وَمَعَ الْبَحْر سَبْعَة أبحر مدادا لتكسرت الأقلام، ونفد مَاء الْبَحْر قبل أَن تنفد كَلِمَات اللَّه، وَقَالَ الْحسن: وَلَو أَن مَا فِي الأَرْض من شَجَرَة(1/245)
مُنْذُ خلق اللَّه الدُّنْيَا إِلَى أَن تقوم السَّاعَة أَقْلَام، وَالْبَحْر يمده من بعده سَبْعَة أبحر انْكَسَرت الأقلام ونفد مَاء الْبَحْر وَلم تنفد كَلِمَات اللَّه فعلت كَذَا صنعت كَذَا،
وَرُوِيَ عَن أَبِي الجوزاء ومطر الْوراق مثل ذَلِك.
فصل
93 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْن، أَنا هبة اللَّه بْن الْحسن قَالَ: ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: ذَكَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ أَبُو عَمْرٍو الدِّمَشْقِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ شَابُورَ، أَنا أَبُو رَافِعٍ الْمَدَنِيُّ إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَافِعٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: حَدثنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَأْمُرُ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ بِنَفْخَةِ الصَّعْقَةِ فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ، وَجَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَالَ: يَا رَبِّ، قَدْ مَاتَ أَهْلُ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلا مَنْ شِئْتَ، فَيَقُولُ: مَنْ بَقِيَ؟ وَهُوَ أَعْلَمُ، قَالَ: يَا رَبِّ بَقِيتَ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَبَقِيَ حَمَلَةُ عَرْشِكَ، وَبَقِيَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَبَقِيتُ أَنَا، فَيَقُولُ: لِيَمُتْ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَلْيَمُتْ حَمَلَةُ عَرْشِي، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ وَهُوَ أَعْلَمُ فَمَنْ بَقِيَ؟ فَيَقُولُ: بَقِيتَ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَبَقِيتُ أَنَا فَيَقُولُ: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ: أَنْتَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِي خَلَقْتُكَ لِمَا رَأَيْتَ فَمُتْ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ قَالَ اللَّهُ: لَا مَوْتَ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلا مَوْتَ عَلَى أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ طَوَى اللَّهُ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ(1/246)
كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكِتَابِ ثُمَّ قَالَ: أَنَا الْجَبَّارُ، لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ ثُمَّ قَالَ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ ثُمَّ قَالَ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ ثَلاثًا ثُمَّ قَالَ لِنَفْسِهِ: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ".
فصل
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ أَشْتَهْ، أَنا أَبُو مَنْصُور مَعْمَر بْن أَحْمَد قَالَ: " وَلما رَأَيْت غربَة السّنة، وَكَثْرَة الْحَوَادِث وَاتِّبَاع الْأَهْوَاء أَحْبَبْت أَن أوصِي أَصْحَابِي وَسَائِر الْمُسلمين بِوَصِيَّة من السّنة وموعظة من الْحِكْمَة، وَأجْمع مَا كَانَ عَلَيْهِ أهل الحَدِيث والأثر، وَأهل الْمعرفَة والتصوف من السّلف الْمُتَقَدِّمين، والبقية من الْمُتَأَخِّرين، فَأَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق: إِن السّنة الرضى بِقَضَاء اللَّه، وَالتَّسْلِيم لأمر اللَّه، وَالصَّبْر عَلَى حكم اللَّه، وَالْأَخْذ بِمَا أَمر اللَّه، وَالنَّهْي عَمَّا نهى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنهُ، وَإِن الإِيمان قَول وَعمل وَنِيَّة وموافقة السّنة، يزِيد بِالطَّاعَةِ وينقض بالمعصية، وَإِن الْقدر خَيره وشره وحلوه ومره وقليله وَكَثِيره ومحبوبه ومكروهه من الله عزوجل، وَإِن مَا أصابني لم يكن ليخطئني، وَإِن مَا أخطأني لم يكن ليصيبني، فقد جف الْقَلَم بِمَا هُوَ كَائِن إِلَى(1/247)
يَوْم الْقِيَامَة، وَإِن الْقُرْآن كَلَام اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، ووحيه وتنزيله، تكلم بِهِ وَهُوَ غير مَخْلُوق، مِنْهُ بدا وإِلَيْهِ يعود، وَمن قَالَ: إِنه مَخْلُوق فَهُوَ كَافِر بِاللَّه جهمي، وَمن وقف فِي الْقُرْآن فَقَالَ: لَا أَقُول: مَخْلُوق وَلَا غير مَخْلُوق فَهُوَ واقفي جهمي، وَمن قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق، فَهُوَ لَفْظِي جهمي، ولفظي بِالْقُرْآنِ وكلامي بِالْقُرْآنِ وقراءتي وتلاوتي لِلْقُرْآنِ قُرْآن، وَالْقُرْآن حَيْثُمَا تلِي وَقُرِئَ وَسمع وَكتب وحيثما تصرف فَهُوَ غير مَخْلُوق وَإِن أفضل النَّاس وَخَيرهمْ بعد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبُو بكر الصّديق، ثُمَّ عمر الْفَارُوق، ثُمَّ عُثْمَان ذُو النورين، ثُمَّ عَليّ الرِّضَا - رَضِي اللَّه عَنْهُم - أَجْمَعِينَ، فإِنهم الْخُلَفَاء الراشدون المهديون، بُويِعَ كل وَاحِد مِنْهُم يَوْم بُويِعَ، وَلَيْسَ أحد أَحَق بالخلافة مِنْهُ، وَأَن رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شهد للعشرة بِالْجنَّةِ، وهم أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَطَلْحَة بن الزبير وَسعد وَسَعِيد وَعبد الرَّحْمَن بْن عَوْف، وَأَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح - رَضِي الله عَنهُ -، وَأَن عَائِشَة الصديقة بنت الصّديق حَبِيبَة حبيب اللَّه مبرأة من كل دنس، طَاهِرَة من كل رِيبَة، فَرضِي اللَّه عَنْهَا، وَعَن جَمِيع أَزوَاج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ الطاهرات وَأَن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان كَاتب وَحي اللَّه وأمينه، ورديف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وخال الْمُؤمنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ اسْتَوَى عَلَى عَرْشه بِلَا كَيفَ وَلَا تَشْبِيه وَلَا تَأْوِيل، فالاستواء مَعْقُول، والكيف فِيهِ مَجْهُول، والإِيمان بِهِ وَاجِب، والإِنكار لَهُ كفر، وَأَنه جلّ جَلَاله مستو عَلَى عَرْشه بِلَا كَيفَ، وَأَنه جلّ جلال بَائِن من خلقه والخلق بائنون مِنْهُ، فَلَا حُلُول وَلَا ممازجة وَلَا اخْتِلَاط وَلَا ملاصقة لِأَنَّهُ الْفَرد الْبَائِن من خلقه، الْوَاحِد الْغَنِيّ عَنِ الْخلق، علمه بِكُل مَكَان، وَلَا يَخْلُو من(1/248)
علمه مَكَان، لَا يعزب عَنهُ مِثْقَال ذرة فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء، يعلم مَا تجنه البحور وَمَا تكنه الصُّدُور {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كتاب مُبين} وَأَن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ سميع بَصِير، عليم خَبِير، يتَكَلَّم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لِعِبَادِهِ يَوْم الْقِيَامَة ضَاحِكا، وَينزل كل لَيْلَة إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا كَيفَ يَشَاء، فَيَقُول: هَل من دَاع فاستجيب لَهُ؟ هَل من مُسْتَغْفِر فَأغْفِر لَهُ؟ هَل من نَائِب فأتوب عَلَيْهِ؟ حَتَّى يطلع الْفجْر، ويرون الرب عَزَّ وَجَلَّ يَوْم الْقِيَامَة عيَانًا لَا يَشكونَ فِي رُؤْيَته، وَلَا يَخْتَلِفُونَ وَلَا يمارون كَذَلِك.
94 - قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنكم سَتَرَوْنَ ربكُم عَزَّ وَجَلَّ كَمَا ترَوْنَ الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر لَا تضَارونَ فِي رُؤْيَته ". قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبهَا ناظرة} ، وَأَن عَذَاب الْقَبْر حق، وضغطة الْقَبْر حق، وَأَن مُنْكرا ونكيرا هما ملكان يأتيان النَّاس فِي قُبُورهم يسألان عَن رَبهم، وَعَن دينهم ونبيهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيفْعل الله مَا يَشَاء} وَأَن الْحَوْض حَوْض(1/249)
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حق مَا بَين طَرفَيْهِ كَمَا بَين عدن إِلَى عمان، أباريقه عدد نُجُوم السَّمَاء، وماؤه أحلى من الْعَسَل وَأَشد بَيَاضًا من اللَّبن، من شرب مِنْهُ لَا يظمأ أبدا، وَأَن الشَّفَاعَة لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حق، وَكَذَلِكَ شَفَاعَة الْأَنْبِيَاء وَالْمَلَائِكَة وَالْعُلَمَاء وَالشُّهَدَاء، وَأَن الصِّرَاط حق، وَهِي قنطرة بَين ظهراني جَهَنَّم لابد من جَوَازهَا، وَهِي دحض مزلة، عَلَيْهَا كلاليب وخطاطيف وحسك، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جثيا} وَأَن الْمِيزَان حق لَهُ لِسَان وكفتان يُوزن بِهِ أَعمال الْعباد {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خسروا أنفسهم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يظْلمُونَ} وَأَن الصُّور حق وَهُوَ قرن ينْفخ فِيهِ إِسرافيل عَلَيْهِ السَّلَام، وهما نفختان نفخة الصَّعق ونفخة الْبَعْث، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَنُفِخَ فِي الصُّور فَصعِقَ من فِي السَّمَاوَات وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ ينظرُونَ} وَأَن قوما يخرجُون من النَّار يخرجهم اللَّه برحمته، فيلقيهم فِي نهر عَلَى بَاب الْجنَّة فينبتون كَمَا تنْبت الْحبَّة فِي حميل السَّيْل بَعْدَمَا امتحشوا فصاروا حمما ثُمَّ يدخلهم اللَّه الْجنَّة حَتَّى لَا يبْقى فِي النَّار من كَانَ فِي قلبه مِثْقَال حبه أَو ذرة من إِيمان، وَأَن(1/250)
الْجنَّة وَالنَّار خلقهما اللَّه عَزَّ وَجَلَّ للثَّواب وَالْعِقَاب وَلَا تفنيان أبدا خلقهما قبل خلق الْخلق ثُمَّ خلق الْخلق لَهما، وَأَن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قبض قَبْضَة بِيَمِينِهِ فَقَالَ:
95 - " هَؤُلَاءِ فِي الْجنَّة برحمتي وَلَا أُبَالِي، ثُمَّ قبض قَبْضَة أُخْرَى فَقَالَ: هَؤُلَاءِ فِي النَّار وَلَا أُبَالِي " وَمن قَالَ: إِن الْجنَّة وَالنَّار كتب اللَّه عَلَيْهِمَا الفناء فقد كفر بِأَرْبَع آيَات من كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَأَن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ خلق آدم بِيَدِهِ وَنفخ فِيهِ من روحه، وأسجد لَهُ مَلَائكَته وَأَنه عَزَّ وَجَلَّ اتخذ إِبْرَاهِيم خَلِيلًا، وكلم مُوسَى تكليماً، وَاتخذ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حبيبا قَرِيبا. وَأَن الدَّجَّال ودابة الأَرْض، ويأجوج وَمَأْجُوج وطلوع الشَّمْس من مغْرِبهَا حق(1/251)
وَصدق، وَأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عرج بِرُوحِهِ وبدنه فِي لَيْلَة وَاحِدَة إِلَى السَّمَاء، فَرَأى الْجنَّة وَالنَّار وَالْمَلَائِكَة والأنبياء صلوَات اللَّه عَلَيْهِم، وأسري بِهِ من الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى، ثُمَّ عرج بِهِ، فَرَأى ربه عَزَّ وَجَلَّ (بِعَيْنِه وَقَلبه فَكَانَ قاب قوسين أَو أدنى، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ) {مَا زاغ الْبَصَر وَمَا طَغى} .
ثمَّ من السّنة الانقياد لِلْأُمَرَاءِ وَالسُّلْطَان بِأَن لَا يخرج عَلَيْهِم بِالسَّيْفِ وَإِن جاورا، وَأَن يسمعوا لَهُ وَأَن يطيعوا وَإِن كَانَ عبدا حَبَشِيًّا أجدع.
وَمن السّنة الْحَج مَعَهم، وَالْجهَاد مَعَهم، وَصَلَاة الْجُمُعَة وَالْعِيدَيْنِ خلف كل بر وَفَاجِر.
وَمن السّنة السُّكُوت عَمَّا شجر بَين أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَنشر فضائلهم والاقتداء بهم، فإِنهم النُّجُوم الزاهرة رَضِي اللَّه عَنْهُم ثُمَّ الترحم عَلَى التَّابِعين وَالْأَئِمَّة وَالسَّلَف الصَّالِحين رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِم.
ثُمَّ من السّنة ترك الرَّأْي وَالْقِيَاس فِي الدّين، وَترك الْجِدَال والخصومات وَترك مفاتحة الْقَدَرِيَّة وَأَصْحَاب الْكَلَام وَترك النّظر فِي كتب(1/252)
الْكَلَام وَكتب النُّجُوم، فَهَذِهِ السّنة الَّتِي اجْتمعت عَلَيْهَا الْأَئِمَّة، وَهِي مَأْخُوذَة عَن رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَمْر اللَّه تبَارك وَتَعَالَى قَالَ اللَّه عَزَّ وَجل: {وَأَطيعُوا الله وَالرَّسُول} وَقَالَ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ، وَقَالَ: {, مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} فَأمر الله عز وَجل بالبلاغ فَقَالَ: {يَا أَيهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} فَبلغ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الرسَالَة، دَعَا إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِالْكتاب وَالسّنة فَأمر النَّاس بِاتِّبَاع الصَّحَابَة الْعَالمين بِاللَّه، وأولي الْأَمر من الْعلمَاء من بعدهمْ لقَوْل الله عز وَجل: {يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمر مِنْكُم} فأفضل الْعلمَاء بعد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من أولي الْأَمر: أَبُو بكر ثُمَّ عمر ثُمَّ عُثْمَان ثُمَّ عَليّ رَضِي اللَّه عَنْهُم، ثُمَّ الأكابر فالأكابر من الْعشْرَة وَغَيرهم من الصَّحَابَة الَّذين أبان رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فضائلهم، وَأمر بالإقتداء بهم، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:(1/253)
96 - " اقتدوا بالذين من بعدِي أَبِي بكر وَعمر ".
97 - وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقتديهم اهْتَدَيْتُمْ ".
فَأخذ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - السّنة عَنِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَأخذ الصَّحَابَة عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأخذ التابعون عَنِ الصَّحَابَة الَّذين أَشَارَ إِليهم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالاقتداء بهم، ثُمَّ أَشَارَ الصَّحَابَة إِلَى التَّابِعين بعدهمْ مثل:
سعيد بْن الْمسيب، وعلقمة بْن وَقاص، وَالْأسود، وَالقَاسِم،(1/254)
وَسَالم، وَعَطَاء، وَمُجاهد، وَقَتَادَة، وَالشعْبِيّ. وَعمر ابْن عبد الْعَزِيز وَالْحسن الْبَصْرِيّ ومُحَمَّد بْن سِيرِين ثُمَّ من بعدهمْ مثل أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، ويُونُس بْن عبيد، وَسليمَان التَّيْمِيّ وَابْن عون، ثُمَّ مثل سُفْيَان الثَّوْريّ، وَمَالك بْن أَنَس، وَالزهْرِيّ، وَالْأَوْزَاعِيّ، وَشعْبَة، ثمَّ مثل يحيى ابْن(1/255)
سعيد، وَحَمَّاد بْن زيد، وَحَمَّاد بْن سَلمَة، وَعبد اللَّه بْن الْمُبَارك، والفضيل بْن عِيَاض، وسُفْيَان بْن عُيَيْنَة، ثُمَّ مثل أَبِي عَبْد الله مُحَمَّد ابْن إِدريس الشَّافِعِي، وَعبد الرَّحْمَن بْن مهْدي، ووكيع بْن الْجراح وَابْن نمير، وَأبي نعيم، وَالْحسن بْن الرّبيع، ثُمَّ من بعدهمْ مثل أَبِي عبد الله أَحْمد ابْن(1/256)
حَنْبَل وإِسْحَاق بْن رَاهَوَيْه، وَأبي مَسْعُود الرَّازِيّ وَأبي حَاتِم الرَّازِيّ، ونظرائهم مثل من كَانَ من أهل الشَّام، والحجاز، ومصر، وخراسان، وأصبهان، وَالْمَدينَة، مثل مُحَمَّد بْن عَاصِم، وَأسيد بْن عَاصِم، وَعبد الله ابْن مُحَمَّد بْن النُّعْمَان، ومُحَمَّد بْن النُّعْمَان، والنعمان بْن عبد السَّلَام رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ، ثُمَّ من لَقِينَاهُمْ وكتبنا عَنْهُم الْعلم والْحَدِيث وَالسّنة مثل(1/257)
أَبِي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن حَمْزَة، وَأبي الْقَاسِم الطَّبَرَانِيّ، وَأبي مُحَمَّد عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر أَبِي الشَّيْخ، وَمن كَانَ فِي عصرهم من أهل الحَدِيث، ثُمَّ بَقِيَّة الْوَقْت أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق بن مُحَمَّد بن يحيى ابْن مَنْدَه الْحَافِظ رَحمَه اللَّه.
فَكل هَؤُلَاءِ سرج الدّين، وأئمة السّنة، وَأولُوا الْأَمر من الْعلمَاء، فقد اجْتَمعُوا عَلَى جملَة هَذَا الْفَصْل من السّنة، وجعلوها فِي كتب السّنة، وَيشْهد لهَذَا الْفَصْل الْمَجْمُوع من السّنة كتب الْأَئِمَّة، فَأول ذَلِك: كتاب السّنة عَن عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَد بْن حَنْبَل وَكتاب السّنة لأبي مَسْعُود وَأبي زرْعَة وَأبي حَاتِم، وَكتاب السّنة لعبد الله بن مُحَمَّد بن النُّعْمَان، وَكتاب السّنة لأبي عبد الله مُحَمَّد ابْن يُوسُف الْبَنَّا الصُّوفِي رَحِمهم اللَّه أَجْمَعِينَ.
ثُمَّ كتب السّنَن للآخرين مثل أَبِي أَحْمَد الْعَسَّال، وَأبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم ابْن حَمْزَة الطَّبَرَانِيّ، وَأبي الشَّيْخ، وَغَيرهم مِمَّن ألفوا كتب السّنة، فَاجْتمع هَؤُلَاءِ كلهم عَلَى إِثبات هَذَا الْفَصْل من السّنة، وهجران أهل الْبِدْعَة والضلالة(1/258)
والإِنكار عَلَى أَصْحَاب الْكَلَام وَالْقِيَاس والجدال وَأَن السّنة هِيَ إِتباع الْأَثر والْحَدِيث والسلامة وَالتَّسْلِيم، والإِيمان بِصِفَات اللَّه عَزَّ وَجَلَّ من غير تَشْبِيه، وَلَا تَمْثِيل، وَلَا تَعْطِيل، وَلَا تَأْوِيل فَجَمِيع مَا ورد من الْأَحَادِيث فِي الصِّفَات: مثل أَن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ خلق آدم عَلَى صورته، وَيَد اللَّه عَلَى رَأس المؤذنين، وَقُلُوب الْعباد بَين أصبعين من أَصَابِع الرَّحْمَن، وَأَن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يضع السَّمَوَات عَلَى إِصبع، وَالْأَرضين عَلَى إِصبع، وَسَائِر أَحَادِيث الصِّفَات، فَمَا صَحَّ من أَحَادِيث الصِّفَات عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اجْتمع الْأَئِمَّة عَلَى أَن تَفْسِيرهَا قرَاءَتهَا، قَالُوا: " أمروها كَمَا جَاءَت "، وَمَا ذكر اللَّه فِي الْقُرْآن مثل قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلّ من الْغَمَام} وَقَوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صفا} . كل ذَلِك بِلَا كَيفَ وَلَا تَأْوِيل نؤمن بهَا إِيمان أهل السَّلامَة وَالتَّسْلِيم لأهل السّنة(1/259)
والسلامة وَاسِعَة بِحَمْد لله وَمِنْه، وَطلب السَّلامَة فِي معرفَة صِفَات اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أوجب وَأولى، وأقمن وَأَحْرَى، فَإِنَّهُ {لَيْسَ كمثله شَيْء، وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} فَلَيْسَ كمثله شَيْء يَنْفِي كل تَشْبِيه وتمثيل، وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير، يَنْفِي كل تَعْطِيل وَتَأْويل، فَهَذَا مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة والأثر، فَمن فَارق مَذْهَبهم فَارق السّنة، وَمن اقْتدى بهم وَافق السّنة، وَنحن بِحَمْد اللَّه من المقتدين بهم، المنتحلين لمذهبهم، الْقَائِلين بفضلهم، جمع اللَّه بَيْننَا وَبينهمْ فِي الدَّاريْنِ، فَالسنة طريقتنا، وَأهل الْأَثر أَئِمَّتنَا، فأحيانا اللَّه عَلَيْهَا وأماتنا برحمته إِنه قريب مُجيب ".
فصل
فِي فَضَائِل الْأَثر ومتبعيه
أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الله الْحَافِظ، أَنا أَبُو الْفَتْح مُحَمَّد ابْن عبد الرَّزَّاق بْن عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن حَيَّان، أَنا جدي أَبُو مُحَمَّد عبد الله ابْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن حَيَّان، نَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَليّ الرَّازِيّ، نَا مُحَمَّد ابْن عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي الثَّلج، نَا الْهَيْثَم بْن خَارِجَة، نَا هَيْثَم بْن عمرَان الْعَنسِي قَالَ: سَمِعت إِسماعيل بْن عبيد اللَّه المَخْزُومِي يَقُول: " يَنْبَغِي لنا أَن نتحفظ مَا جَاءَنَا(1/260)
عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإِن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا}
قَالَ: وَأَنا أَبُو مُحَمَّد، نَا الْحسن بْن مُحَمَّد، نَا أَبُو زرْعَة، نَا الرّبيع، نَا الشَّافِعِي، نَا ابْن سماك بْن الْفضل الشهابي، حَدَّثَنِي ابْن أَبِي ذِئْب بِحَدِيث عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقلت لَهُ: يَا أَبَا الْحَارِث أتأخذ بِهَذَا؟ فَضرب صَدْرِي وَصَاح عَليّ صياحا كثيرا، ونال مني، وَقَالَ: أحَدثك عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَتقول تَأْخُذ بِهِ، نعم آخذ بِهِ، وَذَلِكَ الْفَرْض عَليّ وعَلى من سَمعه، إِن اللَّه تبَارك وَتَعَالَى اخْتَار مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من النَّاس فهداهم بِهِ وعَلى يَدَيْهِ، وَاخْتَارَ لَهُم مَا اخْتَار لَهُ عَلَى لِسَانه فعلى الْخلق أَن يتبعوه طائعين أَو داخرين لَا مخرج لمُسلم من ذَلِك، قَالَ: وَمَا سكت حَتَّى تمنيت أَن يسكت.
فصل
وَمن الدَّلِيل على أَن أَتبَاع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - علم لمحبة اللَّه تَعَالَى بِهِ يستوجبون محبَّة اللَّه تَعَالَى ومغفرته قَوْله تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله} .(1/261)
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّد بْن حَيَّان، نَا عبيد اللَّه بْن أَحْمَد بْن عقبَة، نَا عَبَّاس ابْن مُحَمَّد، نَا عَمْرو بْن طَلْحَة، نَا عَامر بْن يسَاف عَن حَوْشَب عَنِ الْحسن فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يحببكم الله} فَكَانَ عَلامَة حبه إِياهم اتِّبَاع سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
ذكر الِاعْتِصَام بِالسنةِ وَأَنه النجَاة
قَوْله عَزَّ وَجل: {واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا} قَالَ: وَأَنا أَبُو مُحَمَّد ابْن حَيَّانَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْمَرْوَزِيُّ، نَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، نَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ ثَابِتِ بْنِ قُطْبَةَ قَالَ: خَطَبَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ: اتَّقُوا اللَّهَ، وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ فَإِنَّهَا حَبْلُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ ".
قَالَ: وَأخْبرنَا أَبُو مُحَمَّد بْن حَيَّان، نَا ابْن أَبِي عَاصِم، نَا عَمْرو ابْن عُثْمَان، نَا الْوَلِيد عَنِ الْأَوْزَاعِيّ عَنِ الزُّهْرِيّ قَالَ: " الِاعْتِصَام بِالسنةِ نجاة ".
ذكر أهل الحَدِيث وَأَنَّهُمْ الْفرْقَة الظَّاهِرَة عَلَى الْحق إِلَى أَن تقوم السَّاعَة
98 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ، أَنا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَارِسِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ، نَا ابْنُ أَبِي أويس، نَا ابْن أبي الزِّنَاد عَن مُوسَى ابْن(1/262)
عُقْبَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ: " يَعْنِي أَهْلَ الْحَدِيثِ ".
99 - قَالَ: وَأَنا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ، نَا عَبْدَانُ، نَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نَا وَكِيعٌ، نَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ قَيْسِ بْنِ شُعْبَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَزَالُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيهم أَمر الله وهم ظاهرون ".
قَالَ: وَأخْبرنَا أَبُو مُحَمَّد بْن حَيَّان، نَا مُحَمَّد بْن الْفضل بْن الْخطاب، نَا أَبُو حَاتِم قَالَ: سَمِعت أَحْمَد بْن سِنَان وَذكر حَدِيث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي عَلَى الْحق ظَاهِرين لَا يضرهم من خالفهم حَتَّى تقوم السَّاعَة " هم أهل الْعلم وَأَصْحَاب الْآثَار.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد بْن حَيَّان: روى مُوسَى بْن عَبْد الرَّحْمَنِ، نَا عَبْد اللَّهِ الْمقري، حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن أَبِي خلف قَالَ: سُئِلَ يزِيد بْن هَارُون عَنِ الْفرْقَة النَّاجِية الَّتِي قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: " إِن لم يَكُونُوا أَصْحَاب الحَدِيث فَلَا أَدْرِي من هم ".(1/263)
ذكر النّظر فِي الحَدِيث والأثر وَمَا فِيهِ من الْخَيْر وَالْبركَة
قَالَ: وَأخْبرنَا أَبُو مُحَمَّد بْن حَيَّان، نَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن مكرم، نَا عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَد بْن شبويه، قَالَ: سَمِعت قُتَيْبَة بْن سعيد يَقُول: سَمِعت يُونُس ابْن سُلَيْمَان السَّقطِي وَكَانَ ثِقَة يَقُول: " نظرت فِي الْأَمر فَإِذَا هُوَ الحَدِيث والرأي، فَوجدت فِي الحَدِيث ذكر الرب تبَارك وَتَعَالَى وجلالته، وعظمته، وربوبيته، وَذكر الْعَرْش والصراط، وَالْمِيزَان، وَالْجنَّة وَالنَّار، والنبيين وَالْمُرْسلِينَ، والحلال وَالْحرَام، والحث عَلَى صلَة الْأَرْحَام، وَالْخَيْر كُله.
وَنظرت فِي الرَّأْي فَإِذَا فِيهِ الْمَكْر والخديعة، والحيل، وَقَطِيعَة الْأَرْحَام وَجَمِيع الشَّرّ فِيهِ.
قَالَ ابْن أَبِي عَاصِم: " رَأَيْت الحَدِيث يحث عَلَى الزّهْد فِي الدُّنْيَا وَالرَّغْبَة فِي الْآخِرَة، والتأسي بالصالحين، والاقتداء بالأولياء والأصفياء، وَينْدب إِلَى الْوَرع وَترك مَا يريب الْمَرْء إِلَى مَا لَا يرِيبهُ، والرأي يحث الْمَرْء على ترك مَالا يرِيبهُ إِلَى مَا يرِيبهُ إِلا مَا شَاءَ اللَّه.(1/264)
كَذَلِك قَالَه عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مهْدي أَو كَمَا قَالَ، وَلَا قُوَّة إِلا بِاللَّه الْعَظِيم.
فصل
ذكر عَليّ بْن عمر الْحَرْبِيّ فِي كتاب السّنة: أَن اللَّه تَعَالَى ينزل كل لَيْلَة إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا، قَالَه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من غير أَن يُقَال: كَيفَ؟(1/265)
فَإِن قيل: ينزل أَو ينزل؟ قيل: ينزل بِفَتْح الْيَاء وَكسر الزَّاي وَمن قَالَ: ينزل بِضَم الْيَاء فقد ابتدع، وَمن قَالَ ينزل نورا وضياء فَهَذَا أَيْضا بِدعَة، ورد عَلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَمِمَّا نعتقد: أَن لله عَزَّ وَجَلَّ عرشا، وَهُوَ عَلَى الْعَرْش، وَالْعرش مَخْلُوق من ياقوتة حَمْرَاء، وَعلمه تَعَالَى مُحِيط بِكُل مَكَان، مَا تسْقط من ورقة لَا يَعْلَمُهَا، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ، وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، وَمن قَالَ: الْعَرْش ملك أَو الْكُرْسِيّ لَيْسَ بالكرسي الَّذِي يعرف النَّاس فَهُوَ مُبْتَدع، قَالَ الله تَعَالَى: {وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض} وَالْعرش فَوق السَّمَاء السَّابِعَة، وَالله تَعَالَى عَلَى الْعَرْش، قَالَ اللَّه(1/266)
تَعَالَى: {إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب} . وَقَالَ: {إِنِّي متوفيك ورافعك إِلَيّ} وَقَالَ: {تعرج الْمَلَائِكَة وَالروح إِلَيْهِ} وَقَالَ: {أأمنتم من فِي السَّمَاء} وللعرش حَملَة يحملونه عَلَى مَا شَاءَ اللَّه من غير تكييف والاستواء مَعْلُوم والكيف مَجْهُول.
فصل
فِي ذكر الْأَهْوَاء المذمومة
نَعُوذ بِاللَّه من كل مَا يُوجب سخطه.
100 - أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّيْرَفِيُّ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله ابْن شَاذَانَ، أَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَبَّابُ، أَنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ عَنْ عَمِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَدْعُو بِهَؤُلاءِ الدَّعَوَاتِ " اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي مُنْكَرَاتِ الأَخْلاقِ والأهواء والأدواء ".(1/267)
101 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ أَبِي الأَشْهَبِ، عَنْ أَبِي الْحَكَمِ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ مِمَّا أَخْشَى عَلَيْكُمْ بَعْدِي بُطُونَكُمْ، وَفُرُوجَكُمْ، ومضلات الْأَهْوَاء ".
102 - وَقَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نَا أَبُو بكر عبد الرَّحْمَن ابْن خَالِدٍ الرَّقِّيُّ، نَا يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ يُلَقَّبُ فهير، نَا طَلْحَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ (عَنْ بُرَيْدِ) بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَمَّارٍ الْغَطَفَانِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ هَوًى يُضِلُّهُ بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ رَغَبٌ يُذِلُّهُ ".(1/268)
103 - قَالَ: وَأَنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نَا مُحَمَّد بن مُسلم وَارَةَ، نَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، نَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، نَا بَعْضُ مَشْيَخَتِنَا هِشَامٌ أَوْ غَيْرُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أَوْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ ".
104 - قَالَ: وَأَنا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ نَا الْحَسَنُ بْنُ الْبَزَّارِ، نَا مُحْرِزُ بْنُ عَوْنٍ، نَا عُثْمَانُ بْنُ مَطَرٍ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ عَبْدِ الْغَفُورِ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ إِبْلِيسَ قَالَ: " أَهْلَكْتُهُمْ بِالذُّنُوبِ وَأَهْلَكُونِي بِالاسْتِغْفَارِ فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ أَهْلَكْتُهُمْ بِأَهْوَائِهِمْ يَحْسِبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ وَلا يَسْتَغْفِرُونَ ".
105 - قَالَ: وَأَنا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصَفَّى، نَا بَقِيَّةُ، نَا شُعْبَةُ أَوْ غُفَيْرَةُ عَنْ مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ شُرَيْحٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ(1/269)
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِعَائِشَةَ: " يَا عَائِشَةُ: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا إِنَّهُمْ أَصْحَابُ الْبِدَعِ وَالأَهْوَاءِ وَأَصْحَابُ الضَّلالَةِ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ ".
106 - قَالَ: وَأَنا ابْنُ مُصَفَّى، نَا بَقِيَّةُ، نَا عِيسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنِي ابْنُ دِينَارٍ عَنْ الْخَصِيبِ عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ إِلَهٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ هَوًى مُتَّبَعٌ ".
107 - قَالَ: وَأَنا ابْنُ مُصَفَّى، نَا بَقِيَّةُ عَن صَفْوَان بن عَمْرو عَن الْأَزْهَر ابْن عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْهَوْزَنِيِّ، أَنَّهُ حَجَّ مَعَ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَسَمِعَهُ يَقُول: " قَامَ فِينَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمًا فَذَكَرَ " أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَبْلَكُمْ تَفَرَّقُوا عَلَى سَبْعِينَ فِرْقَةً فِي الأَهْوَاءِ كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلا وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، أَلا وَإِنَّهُ(1/270)
يَخْرُجُ فِي أُمَّتِي قَوْمٌ يَهْوَوْنَ هَوًى يَتَجَارَى بِهِمْ ذَلِكَ الْهَوَى كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ، لَا يَدَعُ مِنْهُ عِرْقًا وَلا مَفْصَلا إِلا دَخَلَهُ ".
فصل
فِي ذكر الدَّلِيل من الْقُرْآن أَن الْقُرْآن منزل
وَهُوَ بَين أظهرنَا، فَسَماهُ الله الْقُرْآن، وَالْكتاب، وَالْفرْقَان والآيات، وَالذكر وَالسورَة، والنور، وَالْحكم، قَالَ اللَّه تبَارك وَتَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} قَالَ أهل التَّفْسِير: الرّوح الْأمين: جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وَقَالَ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبك بِالْحَقِّ} .
قَالَ أهل التَّفْسِير: روح الْقُدس: جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وَقَالَ: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ فقرأه عَلَيْهِم مَا كَانُوا بِهِ مُؤمنين} . وَقَالَ:(1/271)
{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبك بِإِذن الله} وَقَالَ: {تَنْزِيل من رب الْعَالمين} وَقَالَ: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقدر} ، وَقَالَ: {لَو أنزلنَا هَذَا الْقُرْآن على جبل} وَقَالَ: {وننزل من الْقُرْآن مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين} وَقَالَ: {وقرآنا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا} وَقَالَ: {طه مَا أنزلنَا عَلَيْك الْقُرْآن لِتَشْقَى إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلا مِمَّنْ خلق الأَرْض وَالسَّمَاوَات العلى} . وَقَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نزل الله} وَقَالَ: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قراناً عَرَبيا لَعَلَّكُمْ تعقلون} وَقَالَ: {وابتعوا النُّور الَّذِي أنزل مَعَه} وَقَالَ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} ، وَقَالَ: {حم تَنْزِيل من الرَّحْمَن الرَّحِيم} ، وَقَالَ: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا على(1/272)
عَبدنَا} ، وَقَالَ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ ربه} ، وَقَالَ: {رَبنَا آمنا بِمَا أنزلت} ، وَقَالَ: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} ، وَقَالَ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} وَقَالَ: {قُولُوا آمنا بِالَّذِي أنزل إِلَيْنَا وَأنزل إِلَيْكُم} ، وَقَالَ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أنزل من قبلك} وَقَالَ: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} ، وَقَالَ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ الله} ، وَقَالَ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أنزل الله} وَقَالَ: {والمؤمنون يُؤمنُونَ بِمَا أنزل إِلَيْك} ، وَقَالَ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْكُم} ، وَقَالَ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمنُوا بِمَا أنزل إِلَيْك} وَقَالَ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} ، وَقَالَ: (قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى(1/273)
تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ ربكُم} ، وَقَالَ: {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أنزل من قبل} ، وَقَالَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أنزل إِلَيْهِم من رَبهم} ، وَقَالَ: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أنزل إِلَيْهِ} وَقَالَ: {يَا أَيهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ، وَقَالَ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، وَقَالَ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، وَقَالَ: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أنزل الله} ، وَقَالَ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ الله} ، وَقَالَ: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْك من رَبك هُوَ الْحق} ، وَقَالَ: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ} ، وَقَالَ: {يَا أَيهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لما مَعكُمْ} ، وَقَالَ:(1/274)
{وَإِذا سمعُوا مَا أنزل إِلَى الرَّسُول} ، وَقَالَ: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} ، وَقَالَ: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبك الْحق} ، وَقَالَ: {وَالله أعلم بِمَا ينزل} ، وَقَالَ: {وبالحق أَنزَلْنَاهُ وبالحق نزل} ، وَقَالَ: {قل أنزلهُ الَّذِي يعلم السِّرّ فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} ، وَقَالَ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْك} ، وَقَالَ: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ الله} ، وَقَالَ: {وَمَا أنزل الرَّحْمَن من شَيْء} ، وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَينَات} ، وَقَالَ: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} ، وَقَالَ: {شهر رَمَضَان الَّذِي أنزل فِيهِ الْقُرْآن} ، وَقَالَ: {وَإِن تسألوا عَنْهَا حِين ينزل الْقُرْآن} .(1/275)
فصل
وَقَالَ: {تبَارك الَّذِي نزل الْفرْقَان} ، وَقَالَ: {وَأنزل الْفرْقَان} .
فصل
وَقَالَ: {المص كتاب أنزل إِلَيْك} ، وَقَالَ: {الم تِلْكَ أيات الْكتاب} ، وَقَالَ: {الر كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك} ، وَقَالَ: {الم تَنْزِيل الْكتاب} وَقَالَ: {حم تَنْزِيل الْكتاب} ، وَقَالَ: {تَنْزِيل الْكتاب من الله} ، وَقَالَ: {حم وَالْكتاب الْمُبين إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} ، وَقَالَ: {حم تَنْزِيل من الرَّحْمَن الرَّحِيم} ، وَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكتاب} ، وَقَالَ: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا}(1/276)
وَقَالَ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ من رَبك الْحق} ، وَقَالَ: {وَهَذَا كتاب أَنزَلْنَاهُ مبارك} ، وَقَالَ: {وَالْكتاب الَّذِي نزل على رَسُوله} ، وَقَالَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَات محكمات} ، وَقَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} ، وَقَالَ: {وَأنزل الله عَلَيْك الْكتاب} ، وَقَالَ: {إِنَّا أنزلنَا إِلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ} ، وَقَالَ: {نزل عَلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ} وَقَالَ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ، وَقَالَ: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} ، وَقَالَ: {وَكَذَلِكَ أنزلنَا إِلَيْك الْكتاب} ، وَقَالَ: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} ، وَقَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ} ، وَقَالَ: {كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك مبارك} ، وَقَالَ: (الله(1/277)
الَّذِي أنزل الْكتاب بِالْحَقِّ وَالْمِيزَان} ، وَقَالَ: {قل آمَنت بِمَا أنزل الله من كتاب} ، وَقَالَ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكتاب} ، وَقَالَ: {واذْكُرُوا نعْمَة اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ} وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ من الْكتاب} ، وَقَالَ: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ} ، وَقَالَ: {قَالُوا يقومنا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} .
فصل
قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكر} ، وَقَالَ: {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر} ، وَقَالَ: {وَقَالُوا يَأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} ، وَقَالَ: {وَهَذَا ذكر مبارك أَنزَلْنَاهُ}(1/278)
فصل
وَقَالَ: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} ، وَقَالَ: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ ايات بَيِّنَات} ، وَقَالَ: {لقد أنزلنَا ايات مبينات} ، وَقَالَ: {وَلَقَد أنزلنَا إِلَيْك آيَات بَيِّنَات} ، وَقَالَ: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} ، وَقَالَ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أعلم بِمَا ينزل}
فصل
وَقَالَ {سُورَة أنزلناها} ، وَقَالَ: {فإِذا أنزلت سُورَة محكمَة} وَقَالَ: {وإِذا أنزلت سُورَة أَن آمنُوا بِاللَّه} ، وَقَالَ: {وإِذا مَا أنزلت سُورَة فَمنهمْ من يَقُول} ، وَقَالَ: {وإِذا مَا أنزلت سُورَة نظر بَعضهم إِلَى بعض} .(1/279)
فصل
وَقَالَ: {وأنزلنا إِلَيْكُم نورا مُبينًا} ، وَقَالَ: {النُّور الَّذِي أنزلنَا} .
فصل
وَقَالَ: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حكما عَرَبيا} .
فصل
فِي ذكر ابْتِدَاء الْوَحْي وَصفته وَأَنه أنزل عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَله أَرْبَعُونَ سنة
108 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِبَغْدَادَ، نَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، أَنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، أَنا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ نَا يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ، نَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، نَا هِشَامٌ، نَا عِكْرِمَةُ ح قَالَ هِبَةُ اللَّهِ: وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْفَارِسِيُّ، أَنا أَبُو مَرْوَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شَاذَانَ الْجَلابُ بِمَكَّةَ، نَا(1/280)
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّايِغُ، نَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، نَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " بعث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً ".
109 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ، أَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: قُرِئَ عَلَى يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى، أَنا ابْنُ وَهْبٍ أَنَّ مَالِكًا حَدَّثَهُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ: كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّ عَلَيَّ فَيَفْصِمُ عَنِّي، وَقَدْ وَعَيْتُ (عَنْهُ) ، قَالَ: وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ إِلَيَّ الْمَلَكُ رَجُلا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا ".
قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: " الْحَدِيثَانِ فِي صَحِيحِ البُخَارِيّ ".(1/281)
110 - أخبرنَا مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب الْمَدِينِيّ، أَنا عَليّ بن يحيى ابْن جَعْفَر بن عبد كويه، نَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ، نَا الْحَسَنُ بْنُ الْعَبَّاسِ الرَّازِيُّ، نَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُرَيْجٍ، نَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ لِلسَّمَاءِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا، فَيُصْعَقُونَ فَلا يَزَالُونَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَإِذَا جَاءَهُمْ جِبْرِيلُ فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، فَيَقُولُونَ يَا جِبْرِيلُ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ فَيَقُولُ: الْحَقُّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ".
111 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، نَا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ، نَا هَاشِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الرِّبْعِيُّ، نَا عَنْبَسَةُ بْنُ خَالِدٍ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ لِذَلِكَ صَلْصَلَةً كَصَلْصَلَةِ الْحَدِيدِ عَلَى الصَّفَا فَيُصْعَقُونَ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا: الْحَقُّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير ".(1/282)
فَصْلُ
الْقُرْآنُ كَلامُ اللَّهِ الْمُنَزَّلُ
112 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، أَنا أَبُو الْحُسَيْن ابْن عبد كويه، نَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاس الْمُؤَدب، نَا شُرَيْح ابْن النُّعْمَانِ الْجَوْهَرِيُّ، نَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ نِيَارِ بْنِ مُكْرَمٍ الأَسْلَمِيِّ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ الم غُلِبَتِ الرُّومُ، خَرَجَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَقَالُوا: هَذَا كَلامُ صَاحِبِكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ هَذَا ".
113 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ كَيْسَانَ الْمِصِّيصِيُّ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ (ح) قَالَ سُلَيْمَانُ: وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْخُزَاعِيُّ الأَصْفَهَانِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ الْعَبْدِيُّ، قَالا: نَا شَرِيكٌ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الثَّقَفِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " كَانَ(1/283)
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوْقِفِ، فَقَالَ: أَلا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلامَ رَبِّي (عَزَّ وَجَلَّ) ".
114 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، نَا هَارُونُ بْنُ كَامِلٍ الْمِصْرِيُّ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، نَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عتبَة ابْن مَسْعُودٍ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنَ الْحَدِيثِ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى ".
فصل
ذكره بعض الْأَئِمَّة الحنبلية
قَالَ: كَلَام اللَّه تَعَالَى مدرك مسموع بحاسة الْأذن، فَتَارَة يسمع من اللَّه تَعَالَى، وَتارَة يسمع من التَّالِي، فَالَّذِي يسمعهُ من اللَّه تَعَالَى من يتَوَلَّى خطابه بِنَفسِهِ بِلَا وَاسِطَة، وَلَا ترجمان كمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين كَلمه لَيْلَة الْمِعْرَاج، ومُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى جبل الطّور، وَمن عدا ذَلِك، فإِنما يسمع كَلَام اللَّه تَعَالَى عَلَى(1/284)
الْحَقِيقَة من التَّالِي خلافًا لأَصْحَاب الْأَشْعَرِيّ فِي قَوْلهم يسمعهُ من اللَّه عِنْد تِلَاوَة التَّالِي، فعلى قَوْلهم، يسمع شَيْئَيْنِ أَحدهمَا: قِرَاءَة الْقَارئ وَهِي محدثة عِنْدهم، وَالثَّانِي كَلَام اللَّه الْقَدِيم: دليلنا: مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
115 - قَالَ: " من أحب أَن يسمع الْقُرْآن غضا كَمَا أنزل، فليسمعه من ابْن مَسْعُود " فَأخْبرنَا أَن سَمَاعه من الْقَارئ، وَهُوَ ابْن مَسْعُود (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ، وَعِنْدهم سَمَاعه من اللَّه تَعَالَى، وَلَو كُنَّا سَامِعين من اللَّه تَعَالَى لَكَانَ هُوَ الْمُتَوَلِي لخطابنا بِنَفسِهِ، وَلَو كَانَ هُوَ الْمُتَوَلِي لبطلت الرسَالَة جملَة وَاسْتغْنى الْخَالِق بِسَمَاع كَلَامه عَن الرَّسُول
، وَلَو كُنَّا سَامِعين من اللَّه تَعَالَى لَكَانَ الْكل كليم الْجَبَّار، وَلم يخْتَص مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - بذلك، وَلَو كُنَّا(1/285)
سَامِعين من اللَّه تَعَالَى لكَانَتْ مُطَالبَة الرُّسُل بإِظهار المعجزات تعنتا لَهُم، لأَنا قد علمنَا صدقهم ضَرُورَة، وَلِأَن كل سامع إِذَا رَجَعَ إِلَى نَفسه علم أَن مَا يفهمهُ بِالسَّمَاعِ إِنما هُوَ من جِهَة التَّالِي لَا غَيره، وَهَذَا أَمر لَا يُنكره أحد من الْعلمَاء، ولأنا لَو كُنَّا سَامِعين لشيئين أَحدهمَا كَلَام اللَّه، وَالثَّانِي قِرَاءَة الْقَارئ لوقع الْفرق بَين كَلَام اللَّه وَبَين قراءتنا، كَمَا يَقع لنا الْفرق بَين صَوت البوق وَبَين صَوت المزمار، ولأنا إِذَا رَجعْنَا إِلَى أَنْفُسنَا علمنَا ضَرُورَة أَنا لَا نسْمع إِلا شَيْئا وَاحِدًا، وَهُوَ قِرَاءَة الْقُرْآن، فَثَبت أَنه هُوَ المسموع لَا غَيره.
فصل
أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا وَالِدِي، أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ: " ذكر الْآي المتلوة، وَالْأَخْبَار المأثورة الَّتِي تدل عَلَى أَن الْقُرْآن نزل من عِنْد ذِي الْعَرْش الْعَظِيم على قلب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآن لتشقى} وَقَالَ: {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْك} ، وَقَالَ: {المص كتاب أنزل إِلَيْك} .(1/286)
116 - أخبرنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ، أَنا أَحْمَدُ بْنُ أَزْهَرَ بْنِ مَنِيعٍ، نَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، قَالَ (أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) ، وَأَنا أَبُو عُثْمَانَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، نَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ الْهَمْذَانِيُّ، نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَصْرٍ، نَا أَبُو نُعَيْمٍ الْمُلائِيُّ، قَالُوا: نَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِجِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: " مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكثر مَا تَزُورنَا " فَنزلت: {مَا نَتَنَزَّل إِلَّا بِأَمْر رَبك} .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجَوَّانُ بِمَكَّةَ، نَا عَلِيُّ ابْن عَبْدِ الْعَزِيزِ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيُّ، نَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ دَاوُدَ ابْن أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " نَزَلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي رَمَضَانَ فَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْدِثَ شَيْئًا أَحْدَثَهُ بِالْوَحْيِ ".
قَالَ: وَأَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ، أَنا أَحْمَدُ بْنُ الأَزْهَرِ، نَا رَوْحٌ، نَا حَمَّادٌ يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " أُنْزِلَ الْقُرْآنُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً وَاحِدَةً فَجَعَلَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ينزل بِهِ على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عشْرين سنة ".(1/287)
فصل
يدل عَلَى أَن اللَّه تَعَالَى إِذَا أَرَادَ أَن يحدث أمرا سَمعه حَملَة الْعَرْش ثُمَّ يسمعهُ أهل كل سَمَاء حَتَّى يبلغ الْخَبَر أهل السَّمَاء الدُّنْيَا
قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ ربكُم قَالُوا الْحق} .
117 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ أَنا وَالِدِي، وَأَنا خَيْثَمَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ قَالا: نَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَزْيَدٍ أَخْبَرَنِي أَبِي، نَا الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: حَدَّثَنِي رِجَالٌ مِنْ الأَنْصَارِ أَنَّهُمْ بَيْنَمَا هُمْ جُلُوسٌ لَيْلَةً مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذْ رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ رُمِيَ بِمِثْلِ هَذَا " قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ كُنَّا نَقُولُ: " وُلِدَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، وَمَاتَ اللَّيْلَةَ رجل عَظِيم ". فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّهَا لَمْ تُرْمَ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنْ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ إِذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَتْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَهُ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَقُولُ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ؟ فَيَسْتَخْبِرُ أَهْلُ السَّمَوَاتِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغَ الْخَبَرُ أَهْلَ السَّمَاء الدُّنْيَا(1/288)
فَيَخْطَفُهُ الْجِنُّ فَيُلْقُونَهُ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ وَيُرْمَوْنَ فَمَا جاؤوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ الْحَقُّ وَلَكِنَّهُمْ يَقْرِفُونَ فِيهِ وَيَزِيدُونَ ".
فَصْلٌ
فِي بَيَانِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُكَلِّمُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
118 - أخبرنَا مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب أَنا الْحسن بن عبد كويه أَنا الطَّبَرَانِيُّ عُبَيْدُ بْنُ غَنَّامٍ، نَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ وَوَكِيعٌ قَالا: نَا الأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ ".
فَصْلٌ
فِي بَيَانِ كَلامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ
119 - أخبرنَا مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب، نَا عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى، نَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، نَا سَعْدَةُ بْنُ سَعْدٍ الْعَطَّارُ، نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ،(1/289)
نَا مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرٍ الأَنْصَارِيُّ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ خِرَاشِ بْنِ الصِّمَّةِ الأَنْصَارِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قَالَ: قَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَلا أُبَشِّرُكَ يَا جَابِرُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا، فَقَالَ لَهُ عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ، فَقَالَ: تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فَأُقَاتِلَ فِي سَبِيلِكَ فَأُقْتَلُ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: إِنِّي قَضَيْتُ أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يَرْجِعُونَ ".
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: كفاحا أَي مُقَابلَة. قَالَ صَاحب الغربيين: كفاحا أَي مُوَاجهَة، لَيْسَ بَينه الْحجاب.
120 - وَرُوِيَ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لحسان: " لَا تزَال مؤيدا بِروح الْقُدس مَا كافحت عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ". المكافحة الْمُضَاربَة تِلْقَاء الْوَجْه وَفِي رِوَايَة: " مَا نافحت ". قيل: المنافحة الْمُضَاربَة بِالسَّيْفِ من بعيد ".(1/290)
فصل
فِي إِثبات النداء صفة لله عَزَّ وَجَلَّ
قَالَ اللَّه تَعَالَى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي من شاطئ الْوَادي الْأَيْمن} وَقَالَ: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} ، وَقَالَ فِي سُورَة طه: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنا رَبك} .
121 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمد بن إِسْحَاق ابْن أَيُّوبَ، نَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ، نَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ ح قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَرْوَانَ، نَا أَحْمَدُ بْنُ عَليّ ابْن سَعِيدٍ، نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي اللَّيْثِ قَالا: نَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ عَبْدِي فَلانًا فَأَحِبُّوهُ، قَالَ: فَيُنَوِّهُ بِهَا جِبْرِيلُ فِي حَمَلَةِ الْعَرْشِ فَيَسْمَعُ أَهْلُ السَّمَاءِ لَغَطَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ فَيُحِبهُ أهل السَّمَاء السَّابِعَة ثمَّ سَمَّاهُ سَمَاءً حَتَّى يَنْزِلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا،(1/291)
فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَهْبِطُ إِلَى الأَرْضِ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ الأَرْضِ، قَالَ: وَالْبُغْضُ مِثْلُ ذَلِكَ ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَفْظُ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي لَيْثٍ.
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: نَوَّهَ بِذِكْرِهِ، إِذَا رَفَعَهُ، وَاللَّغَطُ: الصِّيَاحُ.
فَصْلُ
122 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّد بن يَعْقُوب ابْن يُوسُفَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ ح قَالَ أَبُو عبد الله وَأَنا أَحْمد ابْن عُبَيْدٍ الْحِمْصِيُّ، نَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الْقَاضِي الْحِمْصِيُّ، قَالا: نَا أَبُو بَكْرِ ابْن أَبِي النَّضْرِ، نَا عُبَيْدُ اللَّهِ الأَشْجَعِيُّ، نَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عُبَيْدٍ الْمُكْتِبِ عَنْ فُضَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الْفُقَيْمِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " كُنَّا عِنْد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَضَحِكَ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مِمَّا أَضْحَكُ؟ قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، يَقُولُ: يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ، قَالَ: يَقُولُ: بَلَى، قَالَ: فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلا شَاهِدًا مِنِّي، قَالَ: فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا، وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ عَلَيْكَ شُهُودًا، قَالَ: فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، وَيُقَالُ لأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ قَالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلامِ قَالَ، فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا، عَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ ".(1/292)
الْمُنَاضَلَةُ الْمُرَامَاةُ أَيْ إِنَّمَا كُنْتُ أَدْفَعُ عَنْكُنَّ مُخَالفَة أَن أقرّ فليحقكن الْعُقُوبَةُ.
123 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا الْحُسَيْنُ بْنُ جَعْفَرٍ الزَّيَّاتُ بِمِصْرَ، نَا يُوسُفُ بْنُ يَزِيدَ، نَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، نَا حَمَّاد بن سَلمَة، عَن إِسْحَاق ابْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ أَلَمْ أَحْمِلْكَ عَلَى الْخَيْلِ وَالإِبِلِ وَأُزَوِّجْكَ النِّسَاءَ وَجَعَلْتُكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ قَالَ: فَيَقُولُ: بَلَى، قَالَ: فَيَقُولُ اللَّهُ: فَأَيْنَ شُكْرُ ذَلِكَ؟ ".
قَوْلُهُ تَرْبَعُ أَيْ تَأْخُذُ رُبُعَ الْغَنِيمَةِ وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْخُذُ الرَّئِيسُ مِنْهُمْ رُبُعَ الْغَنِيمَةِ خَالِصَةً لَهُ دُونَ أَصْحَابِهِ وَتَرْأَسُ مِنَ الرِّئَاسَةِ.
124 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ، نَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَخْبَرَنَا خَيْثَمَةَ وَأحمد بن مُحَمَّد ابْن زِيَادٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الأَزْهَرِ قَالُوا: نَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالا: نَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَرْسَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَلَكَ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلامُ -، فَلَمَّا جَاءَهُ فَقَأَ عينه، فَرجع إِلَى ربه فَقَالَ لَهُ: أَرْسلنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ، قَالَ: فَرَدَّ اللَّهُ عَيْنَهُ فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ لِيَضَعْ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ مَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعَرَةٍ سَنَةٌ، قَالَ: أَيْ رَبِّ ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ قَالَ: فَالآنَ: فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ(1/293)
يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَو كُنْتُ ثَمَّ لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ بِجَنْبِ الطَّرِيقِ تَحْتَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ ".
قَوْلُهُ: رَمْيَةً بِحَجَرٍ أَيْ: بِمِقْدَارِ رَمْيَةٍ بِحَجَرٍ أَرَادَ أَنْ يُدْفَنَ هُنَاكَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَوْلُهُ فَقَأَ عَيْنَهُ مِمَّا سَكَتَ عَنْهُ رُوَاةُ الآثَارِ وَرَوَوْا هَذَا الْحَدِيثَ على التَّصْحِيح.(1/294)
فصل
فِي وجوب طَاعَة اللَّه
أَخْبَرَنَا أَبُو الفضايل بْن يُونُس، أَنا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الْعَطَّار، نَا أَبُو الْفضل الْعَبَّاس بْن إِبْرَاهِيمَ، نَا أَبُو عَبْد اللَّهِ الصالحاني، نَا مُحَمَّد بْن يُوسُف الْبَنَّا قَالَ: (وَاعْلَم أَن السّنة الِاتِّبَاع، وَهُوَ اتِّبَاع طَاعَة اللَّه وَاتِّبَاع أهل طَاعَة اللَّه، فاتباع طَاعَة اللَّه: اتِّبَاع أَمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَنَهْيه، وَأوجب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي طَاعَته، طَاعَة المطيعين لَهُ وهم الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي كل زمَان، آدم - عَلَيْهِ السَّلَام - فَمن بعده إِلَى النَّبِيّ مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَكَانُوا الدعاة إِلَى اللَّه، والأدلاء عَلَى طَاعَته، يبشر الأول الآخر، وَيصدق الآخر الأول. كل نَبِي يَدْعُو إِلَى مَا أَمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهِ وَشرع لَهُ، فافترض اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْعباد طاعتهم وَجعل حجَّته عَلَى عبَادَة حَتَّى كَانَ آخِرهم مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فافترض اللَّه عَلَى الْعباد طَاعَته فَقَالَ عَزَّ وَجل: {مُحَمَّد رَسُول الله} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطَاع الله} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} ، وَقَالَ(1/295)
عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُم الْخيرَة من أَمرهم} مَعَ آيَات كَثِيرَة فَبلغ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رسالات ربه وَبَالغ فِي النَّصِيحَة حَتَّى توفاه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، فندبنا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَى طَاعَة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَطَاعَة الْعلمَاء من بعده فَوَجَبَ عَلَى الْعباد طَاعَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَمْر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَوَجَب عَلَى الْعباد طَاعَة الْعلمَاء الَّذين أَمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بطاعتهم فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} وَأولُوا الْأَمر هم أولُوا الْعلم وَأولُوا الْخَيْر وَالْفضل الَّذين دلّ عَلَيْهِم رَسُول الله
فأفضل الْعلمَاء بعد رَسُول الله
أَصْحَاب رَسُول الله
، وَأفضل أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبُو بكر الصّديق، ثُمَّ عمر بْن الْخطاب، ثمَّ عُثْمَان ابْن عَفَّان، ثُمَّ عَليّ بْن أَبِي طَالب - رَضِي الله عَنهُ -، ثمَّ الأكابر، فَلم يخرج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الدُّنْيَا حَتَّى أَشَارَ إِلَى من أَشَارَ من أَصْحَابه وَأمر الْأمة بطاعتهم.
125 - فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اقتدوا بالذين من بعدِي أَبِي بكر وَعمر ".
126 - وَقَالَ لمن قَالَ: إِن جِئْت فَلم أرك فَإلَى من؟ فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فإِلى أَبِي بكر ".
127 - وَقَالَ: " ليصل بكم أَبُو بكر ".(1/296)
128 - وَقَالَ: " ملك ينْطق عَلَى لِسَان عمر ".
129 - وَقَالَ: " الْحق مَعَ عمر ".
130 - وَقَالَ لعُثْمَان: " وَهَذَا يَوْمئِذٍ عَلَى الْحق ".
131 - وَقَالَ: " عَليّ مَعَ الْحق وَالْحق مَعَه ".
132 - وَقَالَ: " أَبُو عُبَيْدَة أَمِين هَذِه الْأمة ".(1/297)
133 - وَقَالَ: " طَلْحَة وَالزُّبَيْر حواريي ".
134 - وَقَالَ: " معَاذ بْن جبل إِمام الْعلمَاء يَوْم الْقِيَامَة ".
135 - وَقَالَ: " زيد أفرضكم ".
136 - وَقَالَ: " اهتدوا بِهَدي ابْن أم عبد ". وَذكر لكل من الْفَضِيلَة مَا ذكر لسلمان وعمار وَحُذَيْفَة وَأبي ذَر وَأبي الدَّرْدَاء وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر.
137 - رَضِي اللَّه عَنْهُم، ثُمَّ عمهم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ ".
138 - وَقَالَ لِمعَاذ: " بِمَا تقضي؟ " قَالَ: بِكِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: " فَإِن جَاءَك مَا لَيْسَ فِي كتاب اللَّه قَالَ بِسنة رَسُول اللَّه، قَالَ: فَإِن جَاءَك(1/298)
مَا لَيْسَ فِي كتاب اللَّه وَلَا سنة رَسُول اللَّه؟ فَقَالَ: بِمَا قضى بِهِ الصالحون ثمَّ قَالَ بعد أجتهد وأشاور ".
فَالَّذِينَ بلغو الْأمة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَصْحَابه الَّذين أَشَارَ إِليهم وَأمر الْأمة بطاعتهم، وَلم يمت كَبِير أحد من أَصْحَاب النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى أَشَارَ إِلَى من بعده من أَصْحَابه يُشِير بَعضهم إِلَى بعض، مثل ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَابْن الزبير وَنَحْوهم، وَمثل أكَابِر التَّابِعين مثل سعيد بْن الْمسيب وعلقمة وَالْأسود ومسروق ونظرائهم، (و) مثل طَاوس وَمُجاهد وَعَطَاء، وَالشعْبِيّ، وَالْحسن وَابْن سِيرِين، ونظرائهم، وَيُشِير النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى أَصْحَابه - رَضِي اللَّه عَنْهُم - وَأَصْحَابه إِلَى التَّابِعين رَحِمهم اللَّه، وَالتَّابِعِينَ إِلَى تَابِعِيّ التَّابِعين، كَذَلِك يُشِير الأول إِلَى الآخر وينتحل الآخر الأول لَا يزَال كَذَلِك حَتَّى تقوم السَّاعَة، وَفِي الحَدِيث: " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي عَلَى الْحق ظَاهِرين لَا يضرهم من خالفهم " فيشير الأول إِلَى الآخر وينتحل الأول من لدن آدم - عَلَيْهِ السَّلَام - إِلَى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.(1/299)
ثمَّ أَشَارَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى أَصْحَابه، وَأَصْحَابه إِلَى التَّابِعين والتابعون إِلَى من بعدهمْ حَتَّى بلغ دَهْرنَا هَذَا، وَكَذَلِكَ حَتَّى يبلغ السَّاعَة يُشِير الأول إِلَى الآخر وينتحل الآخر الأول وَيصدق بَعضهم بَعْضًا دينا قيمًا ظَاهرا، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّين كُله} .
فأظهر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ دينه بهم فِي كل زمَان ينْقل بَعضهم عَن بعض مثل أَحْمَد بْن حَنْبَل عَن يَحْيَى بْن سعيد عَن أَيُّوب عَنِ ابْن سِيرِين عَنِ ابْن عمر - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَمثل وَكِيع عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عَبْد اللَّهِ - رَضِيَ الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَمثل مَالك عَنِ الزُّهْرِيّ عَن سعيد بْن الْمسيب عَن زيد بْن ثَابت عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَمثل سُفْيَان بْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بْن دِينَار عَنِ ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، كل هَؤُلَاءِ فِي زمانهم ونظرائهم فِي زمانهم قد أَشَارَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الأول مِنْهُم وَأَشَارَ إِلَى الآخر مِنْهُم لَا يزالون كَذَلِك إِلَى آخر الْأَمر فَمن أَخذ عَن هَؤُلَاءِ الْعِصَابَة فِي كل زمَان، وَعمل بِمَا أمروا (وَلَزِمَه) فقد لزم السّنة إِن شَاءَ اللَّه.
فصل
فِي ذكر مَجِيء جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - بِالْوَحْي وَمَا يلقاه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الشدَّة عِنْد تَنْزِيل الْقُرْآن(1/300)
قَالَ اللَّه تبَارك وَتَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لسَانك لتعجل بِهِ إِن علينا جمعه وقرآنه، وَقَالَ: (وَلَا تعجل بِالْقُرْآنِ من قبل أَن يقْضى إِلَيْك وحيه} ، وَقَالَ: {ورتل الْقُرْآن ترتيلا} .
139 - وَقَالَ: {سنقرئك فَلَا تنسى} .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّد ابْن عِيسَى، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَان، نَا زيد بن عَوْف، نَا أَبَا عوَانَة عَن مُوسَى ابْن أَبِي عَائِشَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ: {لَا تحرّك بِهِ لسَانك لتعجل بِهِ} قَالَ؛ كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، فَكَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَا أحركهما لَك كَمَا رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُحَرِّكُهُمَا، قَالَ سَعِيدٌ: وَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُحَرِّكُهَا، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لسَانك لتعجل بِهِ إِن علينا جمعه وقرانه} . قَالَ: نجمعه فِي صدرك ثمَّ تَقْرَأهُ: {فَإِذا قرأناه فَاتبع قرانه} قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانه} ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَقَرَأَهُ، قَالَ: فَكَانَ رَسُول(1/301)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قَرَأَهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا أَقْرَأَهُ.
140 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، أَنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، نَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، نَا أَبُو دَاوُدَ، نَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا تحرّك بِهِ لسَانك لتعجل بِهِ} قَالَ: كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً فَكَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لسَانك لتعجل بِهِ إِن علينا جمعه وقرانه} . قَالَ: نجمعه فِي قَلْبك ثمَّ تَقْرَأهُ {فَإِذا قرأناه فَاتبع قرانه} يَقُولُ: اسْتَمِعْ وَأَنْصِتْ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} قَالَ: فَكَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قَرَأَهُ كَمَا أَقْرَأَهُ. رَوَاهُ مُوسَى بْنُ أَبِي عايشة جَمَاعَة، وَعَنْ أَبِي عَوَانَةَ جَمَاعَة.(1/302)
فصل
فِي بَيَان أَن الْقُرْآن وَحي من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ جَاءَ بِهِ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ اللَّه تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحى علمه شَدِيد القوى} ، وَقَالَ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} ، وَقَالَ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيْك قُرْآنًا عَرَبيا} ، وَقَالَ: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ من الْجِنّ} وَقَالَ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَينَا إِلَيْك هَذَا الْقُرْآن} ، وَقَالَ: {وَلَا تعجل بِالْقُرْآنِ من قبل إِن يقْضى إِلَيْك وحيه} ، وَقَالَ: {وأوحي إِلَيّ هَذَا الْقُرْآن لأنذركم بِهِ وَمن بلغ} ، وَقَالَ: {قل إِنَّمَا أنذركم بِالْوَحْي} ، وَقَالَ: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ، وَقَالَ: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} ، وَقَالَ: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ(1/303)
إِلَيّ} ، وَقَالَ: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ من رَبِّي} ، وَقَالَ: {لتتلو عَلَيْهِم الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك} وَقَالَ: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَة} ، وَقَالَ: {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} ، وَقَالَ: {فَاسْتَمْسك بِالَّذِي أُوحِي إِلَيْك} ، وَقَالَ: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْك} ، وَقَالَ: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} ، وَقَالَ: {اتل مَا أُوحِي إِلَيْك من كتاب رَبك} ، وَقَالَ: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحق} .
فصل
فِي النَّهْي عَنِ الْخُصُومَات فِي الدّين ومجانبة أهل الْخُصُومَات
أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عبد الْغفار بْن أشتة، أَنا أَبُو مَنْصُور، مَعْمَر، نَا عبد الله ابْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر، نَا ابْن الطهراني، نَا أَحْمَد بْن سِنَان، نَا ابْن مهْدي قَالَ: سَمِعت(1/304)
سُفْيَان الثَّوْريّ قَالَ: " كَانَ يُقَال: من جعل دينه غَرضا للخصومات أَكثر التنقل ". قَالَ: وَأَنا عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر نَا مُحَمَّد بْن عَبَّاس، نَا مُحَمَّد بْن الْمثنى، نَا حَمَّاد بْن مسْعدَة عَن عمرَان بْن مُسلم قَالَ: كَانَ الْحسن يَقُول: " إِياكم والمنازعة، إِياكم وَالْخُصُومَة، يَعْنِي فِي الدّين " وَقَالَ فِي غير هَذَا الحَدِيث: عَنِ الْحسن أَنه قَالَ لرجل: " إِنما يُخَاصم الشاك فِي دينه وَأَنا قد أَبْصرت ديني فَإِن كنت من دينك فِي شكّ فَاذْهَبْ والتمسه.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو بكر أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن يَعْقُوب، نَا أَحْمَد بْن مَنْصُور زاج، نَا أَبُو وهب مُحَمَّد بْن مُزَاحم قَالَ: سَمِعت أخي سهل بْن مُزَاحم يَقُول: مثل الَّذِي يُنَازع فِي الدّين مثل الَّذِي يصعد عَلَى الشّرف إِن سقط هلك وَإِن نجا لم يحمد.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَد بْن أسيد، نَا أَبُو بكر الْأَثْرَم، نَا عِيسَى ابْن مينا الْمَدِينِيّ، نَا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَبِي الزِّنَاد عَن أَبِيه قَالَ: " إِن السّنَن لَا تخاصم وَلَا يَنْبَغِي لَهَا أَن تتبع بِالرَّأْيِ، وَلَو فعل النَّاس ذَلِك لم يمض يَوْم إِلا انتقلوا من(1/305)
دين إِلَى دين، وَلكنه يَنْبَغِي للسنن أَن تلْزم ويتمسك بهَا عَلَى مَا وَافق الرَّأْي أَو خَالفه، ولعمري إِن السّنَن لتأتي كثيرا عَلَى خلاف الرَّأْي ومجانبته خلافًا بَعيدا فَمَا يجد الْمُسلمُونَ بدا من اتباعها، والانقياد لَهَا. ولمثل ذَلِك ورع أهل الْعلم وَالدّين فكفاهم عَن الرَّأْي، ودلهم على غوره وعورته أَنه يَأْتِي الْحق عَلَى خِلَافه فِي وُجُوه غير وَاحِدَة، من ذَلِك: أَن قطع أَصَابِع الْيَد مثل قطع الْيَد من الْمنْكب أَي ذَلِك أُصِيب فَفِيهِ سِتَّة آلَاف. وَمن ذَلِك أَن قطع (أَصَابِع) الرجل فِي قلَّة ضررها مثل قطع الرجل من الورك أَي ذَلِك أُصِيب فَفِيهِ سِتَّة آلَاف، وَمن ذَلِك: أَن فِي الْعَينَيْنِ إِذَا فقئتا مثل مَا فِي قطع أَشْرَاف الْأُذُنَيْنِ فِي قلَّة ضررها أَي ذَلِك أُصِيب فَفِيهِ اثْنَا عشر ألفا، وَمن ذَلِك أَن فِي شجتين موضحتين صغيرتين مائَة دِينَار، وَمَا بَينهمَا صَحِيح فَإِن جرح مَا بَينهمَا حَتَّى يُفْضِي أَحدهمَا إِلَى الآخر كَانَ أعظم للجرح بِكَثِير وَلم يكن فيهمَا إِلا خَمْسُونَ دِينَارا.(1/306)
وَمن ذَاك أَن الْمَرْأَة تقضي الصّيام، وَلَا تقضي الصَّلَاة، وَمن ذَلِك رجلَانِ قطعت أذن أَحدهمَا جَمِيعًا يكون لَهُ اثْنَا عشر ألفا وَقتل الآخر فَذَهَبت أذنَاهُ وَعَيناهُ ويداه وَرجلَاهُ وَذَهَبت نَفسه لَيْسَ لَهُ إِلا اثْنَا عشر ألفا، مثل (مَا) للَّذي لم يصب إِلا أَشْرَاف الْأُذُنَيْنِ فِي أشباه هَذَا غير وَاحِدَة. فَهَل وجد الْمُسلمُونَ بدا من لُزُوم هَذَا وأشباهه مِمَّا أحكمته السّنة والتمسك بِهِ وَالتَّسْلِيم لَهُ، وَأي هَذِه الْوُجُوه يَسْتَقِيم عَلَى الرَّأْي أَو يخرج فِي التفكرة وَلَكِن السّنَن من الإِسلام بِحَيْثُ جعلهَا اللَّه هِيَ ملاك الدّين وقيامه الَّذِي بني عَلَيْهِ الإِسلام، وَأي قَول أجسم وَأعظم خطراً مِمَّا قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حجَّة الْوَدَاع حِين خطب النَّاس فَقَالَ:
141 - " وَقد تركت فِيكُم أَيهَا النَّاس مَا إِن اعتصتم بِهِ فَلَنْ تضلوا أبدا أمرا بَينا كتاب الله وَسنة نَبِيكُم " فقرن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَينهمَا، وَلم يذكر فِي أثر كتاب اللَّه وَسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَيْئا وأيم الله إِن كُنَّا لتلتقط من أهل الْفِقْه والثقة ونتعلمها شَبِيها بتعلمنا آي الْقُرْآن. وَمَا برح من أدركنا من أهل الْفضل وَالْفِقْه من خِيَار أولية النَّاس يعيبون أهل الجدل والتنقيب، ويعيبون الْأَخْذ بِالرَّأْيِ أَشد الْعَيْب وَينْهَوْنَ عَن لقائهم ومجالستهم ويحذرونا مقاربتهم أَشد التحذير، وَيُخْبِرُونَا أَنهم أهل ضلال وتحريف لتأويل كتاب الله وَسنَن رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَا توفى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى كره الْمسَائِل والتنقيب والبحث عَنِ الْأُمُور وزجر عَن ذَلِك وحذر الْمُسلمين فِي غير موطن حَتَّى.(1/307)
142 - كَانَ من قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فِي) كَرَاهِيَة ذَلِك أَن قَالَ: " ذورني مَا تركتكم فإِنما هلك الَّذِي من قبلكُمْ بسؤالهم وَاخْتِلَافهمْ عَلَى أَنْبِيَائهمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَن شَيْء فَاجْتَنبُوهُ، وإِذَا أَمرتكُم بِشَيْء فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم " فَأَي أَمر أكف لمن يعقل عَنِ التنقيب من هَذَا، وَلم يبلغ النَّاس يَوْم قيل لَهُم هَذَا القَوْل من الْكَشْف عَنِ الْأُمُور جُزْءا من مائَة جُزْء مِمَّا بلغُوا الْيَوْم، وَهل هلك أهل الْأَهْوَاء وخالفوا الْحق إِلا بأخذهم بالجدل، والتفكير فِي دينهم فهم كل يَوْم عَلَى دين ضلال وَشبهه جَدِيدَة، لَا يُقِيمُونَ عَلَى دين وَإِن أعجبهم، إِلا نقلهم الجدل والتفكير إِلَى دين سواهُ، وَلَو لزموا السّنَن وَأمر الْمُسلمين وَتركُوا الجدل لقطعوا عَنْهُم الشَّك، وَأخذُوا بِالْأَمر الَّذِي حضهم عَلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ورضيه لَهُم، وَلَكنهُمْ تكلفوا مَا قد كفوا مؤنتة، وحملوا عَلَى عُقُولهمْ من النّظر فِي أَمر اللَّه مَا قصرت عَنهُ عُقُولهمْ، وَحقّ لَهَا أَن تقصر عَنهُ وتحسر دونه، فهنالك تورطوا. وَأَيْنَ مَا أعْطى اللَّه الْعباد من الْعلم فِي قلته وزهادته مِمَّا لم ينالوا؟ قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعلم إِلَّا قَلِيلا} . وَقد قصّ اللَّه مَا عير بِهِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - من أَمر الرجل الَّذِي لقِيه فَقَالَ: {فوجدوا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وعلمناه من لدنا علما} فَكَانَ مَعَه فِي خرقه(1/308)
السَّفِينَة، وَقَتله الْغُلَام، وبنائه الْجِدَار، مَا قد قَالَ اللَّه فِي كِتَابه، فَأنْكر مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - ذَلِك، وجاءه ذَلِك فِي ظَاهر الْأَمر مُنْكرا لَا تعرفه الْقُلُوب، وَلَا يَهْتَدِي لَهُ التفكير، حَتَّى كشف اللَّه ذَلِك لمُوسَى فَعرفهُ. وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ من سنَن الإِسلام وَشَرَائِع الدّين الَّذِي لَا يُوَافق وَلَا تهتدي، لَهُ الْعُقُول، وَلَو كشف النَّاس عَن أُصُولهَا لجاءت وَاضِحَة بَيِّنَة غير مشكلة عَلَى مثل مَا جَاءَ عَلَيْهِ أَمر السَّفِينَة وَأمر الْغُلَام، وَأمر الْجِدَار، فَإِن مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَالَّذي جَاءَ بِهِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام -، يعْتَبر بعضه بِبَعْض وَيُشبه بعضه بَعْضًا. وَمن أَجْهَل وأضل وَأَقل معرفَة بِحَق اللَّه وَرَسُوله، وبنور الإِسلام وبرهانه، مِمَّن قَالَ: لَا أقبل سنة، وَلَا أمرا مضى من أَمر الْمُسلمين حَتَّى يكْشف لَهُ عَيبه وَأعرف أُصُوله وَلم يقل ذَلِك بِلِسَانِهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ رَأْيه وَفعله، وَيَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .
قَالَ: وَحَدَّثَنَا الْحسن بْن مُحَمَّد، نَا ابْن حميد، نَا الحكم بْن بشير عَن عَمْرو بْن قيس قَالَ: قيل للْحكم: مَا اضْطر النَّاس إِلَى هَذِه الْأَهْوَاء؟ قَالَ: الْخُصُومَات. وَقَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة: سَأَلَ رجل ابْن شبْرمَة عَنِ الإِيمان فَلم يجبهُ ثُمَّ تمثل بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ:(1/309)
(إِذَا قلت جدوا فِي الْعِبَادَة واصبروا ... أصروا وَقَالُوا للخصومة أفضل)
(خلافًا لأَصْحَاب النَّبِيّ وبدعة ... وهم بسبيل الْحق أعمى وأجهل)
فصل
فِي الرَّد عَلَى الْجَهْمِية الَّذِي أَنْكَرُوا صِفَات اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَسموا أهل السّنة مشبهة، وَلَيْسَ قَول أهل السّنة أَن لله وَجها ويدين وَسَائِر مَا أخبر اللَّه تَعَالَى بِهِ عَن نَفسه مُوجبا تشبيهه بخلقه
143 - وَلَيْسَ روايتهم حَدِيث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خلق اللَّه آدم عَلَى صورته "(1/310)
بِمُوجبِه نِسْبَة التَّشْبِيه إِليهم، بل كل مَا أخبر اللَّه (بِهِ) عَن نَفسه، وَأخْبر بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهُوَ حق، قَول اللَّه حق، وَقَول رَسُوله حق، وَالله أعلم بِمَا يَقُول وَرَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعلم بِمَا قَالَ، وَإِنَّمَا علينا الإِيمان وَالتَّسْلِيم وحسبا اللَّه وَنعم الْوَكِيل.
فصل
قَالَ بعض عُلَمَاء أهل السّنة وَيجب الإِيمان بِصِفَات اللَّه تَعَالَى كَقَوْلِه عَزَّ وَجَلَّ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، وَقَوله: {لما خلقت بيَدي}(1/311)
وَقَوله: {تجْرِي بأعيننا} وَقَوله: {أَن غضب الله عَلَيْهَا} ، وَقَوله: {رَضِي الله عَنْهُم} .
144 - وَقَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ينزل اللَّه كل لَيْلَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا ". رَوَاهُ ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ من الصَّحَابَة، سَبْعَة عشر رجلا وست نسَاء.
145 - وَكَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا من قلب إِلا وَهُوَ بَين أصبعين من أَصَابِع الرَّحْمَن ".
فَهَذَا وَأَمْثَاله مِمَّا صَحَّ نَقله عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِن مَذْهَبنَا فِيهِ وَمذهب السّلف إِثباته وإِجراؤه عَلَى الظَّاهِر وَنفي الْكَيْفِيَّة والتشبيه عَنهُ، وَقد نفى قوم الصِّفَات فأبطلوا مَا أثْبته اللَّه تَعَالَى، وتأولها قوم خلاف الظَّاهِر فَخَرجُوا من ذَلِك إِلَى ضرب من التعطيل والتشبيه، وَالْقَصْد إِنما هُوَ سلوك الطَّرِيقَة المتوسطة بَين الْأَمريْنِ، لأَنَّ دين اللَّه تَعَالَى بَين الغالي والمقصر عَنهُ.(1/312)
وَالْأَصْل فِي هَذَا أَن الْكَلَام فِي الصِّفَات فرع عَلَى الْكَلَام فِي الذَّات، وإِثبات اللَّه تَعَالَى إِنما هُوَ إِثبات وجود لَا إِثبات كَيْفيَّة، فَكَذَلِك إِثبات صِفَاته إِنما هُوَ إِثبات وجود لَا إِثبات كَيْفيَّة، فَإِذَا قُلْنَا يَد، وَسمع، وبصر، وَنَحْوهَا، فإِنما هِيَ صِفَات أثبتها اللَّه لنَفسِهِ وَلم يقل معنى الْيَد الْقُوَّة، وَلَا معنى السّمع وَالْبَصَر: الْعلم والإِدراك، وَلَا نشبهها بِالْأَيْدِي والأسماع والأبصار، ونقول إِنما وَجب إِثباتها لِأَن الشَّرْع ورد بهَا، وَوَجَب نفي التَّشْبِيه عَنْهَا لقَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} ، كَذَلِك قَالَ عُلَمَاء السّلف فِي أَخْبَار الصِّفَات: أمروها كَمَا جَاءَت. فَإِن قيل فَكيف يَصح الإِيمان بِمَا لَا يُحِيط علمنَا بحقيقته؟ أَو كَيفَ يتعاطى وصف شَيْء لَا دَرك لَهُ فِي عقولنا؟
فَالْجَوَاب أَن إِيماننا صَحِيح بِحَق مَا كلفنا مِنْهَا، وَعلمنَا مُحِيط بِالْأَمر الَّذِي ألزمناه فِيهَا وَإِن لم نَعْرِف لما تحتهَا حَقِيقَة كَافِيَة، كَمَا قد أمرنَا أَن نؤمن بملائكة اللَّه وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر، وَالْجنَّة، وَنَعِيمهَا، وَالنَّار أَلِيم عَذَابهَا، وَمَعْلُوم أَنا لَا نحيط علما بِكُل شَيْء مِنْهَا عَلَى التَّفْصِيل، وَإِنَّمَا كلفنا الإِيمان بهَا جملَة وَاحِدَة، أَلا ترى أَنا لَا نَعْرِف أَسمَاء عدَّة من الْأَنْبِيَاء وَكثير من الْمَلَائِكَة، وَلَا يمكننا أَن نحصي عَددهمْ، وَلَا أَن نحيط بصفاتهم، وَلَا نعلم خَواص معانيهم، ثُمَّ لم يكن ذَلِك قادحا فِي إِيماننا (بِمَا) أمرنَا أَن نؤمن بِهِ من أَمرهم.(1/313)
146 - وَقد قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي صفة الْجنَّة: " يَقُول اللَّه تَعَالَى: أَعدَدْت لعبادي الصَّالِحين مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا خطر عَلَى قلب بشر ".
فصل
يدل عَلَى النّظر من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَى عَبده وإِعراضه عَنهُ
147 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّرِيِّ قَالا: نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ، نَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله
: " ثَلاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، رَجُلٌ عِنْدَهُ فَضْلُ مَاءٍ مَنَعَهُ مِنَ ابْنِ السَّبِيلِ وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ كَاذِبًا فَصَدَّقَهُ وَاشْتَرَاهَا، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلا لِلدُّنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ وَفَّى، وَإِنْ لم يُعْطه لم يَفِ لَهُ ".
148 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بن زِيَاد وَأحمد ابْن مُحَمَّدِ بْنِ السَّرِيِّ قَالا: نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ نَا وَكِيعٌ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ثَلاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ(1/314)
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ ". وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ثَلاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ " فَذَكَرَ نَحْوَ مَعْنَاهُ.
149 - قَالَ: وَأَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُف، نَا الْحسن ابْن عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ الَّذِي يَجُرُّ ثَوْبَهُ مِنَ الْخُيَلاءِ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".
150 - قَالَ: أخبرنَا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ، نَا أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ يَحْيَى، نَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ح) وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَعْقُوبَ الْبَغْدَادِيُّ بِمِصْرَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ رِبْحِ بْنِ حَمَّادٍ، نَا يَزِيدُ ابْن هَارُونَ، قَالا: نَا كَهْمَسُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - سَأَلَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الإِحْسَانِ فَقَالَ: " أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ".(1/315)
151 - قَالَ: أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحسن، نَا أَحْمد ابْن يُوسُفَ، أَنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِمَنْ كَانَ قَبْلَنَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَطَيَّبَهَا لَنَا ".
فَصْلٌ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ وَكَلامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ
152 - أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي كِتَابِهِ، أَنا إِسْمَاعِيلُ الصَّابُونِيُّ، أَنا أَبُو طَاهِرِ بْنُ خُزَيْمَةَ، نَا أَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ صَاحِبُ اللُّؤْلُؤِ (عَنِ ابْنِ أبي الزِّنَاد) عَن الزِّنَاد عَن عُرْوَة ابْن الزُّبَيْرِ عَنْ نِيَارِ بْنِ مُكْرَمٍ الأَسْلَمِيِّ صَاحِبِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أدنى الأَرْض} إِلَى آخر الْآيَتَيْنِ خرج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَجَعَلَ يَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غلبهم سيغلبون فِي بضع سِنِين} فَقَالَ رُؤَسَاءُ مُشْرِكِي مَكَّةَ: يَا ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ هَذَا مِمَّا أَتَى بِهِ صَاحِبُكَ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَلَكِنَّهُ كَلامُ اللَّهِ وَقَوْلُهُ قَالُوا فَهَذَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ: إِنْ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ فَتَعَالَ نُنَاحِبُكَ يُرِيدُونَ نراهنك وَذَلِكَ قبل أَن تنزل فِي الرِّهَان مَا نزل فراهتوا(1/316)
أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَوَضَعُوا رِهَانَهُمْ عَلَى يَدَيْ فُلانِ بْنِ فُلانٍ ثُمَّ بَكَّرُوا فَقَالُوا يَا أَبَا بَكْرٍ الْبِضْعُ مَا بَيْنَ الثَّلاثِ إِلَى التِّسْعِ فَاقْطَعْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ شَيْئًا نَنْتَهِي إِلَيْهِ.
قَالَ أهل السّنة: التِّلَاوَة الَّتِي تظهر عِنْد حركات الْفَم هِيَ المتلو وَالْقِرَاءَة هِيَ المقروء، وَقَالَت الأشعرية: التِّلَاوَة غير المتلو وَالْقِرَاءَة غير المقروء، فَإِن التِّلَاوَة وَالْقِرَاءَة مخلوقة، وَعِنْدهم: الْقُرْآن عبارَة عَنِ الْحُرُوف، والأصوات والسور والآيات وَلَيْسَ هَذَا بقديم عِنْدهم، وَاسْتدلَّ أهل السّنة بقوله تَعَالَى إِخبارا عَن قُرَيْش: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَول الْبشر سأصليه سقر} فتوعد بالنَّار عَلَى قَوْلهم هَذَا قَول الْبشر، وَمَعْلُوم أَن قُريْشًا أشارت بِهَذَا القَوْل إِلَى التلاوات الَّتِي سمعوها من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمن أَصْحَابه، فَدلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيست قَول الْبشر، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن جَابر - رَضِيَ الله عَنهُ -:
153 -: قَالَ: كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يعرض نَفسه عَلَى النَّاس بالموقف فَيَقُول: " هَل رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَن أبلغ كَلَام رَبِّي ". وَعِنْدهم لم يكن مبلغا لكَلَام ربه وَإِنَّمَا بلغ تِلَاوَة كَلَامه وَلِأَن الْمُسلمين إِذَا سمعُوا قِرَاءَة الْقَارئ قَالُوا هَذَا كَلَام اللَّه وَاسْتَدَلُّوا بِمَا قدمْنَاهُ من حَدِيث نيار من مكرم (الْأَسْلَمِيّ) .(1/317)
فصل
فِي ذكر الْأَهْوَاء المذمومة
أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن شَاذان، أَنا عبد الله ابْن مُحَمَّدٍ الْقَبَّابُ، أَنا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، أَنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نَا عَفَّانَ، نَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مليكَة حَدثنِي الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَلا هَذِهِ الآيَةَ: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ(1/318)
زيغ فيتبعون مَا تشابه مِنْهُ} حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا قَالَ: " قَدْ سَمَّاهُمُ اللَّهُ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ".
155 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ عَنْ مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَخَطَّ خَطًّا هَكَذَا أَمَامَهُ فَقَالَ: " هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ، وَخَطًّا عَنْ يَمِينِهِ، وَخَطًّا عَنْ شِمَالِهِ، وَقَالَ: هَذِهِ سُبُلُ الشَّيْطَانِ ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فِي الْخَطِّ الأَوْسَطِ ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} "؟
156 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا الْحَوْطِيُّ حَدثنَا بَقِيَّة ابْن الْوَلِيدِ عَنْ عِيسَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَكَانَ من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الأَمْرُ الْمُفْظِعُ وَالْحِمْلُ الْمُضْلِعُ وَالشَّرُّ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ إِظْهَارُ الْبِدَعِ ". قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَفْظَعَ الْأَمر وفظع اشتذ، وَأَمْرٌ مُفْظِعٌ وَفَظِيعٌ أَيْ شَدِيدٌ، وَالْمُضْلِعُ الْمُثْقِلُ.(1/319)
157 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ حَدَّثَنَا الْحَوْطِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ مَاعِزٍ التَّيْمِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ وَلَكِنْ بِالتَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ ". قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: حَرَّشْتَ بَيْنَ الْقَوْمِ أَيْ أَغْرَبْتَ بَيْنَهُمْ، وَأَلْقَيْتَ الْعَدَاوَةَ فِيهِمْ.
158 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نَا هِشَام بن عمار، نَا إِسْمَاعِيل ابْن عَيَّاشٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو عَنِ الأَزْهَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَرَازِيِّ عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْهَوْزَنِيِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لُحَيٍّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَكُونُ أَقْوَامٌ يَتَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الأَهْوَاءُ كَمَا يتجارى الْكَلْب بصحابه فَلا يَبْقَى فِيهِ مَفْصَلٌ إِلا دَخَلَهُ ".
قَالَ الشَّيْخ: الْكَلْب بِفَتْح اللَّام من قَوْلهم: " كلب كلب " وَهُوَ الَّذِي يَأْخُذهُ شبه الْجُنُون فَإِذَا عقر إِنسان كلب فَيُقَال: رجل كلب.(1/320)
159 - وَأَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نَا ابْنُ مُصَفَّى، نَا بَقِيَّة، نَا عِيسَى ابْن إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنِي ابْنُ دِينَارٍ عَنْ الْخَصِيبِ عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ إِلَهٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ هَوًى مُتبع ".
فصل
فِي ذكر قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ "
160 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، أَنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أبي شيبَة، نَا يزِيد ابْن هَارُونَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " سَتَتَّبِعُونَ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بَاعًا بِبَاعٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، وَشِبْرًا بِشِبْرٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمْ فِيهِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ إِذًا ".
161 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نَا يَعْقُوبُ بْنُ حميد، أَنا إِبْرَاهِيم ابْن سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ:(1/321)
خرجنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى حنين وَنحن حديثوا عَهْدٍ بِكُفْرٍ وَكَانُوا أَسْلَمُوا يَوْمَ الْفَتْحِ، قَالَ: فَمَرَرْنَا بِشَجَرَةٍ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ لنا ذَات أنواط كَمَا لَهُم ذَات أنوط، وَكَانَ لِلْكُفَّارِ سِدْرَةٌ يَعْكِفُونَ حَوْلَهَا وَيُعَلِّقُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ، يَدْعُونَهَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ، قَالَ فَلَمَّا قُلْنَا ذَلِك للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " اللَّهُ أَكْبَرُ وَكبر قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تجهلون} لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ".
162 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا ابْنُ كَاسِبٍ، نَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلْيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ حَوْلَ ذِي الْخَلَصَةِ، وَهُوَ(1/322)
صَنَمٌ بِتَبَالَةَ ". وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَذُو الْخَلَصَةِ: طَاغِيَةُ دَوْسٍ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا (فِي الْجَاهِلِيَّةِ) وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " كَأَنِّي بِنِسَاءِ فَهْمٍ يَطُفْنَ بِالْخَزْرَجِ تَضْطَرِبُ إِلْيَاتُهُنَّ مُشْرِكَاتٌ وَهُوَ أَوَّلُ شِرْكٌ فِي الإِسْلامِ " قَالَ الشَّيْخُ: فَهْمٌ اسْمُ قَبِيلَةٍ وَالْخَزْرَجُ اسْمُ صَنَمٍ.
فَصْلٌ
فِي ذِكْرِ قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا "
163 - (قَالَ) وَأَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ عُيَيْنَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَوْشَنٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا فَإِنَّهُ مَنْ يُغَالِبْ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبْهُ ". يُقَالُ: مَا أَحْسَنَ هَدْي فُلان أَيْ طَرِيقتهُ وَالْقَاصِدُ الْمتوسط لَيْسَ بالغالي وَلا المقصر.(1/323)
164 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ نَا الْمُقَدَّمِيُّ، نَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَوْفٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ ".
فَصْلُ
165 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نَا دُحَيْمٌ، نَا عَبْدُ اللَّهِ ابْن وَهْبٍ، نَا أَبُو هَانِئٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ثَلاثَةٌ لَا تَسْأَلْ عَنْهُمْ رَجُلٌ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ ".(1/324)
166 - قَالَ وَأَنْبَأَنَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرِ بْنِ مِسْمَارٍ، نَا أَبِي عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: وَقَفَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ: قَامَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِينَا فَقَالَ: " مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَعَلَيْهِ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْفَذِّ ". قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: بُحْبُوحَةُ الْجَنَّةِ: وَسَطُهَا، وَالْفَذُّ: الْفَرْدُ.
فَصْلُ
قَالَ بعض الْعلمَاء فِي الْبَيَان عَن تَشْبِيه الْمُعْتَزلَة (والجهمية) وَمن يذهب مَذْهَبهم وَأَن أَصْحَاب الحَدِيث لَيْسُوا بمشبهة قَالَ: إِن اللَّه تَعَالَى لَا يَشَاء الْمعاصِي لِعِبَادِهِ ثُمَّ يعاقبهم عَلَيْهَا، لأَنَّ الْحَكِيم الْعَاقِل من المخلوقين لَا يجوز هَذَا، وَلِأَن هَذَا دَاخل فِي بَاب الظُّلم: وكل مَخْلُوق أَتَى مثل هَذَا سمي ظَالِما، فيقيسون أَمر اللَّه تَعَالَى عَلَى أَمر الْمَخْلُوق، ويشبهون اللَّه بالمخلوق، وَكَذَلِكَ قَول من قَالَ: إِن اللَّه تَعَالَى أَمر الْمَخْلُوق، ويشبهون اللَّه بالمخلوق، وَكَذَلِكَ قَول من قَالَ: إِن الْخَالِق لَا يُسمى خَالِقًا، والرازق لَا يُسمى رازقا، حَتَّى يخلق ويرزق(1/325)
وَيحصل مِنْهُ الْخلق والرزق، وَقَالُوا: إِنما قُلْنَا هَذَا لِأَن الْعقل والمشاهدة ينكران (أَن) يتسمى أحد بِأَنَّهُ فَاعل أَو يتحلى بِالْفِعْلِ إِذَا خلا عَنِ الْفِعْل فِي الْحَال وإِذَا صَحَّ هَذَا (صَحَّ) أَن اللَّه تَعَالَى لَا يَتَّصِف بالخالق، والرازق، مَا لم يخلق ويرزق فيقيسون الْخَالِق بالمخلوق ويشبهونه بِهِ وَيَقُولُونَ: إِن الْخَالِق، والرازق وأشباههما من صِفَات اللَّه تَعَالَى، صِفَات للْفِعْل لَا صِفَات للذات. وإِذَا كَانَ الْفِعْل مَوْصُوفا بِصفة لم تحصل الصّفة حَتَّى يحصل الْفِعْل، وَهَذَا إِنما يَصح فِي فعل الْمَخْلُوق، لَا فِي فعل الْخَالِق، وَفعل الْخَالِق لَا يشبه فعل الْمَخْلُوق. وَقَالَ أهل اللُّغَة: الْفِعْل لَا يُوصف لَا يُقَال فعل قَائِم، وَلَا يفعل مقبل، وَلَكِن يُقَال: زيد ضَارب، وعَمْرو ذَاهِب، فَقَوْلهم الْخَالِق والرازق: صفة للْفِعْل خطأ، وَإِنَّمَا ذَلِك صفة للذات.
فصل
وَمن الدَّلِيل عَلَى أَن الصِّفَات الصادرة عَن فعل اللَّه تَعَالَى كالخالق، والرازق، والعادل، والمحسن، والمنعم، والمحيي، والمميت، والمثيب، والمعاقب، هِيَ صِفَات لَازِمَة لَهُ قديمَة بقدمه لَا لقدم مَعَانِيهَا الَّذِي هُوَ الْخلق والرزق، والإِحسان، والإِثابة، وَالْعِقَاب، لَكِن وجود مَعَانِيهَا مِنْهُ. قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل - رَحمَه اللَّه - فِي رِوَايَة حَنْبَل عَنهُ: " لم يزل اللَّه متكلما، عَالما، غَفُورًا " فوصفه بالغفران فِيمَا لم يزل، كَمَا وَصفه بالْكلَام وَالْعلم خلافًا لمن قَالَ هِيَ صِفَات محدثة لَا يكون مَوْصُوفا بهَا فِي الْقدَم.(1/326)
وَمن الدَّلِيل عَلَى صِحَة مَا قُلْنَاهُ: أَن تحقق الْفِعْل من جِهَته يُوجب كَونه صفة لَازِمَة لَهُ قديمَة بِدَلِيل وَصفه فِي الْقدَم أَنه معيد، وباعث، ووارث، وَإِن لم يعد، وَلم يبْعَث، وَلم يَرث، ويوصف بِأَنَّهُ رب قبل أَن يخلق المربوب، وَأَنه إِله قبل أَن يخلق المألوه، وَمن نفى هَذِه الصِّفَات عَنهُ قبل وجود مَعَانِيهَا فقد خَالف الْمُسلمين. وَبَين صِحَة هَذَا القَوْل أهل اللُّغَة: سيف قطوع وخبز مشبع وَمَاء مرو وَإِن لم يُوجد مِنْهُ الْقطع والشبع والري لتحَقّق الْفِعْل مِنْهُ. وَفِي هَذَا جَوَاب عَن قَوْلهم: إِن مَعَاني هَذِه الْأَشْيَاء محدثة غير قديمَة، فَلَا تكون صِفَات لَازِمَة، وَلِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يُقَال هَذَا مجَاز لِأَن الْمجَاز مَا صَحَّ نَفْيه، وَمَعْلُوم أَنه لَا يَصح أَن يَنْفِي عَنِ السَّيْف الَّذِي يقطع أَنه قطوع، وَلِأَنَّهُ قد يثبت كَونه الْآن خَالِقًا، والخالق ذَاته تَعَالَى، وذاته كَانَت فِي الْأَزَل، فَلَو لم يكن خَالِقًا وَصَارَ خَالِقًا لزمَه التَّغَيُّر، وَلِأَن الْخَالِق صفة مدح، وَذَلِكَ من صِفَات الذَّات كالعالم والقادر. وَهُوَ سُبْحَانَهُ فِي الْأَزَل مُسْتَحقّ الْأَوْصَاف الْمَدْح، فَلَو لم يكن خَالِقًا كَانَ نَاقِصا.
فصل
والخلق غير الْمَخْلُوق، فالخلق صفة قَائِمَة بِذَاتِهِ، والمخلوق هُوَ الْمَوْجُود المخترع لَا يقوم بِذَاتِهِ، وَأَن الصِّفَات الصادرة عَنِ الْأَفْعَال مَوْصُوف بهَا فِي(1/327)
الْقدَم، وَإِن كَانَت المفعولات محدثة، خلافًا لمن يَقُول: إِن الْخلق هُوَ الْمَخْلُوق.
وَالْأَفْعَال عَلَى ضَرْبَيْنِ: لَازم ومتعد، فاللازم: مَا لَا مفعول لَهُ، والمتعدي: مَا لَهُ مفعول، فَلَو كَانَ الْفِعْل هُوَ الْمَفْعُول، والخلق هُوَ الْمَخْلُوق، لم يكن اللَّازِم فعلا، إِذ لَا مفعول لَهُ. وَقَوْلنَا الْقِرَاءَة هِيَ المقروء لَو قُلْنَا الْقِرَاءَة غير المقروء، أفْضى إِلَى حُدُوث الْقِرَاءَة وَفِي قَوْلنَا الْخلق غير الْمَخْلُوق أَكثر مَا فِيهِ أَن الْمَخْلُوق مُحدث.
فصل
فِي ذمّ الْأَهْوَاء وَأهل الْبدع
167 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، أَنا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عبد كويه، نَا الطَّبَرَانِيُّ، نَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ وَمُطَّلِبُ بن شُعَيْب قَالَا: نَا عبد الله ابْن صَالِحٍ، نَا أَبُو شُرَيْحٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْح الإسْكَنْدراني، أَنه سمع شرَاحِيل ابْن(1/328)
يَزِيدَ يَقُولُ: حَدَّثَنِي مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: أَنه سمع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " فِي آخِرِ الزَّمَانِ كَذَّابُونَ يَأْتُونَكُمْ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ ".
168 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا الطَّبَرَانِيُّ، نَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى، نَا سَعِيدُ ابْن الأَصْبَهَانِيِّ، نَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمحابي عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ الْوَصَّافِيِّ عَنْ كُرْزِ بْنِ وَبَرَةَ الْحَارِثِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ آفَةً تُهْلِكُهُ وَإِنَّ آفَةَ هَذَا الدِّينِ الأَهْوَاءُ ".
قَالَ: وَحَدَّثَنَا الطَّبَرَانِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ كَيْسَانَ، نَا أَبُو حُذَيْفَةَ، نَا سُفْيَانُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ حُذْيَفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ اعْهَدْ إِلَيْنَا فَقَالَ حُذَيْفَة: أَو لم يَأْتِكَ الْيَقِينُ اعْلَمْ أَنَّ الضَّلالَةَ حَقَّ الضَّلالَةِ أَنْ تَعْرِفَ مَا كُنْتَ تُنْكِرُ وَأَنْ تُنْكِرَ مَا كُنْتَ تَعْرِفُ وَإِيَّاكَ وَالتَّلَوُّنَ فِي دِينِ اللَّهِ فَإِنَّ دِينَ اللَّهِ وَاحِدٌ.(1/329)
قَالَ: وَحَدَّثَنَا الطَّبَرَانِيُّ، نَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نَا عَارِمٌ أَبُو النُّعْمَانِ، نَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلابَةَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ وَيُفْتَحُ فِيهَا الْقُرْآنُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: لَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ فَمَا أَرَى النَّاسَ يَتَّبِعُونِي فَلأَقْرَأَنَّهُ عَلَانيَة، فيقرأه عَلانِيَةً فَلا يَتَّبِعُونَهُ فَيَقُولُ: مَا أَرَاهُمْ يَتَّبِعُونِي، فبيني مَسْجِدًا فِي دَارِهِ، ثُمَّ يَبْتَدِعُ قَوْلا لَيْسَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلا مِنْ سنة رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ، فَإِنَّ مَا ابْتُدِعَ ضَلالَةٌ. قَالَ: وَحدثنَا الطَّبَرَانِيّ، نَا عبد الله ابْن أَحْمَد بن حَنْبَل قَالَ: وجدت فِي كتاب أَبِي حَدَّثَنِي الْمفضل بْن غَسَّان الْغلابِي حَدَّثَنِي رجل من بني عدي قَالَ: قَالَ عَنْبَسَة بْن سعيد مَا ابتدع رجل بِدعَة إِلا غل صَدره عَلَى الْمُسلمين.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا الطَّبَرَانِيُّ، نَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ الأَسْقَاطِيُّ، نَا الْمُنَقِّرِيُّ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نَا الْفَضْلُ بْنُ مَيْمُونٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " لَا أَعْلَمُ شَيْئًا فِي الإِسْلامِ أَفْضَلَ عِنْدِي مِنْ أَنَّ قَلْبِي لَمْ يُخَالِطْهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ ".(1/330)
قَالَ: وَحَدَّثَنَا الطَّبَرَانِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نَا عَمِّي أَبُو بَكْرٍ نَا وَكِيعٌ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ عَنْ يَحْيَى (بْنِ) أَبِي هَاشِمٍ الشَّامِيِّ قَالَ: قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " إِيَّاكُمْ وَالْبِدَعَ وَالتَّبَدُّعَ وَالتَّنَطُّعَ وَعَلَيْكُمْ بِالأَمْرِ الْعَتِيقِ ".
فصل
فِي بَيَان التَّوْحِيد والتشبيه
التَّوْحِيد عَلَى وزن التفعيل وَهُوَ مصدر وحدته توحيدا، كَمَا تَقول: كَلمته تكليما، وَهَذَا النَّوْع من الْفِعْل يَأْتِي مُتَعَدِّيا إِلا أحرفا جَاءَت لَازِمَة وَهِي قَوْلهم: روض الرَّوْض إِذَا تمّ حسنه ونضارته، ودوم الطَّائِر إِذَا حلق فِي الْهَوَاء، وَصرح الْحق أَي ظهر وانكشف، وَبَين الشَّيْء بِمَعْنى تبين، وصوح النبت إِذَا هاج ويبس، وغلس فلَان إِذَا جَاءَ بِغَلَس وَلِهَذَا الْفِعْل مَعْنيانِ:
أَحدهمَا: تَكْثِير الْفِعْل وتكريره وَالْمُبَالغَة فِيهِ كَقَوْلِهِم: كسرت الإِناء وغلقت الْأَبْوَاب وفتحتها وَالْوَجْه الثَّانِي: وُقُوعه مرّة وَاحِدَة كَقَوْلِهِم: غديت فلَانا وعشيته، وكلمته.(1/331)
وَمعنى وحدته: جعلته مُنْفَردا عَمَّا يُشَارِكهُ أَو يُشبههُ فِي ذَاته وَصِفَاته، وَالتَّشْدِيد فِيهِ للْمُبَالَغَة أَي بالغت فِي وَصفه بذلك. وَقيل: الْوَاو فِيهِ مبدلة من الْهمزَة، وَالْعرب تبدل الْهمزَة من الْوَاو، وتبدل الْوَاو من الْهمزَة كَقَوْلِهِم وشاح وأشاح وَتقول الْعَرَب: أحدهن لي وآحدهن لي أَي اجعلهن لي أحد عشر. وَيُقَال جاؤوا أحاد أحاد أَي: وَاحِدًا وَاحِدًا، فعلى هَذَا: الْوَاو فِي التَّوْحِيد أَصْلهَا الْهمزَة، قَالَ الْهُذلِيّ:
(لَيْث الصريمة أحدان الرِّجَال لَهُ ... صيد ومجتزئ بِاللَّيْلِ هجاس)
وَتقول الْعَرَب: وَاحِد وَأحد ووحد ووحيد أَي: مُنْفَرد، فَالله تَعَالَى وَاحِد، أَي مُنْفَرد عَنِ الأنداد والأشكال فِي جَمِيع الْأَحْوَال.
فَقَوْلهم: وحدت اللَّه: من بَاب عظمت اللَّه، وكبرته، أَي عَلمته عَظِيما وكبيرا، فَكَذَلِك وحدته: أَي عَلمته وَاحِدًا، منزها عَنِ الْمثل فِي الذَّات وَالصِّفَات.
قَالَ بعض الْعلمَاء: التَّوْحِيد: نفي التَّشْبِيه عَنِ اللَّه الْوَاحِد، وَقيل: التَّوْحِيد نفي التَّشْبِيه عَن ذَات الموحد وَصِفَاته، وَقيل: التَّوْحِيد الْعلم بالموحد وَاحِدًا لَا نَظِير لَهُ: فَإِذَا ثَبت هَذَا فَكل من لم يعرف اللَّه هَكَذَا فَإِنَّهُ غير موحد لَهُ.
وَأما التَّشْبِيه: فَهُوَ مصدر شبه يشبه تَشْبِيها، يُقَال: شبهت الشَّيْء بالشَّيْء أَي مثلته بِهِ، وقسته عَلَيْهِ، إِما بِذَاتِهِ أَو بصفاته، أَو بأفعاله، قَالَ أهل(1/332)
اللُّغَة: أشبه بالشَّيْء الشَّيْء وشابهه أَي صَار مثله. وَهَذَا الشَّيْء شبه هَذَا وشبيهه ومشبهه ومشابهه.
فصل
فِي بَيَان الْأُمُور الَّتِي يكون بهَا الرجل إِماما فِي الدّين وَأَن أهل الْكَلَام لَيْسُوا من الْعلمَاء
قَالَ عُلَمَاء السّلف: " لَا يكون الرجل إِماما فِي الدّين حَتَّى يكون جَامعا لهَذِهِ الْخِصَال: يكون حَافِظًا للغات الْعَرَب، واختلافها، ومعاني أشعارها، حَافِظًا لاخْتِلَاف الْفُقَهَاء الْعلمَاء، وَيكون عَالما فَقِيها حَافِظًا للإِعراب وَالِاخْتِلَاف فِيهِ، عَالما بِكِتَاب اللَّه تَعَالَى وقراءته، وَاخْتِلَاف الْقُرَّاء فِيهَا. عَالما بتفسيره، ومحكمه ومتشابهه، وناسخه، ومنسوخه، وقصصه. عَالما بِأَحَادِيث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، مُمَيّزا بَين صحيحها وسقيمها، ومتصلها ومنقطعها، ومراسيلها ومسانيدها ومشاهيرها وغرائبها، وبأحاديث الصَّحَابَة - رَضِي اللَّه عَنهُ -، ثُمَّ يكون ورعا، صاينا،(1/333)
صَدُوقًا، ثِقَة. يَبْنِي مذْهبه وَدينه عَلَى كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإِذَا جمع هَذِه الْخلال فَحِينَئِذٍ يجوز أَن يكون إِماما فِي الْمذَاهب، وَجَاز أَن يجْتَهد (وَأَن) يعْتَمد عَلَيْهِ فِي دينه وفتاويه، وإِذَا لم يكن جَامعا لهَذِهِ الْخلال لم يجز أَن يكون إِماما فِي الْمَذْهَب، وَأَن يقلده النَّاس فِي فَتَاوِيهِ.
قَالَ بعض الْعلمَاء عقيب مثل هَذَا الْكَلَام: وإِذَا ثَبت هَذَا نَظرنَا فِي أَمر جمَاعَة ادعوا أَنهم أَصْحَاب مَذَاهِب واخترعوا مذاهبهم عَلَى عُقُولهمْ كالجبائي وَأبي هَاشم، والكعبي، والنجار، والنظام، وَابْن(1/334)
كلاب، وَمن نحا نحوهم. وَسَأَلنَا الْخَاص وَالْعَام عَن هَؤُلَاءِ، فَقُلْنَا: أَهَؤُلَاءِ أهل الْعلم كالصحابة رضوَان اللَّه عَلَيْهِم، وَالتَّابِعِينَ رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِم؟ قَالُوا: (لَا) وَلَيْسوا بمعروفين من أهل الْعلم. قُلْنَا هَؤُلَاءِ من أهل الْفِقْه كالشافعي، وَأبي حنيفَة، وَمَالك، أمثالهم؟ قَالُوا: لَا وَغير معروفين فيهم. قُلْنَا: هَؤُلَاءِ من أهل الْأَدَب والمعرفة بلغات الْعَرَب، كَأبي عَمْرو بْن الْعَلَاء، والأصمعي، وَالْكسَائِيّ، وأمثالهم؟ قَالُوا: لَا وَغير معروفين فيهم. قُلْنَا(1/335)
هَؤُلَاءِ من أهل الإِعراب والنحو، كالخليل، وسيبويه، وَالْفراء، وأمثالهم؟ قَالُوا: وَغير معروفين فيهم. قُلْنَا: هَؤُلَاءِ من أهل الْعلم بِالْقُرْآنِ والقراءات كنافع، وَابْن كثير، وَأبي عَمْرو، وَحَمْزَة، وأمثالهم؟ قَالُوا: لَا وَغير معروفين فيهم. قُلْنَا: هَؤُلَاءِ من أهل الْمعرفَة بناسخ الْقُرْآن ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه كمجاهد، وَقَتَادَة، وَأبي الْعَالِيَة، قَالُوا: لَا وَغير(1/336)
معروفين فيهم. قُلْنَا: هَؤُلَاءِ من أهل الْعلم والمعرفة بِأَحَادِيث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَحَادِيث الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنهُ -، كالزهري، وَمَالك بْن أَنَس، وَيحيى بْن سعيد، وَعبد الرَّحْمَن بْن مهْدي، وَأحمد بْن حَنْبَل، وَيحيى بْن معِين؟ قَالُوا: لَا وهم لَا يَقُولُونَ بِالْحَدِيثِ قُلْنَا: هَؤُلَاءِ من أهل الزّهْد وَالْعِبَادَة كالحسن الْبَصْرِيّ، وفضيل بْن عِيَاض، وإِبْرَاهِيم بْن أدهم، وَيحيى بْن معَاذ، وأمثالهم؟ قَالُوا: لَا وَغير معروفين فيهم. قُلْنَا: هَل بنوا مَذْهَبهم عَلَى مَا بناه عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ من كتاب الله، وَحَدِيث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ قَالُوا: لَا. قُلْنَا: فَمن أَي النَّاس هم؟ قَالُوا: من أهل القَوْل بِالْعقلِ. فَمن نظر بِعَين الْإِنْصَاف علم أَنه لَا يكون أحد أَسْوَأ مذهبا مِمَّن يدع قَول الله وَقَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقَول الصَّحَابَة رضوَان اللَّه عَلَيْهِم، وَقَول الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء بعدهمْ، مِمَّن يَبْنِي مذْهبه وَدينه عَلَى كتاب الله تَعَالَى، وَسنة رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَتبع من لَيْسَ بعالم بِكِتَاب اللَّه تَعَالَى وَسنة رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَيفَ لَا يَأْمَن أَن يكون مُتبعا للشَّيْطَان أعاذنا اللَّه من مُتَابعَة الشَّيْطَان.(1/337)
فصل
فِي النَّهْي عَن مناظرة أهل الْبدع وجدالهم وَالِاسْتِمَاع إِلَى أَقْوَالهم
169 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقْرِي، أَنا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، أَنا أَحْمد ابْن عُبَيْدٍ، أَنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُبَشِّرٍ، نَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ الْوَاسِطِيِّ عَنْ أَبِي غَالِبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أَتَوْ الْجِدَال " ثُمَّ قَرَأَ {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بل هم قوم خصمون} .
قَالَ: وَأخْبرنَا هبة اللَّه أَنا الْحُسَيْن بْن عَليّ بْن زَنْجوَيْه الْقطَّان الْقزْوِينِي، نَا سُلَيْمَان بْن يزِيد الْمعدل، نَا عَليّ بْن مُحَمَّد بن عبد الله ابْن الْمُبَارك الصَّنْعَانِيّ حَدَّثَنِي خَالِي عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي غَسَّان، نَا عَرَفَة بْن إِسماعيل عَن أَبِي إِسْحَاق المصِّيصِي عَن أَبِي الْعَوام عَن قَتَادَة (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ(1/338)
فِي الله بِغَيْر علم} قَالَ: " صَاحب بِدعَة يَدْعُو إِلَى بدعته ".
قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ أَنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ، أَنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ ابْن أَحْمَدَ بْنِ يَزِيدَ الرِّيَاحِيُّ، نَا أَبِي، نَا سَعِيدُ بْنُ سَعِيدٍ الْخُرَاسَانِيُّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن يزِيد قَالَ: سَمِعت عبد الله ابْن مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: " إِيَّاكُمْ وَمَا يُحْدِثُ النَّاسُ مِنَ الْبِدَعِ فَإِنَّ الدِّينَ لَا يَذْهَبُ مِنَ الْقُلُوبِ بِمَرَّةٍ، وَلَكِنَّ الشَّيْطَانَ يُحْدِثُ لَهُ بِدَعًا حَتَّى يَخْرُجَ الإِيمَانُ مِنْ قَلْبِهِ، وَيُوشِكُ أَنْ يَدَعَ النَّاسُ مَا أَلْزَمَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَرْضِهِ فِي الصَّلاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَلالِ وَالْحَرَامِ، وَيَتَكَلَّمُونَ فِي رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ فَلْيَهْرُبْ. قِيلَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَإِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى لَا أَيْنَ يَهْرُبُ بِقَلْبِهِ وَدِينِهِ لَا يُجَالِسُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ ".
قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْفَارِسِيُّ أَنا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى الْوَشَّا، نَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، نَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الأَشَجِّ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " سَيَأْتِي أُنَاسٌ سَيُجَادِلُونَكُمْ بِشُبُهَاتِ الْقُرْآنِ خُذُوهُمْ بِالسُّنَنِ فَإِنَّ أَصْحَابَ السُّنَنِ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ عز وَجل ".(1/339)
قَالَ: وَأَنْبَأَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْمُقْرِي، أَنا مُحَمَّدُ ابْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ الْمَرْوَزِيُّ، نَا مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَرْوَزِيُّ، نَا مُوسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ:، قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " سَيَأْتِي قَوْمٌ يُجَادِلُونَكُمْ فَخُذُوهُمْ بِالسُّنَنِ فَإِنَّ أَصْحَابَ السُّنَنِ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ ".
قَالَ: وأنبأنا هبة اللَّه، أَنا مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ أَنا عبيد اللَّه بْن عَبْد الرَّحْمَنِ السكرِي، نَا زَكَرِيَّا، نَا الْأَصْمَعِي، نَا الْعَلَاء بْن حريز قَالَ: قَالَ الْأَحْنَف ابْن قيس: " كَثْرَة الْخُصُومَة تنْبت النِّفَاق فِي الْقلب ".
قَالَ وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ أَنا مُحَمَّدُ بْنُ رزق اللَّه نَا أَحْمَد بْن عُثْمَان، نَا ابْن أَحْمَد بْن أَبِي الْعَوام، نَا يزِيد بْن هَارُون، أَنا الْعَوام بْن حَوْشَب قَالَ: سَمِعت مُعَاوِيَة بْن قُرَّة يَقُول: " إِياكم وَهَذِه الْخُصُومَات فإِنها تحبط الْأَعْمَال ".
قَالَ: وأنبأنا هبة اللَّه، أَنا مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ، أَنا عبيد اللَّه بْن عَبْد الرَّحْمَنِ، نَا زَكَرِيَّا بْن يَحْيَى، نَا الْأَصْمَعِي عَن صَالح المري (قَالَ) هرم بْن حَيَّان (صَاحب) الْكَلَام عَلَى إِحدى المنزلتين إِن قصر فِيهِ خصم وَإِن أغرق فِيهِ أَثم) .(1/340)
قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحسن الْهَاشِمِي، نَا مُحَمَّد بن الْقَاسِم ابْن بشار الْأَنْبَارِي، نَا إِسماعيل بْن إِسْحَاق، نَا نصر بْن عَليّ، أَنا الْأَصْمَعِي، نَا الْخَلِيل بْن أَحْمَد قَالَ: " مَا كَانَ جدل قطّ إِلا أَتَى بعده جدل يُبطلهُ ".
فصل
أَخْبَرَنَا أَبُو المظفر السَّمْعَانِيّ - رَحمَه اللَّه - قَالَ: " اعْلَم أَن مَذْهَب أهل السّنة أَن الْعقل لَا يُوجب شَيْئا عَلَى أحد، وَلَا يدْفع شَيْئا عَنهُ، وَلَا حَظّ لَهُ فِي تَحْلِيل أَو تَحْرِيم، وَلَا تَحْسِين وَلَا تقبيح، وَلَو لم يرد السّمع مَا وَجب(1/341)
عَلَى أحد شَيْء، وَلَا دخلُوا فِي ثَوَاب وَلَا عِقَاب، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل} ،(1/342)
وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِكَايَة عَنِ الْمَلَائِكَة فِيمَا خاطبوا بِهِ أهل النَّار: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يومكم هَذَا قَالُوا بلَى} فَأَقَامَ الْحجَّة عَلَيْهِم ببعثة الرُّسُل فَلَو كَانَت الْحجَّة لَازِمَة بِنَفس الْعقل لم تكن بعثة الرُّسُل شرطا لوُجُوب الْعقُوبَة.
170 - و (قد) قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِله إِلا اللَّه " فَدلَّ أَنه الدَّاعِي إِلَى الإِيمان. وَعِنْدهم: أَن الدَّاعِي إِلَى الإِيمان هُوَ الْعقل.
وَجَاء الْكتاب مؤيدا لهَذَا قَالَ الله تَعَالَى: {قل يَا أَيهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ ملك السَّمَاوَات وَالْأَرْض} الْآيَة. فَدلَّ أَن الدَّعْوَى لَهُ وَأَن الْحجَّة تقوم بِهِ وأمثال هَذِه الْآيَات فِي الْقُرْآن كَثِيرَة، وَمَا أوحش قَول من يَقُول: إِنه لَا دَعْوَة لأحد من النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ إِلَى الإِيمان عَلَى الْحَقِيقَة وَأَن وجودهم وعدمهم فِي هَذَا بِمَنْزِلَة وَاحِدَة وَلَو لم يَكُونُوا كَانَ وجوب الإِيمان عَلَى النَّاس عَلَى الْجِهَة الَّتِي وَجَبت عَلَيْهِم بعد وجودهم، وَلَا حَظّ لدعوتهم فِي هَذَا، وَإِنَّمَا الْحَظ لدعوتهم فِي الشَّرَائِع، وفروع الْعِبَادَات. فقد(1/343)
جعلُوا عُقُولهمْ دعاة إِلَى اللَّه ووضعوها مَوضِع الرُّسُل فِيمَا بَينهم، وَلَو قَالَ قَائِل: لَا إِله إِلا اللَّه، عَقْلِي رَسُول اللَّه، لم يكن مستنكرا عِنْد الْمُتَكَلِّمين من جِهَة الْمَعْنى، وَظهر فَسَاد قَول من سلك هَذَا المسلك.
ثُمَّ نقُول وَالله الْهَادِي والموفق: إِن اللَّه تَعَالَى أسس دينه وبناه عَلَى الِاتِّبَاع وَجعل إِدراكه وقبوله بِالْعقلِ، فَمن الدّين مَعْقُول وَغير مَعْقُول، والاتباع فِي جَمِيعه وَاجِب. وَمن أهل السّنة من قَالَ بِلَفْظ آخر، قَالَ إِن اللَّه لَا يعرف بِالْعقلِ، وَلَا يعرف مَعَ عدم الْعقل وَمعنى هَذَا: أَن اللَّه تَعَالَى هُوَ الَّذِي يعرف العَبْد ذَاته فَيعرف اللَّه بِاللَّه لَا بِغَيْرِهِ، لقَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي من يَشَاء} ، وَلم يقل: وَلَكِن الْعقل يهدي من يَشَاء. وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} والآيات فِي هَذَا الْمَعْنى كَثِيرَة.
171 - وَقد ثَبت أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَالله لَوْلَا اللَّه مَا اهتدينا وَلَا تصدقنا وَلَا صلينَا " فَهَذِهِ الدَّلَائِل دلّت أَن اللَّه تَعَالَى هُوَ الْمُعَرّف إِلا أَنه(1/344)
إِنما يعرف العَبْد نَفسه مَعَ وجود الْعقل لِأَنَّهُ سَبَب الإِدراك والتمييز لَا مَعَ عَدمه، لأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات لقوم يعْقلُونَ} ، وَقَالَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قلب} وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مخبرا عَن أَصْحَاب النَّار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير} وَالله يُعْطي العَبْد الْمعرفَة بهدايته إِلا أَنه لَا يحصل ذَلِك مَعَ فقد الْعقل. وَهَذَا كَمَا أَن العَبْد لَا يعرف اللَّه بجسمه، وَلَا بشخصه، وَلَا بِرُوحِهِ، وَلَا يعرفهُ مَعَ عدم حسمه، وشخصه، وروحه. كَذَلِك لَا يعرف اللَّه بِالْعقلِ وَلَا يعرفهُ مَعَ عدم الْعقل، وَنَظِير هَذَا أَيْضا: أَن الْوَلَد لَا يكون مَعَ فقد الوطئ وَلَا (يكون) بالوطئ، بل يكون بإِنشاء اللَّه وخلقه. وَكَذَلِكَ لَا يكون الزَّرْع إِلا فِي أَرض، وبذر، وَمَاء، وَلَا يكون بذلك، بل يكون بقدرة اللَّه وإِنباته. قَالَ اللَّه تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحن الزارعون} مَعْنَاهُ: أأنتم تنبتونه أَن نَحن المنبتون. يُقَال للْوَلَد زرعه اللَّه أَي: أَنْبَتَهُ اللَّه، وأمثال هَذَا كَثِيرَة، والموفق يَكْتَفِي باليسير، والمخذول لَا يشفيه الْكثير، وَقد قَالَ بعض أهل الْمعرفَة: إِنما أعطينا الْعقل لإِقامة الْعُبُودِيَّة، لَا لإِدراك الربوبية، فَمن شغل مَا أعْطى لإِقامة الْعُبُودِيَّة بإِدراك الربوبية، فَاتَتْهُ الْعُبُودِيَّة، وَلم يدْرك الربوبية. وَمعنى قَوْلنَا: إِنما أعطينا الْعقل لإِقامة الْعُبُودِيَّة هُوَ أَنه آلَة التَّمْيِيز بَين الْقَبِيح وَالْحسن، وَالسّنة والبدعة، والرياء والإِخلاص،(1/345)
ولولاه لم يكن تَكْلِيف وَلَا توجه أَمر وَلَا نهي، فَإِذَا اسْتَعْملهُ عَلَى قدره، وَلم يُجَاوز بِهِ حَده أَدَّاهُ ذَلِك إِلَى الْعِبَادَة الْخَالِصَة، والثبات عَلَى السّنة، وَاسْتِعْمَال المستحسنات وَترك المستقبحات.
172 - فَيكون هَذَا معنى قَول نَبِي اللَّه. فِي الرجل يكثر الصَّلَاة وَالصِّيَام: " إِنما يجازى عَلَى قدر عقله ". وَقَالَ بَعضهم: الْعقل مُدبر يدبر لصَاحبه أَمر دُنْيَاهُ وعقباه، فَأول تَدْبيره الإِشارة إِلَى الْمُدبر الصَّانِع، (ثُمَّ) إِلَى معرفَة النَّفس ثُمَّ يُشِير إِلَى صَاحبه بالخضوع وَالطَّاعَة لله، وَالتَّسْلِيم لأَمره، والموافقة لَهُ، وَهَذَا معنى قَوْلهم: الْعَاقِل من عقل عَنِ اللَّه أمره وَنَهْيه. وَقَالَ بَعضهم: الْعقل حجَّة اللَّه عَلَى جَمِيع الْخلق، لِأَنَّهُ سَبَب التَّكْلِيف، إِلا أَن صَاحبه لَا يسْتَغْنى عَنِ التَّوْفِيق فِي كل وَقت. وَنَفس الْعقل بالتوفيق كَانَ، وَالْعقل مُحْتَاج فِي كل وَقت إِلَى توفيق جَدِيد، تفضلا من اللَّه تَعَالَى، وَلَو لم يكن كَذَلِك، لَكَانَ الْعُقَلَاء مستغنين عَنِ اللَّه بِالْعقلِ، فيرتفع عَنْهُم الْخَوْف والرجاء، ويصيرون آمِنين من الخذلان، وَهَذَا تجَاوز عَن دَرَجَة الْعُبُودِيَّة وتعد عَنْهَا، ومحال من الْأَمر، إِذ لَيْسَ من الْحِكْمَة أَن ينزل اللَّه أحدا غير مَنْزِلَته، فَإِذَا أغْنى عبيده عَن نَفسه فقد أنزلهم غير مَنْزِلَتهمْ، وَجَاوَزَ بهم حدودهم، وَلَو كَانَ هَذَا هَكَذَا لَا ستوى الْخلق والخالق فِي معنى من مَعَاني الربوبية، وَالله تَعَالَى لَيْسَ كمثله شَيْء فِي جَمِيع الْمعَانِي.(1/346)
وَقَالَ بَعضهم: الْعقل عَلَى ثَلَاثَة أوجه، عقل مَوْلُود مطبوع، وَهُوَ عقل ابْن آدم الَّذِي بِهِ فضل عَلَى أهل الأَرْض، وَهُوَ مَحل التَّكْلِيف وَالْأَمر وَالنَّهْي، وَبِه يكون التَّدْبِير والتمييز.
وَالْعقل الثَّانِي: عقل التأييد، الَّذِي يكون مَعَ الإِيمان مَعًا، وَهُوَ عقل الْأَنْبِيَاء وَالصديقين، وَذَلِكَ تفضل من اللَّه تَعَالَى.
وَالْعقل الثَّالِث: هُوَ عقل التجارب، والعبر، وَذَلِكَ مَا يَأْخُذهُ النَّاس بَعضهم من بعض، وَمن هَذَا قَول من قَالَ: ملاقاة النَّاس تلقيح الْعُقُول. وَقَالَ بعض أهل الْمعرفَة: مِقْدَار الْعقل فِي الْمعرفَة كمقدار الإِبرة عِنْد ديباج أَو خَز فَإِنَّهُ لَا يُمكن لبس ديباج أَو خَز، إِلا أَن يخاط بالإِبرة، فَإِذَا خيط بالإِبرة فَلَا حَاجَة لَهَا إِلَى الإِبرة. كَذَلِك تضبط الْمعرفَة بِالْعقلِ، لَا أَن الْمعرفَة تحصل من الْعقل أَو تثبت بِهِ.
وَاعْلَم: أَن فصل مَا بَيْننَا وَبَين المبتدعة هُوَ مَسْأَلَة الْعقل فإِنهم أسسوا دينهم عَلَى الْمَعْقُول، وَجعلُوا الِاتِّبَاع والمأثور تبعا للمعقول، وَأما أهل السّنة؛ قَالُوا: الأَصْل فِي الدّين الِاتِّبَاع والمعقول تبع، وَلَو كَانَ أساس الدّين عَلَى الْمَعْقُول لَا ستغنى الْخلق عَنِ الْوَحْي، وَعَن الْأَنْبِيَاء، ولبطل معنى الْأَمر وَالنَّهْي، ولقال من شَاءَ مَا شَاءَ، وَلَو كَانَ الدّين بني عَلَى الْمَعْقُول لجَاز للْمُؤْمِنين أَن لَا يقبلُوا شَيْئا حَتَّى يعقلوا. وَنحن إِذَا تدبرنا عَامَّة مَا جَاءَ فِي أَمر الدّين من ذكر صِفَات اللَّه، وَمَا تعبد النَّاس بِهِ من اعْتِقَاده، وَكَذَلِكَ مَا ظهر بَين(1/347)
الْمُسلمين، وتداولوه بَينهم، ونقلوه عَن سلفهم، إِلَى أَن أسندوه إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من ذكر عَذَاب الْقَبْر، وسؤال مُنكر وَنَكِير، والحوض، وَالْمِيزَان، والصراط وصفات الْجنَّة، وصفات النَّار وتخليد الْفَرِيقَيْنِ فيهمَا، أُمُور لَا ندرك حقائقها بعقولنا، وَإِنَّمَا ورد الْأَمر بقبولها والإِيمان بهَا، فَإِذَا سمعنَا شَيْئا من أُمُور الدّين، وعقلناه، وفهمناه، فَللَّه الْحَمد فِي ذَلِك وَالشُّكْر، وَمِنْه التَّوْفِيق، وَمَا لم يمكنا إِدراكه (وفهمه) وَلم تبلغه عقولنا آمنا بِهِ، وصدقناه، واعتقدنا أَن هَذَا من قبل ربوبيته وَقدرته، واكتفينا فِي ذَلِك بِعِلْمِهِ ومشيئته، وَقَالَ اللَّه تَعَالَى فِي مثل هَذَا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلا} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} ثُمَّ نقُول لهَذَا الْقَائِل الَّذِي يَقُول: بني ديننَا عَلَى الْعقل، وأمرنا باتباعه: أَخْبَرَنَا إِذَا أَتَاك أَمر من اللَّه يُخَالف عقلك فبأيهما تَأْخُذ؟ بِالَّذِي تعقل، أَو بِالَّذِي تُؤمر؟ فَإِن قَالَ: بِالَّذِي أَعقل، فقد أَخطَأ، وَترك سَبِيل الإِسلام وَإِن قَالَ: (آخذ) بِالَّذِي جَاءَ من عِنْد اللَّه، فقد ترك قَوْله: " وَإِنَّمَا علينا أَن نقبل مَا عَقَلْنَاهُ إِيمانا وَتَصْدِيقًا، وَمَا لم نعقله قبلناه استسلاما وتسليما، وَهَذَا معنى قَول الْقَائِل من أهل السّنة: " إِن الإِسلام قنطرة لَا تعبر إِلا بِالتَّسْلِيمِ ".(1/348)
فنسأل اللَّه التَّوْفِيق فِيهِ، والثبات عَلَيْهِ، وَأَن يتوفانا على مِلَّة رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بمنة وفضله ".
فصل
وَمِمَّا يدل عَلَى أَن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لم يزل متكلما، وَأَن الْكَلِمَة والكلمات من كَلَامه، قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَد سبقت كلمتنا لعادنا الْمُرْسلين} وَقَوله: {وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك} وَقَوله: {حقت كلمة رَبك} وَقَالَ: {وتمت كلمة رَبك صدقا وعدلاً} وَقَالَ: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} وَقَالَ: {لَا مبدل لكلماته} .
173 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا وَالِدِي، أَنا عَبدُوس ابْن الْحُسَيْنِ، نَا أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ، نَا مَسْرُوق بن الْمَرْزُبَان، نَا يحيى ابْن زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(1/349)
قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلْيَهُودِ: أَعْطُونَا شَيْئًا نَسْأَلُ عَنْهُ هَذَا الرَّجُلَ، فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلا} . فَقَالَتِ الْيَهُودُ: أُوتِينَا عِلْمًا كَثِيرًا التَّوْرَاةَ فَمَنْ أُوتِيَهَا فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لكلمات رَبِّي} الآيَةَ.
174 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو (عَبْدُ الْوَهَّابِ) أَنا وَالِدي، أَنا حَمْزَة ابْن مُحَمَّدٍ الْكِنَانِيُّ، نَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ، نَا مُحَمَّد بن قدامَة، نَا جرير ابْن عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُعَوِّذُ حَسَنًا وَحُسَيْنًا: " أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ ". وَكَانَ يَقُولُ: " كَانَ أَبُوكُمَا يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ عَلَيْهُمَا السَّلامُ ".(1/350)
175 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو أَنا وَالِدِي، أَنا عُمَرُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ، نَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ: " لَوْ قُلْتَ حِينَ نِمْتَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّكَ ". وَفِي رِوَايَةِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَقِيتُ مِنْ عقرب لدغتني البارحة فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَمَا إِنَّكَ لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّكَ " وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن أَبِي صَالِحٍ: " لَوْ أَنَّكَ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ".
176 - وَعَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِذَا نَزَلَ أَحَدُكُمْ مَنْزِلا فَلْيَقُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ ".
177 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو أَنا وَالِدِي، أَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى، نَا أَبُو مَسْعُودٍ أَحْمَدُ بْنُ الْفُرَاتِ، أَنا أَبُو أُسَامَةَ، نَا مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ طَلْحَةَ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ، نَا أَبُو عَامِرٍ، نَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ ابْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ طَلْحَةَ عَنْ طُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَّمَ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ فَقَالَ، قُولِي: " سُبْحَانَ الله عدد مَا خلق، سُبْحَانَ الله رضى نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ مداد كَلِمَاته ".(1/351)
فصل
فِي أَن الْقُرْآن نزل بلغَة الْعَرَب
وَمِمَّا يدل عَلَى أَن الْقُرْآن نزل بلغَة الْعَرَب، وَأَن التَّوْرَاة نزلت بالعبرانية والإِنجيل نزل بالسُّرْيَانيَّة، خلاف مَا قَالَت المبدعة، أَنَّ رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عبر كَلَام اللَّه بِالْعَرَبِيَّةِ، وَأَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام عبر كَلَام اللَّه بالعبرانية، وَأَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام غبر كَلَام اللَّه بالسُّرْيَانيَّة، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤمنين} . وَقَالَ: {وَلَو جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أعجمياً لقالوا لَوْلَا فصلت آيَاته أعجمي وعربي} . وَقَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قومه} أَي بلغَة قومه. وَقَالَ: (لِسَانُ الَّذِي(1/352)
يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} ، وَقَالَ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيْك قُرْآنًا عَرَبيا لتنذر أم الْقرى وَمن حولهَا} ، وَقَالَ: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا} ، وَقَالَ: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا} وَقَالَ: {كتاب فصلت آيَاته قُرْآنًا عَرَبيا} وَقَالَ: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا وصرفنا فِيهِ من الْوَعيد} ، وَقَالَ: {قُرْآنًا عَرَبيا غير ذِي عوج لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ} ، وَقَالَ: {وَهَذَا كتاب مُصدق لِسَانا عَرَبيا} ، وَقَالَ: {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} ، وَقَالَ: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حكما عَرَبيا} .
وَرُوِيَ عَن سعيد بْن جُبَير فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَو جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أعجمياً} أَي قَالُوا: كَيفَ أنزل عَلَيْهِ بِلِسَان عجمي وَهُوَ عَرَبِيّ.(1/353)
فصل
فِي بَيَان وجوب تَعْظِيم السّنة وأَنَّهَا مفسرة لِلْقُرْآنِ
178 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفَقِيهُ، أَنا أَبُو الْفَتْحِ سِبْطُ أَبِي الشَّيْخِ، أَنا جَدِّي أَبُو الشَّيْخِ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رُسْتَةَ، نَا مُحَمَّد بن عبيد ابْن حِسَابٍ، نَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْن مُغفل قَالَ: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْخَذْفِ وَقَالَ: " إِنَّهُ لَا يُصَادُ بِهَا صَيْدٌ وَلا يُنْكَى بِهَا عَدُوٌّ، وَلَكِنْ يُفْقَأُ الْعَيْنُ، وَيُكْسَرُ السِّنُّ " فَقَالَ رَجُلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ نَسَبٌ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ثُمَّ تَهَاوَنُ بِهِ. لَا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نَا مُحَمَّد بن الْمثنى، نَا مُسلم ابْن إِبْرَاهِيمَ، نَا عُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَن عمرَان.(1/354)
قَالَ: وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نَا عَبْدُ الْوَهَّاب يَعْنِي الثَّقَفِيّ، نَا عَنْبَسَة ابْن أَبِي رَائِطَةَ الْغَنَوِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَجُلا قَالَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَا أَبَا نُجَيْدٍ: إِنَّكُمْ لَتُحَدِّثُونَ بِأَحَادِيثَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا، حَدِّثُوا بِالْقُرْآنِ، قَالَ: الْقُرْآنُ. وَاللَّهِ نَعَمْ. أَرَأَيْتَ لَوْ دَفَعْنَا إِلَيْكَ، وَقَدْ وَجَدْنَا فِي الْقُرْآنِ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ. وَلم نر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَنَّ لَنَا كَيْفَ كُنَّا نَرْكَعُ؟ كَيْفَ كُنَّا نَسْجُدُ؟ كَيْفَ كُنَّا نُعْطِي زَكَاةَ أَمْوَالِنَا ثُمَّ قَالَ:
179 - إِن نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا شِغَارَ فِي الإِسْلامِ ". وَالشِّغَارُ: أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ مَهْرًا لأُخْرَى، تَكُونُ لِلرَّجُلِ قريبَة فَيَقُول: أنكحك وتنكحي بِغَيْرِ صَدَاقٍ، فَذَلِكَ هُوَ الشِّغَارُ. فَهَلْ تَجِدُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ؟ وَلَعَمْرِي إِنَّهُ فِي الْقُرْآنِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} .
180 - وَكَانَ يَقُولُ: " لَا جَلَبَ وَلا جَنَبَ فِي الرِّهَانِ "، وَكَانَ يَنْهَى عَنِ النُّهْبَةِ.(1/355)
181 - وَيَقُولُ: " مَنِ انْتَهَبَ فَلَيْسَ مِنَّا، لَا يَنْتَهِبُ مُؤْمِنٌ ". فَهَلْ تَجِدُ هَذَا؟ يَعْنِي فِي الْقُرْآنِ ".
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، نَا روح ابْن عُبَادَةَ، نَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كَانَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ رَجُلٌ: دَعْنَا مِنْ هَذِهِ الأَحَادِيثِ، وَحَدِّثْنَا عَنِ الْقُرْآنِ، فَغَضِبَ عِمْرَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ: وَيْحَكَ، أَمَرَنَا اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ بِأَنْ نَحُجَّ، فَهَلْ تَجِدُ فِي الْقُرْآنِ، أَنْ نَطُوفَ سَبْعًا بِالْبَيْتِ؟ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ كَذَا كَذَا. قَالَ: لَا، قَالَ: فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ، فَهَلْ تَجِدُ أَنْ نُصَلِّيَ الْعَصْرَ أَرْبَعًا؟ وَعَدَدَ الصَّلَوَاتِ، قَالَ: وَأَمَرَنَا بِالزَّكَاةِ، فَهَلْ تَجِدُ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا كَذَا؟ حَتَّى ذَكَرَ لَهُ صَدَقَةَ الإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ، قَالَ: لَا، قَالَ فَإِنَّهَا السُّنَّةُ ".(1/356)
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخ، نَا عَبْد اللَّهِ بْن خَالِد، نَا مُحَمَّد بْن عَليّ الصَّائِغ نَا صَامت بْن معَاذ، قَالَ: قَرَأنَا عَلَى أَبِي قُرَّة قَالَ: سَمِعت ابْن أَبِي رواد يَقُول: أنزل الْقُرْآن، فَنزلت فِيهِ جمل الْأُمُور، وفسرته السّنة، يَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {أَقِيمُوا الصَّلَاة} . وفسرت السّنة حُدُودهَا وركوعها وسجودها، وَمَا يُقَال فِي ذَلِك. وَقَالَ: {وَآتوا الزَّكَاة} . ثُمَّ فسرت السّنة مَا قَالَ فِي الإِبل وَالْبَقر وَالْغنم، وَلم يُفَسر ذَلِك الْقُرْآن، وَقد جَاءَ فِي الْقُرْآن من جمل الطَّلَاق مَا لم يُفَسر الْقُرْآن كل مَا فِيهِ، وفسرته السّنة. وَجَاء فِي الْقُرْآن من جمل الْحَج وَالْعمْرَة مَا لم يُفَسر كل مَا فِيهِ الْقُرْآن، وفسرته السّنة، وَالْجهَاد وَالصِّيَام كَمثل، وكل مَا لم يُفَسر الْقُرْآن مِمَّا فِيهِ فسرته السّنة.
قَالَ ابْن أبي راود: وَهَذِه الْأُصُول كلهَا من أصُول الدّين ومعالمه وَلم يسْتَغْن الدّين بِالْقُرْآنِ عَن معرفَة السّنة، وَلم يسْتَغْن بِالسنةِ عَن معرفَة الْقُرْآن.
فصل
ذكره بعض حنابلة بَغْدَاد
قَالَ: الدَّلِيل عَلَى أَن مَا نتلوه ونسمعه هُوَ حَقِيقَة كَلَام اللَّه تَعَالَى، وَلَيْسَ بِعِبَارَة عَنهُ قَوْله تَعَالَى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى(1/357)
يسمع كَلَام الله} . وَالَّذِي يسمعهُ الْخلق وَهُوَ هَذَا الَّذِي نتلوه دون مَا لَيْسَ بِصَوْت وَلَا حرف، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا يسرناه بلسانك} . وَالَّذِي يسره هُوَ الَّذِي نتلوه (دون مَا لَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت) وَقَالَ: {بَلْ هُوَ قُرْآن مجيد فِي لوح مَحْفُوظ} . وَالَّذِي فِي ذَات اللَّه تَعَالَى لَيْسَ فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا} . وَقَالَ تَعَالَى: {واتل مَا أُوحِي إِلَيْك} . وَقَالَ تَعَالَى إِخبارا عَن قُرَيْش: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَول الْبشر سأصليه سقر} فتوعدهم بالنَّار عَلَى قَوْلهم: إِن هَذَا إِلا قَول الْبشر، وَإِنَّمَا سمعته قُرَيْش من النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فلولا أَن مَا تلاه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ كَلَام اللَّه عَلَى الْحَقِيقَة، لم يتوعدهم عَلَى قَوْلهم ذَلِك بالنَّار. فَلَمَّا توعدهم دلّ عَلَى أَن ذَلِك حَقِيقَة كَلَام اللَّه تَعَالَى. وَقَالَ: {يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بعد مَا عقلوه} . فَأثْبت أَن كَلَامه تَعَالَى مسموع وَأَنَّهُمْ قد عقلوه وحرفوه، وَمَا هُوَ قَائِم بِالذَّاتِ لَا يعقل.(1/358)
182 - وروى أَبُو مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَعَاهَدُوا الْقُرْآن فَهُوَ أَشد تفصيا من صُدُور الرِّجَال من النعم من عقلهَا ".
183 - وروى ابْن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " (إِن) الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفه شَيْء من الْقُرْآن كالبيت الخرب ". فَأثْبت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْقُرْآن فِي الصُّدُور ".
184 - وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكَانَ يعرض نَفسه عَلَى النَّاس فِي الْموقف: " هَل من رجل يحملني إِلَى قومه؟ فَإِن قُريْشًا مَنَعُونِي أَن أبلغ كَلَام رَبِّي ".
185 - وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أَرَادَ أَن يسمع الْقُرْآن غضا كَمَا أنزل فليسمعه من ابْن أم عبد ".(1/359)
وَنهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يُسَافر بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرض الْعَدو وَهَذِه الْأَخْبَار تلقتها الْعلمَاء بِالْقبُولِ وحكمت بِصِحَّتِهَا فحصلت مَعْلُومَة.
وخاطر أَبُو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَي رَاهن قوما من أهل مَكَّة، فَقَرَأَ عَلَيْهِم الْقُرْآن، فَقَالُوا: هَذَا من كَلَام صَاحبك. فَقَالَ: لَيْسَ بكلامي وَلَا كَلَام صَاحِبي، وَلكنه كَلَام اللَّه تَعَالَى، وَلم يُنكر عَلَيْهِ أحد من الصَّحَابَة.
وَقَالَ عمر بْن الْخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى الْمِنْبَر: " إِن هَذَا الْقُرْآن كَلَام اللَّه "، فَهُوَ إِجماع الصَّحَابَة وإِجماع التَّابِعين بعدهمْ، مثل: سعيد بْن الْمسيب، وَسَعِيد بْن جُبَير، وَالْحسن، وَالشعْبِيّ وَغَيرهم مِمَّن يطول ذكرهم أشاروا إِلَى أَن كَلَام اللَّه هُوَ المتلو فِي المحاريب والمصاحف.
وَذكر صَالح بْن أَحْمَد بْن حَنْبَل، وحنبل أَن أَحْمَد رَحمَه اللَّه قَالَ: جِبْرِيل سَمعه من اللَّه تَعَالَى، وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمعه من جِبْرِيل، وَالصَّحَابَة سمعته من النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَفِي قَول أَبِي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَيْسَ بكلامي، وَلَا كَلَام صَاحِبي، إِنما هُوَ كَلَام(1/360)
اللَّه تَعَالَى إِثبات الْحَرْف وَالصَّوْت، لِأَنَّهُ إِنما تَلا عَلَيْهِم الْقُرْآن بالحرف وَالصَّوْت.
وَقَالَ: هُوَ كَلَام اللَّه، وَلم يقل أحد إِن الْقُرْآن قَائِم بِالذَّاتِ، وَذَلِكَ قَول يُخَالف قَول الْجَمَاعَة.
فَإِن قيل: لَا يمْتَنع أَن يكون كَلَام جِبْرِيل عبارَة عَنِ الْقُرْآن.
قيل: حُصُول الإِعجاز بِلَفْظِهِ ونظمه لَا يحصل بِكَلَام جِبْرِيل.
فَإِن قيل: إِن الْكَلَام إِذَا كَانَ حرفا وصوتا، وَعدم الْمُخَاطب بِهِ أدّى ذَلِك إِلَى الهذيان، وَهَذَا يَسْتَحِيل.(1/361)
يُقَال: من قَالَ هُوَ قَائِم بِالذَّاتِ؟ يُقَال لَهُ: من ردد فِي نَفسه كلَاما من غير أَن يُرِيد أَن يقرره فِي نَفسه فَهُوَ موسوس، تَعَالَى اللَّه من ذَلِك علوا كَبِيرا، فَلَمَّا اسْتَوَى ذَلِك فِي النَّفس، وَلم يؤد إِلَى الهذيان اسْتَوَى أَن يكون حرفا وصوتا، وَلَا يُؤَدِّي إِلَى الهذيان.
فَإِن قيل: إِن الْحُرُوف لَا تحصل إِلا بالأدوات، لأَنَّ لكل حرف مِنْهَا مخرجا، وَلَا يجوز إِضافة ذَلِك إِلَى اللَّه.
يُقَال لَهُ: قد قَالَ اللَّه تَعَالَى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتقول هَل من مزِيد} . وَلَيْسَ للنار أدوات الْحُرُوف.
186 - وَقَالَ: {قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} . وَقَالَ للجنة: تكلمي، فَقَالَت: قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ.
187 - وَقَالَت الذِّرَاع المشوية للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا تأكلني فإِني مَسْمُومَة، وَلِأَنَّهُ إِن جَازَ أَن يُقَال إِنه لم يتَكَلَّم بِحرف وَصَوت، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى إِثبات الأدوات، وَجب أَن لَا يثبت لَهُ الْعلم، لِأَنَّهُ لَا يُوجد فِي الشَّاة علم إِلا علم ضَرُورَة أَو علم اسْتِدْلَال، وَعلم اللَّه يخرج عَن هذَيْن الْقسمَيْنِ.(1/362)
فصل
ذكر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ الَّذين قَالُوا الْقُرْآن كَلَام اللَّه غير مَخْلُوق
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الطريثينِيُّ، أَنا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، أَنا الْحُسَيْن ابْن عَليّ بْن زَنْجوَيْه الْقطَّان الْقزْوِينِي، نَا سُلَيْمَان بن يزِيد الْمعدل، نَا الْحُسَيْن ابْن أَيُّوبَ الْقَزْوِينِيُّ، نَا إِسْحَاقُ وَهُوَ أَبُو دَاوُدَ الشعراني، نَا ابْن الْمُصَفّى، عَن عَمْرو ابْن جُمَيْعٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " لَمَّا حَكَّمَ عَلِيٌّ الْحَكَمَيْنِ، قَالَتْ لَهُ الْخَوَارِجُ: حَكَّمْتَ رَجُلَيْنِ. قَالَ: مَا حَكَّمْتُ مَخْلُوقًا، إِنَّمَا حَكَّمْتُ الْقُرْآنَ ".(1/363)
قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ قَالَ: ذَكَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ صَالِحِ بْنِ جَابِرٍ الأَنْمَاطِيُّ، نَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ.
ح قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَحَدَّثَنَا أَبِي، نَا الصُّهَيْبِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي جِنَازَةٍ، فَلَمَّا وُضِعَ الْمَيِّتُ فِي لَحْدِهِ، قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ الْقُرْآنِ، اغْفِرْ لَهُ، فَوَثَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: مَهْ {} الْقُرْآنُ مِنْهُ، زَادَ الصُّهَيْبِيُّ فِي حَدِيثِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " الْقُرْآنُ كَلامُ اللَّهِ، وَلَيْسَ بِمَرْبُوبٍ، مِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ ".
قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نَا عِمْرَانُ بن أَحْمد، نَا أَحْمد ابْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، نَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ، نَا عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ، نَا يُوسُف ابْن عَدِيٍّ، عَنْ مَحْبُوبِ بْنِ مُحْرِزٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَذْهَبُ النَّاسُ حَتَّى لَا يَبْقَى أَحَدٌ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ يَعْسُوبُ الدِّينِ بِذَنَبِهِ،(1/364)
فَيَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَطْرَافِ الأَرْضِ، كَمَا يَجْتَمِعُ قَزَعُ الْخَرِيفِ، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِنِّي لأَعْرِفُ اسْمَ أَمِيرِهِمْ، وَمَنَاخَ رِكَابِهِمْ، يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، وَلَيْسَ بِخَالِقٍ وَلا مَخْلُوقٍ، وَلكنه كَلَام الله، وَمِنْه بَدَا وَإِلَيْهِ يَعُودُ.
فصل
ذكر التَّابِعين من أهل مَكَّة وَالْمَدينَة والكوفة وَالْبَصْرَة الَّذين قَالُوا الْقُرْآن كَلَام اللَّه
قَالَ: أَخْبَرَنَا هبة اللَّه، أَنا عبيد اللَّه بْن مُحَمَّد الْمقري، نَا أَحْمَد بْن خلف، نَا ابْن جرير، نَا مُحَمَّد بْن أَبِي مَنْصُور الآملي، نَا الحكم بْن مُحَمَّد أَبُو مَرْوَان الآملي، نَا ابْن عُيَيْنَة قَالَ: سَمِعت عَمْرو بْن دِينَار يَقُول: أدْركْت مشائخنا وَالنَّاس مُنْذُ السّبْعين سنة يَقُولُونَ: الْقُرْآن كَلَام اللَّه، مِنْهُ بدا وإِلَيْهِ يعود.
وروى عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَبِي حَاتِم، عَن مُحَمَّد بْن عمار بْن الْحَارِث، نَا أَبُو مَرْوَان الطَّبَرِيّ بِمَكَّة، وَكَانَ فَاضلا، نَا سُفْيَان بْن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو بْن دِينَار قَالَ: سَمِعت مشيختنا مُنْذُ سبعين يَقُولُونَ: الْقُرْآن كَلَام اللَّه، غير مَخْلُوق.(1/365)
قَالَ مُحَمَّد بْن عمار: وَمن مشيخته إِلا أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ابْن عَبَّاس وَجَابِر رَضِي اللَّه عَنْهُمَا، وَذكر جمَاعَة.
قَالَ هبة اللَّه، وَقد لَقِي عَمْرو بْن دِينَار من تقدم ذكره من الصَّحَابَة، وَمِمَّنْ جَالس من التَّابِعين ولقيهم، وَأخذ مِنْهُم من عُلَمَاء مَكَّة من علية التَّابِعين: عبيد بْن عُمَيْر، وَعَطَاء، وَطَاوُس، وَمُجاهد، وَسَعِيد بْن جُبَير، وَعِكْرِمَة، وَجَابِر بْن زيد، فَهَؤُلَاءِ أَصْحَاب ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وَمن أهل الْمَدِينَة: سعيد بْن الْمسيب، وَعُرْوَة بْن الزبير، وَأَبُو سَلمَة ابْن عَبْد الرَّحْمَنِ، وَسَالم بْن عَبْد اللَّهِ بْن عمر، وَعلي بن الْحُسَيْن بن عَليّ(1/366)
ابْن أَبِي طَالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَابْنه مُحَمَّد بْن عَليّ، وَنَافِع بْن جُبَير بْن مطعم فِي خلق كثير يكثر تعدادهم.
وَأما أهل الْبَصْرَة: فَروِيَ عَنِ الْحسن، وَسليمَان التَّيْمِيّ، وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ.
وَمن أهل الْكُوفَة: سُلَيْمَان الْأَعْمَش، وَحَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان. وَقَالَ أَبُو بكر بْن أَبِي شيبَة: لما أَن جَاءَت المحنة إِلَى الْكُوفَة، قَالَ أَحْمد ابْن يُونُس: الق أَبَا نعيم، فَقل لَهُ: فَلَقِيت أَبَا نعيم، فَقَالَ لي: إِنما هُوَ ضرب الأسياط. قَالَ ابْن أَبِي شيبَة، فَقلت، ذهب حديثنا عَن هَذَا الشَّيْخ، فَقيل،(1/367)
لأبي نعيم، فَقَالَ: أدْركْت ثلثمِائة شيخ كلهم يَقُولُونَ الْقُرْآن كَلَام اللَّه غير مَخْلُوق، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا قوم من أهل الْبدع كَانُوا يَقُولُونَ: لَا بَأْس برمي الْجمار بالزجاج، ثُمَّ أَخذ زره فَقَطعه، ثُمَّ قَالَ: رَأْسِي أَهْون عَليّ من زري.
وَقَالَ أَحْمَد بْن سِنَان: لما امتحن أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وَأحمد ابْن يُونُس وَأَصْحَابه ثَبت أَبُو نعيم، وَقَالَ: لقِيت سَبْعمِائة شيخ، ذكر الْأَعْمَش وسُفْيَان وجماعتهم، مَا سَمِعت أحدا مِنْهُم قَالَ ذَا القَوْل، يَعْنِي خلق الْقُرْآن إِلا رجل وَاحِد.
وَقَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة: أدْركْت مَشَايِخنَا مُنْذُ سبعين سنة مِنْهُم: عَمْرو بن دِينَار، يَقُولُونَ: الْقُرْآن الْكَرِيم كَلَام اللَّه لَيْسَ بمخلوق.
وَلَقَد لَقِي ابْن عُيَيْنَة نَحوا من مِائَتي نفس من التَّابِعين من الْعلمَاء، وَأكْثر من ثلثمِائة من أَتبَاع التَّابِعين من أهل الْحَرَمَيْنِ والكوفة وَالْبَصْرَة وَالشَّام ومصر واليمن.
وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارك: سَمِعت النَّاس مُنْذُ تِسْعَة وَأَرْبَعين عَاما يَقُولُونَ: من قَالَ الْقُرْآن مَخْلُوق فامرأته طَالِق ثَلَاثًا بتة.(1/368)
قَالَ هبة اللَّه: (وَقد) لَقِي عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارك جمَاعَة من التَّابِعين مثل: سُلَيْمَان التَّيْمِيّ، وَحميد الطَّوِيل وَغَيرهمَا، وَلَيْسَ فِي الإِسلام فِي وقته أَكثر رحْلَة مِنْهُ، وَأكْثر طلبا للْعلم، وأجمعهم لَهُ، وأجودهم معرفَة بِهِ، وَأَحْسَنهمْ سيرة، وأرضاهم طَريقَة، وَلَعَلَّه يروي عَن ألف شيخ من أَتبَاع التَّابِعين، فَأَي إِجماع يكون أقوى من هَذَا.
فصل
فِي بَيَان أَن كَلَام اللَّه لَا مثل لَهُ
قَالَ اللَّه تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن لَا يأْتونَ بِمثلِهِ} ، وَقَالَ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سور مثله} ، وَقَالَ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مثله} ، وَقَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا على عَبدنَا فَأتوا بِسُورَة من مثله}(1/369)
وَأول من قَالَ بِاللَّفْظِ، وَقَالَ ألفاظنا بِالْقُرْآنِ مخلوقة، حُسَيْن الْكَرَابِيسِي فبدعه أَحْمَد بْن حَنْبَل، وَوَافَقَهُ على تبديعه عُلَمَاء الْأَمْصَار: إِسْحَاق ابْن رَاهَوَيْه، وَأَبُو مُصعب، وَمُحَمّد بن سُلَيْمَان بن لوين، وَأَبُو عبيد الْقَاسِم ابْن سَلام، وَمصْعَب بْن عَبْد اللَّهِ الزبيرِي، وَهَارُون بْن مُوسَى الْفَروِي وَأَبُو مُوسَى مُحَمَّد بْن الْمثنى، وَدَاوُد بْن رشيد، والْحَارث بْن مِسْكين الْمصْرِيّ، وَأحمد بْن صَالح الْمصْرِيّ، ومُحَمَّد بْن يَحْيَى بْن أَبِي عمر(1/370)
الْعَدنِي، وَيَعْقُوب وَأحمد ابْنا إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي وَأَبُو همام الْوَلِيد ابْن شُجَاع، وَعلي بْن خشرم، ومُحَمَّد بْن قدامَة المصِّيصِي، وَمُحَمّد بن دَاوُد ابْن صبيح المصِّيصِي، وَكَانَ من أهل الْعلم وَالْأَدب، ومُحَمَّد بْن آدم المصِّيصِي، وَسَعِيد بْن رَحْمَة، وَعقبَة بن مكرم، وَالْعَبَّاس ابْن عبد الْعَظِيم، ومُحَمَّد بْن أسلم الطوسي، وَحميد بن زَنْجوَيْه النسوي، وَمُحَمّد(1/371)
ابْن سهل بْن عَسْكَر البُخَارِيّ، وَأحمد بْن منيع، وَهَارُون بْن عَبْد اللَّهِ الْحمال، وَابْنه مُوسَى بْن هَارُون، ومُحَمَّد بْن يَحْيَى الذهلي النَّيْسَابُورِي، ومُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن حَفْص أَبُو عَبْد اللَّهِ البُخَارِيّ فَقِيه أهل خُرَاسَان، وَأَبُو بكر الْأَثْرَم، وَأَبُو بكر الْمَرْوذِيّ صاحبا أَحْمَد بْن حَنْبَل، وَأَبُو زرْعَة، وَأَبُو حَاتِم، وَالْحسن بْن مُحَمَّد الزَّعْفَرَانِي، وَحرب بْن إِسماعيل السيرجاني، ومُحَمَّد ابْن إِسْحَاق بْن خُزَيْمَة النَّيْسَابُورِي.(1/372)
وَمن أهل أَصْبَهَان: أَبُو مَسْعُود الرَّازِيّ، ومُحَمَّد بْن عِيسَى الطرسوسي وَأحمد بْن مهْدي، وإِسماعيل بْن أسيد، ومُحَمَّد بْن الْعَبَّاس بْن خَالِد، ومُحَمَّد بْن الْعَبَّاس بْن أَيُّوب الأخرم، ومُحَمَّد بْن يَحْيَى بْن مندة، جد أَبِي عَبْد اللَّهِ، وَأَبُو أَحْمَد الْعَسَّال، وَأَبُو عَليّ أَحْمَد بْن عُثْمَان الْأَبْهَرِيّ، وَأَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق بْن مندة، فمذهبهم وَمذهب أهل السّنة جَمِيعًا أَن الْقُرْآن كَلَام اللَّه آيَة آيَة، وَكلمَة كلمة، وحرفا حرفا فِي جَمِيع أَحْوَاله، حَيْثُ قرئَ وَكتب وَسمع.(1/373)
فصل
فِي تثبيت خبر الْوَاحِد من قَول عُلَمَاء السّلف
الدَّلِيل عَلَى ثُبُوت خبر الْوَاحِد قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم} . والطائفة فِي كَلَام الْعَرَب تقع عَلَى الْوَاحِد، وَالْجَمَاعَة، يدل عَلَى أَن الطَّائِفَة يجوز أَن تكون وَاحِدًا فِي هَذِه الْآيَة، أَنه إِذَا نفر وَاحِد من كل قوم وَنَفر، وتفقه فِي الدّين، وَرجع إِليهم وَأَنْذرهُمْ وأعلمهم بِمَا فرض عَلَيْهِم، كَانَ عَلَيْهِم أَن يقبلُوا قَوْله وينتهوا إِلَى مَا يُخْبِرهُمْ بِهِ، وَلَا يجوز لَهُم أَن يردوا خَبره، لأَنَّ عَلَى الْعَاميّ أَن يقبل قَول الْعَالم.(1/374)
188 - وَمن الدَّلِيل على قبُول خير الْوَاحِد: مَا روى عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " نضر الله امْرَءًا سمه مَقَالَتي فحفظها ووعاها وأداها ". فَلَمَّا ندب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى اسْتِمَاع مقَالَته وحفظها وأدائها، وحث عَلَى ذَلِك وَخص رجلا وَاحِدًا، ودعا لمن أَدَّاهَا، دلّ عَلَى أَنه لَا يُؤَدِّي عَنهُ إِلا مَا يقوم بِهِ الْحجَّة عَلَى من أدّى إِلَيْهِ، وَيَقَع بِهِ الْعلم؛ لِأَنَّهُ إِنما يُؤدى عَنهُ حَلَال يُؤْتى، أَو حرَام يجْتَنب، أَو حد يُقَام، أَو نصيحة فِي دين أَو دنيا، أَو مَا أشبه ذَلِك.
189 - وَمِمَّا يدل عَلَى ذَلِك أَيْضا: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا أَلفَيْنِ أحدكُم مُتكئا عَلَى أريكته يَأْتِيهِ الْأَمر من أَمْرِي مِمَّا نهيت عَنهُ أَو أمرت بِهِ، فَيَقُول: لَا نَدْرِي مَا وجدنَا فِي كتاب اللَّه اتبعناه " فَفِي هَذَا دَلِيل على(1/375)
أَن أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا أخبر بِهِ وَاحِد ثِقَة، لزم اتِّبَاعه، وَوَقع الْعلم بِهِ، وَإِن لم يُوجد لَهُ فِي كتاب اللَّه نَص حكم.
190 - وَمن الدَّلِيل عَلَى ذَلِك أَيْضا: مَا رُوِيَ عَنِ ابْن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنه قَالَ: بَيْنَمَا النَّاس بقبا فِي صَلَاة الصُّبْح، إِذ أَتَاهُم آتٍ فَقَالَ: إِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد أنزل عَلَيْهِ قُرْآن، وَأمر أَن يسْتَقْبل الْكَعْبَة فاستقبلوها، وَكَانَت وُجُوههم إِلَى الشَّام، فاستداروا إِلَى الْكَعْبَة.
وَأهل قبَاء أهل سَابِقَة وَفقه وَعلم، وَقد كَانُوا عَلَى قبْلَة فرض اللَّه عَلَيْهِم استقبالهم، وَلم يكن لَهُم أَن يدعوا فرض اللَّه تَعَالَى فِي الْقبْلَة إِلا بِمَا بجب علمه وَالْعَمَل بِهِ، وَتقوم عَلَيْهِم بِهِ الْحجَّة، وَلم يسمعوا من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أنزل اللَّه فِي تَحْويل الْقبْلَة فَيَكُونُوا مُسْتَقْبلين بِكِتَاب الله، وَإِنَّمَا انتقلوا بِخَبَر وَاحِد كَانَ عِنْدهم من أهل الصدْق عَن فرض كَانَ عَلَيْهِم وَلم يفعلوه إِلا عَن علم بِأَن الْخَبَر يثبت بِمثلِهِ، وَلَو كَانَ مَا قبلوه من خبر الْوَاحِد عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يجوز لقَالَ لَهُم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قد كُنْتُم عَلَى قبْلَة، وَلم يكن لكم تَركهَا إِلَّا عَن علم يَقُول بِهِ عَلَيْكُم حجَّة من سماعكم مني، أَو أَكثر من خبر وَاحِد.(1/376)
191 - وَمِمَّا يدل عَلَيْهِ أَيْضا: مَا رُوِيَ عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " كنت أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَة بْن الْجراح، وَأَبا طَلْحَة الْأنْصَارِيّ، وَأبي بْن كَعْب شرابًا من فضيخ وتمر، فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِن الْخمر قد حرمت، فَقَالَ أَبُو طَلْحَة: قُم يَا أَنَس إِلَى هَذِه الجرار فاكسرها، قَالَ: فَقُمْت إِلَى مهراس لنا فضربتها بأسفله حَتَّى تَكَسَّرَتْ ".
وَهَؤُلَاء فِي الْعلم وَالْمَكَان من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَتقدم الصُّحْبَة بالموضع الَّذِي لَا بنكره عَالم، وَقد كَانَ الشَّرَاب عِنْدهم حَلَالا، فَجَاءَهُمْ آتٍ فَأخْبرهُم بِتَحْرِيم الْخمر، فقبلوا مِنْهُ وكسروا الجرار وأراقوا الْخمر، وَلم يقل أَنَس: وَلَا هم وَلَا وَاحِد مِنْهُم نَحن عَلَى تحليلها حَتَّى نلقى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ قربه منا، أَو يأتينا خبر عَامَّة، وَذَلِكَ أَنهم لَا يهرقون حَلَالا إِهراقه سرف.
192 - وَمِمَّا يدل عَلَيْهِ أَيْضا: مَا رُوِيَ عَن يزِيد بْن شَيبَان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (أَنه) قَالَ: كُنَّا فِي موقف لنا بِعَرَفَة، بعيد من الإِمام جدا، فَأَتَانَا ابْن مربع الْأنْصَارِيّ، فَقَالَ لنا: أَنا رَسُول رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِليكم يَأْمُركُمْ أَن تثبتوا عَلَى(1/377)
مشعركم، فإِنكم عَلَى إِرث من إِرث أبيكم إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام، وَأَشْبَاه هَذِه الْأَخْبَار كَثِيرَة، كَخَبَر من أخبر عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَصْحَابه بِتَحْرِيم لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة، فقبلوه وكفؤوا الْقُدُور.
وَمِمَّا يدل عَلَيْهِ أَيْضا: أَن النَّبِيّ فرق عمالا إِلَى عَشَائِرهمْ، وَأمرهمْ بأوامر قبلوها مِنْهُم وانتهوا إِلَيْهِ، وَعمِلُوا بهَا لعلمهم بِحَقِيقَة ذَلِك. وَبعث معَاذ بْن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى الْيمن، وَأمره بأوامر قبلوها مِنْهُ. وَبعث ابْن أنيس سَرِيَّة وَحده، وَبعث أُمَرَاء سراياه، وَكلهمْ حَاكم فِيمَا بعث، مخبر بِمَا بعث، وَلم يرد أحد من المبعوثين إِليهم قَول الْأَمِير الْمَبْعُوث وَلَا خَبره، بل كَانُوا يقبلونه لعلمهم بصدقهم، وَوَقع الْحجَّة بذلك عَلَيْهِم.
وإِذَا ثَبت مَا قُلْنَا فِي الْخَبَر الَّذِي يحدث بِهِ وَاحِد عَن وَاحِد حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَثَبت أَنه يعْمل بِهِ وَيثبت الْحجَّة بِهِ، لِأَن الَّذِي جَاءَ فَأخْبر أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بتحويل الْقبْلَة، وَتَحْرِيم الشَّرَاب وَغير ذَلِك لما كَانَ(1/378)
صَادِقا جعلُوا كَأَنَّهُمْ سمعُوا ذَلِك من النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لوُقُوع الصدْق فِي خَبره عِنْدهم حَقِيقَة. وَالْخَبَر إِذَا صَحَّ كَانَ كالمشاهدة، فَإِن قيل: أَخْبَار الْآحَاد كالشهادات، وَالشَّهَادَة لَا يجوز أَن يقطع عَلَى مغيبها بالإِجماع. قيل: الشَّهَادَة تخَالف أَدَاء الحَدِيث فِي مَوَاضِع، مِنْهَا أَنَّهَا لَا تقبل لِابْنِ الشَّاهِد، وَلَا لِأَبِيهِ وَأمه، وَلَيْسَ كَذَلِك الحَدِيث؛ لِأَنَّهُ إِذا حدث عَنِ ابْنه أَو أَبِيه أَو أمه يقبل حَدِيثه.
وَلِأَن الْمُحدث لَا يتهم فِيمَن حدث عَنهُ أَنه يجر إِلَى نَفسه، أَو إِلَى من حدث عَنهُ مَنْفَعَة، وَالشَّهَادَة حِكَايَة الشَّاهِد، قَول نَفسه، وَمَا تقرر عِنْده، وتحديث الْمُحدث حِكَايَة عَن غَيره، فَهُوَ أَكثر بَرَاءَة مِمَّن يُؤَدِّي قَول نَفسه.
فصل
فِي إِعجاز الْقُرْآن
قَالَ بعض الْعلمَاء: الْوُجُوه الَّتِي يعرف بهَا إِعجاز الْقُرْآن نقض الْعَادة المألوفة، وَنقض الْعَادة بِالْقُرْآنِ يعرف من وُجُوه:(1/379)
مِنْهَا وُرُوده عَلَى مَرَاتِب البلاغة مَعَ ضيق مطالبه، وَحسن مصادره وموارده بِصدق الحكايات، وَتَحْقِيق الْمعَانِي، والإصابة فِي تسديد أوامراه وزواجره، وتحسين مواعظه وَأَمْثَاله.
وَقد علم أَن فِي مُرَاعَاة الصدْق فِي الْحِكَايَة وَالتَّحْقِيق للمعاني حبسة للسان، وقيدا عَلَى الإِنسان يمنعهُ التَّوَسُّع فِي كثير مِمَّا يزين بِهِ كَلَامه.
وَمِنْه إِعراض الْعَرَب عَن معارضته وانصرافهم عَن منازعته وهم الْعدَد الْكثير، والجم الْغَفِير مَعَ شدَّة حميتهم وَقُوَّة عصيبتهم، وتوفر فطنهم، وتمكنهم من أَنْوَاع البلاغة، واقتدارهم عَلَى وُجُوه الفصاحة مَعَ مَا وَقع بهم من التحدي البليغ وَشدَّة التقريع، فَلم يَكُونُوا ينصرفوا عَن هَذَا الْبَاب إِلا للعجز عَنِ الْوَفَاء بِهِ.
وَمن ذَلِك حسن انتظامه بتشاكل سوره وكلماته، وتشابه فصوله وآياته فِي براعته وفصاحته، وعذوبة لَفظه ونصاعته مَعَ اخْتِلَاف موارده، وتباين جهاته ومقاصده.(1/380)
وَمن ذَلِك الإِخبار عَنِ الغيوب، وإِظهار أسرار الْقُلُوب والإِنباء بِمَا كَانَ وَيكون، فتحقق الصدْق فِي أخباره، وَتبين الْوَفَاء بمواعيده.
وَمن ذَلِك ظُهُوره عَلَى يَد من لم يعرف قطّ بدرس كتاب، وَلَا نظر فِي حِسَاب، وَلَا تعلم للعلوم وَلَا لأحكام النُّجُوم، وَلَا طلب للآثار وَالْأَخْبَار. قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تخطه بيمينك إِذا لارتاب المبطلون}
فصل
وَمن أعجاز الْقُرْآن الإِخبار بالمغيبات
وَمِمَّا ورد فِي الْقُرْآن من الْأَخْبَار الصادقة عَنِ الغيوب، قَوْله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نزلنَا على عَبدنَا} إِلَى قَوْله: {وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة} فَقطع بِهَذَا الْخَبَر عَلَى غيبهم، وَأخْبر عَن عَاقِبَة أَمرهم، وَعَما يكون من انقطاعهم عَن معارضته والإتيان بِمثلِهِ، فَكَانَ كَمَا قَالَ.
وَمن قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أدنى الأَرْض} إِلَى قَوْله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} وَهَذَا القَوْل فِي غَايَة مَا يكون من(1/381)
تَأْكِيد الْوَعْد والتكفل بِالْوَفَاءِ بِهِ، وَمن كَانَ فِي مَحل الصدْق وَأمره مَبْنِيّ عَلَى تجنب الْكَذِب، وَالْخلف لم يَأْتِ بِمثل هَذَا القَوْل إِلا عَن ثِقَة وبصيرة.
والقصة فِي غَلَبَة الرّوم لفارس عَلَى مَا بشر اللَّه بِهِ فِي هَذِه الْآيَة مَعْرُوفَة واستبشار الْمُؤمنِينَ وفرحهم بذلك مَعْلُوم، وَسَببه ظَاهر غير مَكْتُوم، وَهُوَ أَن الرّوم كَانُوا أهل كتاب وملكهم قَيْصر، أكْرم كتاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكَانَت فَارس بِخِلَاف هَذِه الصُّورَة، وملكهم كسْرَى مزق كتاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَدَعَا عَلَيْهِ بتمزيق ملكه فمزقه اللَّه وَلم تقم لَهُ قَائِمَة. وَمِنْه قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {قل يَا أَيهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ} إِلَى قَوْله {وَالله عليم بالظالمين} . فقد قطع عَلَيْهِم فِي هَذَا القَوْل أَنهم لَا يتمنونه أبدا، فَكَانَ كَذَلِك.
وَفِي امتناعهم من تمني الْمَوْت دَلِيل عَلَى علمهمْ بصدقه، وإِلا فَأَي شَيْء أسهل من أَن يَقُول لَهُ: قد تمنينا الْمَوْت، وَمِمَّا يجْرِي هَذَا المجرى فِي الدّلَالَة عَلَى مغيب الْأُمُور. قَوْله " {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ من الْعلم} إِلَى آخر الْآيَة. وَلَا يَقُول هَذَا القَوْل إِلا وَهُوَ واثق بهلاكهم إِن باهلوه، وَهَذِه الْآيَة وَارِدَة فِي قوم من النَّصَارَى لما صمموا على المعاندة والتكذيب دعاهم(1/382)
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَمْر اللَّه إِلَى المباهلة بتحقيق اللَّعْنَة وتعجيل الْهَلَاك عَلَى الْكَاذِبين، فوعدوه ذَلِك ومضوا وَتَشَاوَرُوا فَقَالَ قَائِلهمْ: وَالله لَئِن باهلتموه ليضطر من الْوَادي عَلَيْكُم وَمضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للوعد مَعَ أهل بَيته فأخلفوه الْموعد.
193 - فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو باهلوا لَأَضْرَمَ اللَّه عَلَيْهِم الْوَادي نَارا ".
وَمن هَذَا الْبَاب قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إِلَى آخر السُّورَة، وَهَذِه بِشَارَة بِفَتْح مَكَّة، وعلو الْكَلِمَة وَظُهُور الدعْوَة، فأتاح الله هَذَا الْفَتْح لرَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا وعده، وَدخل هُوَ وَأَصْحَابه مَكَّة، وَأظْهر اللَّه دَعوته فِي أقطار الأَرْض وتتابع النَّاس فِي الدُّخُول فِي دينه أَفْوَاجًا، وأظهره عَلَى الدّين كُله وَلَو كره الْمُشْركُونَ.
وَمِنْه قَوْله عَزَّ وَجَلَّ فِي أَبِي لَهب: {سَيَصْلَى نَارًا ذَات لَهب} فَأخْبر عَن عَاقِبَة أمره، فَكَانَ كَمَا قَالَ، وَمَات كَافِرًا. وَقَوله عَزَّ وَجَلَّ: (سَنُلْقِي فِي(1/383)
قُلُوب الَّذين كفرُوا الرعب} . فَفعل اللَّه ذَلِك، وَفرق جمعهم، وَألقى عَلَيْهِم الرعب، وَصدق وعده، وَنصر عَبده. وَقَالَ {لقد صدقكُم الله وعده إِذْ تحسونهم بِإِذْنِهِ} . وَهَذَا القَوْل يدل دلَالَة بَيِّنَة عَلَى الْوَعْد بالظفر قبل وُقُوعه، وإِلا فَلَا معنى لِأَن يُقَال عِنْد الظفر: قد صدقتكم الْوَعْد بالظفر، وَهُوَ لم يكن قد وعدهم ذَلِك.
وَمِنْه قَوْله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا الصَّالِحَات ليَستَخْلِفنهم فِي الأَرْض} الْآيَة. وَهَذَا وعد لأَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالنصر والتمكين، فأنجزه اللَّه، وَأحسن فِيهِ الصنع، وَله الْحَمد. وَقَوله: سُبْحَانَهُ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} الْآيَة. والوصول فِي لَيْلَة وَاحِدَة من مَكَّة إِلَى مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس من المعجزات، وَقد أخْبرهُم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَبِيحَة تِلْكَ اللَّيْلَة بِمَا شَاهده من الْآيَات والعلامات الَّتِي فِي مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس من غير أَن كَانَ قد شَاهدهَا قبل ذَلِك قطّ وَأخْبرهمْ بِمَا شَاهد فِي سَفَره ذَلِك من الْأُمُور الَّتِي ظهر لَهُم صدقه فِيهَا، مِنْهَا مَا أخبر بِهِ أَنه أَتَى عَلَى مَاء كَذَا، فَإِذَا عير بني فلَان قد أَضَلُّوا بَعِيرًا لَهُم وهم يطلبونه، وَأَنه انْتهى إِلَى عير بني فلَان وهم نيام، فَوجدَ لَهُم إِناء مغطى فَشرب مِنْهُ، وَأَن عير بني فلَان تطلع عَلَيْكُم(1/384)
من التَّثْنِيَة يقدمهَا جمل أَوْرَق، فوجدوا الْأَمر فِي ذَلِك كُله كَمَا قَالَ. وَقد دلّ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَات عَلَى مغيب الْأُمُور، وَأظْهر الْحجَّة فِيهَا لنَبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
فصل
وَمِمَّا يدل عَلَى أَن اللَّه تَعَالَى كلم آدم عَلَيْهِ السَّلَام قَوْله تَعَالَى: {اسْكُنْ أَنْت وزوجك الْجنَّة} .
194 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمد بن سُلَيْمَان ابْن أَيُّوبَ، نَا أَبُو زُرْعَةَ، نَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، نَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، نَا الْحَارِث ابْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ عَطَسَ، فَأَذِنَ اللَّهُ بِحَمْدِهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: رَحِمَكَ رَبُّكَ ". بَيَان آخر: يدل عَلَى أَن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ كلم الْمَلَائِكَة قبل خلق آدم عَلَيْهِ السَّلَام. فَقَالَ: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}(1/385)
أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بن مُحَمَّد بن زِيَاد، نَا سَعْدَان ابْن نَصْرٍ الْمُخَرِّمِيُّ، نَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَن بكير بن الْأَخْنَس، عَن مُجَاهِد ابْن جبر، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ويسفك الدِّمَاء} فَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ: كَانَ فِيهَا أَحَدٌ قَبْلَ آدَمَ، قَالَ: نَعَمِ الْجِنُّ، بَنُو الْجَانِ.
بَيَان آخر: يدل عَلَى أَن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لم يزل متكلما، أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام سمع كَلَامه. قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {إِنِّي أَنا رَبك} وَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رب الْعَالمين} . وَقَالَ: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} ، وَقَالَ عز وَجل: {وقربناه نجيا} .
195 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو أَبُو الطَّاهِرِ، نَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، نَا ابْنُ وَهْبٍ، نَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -، عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: يَا رَبِّ آدَمُ الَّذِي أَخْرَجَنَا وَنَفْسَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَأَرَاهُ اللَّهُ آدَمَ، فَقَالَ: أَنْتَ آدَمُ أَبُونَا؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: الَّذِي نَفَخَ اللَّهُ فِيكَ مِنْ روحه، وعلمكم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا، وَأَمَرَ الْمَلائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، أَرَاهُ قَالَ: وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ وَخَلَقَكَ بِيَدِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ: قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِنَ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: وَمَنْ(1/386)
أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى، قَالَ: (أَنْتَ) مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَنْتَ الَّذِي كَلَّمَكَ اللَّهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ رَسُولا مِنْ خَلْقِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ وَجَدْتَ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ قَبْلَ أَنْ أَخْلُقَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فِيمَ تَلُومُنِي عَلَى شَيْءٍ سَبَقَ الْقَضَاءُ فِيهِ قبلي؟ . قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ".
ذِكْرُ بَيَانٍ آخَرَ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُكَلِّمُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالرِّضَا.
196 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، وَحَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأحمد بن عِيسَى اليروني قَالُوا: نَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ النَّسَائِيُّ، نَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، نَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَيْسَرَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلا يَرَى إِلا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ".
بَيَانٌ آخَرُ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُكَلِّمُ الْمَلائِكَةَ.
197 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَمْزَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُونُسَ قَالا: نَا يُونُسُ، نَا أَبُو دَاوُدَ، نَا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ(1/387)
سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً سَيَّارَةً فَضْلا يَلْتَمِسُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ، فَإِذَا أَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ جَلَسُوا فَأَظَلُّوهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا قَامُوا عَرَجُوا إِلَى رَبِّهِمْ فَيَقُولُ: وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ يُسَبِّحُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُهَلِّلُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَسْتَجِيرُونَ بِكَ مِنْ عَذَابِكَ، وَيَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ. فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي وناري؟ فَيَقُولُونَ لَا. فَيَقُول: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهُمَا فَقَدْ أَجَرْتُهُمِ مِمَّا اسْتَجَارُوا، وَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا. فَيُقَالُ: إِنَّ فِيهِمْ رَجُلا مَرَّ بِهِمْ وَقَعَدَ مَعَهُمْ فَيَقُولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُ، إِنَّهُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ ".
وَفِي رِوَايَةِ رَوْحٍ، عَنْ سُهَيْلٍ، فَيَقُولُونَ: " فِيهِمْ فُلانٌ عَبْدُكَ الْخَطَّاءُ، إِنَّمَا مَرَّ فَقَعَدَ، فَيَقُولُ: وَلَهُ قَدْ غَفَرْتُ، هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ ".
وَفِي رِوَايَةِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، فَيَقُولُ: " مَلَكٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ: فِيهِمْ فُلانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هُمُ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ ".(1/388)
بَيَان آخر: يدل عَلَى أَن اللَّه تَعَالَى يكلم الشُّهَدَاء. قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا} .
198 - وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لجَابِر بْن عَبْد اللَّهِ: " إِن اللَّه أَحْيَا أَبَاك فَكَلمهُ كفاحا ".
199 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى وَعَبْدُ الله ابْن إِبْرَاهِيمَ قَالا: نَا أَبُو مَسْعُودٍ، أَنا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نَا الأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْن مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقِ بْنِ الأَجْدَعِ، قَالَ: سَأَلَنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ قَوْلِهِ: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا} . فَقَالَ: أَمَا أَنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ يَعْنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " إِنَّ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ تَشَاءُ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ فَاطَّلَعَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمُ اطَّلاعَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا فَأَزِيدُكُمُوهُ؟ قَالُوا: وَمَا نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَا يُتْرَكُونَ أَنْ يَسْأَلُوا قَالُوا: تَرُدُّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا، فَنُقْتَلُ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا ".
200 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو أَبُو الطَّاهِرِ، نَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ أَبَا(1/389)
عُشَّانَةَ حَدَّثَهُ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ لَيَدْعُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْجَنَّةَ فَتَأْتِي بِزُخْرُفِهَا وَزِينَتِهَا، فَيَقُولُ: أَيْنَ عِبَادِي الَّذِينَ قَاتَلُوا فِي سَبِيلِي وَقُتِلُوا وَأُوذُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِي؟ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَيَدْخُلُونَهَا بِغَيْرِ عَذَابٍ وَلا حِسَابٍ، وَتَأْتِي الْمَلائِكَةُ فَيَسْجُدُونَ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ مَنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ آثَرْتَهُمْ عَلَيْنَا؟ فَيَقُولُ الرَّبُّ: " هَؤُلاءِ عِبَادِي الَّذِينَ قَاتَلُوا فِي سَبِيلِي، فَيَدْخُلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ مِنْ كل بَاب سَلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ. الآيَةَ ".
فصل
فِي إِعجاز الْقُرْآن بأسلوبه
وَمن إِعجاز الْقُرْآن صَنِيعه بالقلوب وتأثيره فِي النُّفُوس، فإِنك لَا تسمع كلَاما غير الْقُرْآن منظوما وَلَا منثورا، إِذَا قرع السّمع خلص لَهُ إِلَى الْقلب من اللَّذَّة والحلاوة فِي حَال، وَمن الروعة والمهابة فِي أُخْرَى مَا يخلص مِنْهُ، إِلَيْهِ تستبشر بِهِ النُّفُوس وتنشرح لَهُ الصُّدُور حَتَّى إِذَا أخذت حظها مِنْهُ عَادَتْ مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق، وتغشاها الْخَوْف وَالْفرق تقشعر مِنْهُ(1/390)
الْجُلُود وتنزعج لَهُ الْقُلُوب، يحول بَين النَّفس وَبَين مضمراتها وعقائدها الراسخة فِيهَا، فكم من عَدو لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من رجال الْعَرَب وفتاكها أَقبلُوا إِلَيْهِ يُرِيدُونَ اغتياله وَقَتله فَسَمِعُوا آيَات من الْقُرْآن فَلم يَلْبَثُوا حِين وَقعت فِي مسامعهم أَن يَتَحَوَّلُوا عَن رَأْيهمْ الأول، وَأَن يركنوا إِلَى مسالمته ويدخلوا فِي دينه، وَصَارَت عدواتهم مُوالَاة وكفرهم إِيمانا.
خرج عمر بْن الْخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من بَيته يكيد رَسُول اللَّه عَامِدًا لقَتله، فَصَارَ إِلَى دَار أُخْته وَهِي تقْرَأ سُورَة " طه " فَلَمَّا وَقع فِي سَمعه لم يلبث أَن آمن.
وَبعث مَلأ قُرَيْش عتبَة بْن ربيعَة إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليوافقه عَلَى أُمُور أَرْسلُوهُ بهَا، فَقَرَأَ (عَلَيْهِ) رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - آيَات من (حم) السَّجْدَة، فَلَمَّا أقبل عتبَة وأبصره الْمَلأ من قُرَيْش قَالُوا: قد أقبل أَبُو الْوَلِيد بِغَيْر الْوَجْه الَّذِي ذهب بِهِ.
وَلما قَرَأَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْقُرْآن فِي الْمَوْسِم على النَّفر الَّذين حَضَرُوهُ من الْأَنْصَار آمنُوا بِهِ وعادوا إِلَى الْمَدِينَة فأظهروا الدّين بهَا، فَلم يبْق بَيت من بيُوت الْأَنْصَار إِلا وَفِيه قُرْآن.
201 - وَفِي الْأَثر: فتحت الْأَمْصَار بِالسَّيْفِ، وَفتحت الْمَدِينَة بِالْقُرْآنِ.(1/391)
وَلما سمعته الْجِنّ لم تتمالك أَن قَالَت: {إِنَّا سمعنَا قُرْآنًا عجبا يهدي إِلَى الرشد فأمنا بِهِ} . ومصداق مَا وصفناه فِي قَول اللَّه عَزَّ وَجل: {لَو أنزلنَا هَذَا الْقُرْآن عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ الله} . وَفِي قَوْله: {نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} . وَقَالَ: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِم} . وَقَالَ: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} . وَقَالَ: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا من الْحق} . وَفِي آيَات كَثِيرَة وَذَلِكَ لمن ألْقى السّمع وَهُوَ شَهِيد، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} ، وَذَلِكَ من عَظِيم آيَاته وَدَلِيل إِعجازه.
فصل
أخبرنَا الإِمام أَبُو المظفر السَّمْعَانِيّ - رَحمَه اللَّه -: سُؤال من أهل الْكَلَام.(1/392)
قَالُوا: إِن قَوْلكُم إِن السّلف من الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنهُ - وَالتَّابِعِينَ - رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِم - لم يشتغلوا بإِيراد دَلَائِل الْعقل وَالرُّجُوع إِلَيْهِ فِي علم الدّين وعدوا هَذَا النمط من الْكَلَام بِدعَة، وكما أَنهم لم يشتغلوا بِهَذَا، كَذَلِك لم يشتغلوا بِالِاجْتِهَادِ فِي الْفُرُوع، وَطلب أَحْكَام الْحَوَادِث، وَلم يرو عَنْهُم شَيْء من هَذِه المقايسات والآراء والعلل الَّتِي وَضعهَا الْفُقَهَاء فِيمَا بَينهم، وَإِنَّمَا ظهر هَذَا بعد أَتبَاع التَّابِعين، وَقد استحسنه جَمِيع الْأمة ودونوه فِي كتبهمْ، فَلَا يُنكر أَن يكون علم الْكَلَام عَلَى ذَلِك. وَقد
202 - قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد اللَّه حسن وَمَا رَآهُ الْمُسلمُونَ قبيحا فَهُوَ عِنْد اللَّه قَبِيح ". وَهَذَا مِمَّا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا فَهُوَ مستحسن عِنْد اللَّه، والبدعة عَلَى وَجْهَيْن: بِدعَة قبيحة وبدعة حَسَنَة.(1/393)
قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: الْقَصَص بِدعَة ونعمت الْبِدْعَة، كم من أَخ مُسْتَفَاد، ودعوة مستجابة، وسؤال معطى.
وَعَن بَعضهم: أَنه سُئِلَ عَنِ الدُّعَاء عِنْد ختم الْقُرْآن، كَمَا يَفْعَله النَّاس الْيَوْم، قَالَ: بِدعَة حَسَنَة، وَكَيف لَا يكون هَذَا النَّوْع من الْعلم حسنا وَهُوَ يتَضَمَّن الرَّد عَلَى الْمُلْحِدِينَ والزنادقة والقائلين بقدم الْعَالم، وَكَذَلِكَ أهل (سَائِر) الْأَهْوَاء من هَذِه الْأمة، وَلَوْلَا النّظر وَالِاعْتِبَار مَا عرف الْحق من الْبَاطِل، وَالْحسن من الْقَبِيح، وَبِهَذَا الْعلم انزاحت الشُّبْهَة عَن قُلُوب أهل الزيغ، وَثَبت قدم الْيَقِين للموحدين، وإِذَا منعتم أَدِلَّة الْعُقُول فَمَا الَّذِي(1/394)
تعتقدون فِي صِحَة أصُول دينكُمْ، وَمن أَي طَرِيق تتوصلون إِلَى معرفَة حقائقها. وَقد علم الْكل أَن الْكتاب لم يعلم حَقه، وَالنَّبِيّ لم يثبت صدقه إِلا بأدلة الْعُقُول، وَقد نفيتم ذَلِك، وإِذَا ذهب الدَّلِيل لم يبْق الْمَدْلُول أَيْضا، وَفِي هَذَا الْكَلَام هدم الدّين وَرَفعه ونقضه.
الْجَواب: وَالله الْمُوفق أَنا قد دللنا فِيمَا سبق بِالْكتاب النَّاطِق من اللَّه وَمن قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَمن أَقْوَال الصَّحَابَة - رَضِي اللَّه عَنْهُم -: أَنا أمرنَا بالاتباع وندبنا إِلَيْهِ، ونهينا عَنِ الابتداع، وزجرنا عَنهُ.
وشعار أهل السّنة اتباعهم السّلف الصَّالح، وتركهم كل مَا هُوَ مُبْتَدع مُحدث.
وَقد روينَا عَن سلفنا أَنهم نهوا عَن هَذَا النَّوْع من الْعلم، وَهُوَ علم الْكَلَام، وزجروا عَنهُ، وعدوا ذَلِك ذَرِيعَة للبدع والأهواء.
203 - وَحمل بَعضهم قَوْله: " اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من علم لَا ينفع " عَلَى هَذَا.
204 - وَكَذَلِكَ قَوْله: " وَإِن من الْعلم لجهلا ".(1/395)
فَأَما قَوْلهم: إِن السّلف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ لم ينْقل عَنْهُم أَنهم اشتغلوا بِالِاجْتِهَادِ فِي الْفُرُوع.
فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَنه لم ينْقل عَنْهُم النَّهْي عَن ذَلِك، والزجر عَنهُ، بل من تدبر اخْتِلَاف الصَّحَابَة فِي الْمسَائِل واحتجاجهم فِي ذَلِك عرف أَنهم كَانُوا يرَوْنَ الْقيَاس وَالِاجْتِهَاد فِي الْفُرُوع.
وَقد روى أهل الحَدِيث وَالنَّقْل عَنْهُم ذَلِك، واحتجاج بَعضهم عَلَى بعض، وَطلب الْأَشْبَاه، ورد الْفُرُوع إِلَى الْأُصُول.
وَأما من كره ذَلِك فَيحْتَمل أَنه إِنما كره ذَلِك إِذَا كَانَ مَعَ وجود النَّص من الْكتاب وَالسّنة.(1/396)
وَأما الْكَلَام فِي أَمر الدّين وَمَا يرجع إِلَى الِاعْتِقَاد من طَرِيق الْمَعْقُول فَلم ينْقل عَن أحد مِنْهُم، بل عدوه من الْبدع والمحدثات، وزجروا عَنهُ غَايَة الزّجر ونهوا عَنهُ.
وَجَوَاب آخر: أَن الْحَوَادِث للنَّاس، والفتاوى فِي الْمُعَامَلَات لَيْسَ لَهَا حصر وَنِهَايَة، وبالناس إِلَيْهِ حَاجَة عَامَّة، فَلَو لم يجز الِاجْتِهَاد فِي الْفُرُوع وَطلب الْأَشْبَه بِالنّظرِ وَالِاعْتِبَار، ورد الْمَسْكُوت عَنهُ إِلَى الْمَنْصُوص عَلَيْهِ بالأقيسة، لتعطلت الْأَحْكَام، وفسدت عَلَى النَّاس أُمُورهم، والتبس أَمر الْمُعَامَلَات على النَّاس، ولابد للعامي من مفتي، وإِذَا لم يجد حكم الْحَادِثَة فِي الْكتاب وَالسّنة فَلَا بُد من الرُّجُوع إِلَى المستنبطات مِنْهُمَا، فَوسعَ اللَّه من هَذَا الْأَمر عَلَى الْأمة، وَجوز الِاجْتِهَاد، ورد الْفُرُوع إِلَى الْأُصُول لهَذَا النَّوْع من الضَّرُورَة، وَمثل هَذَا لَا يُوجد فِي المعتقدات؛ لأَنَّهَا محصورة مَعْدُودَة، قد وَردت النُّصُوص فِيهَا من الْكتاب وَالسّنة.
فَإِن اللَّه أَمر فِي كِتَابه وعَلى لِسَان رَسُوله باعتقاد أَشْيَاء مَعْلُومَة لَا مزِيد عَلَيْهَا وَلَا نُقْصَان عَنْهَا، وَقد أكملها بقوله: {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} فَإِذَا كَانَ قد أكمله وأتمه، وَهَذَا الْمُسلم قد اعْتقد وَسكن إِلَيْهِ، وَوجد قَرَار الْقلب (عَلَيْهِ) ، فبماذا يحْتَاج إِلَى الرُّجُوع إِلَى دَلَائِل الْعُقُول وقضاياها، وَالله أغناه عَنهُ بفضله، وَجعل لَهُ المندوحة عَنهُ لم يدْخل فِي أَمر يدْخل عَلَيْهِ من(1/397)
الشُّبْهَة والإِشكالات، ويوقعه فِي المهالك بِالرُّجُوعِ إِلَى الخواطر والمعقولات وَاتِّبَاع الآراء فِي قديم الدَّهْر وَحَدِيثه، وَهل نجا من نجا إِلا بِاتِّبَاع سنَن الْمُرْسلين، وَالْأَئِمَّة الهادية من الأسلاف الْمُتَقَدِّمين، وَإِذا كَانَ هَذَا النَّوْع من الْعلم لطلب زِيَادَة فِي الدّين، فَهَل تكون الزِّيَادَة بعد الْكَمَال إِلا نُقْصَانا، مثل زِيَادَة الْأَعْضَاء والأصابع فِي الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ فليتق امْرُؤ ربه، وَلَا يدخلن فِي دينه مَا لَيْسَ مِنْهُ، وليتمسك بآثار السّلف وَالْأَئِمَّة المرضية، وليكونن عَلَى هديهم وطريقهم، وليعض عَلَيْهَا بنواجذه، وَلَا يوقعن نَفسه فِي مهلكة يضل فِيهَا الدّين، وَيشْتَبه عَليّ الْحق، وَالله حسيب أَئِمَّة الضلال الداعين إِلَى النَّار، وَيَوْم الْقِيَامَة لَا ينْصرُونَ ".
فصل
يدل عَلَى أَن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ كلم ملك الْمَوْت، ويكلمه إِذَا شَاءَ، وكلم الرَّحِم لما خلقه
205 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا أَبِي، أَنا عَبْدُ اللَّهِ بن إِبْرَاهِيم الْمقري، أَنا أَبُو مَسْعُودٍ أَحْمَدُ بْنُ الْفُرَاتِ، نَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، نَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ، نَا عَمِّي سَعِيدُ بْنُ يَسَارٍ أَبُو الْحُبَابِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ فَضَلَ مِنْ طِينِهِ فَخَلَقَ مِنْهُ الرَّحِمَ فَقَامَتْ(1/398)
فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ، فَقَالَ: أَلا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ ثُمَّ قَرَأَ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَن تفسدوا فِي الأَرْض وتقطعوا أَرْحَامكُم} ".
206 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الظَّهْرَانِيُّ، أَنا أَبُو عبد الله بن مندة، أَنا أَحْمد ابْن عمر وَأَبُو الطَّاهِرِ، نَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، نَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو ابْن دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ الْغِفَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَمَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَاذَا أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ قَالَ: فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَيَكْتُبَانِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقُولُ اللَّهُ: وَيَكْتُبَانِ، يَعْنِي ثُمَّ يَقُولُ رِزْقَهُ وَعَمَلَهُ وَأَثَرَهُ وَمُصِيبَتَهُ، ثُمَّ تُطْوَى لَهُ الصُّحُفُ، فَلا يُزَادُ فِيهَا وَلا يُنْقَصُ ".
207 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا الْحُسَيْنُ بْنُ جَعْفَرٍ الزَّيَّاتُ، نَا يُوسُفُ بْنُ يَزِيدَ أَبُو يَزِيدَ، نَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، نَا حَمْدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " يُؤْتَى بِأَنْعَمِ النَّاسِ كَانَ فِي الدُّنْيَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: اصْبُغُوهُ صَبْغَةً فِي النَّارِ، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ أَصَبْتَ نَعِيمًا قَطُّ؟ هَلْ أَصَبْتَ قُرَّةَ عَيْنٍ؟ هَلْ رَأَيْتَ سُرُورًا قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا. وَعِزَّتِكَ مَا رَأَيْتُ خَيْرًا وَلا سُرُورًا وَلا قُرَّةَ عَيْنٍ قَطُّ. فَيُقَالُ: رُدُّوهُ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ كَانَ بَلاءً فِي الدُّنْيَا وَجَهْدًا. فَيَقُولُ: اصْبُغُوهُ صَبْغَةً فِي الْجنَّة، فَيَقُول: يَا بن آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا. يَا رب ".(1/399)
فصل
فِي أَن الْقُرْآن الْمَكْتُوب فِي الْمَصَاحِف هُوَ حَقِيقَة كَلَام اللَّه
قَالَ أَصْحَاب الحَدِيث وَأهل السّنة: إِن الْقُرْآن الْمَكْتُوب الْمَوْجُود فِي الْمَصَاحِف، وَالْمَحْفُوظ الْمَوْجُود فِي الْقُلُوب، وَهُوَ حَقِيقَة كَلَام اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِخِلَاف مَا زعم قوم أَنه عبارَة عَن حَقِيقَة الْكَلَام الْقَائِم بِذَات اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَدلَالَة عَلَيْهِ، وَالَّذِي هُوَ فِي الْمَصَاحِف مُحدث وحروف مخلوقة.
وَمذهب عُلَمَاء السّنة وفقهائهم أَنه الَّذِي تكلم اللَّه بِهِ، وسَمعه جِبْرِيل من الله، وَأدّى جِبْرِيل إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وتحدى بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَجعله اللَّه عَزَّ وَجَلَّ دلَالَة عَلَى صدق نبوته ومعجزة، وَأدّى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الصَّحَابَة رضوَان اللَّه عَلَيْهِم حسب مَا سَمعه من جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وَنَقله السّلف إِلَى الْخلف قرنا بعد قرن، وَالدَّلِيل عَلَى أَن الْقُرْآن مَوْجُود فِي الْمَصَاحِف نهي النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يُسَافر بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرض الْعَدو مَخَافَة أَن ينالوه، فَلَو كَانَ مَا فِي الْمُصحف هُوَ الزاج والكاغد فَحسب، لم ينْه النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يُسَافر بِهِ إِلَى أَرض الْعَدو، لأَنَّ(1/400)
الزاج والكاغد لَا حُرْمَة لَهُ، فيتحرز من أَن يَنَالهُ الْعَدو، فَعلم أَن فِي الْمُصحف شَيْئا مَوْجُودا زَائِدا عَلَى الزاج والكاغد لَهُ حُرْمَة فَنهى عَنِ المسافرة.
208 - أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، أَنا أَبُو سَعِيدٍ النَّقَّاشُ، نَا أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ، نَا مُوسَى بْنُ سَهْلٍ، نَا إِسْمَاعِيل بن عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: نَهَى رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يُسَافر بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرض الْعَدو مَخَافَة أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ.
وَمن الدَّلِيل عَلَى ذَلِك أَيْضا: نهى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْجنب وَالْحَائِض عَن قِرَاءَته.
209 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ الْحَسَنَابَاذِيُّ، أَنا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ مَخْلَدٍ، نَا إِسْمَاعِيلُ الصَّفَّارُ، نَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، نَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنهُ -، عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " لَا يقر الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ ".(1/401)
وَمن الدَّلِيل أَيْضا: نَهْيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُحدث عَن مَسّه.
210 - أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنا أَبُو الْحسن بن عبد كويه، نَا الطَّبَرَانِيُّ، نَا إِسْحَاقُ الدَّيْرِيُّ، نَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي بكر ابْن مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ فِي كتاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: لَا تَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلا عَلَى طُهْرٍ ".
فصل
قَالَ الْخطابِيّ: عصمنا اللَّه وإِياك من الْأَهْوَاء المضلة، والآراء المغوية، والفتن المحيرة، ورزقنا وإِياك الثَّبَات عَلَى السّنة والتمسك بهَا، وَلُزُوم الطَّرِيقَة المستقيمة الَّتِي درج عَلَيْهَا السّلف، وانتهجها بعدهمْ صَالحُوا الْخلف، وجنبنا وإِياك مداحض الْبدع، وبنيات طرقها العادلة عَن نهج الْحق وَسَوَاء(1/402)
الْوَاضِحَة، وأعاذنا وإِياك عَن حيرة الْجَهْل وتعاطي الْبَاطِل، وَالْقَوْل بِمَا لَيْسَ لنا بِهِ علم، وَالدُّخُول فِيمَا لَا يعنينا والتكلف لما قد كفينا الْخَوْض فِيهِ، ونهينا عَنهُ، ونفعنا وإِياك بِمَا علمنَا، وَجعله سَببا لنجاتنا، وَلَا جعله وبالا علينا برحمته.
وقفت عَلَى مَقَالَتك، وَمَا وَصفته من أَمر ناحيتك، وَظُهُور مَا ظهر بهَا من مقالات أهل الْكَلَام، وخوض الخائضين فِيهَا، وميل بعض منتحلي السّنة إِليها واغترارهم بهَا، واعتذارهم فِي ذَلِك بِأَن الْكَلَام وقاية للسّنة، وجنة لَهَا يذب بِهِ عَنْهَا، ويذاد بسلاحه عَن حريمها، وفهمت مَا ذكرت من ضيق صدرك بمجالستهم، وَتعذر الْأَمر عَلَيْك فِي مفارقتهم، لأَنَّ موقفك بَين أَن تسلم لَهُم مَا يَدعُونَهُ من ذَلِك فتقبله، وَبَين أَن تقابلهم عَلَى مَا يزعمونه فَتَردهُ وتنكره، وكلا الْأَمريْنِ يصعب عَلَيْك، أما الْقبُول فَلِأَن الدّين يمنعك مِنْهُ، وَدَلَائِل الْكتاب وَالسّنة تحول بَيْنك وَبَينه، وَأما الرَّد والمقابلة فلأنهم يطالبونك بأدلة الْعُقُول، ويؤاخذونك بقوانين الجدل، وَلَا يقنعون مِنْك بظواهر الْأُمُور، وَسَأَلتنِي أَن أمدك بِمَا يحضرني فِي نصْرَة الْحق من علم وَبَيَان، وَفِي رد مقَالَة أُولَئِكَ من حجَّة وبرهان، وَأَن أسلك فِي ذَلِك طَريقَة لَا يُمكنهُم ردهَا، وَلَا يسوغ لَهُم من جِهَة الْمَعْقُول إِنكارها، فَرَأَيْت إِسعافك بِهِ لَازِما فِي حق الدّين، وواجب النَّصِيحَة لجَماعَة الْمُسلمين، وَأَنا أسأَل اللَّه أَن يوفق لما ضمنت لَك مِنْهُ، وَأَن يعْصم من الزلل فِيهِ، وَاعْلَم يَا أخي أَن هَذِه الْفِتْنَة قد عَمت الْيَوْم، وشملت وشاعت فِي الْبِلَاد واستفاضت، وَلَا يكَاد يسلم من رهج غبارها إِلا من عصمه اللَّه، وَذَلِكَ مصداق قَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.(1/403)
211 - " إِن الدّين بَدَأَ غَرِيبا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ فطوبى للغرباء ".
قَالَ: فَنحْن الْيَوْم فِي ذَلِك الزَّمَان وَبَين أَهله، فَلَا تنكر مَا تشاهده مِنْهُ، وسل اللَّه الْعَافِيَة من الْبلَاء، واحمده عَلَى مَا وهب لَك من السَّلامَة ثُمَّ إِنِّي تدبرت هَذَا الشَّأْن فَوجدت عظم السَّبَب فِيهِ أَن الشَّيْطَان صَار بلطيف حيلته يسول لكل من أحس من نَفسه بِفضل ذكاء وذهن، يُوهِمهُ أَنه إِن رَضِي فِي عمله ومذهبه بِظَاهِر من السّنة، وَاقْتصر عَلَى وَاضح بَيَان مِنْهَا كَانَ أُسْوَة الْعَامَّة، وعد وَاحِدًا من الْجُمْهُور والكافة، فحركهم بذلك عَلَى التنطع فِي النّظر، والتبدع بمخالفة السّنة والأثر، ليبينوا بذلك عَن طبقَة الدهماء، ويتميزوا فِي الرُّتْبَة عَمَّن يرونه دونهم فِي الْفَهم والذكاء، واختدعهم بِهَذِهِ الْمُقدمَة حَتَّى استزلهم عَن وَاضح المحجة، وأورطهم فِي شُبُهَات تعلقوا بزخارفها، وتاهوا فِي حقائقها، وَلم يخلصموا مِنْهَا إِلَى شِفَاء نفس، وَلَا قبلوها بِيَقِين علم، وَلما رَأَوْا كتاب اللَّه تَعَالَى ينْطق بِخِلَاف مَا انتحلوه، وَيشْهد عَلَيْهِم بباطل مَا اعتقدوه، ضربوا بعض آيَاته بِبَعْض وتأولوها عَلَى مَا سنح لَهُم فِي عُقُولهمْ، واستوى عِنْدهم عَلَى مَا وضعوه من أصولهم، ونصبوا الْعَدَاوَة لأخبار رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولسننه المأثورة عَنهُ، وردوها عَلَى وجوهها وأساءوا فِي نقلتها القالة، ووجهوا عَلَيْهِم الظنون، ورموهم بالتزيد، ونسبوهم إِلَى ضعف الْمِنَّة، وَسُوء الْمعرفَة بمعاني مَا يَرْوُونَهُ من الحَدِيث، وَالْجهل بتأويله، وَلَو سلكوا سَبِيل الْقَصْد ووقفوا عِنْدَمَا انْتهى بهم التَّوْقِيف، لوجدوا برد الْيَقِين وروح(1/404)
الْقُلُوب، ولكثرت الْبركَة وتضاعف النَّمَاء، وانشرحت الصُّدُور، ولأضاءت فِيهَا مصابيح النُّور، وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم.
وَاعْلَم أَن الْأَئِمَّة الماضين وَالسَّلَف الْمُتَقَدِّمين لم يتْركُوا هَذَا النمط من الْكَلَام، وَهَذَا النَّوْع من النّظر عَجزا عَنهُ وَلَا انْقِطَاعًا دونه، وَقد كَانُوا ذَوي عقول وافرة، وأفهام ثاقبة.
وَكَانَ فِي زمانهم هَذِه الشّبَه والآراء، وَهَذِه النَّحْل والأهواء، وَإِنَّمَا تركُوا هَذِه الطَّرِيقَة، وأضربوا عَنْهَا لما تخوفوه من فتنتها، وَحَذرُوهُ من سوء مغبتها، وَقد كَانُوا عَلَى بَيِّنَة من أَمرهم، وعَلى بَصِيرَة من دينهم لما هدَاهُم اللَّه بِهِ من توفيقه، وَشرح بِهِ صُدُورهمْ من نور مَعْرفَته، وَرَأَوا أَن فِيمَا عِنْدهم من علم الْكتاب وحكمته، وتوقيف السّنة وبيانها غنى ومندوحة عَمَّا سواهُمَا، وَأَن الْحجَّة قد وَقعت بهما، وَالْعلَّة أزيحت بمكانهما، فَلَمَّا تَأَخّر الزَّمَان بأهلة وفترت عزائمهم فِي طلب حقائق عُلُوم الْكتاب وَالسّنة، وَقلت عنايتهم بهَا، واعترضهم الْمُلْحِدُونَ بشبههم، والمتحذلقون بجدلهم، حسبوا أَنهم إِن لم يردوهم عَن أنفسهم بِهَذَا النمط من الْكَلَام، وَلم يدافعوهم بِهَذَا النَّوْع من الجدل لم يقووا وَلم يظهروا فِي الْحجَّاج عَلَيْهِم، فَكَانَ ذَلِك ضلة من الرَّأْي، وغبنا فِيهِ وخدعة من الشَّيْطَان وَالله الْمُسْتَعَان.(1/405)
فَإِن قَالَ هَؤُلَاءِ الْقَوْم، فإِنكم قد أنكرتم الْكَلَام، ومنعتم اسْتِعْمَال أَدِلَّة الْعُقُول، فَمَا الَّذِي تعتمدون فِي صِحَة أصُول دينكُمْ، وَمن أَي طَرِيق تتوصلون إِلَى معرفَة حقائقها، وَقد عَلَّمْتهمْ أَن الْكتاب لم يعلم حَقه، وَالنَّبِيّ لم يثبت صدقه إِلا بأدلة الْعُقُول، وَأَنْتُم قد نفيتموها. قُلْنَا: أَنا لَا ننكر أَدِلَّة الْعُقُول، والتوصل بهَا إِلَى المعارف، وَلَكنَّا لَا نَذْهَب فِي اسْتِعْمَالهَا إِلَى الطَّرِيقَة الَّتِي سلكتموها فِي الِاسْتِدْلَال بالأعراض، وتعلقها بالجواهر وانقلابها فِيهَا عَلَى حُدُوث الْعَالم، وإِثبات الصَّانِع، ونرغب عَنْهَا إِلَى مَا هُوَ أوضح بَيَانا، وَأَصَح برهانا، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْء أخذتموه عَنِ الفلاسفة، وَإِنَّمَا سلكت الفلاسفة هَذِه الطَّرِيقَة، لأَنهم لَا يسثبتون النبوات، وَلَا يرَوْنَ لَهَا حَقِيقَة، فَكَانَ أقوى شَيْء عِنْدهم فِي الدّلَالَة عَلَى إِثبات هَذِه الْأُمُور مَا تعلقوا بِهِ من الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الْأَشْيَاء.
فَأَما مثبتوا النبوات فقد أغناهم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَن ذَلِك، وكفاهم كلفة الْمُؤْنَة فِي ركُوب هَذِه الطَّرِيقَة المعوجة الَّتِي لَا يُؤمن الْعَنَت عَلَى راكبها، والإِبداع والانقطاع عَلَى سالكها.
وَبَيَان مَا ذهب إِلَيْهِ السّلف من أَئِمَّة الْمُسلمين رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِم فِي الِاسْتِدْلَال عَلَى معرفَة الصَّانِع، وإِثبات توحيده وَصِفَاته، وَسَائِر مَا ادّعى أهل(1/406)
الْكَلَام أَنه لَا يتَوَصَّل إِلَيْهِ إِلا من الْوَجْه الَّذِي يزعمونه، هُوَ أَن اللَّه سُبْحَانَهُ لما أَرَادَ إِكرام من هداه لمعرفته بعث رَسُول مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِليهم بشيرا وَنَذِيرا وداعيا إِلَى اللَّه بإِذنه وسراجاً منيراً، وَقَالَ لَهُ: {يَا أَيهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِن لم تفعل فَمَا بلغت رسَالَته} . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي خطْبَة الْوَدَاع (و) فِي مقامات لَهُ شَتَّى، وبحضرته عَامَّة أَصْحَابه رضوَان اللَّه عَلَيْهِم: أَلا هَل بلغت، وَكَانَ مَا أنزل اللَّه وَأمر بتبليغه هُوَ كَمَال الدّين وَتَمَامه لقَوْله: {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} . فَلم يتْرك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَيْئا من أُمُور الدّين، قَوَاعِده وأصوله وشرائعه وفصوله إِلا بَينه، وبلغه عَلَى كَمَاله وَتَمَامه، وَلم يُؤَخر بَيَانه عَن وَقت الْحَاجة إِلَيْهِ، إِذ لَا خلاف بَين فرق الْأمة أَن تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة لَا يجوز بِحَال.
وَمَعْلُوم أَن أَمر التَّوْحِيد وإِثبات الصَّانِع لَا تَبْرَح فيهمَا الْحَاجة راهنة أبدا فِي كل وَقت وزمان، وَلَو أخر فيهمَا الْبَيَان لَكَانَ قد كلفهم مَا لَا سَبِيل لَهُم إِلَيْهِ.
وإِذَا كَانَ الْأَمر عَلَى مَا قُلْنَا فقد علمنَا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يدعهم فِي هَذِه الْأُمُور إِلَى الِاسْتِدْلَال بالأعراض، وتعلقها بالجواهر، وانقلابها إِذ لَا يُمكن أحدا من النَّاس أَن يروي فِي ذَلِك عَنهُ، وَلَا عَن وَاحِد من أَصْحَابه من هَذَا(1/407)
النمط حرفا وَاحِدًا فَمَا فَوْقه، لَا من طَرِيق تَوَاتر وَلَا آحَاد علم أَنهم قد ذَهَبُوا خلاف مَذَاهِب هَؤُلَاءِ وسلكوا غير طريقتهم.
فصل
ذكر الْآيَات الدَّالَّة عَلَى وحدانية اللَّه تَعَالَى وَأَنه خَالق الْخلق
خلق آدم من تُرَاب، وَخلق مِنْهَا زَوجهَا حَوَّاء. قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ منبها عباده عَلَى وحدانيته وربوبيته وبديع صَنعته. {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَاب ثمَّ إِذا أَنْتُم بشر تنتشرون} ، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يتفكرون} . وَقَالَ: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنفخ فِيهِ من روحه} . الْآيَة(1/408)
ثمَّ أخبر عَزَّ وَجَلَّ بتفرده بِخلق الْأَشْيَاء كلهَا من غير معِين ووزير. فَقَالَ تَعَالَى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أنفسهم} وَقَالَ " {أشهدوا خلقهمْ} .
212 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا وَالِدِي، أَنا عبد الرَّحْمَن ابْن يَحْيَى وَمُحَمَّدُ بْنُ حَمْزَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُونُسَ قَالُوا: نَا يُونُسُ، نَا أَبُو دَاوُدَ،
قَالَ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَأَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوب ابْن يَحْيَى، نَا أَبُو سَلَمَةَ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَمَّا صَوَّرَ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ تَرَكَهُ مَا شَاءَ أَنْ يَتْرُكَهُ فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يَطِيفُ بِهِ وَيَنْظُرُ إِلَيْهِ فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ عَلِمَ أَنَّهُ خَلْقٌ لَا يَتَمَالَكُ ".
213 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الرَّازِيُّ، وَعَبْدُوسُ بْنُ الْحُسَيْنِ النَّيْسَابُورِيُّ، وَأَبُو عَمْرٍو وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالُوا: نَا أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الرَّازِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، نَا هِشَام(1/409)
ابْن حَسَّانَ، حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، نَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ أَرَأَيْتَ السَّاعَةَ الَّتِي ذكرهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْجُمُعَةِ؟ . هَلْ ذَكَرَ لَكُمْ مِنْهَا؟ فَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، خَلَقَهُ مِنْ أَدِيمِ الأَرْضِ كُلِّهَا فَسُمِّيَ آدَمَ. أَلا تَرَى أَنَّ مِنْ وَلَدِهِ الأَسْوَدَ وَالأَحْمَرَ وَالْخَبِيثَ وَالطَّيِّبَ، ثُمَّ عَهِدَ إِلَيْهِ فنسي فَسُمي الْإِنْسَان، فبالله إِن غَابَتْ الشَّمْسُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى أُهْبِطَ مِنَ الْجَنَّةِ.
وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: خَلَقَهُ مِنْ أَدِيمِ الأَرْضِ كُلِّهَا، أَحْمَرِهَا وَأَسْوَدِهَا خَبِيثِهَا وَطَيِّبِهَا.
214 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا خَيْثَمَةُ بن سُلَيْمَان، نَا أَبُو يحيى ابْن أَبِي مَسَرَّةَ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ، نَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ الْمَرَأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا، وَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَفِيهَا عِوَجٌ ".
215 - وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ انْتَزَعَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلاعِهِ فَخَلَقَ مِنْهُ حَوَّاءَ ".
216 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَنَامَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي الْجَنَّةِ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَإِذَا عِنْدَ رَأْسِهِ امْرَأَةٌ قَاعِدَةٌ خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ ضِلْعِهِ فَسَأَلَهَا مَا أَنْتِ؟ قَالَتِ: امْرَأَةٌ. قَالَ: وَلِمَ خُلِقْتِ؟ قَالَتْ: تَسْكُنُ إِلَيَّ، فَقَالَتْ لَهُ الْمَلائِكَةُ يَنْظُرُونَ مَا بَلَغَ(1/410)
عِلْمُهُ: وَمَا اسْمُهَا يَا آدَمُ؟ قَالَ: حَوَّاءُ. قَالُوا: لِمَا سُمِّيَتْ حَوَّاءَ؟ قَالَ: لأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ شَيْءٍ حَيٍّ.
ذكر آيَة أُخْرَى: تدل عَلَى وحدانية اللَّه تَعَالَى من انْتِقَال الْخلق من حَال إِلَى حَال. قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} إِلَى قَوْله: {تبَارك الله أحسن الْخَالِقِينَ} ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُوم فقدرنا فَنعم القادرون} . وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ من أَي شَيْء خلقه} إِلَى قَوْله: {مَتَاعا لكم ولأنعامكم} . وَقَالَ: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نبتليه فجعلناه سميعاً بَصيرًا} . {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يحيى الْمَوْتَى} . وَقَالَ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحن الْخَالِقُونَ} .(1/411)
بَيَان ذَلِك من الْأَثر.
217 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَاد، وَمُحَمّد ابْن يَعْقُوبَ قَالا: نَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، بن أَيُّوب، نَا أَبُو زرْعَة ابْن عَمْرٍو، نَا عَمْرُو بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، نَا أَبِي قَالا: نَا الأَعْمَشُ عَنْ زَيْدِ ابْن وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: حَدثنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: " إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مَلَكًا بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيَقُولُ: اكْتُبْ أَجَلَهُ وَرِزْقَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلا ذِرَاعٌ فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الَّذِي قَدْ سَبَقَ فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ (فَيَدْخُلُ النَّارَ) ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الَّذِي قَدْ سَبَقَ فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ".
ذكر آيَة أُخْرَى: تدل عَلَى وحدانية الْخَالِق، وَأَنه مخرج النُّطْفَة إِلَى الرَّحِم. قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ والترائب} . وَقَالَ: {ونقر فِي الْأَرْحَام} .(1/412)
بَيَان ذَلِك فِي الْأَثر:
218 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، نَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ، نَا أَبُو ثَوْبَةَ.
قَالَ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الشَّيْبَانِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمٍ النَّيْسَابُورِيُّ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّمَرْقَنْدِيُّ، نَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، نَا أَحْمد بن الْمُعَلَّى ابْن يَزِيدَ، نَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالُوا: نَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلامٍ أَخْبَرَنِي أَخِي زَيْدُ بْنُ سَلامٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلامٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِي أَبُو أَسْمَاءَ الرَّحَبِيُّ عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: كنت قَاعِدا عِنْد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَتَاهُ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ: فَدَفَعْتُهُ دَفْعَةً حَتَّى صَرَعْتُهُ فَقَالَ: لِمَ تَدْفَعُنِي، فَقُلْتُ: أَلا تَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إِنِّي سَمَّيْتُهُ بِالاسْمِ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ أَهْلُهُ فَقَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَجَلْ، إِنَّ أَهْلِي سَمَّوْنِي مُحَمَّدًا فَقَالَ جِئْتُكَ لأَسْأَلَكَ عَنْ وَاحِدَةٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلا نَبِيٌّ أَوْ رَجُلٌ أَوْ رَجُلانٍ، قَالَ: هَلْ يَنْفَعُكَ إِنْ أَخْبَرْتُكَ؟ فَقَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنِي، فَقَالَ: سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ؟ قَالَ. مِنْ أَيْنَ يَكُونُ شبه الْوَلَد فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَمَّا مَاءُ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ، وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ رَقِيقٌ، فَإِذَا عَلا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِنْ عَلا مَاءَ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ آنَثَ أَوْ قَالَ: أَنْثَى بِإِذْنِ اللَّهِ قَالَ: فَقَالَ: صَدَقْتَ وَأَنْتَ نَبِيٌّ. قَالَ ثمَّ ذهب فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَقَدْ سَأَلَنِي حِينَ سَأَلَنِي وَمَا عِنْدِي مِنْهُ عِلْمٌ حَتَّى أَنْبَأَنِي اللَّهُ تَعَالَى.(1/413)
219 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، نَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ عَبْدَ الله بن سَلام سَأَلَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْوَلَدِ يَنْزِعُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ آنِفًا فَقَالَ: إِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ نَزَعَهُ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ نَزَعَهَا. قَوْلُهُ: نَزَعَهُ أَيْ أَشْبَهَهُ.
220 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ، نَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ، نَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ، نَا أُنَيْسُ بْنُ سَوَّارٍ الْجَرْمِيُّ أَخُو قَتَادَةَ بْنِ سَوَّارٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ مَالك بن الْحُوَيْرِث اللَّيْثِيّ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ خَلْقَ عَبْدٍ، فَجَامَعَ الرَّجُلُ الْمَرَأَةَ طَارَ مَاؤُهُ فِي كُلِّ عُضْوٍ وَعِرْقٍ مِنْهَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمَ السَّابِعِ جَمَعَهُ اللَّهُ ثُمَّ أَحْضَرَهُ كُلُّ عِرْقٍ لَهُ دُونَ آدَمَ " فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَهُ ".
221 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا عَلِيُّ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، نَا أَبُو زُرْعَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو، نَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، نَا حَرِيزُ بْنُ عُثْمَانَ الرَّحَبِيُّ، نَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ الْحَضْرَمِيُّ، عَنْ بِشْرِ بْنِ جحاش قَالَ: بَصق رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي كَفِّهِ، ثُمَّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِصْبَعَهُ السَّبَّابَةَ، ثُمَّ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّى تُعْجِزُنِي يَا ابْنَ آدَمَ، وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ، وَلِلأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ، ثُمَّ جَمَعْتَ وَمَنَعْتَ(1/414)
حَتَّى إِذا بلغت نَفسك على هَا هُنَا وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ قُلْتَ: أَتَصَدَّقُ وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ.
قَوْلُهُ: وَئِيدٌ، أَيْ صَوْتٌ كَالأَطِيطِ، أَيْ مِنْ ثِقَلِ مَشْيِكَ عَلَيْهَا مُتَكَبِّرًا.
222 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالُوا: نَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، نَا عَلِيُّ بْنُ عُثْمَانَ، نَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، نَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ إِذَا خَطَبَنَا يَذْكُرُ ابْنَ آدَمَ وَيَذْكُرُ بَدْءَ خَلْقِهِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ، ثُمَّ يَقَعُ فِي الرَّحِمِ نُطْفَةً، ثُمَّ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ فَيَتَلَوَّثُ فِي بَوْلِهِ وَخُرْئِهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَتَبَّعُ هَذَا حَتَّى إِنَّ أَحَدَنَا لَيُقَذِّرُ نَفْسَهُ.
223 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الأَصَمُّ، نَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ، نَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ شَقِيقٍ، نَا الْحُسَيْن ابْن وَاقِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيه قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " فِي الْإِنْسَان ثَلَاثمِائَة وَسِتُّونَ مَفْصَلا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ كُلِّ مَفْصَلٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةً ".
224 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حمدَان، نَا مُحَمَّد ابْن أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ، نَا أَبُو تَوْبَةَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلامٍ، عَنْ أَخِيهِ زَيْدِ بْنِ سَلامٍ، عَنْ أَبِي سَلامٍ الْحَبَشِيِّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ فَرُّوخَ أَنَّهُ سمع(1/415)
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ على سِتِّينَ وثلاثمائة مَفْصَلٍ فَمَنْ كَبَّرَ اللَّهَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَهَلَّلَ اللَّهَ وَاسْتَغَفْرَ اللَّهَ، وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ عَزَلَ شَوْكَةً عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ عدد السِّتين والثلاثمائة السُّلامَى، فَإِنَّهُ يَمْشِي وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ ".
ذكر آيَة أُخْرَى: تدل عَلَى وحدانية الله تَعَالَى، وَأَنه مُقَلِّب الْقُلُوب، يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه إِلَى مَا يُرِيد من السَّعَادَة والشقاوة. قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ الله يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه} . وَقَالَ: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم} . قَالَ عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -: يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه، يحول بَين الْمُؤمن وَبَين أَن يكفر، وَبَين الْكَافِر وَبَين أَن يُؤمن.
وَرُوِيَ عَنهُ أَيْضا، أَنه قَالَ: يحول بَين الْكَافِر وَبَين أَن يعي بَابا من الْخَيْر أَو يُعلمهُ. وَقَالَ مُجَاهِد: يتْركهُ حَتَّى لَا يعقل.
225 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَعْقُوبَ الْبَغْدَادِيُّ، بِمِصْرَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَارِثِ، نَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن الْمُبَارك، نَا الفضيل(1/416)
ابْن سُلَيْمَانَ النُّمَيْرِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَتْ يَمِينُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ ".
ذكر آيَة (أُخْرَى) : تدل عَلَى وحدانية الْخَالِق، وَأَن الْأَرْوَاح بِيَدِهِ فِي حَال الْمَوْت والحياة، وَالنَّوْم والانتباه. قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: مخبرا عَن قدرته عَلَى ذَلِك: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تمت فِي منامها} . الْآيَة.
بَيَان ذَلِك من الْأَثر:
226 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ، نَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، أَنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَيُّوبَ، نَا أَبُو زُرْعَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو، نَا أَبُو الْيَمَانِ، نَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيِّ (بْنِ أَبِي طَالِبٍ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدَّثَهُ أَن(1/417)
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - حَدثهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ فَقَالَ: أَلا تُصَلُّونَ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ إِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ قُلْتُ لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ يَضْرِبُ فَخِذَهُ يَقُول: وَكَانَ الْإِنْسَان أَكثر شَيْء جدلاً.
227 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بن مُحَمَّد بن زِيَاد، نَا الْحسن، ابْن أَحْمَدَ بْنِ حَيُّونَ، نَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِبِلالٍ: اكْلأْ لَنَا اللَّيْلَةَ، فَلَمَّا كَانَ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ نَامُوا حَتَّى ضَرَبَتْهُمُ الشَّمْسُ، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يَا بِلالُ، فَقَالَ بِلالُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي أَخَذَ بِنَفْسِكَ.
ذكر آيَة (أُخْرَى) تدل عَلَى وحدانية الْخَالِق، وَأَنه المبدئ خلقه بِلَا مِثَال، والمعيد لَهَا بعد فنائها. قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: مخبرا عَن قدرته عَلَى إِحياء خلقه بعد مَوْتهمْ وفنائهم بعد أَن يصيروا رميما ورفاتا: {أَلَمْ يَك نُطْفَة من منى يمنى} إِلَى قَوْله {الْمَوْتَى} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} إِلَى قَوْله: {الْعَلِيم} .(1/418)
(و) قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدهُ وَهُوَ أَهْون} .
228 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ، أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نَا يُونُسُ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي يُونُسَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -، عَن النَّبِي
قَالَ: " قَالَ اللَّهُ كَذَّبَنِي عَبْدِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَذِّبَنِي، وَشَتَمَنِي وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتُمَنِي، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَالَّذِي بَدَأَنِي، وَلَيْسَ آخِرُ الْخَلْقِ أَهْوَنُ عَلَيَّ أَنْ أُعِيدَهُ مِنْ أَوَّلِهِ، فَقَدْ كَذَّبَنِي أَنْ قَالَ هَذَا، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَيَقُولُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَأَنَا اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ أَلِدْ، وَلَمْ أُولَدْ ".
أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا أَبُو عَمْرٍو أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، نَا أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ، نَا أَبُو الْيَمَانِ، نَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعْنِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُؤًا أَحَدٌ ".(1/419)
فصل
فِيمَا ذكر فِي اللفظية
أَخْبَرَنَا عبد الْغفار بْن أشتة، أَنا أَبُو بكر بْن أَبِي نصر، (نَا أَبُو الشَّيْخ) ، نَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن الْحسن، نَا مُحَمَّد بْن مَسْعُود الطوسوسي قَالَ: سَمِعت الْحسن ابْن الصَّباح الْبَزَّار قَالَ: سَمِعت أَحْمَد بْن حَنْبَل يَقُول: افْتَرَقت الْجَهْمِية عَلَى ثَلَاث فرق فرقة قَالَت: بالخالق، وَفرْقَة قَالَت: بالمخلوق، وَفرْقَة قَالَت: لفظنا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق، وشرها من قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخ، نَا أَحْمَد بْن عَليّ بْن الْجَارُود قَالَ: سَمِعت أَبَا حَاتِم. وَقيل لَهُ: إِن قوما يَقُولُونَ اللَّفْظ غير الملفوظ، وَالْقِرَاءَة غير المقروء، فَقَالَ: أُولَئِكَ الْجَهْمِية، اللَّفْظ والملفوظ، وَالْقِرَاءَة والمقروء وَاحِد، وَهُوَ غير مَخْلُوق.(1/420)
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخ قَالَ: سَمِعت أَحْمَد بْن عَليّ بْن الْجَارُود قَالَ: سَمِعت أَبَا سعيد الْأَشَج، وَهُوَ يَقُول: قد أَحْدَثُوا فِي الْقُرْآن شَيْئا الْقُرْآن كَلَام اللَّه غير مَخْلُوق، ولفظنا بِهِ غير مَخْلُوق، وَهُوَ بلفظنا غير مَخْلُوق، وَهُوَ فِي صدورنا غير مَخْلُوق، وَالَّذِي نتلوه فِي محاريينا غير مَخْلُوق، فاجتنوا أهل الْبدع وَأهل الزيغ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخ قَالَ: سَمِعت أَبَا يَحْيَى الرَّازِيّ قَالَ: سَمِعت أَبَا مَسْعُود أَحْمَد بْن الْفُرَات يَقُول: من قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق، يُرِيد أَن يحتال فِي الْقُرْآن بِشَيْء من الْأَشْيَاء أَو بِوَجْه من الْوُجُوه مِمَّا يَدْعُو ذَلِك إِلَى أَن يَقُول الْقُرْآن مَخْلُوق فَهُوَ جهمي خَبِيث.
قَالَ أَبُو الشَّيْخ: حكى بعض أهل الْعلم فِي حَدِيث سعيد بْن جُبَير، عَنِ ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ:
229 - انْطلق رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى سوق عكاظ، وَقد حيل بَين الشَّيَاطِين وَبَين خبر السَّمَاء، وَأرْسلت عَلَيْهِم الشهب فَرَجَعت الشَّيَاطِين فَقَالُوا: حيل بَيْننَا وَبَين خبر السَّمَاء، فتوجهوا نَحْو تهَامَة إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(1/421)
وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ، فَلَمَّا سمعُوا الْقُرْآن اسْتَمعُوا الْقُرْآن فَقَالُوا: هَذَا وَالله الَّذِي حَال بَيْنكُم وَبَين خبر السَّمَاء، فهنالكم حِين رجعُوا إِلَى قَومهمْ فَقَالُوا: يَا قَومنَا أَنا سمعنَا قُرْآنًا عجبا، فَأنْزل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - {قل أُوحِي إِلَيّ} . فَهَذَا هُوَ الأَصْل فِي أَن اللَّفْظ بِالْقُرْآنِ هُوَ الْقُرْآن لِأَن الْجِنّ إِنما سمعُوا لفظ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقراءته وتلاوته وَقَالُوا: أَنا سمعنَا قُرْآنًا عجبا.
230 - وَقيل فِي حَدِيث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قيل يَا رَسُولَ اللَّهِ إِن أمتك ستفتتن من بعْدك. قَالُوا: وَمَا الْمخْرج من ذَلِك؟ فَذكر الحَدِيث وَقَالَ: وَهُوَ الْفَصْل لَيْسَ بِالْهَزْلِ، وَهُوَ الَّذِي سمعته الْجِنّ فَلم تناه أَن قَالُوا: {إِنَّا سمعنَا قُرْآنًا عجبا يهدي إِلَى الرشد} . لَا يخلق عَلَى كَثْرَة الرَّد وَلَا تَنْقَضِي عجائبه " إِنَّمَا سمعُوا قِرَاءَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالُوا سمعنَا قُرْآنًا عجبا. يهدي إِلَى الرشد.
231 - وَفِي حَدِيث عَاصِم، عَن زر، عَن عَبْد اللَّهِ فَلَمَّا سَمِعُوهُ قَالُوا: أَنْصتُوا، وَكَانُوا سَبْعَة: أحدهم زَوْبَعَة أخبر أَنه كَانَ يقْرَأ الْقُرْآن، وَلَو لم(1/422)
بِلَفْظ بِهِ مَا سمعُوا قِرَاءَته، فَلَمَّا سمعُوا قِرَاءَته قَالُوا: أَنْصتُوا، وَلم يقل يَسْتَمِعُون حِكَايَة عَنِ الْقُرْآن، وَلَا قَالَ فِيمَا سمعُوا حِكَايَة الْقُرْآن، وَلَكِن بَين تَعَالَى وتبارك أَن لفظ نبيه بِالْقُرْآنِ هُوَ الْقُرْآن وقراءته لِلْقُرْآنِ هُوَ الْقُرْآن، وَكَلَامه بِالْقُرْآنِ إِنما هُوَ كَلَام اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
فصل فِي الواقفة
أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عبد الْغفار، أَنا أَبُو بكر بْن أَبِي نصر، نَا أَبُو الشَّيْخ، نَا عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن يَعْقُوب قَالَ: سَمِعت سُلَيْمَان بْن الْأَشْعَث يَقُول: سَمِعت أَحْمَد بْن حَنْبَل سُئِلَ هَل لَهُ رخصَة أَن يَقُول الْقُرْآن كَلَام اللَّه، ثُمَّ يسكت قَالَ: وَلم يسكت؟ لَوْلَا مَا وَقع النَّاس فِيهِ، كَانَ يَسعهُ السُّكُوت، وَلَكِن حَيْثُ تكلمُوا لأي شَيْء لَا تتكلمون.
وَقَالَ أَبُو كريب: الْقُرْآن كَلَام اللَّه غير مَخْلُوق. وَمن قَالَ: هُوَ مَخْلُوق، أَو وقف فِيهِ جهمي.(1/423)
وَقَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة، ووكيع: من قَالَ هُوَ مَخْلُوق فَهُوَ جهمي، وَمن وقف فِيهِ فَهُوَ مثله، وَمن قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق فَهُوَ شَرّ الثَّلَاثَة.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن أَبِي بكر الزبيرِي: " الْقُرْآن من علم اللَّه، فَمن زعم أَن شَيْئا من علم اللَّه أَو من اللَّه مَخْلُوق فَهُوَ كَافِر ".
وَقَالَ أَحْمَد بْن منيع: " من زعم أَنه مَخْلُوق فَهُوَ جهمي، وَمن وقف فِيهِ فَإِن كَانَ مِمَّن لَا يعقل مثل البقالين وَالنِّسَاء وَالصبيان سكت عَنهُ وَعلم، وَإِن كَانَ مِمَّن يفهم فَأَجره فِي وَادي الْجَهْمِية، وَمن قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق فَهُوَ جهمي ".
وَقَالَ غَيره: وَمن شكّ فِيهِ حَتَّى يقف بِالشَّكِّ فَهُوَ كَافِر لَا تصلوا خَلفه، وَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ الْعلم.
وَقَالَ دَاوُد بْن رشيد: من قَالَ إِن الْقُرْآن مَخْلُوق فقد أَرَادَ بقوله: إِن اللَّه لَا يتَكَلَّم، فَإِذَا نفى الصّفة فقد نفى الْمَوْصُوف وعطل.
وَقَالَ غَيره: من زعم أَن الْقُرْآن مَخْلُوق، فقد لزمَه أَن يَقُول: كَلَام اللَّه مَخْلُوق، وَمن لزمَه أَن يَقُول كَلَام اللَّه مَخْلُوق لزمَه أَن يَقُول: قدرَة اللَّه مخلوقة(1/424)
لِأَن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيكون} . فَمن لزمَه أَن يَقُول: قدرَة اللَّه مخلوقة، لزمَه أَن يَقُول: قدرَة اللَّه تفنى مَعَ مَا يفنى من الْخلق.
وَمن زعم أَن قدرَة اللَّه تفنى، فقد زعم أَن اللَّه يبْقى بِغَيْر قدرَة، وَمن زعم أَن اللَّه يبْقى بِغَيْر قدرَة فَهُوَ كَافِر. من هَا هُنَا دخل عَلَيْهِم الْكفْر.
وَقَالَ مُصعب الزبيرِي: إِن اللَّه يتَكَلَّم بِغَيْر مَخْلُوق، وإِنه يسمع بِغَيْر مَا يبصر، ويبصر بِغَيْر مَا يسمع، وَيتَكَلَّم بِغَيْر مَا يسمع، وَإِن كل اسْم من هَذِه يَقع فِي مَوضِع لَا يَقع غَيره، وَلست أَقُول إِن كَلَام اللَّه وَحده غير مَخْلُوق، أَنا أَقُول أَفعَال اللَّه كلهَا غير مخلوقة، وَإِن وَجه اللَّه غير يَدَيْهِ، وَإِن يَدَيْهِ غير وَجهه. فَإِن قَالُوا: كَيفَ؟ قُلْنَا: لَا نَدْرِي كَيفَ هُوَ؟ غير أَن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَنَا أَن لَهُ وَجها ويدين ونفسا، وَأَنه سميع بَصِير. وكل اسْم من هَذِه يَقع فِي مَوضِع لَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم الآخر. قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبك ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام} . فَهَل يُقَال: للمخلوق ذُو الْجلَال والإِكرام، وَاحْتج بقول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَه إِلَّا أَنا(1/425)
فاعبدني} . فَهَل لمخلوق أَن يَقُول ذَلِك؟ إِنِّي لأتهمهم أَن يَكُونُوا زنادقة، وإِنهم ليدورون عَلَى كلمة لَو أفصحوا بهَا زايلنا الشَّك فِي أَمرهم.
وَرُوِيَ أَن بشرا المريسي لَقِي مَنْصُور بْن عمار فَقَالَ لَهُ: أَخْبرنِي عَن كَلَام اللَّه، أهوَ الله أم غير الله أم دون اللَّه؟ فَقَالَ: إِن كَلَام اللَّه لَا يَنْبَغِي أَن يُقَال: هُوَ اللَّه، وَلَا هُوَ غير اللَّه، وَلَا هُوَ دون اللَّه، وَلكنه كَلَامه. وَقَوله: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآن أَن يفترى من دون الله} . أَي لم يقلهُ أحد إِلا اللَّه، فرضينا حَيْثُ رَضِي لنَفسِهِ، واخترنا لله من حَيْثُ اخْتَار لنَفسِهِ. فَقُلْنَا: كَلَام اللَّه لَيْسَ بخالق وَلَا مَخْلُوق، فَمن سمى الْقُرْآن بِالِاسْمِ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّه بِهِ فَهُوَ من المهتدين، وَمن سَمَّاهُ باسم من عِنْده كَانَ من الغالين فاله(1/426)
عَن هَذَا {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سيجزون مَا كَانُوا يعْملُونَ} . فَإِن تأبى إِلا أَن تفعل كنت من الَّذين يسمعُونَ كَلَام اللَّه، ثُمَّ يحرفونه من بعد مَا عقلوه وهم يعلمُونَ.
فصل
فِيمَا رُوِيَ من كَلَام الرب تبَارك تَعَالَى
232 - أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عبد الْغفار، أَنا أَبُو بكر بْن أَبِي نصر، نَا أَبُو الشَّيْخ، نَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَذَّاءُ، أَنا عَلِيُّ بن الْمَدِينِيّ، نَا مُوسَى بن إِبْرَاهِيم ابْن بَشِيرِ بْنِ الْفَاكِهِ الأَنْصَارِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ خِرَاشٍ الأَنْصَارِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: نَظَرَ إِلَيّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: مَالِي أَرَاكَ مُهْتَمًّا؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُتِلَ أَبِي وَتَرَكَ دَيْنًا وَعِيَالا. فَقَالَ: أَلا أُخْبِرُكَ مَا كَلَّمَ اللَّهُ قَطُّ أَحَدًا إِلا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإِنَّهُ كَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي سَلْنِي أُعْطِكَ. قَالَ: أَسْأَلُكَ أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً. فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يَرْجِعُونَ. قَالَ: يَا رَبِّ فَأَبْلِغْ مِنْ وَرَائِي. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا} .(1/427)
الآيَةَ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: كِفَاحًا، أَيْ مُوَاجَهَةً لَيْسَ بَين وَبَيْنَهُ الْحِجَابُ.
233 - وَفِي حَدِيث حسان: لَا تزَال مؤيدا بِروح الْقُدس مَا كافحت عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قيل: المكافحة الْمُضَاربَة تِلْقَاء الْوَجْه.
234 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْن عبد الْغفار، أَنا أَبُو بكر بْن أَبِي نَصْرٍ، نَا أَبُو الشَّيْخِ، نَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ البيوردي، نَا حبَان ابْن أَغْلَبَ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خَزَائِنُ اللَّهِ الْكَلامُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ".
235 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، نَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو، نَا يُوسُف ابْن مُحَمَّدِ بْنِ سَابِقٍ، نَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ مُوسَى بن الْمسيب، عَن سَالم ابْن أَبِي الْجَعْدِ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، نَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، نَا مُوسَى بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ شهر ابْن(1/428)
حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: عَطَائِي كَلامٌ وَعَذَابِي كَلامٌ، إِذَا أَرَدْتُ شَيْئًا إِنَّمَا أَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ".
فصل
قَالَ بعض الْحَنَابِلَة: الْقُرْآن كَلَام اللَّه منزل، غير مَخْلُوق، مِنْهُ بدا وإِلَيْهِ يعود، تكلم بِهِ فِي الْقدَم بِحرف وَصَوت، حرف يكْتب وَصَوت يسمع، وَمعنى يعلم.
وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: الْقُرْآن مَخْلُوق، وَقَالَت الأشعرية: كَلَام اللَّه لَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت، وَإِنَّمَا هُوَ معنى قَائِم فِي نَفسه لم ينزل على نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا عَلَى غَيره، وَمَا نقرأه عِنْدهم مَخْلُوق، فالدلالة عَلَى الْمُعْتَزلَة قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيكون} . فَأخْبر تَعَالَى أَنه كَون الْأَشْيَاء(1/429)
بكن، فَلَو كَانَت كن مخلوقة لاحتاجت إِلَى كن أُخْرَى تخلق بهَا، وَالْأُخْرَى إِلَى أُخْرَى إِلَى مَالا نِهَايَة لَهُ فيفضي إِلَى قدم الْمَخْلُوقَات.
وَرُوِيَ عَنِ ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجَمَاعَة من الْمُفَسّرين فِي قَوْله تَعَالَى: {قرانا عَرَبيا غير ذِي عوج} أَي غير مَخْلُوق.
وَقَالَ عَليّ بْن أَبِي طَالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (مَا حكمت مخلوقا، وَإِنَّمَا حكمت كَلَام اللَّه) ، فَإِن احْتَجُّوا بقوله تَعَالَى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحدث إِلَّا استمعوه} ، فَالْجَوَاب: أَي مُحدث التَّنْزِيل؛ لِأَن اللَّه تَعَالَى تكلم بِهِ فِي الْقدَم، فَلَمَّا بعث مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنزلهُ عَلَيْهِ، وَيُقَال لَهُم قَوْله: " من ذكر " من للتَّبْعِيض، وَهَذَا يدل أَن ثُمَّ ذكرا قَدِيما، وَعِنْدهم لَيْسَ ثُمَّ ذكر قديم.(1/430)
وَمن الدَّلِيل عَلَى مَا قُلْنَاهُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يسمع كَلَام الله} . والمسموع إِنما هُوَ الْحَرْف وَالصَّوْت، لَا الْمَعْنى؛ لِأَن الْعَرَب تَقول: سَمِعت الْكَلَام وفهمت الْمَعْنى، وَلَا تَقول سَمِعت الْمَعْنى. فَلَمَّا قَالَ: (حَتَّى يسمع) . دلّ عَلَى أَنه الْحَرْف وَالصَّوْت وَلِأَن الاستجارة إِنما حصلت للْمُشْرِكين بِشَرْط اسْتِمَاع كَلَام اللَّه، فَلَو كَانَ مَا سَمِعُوهُ من النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْسَ بِكَلَام الله لم تحصل الاستجارة لَهُم، وَلِأَنَّهُ قَالَ: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} فَلَا يجوز أَن يكون كلَاما لم يصل إِليهم؛ لِأَن مَا لم يصل إِليهم لَا يَتَأَتَّى لَهُم تبديله، فَلم يبْق إِلا أَن يكون الْحَرْف وَالصَّوْت، وَلِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودي من شاطئ الْوَادي الْأَيْمن} . والنداء عِنْد جَمِيع أهل اللُّغَة لَا يكون إِلا بِحرف وَصَوت وَلِأَنَّهُ قَالَ: {عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن} . وَعند أهل اللُّغَة: هَذَا إِشارة إِلَى(1/431)
شَيْء حَاضر، فَلَو كَانَ قَائِما فِي نَفسه لم يَصح الإِشارة إِلَيْهِ، وَلِأَن اللَّه تَعَالَى امتحن الْعَرَب بالإِتيان بِمثل هَذَا الْقُرْآن، فَلَو كَانَ معنى قَائِما فِي النَّفس لم يجز أَن يمتحنهم بذلك لِأَن فِيهِ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق، وَلَا يجوز ذَلِك عَلَى اللَّه تَعَالَى لم يبْق إِلا أَن يكون امتحنهم بِمَا سَمِعُوهُ من الْحَرْف وَالصَّوْت.(1/432)
وَقد أجمع أهل الْعَرَبيَّة أَن مَا عدا الْحُرُوف والأصوات لَيْسَ بِكَلَام حَقِيقَة.
236 - وَرُوِيَ أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لما مضى يقتبس النَّار سمع صَوتا: يَا مُوسَى، يَا مُوسَى فَأجَاب: لبيْك لبيْك. من أَنْت؟ إِنِّي أسمع صَوْتك، وَلَا أرى مَكَانك، فَقَالَ يَا مُوسَى: أَنا رَبك. قَالَ مُوسَى إِلهي أبعيد أَنْت فأناديك أم قريب فأناجيك؟ فَقَالَ يَا مُوسَى: أَنا عَن يَمِينك وأمامك، وَأقرب إِليك من نَفسك.
فَوجه الدَّلِيل مِنْهُ قَوْله: إِنِّي أسمع صَوْتك.
فصل
237 - رُوِيَ عَنِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " إِن صَلَاتنَا هَذِه لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام النَّاس، إِنما هِيَ قِرَاءَة الْقُرْآن ".
فَلَو كَانَت الْقِرَاءَة غير المقروء لَكَانَ التَّقْدِير لَا يصلح فِيهَا شي من كَلَام النَّاس، إِنما هِيَ كَلَام النَّاس، وَهَذَا مَا لَا فَائِدَة فِيهِ، وَلَإِنْ الْأمة أَجمعت(1/433)
عَلَى أَن من حلف بِالطَّلَاق أَن لَا يتَكَلَّم فَقَرَأَ الْقُرْآن لم يَحْنَث وَلَو كَانَت الْقِرَاءَة كَلَام الْآدَمِيّ لحنث. وَقد قَالَ اللَّه تَعَالَى إِخبارا عَن قُرَيْش حِين قَالُوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَول الْبشر} . فَقَالَ ردا عَلَى من قَالَ ذَلِك: {سَأُصْلِيهِ سقر} . فتواعده بالنَّار عَلَى قَوْلهم: {إِنْ هَذَا إِلا قَول الْبشر} . وَمَعْلُوم أَن قُريْشًا أشارت بِهَذَا القَوْل إِلَى التِّلَاوَة الَّتِي سمعوها من النَّبِيّ فَلَو كَانَت كَلَام الْبشر لم يجز أَن يتواعدهم بسقر، فَلَمَّا تواعدهم عَلَى ذَلِك دلّ عَلَى أَنَّهَا لَيست بقول الْبشر، وَلِأَن، قيام المعجز وَثُبُوت الْحُرْمَة، وَمنع الْجنب من قرَاءَتهَا تدل عَلَى معنى الْقدَم فِيهَا.
قَالَ بعض أهل اللُّغَة: لَا فرق بَين قَول الْقَائِل: قَرَأت قُرْآنًا، وَبَين قَوْله: قَرَأت قِرَاءَة، فِي أَنَّهُمَا مصدران، كَقَوْلِهِم: عرفت فلَانا معرفَة وعرفانا فَإِذَا ثَبت أَنه لَا فرق بَين قَوْلهم: قَرَأت قُرْآنًا، وقرأت قِرَاءَة ثَبت أَنَّهَا غير مخلوقة؛ لِأَن الْقُرْآن غير مَخْلُوق.
وَالدَّلِيل عَلَى أَن الْكِتَابَة هِيَ الْمَكْتُوب، وَأَن مَا فِي الْمَصَاحِف كَلَام اللَّه بِعَيْنِه بِخِلَاف قَول من قَالَ: " مَا فِيهِ كِتَابَة الْقُرْآن ". قَالَ اللَّه تَعَالَى: (إِنَّه(1/434)
لقرآن كريم فِي كتاب مَكْنُون} . وَقَالَ: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} . و " فِي " عِنْد أهل اللُّغَة للوعاء، وَلِأَن الْأمة مجمعة عَلَى تَسْمِيَة مَا فِي الْمُصحف قُرْآنًا، وَلِأَن الْمُحدث يمْنَع من مَسّه، وَلَو لم يكن فِيهِ قُرْآن لم يمْنَع من مَسّه.
238 - وَرُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يعذب اللَّه قلبا وعى الْقُرْآن ".
239 - وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَعَاهَدُوا الْقُرْآن فَلَهو أَشد تفصيا من صُدُور الرِّجَال من النعم من عقلهَا ".
240 - وَقَالَ: " الْقلب الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْء من الْقُرْآن كالبيت الخرب ".
241 - وَرُوِيَ " أعْطوا أعينكُم حظا " من الْعِبَادَة، قيل: وَمَا حظها يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: النّظر فِي الْمُصحف ".(1/435)
242 - وَرُوِيَ " من قَرَأَ الْقُرْآن وأعربه فَلهُ بِكُل حرف مِنْهُ خَمْسُونَ حَسَنَة، وَمن قَرَأَهُ فَلم يعربه فَلهُ بِكُل حرف عشر حَسَنَات. لَا أَقُول: ألم حرف، بل ألف حرف، وَلَام حرف، وَمِيم حرف ".(1/436)
بَاب مسَائِل الإِيمان
الإِيمان فِي الشَّرْع عبارَة عَن جَمِيع الطَّاعَات الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة(1/437)
وَقَالَت الأشعرية: الإِيمان هُوَ التَّصْدِيق، وَالْأَفْعَال والأقوال من شرائعه، لَا من نفس الإِيمان، وَفَائِدَة هَذَا الِاخْتِلَاف أَن من أخل بالأفعال وارتكب المنهيات لَا يتَنَاوَلهُ اسْم مُؤمن عَلَى الإِطلاق، فَيُقَال: هُوَ نَاقص الإِيمان لِأَنَّهُ قد أخل بِبَعْضِه، وَعِنْدهم يتَنَاوَلهُ الِاسْم عَلَى الإِطلاق، لِأَنَّهُ عبارَة عَنِ التَّصْدِيق وَقد أَتَى بِهِ.
دليلنا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وجلت قُلُوبهم} إِلَى قَوْله: {أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا} فوصفهم بالإِيمان الْحَقِيقِيّ لوُجُود هَذِه الْأَفْعَال. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ} . يَعْنِي صَلَاتكُمْ، فَأطلق عَلَيْهَا اسْم الإِيمان وَهِي أَفعَال.(1/438)
243 - وَيدل عَلَيْهِ: مَا روى أَبُو هُرَيْرَة - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الإِيمان بضع وَسَبْعُونَ شُعْبَة ".
وَفِي رِوَايَة " بضع وَسِتُّونَ شُعْبَة: أفضلهَا شَهَادَة أَن لَا إِله إِلا اللَّه، وَأَدْنَاهَا إِماطة الْأَذَى من الطَّرِيق. وَالْحيَاء شُعْبَة من الإِيمان ".
وَلِأَن الْمُكْره عَلَى الإِيمان يَصح دُخُوله فِيهِ، فَلَو كَانَ الإِيمان يخْتَص الْقلب لم يَصح دُخُوله فِيهِ، لأَنَّ ذَلِك لَا يُمكن تَحْصِيله بالإِكراه، وَإِنَّمَا يحصل من جِهَة الْأَفْعَال الظَّاهِرَة والأقوال، وَلِأَن الإِيمان دين الْمُؤمنِينَ، وَالدّين عبارَة عَنِ الطَّاعَات، وَكَذَلِكَ الإِيمان الَّذِي هُوَ صفته، وَلِأَنَّهُ لَا يُطلق عَلَى من ترك الصّيام وَالزَّكَاة، وارتكب الْفَوَاحِش أَنه كَامِل الإِيمان.
(مَسْأَلَة)
وَيجوز الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان فِي الإِيمان، وزيادته بِفعل الطَّاعَات، ونقصانه بِتَرْكِهَا، وَفعل الْمعاصِي، خلافًا لمن قَالَ: الإِيمان معرفَة الْقلب وتصديقه، وهما عرضان من الْأَعْرَاض، وَالزِّيَادَة وَالنُّقْصَان لَا تجوز عَلَى الْأَعْرَاض.(1/439)
244 - دليلنا: مَا رُوِيَ عَن معَاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الإِيمان يزِيد وَينْقص.
وَرُوِيَ عَنِ ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة وَأبي الدَّرْدَاء - رَضِي اللَّه عَنهُ -: الإِيمان يزِيد وَينْقص، وإِذَا كَانَ الإِيمان عبارَة عَن جَمِيع الطَّاعَات، فَإِذَا أخل بِبَعْضِهَا وارتكب المنهيات فقد أخل بِبَعْض أَفعاله فَجَاز أَن يُوصف بِالنُّقْصَانِ وَالزِّيَادَة.
(مَسْأَلَة)
وَلَا يتساوى إِيمان جَمِيع الْمُكَلّفين من الْمَلَائِكَة والأنبياء وَمن دونهم من الشُّهَدَاء وَالصديقين، بل يتفاضلون بِقدر رتبهم فِي الطَّاعَات خلافًا لمن قَالَ: الإِيمان هُوَ التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ، وَإِنَّمَا يَقع التَّفَاضُل فِي الْعلم بأصناف أدلته، وَقد ذكرنَا أَن الطَّاعَات من الإِيمان.
وَمَعْلُوم أَن النَّاس يتفاضلون فِي الطَّاعَات، فيعضهم يزِيد عَلَى بعض فَوَجَبَ أَن يحصل التَّفَاضُل فِيهِ.(1/440)
(مَسْأَلَة)
الإِيمان والإِسلام اسمان لمعنيين، فالإِسلام عبارَة عَنِ الشَّهَادَتَيْنِ مَعَ التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ، والإِيمان عبارَة عَن جَمِيع الطَّاعَات خلافًا لمن قَالَ الإِسلام(1/441)
والإِيمان سَوَاء إِذَا حصلت مَعَه الطُّمَأْنِينَة. وَالدَّلِيل عَلَى الْفرق بَينهمَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسلمَات وَالْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} عطف الإِيمان عَلَى الإِسلام وَالشَّيْء لَا يعْطف عَلَى نَفسه، فَعلم أَن الإِيمان معنى زَائِد عَلَى الإِسلام.
246 - وَيدل عَلَيْهِ حَدِيث عمر بْن الْخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَول جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: أَخْبرنِي عَنِ الإِسلام. ثُمَّ قَالَ: فَمَا الإِيمان؟ . وَهَذَا يدل عَلَى الْفرق بَينهمَا.
247 - وَيدل عَلَيْهِ مَا روى عَامر بْن سعد بْن أَبِي وَقاص (عَن سعد) " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعْطى رهطا وَترك رجلا مِنْهُم، فَقَالَ سعد: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعطيتهم وَتركت فلَانا، وَوَاللَّه إِنِّي لأراه مُؤمنا، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَو مُسلما "، فَفرق بَين الْإِيمَان وَالْإِسْلَام.(1/442)
وروري عَن حُذَيْفَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " اللَّهُمَّ حبب إِلي الإِسلام والإِيمان ".
وَقد ذكرنَا أَن الْأَيْمَان عبارَة عَن جَمِيع الطَّاعَات، والإِسلام عبارَة عَنِ الشَّهَادَتَيْنِ مَعَ طمأنينة الْقلب، وإِذَا كَانَ كَذَلِك وَجب الْفرق بَينهمَا.
(مَسْأَلَة)
[الِاسْتِثْنَاء فِي الإِيمان]
وَيكرهُ لمن حصل مِنْهُ الإِيمان أَن يَقُول: أَنا مُؤمن حَقًا وَمُؤمن عِنْد اللَّه وَلَكِن، يَقُول: أَنا مُؤمن أَرْجُو أَو مُؤمن إِن شَاءَ اللَّه، أَو يَقُول: آمَنت بِاللَّه(1/443)
وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله، وَلَيْسَ هَذَا عَلَى طَرِيق الشَّك فِي إِيمانه، لكنه عَلَى معنى أَنه لَا يضْبط أَنه قد أَتَى بِجَمِيعِ مَا أَمر بِهِ، وَترك جَمِيع مَا نهي عَنهُ، خلافًا لقَوْل من قَالَ: إِذَا علم من نَفسه أَنه مُؤمن جَازَ أَن يَقُول: أَنا مُؤمن حَقًا.
وَالدَّلِيل عَلَى امْتنَاع الْقطع لنَفسِهِ وَدخُول الِاسْتِثْنَاء إِجماع السّلف، قيل لِابْنِ مَسْعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِن هَذَا يزْعم أَنه مُؤمن قَالَ: سلوه أَفِي الْجنَّة هُوَ أم فِي النَّار؟ . فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: اللَّه أعلم. فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ: فَهَلا وكلت الأولى، كَمَا وكلت الْآخِرَة.(1/444)
وَلِأَنَّهُ قد ثَبت أَن الإِيمان جَمِيع الطَّاعَات وَترك الْمُحرمَات، وَهُوَ فِي الْحَال لَا يضْبط أَنه قد أدّى سَائِر مَا لزمَه، واجتنب كل مَا حرم عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يعلم ذَلِك فِي الثَّانِي، فَلَا يجوز أَن يعلم أَنه مُؤمن مُسْتَحقّ للثَّواب.
(مَسْأَلَة)
فِي إِيمان الْمُؤمنِينَ الْمَوْجُود بألسنتهم، كتلاوة الْقُرْآن، وَذكر اللَّه تَعَالَى بِالتَّوْحِيدِ، وَذكر صِفَاته وَالثنَاء عَلَيْهِ، فَهُوَ قديم غير مَخْلُوق، لأَنَّ هَذِه صِفَات لذاته، كَمَا أَن كَلَامه صفة لذاته.
فصل
[فِي ذكر الْأَدِلَّة عَلَى الْفرق بَين معنى الإِسلام والإِيمان]
249 - أَخْبَرَنَا حَكِيمُ بْنُ أَحْمَدَ الإِسْفِرَائِينِيُّ قَدِمَ عَلَيْنَا، أَنا جَدِّي الْحَاكِمُ أَبُو الْحَسَنِ الإِسْفِرَائِينِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الأَصَمُّ، نَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّد ابْن عبيد الله بن الْمُنَادِي، نَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبُ، نَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ(1/445)
أَبِيهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ جُهَيْنَةَ فِيهِ رَهَقٌ، وَكَانَ يَتَوَثَّبُ عَلَى جِيرَانِهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَفَرَضَ الْفَرَائِضَ، وَقَصَّ عَلَى النَّاسِ. ثُمَّ إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْعَمَلَ أُنُفٌ مَنْ شَاءَ عَمِلَ خَيْرًا، وَمَنْ شَاءَ عَمِلَ شَرًّا. قَالَ: فَلَقِيتُ أَبَا الأَسْوَدِ فَذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ: كَذَبَ، مَا رَأَيْنَا أَحَدًا من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلا يُثْبِتُ الْقَدَرَ، ثُمَّ إِنِّي حَجَجْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ، فَلَمَّا قَضَيْنَا حَجَّنَا قُلْتُ: نَأْتِي الْمَدِينَةَ فَنَلْقَى أَصْحَابَ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (كَثِيرًا) فَنَسْأَلُهُمْ عَنِ الْقَدَرِ، قَالَ: فَلَمَّا أَتَيْنَا الْمَدِينَةَ لَقِينَا إِنْسَانًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَلَمْ نَسْأَلْهُ قَالَ: قُلْنَا حَتَّى نَلْقَى ابْنَ عُمَرَ أَوْ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: فَلَقِينَا ابْنَ عُمَرَ كَفَّةً عَنْ كَفَّةً. قَالَ: فَقُمْتُ عَنْ يَمِينِهِ وَقَامَ عَنْ شِمَالِهِ قَالَ: قُلْتُ: أَتَسَأَلُهُ أَمْ أَسْأَلُهُ؟ قَالَ: بَلْ سَلْهُ، لأَنِّي كُنْتُ أَبْسَطَ لِسَانًا مِنْهُ قَالَ: قُلْنَا يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَن إِن أُنَاسًا عندنَا بالعراق قرؤوا الْقُرْآنَ، وَفَرَضُوا الْفَرَائِضَ وَقَصُّوا عَلَى النَّاسِ، يَزْعُمُونَ أَنَّ الْعَمَلَ أُنُفٌ، مَنْ شَاءَ عَمِلَ خَيْرًا وَمَنْ شَاءَ عَمِلَ شَرًّا. قَالَ: فَإِذَا لَقِيتُمْ أُولَئِكَ فَقُولُوا: ابْنُ عُمَرَ مِنْكُمْ بَرِيءٌ، وَأَنْتُمْ مِنْهُ بَرَاءٌ، فَوَاللَّهِ لَوْ جَاءَ أَحَدُهُمْ بِعَمَلٍ مِثْلَ أُحُدٍ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنُوا بِالْقدرِ.(1/446)
250 - حَدَّثَنِي عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَن مُوسَى لَقِي آدم عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ: يَا آدم أَنْت خلقك اللَّه بِيَدِهِ، وأسجد لَك الْمَلَائِكَة، وأسكنك الْجنَّة. فوَاللَّه لَوْلَا مَا فعلت مَا دخل أحد من ذريتك النَّار قَالَ: فَقَالَ يَا مُوسَى أَنْت الَّذِي اصطفاك اللَّه بِرِسَالَاتِهِ، وبكلامه تلومني فِيمَا قد كَانَ كتب عَليّ قبل أَن أخلق، فاحتجا إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فحج آدم مُوسَى ثَلَاث مَرَّات، لقد حَدَّثَنِي عمر أَن رجلا فِي آخر عمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَاءَ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أدنو مِنْك قَالَ: نعم، قَالَ: فجَاء حَتَّى وضع يَده عَلَى ركبته فَقَالَ: مَا الإِسلام؟ . قَالَ: تقيم الصَّلَاة، وتؤتي الزَّكَاة، وتصوم رَمَضَان، وتحج الْبَيْت. قَالَ: فَإِذَا فعلت ذَلِك فقد أسلمت قَالَ: نعم، قَالَ: صدقت. قَالَ فَجعل النَّاس يتعجبون(1/447)
مَه يَقُولُونَ: انْظُرُوا، يسْأَله ثُمَّ يصدقهُ. قَالَ: فَمَا الإِحسان؟ قَالَ: أَن تعبد اللَّه كَأَنَّك ترَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَالَ: فَإِذَا فعلت ذَلِك فقد أَحْسَنت قَالَ: نعم. قَالَ: صدقت. قَالَ: فَجعل النَّاس يتعجبون، يَقُولُونَ: انْظُرُوا يسْأَله، ثُمَّ يصدقهُ. قَالَ: فَمَا الإِيمان؟ قَالَ: أَن تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَالْمَلَائِكَة والنبيين وَالْكتاب وَالْجنَّة وَالنَّار والبعث بعد الْمَوْت وَالْقدر كُله. قَالَ: فَإِذَا فعلت ذَلِك فقد آمَنت قَالَ: نعم. قَالَ: صدقت. قَالَ: فَجعل النَّاس يتعجبون يَقُولُونَ: انْظُرُوا يسْأَله ثُمَّ يصدقهُ. قَالَ: فَمَتَى السَّاعَة؟ قَالَ: مَا المسؤول أعلم بهَا من السَّائِل، قَالَ: فَمَا أعلامها؟ قَالَ: أَن تَلد الْأمة ربتها، وَأَن ترى الحفاه العراة الصم الْبكم ملوكا يتطاولون فِي الْبناء، ثمَّ انْصَرف فلقي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عمر فَقَالَ: تَدْرِي من الرجل الَّذِي أَتَاكُم؟ قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَتَاكُم يعلمكم دينكُمْ.
رَوَاهُ مُسلم فِي الصَّحِيح من رِوَايَة عبد الله بن بُرَيْدَة، عَن يحيى ابْن يعمر بِزِيَادَة أَلْفَاظ ونقصان أَلْفَاظ وَلَيْسَ فِيهِ، فَإِذَا فعلت ذَلِك فقد آمَنت.
251 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقْرِي، أَنا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحسن، أَنا أَحْمد ابْن عُبَيْدٍ أَنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُبَشِّرٍ، نَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، نَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ كَهْمَسِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ(1/448)
الشَّعَرِ، لَا نَرَى عَلَيْهِ أَثَرَ سَفَرٍ وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَسْنَدَ رُكْبَتَهُ إِلَى رُكْبَتَهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ. قَالَ: الإِسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ فَعَجِبْنَا لَهُ وَهُوَ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ. قَالَ: تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ قَالَ: " صَدَقْتَ ".
قَالَ الشَّيْخ: (قَوْله) فِيهِ رهق، أَي جهل. وَقَوله: إِن الْعَمَل أنف (أَي) يستأنفه الْخلق ابْتِدَاء من غير أَن يسْبق بِهِ قدر من اللَّه. وَقَوله: أبسط لِسَانا مِنْهُ، أَي أقدر عَلَى الْكَلَام. وَقَوله: كفة عَن كفة، أَي مفاجأة قد كَاد أَن يصطدم بَعْضنَا بَعْضًا.
وَقَوله: أَن تَلد الْأمة ربتها، يَعْنِي أَن يكثر أَوْلَاد السراري وَقد كَانُوا فِي الِابْتِدَاء يرغبون فِي أَوْلَاد الْحَرَائِر، وَقل من يتَّخذ مِنْهُم السّريَّة، والعالة: جمع العائل، وَهُوَ الْفَقِير.
أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيُّ، أَنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ نَصْرٍ الْعَاصِمِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عِمْرَانَ الشَّاشِيُّ، نَا أَبُو حَفْصٍ الْبُجَيْرِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، الْبَرْقِيُّ، نَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، نَا يحيى ابْن أَيُّوبَ وَابْنُ لَهِيعَةَ، قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالح،(1/449)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الإِيمَانُ سَبْعُونَ بَابًا أَوِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ أَرْفَعُهُ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَدْنَاهُ إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ. وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ ".
فَصْلٌ
253 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقْرِي، أَنا هبة الله بن الْحُسَيْن، أَنا عَليّ ابْن عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نَا عَبَّاس بن مُحَمَّد، نَا مُحَمَّد ابْن بِشْرٍ، نَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِّمْنِي الدِّينَ قَالَ: تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّد رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَعَلَيْكَ بِالْعَلانِيَةِ، وَإِيَّاكَ وَالسِّرَّ، وكل مَا يستحي مِنْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ لَقِيتَ اللَّهَ فَقُلْ أَمَرَنِي بِهَذَا عُمَرُ.
قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ النَّحْوِيُّ، أَنا عبيد الله ابْن ثَابِتٍ الْحَرِيرِيُّ، نَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نَا أَبُو صَالح، نَا مُعَاوِيَة (ابْن صَالِحٍ) ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الله نور السَّمَاوَات وَالْأَرْض} . يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَادِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَأَهْلِ الأَرْضِ، فَمَثَلُ هُدَاهُ فِي(1/450)
قَلْبِ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّيْتِ الصَّافِي يُضِيءُ قَبْلَ أَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ، فَإِذَا مَسَّتْهُ النَّارُ ازْدَادَ ضَوْءًا (عَلَى ضَوْءٍ) ، كَذَلِكَ يَكُونُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ يَعْمَلُ فِيهِ الْهُدَى قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْعِلْمُ، فَإِذَا جَاءَهُ الْعِلْمُ ازْدَادَ هُدًى عَلَى هُدًى، وَنُورًا عَلَى نُورٍ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ قَبْلَ أَنْ تَجِيئَهُ الْمَعْرِفَةُ: هَذَا رَبِّي، حِينَ رَأَى الْكَوْكَبَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُخْبِرَهُ أَحَدٌ أَنَّ لَهُ رَبًّا، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ اللَّهُ أَنَّهُ رَبُّهُ ازْدَادَ هُدًى عَلَى هُدًى.
قَالَ: أَبُو عَبْد اللَّهِ الزبيرِي الْفَقِيه: اخْتلف النَّاس فِي الإِسلام والإِيمان فَقَالَ بَعضهم: هما اسمان بِمَعْنى وَاحِد. فالمسلم مُؤمن، وَالْمُؤمن مُسلم. وَقَالَ(1/451)
آخَرُونَ: الإِسلام هُوَ الْمنزلَة الأولى والإِيمان أَعلَى مِنْهَا، والإِسلام عِنْدهم هُوَ الإِقرار بِاللِّسَانِ والإِيمان عِنْدهم التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ.
وَمن حجَّة هَذِه الطَّائِفَة أَن قَالُوا: قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أسلمنَا وَلما يدْخل الْإِيمَان فِي قُلُوبكُمْ} . قَالُوا: استدللنا عَلَى أَن الإِيمان هُوَ التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ، وَأَن الإِسلام هُوَ القَوْل بِاللِّسَانِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: الإِيمان هُوَ أَن تؤمن بِاللَّه عَزَّ وَجَلَّ وبرسله وبكتبه، وبالقدر خَيره وشره وحلوه ومره، وبالبعث بعد الْمَوْت وَالْجنَّة وَالنَّار وأنهما مخلوقتان، والإِسلام شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه، وإِقام الصَّلَاة، وإِيتاء الزَّكَاة، وَصَوْم رَمَضَان، وَحج الْبَيْت وَالْجهَاد فِي سَبِيل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
وروت هَذِه الطَّائِفَة الْخَبَر، أَن رجلا أَتَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَهُ مَا الإِسلام؟ فَقَالَ: مَا ذَكرْنَاهُ. وَسَأَلَهُ، مَا الإِيمان؟ فَقَالَ: مَا وَصفنَا.
وَقَالَ قَائِلُونَ: الإِسلام هُوَ أَن يَقُول الْمَرْء إِما طَائِعا وإِما كَارِهًا. فَإِن كَانَ طَائِعا فَاعْتقد قلبه مَا أقرّ بِلِسَانِهِ، فقد كمل إِيمانه وَإِن لم يصدق الْقلب قَوْله بِاللِّسَانِ، فَلَيْسَ إِقراره بِشَيْء فِي الْبَاطِن، وَلكنه يحقن قَوْله دَمه فِي الظَّاهِر.(1/452)
وَاحْتج قَائِل هَذِه الْمقَالة بقول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يشْهد إِن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ} لما قَالُوا بألسنتهم قولا لم تعتقده قُلُوبهم شهد اللَّه بتكذيبهم، ثُمَّ قَالَ: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جنَّة} ، يَقُول: مَانِعَة من الْقَتْل اجتنوا بهَا وتحصنوا، فحقنوا دِمَاءَهُمْ، فَأخْبر أَن ذَلِك ينجيهم: من الْقَتْل.
وَقد أخبر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَن بَاطِن أُمُورهم، ووصفهم بِمَا يدل عَلَى ظَاهِرهمْ فَقَالَ: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تسمع لقَولهم كَأَنَّهُمْ خشب مُسندَة} فوصفهم من قلَّة الْفَهم وَضعف الْعقل بِمَا لَا غَايَة وَرَاءه.
قَالُوا: فإِنما يكمل الإِيمان بِتَصْدِيق الْقلب، فإِنهم لما أقرُّوا بألسنتهم وَلم تعتقد عَلَيْهِ قُلُوبهم، لم يكن نَافِعًا لَهُم، وَمَعَ هَذَا يُرَاعِي الْأَعْمَال بأوقاتها، فيقيم الصَّلَاة فِي وَقت وُجُوبهَا ويؤتي الزَّكَاة فِي وَقت حلولها، وَيُؤَدِّي كل شَرِيعَة فِي وَقت وُجُوبهَا، فَإِذَا استقام إِقراره بِلِسَانِهِ وَتمّ تَصْدِيقه بِقَلْبِه، واعتقد الإِيمان بِالْأَعْمَالِ، ثُمَّ رعى أَوْقَاتهَا فَقَامَ بأدائها فقد كمل لَهُ الإِيمان، فَإِن نقص من هَذَا شَيْء نقص إِيمانه بِقدر مَا نقص من ذَلِك، فَإِن زَاد مَعَ الشَّرَائِع الْمَفْرُوضَة فَضَائِل من نوافل الْخَيْر زَاد إِيمانه، فوصفوا الإِيمان بِشَيْء يكمل بِأَدَائِهِ(1/453)
وَينْقص بنقصانه وَيزِيد بِمَا يَأْتِي من نوافل الْخَيْر وأعماله. قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} .
وَقَالَت طَائِفَة: الإِيمان قَول بِلَا عمل لَا يزِيد وَلَا ينقص، وَإِن من آمن وَأصْلح وَعدل وَأحسن وعامل وأنصف وَقَالَ فَصدق ووعد فوفى وظلم فعفى وَفعل نوافل الْخَيْر وأعمال الْبر وَأدّى مَا يجب عَلَيْهِ من حق وَالِديهِ وَحقّ وَالِده وَحقّ ذِي رَحمَه وَحقّ جَاره وَحقّ صديقه، وَقَامَ بِالْخَيرِ كُله فِيمَا قدر عَلَيْهِ، وَإِن من قَالَ لَا إِله إِلا اللَّه قولا بِاللِّسَانِ، ثُمَّ تخلف عَن إِقامة الْفَرَائِض وَقصر فِي الْقيام بالشرائع وتخلف عَنِ الإِتيان بأعمال الْخَيْر والنوافل، وائتمن فخان، وَقَالَ فكذب ووعد فأخلف، وجار وظلم، إِن هذَيْن جَمِيعًا فِي دَرَجَة وَاحِدَة لَا فضل لهَذَا عَلَى هَذَا، وَلَا لهَذَا عَلَى هَذَا، فَهَذَا قَول يشْهد الْعقل عَلَى إِغفال قَائِله.
وَمِمَّا يدل عَلَى خلاف هَذَا القَوْل من الْكتاب وَالسّنة قَول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء محياهم ومماتهم سَاءَ مَا يحكمون} . فَفرق اللَّه بَين أَصْحَاب السَّيِّئَات وَبَين أَصْحَاب الْأَعْمَال الصَّالِحَات أَولا فِي الْحَيَاة،(1/454)
ثُمَّ فِي الْمَمَات. قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤمن فلنحيينه حَيَاة طيبَة} يطيب لَهُ الْعَيْش فِي حَيَاته، وَأخْبر عَزَّ وَجل أَنه يجزى بِأَحْسَن عمله فِي عاقبته بعد مماته.
254 - وَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: وَذكر أَصْحَابه - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ: " لَو أنْفق أحدكُم مثل أحد ذَهَبا مَا بلغ مد أحدهم وَلَا نصيفه ". ثُمَّ فضل بَعضهم عَلَى بعض، " وَقد فضل اللَّه بعض النَّبِيين بَعضهم عَلَى بعض " فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بعض} . وَقَالَ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أولي الضَّرَر وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيل الله} فضل بَعضهم عَلَى بعض بِمَا عمِلُوا من فضل الْجِهَاد.
وَقَالَ آخَرُونَ: الإِيمان يزِيد وَلَا ينقص؛ لِأَن اللَّه ذكر زِيَادَته فَقَالَ: {زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} .(1/455)
صفحة فارغة(1/456)
بَاب
فِي الرَّد عَلَى الْجَهْمِية والمعتزلة
فصل
أَفعَال الْعباد لَيست بِفعل اللَّه، وَإِنَّمَا هِيَ مخلوقة لَهُ. والخلق غير الْمَخْلُوق فالخلق صفة لذاته، والمخلوق مُحدث.
دليلنا: أَنَّهَا لَو كَانَت فعلا لَهُ لوَجَبَ أَن تنْسب إِلَيْهِ ولكان ظلم الْعباد ظلمه، لأَنَّ اللَّوْن إِذَا كَانَ لونا لزيد، فَإِنَّهُ ينْسب إِلَى زيد نَفسه، كاللون(1/457)
إِذَا كَانَ سوادا فَهُوَ سَواد من لون لَهُ، وَلِأَن أَفعَال الْعباد لَو كَانَت أفعالا لَهُ وَكَانَت مَوْجُودَة من جِهَته تخرجت من أَن يكون لَهَا تعلق بفاعل غَيره، كَمَا أَن حَرَكَة المفلوج لما تعلّقت بإِيجاد اللَّه لم يتَعَلَّق بِغَيْرِهِ.
فصل
فِي إِثبات صفة الْمحبَّة وَالْفرق بَينهَا وَبَين الْإِرَادَة(1/458)
والإرادة غير الْمحبَّة وَالرِّضَا، فقد يُرِيد مَا لَا يُحِبهُ وَلَا يرضاه، بل يكرههُ ويسخطه ويبغضه. قَالَ بعض السّلف: إِن اللَّه يقدر مَا لَا يرضاه بِدَلِيل قَوْله: {وَلا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} .
وَقَالَ قوم من الْمُتَكَلِّمين: من أَرَادَ شَيْئا فقد أحبه ورضيه، وَإِن اللَّه تَعَالَى رَضِي الْمعْصِيَة وَالْكفْر.(1/459)
وَدَلِيلنَا: أَنه قد ثَبت إِرادته للكفر وَنفي رِضَاهُ بِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يهديه يشْرَح صَدره لِلْإِسْلَامِ} . وَقَالَ: {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} فَأثْبت الإِرادة وَنفى الرِّضَا.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن مَنْدَه: وَمن الْفرق بَين القَوْل وَالْعلم والإِرادة وَالْفِعْل.
255 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو (عَبْدُ الْوَهَّاب) أَنا وَالِدي، أَنا عَمْرو ابْن مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْبَزَّارُ، نَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ، نَا خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ، نَا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ نَا بُكَيْرُ بْنُ مِسْمَارٍ، نَا عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَن أَبِيه قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْخَفِيَّ الْغَنِيّ الْعَفِيف ".(1/460)
256 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ، نَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ، نَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، نَا إِسْمَاعِيل بن عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ أَشَجُّ بن أعصر قَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن فِيك خلقين يجبهما اللَّهُ: الْحِلْمُ وَالْحَيَاءُ قُلْتُ: أَقَدِيمًا كَانَا فِيَّ أَوْ حَدِيثًا قَالَ: لَا، بَلْ قَدِيمًا. قُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ ".
257 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا خَيْثَمَة بن سُلَيْمَان، نَا إِبْرَاهِيم ابْن أَبِي سُفْيَانَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، نَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ ".
258 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنَّ وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَيُّوبَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبٍ، نَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ أَبُو عُمَرَ وَأَبُو الْوَلِيدِ، وَمُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ وَعَلِيُّ بْنُ الْجَوْرِ قَالُوا: نَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ فِي الأَنْصَارِ: " لَا يُحِبُّهُمْ إِلا مُؤْمِنٌ، وَلا يُبْغِضُهُمْ إِلا مُنَافِقٌ، مَنْ أَحَبَّ الأَنْصَارَ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ ".(1/461)
259 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا خَيْثَمَةُ بن سُلَيْمَان، نَا إِسْحَاق ابْن سَيَّارٍ النَّصِيبِيُّ، نَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، نَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيتُهُ ".
260 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سَهْلٍ الْجُرْجَانِيُّ بِمَكَّةَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّايِغُ، نَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى، نَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لم تعط أحدا من خَلقكُم فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا ".
261 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، نَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ، نَا أَبُو أُسَامَةَ.
قَالَ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَأَخْبَرَنَا عَبْدُوسُ بْنُ الْحُسَيْنِ النَّيْسَابُورِيُّ، نَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، نَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نَا عُتْبَةُ بْنُ خَالِد السكونِي قَالَا: حَدثنَا عبيد الله ابْن عُمَرَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (عَنْ عَائِشَةَ) قَالَتْ: فَزِعْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى قَدَمَيْ(1/462)
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُمَا مُنْتَصِبَتَانِ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَهُوَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ ".
262 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّيْبُلِيُّ، وَهَارُونُ بْنُ أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيُّ قَالا: نَا أَحْمَدُ بْنُ زَيْدٍ، نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَن جده، عَن بِلَال ابْن الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ (مِنْ سَخَطِ اللَّهِ) مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ الَّذِي بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (عَلَيْهِ) بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ ".
قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل فِي رِسَالَة الأصطخري: " إِن اللَّه يحب وَيكرهُ، وَيبغض ويرضى، ويغضب ويسخط، وَيرْحَم وَيَعْفُو، وَيغْفر وَيُعْطِي وَيمْنَع ".(1/463)
وَهَذَا كَلَام يمْنَع أَن يكون الإِرادة كَرَاهَة فِي نَفسهَا؛ لِأَنَّهُ فرق بَينهمَا خلافًا لأهل الْكَلَام أَن الإِرادة كَرَاهَة فِي نَفسهَا، فعندنا يُرِيد اللَّه مَا لَا يُحِبهُ وَلَا يرضاه، بل يكرههُ ويسخطه ويبغضه، والإِرادة غير الْمحبَّة والرضى.
وَقَالَ جمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين: الإِرادة حب وبغض، ورضا وَسخط، وَإِن من أَرَادَ شَيْئا فقد أحبه ورضيه، وَإِن اللَّه تَعَالَى رَضِي الْمعْصِيَة وَالْكفْر، وَعِنْدنَا أَن الرضى غير الإِرادة بِدَلِيل قَوْله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكفْر} لِأَن النَّفْي ضد الإِثبات.(1/464)
263 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن ابْن الْحَسَنِ، نَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا برَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهُوَ يُشِيرُ حِينَئِذٍ إِلَى رَبَاعِيَتِهِ ".
264 - وَقَالَ: " اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَبِيلِ اللَّهِ ".
فَصْلٌ
فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الضحك وَالْعجب والفرح(1/465)
صفحة فارغة(1/466)
265 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بن عبد الْوَهَّاب، أَنا أَبُو الْحسن ابْن عبد كويه، نَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّبَرَانِيُّ، نَا عَلِيُّ بن عبد الْعَزِيز، نَا حجاج ابْن الْمنْهَال، نَا حَمَّاد بن سَلمَة، عَن ثَابت بن أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ (رَجُلٌ) يَمْشِي عَلَى الصِّرَاطِ، وَهُوَ يَمْشِي مَرَّةً وَيَكْبُو مَرَّةً، وَتَسْفَعُهُ النَّارُ، فَإِذَا جَاوَزَهَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا فَقَالَ: تَبَارَكَ الَّذِي نَجَّانِي مِنْكِ، أَعْطَانِي اللَّهُ (شَيْئًا) مَا أَعْطَاهُ أَحَدًا مِنَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَتُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، فَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا ابْنَ آدَمَ (لَعَلِّي) إِنْ أَعْطَيْتُكَهَا تَسْأَلنِي غَيْرَهَا، فَيُدْنِيهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهَا وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَفْعَلُ فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ أُخْرَى (هِيَ) أَحْسَنُ مِنَ الأُولَى، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَدْنِنِي مِنْهَا فَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، وَلا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَفْعَلُ، لأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا ابْنَ آدَمَ أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ هَذِهِ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَفْعَلُ لأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَعَلِّي إِنْ أَدْنَيْتُكَ مِنْهَا سَأَلْتَنِي غَيْرَهَا فَيُعَاهِدُهُ أَن لَا يفعل فيدينه مِنْهَا فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الأُولَيَيْنِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ لأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا ابْنَ آدَمَ أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَهَا فَيَقُولُ: هَذِهِ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: فَلَعَلِّي إِنْ أَدْنَيْتُكَ مِنْهَا أَنْ تَسَأَلَنِي غَيْرَهَا(1/467)
فَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ وَرَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَفْعَلُ وَرَبُّهُ يَعْذُرُهُ لأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا فَيَسْمَعُ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَدْخِلْنِيهَا فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ أَتَرْضَى أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا، فَيَقُولُ: أَتَسْتَهْزِئُ بِي وَأَنت رب الْعَالمين فَضَحِك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ قَالَ: أَلا تَسْأَلُونِي مِمَّ ضَحِكْتُ؟ قَالُوا: مِمَّ ضَحِكْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مِنْ ضَحِكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ قَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ بِي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَيَقُولُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَدِيرٌ ".
266 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا الطَّبَرَانِيُّ، نَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، نَا عُمَرُ بْنُ زُرَارَةَ الْحَدَثِيُّ، نَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُثْمَانَ الْبَلَوِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ وَحْوَحٍ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ طَلْحَة بن الْبَراء لما لَقِي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِمَا أَحْبَبْتَ وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، فَعَجِبَ لِذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ غُلامٌ فَقَالَ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ: اذْهَبْ فَاقْتُلْ أَبَاكَ (قَالَ) : فَخَرَجَ مُوَلِّيًا لِيَفْعَلَ فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: أَقْبِلْ فَإِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِقَطِيعَةِ رَحِمٍ، فَمَرِضَ طَلْحَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعُودُهُ فِي الشِّتَاءِ فِي بَرْدٍ وَغَيْمٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لأَهْلِهِ: إِنِّي لَا أَرَى طَلْحَةَ إِلا قَدْ حَدَثَ فِيهِ الْمَوْتُ، فَآذِنُونِي بِهِ حَتَّى أَشْهَدَهُ وَأُصَلِّيَ عَلَيْهِ، وَعَجِّلُوهُ فَلَمْ يَبْلُغِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ حَتَّى تُوُفِّيَ، وَجَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ فَكَانَ فِيمَا قَالَ طَلْحَةُ: ادْفِنُونِي وَأَلْحِقُونِي بِرَبِّي عَزَّ(1/468)
وَجل، وَلَا تدعوا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْهِ الْيَهُودَ أَنْ يُصَابَ فِي سيي فَأخْبر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ أَصْبَحَ، فَجَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى قَبْرِهِ فَصَفَّ النَّاسَ مَعَهُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ الْقَ طَلْحَةَ تَضْحَكُ إِلَيْهِ وَيَضْحَكُ إِلَيْكَ ".
267 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا الطَّبَرَانِيّ، نَا عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، نَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد ابْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَضْحَكُ مِنْ رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرُ فَيُدْخِلُهُمَا اللَّهُ الْجَنَّةَ. قِيلَ كَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: يَكُونُ أَحَدُهُمَا كَافِرًا فَيَقْتُلُ الآخَرَ، ثُمَّ يُسْلِمُ فَيَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ ".
268 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي هُدْبَةُ، نَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ وَكِيعِ بْنِ عُدُسٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ(1/469)
الْعُقَيْلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ضَحِكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قُنُوطِ عباده وَقرب غَيره ".
فَصْلٌ
[فِي ذِكْرِ صِفَةِ الْعَجَبِ]
269 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا الطَّبَرَانِيُّ، نَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى، نَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى الأَشْيَبُ، نَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ قَامَ عَنْ وِطَائِهِ وَلِحَافِهِ وَمِنْ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلاتِهِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي قَامَ مِنْ وِطَائِهِ وَلِحَافِهِ وَمِنْ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلاتِهِ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي، وَرَجُلٌ غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَانْهَزَمَ فَعَلِمَ مَا عَلَيْهِ فِي الانهزام، وَمَاله فِي الرُّجُوعِ، فَرَجَعَ حَتَّى أُهْرِيقَ دَمُهُ، فَيَقُولُ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي رَجَعَ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي، وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي حَتَّى أهريق دَمه ".(1/470)
270 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ، نَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي عُشَّانَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ - رَضِي الله عَنهُ -، عَن النَّبِي
قَالَ: " يَعْجَبُ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي شَظِيَّةٍ يُؤَذِّنُ لِلصَّلاةِ وَيُقِيمُ ".
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: شَظِيَّةُ الْجَبَلِ: حَرْفُهُ النَّادِرِ مِنْهُ.
271 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا الطَّبَرَانِيّ، نَا عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، نَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، نَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - يَقُول: سَمِعت أَبَا الْقَاسِم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ رِجَالٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي السَّلاسِلِ ".
272 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا الطَّبَرَانِيُّ، نَا جَعْفَر بن مُحَمَّد الْفرْيَابِيّ، نَا قُتَيْبَة ابْن سَعِيدٍ، نَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي عُشَّانَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَعْجَبُ مِنَ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ ".
273 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا الطَّبَرَانِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الصَّايِغُ، نَا مُحَمَّدُ ابْن إِسْحَاق المسييي، نَا يَحْيَى بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ النَّوْفَلِي، عَن أَبِيه، عَن يزِيد ابْن(1/471)
خُصَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَعْجَبُ مِنَ مُدَاعَبَةِ الْمَرْءِ زَوْجَتَهُ فَيَكْتُبُ لَهُمَا بِذَلِكَ أَجْرًا وَيَجْعَلُ لَهُمَا بِذَلِكَ رِزْقًا ".
فصل
[فِي نفي مشابهة صِفَات اللَّه لصفات خلقه]
روى يُوسُف بْن مُوسَى قَالَ: سَمِعت أَبَا عَبْد اللَّهِ، يَعْنِي أَحْمَد بْن حَنْبَل يَقُول: لَا تشبهوا اللَّه بخلقه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} .
وَقَالَ أَبُو يعلى: أنكر أَحْمَد - رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِ - التَّشْبِيه. وَقَالَ أَئِمَّة أَصْحَاب الحَدِيث فِي أَخْبَار الصِّفَات: أمروها كَمَا جَاءَت.(1/472)
وَفِي رِوَايَة الْمروزِي عَن أَحْمَد: أَحَادِيث الصِّفَات تمر كَمَا جَاءَت. قَالَ أهل السّنة: مَا جَاءَ عَن الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الصِّفَات بأسانيد صِحَاح فَهُوَ حق.
وَقَالَ أَحْمَد فِي رِوَايَة: حَنْبَل: يضْحك اللَّه وَلَا نعلم كَيفَ ذَلِك إِلَّا بِتَصْدِيق الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَقد نَص أَحْمَد عَلَى القَوْل بِظَاهِر الْأَخْبَار من غير تَشْبِيه وَلَا تَأْوِيل.
وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ فِي أَخْبَار الصِّفَات بإِسناده عَن يَحْيَى بْن معِين قَالَ: شهِدت زَكَرِيَّاء بْن عدي وكيعا عَن أَحَادِيث الصِّفَات، فَقَالَ أدركنا إِسماعيل بْن أبي خَالِد وسُفْيَان ومسعراً يحدثُونَ هَذِه الْأَحَادِيث وَلَا يفسرون شَيْئا.(1/473)
274 - وَقَالَ أَحْمَد بْن نصر: سَأَلت سُفْيَان بْن عُيَيْنَة عَن حَدِيث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن اللَّه يضع السَّمَوَات عَلَى إِصبع ".
275 - وَحَدِيث " إِن قلب ابْن آدم بَين إِصبعين من أَصَابِع الرَّحْمَن ".
276 - وَحَدِيث " إِن اللَّه يعجب ويضحك " فَقَالَ سُفْيَان: هِيَ كَمَا جَاءَت نقر بهَا، ونحدث بِلَا كَيفَ.
وَذكر أَبُو بكر الْخلال فِي كتاب السّنة بإِسناده عَنِ الْأَوْزَاعِيّ قَالَ:(1/474)
سُئِلَ مَكْحُول وَالزهْرِيّ عَن تَفْسِير هَذِه الْأَحَادِيث فَقَالَا: أمروها كَمَا جَاءَت.
وَقَالَ الْوَلِيد بْن مُسلم: سَأَلت الْأَوْزَاعِيّ ومالكا وسُفْيَان وليثا عَن هَذِه الْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا الصّفة فَقَالُوا: أمروها بِلَا كَيفَ.
وَقَالَ أَبُو عبيد: هَذِه أَحَادِيث صِحَاح حملهَا أَصْحَاب الحَدِيث وَالْفُقَهَاء بَعضهم عَن بعض، وَهِي عندنَا حق لَا شكّ فِيهِ، وَلَكِن إِذَا قيل: كَيفَ وضع قدمه فِيهَا؟ وَكَيف ضحك؟ .
قُلْنَا: لَا نفسر هَذَا وَلَا سمعنَا أحدا يُفَسِّرهَا.
قَالَ أهل الْعلم من أهل السّنة: هَذِه الْأَحَادِيث مِمَّا لَا يدْرك حَقِيقَة علمه بالفكر والروية.(1/475)
قَالُوا: وَأول من خرج هَذِه الْأَحَادِيث وَجَمعهَا من الْبَصرِيين: حَمَّاد ابْن سَلمَة. فَقيل لَهُ فِي ذَلِك: فَقَالَ: إِنه وَالله مَا دعتني نَفسِي إِلَى إِخراج ذَلِك، إِلا أَنِّي رَأَيْت الْعلم يخرج فَأَحْبَبْت إِحياءه.
وَقَالَ الفضيل بْن عِيَاض: إِذَا قَالَ لَك الجهمي: أَنا كَافِر بِرَبّ ينزل، فَقل لَهُ: أَنا مُؤمن بِرَبّ يفعل مَا يَشَاء.
وَقَالَ شريك: إِنما جَاءَنَا بِهَذِهِ الْأَحَادِيث من جَاءَنَا بالسنن عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الصَّلَاة وَالصِّيَام وَالزَّكَاة وَالْحج، وَإِنَّمَا عرفنَا اللَّه بِهَذِهِ الْأَحَادِيث.
وَقَالَ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مهْدي: وَذكر عِنْده أَن الْجَهْمِية ينفون أَحَادِيث الصِّفَات، وَيَقُولُونَ: اللَّه أعظم من أَن يُوصف بِشَيْء من هَذَا، فَقَالَ عبد الرَّحْمَن (ابْن مهْدي) - قد هلك قوم من وَجه التَّعْظِيم فَقَالُوا: اللَّه أعظم من أَن ينزل كتابا أَو يُرْسل رَسُولا، ثُمَّ قَرَأَ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ الله على بشر من شَيْء} ثُمَّ قَالَ: هَل هَلَكت الْمَجُوس إِلا من جِهَة التَّعْظِيم؟ قَالُوا: اللَّه أعظم من أَن نعبده، وَلَكِن نعْبد من هُوَ أقرب إِلَيْهِ منا، فعبدوا الشَّمْس وسجدوا لَهَا، فَأنْزل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا(1/476)
مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زلفى} .
وَقَالَ حَمَّاد بْن سَلمَة: من رَأَيْتُمُوهُ يُنكر هَذِه الْأَحَادِيث، فاتهموه عَلَى الدّين.
وَقَالَ أسود بْن سَالم فِي أَحَادِيث الصِّفَات: أَحْلف عَلَيْهَا بِالطَّلَاق وَالْمَشْي أَنَّهَا حق.
وَقَالَ أَبُو مَعْمَر الْهُذلِيّ: من زعم أَن اللَّه تَعَالَى لَا يتَكَلَّم وَلَا يبصر وَلَا يسمع وَلَا يعجب وَلَا يضْحك وَلَا يغْضب، ذكر أَحَادِيث الصِّفَات فَهُوَ كَافِر بِاللَّه، وَمن رَأَيْتُمُوهُ عَلَى بِئْر وَاقِفًا فألقوه فِيهَا.
وَقَالَ حَمَّاد بْن زيد: مثل الْجَهْمِية مثل رجل قيل لَهُ فِي دَارك نَخْلَة؟ قَالَ: نعم. قيل: فلهَا خوص؟ قَالَ: لَا. قيل: فلهَا سعف؟ قَالَ: لَا. قيل: فلهَا كرب؟ قَالَ: لَا. قيل: فلهَا جذع؟ قَالَ: لَا. قيل فلهَا أصل؟ قَالَ: لَا. قيل: فَلَا نَخْلَة فِي دَارك، هَؤُلَاءِ الْجَهْمِية قيل لَهُم: لكم رب يتَكَلَّم. قَالُوا: لَا. قيل: فَلهُ يَد. قَالُوا: لَا. قيل: فيرضى ويغضب؟ قَالُوا: لَا. قيل: فَلَا رب لكم.(1/477)
فصل
فِي إِثبات الْفَرح صفة لله عَزَّ وَجَلَّ
277 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا وَالِدي، أَنا مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم ابْن الْفَضْلِ، نَا أَحْمَدُ بْنُ سَلَمَةَ، نَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَنا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعُودُهُ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَحَدَّثَنَا بِحَدِيثَيْنِ: حَدِيثًا عَنْ نَفْسِهِ، وَحَدِيثًا عَنْ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلَكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ، وَقَدْ ذَهَبَتْ فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ، ثُمَّ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ أَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ، فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ ".(1/478)
278 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، نَا تَمِيمِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، نَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي، نَا أَبُو يُونُسَ حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ حَمَلَ زَادَهُ وَمَزَادَهُ عَلَى بَعِيرٍ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى كَانَ بِفَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ، فَأَدْرَكَتْهُ الْقَائِلَةُ فَنَزَلَ فَقَالَ تَحْتَ شَجَرَةٍ، وَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ، وَانْسَلَّ بَعِيرُهُ فَاسْتَيْقَظَ فَسَعَى شَرَفًا فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، ثُمَّ سَعَى شَرَفًا ثَانِيًا فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، ثُمَّ سَعَى شَرَفًا ثَالِثًا فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَأَقْبَلَ حَتَّى أَتَى مَكَانَهُ الَّذِي قَالَ فِيهِ: فَبَيْنَا هُوَ قَاعِدٌ إِذْ جَاءَهُ بَعِيرُهُ يَمْشِي حَتَّى وَضَعَ خِطَامَهُ فِي يَدِهِ، فَلَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ مِنْ هَذَا حِينَ وَجَدَ بَعِيرَهُ.
قَالَ: سِمَاكٌ فَزَعَمَ الشَّعْبِيُّ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رفع الحَدِيث إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَنَا فَلَمْ أَسْمَعْهُ هَكَذَا.
وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، أَنا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، نَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، نَا أَبُو الْوَلِيدِ وَحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، نَا مُحَمَّد بن أَيُّوب، نَا سعيد ابْن مَنْصُور.(1/479)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ، نَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ السَّدُوسِيُّ، نَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ.
279 - قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، نَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ قُتَيْبَةَ، نَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَاللَّفْظُ لِسَعِيدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَيفَ تَقولُونَ: بفرح رجل انقلتت رَاحِلَتُهُ بِأَرْضٍ قَفْرٍ تَجُرُّ زِمَامَهَا، لَيْسَ بِهَا طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ، وَلَهُ عَلَيْهَا طَعَامٌ وَشَرَابٌ، فَذَهَبَ فِي طَلَبِهَا حَتَّى شَقَّ عَلَيْهِ، فَمَرَّتْ بِجِذْلِ شَجَرَةٍ فَتَعَلَّقَ زِمَامُهَا فَوَجَدَهَا مُعَلَّقَةً، قُلْنَا: شَدِيدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَوَاللَّهِ لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنَ الرَّجُلِ بِرَاحِلَتِهِ.
فَصْلٌ
فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ حَدِيثَ النُّزُول(1/480)
280 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو أَبُو الطَّاهِرِ، نَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، نَا ابْنُ وَهْبٍ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ الرّبيع بن سُلَيْمَان، نَا بكر ابْن سَهْلٍ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالا: أَنا مَالِكٌ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالا: نَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ قُتَيْبَةَ، نَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرِّ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَنْزِلُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ
يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ".
281 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَان، وَمُحَمّد ابْن يَعْقُوبَ قَالا: نَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَزْيَدٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي، نَا الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنِي هِلالُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ، حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، حَدَّثَنِي رِفَاعَةُ بْنُ عُرَانَةَ الْجُهَنِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا مَضَى شَطْرٌ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثَاهُ يَنْزِلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: لَا أَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي غَيْرِي، مَنْ هَذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي أُعْطِيهِ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي أَسْتَجِيبُ لَهُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُ لِي أَغْفِرُ لَهُ حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ ".(1/481)
فصل
فِي كَرَاهِيَة التَّأْوِيل
رُوِيَ عَن أم سَلمَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَت: الاسْتوَاء غير مَجْهُول، والكيف غير مَعْقُول، والإِيمان (بِهِ) وَاجِب والجحود بِهِ كفر، وَهَذَا يمْنَع تَأْوِيله، وَحمله عَلَى الِاسْتِيلَاء.
وَدَلِيل آخر: أَن الْمُتَكَلِّمين مثل: الباقلاني وَابْن فورك وَغَيرهمَا قد أثبتوا صِفَات وَلم يعقلوا مَعْنَاهَا، وَلم يحملوا الْوَجْه عَلَى الذَّات وَالْيَدَيْنِ عَلَى النعمتين، بل أثبتوها صِفَات ذَات لوُرُود الشَّرْع بهَا.
وَدَلِيل آخر: أَن من حمل اللَّفْظ عَلَى ظَاهره، وعَلى مُقْتَضى اللُّغَة حمله على حَقِيقَته، وَمن تَأْوِيله عدل بِهِ عَنِ الْحَقِيقَة إِلَى الْمجَاز، وَلَا يجوز إِضافة الْمجَاز إِلَى صِفَات اللَّه وَتَعَالَى.(1/482)
وَفِي رِوَايَة الْمَرْوذِيّ: وَقد سَأَلَ أَحْمَد عَن عَبْد اللَّهِ التَّيْمِيّ فَقَالَ: صَدُوق لَكِن حُكيَ عَنهُ أَنه ذكر حَدِيث الضحك، فَقَالَ: مثل الزَّرْع، وَهَذَا كَلَام الْجَهْمِية.(1/483)
فصل
فِي معنى الْمُحكم والمتشابه
قَالَ بعض الْعلمَاء: آي الْكتاب قِسْمَانِ: أَحدهمَا مُحكم تَأْوِيله تَنْزِيله يفهم المُرَاد مِنْهُ بِظَاهِرِهِ، وَقسم هُوَ متشابه لَا يعلم تَأْوِيله إِلا اللَّه وَقَالُوا: قَوْله: {والراسخون فِي الْعلم} . الْوَاو للاستئناف قَالُوا: وَكَذَلِكَ أَخْبَار الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَارِيَة هَذَا المجرى، ومنزلة هَذَا التَّنْزِيل.
قَالَ الْأَنْبَارِي ذهب جمَاعَة من أَصْحَاب رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَن تَأْوِيل الْمُتَشَابه لَا يُعلمهُ إِلا اللَّه، مِنْهُم: أَبِي بْن كَعْب، وَعبد اللَّه بْن مَسْعُود، وَعبد الله ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَفِي قِرَاءَة عَبْد اللَّهِ إِن تَأْوِيله إِلا عِنْد اللَّه {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعلم يَقُولُونَ آمنا بِهِ} . وَفِي قِرَاءَة أَبِي: {وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} . وَكَانَ ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقْرَأ: {وَيَقُول الراسخون فِي الْمعلم} .(1/484)
وَقَالَ جمَاعَة من أهل اللُّغَة: مِنْهُم ثَعْلَب، الْوَقْف عَلَى قَوْله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا الله} .
وَقَالَ الْفراء وَأَبُو عبيد {والراسخون} مستأنفون، وَالله هُوَ الْمُنْفَرد بِعلم التَّأْوِيل.
282 - وَفِي رِوَايَة ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أنزل الْقُرْآن عَلَى أَرْبَعَة أحرف ". ثُمَّ قَالَ: " ومتشابه لَا يُعلمهُ إِلا اللَّه ".
قَالَ أهل التَّفْسِير: معنى آمنا بِهِ: صدقنا بِهِ، وَلم يقل علمناه قَالُوا: وَلِأَنَّهُ إِذَا كَانَت الْوَاو عاطفة فِي الْمُشَاركَة فِي الْعلم احْتَاجَ الْكَلَام إِلَى إِضمار والإِضمار: ترك حَقِيقَة.
قَالُوا: وَلَا يجوز أَن يَنْفِي اللَّه شَيْئا عَنِ الْخلق يُثبتهُ لنَفسِهِ فَيكون لَهُ فِي ذَلِك شريك. أَلا ترى إِلَى قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ لَا يعلم من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض الْغَيْب إِلَّا الله} . وَقَوله: {لَا يجليها لوَقْتهَا إِلَّا هُوَ} . وَقَالَ(1/485)
قوم: لَو كَانَ الراسخون يعلمُونَ تَأْوِيله، لم يكن فِي الْقُرْآن متشابه، وَكَانَ جَمِيعه محكما، وَقد أخبر اللَّه تَعَالَى: أَن فِيهِ محكما، وَفِيه متشابها؛ لِأَنَّهُ لَو حمل عَلَى الْعَطف اقْتضى إِضافة هَذَا القَوْل إِلَى اللَّه يَعْنِي قَوْله: أمنا بِهِ، وَلَا يجوز إِضافة ذَا القَوْل إِلَى الله تَعَالَى.
فَإِذا قيل: إِذَا كَانَ كَذَلِك وَلَا يعلم تَأْوِيله، فَمَا الْفَائِدَة فِيهِ؟ قيل: الْفَائِدَة فِيهِ اختبار الْعباد ليؤمن بِهِ الْمُؤمن فيسعد وَيكفر بِهِ الْكَافِر فيشقى؛ لِأَن سَبِيل الْمُؤمن إِذَا قَرَأَ من هَذَا شَيْئا أَن يصدق ربه وَلَا يعْتَرض فِيهِ بسؤال وإِنكار فيعظم ثَوَابه.
قَالَ ابْن مَسْعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا آمن مُؤمن أفضل من إِيمان بِغَيْب، ثُمَّ قَرَأَ: {الَّذين يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ} .
فصل
فِي الرَّد عَلَى من أنكر عَذَاب الْقَبْر(1/486)
283 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ أَشْتَهْ، أَنا أَبُو بكر بْن أَبِي نصر، نَا أَبُو الشَّيْخِ، أَنا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنا الْمِهْرِقَانِيُّ، نَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَكَمِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرو بن مَيْمُون، عَن عمر ابْن الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.
284 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَفَّارُ بِبَغْدَادَ، نَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: دخل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبْرَهُ يَعْنِي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَاحْتَبَسَ فِيهِ، فَلَمَّا خَرَجَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَسبك؟ قَالَ: ضُمَّ سَعْدٌ فِي الْقَبْرِ فَدَعَوْتُ اللَّهَ فكشف عَنهُ.(1/487)
285 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، أَنا ابْنُ أَبِي عَاصِم، نَا عبد الْأَعْلَى ابْن حَمَّادٍ، نَا دَاوُدُ الْعَطَّارُ، نَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أُهْبِطَ يَوْمَ مَاتَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَمْ يَهْبِطُوا قَبْلَهَا، وَلَقَدْ ضَمَّهُ الْقَبْرُ ضَمَّةً، ثُمَّ بَكَا نَافِعٌ.
286 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، نَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن الْحسن، نَا عبي ابْن الْمُنْذِرِ، نَا ابْنُ فُضَيْلٍ، نَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: لَمَّا مَاتَ سَعْدُ بْنُ معَاذ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ضُمَّ فِي الْقَبْرِ ضَمَّةً حَتَّى صَارَ مِثْلَ الشَّعَرِ، فَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُرَفِّهَ عَنْهُ.
287 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، نَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بن يَعْقُوب، نَا عَليّ ابْن الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، نَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ، نَا سَعْدَانُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَمَّا مَاتَتْ أُمُّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ الله عَنهُ - خلع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَمِيصَهُ فَأَلْبَسَهُ إِيَّاهَا وَاضْطَجَعَ مَعَهَا فِي قَبْرِهَا، فَلَمَّا سَوَّى عَلَيْهِ التُّرَابُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْنَاكَ صَنَعْتَ شَيْئًا لَمْ تَصْنَعْهُ بِأَحَدٍ. قَالَ إِنِّي أَلْبَسْتُهَا قَمِيصِي لِتَلْبَسَ مِنْ ثِيَابِ الْجَنَّةِ وَاضْطَجَعْتُ مَعَهَا فِي قَبْرِهَا لِيُخَفِّفَ عَنْهَا مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ.(1/488)
288 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ، نَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُزَاعِيٍّ، نَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْعَلاءِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ الْعَبْسِيِّ، عَنْ زَاذَانَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَمَّا دَفَنَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رُقَيَّةَ ابْنَتَهُ جَلَسَ عِنْدَ الْقَبْرِ فَتَرَبَّدَ وَجْهُهُ وَتَغَيَّرَ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: رَأَيْنَا وَجْهَكَ قَدْ تَغَيَّرَ فَسُرِّيَ عَنْكَ، فَقَالَ: ذَكَرْتُ ابْنَتِي وَضَعْفَهَا وَعَذَابَ الْقَبْرِ، فَدَعَوْتُ اللَّهَ فَفَرَّجَ عَنْهَا، وَايْمُ اللَّهِ لَقَدْ ضُمَّتْ ضَمَّةً سَمِعَهَا مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ.
فَصْلٌ
فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْحَوْضَ وَالْمِيزَانَ
289 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْن عبد الْغفار، أَنا أَبُو بكر بْن أَبِي نَصْرٍ، نَا أَبُو الشَّيْخِ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ، نَا أَبُو مَسْعُودٍ، أَنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -(1/489)
قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنَا عِنْدَ عُقْرِ حَوْضِي أَذُودُ النَّاسَ عَنْهُ لأَهْلِ الْيَمَنِ، إِنِّي لأَضْرِبُهُمْ بِعَصَايَ، وَإِنَّهُ لَيَغُتُّ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ أَحَدُهُمَا مِنْ وَرِقٍ وَالآخَرُ مِنْ ذَهَبٍ طُولُهُ مَا بَيْنَ بُصْرَى وَصَنْعَاءَ أَوْ مَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَمَكَّةَ أَوْ مِنْ مَقَامِي هَذَا إِلَى عُمَانَ ".
قَالَ أهل اللُّغَة: عقر الْحَوْض مؤخره، وعقر الدَّار أَصْلهَا، وَقيل: عقر الْحَوْض مقَام الشاربة، يُرِيد أَنه يردهم عَنِ المَاء حَتَّى يرد أهل الْيمن، وَقَوله: يغت فِيهِ مِيزَابَانِ أَي يسيل المَاء فِيهِ بِكَثْرَة.
يُقَال: غت عَلَى وزن غل يغل بالغين الْمُعْجَمَة وَالتَّاء المنقوطة بنقطتين، وَقيل: الغت الدفق.
وَقَالَ أَعْرَابِي لبنية لَهُ صَغِيرَة، وَقد دفع إِليها كوزا غتى وَيلك غتي.
وعمان بِفَتْح الْعين وَتَشْديد الْمِيم بَلْدَة بِالشَّام.
290 - أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عبد الْغفار، أَنا أَبُو بكر بْن أَبِي نصر، نَا أَبُو الشَّيْخ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، نَا أَبُو يُوسُفَ الْقُلُوسِيُّ، نَا مُعَاذُ بْنُ هَانِئٍ أَبُو هَانِئٍ السُّكَّرِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ(1/490)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ مَا بَيْنَ زَوَايَاهُ سَوَاءٌ، كِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الْوَرِقِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا ".
291 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ، نَا أَبُو مَسْعُودٍ، أَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ الأَخْنَسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا سَعَةُ حَوْضِكَ؟ قَالَ: مَا بَيْنَ عَدَنَ إِلَى عُمَانَ، وَهُوَ أَوْسَعُ وَأَوْسَعُ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ وَفِيهِ مَثْعَبَانِ أَحَدُهُمَا مِنْ ذَهَبٍ، وَالآخَرُ مِنْ فِضَّةٍ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا شَرَابُهُ؟ قَالَ: أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مَذَاقُهُ مِنَ الْعَسَلِ، وَأَطْيَبُ رَائِحَةً مِنَ الْمِسْكِ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَلَمْ يَسْوَدَّ وَجْهُهُ أَبَدًا ".(1/491)
292 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، نَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جَمِيلٍ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَبَّاسِ، نَا الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ، حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي سَلامٍ، عَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " حَوْضِي مِنْ عَدَنَ إِلَى عُمَانَ، مَاؤُهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَأَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، أَكْوَابُهُ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَأَوَّلُ النَّاس وروداً عَلَيْهِ فُقَرَاء الْمُهَاجِرين الشعث رؤوساً، الدُّنْسُ ثِيَابًا، الَّذِينَ لَا يَنْكِحُونَ الْمُنَعَّمَاتِ وَلا تُفْتَحُ لَهُمُ السُّدَدُ ".
293 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، نَا أَبُو بَكْرِ بْنُ رَاشِدٍ، نَا مُحَمَّدُ ابْن عَبْدِ الرَّحِيمِ، نَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا يَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وَارِدَةً، وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدَة ".(1/492)
294 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، نَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الأَهْوَازِيُّ، نَا مَعْمَرُ بْنُ سَهْلٍ، نَا عَامِرُ بْنُ مُدْرِكٍ، نَا مُحَمَّدُ بن عبد اللَّهِ، نَا أَبُو الْيَقْظَانِ عَنْ زَاذَانَ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لما أسرِي بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبْصَرَ نَهَرًا فِي الْجَنَّةِ، قِيلَ: هَذَا الْكَوْثَرُ , قَالَ: فَأَصْبَحَ وَحَدَّثَ بِهِ النَّاسَ، فَقَالَ مُنَافِقٌ لِصَاحِبٍ لَهُ: سَلْهُ فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا نَهَرًا قَطُّ إِلا عَلَى شَطِّهِ نَبَاتٌ، فَمَا نَبْتُهُ؟ قَالَ: قُضْبَانُ الذَّهَبِ الرَّطْبِ مُسْتَعْلِيَةً عَلَيْهِ تُظِلُّهُ. قَالُوا: إِنَّا لَمْ نَرَ نَبَاتًا إِلا وَلَهُ ثَمَرٌ، فَمَا ثَمَرُهُ؟ قَالَ: الْيَاقُوتُ وَاللُّؤْلُؤُ وَالزُّمُرُّدُ. قَالُوا: إِنَّا لَمْ نَرَ نَهَرًا إِلا لَهُ حَمْأَةٌ، فَمَا حَمْأَتُهُ؟ قَالَ: الْمِسْكُ الأَذْفَرُ. قَالُوا: فَإِنَّا لَمْ نَرَ نَهَرًا قَطُّ إِلا يَجْرِي عَلَى رَضْرَاضٍ، فَمَا رَضْرَاضُهُ؟ قَالَ: جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ. قَالَ: يَقُولُ الْمُنَافِقُ وَاللَّهِ لَكَأَنَّا لَمْ نُسْلِمْ إِلا الآنَ.
فَصْلٌ
فِي ذِكْرِ الصِّرَاط(1/493)
295 - أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عبد الْغفار، أَنا أَبُو بكر بْن أَبِي نصر، نَا أَبُو الشَّيْخ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رُسْتَةَ، نَا ابْن حِسَاب، نَا عبد الْوَاحِد، ابْن زِيَادٍ، نَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ النُّعْمَان بن سعد، قَالَ: سَمِعت الْمُغيرَة ابْن شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " شِعَارُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الصِّرَاطِ: اللَّهُمَّ سلم سلم ".(1/494)
296 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، نَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ، نَا حُسَيْنٌ الْمَرْوَزِيُّ، أَنا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْخَفَّافُ، نَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يُحْبَسُ أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْدَمَا يُجَاوِزُونَ الصِّرَاطَ، فَلَيَقْتَصَّنَّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمَ تَظَالَمُوهَا فِي دَارِ الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ ".
قَالَ قَتَادَةُ: قَالَ أَبُو عَيَّاشٍ مَا نُشَبِّهُهُ بِهِمْ إِلا أَهْل جُمُعَةٍ انْصَرَفُوا مِنْ جُمُعَتِهِمْ، قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ أَحَدَهُمْ لأَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الآخِرَةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ فِي الدُّنْيَا.
297 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، أَنا أَبُو يعلى، نَا هدبة، نَا حَمَّاد ابْن سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ آخِرَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ يمشي على الصِّرَاط مرّة، ويكبو مرّة، وتسعفه النَّارُ مَرَّةً، فَإِذَا جَاوَزَ الْتَفَتَ إِلَيْهَا فَقَالَ:(1/495)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانِي مِنْكِ، لَقَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ شَيْئًا لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا مِنَ الأَوَّلِينَ، وَلَا يُعْطه أَحَدًا مِنَ الآخِرِينَ ".
298 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، نَا إِبْرَاهِيمُ هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ هَاشِمٍ، نَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، نَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةِ، عَنْ عَليّ ابْن يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا الصِّرَاط. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: طَرِيقٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ يُجَازُ النَّاسُ عَلَيْهَا، وَهُوَ كَحَدِّ الْمُوسَى وَالْمَلائِكَةُ صَافُّونَ يَمِينًا وَشِمَالا يَخْطَفُونَهُمْ بِالْكَلالِيبِ مِثْلَ: شَوْكِ السَّعْدَانِ وَهُمْ يَقُولُونَ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ وَأَفْئِدَتِهِمْ هَوَاءٌ، فَمَنْ شَاءَ سَلَّمَهُ، وَمَنْ شَاءَ كَبْكَبَهُ.
299 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، نَا إِبْرَاهِيمُ، نَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، نَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نَا حَرْبُ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ ابْن مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: حَدَّثَنِي نَبِيُّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنِّي قَائِمٌ أَنْتَظِرُ أُمَّتِي تَعْبُرُ الصِّرَاطَ، إِذْ جَاءَنِي عِيسَى بن مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَذِهِ الأَنْبِيَاءُ قَدْ جَاءَتْ يَسْأَلُونَ أَنْ يَجْتَمِعُوا إِلَيْكَ وَتَدْعُو اللَّهَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ جَمِيعِ الأُمَمِ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ تَدْعُونَ اللَّهَ لِغَمِّ مَا هُمْ فِيهِ، فَالْخَلْقُ مُلْجَمُونَ فِي الْعَرَقِ ".(1/496)
فصل
فِي ذكر شَفَاعَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(1/497)
300 - أخبرنَا مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب، أَنا أَبُو الْحسن ابْن عبد كويه، نَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّبَرَانِيُّ، نَا الْحَسَنُ بْنُ الْعَبَّاسِ الرَّازِيُّ، (نَا الْحُسَيْنُ بْنُ عِيسَى بْنِ مَيْسَرَةَ الرَّازِيُّ) ، نَا أَبُو زُهَيْرٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُغْرِي، نَا مُوسَى الْجُهَنِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ الزَّرَّادُ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنه سمع عبد الله ابْن عَمْرو بن الْعَاصِ - رَضِي الله عَنهُ - عَنهُ يَقُول: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَدْخُلُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْقِبْلَةِ النَّارَ مَا لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إِلا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا عصوا الله عز وَجل واجترؤوا علىمعصيته، وَخَالَفُوا طَاعَتَهُ، فَيُؤْذَنُ لِي فِي الشَّفَاعَةِ، فَأُثْنِي عَلَى اللَّهِ سَاجِدًا كَمَا أُثْنِي عَلَيْهِ قَائِمًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: أَخْرِجْ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قبله مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَأَخْرِجْ مَنْ ذَكَرَنِي خَالِيًا أَوْ خَافَنِي فِي مَقَامٍ ".
301 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا الطَّبَرَانِيُّ، نَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي، نَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ قَالا: نَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، نَا معبد ابْن هِلالٍ الْعَنَزِيُّ قَالَ: اجْتَمَعَ رَهْطٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَانْطَلَقْنَا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَتَشَفَّعْنَا بِثَابِتٍ، فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى أَنَسٍ وَهُوَ يُصَلِّي الضُّحَى، فَانْتَظَرَنَاهُ حَتَّى فَرَغَ فَأَجْلَسَ ثَابِتًا مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ، فَقَالَ ثَابِتٌ لأَصْحَابِهِ: لَا تَسْأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ إِنَّ إِخْوَانَكَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَتَوْكَ تُحَدِّثُهُمْ بِحَدِيثِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الشَّفَاعَةِ، فَقَالَ أَنَسٌ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ فَيَأْتُونَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَيُقَالُ لَهُ: يَا آدَمُ اشْفَعْ إِلَى رَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ: فَيَقُولُ: لَسْتَ لَهَا(1/498)
وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيُؤْتَى إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَهُوَ كَلِيمُ اللَّهِ، فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَهُوَ رَوْحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، فَيَأْتُونَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ فَيُذْكَرُ لَهُ ذَلِكَ فَيَقُولُ: لست لَهَا، وَلَكِن عَلَيْكُم بِمُحَمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأُوتَى فَأَقُولُ أَنَا لَهَا، فَأَنْطَلِقُ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ فَيُقِيمُنِي فَأَقُومُ وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا الآنَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ نَسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهُ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ أَيْ رَبِّ أُمَّتِي، فَيُقَالُ: انْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ، وَإِمَّا مِثْقَالُ بُرَّةٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ لِي يَا مُحَمَّدُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، (قُلْ نَسْمَعْ) ، وَسَلْ تُعْطَهُ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ أُمَّتِي (أُمَّتِي) ، فَيُقَالُ انْطَلِقْ، فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، قُلْ نَسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: انْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِنْ مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلَةٍ فَأَخْرِجْهُ، قَالَ: فَأَفْعَلُ. فَانْتَهَى حَدِيثُ أَنَسٍ إِلَى هَا هُنَا، فَأَقْبَلْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِظَهْرِ الجَبَّانِ. قُلْنَا: هَلْ لَكُمْ فِي الْحَسَنِ وَهُوَ مُسْتَخْفٍ فِي مَنْزِلِ أَبِي خَلِيفَةَ؟ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَقُلْنَا: يَا أَبَا سَعِيدٍ جِئْنَاكَ مِنْ عِنْدِ أَخِيكَ أَبِي حَمْزَةَ فَلَمْ نَسْمَعْ بِمِثْلِ حَدِيثٍ حَدَّثَنَا بِهِ فِي الشَّفَاعَةِ، قَالَ: هَاتُوا، كَيْفَ حَدَّثَكُمْ فَحَدَّثْنَاهُ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى آخِرِ حَدِيثِنَا فَقُلْنَا: مَا زَادَنَا عَلَى هَذَا،(1/499)
فَقَالَ: لَقَدْ حَدَّثَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً، فَزَادَنِي الشَّيْخُ أَمْرًا كَثِيرًا قُلْنَا: يَا أَبَا سَعِيدٍ حَدِّثْنَا فَضَحِكَ أَوْ تَبَسَّمَ، وَقَالَ: خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ، إِنِّي لَمْ أَذْكُرْهُ إِلا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُحَدِّثَكَ قَالَ: ثُمَّ أَجِيءُ الرَّابِعَةَ فَأَقُومُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، قُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ. فَيُقَالُ: لَيْسَ ذَاكَ لَكَ أَوْ إِلَيْكَ، وَعِزَّتِي وَكِبْرِيَائِي وَجَبَرُوتِي وَعَظَمَتِي لأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ قَالَ: فَأَشْهَدُ عَلَى الْحَسَنِ، لَقَدْ حَدَّثَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ يَوْمَ سَمِعْنَاهُ مِنْ أَنَسٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً.
302 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا الطَّبَرَانِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيّ، نَا الْعَبَّاس ابْن عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ، نَا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، نَا عِمْرَانُ الْعَمِّيُّ، عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَزَالُ أَشْفَعُ إِلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَيُشَفِّعُنِي وَيُشَفِّعُنِي حَتَّى أَقُولَ: يَا رَبِّ شَفِّعْنِي فِيمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَقَالَ: هَذِهِ لَيْسَتْ لَكَ وَلا لأَحِدٍ، إِنَّمَا هِيَ لِي، وَعِزَّتِي (وَحِلْمِي) وَرَحْمَتِي لَا أَدَعُ فِي النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ".(1/500)
303 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا الطَّبَرَانِيّ، نَا عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ الْعَبْدِيُّ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ دَاوُدَ الصَّوَّافُ، نَا أَبُو مُوسَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالا: نَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، نَا أَبُو مَسْعُودٍ الْجُرَيْرِيُّ أَوْ غَيْرُهُ، قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَأَكْثَرُ حِفْظِي أَنَّهُ الْجُرَيْرِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أنس ابْن مَالك - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ النَّاسَ يَحْتَبِسُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا شَاءَ الله أَن يحتبسوا فيهم الْمُؤمنِينَ فَيَقُولُونَ: انْظُرُوا مَنْ يَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ فَلْيُرِحْنَا مِنْ مَنْزِلِنَا هَذَا، فَيَأْتُونَ آدم عَلَيْهِ السَّلَام، فَيَقُولُونَ: اسفع لَنَا إِلَى رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ فَلْيُرِحْنَا مِنْ مَنْزِلِنَا، فَيَسْتَقرُونَ الأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ كُلُّهُمْ يَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُم، لست هُنَاكُم، ثمَّ يعودودن إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَيَقُولُ لَهُمْ: يَا بَنِي آدَمَ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ جَعَلَ مَتَاعًا فِي عَيْبَتِهِ وَخَتَمَ عَلَيْهِ هَلْ يُؤْتَى مَتَاعُهُ إِلا مِنْ قِبَلِ الْخَاتَمِ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ يَفْتَحُ لَكُمُ الشَّفَاعَةُ فَعَلَيْكُمْ بِهِ فَأُوتَى فَأَقُومُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيُفْتَحُ لِي، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ خَرَرْتُ لَهُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُعَلِّمُنِي اللَّهُ مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لَمْ يَحْمَدْهُ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي، وَلا يَحْمَدُهُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي، ثُمَّ يُقَالُ يَا مُحَمَّدُ: اشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهُ، فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ شَفِّعْنِي فِي كُلِّ طِفْلٍ مَاتَ صَغِيرًا، فَيُقَالُ (لِي) إِنَّ تِلْكَ لَيْسَتْ لَكَ يَا مُحَمَّدُ وَعِزَّتِي وَجَلالِي وَعَظَمَتِي لَا أَدَعُ فِي النَّارِ عَبْدًا مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا إِلا أَخْرَجْتُهُ مِنْهَا، قَالَ: فَذكرَ لِي أَنَّ رَجُلا يَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّهُ كَانَ لِي صَدِيقٌ فَيُجْزِمُ عَلَيْهِ حَتَّى يُخْرِجَ صَدِيقَهُ ".(1/501)
فَصْلٌ
فِي إِثْبَاتِ الْمِيزَانِ
304 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، أَنا أَبُو الْحَسَنِ بن عبد كويه، نَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، نَا أَبُو يَزِيدَ الْقَرَاطِيسِيُّ، نَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، نَا حَمَّادُ(1/502)
ابْن سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: يُؤْتَى بِالْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَوْ وُضِعَتْ فِي كَفَّتِهِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ، وَمَنْ فِيهِنَّ لَوَسِعَهُ. وَقَالَ: فَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ: رَبَّنَا مَنْ تَزِنُ بِهَذَا؟ فَيَقُولُ: مَنْ شِئْتُ مِنْ خَلْقِي، فَيَقُولُ الْمَلائِكَةُ: رَبَّنَا مَا عبدناك حق عِبَادك.
305 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو يَزِيدَ الْقَرَاطِيسِيُّ، نَا أَسَدُ بن مُوسَى، نَا بكر ابْن خُنَيْسٍ عَنْ ضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تُنْصَبُ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُؤْتَى بِأَهْلِ الصَّلاةِ، وَأَهْلِ الصِّيَامِ، وَأَهْلِ الصَّدَقَةِ، وَأَهْلِ الْحَجِّ، فَيُوَفَّوْنَ بِالْمِيزَانِ، وَيُؤْتَى بِأَهْلِ الْبَلاءِ فَلا يُنْصَبُ لَهُمْ مِيزَانٌ، وَلا يُنْشَرُ لَهُمْ دِيوَانٌ، وَيُصَبُّ الأَجْرُ عَلَيْهِمْ صَبًّا بِغَيْرِ حِسَابٍ ".
306 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، نَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّاب ابْن نَجْدَةَ، نَا أَبِي، نَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، نَا الْعَلاءُ بْنُ زَبْرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يزِيد ابْن جَابِرٍ قَالا: نَا أَبُو سَلامٍ الأَسْوَدُ، حَدَّثَنِي أَبُو سلمى حُرَيْث راعي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بَخٍ بَخٍ لَخَمْسٌ مَا أَثْقَلُهُنَّ فِي الْمِيزَانِ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَالْوَلَدُ الصَّالِحُ يُتَوَفَّى لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فَيَحْتَسِبُهُ ".(1/503)
307 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، نَا إِسْمَاعِيل بن عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا ذَكَرَتِ النَّارَ فَبَكَتْ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا يُبْكِيكِ؟ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَلْ تَذْكُرُونَ أَهْلِيكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " أَمَّا فِي ثَلاثِ مَوَاطِنَ فَلا يَذْكُرُ أَحَدٌ أَحَدًا: عِنْدَ الْمِيزَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَيَخِفُّ مِيزَانُهُ أم يثقل، وَعند الْكتاب حِين يَقُول: هاؤوم اقرؤوا كِتَابيه حَتَّى يَعْلَمَ أَيْنَ يَقَعُ كِتَابُهُ أَفِي يَمِينِهِ أَوْ فِي شِمَالِهِ، أَوْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ وَعِنْدَ الصِّرَاطِ إِذَا وُضِعَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ ".
308 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، نَا أَبُو يزِيد القراطيسي، نَا أَسد ابْن مُوسَى، نَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نَا أَبُو الْغَيْضِ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ: قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَا نتعارف يَوْم الْقِيَامَة فَإِنِّي سمع اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمئِذٍ وَلَا يتساءلون} ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ثَلاثُ مَوَاطِنَ تَذْهَلُ كُلُّ نَفْسٍ فِيهِنَّ حِينَ رمى إِلَى كُلِّ نَفْسٍ بِكِتَابِهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَبِيَمِينِهِ يَأْخُذُ كِتَابَهُ أَمْ بِشِمَالِهِ وَعِنْدَ الْمَوَازِينَ حَتَّى يَنْظُرَ أَيَرْجُحُ أَمْ يَخِفُّ، وَعِنْدَ جِسْرِ جَهَنَّمَ يَمُرُّ بِهِ الرَّجُلُ أَسْرَعَ مِنَ الْبَرْقِ، وَمِنَ الرِّيحِ وَمِنَ الطَّيْرِ ".
309 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا الطَّبَرَانِيُّ، نَا الْعَبَّاس بن الْفضل الأسقاطي، نَا مُحَمَّد ابْن كَثِيرٍ الْعَبْدِيُّ، نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ يَنَّاقَ، عَنْ خَالِهِ(1/504)
عَطَاءِ بْنِ نَافِعٍ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أُمِّ الدَّرْدَاءِ فَقَالَتْ: سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - يَقُول: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ أَثْقَلَ شَيْءٍ فِي الْمِيزَانِ الْخُلُقُ الْحَسَنُ ".
فَصْلٌ
فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ الأَرْوَاحَ مَخْلُوقَةٌ
310 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ الْخِرَقِيُّ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَوْزَدَانِيُّ، أَنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ، أَنا مُحَمَّدُ بن مُحَمَّد بن صابر البُخَارِيّ، نَا عُتْبَةُ بْنُ السَّكَنِ، نَا أَرْطَأَةُ بْنُ الْمُنْذِرِ، نَا عَطَاءُ بْنُ عَجْلانَ، عَنْ يُونُسَ ابْن حَلْبَسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبَسَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ أَرْوَاحَ الْعِبَادِ قَبْلَ الْعِبَادِ بِأَلْفَيْ عَامٍ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ ".
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: بَيَان آخر يدل عَلَى أَن الْأَرْوَاح مخلوقة وأَنَّهَا جنود مجندة.(1/505)
311 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، نَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلِ بْنِ الْمُغِيرَةِ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَحَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الرَّبِيعِ، نَا يُوسُفُ بْنُ يَزِيدَ قَالا: نَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، نَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ ".
قَالَ أَبُو عبد الله: قَالَ مُحَمَّد بن نصر (و) " لَا خِلافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ الأَرْوَاحَ الَّتِي فِي آدم وبنيه وَعِيسَى وَمن سَوَاء مِنْ بَنِي آدَمَ كُلّها مخلوقة، اللَّه خلقهَا وانشأها وَكَونهَا واخترعها، ثُمَّ أضافها إِلَى نَفسه، كَمَا أضَاف سَائِر خلقه ". قَالَ اللَّه عَزَّ وَجل: {وسخر لكم مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مِنْهُ} .
قَالَ مُحَمَّد بْن نصر: تَأَول صنف من الزَّنَادِقَة وصنف من الروافض فِي روح آدم مَا تأولته النَّصَارَى فِي روح عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام، وَمَا تَأَول قوم فِي أَن النُّور وَالروح انفصلا من ذَات اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فصارا فِي الْمُؤمن، فعبد صنف من(1/506)
النَّصَارَى عِيسَى وَمَرْيَم جَمِيعًا لِأَن عِيسَى عِنْدهم روح من اللَّه صَار فِي مَرْيَم فَهُوَ غير مَخْلُوق عِنْدهم.
أخبرنَا أَحْمَد بْن أَبِي الْفَتْح، أَنا مُحَمَّد بْن عَليّ الجوزداني قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ بَيَان آخر: يدل عَلَى أَن الرّوح والجسد يعاقبان جَمِيعًا وأَنَّهَا يتخاصمان بَين يَدي اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَليّ الصُّوفِي بِمَكَّة، نَا عَليّ ابْن عَبْدِ الْعَزِيزِ، نَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي سَعْدٍ سَعِيدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ الْبَقَّالِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَا تَزَالُ الْخُصُومَةُ بِالنَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَاصِمَ الرُّوحُ الْجَسَدَ، فَيَقُولُ الرُّوحُ: يَا رَبِّ إِنَّمَا كُنْتُ رُوحًا مِنْكَ جَعَلْتَنِي فِي هَذَا الْجَسَدِ فَلا ذَنْبَ لِي، وَيَقُولُ الْجَسَدُ: يَا رَبِّ كُنْتُ جَسَدًا خَلَقْتَنِي وَدَخَلَ فِيَّ هَذَا الرُّوحُ مِثْلَ النَّارِ فَبِهِ كُنْتُ أَقُومُ وَبِهِ كُنْتُ أَقْعُدُ وَبِهِ أَذْهَبُ وَبِهِ أَجِيءُ فَلا ذَنْبَ لِي قَالَ: فَيُقَالُ إِنَّا نَقْضِي بَيْنَكُمَا، أَخْبِرَانَا عَنْ أَعْمَى وَمُقْعَدٍ دَخَلا حَائِطًا فَقَالَ الْمُقْعَدُ لِلأَعْمَى: إِنِّي أَرَى ثَمَرًا فَلَوْ كَانَتْ لِي رِجْلانِ لَتَنَاوَلْتُ، فَقَالَ الأَعْمَى أَنَا أَحْمِلُكَ عَلَى رَقَبَتِي، قَالَ: فَحَمَلَهُ فَتَنَاوَلَ مِنَ الثَّمَرِ، فَأَكَلا جَمِيعًا فَعَلَى مَنِ الذَّنْبُ؟ قَالا: عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، فَقَالَ: قَضَيْتُمَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ.(1/507)
فَصْلٌ
فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ الرّيح مخلوقة
312 - أخبرنَا أَبُو الْغَنَائِم ابْن أَبِي عُثْمَانَ، أَنا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ يَحْيَى الْبَيِّعُ، نَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَحَامِلِيُّ، نَا عَلِيُّ بْنُ شُعَيْبٍ، نَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعَ عَمْرو ابْن يَزِيدَ بْنِ جَعْدٍ بِهِ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِخْرَاقٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ الله عَنهُ - يبلغ بِهِ للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ فِي الْجَنَّةِ رِيحًا بَعْدَ الرِّيحِ بِسَبْعِ سِنِينَ، وَمِنْ دُونِهَا بَابٌ مُغْلَقٌ وَإِنَّمَا يَأْتِيكُمُ الرُّوحُ مِنْ خَلَلِ ذَلِكَ الْبَابِ، وَلَوْ فُتِحَ ذَلِكَ الْبَابُ لَا ذرت مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ وَهِيَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الأَزْيَبُ وَهِيَ فِيكُمُ الْجَنُوبُ ".
فصل
فِي الرَّد عَلَى الْجَهْمِية الَّذين يَقُولُونَ إِن الْجنَّة وَالنَّار لم تخلقا(1/508)
قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غدواً وعشياً} .
313 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الطُّرَيْثِيثِيُّ، أَنا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الطَّبَرِيُّ، أَنا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ، نَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ، نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نَا عَبْدُ الْوَارِثِ، نَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ ".(1/509)
314 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا عُبَيْدُ اللَّهِ بن أَحْمد، أَنا الْحُسَيْن ابْن إِسْمَاعِيلَ، نَا فَضْلُ بْنُ سَهْلٍ، نَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، نَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - عَنهُ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرِ بْنِ لُحَيٍّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ ".
315 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ، أَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، نَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، نَا دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ ".
316 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، نَا أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ، نَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ التَّنُوخِيُّ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي سَوْدَةَ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَامَ عَليّ سور بَيت الْمُقَدّس الشَّرْقِي فَبَكَى، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا الْوَلِيد؟ قَالَ: من هَا هُنَا أخبرنَا نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ رَأَى جَهَنَّمَ.(1/510)
317 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، أَنا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ نَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ أَرْسَلَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام إِلَيْهَا فَقَالَ: انْظُرْ إِلَيْهَا وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لأَهْلِهَا فِيهَا فَجَاءَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لأَهْلِهَا فِيهَا، فَرَجَعَ فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلا دَخَلَ فِيهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خِفْتُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ، قَالَ: اذْهَبْ إِلَى النَّارِ، فَانْظُرْ إِلَيْهَا وَمَا أَعْدَدْتُ لأَهْلِهَا فِيهَا، فَإِذَا هِيَ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَرَجَعَ وَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلُهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، ثُمَّ قَالَ: انْظُرْ إِلَيْهَا وَمَا أَعْدَدْتُ لأَهْلِهَا فِيهَا، فَرَجَعَ فَإِذَا هِيَ قَدْ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ فَرَجَعَ فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خِفْتُ أَنْ لَا يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ ".
318 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، نَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ مُهَاجِرًا أَبَا الْحَسَنِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَبْرِدُوا بِالصَّلاةِ " أَوْ قَالَ: " انْتَظِرُوا فَإِنَّ شِدَّةَ الْحر فِي فيح جَهَنَّم ".(1/511)
319 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، نَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ، نَا أَبُو الْيَمَانِ، أَنا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٌ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٌ فِي الصَّيْفِ ".
320 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بن عَليّ، أَنا عبد الله ابْن مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ، أَنا مَكِّيُّ بْنُ عَبْدَانَ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ، نَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، نَا حُمَيْدٌ، نَا أنس، عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا أَنَا بِنَهَرٍ حَافَّتَاهُ خِيَامُ اللُّؤْلُؤِ فَضَرَبْتُ بِيَدِي فِي حَوْمَةِ المَاء، فَإِذَا مِسْكٌ أَذْفَرُ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا؟ قَالَ: الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَهُ اللَّهُ أَوْ أَعَطَاكَ رَبُّكَ ".
321 - قَالَ: أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْبَارِيُّ أَنا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ، نَا أَحْمَدُ بْنُ شَيْبَانَ، نَا سُفْيَانُ، عَن الزُّهْرِيّ(1/512)
عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ فِيهَا قِرَاءَةً، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: حَارِثَة بن النُّعْمَان، كذلكم الْبِرُّ كَذَلِكَ الْبِرُّ ".
فَصْلٌ
فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ عَذَابَ الْقَبْرِ وَمُنْكَرًا وَنَكِيرًا
322 - أَخْبَرَنَا الشريف أَبُو نصر الذينبي - رَحمَه الله -، أَنا مُحَمَّد بن عمر ابْن عَلِيِّ بْنِ خَلَفٍ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، نَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، نَا عبد الله ابْن رَجَاءٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أُمِّ خَالِد بنت خَالِد قَالَ: كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ: هَذِهِ أُمُّ خَالِدٍ بِنْتُ خَالِدِ بْنِ سعيد بن الْعَاصِ رَوَت عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَدِيثَيْنِ هَذَا وَآخَرَ.(1/513)
323 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، نَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نَا سَعْدٌ، نَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: تُوُفِّيَتْ يَعْنِي رقية بنت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَخَرَجَ بِجِنَازَتِهَا وَخَرَجْنَا مَعَهُ فَرَأَيْنَاهُ كَئِيبًا حَزِينًا، ثمَّ دخل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبْرَهَا فَخَرَجَ مُلْتَمِعُ اللَّوْنِ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّهَا كَانَتِ امْرَأَةٌ مِسْقَامًا فَذَكَرْتُ شِدَّةَ الْقَبْرِ وَضَغْطَةَ الْقَبْرِ فَدَعَوْتُ اللَّهَ فَخَفَّفَ عَنْهَا.
324 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الأَحْمَسِيُّ، نَا مُفَضَّلٌ يَعْنِي ابْنَ صَالِحِ بْنِ جَمِيلٍ، نَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي شَهْمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كَيْفَ أَنْتَ إِذَا كُنْتَ فِي أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ فِي ذِرَاعَيْنِ، وَرَأَيْتَ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ قَالَ: فَتَّانَا الْقَبْرِ يَبْحَثَانِ الأَرْضَ بِأَنْيَابِهِمَا وَيَطَآنِ فِي أَشْعَارِهِمَا أَصْوَاتُهُمَا كَالرَّعْدِ الْقَاصِفِ وَأَبْصَارُهُمَا كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ مَعَهُمَا مِرْزَبَةٌ لَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهَا أَهْلُ مِنًى لَمْ يُطِيقُوا رَفْعَهَا هِيَ أَيْسَرُ عَلَيْهِمَا مِنْ عَصَايَ هَذِهِ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا عَلَى حَالِي هَذِهِ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: إِذًا أَكْفِيكَهُمَا ".
قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَكَذَا فِي كِتَابِي عَنْ أَبِي شَهْمٍ.(1/514)
325 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ، أَنا أَبُو عَلِيٍّ الْبَغْدَادِيُّ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الرَّازِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيل الأحمشي، نَا مُفَضَّلُ بْنُ صَالِحٍ الأَسَدِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي سَهْلٍ، عَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كَيْفَ أَنْتَ يَا عُمَرُ إِذَا كُنْتَ مِنَ الأَرْضِ فِي أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ فِي ذِرَاعَيْنِ، وَرَأَيْتَ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ قَالَ: فَتَّانَا الْقَبْرِ يَبْحَثَانِ الأَرْضَ بِأَنْيَابِهِمَا وَيَطَآنِ فِي أَشْعَارِهِمَا أَصْوَاتُهُمَا كَالرَّعْدِ الْقَاصِفِ وأبصارهما كالبرق الخاطف مَعَهُمَا مرزية لَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهَا أَهْلُ مِنًى لَمْ يُطِيقُوا رَفْعَهَا هِيَ أَيْسَرُ عَلَيْهِمَا مِنْ عَصَايَ هَذِهِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا عَلَى حَالِي هَذِهِ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ إِذًا أَكْفِيكَهُمَا ".
قَالَ الشَّيْخُ: هَكَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِالسِّينِ غَيْرَ الْمُعْجَمَةِ وَاللامِ.
326 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْغَنَائِمِ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ، أَنا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ يَحْيَى، نَا الْمَحَامِلِيُّ، نَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَنا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صُهْبَانَ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عبد الرَّحْمَن، عَن أَيُّوب بن بشير، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَتْ نَائِرَةٌ فِي بَنِي مُعَاوِيَة، فَخرج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى رَجُلٍ قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذِ الْتَفَتَ إِلَى قَبْرٍ فَقَالَ: لَا دَرَيْتَ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا أَرَى قُرْبَكَ أَحَدًا، فَلِمَنْ قُلْتَ: لَا دَرَيْتَ فَقَالَ: إِنِّي مَرَرْتُ بِقَبْرٍ وَهُوَ يُسْئَلُ عَنِّي فَقَالَ: لَا أَدْرِي. فَقُلْتُ: " لَا دَرَيْتَ ".(1/515)
327 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا الْمَحَامِلِيُّ، نَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، نَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَة، عَن أنس أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَوْلا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُسْمِعَكُمْ عَذَابَ الْقَبْرِ ".
فصل
فِي الرَّد عَلَى من يُنكر إِخراج الْمُوَحِّدين من النَّار
ويحتج بقوله تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} . وَقَوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غم أعيدوا فِيهَا} وَلَيْسَ لَهُم فِي ذَلِك حجَّة إِنما هَذَا فِي الْكفَّار.(1/516)
328 - أخبرنَا مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب، أَنا أَبُو الْحسن ابْن عبد كوية، نَا الطَّبَرَانِيُّ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بن حَنْبَل، حَدثنِي أبي، حَدثنَا يحيى ابْن عبد الْملك بن أبي غنية، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ قَالَ: قُلْنَا لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَن قواماً يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} فَقَالَ: إِنَّكُمْ تَجْعَلُونَ الْخَاصَّ عَامًّا، ثُمَّ قَالَ: اقرؤوا مَا قَبْلَهَا إِنَّمَا هِيَ لِلْكُفَّارِ ".
329 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا الطَّبَرَانِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ حَيَّانَ الْمَازِنِيُّ، نَا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، نَا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ: سَمِعْتُ يَزِيدَ بْنَ صُهَيْبٍ يَقُولُ: مَرَرْتُ عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ فِي حَلْقَةٍ يُحَدِّثُهُمْ، وَهُوَ يُذَكِّرُنَا نَاسًا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا أَعْجَبُ مِنَ النَّاسِ وَلَكِنِّي أَعْجَبُ مِنْكُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا من النَّار وَمَا هم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} الآيَةَ، فَانْتَهَرَنِي أَصْحَابُهُ وَكَانَ أَحْلَمَهُمْ فَقَالَ:(1/517)
دَعُوا الرَّجُلَ، اجْلِسْ إِنَّمَا هَذَا لِلْكُفَّارِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَن لَهُم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا} إِلَى قَوْله: {وَلَهُم عَذَاب مُقيم} .
330 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا الطَّبَرَانِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله الْحَضْرَمِيّ، نَا شَيبَان ابْن فروخ، نَا أَبُو هِلَال الرَّاسِبِي، نَا قَتَادَة وتلا هَذِه الْآيَة: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّار} . فَقَالَ عِنْد ذَلِك: هَؤُلَاءِ الْكفَّار.
حَدثنَا أَنَس بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يخرج قوم من النَّار، وَلَا نقُول كَمَا يَقُول أهل حروراء ".
331 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا الطَّبَرَانِيُّ، نَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ التُّسْتَرِيُّ، نَا يحيى ابْن مُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ، نَا أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نَا عَبْدُ السَّلامِ بْنُ حَرْبٍ عَن مُحَمَّد ابْن سُوقَةَ، وَخَلَفُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - أَنه سمع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِنَّ أُنَاسًا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ بِذُنُوبٍ أَصَابُوهَا مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ فَيُجْعَلُونَ عَلَى نَهَرٍ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ فَيَرُشُّ عَلَيْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ ".(1/518)
فصل
فِي بَيَان أَن السحر لَهُ حَقِيقَة
قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يعلمُونَ النَّاس السحر} وَقَالَ: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَة} . وَقَالَ: {وَجَاءُوا بِسحر عَظِيم} .
وَعَن عمر وَعُثْمَان وجندب وَعَائِشَة وَحَفْصَة - رَضِيَ الله عَنْهُم - أَنهم أمروا بقتل السَّاحر.
332 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زَكَرِيَّا، أَنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرٍ الْجُرْجَانِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الأَصَمُّ، نَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَنا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ، عَن ثَوْر ابْن(1/519)
زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الْزَحْفِ، وَقَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ".
333 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقْرِي، أَنا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحسن، أَنا أَحْمد ابْن إِبْرَاهِيمَ الْعَبْسَقِيُّ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، نَا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيُّ، نَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَت: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَصَابَهُ شَيْءٌ حَتَّى كَانَ (يَرَى أَنَّهُ) يَأْتِي النِّسَاءَ وَلا يَأْتِيهِنَّ فَانْتَبَهَ مِنْ نَوْمِهِ فَقَالَ: " يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ، آتَانِي آتِيَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلِي، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ. قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ. قَالَ فِيمَ؟ قَالَ فِي مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ قَالَ: وَأَيْنَ؟ قَالَ فِي جُفِّ طَلْعَةٍ تَحْتَ رَاعُوفَةِ. بِئْرِ ذَرْوَانَ. قَالَ: فَأتى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبِئْر(1/520)
فاستخرجه، وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هَذِهِ الْبِئْرُ الَّتِي رَأَيْتُهَا كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاء، وَكَأن نخلها رُؤُوس الشَّيَاطِينِ، قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فَقُلْتُ لَهُ: تَعْنِي أَلا تتنشر، قَالَ: أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللَّهُ وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ يَعْنِي شَرًّا قَالَتْ: وَنَزَلَتْ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ ".
قَالَ أهل اللُّغَة: المطبوب المسحور، والطب السحر، والمشاقة: مشاقة الْكَتَّان. وَفِي رِوَايَة المشاطة بِالطَّاءِ وَهِي مَا يخرج من الشّعْر بالمشط وجف الطلعة قشرها.
وَقد أنكر قوم السحر وأبطلوا حَقِيقَته، وَأكْثر الْأُمَم من الْعَرَب وَالْفرس والهند عَلَى إِثبات السحر. وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {يعلمُونَ النَّاس السحر} . وَقَالَ: {وَمن شَرّ النفاثات فِي العقد} . وَيلْزم السَّاحر من الْعقُوبَة مَا يلْزم سَائِر الجناة بجناياتهم.
334 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنا هبة الله بن الْحسن، أَنا جَعْفَر ابْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَعْقُوبَ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الرُّويَانِيُّ، نَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، نَا سُفْيَان ابْن عُيَيْنَةَ قَالَ: هِبَةُ اللَّهِ، وَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عبيد، أَنا عَليّ بن عبد الله ابْن مُبشر،(1/521)
نَا مُحَمَّدُ بْنُ وَزِيرٍ، نَا سُفْيَانُ بْنُ عُيْيَنَةَ سَمِعَ عَمْرٌو بَجَالَةَ يَقُولُ: كُنْتُ كَاتِبًا لِجُزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ وَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ: اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنَ الْمَجُوسِ، وَانْهَوْهُمْ عَنِ الزَّمْزَمَةِ، فَقَتَلْنَا ثَلاثَ سَوَاحِرَ وَجُعِلَ يُفَرَّقُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَحَرِيمَتِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَصَنَعَ طَعَامًا كَثِيرًا وَأَلْقَوْا وِقْرَ بَغْلٍ أَوْ بَغْلَيْنِ مِنَ وَرِقٍ وَعَرَضِ السَّيْفِ عَلَى فَخِذِهِ فَأَكَلُوا بِغَيْرِ زَمْزَمَةٍ.
335 - أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نَا أَبُو عبد الله الْجِرْجَانِيّ، أَنا مُحَمَّد ابْن مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْزَةَ، نَا عُبَيْدُ بْنُ مُحَمَّدِ إِبْرَاهِيمَ الْكَشْوَرِيُّ الصَّنْعَانِيُّ، نَا عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ الْعَبْدِيُّ، عَنْ أَبِي رَجَا، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَتَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَوَافَقَهُ مُغْتَمًّا فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَا هَذَا الْغَمُّ الَّذِي أَرَاهُ فِي وَجْهِكَ؟ قَالَ: الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ أَصَابَتْهُمَا عَيْنٌ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ صَدِّقْ بِالْعَيْنِ، فَإِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ، ثُمَّ قَالَ: أَفَلا عَوَّذْتَهُمَا بِهَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ قَالَ: وَمَا هُنَّ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: قُلِ اللَّهُمَّ ذَا السُّلْطَانِ الْعَظِيمِ، ذَا الْمَنِّ الْقَدِيمِ، ذَا الْوَجْهِ الْكَرِيمِ، وَالْكَلِمَاتِ التَّامَّاتِ، وَالدَّعَوَاتِ الْمُسَتَجَابَاتِ عَافِ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ مِنْ أنفس الْجِنّ وأعين الْإِنْس فَقَالَهَا النَّبِي(1/522)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقاما يلعبان بَين يَدَيْهِ، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأَصْحَابِهِ عَوِّذُوا نِسَاءَكُمْ وَأَوْلادَكُمْ بِهَذَا التَّعَوُّذِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَوَّذِ الْمُتَعَوِّذُونَ بِمِثْلِهِ.
فصل
فِي بَيَان أَن إِبليس وَالْجِنّ هم خلق من خلق اللَّه
يرَوْنَ من يُرِيهم اللَّه بِخِلَاف مَا قَالَت المبتدعة: أَن الْجِنّ لَا حَقِيقَة لَهُ. قَالَ أهل التَّفْسِير فِي قَوْله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} قبيله: جُنُوده، يَعْنِي الْجِنّ وَالشَّيَاطِين.
وَقَالَ مَالك بْن دِينَار: إِن عدوا يراك وَلَا ترَاهُ لشديد الْمُؤْنَة إِلا من عصم اللَّه.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقْرِي، أَنا هِبَةُ اللَّهِ بن الْحسن، أَنا عَليّ بن مُحَمَّد ابْن عُمَرَ، أَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ، نَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِي(1/523)
- رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الْجِنُّ عَلَى ثَلاثَةِ أَثْلاثٍ: فَثُلُثٌ لَهُنَّ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُونَ فِي الْهَوَاءِ، وَثُلُثٌ حَيَّاتٌ وَكِلابٌ، وَثُلُثٌ يَحِلُّونَ وَيَظْعَنُونَ.
336 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ الأَصْبَهَانِيُّ، أَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، نَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ، نَا عُثْمَان ابْن الْهَيْثَمِ نَا عَوْفٌ قَالَ هِبَةُ اللَّهِ، وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ، أَنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ، نَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: أَمرنِي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ أَحْتَفِظَ بِزَكَاةِ رَمَضَانَ، وَأَتَانِي آتٍ مِنَ اللَّيْلِ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ: لأرفعنك إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وَحَالِي شَدِيدٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ فَرَحِمَهُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ اللَّيْلَةَ؟ " قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ زَعَمَ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ وحاله شَدِيدَة فَرَحِمْتُهُ قَالَ: " أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ "، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ رَصَدَهُ فَجَاءَ فَأَخَذَهُ فَقَالَ: لأرفعنك إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَعَمْتَ أَنَّكَ لَا تَعُودُ وَقَدْ عُدْتَ، قَالَ: دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وَحَالِي شَدِيدَةٌ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَلَمَّا أصبح قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ اللَّيْلَةَ " قَالَ: يَا رَسُول الله شكى حَاجَةً وَعِيَالا، وَإِنِّي رَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ رَصَدَهُ فَجَاءَ فَأَخَذَهُ فَقَالَ: لأرفعنك إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَذَا آخِرُ ثَلاثِ لَيَالٍ زَعَمْتَ أَنَّكَ لَا تَعُودُ، ثُمَّ تَعُودُ قَالَ: دَعْنِي أُعَلِّمْكَ(1/524)
كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا، قَالَ: وَكَانُوا حَرِيصِينَ عَلَى الْخَيْرِ قَالَ: إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، فَإِنَّهُ لم يزَال عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظًا وَلا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تصبح فَأصْبح فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ اللَّيْلَةَ؟ " قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ عَلَّمَنِي كَلِمَاتٍ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ يَنْفَعُنِي بِهَا. قَالَ: " وَمَا هِيَ؟ " قَالَ: أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ عَلَيَّ مِنَ اللَّهِ حَافِظًا وَلا يَقْرَبُنِي شَيْطَانٌ حَتَّى أُصْبِحَ، قَالَ: " أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَدْرِي مَنْ تُخَاطِبُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَذَاكَ شَيْطَانٌ ".
قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
قَالَ: وَأخْبرنَا هبة اللَّه، أَنا عبيد اللَّه بْن أَحْمَد، أَنا مُحَمَّد بْن عَبْد الله ابْن عمرويه الصفار، نَا عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَد بْن حَنْبَل قَالَ: لما حضرت أَبِي الْوَفَاة كنت عِنْده، وَكَانَ يغرق فِيمَا هُوَ فِيهِ، وَبِيَدِي خرقَة أَمسَح بهَا عَيْنَيْهِ سَاعَة فساعة، فَفتح أَبِي عيينه وحدق بهما وأوما بِيَدِهِ. وَقَالَ: لَا بعد لَا بعد، دفعات، فَقلت: يَا أَبَت لمن تخاطب. فَقَالَ: هَذَا إِبليس قَائِما بحضرتي عاض عَلَى أنامله يَقُول لي: يَا أَحْمَد فتني، فَقلت: لَا حَتَّى نموت.(1/525)
فصل
فِي الرَّد عَلَى من يُنكر مِعْرَاج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ورؤية ربه عَزَّ وَجَلَّ
قَالَ اللَّه عَزَّ وَجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} . وَقَالَ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غوى} إِلَى قَوْله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} .(1/526)
أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ السِّمْسَارُ، أَنا أَبُو سَعِيدٍ النَّقَّاشُ، نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الْهُجَيْمِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالا: نَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ.
337 - وَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي (قَالا) : نَا عَفَّانُ بْنُ مُسلم، نَا همام بن يحي، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رَضِي الله عَنهُ - أَن مَالك بن صعصعة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدَّثَهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ قَالَ: " بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ وَرُبَّمَا قَالَ قَتَادَةُ فِي الْحجر مُضْطَجعا فَجعل يَقُول لصَاحب الأَوْسَطِ بَيْنَ الثَّلاثَةِ قَالَ: فَأَتَانِي فَقَدَّ، وَقَالَ قَتَادَةُ: فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ قَالَ قَتَادَةُ، فَقُلْتُ لِلْجَارُودِ وَهُوَ إِلَى جَنْبِي، مَا يَعْنِي (قَالَ) مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شعره، وَقد سمعته يَقُول: من قصَّة إِلَى شعره قَالَ: فَاسْتَخَرَجَ قَلْبِي قَالَ: فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءًا إِيمَانًا وَحِكْمَةً فَغُسِلَ قَلْبِي، ثُمَّ حُشِيَ، ثُمَّ أُعِيدَ، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ أَبْيَضَ، فَقَالَ لَهُ الْجَارُودُ: أَهُوَ الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ قَالَ: فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى بِي السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَاسْتَفَتَحَ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ جِبْرِيلُ: قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ: مُحَمَّدٌ قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ، قَالَ: نَعَمْ، فَقِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ (فَإِذَا فِيهِ آدَمُ) . قَالَ: هَذَا آدَمُ أَبوك(1/527)
فَسَلِّمْ عَلَيْهِ (قَالَ) : فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فَاسْتَفْتَحَ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ جِبْرِيلُ: قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ. قَالَ نَعَمْ: قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ، وَنِعْمَ الْمَجِيءُ، جَاءَ قَالَ: فَفتح، فَلَمَّا تخلصت فَإِذَا بِيَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا الْخَالَةِ قَالَ: هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا قَالَ: فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا السَّلامَ، ثُمَّ قَالا: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّالِثَةَ فَاسْتَفْتَحَ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا وَنِعْمَ الْمَجِيءُ، جَاءَ قَالَ: فَفُتِحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا يُوسُفُ قَالَ: هَذَا يُوسُفُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ جِبْرِيلُ: قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ قَالَ: فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِدْرِيسُ، قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. قَالَ: ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ قَالَ: فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ، فَإِذَا هَارُونُ قَالَ: هَذَا هَارُونُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ قَالَ: ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ، قيل: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ: قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ: نَعَمْ قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، وَنِعْمَ الْمَجِيءُ، جَاءَ قَالَ: فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا مُوسَى قَالَ: هَذَا مُوسَى فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلامَ، ثُمَّ قَالَ مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ قَالَ: فَلَمَّا جَاوَزْتُهُ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: وَمَا لِي لَا أَبْكِي، لأَنَّ غُلامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ(1/528)
أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي. قَالَ: ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّابِعَةَ فَاسْتَفْتَحَ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ قَالَ: فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قَالَ: ثُمَّ رُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى قَالَ: وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهَرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهَرَانِ ظَاهِرَانِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: فَأَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهَرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ. قَالَ: ثُمَّ رُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، فَسَأَلْتُ جِبْرِيلُ: فَقَالَ هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ. قَالَ قَتَادَةُ: وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ قَالَ: فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ. قَالَ: هَذِهِ الْفِطْرَةُ أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ قَالَ: ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلاةُ خَمْسِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ قَالَ: فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ، فَقَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ، فَإِنِّي جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ قَالَ: فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتُ؟ قُلْتُ: بِأَرْبَعِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَك لَا تَسْتَطِيعُ كُلَّ يَوْمٍ أَرْبَعِينَ صَلاةً، وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا أُخَرَ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِثَلاثِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ ثَلاثِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ، فَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ، قَالَ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا أُخَرَ، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتُ، قُلْتُ: بِعِشْرِينَ صَلاةً، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ عِشْرِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ، فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ عَشْرَ صَلَوَاتٍ كُلَّ(1/529)
يَوْمٍ، وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ، فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَك لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ قَالَ: قُلْتُ لَقَدْ سَأَلْتُهُ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ وَلَكِنْ أَرْضَى وَأُسَلِّمُ، فَلَمَّا نَفَذْتُ نَادَانِي مُنَادٍ قَدْ أَمْضَيْتَ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتَ عَنْ عِبَادِي ".
قَالَ: وَأخْبرنَا أَبُو سعيد النقاش قَالَ: سَمِعت أَبَا سعيد مُحَمَّد بْن مُحَمَّد الأعلم، قَالَ: سَمِعت أَبَا حَامِد بْن مُحَمَّد الْمُقْرِئ فِي قَوْله عز وَجل: {وَهُوَ بالأفق الْأَعْلَى} أَرَادَ بِهِ الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين أسرِي بِهِ فِي لَيْلَة المسرى، وَأَنه رفع إِلَى الْأُفق الْأَعْلَى، ثُمَّ زيد فِي مرتبته فَبلغ بِهِ السِّدْرَة الْمُنْتَهى، ثُمَّ زيد بِهِ فِي رفعته بلغ بِهِ إِلَى أَن دنى من ربه عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى صَار أقرب إِلَى ربه عَزَّ وَجَلَّ من الْقدر الَّذِي ذكر فِي التَّنْزِيل {فَأَوْحَى إِلَى عَبده مَا أوحى} تكليما مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ كفاحا {مَا كَذَبَ الْفُؤَاد مَا رأى} ببصره قيل: رأى ربه ببصره وَصدق بِهِ فُؤَاده.
قَالَ: وَأخْبرنَا أَبُو سعيد قَالَ: سَمِعت إِبْرَاهِيم بْن عَليّ الخلالي قَالَ: سَمِعت أَبَا الْقَاسِم إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد النصراباذي وَجرى فِي مجلسة حَدِيث الْمِعْرَاج(1/530)
فَقَالَ: قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} وَلم يقل: سري عَبده، أسقط بِهَذِهِ اللَّفْظَة كل التعريضات عَن حَدِيث الْمِعْرَاج. رِوَايَة أَنَس بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
338 - أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنا أَبُو سَعِيدٍ النقاش، أَنا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد ابْن إِبْرَاهِيمَ الْمَحْفُوظِيُّ، نَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحسن الماسرجسي، نَا شَيبَان ابْن فَرُّوخَ بِالأُبُلَّةِ، نَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، نَا ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أتيت يَعْنِي بِالْبُرَاقِ، وَهِي دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ قَالَ: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، قَالَ: فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبُطُ بِهَا الأَنْبِيَاءُ قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي (جِبْرِيلُ) بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ جِبْرِيلُ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ قَالَ: ثُمَّ عُرِجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا بِآدَمَ فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ: قد بعث إِلَيْهِ قَالَ: فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِابْنَيِ الْخَالَةِ عِيسَى بن مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا فَرَحَّبَا بِي وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيل،(1/531)
قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بعث إِلَيْهِ، قَالَ: بُعِثَ إِلَيْهِ فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ وَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، قَالَ: فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. قَالَ الله عز وَجل: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانا عليا} ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا، قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ: قَدْ بعث إِلَيْهِ فَإِذا أَنا بإبراهيم مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ فَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلالِ قَالَ: فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنَ اللَّهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ قَالَ: فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا قَالَ: فَأَوْحَى إِلَيَّ مَا أَوْحَى، فَفَرَضَ خَمْسِينَ صَلاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ خَمْسِينَ صَلاةً، قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَقُلْتُ: أَيْ رَبِّ: خَفِّفْ عَنْ أُمَّتِي قَالَ: فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ، قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ بَيْنَ رَبِّي وَبَيْنَ مُوسَى حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ(1/532)
وَلَيْلَةٍ كُلُّ صَلاةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلاةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً، قَالَ: فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ فَقَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَقَدِ اسْتَحْيَيْتُ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ شَيْبَانَ.
رِوَايَة أَبِي ذَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
339 - أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنا أَبُو سَعِيدٍ النَّقَّاشُ، أَنا عَليّ بن عِيسَى ابْن مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى الْمَالِينِيُّ، أَنا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ الشَّيْبَانِيُّ، نَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يحدث أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَرَجَّ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَم، ثمَّ جَاءَ بطست من ذهب ممتلىء حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ (بِي) إِلَى السَّمَاءِ (فَلَمَّا جِئْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا) قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا: افْتَحْ، قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ، قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ مَعِي مُحَمَّدٌ قَالَ: وَأُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَفَتَحَ فَلَمَّا عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا إِذَا رَجُلٌ عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَنْ يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ(1/533)
يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالابْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ، وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، ثُمَّ عَرَجَ جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ لَهُ خَازِنُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَفَتَحَ فَقَالَ: أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَذُكِرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي السَّمَوَاتِ آدَمَ وَإِدْرِيسَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَثْبُتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ غَيْرَ أَنَّهُ ذُكِرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، قَالَ: فَلَمَّا مر جِبْرِيل وَرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِدْرِيسَ قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ قَالَ: ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ، قَالَ: قُلْتُ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، قَالَ: ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسَى فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ، قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُوسَى، قَالَ: ثُمَّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالابْنِ الصَّالِحِ قَالَ: قُلْتُ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ ".
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ الأَنْصَارِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُولانَ: قَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ بِمُسْتَوًى أَسْمَعُ صَرِيفَ الأَقْلامِ.
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَفَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلاةً قَالَ: فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى أَمُرَّ بِمُوسَى فَقَالَ مُوسَى: مَاذَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قَالَ: قُلْتُ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ صَلاةً، فَقَالَ لِي مُوسَى: فَرَاجِعْ رَبَّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ قَالَ: فَرَاجَعْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، قَالَ: ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ فَقُلْتُ: قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى نَأْتِيَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ قَالَ: ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ ".(1/534)
قَالَ حَفِظَهُ اللَّهُ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ حَرْمَلَةَ وَالأَسْوِدَةُ جَمْعُ السَّوَادِ، وَهُوَ الشَّخْصُ، وَنَسَمُ بَنِيهِ أَيْ أَرْوَاحُ بَنِيهِ، وَاسْتَحَيْتُ بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ لُغَةٌ بِمَعْنَى اسْتَحْيَيْتُ.
وَفِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ يُونُسَ فَرَاجَعْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَوَضَعَ عَنِّي شَطْرَهَا قَالَ ذَلِكَ خَمْس مَرَّاتٍ وَالْجَنَابِذُ جَمْعُ الْجُنْبَذَةِ وَهِيَ مِثْلُ الْقُبَّةِ.
فصل
فِي اعْتِرَاض المبتدعة وَغَيرهم عَلَى حَدِيث الْمِعْرَاج
قَالُوا: لم يَأْتِ ذكر العروج فِي الْقُرْآن، وَإِنَّمَا أَتَى فِيهِ ذكر الإِسراء إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى، وَقَالُوا: رويتم فِي بعض الْأَخْبَار أَنه حِين أسرِي بِهِ كَانَ فِي بَيت أم هَانِئ وَفِي بَعْضهَا أَنه كَانَ بَين الصَّفَا والمروة.
وَفِي حَدِيث أَبِي ذَر: فرج سقف بَيْتِي وَأَنا بِمَكَّة.
وَفِي حَدِيث أَنَس: أسرِي برَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من مَسْجِد الْكَعْبَة.
وَفِي حَدِيث مَالك بْن صعصعة قَالَ: قَالَ النَّبِيّ بَينا أَنا نَائِم عِنْد الْبَيْت بَين النَّائِم وَالْيَقظَان، قَالُوا: رويتم أَنه شقّ صَدره وَغسل بِمَاء زَمْزَم، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك فِي حَال صغره وَحين كَانَ عِنْد حليمة ظئره، قَالُوا: ورويتم فِي بعض(1/535)
الْأَخْبَار أَنه لَقِي مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - فِي السَّمَاء السَّادِسَة وإِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ السَّلَام - فِي السَّمَاء السَّابِعَة، وَفِي بَعْضهَا أَنه لَقِي إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ السَّلَام - فِي السَّمَاء السَّادِسَة وَفِي السَّمَاء السَّابِعَة لفضل تكليم اللَّه إِياه، ورويتم أَنه لَقِي مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - وَهُوَ يُصَلِّي فِي قَبره ورويتم أَنه ركب الْبراق فاستصعب فَقَالَ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام -: وَالله مَا ركبك آدَمِيّ أكْرم عَلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ فقر وَارْفض عرقا فَرَكبهُ.
وَفِي بعض الرِّوَايَات فَقَالَ: ائْتِنِي يَا جِبْرِيل بألين من هَذَا، فَأَتَاهُ ببرقة فركبها.
وَفِي رِوَايَة عَن أَبِي عمرَان الْجونِي، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بَينا أَنا جَالس إِذ جَاءَ جِبْرِيل فَوَكَزَ بَين كَتِفي فَقُمْت إِلَى شَجَرَة مثل وَكري الطير فَقعدَ فِي أَحدهمَا وَقَعَدت فِي الآخر، فَسَمت وَارْتَفَعت حَتَّى سدت الْخَافِقين، وَلَو شِئْت أَن أمس السَّمَاء لَمَسِسْت " قَالُوا: ورويتم فِي حَدِيث أَبِي هَارُون الْعَبْدي أَنه رأى أَبَاهُ آدم - عَلَيْهِ السَّلَام - فِي السَّمَاء الدُّنْيَا يعرض عَلَيْهِ أَرْوَاح ذُريَّته وإِذَا كَانَ روح كَافِر قَالَ: روح خَبِيث وريح خَبِيث، اجعلوا كِتَابه فِي سِجِّين، قَالُوا: وَلَا يجوز لروح الْكَافِر وَهُوَ خَبِيث أَن يعرج بِهِ فِي السَّمَاء قَالُوا: ورويتم أَنه قَالَ: فَنَظَرت إِلَى جِبْرِيل فرأيته كالحلس الْبَالِي فَعلمت فضل علمه بِاللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَالُوا: ورويتم أَنه لما رد من خمسين صَلَاة إِلَى خمس صلوَات فَرجع إِلَى مُوسَى أمره بِالرُّجُوعِ إِلَى ربه فَقَالَ: إِنِّي رجعت إِلَى رَبِّي حَتَّى استحييت.(1/536)
وَفِي حَدِيث شريك عَن أَنَس فَرجع إِلَى ربه فَقَالَ: يَا رب إِن أمتِي ضِعَاف فَقَالَ: إِنه لَا يُبدل القَوْل لدي (هِيَ) كَمَا كتبت عَلَيْك فِي أم الْكتاب وَلَك بِكُل حَسَنَة عشر أَمْثَالهَا هِيَ خَمْسُونَ فِي أم الْكتاب وَهِي خمس عَلَيْك قَالُوا: فَفِي هذَيْن الْحَدِيثين اخْتِلَاف: فِي أَحدهمَا أَنه لم يرجع إِلَى ربه عَزَّ وَجَلَّ، وَفِي أَحدهمَا أَنه رَجَعَ، وَفِي بعض الرِّوَايَات فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذْ يغشى السِّدْرَة مَا يغشى} قيل: رأى عَلَى السِّدْرَة كالجراد من الذَّهَب وكالفراش من الذَّهَب وَقَالُوا: رويتم أَن مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - لما رَجَعَ من طور سينا تبرقع لما غشي وَجهه من النُّور، وَلم يتبرقع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانَ مقَامه أقرب من مقَامه، وَمحله أعظم من مَحَله، ورويتم أَن مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - بَعْدَمَا رَجَعَ لم يطَأ امْرَأَة قطّ وَلم يرو ذَلِك عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالُوا: ورويتم أَنه رده من خمسين صَلَاة إِلَى خمس صلوَات وَهَذَا نسخ الشَّيْء قبل الْفِعْل وَنسخ الشَّيْء قبل الْفِعْل لَا يجوز.
قَالَ بعض الْعلمَاء: لابد من الْأَحْكَام السمعية فِي تَخْلِيص خبرين بَينهمَا اخْتِلَاف من تَمْيِيز الرِّجَال وَنقد الروَاة ليتميز الصَّحِيح من السقيم والجيد من الرَّدِيء (أَو) يجمع بَين الْخَبَرَيْنِ بِمَعْنى يتفقان فِيهِ فَقَوْل من قَالَ: لم يَأْتِ ذكر العروج فِي الْقُرْآن، يُقَال: أَن ابْتِدَاء أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ بالإِسراء من الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى، والعروج إِنما كَانَ بعد ذَلِك، فَلَو أخبر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(1/537)
بالعروج ابْتِدَاء لم يصدقوه، فأسراه اللَّه ابْتِدَاء إِلَى بَيت الْمُقَدّس حَتَّى شَاهده وَرَآهُ، ثُمَّ عرج بِهِ مِنْهُ إِلَى السَّمَاء وَأرى مَا أرى من الْعَجَائِب، فَلَمَّا نزل وَأخْبر قومه من الْغَد بالإسراء قَالُوا لَهُ: كَيفَ رَأَيْت بَين الْمُقَدّس؟ فَطَفِقَ يُخْبِرهُمْ بذلك فَلم يُمكن أحدا مِنْهُم رأى بَيت الْمُقَدّس أَن يُنكره، وسألوه (عَن) خبر العير؟ فَأخْبرهُم فَكَانَ ذَلِك كالحجة اللَّازِمَة لَهُم فِي قبُول خَبره وتصديق مقَالَته، هَذَا هُوَ الْحِكْمَة فِي تَقْدِيم الإِسراء عَلَى الْمِعْرَاج، وَيدل عَلَى صِحَة الْمِعْرَاج قَوْله: {وَهُوَ بالأفق الْأَعْلَى} وَقَوله: {بالأفق الْمُبين} . ثمَّ الْأَخْبَار المتواترة بِالْأَسَانِيدِ الْمُتَّصِلَة أَنه عرج بِهِ إِلَى السَّمَاء.
وَأما الْجَواب عَن قَوْلهم: رويتم أَنه أسرِي بِهِ من بَيت أم هَانِئ، ورويتم أَنه كَانَ بَين الصَّفَا والمروة وَغير ذَلِك.
قَالَ أهل التَّارِيخ: ولد النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَام الْفِيل وَدفع إِلَى ظئره فَلم يزل عِنْدهم خمس سِنِين ثُمَّ ردُّوهُ إِلَى أمه فَأَخْرَجته أمه إِلَى أَخْوَاله بِالْمَدِينَةِ بعد سنة فَتُوُفِّيَتْ أمه بالأبواء، وردته أم أَيمن حاضنته إِلَى مَكَّة بعد موت آمِنَة، وكفله عبد الْمطلب فَتوفي عبد الْمطلب وَهُوَ ابْن ثَمَان سِنِين، وكفله أَبُو طَالب وَخرج مَعَه إِلَى الشَّام فِي تِجَارَة وَهُوَ ابْن ثِنْتَيْ عشرَة سنة، وَخرج لِخَدِيجَة إِلَى الشَّام فِي تِجَارَة وَهُوَ ابْن خمس وَعشْرين سنة، وَتزَوج خَدِيجَة. وبنيت الْكَعْبَة ورضيت قُرَيْش(1/538)
بِحكمِهِ فِيهَا وَهُوَ ابْن خمس وَثَلَاثِينَ سنة، وَبعث وَهُوَ ابْن أَرْبَعِينَ سنة، وَتُوفِّي أَبُو طَالب وَهُوَ ابْن تسع وَأَرْبَعين سنة ثَمَانِيَة أشهر وَأحد عشر يَوْمًا. وَتوفيت خَدِيجَة بعد موت أَبِي طَالب بِثَلَاثَة أَيَّام، ثُمَّ خرج إِلَى الطَّائِف وَمَعَهُ زيد بْن حَارِثَة بعد ثَلَاثَة أشهر من موت خَدِيجَة فَأَقَامَ بهَا شهرا ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّة فِي جوَار مطعم بْن عدي، فَلَمَّا أَتَت لَهُ خَمْسُونَ سنة قدم عَلَيْهِ جن نَصِيبين فأسلموا، فَلَمَّا أَتَت لَهُ إِحدى وَخَمْسُونَ سنة وَتِسْعَة أشهر أسرِي بِهِ من بَيت أم هَانِئ بنت أَبِي طَالب.
فصل
قَالُوا: وَمَا معنى قَوْلكُم أَنه ربط الْبراق بِحَلقَة بَاب من أَبْوَاب الْمَسْجِد مَعَ علمه أَنه لَو لم يربطه بهَا مَا كَانَ يخَاف الانفلات.
وَالْجَوَاب عَنِ الاعتراضات أَن الْأَحَادِيث فِي هَذَا الْبَاب مُخْتَلفَة مِنْهَا مَا هُوَ صَحِيح، وَمِنْهَا مَا هُوَ " واه ".
قَالَ أَبُو الْعَبَّاس بْن سُرَيج: الْأَحَادِيث فِي الْمِعْرَاج كَثِيرَة يحْتَمل أَن يكون - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْلَة الإِسراء كَانَ فِي بَيت أم هَانِئ وَهُوَ بَين الصَّفَا والمروة. وَمن(1/539)
روى أَنه أسرى بِهِ من بَيته فَإِنَّهُ أضَاف بَيت أم هَانِئ إِلَى نَفسه لِأَنَّهُ كَانَ بَيت أبي طَالب، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تربى فِيهِ فأضيف إِلَيْهِ.
وَمن روى أَنه أسرِي بِهِ من الْمَسْجِد الْحَرَام وَمَسْجِد الْكَعْبَة فإِنما أَرَادَ بِهِ الْحرم الَّذِي هُوَ مَسْجِد فيضاف إِلَى الْكَعْبَة، فأضاف الْكل إِلَى الْحرم، وَالْحرم قد يجوز أَن يُطلق عَلَيْهِ اسْم الْمَسْجِد الْحَرَام. قَالَ اللَّه تَعَالَى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَة الْبَيْت الْحَرَام قيَاما للنَّاس} أُرِيد بِهِ الْحرم. وَقَالَ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} . وَقَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِد الْحَرَام} فَإِذَا حمل عَلَى مَا ذَكرْنَاهُ حصل الِاتِّفَاق وَزَالَ الِاخْتِلَاف.
وَأما مَا رُوِيَ أَنه أسرِي بِهِ وَهُوَ بَين النَّائِم وَالْيَقظَان، قيل: إِنه فِي الِابْتِدَاء كَانَ نَائِما فأيقظه جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - فَكَانَ الإِسراء بعد ذَلِك فِي حَال الْيَقَظَة يدل عَلَى ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} . وَقَوله: {بِعَبْدِهِ} هَذَا اللَّفْظ يَقع عَلَى الْبدن وَالروح جَمِيعًا، أَعنِي قَوْله: بِعَبْدِهِ وَلَو كَانَ نوما لم يتعجبوا وَلم ينكروا، وَمَا رُوِيَ أَن بعض أَزوَاجه قَالَت: لم تفقد جِسْمه (أول اللَّيْل وَآخره) لَا يَصح، وَهُوَ مِمَّا وضع ردا للْحَدِيث الصَّحِيح، وَقيل: (وَلم يفق جِسْمه) أول اللَّيْل وَآخره لِأَنَّهُ صلى الْعشَاء بِمَكَّة فَأُسْرِيَ بِهِ بعد صَلَاة الْعشَاء، ثُمَّ أنزل قبل صَلَاة الْفجْر، وَقد بقيت من اللَّيْل بَقِيَّة.(1/540)
وَفِي حَدِيث أَبِي عمرَان الْجونِي عَن أَنَس قَالَ: بَينا أَنا جَالس إِذ جَاءَ جِبْرِيل فَوَكَزَ بَين كَتِفي، هَذَا أَيْضا يدل عَلَى أَنه كَانَ فِي حَال الْيَقَظَة.
وَقَوْلهمْ: شقّ الصَّدْر وَغسل الْقلب إِنما كَانَ فِي حَال صغره. قيل: شقّ صَدره مرَّتَيْنِ: مرّة فِي حَال الصغر ليصير قلبه مثل قُلُوب الْأَنْبِيَاء فِي الانشراح، وَمرَّة عِنْد الإِسراء بِهِ ليصير حَاله مثل حَال الْمَلَائِكَة لِأَنَّهُ يُرَاد بِهِ العروج إِلَى مقَام الْمُنَاجَاة.
وَأما مَا رُوِيَ أَنه لَقِي مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - بِبَيْت الْمُقَدّس ورويتم أَنه لقِيه فِي السَّمَاء، قيل: رأى الْأَنْبِيَاء قبل الإِسراء فِي الأَرْض، ثُمَّ رَآهُمْ فِي السَّمَاء. رُوِيَ أَنه صلى بِبَيْت الْمُقَدّس والأنبياء خَلفه وَمَا يُنكر أَن يكون لَقِي مُوسَى مرّة فِي قَبره يُصَلِّي وَمرَّة فِي طَرِيقه إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى وَمرَّة فِي الْمَسْجِد، قبل العروج وَمرَّة فِي السَّمَاء السَّادِسَة، فَأَما مَا رُوِيَ أَنه لقِيه فِي السَّمَاء السَّابِعَة فَالصَّحِيح مَا رَوَاهُ مَالك بن صعصعة أَنه لَقِي مُوسَى فِي السَّمَاء السَّادِسَة وإِبْرَاهِيم فِي السَّمَاء السَّابِعَة هَذَا أصح من رِوَايَة شريك عَن أَنَس أَنه لَقِي مُوسَى فِي السَّمَاء السَّابِعَة لفضل كَلَامه تَعَالَى.
وَأما مَا قَالُوا: رويتم أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى بِبَيْت الْمُقَدّس بالأنبياء. وَفِي السَّمَاء الرَّابِعَة بِالْمَلَائِكَةِ فَلَيْسَ هَذَا بمختلف.
وَأما مَا رويتم أَنه لَقِي إِدريس فِي السَّمَاء السَّادِسَة. وَفِي رِوَايَة فِي السَّمَاء الرَّابِعَة فَالْمَشْهُور فِي ذَلِك السَّمَاء الرَّابِعَة.
وَقَوْلهمْ: كَيفَ يجوز أَن يُؤذن للروح الْخَبيث ليعرج بِهِ فِي السَّمَاء وَهِي مَوضِع الطَّهَارَة؟ قيل: يحْتَمل أَن يكون آدم - عَلَيْهِ السَّلَام - فِي السَّمَاء الدُّنْيَا فَيعرض عَلَيْهِ أَرْوَاح الْكفَّار من غير أَن يعرج بهَا فِي السَّمَاء.(1/541)
وَقَوْلهمْ: فَإِذَا جِبْرِيل كالحلس الْبَالِي، فَعلمت فضل علمه بِاللَّه تَعَالَى. قيل: مَعْنَاهُ فضل خَشيته، قيل: خص الله الْمُصْطَفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ذَلِك الْوَقْت بالتثبيت لِأَنَّهُ لَو يَخُصُّهُ بذلك لما أطَاق رُؤْيَة الْعَجَائِب.
وَقَوْلهمْ: رَجَعَ من عِنْد مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - إِلَى ربه عَزَّ وَجَلَّ لما أخبرهُ بِأَنَّهُ رد إِلَى خمس صلوَات، قيل: هَذَا فِي حَدِيث شريك، وَفِي غَيره من الْأَخْبَار أَنه قَالَ: قد رجعت إِلَى رَبِّي حَتَّى استحييت، فَمَا أَنا براجع إِلَيْهِ، الصَّحِيح أَنه لم يرجع بعد ذَلِك.
وَقَوْلهمْ: مَا معنى قَوْله: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَة مَا يغشى} .
يُقَال: قد رُوِيَ عَنِ ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: يَعْنِي الْمَلَائِكَة. وَرُوِيَ عَن أَبِي سَلمَة قَالَ: فرَاش من ذهب.(1/542)
وَقَالَ الرّبيع بْن أَنَس: غشيها نور الرب عَزَّ وَجَلَّ وغشيتها الْمَلَائِكَة مثل الْغرْبَان تقع.
وَقَالَ سَلمَة بْن وهرام: اسْتَأْذَنت الْمَلَائِكَة الرب عز وَجل أَن ينْظرُوا إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَقَالَ الْحسن: غشي كل ورقة ملك. وَقيل: غشيها الْمَلَائِكَة كَأَنَّهُمْ فرَاش من ذهب.
وَقَوْلهمْ: تبرقع مُوسَى لما كَلمه الرب عَزَّ وَجَلَّ، وَلم يتبرقع الْمُصْطَفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قيل: مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ألبس ظَاهره نورا، والمصطفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ألبس بَاطِنه نورا رفقا بأمته.
وَقَول الْقَائِل: مَا معنى ربطه الْبراق بحلقه الْبَاب؟
340 - قيل: اسْتِعْمَالا لما أَمر بِهِ الْغَيْر بقوله: " اعقلها وتوكل ". وَقيل: اقْتِدَاء بِمن فعل مثل ذَلِك من الْأَنْبِيَاء؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنه ربط بالحلْقة الَّتِي كَانَت الْأَنْبِيَاء ترْبط بهَا.(1/543)
وَقَوْلهمْ: نسخ الشَّيْء قبل الْفِعْل لَا يجوز، لأَنَّ قَول الْقَائِل افْعَل وَلَا تفعل متناقضان.
يُقَال: احتلف أَصْحَاب الشَّافِعِي - رَحمَه اللَّه - فِي نسخ الشَّيْء قبل الْفِعْل وَقَالَ قوم: لَا يجوز نسخ شَيْء لم يسْتَعْمل مِنْهُ شَيْء.
وَقَالَ آخَرُونَ: ذَلِك جَائِز فِيمَا ينْقل من فرض إِلَى إِسقاط، لأَنَّ الإِسقاط قد حصل فِيهِ الامتنان للتَّخْفِيف. أَلا ترى إِلَى قَوْله عزو جلّ: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضعفا} .
وَقَالَ أَبُو عَليّ بْن أَبِي هُرَيْرَة: النّسخ فِي جَمِيع الْمَوَاضِع لَا يَقع إِلا فِيمَا لم يفعل، لأَنَّ مَا مضى يَسْتَحِيل أَن يلْحقهُ نسخ؛ لِأَن النّسخ رفع الحكم فِي الْمُسْتَقْبل من الزَّمَان، فَلَا معنى لقَوْل من أبطل النّسخ قبل الْفِعْل.
وَقَالَ غَيره: وجوب تَقْدِيم الصَّدَقَة بَين يَدي النَّجْوَى إِلَى فعلهَا بِغَيْر صدقه نقل من وجوب إِلَى إِسقاط.(1/544)
وَقَوْلهمْ: رأى آدم عَلَيْهِ السَّلَام فِي السَّمَاء الدُّنْيَا وإِدريس فِي السَّمَاء الرَّابِعَة يَقْتَضِي أَن يكون إِدْرِيس أفضل من آدم.
قيل: مَكَان آدم عَلَيْهِ السَّلَام فِي السَّمَاء الدُّنْيَا لعِلَّة أوجبت ذَلِك وَهِي أَن أَرْوَاح ذُريَّته تعرض عَلَيْهِ، فَلهَذَا الْمَعْنى جعل مَكَانَهُ فِي السَّمَاء الدُّنْيَا.
وَأما قَوْلهم: سمع لَيْلَة الْمِعْرَاج الْأَذَان، قيل: يحْتَمل أَنه سَمعه وَلم يُؤمر بِأَن يَجعله شعارا للصَّلَاة حَتَّى رأى عَبْد اللَّهِ بْن زيد الْأَذَان فِي الْمَنَام فَأمره النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يُعلمهُ بِلَالًا وَجعل ذَلِك علما لدُخُول وَقت الصَّلَاة.
فصل
ذكر رُؤْيَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ربه تَعَالَى(1/545)
أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا وَالِدِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، أَنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ ابْن عُمَرَ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْوَرَكَانِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ قَالا: نَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا الْخَلْقَانِيُّ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى إِبْرَاهِيمَ بِالْخُلَّةِ وَاصْطَفَى مُوسَى بِالْكَلامِ وَاصْطَفَى مُحَمَّدًا بِالرُّؤْيَةِ.(1/546)
قَالَ: وَأَخْبَرَنَا وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بن إِبْرَاهِيم، نَا أَبُو حَاتِم مُحَمَّد ابْن إِدْرِيسَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، نَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ وَعِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عمر، نَا عبد الله بن أَحْمد ابْن حَنْبَلٍ، نَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، نَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، نَا أَبِي عَنْ قَتَادَة ابْن دِعَامَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَتَعْجَبُونَ أَنْ تَكُونَ الْخُلَّةُ لإِبْرَاهِيم وَالْكَلَام لمُوسَى والرؤية لمُحَمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (وَعَلَيْهِمَا) .
341 - أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ السِّمْسَارُ، أَنا أَبُو سَعِيدٍ النَّقَّاشُ، أَنا أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بُرْدٍ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَرْمَانِيُّ، نَا عَبَّادُ ابْن الْعَوَّامِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَأَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ النَّقَّاشُ، أَنا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، نَا عَلِيُّ بْنُ رُسْتُمَ نَا مُحَمَّدُ بْنُ عِصَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - أَن مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَأَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.(1/547)
342 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ النَّقَّاشُ، أَنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ ابْن حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، نَا الأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، نَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رَأَيْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ ".
فصل
ذكر من قَالَ بِالرُّؤْيَةِ وَمن نفاها
فَإِن قيل: كَيفَ يجوز أَن يرى بِالْعينِ الفانية الْقَدِيم الْبَاقِي. يُقَال لَهُ لما جَازَ أَن يسمع مُوسَى بالأذن الفانية كَلَام الْقَدِيم الْبَاقِي جَازَ أَن يرى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْعينِ الفانية الْقَدِيم الْبَاقِي.
وَقد اسْتدلَّ مُحَمَّد بن إِسْحَاق فِي رُؤْيَة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ربه عَزَّ وَجَلَّ بِابْن عَبَّاس، وَأنس بْن مَالك، وَأبي ذَر، وَكَعب، قَالَ كَعْب: إِن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قسم رُؤْيَته وَكَلَامه بَين مُوسَى ومُحَمَّد صلى اللَّه عَلَيْهِمَا. فَرَآهُ مُحَمَّد مرَّتَيْنِ، وَكَلمه مُوسَى مرَّتَيْنِ.
قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق أَكثر مَا فِي هَذَا الْبَاب أَن عَائِشَة وَأَبا ذَر وَابْن عَبَّاس وَأنس بْن مَالك - رَضِي الله عَنْهُم - قد اخْتلفُوا هَل رأى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ربه عزوجل قَالَت عَائِشَة: لم يره.(1/548)
وَقَالَ أَبُو ذَر وَابْن عَبَّاس وَأنس: قد رَآهُ، وَالنَّفْي لَا يُوجب علما، والإِثبات هُوَ الَّذِي يُوجب الْعلم، وَلم تقل عَائِشَة - رَضِيَ الله عَنْهَا - أَنَّهَا سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " لم أر رَبِّي، وَإِنَّمَا تأولت قَوْله: {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} . وَقَوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحيا أَو من وَرَاء حجاب} . وَقَوله: {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} يحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ نفي الإِدراك.
وَقَالَ بَعضهم: نَحن لَا نقُول أَنا نرى رَبنَا فِي الدُّنْيَا بالأبصار، لَكنا نقُول: إِن مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رأى ربه دون سَائِر الْخلق، وَلَفظ الْأَبْصَار يَقع عَلَى أبصار جمَاعَة لَا عَلَى بصر وَاحِد.
وَأما قَوْله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا} ، فَلم يقل أَبُو ذَر وَابْن عَبَّاس وَأنس: أَن اللَّه كَلمه فِي ذَلِك الْوَقْت الَّذِي كَانَ يرى ربه عَزَّ وَجَلَّ، فَمن قَالَ: إِن مُحَمَّدًا رأى ربه لم يُخَالف قَوْله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحيا} هَذَا قَول بعض الْعلمَاء.
فصل
بَيَان الصَّحِيح من أَحَادِيث الْمِعْرَاج(1/549)
قَالَ بعض الْعلمَاء:
الصَّحِيح من أَخْبَار الْمِعْرَاج حَدِيث قَتَادَة، عَن أنس، عَن مَالك ابْن صعصعة، وَحَدِيث الزُّهْرِيّ عَن أَنَس، عَن أَبِي ذَر، وَحَدِيث ثَابت عَن أَنَس، وَحَدِيث شريك عَن أَنَس.
فصل
فِي أَن الإِسراء والمعراج كَانَا يقظة لَا مناما(1/550)
قَالَ بعض الْعلمَاء قَوْله تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} سُبْحَانَ هَا هُنَا للتعجب فَوَجَبَ أَن يحمل عَلَى مَا هُوَ أعجب، وَلَو كَانَ عرج بِرُوحِهِ دونه بدنه لم يكن فِيهِ كَبِير عجب، لأَنَّ الرجل قد يرى فِي مَنَامه أَنه عرج بِهِ إِلَى السَّمَاء، فَإِذَا أخبر بِهِ لم يتعجب مِنْهُ، وَلم ينْسب إِلَى الْكَذِب.
وَقَالَ أَبُو حَامِد الْمقري: لَو كَانَ ذَلِك فِي النّوم لما كَانَ دلَالَة عَلَى النُّبُوَّة إِذ مثل ذَلِك جَائِز عَلَى غير الْأَنْبِيَاء أَن يروها فِي النّوم، وَلَا معنى لرد مَا تظاهرت بِهِ الْأَخْبَار عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
343 - رُوِيَ عَن عِكْرِمَة عَنِ ابْن عَبَّاس - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: أسرِي بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى بَيت الْمُقَدّس. وَرَأى الدَّجَّال فِي صورته رُؤْيا عين لَا رُؤْيا مَنَام.(1/551)
وَقَالَ أَبُو صَالح: كَانَت رُؤْيا يقظة. وَقَول من قَالَ: ظَاهر الرُّؤْيَا أَن يكون فِي النّوم دون الْيَقَظَة، وَقد يَقع هَذَا الِاسْم عَلَى الرُّؤْيَة فِي الْيَقَظَة بِدَلِيل مَا رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيث الْمِعْرَاج رَأَيْت كَذَا وَرَأَيْت كَذَا.
وَقَالَ أهل اللُّغَة: رَأَيْت فِي الْيَقَظَة رُؤْيَة ورؤيا مثل قربَة وقربى. وَرُوِيَ عَنِ ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنه قَالَ: فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أريناك} إِنها رُؤْيَة عين ويقظة لَا رُؤْيَة مَنَام.
قَالَ بعض الْعلمَاء فِي حَدِيث الْمِعْرَاج: مِنْهُ مَا كَانَ فِي حَال النّوم، وَمِنْه مَا كَانَ عيَانًا، فَمَا كَانَ مِنْهُ رُؤْيا فمخرجه مخرج الْوَحْي كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
344 - " رَأَيْت كَأَنِّي فِي درع حَصِينَة " وَمَا كَانَ من عيَانًا فكقوله: " دخلت الْجنَّة وَرَأَيْت كَذَا وَكَذَا ومررت بِقوم تقْرض شفاهم بمقاريض من نَار " وَمَا أشبه ذَلِك.
وَأما مَا رُوِيَ فِي حَدِيث مَالك بْن صعصعة أَنه كَانَ بَين النَّائِم واليقضان، فتفصيل ذَلِك أَنه كَانَ فِي ابْتِدَاء حَاله نَائِما أَو بَين النَّائِم وَالْيَقظَان فأوقظ وَأتي بطست فَغسل قلبه، ثُمَّ أَتَى بِالْبُرَاقِ فَرَكبهُ فَكَانَ الإِسراء فِي حَال الْيَقَظَة لَا فِي الْمَنَام، وإِذَا حمل عَلَى هَذَا انْتهى الِاخْتِلَاف.(1/552)
فصل
فِي بَيَان معنى الْمِعْرَاج
قَالَ أهل اللُّغَة: الْمِعْرَاج هُوَ السّلم والدرج يعرج بِهِ إِلَى السَّمَاء. والعروج الارتقاء والصعود، فالمعراج مَا يكون بِهِ المرتقى إِلَى السَّمَاء. وَقيل: الْمِعْرَاج مَا تعرج فِيهِ الْأَرْوَاح إِذَا قبضت فَلَيْسَ شَيْء أحسن مِنْهُ إِذَا رَآهُ أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ لم تتمالك أَن لَا تخرج. وَقَوله: {مِنَ الله ذِي المعارج} أَي ذِي الدَّرَجَات. وَسمع سعد بْن أَبِي وَقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعض أَهله يُلَبِّي يَقُول: يَا ذَا المعارج، فَقَالَ سعد: إِنه لذُو المعارج، وَمَا هَكَذَا كُنَّا نلبي على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قيل فِي التَّفْسِير تعرج الْمَلَائِكَة إِلَى السَّمَاء من صَخْرَة ببت الْمُقَدّس.
قَالَ خَالِد بْن معدان: الصَّخْرَة أقرب إِلَى السَّمَاء بِسِتَّة عشر ميلًا، وَقَالُوا: وَهُوَ بالأفق الْأَعْلَى يَعْنِي فَوق السَّمَاء السَّابِعَة.
قَالَ بعض الْعلمَاء: فِي هَذِه الْآيَات دلَالَة عَلَى أَن اللَّه عَلَى كل شَيْء قدير، وَأَنه لَا يتَوَصَّل إِلَى مَعْرفَته وَمَعْرِفَة صِفَاته بالمعقول وَالْقِيَاس، بل بطرِيق التَّصْدِيق والإِيمان.(1/553)
فصل
حِكْمَة تَسْمِيَة الْبراق براقا
قيل: إِنما سمي الْبراق براقا لسرعة سيره شَبِيها ببرق السَّحَاب، كَمَا رُوِيَ فِي حَدِيث الْمُرُور عَلَى الصِّرَاط، مِنْهُم من يمر كالبرق، وَمِنْهُم من يمر كَالرِّيحِ وَمِنْهُم من يمر كالفرس الْجواد.
وَقَالَ أهل اللُّغَة: البارقة: السَّحَاب ذَات الْبَرْق، وكل شَيْء تتلألأ فَهُوَ بارق، وَيُقَال للسيوف بوارق.
فَإِن قيل: لم عرج إِلَى السَّمَاء عَلَى الْبراق، وَلم ينزل عِنْد مُنْصَرفه عَلَيْهِ؟ قيل: عرج بِهِ عَلَى الْبراق إِظهارا لكرامته، وَلم ينزل بِهِ عَلَيْهِ إِظهارا لقدرة اللَّه، وَقيل: دلّ بالصعود عَلَيْهِ عَلَى النُّزُول بِهِ عَلَيْهِ كَقَوْلِه تَعَالَى: {سرابيل تقيكم الْحر} يَعْنِي الْحر وَالْبرد. وَقَوله: {بِيَدِك الْخَيْر} أَي الْخَيْر وَالشَّر.
وَقَالَ حُذَيْفَة: مَا زايل ظهر الْبراق حَتَّى رَجَعَ، وَأما مَا رُوِيَ أَن إِبْرَاهِيم(1/554)
عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يزور ابْنه إِسماعيل عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى الْبراق فَهِيَ الدَّابَّة الَّتِي ركبهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْلَة أسرِي بِهِ.،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،(1/555)
كتاب الْآيَات الَّتِي فِيهَا ذكر الْقدر(2/13)
صفحة فارغة(2/14)
قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وسعر يَوْم يسبحون فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كل شَيْء خلقناه بِقدر} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} .
1 - رَوَى عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: نزلت فِي أهل الْقدر، أُولَئِكَ شرار هَذِهِ الْأمة - لَا تعودوا مرضاهم، وَلَا تصلوا عَلَى موتاهم. إِن أتيتني أحدا مِنْهُم فقأت عَيْنَيْهِ بإصبعي هَاتين.
وَقَالَ تَعَالَى: " أُولَئِكَ ينالهم نصِيبهم من الْكتاب} . قَالَ سعيد ابْن جُبَير: " مَا قدر لَهُم من الْخَيْر وَالشَّر والسعادة والشقاوة ".(2/15)
وَقَالَ تَعَالَى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وفريقا حق عَلَيْهِم الضَّلَالَة} . قَالَ مُجَاهِد: " هُوَ السَّعَادَة والشقاوة ".
وَقَالَ أهل التَّفْسِير: أَي من كَانَت بدايته من الله تَعَالَى الْهِدَايَة والسعادة فسيعود إِلَيْهَا. وَمن كَانَت بدايته من الله الضَّلَالَة والشقاوة فَيَعُود إِلَيْهَا.
وَقَالَ عبيد بن عُمَيْر: قَالَ آدم عَلَيْهِ السَّلَام: يَا رب أَرَأَيْت مَا ابتليتني بِهِ، هُوَ شَيْء ابتدعته من قبل نَفسِي، أم شَيْء قدرته عَليّ قبل أَن تخلفني؟ قَالَ: بل قدرته عَلَيْك قبل أَن أخلقك.(2/16)
وَعَن أَبِي صَالح: " يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه " وَقَالَ: يحول بَين الْمُؤمن وَبَين أَن يكفر، ويحول بَين الْكَافِر، وَبَين أَن يُؤمن. وَقَالَ مُجَاهِد: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم قَالَ: يحول بَينهم وَبَين الْإِيمَان ".
ذكر الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، والمشهورة فِي الْبَاب
2 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطِّهْرَانِيُّ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ، أَنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو بن البخْترِي بِبَغْدَاد نَا عبد الرَّحْمَن ابْن مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، نَا الأَعْمَشُ، نَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قَالَ: حَدثنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَالَ: " إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ قَالَ: أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ(2/17)
بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: يَكْتُبُ رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ قَالَ: فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلا ذِرَاعٌ، أَوْ بَاعٍ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ، فَيُسْبَقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِهَا ".
3 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، أَنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، أَنا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ أَبُو الطَّاهِرِ، نَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، نَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ الْغِفَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قَالَ: سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَمَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَاذَا؟ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ قَالَ: فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَكْتُبَانِ. ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ أذكر أم أُنْثَى؟ فَيَقُول الله، وَيَكْتُبَانِ رِزْقَهُ، وَعَمَلَهُ، وَأَثَرَهُ، وَمُصِيبَتَهُ. ثُمَّ تُطْوَى لَهُ الصُّحُف فَلَا يُزَاد فِيهَا، وَلَا ينْقض ".(2/18)
4 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ، أَنا أَبُو عَلِيٍّ الشَّافِعِي، نَا أَحْمد بن إِبْرَاهِيم ابْن فِرَاسٍ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّيْبُلِيُّ، نَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ، نَا سُفْيَانُ بْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بْن دِينَار عَنِ أبي الطُّفَيْل، قَالَ: سَمِعت عبد الله ابْن مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ.
قَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ: ثُكْلا. أَنَشْقَى وَنَسْعَدُ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَعْمَلَ؟ قَالَ: ثُمَّ لَقِيتُ حُذَيْفَةَ بْنَ أَسِيدٍ فَذَكَرْتُ لَهُ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: أَلا أُخْبِرُكَ بِأَعْجَب من ذَلِك: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِذَا اسْتَقَرَّتِ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ، أَوْ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً دَخَلَ عَلَيْهَا الْمَلَكُ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ؟ أَشَقِيٌّ، أَوْ سَعِيدٌ؟ فَيَقُولُ الرَّبُّ: وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ قَالَ: فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أذكر أم أثنى؟ فَيَقُولُ الرَّبُّ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ. قَالَ: فَيَقُولُ: يَا رب: أَجله(2/19)
رزقه، عمله ومصيبته؟ قَالَ: قَدْ قَضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ. حَتَّى يَكْتُبُ كُلَّ شَيْء هُوَ لَاق إِلَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".
وَفِي رِوَايَةٍ: " فَيَقْضِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ مَا شَاءَ. وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ يَقُولُ سَوِيٌّ أَوْ غَيْرُ سَوِيٍّ؟ فَيَخْلُقُهُ اللَّهُ سَوِيًّا أَوْ غَيْرَ سَوِيٍّ ".
5 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ، أَنا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، أَنا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الزَّاهِرِيُّ، نَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الصِّدِّيقِيُّ، أَنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّغُولِيُّ، أَنا أَبُو صَالِحٍ الْحُسَيْنُ بن الْفَرح. نَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زيد، عَن عبيد الله ابْن أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله(2/20)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ لِلَّهِ مَلَكًا مُوَكَّلا بِالرَّحِمِ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ، أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ، أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ، أَيْ رَبِّ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الأَجَلُ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ".
6 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الطِّهْرَانِيُّ، أَنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ، أَنا أَبُو عَلِيٍّ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، نَا الْحسن بن عَرَفَة، نَا إِسْمَاعِيل بن عُلَيَّةَ، عَنْ يَزِيدَ الرِّشْكِ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ أَعُلِمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أهل النَّار؟ قَالَ نعم. قَالَ: فَفِيمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ . قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ. أَوْ كَمَا قَالَ.
7 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ، أَنا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْمُسْلِمَةِ، أَنا أَبُو الطَّاهِرِ الْمُخَلِّصُ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَرْوَزِيُّ، نَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مَرْزُوقٍ: هُوَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ: حَدِّثْنَا عَنْ(2/21)
دِينِنَا. أَنَعْمَلُ فِيمَا جَرَتْ بِهِ الأَقْلامُ، وَجَفَّتْ بِهِ الْكُتُبُ؟ قَالَ: " فِيمَا جَرَتْ بِهِ الأَقْلامُ، وَجَفَّتْ بِهِ الْكُتُبُ " قَالَ: فِيمَ الْعَمَلُ؟ فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِلَّذِي خُلِقَ لَهُ ". فَقَالَ سُرَاقَةُ: مَا كنت بِأَحَق بِالِاجْتِهَادِ مني الْآن.
8 - وَفِي رِوَايَة يحيى بن يعمر عَن أبي الْأسود الديلِي قَالَ: قَالَ لي عمرَان ابْن حُصَيْن - رَضِي الله عَنهُ - أَرَأَيْت مَا يعْمل النَّاس الْيَوْم، ويكدحون فِيهِ؟ أَشَيْء قضي عَلَيْهِم، وَمضى عَلَيْهِم من قدر قد سبق؟ اَوْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِمَّا آتَاهُم بِهِ نَبِيّهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَثبتت الْحجَّة عَلَيْهِم؟ فَقلت: بل شَيْء قضي عَلَيْهِم، وَمضى عَلَيْهِم. فَقَالَ: أَفلا يكون ظلما؟ فَفَزِعت من ذَلِك فَزعًا شَدِيدا وَقلت: كل شَيْء خلق الله،(2/22)
وَملك يَده. {لَا يسئل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون} فَقَالَ لي: يَرْحَمك الله إِنِّي لم أرد مَا سَأَلتك عَنهُ إِلَّا لأحرز عقلك. إِن رجلَيْنِ أَتَيَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: أَرَأَيْت مَا يعْمل النَّاس الْيَوْم ويكدحون الْيَوْم. أَشَيْء قضي عَلَيْهِم وَمضى من قدر قد سبق، أَو فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِمَّا أَتَاهُم بِهِ نَبِيّهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَثبتت عَلَيْهِم الْحجَّة؟ فَقَالَ: " بل، شَيْء قضي عَلَيْهِم وَمضى فيهم من قدر قد سبق " فَقَالَا: فَفِيمَ يعْملُونَ إِذا يَا رَسُول الله؟ قَالَ: " من كَانَ خلقه لواحده من المنزلتين فييسره لَهَا ".
وَفِي رِوَايَة: هيأه لعملها. وتصديق ذَلِك فِي كتاب الله عز وَجل: {وَنَفس وَمَا سواهَا فألهمها فجورها وتقواها} .(2/23)
فصل
9 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الطِّهْرَانِيُّ، أَنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ، أَنا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ هَارُونَ، نَا أَحْمَدُ بْنُ شَيْبَانَ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " قِيلَ لَهُ: هَا هُنَا رَجُلٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْمَشِيئَةِ. فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ خَلَقَكَ اللَّهُ لِمَا شَاءَ، أَوْ لِمَا شِئْتَ؟ قَالَ: لِمَا شَاءَ. قَالَ: فَيُمْرِضُكَ إِذَا شَاءَ، أَوْ إِذَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلْ إِذَا شَاءَ قَالَ: فَيَشْفِيكَ إِذَا شَاءَ أَوْ إِذَا شِئْتَ؟ قَالَ بَلْ، حَيْثُ شَاءَ، قَالَ: وَالله لَو(2/24)
قُلْتَ غَيْرَ ذَلِكَ لَضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاكَ بِالسَّيْفِ. ثُمَّ تَلا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ الله كَانَ عليما حكيما} .
10 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ، نَا أَبُو حَامِدٍ الْمُطَّوِّعِيُّ، أَنا أَبُو طَاهِرِ بْنِ مَهْرُوَيْهِ، أَنا أَبُو عَمْرِو بْنُ حَمْدَانَ، نَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، نَا أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نَا وَكِيعٌ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبْعٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: لَيَخْضِبَنَّ هَذِهِ مِنْ هَذَا فَمَا يَنْتَظِرُ الأَشْقَى؟ قَالُوا: فَأَخْبِرْنَا، نَبِيدُ عِتْرَتَهُ؟ قَالَ: إِذًا وَاللَّهِ تَقْتُلُونَ غَيْرَ قَاتِلِي. قَالُوا: أَفَلا تَسْتَخْلِفُ؟ قَالَ: لَا. وَلَكِنِّي أَتْرُكُكْم على مَا ترككم عَلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالُوا: فَمَا تَقُولُ لِرَبِّكَ إِذَا لَقِيتَهُ؟ قَالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ تَرَكْتَنِي فِيهِمْ ثُمَّ قَبَضْتَنِي إِلَيْكَ وَأَنْتَ فِيهِمْ، فَإِنْ شِئْتَ أَصْلَحْتَهُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَفْسَدْتَهُمْ.
وَأَخْبَرَنَا أَبُو المظفر، أَنا أَبُو عَليّ الشَّافِعِي، نَا أَبُو الْحسن بن فراس، نَا عبد الرَّحْمَن الْمقري، نَا جدي، نَا سُفْيَان، عَن عَمْرو عَن طَاوُوس قَالَ:(2/25)
جَاءَ الشَّيْطَان إِلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَقَالَ: إِذا كنت صَادِقا فأوف عَلَى هَذِهِ الشاهقة، وألق بِنَفْسِك مِنْهَا فَقَالَ: وَيلك. ألم يقل الله تَعَالَى: يَا ابْن آدم لَا تبتليني بهلاكك فَإِنِّي أفعل مَا أَشَاء.
فصل
11 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطهراني، أَنا أَبُو عبد الله ابْن مَنْدَهْ نَا أَبُو سَعِيدٍ الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ أَحْمَدَ بْنِ وَرْدَانَ، نَا إِسْحَاقُ بْنُ الْفُرَاتِ، نَا أَبُو الْهَيْثَمِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بُعِثْتُ دَاعِيًا، وَمُبَلِّغًا وَلَيْسَ إِلَيَّ مِنَ الْهُدَى شَيْءٌ، وَخُلِقَ إِبْلِيسُ مُزَيِّنًا، وَلَيْسَ إِلَيْهِ مِنَ الضَّلَالَة شَيْء.(2/26)
12 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، أَنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، أَنا أَبُو الْقَاسِمِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ ابْن إِبْرَاهِيم الْعلوِي بِمَدِينَة الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، نَا أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ، نَا إِسْمَاعِيل ابْن أَبِي أُوَيْسٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّد عَن أَبِيه أَنه سَأَلَ جَابر ابْن عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنْ خُطْبَةِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمَ الْجُمُعَةِ. فَقَالَ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يحمد اللَّه ويثني عَلَيْهِ بِمَا هُوَ لَهُ أهل. ثُمَّ يَقُول: " من يهده اللَّه فَلَا مضل لَهُ، وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ. إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ ". ثُمَّ يَذْكُرُ السَّاعَةَ ".
13 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، أَنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو أَبُو الطَّاهِرِ، نَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، نَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ شَرِيكٍ الْهُذَلِيِّ، عَنْ(2/27)
يَحْيَى بْنِ مَيْمُونٍ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ رَبِيعَةَ الْجُرَشِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنِ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تُجَالِسُوا أَصْحَابَ الْقَدَرِ، وَلا تُفَاتِحُوهُمْ ".
14 - أَخْبَرَنَا أَبُو المظفر السَّمْعَانِيّ قَالَ: حدث شَيخنَا الْمَكِّيّ بِإِسْنَادِهِ عَن عبد الْملك بن مَرْوَان قَالَ: كنت جَالِسا مَعَ مُعَاوِيَة - رضى الله عَنهُ -، فَأتي بطعامه، فَأخذ لقْمَة فَرَفعهَا إِلَى فِيهِ، ثمَّ وَضعهَا فَتَنَاولهَا فَأَكَلتهَا، فطلبها فَلم يجدهَا، فَخَطب النَّاس عَشِيَّة على الْمِنْبَر فَقَالَ: أَيهَا النَّاس اتَّقوا الله تبَارك وَتَعَالَى فَإِنَّهُ وَالله مَا لامرئ مِنْكُم إِلَّا مَا كتب لَهُ. وَالله إِن أحدكُم ليرْفَع اللُّقْمَة الْمرة والمرتين، ثمَّ تقضى لغيره.
أخبرنَا أَبُو المظفر، أَنا أَبُو الْحسن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الله، نَا عِيسَى ابْن عَليّ بن عِيسَى الْوَزير، نَا أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ، نَا أَبُو الْأَشْعَث أَحْمد ابْن الْمِقْدَام قَالَ: سَمِعت مُعْتَمِرًا يحدث مَرْحُوم الْعَطَّار قَالَ: أَتَانِي رجل فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّد إِن أخي هَذَا أَرَادَ شِرَاء جَارِيَة من فلَان، وَقد أحب أَن يَسْتَعِين بِرَأْيِك فَقُمْ مَعنا إِلَيْهِ، فَانْطَلَقْنَا إِلَيْهِ فَإِذا رجل سري فَبينا نَحن عِنْده، فَقُلْنَا: جاريتك فُلَانُهُ أَرَادَ هَذَا الرجل أَن تعرضها. قَالَ: نعم. قد حضر(2/28)
الْغَدَاء فتغدوا، وأخرجها إِلَيْكُم. قُلْنَا: هَات غداءك فتغدينا ثمَّ قَالَ: لَا يسقيكم المَاء إِلَّا من أردتم أَن تعترضوه. ادعوا فُلَانَة، فَجَاءَت جَارِيَة وضيئة فَقَالَ لَهَا: اسقيني. فَجَاءَت بقدح زجاج فصبت لَهُ فِيهِ مَاء، فَوَضَعته على راحتيه ثمَّ رَفعه إِلَى فِيهِ، ثمَّ قَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّد يزْعم نَاس أَنِّي لَا أَسْتَطِيع أشْرب هَذَا. ترى هَا هُنَا حَائِلا، ترى هَا هُنَا مكْرها. ثمَّ قَالَ: هِيَ حرَّة إِن لم أشربها، فَضربت الْقدح بردن قميصها فَوَقع الْقدح، وانكسر، وإهراق المَاء. فَخرجت مُتَقَنعَة فَكَانَت بعد تدعى مولاة السّنة.
15 - وَحدث الطَّبَرَانِيّ نَا يُوسُف القَاضِي، نَا أَبُو الرّبيع الزهْرَانِي نَا عون بن عمَارَة، نَا يحيى بن أبي أنيسَة، عَن عَلْقَمَة بن مرْثَد، عَن عَليّ بن حُسَيْن، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رجل مِمَّن قبلكُمْ يكذب بِالْقدرِ وَكَانَ مسيئاً إِلَى امْرَأَته. فَخرج إِلَى الجبان فَوجدَ قحف رَأس مَكْتُوب عَلَيْهِ يحرق ثمَّ يذرى فِي(2/29)
الرّيح. قَالَ فَأَخذه فَجعله فِي سفط وَختم عَلَيْهِ وَدفعه إِلَى امْرَأَته، ثمَّ أحسن إِلَيْهَا ثمَّ سَافر فَجَاءَهَا جاراتها فَقُلْنَ: يَا أم فلَان: بِمَ كَانَ زَوجك يحسن الصنيعة إِلَيْك؟ فَهَل استودعك شَيْئا؟ قَالَت: نعم. هَذَا السفط. قُلْنَ فَإِن فِيهِ رَأس خَلِيلَة لَهُ. فَقَامَتْ غيورة مغضبة حَتَّى كسرت الْخَتْم، وفتحته، فَإِذا فِيهِ قحف رَأس. قُلْنَ: تدرين يَا أم فلَان مَا تصنعين؟ أحرقيه ثمَّ ذريه فِي الرّيح. فَفعلت ذَلِك، فَقدم زَوجهَا من سَفَره فَقَالَ لَهَا: مَا صنع السفط؟ فَحَدَّثته بِالْحَدِيثِ؟ فَقَالَ: آمَنت بِاللَّه وصدقت بِالْقدرِ. وَرجع عَن قَوْله.
قَالَ أَبُو المظفر السَّمْعَانِيّ: قد ذكرنَا أَن سَبِيل معرفَة هَذَا الْبَاب التَّوْقِيف من قبل الْكتاب وَالسّنة، دون مَحْض الْقيَاس، وَمُجَرَّد الْمَعْقُول فَمن عدل عَن التَّوْقِيف فِي هَذَا الْبَاب، ضل وتاه فِي بحار الْحيرَة، وَلم يبلغ شِفَاء النَّفس، وَلَا وصل إِلَى مَا يطمئن بِهِ الْقلب. وَذَلِكَ لِأَن الْقدر سر من سر الله وَعلم من علمه. ضربت دونه الأستار، وكفت عَلَيْهِ الأزرار، واختص الله بِهِ علام الغيوب. حجبه عَن عقول الْبشر ومعارفهم، لما علم من الْحِكْمَة. وسبيلنا أَن ننتهي إِلَى مَا حد لنا فِيهِ، وَأَن لَا نتجاوز إِلَى مَا وَرَاءه. فالبحث عَنهُ تكلّف، والاقتحام فِيهِ تعمق وتهور.(2/30)
قَالَ: وجماع هَذَا الْبَاب أَن يعلم أَن الله تَعَالَى طوى عَن الْعَالم علم مَا قَضَاهُ وَقدره على عباده، فَلم يطلع عَلَيْهِ نَبيا مُرْسلا، وَلَا ملكا مقرباً، لِأَنَّهُ خلقهمْ ليتعبدهم، ويمتحنهم. قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} . وَقد نقلنا عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: أَنه خلقهمْ ليأمرهم بِالْعبَادَة.
فَلَو كشف لَهُم عَن سر مَا قضى وَقدر لَهُم وَعَلَيْهِم فِي عواقب أُمُورهم لافتتنوا، وفتروا عَن الْعَمَل، واتكلوا على مصير الْأَمر فِي الْعَاقِبَة فَيكون قصاراهم عِنْد ذَلِك أَمن أَو قنوط. وَفِي ذَلِك بطلَان الْعِبَادَة وَسُقُوط الْخَوْف والرجاء. فلطف الله سُبْحَانَهُ بعباده وحجب عَنْهُم علم الْقَضَاء وَالْقدر، وعلقهم بَين الْخَوْف والرجاء، والطمع والوجل: ليبلو سَعْيهمْ واجتهادهم، وليميز الله الْخَبيث من الطّيب. وَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة.(2/31)
16 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ، أَنا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيُّ أَنا ابْنُ فِرَاسٍ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رُومَانَ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئٍ الْخَوْلانِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى مَقَادِيرَ الْخَلائِقِ كُلَّهَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ".
17 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ، أَنا يَعْقُوبُ بْنُ أَحْمَدَ الصَّيْرَفِيُّ، نَا الْحَسَنُ ابْن أَحْمَدَ الْمَخْلَدِيُّ، نَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ الْبَلْخِيُّ، نَا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ ابْن الْحَكَمِ الشَّطَوِيُّ، نَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رضى الله عَنْهَا - قَالَت: أدْرك النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي جِنَازَةِ صَبِيٍّ مِنَ الأَنْصَارِ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - طُوبَى لَهُ عُصْفُورٌ مِنْ عصافير الْجنَّة. فَقَالَ رَسُول(2/32)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَمَا يُدْرِيكِ يَا عَائِشَةُ؟ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الْجَنَّةَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلا وَهُمْ فِي أَصْلابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلا وَهُمْ فِي أَصْلابِ آبَائِهِمْ ".
وَفِي رِوَايَة سُفْيَان عَن طَلْحَة بن يحيي: " إِن الله تَعَالَى خلق الْجنَّة وَخلق لَهَا أَهلا، خلقهَا لَهُم فِي أصلاب آبَائِهِم وَخلق النَّار وَخلق لَهَا أَهلا، خلقهَا لَهُم وهم فِي أصلاب آبَائِهِم ".
أخبرنَا أَبُو عَليّ الشَّافِعِي، أَنا ابْن فراس، أَنا الديبلي، نَا أَبُو عبيد الله، نَا سُفْيَان بن عُيَيْنَةَ عَن طَلْحَة بن يحيي.
18 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ، أَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ نَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سِرَاجٍ، نَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ مَحْبُوبٍ، نَا أَبُو عِيسَى الْحَافِظُ، نَا قُتَيْبَةُ، نَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي قَبِيلٍ، عَنْ شَقِيِّ بن مَانع عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قَالَ: خرج علينا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ فَقَالَ " أَتَدْرُونَ مَا هَذَانِ(2/33)
الْكِتَابَانِ؟ " فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلا أَنْ تُخْبِرَنَا. فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ الْيُمْنَى: " هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ، وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أَجْمَلَ عَلَى آخِرهم فَلَا يُزَاد فيهم، وَلَا ينْقض مِنْهُمْ أَبَدًا ".
ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي فِي شِمَالِهِ: " هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ النَّارِ، وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أَجْمَلَ على آخِرهم فَلَا يُزَاد فيهم وَلَا ينْقض مِنْهُمْ أَبَدًا ". فَقَالَ أَصْحَابُهُ: فَفِيمَ الْعَمَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ أَمْرًا قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: " سَدِّدُوا وَقَارِبُوا فَإِنَّ صَاحِبَ الْجَنَّةِ يخْتم لَهُ بِعَمَل أهل الْجنَّة، وَإِن عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ. وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عمل " ثمَّ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدَيْهِ فَنَبَذَهُمَا ثُمَّ قَالَ: " فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ الْعِبَادِ، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ". قَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَأَبُو قَبِيلٍ: اسْمُهُ يَحْيَى بْنُ هَانِئٍ.
فصل
قَالَ الإِمَام أَبُو المظفر: وَأما أهل الْقدر احْتَجُّوا بحديثين:(2/34)
19 - أَحدهمَا حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كل مَوْلُود يُولد عَلَى الْفطْرَة. فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ ويمجسانه كَمَا تنْتج الْبَهِيمَة بَهِيمَة جَمْعَاء هَل تُحِسُّونَ فِيهَا جَدْعَاء ". ثمَّ يَقُول أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِن شِئْتُم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا}
20 - وَالثَّانِي حَدِيث عِيَاض بن حَمَّاد أَنه شهد خطْبَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَمعهُ يَقُول " إِن الله عَزَّ وَجَلَّ أَمرنِي أَن أعلمكُم مِمَّا جهلتم من دينكُمْ يومكم هَذَا. وَإِن كل مَال نحلته عَبدِي فَهُوَ لَهُ حَلَال، وَإِنِّي خلقت عبَادي حنفَاء كلهم، وَإنَّهُ أَتَتْهُم الشَّيَاطِين فَاجْتَالَتْهُمْ عَن دينهم، وَحرمت عَلَيْهِم مَا أحللت لَهُم، وأمرتهم أَن يشركوا بِي مَا لم أنزل بِهِ سُلْطَانا ".(2/35)
قَالَ: ذكر أَبُو عبيد فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بغريب الحَدِيث هَذَا الْخَبَر وَهُوَ قَوْله: كل مَوْلُود عَلَى الْفطْرَة. ثمَّ قَالَ: سَأَلت مُحَمَّد بن الْحسن(2/36)
عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: كَانَ هَذَا فِي أول الْإِسْلَام قبل أَن تنزل الْفَرَائِض، وَقبل أَن يُؤمر الْمُسلمُونَ بِالْجِهَادِ.
قَالَ أَبُو عبيد: كَأَنَّهُ يذهب إِلَى أَنه لَو كَانَ يُولد عَلَى الْفطْرَة ثمَّ مَاتَ قبل أَن يهوده أَبَوَاهُ، أَو ينصراه مَا ورثهما، وَلَا ورثاه لِأَنَّهُ مُسلم وهما كَافِرَانِ. وَمَا كَانَ يجوز أَن يسبي. يَقُول: فَلَمَّا نزلت الْفَرَائِض، وحدت السّنَن بِخِلَاف ذَلِك علم أَنه يُولد عَلَى دينهما.(2/37)
قَالَ أَبُو عبيد: وَأما عبد الله بن الْمُبَارك فَإِنَّهُ بَلغنِي أَنه سُئِلَ عَن تَأْوِيل هَذَا الحَدِيث. فَقَالَ: تَأْوِيله الحَدِيث الآخر.
21 - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَن أَطْفَال الْمُشْركين فَقَالَ: " الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين ". يذهب إِلَى أَنهم إِنَّمَا يولدون عَلَى مَا يصيرون إِلَيْهِ من إِسْلَام أَو كفر. فَمن كَانَ فِي علم الله أَنه يصير مُسلما فَإِنَّهُ يُولد عَلَى الْفطْرَة وَمن كَانَ علمه فِيهِ أَن يَمُوت كَافِرًا ولد عَلَى الْكفْر. وَلَا مزِيد عَلَى(2/38)
قَول هذَيْن الرجلَيْن. فَإِن كل وَاحِد مِنْهُمَا إِمَام مقدم فِي صَنعته. فَابْن الْمُبَارك إِمَام فِي الحَدِيث، وَمُحَمّد بن الْحسن إِمَام فِي الْفِقْه. فَلَا معدل بِنَا عَن قوليهما.
قَالَ أَبُو المظفر: وَأما اعْتِقَاد أهل السّنة فِي أَمر الْأَطْفَال فَهُوَ مَا نطق بِهِ الحَدِيث من تَوْقِيف الْأَمر فيهم ليفعل الله بهم مَا يُرِيد.
وَكَذَلِكَ الْأَمر فِي الْهَالِك فِي الفترة. وَمن لم تبلغه الدعْوَة لِأَن الْعَذَاب لَا يجب إِلَّا بعد بُلُوغ الرسَالَة إِيَّاه.(2/39)
صفحة فارغة(2/40)
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ نَص الْقُرْآن وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} . وَقَالَ تَعَالَى: {رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل} .
وَأما قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خلقت عبَادي حنفَاء " فَهُوَ وَالله أعلم، إِشَارَة إِلَى الْمعرفَة الغريزية الَّتِي هِيَ مركبة فيهم.
قَالَ: وَقد ذكر بعض أهل الْعلم أَن الْفطْرَة هَا هُنَا هِيَ الْفطْرَة الغريزية الَّتِي هِيَ مَوْجُودَة فِي كل إِنْسَان. فَإِن كل أحد يرجع إِلَى غريزته عرف خالقه. وَذَلِكَ معنى قَوْله تَعَالَى: {فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا} وَهَذِه الْمعرفَة هِيَ الْمعرفَة الَّتِي أخبر الله تَعَالَى بوجودها من الْكفَّار، وَذَلِكَ فِي قَوْله: {وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا الله مُخلصين لَهُ الدّين} فحين ظَهرت لَهُم حَال الضَّرُورَة وانقطعوا عَن أَسبَاب الْخلق، وَلم يبْق لَهُم تعلق بِأحد ظَهرت فيهم الْمعرفَة الغريزية. إِلَّا أَنَّهَا غير نافعة. إِنَّمَا النافعة هِيَ الْمعرفَة الكسبية، إِلَّا أَن الله تَعَالَى فطر النَّاس عَلَى الْمعرفَة الغريزية، وَطلب مِنْهُم الْمعرفَة الكسبية، وعلق الثَّوَاب بهَا وَالْعِقَاب عَلَى تَركهَا.
يدل عَلَى هَذَا مَا رُوِيَ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَمَّن مَاتَ قبل أَن يبلغ فَقَالَ: " الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين ".(2/41)
وَلَو ولد ولد الْكَافِر عَلَى الْإِسْلَام لأوجب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ الْجنَّة بِكُل حَال. فَلَمَّا أحَال الحكم عَلَى مَا علم الله تَعَالَى من أَعْمَالهم أَن لَو أدركوا وَقت الْعَمَل عرفنَا أَن الْمَعْنى بالفطرة مَا قُلْنَا من الْمعرفَة الَّتِي لَا يكون فِيهَا ثَوَاب وَلَا بعدمها عِقَاب.(2/42)
فصل
22 - أَخْبَرَنَا الشَّرِيفُ أَبُو نَصْرٍ الزَّيْنَبِيُّ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَرَّاقُ، نَا ابْنُ أَبِي دَاوُدَ، نَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، نَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَانَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ لَمَكْتُوبٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَانَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّهُ لَمَكْتُوبٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ".
23 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيُّ، أَنا عَبْدُ الصَّمَدِ الْعَاصِمِيُّ نَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْبُجَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ الْبُجَيْرِيُّ، نَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طاؤس، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - عَن النَّبِي
قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ. فَزِنَا الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا اللِّسَانِ(2/43)
الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَشْتَهِي، وَتَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ الْفَرْجُ. فَإِنْ يَقْدِمُ صَاحِبُهُ فَهُوَ زِنًا، وَإِلا فَهُوَ اللَّمَمُ.
24 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ البجيري، نَا عبد الْجَبَّار بن الْعلَا، نَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِيهِ سُمَيٌّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رِوَايَةً قَالَ: كَانَ مِنْ دُعَائِهِ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ دَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ، وَمِنْ جَهْدِ الْبَلاءِ ". قَالَ سُفْيَانُ: وَزِدْتُ وَاحِدَةً لَا أَدْرِي أَيَّتَهُنَّ هِيَ.
25 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ الْبُجَيْرِيُّ، نَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، نَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سمع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " اللَّهُمَّ لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صلينَا فَثَبت الْأَقْدَام، إِن لاقينا، إِن الأولى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ".
26 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ الْبُجَيْرِيُّ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّبَّاحِ، نَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، نَا فُلَيْحٌ عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ عَنْ وَرَّادٍ، قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أكتب بالْقَوْل الَّذِي(2/44)
كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُوله بَعْدَ الصَّلاةِ. قَالَ " لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ ".
27 - قَالَ وَحَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ نَا مُحَمَّدُ بْنُ أَشْكَابَ الأَصْفَرُ، نَا يُونُس ابْن مُحَمَّد، نَا دَاوُد بن الْفُرَات، عَن عبد الله بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ عَنْ عَائِشَة زوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهَا أخْبرته أَنَّهَا سَأَلت نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الطَّاعُون، فَأَخْبرهَا نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ فِي الطَّاعُونِ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلا مَا كتب لَهُ إِلا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ ".
28 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ، حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ حميد، نَا مُحَمَّد ابْن عَبْدِ الْمَلِكِ، نَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَأْتِي ابْنُ آدَمَ النَّذْرَ بِشَيْءٍ لَمْ أَكُنْ قَدْ قَدَرْتُهُ لَهُ، وَلَكِنَّهُ يُلْقِيهُ النَّذْرَ إِلَى مَا قَدَرْتُهُ لَهُ، أَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ يُؤْتِينِي عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ آتَانِي مِنْ قَبْلُ ".
29 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، نَا الْقَعْنَبِيُّ، عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا(2/45)
تُسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ مَا فِي صَحْفَتِهَا وَلِتَنْكِحَ فَإِنَّ مَا لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا ".
30 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ، نَا الْعَبَّاسُ بن الْوَلِيد الْخلال، نَا عبد الله ابْن كَثِيرٍ الطَّوِيلُ، نَا الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ شَابٌّ وَإِنِّي أَخَافُ الْعَنَتَ عَلَى نَفْسِي، وَلَسْتُ أَجِدُ طَوْلا أَتَزَوَّجُ بِهِ النِّسَاءَ فَأْذَنْ لِي أَنْ أَخْتِصَي. قَالَ فَسَكَتَ عَنِّي. قَالَ: قلت: مثل ذَلِك. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاقٍ، فَاخْتَصِ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ ذَرْ ".
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ، نَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نَا عَمِّي، أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
قَالَ أَبُو حَفْصٍ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نَا يَعْمُرُ بْنُ بِشْرٍ، نَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، نَا الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.(2/46)
31 - وَقَالَ يُوُنسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ وَلا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ إِلا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ. بِطَانَةٌ تَأْمُرُه بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ. فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ ".
فصل
32 - أَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، نَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، أَنا أَبُو الْحُسَيْنِ، أَنا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دَاوُدَ، نَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْبَزَّازُ، نَا حَسَّانُ بْنُ حَسَّانٍ، نَا إِسْمَاعِيل ابْن إِبْرَاهِيمَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " سَبَقَ الْعِلْمُ وَجَفَّ الْقَلَمُ، وَمَضَى الْقَضَاءُ، وَتَمَّ الْقَدَرُ ".
33 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ، نَا الإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الشِّيرْنَخْشِيرِيُّ إِمْلاءً، نَا الْحَاكِمُ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الحدادي، نَا(2/47)
حَمَّاد ابْن أَحْمَدَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ السّلمِيّ القَاضِي، نَا أَبُو السّري هناد ابْن السَّرِيِّ، نَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ عُمَرَ مَوْلَى عَفْرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " يَا غُلامُ: أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ لَعَلَّ اللَّهُ أَنْ يَنْفَعَكَ بِهِنَّ؟ قَالَ: قُلْتُ بَلَى فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي. قَالَ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، إِذَا سَأَلْتَ فَسَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، فَقَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ. فَلَوِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ لَكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ أَوْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ بِالرِّضَا فِي الْيَقِينِ، وَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَالْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ".
34 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ أَنا أَبُو الْغَنَايِمِ عَبْدُ السَّلامِ بْنُ أَحْمَدَ بن مُحَمَّد ابْن عُمَرَ الأَنْصَارِيُّ، أَنا أَبُو الْقَاسِمِ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْمُنْذِرُ، أَنا الْفَارُوقُ بْنُ عَبْدِ الْكَبِيرِ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي قُرَيْشٍ نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ، نَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَا وَجَّهَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَاجَةٍ فَلَمْ تُقْضَ إِلا قَالَ لِي: " يَا أَنَسُ لَوْ قَدَّرَ شَيْءٌ لَكَانَ ".(2/48)
35 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الطِّهْرَانِيُّ، أَنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الطَّائِيُّ بِبَغْدَادَ، نَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الْمَوْصِلِيُّ، نَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " حَاجَّ آدَمُ مُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ آدَمُ: يَا مُوسَى أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَى قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً ". قَالَ: " فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. عَلَيْهِمَا السَّلامُ ".
36 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنا عَبْدُوسُ بْنُ الْحُسَيْنِ وَغَيْرُهُ قَالُوا: أَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ سِنَانٍ، نَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَكَمِ، نَا أَبُو طَالب يحيى ابْن يَعْقُوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلامُ، فَقَالَ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلائِكَتَهُ، وَأَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ ثُمَّ أَخْرَجْتَنَا؟ أُرَاهُ قَالَ: مِنَ الْجَنَّةِ. فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاهُ اللَّهُ بِرِسَالاتِهِ، وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا، وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ؟ فَبِكَمْ تَجِدُ خَطِيئَتِي سَبَقَتْ خَلْقِي؟ قَالَ: بِأَرْبَعِينَ عَامًا ". قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فحج آدم مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام ".(2/49)
صفحة فارغة(2/50)
أخبرنَا الإِمَام أَبُو المظفر قَالَ: فقد دَعَا الله الْخلق إِلَى الوحدانية والأقدار مَعًا: فالتوحيد لوحدانيته وَالتَّقْدِير لربوبيته، وَالْإِذْن قدرته. فَكَمَا لَا يجوز إبِْطَال وحدانيته كَذَلِك إبِْطَال ربوبيته وَقدرته. وَهُوَ التَّقْدِير وَالْإِذْن.(2/51)
وَكَذَلِكَ قَالُوا: كَمَا لَا يجوز الركون إِلَى الدُّنْيَا، كَذَلِك لَا يجوز إِبْطَالهَا حَتَّى يكْتَسب بهَا النّظر إِلَى التَّقْدِير وَالْإِذْن.
فالأبدان كلهَا مضطرة إِلَى الْأَسْبَاب أبدا، وَذَلِكَ فِي أهل السَّمَاوَات وَالْأَرْض. اضطرهم الله جَمِيعًا إِلَى الْأَسْبَاب وَإِن تفاوتت وجوهها فِي قلتهَا وَكَثْرَتهَا، وزيادتها ونقصانها.
وَأما الْقُلُوب، فَإِنَّهَا مضطرة إِلَى مسبب الْأَسْبَاب وَحده. أما ترى أَن أهل الدُّنْيَا اضطروا إِلَى الْأَسْبَاب من الْأَمْكِنَة، والأغذية، واللباس، وَسَائِر مَا يرجع إِلَى معاشهم، فَهَذَا لأبدانهم. واضطرت الْقُلُوب إِلَى أَن الله تَعَالَى وَحده خَالق الدُّنْيَا ومالكها.
وَإِن الْأَسْبَاب عاملة بِإِذن الله. فَمَا أذن الله تَعَالَى لشَيْء كَانَ من غير سَبَب، وَإِذا لم يَأْذَن للسبب لم يعْمل. فَالنَّار بِإِذْنِهِ تحرق فَإِذا أذن لَهَا أَن تمْتَنع من الإحراق امْتنعت، كَمَا أذن لنار إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام.
وَالْمَاء بِإِذْنِهِ يغرق، فَإِذا أذن لَهُ أَن يمْتَنع من الإغراق امْتنع،(2/52)
كَمَا أذن لَهُ فِي إغراق فِرْعَوْن وَقَومه، وَمنعه من إغراق مُوسَى وَقَومه.
وكما أطْعم مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام من غير سَبَب. قَالَ الله تَعَالَى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} .
وَقد يحبس الله الثِّمَار أَن تخرج من الْأَشْجَار فِي كثير من الْأَوْقَات. قَالَ الله تَعَالَى: {وَنقص من الْأَمْوَال والأنفس والثمرات} .
إِلَّا أَن الْقلب إِذا مَال إِلَى الْأَسْبَاب وكل إِلَيْهَا بِقدر ميله إِلَيْهَا، وفقد من مَعُونَة الله وتأييده عَلَى قدر ذَلِكَ.
فَكَمَا أَن الْبدن لَا تعْمل جارحة من جوارحه وركن من أَرْكَانه من حَرَكَة أَو سُكُون أَو قبض أَو بسط إِلَّا بِالروحِ. كَذَلِك لَا يعْمل سَبَب من الْأَسْبَاب، من نفع أَو ضرّ إِلَّا بِالْقدرِ وَالْإِذْن من الله تَعَالَى. وكما أَن الْجَوَارِح قد ظَهرت بحركاتها وبطن الرّوح والأبصار طامحة إِلَى الْجَوَارِح لظهورها، كَذَلِك الْأَسْبَاب ظَاهِرَة مَعْلُومَة عِنْد النَّاس، والأقدار باطنة. وَالنَّاس يبصرون(2/53)
الْأَسْبَاب لِأَنَّهَا لأعينهم بارزة، وَلَا يبصرون الأقدار لِأَنَّهَا عِنْد الله غَائِبَة. وَلَا قيام للأسباب إِلَّا بالأقدار. كَمَا لَا قيم للأبدان إِلَّا بالأرواح.
فالأسباب ظَاهِرَة للأبصار رُؤْيَة وعيانا، والأقدار ظَاهِرَة للقلوب معرفَة وإيمانا فَهَذَا حَقِيقَة شَأْن الْأَسْبَاب والأقدار.
فنظير الْأَعْمَال من الطَّاعَات والمعاصي، إكساب الْعباد فِي الدُّنْيَا، وَنَظِير الْقَضَاء وَالتَّقْدِير من الله تَعَالَى لأعمال الْعباد، قسْمَة الأرزاق بَينهم.
فالأكساب من النَّاس فِي الدُّنْيَا، حَاصِلَة فِي أُمُور معاشهم والأرزاق من الله مقسومة لَا تزداد وَلَا تنقص. وأكسابهم من الأقدار أَيْضا. فَلَا بُد من وُصُول الأرزاق إِلَيْهِم عَلَى مَا قسمه الله تَعَالَى. كَذَلِك الطَّاعَات والمعاصي من الْخلق،(2/54)
حَاصِلَة فِي أُمُور آخرتهم. وَالْقَضَاء بِأَمْر الله والأقدار جَارِيَة عَلَيْهِم فِي آخرتهم، وأعمال آخرتهم لَا يزْدَاد عَلَيْهَا شَيْء وَلَا ينتقص مِنْهَا شَيْء.
وأعمالهم من الأقدار أَيْضا، وَلَا بُد من مصيرهم إِلَى مَا قضى الله لَهُم وَعَلَيْهِم. فَمن النَّاس الْقوي الْمُحْتَال الْجلد وَلَا يزْدَاد إِلَّا فَقَرَأَ، وَمِنْهُم الضَّعِيف العيي المهين، وَلَا يزْدَاد مَاله إِلَّا كَثْرَة. وَمِنْهُم الجاد الْمُجْتَهد الدائب فِي الطَّاعَات، وَلَا يزْدَاد من الله إِلَّا بعدا وَمِنْهُم الكسلان الفاتر وَالله تَعَالَى قد أعد لَهُ الْجنان، وَالنَّعِيم الْمُقِيم. ذَلِكَ تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم.
وَمن أشباه هَذَا وَأَمْثَاله أَمر الطِّبّ والمعالجة. فَإِن الله تَعَالَى قد فرغ من الْحَيَاة والعمر، وَجعل لذَلِك ميقاتا مَعْلُوما لَا يتَقَدَّم وَلَا يتَأَخَّر، وَلَا يزِيد وَلَا ينقص. قَالَ الله تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} . ثمَّ دبر لَهُم بِلُطْفِهِ فعللهم عِنْد الْأَمْرَاض المخوفة بالأدوية والأشفية المخيلة للنفع، والبرؤ ليَكُون للآمال فِيهَا مجَال، وللنفوس فِيهَا منفسح. وَهِي لَا تغني من الْمَقْدُور شَيْئا.(2/55)
فترى النَّاس عَلَى اخْتِلَاف طبقاتهم من الآراء والنحل، يفزعون عِنْد حُدُوث الْأَمْرَاض إِلَى الطِّبّ والتداوي، ويتعللون بِهِ، ويستأنسون إِلَيْهِ. فَإِذا لم ينجح العلاج، وأعياهم الْأَمر قَالُوا: قدر الله ومشيئته، وسلموا للْقَضَاء وأعطوا بِأَيْدِيهِم، وَلم يلوموا طَبِيبا، وَلم يعيبوا دَوَاء. وَمن خالفهم فِي هَذَا الْمَذْهَب، وَلم يَأْخُذ بالحزم وَلم يسْتَعْمل العلاج كَانَ عِنْد أَكْثَرهم ملوما معاتبا. فترى النَّاس يفزعون إِلَى الْأَدْوِيَة والمعالجات، الأقدار من الله جَارِيَة فِي الْآجَال والأمراض وَالصِّحَّة، وَلَا مزِيد عَلَيْهَا وَلَا نُقْصَان، وَلَا مُتَأَخّر عَنْهَا وَلَا مُتَقَدم. كَذَلِك أُمُور الْآخِرَة مقضية مقدرَة مقسومة، والأعمال من الْعباد فِي أَسبَابهَا الظَّاهِرَة جَارِيَة، والأوامر والنواهي فِيهَا ثَابِتَة والوعد والوعيد وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب فِيهَا عَامل. وَمَا قَضَاهُ الله وَقدره من ذَلِكَ فَلَا مزِيد عَلَيْهِ وَلَا نُقْصَان، وَلَا مُتَأَخّر عَنْهَا وَلَا مُتَقَدم. وعَلى هَذَا تجْرِي أُمُور العوذة وَالدُّعَاء.
قَالَ: وَإِنَّمَا حملنَا عَلَى ذكر هَذَا الأَصْل، وَبَيَان الْأَمْثِلَة، والأشباه لِأَن الَّذِي يعْتَمد عَلَيْهِ الْخُصُوم فِي رد الْقَضَاء وَالْقدر هُوَ أَنهم يَقُولُونَ: إِذا قدمنَا الْقدر وغلبنا الحكم بَطل الْعَمَل وَسقط معنى التبعد وَهُوَ: التَّكْلِيف وتعطل الْوَعْد والوعيد، وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب.(2/56)
وَرُبمَا طعنوا بِمثل هَذَا الْكَلَام فِي الْخَبَر روينَاهُ من طَرِيق أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي احتجاج آدم ومُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام. وَقَالُوا: إِذا احْتج كل منا فِي مَعَاصيه بِمثل احتجاج آدم على مُوسَى، لم يبْق لوم عتب عَلَى أحد فِي مَعْصِيّة يرتكبها، وَلَا فَاحِشَة يعملها، وَيصير كل الْكفَّار والفساق معذورة فِي فعلهم، وَلم يجز لأحد منا لومهم وَلَا توبيخهم إِذْ حجتهم ظَاهِرَة، وَمن تمسك بِحجَّة فِيمَا يعمله بِمثل حجَّة آدم - عَلَيْهِ السَّلامُ -، فَكيف يجوز الْإِنْكَار عَلَيْهِ، وتعييره بِفعل شَيْء.
وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: وَأما الْكَلَام فِيمَا جرى بَين آدم ومُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام من المحاجة فِي هَذَا الشَّأْن، فَإِنَّمَا سَاغَ لَهما الْحجَّاج فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمَا نبيان جليلان خصا بِعلم الْحَقَائِق، وَأذن لَهما فِي استكشاف السرائر.
وَلَيْسَ سَبِيل سَائِر الْخلق الَّذين أمروا بِالْوُقُوفِ عِنْد مَا حد لَهُم، وَالسُّكُوت عَمَّا طوى عَنْهُم سبيلهما. وَلَيْسَ معنى قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فحج آدم - عَلَيْهِ السَّلامُ - مُوسَى، إبِْطَال حكم الظَّاهِر، وَلَا إِسْقَاط الْعَمَل الْوَاجِب. وَلَكِن مَعْنَاهُ: تَرْجِيح أحد الْأَمريْنِ، وَتَقْدِيم رُتْبَة الْعلَّة عَلَى السَّبَب.(2/57)
فقد يَقع الحكم بترجيح معنى أحد الْأَصْلَيْنِ: فسبيل قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فحج آدم مُوسَى " هَذَا السَّبِيل.
وَقد ظهر هَذَا الْمَعْنى فِي قصَّة آدم - عَلَيْهِ السَّلامُ -: قَالَ الله تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة} فَهَذَا تَصْرِيح بَين الْمَلأ من الْمَلَائِكَة، أَنه خلق آدم للْأَرْض ليَكُون خَليفَة فِيهَا. ثمَّ قَالَ: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تقربا هَذِه الشَّجَرَة} . فَأمره بسكنى الْجنَّة، وَالْمقَام فِيهَا ثمَّ حذره أَن يخرج من الْجنَّة فَقَالَ {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا من الْجنَّة فتشقى} فَهَل يجوز لمُسلم أَن يحمل هَذِهِ الْأَقْوَال عَلَى التَّنَاقُض والتناسخ. وَمَعْلُوم أَن النّسخ لَا يجْرِي عَلَى الْخَبَر؟ فَإِذا لم يجز ذَلِكَ وَلم يكن فِيهَا وَجه غير الظَّاهِر، علم أَن الْمَعْنى فِيهِ أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أبطن فِي أَمر آدم - عَلَيْهِ السَّلامُ - سرا من علمه هُوَ صائر إِلَيْهِ لَا محَالة. وَأظْهر لَهُ أمرا وَجب الائتمار لَهُ امتحانا مِنْهُ فَلم يكن يَسعهُ فِي حكم الْأَمر الظَّاهِر الْعِصْيَان، وَلم يكن يُمكنهُ فِي حكم الْقدر الْبَاطِن الْإِتْيَان بِهِ، فجَاء من هَذَا أَن آدم - عَلَيْهِ السَّلامُ - لم يتهيأ لَهُ أَن يستديم سُكْنى الْجنَّة بِأَن لَا(2/58)
يقرب الشَّجَرَة لسابق الْقَضَاء الْمَكْتُوب عَلَيْهِ فِي الْخُرُوج مِنْهَا، والوقوع إِلَى الأَرْض الَّتِي خلق لَهَا، وليكون خَليفَة فِيهَا.
وَبِهَذَا الْمَعْنى صال عَلَى مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام عِنْد المحاجة. وَبِهَذَا الْمَعْنى قضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلامُ -. فَقَالَ: فحج آدم مُوسَى.
وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: أخرج الله آدم من الْجنَّة قبل أَن يدْخلهُ فِيهَا. يُرِيد الْمَعْنى الَّذِي ذَكرْنَاهُ.
فصل
37 - أَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنا أَبُو جَعْفَرٍ. مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْمُسْلِمَةَ، أَنا أَبُو طَاهِرٍ الْمُخَلِّصُ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ ابْن زِيَادٍ النَّيْسَابُورِيُّ، نَا أَبُو الأَزْهَرِ، نَا إِسْحَاقُ بن سُلَيْمَان، حَدثنَا أَبُو سِنَان سعيد ابْن سِنَانٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ خَالِدٍ الْحِمْصِيِّ، عَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: وَقَعَ فِي(2/59)
نَفْسِي شَيْءٌ مِنَ الْقَدَرِ، فَأَتَيْتَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقُلْتُ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ إِنَّهُ وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنَ الْقَدَرِ وَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ هَلاكُ دِينِي أَوْ أَمْرِي، فَحَدِّثْنِي فِيهِ بِشَيْءٍ لَعَلَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَنْفَعَنِي. فَقَالَ: لَوْ أَن الله عز وَجل عذب أهل سماواته، وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ. وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَلَوْ كَانَ لَكَ مِثْلُ أُحُدٍ، أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ. وَأَنَّكَ إِنْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ، وَلا عَلَيْكَ أَنْ تَأْتِيَ أَخِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَتَسْأَلَهُ.
فَأَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، فَقَالَ، مِثْلَ ذَلِكَ: وَقَالَ: لَا عَلَيْكَ أَنْ تَأْتِيَ أَخِي حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ فَتَسْأَلَهُ، فَأَتَيْتُ حُذَيْفَةَ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ: لَوْ أَتَيْتَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَأَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " إِن الله لَو عذب أهل سماواته، وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ غَيْرَ ظَالِمٍ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَلَوْ كَانَ لَكَ جَبَلُ أُحُدٍ أَوْ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ الله مِنْك(2/60)
حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ. وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَأَنَّكَ إِنْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ ".
38 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ، أَنا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ بَخْتَوَيْهَ أَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْقَنْطَرِيُّ، أَنا الْحَاكِم أَبُو الْفضل الحدادي، نَا عبد الله بن مَحْمُود السَّعْدِيّ، نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ الْخلال، نَا ابْن الْمُبَارك، عَن سُفْيَان، عَن خَالِد الْحذاء عَن عبد الْأَعْلَى بن عبد الله بن عَامر، عَن عبد الله بن الْحَارِث بن نَوْفَل قَالَ: لما قدم عمر - رَضِي الله عَنهُ - الْجَابِيَة قَامَ يخْطب النَّاس وَعِنْده الجاثليق يترجم لَهُ مَا يَقُول عمر - رَضِي الله عَنهُ - فَلَمَّا قَالَ عمر: {من يضلل الله فَلَا هادي لَهُ} . وَفِي رِوَايَة فَلَمَّا قَالَ عمر: {يضل الله من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء} . نفض الجاثليق ثَوْبه كَهَيئَةِ الْمُنكر لذَلِك.
فَقَالَ عمر: مَا يَقُول؟ فكرهوا أَن يذكرُوا لَهُ الَّذِي عَنى بذلك. ثمَّ عَاد عمر فَقَالَ ذَلِك. فَفعل الجاثليق مثلهَا. فَقَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ -: مَا يَقُول؟ فَقيل: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ يزْعم أَن الله لَا يضل أحدا. فَقَالَ عمر: كذبت يَا عَدو الله، بل(2/61)
الله خلقك وَهُوَ أضلك وَهُوَ يدْخلك النَّار إِن شَاءَ الله. أما وَالله لَوْلَا ولث عقد لَك لضَرَبْت عُنُقك. إِن الله عز وَجل حِين خلق الْخلق، خلق أهل الْجنَّة وَمَا هم عاملون، وَخلق أهل النَّار وَمَا يعْملُونَ، ثمَّ قَالَ: هَؤُلَاءِ لهَذِهِ وَهَؤُلَاء لهَذِهِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ: فَتَفَرَّقَ النَّاسُ وَهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي الْقَدَرِ.
فصل
قد تمسك أهل الْقدر بآيَات جهلوا مَعَانِيهَا وَحملُوهَا عَلَى غير وجوهها وجعلوها ذَرِيعَة لبدعتهم، وأهوائهم، ومعانيها عِنْد أهل الْحق ظَاهِرَة عَلَى مَا يُوَافق العقائد الصَّحِيحَة مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمن نَفسك}
وَفِي قِرَاءَة عبد الله: وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة فَمن نَفسك وَأَنا كتبتها عَلَيْك وَقيل فِي التَّفْسِير: القَوْل هُنَا مُضْمر كَأَنَّهُ قَالَ: وَيَقُولُونَ: مَا أَصَابَك من حَسَنَة فَمن الله وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة فَمن نَفسك ".(2/62)
وَيدل عَلَى هَذَا قَوْله تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ من عِنْد الله فَمَا لهَؤُلَاء الْقَوْم لَا يكادون يفقهُونَ حَدِيثا} .
وَقيل نزلت عَلَى سَبَب: وَهُوَ مَا فعل الرُّمَاة يَوْم أحد من إخلالهم بِالْمَكَانِ الَّذِي أَمرهم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بملازمته. فالحسنة مَا أَصَابُوا من الْقَتْل والسبي والغنائم من الْكفَّار. والسيئة مَا أُصِيب مِنْهُم من الْقَتْل وَالْجرْح.
وَنحن إِن جعلنَا أَفعَال الْعباد من الله خلقا ومشيئة وتقديرا فَهِيَ من الْعباد فعل وَكسب. وَبِهَذَا الْمَعْنى صحت إِضَافَة الْأَفْعَال إِلَى الْعباد وتحققت مِنْهُم الْأَعْمَال.(2/63)
وَقد ورد فِي الْكتاب الدَّلَائِل عَلَى كل وَاحِد من هذَيْن، فاتبعنا الْقُرْآن وجرينا مَعَه بِمَا دلّ عَلَيْهِ من أَن الْأَعْمَال مخلوقة لله تَعَالَى مكتسبة من الْعباد.
فالآية الأولى وَهِي قَوْله: {كل من عِنْد الله} دلّت عَلَى أَنَّهَا من الله خلقا وتقديرا وَقَضَاء.
وَالْآيَة الثَّانِيَة دلّت عَلَى أَنَّهَا من الْعباد كسبا وفعلا. وعَلى هَذَا يحمل جَمِيع مَا ورد فِي الْقُرْآن من تَحْقِيق أَعمال الْعباد، وَإِثْبَات أفعالهم، وإضافتها إِلَيْهِم.
وَكَذَلِكَ مَا ورد فِي الْقُرْآن من ذكر الْجَزَاء عَلَى الطَّاعَات، وَالْعِقَاب عَلَى الْمعاصِي. إِنَّمَا صَحَّ إِطْلَاق هَذَا اللَّفْظ وَإِن كَانَ مَا يَفْعَله مَحْض الْفضل عَلَى مَا نطق بِهِ الْكتاب. قَالَ الله تَعَالَى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أحلنا دَار المقامة من فَضله} . وَقَالَ: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زكى مِنْكُم من أحد أبدا}(2/64)
39 - وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا مِنْكُم من أحد ينجيه عمله قَالُوا: وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله قَالَ: وَلَا أَنا، إِلَّا أَن يتغمدني الله برحمته ".
وَقَالُوا: إِذا جعلنَا أَفعَال الْعباد مخلوقة لله - تَعَالَى - لم يُمكن تَحْقِيق أَفعَال الْعباد وأعمالهم، لِأَن الْفِعْل الْوَاحِد لَا يتَصَوَّر من فاعلين.
وَكَذَلِكَ ذكر الْجَزَاء عَلَى الْأَعْمَال: دَلِيل عَلَى أَن أَفعَال الْعباد بأجمعها منسوبة إِلَى الْعباد، وَلَيْسَ لله تَعَالَى فِيهَا صنع وَلَا خلق. لِأَن الْجَزَاء إِنَّمَا يكون من الْمجَازِي عَلَى فعل الْغَيْر لَا عَلَى فعل نَفسه - وَهل يتَصَوَّر فِي الْفِعْل أَن يتوعد أحد أحدا عَلَى فعل نَفسه، أَو يثيبه عَلَى فعل نَفسه؟
وَقَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَضَلَّهُ الله على علم} . أَي وجده ضَالًّا. أَو سَمَّاهُ ضَالًّا. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {أَغْفَلنَا قلبه عَن ذكرنَا} أَي وَجَدْنَاهُ ضَالًّا. وَلَهُم تأويلات بعيدَة مُنكرَة.(2/65)
وَقَوْلهمْ: لَا يجوز فعل من فاعلين فَالَّذِي يعْتَمد عَلَيْهِ أَرْبَاب الدّين وَالسّنة ويعولون عَلَيْهِ أصلان:
أَحدهمَا: أَن يعلم ويعتقد أَن فِي الدّين أمورا يلْزمنَا الْإِيمَان بجملتها وَلَا يَصح وصولنا إِلَى تَفْصِيل حقائقها، وسبيلنا أَن ننتهي إِلَى مَا حد لنا فِيهِ، وَأَن نرد الْأَمر إِلَى مَا ورد من التَّوْقِيف من أَحْكَامهَا.
قَالَ بعض الْعلمَاء: إِذا انْتهى الْكَلَام إِلَى الله، وَإِلَى مَا تفرد بِهِ من الْعلم، فَلَيْسَ إِلَّا الِانْتِهَاء والتوقيف.
وَالْأَصْل الآخر: أَن يعلم أَنه لَيْسَ مَا لَا يُدْرِكهُ الْعقل فَلَا يجوز اعْتِقَاده فِي الدّين، وَقد غلط النَّاس فِي هَذَا غَلطا عَظِيما، فجلعوا مَا يعجز الْعقل عَن الْإِحَاطَة بِهِ مستحيلا فِي بَاب الدّين، وَقَالُوا: لَا يجوز أَن يعْتَقد إِلَّا مَا يُدْرِكهُ الْعقل.
وَإِنَّمَا قَول أهل السّنة: أَن مَا لَا يُدْرِكهُ الْعقل فَمن حَقه التَّوْقِيف وتفويض علمه إِلَى الله تَعَالَى، وَترك الْخَوْض فِيهِ، وَلَا نقُول إِنَّه يعرض على(2/66)
ميزَان الْعُقُول فَإِن استقام قبل، وَإِلَّا طرح، فَهَذَا مَذْهَب من يَبْنِي دينه عَلَى الْمَعْقُول.
فَأَما من جعل أساس دينه الِاتِّبَاع فَإِنَّمَا طَرِيقه مَا بَيناهُ، وَإِذا عرفت هذَيْن الْأَصْلَيْنِ فَلَا تغفل عَنْهُمَا فِي شَيْء مِمَّا يُورِدهُ أهل الْبِدْعَة، فَإِن الْجَواب عَن مَا يوردونه مَعَ إحكام هذَيْن الْأَصْلَيْنِ سهل.
وَبَيَان هَذَا السُّؤَال الَّذِي أوردهُ أَنا عرفنَا أَن الْأَفْعَال الَّتِي يَفْعَلهَا الْعباد مخلوقة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْكتاب وَالسّنة، وَعلمنَا أَنَّهَا مكسوبة للعباد بِالْكتاب وَالسّنة، فوقفنا حَيْثُ وقف بِنَا الشَّرْع، وَلم نتجاوز الْحَد الَّذِي ضربه لنا، وَلم نعارضه بكيف، وَلَا لم؟
وَهَذَا هُوَ حَقِيقَة حد الْعُبُودِيَّة، والطواعية من العَبْد للخالق، فَإِنَّهُ لَا مُعَارضَة للمملوك عَلَى الْمَالِك وَلَا للْعَبد عَلَى السَّيِّد، وَإِنَّمَا سَبيله الِامْتِثَال،(2/67)
وَالْقَبُول، والرب يفعل مَا يَشَاء.
فصل
وَأما الْجَواب عَن قَوْلهم فِي قَوْله تَعَالَى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} الْآيَة. فَلَا تعلق لَهُم بِهَذِهِ الْآيَة.(2/68)
لِأَن الْكفَّار إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيل الِاسْتِهْزَاء وَترك التَّصْدِيق، فكذبهم فِي قَوْلهم كَمَا كذب الْمُنَافِقين فِي شَهَادَتهم. وَقَول الْمُنَافِقين إِن مُحَمَّدًا رَسُول الله كَانَ حَقًا، وَلَكِن لما لم يكن مَعَه تَصْدِيق الْقُلُوب قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} . كَذَلِك الْأَشْيَاء كلهَا بِمَشِيئَة الله تَعَالَى، وَلَكِن لما قَالَ هَؤُلاءِ عَلَى طَرِيق الِاسْتِهْزَاء كذبهمْ الله تَعَالَى.
وَأما قَوْلهم فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هدَاهُم} فَلَا حجَّة لَهُم فِيهَا. لِأَن هَذِهِ الْآيَة خرجت عَلَى سَبَب وَهُوَ: أَنه لما نزل تَحْرِيم الْخمر، وشدد فِيهَا، سَأَلُوا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَمَّن مَاتَ وَهُوَ يشْربهَا؟ فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هدَاهُم}
وَأما قَوْله تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا} فالآية: خرجت عَلَى بَيَان أَن الأعدل والأبلغ أَن يبْعَث إِلَى كل خلق من جنسهم، فَأكْثر مَا فِيهِ: هُوَ التبكيت والتعيير فِي ترك الْأَمر.(2/69)
وَنحن وَإِن قُلْنَا إِن أَفعَال العَبْد من الله خلقا وتقديرا، وَمن الْعباد كسبا وفعلا. وَبِهَذَا الْمَعْنى توجه الْأَمر، وَإِذا صَحَّ توجه الْأَمر صَحَّ التبكيت والتعيير، وإلزام الْعقُوبَة بترك الْأَمر.(2/70)
بَاب فِي ذكر الْوَعْد، والوعيد(2/71)
40 - أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عبد الْغفار، أَنا أَبُو بكر بْن أَبِي نصر، نَا أَبُو الشَّيْخ، نَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى السَّاجِيُّ، وَأَبُو حَفْصٍ السُّلَمِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى. قَالُوا: نَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، نَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي حَزْمٍ، نَا ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ وَعَدَهُ اللَّهُ عَلَى عَمَلِهِ ثَوَابًا فَهُوَ مُنْجِزُهُ لَهُ، وَمَنْ أَوْعَدَهُ عَلَى عَمَلِهِ عِقَابًا فَهُوَ فِيهِ بِالْخِيَارِ ".
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخ، نَا مُحَمَّد بن حَمْزَة نَا أَحْمَد بن الْخَيل نَا الْأَصْمَعِي قَالَ: جَاءَ عَمْرو بن عبيد إِلَى عَمْرو بن الْعَلَاء فَقَالَ: يَا(2/72)
أَبَا عَمْرو؟ ويخلف الله مَا وعده؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَرَأَيْت من أوعده الله عَلَى عمل عقَابا، أيخلف الله وعده فِيهِ؟ فَقَالَ: أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: من العجمة أتيت يَا أَبَا عُثْمَان. إِن الْوَعْد غير الْوَعيد. إِن الْعَرَب لَا تعد عاراً وَلَا خلفا أَن تعد شرا، ثمَّ لَا تَفْعَلهُ. ترى ذَلِكَ كرما وفضلا.
وَإِنَّمَا الْخلف أَن تعد خيرا ثمَّ لَا تَفْعَلهُ. قَالَ: فأوجدني هَذَا فِي كَلَام الْعَرَب؟ قَالَ: نعم. أما سَمِعت إِلَى قَول الأول:
(وَلَا يرهب ابْن الْعم مَا عِشْت صولتي ... وَلَا أَنا أخْشَى صولة المتهدد)
(وَإِنِّي وَإِن أوعدته، ووعدته ... لمخلف ميعادي، ومنجز موعدي)
قَالَ أَبُو الشَّيْخ: حكى لي عَن يحيي بن معَاذ قَالَ: الْوَعْد والوعيد حق. فالوعد حق الْعباد عَلَى الله، ضمن لَهُم إِذا فعلوا كَذَا أَن يعطيهم كَذَا.(2/73)
وَمن أولى بِالْوَفَاءِ من الله. الْوَعيد حَقه عَلَى الْعباد، قَالَ: لَا تَفعلُوا كَذَا فأعذبكم، فَفَعَلُوا فَإِن شَاءَ عَفا، وَإِن شَاءَ أَخذ لِأَنَّهُ حَقه وأولاهما بربنا تبَارك وَتَعَالَى الْعَفو وَالْكَرم إِنَّه غَفُور رَحِيم.
وَمِمَّا يدل عَلَى ذَلِكَ وَيُؤَيِّدهُ، خبر كَعْب بن زُهَيْر حِين أوعده رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فحين جَاءَهُ تَائِبًا عَفا عَنهُ، وَكَانَ فِي عَفوه دَلِيل أَن إِطْلَاقه القَوْل كَانَ باستثناء، وَإِن لم يكن ذَلِكَ مسموعا مِنْهُ، لِأَن ذَلِكَ لَو لم يكن كَذَلِك كَانَ يُؤَدِّي إِلَى الْكَذِب، وحاشى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من ذَلِكَ. وَفِيه يَقُول كَعْب بن زُهَيْر:
(أنبئت أَن رَسُول الله أوعدني ... وَالْعَفو عِنْد رَسُول الله مأمول)
فَأخْبر أَنه قد أوعد ثمَّ رجا مِنْهُ الْعَفو. وَفِي ذَلِكَ دَلِيل عَلَى أَن ذَلِكَ لم يكن عِنْد الْعَرَب خلفا، إِذْ كَانَ فِي بَاطِنه اسْتثِْنَاء. وَكَذَلِكَ سَبِيل آي الْوَعيد عندنَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.(2/74)
فصل
أَخْبَرَنَا أَحْمَد، أَنا أَبُو بكر، نَا أَبُو الشَّيْخِ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَمْرو نَا رستة. قَالَ سَمِعت عبد الرَّحْمَن يَقُول: سَأَلَ الْفضل بن غَانِم، سُفْيَان عَن الْجَبْر فَقَالَ: جبر الله الْعباد عَلَى الْمعاصِي. فَغَضب سُفْيَان من ذَلِكَ. وَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا الْجَبْر، وَلَكِنِّي أَقُول لم يجد من إِتْيَانه بدا. فَقَالَ عبد الرَّحْمَن: الْمَعْنى وَاحِد وَهَذَا أحسن.(2/75)
قَالَ، وَأَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخ، أَنا حَامِد بن شُعَيْب الْبَلْخِي، نَا مُحَمَّد بن بكار نَا أَبُو معشر، عَن مُحَمَّد بن كَعْب قَالَ: إِنَّمَا تسمى الْجَبَّار لِأَنَّهُ يجْبر الْخلق عَلَى مَا أَرَادَ.
قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخ، نَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، نَا عَبْدُ الله بن أَحْمَد، نَا أَبِي، نَا عبد الصَّمد، نَا حَمَّاد، نَا حميد قَالَ: قدم الْحسن مَكَّة فَقَالَ لَهُ رجل: يَا أَبَا سَعِيد، من خلق الشَّيْطَان؟ قَالَ: سُبْحَانَ الله: هَل من خَالق غير الله؟ ثمَّ قَالَ: إِن الله خلق الشَّيْطَان، وَخلق الشَّرّ، وَخلق الْخَيْر. فَقَالَ شيخ مِنْهُم: قَاتلهم الله يكذبُون عَلَى الشَّيْخ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَحْمَد، نَا عبد الله أَحْمَد، نَا أَبِي، نَا ابْن علية، نَا خَالِد الْحذاء قَالَ: قلت لِلْحسنِ: أَرَأَيْت آدم خلق للجنة أم للْأَرْض؟ قَالَ:(2/76)
للْأَرْض قَالَ: قلت لِلْحسنِ: أَرَأَيْت لَو اعْتصمَ؟ قَالَ: لم يكن بُد من أَن يَأْتِي عَلَى الْخَطِيئَة.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَحْمَد، نَا عبد الله، نَا أَبِي، نَا إِبْرَاهِيم بن خَالِد، نَا رَبَاح قَالَ: سَأَلت عمر بن حبيب عَن قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فليكفر} . فَقَالَ: حَدَّثَنِي دَاوُد بن نَافِع أَن مُجَاهدًا كَانَ يَقُول: فَمن شَاءَ فليؤمن وَمن شَاءَ فليكفر " فَلَيْسَ بمعجزي ". وَيَقُول: وَعِيد من الله عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَحْمَد، نَا عبد الله، عَن حوثرة بن أَشْرَس قَالَ: سَمِعت سَلاما أَبَا الْمُنْذر غير مرّة يَقُول: سلوهم عَن الْعلم. هَل علم أَو لم يعلم؟ فَإِن قَالُوا: قد علم. فَلَيْسَ فِي أَيْديهم شَيْء. وَإِن قَالُوا: لم يعلم، فقد حلت دِمَاؤُهُمْ.(2/77)
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، نَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّد القَاضِي، نَا مسيح ابْن حَاتِم، نَا أَبُو عُثْمَان الْمَازِني قَالَ: كَانَ بمرو حمال يحمل القت، وَكَانَ يَقُول: أَلا تجمع بيني وَبَين النظام، كلما مر بِي يَقُول هَذَا، فَمر بِي يَوْمًا والنظام عِنْدِي فَقلت للنظام: قد آذَانِي هَذَا مِمَّا يَقُول لي: اجْمَعْ بيني وَبَين النظام، فَقلت لَهُ: هَذَا النظام. فَطرح الكارة، ثمَّ جَاءَ إِلَى النظام فَقَالَ: سل. فَقَالَ لَهُ النظام ": كلف الله الْعباد مَا لَا يُطِيقُونَ؟ فَقَالَ لَهُ الْحمال: كلفهم مَا لَا يطيقُونَهُ إِلَّا بِهِ. قَالَ: فَانْقَطع النظام وَمضى الْحمال. فَقَالَ النظام: مَا دَريت وَالله أَي شَيْء أرد عَلَيْهِ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخ، نَا أَحْمَد بن مُحَمَّد بن حَكِيم، نَا عبد الْعَزِيز ابْن عمرَان. قَالَ: سَمِعت أَبَا يحيى مُحَمَّد بن عبد الله بن الْمقري قَالَ: سَمِعت أَبِي يَقُول: كَانَ غيلَان يَشْتَهِي أَن يلقى إياسا وَكَانَ إِيَاس يَشْتَهِي أَن يلتقي مَعَ غيلَان. فاجتمعا بمنى فتكلما. فَقَالَ غيلَان: أَنْت إِيَاس، وَقَالَ إِيَاس:(2/78)
أَنْت غيلَان. فَقَالَ إِيَاس. أَسأَلك عَن مَسْأَلَة وَاحِدَة وتسألني عَن مائَة مَسْأَلَة. فَقَالَ لَهُ أَصْحَابه: قد أنصفك. قَالَ: فسلني. قَالَ أَخْبَرَنِي مَا خير شَيْء ذكر الله فِي الْإِنْسَان؟ قَالَ: الْعقل. قَالَ: فمقسوم هُوَ أم مُبَاح؟ فَسكت فَلم يجبهُ. فَقَالَ لَهُ أَصْحَابه: أجبه. فَقَامَ وَلم يجبهُ. فَقَالَ: وَيْلكُمْ أَتَدْرُونَ عَن أَي شَيْء سَأَلَني. إِن قلت: مُبَاح. قَالَ: فَمَا لَك لَا تَأْخُذهُ كُله، وَإِن قلت: مقسوم، رجعت إِلَى قَوْله.
وَقَالَ عَليّ بن ميثم: كَانَ رجل يخدمنا وَكَانَ قدريا، فغاظني يَوْمًا فَقلت لَهُ: يَأْمر الله بِشَيْء لَا يُريدهُ؟ قَالَ: معَاذ الله. قلت أَمر الله إِبْرَاهِيم أَن يذبح إِسْمَاعِيل؟ قَالَ: نعم. قلت: فأراده - يَعْنِي الذّبْح - فَسكت. فَكَانَ لَا يخدمني بعد ذَلِكَ.
وَقَالَ عبد الْجَبَّار: كَانَ قثم علىالبصرة يَشْتَهِي أَن يجمع بَين أَبِي الْهُذيْل وَعلي بن ميثم، فاجتمعا يَوْمًا. فَقَالَ لَهُ عَليّ بن ميثم: أَخْبَرَنِي عَن(2/79)
الْعقل مُبَاح أَو مَحْظُور؟ فَقَالَ: أَي شَيْء هَذِهِ الْمَسْأَلَة؟ فَقَالَ قثم: سَأَلَك عَن مَسْأَلَة فَلم تجبه، فَقَالَ: بِأَيّ شَيْء كنت أُجِيبهُ؟ إِن قلت لَهُ مَحْظُور، كنت قد تابعته، وَإِن قلت لَهُ مُبَاح قَالَ: كنت تَأْخُذ الْعقل كُله، وَتَدَع النَّاس.(2/80)
بَاب فِي بَيَان اسْتِوَاء الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْعَرْش
قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ {الرَّحْمَنُ على الْعَرْش اسْتَوَى}(2/81)
وَقَالَ فِي آيَة أُخْرَى {وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض} . وَقَالَ: {الْعلي الْعَظِيم} . وَقَالَ {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} .
40 - وروى أَنه لما نزلت هَذِهِ الْآيَة قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اجْعَلُوهَا فِي سُجُودكُمْ ".
قَالَ أهل السّنة: الله فَوق السَّمَاوَات لَا يعلوه خلق من خلقه، وَمن الدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ: أَن الْخلق يشيرون إِلَى السَّمَاء بأصابعهم، ويدعونه ويرفعون إِلَيْهِ أَبْصَارهم.(2/82)
وَقَالَ عز وَجل: {وَهُوَ القاهر فَوق عباده} . وَقَالَ عزوجل: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء أَن يُرْسل عَلَيْكُم حاصبا} وَالدَّلِيل على ذَلِك الْآيَات الَّتِي فِيهَا ذكر إِنْزَال الْوَحْي.
فصل فِي بَيَان أَن الْعَرْش فَوق السَّمَاوَات وَأَن الله عَزَّ وَجَلَّ فَوق الْعَرْش(2/83)
41 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا وَالِدِي أَبُو عبد الله، أَنا أَحْمد ابْن إِسْحَاقَ بْنِ أَيُّوبَ، نَا مُوسَى بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبَّادٍ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، نَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَمَّا قَضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي ".
42 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاذٍ نَا حَامِدُ بْنُ مَحْمُودٍ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدُّشْتُكِيُّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ:
وَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَيُّوبَ، نَا يَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ الْقَزْوُينِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ:
وَأَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ سَابِقٍ قَالُوا: نَا عَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرَةَ عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا فِي الْبَطْحَاءِ فِي عِصَابَة، وَرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَالِسٌ إِذْ مَرَّتْ سَحَابَةٌ(2/84)
فنظروا إِلَيْهَا. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هَلْ تَدْرُونَ مَا اسْمُ هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. هَذِه السحابة. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والمزن. قَالُوا: والمزن. فَقَالَ رَسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: والعنان. قَالُوا: والعنان. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: كَمْ بُعْدُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ؟ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَدْرِي. قَالَ: فَإِنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَهُمَا إِمَّا وَاحِدٌ وَإِمَّا اثْنَانِ وَإِمَّا ثَلاثَةٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً. وَالسَّمَاءُ الثَّانِيَةُ فَوْقَهَا، كَذَلِكَ حَتَّى عد سبع سماوات ثُمَّ قَالَ: وَمَا فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَحْرٌ أَعْلاهُ وَأَسْفَلُهُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ. ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ أَوْ عالٍ مَا بَيْنَ أَظْلافِهِنَّ وَرُكَبِهِنَّ كَمَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ. ثُمَّ فَوْقَ ظُهُورِهِنَّ الْعَرْشُ، بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلاهُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ. وَاللَّهُ فَوْقَ ذَلِكَ.
43 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، نَا أَبُو بكر ابْن إِسْحَاقَ النَّيْسَابُورِيُّ، نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ، نَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو، نَا عَبْدُ الله ابْن وَهْبٍ الْمِصْرِيُّ، أَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئٍ الْخَوْلانِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلائِقِ قَبْلَ أَنْ يخلق السَّمَاوَات وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى المَاء.(2/85)
44 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بن إِسْحَاق، نَا بشر ابْن مُوسَى، نَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو الأَزْدِيُّ، نَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ. ثُمَّ دَخَلْتُ فَأَتَاهُ نَفَرٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ. قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا. فَجَاءَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا إِخْوَانُكُمْ بَنُو تَمِيمٍ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَتَيْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَنَسْأَلَكَ عَنْ بُدُوِّ هَذَا الأَمْرِ كَيْفَ كَانَ؟ فَقَالَ: كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرَهُ.(2/86)
وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ.
فصل
قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْض} وَقَالَ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يرفعهُ}
45 - أخبرن أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ نَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، أَنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنا مَعْمَرُ بْنُ رَاشد، عَن همام(2/87)
ابْن مُنَبِّهٍ. قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْمَلائِكَةُ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ، وَصَلاةِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ الَّذِينَ فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ قَالُوا: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ ".
46 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ نَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نَا شُعْبَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث إِلَى سعد ابْن مُعَاذٍ فِي أَمْرِ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَجَاءَ سَعْدٌ على حمَار قد كَادَت رِجْلَاهُ تثقلان الأَرْض. فَلَمَّا رَآهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لأَصْحَابِهِ: " قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ ". فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ هَؤُلاءِ قَدْ رَضَوْا بِحُكْمِكَ فَاحْكُمْ فِيهِمْ " فَقَالَ " أحكم فيهم أَن يقتل مقاتلهم، وَأَن يسبى ذَرَارِيهمْ.
فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ حكم الْملك ".(2/88)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَرَوَى عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَرَ بْنِ شُعْبَةَ فَقَالَ: لَقَدْ حَكَمْتَ بِحكم الْملك من فَوق سبع سماوات.
47 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَيُّوبَ، نَا مُوسَى بْنُ الْحَسَنِ النَّسَائِيُّ، نَا عَفَّانُ، نَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بن زِيَاد، نَا عمَارَة ابْن الْقَعْقَاعِ، نَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ، نَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعَثَ إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَهَبٍ فَقَسَمَهَا. فَقَالَ رَجُلٌ: كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا. فَبلغ ذَلِك النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " أَلا تَأْمَنُونِّي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاء. يأتيني خبر السَّمَاء صباحاً ومساءاً ".
48 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بن مُحَمَّد ابْن إِبْرَاهِيمَ نَا حَامِدُ بْنُ سَهْلٍ، نَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، نَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لِلَّهِ مَلائِكَةٌ سَيَّارَةٌ يَبْتَغُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ. فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ حَتَّى يَمْلَئُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا. فَإِذَا تَفَرَّقُوا صَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ(2/89)
فَيَسْأَلُهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْ حَيْثُ جَاءُوا. مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِي الأَرْضِ يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيُهَلِّلُونَكَ، وَيَسْأَلُونَكَ. قَالَ: مَاذَا يَسْأَلُونِّي؟ قَالُوا: يَسْأَلُونَ جَنَّتَكَ. قَالَ: فَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: لَا يَا رَبِّ. قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جنتي؟ قَالُوا ويستجيرونك. قَالَ وَمِمَّا يستجيرونني؟ قَالُوا: مِنْ نَارِكِ. قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: لَا يَا رَبِّ. قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَغْفِرُونَكَ. قَالَ: فَيَقُولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ وَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا، وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا. قَالَ: فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ فِيهِمْ فُلانٌ عَبْدُكَ خَطَّاءٌ. إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ. قَالَ: فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ، هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ ".
فصل
49 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بن عبد الْوَهَّاب، أَنا أَبُو الْحسن ابْن عبد كويه، نَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ الطَّبَرَانِيُّ، نَا معَاذ بن الْمثنى نَا مُحَمَّد ابْن كَثِيرٍ، نَا أَبُو عَوَانَةَ.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: نَا مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ الأَزْدِيُّ، نَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، نَا زَائِدَةُ.(2/90)
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، نَا عَلِيُّ بْنُ بَهْرَامَ نَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي كَرِيمَةَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْأَدْنَى، نَا أَبُو أَحْمَدَ الْخَشَّابُ التِّنِّيسِيُّ، نَا مُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ شُعْبَةَ. كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: وَحَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَائِلَةَ الأَصْبَهَانِيُّ، نَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَمْرٍو الْبَجَلِيُّ، نَا أَبُو الْمُعَلَّى الْكُوفِيُّ، عَنِ الْمنْهَال بن عَمْرو، عَن زَاذَان أبي عمر، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: خرجنَا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ. قَالَ: فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يَلْحَدْ. قَالَ: فَجَلَسَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَجَلَسْنَا حوله كَأَن على رؤوسنا الطير، وَفِي يَده عود ينكت بِهِ فِي الأَرْضَ. قَالَ: فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: " اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ". مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا. ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَإِقْبَالٍ مِنَ الآخِرَةِ نَزَّلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلائِكَةً مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُونَ مِنْهُ مد الْبَصَر. ثمَّ يَجِيء ملك الْمَوْت - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطّيبَة(2/91)
اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ. قَالَ: فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ. قَالَ: فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا، لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلإٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِلا قَالُوا: مَا هَذِهِ الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: فُلانُ بْنُ فُلانٍ بِأَحْسَن أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يسمونه بهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى ينتهون بهَا إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُ، فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كل سَمَاء مقربوها إِلَى السَّمَاء الَّتِي يَليهَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ. فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الأَرْضِ فَإِنَّا مِنْهَا خَلَقْنَاهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى. فَقَالَ: فَيُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ. فَيَقُولُ: رَبِّي اللَّهُ. فَيَقُولانِ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِي الإِسْلامُ، فَيَقُولانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُول: هُوَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُهُ. قَالَ: فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي. فَأَفْرِشُوهُ مِنَ(2/92)
الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ. وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ. قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رُوحِهَا وَمِنْ طِيبِهَا. قَالَ: وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ. فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ. فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالح. قَالَ: فَيَقُول: رب أقِم السَّاعَة. رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي.
وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَإِقْبَالٍ مِنَ الآخِرَةِ نَزَّلَ إِلَيْهِ مَلائِكَةٌ سُودُ الْوَجْهِ مَعَهُمُ الْمُسُوحُ. قَالَ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْت - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ. قَالَ: فتنطوي فِي جسده. قَالَ: فلينتزعها كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ. فَتُقْطَعُ مِنْهَا الْعُرُوقُ وَالْعَصَبُ. قَالَ: فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا، لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُونَهَا، فَيَجْعَلُونَهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ، فَيَخْرُجُ مِنْهَا كأنتن ريح جيفه وجدت على وَجه الأَرْضِ. قَالَ: فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلا يَمُرُّونَ بِمَلإٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِلا قَالُوا: مَا هَذِهِ الرُّوحُ الْخَبِيثَةُ؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: فُلانُ بْنُ فُلانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى(2/93)
بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلا يُفْتَحُ لَهُ ". . ثمَّ قَرَأَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} .
قَالَ: " فَيَقُولُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الأَرْضِ السُّفْلَى قَالَ: فَيُطْرَحُ عَلَى وَجْهِهِ طَرْحًا " ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَان سحيق} .
قَالَ: " فَيُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي. فَيَقُولانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي. فَيَقُولانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي. فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ. فَأَفْرِشُوهُ مِنَ النَّارِ. وَأَلْبِسُوهُ مِنَ النَّارِ. وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا مِنَ النَّارِ، قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا قَالَ: وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِي أَضْلاعِهِ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ(2/94)
الثِّيَاب منتن الرّيح، فَيَقُول: أبشر بِالَّذِي يسؤك، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ. فَيَقُولُ مَنْ أَنْتَ: فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ. فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ. فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ، رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ ".(2/95)
50 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، نَا خَيْرُ بْنُ عَرَفَةَ الْمِصْرِيُّ، نَا عُرْوَةُ بْنُ مَرْوَانَ الرَّقِّيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْحَرَّانِيُّ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا فِي جِنَازَةِ رجل من الْأَنْصَار ومعنا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمْ يَلْحَدْ، وَوُضِعَتِ الْجِنَازَةُ فَجَلَسَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَنْشَأَ يُحَدِّثُ: " إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا احْتَضَرَ أَتَاهُ ملك فِي أحسن صُورَة وأطيبه رِيحًا، وَجَلَسَ عِنْدَهُ لِقَبْضِ رُوحِهِ، وَأَتَاهُ مَلَكَانِ بِحَنُوطٍ مِنَ الْجَنَّةِ، وَكَفَنٍ مِنَ الْجَنَّةِ، فَكَانَا مِنْهُ غير بعيد، فيستخرج ملك الْمَوْت - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رُوحَهُ مِنْ جَسَدِه رَشْحًا، فَإِذَا صَارَتْ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ ابْتَدَرَهَا الْمَلَكَانِ فَأَخَذَاهَا مِنْهُ، فَحَنَّطَاهَا بِحَنُوطٍ مِنَ الْجَنَّةِ وَكَفَّنَاهَا بِكَفَنٍ مِنَ الْجَنَّةِ، ثُمَّ عَرَجَا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَيُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَيَسْتَبْشِرُ الْمَلائِكَةُ بِهَا، وَتَقُولُ: لِمَنْ هَذِهِ الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ الَّتِي فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَيُسَمَّى بِأَحْسَنِ الأَسْمَاءِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا. وَيُقَالُ: هَذِهِ رُوحُ فُلانٍ فَإِذَا صُعِدَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ شَيَّعَهَا مُقَرَّبُو كُلِّ سَمَاءٍ حَتَّى تُوضَعَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تبَارك وتعال عِنْدَ الْعَرْشِ فَيَخْرُجُ عَمَلُهَا مِنْ عِلِّيِّينَ فَيَقُولُ الله عزوجل لِلْمُقَرَّبِينَ: اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِصَاحِبِ هَذَا الْعَمَلِ، وَيُخْتَمُ كِتَابُهُ فَيُرَدُّ فِي عِلِّيِّينَ، ثُمَّ يَقُول الله عزوجل: رُدُّوا رُوحَ عَبْدِي إِلَى الأَرْضِ فَأَنَّى وَعَدْتُهُمْ أَن(2/96)
أردهم فِيهَا "، ثمَّ قَرَأَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}
وَإِذَا وُضِعَ الْمُؤْمِنُ فِي لَحْدِهِ فُتِحَ لَهُ بَابٌ عِنْدَ رِجْلَيْهِ فَيُقَالُ لَهُ انْظُرْ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ مِنَ الثَّوَابِ، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ عِنْدَ رَأْسِهِ إِلَى النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا صَرَفَ اللَّهُ عَنْكَ مِنَ الْعَذَابِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: نَمْ قَرِيرَ الْعَيْنِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ قِيَامِ السَّاعَة ".
51 - وَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا وُضِعَ الْمُؤْمِنُ فِي لَحْدِهِ، تَقُولُ لَهُ الأَرْضُ: إِنْ كُنْتَ لَحَبِيبًا إِلَيَّ وَأَنْتَ عَلَى ظَهْري، فَكيف إِذْ صِرْتَ الْيَوْمَ فِي بَطْنِي سَأُرِيكَ مَا أَصْنَعُ بك، فينفسخ لَهُ قَبْرُهُ مَدَّ بَصَرِهِ ".
52 - وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا وُضِعَ الْكَافِرُ فِي قَبْرِهِ أَتَاهُ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ فَأَجْلَسَاهُ فَيَقُولانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي. فَيَقُولانِ لَهُ: لَا دَرَيْتَ. فَيَضْرِبَانِهِ ضَرْبَةً فَيَصِيرُ رَمَادًا، ثُمَّ يُعَادُ فَيَجْلِسُ، فَيَقُولانِ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي. فَيَقُولانِ: لَا دَرَيْتَ، فَيَضْرِبَانِهِ ضَرْبَةً فَيَصِيرُ رَمَادًا. ثُمَّ يُعَادُ فَيَجْلِسُ فَيُقَالُ لَهُ: مَا قَوْلُكَ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: أَيُّ الرِّجَالِ؟ فَيَقُولانِ:(2/97)
مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: قَالَ النَّاسُ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، فَيَضْرِبَانِهِ ضَرْبَةً فَيَصِيرُ رَمَادًا، أَوْ قَالَ: رُمَامًا ".
53 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّبَرَانِيُّ، نَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ السَّدُوسِيُّ، نَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: وَحَدَّثَنَا الْمِقْدَامُ بْنُ دَاوُدَ الْمصْرِيّ، نَا أَسد ابْن مُوسَى قَالا: نَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ ابْن يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ الْمَيِّتَ تَحْضُرُهُ الْمَلائِكَةُ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قَالَ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ. اخْرُجِي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ.
قَالَ فَلا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ، ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيُسْتَفْتَحُ لَهَا. وَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فُلانٌ. فَيُقَالُ: مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ. ادْخُلِي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَلا يَزَالُ يُقَالُ ذَلِكَ حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.(2/98)
وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السُّوءُ قَالَ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ. اخْرُجِي ذَمِيمَةً وَأَبْشِرِي بِحَمِيمٍ، وَغَسَّاقٍ وَآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ. فَلا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا حَتَّى تَخْرُجَ، وَيُعْرَجُ بِهَا، فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُ: فُلانٌ. فَيُقَالُ: لَا مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الْخَبِيثَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ. ارْجِعِي ذَمِيمَةً فَإِنَّهُ لَا يُفْتَحُ لَكِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ فَتُرْسَلُ مِنَ السَّمَاءِ ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ ".
فصل
54 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ الشَّاذْيَاخِيُّ، أَنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّاذْيَاخِيُّ، أَنا أَبُو بَكْرٍ الْجَوْزَقِيُّ، نَا أَبُو الْعَبَّاسِ الدَّغُولِيُّ، نَا ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، نَا مُوسَى ابْن إِسْمَاعِيلَ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْحسن قَالَ: بلغنَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِحُصَيْنٍ: " مَا تَعْبُدُ؟ " قَالَ: عَشَرَةَ آلِهَةٍ قَالَ: " وَمَا هُمْ وَأَيْنَ هُمْ؟ " قَالَ: تِسْعَةٌ مِنْهُمْ فِي الأَرْضِ وَوَاحِدٌ فِي السَّمَاءِ. قَالَ: " فَمَنْ لِحَاجَتِكَ؟ " قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ. قَالَ: " فَمَنْ لِطِلْبَتِكَ؟ " قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ. قَالَ:(2/99)
" فَمَنْ لِكَذا "؟ كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ قَالَ: " فَأَلْغِ التِّسْعَةَ ". مَعْنَاهُ فَاتْرُكِ التِّسْعَةَ.
55 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ، نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ، نَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، نَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ الْمَيِّتَ تَحْضُرُهُ الْمَلائِكَةُ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قِيلَ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي جَسَدٍ طَيِّبٍ. اخْرُجِي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ. قَالَ: فَيَقُولُونَ ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ. فَإِذَا خَرَجَتْ عَرَجَتْ إِلَى السَّمَاءِ فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا، فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فُلانٌ. فَيُقَالُ: مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، ادْخُلِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ. فَيُقَالُ لَهَا: هَكَذَا حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ ... " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، وَأَسَدُ بْنُ مُوسَى.
56 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، نَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، نَا الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ هِلَال بْن أَبِي مَيْمُونَة، عَن عَطاء بْن يسَار، عَن مُعَاوِيَة بْن الحكم السّلمِيّ(2/100)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: - اطَّلَعْتُ غَنِيمَةً لِي - تَرْعَاهَا جَارِيَةٌ لِي فِي نَاحِيَةِ أُحُدٍ، فَوَجَدْتُ الذِّئْبَ قَدْ أَصَابَ مِنْهَا شَاةً، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ، فَصَكَكْتُهَا صَكَّةً، ثُمَّ انْصَرَفْتُ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرْتُهُ، فَعَظُمَ عَلَيَّ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلا أَعْتِقُهَا؟ قَالَ: " ائْتِنِي بِهَا "، فَأَتَيْتُ بهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لَهَا: " أَيْنَ اللَّهُ؟ " قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ قَالَ: " مَنْ أَنَا؟ " قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: " إِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ أَعْتِقْهَا ".
قَالَ الشَّيْخ حفظه الله: أخرج مُسلم هَذَا الحَدِيث فِي الصَّحِيح، وَرَوَاهُ عَن يَحْيَى بن أَبِي كثير جمَاعَة، وَرَوَاهُ مَالك بن أنس عَن هِلَال. إِلَّا أَنه قَالَ: عمر بن الحكم، وَالصَّوَاب مُعَاوِيَة بن الحكم.(2/101)
57 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّدُ بن يعقب، نَا الرّبيع ابْن سُلَيْمَانَ نَا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ قَالَ أَبُو عبد الله: وَأخْبرنَا عمر ابْن الرَّبِيعِ، نَا بُكَيْرُ بْنُ سَهْلٍ، نَا ابْنُ يُوسُفَ، نَا مَالِكٌ، عَنْ هِلالِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ الْحَكَمِ أَنه قَالَ: أتيت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُلْتُ: إِنَّ لِي جَارِيَةً كَانَتْ تَرْعَى لِي غَنَمًا، فَجِئْتُهَا فَفَقَدْتُ شَاةً مِنَ الْغَنَمِ فَسَأَلْتُهَا عَنْهَا فَقَالَتْ: أَكَلَهَا الذِّئْبُ فَأَسِفْتُ، وَكُنْتُ مِنْ بَنِي آدَمَ فَلَطَمْتُ وَجْهَهَا، وَعَلَيَّ رَقَبَةٌ أَفَأَعْتِقُهَا؟ فَقَالَ لَهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيْنَ اللَّهُ؟ " فَقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: " مَنْ أَنَا؟ " قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: " أَعْتِقْهَا ".(2/102)
قيل: هِلَال بن أُسَامَة، هُوَ هِلَال بن أَبِي مَيْمُونَة. وَقَالَ أَبُو عبد الله: فِي رِوَايَة مَالك، عَن عمر بن الحكم. وَإِنَّمَا هُوَ مُعَاوِيَة بن الحكم.
58 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زَكَرِيَّا وَأَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَيْرَانِيُّ قَالا: أَنا أَبُو عَبْدِ الله مُحَمَّد ابْن إِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرٍ الْيَزْدِيُّ، نَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّد بن يَعْقُوب الْأَصَم، نَا الرّبيع ابْن سُلَيْمَانَ الْمُرَادِيُّ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبِ بْنِ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيُّ، نَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ حَدَّثَنِي شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُحَدِّثُنَا عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ، أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ أَوَّلُهُمْ: أَهُوَ هُوَ؟ فَقَالَ وَسَطُهُمْ: هُوَ خَيْرُهُمْ. وَقَالَ آخِرُهُمْ. خُذُوا خَيْرَهُمْ: فَكَانَتْ تِلْكَ، فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى جَاءُوا لَيْلَةً أُخْرَى فِيمَا يرى قلبه، وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ، فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ فَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ فَتَوَلاهُ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ، فَشَقَّ جِبْرِيلُ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِهِ حَتَّى فَرَّجَ عَنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ حَتَّى أَنْقَى(2/103)
جَوْفَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ تور من ذهب محشواً إِيمَانًا وَحِكْمَةً، فَحَشَا بِهِ صَدْرَهُ وَجَوْفَهُ وَأَعَادَهُ ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَضَرَبَ بَابًا مِنْ أَبْوابِهَا، فَنَادَاهَ أَهْلُ السَّمَاءِ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ، قَالُوا: مَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قَالُوا: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا فَمَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلا، يَسْتَبْشِرُ بِهِ أَهْلُ السَّمَاءِ، لَا يَعْلَمُ أَهْلُ السَّمَاءِ بِمَا يُرِيدُ اللَّهُ فِي الأَرْضِ حَتَّى يُعْلِمَهُمْ. فَوَجَدَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا آدَمَ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: هَذَا أَبُوكَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ: مَرْحَبًا بِكَ وَأَهْلا يَا بُنَيَّ. فَنِعْمَ الابْنُ أَنْتَ، فَإِذَا هُوَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِنَهْرَيْنِ يَطَّرِدَانِ فَقَالَ مَا هَذَانِ النَّهْرَانِ يَا جِبْرِيلُ. قَالَ: هَذَا النِّيلُ وَالْفُرَاتُ عُنْصُرُهُمَا، ثُمَّ مَضَى بِهِ فِي السَّمَاءِ، فَإِذَا هُوَ بِنَهْرٍ آخَرَ عَلَيْهِ قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ فَذَهَبَ يَشُمُّ تُرَابَهُ، فَإِذَا هُوَ الْمِسْكُ. قَالَ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا النَّهْرُ؟ قَالَ هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي خَبَّأَ لَكَ رَبُّكَ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ. فَقَالَتْ لَهُ الْمَلائِكَةُ: مِثْلَ مَا قَالَتْ لَهُ فِي الأُولَى: مَنْ هَذَا مَعَك؟ قَالَ: مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالُوا: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: فَمَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلا، ثُمَّ(2/104)
عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَقَالَتْ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَتْ فِي الأُولَى وَالثَّانِيَةِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّادِسَةِ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ عَرَجَ بِهَ إِلَى السَّابِعَةِ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. وَكُلُّ سَمَاءٍ فِيهَا أَنْبِيَاءُ قَدْ سَمَّاهُمْ أَنَسٌ فَوَعِيتُ مِنْهُمْ إِدْرِيسَ فِي الثَّانِيَةِ، وَهَارُونَ فِي الرَّابِعَةِ، وآخَرَ فِي الْخَامِسَةِ لَمْ أَحْفَظِ اسْمَهُ، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ، وَمُوسَى فِي السَّابِعَةِ بِفَضْلِ كَلامِهِ اللَّهَ فَقَالَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلامُ -: لَمْ أَظُنَّ أَنْ يُرْفَعَ عَلَيَّ أَحَدٌ، ثُمَّ عَلا بِهِ فِيمَا لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ إِلا اللَّهُ، حَتَّى جَاءَ بِهِ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَدَنَا الْجَبَّارُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَيْهِ مَا شَاءَ. فَأَوْحَى إِلَيْهِ فِيمَا أَوْحَى، خَمْسِينَ صَلاةً عَلَى أُمَّتِهِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، ثُمَّ هَبَط حَتَّى بلغ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - فاحتبسه، فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ: مَاذَا عَهِدَ إِلَيْكَ رَبُّكَ؟ قَالَ: عَهِدَ إِلَيَّ خَمْسِينَ صَلاةً عَلَى أُمَّتِي كل يَوْم وَلَيْلَة، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ فَارْجِعْ لِيُخَفِّفَ عَنْكَ وَعَنْهُمْ، فَالْتَفَتَ إِلَى جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ. فَعَلا بِهِ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - حَتَّى أَتَى بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ جَلَّ وَعَلا وَهُوَ مَكَانَهُ. قَالَ: يَا رَبِّ خَفِّفْ عَنَّا، فَإِنَّ أُمَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ هَذَا، فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرَ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُوسَى فَاحْتَبَسَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُرْدِدُهُ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ عَزَّ(2/105)
وَجَلَّ حَتَّى صَارَتْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ ثُمَّ احْتَبَسَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ قَدْ وَاللَّهِ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الْخَمْسِ فَضَيَّعُوهُ وَتَرَكُوهُ. وَأُمَّتُكَ أَضْعَفُ أَجْسَادًا وَقُلُوبًا وَأَبْصَارًا وَأَسْمَاعًا، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ، كُلَّ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ إِلَى جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لِيُشِيرَ عَلَيْهِ فَلا يَكْرَهُ ذَلِكَ جِبْرِيلُ، فَرَفَعَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمَّتِي ضِعَافٌ أَجْسَادُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ فَخَفِّفْ عَنَّا فَقَالَ: إِنِّي لَا يُبدل القَوْل لدي، هِيَ كَمَا كتبت عَلَيْك فِي أم الْكتاب، وَلَك بِكُل حَسَنَة عشر أَمْثَالهَا، هِيَ خَمْسُونَ فِي أم الْكتاب وَهِيَ خَمْسَةٌ عَلَيْكَ.
فَرَجَعَ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: كَيْفَ فَعَلْتَ؟ قَالَ خَفَّفَ عَنَّا، أَعْطَانَا بِكُلِّ حَسَنَة عشر أَمْثَالهَا. قَالَ: قَدْ وَاللَّهِ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَدْنَى مِنْ هَذِهِ فَتَرَكُوهُ، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ أَيْضًا. قَالَ: قَدْ وَاللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي مِمَّا اخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ.
قَالَ: فَاهْبِطْ بِسْمِ اللَّهِ، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. هَذَا حَدِيث صَحِيح أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.(2/106)
فصل
قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْش}
59 - وروى أَبُو الدَّرْدَاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِذا اشْتَكَى أحدكُم فَلْيقل: رَبنَا الله الَّذِي فِي السَّمَاء تقدس اسْمك، أَمرك فِي السَّمَاء وَالْأَرْض كَمَا رحمتك فِي السَّمَاء فَاجْعَلْ لنا رحمتك فِي الأَرْض. اغْفِر لنا حوبنا وخطايانا أَنْت رب الطيبين، أنزل شِفَاء من شفائك، وَرَحْمَة من رحمتك عَلَى هَذَا الوجع فَيبرأ.
ذكر هَذَا الحَدِيث يَحْيَى بن عمار فِي رسَالَته إِلَى السُّلْطَان مَحْمُود - رَحمَه الله - قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن مُحَمَّد بن أَحْمَد بن عَليّ بن يزِيد الْأمَوِي، نَا مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الصرام، نَا عُثْمَان بن سَعِيد، نَا سَعِيد بن أَبِي مَرْيَم، نَا اللَّيْث(2/107)
ابْن سعد عَن زِيَادَة بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ، عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ، عَن فضَالة بن عبيد عَن أَبِي الدَّرْدَاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قَالَ يَحْيَى بن عمار: فَكل مُسلم من أول الْعَصْر إِلَى عصرنا هَذَا إِذا دَعَا الله سُبْحَانَهُ رفع يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء، والمسلمون من عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى يَوْمنَا هَذَا، يَقُولُونَ فِي الصَّلَاة مَا أَمرهم الله بِهِ تَعَالَى بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} .
قَالَ: وَلَا حَاجَة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى الْعَرْش، لَكِن الْمُؤمنِينَ كَانُوا مُحْتَاجين إِلَى معرفَة رَبهم عَزَّ وَجَلَّ، وكل من عبد شَيْئا أَشَارَ إِلَى مَوضِع، أَو ذكر من معبوده عَلامَة، فجبارنا وخالقنا، إِنَّمَا خلق عَرْشه ليقول عَبده الْمُؤمن، إِذا سُئِلَ عَن ربه عَزَّ وَجَلَّ أَيْن هُوَ الرَّحْمَن؟ عَلَى الْعَرْش اسْتَوَى، مَعْنَاهُ فَوق كل مُحدث عَلَى عَرْشه الْعَظِيم، وَلَا كَيْفيَّة وَلَا شبه. كَمَا قَالَ: مَالك بن أنس لما قيل لَهُ: كَيفَ اسْتَوَى؟ قَالَ: الاسْتوَاء غير مَجْهُول، والكيفية غير مَعْقُول، وَالْإِيمَان بِهِ وَاجِب، وَالشَّكّ فِيهِ شرك، وَالسُّؤَال عَنهُ بِدعَة.(2/108)
قَالَ يَحْيَى بن عمار: لَا نحتاج فِي هَذَا الْبَاب إِلَى قَول أَكثر من هَذَا أَن نؤمن بِهِ، وننفي الْكَيْفِيَّة عَنهُ، ونتقي الشَّك فِيهِ، ونوقن بِأَن مَا قَالَه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَرَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا نتفكر فِي ذَلِكَ وَلَا نسلط عَلَيْهِ الْوَهم، والخاطر، والوسواس، وَتعلم حَقًا يَقِينا أَن كل مَا تصور فِي همك ووهمك من كَيْفيَّة أَو تَشْبِيه. فَالله سُبْحَانَهُ بِخِلَافِهِ وَغَيره، نقُول: هُوَ بِذَاتِهِ عَلَى الْعَرْش، وَعلمه مُحِيط بِكُل شَيْء.
فصل
يدل عَلَى أَن الْقُرْآن نزل من عِنْد ذِي الْعَرْش جملَة إِلَى بَيت الْعِزَّة فِي لَيْلَة الْقدر(2/109)
60 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا إِسْمَاعِيلُ بن مُحَمَّد ابْن إِسْمَاعِيلَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، نَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، نَا دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَنَزَلَ بَعْدَهُ فِي عِشْرِينَ سَنَةً. {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرا} . {وقرآنا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا} .
61 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجَوَّازُ بِمَكَّةَ، نَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيُّ، نَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي رَمَضَانَ فَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْدِثَ شَيْئًا أَحْدَثَهُ بِالْوَحْي.(2/110)
62 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، نَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ، نَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سعد، نَا أبي عَن صَالح ابْن كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَخْبَرَنِي رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول الله
: أَنَّهُمْ بَيْنَمَا هُمْ جُلُوسٌ لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذْ رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَأحمد بن مُحَمَّد ابْن زِيَادٍ قَالا: نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئٍ، نَا أَبُو الْمُغِيرَةِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَخْبَرَنَا خَيْثَمَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ قَالا: نَا الْعَبَّاس ابْن الْوَلِيدِ بْنِ مَزْيَدٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي قَالا: نَا الْأَوْزَاعِيّ، حَدثنِي ابْن شهَاب، عَن عَليّ ابْن الْحُسَيْنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: حَدَّثَنِي رِجَالٌ مِنَ الأَنْصَارِ أَنَّهُمْ بَيْنَمَا هُمْ جُلُوسٌ لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذْ رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ رُمِيَ بِمِثْلِ هَذَا؟ " قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. كُنَّا نَقُولُ: وُلِدَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، وَمَاتَ اللَّيْلَةَ رجل عَظِيم؟ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّهَا لَمْ تُرْمَ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنْ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ إِذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَتْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَهُ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَقُولُ الَّذِينَ يَلُونَ(2/111)
حَملَة الْعَرْش: مَاذَا قل ربكُم عز وَجل؟ فيستخبر أهل السَّمَاوَات بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغَ الْخَبَرُ أَهْلَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَخْطَفُهُ الْجِنُّ فَيُلْقُونَهُ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ، وَيُرْمَوْنَ، فَمَا جَاءُوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ الْحَقُّ وَلَكِنَّهُمْ يَقْرِفُونَ فِيهِ وَيَزِيدُونَ ".
فصل
قَالَ بعض عُلَمَاء أهل السّنة: إِن الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عَرْشه بَائِن من خلقه.
وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: هُوَ بِذَاتِهِ فِي كل مَكَان. وَقَالَت الأشعرية: الاسْتوَاء عَائِد إِلَى الْعَرْش.
قَالَ: وَلَو كَانَ كَمَا قَالُوا: لكَانَتْ الْقِرَاءَة بِرَفْع الْعَرْش، فَلَمَّا كَانَت بخفض الْعَرْش دلّ عَلَى أَنه عَائِد إِلَى الله تَعَالَى.
وَقَالَ بَعضهم: اسْتَوَى بِمَعْنى استولى قَالَ الشَّاعِر:(2/112)
(اسْتَوَى بشر عَلَى الْعرَاق ... من غير سيف وَدم مهراق)
والاستيلاء لَا يُوصف إِلَّا من قدر عَلَى الشَّيْء بعد الْعَجز عَنهُ، وَالله تَعَالَى لم يزل قَادِرًا عَلَى الْأَشْيَاء ومستوليا عَلَيْهَا. أَلا ترى أَنه لَا يُوصف بشر بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْعرَاق إِلَّا وَهُوَ عَاجز عَنهُ قبل ذَلِكَ.
قيل لذِي النُّون الْمصْرِيّ: مَا أَرَادَ الله بِخلق الْعَرْش؟ قَالَ: أَرَادَ أَن لَا يتوه قُلُوب العارفين.
63 - وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي تَفْسِير قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابعهم وَلَا خَمْسَة إِلَّا وَهُوَ سادسهم} .(2/113)
قَالَ: هُوَ عَلَى عَرْشه، وَعلمه فِي كل مَكَان.
64 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبُ، أَنا أَبُو سَعِيدٍ النَّقَّاشُ، أَنا أَبُو الْقَاسِم البوسبخي، نَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، نَا أَبُو الرَّبِيعِ، نَا أَبُو عَوَانَةَ، نَا شَبِيبُ بْنُ شَيْبَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَتَى حُصَيْنٌ الْخُزَاعِيَّ رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا حُصَيْنُ كَمْ تَعْبُدُ الْيَوْمَ إِلَهًا " قَالَ: سَبْعَةً؛ سِتَّةٌ فِي الأَرْضِ. وَوَاحِدٌ فِي السَّمَاءِ. قَالَ: " فَأَيُّهُمْ تُعِدُّ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ؟ " قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ. قَالَ: يَا حُصَيْنُ أَسْلِمْ، فَإِنَّكَ إِنْ أَسْلَمْتَ عَلَّمْتُكَ كَلِمَتَيْنِ تَنْفَعَانِكَ. قَالَ: فَذَهَبَ. يَعْنِي فَأَسْلَمَ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُول الله عَلمنِي الْكَلِمَتَيْنِ اللتيين وَعَدْتَنِي. قَالَ " قُلِ: اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي، وَأَعِذْنِي مِنْ شَرِّ نَفْسِي ".
65 - أَخْبَرَنَا أَبُو مُطِيعٍ عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ الطُّيُورِيُّ، أَنا أَبُو الْفَرَجِ الْبُرْجِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، نَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سَمُّوَيْهِ، نَا عبد الله ابْن صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ فضَالة بن عبيد، عَن أَبِي الدَّرْدَاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ فَذَكَرَ أَنَّ أَبَاهُ(2/114)
احْتَبَسَ بَوْلَهُ، وَأَصَابَهُ حَصْرُ الْبَوْلِ، فَعَلَّمَهُ رُقْيَةً سَمعهَا من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رَبنَا الله الَّذِي فِي السَّمَاء تقدس اسْمك، أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، اغْفِرْ لَنَا حَوْبَنَا وَخَطَايَانَا، أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ، فَأَنْزِلْ شِفَاءً مِنْ شفائك وَرَحْمَة من رحمتك، عَلَى هَذَا الوجع فَيَبْرَأَ ". وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْقِيَهُ بِهَا، فَرَقَاهُ بِهَا فَبَرَأَ.
فصل
قَالَ بعض عُلَمَاء السّنة: حكى ابْن فورك فِي مُجَرّد قَوْله: إِن اسْتِوَاء الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْعَرْش عِنْد أَبِي الْحسن من صِفَات الْأَفْعَال. وَكَذَلِكَ الْمَجِيء فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صفا} . وَقَوله:(2/115)
{هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله} . وَكَذَلِكَ النُّزُول فِي قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
66 - " ينزل الله تبَارك وَتَعَالَى كل لَيْلَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا ". وَهَذَا كُله عَلَى خلاف مَا مضى عَلَيْهِ الصَّدْر الأول وَمن تَبِعَهُمْ.
وَزعم هَؤُلاءِ: أَن معنى قَوْله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أَي ملكه وَأَنه لَا اخْتِصَاص لَهُ بالعرش أَكثر مِمَّا لَهُ بالأماكن، وَهَذَا إِلْغَاء لتخصيص الْعَرْش وتشريفه.
قَالَ أهل السّنة: خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَكَانَ عَرْشه عَلَى المَاء مخلوقا قبل خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض. ثمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش بعد خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض عَلَى مَا ورد بِهِ النَّص. وَلَيْسَ مَعْنَاهُ المماسة، بل هُوَ مستو عَلَى عَرْشه بِلَا كَيفَ، كَمَا أخبر عَن نَفسه.
وَزعم هَؤُلاءِ: أَنه لَا يجوز الْإِشَارَة إِلَى الله سُبْحَانَهُ بالرؤوس(2/116)
والأصابع إِلَى فَوق، فَإِن ذَلِكَ يُوجب التَّحْدِيد.
وَقد أجمع الْمُسلمُونَ أَن الله هُوَ الْعلي الْأَعْلَى، ونطق بذلك الْقُرْآن فِي قَوْله: {سَبِّحِ اسْم رَبك الْأَعْلَى}
وَزَعَمُوا: أَن ذَلِكَ بِمَعْنى علو الْغَلَبَة لَا علو الذَّات. وَعند الْمُسلمين أَن الله عز وَجل علو الْغَلَبَة. والعلو من سَائِر وُجُوه الْعُلُوّ لِأَن الْعُلُوّ صفة مدح، فَثَبت أَن لله تَعَالَى علو الذَّات، وعلو الصِّفَات، وعلو الْقَهْر وَالْغَلَبَة.
وَفِي مَنعهم الْإِشَارَة إِلَى الله سُبْحَانَهُ من جِهَة الفوق خلاف مِنْهُم لسَائِر الْملَل. لِأَن جَمَاهِير الْمُسلمين، وَسَائِر الْملَل قد وَقع مِنْهُم الْإِجْمَاع عَلَى الْإِشَارَة إِلَى الله جلّ ثَنَاؤُهُ من جِهَة الفوق فِي الدُّعَاء، وَالسُّؤَال. فاتفاقهم بأجمعهم عَلَى ذَلِكَ حجَّة. وَلم يستجز أحد الْإِشَارَة إِلَيْهِ من جِهَة الْأَسْفَل، وَلَا من سَائِر الْجِهَات سوى جِهَة الفوق.
وَقَالَ الله تعال: {يخَافُونَ رَبهم من فَوْقهم} . وَقَالَ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يرفعهُ} . وَقَالَ: {تعرج الْمَلَائِكَة وَالروح إِلَيْهِ}(2/117)
وَأخْبر عَن فِرْعَوْن أَنه قَالَ: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَات فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} فَكَانَ فِرْعَوْن قد فهم عَن مُوسَى أَنه يثبت إِلَهًا فَوق السَّمَاء حَتَّى رام بصرحه أَن يطلع إِلَيْهِ، وأتهم مُوسَى بِالْكَذِبِ فِي ذَلِكَ. والجهمية لَا تعلم أَن الله فَوْقه بِوُجُود ذَاته، فهم أعجز فهما من فِرْعَوْن. وَقد صَحَّ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه:
67 - سَأَلَ الْجَارِيَة الَّتِي أَرَادَ مَوْلَاهَا عتقهَا. أَيْن الله؟ قَالَت: فِي السَّمَاء، وأشارت برأسها. وَقَالَ: من أَنا؟ فَقَالَت: أَنْت رَسُول الله. فَقَالَ: اعتقها فَإِنَّهَا مُؤمنَة.
فَحكم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بإيمانها حِين قَالَت: إِن الله فِي السَّمَاء وتحكم الْجَهْمِية بِكفْر من يَقُول ذَلِكَ.
فصل
قَالَ لنا الإِمَام أَبُو المظفر السَّمْعَانِيّ رَحمَه الله: قَالُوا: جعلتم(2/118)
أصل الدّين هُوَ الِاتِّبَاع ورددتم عَلَى من يرجع إِلَى الْمَعْقُول، وَيطْلب الدّين من قبله، وَهَذَا خلاف الْكتاب؟ لِأَن الله ذمّ التَّقْلِيد فِي الْقُرْآن، وَندب النَّاس إِلَى النّظر وَالِاسْتِدْلَال، وَالرُّجُوع إِلَى الِاعْتِبَار وَإِنَّمَا ورد السّمع مؤيدا لما يدل عَلَيْهِ الْعقل وَمن تدبر الْقُرْآن، وَنظر فِي مَعَانِيه وجد تَصْدِيق مَا قُلْنَاهُ.
وَالْجَوَاب:
قد دللنا فِيمَا سبق أَن الدّين هُوَ الِاتِّبَاع، وَذكرنَا فِي بَيَانه ودلائله مَا يجد بِهِ الْمُؤمن شِفَاء الصَّدْر، وطمأنينة الْقلب بِحَمْد الله وَمِنْه.
وَأما لفظ التَّقْلِيد فَلَا نعرفه جَاءَ فِي شَيْء من الْأَحَادِيث، وأقوال السّلف فِيمَا يرجع إِلَى الدّين، وَإِنَّمَا ورد الْكتاب وَالسّنة بالاتباع.
وَقد قَالُوا: إِن التَّقْلِيد إِنَّمَا هُوَ: قبُول قَول الْغَيْر من غير حجَّة. وَأهل السّنة إِنَّمَا تبعوا قَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَوله: نفس الْحجَّة. فَكيف يكون هَذَا قبُول قَول الْغَيْر من غير حجَّة، فَإِن الْمُسلمين لَهُم الدَّلَائِل السمعية عَلَى نبوة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لما نقل إِلَيْنَا أهل الإتقان والثقات من الروَاة مَا لَا يعد كَثْرَة من المعجزات، والبراهين، والدلالات الَّتِي ظَهرت عَلَيْهِ، وَقد نقلهَا أَصْحَاب الحَدِيث فِي كتبهمْ ودونوها. فَلَمَّا صحت عِنْدهم نبوته، ووجدوا(2/119)
صدقه فِي قُلُوبهم وَجب عَلَيْهِم تَصْدِيقه فِيمَا أنبأهم من الغيوب، ودعاهم إِلَيْهِ من وحدانية الله، وَإِثْبَات صِفَاته، وَسَائِر شَرَائِط الْإِسْلَام، وعَلى أَنا لَا ننكر النّظر قدر مَا ورد بِهِ الْكتاب وَالسّنة، لينال الْمُؤمن بذلك زِيَادَة الْيَقِين، وثلج الصَّدْر، وَإِنَّمَا أَنْكَرْنَا طَريقَة أهل الْكَلَام عَلَى مَا أسسوا فَإِنَّهُم قَالُوا:
أول مَا يجب عَلَى الْإِنْسَان النّظر الْمُؤَدِّي إِلَى معرفَة الْبَارِي، وَهَذَا قَول(2/120)
مخترع لم يسبقهم إِلَيْهِ أحد من السّلف، وأئمة الدّين، وَلَو أَنَّك تدبرت جَمِيع أَقْوَالهم وكتبهم لم تَجِد هَذَا فِي شَيْء مِنْهَا، لَا مَنْقُولًا من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا من الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنهُ -، وَكَذَلِكَ من التَّابِعين بعدهمْ.
وَكَيف يجوز أَن يخفى عَلَيْهِم أول الْفَرَائِض وهم صُدُور هَذِهِ الْأمة، والسفراء بَيْننَا وَبَين رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟
وَلَئِن جَازَ أَن يخفى الْفَرْض الأول عَلَى الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، حَتَّى لم يبينوا لأحد من هَذِهِ الْأمة مَعَ شدَّة اهتمامهم بِأَمْر الدّين، وَكَمَال عنايتهم حَتَّى استخرجه هَؤُلاءِ بلطيف فطنتهم فِي زعمهم. فَلَعَلَّهُ خَفِي عَلَيْهِم فَرَائض أُخر.
وَلَئِن كَانَ هَذَا جَائِزا فَلَقَد ذهب الدّين واندرس. لأَنا إِنَّمَا نَبْنِي أقوالنا عَلَى أَقْوَالهم. فَإِذا ذهب الأَصْل فَكيف يُمكن الْبناء عَلَيْهِ؟ نَعُوذ بِاللَّه من قَول يُؤَدِّي إِلَى هَذِهِ الْمقَالة الَّتِي تُؤدِّي إِلَى الانسلاخ من الدّين، وتضليل الْأَئِمَّة الماضيين. هَذَا وَقد تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَدْعُو الْكفَّار إِلَى الْإِسْلَام والشهادتين.(2/121)
68 - قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمعَاذ حِين بَعثه إِلَى الْيمن: " ادعهم إِلَى شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله ".
69 - وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا الله ".
وَمثل هَذَا كثير، وَلم يرو أَنه دعاهم إِلَى النّظر وَالِاسْتِدْلَال، وَإِنَّمَا يكون حكم الْكَافِر فِي الشَّرْع أَنه يدعى إِلَى الْإِسْلَام، فَإِن أَبى وَسَأَلَ النظرة والإمهال لَا يُجَاب إِلَى ذَلِكَ، وَلكنه: إِمَّا أَن يسلم أَو يُعْطي الْجِزْيَة، أَو يقتل. وَفِي الْمُرْتَد: إِمَّا أَن يسلم أَو يقتل. وَفِي مُشْركي الْعَرَب عَلَى مَا عرف.
وَإِذا جعلنَا الْأَمر عَلَى مَا قَالَه أهل الْكَلَام، لم يكن الْأَمر عَلَى هَذَا الْوَجْه وَلَكِن يَنْبَغِي أَن يُقَال لَهُ: - يَعْنِي الْكَافِر - عَلَيْك النّظر وَالِاسْتِدْلَال لتعرف الصَّانِع بِهَذَا الطَّرِيق، ثمَّ تعرف الصِّفَات بدلائلها وطرقها. ثمَّ مسَائِل كَثِيرَة إِلَى أَن يصل الْأَمر إِلَى النبوات، وَلَا يجوز عَلَى طريقهم الْإِقْدَام عَلَى هَذَا الْكَافِر بِالْقَتْلِ والسبي إِلَّا بعد أَن يذكر لَهُ هَذَا ويمهل. لِأَن النّظر وَالِاسْتِدْلَال لَا يكون إِلَّا بمهلة، خُصُوصا إِذا طلب الْكَافِر ذَلِكَ، وَرُبمَا لَا يتَّفق النّظر وَالِاسْتِدْلَال فِي(2/122)
مُدَّة يسيرَة، فَيحْتَاج إِلَى إمهال الْكفَّار مُدَّة طَوِيلَة تَأتي عَلَى سِنِين، ليتمكنوا من النّظر عَلَى التَّمام والكمال. وَهَذَا خلاف إِجْمَاع الْمُسلمين.
وَقد حُكيَ عَن أَبِي الْعَبَّاس بن سُرَيج أَنه قَالَ: لَو أَن رجلا جَاءَنَا وَقَالَ: إِن الْأَدْيَان كَثِيرَة فخلوني أنظر فِي الْأَدْيَان فَمَا وجدت الْحق فِيهِ قبلته، وَمَا لم أجد فِيهِ تركته، لن نخليه، وكلفناه الْإِجَابَة إِلَى الْإِسْلَام وَإِلَّا أَوجَبْنَا عَلَيْهِ الْقَتْل.
وَقد جعل أهل الْكَلَام من تخلف عَن الْإِسْلَام نَاظرا فِيهِ وَفِي غَيره من الْأَدْيَان مُقيما عَلَى الطَّاعَة مَحْمُودًا فِي فعله، وَهَذَا جهل عَظِيم فِي الْإِسْلَام فَيَنْبَغِي عَلَى قَوْلهم: إِذا مَاتَ فِي مُدَّة النّظر والمهلة، قبل قبُول الْإِسْلَام أَنه مَاتَ مُطيعًا لله تَعَالَى مُقيما عَلَى أمره لَا بُد من إِدْخَاله الْجنَّة، كَمَا يدْخل الْمُسلمُونَ. فقد جعلُوا غير الْمُسلم مُطيعًا لله تَعَالَى مؤتمرا بأَمْره مَحْمُودًا فِي فعله، وأوجبوا إِدْخَاله الْجنَّة. وَقد قَالَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخاسرين}(2/123)
70 - وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا نفس مسلمة ". وَهَذَا حَدِيث ثَابت لَا شكّ فِيهِ.
وَمِمَّا يدل عَلَى صِحَة مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ من أَن الدّين طَرِيقه الِاتِّبَاع، أَنا إِذا سلكنا طَرِيق الْإِنْصَاف، وطرحنا المكابرات من جَانب فَلَا بُد من الانقياد لما قُلْنَاهُ، لِأَن الْمَقْصُود فِي الِابْتِدَاء إِذا كَانَ هُوَ إِصَابَة الْحق: فليتدبر الْمَرْء الْحق: فليتدبر الْمَرْء الْمُسلم المسترشد أَحْوَال هَؤُلاءِ الناظرين كَيفَ تحيروا فِي نظرهم، وارتكسوا فِيهِ، فلئن نجا وَاحِد بنظره فقد هلك الألوف من النَّاس، وَإِلَى أَن يبصر وَاحِد فواحد بنظره طَرِيق الْحق بِنَظَر رَحْمَة سبق من الله لَهُ فقد ارتطم بطرِيق الْكفْر والضلالات والبدع بنظرهم أَضْعَاف أَضْعَاف عدد الْأَوَّلين. وَهل كَانَت الزندقة والإلحاد وَسَائِر أَنْوَاع الْكفْر، والضلالات والبدع منشؤها وابتداؤها إِلَّا من النّظر؟ فَلَو أَنهم أَعرضُوا عَن ذَلِكَ، وسلكوا طَرِيق الِاتِّبَاع مَا أداهم إِلَى شَيْء مِنْهَا. فَمَا من هَالك فِي الْعَالم؟ إِلَّا وبدو هَلَاكه من النّظر وَمَا من نَاجٍ فِي الدّين سالك سَبِيل الْحق إِلَّا وبدو نجاته من حسن الِاتِّبَاع، أفيستجيز مُسلم أَن يَدْعُو الْخلق إِلَى مثل هَذَا الطَّرِيق المظلم، ويجعله سَبِيل منجاتهم؟ وَكَيف يستجيز ذُو لب وبصيرة أَن يسْلك مثل هَذَا الطَّرِيق، وَأَنِّي لَهُ الْأمان من هَذِهِ المهالك؟ وَكَيف لَهُ المنجاة من أَوديَة الْكفْر وعامتها، بل جَمِيعهَا إِنَّمَا يهْبط عَلَيْهَا من هَذِهِ الْمرقاة؟ - أَعنِي طلب الْحق من النّظر - وَلَو أعْطى الْخصم النصفة لَا يجد بدا من الْإِقْرَار أَن من كَانَ غوره فِي النّظر أَكثر كَانَت حيرته فِي الدّين أَشد وَأعظم.(2/124)
وَهل رأى أحد متكلما أَدَّاهُ نظره وَكَلَامه إِلَى تقوى فِي الدّين، أَو ورع فِي الْمُعَامَلَات، أَو سداد فِي الطَّرِيقَة، أَو زهد فِي الدُّنْيَا، أَو إمْسَاك عَن حرَام وَشبهه، أَو خشوع فِي عبَادَة، أَو ازدياد من طَاعَة إِلَّا الشاذ النَّادِر. قل: لَو قلبت الْقِصَّة كنت صَادِقا تراهم أبدا منهمكين فِي كل فَاحِشَة ملتبسين بِكُل قاذورة لَا يرعوون عَن قَبِيح، وَلَا يرتدعون من بَاطِل إِلَّا من عصمه الله. فلئن دلهم النّظر الْيَقِين وَحَقِيقَة التَّوْحِيد، فَلَيْسَ ثَمَرَة الْيَقِين هَذَا وتعسا لتوحيد أداهم إِلَى مثل هَذِهِ الْأَشْيَاء، وأوردهم هَذِهِ المتالف فِي الدّين، وَمن الله التَّوْفِيق وَحسن المعونة.
فصل
71 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الأَنْبَارِيُّ بِبَغْدَادَ أَنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَمْرِو بْنِ بُرْهَانٍ، نَا جَعْفَر بن مُحَمَّد الْخُلْدِيِّ، نَا إِبْرَاهِيم ابْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ، نَا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ، نَا عَبْدُ السَّلامِ، عَنْ عُبَيْدَةَ الْهُجَيْمِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو جُرَيٍّ جَابِرُ بْنُ سُلَيْمٍ: رَكِبْتُ قَعُودًا لِي وَأَتَيْتُ مَكَّةَ فِي طَلَبِهِ فأنخت بِبَاب(2/125)
الْمَسْجِد، فَإِذا هُوَ جَالس - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ محتبيء بِبُرْدَةٍ لَهَا طَرَائِقُ حُمُرٌ. فَقُلْتُ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " وَعَلَيْكَ ". قُلْتُ: إِنَّا مَعْشَرَ أَهْلَ الْبَادِيَةِ قَوْمٌ مِنَّا الْجَفَاءُ، فَعَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعَنِي اللَّهُ بِهِنَّ. قَالَ: " ادْنُ " ثَلاثًا فَقَالَ: " أَعِدْ عَلَيَّ ". فَقُلْتُ: إِنَّا مَعْشَرَ أَهْلَ الْبَادِيَةِ قَوْمٌ مِنَّا الْجَفَاءُ، فَعَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِنَّ: فَقَالَ: " اتَّقِ اللَّهَ وَلا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَوِ الْخَيْرِ شَيْئًا. وَلَوْ أَنْ تَصُبَّ فَضْلَ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي، وَإِذَا لَقِيتَ أَخَاكَ الْمُسْلِمَ فَالْقَهُ بِوَجْهٍ مُنْبَسِطٍ. وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الإِزَارِ فَإِنَّهُ مِنَ الْمَخْيَلَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُخْتَالَ. وَإِنِ امْرُؤٌ سَبَّكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ فَلا تَسُبَّهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَجْعَلُهُ لَك أجرا، ويجعله عَلَيْهِ وزرا وَلَا تَسُبَّنَّ شَيْئًا مِمَّا خَوَّلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ".
فَقَالَ أَبُو جُرَيٍّ: فَوَالَّذِي ذَهَبَ بِنَفْسِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا سَبَبْتُ لِي شَاةً، وَلا بَعِيرًا.
72 - قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتَ إِسْبَالَ الإِزَارِ قَدْ يَكُونُ بِالرَّجُلِ الْقَرْحُ، أَوِ الشَّيْءُ يَسْتَحْيِي مِنْهُ، قَالَ: " لَا بَأْسَ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ أَوْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، إِنَّ رَجُلا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ لَبِسَ بُرْدَيْنِ فَتَبَخْتَرَ فِيهِمَا، فَنَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ فَمَقَتَهُ، فَأَمَرَ الأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ، وَهُوَ يَتَجَلْجَلُ بَيْنَ الأَرَضِينَ، فَاحْذَرُوا وَقَائِعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ".(2/126)
أخبرنَا أَبُو بكر الصَّابُونِي، أَنا وَالِدِي إِسماعيل الصَّابُونِي قَالَ: وَيثبت أَصْحَاب الحَدِيث نزُول الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل لَيْلَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا من غير تَشْبِيه لَهُ بنزول المخلوقين، وَلَا تَمْثِيل، وَلَا تكييف، بل يثبتون لَهُ مَا أثْبته رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وينتهون فِيهِ إِلَيْهِ، ويمرون الْخَبَر الصَّحِيح الْوَارِد بِذكرِهِ عَلَى ظَاهره، ويكلون علمه إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ، وَكَذَلِكَ يثبتون مَا أنزلهُ عز اسْمه فِي كِتَابه من ذكر الْمَجِيء، والإتيان الْمَذْكُورين فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة} . وَقَوله عز اسْمه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صفا} .
أَخْبَرَنَا أَبُو بكر، أَنا وَالِدي، أَنا أَبُو بكر بن زَكَرِيَّا الشَّيْبَانِيّ قَالَ: سَمِعت أَبَا حَامِد بن الشَّرْقِي يَقُول: سَمِعت حمدَان السّلمِيّ، وَأَبا دَاوُد الْخفاف،(2/127)
يَقُولَانِ: سمعنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْحَنْظَلِي يَقُول: قَالَ لي الْأَمِير عبد الله ابْن طَاهِر: يَا أَبَا يَعْقُوب هَذَا الحَدِيث الَّذِي ترويه عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
73 - " ينزل رَبنَا كل لَيْلَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا ". كَيفَ ينزل؟ قَالَ: قلت أعز الله الْأَمِير، لَا يُقَال لأمر الرب كَيفَ؟ إِنَّمَا ينزل بِلَا كَيفَ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو يَعْقُوب إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْعدْل، نَا مَحْبُوب ابْن عبد الرَّحْمَن القَاضِي، حَدَّثَنِي جدي أَبُو بكر مُحَمَّد بن أَحْمَد بن مَحْبُوب، نَا أَحْمَد بن حيوية، نَا أَبُو عبد الرَّحْمَن الْعَتكِي، نَا مُحَمَّد بن سَلام قَالَ: سَأَلت عبد الله بن الْمُبَارك عَن نُزُوله لَيْلَة النّصْف من شعْبَان، فَقَالَ عبد الله: يَا(2/128)
ضَعِيف لَيْلَة النّصْف ينزل! ؟ . فِي كل لَيْلَة ينزل، فَقَالَ الرجل: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن كَيفَ ينزل؟ أَلَيْسَ يَخْلُو ذَلِكَ الْمَكَان مِنْهُ؟ فَقَالَ عبد الله بن الْمُبَارك: كذ حذائي خويس كن، ينزل كَيفَ يَشَاء.
قَالَ: وَسمعت الْحَاكِم أَبَا عبد الله الْحَافِظ يَقُول: سَمِعت أَبَا زَكَرِيَّا يحيى ابْن مُحَمَّد الْعَنْبَري يَقُول: سَمِعت إِبْرَاهِيم بن أَبِي طَالب يَقُول: سَمِعت أَحْمد ابْن سَعِيد بن إِبْرَاهِيم أَبَا عبد الله الرباطي يَقُول: حضرت مجْلِس الْأَمِير عبد الله ابْن طَاهِر ذَات يَوْم، وَحضر إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم يَعْنِي ابْن رَاهَوَيْه، فَسئلَ عَن حَدِيث النُّزُول أصحيح هُوَ؟ قَالَ: نعم. فَقَالَ: لَهُ بعض قواد عبد الله: يَا أَبَا يَعْقُوب أتزعم أَن الله تَعَالَى ينزل كل لَيْلَة؟ قَالَ: نعم. قَالَ: كَيفَ ينزل؟ فَقَالَ لَهُ إِسْحَاق: أثْبته فَوق حَتَّى أصف لَك النُّزُول. فَقَالَ الرجل: أثْبته فَوق. فَقَالَ إِسْحَاق: قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} فَقَالَ الْأَمِير عبد الله: يَا أَبَا يَعْقُوب هَذَا يَوْم الْقِيَامَة. فَقَالَ إِسْحَاق: أعز الله الْأَمِير، وَمن يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة، من يمنعهُ الْيَوْم؟
قَالَ إِسْمَاعِيل الصَّابُونِي: فَلَمَّا صَحَّ خبر النُّزُول عَن رَسُول الله
أقرّ بِهِ أهل السّنة، وقبلوا الْخَيْر، وأثبتوا النُّزُول عَلَى مَا قَالَه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلم(2/129)
يعتقدوا تَشْبِيها لَهُ بنزول خلقه، وَعَلمُوا وَعرفُوا وتحققوا واعتقدوا أَن صِفَات الرب سُبْحَانَهُ لَا تشبه صِفَات الْخلق، كَمَا أَن ذَاته لَا تشبه ذَوَات الْخلق، تَعَالَى الله عَمَّا يَقُول المشبهة والمعطلة علوا كَبِيرا، ولعنهم لعنا كثيرا.
74 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصَّابُونِيُّ، أَنا وَالِدِي، أَنا أَبُو طَاهِرِ بْنُ خُزَيْمَةَ، أَنا جَدِّي الإِمَامُ، نَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، نَا إِسْمَاعِيلُ بن علية عَن هسام الدَّسْتُوَائِيِّ.
قَالَ الإِمَامُ: وَحَدَّثَنَا الزَّعْفَرَانِيُّ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا الزَّعْفَرَانِيُّ، نَا يَزِيدُ - يَعْنِي ابْنَ هَارُونَ - نَا الدَّسْتُوَائِيُّ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بُن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ الإِسْكَنْدَرَانِيُّ، نَا الْوَلِيدُ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ جَمِيعًا، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، حَدَّثَنِي رِفَاعَةُ ابْن عرابة الْجُهَنِيّ.(2/130)
قَالَ الإِمَامُ: وَحَدَّثَنَا أَبُو هَاشِمٍ زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، نَا مُبَشِّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْحَلَبِيُّ، عَنِ الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي هِلالُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، حَدَّثَنِي رِفَاعَةُ بْنُ عَرَابَةَ الْجُهَنِيُّ قَالَ صدرنا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من مَكَّة، فَجعلُوا يستأذنون النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَجعل يَأْذَن لَهُم. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا بَالُ شِقِّ الشَّجَرَةِ الَّذِي يَلِي رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَبْغَضُ إِلَيْكُمْ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ فَلا تَرَى مِنَ الْقَوْمِ إِلا بَاكِيًا ".
قَالَ: يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِنَّ الَّذِي يستأذنك بعْدهَا لسفيه. فَقَامَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَكَانَ إِذَا حَلَفَ قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، أَشْهَدُ عِنْدَ اللَّهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخَرِ، ثُمَّ يُسَدِّدُ إِلا سُلِكَ بِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَلَقَدْ وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يُدْخِلَ مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ سَبْعِينَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلا عَذَابٍ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ لَا يَدْخُلُوهَا، حَتَّى تبوؤا، وَمَنْ صَلَحَ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَذُرِّيَّاتِكُمْ، وَمَسَاكِنِكُمُ الْجَنَّةَ. ثمَّ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ أَوْ قَالَ ثُلُثَاهُ، يَنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَقُولُ: لَا يَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي غَيْرِي؟ مَنْ ذَا الَّذِي يسألني فأعطيته، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأُجِيبَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ ".
قَالَ إِسْمَاعِيل الصَّابُونِي: هَذَا لفظ حَدِيث الْوَلِيد.(2/131)
فصل فِي بَيَان أَن التَّكْلِيف: إِيقَاع الكلفة عَلَى الْمُكَلف والكلفة: الْمَشَقَّة.
والتكليف نَوْعَانِ: تَكْلِيف مَا هُوَ مَعْهُود مُمكن، وتكليف مَا هُوَ غير مَعْهُود وَلَا مُمكن. فَأَما الَّذِي لَا يُمكن وَلَا يعْهَد مثله، فكتكليف الْمُكَلف أَن يرد الشَّيْء الْمَاضِي كرد أمس الذَّاهِب، وكتكليف الْأَعْمَى أَن يبصر، والأصم أَن يسمع، والأبكم أَن يتَكَلَّم وَنَحْوهَا.
وتكليفه الْمَعْهُود الْمُمكن نَوْعَانِ:
أَحدهمَا: تَكْلِيف الْمُكَلف مَا يطيقه، ويصبر عَلَى ممارسته، كتكليف الْعِبَادَات، وَالْأَفْعَال الَّتِي يطيقها الْمُكَلف.
وَالثَّانِي: تَكْلِيف الْمُكَلف مَا لَا يطيقه، وَلَا يُمكنهُ الصَّبْر عَلَى ممارسته كتكليف الْمُكَلف: أَن يحمل ثقلا لَا يُطيق حمله. ثمَّ هَذِهِ الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة تَنْقَسِم قسمَيْنِ:
أَحدهمَا: تَكْلِيف الْمَخْلُوق الْمَخْلُوق.
وَالثَّانِي: تَكْلِيف الْخَالِق الْمَخْلُوق. وَهِي كلهَا من الله عَزَّ وَجَلَّ عدل وَفضل، لِأَنَّهُ إِذا كلفه مَا يطيقه فَهُوَ فضل، وَإِذا كلفه مَا لَا يطيقة فَهُوَ عدل.(2/132)
فَأَما رد الْغَائِب فَلَا يكون من الله عَزَّ وَجَلَّ تكليفا لِأَنَّهُ إِذا كلف العَبْد هَذَا النَّوْع صيره مطيقا لَهُ قادراُ عَلَيْهِ. أَلا ترى أَنه عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ كلف عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام إحْيَاء الْمَوْتَى، وإبراء الأكمه كَيفَ صيره قَادِرًا عَلَيْهِ مطيقا لَهُ. وَلما كلف أَيُّوب الْبلَاء لم يسلبه طاقته وَقدرته، وَأما الْمَخْلُوق فتكليفه غَيره مَا لَا يطيقه جور مِنْهُ، وَمن الدَّلِيل عَلَى أَن الله تَعَالَى يُكَلف عَبده مَا لَا يطيقه، كَمَا يكلفه مَا يطيقه.(2/133)
صفحة فارغة(2/134)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا عرضنَا الْأَمَانَة على السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال} الْآيَة فَبَان بِهَذَا أَن حمل الْأَمَانَة ثقيل لَا يُطَاق، وَأَن السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال، الَّتِي تطِيق حمل الأثقال لم يطقن حملهَا، وَحملهَا الْإِنْسَان بجهله إِذْ لم يعلم أَنه لَا يُطيق حملهَا فَدلَّ عَلَى أَن الله تَعَالَى يُكَلف العَبْد مَا لَا يطيقه.
فَإِن قيل: المُرَاد بقوله: {فَأَبَيْنَ أَنْ يحملنها} يَعْنِي: أَن يخن فِيهَا، وَحملهَا الْإِنْسَان، أَي خانها وَاسْتَدَلُّوا بقول الشَّاعِر.
(إِذا أَنْت لم تَبْرَح تُؤدِّي أَمَانَة ... وَتحمل أُخْرَى أفرحتك الودائع)
أَي لم تزل تُؤدِّي أَمَانَة وتخون أُخْرَى.(2/135)
فَالْجَوَاب: أَن الْخِيَانَة فِي الْأَمَانَة، غير عدم الطَّاقَة بحملها وأدائها عَلَى وَجههَا. لِأَن الخائن لَو أطَاق أداءها عَلَى وَجههَا لم يخن فِيهَا، فَلَمَّا غلبته نَفسه فِي أَدَائِهَا عَلَى وَجههَا، ودعته إِلَى الْخِيَانَة فِيهَا وَلم يُمكنهُ أَن يُجَاهد نَفسه فِي أَدَائِهَا عَلَى وَجههَا، وَأمره الله تَعَالَى بأدائها عَلَى وَجههَا صَحَّ أَنه مُكَلّف مَا لَا يطيقه.
وَمِمَّا يُؤَكد هَذَا أَن الله تَعَالَى قَالَ: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دمت عَلَيْهِ قَائِما} . فَدلَّ ذَلِكَ عَلَى أَن الله تَعَالَى يُكَلف عَبده مَا يَشَاء. ثمَّ يوفق من يَشَاء من عباده، ويقويه، ويطوقه حمله، ويخذل من يَشَاء مِنْهُم، ويضعفه وَلَا يطوقه مَا يكلفه. وكل ذَلِكَ عدل مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يفعل مَا يَشَاء وَيحكم مَا يُرِيد.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَيْضا: قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ القاهر فَوق عباه} وَلَيْسَ الْقَهْر إِلَّا نفس تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق. لِأَن المقهور لَو أطَاق حمل الْقَهْر لم يصر مقهورا. فَدلَّ أَن القاهر هُوَ الَّذِي يقهر غَيره، ويكلفه فِي قهره مَا لَا يطيقه.(2/136)
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا} . لِأَن النَّاسِي لَا يُطيق ترك نسيانه فَهُوَ آخذ بِمَا يَأْتِيهِ نَاسِيا، وَهُوَ لَا يُطيق تَركه. وَكَذَلِكَ تَكْلِيفه فعل النسْيَان تَكْلِيف لما لَا يطيقه.
وَكَذَلِكَ قَوْله: {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصراً} . أَي ثقلا. وَكَذَلِكَ قَوْله: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ} . فَدلَّ هَذَا كُله عَلَى أَن الله تَعَالَى يُكَلف العَبْد مَا لَا يطيقه، لِأَنَّهُ لَو لم يكن هَكَذَا لم يكن لدعائهم إِيَّاه أَن لَا يحمل عَلَيْهِم ثقلا لَا يطيقُونَهُ، وَلَا يحملهم مَا لَا يطيقُونَهُ معنى. وَلَو أطاقوا حمل ذَلِكَ مَا سَأَلُوا الله تَعَالَى دَفعه عَنْهُم وإزالته.(2/137)
فَإِن قيل: إِن الله تَعَالَى قَالَ: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} أَي: طاقتها. فَدلَّ أَنه تَعَالَى لَا يُكَلف العَبْد مَا لَا يطيقه.
قيل: قَوْله: {نَفْسًا} لَيْسَ بِعُمُوم، بل هُوَ خُصُوص لِأَن النكرَة فِي النَّفْي قد تعم الْجِنْس، وَقد لَا تعم الْجِنْس. أَلا ترى أَنَّك إِذا قلت: لم أر رجلا، فقد نفيت رُؤْيَة رجل وَاحِد من الرِّجَال. كَذَلِك قَوْله: {لَا يُكَلِّفُ الله نفسا} يُرِيد نفسا من الْأَنْفس إِلَّا وسعهَا. أَي أَن الله تَعَالَى لَا يُكَلف مَا شَاءَ من الْأَنْفس إِلَّا وسعهَا، ويكلف مَا شَاءَ مِنْهَا فَوق وسعهَا. وَالله تَعَالَى يُكَلف الْإِنْسَان وَغَيره مَا لَا يطيقه، كالإنسان الضَّعِيف الْجِسْم، وَالصَّبِيّ تصيبه عِلّة فِي بدنه يضعف عَن حملهَا، وَلَا يطيقها وَالله كلفه ذَلِكَ.(2/138)
فَإِن قيل: تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق جور، والجور لَا يجوز عَلَى الله تَعَالَى. فَالْجَوَاب: أَن هَذَا لَا يتَصَوَّر فِي صِفَات الله تَعَالَى وأفعاله، وَلكنه يتَصَوَّر فِي صِفَات المخلوقين وأفعالهم، لِأَن الله تَعَالَى إِذا عاقب عبدا عَلَى مَعْصِيّة، فَالْعَبْد لَا يُطيق عِقَابه، ثمَّ ذَلِكَ الْعقَاب وَإِن عظم وَلم يطقه المعاقب عدل من الله تَعَالَى، كَمَا أَن ثَوَابه فضل. إِذْ لَا يشبه الْخَالِق الْمَخْلُوق فِي عِقَابه، كَمَا لَا يُشبههُ فِي ثَوَابه. كَذَلِك تَكْلِيفه العَبْد مَا لَا يطيقه عدل مِنْهُ، كَمَا أَن تَكْلِيفه مَا يطيقه فضل مِنْهُ.
فصل
وَمن صِفَات الله عَزَّ وَجَلَّ الَّتِي وصف بهَا نَفسه؛ السّمع وَالْبَصَر قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ واصفا نَفسه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ(2/139)
السَّمِيع الْبَصِير} وَقَالَ: {وَكَانَ الله سميعاً بَصيرًا} . وَقَالَ: {وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} . وَقَالَ {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِن الله فَقير وَنحن أَغْنِيَاء} . وَقَالَ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوجهَا} . الْآيَة: وَقَالَ لمُوسَى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} .
75 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا وَالِدِي، أَنا عبد الرَّحْمَن ابْن يحيى، وَعبد الله بن إِبْرَاهِيم الْمقري قَالا: نَا أَبُو مَسْعُودٍ أَنا عَلِيُّ بْنُ عبد الله ابْن جَعْفَرٍ الْمَدِينِيُّ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَحَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالا: نَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ، أَنا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهُوَيْهِ قَالا: نَا جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ تَمِيمِ بْنِ مَسْلَمَةَ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ. لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(2/140)
تُكَلِّمُهُ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ مَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قَدْ سَمِعَ الله قَول الَّتِي تُجَادِلك فِي زَوجهَا} .
76 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْوَرَّاقُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ قَالا: نَا أُسَيْدُ بْنُ عَاصِمٍ، نَا الْحُسَيْن ابْن حَفْصٍ، نَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَعْمَشِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ - رَضِي الله عَنهُ -، عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ. إِنَّهُمْ يَدْعُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ ".
77 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي أَنا حَاجِبُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ نَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدَانُ الْمَرْوَزِيُّ، نَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، نَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غزَاة، فجلعنا لَا نَصْعَدُ شَرَفًا وَلا نَهْبِطُ وَادِيًا، إِلا رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا بِالتَّكْبِيرِ، فَدَنَا مِنَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا. إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا ".(2/141)
فصل
فِي الدَّلِيل عَلَى أَن السَّمِيع لَا يكون إِلَّا بسمع، والبصير لَا يكون إِلَّا ببصر كَمَا لَا يكون الْقَدِير والحكيم إِلَّا بقدرة وَحِكْمَة.
فالسميع صفة مُشْتَقَّة من السّمع. كَمَا أَن الضَّارِب صفة مُشْتَقَّة من الضَّرْب، وَالضَّرْب مصدر لِأَن الْفِعْل صدر عَنهُ، وَإِذا كَانَ صادرا عَن الْمصدر كَانَت الصّفة المبنية من الْفِعْل صادرة عَنهُ أَيْضا وَهِي الضَّارِب. وَإِذا صَحَّ هَذَا، صَحَّ أَن السَّمِيع صفة مَبْنِيَّة من أصل مُشْتَقَّة مِنْهُ صادرة عَنهُ. وَذَلِكَ الأَصْل هُوَ السّمع، فصح أَن السَّمِيع لَا يكون إِلَّا بسمع.
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَيْضا: أَنه إِذا بَطل السّمع حصل الصمم، وَإِذا بَطل الْبَصَر حصل الْعَمى، فَيكون الله تَعَالَى فِي قَول من يثبت السَّمِيع وَلَا يثبت السّمع، سميعا أَصمّ وبصيرا أعمى، كَمَا تَقول فِي الْقَدِير والعليم، فَيبْطل الصِّفَات كلهَا وَتَكون ألفاظا لَا مَعَاني لَهَا، وَيكون الله تَعَالَى خَالِيا عَن الصِّفَات والأسماء الَّتِي هِيَ صِفَات. تَعَالَى الله عَمَّا يَقُول المعطلة.(2/142)
وَمن الدَّلِيل أَيْضا: أَن الله وصف نَفسه بِأَنَّهُ عليم وعالم، وَأثبت لنَفسِهِ الْعلم فَقَالَ عز من قَائِل: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ علمه إِلَّا بِمَا شَاءَ} فَدلَّ سِيَاق هَذَا الْكَلَام أَن الْعَلِيم الَّذِي يكون لَهُ علم، وَلَا يكون عليما إِلَّا وَله علم، كَذَلِك السَّمِيع يجب أَن يكون لَهُ سمع، والبصير يكون لَهُ بصر، فَإِن قَالُوا: السَّمِيع فِي كَلَام الْعَرَب يكون بِمَعْنى المسمع قَالَ الشَّاعِر:
(أَمن رَيْحَانَة الدَّاعِي السَّمِيع ... يؤرقني وأصحابي هجوع)
فالسميع بِمَعْنى المسمع.
قُلْنَا: بل السَّمِيع بِمَعْنى السَّامع. وَإِن قُلْنَا: قد يَجِيء السَّمِيع بِمَعْنى المسمع، وَلكنه نَادِر، والنادر لَا يُقَاس عَلَيْهِ.
وَقد قَالَ الله تَعَالَى فِي قصَّة زَكَرِيَّا: {إِنَّك سميع الدُّعَاء} . وَقَالَ: {وَالله يسمع تحاوركما} .
فَدلَّ عَلَى أَن السَّمِيع بِمَعْنى السَّامع. وَالسَّامِع لَا يكون إِلَّا وَله سمع لِأَن الْفَاعِل لَا يكون إِلَّا وَله فعل، ولان المسمع إِذا لم يكن سَامِعًا، وَلم يكن لَهُ سمع(2/143)
كَانَ أَصمّ لِأَنَّهُ يسمع غَيره، وَلَا يسمع بِنَفسِهِ تَعَالَى الله عَن هَذِهِ الصّفة.
فصل
فِي ذكر المارقة والحرورية والخوارج والرافضة
78 - أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَاذَانَ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَبَّابُ، نَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نَا أَبُو بكر بن أَبِي شَيْبَةَ، نَا(2/144)
إِسْحَاقُ الأَزْرَقُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنِ ابْنِ أَبِي أوفى قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " الْخَوَارِجُ كِلابُ أَهْلِ النَّارِ ".
79 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ الصُّدَائِيُّ، نَا أَبِي عَنْ فِطْرٍ عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَ النَّهْرَوَانِ يَقُولُ: أُمِرْتُ بِقِتَالِ النَّاكِثِينَ وَالْمَارِقِينَ. وَهَؤُلاءِ الْمَارِقُونَ.
80 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نَا أَبُو بَكْرٍ، نَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ يُسَيْرِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَأَلْتُ سَهْلَ بْنَ حنيف، مَا سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَذْكُرُ هَؤُلاءِ الْخَوَارِجَ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ وَأَشَارَ نَحْوَ الْمَشْرِقِ: " يَخْرُجُ مِنْهُ قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ بِأَلْسِنَتِهِمْ لَا يَعْدُو تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ".(2/145)
قَالَ: وَحَدَّثَنَا ابْن أَبِي عَاصِم قَالَ: سَمِعت الْمسيب بن وَاضح يَقُول: أتيت يُوسُف بن أَسْبَاط فَقلت لَهُ: يَا أَبَا مُحَمَّد: إِنَّك بَقِيَّة من مضى من الْعلمَاء، وَأَنت حجَّة عَلَى من لقِيت، وَأَنت إِمَام سنة، وَلم آتِك أسمع مِنْك الْأَحَادِيث، وَلَكِن أَتَيْتُك أَسأَلك عَن تَفْسِيرهَا. وَقد جَاءَ هَذَا الحَدِيث.
81 - " إِن بني إِسْرَائِيل افْتَرَقت عَلَى إِحْدَى وَسبعين فرقة. وَإِن هَذِهِ الْأمة سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسبعين فرقة ".
فَمَا هَذِهِ الْفرق حَتَّى نجتنبهم؟ قَالَ: أَصْلهَا أَربع: الْقَدَرِيَّة والمرجئة، والشيعة، والخوراج، فثمانية عشر مِنْهَا فِي الشِّيعَة.
(فصل)
أخبرنَا أَبُو المظفر السَّمْعَانِيّ قَالَ: وَالْأَصْل الَّذِي يؤسسه المتكلمون والطرائق الَّتِي يجعلونها قَاعِدَة علومهم مَسْأَلَة الْعرض والجوهر وإثباتهما وَأَنَّهُمْ(2/146)
قَالُوا: إِن الْأَشْيَاء لَا تَخْلُو من ثَلَاثَة أوجه: إِمَّا أَن يكون جسما أَو عرضا، أَو جوهرا. فالجسم: مَا اجْتمع من الِافْتِرَاق. والجوهر: مَا احْتمل الْأَعْرَاض. وَالْعرض: مَا لَا يقوم بِنَفسِهِ، إِنَّمَا يقوم بِغَيْرِهِ.
وَجعلُوا الرّوح من الْأَعْرَاض، وردوا أَخْبَار رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي خلق الرّوح قبل الْجَسَد، لِأَنَّهُ لم يُوَافق نظرهم وأصولهم.(2/147)
82 - وردوا خبهة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي خلق الْعقل قبل الْخلق. وَإِنَّمَا ردوا هَذِهِ الْأَخْبَار لِأَن الْعقل عِنْدهم عرض، وَالْعرض: لَا يقوم بِنَفسِهِ، فَردُّوا الْأَخْبَار بِهَذَا الطَّرِيق. وَكَذَلِكَ ردوا الْخَبَر الَّذِي رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
83 - أَن الْمَوْت يذبح عَلَى الصِّرَاط. لِأَن الْمَوْت عرض لَا ينْفَرد بِنَفسِهِ، فَهَذَا أصلهم الثَّانِي الَّذِي أدّى إِلَى رد الْأَخْبَار الثَّابِتَة عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَمثل هَذَا كثير.
وَلِهَذَا قَالَ بعض السّلف: إِن أهل الْكَلَام أَعدَاء الدّين لِأَن اعتمادهم عَلَى حدسهم وظنونهم، وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ نظرهم وفكرهم، ثمَّ يعرضون عَلَيْهِ الْأَحَادِيث فَمَا وَافقه قبلوه وَمَا خَالفه ردُّوهُ.(2/148)
وَأما أهل السّنة سلمهم الله، فَإِنَّهُم يتمسكون بِمَا نطق بِهِ الْكتاب ووردت بِهِ السّنة، ويحتجون لَهُ بالحجج الْوَاضِحَة، والدلائل الصَّحِيحَة عَلَى حسب مَا أذن فِيهِ الشَّرْع، وَورد بِهِ السّمع، وَلَا يدْخلُونَ بآرائهم فِي صِفَات الله تَعَالَى، وَلَا فِي غَيرهَا من أُمُور الدّين، وعَلى هَذَا وجدوا سلفهم وأئمتهم وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وسراجاً منيراً} . وَقَالَ أَيْضا: {يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بلغت رسَالَته}
84 - وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي خطْبَة الْوَدَاع، وَفِي مقامات لَهُ شَتَّى، وبحضرة عَامَّة أَصْحَابه: " أَلا هَل بلغت ".
وَكَانَ فِيمَا أنزل إِلَيْهِ وَأمر بتبليغه، أَمر التَّوْحِيد وَبَيَانه بطريقه، فَلم يتْرك النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَيْئا من أُمُور الدّين وقواعده وأصوله وشرائعه، إِلا بَينه وبلغه عَلَى كَمَاله وَتَمَامه، وَلم يُؤَخر بَيَانه عَن وَقت الْحَاجة إِلَيْهِ، إِذ لَو أخر لَكَانَ قد كلفهم مَا لَا سَبِيل لَهُم إِلَيْهِ.(2/149)
وَإِذا كَانَ الْأَمر عَلَى مَا قُلْنَا، وَقد علمنَا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يدعهم فِي هَذِه الْأُمُور إِلَى الِاسْتِدْلَال بالأعراض والجواهر، وَذكر ماهيتها. وَلَا يُمكن لأحد من النَّاس أَن يروي فِي ذَلِكَ عَنهُ، وَلَا عَن أحد من الصَّحَابَة - رضى الله عَنْهُم - من هَذَا النمط حرفا وَاحِدًا فَمَا فَوْقه. لَا فِي طَرِيق تَوَاتر، وَلَا أحاد. فَعلمنَا أَنهم ذَهَبُوا خلاف مَذْهَب هَؤُلاءِ، وسلكوا غير طريقهم، وَأَن هَذَا طَرِيق مُحدث مخترع لم يكن عَلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا أَصْحَابه. وسلوكه يعود عَلَيْهِم بالطعن، والقدح، ونسبتهم إِلَى قلَّة الْعلم فِي الدّين واشتباه الطَّرِيق عَلَيْهِم. فإياك - رَحِمك الله - أَن تشتغل بكلامهم، وَلَا تغتر بِكَثْرَة مقالاتهم فَإِنَّهَا سريعة التهافت كَثِيرَة التَّنَاقُض، وَمَا من كَلَام تسمعه لفرقة مِنْهُم إِلَّا ولخصومهم عَلَيْهِ كَلَام يوازيه أَو يُقَارِبه.
فَكل بِكُل معَارض، وَبَعض بِبَعْض مُقَابل، وَإِنَّمَا يكون تقدم الْوَاحِد مِنْهُم وفلجه عَلَى خَصمه بِقدر حَظه من الْبَيَان، وحذقة فِي صناعَة الجدل عَلَى أصُول لَهُم، ومناقضات عَلَى أَقْوَال حفظوها عَلَيْهِم، فهم يطالبونهم بقودها فَمن تقاعد مِنْهُم عَن ذَلِكَ سموهُ من طَرِيق الجدل مُنْقَطِعًا، وحكموا بالفلج لخصمه. والجدل لَا يتَبَيَّن بِهِ حق وَلَا يقوم بِهِ حجَّة، وَلَو أنصفوا فِي المحاجة لزم الْوَاحِد(2/150)
مِنْهُم أَن ينْتَقل عَن مذْهبه كل يَوْم كَذَا وَكَذَا مرّة، لما يُورد عَلَيْهِ من الإلزامات، وتراهم ينقطعون فِي الْحجَّاج وَلَا ينتقلون، وَهَذَا هُوَ الدَّلِيل عَلَى أَنه لَيْسَ قصدهم طلب الْحق. إِنَّمَا طريقهم إتباع الْهوى فَحسب.
وَمن قَبِيح مَا يلْزمهُم فِي اعْتِقَادهم، أَنا إِذا بَينا الْحق عَلَى مَا قَالُوهُ، وأوجبنا طلب الدّين بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكرُوهُ، وَجب من ذَلِكَ تَكْفِير الْعَوام بأجمعهم لأَنهم لَا يعْرفُونَ إِلَّا الِاتِّبَاع الْمُجَرّد. وَلَو عرض عَلَيْهِم طَرِيق الْمُتَكَلِّمين فِي معرفَة الله تَعَالَى، مَا فهمه أَكْثَرهم، فضلا من أَن يصير فِيهِ صَاحب اسْتِدْلَال وحجاج، وَإِنَّمَا غَايَة توحيدهم الْتِزَام مَا وجدوا عَلَيْهِ سلفهم، وأئمتهم فِي عقائد الدّين والعض عَلَيْهَا بالنواخذ، والمواظبة عَلَى وظائف الْعِبَادَات، وملازمة الْأَذْكَار بقلوب سليمَة طَاهِرَة عَن الشُّبُهَات والشكوك. تراهم لَا يحيدون عَمَّا اعتقدوه، وَإِن قطعُوا إربا إربا.
فهنيئا لَهُم هَذَا الْيَقِين وطوبى لَهُم هَذِهِ السَّلامَة، فَإِذا كفرُوا هَؤُلاءِ وَهُوَ السوَاد الْأَعْظَم وَجُمْهُور الْأمة، فَمَا هَذَا إِلَّا طي بِسَاط الْإِسْلَام، وَهدم منار الدّين وأركان الشَّرِيعَة، وإلحاق هَذِه الدَّار بدار الْكفْر وَجعل أهليها بِمَنْزِلَة وَاحِدَة، وَمَتى يُوجد فِي الألوف من الْمُسلمين عَلَى الشَّرْط الَّذِي يراعونه بتصحيح معرفَة الله تَعَالَى؟ أَو لَا يجد مُسلم ألم هَذِهِ الْمقَالة القبيحة الشنيعة؟ ، وَالله تَعَالَى يَكْفِي أهل السّنة وَالْجَمَاعَة شرهم وَيرد كيدهم فِي نحرهم، وَيلْحق بهم عَاقِبَة مَكْرهمْ.(2/151)
فصل
قَالَ أَبُو الشَّيْخ رَحمَه الله: ذكر الْفرق بَين الْإِيمَان وَالْإِسْلَام.(2/152)
85 - أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عبد الْغفار، أَنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي نَصْرٍ، نَا أَبُو مُحَمَّدِ ابْن حِبَّانَ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أُسَيْدٍ، نَا الأَثْرَمُ، نَا أَبُو الْوَلِيدِ، نَا سَلامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ قَالَ: سَمِعْتُ مَعْمَرًا، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيه أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَسَّمَ قَسْمًا فَأَعْطَى نَاسًا، وَمَنَعَ الآخَرِينَ. فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَعْطَيْتَ فُلانًا وَفُلانًا وَمَنَعْتَ فُلانًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَقَالَ: " لَا تَقُلْ مُؤْمِنٌ، قُلْ مُسْلِمٌ " قَالَ ابْنُ شِهَابٌ ": {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: نَرَى أَنَّ الإِسْلامَ: الْكَلِمَةُ، وَالإِيمَانَ الْعَمَلُ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخ، نَا سلم بن عِصَام، نَا رستة قَالَ: " سَأَلت عبد الرَّحْمَن عَن الْإِيمَان وَالْإِسْلَام هما وَاحِد؟ قَالَ: هما شَيْئَانِ وَاحْتج فِي ذَلِكَ بِالْحَدِيثِ حَيْثُ:(2/153)
86 - سَأَلَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلامُ عَن الْإِسْلَام وَالْإِيمَان فَأَجَابَهُ فِي هَذَا بقول، وَفِي هَذَا بقول.
وَرُوِيَ أَن حَمَّاد بن زيد كَانَ يفرق بَين الْإِيمَان وَالْإِسْلَام، يَجْعَل الْإِسْلَام عَاما، وَالْإِيمَان خَاصّا.
وَقَالَ مَالك بن أنس، وَشريك، وَحَمَّاد، بن سَلمَة: الْإِيمَان الْمعرفَة، وَالْإِقْرَار، وَالْعَمَل.
87 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مَنْدَهْ، نَا بُنْدَارٌ، نَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا دَخَلَ الْمَقَابِرَ قَالَ: " السَّلامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ ".
قَالَ أَبُو الشَّيْخ: ذكر حُدُود الْإِيمَان وأعلاها، وَأَدْنَاهَا، وحقوقها، وشعبها.(2/154)
88 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ، نَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يزِيد، نَا يحيى ابْن سُلَيْمٍ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلانَ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَابًا، أَعْلاهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا رَفْعُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ ".
89 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَحْمَد بن خَالِد الرَّازِيّ، نَا مُحَمَّد بن يَحْيَى النَّيْسَابُورِي، نَا يعلى بن عبيد، نَا الْأَعْمَش، عَن أَبِي صَالح، عَن عبد الله بن ضَمرَة عَن كَعْب، قَالَ: من أَقَامَ الصَّلَاة، وَآتى الزَّكَاة، وَسمع وأطاع فقد توَسط الْإِيمَان، وَمن أحب لله، وَأبْغض لله، وَأعْطى لله، وَمنع لله فقد اسْتكْمل الْإِيمَان.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا عبد الله بن مُحَمَّد بن عمرَان، وَأحمد بن إِسْحَاق قَالَا: نَا ابْن أَبِي عمر،، نَا سُفْيَان، عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عبيد بن عُمَيْر قَالَ: من صدق الْإِيمَان وبره، إسباغ الْوضُوء فِي المكاره، وَمن صدق الْإِيمَان وبره، أَن يَخْلُو الرجل بِالْمَرْأَةِ الجميلة فيدعها لَا يَدعهَا إِلَّا لله.
قَالَ سُفْيَان: وعد أمورا من صدق الْإِيمَان وبره.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الطبركي، نَا مُحَمَّد بن مهْرَان الْجمال نَا أَبُو نعيم عَن سُفْيَان عَن رجل قد سَمَّاهُ لي.(2/155)
قَالَ: قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز: الْإِيمَان فَرَائض وَشَرَائِع وَسنَن، فَمن استكملهن اسْتكْمل الْإِيمَان، وَمن لم يستكملهن لم يستكمل الْإِيمَان فَإِن أعش فسأبينهن لكم، وَأَن أمت فَمَا أَنا بحريص عَلَى صحبتكم.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ، نَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: قَالَ الأَوْزَاعِيُّ: يَقُولُونَ إِنَّ فَرَائِضَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ لَيْسَ مِنَ الإِيمَانِ، وَإِنَّ بَرَّهُمْ وَفَاجِرَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ، وَمَا هَكَذَا عَنْ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بلغنَا:
90 - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْإِيمَان بضع وَسِتُّونَ أَو سَبْعُونَ جُزْءا، أَوَّلُهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ. وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ ".
وَقَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} . وَالدّين: هُوَ التَّصْدِيق وَهُوَ الْإِيمَان وَالْعَمَل. وَوصف الله الدّين قولا وَعَملا فَقَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فإخوانكم فِي الدّين} . وَالتَّوْبَة من الشّرك هِيَ الْإِيمَان.(2/156)
قَالَ: وَحَدَّثَنَا عبد الله بن سُلَيْمَان، نَا الْعَبَّاس بن الْوَلِيد، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: سَمِعت الْأَوْزَاعِيّ قَالَ: سَمِعت يَحْيَى بن أَبِي كثير، يَقُول إِن الله عَزَّ وَجَلَّ لم يبْعَث نَبيا قطّ إِلَّا بهؤلاء الْخمس: التَّوْحِيد، وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة، وَصِيَام رَمَضَان، وَحج الْبَيْت، وَشَرَائِع بعد.
91 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَارِسِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحِيمِ الْجُوزْجَانِيُّ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ عز وَجل: {ليزدادوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانهم} .
قَالَ: بعث الله عزوجل نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَلَمَّا صَدَّقَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ زَادَهُمُ الصَّلاةَ، فَلَمَّا صَدَّقُوا بِهِ زَادَهُمُ الزَّكَاةَ، فَلَمَّا صَدَّقُوا بِهَا زَادَهُمُ الصِّيَامَ، فَلَمَّا صَدَّقُوا بِهِ زَادَهُمُ الْحَجَّ، فَلَمَّا صَدَّقُوا بِهِ زَادَهُمُ الْجِهَادَ، ثُمَّ أَكْمَلَ لَهُمْ دينهم فَقَالَ: {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} .(2/157)
قَالَ: وَأَخْبَرَنَا عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم، نَا أَبُو زرْعَة، نَا عُثْمَان ابْن أَبِي شيبَة، نَا حكام، عَن الْحسن بن عميرَة قَالَ: قيل لِلْحسنِ: إِن نَاسا يَقُولُونَ: من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله دخل الْجنَّة. قَالَ: من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله فَأدى حَقّهَا وفرضها، دخل الْجنَّة.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا إِسْحَاق بن أَحْمَد، نَا مُحَمَّد بن إبان الْبَلْخِي، نَا عبد الْملك ابْن عبد الرَّحْمَن الصَّنْعَانِيّ، عَن مُحَمَّد بن سَعِيد بن رمانة، عَن أَبِيه قَالَ: قيل لوهب بن مُنَبّه: أَلَيْسَ مِفْتَاح الْجنَّة لَا إِلَه إِلَّا الله؟ قَالَ: نعم، وَلَكِن لَيْسَ مِفْتَاح إِلَّا لَهُ أَسْنَان، فَمن جَاءَ بِهِ بِأَسْنَانِهِ فتح، وَإِلَّا لم يفتح.
92 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ، نَا مِهْرَانُ، نَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ عَوْفٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ الْجَمَلِيِّ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ(2/158)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الإِيمَانُ يَبْدُو لُمْظَةً بَيْضَاءَ فِي الْقَلْبِ، فَكُلَّمَا ازْدَادَ الإِيمَانُ عِظَمًا ازْدَادَ الْقَلْبُ بَيَاضًا، فَإِذَا اسْتُكْمِلَ الإِيمَانُ، ابْيَضَّ الْقَلْبُ كُلُّهُ. وَإِنَّ النِّفَاقَ يَبْدُو لُمْظَةً سَوْدَاءَ فِي الْقَلْبِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ النِّفَاقُ ازْدَادَ الْقَلْبُ سَوَادًا. فَإِذَا اسْتُكْمِلَ النِّفَاقُ اسْوَدَّ الْقَلْبُ كُلُّهُ.
وَأَيْمُ اللَّهِ لَوْ شَقَقْتُمْ عَنْ قَلْبِ مُؤْمِنٍ لَرَأَيْتُمُوهُ أَبْيَضَ، وَإِنْ شَقَقْتُمْ عَنْ قَلْبِ مُنَافِقٍ لَرَأَيْتُمُوهُ أَسْوَدَ. قَالَ الشَّيْخ الإِمَام حرسه الله: اللمظة: النُّكْتَة، والنقطة.
فصل
قَالَ هِشَام بن عمار: وَمِمَّا يبين لأهل الْعقل أَن الْإِيمَان قَول وَعمل يزِيد وَينْقص، مَا جَاءَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْأَحَادِيث:(2/159)
93 - أَن الْحيَاء من الْأَيْمَان.
94 - وَأَن حسن الْعَهْد من الْإِيمَان.
95 - وَإِن للْإيمَان عرى، وأوثق عرى الْإِيمَان الْحبّ فِي الله، والبغض فِي الله.(2/160)
قَالُوا: وَإِن للْإيمَان أركانا، ودعائم، وذروة، وَحَقِيقَة، ومحبة، وصريحا، وصدقا، وَبرا، وحلاوة، وزينة، ولباسا، وشطرا.
فَمن أَرْكَانه: التَّسْلِيم لأمر الله، والرضى بِقدر الله، والتفويض إِلَى الله، والتوكل عَلَى الله.
وَمن دعائمه: الصَّبْر، وَالْيَقِين، وَالْعدْل، وَالْجهَاد.
وصريح الْإِيمَان: أَن يصل من قطعه، وَيُعْطِي من حرمه، وَيَعْفُو عَمَّن ظلمه، وَيغْفر لمن شَتمه، وَيحسن إِلَى من أَسَاءَ إِلَيْهِ.
وذروته: أَن يكون الْفقر أحب إِلَيْهِ من الْغنى، والتواضع أحب إِلَيْهِ من الشّرف، وَأَن يكون ذامه وحامده فِي الْحق عِنْده سَوَاء.(2/161)
96 - مَا رُوِيَ ثَلَاث من كن فِيهِ فقد اسْتوْجبَ حَقِيقَة الْإِيمَان: حب الْمَرْء فِي الله، وَأما استكماله:
97 - فَمَا رُوِيَ: لَا يستكمل العَبْد الْإِيمَان كُله حَتَّى يحب لِأَخِيهِ مَا يحب لنَفسِهِ، وَحَتَّى يقدم الصَّلَاة فِي الْيَوْم الدجن، وَحَتَّى يجْتَنب الْكَذِب فِي مزاحه.
98 - وَمَا رُوِيَ: لَا يستكمل عبد حَقِيقَة الْإِيمَان حَتَّى يخزن لِسَانه. وَأما طعم الْإِيمَان:
99 - فَإِن يعلم أَن مَا أَصَابَهُ لم يكن ليخطئه، وَمَا أخطأه لم يكن ليصيبه، وَلَا يَقُول: لَوْلَا وَلَو أَن، ويدع المراء وَهُوَ محق، ويدع الْكَذِب فِي المزاح. رُوِيَ ذَلِكَ عَن ابْن مَسْعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -.(2/162)
وَأما مَحْض الْإِيمَان
100 - فَمَا رُوِيَ أَنهم قَالُوا: يَا رَسُول الله إِن أَحَدنَا ليحدث نَفسه بالشَّيْء مَا يحب أَن يتَكَلَّم بِهِ، قَالَ: " ذَلِكَ مَحْض الْإِيمَان "
وَأما صدق الْإِيمَان وبره
فَمَا رُوِيَ عَن عبيد بن عُمَيْر قَالَ: من صدق الْإِيمَان وبره، إسباغ الْوضُوء فِي المكاره، وَمن صدق الْإِيمَان وبره أَن يَخْلُو الرجل بِالْمَرْأَةِ الْحَسْنَاء فيدعها لَا يَدعهَا إِلَّا لله.
وَأما لِبَاسه
فالتقوى رُوِيَ ذَلِكَ عَن وهب بن مُنَبّه.
وَأما حلاوته
101 - فَروِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ثَلَاث من كن فِيهِ وجد حلاوة الْإِيمَان: أَن يكون الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا، وَأَن يحب العَبْد لَا يُحِبهُ إِلَّا لله، وَأَن يكره أَن يرجع فِي الْكفْر بعد إِذْ أنقذه الله مِنْهُ، كَمَا يكره أَن يلقى فِي النَّار ".
(وَأما شطر الْإِيمَان)
102 - فَمَا رُوِيَ عَن أَبِي مَالك الْأَشْعَرِيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الطّهُور شطر الْإِيمَان " وَفِي رِوَايَة: " إسباغ الْوضُوء شطر الْإِيمَان،(2/163)
وَالْحَمْد لله يمْلَأ الْمِيزَان، وَالتَّكْبِير وَالتَّسْبِيح يمْلَأ السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالصَّلَاة نور، وَالصَّدَََقَة برهَان، وَالصَّبْر ضِيَاء، وَالْقُرْآن حجَّة لَك أَو عَلَيْك، كل النَّاس يَغْدُو فَبَايع نَفسه، فمعتقها، أَو موبقها ".
وَأما نصف الْإِيمَان:
103 - فَروِيَ عَن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصَّبْر نصف الْإِيمَان، وَالْيَقِين الْإِيمَان كُله.
فصل فِيمَا يفْسد الْإِيمَان
105 - أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عبد الْغفار، أَنا أَبُو بكر بْنُ أَبِي نَصْرٍ، نَا أَبُو الشَّيْخِ، أَنا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نَا يَعْقُوبُ بْنُ كَعْبٍ الْأَنْطَاكِي نَا يحيى ابْن المتَوَكل، نَا(2/164)
هِلالُ بْنُ أَبِي هِلالٍ الْبَصْرِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ سُوءَ الْخُلُقِ يُفْسِدُ إِيمَانَ الْعَبْدِ، كَمَا يفْسد الصَّبْر الطَّعَام ".
106 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ، نَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، نَا شِهَابُ بْنُ خِرَاشٍ، نَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، نَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي بَشِيرٍ، عَن عبد الله ابْن الْمُسَاوِرِ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَشْبَعُ، وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَانِبِهِ ".
107 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو يَعْلَى، نَا كَامِلُ بْنُ طَلْحَةَ، نَا ابْنُ لَهِيعَةَ، نَا أَبُو الأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَجْتَمِعُ الإِيمَانُ وَالْكُفْرُ فِي قَلْبٍ أَبَدًا، وَلا يَجْتَمِعُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ أَبَدًا، وَلا يَجْتَمِعُ الْخِيَانَة وَالْأَمَانَة جَمِيعًا ".(2/165)
108 - قَالَ: وَحدثنَا ابْنُ سَعِيدٍ، نَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، نَا ابْنُ عَيَّاشٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيم لِسَانه، وَلَا يَسْتَقِيمُ لِسَانُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ خَافَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا بَوَائِقُهُ؟ قَالَ: غَشْمُهُ وَظُلْمُهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ أَصَابَ مَالا مِنْ غَيْرِ حَلالٍ، فَإِنْ أَنْفَقَ مِنْهُ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَمَا تَصَدَّقَ بِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَفَضْلُهُ رَادُّهُ إِلَى النَّارِ. إِنَّ اللَّهَ لَا يُكَفِّرُ السيء بالسيء، وَلَكِن يكفر السيء بِالطَّيِّبِ، إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيثَ ".
فصل
109 - رُوِيَ عَن عبد الله بن عمر - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يطبع الْمُؤمن عَلَى كل خلق لَيْسَ الْخِيَانَة وَالْكذب ".(2/166)
110 - وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلا اللَّعَّانِ، وَلا الْفَاحِشِ، وَلا الْبَذِيءِ ". أَخْبَرَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْغَفَّارِ، أَنا أَبُو بكر بْن أَبِي نصر، نَا أَبُو الشَّيْخِ، نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ الأَسَدِيُّ، نَا أَحْمد ابْن يُونُسَ، نَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ الْحسن بن عَمْرو، عَن مُحَمَّد ابْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِذَلِكَ.
111 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخ، نَا عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد، نَا أَبُو زرْعَة، نَا يحيى ابْن سُلَيْمَانَ الْجُعْفِيُّ، نَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئ عَن عَمْرو بن مَالك الجبني، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ: " أَلا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ " قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ ".(2/167)
فصل فِي بَيَان خطأ من أنكر أَن يكون فِي الْمُصحف الْقُرْآن
يُقَال لَهُ: لم أنْكرت أَن يكون فِي الْمُصحف قُرْآن؟ فَيَقُول: لِأَن الْمُصحف فِيهِ الحبر والكاغد - والحبر والكاغد - لَا يكون قُرْآنًا، وَكَذَا كِتَابَة الْقُرْآن عَلَى الجدران، وحواشي الثِّيَاب والبسط، إِنَّمَا هُوَ طين وَلَا زورد، وَنقش لَيْسَ بقرآن، لِأَن الْقُرْآن لَا يكون طينا وَلَا زوردا، وَهَذِه الْأَشْيَاء مخلوقة، وَالْقُرْآن لَيْسَ بمخلوق.(2/168)
يُقَال: لَهُ: إِن كل عَاقل يعلم أَن الحبر والكاغد، لَا يكون قُرْآنًا. وَلَكِن الحبر إِذا كتب لَهُ الْقُرْآن فَتلك الْكِتَابَة تسمى قُرْآنًا، لِأَن بهَا يتَوَصَّل إِلَى قِرَاءَة الْقُرْآن وإظهاره، والإخبار عَنهُ، فَهُوَ ملازم لَهُ لُزُوم جُزْء من أَجْزَائِهِ، يُوجد الْقُرْآن بِوُجُودِهِ، ويعدم بِعَدَمِهِ، وَإِذا وجد الشَّيْء بِوُجُود الشَّيْء وَعدم بِعَدَمِهِ فَهُوَ ذَلِكَ الشَّيْء بِعَيْنِه، وَهَذَا كالاسم والمسمى. وَالِاسْم هُوَ الْمُسَمّى بِعَيْنِه لِأَن الِاسْم يُوجد بِوُجُود الْمُسَمّى، ويعدم بِعَدَمِهِ، فَدلَّ أَنه هُوَ بِعَيْنِه.
أَلا ترى أَن حَالفا لَو حلف أَن لَا يقْرَأ الْقُرْآن، وَلَا ينظر فِيهِ فَقَرَأَ كِتَابَة الْقُرْآن فِي الْمُصحف، وَنظر فِيهِ حنث فِي يَمِينه، كَمَا أَنه لَو حلف أَن لَا يضْرب زيدا فَضرب شخصه حنث فِي يَمِينه، وَلَو كَانَ الِاسْم غير الْمُسَمّى لم يكن حانثا فِي يَمِينه، لِأَنَّهُ ضرب شخصه، وَلم يضْرب زيدا الَّذِي هُوَ اسْمه، وَقد حلف عَلَى اسْمه وَلَو يحلف عَلَى شخصه، وذاته الْمُسَمّى بِهِ وَكَذَلِكَ لَو قَالَ:(2/169)
طلقت هندا فَطلق شخصها وذاتها لم يُطلق اسْمهَا فَقَط، وَلَكِن طلق شخصها وَاسْمهَا كَذَلِك كِتَابَة الْقُرْآن فِي الْمُصحف وَغَيره.
وَلِأَن الله تَعَالَى ذكر الْكتاب فِي عدَّة مَوَاضِع من الْقُرْآن، وَسَماهُ قُرْآنًا، وَأَرَادَ بِهِ الْقُرْآن، أَلا ترى أَنه قَالَ: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا لَعَلَّكُمْ تعقلون} وَقَالَ: {الر كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك} فَسمى الْكِتَابَة قُرْآنًا. أَيْن كَانَت؟ لِأَن الْكِتَابَة وَالْكتاب مَعْنَاهُمَا وَاحِد يَقُول: كتبت الْكتاب أكتبه كتابا، وَكِتَابَة وهما شَيْء وَاحِد.
وَلِأَن كِتَابَة الْقُرْآن فِي الْمُصحف وَغَيره. إِذا عدمت من الْمُصحف وَغَيره لم يُمكن قِرَاءَة الْقُرْآن مِنْهُ وَبَقِي الْمُصحف بَيَاضًا لَا شَيْء فِيهِ، فَدلَّ أَن ذَلِكَ مُتَعَلق بِالْكِتَابَةِ، وَأَنَّهَا كالوعاء الملازم لِلْقُرْآنِ.
وَلِأَن مصحف الْقُرْآن لَا يَخْلُو من أَن يكون فِيهِ قُرْآنًا، أَو لَا يكون فِيهِ قُرْآن.(2/170)
وَإِن قَالَ المبتدع: لَيْسَ فِيهِ قُرْآن فقد خَالف الْإِجْمَاع أَنه مصحف الْقُرْآن، وَلَا يجوز أَن يُسمى مصحف الْقُرْآن، وَلَيْسَ فِيهِ قُرْآن، لِأَنَّهُ لَو لم يكن فِيهِ قُرْآن كَانَ من سَمَّاهُ مصحف الْقُرْآن كَاذِبًا.
وَلِأَن الشَّيْء لَا يُضَاف إِلَى الشَّيْء حَقِيقَة وَأَحَدهمَا مَعْدُوم غير مَوْجُود، فإضافة الْمُصحف إِلَى الْقُرْآن إِنَّمَا يَصح حَقِيقَة إِذا كَانَ فِيهِ الْقُرْآن فِي الْحَال، لِأَن الْحُرُوف والكلمات والآيات والسور الْمَكْتُوبَة فِي الْمُصحف وَغَيره من نفس الْقُرْآن وعينه، لِأَنَّهَا حُرُوفه وكلماته، وسوره، وَإِذا عدت قيل: عدت حُرُوف الْقُرْآن وكلماته، حَتَّى لَو أَن حَالفا حلف أَنه لَا يتَلَفَّظ بِالْقُرْآنِ أَو بِآيَة من آيَاته، أَو سُورَة من سوره فَقَرَأَ الْكِتَابَة أَو تلفظ بِتِلْكَ الْحُرُوف أَو بِبَعْض ذَلِكَ كَانَ حانثا فِي يَمِينه، لِأَنَّهُ تلفظ بِمَا هُوَ قُرْآن. وَلِأَنَّهُ:
112 - رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه نهى أَن يُسَافر بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرض الْعَدو ". مَخَافَة أَن يَنَالهُ الْعَدو. فَسمى الْمُصحف قُرْآنًا.
وَلِأَن الله قَالَ: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا فِي قرطاس فلمسوه بِأَيْدِيهِم} فأبان أَن الْمَكْتُوب فِي الْقَرَاطِيس وعَلى الْجِدَار، والبساط، وَغَيرهَا قُرْآن يَقع اللَّمْس عَلَيْهِ.(2/171)
وَلِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {إِنَّه لقرآن كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطهرُونَ} فَدلَّ أَن الْمَكْتُوب فِي الْمُصحف قُرْآن لِأَن الله سَمَّاهُ قُرْآنًا.
فَإِن قيل: المُرَاد بذلك الَّذِي فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَأَرَادَ بالمطهرين الْمَلَائِكَة.
قيل: المُرَاد بِهِ الْقُرْآن الَّذِي هُوَ فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَالْقُرْآن الَّذِي عندنَا، لِأَن الله تَعَالَى سَمَّاهُ قُرْآنًا فِي كلا الْمَوْضِعَيْنِ.
وَقَوله: لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ، يَعْنِي الْمَلَائِكَة وَالنَّاس، فَكَمَا لَا يجوز أَن يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ من الْمَلَائِكَة، كَذَلِك لَا يجوز أَن يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ من النَّاس لِأَن الْمُحدث، وَالْجنب لَا يجوز لَهما أَن يمسا الْمُصحف حَتَّى يتطهرا.(2/172)
فصل فِي بَيَان أَن المتلو، والمكتوب، والمسوع، من الْقُرْآن كَلَام الله عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي نزل بِهِ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلامُ - من عِنْد الله عز وَجل على قلب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ الله تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ على عَبده الْكتاب} . وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَات محكمات} . وَقَالَ: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا} وَقَالَ: {فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله}
113 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا وَالِدِي، أَنا أَبُو عَمْرو أَحْمد ابْن مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، نَا مُوسَى بْنُ سَعِيدِ بن النُّعْمَان الطرطوسي، نَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ أَبُو عبد الله الْمقري، نَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ، نَا الْحُسَيْن بن حَفْص، قَالَا: نَا إِسْرَائِيل ابْن يُونُسَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الثَّقَفِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْد اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -(2/173)
قَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعْرِضُ نَفْسَهُ بِالْمَوْقِفِ، وَيَقُولُ: " إِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلامَ رَبِّي ".
114 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرو، أَنا وَالِدي، أَنا أَحْمد بن زَكَرِيَّاء ابْن يَعْقُوبَ الْمَقْدِسِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، نَا ابْنُ عُلَيَّةَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الشَّيْبَانِيُّ، نَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّد ابْن يَحْيَى، نَا مُسَدَّدٌ، نَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالا: نَا حَجَّاجُ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ الصَّوَّافُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ هِلالِ بن أبي مَيْمُونَة عَن عَطاء ابْن يسَار، عَن مُعَاوِيَة بْن الحكم السّلمِيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ إِلَى جَنْبِي فَقُلْتُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أمِّياه، مَالِي أَرَاكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ وَأَنَا أُصَلِّي، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ يُصَمِّتُونِّي، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ سكت، فَلَمَّا قضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلاتَهُ، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، وَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلَكِنَّهُ قَالَ: " إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام النَّاس، إِنما الصَّلاةُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّمْجِيدِ ".(2/174)
115 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجَوَّادُ بِمَكَّةَ، نَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيُّ، نَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي رَمَضَانَ، فَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْدِثَ شَيْئًا أَحْدَثَهُ. يَعْنِي بِالْوَحْيِ.
116 - وروى فُضَيْل بن سُلَيْمَان، عَن أَبِي مَالك الْأَشْجَعِيّ، عَن ربعي، عَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وَعَن أَبِي مَالك، عَن أَبِي حَازِم، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يسري عَلَى كتاب الله فِي لَيْلَة فَلَا يبْقى فِي الأَرْض مِنْهُ آيَة، وَتبقى طوائف من النَّاس: الشَّيْخ الْكَبِير، والعجوز الْكَبِيرَة يَقُولُونَ: أدركنا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَة لَا إِلَه إِلَّا الله فَنحْن نقولها ".
117 - وروى يزِيد بن حبَان، عَن زيد بن أَرقم، عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنِّي تَارِك فِيكُم الثقلَيْن أَولهمَا كتاب الله فِيهِ الْهدى والنور ". فَحَث عَلَى كتاب الله وَرغب فِيهِ.(2/175)
118 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا وَالِدِي، أَنا عبد الله ابْن أَحْمَدَ، نَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الأَصْفَهَانِيِّ، نَا أَبُو خَالِدٍ سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَن أَبُو شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ سَبَبٌ، طَرَفُهُ بِيَدِ اللَّهِ، وَطَرَفُهُ بِأَيْدِيكُمْ، فَتَمَسَّكُوا بِهِ فَإِنَّكُمْ لَنْ تَضِلُّوا مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ ".
119 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الله ابْن الْحَارِثِ، نَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله} قَالَ: حَبْلُ اللَّهِ الْقُرْآنُ.(2/176)
فصل فِي الدَّلِيل عَلَى أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُنْذُ بعث كَانَ رَسُولا حَقِيقَة وَهُوَ الْآن فِي قَبره رَسُول حَقِيقَة
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَول الله عَزَّ وَجَلَّ: {يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك} فَسَماهُ رَسُول قبل أَن يبلغ الرسَالَة، وَالله تَعَالَى لَا يَقُول الْمجَاز.
120 - وَرُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كنت رَسُولا وآدَم بَين الرّوح والجسد ".
وَيُؤَيّد هَذَا قَوْله عَزَّ وَجَلَّ حِكَايَة عَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي من بعدِي اسْمه أَحْمد} فَسَماهُ الله تَعَالَى رَسُولا من قبل أَن وجد، وَقبل أَن ولد،(2/177)
وَقبل أَن أُوحِي إِلَيْهِ، وَقبل أَن يبلغ الرسَالَة. وَإِذا كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْد الله وَفِي علم الله قبل أَن وجد حَقِيقَة، وَكَانَت الرسَالَة مَوْجُودَة مَعَه حَقِيقَة كَانَ رَسُولا حَامِلا للرسالة، وَمَا لم يخرج عَن عُهْدَة الرسَالَة بتبليغها بِتَمَامِهَا لم يزل عَنهُ اسْم الرسَالَة.
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُم آيَاتنَا} فَقَوله: يَتْلُو فِي مَوضِع الْحَال، أَي تاليا عَلَيْكُم الرسَالَة، أَي فِي حَال تِلَاوَة الرسَالَة وتبليغها.
وَالدَّلِيل على أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَسُول بعد وَفَاته حَقِيقَة وَهُوَ الْآن فِي قَبره رَسُول حَقِيقَة، مبلغ للرسالة كَمَا كَانَ فِي حَيَاته قَول الله تَعَالَى لنَبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - {قل يَا أَيهَا النَّاس إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم جَمِيعًا} وَهَذَا خطاب لكافة النَّاس من كَانَ فِي عصر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَمن جَاءَ بعد وَفَاته، وَيَجِيء إِلَى أَن تقوم السَّاعَة، وَإِذا كَانَ رَسُولا إِلَى من كَانَ فِي عصره حَقِيقَة مبلغا الرسَالَة إِلَيْهِم خطابا وكتابا، فَكَذَلِك يكون رَسُولا إِلَى من جَاءَ وَيَجِيء بعد وَفَاته مبلغا إِلَيْهِم الرسَالَة إِخْبَارًا، وكتاباً، وإعلاما، لِأَن بعض الْخطاب لَا يكون حَقِيقَة، وَبَعضه مجَازًا فَدلَّ أَن الْخطاب من الله تَعَالَى لكافة النَّاس إِلَى يَوْم الْمعَاد حَقِيقَة، وَأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من لدن بَعثه الله إِلَى يَوْم الْقِيَامَة رَسُول حَقِيقَة.(2/178)
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَول الْمُسلمين فِي التَّشَهُّد: أشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول الله، وَهَذَا القَوْل بمجموعه ركن من أَرْكَان الدّين، فَلَا يجوز أَلا أَن يكون كُله حَقِيقَة لَا مجَاز فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن نقُول ونعتقد: وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا كَانَ رَسُول الله يَوْمًا من الْأَيَّام ودهرا من الدَّهْر، وَهُوَ لَيْسَ برَسُول الله حَقِيقَة، وَإِذا لم يجز أَن يكون شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله مجَازًا بِوَجْه، فَكَذَلِك شَهَادَة أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، وَكَذَلِكَ الشَّهَادَة فِي الْأَذَان وَالْإِقَامَة يجب أَن تكون حَقِيقَة فِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا أَن أَدَاء الرسَالَة يكون مرّة بالْكلَام وَالْخطاب، وَمرَّة بالإخبار وَالْكتاب، يوصله الرَّسُول إِلَى من أرسل إِلَيْهِ من غير أَن يتَكَلَّم بهَا أَو يُخَاطب الْمُرْسل إِلَيْهِ بالرسالة، كَمَا يَفْعَله الْبَرِيد والفيج، وَمِثَال ذَلِكَ من أرسل رَسُولا بِكِتَاب إِلَى قوم، وَأمره أَن يُخَاطب من لَقِي مِنْهُم بِمَا فِي الْكتاب من الرسَالَة، وَيُمكن من لم يلق مِنْهُم من الْكتاب، وَالْوُقُوف عَلَى الرسَالَة الَّتِي فِيهِ فَهَذَا الرَّسُول فِي هَاتين الْحَالَتَيْنِ رَسُول حَقِيقَة، مؤد للرسالة بِعَينهَا حَقِيقَة وَلَا يجوز أَن يُقَال إِنَّه رَسُول إِلَيْهِم وَقت أَدَاء تِلْكَ الرسَالَة خطابا، وَلَيْسَ برَسُول إِلَيْهِم وَقت تمكينهم من الْوُقُوف عَلَيْهَا، لِأَن مَحل كِتَابه فِي تَبْلِيغ الرسَالَة مَحل خطابه، فَصَارَ الْمَوْت والحياة سَوَاء فِي تَبْلِيغ الرسَالَة حَقِيقَة. فَدلَّ هَذَا على أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَسُول الله حَقِيقَة فِي حَيَاته ويعد وَفَاته إِلَى أَن تقوم السَّاعَة، وَيقْرَأ كتاب رسَالَته.(2/179)
فصل فِي دَلَائِل نبوة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
121 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْن بِبَغْدَاد، أَنا هبة الله ابْن الْحَسَنِ الْحَافِظُ، أَنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ، نَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ بُهْلُولٍ، نَا أَبِي، عَنْ وَرْقَاءَ عَن حُصَيْن، عَن جُبَير بن مُحَمَّد ابْن جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} . قَالَ: انْشَقَّ وَنَحْنُ بِمَكَّةَ.
212 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَعْقُوبَ أَنا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الرُّويَانِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، نَا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ أَبُو غَسَّانَ، نَا أَبُو حَفْصِ بْنُ الْعَلاءِ قَالَ: سَمِعْتُ نَافِعًا يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله(2/180)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ، فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ تحول إِلَيْهِ فحن الْجذع، فَأتى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمَسَحَهُ.
قَالَ الشَّيْخ رَحمَه الله: رِوَايَة ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ:
123 - وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ، أَنا عَبْدُ لله بن مُحَمَّد ابْن عبد الْعَزِيز، نَا هبة بْنُ خَالِدٍ، نَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَ الْمِنْبَرَ، فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ تَحَوَّلَ إِلَيْهِ فَحَنَّ الْجِذْعُ فَاحْتَضَنَهُ فَسَكَنَ فَقَالَ: لَوْ لَمْ أَحْتَضِنْهُ لحن إِلَى يَوْم الْقيام.
قَالَ الشَّيْخ: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم.
رِوَايَة أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
124 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ أَنا جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَعْقُوبَ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الرُّويَانِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، نَا عُمَرُ بن يُونُس، نَا عِكْرِمَة ابْن عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رَضِيَ الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيُسْنِدُ ظَهْرَهُ إِلَى جِذْعٍ مَنْصُوبٍ فِي(2/181)
الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ رُومِيٌّ فَقَالَ: أَلا نَصْنَعُ لَكَ شَيْئًا تَقْعُدُ عَلَيْهِ وَكَأَنَّكَ قَائِمًا؟ قَالَ: فَصَنَعَ لَهُ منبراً دَرَجَتَيْنِ، ويعقد على الثَّالِثَة، فَلَمَّا قعد نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْمِنْبَرِ، خَارَ الْجِذْعُ كَخُوَارُ الثَّوْرِ حَتَّى ارتج الْمَسْجِد لخواره حزنا على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَنزل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْمِنْبَرِ فَالْتَزَمَهُ وَهُوَ يَخُورُ، فَلَمَّا الْتَزَمَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَكَنَ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ لَمْ أَلْتَزِمْهُ لَمْ يَزَلْ هَكَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
هَذَا إِسْنَاد صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم يلْزمه إِخْرَاجه.
رِوَايَة جَابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
125 - قَالَ: أَخْبَرَنَا هِبَةُ الَّلِه، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَامِدٍ الطَّبَرِيُّ نَا أَحْمَدُ بْنُ السَّرِيِّ بْنِ صَالِحٍ، نَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ نَا مُحَمَّد ابْن كَثِيرٍ، نَا سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُومُ إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ فَيَخْطُبُ قَبْلَ أَنْ يُصْنَعَ الْمِنْبَرُ، فَلَمَّا وُضِعَ الْمِنْبَرُ صَعِدَهُ فَحَنَّ الْجِذْعُ حَتَّى سَمِعْنَا حَنِينَهُ، فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَوضع يَده عَلَيْهِ فسكن.
رِوَايَة أبي سعد الْخُدْرِيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
126 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ ِالَّلِه، أَنا عِيسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، أَنا عبد الله ابْن مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نَا أَبُو بَكْرٍ بن أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَإِبْرَاهِيمُ(2/182)
ابْن سَعِيدٍ قَالُوا: نَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْمُجَالِدِ، عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ رُومِيٌّ فَقَالَ: أَصْنَعُ لَكَ مِنْبَرًا تَخْطُبُ عَلَيْهِ؟ فَصَنَعَ لَهُ مِنْبَرَهُ هَذَا الَّذِي تَرَوْنَ.
قَالَ: فَلَمَّا قَامَ عَلَيْهِ يَخْطُبُ حَنَّ الْجِذْعُ حَنِينَ النَّاقَةِ إِلَى وَلَدهَا فَنزل إِلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَضَمَّهُ إِلَيْهِ فَسَكَتَ. قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُدْفَنَ وَيُحْفَرَ لَهُ.
فصل فِي حَدِيث خُرُوج المَاء من بَين أَصَابِع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
127 - أَخْبَرَنَا الشَّرِيفُ أَبُو نَصْرٍ الزَّيْنَبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنا مُحَمَّد ابْن عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ الْوَرَّاقُ، نَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، نَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ كَرَامَةَ قَالُوا: أَنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، أَنا إِسْرَائِيلُ عَنْ مَنْصُور، عَن إِبْرَاهِيم، عَن عَلْقَمَة، عَن عَبْد اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعَ عَبْدُ الله بخسف، فَقَالَ: كُنَّا أَصْحَاب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَيْسَ مَعَنَا مَاءٌ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اطْلُبُوا مَنْ مَعَهُ فَضْلُ مَاءٍ فَأُتِيَ بِمَاءٍ فَصَبَّهُ فِي إِنَاءٍ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ فِيهِ، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ الْمُبَارَكِ، وَالْبَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَشَرِبْنَا ".(2/183)
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ.
128 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، نَا هَارُونُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ 0 رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْرَجًا فَشَكَا إِلَيْهِ النَّاسُ الْعَطَشَ، فَقَالَ: انْظُرُوا هَلْ مَعَ أَحَدٍ مَاءً؟ فَنَظَرُوا فَإِذَا فَضْلَةٌ فِي إِدَاوَةٍ فَصُبَّتْ فِي إِنَاءٍ، وَوَضَعَ يَدَهُ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: " حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ وَالْبَرَكَةِ "، فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ خِلالِ أَصَابِعِهِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَتَزَوَّدُونَ فِي أَسْقِيَتِهِمْ، وَجَعَلْتُ لَا آلُو مَا جَعَلْتُ فِي بَطْنِي، وَعَرَفْتُ أَنَّهَا بَرَكَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى نَزَلَتْ.
129 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، نَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ، نَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ خَسْفٌ كَانَ ... ، فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا نَرَى من الْآيَات مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَرَكَاتٍ وَأَنْتُمْ تَرَوْنَهَا تَخْوِيفًا، لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَفَرٍ فَأَنْفَذَ النَّاسُ الْمَاءَ فَعَطِشُوا فَقَالَ: هَلْ مَعَ أَحَدٍ شَيْءٌ؟ فَنَظَرْنَا، فَإِذَا فَضْلَةٌ فِي إِدَاوَةِ رَجُلٍ، فَدَعَا بِقَصْعَةٍ ثُمَّ صَبَّهُ فِيهَا، ثُمَّ جَعَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِ أَصَابِعِهِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَشْرَبُونَ، وَيَقُولُ: " حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ وَالْبَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "(2/184)
وَجَعَلْتُ لَا آلُو مَا أَدْخَلْتُ فِي بَطْنِي مِنْهُ، لأَنَّيِ عَرَفْتُ أَنَّهُ بَرَكَةٌ، وَلَقَدْ كُنَّا نَجْلِسُ عَلَى الطَّعَامِ وَنَسْمَعُهُ يُسَبِّحُ. قَالَ: يُسَبِّحُ الطَّعَامُ.
رِوَايَة أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
130 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقْرِي، أَنا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ أَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْفَارِسِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ قَالَا: أَنا أَحْمد بن عَليّ بن الْعلَا، نَا أَبُو الأَشْعَثِ، نَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، نَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ الله عَنهُ -، أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُتِيَ بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ مَا يَغْمُرُ أَصَابِعَهُ أَوْ لَا يَكَادُ يَغْمُرُ أَصَابِعَهُ - شَكَّ سَعِيدٌ - فَجعل النَّاس يتوضأون، وَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ. قَالَ: قُلْنَا لأنس كم كُنْتُم؟ قَالَ: زهاء ثلثمِائة.
رِوَايَة جَابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
131 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا مُحَمَّدُ بن عبد الرَّحْمَن، أَنا أَحْمد ابْن عِيسَى بْنِ السُّكَيْنِ، نَا إِسْحَاقُ بْنُ رُزَيْقٍ، نَا الْجُدِّيُّ هُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَنا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، وَحُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَصَابَنَا عَطَشٌ، فَجَهَشْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَدَعَا بِتَوْرٍ فِيهِ مَاءٌ، فَوَضَعَ كَفَّهُ فِيهِ فَقَالَ: خُذُوا بِسم الله.(2/185)
قَالَ عَمْرو بن عمْرَة فِي حَدِيثِهِ حَتَّى تَوَضَّأْنَا وَشَرِبْنَا.
وَقَالَ حُصَيْنٌ: حَتَّى وَسِعَنَا وَكَفَانَا. قُلْنَا: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا، وَكُنَّا أَلْفًا وَخَمْسمِائة.
حَدِيث أنس مخرج فِي الْكِتَابَيْنِ، وَحَدِيث جَابر مخرج فِي كتاب البُخَارِيّ، والتور: شبه الطست، وجهش إِلَيْهِ: إِذا فرغ إِلَيْهِ كالمتهيئ للبكاء. حَدِيث الْخبز الْقَلِيل شبع مِنْهُ الْخلق الْكثير:
132 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الرُّويَانِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن أبي طَلْحَة، أَنه سمع أنس ابْن مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لأُمِّ سُلَيْمٍ لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ(2/186)
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَارًا لَهَا فَلَفَّتِ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ ثَوْبِي وَرَدَّتْنِي بِبَعْضِهِ، ثُمَّ أرسلتني إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: فَذَهَبت بِهِ فَوجدت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَأَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: بِطَعَام، فَقلت: نعم، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمَنْ مَعَهُ: قُومُوا. قَالَ: فَانْطَلَقَ، وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ بِالنَّاسِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنَ الطَّعَامِ مَا نُطْعِمُهُمْ. قَالَتْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى يَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَأقبل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَهُ حَتَّى دَخَلا، فَقَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ؟ فَأَتَتْ بذلك الْخبز، فَأمر بِهِ رَسُول الله
فَفُتَّ، وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ - يَعْنِي عُكَّةً لَهَا - ثمَّ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهِ مَا شَاءَ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَذِنَ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ أَذِنَ لِعَشَرَةٍ، فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلَّهُمْ وَشَبِعُوا، وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلا.(2/187)
مخرج فِي كتاب البُخَارِيّ، وَقَوله: دسته: أَي أخفته. وَقَوله: ردتني، أَي: جعلته رِدَائي قَالَ الشَّاعِر: وَإِن رديت بردا.
أَي: ألبست. قَالَ أهل اللُّغَة: فِي قَوْله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دساها} أَي: أخفاها وأحملها بِمَعْصِيَة الله عَزَّ وَجَلَّ.
حَدِيث تَسْبِيح الْحَصَا فِي يَده:
133 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ، أَنا الْقَاسِم ابْن جَعْفَرٍ، أَنا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ، نَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ، نَا قُرَيْشُ بْنُ أَنَسٍ، نَا صَالح ابْن أَبِي الأَخْضَرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ يزِيد السّلمِيّ، قَالَ: مَرَرْت بِمَسْجِد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإِذَا أَبُو ذَرٍّ فَسَلَّمْتُ، وَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَذُكِرَ عُثْمَانُ فَقَالَ: لَا أَقُولُ أَبَدًا إِلا خَيْرًا، ثَلاثَ مَرَّاتٍ، لِشَيْءٍ رَأَيْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي خلوات رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأَتَعَلَّمَ مِنْهُ فَمَرَّ بِي فَاتَّبَعْتُهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَوْضِعٍ قَدْ سَمَّاهُ(2/188)
فَجَلَسَ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ مَا جَاءَ بك؟ قلت: الله وَرَسُوله، إِذا جَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَسَلَّمَ، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ أَبِي بَكْرٍ، إِذْ جَاءَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَسَلَّمَ، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ عُمَرَ فَتَنَاوَلَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَبْعَ أَوْ تِسْعَ حَصَيَاتٍ، فَسَبَّحْنَ حَتَّى سَمِعْتُ لَهُنَّ حَنِينًا كَحَنِينِ النَّحْلِ ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فَخَرِسْنَ، ثُمَّ أَخَذَهُنَّ فَوَضَعَهُنَّ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ فَسَبَّحْنَ حَتَّى سَمِعْتُ لَهُنَّ حَنِينًا كَحَنِينِ النَّحْلِ، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فَخَرِسْنَ، ثُمَّ تَنَاوَلَهُنَّ فَوَضَعَهُنَّ فِي يَدِ عُمَرَ فَسَبَّحْنَ حَتَّى سَمِعْتُ لَهُنَّ حَنِينًا كَحَنِينِ النَّحْلِ، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فَخَرِسْنَ، ثُمَّ تَنَاوَلَهُنَّ فَوَضَعَهُنَّ فِي يَدِ عُثْمَانَ فَسَبَّحْنَ حَتَّى سَمِعْتُ لَهُنَّ حَنِينًا كَحَنِينِ النَّحْلِ، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فَخَرِسْنَ.
فصل فِي وُجُوه الْقُرْآن
134 - عَن عَليّ بن أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْله تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي أنزل عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكتاب(2/189)
وَأخر متشابهات} . فالمحكمات: ناسخه وَحَلَاله، وَحَرَامه وحدوده، وفرائضه وَمَا يُؤمن بِهِ وَيعْمل بِهِ.
قَالَ: {وَأخر متشابهات} . فالمتشابهات: منسوخه، ومقدمه، ومؤخره وَأَمْثَاله، وأقسامه، وَمَا يُؤمن بِهِ وَلَا يعْمل بِهِ.
فَأَما الْمُؤْمِنُونَ فَيَقُولُونَ: {كل من عِنْد رَبنَا} . محكمَة ومتشابهه، وَأما الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ من أهل الشَّك، فيحملون الْمُحكم عَلَى الْمُتَشَابه، والمتشابه عَلَى الْمُحكم، وَيلبسُونَ فيلبس الله عَلَيْهِم.(2/190)
135 - وَعَن أَبِي صَالح عَن ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أنزل الْقُرْآن عَلَى أَرْبَعَة أوجه: حَلَال وَحرَام لَا يسع أحدا جهالتها، وَوجه عَرَبِيّ: يعرفهُ الْعَرَب، وَوجه تَأْوِيل: يُعلمهُ الْعلمَاء، وَوجه تَأْوِيل: لَا يُعلمهُ إِلَّا الله عَزَّ وَجَلَّ من انتحل فِيهِ علما فقد كذب.
136 - وَعَن ابْن مَسْعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كَانَ الْكتاب الأول ينزل من بَاب وَاحِد عَلَى حرف وَاحِد، وَنزل الْقُرْآن من سَبْعَة أَبْوَاب عَلَى سَبْعَة أحرف: زاجر، وآمر، وحلال وَحرَام، ومحكم، ومتشابه، نهيتم عَنهُ، واعتبروا بأمثاله، وَاعْمَلُوا بمحكمة، وآمنوا بمتشابهه، وقولا آمنا بِهِ كل من عِنْد رَبنَا ".(2/191)
137 - وَرُوِيَ عَن عبد الله بن عَمْرو - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: جَلَست من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَجْلِسا مَا جَلَست مَجْلِسا أغبط عِنْدِي مِنْهُ، خرج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقوم يتجادلون بِالْقُرْآنِ عَلَى بَاب حجرته، فَخرج محمرا وَجهه، فَقَالَ: " بِهَذَا ضلت الْأُمَم قبلكُمْ، جادلوا بِالْكتاب وضربوا بعضه بِبَعْض، إِن الْقُرْآن لم ينزل يكذب بعضه بَعْضًا، وَلَكِن نزل يصدق بعضه بَعْضًا، فَمَا كَانَ من حَلَال فاعملوا بِهِ، وَمَا كَانَ من حرَام فَانْتَهوا عَنهُ واتركوه، وَمَا كَانَ من متشابه فآمنوا بِهِ ".
138 - وَعَن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزي قَالَ: لما وَقع النَّاس فِي أَمر عُثْمَان قلت لأبي بن كَعْب: يَا أَبَا الْمُنْذر مَا الْمخْرج؟ قَالَ: كتاب الله، مَا استبان لَك فأعمل بِهِ وانتفع بِهِ، وَمَا اشْتبهَ عَلَيْك فَآمن بِهِ، وَكله إِلَى عالمه.
139 - وَعَن عَطاء، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَا تضربوا الْقُرْآن بعضه بِبَعْض، فَإِن ذَلِكَ يُوقع الشَّك فِي قُلُوبهم.
فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث أَمر بالاتباع، وَنهى عَن الْكَفّ عَن المشتبهات.(2/192)
140 - سُئِلَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن السَّاعَة: فَأمْسك عَن الْجَواب حَتَّى نزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ من ذكرَاهَا} .
وَقَالَ: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا علمهَا عِنْد الله} . وَقَالَ: {إِنَّمَا علمهَا عِنْد رَبِّي}
141 - وَرُوِيَ نهينَا عَن التنطع والتعمق والغلو فِي الدّين. فَإِذا كَانَ التنطع مذموما فِي أَمر الدّين، فَفِي شَأْن الرب وَصِفَاته كَانَ الْكَرَاهَة فِيهِ أَكثر.
فصل
142 - رُوِيَ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يزالون يسْأَلُون حَتَّى يُقَال لأحدكم هَذَا الله خلقنَا، فَمن خلق الله؟ ".(2/193)
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنِّي جَالس ذَات يَوْم، إِذْ جاءنئ رجل من أهل الْعرَاق فَقَالَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ: هَذَا الله خلقنَا فَمن خلق الله؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فَجعلت إصبعي فِي أُذُنِي ثمَّ صرخت، صدق الله وَرَسُوله، الله الْوَاحِد الصَّمد، لم يلد، وَلم يُولد، وَلم يكن لَهُ كفوا أحد.
143 - وَعَن أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " إِن الله عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: كَذبَنِي ابْن آدم وَلم يَنْبغ لَهُ أَن يكذبنِي، وَشَتَمَنِي ابْن آدم وَمَا يَنْبغ لَهُ أَنْ يَشْتُمَنِي، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ أَهْون عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ. وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتخذ الله ولدا، وَأَنا الله أحد، الله الصَّمد، لم أَلد، وَلم أولد، وَلم يكن لي كفوا أحد ".
فَفِي الحَدِيث دَلِيل أَن القَوْل فِي صِفَات الله وأسمائه بِغَيْر مَا وصف الله بِهِ نَفسه، قد يُؤَدِّي إِلَى الْكفْر، وَتَكْذيب الله هُوَ جحود مَا قَالَه وَهُوَ كفر، وَشَتمه أَن يصفه بِمَا لَا يَلِيق بِهِ، فالسكوت فِي هَذَا الْبَاب أقرب إِلَى السَّلامَة، والمتكلم فِيهِ بِغَيْر علم أقرب إِلَى المقت والملامة. نسْأَل الله الْعِصْمَة.(2/194)
144 - رُوِيَ عَن الْأَصْبَغ بن نَبَاته قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْد عَليّ ابْن أَبِي طَالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَتَاهُ يَهُودِيّ فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَتى كَانَ الله؟ فقمنا إِلَيْهِ فلهزناه حَتَّى كدنا نأتي عَلَى نَفسه، فَقَالَ عَليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: خلوا عَنهُ، ثمَّ قَالَ: أسمع يَا أَخا الْيَهُود مَا أَقُول لَك بأذنك، وأحفظه بقلبك فَإِنَّمَا أحَدثك عَن كتابك الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى بن عمرَان - عَلَيْهِ السَّلامُ -، فَإِن كنت قد قَرَأت كتابك وحفظته، فَإنَّك ستجده كَمَا أَقُول. إِنَّمَا يُقَال: مَتى كَانَ لمن لم يكن، ثمَّ كَانَ، فَأَما من لم يزل قبل الْقبل، وَبعد الْبعد، لَا يزَال بِلَا كَيفَ، وَلَا غَايَة، وَلَا مُنْتَهى إِلَيْهِ غَايَة، انْقَطَعت دونه الغايات، وَهُوَ غَايَة كل غَايَة، فَبكى الْيَهُودِيّ فَقَالَ: وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّهَا لفي التَّوْرَاة هَكَذَا حرفا حرفا، وَإِنِّي أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَن مُحَمَّد اً عَبده وَرَسُوله، وَأسلم وَحسن إِسْلَامه.
قَالَ أهل السّنة: نصف الله بِمَا وصف بِهِ نَفسه، ونؤمن بذلك إِذْ كَانَ طَرِيق الشَّرْع الِاتِّبَاع لَا الابتداع، مَعَ تحقيقنا أَن صِفَاته لَا يشبهها صِفَات، وذاته لَا يشبهها ذَات، وَقد نفى الله تَعَالَى عَن نَفسه التَّشْبِيه(2/195)
بقوله: {لَيْسَ كمثله شَيْء} . فَمن شبه الله بخلقه فقد كفر، وَأثبت لنَفسِهِ صِفَات فَقَالَ {وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} . وَلَيْسَ فِي إِثْبَات الصِّفَات مَا يُفْضِي إِلَى التَّشْبِيه، كَمَا أَنه لَيْسَ فِي إِثْبَات الذَّات مَا يُفْضِي إِلَى التَّشْبِيه، وَفِي قَوْله: {لَيْسَ كمثله شيْءٌ} دَلِيل عَلَى أَنه لَيْسَ كذاته ذَات، وَلَا كصفاته صِفَات.
فصل
قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: {إِن الْعِزَّة لله} . وَقَالَ: {وَللَّه الْعِزَّة وَلِرَسُولِهِ} . أثبت الله الْعِزَّة وَالْعَظَمَة وَالْقُدْرَة وَالْكبر وَالْقُوَّة لنَفسِهِ فِي كِتَابه وَأثبت الْعلم لنَفسِهِ، وَقَالَ: {إِن الله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ}(2/196)
وَقَالَ: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يخرج مِنْهَا} وَقَالَ: {إِن الله لقوي عَزِيز}
145 - وَقَالَ رَسُول الله
" يَقُول الله تبَارك وَتَعَالَى: العظمة إزَارِي والكبرياء رِدَائي، فَمن نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفته فِي النَّار ".
فصل
146 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، نَا وَالِدِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِمْلاءً، وَأَنَا حَاضِرٌ أسَمْعُ، أَنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبِ بْنِ حَرْبٍ نَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ، نَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَص(2/197)
عَن عبد الله، وَرَفعه إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ: الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ، وَلامٌ، وَمِيمٌ، ثَلاثُونَ حَسَنَةً ".
147 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا وَالِدِي، أَنا مُحَمَّدُ بن عَليّ بن عمر، نَا أَحْمد ابْن الأَزْهَرِ، نَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنَ الْقُرْآنِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ: الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ ".
148 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا وَالِدِي أَبُو عَبْدِ الله، أَنا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم ابْن هَاشِمٍ، نَا عُثْمَانُ بْنُ خُرَّزَادَ، نَا يَعْلَى بْنُ الْمِنْهَالِ، نَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنِ الْجَرَّاحِ بْنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ. وَفَضْلُ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلامِ، كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنْهُ ".(2/198)
149 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا وَالِدِي، نَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى، نَا أَبُو مَسْعُودٍ أَحْمَدُ بْنُ الْفُرَاتِ، نَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ فِيمَا أَحْسَبُ، نَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعُوذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، وَيَقُولُ: " أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ " وَقَالَ: " كَانَ أَبِي إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - يَعُوذُ بِهِ ابْنَيْهِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ".
150 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا وَالِدِي، أَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى، نَا أَبُو مَسْعُودٍ نَا أَبُو أُسَامَةَ، نَا مِسْعَرُ بْنُ كِرَامٍ، عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَّمَ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ فَقَالَ: " قُولِي سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ مِنْ شَيْءٍ، سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ ".
وَقَالَت الأشعرية: كَلَام الله وَاحِد، وَقَالُوا: مَا بَين اللَّوْحَيْنِ حِكَايَة عَن كَلَام الله، وَعبارَة عَنهُ.(2/199)
151 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، نَا وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بن عمر نَا عبد الله ابْن أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ، نَا الْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ سَجَّادَةُ، نَا عَمْرو بن هَاشم عَن جُوَيْبِر ابْن سَعِيدٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ناجى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِمِائَةِ أَلْفٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ كَلِمَةٍ كُلُّهَا وَصَايَا ".
152 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا وَالِدِي، أَنا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرو نَا يُونُس ابْن عبد الْأَعْلَى قَالَ: حضرت ابْن وهب، قريء عَلَيْهِ عَنِ الْمَاضِي بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(2/200)
" إِنَّ اللَّهَ نَاجَى مُوسَى بِمِائَةِ أَلْفٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ كَلِمَةٍ كُلُّهَا وَصَايَا، فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى كَلامَ الآدَمِيِّينَ مَقَتَهُمْ مِمَّا وَقَعَ فِي مَسَامِعِهِ مِنْ كَلامِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ. وَكَانَ فِيمَا نَاجَاهُ، أَنْ قَالَ لَهُ يَا مُوسَى: لِمَ يَتَصَنَّعُ لِي الْمُتَصَنِّعُونَ بِمِثْلِ الزَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا؟ وَلِمَ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ الْمُتَقَرِّبُونَ بِمِثْلِ الْوَرَعِ عَمَّا حَرَّمْتُ عَلَيْهِمْ؟ وَلِمَ يَتَعَبَّدُ الْعَابِدُونَ بِمِثْلِ الْبُكَاءِ مِنْ خَشْيَتِي؟ فَقَالَ مُوسَى: يَا إِلَهَ الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا، وَيَا مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ، وَيَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ، فَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهُمْ وَمَا جَزَيْتَهُمْ؟ قَالَ: يَا مُوسَى، أَمَّا الزَّاهِدُونَ فِي الدُّنْيَا فَإِنِّي أبيحهم جنتي يتبوؤن فِيهَا حَيْثُ شَاءُوا، وَأَمَّا الْوَرِعُونَ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِن عَبْدٍ يَلْقَانِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا نَاقَشْتُهُ الْحِسَابَ، إِلا مَا كَانَ مِنَ الْوَرِعِينَ، فَإِنِّي أَسْتَحْيِيهِمْ، وَأُجِلُّهُمْ، وَأُكْرِمُهُمْ وَأُدْخِلُهُم الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَأما البكاؤون مِنْ خِيفَتِي، لَهُمُ الرَّفِيقُ الأَعْلَى لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ ".
153 - وَفِي حَدِيث النواس بن سمعاني: إِذا تكلم الله بِالْوَحْي أخذت السَّمَاوَات مِنْهُ رَجْفَة.(2/201)
154 - وَفِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " إِذا أحب الله عبدا نَادَى جِبْرِيل ".
155 - وَفِي حَدِيث عقبَة بن عَامر: " لِأَن يَغْدُو أحدكُم إِلَى الْمَسْجِد فيتعلم آيَتَيْنِ من كتاب الله، خير لَهُ من ناقتين، وَثَلَاث، وَأَرْبع، وَمن أعدادهن من الْإِبِل ".
أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرو، نَا وَالِدي، نَا أَحْمَد بن مُحَمَّد بن عمر، نَا عبد الله ابْن أَحْمَد بن حَنْبَل، نَا مُحَمَّد بن بكار، نَا أَبُو معشر، عَن أَبِي الْحُوَيْرِث قَالَ: إِنَّمَا كلم مُوسَى بِقدر مَا يطيقه من كَلَامه، وَلَو كلمة بِكَلَامِهِ كُله لم يطقه مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلامُ -.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا وَالِدي، أَنا أَحْمَد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم، نَا أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ قَالَ: من كَلَام جهم بن صَفْوَان، وحسين الْكَرَابِيسِي، وَدَاوُد(2/202)
ابْن عَليّ أَن لَفظهمْ الْقُرْآن مَخْلُوق، وَأَن الْقُرْآن الْمنزل على نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِمَّا جَاءَ بِهِ جِبْرِيل الْأمين حِكَايَة الْقُرْآن فجهمهم أَبُو عبد الله أَحْمَد بن مُحَمَّد ابْن حَنْبَل، وَتَابعه عَلَى تجهيمهم عُلَمَاء الْأَمْصَار طرا أَجْمَعُونَ، لَا خلاف بَين أهل الْأَثر فِي ذَلِكَ.
فصل
أجمع الْمُسلمُونَ أَن الْقُرْآن كَلَام الله، وَإِذا صَحَّ أَنه كَلَام الله صَحَّ أَنه صفة لله تَعَالَى، وَأَنه عَزَّ وَجَلَّ مَوْصُوف بِهِ، وَهَذِه الصّفة لَازِمَة لذاته.
تَقول الْعَرَب: زيد مُتَكَلم، فالمتكلم صفة لَهُ، إِلَّا أَن حَقِيقَة هَذِهِ الصّفة الْكَلَام، وَإِذا كَانَ كَذَلِك، كَانَ الْقُرْآن كَلَام الله وَكَانَت هَذِهِ الصّفة لَازِمَة لَهُ أزلية.(2/203)
وَالدَّلِيل عَلَى أَن الْكَلَام لَا يُفَارق الْمُتَكَلّم، أَنه لَو كَانَ يُفَارِقهُ لم يكن للمتكلم إِلَّا كلمة وَاحِدَة، فَإِذا تكلم بهَا لم يبْق لَهُ كَلَام، فَلَمَّا كَانَ الْمُتَكَلّم قَادِرًا عَلَى كَلِمَات كَثِيرَة بعد كلمة، دلّ عَلَى أَن الْكَلِمَات فروع لكَلَامه الَّذِي هُوَ صفة لَهُ مُلَازمَة.
وَالدَّلِيل عَلَى أَن الْقُرْآن غير مَخْلُوق: أَنه كَلَام الله، وَكَلَام الله سَبَب إِلَى خلق الْأَشْيَاء قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كن فَيكون} . أَي أردنَا خلقه، وإيجاده، وإظهاره.
فَقَوله: كن، كَلَام الله وَصفته، وَالصّفة الَّتِي مِنْهَا يتَفَرَّع الْخلق وَالْفِعْل وَبهَا يتكون الْمَخْلُوق لَا تكون مخلوقة، وَلَا يكون مثلهَا للمخلوق.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَنه كَلَام لَا يشبه كَلَام المخلوقين، وَهُوَ كَلَام معجز وَكَلَام المخلوقين غير معجز، لَو اجْتمع الْخلق على أَن يَأْتُوا بِمثل سُورَة من سوره أَو آيَة من آيَاته، عجوزا عَن ذَلِك وَلم يقدروا عَلَيْهِ.(2/204)
قَالَ أهل اللُّغَة: اللَّفْظ فِي كَلَام الْعَرَب الْإِخْرَاج. يُقَال: لفظت الشَّيْء عَن الشَّيْء: أخرجته مِنْهُ. فاللفظ: كَلَام مخرج عَن الْفَم، لَهُ معنى يفهمهُ السَّامع وَإِذا لم يكن هَكَذَا لَا يسمونه لفظا.
يَقُولُونَ: لفظ فلَان صَحِيح، أَي كَلَامه صَحِيح. قَالَ الله تَعَالَى: " مَا يلفظ من قَول} . أَي: لَا يتَكَلَّم بِشَيْء، فَدلَّ هَذَا عَلَى أَن اللَّفْظ قَول وَكَلَام. وَالْعرب تُرِيدُ بِاللَّفْظِ الملفوظ، لِأَنَّهُ وَإِن كَانَ مصدرا فالمصدر فِي الْحَقِيقَة مفعول بِهِ لِأَن الْفَاعِل يَفْعَله، فعلى هَذَا حَقِيقَة اللَّفْظ مَا يُخرجهُ الْإِنْسَان من فَمه(2/205)
وَقَوْلهمْ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق، وَسِيلَة إِلَى القَوْل بِخلق الْقُرْآن، فاللفظ الَّذِي يَقُوله الْمُتَكَلّم: إِمَّا أَن ينشئه الْمُتَكَلّم من نَفسه ويلفظه من فَمه، فَذَلِك لَفظه خَاصَّة، وَلَا يكون اسْتِعْمَاله الْحلق وَاللِّسَان لإظهاره لفظا، لِأَن ذَلِكَ تصرف الْحلق فِي ذَلِكَ الْكَلَام لَازم لداخل الْفَم غير خَارج مِنْهُ، فَلَا يُسمى لفظا لِأَنَّهُ غير ملفوظ. وَإِمَّا أَن يكون أنشأه غَيره، فَلفظ هُوَ بِهِ من فَمه وَأَدَّاهُ إِلَى السَّامع، فيستعمل فِي إِظْهَاره حلقه وفمه حَتَّى يُخرجهُ لفظا بِلَفْظ، وحرفا بِحرف، فَيكون ذَلِكَ اللَّفْظ لذَلِك الْمُتَكَلّم الْمُؤَدِّي، لِأَنَّك إِذا قَرَأت قَول امْرِئ الْقَيْس: قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل ... .
فَإِن السَّامع يسمعهُ مِنْك، وَقد لفظ بِهِ امْرُؤ الْقَيْس، فَإِذا قلت: لَفْظِي بقول امْرِئ الْقَيْس كَانَ خطأ لِأَن الَّذِي لفظت لَهُ لَيْسَ بِلَفْظ لَك، بل هُوَ لفظ امْرِئ الْقَيْس، وَإِذا سَمعه سامع فَقَالَ: مَا أحسن لفظ امْرِئ الْقَيْس وَقَوله وَلَا يَقُول: مَا أحسن لفظك وقولك، وَإِذا قَالَ ذَلِكَ كَانَ مخطئا. وَهَكَذَا الْقُرْآن إِذا قَرَأَهُ قَارِئ فَإِنَّمَا قَرَأَ كَلَام الله تَعَالَى وَلَفظ بِهِ، وَلم يقْرَأ مَعَ الْقُرْآن كَلَامه الَّذِي هُوَ لَفظه، وَلِأَن الْمُتَكَلّم إِذا تكلم بِكَلَام لَا يَخْلُو أَن يكون لَفظه، أَو لفظ غَيره، ومحال أَن يكون لَفظه وَكَلَامه غَيره مَعًا لفظا وَاحِدًا فِي حَالَة وَاحِدَة، فَإِذا لم يجز هَذَا صَحَّ أَن الَّذِي يتَلَفَّظ بِهِ من الْقُرْآن كَلَام الله عَزَّ وَجَلَّ.(2/206)
وَقَوْلهمْ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق خطأ، لِأَن قَائِل هَذَا يُرِيد أَن يتدرج إِلَى أَن يَقُول الْقُرْآن مَخْلُوق، وَهُوَ لَا يَجْسُر أَن يَفْعَله ظَاهرا، فيقوله بَاطِنا.
فَإِن قيل: المُرَاد بقوله لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق: إخراجي الْقُرْآن من فمي مَخْلُوق. يُقَال: هَذَا مجَاز وَلَيْسَ بِحَقِيقَة، وَحَقِيقَة اللَّفْظ كَلَام الله لَهُ معنى مَفْهُوم، وَمَتى أمكن أَن يحمل الشَّيْء عَلَى حَقِيقَته، لم يجز أَن يحمل عَلَى الْمجَاز، لِأَن الْحَقِيقَة أصل صَحِيح، وَالْمجَاز لَا أصل لَهُ.
وَلِأَن اسْتِعْمَال الْمُتَكَلّم فَمه وَلسَانه لإِخْرَاج اللَّفْظ لَا يخرج من الْفَم حَتَّى يكون لفظا، وَإِنَّمَا ذَلِك عمل يعمله الْمُتَكَلّم دَاخل الْفَم من غير أَن يُخرجهُ من الْفَم فَلَا يكون لفظا بِوَجْه.
فَإِن قيل: المُرَاد بقوله لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق، أَي قراءتي الْقُرْآن مخلوقة وَالْقِرَاءَة غير الْقُرْآن.
يُقَال: الْقِرَاءَة، وَالْقُرْآن وَاحِد، يُقَال: قَرَأت الشَّيْء قِرَاءَة وقرآنا قَالَ الشَّاعِر:
(ضحوا بأشمط عنوان السُّجُود بِهِ ... يقطع اللَّيْل تسبيحا وقرآنا)(2/207)
قَالَ أهل اللُّغَة: قِرَاءَة الْقُرْآن جمعه فِي الْفَم، فقراءة الْقُرْآن بِمَنْزِلَة اسْتِعْمَال الْفَم وَالْحلق، ثمَّ إِخْرَاجه وإظهاره، وَذَلِكَ لَا يُسمى لفظا. فَقَوْلهم لَفْظِي بِالْقُرْآنِ خطأ، وَلِأَن حَالفا لَو حلف أَن لَا يسمع الْقُرْآن، فَسمع قِرَاءَة من يقْرَأ الْقُرْآن حنث فِي يَمِينه.
وَمن الدَّلِيل عَلَى أَن الْقِرَاءَة هِيَ الْقُرْآن: أَن الْقُرْآن يُوجد بوجودها، ويعدم بعدمها، وَإِدْخَال الْبَاء فِي قَوْله: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ خطأ لَا معنى لَهُ، لِأَن الْبَاء تَأتي فِي الْعَرَبيَّة عَلَى وُجُوه، وَلَيْسَ لدخولها هَا هُنَا معنى.
فَإِن قيل: الْبَاء هَا هُنَا للتَّأْكِيد وَالزِّيَادَة فِي الْكَلَام كَقَوْلِك: رميت بِالسَّهْمِ ورميت السهْم. يُقَال إِذا ذهبت الْبَاء بَقِي لَفْظِي الْقُرْآن مَخْلُوق، فَيصير الْمَخْلُوق صفة لِلْقُرْآنِ، وَيصير الْقُرْآن بَدَلا من اللَّفْظ فَيصير الْقُرْآن(2/208)
مخلوقا، وَلِأَن لَفظه الْقُرْآن من فَمه قُرْآن، لِأَنَّهُ لفظ حُرُوفه وكلماته، فَتلك الْحُرُوف نفس الْقُرْآن، فَهَذَا دَلِيل عَلَى أَن قَائِل هَذَا يتدرج إِلَى القَوْل بِخلق الْقُرْآن فِي خُفْيَة.
فصل
156 - قَالَ ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - {قُرْآنًا عَرَبيا غير ذِي عوج} غير مَخْلُوق.
واحتجت المبتدعة بقوله تَعَالَى: {مَا يَأْتِيهم من ذكر من رَبهم مُحدث} ، وَلَيْسَ لَهُم فِي ذَلِكَ حجَّة، لِأَن معنى قَوْله " مُحدث " أَي: مُحدث التَّنْزِيل تكلم الله بِهِ فِي الْأَزَل فَلَمَّا بعث مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنزل عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ قَالَ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذكر} وَمن للتَّبْعِيض، وَهَذَا يدل عَلَى أَن ثمَّ ذكرا قَدِيما وَعِنْدهم لَيْسَ ثمَّ ذكر قديم. وَلِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فَأخْبر تَعَالَى أَنه كَون الْأَشْيَاء بكن، فَلَو كَانَت كن(2/209)
مخلوقة، لاحتاجت إِلَى كن أُخْرَى يخلق بهَا، وَالْأُخْرَى يخلق بهَا، وَالْأُخْرَى إِلَى أُخْرَى إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ فيفضي إِلَى قدم الْمَخْلُوقَات.
157 - وَقَالَ عَليّ بْن أَبِي طَالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " مَا حكمت مخلوقا وَإِنَّمَا حكمت كَلَام الله ".
وَالدَّلِيل عَلَى أَن من أنكر أَن الْقُرْآن نزل على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا} .
158 - وَرُوِيَ أَنه أنزل إِلَى بَيت الْعِزَّة، وَنزل بِهِ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نجوما فِي ثَلَاث وَعشْرين سنة.
قَالَ الْعلمَاء: لم يبْعَث الله عَزَّ وَجَلَّ نَبيا إِلَّا وَمَعَهُ معْجزَة تدل عَلَى صدق قَوْله من جنس مَا قومه عَلَيْهِ، فعيسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث فِي زمَان الْحُكَمَاء والأطباء، وَكَانَت معجزته إِبْرَاء الأكمه، والأبرص وإحياء، الْمَوْتَى. فَلَمَّا(2/210)
عجزوا عَن هَذِهِ الْحِكْمَة مَعَ كَونهم حكماء، استدلوا عَلَى أَنه رَسُول الله، وَكَذَلِكَ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث فِي زمَان السَّحَرَة والكهنة، وَكَانَت الْعَصَا معجزته، ابتلعت حبالهم وعصيهم، وَلم تطل، وَلم تقصر، وَلم يكبر بَطنهَا. فَلَمَّا عجزوا عَن ذَلِكَ مَعَ معرفتهم بِالسحرِ استدلوا عَلَى أَنه رَسُول الله.
وَنَبِيًّا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث فِي زمَان الفصحاء والبلغاء، الَّذين يقدرُونَ عَلَى النّظم والنثر، وَأنزل عَلَيْهِ الْقُرْآن، وَقَالَ لَهُم: ائْتُوا بِمثلِهِ، فَلَمَّا عجزوا عَن الْإِتْيَان بِمثلِهِ مَعَ اقتدارهم عَلَى الْكَلَام، واستجلوا عَلَى أَنه كَلَام الله، وَأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسل من عِنْد الله. وَالْقُرْآن معجزته السَّابِقَة الأولة والنبوة ثبتَتْ بالمعجزة الأولة، والمعجزة الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة، كَانَت تَأْكِيدًا للأوله.
وَرُوِيَ عَن عَطِيَّة بن قيس أَنه قَالَ: مَا تكلم الْعباد بِكَلَام أحب إِلَى الله تَعَالَى من كَلَامه، وَلَا رفع إِلَيْهِ كَلَام أحب إِلَيْهِ من كَلَامه. وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} .(2/211)
159 - وَرُوِيَ: الْقُرْآن كَلَام الله مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يعود.
160 - وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: اقرؤا الْقُرْآن قبل أَن لَا تقدروا على آيَة مِنْهُ. قيل: وَكَيف ذَلِكَ وَنحن نعلمهُ أبناءنا ويعلمونه أَبْنَاءَهُم فَقَالَ: يسري عَلَيْهِ فِي لَيْلَة فَينْسَخ من صُدُور الرِّجَال وَمن الْمَصَاحِف، فيصبحون لَا يقدرُونَ عَلَى آيَة مِنْهُ.
161 - وَعَن عبد الله بن مَسْعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - آيَة فأثبتها فِي مصحفي، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل جِئْت حَتَّى أقرأها فَلم أقدر عَلَى قرَاءَتهَا فعدت إِلَى الْمُصحف فَوجدت مَكَان الْآيَة أَبيض فَأخْبرت بذلك النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: أما علمت أَنَّهَا رفعت البارحة.
قَالَ بعض الْعلمَاء: مِنْهُ بَدَأَ تَنْزِيلا، وَعوده إِلَيْهِ، ذَهَابه من صُدُور الرِّجَال، وَيذْهب رسم الْمَحْفُوظ والمكتوب.(2/212)
وَالدَّلِيل عَلَى أَن الَّذِي فِي الْمُصحف كَلَام الله قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَام الله} فالاستجارة إِنَّمَا حصلت للْمُشْرِكين بِشَرْط اسْتِمَاع كَلَام اللَّه فَلَو كَانَ مَا سَمِعُوهُ من النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْسَ بِكَلَام الله لم تحصل الاستجارة لَهُم.
وَقَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} وَلَا يَخْلُو، إِمَّا أَن يكون كلَاما وصل إِلَيْهِم أَو كلَاما لم يصل إِلَيْهِم، وَلَا يجوز أَن يكون كلَاما لم يصل إِليهم لِأَن مَا لَا يصل إِلَيْهِم لَا يَتَأَتَّى تبديله، فَثَبت أَنه وصل إِلَيْهِم، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا الْحُرُوف والأصوات، وَلِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {عَلَى أَن يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن} وَهَذَا فِي مَوْضُوع اللُّغَة إِشَارَة إِلَى شَيْء حَاضر، فَلَو كَانَ كَلَام الله معنى قَائِما فِي نَفسه لم يَصح الْإِشَارَة إِلَيْهِ، وَلم يجز أَن يمتحنهم بالإتيان بِمثلِهِ، لِأَن فِيهِ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق، وَلَا يجوز ذَلِك، كَمَا لَا يجوز عَلَيْهِ أَن يُكَلف الْأُمِّي نقط الْمَصَاحِف، والزمن الْقيام. فَثَبت أَن يكون امتحنهم بِمَا سَمِعُوهُ من الْحُرُوف والأصوات، وَلِأَن أهل اللُّغَة سمت الْحُرُوف والأصوات كلَاما، وَمَا عداهُ لَيْسَ بِكَلَام حَقِيقَة.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ صرفنَا إِلَيْك نَفرا من الْجِنّ يَسْتَمِعُون الْقُرْآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصتُوا} ، وَإِنَّمَا ينصت إِلَى الْحُرُوف والأصوات.(2/213)
162 - وَرُوِيَ إِن صَلَاتنَا هَذِهِ لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام النَّاس، فَلَو كَانَت الْقِرَاءَة غير المقرؤ لم لم تصح الصَّلَاة بهَا. وَلِأَن من حلف بِالطَّلَاق أَن لَا يتَكَلَّم فَقَرَأَ الْقُرْآن لم يَحْنَث. وَلَو كَانَت الْقِرَاءَة كَلَام الْآدَمِيّ لحنث
وَلِأَن الْكَفَّارَة تجب بِالْحِنْثِ إِذا كَانَ الْحلف بِغَيْر مَخْلُوق، وَلَو كَانَ مخلوقا لم يجب الْكَفَّارَة بِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ هَذَا إِلا قَول الْبشر} ، فَقَالَ ردا عَلَى من قَالَ ذَلِك: {سَأُصْلِيهِ سقر} ، وَمَعْلُوم أَن قُريْشًا أشارت بِهَذَا القَوْل إِلَى التِّلَاوَة الَّتِي سمعوها من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَو كَانَت كَلَام الْبشر لم يتوعدهم بالنَّار.
163 - وَرُوِيَ إِن أَفْوَاهكُم طرق لِلْقُرْآنِ فطهروها بِالسِّوَاكِ.
وَإِنَّمَا هِيَ طرق لقِرَاءَة الْقُرْآن، فَدلَّ أَن الْقِرَاءَة هِيَ الْقُرْآن، وَلِأَن الْمُسلمين إِذا سمعُوا قِرَاءَة القاريء يَقُولُونَ: هَذَا كَلَام الله فَدلَّ أَنَّهَا هِيَ(2/214)
الْقُرْآن، وَلِأَن معنى الْقَدِيم ثَابت فِيهَا من قيام المعجز، وَثُبُوت الْحُرْمَة، وَمنع الْجنب من قرَاءَتهَا. فَدلَّ أَنَّهَا غير مخلوقة.
وَمن مَذْهَب أهل السّنة أَن الْكِتَابَة هِيَ الْمَكْتُوب، وَأَن مَا فِي الْمَصَاحِف وألواح الصّبيان وَغير ذَلِكَ من الْقُرْآن كَلَام الله تَعَالَى.
قَالَ الله تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لكتاب عَزِيز} ، وَقَالَ {إِنَّه لقرآن كريم، فِي كتاب مَكْنُون} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَالطُّورِ، وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ، فِي رَقٍّ منشور} . وَفِي عِنْد أهل اللُّغَة للوعاء، فَدلَّ عَلَى أَن الْقُرْآن فِي الْمُصحف، وَأَن الْكِتَابَة هِيَ الْمَكْتُوب، وَلِأَن الْأمة مجمعة عَلَى تَسْمِيَة مَا فِي الْمُصحف قُرْآنًا.
164 - وَرُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أعْطوا أعينكُم حظها من الْعِبَادَة، قيل: يَا رَسُول الله. وَمَا حظها من الْعِبَادَة؟ قَالَ: النّظر فِي الْمُصحف ".
ولأنا إِذا كتبنَا الْقُرْآن فالمنظور إِلَيْهِ الْحَرْف وَهُوَ قَائِم بِمحل وَهُوَ الحبر، فَإِذا مُحي الحبر لم ينظر إِلَى الْحَرْف لزوَال الْمحل الَّذِي قَامَ بِهِ.(2/215)
165 - وَرُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْقلب الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْء من الْقُرْآن كالبيت الخرب ".
166 - وَرُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: تَعَاهَدُوا الْقُرْآن فَلَهو أَشد تفصيا من صُدُور الرِّجَال من النعم من عقلهَا ".
167 - وَرُوِيَ عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " لَا يعذب الله قلبا وعى الْقُرْآن ".
فصل
قَالَ البُخَارِيّ: بَاب كَلَام الرب مَعَ الْأَنْبِيَاء، وَغَيرهم يَوْم الْقِيَامَة.
168 - أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ سُفْيَان بن مُحَمَّد ابْن الْحَسَنِ الثَّوْرِيُّ، نَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، نَا يحيى بن مُحَمَّد ابْن(2/216)
صَاعِدٍ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ كَرَامَةَ، نَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، نَا إِسْرَائِيلُ عَنْ مَنْصُورٍ.
قَالَ سُلَيْمَانُ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْفَقِيهُ، نَا أَحْمَدُ ابْن إِبْرَاهِيمَ، نَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، نَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. نَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِي الله عَنهُ -، عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارُ خُرُوجًا مِنَ النَّارِ، وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولا الْجَنَّةَ، رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْوًا، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى. فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعشرَة أَمْثَال الدُّنْيَا، فَيَقُول: اتسخربي أَوْ تَضْحَكُ بِي، وَأَنْتَ الْمَلَكُ قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَضْحَكُ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ".
قَالَ إِبْرَاهِيم: فَكَانَ يَقُول: ذَلِكَ أدنى أهل الْجنَّة منزلا. رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي كِتَابه.
169 - أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نَا أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى الْحَافِظُ إِمْلاءً، نَا عبد الله بن جعفرٍ، نَا أَحْمد بن يُونُسَ، نَا مُحَاضِرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ خَيْثَمَةَ ابْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِه فَلا يَرَى إِلا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ عَنْ شِمَالِهِ فَلا يَرَى إِلا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَرَى النَّارَ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَقِيَ وَجْهَهُ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ يَعْنِي فَلْيَفْعَلْ ".
وَفِي رِوَايَةِ الأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ خَيْثَمَةَ، وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طيبَة.(2/217)
170 - أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نَا أَبُو الْقَاسِمِ عبد الْملك بن مُحَمَّد ابْن بِشْرَانَ، نَا دَعْلَجُ بْنُ أَحْمَدَ، نَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُتَوَكِّلُ، نَا حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْب.
قَالَ سُلَيْمَان: وَحدثنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، نَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ الضَّبِّيُّ، نَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْب، نَا حَمَّاد ابْن زَيْدٍ، نَا مَعْبَدُ بْنُ هِلالٍ الْعَنَزِيُّ قَالَ: اجْتَمَعَ رَهْطٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَأَنَا فِيهِمْ فَخَرَجْنَا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - فاستشفعنا بِثَابِت البناتي، فَأَتَيْنَاهُ وَهُوَ يُصَلِّي الضُّحَى فَأَجْلَسَ ثَابِتًا مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، فَقُلْتُ لأَصْحَابِي: لَا تَسْأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ إِلا الْحَدِيثَ الَّذِي جِئْنَا فِيهِ، فَقَالَ لَهُ ثَابِتٌ: يَا أَبَا حَمْزَةَ إِنَّ إِخْوَانَكَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ جَاءُوكَ يَسْأَلُونَكَ عَنْ حَدِيثِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الشَّفَاعَة فَقَالَ أنس: حَدثنَا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، فَيُؤْتَى آدَمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَيُقَالُ: اشْفَعْ لِذُرِّيَّتِكَ فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَإِنَّهُ خَلِيلُ اللَّهِ، فَيُؤْتَى فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ، فَيُؤْتَى فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ. فَيُؤْتَى عِيسَى فَيُقوُل لَسْتُ لَهَا،(2/218)
وَلَكِن عَلَيْكُم بِمُحَمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَالَ: فاؤتى فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا،، فَأَنْطَلِقُ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَأَقُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ مَقَامًا، وَيُلْهِمُنِي اللَّهُ مَحَامِدَ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا الآنَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهُ. فَأَقُولُ: رَبِّ أُمَّتِي. فَيُقَالُ لِي: انْطَلِقْ، فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا، قَالَ: فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيُقَالُ: انْطَلِقْ، فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ فَأَذْهَبُ فأفعل. ثمَّ أَعُود فأحمده بتك الْمَحَامِدِ. ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ لِي: انْطَلِقْ فِيمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِنْ مِثْقَال حَبَّة خردلة من إيمام فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا.
قَالَ: " فَأَفْعَلُ ". قَالَ: فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ أَنَسٍ فَقُلْتُ لأَصْحَابِي: هَلْ لَكُمْ فِي الْحَسَنِ وَهُوَ مُخْتَفٍ فِي عَبْدِ الْقَيْسِ فِي مَنْزِلِ أَبِي خَلِيفَةَ، فَدَخَلْنَا فَقُلْنَا يَا أَبَا سَعِيدٍ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ أَخِيكَ أَبِي حَمْزَةَ فَحَدَّثَنَا فَلَمْ نَسْمَعْ مِثْلَ مَا حَدَّثَنَاهُ فِي الشَّفَاعَةِ.
قَالَ كَيْفَ حَدَّثَكُمْ؟ فَحَدَّثَنَاهُ بِالْحَدِيثِ حَتَّى إِذَا بَلَغْنَا آخِرَهُ قَالَ: هِيهْ،(2/219)
قُلْنَا: لَمْ يَزِدْنَا عَلَى هَذَا فَقَالَ: لَقَدْ حَدَّثَنِي هَذَا الْحَدِيثَ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَلَقَدْ تَرَكَ مِنْهُ شَيْئًا لَا أَدْرِي أَنَسِيَهُ الشَّيْخُ أَمْ تَرَكَهُ عَمْدًا.
حَدَّثَنِي كَمَا حَدَّثَكُمْ، ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ: " فَأَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ سَاجِدًا فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهُ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ صَادِقًا بِهَا، فَيُقَالُ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ وَعِزَّتِي وَجَلالِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي لأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ". فَأَشْهَدُ عَلَى الْحَسَنِ لَحَدَّثَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ يَوْمَ حَدَّثَنَا أَنَسٌ.
رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي كِتَابه عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَفِيه فَلَا أَدْرِي أنسي أم كره أَن تتكلوا.
171 - أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ الْحَسَنِ، نَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَ صَفْوَانُ بْنُ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيُّ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَطُوفُ بِالْبَيْتِ مَعَ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَعَارَضَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: كَيْفَ سَمِعت النَّبِي(2/220)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يذكر فِي النَّجْوَى؟ قَالَ: سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " يَدْنُو الْمُؤْمِنُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، قَالَ: يَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ؟ قَالَ: يَقُولُ رَبِّ أَعْرِفُ. قَالَ: هَلْ تَعْرِفُ؟ قَالَ: يَقُولُ رَبِّ أَعْرِفُ، قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ. قَالَ: فَيَقُولُ: إِنِّي سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، وَيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ. قَالَ: وَأما الْكفَّار، والمنافقون فيناديهم على رُؤُوس الأَشْهَادِ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ".
رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي كِتَابه، وَفِي رِوَايَة أَبِي عوَانَة، عَن قَتَادَة: " فَيَقُول نعم، أَي رب مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا ".
وَفِي رِوَايَة: " فينادي بهم على رُؤْس الأشهاد. وَفِي رِوَايَة: يدني العَبْد من ربه ".
قَالَ البُخَارِيّ فِي كِتَابه: بَاب كَلَام الرب عَزَّ وَجَلَّ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلامُ - ونداء الله الْمَلَائِكَة:
172 - أَخْبَرَنَا وَالِدِي، أَنا سَعِيدُ بْنُ أَحْمَدَ، نَا مُحَمَّد بن عمر، نَا مُحَمَّد ابْن يُوسُفَ، نَا الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، نَا عَبْدُ الصَّمد، نَا عبد الرَّحْمَن ابْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ(2/221)
فُلانًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبَّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَحَبَّ فُلانًا، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الأَرْضِ ".
173 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ، نَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الْعَصْرِ، وَصَلاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ. كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ ".
174 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ: نَا الْحُمَيْدِيُّ، نَا سُفْيَانُ، نَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ".
فصل
175 - رُوِيَ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ الله عَنهُ -، عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى: " الصَّوْم لي، وَأَنا أجزي بِهِ ".
176 - وَقَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قَالَ الله تَعَالَى: " أنْفق، أنْفق عَلَيْك ".(2/222)
177 - وَقَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَنْزِلُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا حِين يبْقى ثلث اللَّيْل الآخر، فَيَقُول: من يدعوني فأستجيب لَهُ ".
178 - وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي تهجد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَوَعدك الْحق، وقولك الْحق ".
179 - وَفِي حَدِيث عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى.
180 - وَفِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -، عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بَيْنَمَا أَيُّوب يغْتَسل عُريَانا خر عَلَيْهِ رجل جَراد من ذهب فَجعل يحثي فِي ثَوْبه، فناداه ربه: يَا أَيُّوب ألم (أكن) أغنيك عَمَّا ترى؟ قَالَ: بلَى يَا رب، وَلَا غَنِي بِي عَن بركتك ".
181 - وَعَن أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِي الله عَنهُ -: أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " خلق الله الْخلق، فَلَمَّا فرغ مِنْهُ قَامَت الرَّحِم قَالَ: مَه، قَالَت: هَذَا مقَام العائذ بك من القطيعة، قَالَ: إِلَّا ترْضينَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ، قَالَتْ: بلَى يَا رب، قَالَ: فَذَلِك لَك ".(2/223)
182 - وَعَن زيد بن خَالِد قَالَ: قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: " أصبح من عبَادي كَافِر بِي، وَمُؤمن بِي ".
183 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيُّ الْحَافِظُ، أَنا عَبْدُ الصَّمَدِ الْعَاصِمِيُّ، نَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْبُجَيْرِيُّ، نَا أَبُو حَفْصٍ الْبُجَيْرِيُّ، نَا الْعَبَّاس ابْن عَبْدِ الْعَظِيمِ، نَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ وَكِتَابُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَحْضٌ لَمْ يُشَبْ، وَهُوَ أَحْدَثُ الأَخْبَارِ بِاللَّهِ، وَقَدْ أَخْبَرَكُمُ اللَّهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ كَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ؟ .
فَقَالُوا: هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَبَدَّلُوهَا، وَحَرَّفُوهَا عَنْ مُوَاصَفَتِهَا وَاشْتَرَوْا بِهَا ثَمَنًا قَلِيلا، أَفَمَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا أَحَدًا مِنْهُمْ يَسْأَلُكُمْ عَنِ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ".
184 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ الْبُجَيْرِيُّ، نَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، نَا جَرِيرٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ علينا جمعه وقرانه} .(2/224)
قَالَ: كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانه، فيشتد ذَلِك عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِن علينا جمعه وقرآنه}
إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ. قَالَ: أَنْ يُبَيِّنَهُ بِلِسَانِكَ فتقرأ. قَالَ: {فَإِذا قرأناه فَاتبع قرآنه} قَالَ: فَإِذَا أَنْزَلْنَاهُ فَاسْتَمِعْ. . قَالَ: فَكَانَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - إِذَا أَتَاهُ أَطْرَقَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ كَمَا وَعَدَهُ اللَّهُ.
185 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ الْبُجَيْرِيُّ، نَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ نَا هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ، نَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلَا تخَافت بهَا}
قَالَ: نزلت وَرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا سَمِعَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ، وَمَنْ جَاءَ بِهِ.(2/225)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أَيْ: بِقِرَاءَتِكَ فَيَسْمَعُ الْمُشْرِكُونَ فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ، وَلا تُخَافِتْ بِهَا عَنْ أَصْحَابِكَ، فَلا تُسْمِعْهُمْ، وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا.
فصل فِي كَلَام الرب مَعَ أهل الْجنَّة
186 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ، أَنا عَبْدُ الصَّمَدِ نَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْبُجَيْرِيُّ، نَا أَبُو حَفْصٍ الْبُجَيْرِيُّ، نَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، نَا عبد الله بن وهب، عَن مَالك ابْن أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَلا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا ".
178 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ الْبُجَيْرِيُّ، نَا مُحَمَّد بن عبد الله ابْن الْمُبَارَكِ الْمَخْرَمِيُّ، نَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نَا فُلَيْحٌ، عَنْ هِلالِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَطَاءِ(2/226)
ابْن يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ يَوْمًا وَهُوَ يُحَدِّثُ وَفِيمَنْ عِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ: " إِنَّ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: أَوَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، قَالَ: فَيَقُولُ اللَّهُ: ازْرَعْ. قَالَ فَيَبْذُرُ حَبَّهُ، نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ، وَيَكُونُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ: دُونَكَ بَنِي آدَمَ فَإِنَّهُ لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ. قَالَ: فَقَالَ: الأَعْرَابِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ إِنَّا لَا نَجِدُ إِلَّا قرشياً أَوْ أَنْصَارِيًّا، فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ، فَأَمَّا نَحْنُ فلسنا بِأَصْحَابِهِ، قَالَ: فَضَحِك النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: كَذَا فِي كتابي، وَقد سَقَطت مِنْهُ كلمة وَهِي: قَوْله: " فبادر الطّرف نَبَاته واستواؤه ".
فصل
قَالَ لنا الإِمَام أَبُو المظفر السَّمْعَانِيّ: فصل ونشتغل الْآن بِالْجَوَابِ عَن قَوْلهم فِيمَا سبق:(2/227)
إِن أَخْبَار الْآحَاد لَا تقبل فِيمَا طَرِيقه الْعلم، وَهَذَا رَأس شغب المبتدعة فِي رد الْأَخْبَار، وَطلب الدَّلِيل من النّظر، وَالِاعْتِبَار فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
إِن الْخَبَر إِذا صَحَّ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرَوَاهُ الثِّقَات وَالْأَئِمَّة، وأسندوه خَلفهم عَن سلفهم إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَتَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ، فَإِنَّهُ يُوجب الْعلم فِيمَا سَبيله الْعلم.
وَهَذَا قَول عَامَّة أهل الحَدِيث والمتقنين من القائمين عَلَى السّنة، وَإِنَّمَا هَذَا القَوْل الَّذِي يذكر أَن خبر الْوَاحِد لَا يُفِيد الْعلم بِحَال، وَلَا بُد من نَقله بطرِيق التَّوَاتُر لوُقُوع الْعلم بِهِ، شَيْء اختراعته الْقَدَرِيَّة والمعتزلة، وَكَانَ قصدهم مِنْهُ رد الْأَخْبَار، وتلقفه مِنْهُم بعض الْفُقَهَاء الَّذين لم يكن لَهُم علم فِي الْعلم وَقد ثَابت، وَلم يقفوا عَلَى مقصودهم من هَذَا القَوْل، وَلَو أنصف الْفرق من الْأمة لأقروا بِأَن خبر الْوَاحِد يُوجب الْعلم، فَإِنَّهُم تراهم مَعَ اخْتلَافهمْ فِي طرائقهم وعقائدهم يسْتَدلّ كل فريق مِنْهُم عَلَى صِحَة مَا يذهب إِلَيْهِ بالْخبر الْوَاحِد، ترى أَصْحَاب الْقدر يستدلون بقوله:(2/228)
188 - " كل مَوْلُود يُولد عَلَى الْفطْرَة ". وَبِقَوْلِهِ:
189 - " خلقت عبَادي حنفَاء فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِين عَن دينهم ". وَترى أهل الإرجاء يستدلون بقوله:
190 - " من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله دخل الْجنَّة، قَالَ، وَإِن زنى وَإِن سرق، قَالَ: نعم، وَإِن زنى وَإِن سرق ".
وَترى الرافضة يستدلون بقوله:
191 - " يجاء بِقوم من أَصْحَابِي فيسلك بهم ذَات الشمَال، فَأَقُول أصيحابي أصيحابي، فَيُقَال: إِنَّك لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بعْدك، إِنَّهُم لن يزَالُوا مرتدين عَلَى أَعْقَابهم ". وَترى الْخَوَارِج يستدلون بقوله:
192 - " سباب الْمُسلم فسوق، وقتاله كفر ".(2/229)
وَبِقَوْلِهِ:
193 - " لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن، وَلَا يسرق السَّارِق حِين يسرق وَهُوَ مُؤمن ".
إِلَى غير هَذَا من الْأَحَادِيث الَّتِي يسْتَدلّ لَهَا أهل الْفرق. ومشهور وَمَعْلُوم اسْتِدْلَال أهل السّنة بالأحاديث. ورجوعهم إِلَيْهَا، فَهَذَا إِجْمَاع مِنْهُم عَلَى القَوْل بأخبار الْآحَاد. وَكَذَلِكَ أجمع أهل الْإِسْلَام متقدموهم ومتأخروهم عَلَى رِوَايَة الْأَحَادِيث فِي صِفَات الله، وَفِي مسَائِل الْقدر، والرؤية، وأصل الْإِيمَان، والشفاعة والحوض، وَإِخْرَاج الْمُوَحِّدين المذنبين من النَّار، وَفِي صفة الْجنَّة وَالنَّار، وَفِي التَّرْغِيب والترهيب، والوعد والوعيد، وَفِي فَضَائِل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ومناقب أَصْحَابه، وأخبار الْأَنْبِيَاء الْمُتَقَدِّمين عَلَيْهِم السَّلَام، وَكَذَلِكَ أَخْبَار الرَّقَائِق والعظات، وَمَا أشبه ذَلِكَ مِمَّا يكثر عده وَذكره، وَهَذِه الْأَشْيَاء كلهَا علمية لَا عملية، وَإِنَّمَا تروى لوُقُوع علم السَّامع بهَا.
فَإِذا قُلْنَا: إِن خبر الْوَاحِد لَا يجوز أَن يُوجب الْعلم حملنَا أَمر الْأمة فِي نقل الْأَخْبَار عَلَى الْخَطَأ، وجعلناهم لاغين مشتغلين بِمَا لَا يُفِيد أحدا شَيْئا، وَلَا يَنْفَعهُ، وَيصير كَأَنَّهُمْ قد دونوا فِي أُمُور مَا لَا يجوز الرُّجُوع إِلَيْهِ والاعتماد(2/230)
عَلَيْهِ، وَرُبمَا يرتقي هَذَا القَوْل إِلَى أعظم من هَذَا، فَإِن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أدّى هَذَا الدّين إِلَى الْوَاحِد فالواحد من أَصْحَابه ليؤدوه إِلَى الْأمة، ونقلوا عَنهُ، فَإِذا لم يقبل قَول الرَّاوِي لِأَنَّهُ وَاحِد رَجَعَ هَذَا الْعَيْب إِلَى الْمُؤَدِّي نَعُوذ بِاللَّه من هَذَا القَوْل الشنيع، والاعتقاد الْقَبِيح.
وَيدل عَلَيْهِ، أَن الْأَمر مشتهر فِي أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث الرُّسُل إِلَى الْمُلُوك:
194 - بعث إِلَى كسْرَى.
195 - وَقَيْصَر.
196 - وَملك الْإسْكَنْدَريَّة.
197 - وَإِلَى أكيدر دومة، وَغَيرهم من مُلُوك الْأَطْرَاف، وَكتب إِلَيْهِم كتبا عَلَى مَا عرف، وَنقل واشتهر.(2/231)
وَإِنَّمَا بعث وَاحِدًا وَاحِدًا، ودعاهم إِلَى الله وَإِلَى التَّصْدِيق برسالته لإلزام الْحجَّة، وَقطع الْعذر لقَوْله تَعَالَى: {رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل} .
وَهَذِه الْمعَانِي لَا تحصل إِلَّا بعد وُقُوع الْعلم بِمن أرسل إِلَيْهِ بِالْإِرْسَال والمرسل، وَأَن الْكتاب من قبله والدعوة مِنْهُ، وَقد كَانَ نَبينَا
بعث إِلَى النَّاس كافه، وَكثير من الْأَنْبِيَاء بعثوا إِلَى قوم دون قوم.
وَإِنَّمَا قصد بإرسال الرُّسُل إِلَى هَؤُلاءِ الْمُلُوك وَالْكتاب إِلَيْهِم، بَث الدعْوَة فِي جَمِيع الممالك، ودعا النَّاس عَامَّة إِلَى دينه عَلَى حسب مَا أمره الله بذلك، فَلَو لم يَقع الْعلم بِخَبَر الْوَاحِد فِي أُمُور الدّين لم يقْتَصر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى إرْسَال الْوَاحِد من أَصْحَابه فِي هَذَا الْأَمر، وَكَذَلِكَ فِي أُمُور كَثِيرَة اكْتفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بإرسال الْوَاحِد من أَصْحَابه مِنْهَا:
198 - أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث عليا لينادي فِي موسم الْحَج بمنى، أَلا لَا يَحُجن بعد الْعَام مُشْرك، وَلَا يَطُوفَن بِالْبَيْتِ عُرْيَان، وَمن كَانَ بَينه وَبَين رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عهد فمدته إِلَى أَرْبَعَة أشهر، وَلَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا نفس مسلمة.
وَلَا بُد فِي هَذِهِ الْأَشْيَاء من وُقُوع الْعلم للْقَوْم الَّذين كَانُوا ينادونهم حَتَّى إِن أقدموا عَلَى شَيْء من هَذَا بعد سَماع هَذَا القَوْل كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَبْسُوط الْعذر فِي قِتَالهمْ وقتلهم.(2/232)
199 - وَكَذَلِكَ بعث معَاذًا إِلَى الْيمن لِيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَام وَيُعلمهُم إِذا أجابوا شرائعهم.
200 - وَبعث إِلَى أهل خَيْبَر فِي أَمر الْقَتِيل، وَاحِدًا يَقُول لَهُم: إِمَّا أَن تدوا أَو تؤذنوا بِحَرب من الله وَرَسُوله.
201 - وَبعث إِلَى قُرَيْظَة أَبَا لبَابَة بن عبد الْمُنْذر يستزلهم عَلَى حكمه.
202 - وَجَاء أهل قبَاء وَاحِد وهم فِي مَسْجِدهمْ يصلونَ فَأخْبرهُم بِصَرْف الْقبْلَة إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام، فانصرفوا إِلَيْهِ فِي صلَاتهم. واكتفوا بقوله، وَلَا بُد فِي مثل هَذَا النَّوْع من وُقُوع الْعلم بِهِ، وَكَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.(2/233)
203 - يُرْسل الطَّلَائِع والجواسيس فِي ديار الْكفْر.
ويقتصر عَلَى الْوَاحِد فِي ذَلِكَ، وَيقبل قَوْله إِذا رَجَعَ، وَرُبمَا أقدم عَلَيْهِم بِالْقَتْلِ والنهب بقوله وَحده. وَمن تدبر أُمُور النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَسيرَته لم يخف عَلَيْهِ مَا ذكرنَا. وَمَا يرد هَذَا إِلَّا معاند مكابر، وَلَو أَنَّك وضعت فِي قَلْبك أَنَّك سَمِعت الصّديق، أَو الْفَارُوق أَو غَيرهمَا من وُجُوه الصَّحَابَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يروي لَك حَدِيثا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَمر من الِاعْتِقَاد مثل جَوَاز الرُّؤْيَة عَلَى الله تَعَالَى أَو إِثْبَات الْقدر، أَو غير ذَلِكَ لوجدت قَلْبك مطمئنا إِلَى قَوْله، لَا يتداخلك شكّ فِي صدقه وَثُبُوت قَوْله.
وَفِي زَمَاننَا ترى الرجل يسمع من أستاذه الَّذِي يخْتَلف إِلَيْهِ، ويعتقد فِيهِ التقدمة والصدق، أَنه سمع أستاذه يخبر عَن شَيْء من عقيدته الَّذِي يُرِيد أَن يلقى الله بِهِ، وَيرى نجاته فِيهِ فَيحصل للسامع علم بِمذهب من نقل عَنهُ أستاذه بِحَيْثُ لَا يختلجه شُبْهَة، وَلَا يَعْتَرِيه شكّ.
وَكَذَلِكَ فِي كثير من الْأَخْبَار الَّتِي قضيتها الْعلم يُوجد بَين النَّاس، فَيحصل لَهُم الْعلم بذلك الْخَبَر، وَمن رَجَعَ إِلَى نَفسه علم ذَلِكَ.(2/234)
وَأعلم أَن الْخَبَر، وَإِن كَانَ يحْتَمل الصدْق وَالْكذب، وَالظَّن والتجوز فِيهِ مدْخل، لَكِن هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ لَا يَنَالهُ أحد إِلَّا أَن يكون مُعظم أوقاته وأيامه مشتغلا بِعلم الحَدِيث، والبحث عَن سيرة النقلَة والرواة، ليقف عَلَى رسوخهم فِي هَذَا الْعلم، وكنه معرفتهم بِهِ، وَصدق ورعهم فِي أَحْوَالهم وأقوالهم، وَشدَّة حذرهم من الطغيان والزلل، وَمَا بذلوه من شدَّة الْعِنَايَة فِي تمهيد هَذَا الْأَمر، والبحث عَن أَحْوَال الروَاة، وَالْوُقُوف عَلَى صَحِيح الْأَخْبَار وسقيمها.
وَلَقَد كَانُوا رَحِمهم الله وَأنزل رضوانه عَلَيْهِم، بِحَيْثُ لَو قتلوا لم يسامحوا أحدا فِي كلمة يتقولها عَلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا فعلوا هم بِأَنْفسِهِم ذَلِكَ، وَقد نقلوا هَذَا الدّين إِلَيْنَا كَمَا نقل إِلَيْهِم وأدوا عَلَى مَا أُدي إِلَيْهِم، وَكَانُوا فِي صدق الْعِنَايَة والاهتمام بِهَذَا الشَّأْن بِمَا يجل عَن الْوَصْف، وَيقصر دونه الذّكر.
وَإِذا وقف الْمَرْء عَلَى هَذَا من شَأْنهمْ، وَعرف حَالهم، وَخبر صدقهم وورعهم وأمانتهم، ظهر لَهُ الْعلم فِيمَا نقلوه، وَرَوَوْهُ، وَلم يحْتَج إِلَى شَيْء من هَذِهِ الَّتِي قلناها، وَالله ولي التَّوْفِيق والمعونة.
وَالَّذِي يزِيد مَا قُلْنَاهُ إيضاحاً:(2/235)
204 - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ حِين سُئِلَ عَن الْفرْقَة النَّاجِية قَالَ: " مَا أَنا عَلَيْهِ وأصحابي ".
يَعْنِي من كَانَ عَلَى مَا أَنا عَلَيْهِ وأصحابي. فَلَا بُد من تعرف مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَيْسَ طَرِيق مَعْرفَته إِلَّا النَّقْل فَيجب الرُّجُوع إِلَى ذَلِك، وَقد قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
205 - " لَا تنازعوا الْأَمر أَهله ".
فَكَمَا يرجع فِي معرفَة مَذَاهِب الْفُقَهَاء الَّذين صَارُوا قدوة فِي هَذِهِ الْأمة إِلَى أهل الْفِقْه، وَيرجع فِي معرفَة اللُّغَة إِلَى أهل اللُّغَة، وَيرجع فِي معرفَة النَّحْو إِلَى أهل النَّحْو، فَكَذَلِك يجب أَن يرجع فِي معرفَة مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابه إِلَى أهل النَّقْل وَالرِّوَايَة، لأَنهم عنوا بِهَذَا الشَّأْن، واستغلوا بحفظه(2/236)
والتفحص عَنهُ وَنَقله، ولولاهم لَا ندرس علم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلم يقف أحد عَلَى سنته وطريقته.
فَإِن قَالَ قَائِل: إِن أهل الْفِقْه مجمعون عَلَى قَول الْفُقَهَاء، وَطَرِيق كل وَاحِد مِنْهُم فِي الْفُرُوع، وَأهل النَّحْو مجمعون عَلَى طَرِيق الْبَصرِيين والكوفيين فِي النَّحْو، وَكَذَلِكَ أهل الْكَلَام مجمعون عَلَى طَرِيق وَاحِد مِنْهُم من متقدميهم وسلفهم، فَأَما مَا يرجع إِلَى العقائد فَلم يجْتَمع أهل الْإِسْلَام عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابه، بل كل فريق يَدعِي دينه، وينتسب إِلَى مِلَّته وَيَقُولُونَ: نَحن الَّذِي تمسكنا بِملَّة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وأتبعنا طَرِيقَته، وَمن كَانَ عَلَى غير مَا نَحن عَلَيْهِ كَانَ عَلَى غير طَرِيقَته، فَلم يجز اعْتِبَار هَذَا الَّذِي تنازعنا فِيهِ بِمَا قُلْتُمْ.
الْجَواب: أَن كل فريق من المبتدعة إِنَّمَا يَدعِي أَن الَّذِي يَعْتَقِدهُ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لأَنهم كلهم مدعون شَرِيعَة الْإِسْلَام ملتزمون فِي الظَّاهِر شعائرها، يرَوْنَ أَن مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد
غير أَن الطّرق تَفَرَّقت بهم بعد ذَلِكَ، وأحدثوا فِي الدّين مَا لم يَأْذَن بِهِ الله وَرَسُوله، فَزعم كل فريق أَنه هُوَ المتمسك بشريعة الْإِسْلَام، وَأَن الْحق الَّذِي قَامَ بِهِ رَسُول الله
هُوَ الَّذِي يَعْتَقِدهُ وينتحله، غير أَن الله أَبى أَن يكون الْحق والعقيدة الصحيحية إِلَّا مَعَ أهل الحَدِيث والْآثَار؛ لأَنهم أخذُوا دينهم وعقائدهم خلفا عَن سلف، وقرنا عَن قرن، إِلَى أَن انْتَهوا إِلَى التَّابِعين، وَأَخذه التابعون من أَصْحَاب رَسُول الله(2/237)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَخذه أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا طَرِيق إِلَى معرفَة مَا دَعَا إِلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - النَّاس من الدّين الْمُسْتَقيم، والصراط القويم، إِلَّا هَذَا الطَّرِيق الَّذِي سلكه أَصْحَاب الحَدِيث، وَأما سَائِر الْفرق فطلبوا الدّين لَا بطريقه لأَنهم رجعُوا إِلَى معقولهم، وخواطرهم، وآرائهم، فطلبوا الدّين من قبله، فَإِذا سمعُوا شَيْئا من الْكتاب وَالسّنة، عرضوه عَلَى معيار عُقُولهمْ، فَإِن استقام قبلوه، وَإِن لم يستقم فِي ميزَان عُقُولهمْ ردُّوهُ، فَإِن اضطروا إِلَى قبُوله، حرفوه بالتأويلات الْبَعِيدَة، والمعاني المستكرهة، فحادوا عَن الْحق وزاغوا عَنهُ، ونبذوا الدّين وَرَاء ظُهُورهمْ، وَجعلُوا السّنة تَحت أَقْدَامهم تَعَالَى الله عَمَّا يصفونَ.
وَأما أهل الْحق فَجعلُوا الْكتاب وَالسّنة إمَامهمْ، وطلبوا الدّين من قبلهمَا، وَمَا وَقع لَهُم من معقولهم وخواطرهم، عرضوه عَلَى الْكتاب وَالسّنة فَإِن وجدوه مُوَافقا لَهما قبلوه، وشكروا الله حَيْثُ أَرَاهُم ذَلِكَ ووفقهم إِلَيْهِ، وَإِن وجدوه مُخَالفا لَهُم تركُوا مَا وَقع لَهُم، وَأَقْبلُوا عَلَى الْكتاب وَالسّنة، وَرَجَعُوا بالتهمة عَلَى أنفسهم، فَإِن الْكتاب وَالسّنة لَا يهديان إِلَّا إِلَى الْحق، ورأي الْإِنْسَان قد يرى الْحق، وَقد يرى الْبَاطِل، وَهَذَا معنى قَول أَبِي سُلَيْمَان الدَّارَانِي: وَهُوَ وَاحِد زَمَانه فِي الْمعرفَة: مَا حَدَّثتنِي نَفسِي بِشَيْء إِلَّا طلبت مِنْهَا شَاهِدين من الْكتاب وَالسّنة، فَإِن أَتَت بهما، وَإِلَّا رَددته فِي نحرها. أَو كَلَام هَذَا مَعْنَاهُ.(2/238)
وَمِمَّا يدل عَلَى أَن أهل الحَدِيث هم عَلَى الْحق، أَنَّك لَو طالعت جَمِيع كتبهمْ المصنفة من أَوَّلهمْ إِلَى آخِرهم، قديمهم وحديثهم مَعَ اخْتِلَاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد مَا بَينهم فِي الديار، وَسُكُون كل وَاحِد مِنْهُم قطرا من الأقطار، وَجَدتهمْ فِي بَيَان الِاعْتِقَاد عَلَى وتيرة وَاحِدَة، ونمط وَاحِد يجرونَ فِيهِ عَلَى طَريقَة لَا يحيدون عَنْهَا، وَلَا يميلون فِيهَا، قَوْلهم فِي ذَلِكَ وَاحِد ونقلهم وَاحِد، لَا ترى بَينهم اخْتِلَافا، وَلَا تفَرقا فِي شَيْء مَا وَإِن قل، بل لَو جمعت جَمِيع مَا جرى عَلَى ألسنتهم، ونقلوه عَن سلفهم، وجدته كَأَنَّهُ جَاءَ من قلب وَاحِد، وَجرى عَلَى لِسَان وَاحِد، وَهل عَلَى الْحق دَلِيل أبين من هَذَا؟
قَالَ الله تَعَالَى: {أَفلا يتدبرون الْقُرْآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تفَرقُوا} .
وَأما إِذا نظرت إِلَى أهل الْأَهْوَاء والبدع، رَأَيْتهمْ مُتَفَرّقين مُخْتَلفين أَو شيعًا وأحزابا، لَا تكَاد تَجِد اثْنَيْنِ مِنْهُم عَلَى طَريقَة وَاحِدَة فِي الِاعْتِقَاد، يبدع بَعضهم بَعْضًا، بل يرتقون إِلَى التفكير، يكفر الابْن أَبَاهُ وَالرجل أَخَاهُ، وَالْجَار جَاره، تراهم أبدا فِي تنَازع وتباغض، وَاخْتِلَاف، تَنْقَضِي(2/239)
أعمارهم وَلما تتفق كلماتهم {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قوم لَا يعْقلُونَ}
أَو مَا سَمِعت أَن الْمُعْتَزلَة مَعَ اجْتِمَاعهم فِي هَذَا اللقب يكفر البغداديون مِنْهُم الْبَصرِيين، والبصريون مِنْهُم البغداديين، وَيكفر أَصْحَاب أَبِي عَليّ الجبائي ابْنه أَبَا هَاشم، وَأَصْحَاب أَبِي هَاشم يكفرون أَبَاهُ أَبَا عَليّ، وَكَذَلِكَ سَائِر رؤوسهم وأرباب المقالات مِنْهُم، إِذا تدبرت أَقْوَالهم رَأَيْتهمْ مُتَفَرّقين يكفر بَعضهم بَعْضًا، ويتبرأ بَعضهم من بعض، كَذَلِك الْخَوَارِج وَالرَّوَافِض فِيمَا بَينهم وَسَائِر المبتدعة بمثابتهم. وَهل عَلَى الْبَاطِل دَلِيل أظهر من هَذَا؟
قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء إِنَّمَا أَمرهم إِلَى الله} .(2/240)
وَكَانَ السَّبَب فِي اتِّفَاق أهل الحَدِيث أَنهم أخذُوا الدّين من الْكتاب وَالسّنة، وَطَرِيق النَّقْل، فأورثهم الِاتِّفَاق والائتلاف. وَأهل الْبِدْعَة أخذُوا الدّين من المعقولات والآراء، فأورثهم الِافْتِرَاق وَالِاخْتِلَاف، فَإِن النَّقْل وَالرِّوَايَة من الثِّقَات والمتقنين قَلما يخْتَلف، وَإِن اخْتلف فِي لفظ أَو كلمة، فَذَلِك اخْتِلَاف لَا يضر الدّين، وَلَا يقْدَح فِيهِ.
وَأما دَلَائِل الْعقل فقلما تتفق، بل عقل كل وَاحِد يري صَاحبه غير مَا يرى الآخر، وَهَذَا بَين وَالْحَمْد لله، وَبِهَذَا يظْهر مُفَارقَة الِاخْتِلَاف فِي مَذَاهِب الْفُرُوع اخْتِلَاف العقائد فِي الْأُصُول، فَإنَّا وجدنَا أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرَضي عَنْهُم، اخْتلفُوا فِي أَحْكَام الدّين فَلم يفترقوا، وَلم يصيروا شيعًا، لأَنهم لم يفارقوا الدّين، ونظروا فِيمَا أذن لَهُم فاختلفت أَقْوَالهم وآراؤهم فِي مسَائِل كَثِيرَة، مثل مسالة الْجد، والمشتركة،(2/241)
وَذَوي الْأَرْحَام، وَمَسْأَلَة الْحَرَام وَفِي أُمَّهَات الْأَوْلَاد وَغير ذَلِكَ مِمَّا يكثر تعداده؛ من مسَائِل الْبيُوع، وَالنِّكَاح، وَالطَّلَاق، وَكَذَلِكَ فِي مسَائِل كَثِيرَة من بَاب الطَّهَارَة، وهيئات الصَّلَاة، وَسَائِر الْعِبَادَات، فصاروا باختلافهم فِي هَذِهِ الْأَشْيَاء محمودين، وَكَانَ هَذَا النَّوْع من الِاخْتِلَاف رَحْمَة من الله لهَذِهِ الآمة حَيْثُ أَيّدهُم بِالْيَقِينِ، ثمَّ وسع عَلَى الْعلمَاء النّظر فِيمَا لم يَجدوا حكمه فِي التَّنْزِيل وَالسّنة، فَكَانُوا مَعَ هَذَا الِاخْتِلَاف أهل مَوَدَّة، ونصح، وَبقيت بَينهم أخوة الْإِسْلَام، وَلم يَنْقَطِع عَنْهُم نظام الألفة، فَلَمَّا حدثت هَذِهِ الْأَهْوَاء المردية الداعية صَاحبهَا إِلَى النَّار، ظَهرت الْعَدَاوَة، وتباينوا وصاروا أحزابا، فَانْقَطَعت الْأُخوة فِي الدّين، وَسَقَطت الألفة. فَهَذَا يدل عَلَى أَن هَذَا التباين، والفرقة؛ إِنَّمَا حدثت من الْمسَائِل المحدثة، الَّتِي ابتدعها(2/242)
الشَّيْطَان فألقاها عَلَى أَفْوَاه أوليائه ليختلفوا، وَيَرْمِي بَعضهم بَعْضًا بالْكفْر فَكل مَسْأَلَة حدثت فِي الْإِسْلَام فَخَاضَ فِيهَا النَّاس فَتَفَرَّقُوا وَاخْتلفُوا، فَلم يُورث ذَلِكَ الِاخْتِلَاف بَينهم عَدَاوَة وَلَا بغضاء وَلَا تفَرقا، وَبقيت بَينهم الألفة، والنصيحة، والمودة، وَالرَّحْمَة، والشفقة، علمنَا أَن ذَلِكَ من مسَائِل الْإِسْلَام يحل النّظر فِيهَا، وَالْأَخْذ بقول من تِلْكَ الْأَقْوَال لَا يُوجب تبديعاً، لَا تكفيرا كَمَا ظهر مثل هَذَا الِاخْتِلَاف بَين الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ مَعَ بَقَاء الألفة والمودة، فَكل مَسْأَلَة حدثت فَاخْتَلَفُوا فِيهَا فأورث اخْتلَافهمْ فِي ذَلِكَ التولي والإعراض، والتدابر والتقاطع، وَرُبمَا ارْتقى إِلَى التفكير، علمت أَن ذَلِكَ لَيْسَ من أَمر الدّين فِي شَيْء بل يجب عَلَى كل ذِي عقل أَن يجتنبها، ويعرض عَن الْخَوْض فِيهَا، لِأَن الله شَرط فِي تمسكنا بِالْإِسْلَامِ أَنا نصبح فِي ذَلِكَ إخْوَانًا فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {واذْكُرُوا نعْمَة اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبكُمْ فأصبحتم بنعمته إخْوَانًا} .
فَإِن قَالَ قَائِل: إِن الْخَوْض فِي مسَائِل الْقدر وَالصِّفَات، وَشرط الْإِيمَان يُورث التقاطع والتدابر وَالِاخْتِلَاف، فَيجب طرحها، والإعراض عَنْهَا عَلَى مَا زعمتم.(2/243)
الْجَواب: إِنَّمَا قُلْنَا هَذَا فِي الْمسَائِل المحدثة، وَأما القَوْل فِي هَذِهِ الْمسَائِل من شَرط أصل الدّين، وَلَا بُد من قبُوله عَلَى نَحْو مَا ثَبت فِيهِ النَّقْل عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابه، وَلَا يجوز لنا الْإِعْرَاض عَن نقلهَا وروايتها وبيانها، لتفرق النَّاس فِي ذَلِكَ، كَمَا فِي أصل الْإِسْلَام، وَالدُّعَاء إِلَى التَّوْحِيد، وَإِظْهَار الشَّهَادَتَيْنِ.
وَقد ظهر بِمَا قدمنَا، وَذكرنَا بِحَمْد الله وَمِنْه أَن الطَّرِيق الْمُسْتَقيم مَعَ أهل الحَدِيث، وَأَن الْحق مَا نقلوه وَرَوَوْهُ، وَمن تدبر مَا كتبناه، وَأعْطى من قبله النصفة، وَأعْرض عَن هَوَاهُ، واستمع وأصغى بقلب حَاضر، وَكَانَ مسترشدا مهتديا، وَلم يكن مُتَعَنتًا، وأمده الله بِنور الْيَقِين عرف صِحَة جَمِيع مَا قُلْنَاهُ، وَلم يخف عَلَيْهِ شَيْء من ذَلِكَ، وَالله الْمُوفق، {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صِرَاط مُسْتَقِيم} .
وَقد أجَاب بعض أهل السّنة عَن قَوْلهم: إِن الْخَبَر الْوَاحِد لَا يُوجب الْعلم، بِجَوَاب آخر سوى مَا قُلْنَاهُ قد بَيناهُ فِي كتاب الْقدر. وَإِن كَانَ الْجَواب الصَّحِيح مَا ذَكرْنَاهُ.(2/244)
فَإِن قَالَ قَائِل: إِنَّكُم سميتم أَنفسكُم أهل السّنة، وَمَا نَرَاكُمْ فِي ذَلِكَ إِلَّا مدعين، لأَنا وجدنَا كل فرقة من الْفرق تنتحل إتباع السّنة، وتنسب من خالفها إِلَى الْهوى، وَلَيْسَ عَلَى أصحابكم مِنْهَا سمة وعلامة أَنهم أَهلهَا دون من يُخَالِفهَا من سَائِر الْفرق، فَكلهَا فِي انتحال هَذَا الْقلب شُرَكَاء متكافئون، ولستم أولى بِهَذَا اللقب إِلَّا أَن تَأْتُوا بِدلَالَة ظَاهِرَة من الْكتاب وَالسّنة أَو من إِجْمَاع أَو مَعْقُول.
الْجَواب: قَوْلكُم إِنَّه لَا يجوز لأحد دَعْوَى إِلَّا بِبَيِّنَة عادلة أَو دلَالَة ظَاهِرَة من الْكتاب وَالسّنة، هما لنا قائمتان بِحَمْد الله وَمِنْه.
قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} فَأمرنَا باتباعه وطاعته؛ فِيمَا سنّ وَأمر، وَنهى، وَحكم وَعلم.
206 - وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " عَلَيْكُم بِسنتي، وَمن رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني ".
ثمَّ لعن تَارِك سنته عَلَى مَا رُوِيَ أَنه قَالَ:
207 - " سِتَّة لعنتهم، وكل نَبِي مجاب الدعْوَة. وَذكر فِي آخِره: والتارك لسنتي ".(2/245)
فَوَجَدنَا سنته، وعرفناها بِهَذِهِ الْآثَار الْمَشْهُورَة الَّتِي رويت، بِالْأَسَانِيدِ الصِّحَاح الْمُتَّصِلَة الَّتِي تلقتها حفاظ الْعلمَاء بَعضهم من بعض، فَنَظَرْنَا إِلَى هَذِهِ الْفرْقَة - أَعنِي أَصْحَاب الحَدِيث - وهم لَهَا أطلب، وفيهَا أَرغب، وَلها أجمع ولصحاحها أتبع، فَعلمنَا يَقِينا بِالْكتاب وَالسّنة، أَنهم دون من سواهُم من جَمِيع الْفرق، لِأَن صَاحب كل فرقة أَو صناعَة مَا لم يكن مَعَه دلَالَة عَلَيْهِ من صناعته، وَآلَة من آلاته، ثمَّ ادّعى تِلْكَ الصِّنَاعَة، كَانَ فِي دَعْوَاهُ عِنْد الْعَامَّة مُبْطلًا، وَفِي الْمَعْقُول عِنْدهم متجهلا، فَإِذا كَانَت مَعَه آلَات الصناعات والحرف شهِدت لَهُ تِلْكَ الْآلَات بصناعتها، بل شهد لَهُ كل من عاينه قبل الاختبار كَمَا إِنَّك إِذا رَأَيْت الرجل فتح بَاب دكانه عَلَى بز، علمت أَنه بزاز. وَإِن لم تختبره، وَإِذا فتح عَلَى تمر علمت أَنه تمار، وَإِذا فتح عَلَى عطر علمت أَنه عطار، وَإِذا رَأَيْت بَين يَدَيْهِ الْكِير والسندان والمطرقة علمت أَنه حداد. وَإِذا رَأَيْت بَين يَدَيْهِ الإبرة، والجلم علمت أَنه خياط، وَكَذَلِكَ صَاحب كل صناعَة، إِنَّمَا يسْتَدلّ عَلَى صناعته بآلته، فَيحكم بالمعاينة من غير اختبار، وَلَو رَأَيْت بَين يَدي نجار قدومًا، ومنشارا، ومثقبا، ثمَّ سميته خياطاً(2/246)
جهلت، وَإِذا رَأَيْت بِنَاء مَعَه آله البنائين ثمَّ سميته حدادا جهلت، وَكَذَلِكَ من مَعَه الْكِير والسندان ومنفخ إِذا سميته بزازاً أَو عطاراً جهلت، وَلَو قَالَ صَاحب التَّمْر لصَاحب الْعطر: أَنا عطار، قَالَ لَهُ: كذبت، بل أَنا هُوَ، وَشهد لَهُ بذلك كل من أبصره من الْعَامَّة، ثمَّ كل صَاحب صناعَة، وحرفة يفتخر بصناعته، ويستطيل بهَا، ويجالس أَهلهَا، وَلَا يذمها.
ورأينا أَصْحَاب الحَدِيث رَحِمهم الله قَدِيما وحديثاً، هم الَّذين رحلوا فِي طلب هَذِهِ الْآثَار الَّتِي تدل على سنَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخَذُوهَا من معادنها، وجمعوها من مظانها، وحفظوها فاغتبطوا بهَا ودعوا إِلَى اتباعها، وعابوا من خالفها فكثرت عِنْدهم، وَفِي أَيْديهم حَتَّى اشتهروا بهَا كَمَا اشْتهر الْبَزَّاز ببزه، والتمار بتمره، والعطار بعطره، ثمَّ رَأينَا قوما انسلخوا من حفظهَا ومعرفتها، وتنكبوا اتِّبَاع أَصَحهَا وأشهرها، وطعنوا فِيهَا، وفيمن أَخذ بهَا، وزهدوا النَّاس فِي جمعهَا ونشرها، وضربوا لَهَا ولأهلها أَسْوَأ الْأَمْثَال، فَعلمنَا بِهَذِهِ الدَّلَائِل الظَّاهِرَة والشواهد الْقَائِمَة أَن هَؤُلاءِ الراغبين فِيهَا، وَفِي جمعهَا وحفظها، واتباعها أولى بهَا وأحق من سَائِر الْفرق الَّذين تنكبوا أَكْثَرهَا، وَهِي الَّتِي تحكم عَلَى أهل الْأَهْوَاء بالأهواء. لِأَن الِاتِّبَاع عِنْد الْعلمَاء هُوَ الْأَخْذ بسنن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّتِي صحت عَنهُ عِنْد أَهلهَا ونقلتها وحفاظها، والخضوع لَهَا، وَالتَّسْلِيم لأمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهَا تقليدا لمن أَمر الله بتقليده(2/247)
والائتمار بأَمْره، والانتهاء عَمَّا نهى الله عَنهُ، وَوجدنَا أهل الْأَهْوَاء الَّذين استبدوا بالآراء والمعقولات بمعزل من الْأَحَادِيث والْآثَار الَّتِي هِيَ طَرِيق معرفَة سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
فَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ سمة ظَاهِرَة وعلامة بَيِّنَة تشهد لأهل السّنة باستحقاقها، وعَلى أهل الْأَهْوَاء فِي تَركهَا، والعدول عَنْهَا، وَلَا نحتاج فِي هَذَا إِلَى شَاهد أبين من هَذَا، وَلَا إِلَى دَلِيل أَضْوَأ من هَذَا.
فَإِن قَالُوا: إِن لكل فريق من الْأَهْوَاء، وَأَصْحَاب الآراء حجَجًا من آثَار رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يحتجون بهَا.
قُلْنَا: أجل وَلَكِن يحْتَج بقول التَّابِعِيّ على قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو بِحَدِيث مُرْسل ضَعِيف عَلَى حَدِيث مُتَّصِل قوي، وَمن هَا هُنَا امتاز أهل اتِّبَاع السّنة من غَيرهم، لِأَن صَاحب السّنة لَا يألو أَن يتبع من السّنَن أقواها وَمن الشُّهُود عَلَيْهَا أعدلها وأتقاها، وَصَاحب الْهوى كالغريق يتَعَلَّق بِكُل عود ضَعِيف أَو قوي، فَإِذا رَأَيْت الْحَاكِم لَا يقبل من الشُّهُود إِلَّا أعدلها وأنقاها كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ شَاهدا عَلَى عَدَالَته، وَإِذا غمض وقنع بأرداها كَانَ ذَلِكَ دَلِيلا عَلَى جوره، وَكَانَ المتبع لَا يتبع من الْآثَار إِلَّا مَا هُوَ عِنْد الْعلمَاء أقوى، وَصَاحب الْهوى لَا يتبع إِلَّا مَا يهوى، وَإِن كَانَ عِنْد الْعلمَاء أوهاها، وكل ذِي حِرْفَة وصناعة مَوْسُوم بصناعته، مَعْرُوف بآلته مَتى أعوزته الْآلَة زَالَت عَنهُ آيَة الصِّنَاعَة، وَكَذَلِكَ سمات أهل السّنَن والأهواء، وَفِي دون مَا فسرناه مَا يشفي، والأقل من هَذَا يَكْفِي من كَانَ موفقا، ولحقه عون من الله تَعَالَى.(2/248)
قَالُوا: قد كثرت الْآثَار فِي أَيدي النَّاس، واختلطت عَلَيْهِم - قُلْنَا: مَا اخْتلطت إِلَّا عَلَى الْجَاهِلين بهَا، فَأَما الْعلمَاء بهَا فَإِنَّهُم ينتقدونها انتقاد الجهابذة الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير، فيميزون زيوفها، وَيَأْخُذُونَ جيادها، وَلَئِن دخل فِي غمار الروَاة من وسم بالغلط فِي الْأَحَادِيث فَلَا يروح ذَلِكَ على جهابدة أَصْحَاب الحَدِيث، ورتوت الْعلمَاء حَتَّى إِنَّهُم عدوا أغاليط من غلط فِي الْأَسَانِيد والمتون، بل تراهم يعدون عَلَى كل رجل مِنْهُم فِي كم حَدِيث غلط وَفِي كم حرف حرف، وماذا صحف؟ فَإِذا لم يروج عَلَيْهِم أغاليط الروَاة فِي الْأَسَانِيد والمتون، والحروف، فَكيف يروج وضع الزَّنَادِقَة وتوليدهم الْأَحَادِيث، وَهُوَ الَّذِي يَقُول بعض النَّاس: إِن بعض الزَّنَادِقَة أدعى أَنه وضع ألوفا من الْأَحَادِيث وخلطها بالأحاديث الَّتِي يَرْوِيهَا النَّاس حَتَّى خفيت عَلَى أَهلهَا، وَمَا يَقُول هَذَا إِلَّا جَاهِل ضال مُبْتَدع كَذَّاب يُرِيد أَن يهجن بِهَذِهِ الدعو الكاذبة صِحَاح آثَار رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصادقة فيغلط جهال النَّاس بِهَذِهِ الدَّعْوَى، وَمَا احْتج مُبْتَدع فِي رد آثَار رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِحجَّة أَوْهَى مِنْهَا، وَلَا أَشد اسْتِحَالَة، فَصَاحب هَذِهِ الدَّعْوَى يسْتَحق أَن يسف فِي فِيهِ(2/249)
الرماد، وينفى من بِلَاد الْإِسْلَام، فَتدبر رَحِمك الله، أيجعل حكم من أفنى عمره فِي طلب آثَار رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شرقا وغربا، وَبرا وبحرا، وارتحل فِي الحَدِيث الْوَاحِد فراسخ، واتهم أَبَاهُ، وَأَدْنَاهُ فِي خبر يرويهِ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا كَانَ مَوضِع التُّهْمَة، وَلم يحاجه فِي مقَال وَلَا خطاب غَضبا لله، وحمية لدينِهِ، ثمَّ ألف الصُّحُف والأجلاد فِي معرفَة الْمُحدثين وأسمائهم وأنسابهم، وَقدر أَعْمَالهم، وَذكر أعصارهم، وشمائلهم وأخبارهم، وَفصل بَين الرَّدِيء والجيد، وَالصَّحِيح والسقيم حنقا لله وَرَسُوله وغيرة عَلَى الْإِسْلَام وَالسّنة، ثمَّ اسْتعْمل آثاره كلهَا حَتَّى فِيمَا عدا الْعِبَادَات من أكله، وطعامة، وَشَرَابه، ونومه ويقظته، وقيامه وقعوده، ودخوله وَخُرُوجه، وَجَمِيع سيرته، وسننه حَتَّى فِي خطواته، ولحظاته، ثمَّ دَعَا النَّاس إِلَى ذَلِكَ، وحثهم عَلَيْهِ وندبهم إِلَى اسْتِعْمَاله، وحبب إِلَيْهِم ذَلِكَ بِكُل مَا يُمكنهُ حَتَّى فِي بذل مَاله وَنَفسه، كمن أفنى عمره فِي اتِّبَاع أهوائه، وآرائه وخواطره، وهواجسه، ثمَّ ترَاهُ يرد مَا هُوَ أوضح من الصُّبْح من سنَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأشهر من الشَّمْس بِرَأْي دخيل، واستحسان ذميم، وَظن فَاسد، وَنظر مشوب بالهوى، فَانْظُر وفقك الله للحق أَي الْفَرِيقَيْنِ أَحَق بِأَن ينْسب إِلَى اتِّبَاع السّنة، وَاسْتِعْمَال الْأَثر؛ الْفرْقَة الأولى أم الثَّانِيَة؟ فَإِذا قضيت بَين هذَيْن بوافر لبك، وصحيح نظرك، وثاقب فهمك فَلْيَكُن شكرك لله عَلَى حسب مَا أَرَاك من الْحق ووفقك للصَّوَاب، وألهمك من السداد، واختصك بِهِ من إِصَابَة الْحسن فِي القَوْل وَالْعَمَل، فَإِذا كنت كَذَلِك فقد ازددت يَقِينا عَلَى يَقِين وثلجاً على ثلج، وإصابة عَلَى إِصَابَة، وَمن الله التأييد والتسديد(2/250)
والإلهام والإعلام، وَهُوَ حسب أهل السّنة، وَعَلِيهِ توكلهم، وَمِنْه معونتهم وتوفيقهم ونصرتهم بمنه وفضله، وعميم كرمه وَطوله.
فصل وَمن مَذْهَب أهل السّنة أَن الْمُؤمنِينَ يرَوْنَ الله تبَارك وَتَعَالَى بِأَبْصَارِهِمْ يَوْم الْقِيَامَة
208 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، أَنا هبة اللَّه بْن الْحسن، أَنا أَحْمَد بْنُ عُبَيْدٍ، أَنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَشِيرٍ، نَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، نَا مُحَمَّد ابْن أَبِي نُعَيْمٍ، نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَخْبَرَهُ قَالَ: قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نرى رَبنَا(2/251)
يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَكَذَلِكَ تَرَوْنَهُ.
209 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ وَالْحَسَنُ بْنُ عُثْمَانَ قَالا: أَنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ، نَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِلْحَانَ نَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، نَا اللَّيْثُ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلالٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا؟ قَالَ: " هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ إِذَا كَانَ صَحْوًا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: فَتُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ إِذَا كَانَ صَحْوًا؟ قُلْنَا: لَا قَالَ: فَإِنَّكُمْ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ يَوْمَئِذٍ إِلا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا ".
210 - رِوَايَة جرير بن عبد الله البَجلِيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:(2/252)
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْعَبَّاسِ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ فَرْوَةَ، نَا أَبُو شِهَابٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِم، عَن جرير بْن عَبْد اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ: " إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَيَانًا كَمَا تَرَوْنَ هَذَا، لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، وَقَرَأَ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْس وَقبل غُرُوبهَا} .
أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح بِهَذَا اللَّفْظ من رِوَايَة أَبِي شهَاب، وَقد تَابع أَبَا شهَاب بِلَفْظ: " العيان " زيد بن أَبِي أنيسَة.
211 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا أَحْمد بن عبيد نَا أَحْمد ابْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَصْرِ بْنِ بُجَيْرٍ الْقَاضِي بِوَاسِطَ، نَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّاءَ، نَا الْمُعَافَى بْنُ سُلَيْمَانَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ، عَنْ زَيْدٍ وَهُوَ ابْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّكُمْ سَتُعَايِنُونَ رَبَّكُمْ ".(2/253)
212 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن عِمْرَانَ، أَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خسرماه الْقَزْوِينِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ حَفْصٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطَّالْقَانِيُّ، نَا صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ التِّرْمِذِيُّ، نَا حَمَّادُ بْنُ أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، وَبَيَانِ بْنِ بِشْرٍ عَنْ قَيْسِ ابْن أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ الله يَقُول: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَانْظُرُوا لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقبل غُرُوبهَا ".
213 - رِوَايَة أَنَس بْن مَالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ، نَا مَكِّيُّ بْنُ عَبْدَانَ، أَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ، نَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، نَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، نَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يُجْمَعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَأَرَاحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالُوا: ائْتُوا مُحَمَّدًا عَبْدًا قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَأْتُونِّي حَتَّى أَسْتَأْذِنَ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنَ لِي فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ أَوْ خَرَرْتُ سَاجِدًا لِرَبِّي فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثمَّ يُقَال: ارْفَعْ - يَعْنِي رَأسك - مُحَمَّد وَقل: تسمع،(2/254)
وَسَلْ تُعْطَهُ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمَنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ إِلَيْهِ إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ أَعُودُ إِلَيْهِ الرَّابِعَةَ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ مَا بَقِيَ إِلا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ ".
هَذَا حَدِيث صَحِيح أخرجه البُخَارِيّ، وَمُسلم من رِوَايَة سَعِيد بن أَبِي عرُوبَة، وَقَوله: " فَيحد لي حدا أَي: يبين لي قدرا وَيقدر لي عدد أدخلهم الْجنَّة، وَقَوله: إِلَّا من حَبسه الْقُرْآن "، أَي: إِلَّا من ذكر الْقُرْآن أَنه لَا يخرج أبدا من النَّار.
214 - رِوَايَة أَبِي مُوسَى عبد الله بن قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْبَزَّازُ، نَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، نَا حَفْصُ بْنُ عَمْرٍو الرَّيَّانِيُّ نَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْعَمِّيُّ، نَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، عَنْ أبي بكر ابْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عدن ".(2/255)
هَذَا حَدِيث صَحِيح أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم من رِوَايَة الْعمي.
215 - رِوَايَة صُهَيْب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن ابْن الْعَبَّاسِ نَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْوَرَّاقُ، نَا الْحسن بن عَرَفَة، نَا يزِيد ابْن هَارُونَ، نَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ صُهَيْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نُودُوا يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا لَمْ تَرَوْهُ. قَالَ: فَيَقُولُونَ: مَا هُوَ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُزَحْزِحْنَا عَنِ النَّارِ، وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ عَزَّ وَجَلَّ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ ". ثُمَّ قَرَأَ: {لِلَّذِينَ أَحْسنُوا الْحسنى وَزِيَادَة} .
216 - رِوَايَة جَابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:(2/256)
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا الْقَاسِم بن جَعْفَر، أَنا على ابْن إِسْحَاق ابْن مُحَمَّدٍ، نَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ نَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، نَا أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادَانِيُّ، نَا الْفَضْلُ الرَّقَاشِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِم رَبهم عز وَجل فيرفعون رُؤْسهمْ فَإِذَا رَبُّهُمْ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ فَيَقُولُ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْجَنَّةِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {سَلامٌ قَوْلا من رب رَحِيم} فَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ يَحْتَجِبُ عَنْهُمْ وَيَبْقَى نُورٌ مِنْ نُورِهِ فِي مَنَازِلِهِمْ ".
217 - رِوَايَة أَبِي رزين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، أَنا مُحَمَّدُ بن عبد الرَّحْمَن ابْن الْعَبَّاسِ، نَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، نَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ، نَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ عَنْ وَكِيعِ بْنِ عُدُسٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ:(2/257)
وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ قَالَ: " أَلَيْسَ كُلُّكُمْ يَنْظُرُ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، اللَّهُ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ ".
218 - رِوَايَة ابْن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْفَارِسِيُّ، أَنا أَبُو الْحُسَيْنِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَحْيَى الزَّعْفَرَانِيُّ، نَا أَحْمَدُ بْنُ سَعْدٍ الزُّهْرِيّ، نَا يحيى ابْن سُلَيْمَانَ، نَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، نَا سُفْيَانُ عَنْ ثُوَيْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَرْفَعُهُ قَالَ: " إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً مَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ أَلْفَ سَنَةٍ يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يَرَى أَدْنَاهُ، وَإِنَّ أَفْضَلَكُمْ مَنْزِلَةً مَنْ يَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً ".
219 - رِوَايَة عمار بن يَاسر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ الَّلِه، أَنا جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَعْقُوبَ، أَنا مُحَمَّد ابْن هَارُونَ الرُّويَانِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ مَهْدِيٍّ الْقَطَّانُ، نَا أَسد بن مُوسَى، نَا حَمَّاد ابْن زَيْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ.(2/258)
قَالَ هِبَةُ اللَّهِ: وَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ، أَنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُبَشِّرٍ، نَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، نَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، نَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَطَاءِ ابْن السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: صَلَّى بِنَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَلاةً أَوْجَزَ فِيهَا، فَلَمَّا سلم، قيل لَهُ: لقد خففت يَا أَبَا الْيَقظَان، قَالَ ": أما إِنِّي قد دَعَوْتُ فِيهَا بِدُعَاءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ انْصَرَفَ.
قَالَ: فَتَبِعَهُ رَجُلٌ، قَالَ عَطَاءٌ: أَبِي الَّذِي تَبِعَهُ، وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يَقُولَ فَسَأَلَهُ عَنِ الدُّعَاءِ فَقَالَ: ": اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ لِي خَيْرًا، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ لِي الْوَفَاةُ خَيْرًا.
اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحِلْمِ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَأَسْأَلُكَ الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فتْنَة مضلة، الله زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ ".
220 - رِوَايَة زيد بن ثَابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
قَالَ: وَأخْبرنَا هبة الله قَالَ: ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ نَا أَبُو زُرْعَةَ، نَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، نَا أَبُو بكر ابْن أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - علمه(2/259)
وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَعَاهَدَ أَهْلَهُ بِهِ فِي كُلِّ صباح: " لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك لَبَّيْكَ، وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ وَمِنْكَ وَبِكَ وَإِلَيْكَ، اللَّهُمَّ مَا قُلْتُ مِنْ قَوْلٍ، أَوْ حَلَفْتُ مِنْ حَلِفٍ أَوْ نَذَرْتُ مِنْ نَذْرٍ فَمَشِيئَتُكَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَا شِئْتَ كَانَ، وَمَا لَا تَشَاءُ لَا يَكُونُ لَا حَوْلَ، وَلا قُوَّةَ إِلا بِكَ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ وَمَا صَلَّيْتَ مِنْ صَلاةٍ فَعَلَى مَنْ صَلَّيْتَ، وَمَا لَعَنْتَ مِنْ لَعْنَةٍ فَعَلَى مَنْ لَعَنْتَ، أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا، وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ".
اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَذَّةَ النَّظَرِ فِي وَجْهِكَ، وَشَوْقًا إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَعْتَدِيَ أَوْ يُعْتَدَى عَلَيَّ أَوْ أَكْتَسِبَ خَطِيئَةً مُحْبِطَةٍ أَوْ أَذْنِبَ ذَنْبًا لَا تَغْفِرُهُ، اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ إِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأُشْهِدُكَ وَكَفَى بِكَ شَهِيدًا أَنْ لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ وَحْدَكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ، لَكَ الْمُلْكُ، وَلَكَ الْحَمْدُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَشْهَدُ، أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ، وَلِقَاءَكَ حَقٌّ، وَالسَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّكَ تَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تَكِلْنِي إِلَى ضَيْعَةٍ وَعَوَزٍ، وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، وَأَنِّي لَا أَثِقُ إِلا بِرَحْمَتِكَ فَاغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ، وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ".(2/260)
فصل
قَالَ بعض الْحفاظ: رَوَى عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الصَّحَابَة حَدِيث الرُّؤْيَة ثَلَاث وَعِشْرُونَ نفسا مِنْهُم عَليّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ، وَجَرِير، وَأَبُو مُوسَى وصهيب، وَجَابِر، وَابْن عَبَّاس، وَأنس، وعمار بن يَاسر، وَأبي بن كَعْب، وَابْن مَسْعُود، وَزيد بن ثَابت، وَحُذَيْفَة وَعبادَة، وَأَبُو أُمَامَة، وعدي بن حَاتِم، وَأَبُو رزين الْعقيلِيّ، وَكَعب ابْن عجْرَة، وَابْن عمر وفضالة بن عبيد، وَبُرَيْدَة، وَرجل من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.(2/261)
قَالَ يَحْيَى بن معِين: عِنْدِي سَبْعَة عشر حَدِيثا فِي الرُّؤْيَة كلهَا صِحَاح.
221 - وَرُوِيَ عَن عَليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: من تَمام النِّعْمَة دُخُول الْجنَّة، وَالنَّظَر إِلَى الله تبَارك وَتَعَالَى فِي جنته.
222 - وَقَالَ ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أتنكرون أَن تكون الْخلَّة لإِبْرَاهِيم وَالْكَلَام لمُوسَى، والرؤية لمُحَمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَلَيْهِم.
فصل
ذكر عبد الرَّحْمَن بن أَبِي حَاتِم، نَا أبي عبد الرَّحْمَن الْمقري قَالَ: سَمِعت الْحُسَيْن بن مُحَمَّد الطنافسي قَالَ: سَمِعت وكيعا يَقُول: يرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْجنَّة وَلَا يرَاهُ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ.
وَذكر يَحْيَى بن الْمُغيرَة قَالَ: كُنَّا عِنْد جرير بن عبد الحميد فَذكر لَهُ حَدِيث ابْن سابط: للَّذين أَحْسنُوا الْحسنى، وَزِيَادَة.(2/262)
قَالَ: الزِّيَادَة النّظر إِلَى وَجه الله عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: فحضره رجل فَأنكرهُ فصاح بِهِ، وَأخرجه من مَجْلِسه.
وَذكره مُحَمَّد بن عِيسَى الدَّامغَانِي، حَدَّثَنِي أَبُو بكر صَالح الْمروزِي وَكَانَ صَاحب قُرْآن قَالَ: دس الْجَهْمِية إِلَى ابْن الْمُبَارك رجلا. فَقَالَ: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن خداي رابذان جهان جون يبنذ. فَقَالَ: بحشم - يَعْنِي كَيفَ نرى رَبنَا يَوْم الْقِيَامَة؟ - فَقَالَ: بِالْعينِ.
وَقَالَ الرّبيع بن سُلَيْمَان: حضرت مُحَمَّد إِدْرِيس الشَّافِعِي رَحمَه الله وَقد جَاءَتْهُ رقْعَة من الصَّعِيد فِيهَا، مَا تَقول فِي قَول الله تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَبهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون} . قَالَ الشَّافِعِي: لما حجب(2/263)
هَؤُلاءِ فِي السخط كَانَ هَذَا دَلِيل عَلَى أَنهم يرونه فِي الرِّضَا، وَقَالَ لَو لم يُوقن مُحَمَّد بن إِدْرِيس أَنه يرى الله لما عبد الله تَعَالَى.
وَقَالَ سُلَيْمَان بن حَرْب: وَسَأَلَهُ سَلمَة بن شبيب، وَهُوَ الْمُسْتَمْلِي فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا أَيُّوب أذكر حَدِيث أَبِي مُوسَى فِي الرُّؤْيَا فَقَالَ: دَعه، فَقَالَ رجل بِالْقربِ من سُلَيْمَان خفِيا: أَي وَالله فَدَعْهُ، فَسَمعهُ فَنظر إِلَيْهِ فَقَالَ: إِذا أحدثه عَلَى رغم أَنْفك، خُذْهَا إِلَيْك فَإِنِّي أَرَاك مِمَّن تَركه، ثمَّ بَدَأَ فَحدث بِهِ.
وَرُوِيَ عَن عبيد الله بن عمر القواريري قَالَ: رَأَيْت فِي النّوم كَأَنِّي مَرَرْت بِبَاب أَحْمَد بن حَنْبَل وعَلى بَابه قوم قعُود وَهُوَ يَقُول من دَاخل وَيرْفَع صَوته: الْمُؤْمِنُونَ ينتظرون أَن ينْظرُوا إِلَى رَبهم عَزَّ وَجَلَّ.(2/264)
وَقَالَ عِصَام الْحَرْبِيّ: رَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَنِّي دخلت درب هِشَام فلقيني بشر بن الْحَارِث رَحمَه الله فَقلت: من أَيْن يَا أَبَا نصر؟ قَالَ: من عليين.
قلت: مَا فعل أَحْمَد بن حَنْبَل؟ قَالَ: تركت السَّاعَة أَحْمَد بن حَنْبَل وَعبد الْوَهَّاب الْوراق بَين يَدي الله عَزَّ وَجَلَّ يأكلان، ويشربان، ويتنعمان قلت: فَأَنت، قَالَ:: علم الله قلَّة رغبتي فِي الطَّعَام فأباح لي النّظر إِلَيْهِ.
وَقَالَ ابْن الْمُبَارك: مَا حجب الله عَزَّ وَجَلَّ أحدا عَنهُ إِلَّا عذبه، ثمَّ قَرَأَ {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ، ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تكذبون} . قَالَ بِالرُّؤْيَةِ.
وَقَالَ فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالحا} . من أَرَادَ النّظر إِلَى وَجه خالقه فليعمل عملا صَالحا، وَلَا يخبر بِهِ أحدا.
وَكَانَ الغطريف بن عَطاء وَإِلَى خُرَاسَان، وَكَانَ يخْطب فَكَانَ يتم(2/265)
وَيَقُول: اللَّهُمَّ من الدُّنْيَا فسلمنا، وَحجَّتنَا يَوْم الْقِيَامَة فلقنا، وَالنَّظَر إِلَى وَجهك فارزقنا.
فصل
قَالَ أهل السّنة: الدَّلِيل عَلَى أَن الْمُؤمنِينَ يرَوْنَ رَبهم عَزَّ وَجَلَّ قَوْله تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}
قَالَ أهل اللُّغَة: النّظر إِذا قرن بِالْوَجْهِ، وعدي بِحرف الْجَرّ اقْتضى نظر الْعين، قَالَ الشَّاعِر.
(انْظُر إِلَيّ بِوَجْه لَا خَفَاء بِهِ ... أريك تاجاً على سَادَات عدنان)
223 - وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَسأَلك لَذَّة النّظر ~إِلَى وَجهك ". وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يسْأَل سؤالا يَسْتَحِيل، لِأَن الله تَعَالَى لَا يبْعَث نَبيا إِلَّا هُوَ عَالم بِمَا يجْرِي عَلَيْهِ.
وَاحْتج الْمُعْتَزلَة بقوله تَعَالَى: {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} وَقَوله: {لن تراني} . وَلَيْسَ لَهُم فِي ذَلِكَ حجَّة لِأَن معنى لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار: ترَاهُ وَلَا(2/266)
تحيط بِهِ وَهُوَ يدْرك الْأَبْصَار، أَي يَرَاهَا، ويحيط بهَا هَكَذَا قَالَه جمَاعَة من السّلف.
وَقَالَ بعض الْعلمَاء: نفي الْإِدْرَاك لَا يكون إِلَّا عَن رُؤْيَة يُقَال: لم يدْرك فلَان الْعلم، أَي نَالَ مِنْهُ وَلم ينل جَمِيعه.
وَقَوله: {لن تراني} يَعْنِي فِي الدُّنْيَا فَإِن قيل: لن لنفي الْأَبَد فَالْجَوَاب: أَن لن لَيست لنفي الْأَبَد، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} . وَمَعْلُوم أَنهم إِذا حصلوا فِي النَّار تمنوا الْمَوْت. وَالدَّلِيل عَلَى من قَالَ: إِن الْكفَّار لَا يرَوْنَ رَبهم عَزَّ وَجَلَّ: قَوْله تَعَالَى: {كلا إِنَّهُم عَن رَبهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون} .(2/267)
وَلِأَنَّهُم لَو رَأَوْهُ لساووا الْمُؤمنِينَ فِي مَنْزِلَتهمْ. وَقد قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤمنا كمن كَانَ فَاسِقًا لَا يستوون} .
فصل
وَمن مَذْهَب أهل السّنة: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رأى ربه لَيْلَة الْمِعْرَاج وَكَانَت رُؤْيا يقظة لَا رُؤْيا مَنَام.(2/268)
وَرُوِيَ عَن أَحْمَد بن حَنْبَل رَحمَه الله قَالَ: رَآهُ بِعَين رَأسه. وَرُوِيَ عَنهُ أَنه رَآهُ بِعَين قلبه، وَالصَّحِيح أَنه رَآهُ بِعَين رَأسه، وَعين قلبه.
قيل فِي التَّفْسِير: {وَلَقَد رَآهُ نزلة أُخْرَى} رَآهُ فِي الْمرة الأولى بعيني قلبه، وَفِي الْمرة الْأُخْرَى بعيني رَأسه.
فصل
ذكر الشَّيْخ أَبُو زيد مُحَمَّد بن أَحْمد الْفَقِيه المرزوي، وَكَانَ أوحد وقته قَالَ: لما فرغت من درسي عَلَى أَبِي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن أَحْمَد المرزوي(2/269)
وَأَرَدْت الرُّجُوع إِلَى أَهلِي قَالَ لي الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق: إِنَّك ترجع إِلَى مرو، ويحدق بك النَّاس للتفقه فيشغلونك، وَمَا حججْت حجَّة الْإِسْلَام، ونفسك تطالبك بذلك فتحتاج أَن تنشيء لَهَا سفرة أُخْرَى، فَإِن كَانَت بقيت مَعَك بَقِيَّة من النَّفَقَة فَقدم الْحَج حَتَّى تَنْصَرِف إِلَى أهلك بقلب فارغ، وَإِن ضَاقَتْ بك النَّفَقَة فعرفني حَتَّى أدبر لَك، فَقلت: بَقِي معي مَا أَرْجُو أَن يقوم بِي، فاكتري لي فِي وسط السّنة، وأوصاهم بِي، وَخَرجْنَا قَاصِدين إِلَى الْمَدِينَة فوصلناها لأيام مضين من رَجَب، فَأَقَمْنَا بِالْمَدِينَةِ بَقِيَّة رَجَب، وَإِلَى النّصْف من شعْبَان، وتهنأنا بالزيارات الَّتِي بهَا، ثمَّ خرجنَا من الْمَدِينَة، وأتينا مَكَّة لأَرْبَع بَقينَ من شعْبَان فصمنا بهَا رَمَضَان، وقضينا نهمتنا من الاعتمار، فَأَقَمْنَا إِلَى وَقت الْحَج، وَسَهل الله تَعَالَى لنا الْحَج، فحين فَرغْنَا مِنْهُ أَشَارَ عَليّ بعض أَصْحَابِي بِالْخرُوجِ عَلَى طَرِيق الْبَصْرَة فَإِنَّهُ أخف فِي الْمُؤْنَة، وَأقرب إِلَى خُرَاسَان فاكتريت وَهَيَّأْت أشغالي، وَخرجت فِي الْبَصرِيين حَتَّى استتب بِنَا السّير، وَإِذا فِي القطار الَّذِي أَنا فِيهِ رجل من فُقَهَاء الْبَصْرَة، ومياسيرها، وأمثالها، وَإِذا القطار بأسره لَهُ والمكارون خدمه، فَكُنَّا ننزل أَوْقَات الصَّلَوَات، وأوقات الرواح نستأنس، ونتذاكر حَتَّى تَأَكد بيني وَبَينه الْأنس، فَأمر جمالي أَن يقطر جملي إِلَى جمله، فَيذْهب أوقاتنا فِي المذاكرة حَتَّى إِذا قربنا من الْبَصْرَة قَالَ لي: أَيهَا الْفَقِيه أَنْت عَلَى جنَاح السّفر وَلست تنوي الْإِقَامَة بِالْبَصْرَةِ، وَإِنَّمَا مكثك فِيهَا قدر مَا تصلح من شؤونك، وَإِنِّي أحب أَن تنزل عِنْدِي أَيَّام مكثك بِالْبَصْرَةِ فَلَا تحْتَاج إِلَى إصْلَاح منزل، فأجبته إِلَى ذَلِكَ لما صَار بَيْننَا من(2/270)
الانبساط، وَقدمنَا الْبَصْرَة سَالِمين، وَإِذا الرجل من جلة أهل الْبَصْرَة ينتابه النَّاس من كل جَانب عَلَى طبقاتهم لتهنئته، وَالسَّلَام عَلَيْهِ وأنزلني حجرَة من دَاره فَكَانَ كل يَوْم يَجِيء ويصبحني، يذهب إِلَى بهو لَهُ يقْعد لسلام النَّاس حَتَّى إِذا انْقَطع النَّاس عَنهُ عَاد إِلَى عِنْدِي، وكل من جَاءَهُ، من أهل الْعلم يُنَوّه بِي عِنْدهم فَإِذا انصرفوا من عِنْده دخلُوا إِلَيّ فهنوني وَرُبمَا ذاكروني حَتَّى كَانَ بعد أَيَّام دخل عَلَيْهِ شخص، ثمَّ انْصَرف من عِنْده، وَدخل عَليّ وَمَعَهُ نفر فألقي إِنْسَان مِنْهُم مَسْأَلَة من الْكَلَام فاعتذرت واستعفيت، وَقلت: لَيْسَ هَذَا من علمي، وَإِنَّمَا كَانَ كدحي فِي الْفِقْه، وَمَا أُرِيد الْخَوْض فِيمَا لَيْسَ لي بِهِ دربة فذنب بعض الْحَاضِرين، وَكلمَة فِي الْمَسْأَلَة فَوَجَدته باقعة حسن التَّصَرُّف فِي الْكَلَام والاحتيال فِي دفع مقَالَة الْخصم، فَأَعْجَبَنِي حسن تصرفه فزهزهت لَهُ فَقَامَ وَخرج، فَلَمَّا كَانَ بعد سَاعَة جَاءَ الشَّيْخ فَذكرت لَهُ مَا أعجبني من كَلَام من تكلم، وحلاوته بقلبي فَقَالَ: هَذَا من أهل الاعتزال فَارق أَصْحَابه، وَعَاد إِلَيْنَا، وَصَارَ يرد عَلَيْهِم بعد طول صحبته لَهُم يُقَال لَهُ: عَليّ بن إِسْمَاعِيل الْأَشْعَرِيّ، فَلَمَّا أمسينا قُمْت فِي اللَّيْل لورد لي، ثمَّ أغفيت بعد ذَلِكَ من آخر اللَّيْل فَرَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَنِّي أتيت الْمَدِينَة فِي ركب من النَّاس زائرين، وَلم يكن فِي الْقَوْم من زار غَيْرِي، وَكنت قريب عهد بالزيارة، فَأَمَرتهمْ فاغتسلوا، ولبسوا أحسن مَا عِنْدهم وَتَقَدَّمت بهم لأزور بهم، فَجئْت إِلَى الْبَاب الَّذِي كنت مِنْهُ فَإِذا هُوَ مصمت لَا خرق فِيهِ فَجئْت إِلَى بَاب آخر فَإِذا هُوَ كَذَلِك(2/271)
حَتَّى درت عَلَى سَائِر الْأَبْوَاب يَعْنِي أَبْوَاب الْمَسْجِد - فَوَجَدتهَا مسدودة، وانصرفت، وَإِذا أَصْحَابِي لم أر مِنْهُم أحدا فانتبهت مَرْعُوبًا، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا جَاءَنِي الشَّيْخ على عَادَته يصبحني فَقلت لَهُ: هَل هَا هُنَا عَابِر يعْتَمد عَلَى قَوْله، فقد رَأَيْت رُؤْيا شغل قلبِي؟ فَقَالَ: نعم. هَا هُنَا رجل ولي الله صَاحب كرامات يقريء فِي بني حرَام كَأَنَّهُ يُوحى إِلَيْهِ هَذَا الْعلم، وَلَكِن الْموضع بعيد فَاكْتُبْ الرُّؤْيَا فِي رقْعَة حَتَّى نرسلها مَعَ بعض غلماننا، فَيقْرَأ وَيكْتب جوابها. فَقلت: لَا يقنعني ذَلِكَ أُرِيد مشافهته بهَا قَالَ: فاصبر حَتَّى أفرغ من شغل النَّاس، ثمَّ رَجَعَ إِلَيّ وَأمر ببغله فأسرجت، وَوجه معي بعض غلمانه فَجِئْنَا بني حرَام، وَقد أذن لصَلَاة الظّهْر فَدخلت الْمَسْجِد، وَصليت وَتقدم الشَّيْخ وَصلى بِنَا، ثمَّ قُمْت إِلَيْهِ وَإِذا كَأَنَّهُ قِطْعَة نور عَلَيْهِ أثر عبَادَة فتقدمت إِلَيْهِ، وَقلت: أَنا رَسُول لبَعض من رأى رُؤْيا فَقَالَ: هَات فقصصت عَلَيْهِ الرُّؤْيَا فَقَالَ: قل لصَاحب هَذِهِ الرُّؤْيَا اتَّقِ الله وراجع الْحق فَإِن هَذَا رجل كَانَ عَلَى الْهدى الْمُسْتَقيم فقرع سَمعه شَيْء من الْبَاطِل فأداه إِلَى قلبه فاستحلاه وتشوشت عقيدته، فَقل لَهُ: رَاجع الْحق فَإِن الله عَزَّ وَجَلَّ يقبلك، فَإِن الْأَبْوَاب المسدودة هِيَ الطَّرِيق إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالطَّرِيق إِلَيْهِ الطَّرِيق إِلَى سنته، فَلَمَّا استحلى الْبَاطِل سدت الْأَبْوَاب بَينه وَبَينه، فَعظم فِي عَيْني، وَقبلت رَأسه وَخرجت، فَلَمَّا رجعت إِلَى الْمنزل قَالَ لي الشَّيْخ: مَا كَانَ مِنْك؟ فقصصت عَلَيْهِ الْقِصَّة وَقلت لَهُ: إِنَّه لَكمَا قلت: وَحي يُوحى إِلَيْهِ، فَوَجَمَ(2/272)
الشَّيْخ وَقَالَ: لَعَلَّ هَذَا الرجل أحب الشُّهْرَة، وَلم يرجع حَقِيقَة عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ.
وَكَأَنَّهُ حكى الْحِكَايَة لغيره فشاعت، وَبَلغت الْأَشْعَرِيّ فَجَاءَنِي بعد ثَالِثَة فَقَالَ: قد بَلغنِي رُؤْيَاك، وبيننا حُرْمَة الْأنس، فَأحب أَن لَا تحكيها للنَّاس، فَقلت: أما الْبَصْرَة فَلَا أحكيها فطابت نَفسه وَخرج.
فصل
قَالَ أهل السّنة: الْإِيمَان بقوله تَعَالَى: {الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى} وَاجِب، والخوض فِيهِ بالتأويل بِدعَة.
قَالُوا: وَهُوَ من الْآيَات المتشابهات الَّتِي ذكرهَا الله تَعَالَى فِي كِتَابه ورد علم تَأْوِيلهَا إِلَى نَفسه، وَقَالَ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْد رَبنَا} فَأوجب الْإِيمَان بقوله(2/273)
{الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى} وبالآيات الَّتِي تضارع هَذِهِ الْآيَة، ومدح الراسخين فِي الْعلم بِأَنَّهُم يُؤمنُونَ بِمثل هَذِهِ الْآيَات، وَلَا يَخُوضُونَ فِي علم كيفيتها، وَلِهَذَا قَالَ مَالك بن أنس رَحْمَة الله عَلَيْهِ حِين سُئِلَ عَن قَوْله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قَالَ: الاسْتوَاء مَعْلُوم، والكيف مَجْهُول وَالْإِيمَان بِهِ وَاجِب، وَالسُّؤَال عَنهُ بِدعَة، والاستواء فِي كَلَام الْعَرَب تَأتي لمعان.
تَقول الْعَرَب: اسْتَوَى الشَّيْء إِذا كَانَ معوجا فَذهب عوجه، تَقول: سويته أَي: قومته فاستقام، وَهَذَا الْمَعْنى لَا يجوز عَلَى الله تَعَالَى.
وَمِنْه الاسْتوَاء بِمَعْنى الْمُمَاثلَة والمشابهة. يُقَال اسْتَوَى فلَان وَفُلَان فِي هَذَا الْأَمر أَي: تماثلا وتساويا قَالَ الله تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَاب النَّار وَأَصْحَاب الْجنَّة} أَي لَا يتساوى هَذَانِ الْفَرِيقَانِ، وَهَذَا أَيْضا لَا يجوز فِي حق الله تَعَالَى.
وَمِنْه الاسْتوَاء بِمَعْنى الْقَصْد، وَيسْتَعْمل مَعَ إِلَى، يُقَال: استويت إِلَى هَذَا الْأَمر، أَي قصدته. قَالَ الله تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخان} أَي قَصدهَا، وَلَا يُقَال: اسْتَوَى عَلَيْهِ بِمَعْنى قَصده، فَمن خَالف(2/274)
مَوْضُوع اللُّغَة فقد خَالف طَريقَة الْعَرَب، وَالْقُرْآن عَرَبِيّ، وَلَو كَانَ الاسْتوَاء عَلَى الْعَرْش بِمَعْنى الاسْتوَاء إِلَى الْعَرْش لقَالَ تَعَالَى: إِلَى الْعَرْش اسْتَوَى.
قَالَ أهل السّنة: الاسْتوَاء هُوَ الْعُلُوّ: قَالَ الله تَعَالَى {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَك على الْفلك} وَلَيْسَ للاستواء فِي كَلَام الْعَرَب معنى إِلَّا مَا ذكرنَا، وَإِذا لم يجز الْأَوْجه الثَّلَاثَة لم يبْق إِلَّا الاسْتوَاء الَّذِي هُوَ مَعْلُوم كَونه مَجْهُول كيفيته، واستواء نوح عَلَى السَّفِينَة مَعْلُوم كَونه مَعْلُوم كيفيته لِأَنَّهُ صفة لَهُ، وصفات المخلوقين مَعْلُومَة كيفيتها. واستواء الله عَلَى الْعَرْش غير مَعْلُوم كيفيته لِأَن الْمَخْلُوق لَا يعلم كَيْفيَّة صِفَات الْخَالِق لِأَنَّهُ غيب وَلَا يعلم الْغَيْب إِلَّا الله، وَلِأَن الْخَالِق إِذا لم يشبه ذَاته ذَات الْمَخْلُوق لم يشبه صِفَاته صِفَات الْمَخْلُوق فَثَبت أَن الاسْتوَاء مَعْلُوم، وَالْعلم بكيفيته مَعْدُوم فَعلمه موكول إِلَى الله تَعَالَى، كَمَا قَالَ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا الله} .
وَكَذَلِكَ القَوْل فِيمَا يضارع هَذِهِ الصِّفَات كَقَوْلِه تَعَالَى: {لما خلقت بيَدي} وَقَوله: {بل يَدَاهُ مبسوطتان} وَقَوله: {وَيبقى وَجه رَبك} وَقَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:(2/275)
224 - " حَتَّى يضع الْجَبَّار فِيهَا قدمه " وَقَوله:
225 - " إِن أحدكُم يَأْتِي بِصَدَقَتِهِ فَيَضَعهَا فِي كف الرَّحْمَن " وَقَوله.
226 - " يضع السَّمَاوَات عَلَى أصْبع، وَالْأَرضين، عَلَى أصْبع ". وأمثال هَذِهِ الْأَحَادِيث، فَإِذا تدبره متدبر، وَلم يتعصب بِأَن لَهُ صِحَة ذَلِكَ وَأَن الْإِيمَان وَاجِب، وَأَن الْبَحْث عَن كَيْفيَّة ذَلِكَ بَاطِل. وَهَذَا لِأَن الْيَد فِي كَلَام الْعَرَب تَأتي بِمَعْنى الْقُوَّة يُقَال لفُلَان يَد فِي هَذَا الْأَمر أَي: قُوَّة وَهَذَا الْمَعْنى لَا يجوز فِي قَوْله: {لما خلقت بيَدي} وَقَوله {بل يَدَاهُ مبسوطتان} لِأَنَّهُ لَا يُقَال: لله قوتان. وَمِنْهَا الْيَد بِمَعْنى النِّعْمَة والصنيعة يُقَال: لفُلَان عِنْد فلَان يَد أَي: نعْمَة وصنيعة، وأيديت عَن فلَان يدا أَي: أسديت إِلَيْهِ نعْمَة، ويديت عَلَيْهِ، أَي: أَنْعَمت عَلَيْهِ قَالَ:(2/276)
(يديت عَلَى ابْن حسحاس بن وهب ... بِأَسْفَل ذِي الجذاة يَد الْكَرِيم)
وَهَذَا المعني أَيْضا لَا يجوز فِي الْآيَة، لِأَن تَثْنِيَة الْيَد تبطله، وَلَا يُقَال الله نعمتان، وَقد تَأتي الْيَد بِمَعْنى النُّصْرَة والتعاون.
227 - وَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وهم يَد عَلَى من سواهُم ".
أَي: يعاون بَعضهم بَعْضًا عَلَى من سواهُم من الْكفَّار، وَهَذَا أَيْضا لَا يجوز لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يُقَال: لما خلقت بنصرتي، وَقد تكون الْيَد بِمَعْنى: الْملك وَالتَّصَرُّف. يُقَال: هَذِهِ الدَّار فِي يَد فلَان، أَي فِي تصرفه وَملكه، وَهَذَا أَيْضا لَا يجوز لتثنية الْيَد، وَلَيْسَ لله تَعَالَى ملكان وتصرفان.
وَمِنْهَا الْيَد الَّتِي هِيَ مَعْرُوفَة فَإِذا لم تحْتَمل الْأَوْجه الَّتِي ذكرنَا لم يبْق إِلَّا الْيَد الْمَعْلُوم كَونهَا، والمجهولة كيفيتها، وَنحن نعلم يَد الْمَخْلُوق وكيفيتها لأَنا نشاهدها ونعاينها فنعرفها، ونعلم أحوالها، وَلَا نعلم كَيْفيَّة يَد الله تَعَالَى، لِأَنَّهَا لَا تشبه يَد الْمَخْلُوق، وَعلم كيفيتها علم الْغَيْب وَلَا يعلم الْغَيْب إِلَّا(2/277)
الله تَعَالَى، بل نعلم كَونهَا مَعْلُومَة لقَوْله تَعَالَى، وَذكره لَهَا فَقَط، وَلَا نعلم كَيْفيَّة ذَلِكَ وتأويلها، وَهَكَذَا قَوْله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} للْوَجْه فِي كَلَام الْعَرَب معَان مِنْهَا الجاه وَالْقدر. يُقَال: لفُلَان عِنْد النَّاس وَجه حسن، أَي: جاه وَقدر. وَهَذَا الْمَعْنى لَا يجوز فِي هَذَا الْموضع لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يُقَال: لله تَعَالَى جاه وَقدر عِنْد غَيره، فَلَا يُقَال: وَيبقى جاه رَبك، وَقدر رَبك.
وَقد يَجِيء وَجه الشَّيْء بِمَعْنى أَوله. قَالَ الله تَعَالَى: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمنُوا وَجه النَّهَار} أَي: أول النَّهَار، وَهَذَا أَيْضا لَا يجوز هَا هُنَا.
وَمِنْهَا الْوَجْه بِمَعْنى الْجِهَة يُقَال: أقصد هَذَا الْوَجْه، أَي هَذِهِ الْجِهَة. وَهَذَا أَيْضا لَا يجوز فِي هَذَا الْموضع / وَمِنْه الْوَجْه الْمَعْرُوف، فَإِذا لم يجز حمل الْوَجْه عَلَى الْأَوْجه الَّتِي ذَكرنَاهَا بَقِي أَن يُقَال: هُوَ الْوَجْه الَّذِي تعرفه الْعَرَب، وَكَونه مَعْلُوما بقوله تَعَالَى، وكيفيته مَجْهُولَة. وَكَذَلِكَ قَوْله:
228 - " حَتَّى يضع الْجَبَّار فِيهَا قدمه ". وَقَوله:(2/278)
229 - " حَتَّى يَضَعهُ فِي كف الرَّحْمَن " وللقدم معَان، وللكف معَان، وَلَيْسَ يحْتَمل الحَدِيث شَيْئا من ذَلِكَ إِلَّا مَا هُوَ الْمَعْرُوف فِي كَلَام الْعَرَب فَهُوَ مَعْلُوم بِالْحَدِيثِ مَجْهُول الْكَيْفِيَّة.
وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْأصْبع، والأصبع فِي كَلَام الْعَرَب تقع عَلَى النِّعْمَة والأثر الْحسن ... وَهَذَا الْمَعْنى لَا يجوز فِي هَذَا الحَدِيث فكون الْأصْبع مَعْلُوما بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وكيفيته مَجْهُولَة، وَكَذَلِكَ القَوْل فِي جَمِيع الصِّفَات يجب الْإِيمَان بِهِ، وَيتْرك الْخَوْض فِي تَأْوِيله، وَإِدْرَاك كيفيته.
فصل
قَالَ عُلَمَاء السّلف: أول مَا افْترض الله عَلَى عباده الْإِخْلَاص وَهُوَ معرفَة الله وَالْإِقْرَار بِهِ، وطاعته بِمَا أَمر وَنهى، وَأول الْفَرْض شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَن الله تبَارك وَتَعَالَى خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام ثمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش كَمَا وصف نَفسه فَهُوَ بِجَمِيعِ صِفَاته، وَجَمِيع كَلَامه لم يزل، وَلَا يزَال، وَلَا يَخْلُو(2/279)
من علمه شَيْء، وَلَا مَكَان وَهُوَ الْمُتَكَلّم السَّمِيع الْبَصِير يرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْآخِرَة، ويسمعون كَلَامه وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ كَمَا ينظرُونَ إِلَى الشَّمْس وَالْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر إِذا لم يكن دونه سَحَاب، وَعلم الله وَصِفَاته كلهَا غير مخلوقة وَهُوَ وَاحِد بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاته، وَالْقُرْآن كَلَامه غير مَخْلُوق، وَمن قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق فَهُوَ جهمي، وَمن قَالَ: الْإِيمَان مَخْلُوق فَهُوَ مُبْتَدع، وَالصَّوَاب أَن تَقول: صِفَات الله، وَعلم الله، وَكَلَام الله وَأَسْمَاء الله غير مَخْلُوق والخلق وأفعالهم وحركاتهم مخلوقة لَا يزِيد عَلَى هَذَا شَيْئا، وَالْجنَّة وَالنَّار مخلوقتان، لَا تفنيان لِأَنَّهُمَا خلقتا لِلْأَبَد لَا للفناء. الْحور الْعين، والولدان المخلدون لَا(2/280)
يموتون، وَالْإِيمَان قَول وَعمل وَنِيَّة، يزِيد وَينْقص، زِيَادَته الْبر وَالتَّقوى، ونقصانه الفسوق والفجور، وَعَذَاب الْقَبْر، ومساءلة مُنكر وَنَكِير حق، وحوضه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حق، وَخير النَّاس بعد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَبُو بكر، ثُمَّ عمر، ثُمَّ عُثْمَان ثُمَّ عَليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهم الْخُلَفَاء الراشدون المهديون، ويترحم على جَمِيع أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وعَلى طَلْحَة، وَالزُّبَيْر، وَعَائِشَة، وعمار ابْن يَاسر، وَعَمْرو بن الْعَاصِ، وَأَصْحَاب الْجمل، وصفين - القاتلين،(2/281)
والمقتولين - وَجَمِيع من قعد عَن الْقِتَال مثل: أُسَامَة بن زيد، وَابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - وعَلى جَمِيع الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار.
ونشهد أَن مُعَاوِيَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من أهل الْجنَّة، ونسمع ونطيع الْوُلَاة، مَا داموا يصلونَ، ونجاهد مَعَهم، وَلَا نخرج عَلَيْهِم، وَلَا نطيع أحدا فِي مَعْصِيّة الله، وَأَن الله يعذب أَقْوَامًا من الْمُوَحِّدين فِي جَهَنَّم، ثمَّ يخرجُون وَلَا يخلدُونَ فِي النَّار، وَالْقدر خَيره وشره من الله، قدر الْخَيْر وَالشَّر، خلق الْمُؤمن، وَأَرَادَ لَهُ الْإِيمَان، وَخلق الْكَافِر وَأَرَادَ أَن يكون فعله قبيحا، وَأَن الله لَا يعْصى قهرا، وَلَا يكون شَيْء إِلَّا بِقَضَائِهِ، وَقدره من الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة، وَخُرُوج الدَّجَّال، وَالدَّابَّة حق ونزول عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلامُ - حق.(2/282)
فصل
وَالرَّجم حق، وَالْمسح عَلَى الْخُفَّيْنِ سنة، وَالنِّكَاح بِلَا ولي أَو سُلْطَان حرَام، وكل شراب يسكر كَثِيره فقليله حرَام، وَلبس الديباج(2/283)
وَالْحَرِير وَالذَّهَب حرَام على ذُكُور أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يحل شَيْء مِنْهُ لصغير وَلَا كَبِير، والمزامير، والطنابير حرَام، واللعب بالنرد حرَام، والقمار، وَالْميسر حرَام، وَلَا يجوز مجالسة أهل الْمعاصِي الَّذين ظهر فسقهم، وَلَا مجالسة أهل الْبدع الَّذين ظَهرت بدعهم، وَلَا يجوز دُخُول الْحمام إِلَّا بمئزر وَالْحب فِي الله، والبغض فِي الله من الْإِيمَان، والرؤيا حق إِلَّا مَا(2/284)
كَانَ أضغاث أَحْلَام، ومتعة النِّسَاء حرَام ومتعة الْحَج سنة ثَابِتَة، وَلَا يجوز الْقِتَال فِي الْفِتْنَة، وَلَا يخرج عَلَى الْأُمَرَاء بِالسَّيْفِ، وَيسْتَحب الدُّعَاء لأئمة الْمُسلمين بالصلاح، وَالتَّكْبِير عَلَى الْجَنَائِز أَربع، وَالشِّرَاء،(2/285)
وَالْبيع حَلَال إِلَى يَوْم الْقِيَامَة عَلَى حكم الْكتاب وَالسّنة، وَالْجهَاد مَاض مُنْذُ بعث الله نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى آخر عِصَابَة تقَاتل الدَّجَّال.
فصل
وَالْإِيمَان بِأَن الله تَعَالَى عَلَى عَرْشه اسْتَوَى كَمَا شَاءَ، وَعلمه بِكُل مَكَان لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء، وَمن صفة أهل السّنة الْأَخْذ بِكِتَاب الله عز وَجل، وبأحاديث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وبأحاديث أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَترك الرَّأْي والابتداع، وَالْقُرْآن الَّذِي فِي الأَرْض هُوَ الْقُرْآن الَّذِي فِي السَّمَاء بِعَيْنِه مَكْتُوب فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَلَا يحل للْجنب، وَالْحَائِض وَالنُّفَسَاء مَسّه وَلَا قِرَاءَته، وَلَا يمسهُ من لَيْسَ عَلَى وضوء، وَلَا بَأْس أَن يقْرَأ، والمعراج حق أسرِي بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقظانا إِلَى السَّمَاء ولقاء الله حق، يرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ، ويسمعون كَلَامه.
وَمن مَذْهَب أهل السّنة: أَنهم لَا يشْهدُونَ عَلَى أحد من أهل الْقبْلَة بالنَّار، وَإِن مَاتَ عَلَى كَبِيرَة من الْكَبَائِر، وَلَا يشْهدُونَ لأحد أَنه فِي الْجنَّة(2/286)
إِلَّا لمن شهد لَهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَنَرْجُو لأهل الْقبْلَة الْجنَّة، ونرغب فِي شُهُود جنَازَته، وعيادته، وَمن حلف بِالْقُرْآنِ فَعَلَيهِ بِكُل آيَة كَفَّارَة يَمِين، وَمن حلف بِوَجْه الله أَو بِعلم الله فَهُوَ يَمِين.(2/287)
فصل
قَالَ بعض الْعلمَاء: أصل الْإِيمَان شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، وَالْإِقْرَار لما جَاءَت لَهُ الرُّسُل والأنبياء، وَعقد الْقلب عَلَى مَا ظهر من لِسَانه وَلَا يشك فِي إيمَانه وَلَا يكفر أهل التَّوْحِيد بذنب، وإرجاء مَا غَابَ من الْأُمُور إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا يقطع بِالذنُوبِ الْعِصْمَة من عِنْد الله، ويرجى للمحسن من أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِحْسَان عمله، ويخشى عَلَيْهِ بذنب اكْتَسبهُ، والإمساك عَمَّا شجر بَين أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَيعرف حَقهم، وَيحدث بفضائلهم، ويترحم عَلَى صَغِيرهمْ وَكَبِيرهمْ.
وَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب ثمَّ قَالَ لَهُ كن فَيكون} . فَقَوله: كن لَيْسَ بمخلوق، وَهُوَ كَلَام الله الَّذِي لَيْسَ لَهُ شريك، وَلَا شَبيه، وَلَا نَظِير.(2/288)
فصل فِي بَيَان أَن الْقَاتِل عمدا لَهُ تَوْبَة
وَتَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا} وَأَنَّهَا مَنْسُوخَة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمن يَشَاء}(2/289)
230 - رُوِيَ عَنِ ابْن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا نبت عَلَى الْقَاتِل حَتَّى نزلت {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} . فأمسكنا.
231 - وَعَن عَليّ بن أَبِي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس - رضى الله عَنْهُم - {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يسْتَغْفر الله يجد الله غَفُورًا رحِيما} قَالَ: أخبر الله تَعَالَى عباده بحلمه، وعفوه، وَكَرمه، وسعة رَحمته، ومغفرته، فَمن أذْنب ذَنبا صَغِيرا أَو كَبِيرا ثمَّ يسْتَغْفر الله يجد الله غَفُورًا رحِيما، وَلَو كَانَت ذنُوبه أعظم من السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال.
232 - وَعَن أَبِي إِسْحَاق السبيعِي: قَالَ جَاءَ رجل إِلَى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنِّي قتلت، فَهَل لي من تَوْبَة. فَقَرَأَ عَلَيْهِ عمر(2/290)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، غَافِر الذَّنب وقابل التوب} . ثمَّ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ، وَلَا تيأس.
وَعَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد قَالَ: لقَاتل الْمُؤمن تَوْبَة.
133 - وَرُوِيَ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قَوْله {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم} قَالَ: هُوَ جَزَاؤُهُ إِن جازاه.
فصل
فِي بَيَان أَن الْمُسلمين لَا يضرهم الذُّنُوب إِذا مَاتُوا عَن تَوْبَة عَنْهَا من غير إِصْرَار، وَإِن مَاتُوا عَن غير تَوْبَة فَأَمرهمْ إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ إِن شَاءَ عذبهم، وَإِن شَاءَ غفر لَهُم.
وَقَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين: لَا نعلم أحدا من أَصْحَاب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا من غَيرهم من التَّابِعين تركُوا الصَّلَاة عَلَى أحد من أهل الْقبْلَة تأثيما.(2/291)
وَقَالَ ربيعَة: إِذا عرف الله فَالصَّلَاة عَلَيْهِ حق.
234 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، أَنا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الْحَضْرَمِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْقُطَعِيُّ، نَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقَدَّمِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ الْمسيب قَالَ: سَمِعت سَالم ابْن أَبِي الْجَعْدِ يُحَدِّثُ عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَقُولُ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ ابْنَ آدَمَ إِن تَأتِينِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطِيئَةً بَعْدَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا جَعَلْتُ قُرَابَهَا مَغْفِرَةً وَلا أُبَالِي ".
235 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ يَحْيَى أَنا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ السَّرَّاجُ، نَا بَقِيَّةُ حَدَّثَنِي بَحِيرٌ، عَنْ خَالِدٍ، نَا أبورهم أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدَّثَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ جَاءَ يَعْبُدُ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَيُقِيمُ الصَّلاةَ، وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ، فَإِنَّ لَهُ الْجَنَّةَ.(2/292)
236 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْن الْفَارِسِي أَنا أَحْمد ابْن سَعِيدٍ الثَّقَفِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، نَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ إِدْرِيسَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَنَحْنُ فِي مَجْلِسٍ: " بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا. وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ، وَلا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ، وَأَرْجُلِكُمْ، وَلا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ ".
237 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ يَحْيَى وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُمَرَ، وَاللَّفْظُ لَهُ قَالا: أَنا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نَا مُحَمَّدُ ابْن عَمْرِو بْنِ الْعَبَّاسِ الْبَاهِلِيُّ، نَا مَرْحُومُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأَصْحَابِهِ: " مَا تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْجَنَّةُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ مَاتَ فَقَامَ رَجُلانِ ذَوَا عَدْلٍ فَقَالا: لَا نَعْلَمُ إِلا خَيْرًا. قَالُوا: الْجَنَّةُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ مَاتَ فَقَامَ رَجُلانِ فَقَالا: لَا نَعْلَمُ إِلا شَرًّا. قَالُوا: النَّارُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مُذْنِبٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ".(2/293)
238 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ نَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَزَّازُ، نَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ شَدَّادٍ أَبِي طَلْحَةَ الرَّاسِبِيِّ، حَدَّثَنِي غَيْلانُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيَجِيئَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ فَيَغْفِرُهَا اللَّهُ لَهُمْ، وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ".
قَالَ: فَحدثت بِهِ عمر بن عبد الْعَزِيز فَقَالَ: آللَّهُ أَنْت سمعته من أَبِيك يحدث بِهِ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، يَعْنِي قَالَ: نعم.
239 - قَالَ: أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ، نَا عَبْدُ اللَّهِ ابْن مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، نَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، نَا عَبْدُ الْحَمِيدِ - يَعْنِي - ابْنَ بَهْرَامَ حَدَّثَنِي شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، نَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدَّثَهُ أَن رَسُول الله قَالَ: " يَقُولُ اللَّهُ يَا عَبْدِي مَا عَبَدْتَنِي وَرَجَوْتَنِي فَإِنِّي غَافِرٌ لَكَ عَلَى مَا فِيكَ، يَا عَبْدِي إِنْ لَقِيتَنَي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطِيئَةً لَمْ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا أَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً ".(2/294)
240 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ عمر بن مُحَمَّد ابْن خُشَيْشٍ، نَا يَزْدَادُ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نَا عَمْرُو بْنُ أَبِي خَلِيفَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا زَيْدٍ يَذْكُر عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله إِنِّي اسْتغْفر، ثمَّ أَعُود قَالَ: " تب، قَالَ: فَإِذا أذنبت فَاسْتَغْفر رَبك " فَقَالَ لَهُ فِي الرَّابِعَةِ: " اسْتَغْفِرْ رَبَّكَ حَتَّى يَكُونَ الشَّيْطَانُ هُوَ الْمَحْسُورَ ".
241 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نَا يحيى ابْن مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، نَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ، نَا الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ، نَا أَبُو هِلالٍ الرَّاسِبِيُّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ: قَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - آيَاتٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ خَيْرٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَا فِيهَا: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا} وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .(2/295)
وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رحِيما} . وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثمَّ يسْتَغْفر الله يجد الله غَفُورًا رحِيما}
وَقَالَ الْحُسَيْنُ: وَأَنَا أَقُولُ: وَآيَةٌ خَامِسَةٌ خَيْرٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وآمنتم وَكَانَ الله شاكراً عليماً} .
فصل
242 - رُوِيَ عَن أَبِي الضُّحَى قَالَ: قيل لشتير بن شكل أسمعت عبد الله يَقُول: مَا فِي كتاب الله آيَة أَشد تفويضا من قَوْله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فَقَالَ: نعم.(2/296)
243 - وَرُوِيَ عَن نَافِع، عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: مَا زلنا نمسك من الاسْتِغْفَار لأهل الْكَبَائِر حَتَّى سمعنَا من نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} " وَإِنِّي ادخرت دَعْوَتِي شَفَاعَة لأهل الْكَبَائِر من أمتِي يَوْم الْقِيَامَة ".
244 - رُوِيَ عَن الْأَعْمَش، عَن أَبِي سُفْيَان قَالَ: قلت لجَابِر: كُنْتُم تَقولُونَ لأهل الْقبْلَة أَنْتُم كفار؟ قَالَ: لَا. قَالَ: قُلْتُمْ أَنْتُم مُسلمُونَ. قَالَ: نعم.(2/297)
245 - وَعَن سُلَيْمَان الْيَشْكُرِي قَالَ: قلت لجَابِر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَكُنْتُم تَعدونَ الذَّنب شركا؟ قَالَ: لَا، إِلَّا عبَادَة الْأَوْثَان.
وَقَالَ ابْن عون: مَا رَأَيْت أحدا أعظم رَجَاء لهَذِهِ الْأمة من مُحَمَّد ابْن سِيرِين، وَكَانَ يتَأَوَّل آيا من الْقُرْآن: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين} - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى قَوْله: {الَّذِي كذب وَتَوَلَّى}
فصل
246 - رُوِيَ عَن أَبِي أُمَامَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: شهِدت صفّين وَكَانُوا لَا يجهزون عَلَى جريح، وَلَا يطْلبُونَ موليا، وَلَا يسلبون قَتِيلا.
وَقَالَ عقبَة بن عَلْقَمَة الْيَشْكُرِي: رَأَيْت عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَشهِدت مَعَه صفّين فَأتي بِخَمْسَة عشر أَسِيرًا من أَصْحَاب مُعَاوِيَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَانَ من مَاتَ مِنْهُم غسله وكفنه، وَصلى عَلَيْهِ.(2/298)
وَعَن أَبِي أُسَامَة قَالَ: قَالَ رجل لِسُفْيَان: اشْهَدْ عَلَى الْحجَّاج وعَلى أَبِي مُسلم أَنَّهُمَا فِي النَّار. قَالَ: لَا، إِذا أقرا بِالتَّوْحِيدِ.
وَسُئِلَ الْأَوْزَاعِيّ عَن فَاسق مَعْرُوف بِفِسْقِهِ أيلعن؟ فَقَالَ: ترى أَبَا مُسلم، ومروان كَانَا من شرار هَذِهِ الْأمة، وَمَا أحب لعنتهما.
وَقيل لَهُ: هَل نَدع الصَّلَاة عَلَى أحد من أهل الْقبْلَة، وَإِن عمل بِمَا عمل؟ قَالَ: لَا. إِنَّمَا كَانُوا يحدثُونَ بالأحاديث كفرا وَلَا شركا، وَكَانَ يُقَال: الْمُؤمن حَدِيد عِنْد حرمات الله.
وَعَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر قَالَ: كَانَ رجل بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ مُسْرِفًا عَلَى نَفسه، فَلَمَّا مَاتَ أُتِي بجنازته فَتفرق النَّاس عَنهُ، وَثَبت مَكَاني، وكرهت أَن يعلم الله عَزَّ وَجَلَّ مني أَنِّي أَيِست لَهُ من رَحمته.(2/299)
وَقَالَ مُحَمَّد بن الْقَاسِم: سَمِعت أَعْرَابِيًا خرج من خيمته فَوقف عَلَى بَابهَا، ثمَّ رفع يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِن استغفاري لَك مَعَ إصراري للوم، وَإِن تركي الاسْتِغْفَار مَعَ سَعَة رحمتك لعجز.
اللَّهُمَّ كم تحببت إِلَيّ، وَأَنت عني غَنِي، وَكم أتبغض إِلَيْك وَأَنا إِلَيْك فَقير، فسبحان من إِذا وعد وفى، وَإِذا توعد عَفا.
قَالَ: وَخرج أَعْرَابِي فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أخافك لعدلك، وأرجوك لعفوك، خلصني مِمَّن يخاصمني إِلَيْك، فَإِنَّهُ لَا يخاصمني إِلَيْك إِلَّا كل مظلوم، وَأَنت الحكم لَا تجور، عوضهم بكرمك، وخلصني بعفوك يَا كريم.
ومدح كَعْب بن زُهَيْر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكَانَ توعده فَقَالَ:
(أُنبئت أَن رَسُول الله أوعدني ... وَالْعَفو عِنْد رَسُول الله مأمول)
فصل
247 - أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّيْرَفِي، أَنا مُحَمَّد بن عبد الله ابْن شَاذَانَ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَبَّابُ، نَا ابْن أبي عَاصِم، نَا مُحَمَّد ابْن(2/300)
عَوْفٍ، نَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، نَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ الْبَجَلِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْن عَائِذٍ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا حَدَّثْتُمُ النَّاسَ عَنْ رَبِّهِمْ فَلا تُحَدِّثُوهُمْ بِمَا يُفْزِعُهُمْ، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ ".
248 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نَا أَيُّوبُ الْوَزَّانُ، نَا عُرْوَةُ ابْن مَرْوَانَ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَمُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مَرَرْتُ عَلَى جِبْرَائِيلَ فِي الْمَلإِ الأَعْلَى كَالْحِلْسِ الْبَالِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى ".
249 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نَا أَبُو كَامِلٍ الْفُضَيْلُ بْنُ حَسَنٍ، نَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُرَاسَانِيُّ، نَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أبي ابْن كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: انْسِبْ لَنَا رَبَّكَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولد} لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يَلِدُ أَوْ يُولَدُ إِلا سَيَمُوتُ، وَلَيْسَ يَمُوتُ إِلا يُورَثُ، وَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يَمُوتُ، وَلا يُورَثُ {وَلَمْ يكن لَهُ كفوا أحد} قَالَ: لَيْسَ لَهُ شَبِيهٌ، وَلا مَثَلٌ، وَلا عديل.(2/301)
250 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نَا أَبُو أَيُّوب الخبائري نَا سعيد ابْن مُوسَى، نَا رَبَاحُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ يَمْشِي ذَاتَ يَوْمٍ فِي الطَّرِيقِ فَنَادَاهَ الْجَبَّارُ يَا مُوسَى. فَالْتَفَتَ يَمِينًا وَشِمَالا، وَلَمْ يَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نَادَاهُ الثَّانِيَةَ يَا مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ فَالْتَفَتَ يَمِينًا وَشِمَالا وَلَمْ يَرَ أَحَدًا، وَارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُ، ثُمَّ نُودِيَ الثَّالِثَةَ: يَا مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ إِنِّي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا، فَقَالَ: لَبَّيْكَ، فَخَرَّ لِلَّهِ سَاجِدًا فَقَالَ: ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: يَا مُوسَى إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تَسْكُنَ فِي ظِلِّ عَرْشِي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلا ظِلِّي، يَا مُوسَى كُنْ لِلْيَتِيمِ كَالأَبِ الرَّحِيمِ، وَكُنْ لِلأَرْمَلَةِ كَالزَّوْجِ الْعَطُوفِ، يَا مُوسَى ارْحَمْ تُرْحَم، يَا مُوسَى كَما تَدِينُ تُدَانُ. يَا مُوسَى نَبِّئْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ لَقِيَنِي وَهُوَ جَاحِدٌ بِمُحَمَّدٍ أَدْخَلْتُهُ النَّارَ، وَلَوْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلِي وَمُوسَى كَلِيمِي. فَقَالَ: إِلَهِي، وَمَنْ أَحْمَدُ؟ قَالَ: يَا مُوسَى، وَعِزَّتِي وَجَلالِي مَا خَلَقْتُ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيَّ مِنْهُ كَتَبْتُ قَبْلَ أَنْ أَخْلُقَهُ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ. وَعِزَّتِي وَجَلالِي إِنَّ الْجَنَّةَ لَمُحَرَّمَةٌ حَتَّى يَدْخُلَهَا مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ. قَالَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلامُ: وَمَنْ أُمَّةُ أَحْمَدَ؟ قَالَ: أُمَّتُهُ الْحَمَّادُونَ يَحْمَدُونَ صُعُودًا وَهُبُوطًا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ يَشُدُّونَ أَوْسَاطَهُمْ وَيُطَهِّرُونَ أَطْرَافَهُمْ صائمون بِالنَّهَارِ رُهْبَان بِاللَّيْلِ، أَقْبَلُ مِنْهُمُ الْيَسِيرَ وَأُدْخِلُهُمْ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَه(2/302)
إِلا اللَّهُ، قَالَ: إِلَهِي اجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ قَالَ: اسْتَقْدَمْتَ وَاسْتَأْخَرَ يَا مُوسَى، وَلَكِن سأجمع بَيْنكُم وَبَيْنَهُ فِي دَارِ الْجَلالِ ".
251 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ نَا دَيْلَمُ بْنُ غَزْوَانَ، نَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ " أرسل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجُلا مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى رَأْسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَدْعُوهُ إِلَى اللَّهِ فَقَالَ الْمُشْرِكُ: هَذَا الَّذِي يَدْعُونِّي إِلَيْهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ مِنْ نُحَاسٍ، فَتَعَاظَمَ مَقَالَتُهُ فِي صَدْرِ رَسُولِ رَسُول الله فَرجع إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَأُرْسِلَ عَلَيْهِ صَاعِقَةٌ مِنَ السَّمَاءِ فَأَهْلَكَتْهُ وَرَسُولُ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الطَّرِيقِ لَا يَدْرِي، فَرَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ صَاحِبَكَ بَعْدَكَ "، وَنَزَلَتْ على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {وَيُرْسل الصَّوَاعِق فَيُصِيب بهَا من يَشَاء} .(2/303)
فصل فِي الوسوسة فِي أَمر الرب عَزَّ وَجَلَّ
252 - وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة، نَا حُسَيْن ابْن عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَأَلَ رجل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحَدِّثُ نَفْسِي مِنْ أَمْرِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ: " ذَاكَ مَحْضُ الإِيمَانِ ".
253 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نَا دُحَيْمٌ، نَا إِسْحَاقُ ابْن يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَجِدُ فِي صَدْرِي الشَّيْءَ لأَنْ أَكُونَ حُمَمًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ أَمْرَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ ".
254 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الأَجْلَحِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ الله عَنْهَا -(2/304)
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ، فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ الأَرْضَ. فَيَقُولُ: اللَّهُ، فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَقُولُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ".
255 - وَفِي رِوَايَة: عَن جَعْفَر بن برْقَان قَالَ: بَلغنِي أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِن سألكم النَّاس عَن ذَلِكَ فَقولُوا: الله كَانَ قبل كل شَيْء، وَالله خَالق كل شَيْء، وَالله كَائِن بعد كل شَيْء ".
256 - وَفِي رِوَايَة عَن أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -، عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِذا قَالُوا ذَلِكَ، فَقل: الله أحد الله الصَّمد لم يلد وَلم يُولد، وَلم يكن لَهُ كفوا أحد، ثمَّ ليتفل عَن يسَاره، وليستعيذ من الشَّيْطَان ".
257 - وَفِي رِوَايَة عَن أنس: " فَعِنْدَ ذَلِك يضلون ".(2/305)
258 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا ابْن أَبِي عَاصِم، نَا كثير بن عبيد الْحذاء نَا عبد الْمجِيد ابْن أَبِي رواد، نَا مُعْتَمر، عَن الْأَعْمَش، عَن إِبْرَاهِيم، عَن عَلْقَمَة قَالَ: خرجت مَعَ عبد الله بن مَسْعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْم الْجُمُعَة فَوجدَ ثَلَاثَة قد سَبَقُوهُ فَقَالَ: رَابِع أَرْبَعَة، وَمَا رَابِع أَرْبَعَة بِبَعِيد، إِنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " إِن النَّاس يَجْلِسُونَ يَوْم الْقِيَامَة عَلَى قدر رَوَاحهمْ إِلَى الْجُمُعَات، الأول ثمَّ الثَّانِي، ثمَّ الثَّالِث، ثمَّ الرَّابِع، وَمَا رَابِع أَرْبَعَة بِبَعِيد ".
فصل
قَالَ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه رَحمَه الله: ذكر الْآيَات الَّتِي تدل عَلَى وحدانية الْخَالِق من تقلب أَحْوَال العَبْد، وَأَنه الْمُدبر لذَلِك من حَال الصِّحَّة وَالْمَرَض، وَالْمَوْت والحياة، وَالنَّوْم والانتباه، والفقر والغني، وَالْعجز، وَالْقُدْرَة.(2/306)
قَالَ الله تَعَالَى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} . وَقَالَ: {أَفَرَأَيْتُم مَا تَحْرُثُونَ} . الْآيَة: {أَفَرَأَيْتُم المَاء الَّذِي تشربون} . الْآيَة {أَفَرَأَيْتُم النَّار الَّتِي تورون} . الْآيَة، وَقَالَ مخبراُ عَن إِيمَان إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ السَّلامُ - {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يطعمني ويسقين} .
بَيَان ذَلِك من الْأَثر:
259 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى، نَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ قَالا: نَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ خِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ صَانِعٍ وَصَنْعَتِهِ ".
260 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، نَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، نَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو النَّضْرِ، نَا أَبُو ضَمْرَةَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ(2/307)
عَطَاءِ بْنِ مِينَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ الله عَنهُ - عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ صَانِعُ مَا شَاءَ لَا مُكْرِهَ لَهُ ".
261 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ، نَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ، نَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، نَا مِسْعَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُوَاصِلُوا. قَالُوا: فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ. قَالَ: إِنِّي لَسْتُ كَأَحِدِكُمْ، إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي ".
262 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الرَّازِيُّ، وَعَبْدُوسُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالا: نَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ الَّذِي أَنْزَلَ الدَّاءَ أَنْزَلَ الدَّوَاءَ ".(2/308)
فصل
وَالدَّلِيل عَلَى أَن الله تَعَالَى مُقَلِّب الْقُلُوب عَلَى مَا يَشَاء: قَوْله تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أفئدتهم وأبصارهم} . وَقَوله {يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه} وَقَوله {فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم} ، وَقَوله {رَبنَا لَا تزع قُلُوبنَا بعد إِذْ هديتنا} .
263 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَنا وَالِدِي، أَنا خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، نَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَزْيَدٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي، نَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، حَدَّثَنِي بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ النواس ابْن سمْعَان الْكلابِي يَقُول: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " مَا مِنْ قَلْبٍ إِلا وَهُوَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ، وَأَن شَاءَ أزاغه ". وَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، وَالْمِيزَانُ بِيَدِ الرَّحْمَنِ يَرْفَعُ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ آخَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".(2/309)
264 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، نَا جَعْفَر بن مُحَمَّد ابْن شَاكِرٍ، نَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، نَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، وَغَيْرِهِ، عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: " يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ ".
وَمن مَذْهَب أهل السّنة: الْإِيمَان بِجَمِيعِ مَا ثَبت عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي صفة الله تَعَالَى كَحَدِيث:
265 - " ينزل الله تَعَالَى كل لَيْلَة إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا ". وَحَدِيثه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
266 - " لَا تقبحوا الْوَجْه فَإِن الله خلق ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...(2/310)
. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... آدم على صورته ". وَحَدِيثه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
267 -: مَا من قلب إِلا وَهُوَ بَين أصبعين من أَصَابِع الله عَزَّ وَجَلَّ ".
وَالْإِيمَان بِمَا ورد فِي الْقُرْآن من صِفَات الله تَعَالَى كَالْيَدِ، والإتيان والمجيء، وإمرارها عَلَى مَا جَاءَت لَا تكيف، وَلَا تتأول.
فَإِن قيل: قد تأولتم قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم} وحملتموه عَلَى الْعلم. قُلْنَا: مَا تأولنا ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْآيَة دلّت عَلَى أَن المُرَاد بذلك الْعلم، لِأَنَّهُ قَالَ فِي آخرهَا: {إِنَّ اللَّهَ بِكُل شَيْء عليم}(2/311)
فصل
وَالْقُرْآن كَلَام الله غير مَخْلُوق، وكل كتاب أنزلهُ الله على أنبيائه من التَّوْرَاة، وَالْإِنْجِيل، وَالزَّبُور، وصحف إِبْرَاهِيم، وشيث عَلَيْهِم السَّلَام كَلَام الله غير مَخْلُوق تكلم بِهِ كَمَا شَاءَ من غير كَيْفيَّة، وَلَا طَرِيق لنا إِلَى معرفَة كَيْفيَّة ذَلِكَ إِنَّمَا علمنَا أَنه كَلَام تكلم بِهِ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَنَا تَعَالَى بذلك فَقَالَ: {وكلم الله مُوسَى تكليماً} . وَقَالَ {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} . وَقَالَ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يسمع كَلَام الله} وَلَا يجوز أَن يُقَال: حَتَّى يسمع كَلَام الله لِأَنَّهُ قَالَ: حَتَّى يسمع كَلَام الله، وَالَّذِي يسمع إِنَّمَا هُوَ الْكَلَام، وَأما الحكم فَإِنَّمَا يُقَال: حَتَّى يعلم حكم الله.
وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يكلمهم وَلَا يهْدِيهم سَبِيلا} . فَدلَّ عَلَى أَن من هَذَا سَبيله لَا يتَكَلَّم، وَلَا يهدي للطريق.
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ للْمَلَائكَة. {إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة} فَأَجَابُوهُ:(2/312)
{أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا} فَقَالَ: {إِنِّي أعلم مَا لَا تعلمُونَ} . وَلَا يحسن هَذَا القَوْل من غير الله تَعَالَى.
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسجدوا لآدَم} بنُون العظمة فَمن يَقُول هَذَا غير الله تَعَالَى.
وَقَالَ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} فَأَجَابَهُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام -: {هِيَ عصاي} . فَقَالَ لَهُ: {ألقها يَا مُوسَى} . فَمن يَقُول هَذَا غير الله.
وَقَالَ: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طوى} . وَقَالَ: {يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يخَاف لدي المُرْسَلُونَ} . وَقَالَ: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ من الْآمنينَ} . وَقَالَ {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالمين} . وَهَذَا كُله لَا يتَصَوَّر أَن يكون بِهِ غير الله وَمثل هَذَا فِي الْقُرْآن كثير.(2/313)
فصل
قَالَ الله عز وَجل: {ألم، والمص، والمر، وحم عسق، وكهيعص} وَهَذِه كلهَا حُرُوف تكلم الله بهَا، وَالْكَلَام إِنَّمَا هُوَ حُرُوف متقطعة فَإِذا جمعت كَانَت كلَاما، فَإِذا كَانَت الْجُمْلَة غير مَخْلُوق فتفصيله كَيفَ يكون مخلوقا؟
وَأما مَا ذكره النقاش عَن بكر بن خُنَيْس أَنه قَالَ: لما خلق الله الْألف انتصب قَائِما، فَلَمَّا خلق الْبَاء اضْطجع فَقيل للألف: لم انتصبت قَائِما؟ قَالَ: أنْتَظر مَا أومر. وَقيل للباء: لم اضطجعت؟ قَالَ: سجدت لرَبي. فَلَا(2/314)
حجَّة فِي قَول بكر بن خُنَيْس، وَلم ينْقل مثل هَذَا عَن أحد يُؤْخَذ بقوله أَو يكون قَوْله حجَّة، فَكيف يكون قَول بكر بن خُنَيْس حجَّة فِي خلق الْحُرُوف، وَلَيْسَ قَوْله: بِحجَّة فِي حكم من الْأَحْكَام أَو شَيْء من الْأَشْيَاء.
فصل
قَالَ بعض عُلَمَاء السّنة: الْعقل نَوْعَانِ: عقل أعين بالتوفيق، وعقل كيد بالخذلان. فالعقل الَّذِي أعين بالتوفيق يَدْعُو صَاحبه إِلَى مُوَافقَة أَمر الْأَمر المفترض الطَّاعَة والانقياد لحكمه، وَالتَّسْلِيم لما جَاءَ عَنهُ، وَترك الِالْتِفَات إِلَى مَا خَالف أمره أَو وَافق نَهْيه غير طَالب لذَلِك عِلّة غير ثُبُوت الْأَمر وَالنَّهْي، فيسعد بِاتِّبَاع الْأَمر وَاجْتنَاب النَّهْي.
وَالْعقل الَّذِي كيد: يطْلب بتعمقه الْوُصُول إِلَى علم مَا اسْتَأْثر الله بِعِلْمِهِ وحجب أسرار الْخلق عَن فهمه، حِكْمَة مِنْهُ بَالِغَة ليعرفوا عجزهم عَن دَرك غيبه ويسلموا لأَمره طائعين، وَيَقُولُونَ كَمَا قَالَت الْمَلَائِكَة: {لَا علم لنا إِلَّا مَا علمتنا} . فتفرقت بهؤلاء الْقَوْم الَّذين ادعوا أَن الْعقل يهْدِيهم إِلَى الصَّوَاب. السبل والأهواء، وتلاعب بهم الشَّيْطَان فزين الْبَاطِل فِي قُلُوبهم، فَلم يصلوا إِلَى برد الْيَقِين، وصدوا عَن الصِّرَاط الْمُسْتَقيم.(2/315)
قَالَ: وَإِذا تَأَمَّلت تعمقهم فِي التأويلات الْمُخَالفَة لظَاهِر الْكتاب وَالسّنة وعدولهم عَنْهُمَا إِلَى زخرف القَوْل والغرور، لتقوية باطلهم، وتقريبه إِلَى الْقُلُوب الضعيفة، لَاحَ لَك الْحق، وَبَان الصدْق فَلَا تلْتَفت إِلَى مَا أسسوه. وَلَا تبال بِمَا زخرفوه، والزم نَص الْكتاب، وَظَاهر الحَدِيث الصَّحِيح اللَّذين هما أصُول الشرعيات تقف عَلَى الْهدى الْمُسْتَقيم.
فصل
أَخْبَرَنَا أَبُو الْخَيْر عبد الله بن مَرْزُوق الْهَرَوِيّ، أَنا أَبُو روح ثَابت بن مُحَمَّد السَّعْدِيّ فِي كِتَابه، أَنا أَبِي، أَنا مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْقرشِي، نَا عُثْمَان ابْن سَعِيد الدَّارمِيّ قَالَ:: بَاب توقير أَحَادِيث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن تعَارض بِشَيْء من المقاييس أَو تنفى بِتَأْوِيل الْقُرْآن.
268 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ نَا حَمَّادٌ وَهُوَ ابْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ سَالِمٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ(2/316)
عَبْدِ اللَّهِ أَوْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافع أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا أَعْرِفَنَّ مَا بَلَغَ أَحَدَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ مِنْ حَدِيثِي قَدْ أَمَرْتُ فِيهِ أَوْ نهيت، وَهُوَ متكيء عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيَقُولُ: لَا حَاجَةَ لِي بِهِ هَذَا الْقُرْآنُ، مَا وَجَدْنَا فِيهِ اتَّبَعْنَاهُ وَمَا لَمْ نَجِدْ فِيهِ لَمْ نَتَّبِعْهُ ".
269 - وَرُوِيَ: " أَلا إِنِّي أُوتيت الْكتاب، وَمثله مَعَه ".
قَالَ الدَّارمِيّ: يَقُول: أُوتيت الْقُرْآن، وَأُوتِيت مثله من السّنَن الَّتِي لم ينْطق الْقُرْآن بنصه، وَمَا هِيَ مفسره لإِرَادَة الله تَعَالَى بِهِ، فَمن ذَلِكَ:
270 - " تَحْرِيم لحم الْحمار الأهلي ".
271 - " وكل ذِي نَاب من السبَاع "(2/317)
وَلَيْسَ بمنصوصين فِي الْكتاب وَهُوَ كَقَوْلِه الَّذِي رَوَى عَنهُ:
272 - أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أُوتيت جَوَامِع الْكَلم ". ففسره الزُّهْرِيّ وَقَالَ: كَانَ يجمع للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْكَلِمَة من الْأَشْيَاء مِمَّا يكْتب قبله فِي الْكتب، يَعْنِي فيفسرها النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قَالَ ابْن مَسْعُود، وَابْن عَبَّاس، وَعمْرَان بن حُصَيْن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: إِن جَمِيع مَا أَمر بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَنهى عَنهُ هُوَ عَن الله وَفِي كتاب الله فتأولوا فِيهِ قَول الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهوا} . وَذكر حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي:
273 - المتنمصات. وَقَالَ: وَمَالِي لَا ألعن من لَعنه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ فِي كتاب الله وَقَرَأَ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} .(2/318)
وَذكر حَدِيث ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
274 - ألم يقل الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} . فَإِنِّي أشهد أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن النقير، والمقير، والدباء، والحنتم.
قَالَ الدَّارمِيّ: يَقُول ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَيْسَ النقير، والمقير، والدباء والحنتم، بمنصوصات فِي كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ وَهِي دَاخِلَة فِي قَوْله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنهُ فَانْتَهوا} . وَفِي قَوْله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُم الْخيرَة من أَمرهم} .
قَالَ: وَكَذَلِكَ كل مَا أَمر بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَنهى عَنهُ دَاخل فِي تَأْوِيل هَاتين الْآيَتَيْنِ، وَمَا أشبههما من الْقُرْآن.(2/319)
وَذكر عَن أَبِي نَضرة قَالَ:
275 - كُنَّا عِنْد عمرَان بن حُصَيْن فَجعل يحدثنا فَقَالَ رجل: حَدَّثَنَا عَن كتاب الله، فَغَضب عمرَان فَقَالَ: إِنَّك أَحمَق، ذكر الله الزَّكَاة فِي كِتَابه فَأَيْنَ فِي مِائَتَيْنِ خَمْسَة دَرَاهِم. ذكر الله الصَّلَاة فِي كِتَابه، فَأَيْنَ الظّهْر أَربع، وَالْعصر أَربع حَتَّى أَتَى عَلَى الصَّلَوَات. ذكر الله الطّواف فِي كِتَابه فَأَيْنَ بِالْبَيْتِ سبعا، وبالصفا والمروة سبعا، إِنَّمَا يحكم مَا هُنَاكَ ويفسره السّنة، وَذكر حَدِيث عمر بْن الْخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
276 - " سَيَأْتِي نَاس يجادلونكم بشبهات الْقُرْآن فخذوهم بالسنن فَإِن أَصْحَاب السّنَن أعلم بِكِتَاب الله ".
وَذكر عَن سَعِيد بن جُبَير: أَنه حدث بِحَدِيث عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ رجل من أهل الْكُوفَة: إِن الله يَقُول كَذَا وَكَذَا، فَغَضب سَعِيد غَضبا شَدِيدا(2/320)
وَقَالَ: أَلا أَرَاك تعَارض أَحَادِيث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِكِتَاب الله عَزَّ وَجَلَّ كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعلم بِكِتَاب الله مِنْك.
وَذكر عَن حسان بن عَطِيَّة قَالَ: كَانَ جِبْرَائِيل - عَلَيْهِ السَّلامُ - ينزل على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - السّنة يُعلمهُ إِيَّاهَا تَفْسِيرا لِلْقُرْآنِ.
قَالَ الدَّارمِيّ فِي قَول يَحْيَى بن أَبِي كثير: السّنة قاضية عَلَى الْقُرْآن وَلَيْسَ الْقُرْآن بقاض عَلَى السّنة - يَعْنِي أَن السّنة تفسر الْقُرْآن، وَالْقُرْآن أصُول محكمَة مجملة لَا تفسر السّنة، وَالسّنة تفسرها، وَتبين حُدُودهَا، ومعانيها، وَكَيف يَأْتِي النَّاس بهَا.
وَذكر عَن عبد الله بن مُغفل قَالَ:
277 - نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْحَذف، وَقَالَ: " إِنَّه لَا يصطاد صيدا،(2/321)
وَلَا ينكى عدوا، وَلكنهَا تكسر السن وتفقأ الْعين "، فال بَعضهم: مَا بَأْس بِهَذَا. فَقَالَ: أحَدثك عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وتهاون بِهِ، لَا أُكَلِّمك أبدا.
278 - وَذكر حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " بَيْنَمَا رجل يتبختر فِي بردين خسف الله بِهِ الأَرْض "، فَقَالَ فَتى ": يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أهكذا كَانَ يمشي ذَاك الْفَتى الَّذِي خسف بِهِ، ثمَّ ضرب بِيَدِهِ فعثر عَثْرَة كَاد ينكسر مِنْهَا.
فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: للمنخرين، وَلِلْفَمِ: {إِنَّا كَفَيْنَاك الْمُسْتَهْزِئِينَ} .
279 - وَذكر حَدِيث عبد الله بن عَمْرو - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لن يستكمل مُؤمن إيمَانه حَتَّى يكون هَوَاهُ تبعا لما جِئتُكُمْ بِهِ ".
280 - وَذكر حَدِيث الزبير فِي شراج الْحرَّة. قَالَ الزبير:(2/322)
فوَاللَّه إِنِّي لأحسب هَذِهِ الْآيَة نزلت فِي ذَلِكَ: {فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شجر بَينهم} .
فصل
فِيمَن كَانَ يقْضِي بِالْقضَاءِ وَيرى الرَّأْي ثمَّ يبلغهُ الحَدِيث عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيتْرك رَأْيه، وَيرجع إِلَى حَدِيث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
281 - رُوِيَ عَن ابْن وهب قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرو بن الْحَارِث أَن عَمْرو بن شُعَيْب وَعبد الله بن طَاوُوس، حَدَّثَاهُ عَن طَاوُوس قَالَ: جَاءَنَا عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَسئلَ عَن امْرَأَة أفاضت بِالْبَيْتِ ثمَّ حَاضَت، أتصدر قبل أَن تَطوف بِالْبَيْتِ؟ فَقَالَ: لَا تصدر. حَتَّى تَطوف، ثمَّ جَاءَنَا الْعَام الْمقبل فَسئلَ عَن مثل ذَلِكَ فَقَالَ: لتصدر. قَالَ طَاوُوس: فَقلت لَهُ فَإنَّك قد كنت أَفْتيت عَام الأول بِغَيْر هَذَا. فَقَالَ: ابْن عمر: بلغتنا السّنة.
282 - وروى حَمَّاد بن زيد، عَن سُلَيْمَان الربعِي عَن أَبِي الجوزاء قَالَ سَمِعت ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ يَأْمر بِالصرْفِ الدِّرْهَم بِالدِّرْهَمَيْنِ، وَالدِّينَار(2/323)
بِالدِّينَارَيْنِ يدا بيد، فَقدمت الْعرَاق فأفتيت النَّاس بذلك، ثمَّ بَلغنِي أَنه نزل عَن ذَلِكَ فَقدمت مَكَّة فَسَأَلته فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ رَأيا وَهَذَا أَبُو سَعِيد يحدث عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه نهى عَنهُ.
283 - ورى الشَّافِعِي رَحْمَة الله قَالَ: أَخْبَرَنِي من لَا أتهم عَن ابْن أَبِي ذِئْب قَالَ أَخْبَرَنِي مخلد بن خفاف قَالَ: ابتعت غُلَاما فاستغللته، ثمَّ ظَهرت مِنْهُ عَلَى عيب فخاصمت فِيهِ إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز فَقضى لي برده وَبرد غَلَّته، فَأتيت عُرْوَة بن الزبير فَأَخْبَرته فَقَالَ: أروح إِلَيْهِ العشية فَأخْبرهُ أَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرتنِي أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى فِي مثل هَذَا أَن الْخراج بِالضَّمَانِ. فعجلت إِلَى عمر فَأَخْبَرته بِمَا أَخْبَرَنِي عُرْوَة عَن عَائِشَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ عمر: فَمَا أيسر عَلَى قَضَاء قَضيته، الله يعلم أَنِّي لم أرد فِيهِ إِلَّا الْحق فلبغتني فِيهِ سنة عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن أَرَادَ قَضَاء عمر، وأنفذ سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فراح إِلَيْهِ عُرْوَة فَأخْبرهُ فَقضى لي أَن آخذ الْخراج من الَّذِي قضى عَليّ لَهُ.(2/324)
284 - وَرُوِيَ عَن ابْن أَبِي ذِئْب، عَن المَقْبُري، عَن أَبِي شُرَيْح الكعبي أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ عَام الْفَتْح: " من قتل لَهُ قَتِيل فَهُوَ بِخَير النظرين إِن أحب أَخذ الْعقل، وَإِن أحب فَلهُ الْقود ".
وَقيل لِابْنِ أَبِي ذِئْب: أتأخذ بِهِ يَا أَبَا الْحَارِث؟ فَضرب صدر السَّائِل، وَصَاح بِهِ صياحا كثيرا، وَقَالَ: أحَدثك عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَتقول: تَأْخُذ بِهِ، نعم: آخذ بِهِ، وَذَلِكَ الْفَرْض عَليّ وعَلى كل من سَمعه، إِن الله اخْتَار مُحَمَّدًا من النَّاس فهداهم بِهِ وعَلى يَدَيْهِ، وَاخْتَارَ لَهُم مَا اخْتَار لَهُ عَلَى لِسَانه، فعلى الْخلق أَن يتبعوه طائعين أَو داخرين، وَلَا مخرج لَهُم من ذَلِكَ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: من رغب عَن أنباء النُّبُوَّة - يَعْنِي أَحَادِيث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقد تقطعت من بَين يَدَيْهِ أَسبَاب الْهدى، وَلَقي حجَّة فتنته، وَتلك أبلغ الشرور فِي الْقُلُوب عُقُوبَة، وَمَا أرى امريء فِي شَيْء سبقه إِلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ فِيهِ إِلَّا اتِّبَاعه، قَالَ بعض الْعلمَاء: صدق الْأَوْزَاعِيّ فَإِن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ:
285 - " وَمن رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني ".(2/325)
286 - وَلعن تَارِك سنته.
فَكل مَا صَحَّ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من أَفعاله، وَأمره، وَنَهْيه، وَسنَن، وَأمر الله بالاقتداء بِرَسُولِهِ فِيهَا غير أَن بَعْضهَا ألزم من بعض، وَبَعضهَا أيسر من بعض قَالَ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهوا} . وَقَالَ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تصيبهم فتْنَة أَو يصيبهم عَذَاب أَلِيم} فَهَذَا أَمر الله فِي اتِّبَاع رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَاتِّبَاع سنته، غير أَن لسنته وَجْهَيْن كَمَا قَالَ مَكْحُول: بَعْضهَا لَازمه وَلَا يجوز تَركهَا، وَتركهَا ضلال لكل عَامِد رَاغِب عَنْهَا مثل:
الْمسْح على الْخُفَّيْنِ، الْوتر، والركعتين قبل الْفجْر، والركعتين بعد الظّهْر، والركعتين بعد الْمغرب، والتسبيحات فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود، وَمَا أشبههَا فِي الْوضُوء، وَالصَّلَاة، وَالزَّكَاة وَالصِّيَام، وَالْحج تَركهَا عمدا خلاف وضلال ومعاندة للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَمِنْهَا مَا هُوَ فَضِيلَة، وأدب الِاخْتِيَار فِيهَا الْأَخْذ بهَا عَلَى كل حَال، وَتركهَا من غَفلَة أَو سَهْو أَو عجز من غير استخفاف بهَا وتهاون، فالرجاء أَن لَا تبعة عَلَى صَاحبهَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة مثل:(2/326)
287 - نَهْيه عَن الْقُرْآن بَين التمرتين.
288 - وَأَن لَا يبزق أحد عَن يَمِينه.
289 - وَمثل قَوْله: " إِذا وَقع الذُّبَاب فِي إِنَاء أحدكُم فليغمسه ".
290 - " وَلَا تتركوا النَّار فِي بُيُوتكُمْ حِين تنامون، وغطوا آنيتكم واطفئوا مصابيحكم بِاللَّيْلِ ".
وَمَا أشبه ذَلِكَ فَلَا يجوز عَلَى حَال ترك شَيْء مِنْهَا دق أَو جلّ عَلَى عمد اسْتِخْفَافًا بهَا، ورغبة عَنْهَا، فَمن فعل ذَلِكَ معاندة لأمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهُوَ الضال الممقوت فِي الدُّنْيَا المعذب فِي الْآخِرَة إِلَّا أَن يعْفُو الله عَنهُ وَمن قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَذَا، وَأَنا أَقُول بِخِلَافِهِ فقد تكلم بعظيم يُسْتَتَاب من ذَلِكَ، وَمن قبل عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّمَا يقبل عَن الله وَمن رد عَلَيْهِ فَإِنَّمَا يردهُ عَلَى الله. قَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} . وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} .(2/327)
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: وتقام سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ مقَام الْبَيَان عَن الله عَزَّ وَجَلَّ وَلَيْسَ شَيْء من سنَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُخَالف كتاب الله فِي حَال، لِأَن الله عَزَّ وَجَلَّ قد أعلم خلقه أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يهدي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم.
وَقَول من قَالَ: يعرض السّنة عَلَى الْقُرْآن فَإِن وَافَقت ظَاهره، وَإِلَّا استعملنا ظَاهر الْقُرْآن، وَتَركنَا الحَدِيث، فَهَذَا جهل، وَقد قصّ الله علينا أَن ننتهي إِلَى سنة نبيه، وَلَيْسَ لنا مَعهَا من الْأَمر شَيْء إِلَّا التَّسْلِيم لَهَا واتباعها، وَلَا تعرض عَلَى قِيَاس وَلَا عَلَى شَيْء غَيرهَا، وكل مَا سواهَا من قَول الْآدَمِيّين تبع لَهَا.
فصل
291 - رُوِيَ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْحَنْظَلِي أَنه سُئِلَ عَن قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي قَائِمَة بِالْحَقِّ ظَاهِرين عَلَى من سواهُم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة " فَقَالَ:
الطَّائِفَة دون الْألف، وسيبلغ هَذَا الْأَمر إِلَى أَن لَا يبلغ عدد المتمسكين بِمَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُول الله
إِلَّا دون الْألف يسلي بذلك أَلا يعجبهم كَثْرَة أهل الْبَاطِل.(2/328)
فصل
قَالَ الله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبك مَا فَعَلُوهُ فذرهم وَمَا يفترون}
قَالَ بعض الْعلمَاء: فَسمى الله عَزَّ وَجَلَّ الفلاسفة والمتكلمين فِي هَذِهِ الْآيَة بِخَمْسَة أَسمَاء سماهم: أَعدَاء النبوات، وَسَمَّاهُمْ شياطين الْإِنْس.
وَقَالَ: {وَإِن الشَّيَاطِين ليوحون إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ليجادلوكم} أَي إِن شياطين الْجِنّ يوحون إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ من شياطين الْإِنْس ليجادلوكم.
وسمى قَوْلهم زخرفا وَهُوَ الَّذِي يزوق ظَاهره، وَلَيْسَ تَحْتَهُ معنى يتَحَصَّل، وَسَماهُ غرُورًا وَهُوَ كالسراب يحسبه الظمآن مَاء حَتَّى إِذا جَاءَهُ لم يجده شَيْئا. وَسَماهُ افتراء لِأَنَّهُ قَالَ: {فذرهم وَمَا يفترون} أَي يكذبُون.
ثمَّ قَالَ: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة} وَمعنى تصغى: تميل أَي يمِيل إِلَى زخارفهم من لَا يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر.(2/329)
ثمَّ قَالَ: {وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} . هَذِهِ اللَّام تسمى لَام التهديد، كَمَا يَقُول الرجل لصَاحبه: ليفعل مَا شَاءَ فإنني من وَرَاء مجازاته.
ثمَّ قَالَ: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا} أَي مُبينًا بِمَا إِلَيْهِ الْحَاجة: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تكونن من الممترين} . أَي من الشاكين فِي كَونه منزلا من عِنْد الله.
ثمَّ قَالَ: {وتمت كلمة رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} فَمَا شهد الله لَهُ بالتمام والصدق وَالْعدْل، أَي حَاجَة بِهِ إِلَى تَأْوِيل المتأولين وتحريف الغالين.
وَقَالَ: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْض يضلوك عَن سَبِيل الله} دلّ بذلك عَلَى أَن الْكَثْرَة فِي أهل الْبَاطِل، وَالْحق عِنْد اقتراب السَّاعَة إِلَى ضعف ودروس.(2/330)
فصل
فِيمَن يُنكر أَن الْأَمْوَات يعلمُونَ بأخبار الْأَحْيَاء ويسمعون.(2/331)
صفحة فارغة.(2/332)
رُوِيَ عَن عُثْمَان بن عبد الله بن أَوْس قَالَ: قَالَ لي سَعِيد بن جُبَير: كَيفَ صنيعك إِلَى بنت أَخِيك؟ أما إِنَّك لَا تصنع إِلَيْهَا شَيْئا إِلَّا بلغ أَبَاهَا ذَلِكَ. قلت لسَعِيد بن جُبَير. ويبلغ الْأَمْوَات مَا يصنع الْأَحْيَاء؟ قَالَ: نعم، فَإِن رَأَوْا خيرا سروا بِهِ، وَإِن رَأَوْا شرا سيء بهم حَتَّى إِنَّهُم ليتساءلون، وَفِي رِوَايَة فَقلت: وَهل يَأْتِي الْأَمْوَات أَخْبَار الْأَحْيَاء؟ قَالَ: نعم، مَا من أحد لَهُ حميم إِلَّا يَأْتِيهِ أَخْبَار أَقَاربه، فَإِن كَانَ خيرا سر بِهِ وَفَرح وهنيء بِهِ، وَإِن كَانَ شرا تأس وحزن حَتَّى إِنَّهُم ليسألون عَن الرجل قد مَاتَ فَيُقَال: ألم يأتكم؟ فَيَقُولُونَ: لقد خُولِفَ إِلَى أمه الهاوية.
292 - وَرُوِيَ عَن عبيد بن عُمَيْر قَالَ: قَالَ عبَادَة بن الصَّامِت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:(2/333)
إِذا مَاتَ الرجل فَإِن تعلم أحد من وَلَده الْقُرْآن بشر بذلك، وَإِن كَانَ عقبه عقب سوء أَتَى الدَّار غدْوَة وَعَشِيَّة فَبكى عَلَيْهِ حَتَّى ينْفخ فِي الصُّور، أَو كَمَا قَالَ.
293 - وَعَن زيد بن أسلم عَن أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إِذا مر الرجل بِقَبْر قد كَانَ يعرف صَاحبه فَسلم عَلَيْهِ عرفه ورد عَلَيْهِ السَّلامُ، وَإِن كَانَ لَا يعرفهُ رد عَلَيْهِ السَّلامُ.
وَعَن سَعِيد بن جُبَير قَالَ: إِذا مَاتَ الرجل استقبله وَلَده كَمَا يسْتَقْبل الْغَائِب. وَعَن خصيف عَن عَطاء قَالَ: كل شَيْء يصنع الْحَيّ للْمَيت وصل إِلَيْهِ حَتَّى التَّسْبِيح إِن شَاءَ الله. وَعَن مُجَاهِد قَالَ: إِن الرجل ليبشر فِي قَبره بصلاح وَلَده وتقر بذلك عينه. وَعَن أَبِي صَالح قَالَ: إِن الرجل ليرْفَع لَهُ دَرَجَة فِي قَبره فَيَقُول: بِمَ هَذَا؟ فَيُقَال: باستغفار ولدك لَك.
294 - وَرُوِيَ عَن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سمع الْمُسلمُونَ نِدَاء النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي جَوف اللَّيْل وَهُوَ على بِئْر بدر يُنَادي: " يَا أَبَا جهل بن هِشَام، يَا عتبَة ابْن ربيعَة، يَا شيبَة بن ربيعَة، يَا أُميَّة بن خلف، أَلا هَل وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا؟(2/334)
فَأَنِّي قد وجدت مَا وَعَدَني رَبِّي حَقًا. فَقَالَ الْمُسلمُونَ: يَا رَسُول الله تنادي قوما قد جيفوا فَقَالَ: مَا أَنْتُم بأسمع لما أَقُول مِنْهُم؟ إِلَّا أَنهم لَا يَسْتَطِيعُونَ أَن يجيبوني ".
فصل
295 - رُوِيَ عَن الضَّحَّاك بن قيس عَن ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} . قَالَ: كل شَيْء يحْشر حَتَّى الذُّبَاب.(2/335)
296 - وَعَن أَبِي ذَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: انتطحت شَاتَان عِنْد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا أَبَا ذَر أَتَدْرِي فِيمَا انتطحتا؟ فَقلت: لَا قَالَ: لَكِن الله يدْرِي، وَيَقْضِي بَينهمَا يَوْم الْقِيَامَة.
397 - وَعَن أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَا من دَابَّة فِي الأَرْض، وَلَا طَائِر، وَلَا بَهِيمَة إِلَّا سيحشر يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ يقْتَصّ بَعْضهَا من بعض حَتَّى يقْتَصّ الْجَمَّاء من ذَات الْقرن، ثمَّ يَقُول الله: كوني تُرَابا. فَيَقُول الْكَافِر: {يَا لَيْتَني كنت تُرَابا} قَالَ: وَإِن شِئْتُم فاقرءوا: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَم أمثالكم} إِلَى قَوْله: {ثمَّ إِلَى رَبهم يحشرون} .(2/336)
298 - وَفِي رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لتؤدن الْحُقُوق إِلَى أَهلهَا يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يُقَاد الشَّاة الجلحاء من الشاه القرناء ".
فصل فِي الرَّد عَلَى من أنكر ملك الْمَوْت
رُوِيَ عَن مُجَاهِد فِي قَوْله: {يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْت} . قَالَ: حويت لَهُ الأَرْض فَجعلت لَهُ مثل الطست ينَال مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء.
وَعَن يَحْيَى بن خَلاد قَالَ: لما أَرَادَ الله أَن يخلق آدم بعث جِبْرِيل فَقَالَ: ائْتِ الأَرْض فاقبض مِنْهَا قَبْضَة أخلق مِنْهَا خلقا، وأعيده فِيهَا، فَأَتَاهَا فَقَالَ: إِن الله بَعَثَنِي إِلَيْك أَقبض مِنْك قبصة يخلق مِنْهَا خلقا، ويعيده فِيك، قَالَتْ: إِنِّي أعوذ بِالَّذِي أرسلك أَن تنقصني، وتشينني، فَرجع فَقَالَ: يَا رب إِنَّهَا استعاذت بك. قَالَ: فَبعث مِيكَائِيل وَقَالَ لَهُ مثل ذَلِكَ، وَقَالَت لَهُ الأَرْض مثل(2/337)
ذَلِكَ فَرجع، وَقَالَ: يَا رب إِنَّهَا استعاذت بك، فَبعث ملكا فَأَتَاهَا فَقَالَ: إِن الله بَعَثَنِي إِلَيْك أَقبض مِنْك قَبْضَة يخلق مِنْك خلقا فيعيده فِيك، فَقَالَت: إِنِّي أعوذ بِالَّذِي أرسلك أَن تنقصني أَو أَن تشينني. قَالَ: وَأَنا أعوذ بِالَّذِي أَرْسلنِي أَن أرجع إِلَيْهِ حَتَّى أمضي لأَمره فَفعل، فَسَماهُ ملك الْمَوْت، فوكله بِالْمَوْتِ.
299 - وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب عَن رجل من الْأَنْصَار عَن أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَأْتِي ملك الْمَوْت إِلَى الْجَبَّار يَوْم الْقِيَامَة فَيَقُول: يَا رب قد مَاتَ أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَّا من شِئْت، فَيَقُول الله عَزَّ وَجَلَّ: وَهُوَ أعلم: فَمن بَقِي؟ فَيَقُول: يَا رب بقيت أَنْت الْحَيّ الَّذِي لَا تَمُوت، وَبَقِي حَملَة عرشك، وَبَقِي جِبْرِيل، وَمِيكَائِيل، وَأَنا، فَيَقُول الله تَعَالَى: فليمت جِبْرِيل، وَمِيكَائِيل، فيتكلم الْعَرْش فَيَقُول: يَا رب أتميت جِبْرِيل، وَمِيكَائِيل. فَيَقُول الله: اسْكُتْ إِنِّي كتبت على كل من كَانَ تَحت عَرْشِي الْمَوْت. فيموتان، وَيَأْتِي ملك الْمَوْت إِلَى الْجَبَّار فَيَقُول: يَا رب، قد مَاتَ جِبْرِيل وَمِيكَائِيل، فَيَقُول الله لَهُ: وَهُوَ أَعْلَمُ، فَمَنْ بَقِيَ فَيَقُولُ: بَقِيتَ أَنْتَ الْحَيّ الَّذِي لَا تَمُوت، وَبَقِي حَملَة عرشك، وَبقيت أَنا، فَيَقُول الله ليمت حَملَة عَرْشِي. فيموتون، ثمَّ يَأْتِي ملك الْمَوْت إِلَى الْجَبَّار، فَيَقُول لَهُ: يَا رب قد مَاتَ حَملَة عرشك. فَيَقُول الله لَهُ، وَهُوَ أعلم، فَمن بَقِي؟ فَيَقُول: يَا رب بقيت أَنْت الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت، وَبقيت أَنا فَيَقُول الله لَهُ أَنْت خلق من خلقي، خلقتك لما رَأَيْتَ فَمُتْ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ إِلا اللَّهُ الْوَاحِد الصَّمد لَيْسَ(2/338)
بوالد، وَلَا ولد كَانَ آخرا كَمَا كَانَ أَولا. قَالَ: لَا موت عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلا مَوْتَ عَلَى أَهْلِ النَّارِ ".
وَعَن عبد الرَّحْمَن بن سابط فِي قَول الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لدينا لعَلي حَكِيم} . قَالَ فِي أم الْكتاب كل شَيْء هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، ووكل ثَلَاثَة من الْمَلَائِكَة ينزل بِهِ إِلَى الرُّسُل، ووكل بالنصرة إِذا أَرَادَ أَن ينصر قوما، ووكل بالهلكات إِذا أَرَادَ أَن يهْلك قوما، ووكل مِيكَائِيل بالقطر وبنبات الأَرْض أَن يحفظه، ووكل ملك الْمَوْت بِقَبض الْأَنْفس فَإِذا ذهبت الدُّنْيَا جمع بَين حفظهم، وَبَين مَا فِي الْكتاب فيوجد سَوَاء.
وَعَن عَمْرو بن دِينَار قَالَ: مَا من ميت يَمُوت إِلَّا وروحه بيد ملك ينظر إِلَى جسده، وَكَيف يغسل، وَكَيف يُكفن، وَكَيف يمشي بِهِ إِلَى قَبره.(2/339)
وَفِي رِوَايَة: ثمَّ يُعَاد فِيهِ روحه فيجلس فِي قَبره.
وَفِي رِوَايَة: وَيَقُول لَهُ الْملك اسْمَع ثَنَاء النَّاس عَلَيْك.
وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب قَالَ: إِذا استنقعت نفس الْمُؤمن جَاءَ ملك الْمَوْت فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْك ولي الله، وَالله يقْرَأ عَلَيْك السَّلَام ثمَّ نزع بِهَذِهِ الْآيَة: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُم} .(2/340)
بَاب فِي فَضَائِل الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم(2/341)
فضل أَبِي بكر الصّديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
300 - أَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ، أَنا الشَّرِيفُ أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ مِنْ لَفْظِهِ بِبَابِ الْبَصْرَةِ مِنْ مَدِينَةِ الْمَنْصُورِ، نَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ شَاهِينَ، نَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَسْطَامَ الزَّعْفَرَانِيُّ بِالأَيْلَةِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ قَالا: نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، أَنا أَبُو عَوَانَةَ عَن عبد الْملك ابْن عُمَيْرٍ عَنِ ابْنِ أَبِي الْمُعَلَّى عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: هَا هُنَا رجل خَيره الله تَعَالَى بَين أَنْ يَعِيشَ فِي الدُّنْيَا مَتَى شَاءَ أَوِ الآخِرَةِ فَاخْتَارَ الآخِرَةَ.
وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا، وَأُمَّهَاتِنَا. قَالَ: فَتَعَجَّبْنَا لَهُ. وَقَالَ النَّاسُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ يُخْبِرُ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ، وَيَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتنَا فَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ الْمُخَيَّرُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ.(2/342)
301 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو المظفر، أَنا أَبُو عَليّ الشَّافِعِي، نَا ابْنُ فِرَاسٍ، نَا الدَّيْبُلِيُّ، نَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنِ ابْنِ تَدْرُسَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُمْ قَالُوا لَهَا: مَا أَشَدُّ مَا رَأَيْتِ الْمُشْركين بلغُوا من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَتْ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ قُعُودًا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فتذكروا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَمَا يَقُولُ فِي آلِهَتِهِمْ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دخل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَسْجِدَ فَقَامُوا إِلَيْهِ، وَكَانَ إِذَا سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ صَدَّقَهُمْ فَقَالُوا: أَلَسْتَ تَقُولُ فِي آلِهَتِنَا كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَتَشَبَّثُوا بِهِ بِأَجْمَعِهِمْ فَأَتَى الصَّرِيخُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقِيلَ لَهُ: أَدْرِكْ صَاحِبَكَ فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوجدَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَيْلُكُمْ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ؟ قَالَتْ: فَلَهَوْا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَقْبَلُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: فَرَجَعَ إِلَيْنَا فَجَعَلَ لَا يَمَسُّ شَيْئًا مِنْ غَدَائِهِ إِلا جَاءَ مَعَهُ وَهُوَ يَقُولُ: تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ، أَنا أَبُو عَلِيٍّ، نَا ابْنُ فِرَاسٍ، نَا الدَّيْبُلِيُّ، نَا الْمَخْزُومِيُّ، نَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعْتَقَ(2/343)
سَبْعَةً كُلُّهُمْ يُعَذَّبُ فِي اللَّهِ: بِلالٌ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَالنَّهْدِيَّةُ وَابْنَتُهَا، وَزِنِّيرَةُ، وَأُمُّ عُمَيْسٍ، وَأَمَةُ بَنِي الْمُؤَمَّلِ، وَزَادَ سُفْيَانُ، وَأَمَّا زِنِّيرَةُ فَكَانَتْ رُومِيَّةً وَكَانَتْ لِبَنِي عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ، فَلَمَّا أَسْلَمَتْ عَمِيَتْ فَقَالُوا: أَعْمَتْهَا اللاتُ وَالْعُزَّى. فَقَالَتْ: هِيَ تَكْفُرُ بِاللاتِ وَالْعُزَّى فَرُدَّ إِلَيْهَا بَصَرُهَا.
وَأَمَّا بِلالٌ فَاشْتَرَاهُ وَهُوَ مَدْفُونٌ بِالْحِجَارَةِ فَقَالُوا: لَوْ أَبَيْتَ إِلا أُوقِيَّةً وَاحِدَةً لَبِعْنَاكَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ أَبَيْتُمْ إِلا مِائَةَ أُوقِيَّةً لأَخَذْتُهُ، وَفِيهِ نَزَلَتْ: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} . إِلَى آخِرِهَا.
قَالَ: وَأَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفًا فَأَنْفَقَهَا كُلَّهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى.(2/344)
302 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيُّ الْحَافِظُ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ نَصْرٍ الْعَاصِمِيُّ، نَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْبُجَيْرِيُّ، نَا أَبُو حَفْصٍ الْبُجَيْرِيُّ، نَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ الْبَيْرُونِيُّ، أَخْبَرَنِي أبي قَالَ: سَمِعت الْأَوْزَاعِيّ، حَدثنِي يحيى ابْن أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِث التَّيْمِيّ، حَدثنِي عُرْوَة ابْن الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قُلْتُ: حَدِّثْنِي بِأَشَدِّ شَيْءٍ صَنَعَهُ الْمُشْركُونَ برَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَرَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَلَوَى ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَخَذَ بِمَنْكِبَيْهِ فَدَفَعَهُ عَنْ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ قَالَ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ.
303 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ الْبُجَيْرِيُّ، حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ آدَمَ، نَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، نَا هَمَّامٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْغَارِ فَمَرَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمِهِ لأَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمِهِ. قَالَ: " مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ الله ثالثهما ".(2/345)
304 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ الْبُجَيْرِيُّ، نَا ابْنُ زنجوية، نَا مُحَمَّد ابْن الْمُبَارَكِ الصُّورِيُّ، نَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنِي زيد بن وَاقد، عَن بسر ابْن عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْتُ جَالِسا عِنْد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ " , فَأَقْبَلَ حَتَّى سلم على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ عُمَرَ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ إِنِّي نَدِمْتُ عَلَى مَا كَانَ مِنِّي فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ فَتَبِعْتُهُ الْبَقِيعَ كُلَّهُ حَتَّى تَحَرَّزَ مِنِّي بِدَارِهِ فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ: فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ " ثَلاثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَدِمَ حِينَ سَأَلَهُ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يَغْفِرَ لَهُ فَأَبَى عَلَيْهِ فَخَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ حَتَّى أَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَسَأَلَ. هَلْ ثَمَّ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالُوا: لَا. فَعَلِمَ أَنَّهُ عِنْدَ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَأقبل عمر إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى سَلَّمَ عَلَيْهِ فَجَعَلَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - أَن يكون من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى عُمَرَ مَا يَكُونُ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَلِكَ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ(2/346)
اللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُم: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ. فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي؟ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي؟ فَهَلْ أَنْتُمْ تاركوا لِي صَاحِبِي؟ " قَالَ فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا.
قَوْله: غامر: أَي خَاصم، وَقَوله: يتمعر: أَي يتَغَيَّر، وَقَوله: تاركو لي صَاحِبي: فصل بَين الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ بالجار وَالْمَجْرُور.
فصل
305 - أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَنا أَبُو بَكْرِ بن مردوية، نَا عبد الله ابْن جَعْفَرٍ، نَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، نَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنا إِبْرَاهِيم ابْن سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَت: دخل عَليّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْيَوْم الَّذِي بديء فِيهِ فَقلت: وَا رأساه. فَقَالَ: " وَدِدْتُ أَنَّ ذَاكَ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ فَهَيَّأْتُكِ وَدَفَنْتُكِ فَقُلْتُ غَيْرىَ: كَأَنِّي بِكَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَرُوسًا بِبَعْضِ نِسَائِكَ. قَالَ: أَنَا وَا رأساه ادْعِي لِي أَبَاكِ وَأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ لأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ وَيَتَمَنَّى، وَيَأْبَى اللَّهُ، وَالْمُؤْمِنُونَ إِلا أَبَا بَكْرٍ ". قَالَ أهل اللُّغَة: رجل غيور، وَامْرَأَة غَيْرىَ من الْغيرَة.(2/347)
306 - وَأَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ، أَنا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيْهِ، نَا مُحَمَّد ابْن مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَتْنَا أُمُّ عُثْمَانَ بْنِ حَسَّانِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ أبي: عَجُوز صدق، قَالَت حَدثنِي سعد ابْن يَحْيَى بْنِ قَيْسِ بْنِ عَبْسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ. قَالَتْ لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِذَا أَنْتَ مَرِضْتَ قَدَّمْتَ أَبَا بَكْرٍ. قَالَ: " لَسْتُ أَنَا الَّذِي أُقَدِّمُهُ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُقَدِّمُهُ ".
307 - أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ، أَنا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيْهِ، نَا مُحَمَّد بن عبد الله ابْن إِبْرَاهِيم، نَا مُحَمَّد بن يُونُس الْعَلاءُ بْنُ عَمْرٍو، نَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ.
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيْهِ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فَارِسِ بْنِ حَمْدَانَ، نَا شُعَيْبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّيْبُلِيُّ، نَا سَهْلُ بْنُ صُقَيْرٍ، نَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ آدَمَ ابْن عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَالِسٌ وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -(2/348)
عَلَيْهِ عَبَاءَةٌ قَدْ خَلَّهَا عَلَى صَدْرِهِ بِخِلالٍ، إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَأَقْرَأَهُ مِنَ اللَّهِ السَّلامَ. وَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالِي أَرَى أَبَا بَكْرٍ عَلَيْهِ عَبَاءَةٌ قَدْ خَلَّهَا عَلَى صَدْرِهِ بِخِلالٍ. قَالَ: " يَا جِبْرِيلُ أَنْفَقَ مَالَهُ عَلَيَّ قَبْلَ الْفَتْحِ "، قَالَ: فَأَقْرِئْهُ مِنَ اللَّهِ السَّلامَ. وَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ رَبُّكَ: أَرَاضٍ أَنْتَ عَنِّي فِي فَقْرِكَ أَمْ سَاخِطٌ؟ قَالَ: فَالْتَفت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُكَ مِنَ اللَّهِ السَّلامَ وَيَقُولُ لَكَ: أَرَاضٍ أَنْتَ عَنِّي فِي فَقْرِكَ هَذَا أَمْ سَاخِطٌ؟ " قَالَ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ: أَعَلَى رَبِّي أَغْضَبُ، أَنَا عَنْ رَبِّي رَاضٍ، أَنَا عَنْ رَبِّي رَاضٍ.
فصل
308 - أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيُّ الْحَافِظُ أَنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ نَصْرٍ الْعَاصِمِيُّ، أَنا أَبُو الْعَبَّاسِ الْبُجَيْرِيُّ، نَا أَبُو حَفْصٍ الْبُجَيْرِيُّ، نَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نَا عَمِّي، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِنَ الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ: هَذَا خَيْرٌ فَهَلُمَّ. فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ(2/349)
دُعِيَ مِنْ بَابِ الزَّكَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْهِجْرَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْهِجْرَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَيُدْعَى الْمُطِيعُونَ مِنْ بَابِ الْمُطِيعِينَ، وَيُدْعَى التَّائِبُونَ مِنْ بَابِ التائبين ".
قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ يُدْعَى مِنْ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ. فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نعم، وأرجوا أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ ".
قَوْله: من ضَرُورَة: أَي من ضَرَر، وخسران.
309 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ الْبُجَيْرِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، نَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَة أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - حَدثهمْ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَعِدَ أُحُدًا وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ بهم. فَقَالَ نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اثْبُتْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ ".
310 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ الْبُجَيْرِيُّ، نَا عَبْدُ بْنُ حميد، نَا روح ابْن عُبَادَةَ، نَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ حَتَّى إِذَا(2/350)
كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لي، فَأَقَامَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْتِمَاسِهِ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالُوا: مَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبِالنَّاسِ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْس مَعَهُمْ مَاءٌ، قَالَتْ: فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ. فَقَالَ: حَبَسْتِ النَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ.
قَالَتْ: فَعَاتَبَنِي وَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُ بِيَدِه فِي خَاصِرَتِي فَلا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلا مَكَانُ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على فَخذي، فَنَامَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَة التَّيَمُّم: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} .
فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ: فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ فَوَجَدْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ.
فصل فِي إِنْفَاق أَبِي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَاله فِي عتق الْمُعَذَّبين فِي الله
311 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ هَارُونَ، أَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الشَّاهِدُ،(2/351)
نَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، نَا أَحْمد ابْن مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ، نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ يَمُرُّ بِبِلالٍ وَهُوَ يُعَذَّبُ وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ فَيَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ يَا بِلَال، ثمَّ يقبل ورقة على أُميَّة ابْن خَلَفٍ، وَمَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِبِلالٍ مِنْ بَنِي جُمَحَ فَيَقُولُ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ إِنْ قَتَلْتُمُوهُ عَلَى هَذَا لأَتَّخِذَنَّهُ حَنَّانًا حَتَّى مَرَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمًا وَهُمْ يَصْنَعُونَ بِهِ ذَلِكَ، وَكَانَ دَارُ أَبِي بَكْرٍ فِي بَنِي جُمَحَ. فَقَالَ لأُمَيَّةَ: أَلا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذَا الْمِسْكِينِ حَتَّى مَتَى؟ قَالَ: أَنْتَ أَفْسَدْتَهُ فَأَنْقِذْهُ مِمَّا تَرَى. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَفْعَلُ، عِنْدِي غُلامٌ أَسْوَدُ أَجْلَدُ مِنْهُ، وَأَقْوَى عَلَى دِينِكَ أُعْطِيكَ بِهِ. قَالَ: قَبِلْتُ. قَالَ: هُوَ لَكَ. فَأَعْطَاهُ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غُلامَهُ ذَلِكَ، وَأَخَذَ بِلالا فَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ أَعْتَقَ مَعَهُ عَلَى الإِسْلامِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ مِنْ مَكَّةَ سِتَّ(2/352)
رِقَابٍ: بِلالٌ سَابِعُهُمْ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَقُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا، وَأُمُّ عُمَيْسٍ وَزِنِّيرَةُ فَأُصِيبَ بَصَرُهَا حِينَ أَعْتَقَهَا. فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا أَذْهَبَ بَصَرَهَا إِلا اللاتُ وَالْعُزَّى فَقَالَتْ: كَذَبُوا، وَبَيْتِ اللَّهِ مَا يَضُرُّ اللاتُ وَالْعُزَّى وَلا تَنْفَعَانِ. فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهَا بَصَرَهَا، وَأَعْتَقَ النَّهْدِيَّةَ وَابْنَتَهَا، وَكَانَتْ لامْرَأَةٍ مِنْ بني عبد الدَّار فَمر بهما وَقد بعثهما سَيِّدَتُهُمَا تَطْحَنَانِ لَهَا وَهِيَ تَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أُعْتِقُكُمَا أَبَدًا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حِلا يَا أُمَّ فُلانٍ. قَالَتْ: حِلا أَنْتَ أَفْسَدْتَهُمَا فَأُعْتِقُهُمَا قَالَ: فَبِكَمْ هُمَا. قَالَتْ: بِكَذَا وَكَذَا. قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُمَا وَهُمَا حُرَّتَانِ ارْجِعَا إِلَى طَحْنِهَا. قَالَتَا: أَوْ نُفْرِغُ مِنْهُ يَا أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ نَرُدُّهُ عَلَيْهَا. قَالَ: أَوْ ذَلِكَ إِنْ شِئْتُمَا. وَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِجَارِيَةٍ مِنْ بَنِي نَوْفَلٍ - حَيٍّ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ - وَكَانَتْ مُسْلِمَةً وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُعَذِّبُهَا وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ، وَهُوَ يَضْرِبُهَا حَتَّى إِذَا مَلَّ قَالَ: إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكِ. إِنِّي لَمْ أَتْرُكْكِ إِلا مَلالَةً، فَعَلَ اللَّهُ بِكِ. وَتَقُولُ: كَذَلِكَ فَعَلَ اللَّهُ بِكَ، فَابْتَاعَهَا أَبُو بَكْرٍ فَأَعْتَقَهَا. فَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَهُوَ يَذْكُرُ بِلالا وَأَصْحَابَهُ، وَمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْبَلاءِ، وَإِعْتَاقِ أَبِي بَكْرٍ إِيَّاهُمْ وَكَانَ اسْمُ أَبِي بَكْرٍ عَتِيقًا:(2/353)
(جَزَى اللَّهُ خَيْرًا عَنْ بِلالٍ وَصَحْبِهِ ... عَتِيقًا، وأخزى فَاكِهًا وَأَبَا جَهْلِ)
(عَشِيَّةَ هَمَّا فِي بِلالٍ بِسَوْءَةٍ ... وَلَمْ يَحْذَرَا مَا يَحْذَرُ الْمَرْءُ ذُو الْعَقْلِ)
(بِتَوْحِيدِهِ رَبَّ الأَنَامِ وَقَوْلِهِ ... شَهِدْتُ بِأَنَّ اللَّهِ رَبِّي عَلَى مَهْلِ)
(فَإِنْ تَقْتُلُونِي تَقْتُلُونِي وَلَمْ أَكُنْ ... لأُشْرِكَ بِالرَّحْمَنِ مِنْ خِيفَةِ الْقَتْلِ)
(فَيَا رَبَّ إِبْرَاهِيمَ، وَالْعَبْدِ يُونُسَ ... وَمُوسَى، وَعِيسَى نَجِّنِي ثُمَّ لَا تَمَلْ)
(لِمَنْ ظَلَّ يَهْوَى الغي من آل غَالب ... على غير بر كَانَ مِنْهُ وَلَا عدل)
قَالَ: قَوْله: حنانا، أَي لأدعون لَهُ بِالرَّحْمَةِ ولأترحمن عَلَيْهِ. وَقَوله: حلا، أَي قولي: إِلَّا من يَشَاء الله. فَقَالَت: حلا: أَي: إِلَّا أَن يَشَاء الله، وَحل كلمة اسْتثِْنَاء.
فصل
312 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيُّ الْحَافِظُ، أَنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ نَاصِرٍ الْعَاصِمِيُّ، نَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْبُجَيْرِيُّ، نَا أَبُو حَفْصٍ الْبُجَيْرِيُّ، نَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، نَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ امْرَأَةً أَتَت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَسْأَلُهُ فَقَالَ لَهَا: ارْجِعِي إِلَيَّ(2/354)
فَقَالَتْ: إِنْ رَجَعْتُ فَلَمْ أَجْدِكَ - تُعَرِّضُ بِالْمَوْتِ. قَالَ: " إِنْ رَجَعْتِ فَلَمْ تَجِدِينِي فَالْقَيْ أَبَا بَكْرٍ ".
313 - رَوَاهُ الْفَضْلُ بْنُ جُبَيْرٍ الْوَرَّاقُ نَا يحيى بن كثير، عَن عَطاء ابْن السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَسْأَلُهُ شَيْئًا فَقَالَ لَهَا: " تَعُودِينَ ". فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ جِئْتُ وَلَمْ أَجِدْكَ - كَأَنَّهَا تُعَرِّضُ بِالْمَوْتِ - قَالَ: " إِنْ جِئْتِ وَلَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ فَهُوَ الْخَلِيفَةُ بَعْدِي ".
أَخْبَرَنَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَنا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيْهِ، نَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ، نَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْجُعْفِيُّ، نَا الْفَضْلُ بْنُ جُبَيْرٍ الْوَرَّاقُ بِالْحَدِيثِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَاللَّفْظَةُ الأَخِيرَةُ فِيهِ تَفَرَّدَ بِهِ الْفَضْلُ بْنُ جُبَيْرٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
314 - وَمِنْ غَرَائِبِ مَا جَاءَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ ابْن إِبْرَاهِيمَ أَنا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيْهِ، نَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ، نَا عُبَيْدُ بْنُ كَثِيرٍ العامري(2/355)
نَا يَحْيَى بْنُ حَسَنِ بْنِ فُرَاتٍ الْقَزَّازُ، وَحَرْبُ بْنُ الْحَسَنِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْجُنَيْدِ قَالُوا: نَا عَامِرُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ الْمُنْذِرِ، عَنِ الأَصْبَغِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَسْعُودٍ الْعَبْدِيُّ، عَنْ أَبِي الْجَارِيَةِ الْعَبْدِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَنْ يَلِي الأَمْرَ بَعْدَكَ؟ قَالَ: " أَبُو بَكْرٍ ".
315 - وَأَخْبَرَنَا سُلَيْمَان بن إِبْرَاهِيم، أَنا أَبُو بكر بن مرْدَوَيْه، نَا أَحْمَد بن مُحَمَّد بن زِيَاد الْقطَّان، نَا أَبُو يَحْيَى جَعْفَر بن مُحَمَّد الزَّعْفَرَانِي، نَا عَمْرو ابْن رَافع البَجلِيّ، نَا بشار بن قِيرَاط، عَن أَبِي مصلح، عَن الضَّحَّاك فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثا} . قَالَ: أسر النَّبِي إِلَى عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَن الْخَلِيفَة بعدِي أَبُو بكر.
316 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو بكر بن مرْدَوَيْه، نَا مُحَمَّد بن عبد الله ابْن إِبْرَاهِيم، نَا عبد الله بن أَحْمَد بن حَنْبَل، نَا عَليّ بن جَعْفَر بن زِيَاد الْأَحْمَر نَا أَبُو بكر(2/356)
بن عَيَّاش، عَن الْأَعْمَش، عَن حبيب بن أَبِي ثَابت: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزوَاجه حَدِيثا} . قَالَ: ذكر لَهَا، " أَن أَبَاك وأباها يليان الْأَمر بعدِي ".
فصل
317 - أَخْبَرَنَا سُلَيْمَان بن إِبْرَاهِيم، أَنا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيْهِ، نَا أَحْمَدُ ابْن كَامِل، نَا عَليّ بن حَمَّاد بن السكن، نَا أَبُو النَّضر هَاشم بن الْقَاسِم، نَا حَمْزَة ابْن الْمُغيرَة، عَن أَبِي صَالح، عَن أَبِي الْعَالِيَة فِي قَوْله: {اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم} قَالَ: هُوَ مُحَمَّد وصاحباه. قَالَ: فَذَكرنَا لِلْحسنِ بن أَبِي الْحسن فَقَالَ: صدق أَبُو الْعَالِيَة ونصح.
وَقَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو بكر بن مرْدَوَيْه، نَا أَحْمَد بن الْحسن بن أَيُّوب، نَا مُحَمَّد بن زَكَرِيَّاء، نَا مُسلم بن إِبْرَاهِيم نَا مبارك بن فضَالة، عَن الْحسن، قَالَ: " وَالله لقد نزلت خلَافَة أَبِي بكر من السَّمَاء ".
قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو بكر بن مرْدَوَيْه، نَا أَحْمَد بن جَعْفَر بن أَحْمد، نَا عمر ابْن(2/357)
أَحْمَد بن بشر الْبَغْدَادِيّ، نَا أَحْمَد بن مَنْصُور، عَن عمار بن عبد الْجَبَّار نَا الْمُبَارك بن فضَالة، عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة قَالَ: مَا كَانَ من أحد من النَّاس يكْتب إِلَى أَبِي بكر الصّديق إِلَّا إِلَى خَليفَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَمَا كَانَ الله ليجمعهم عَلَى الْكَذِب.
قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو بكر بن مرْدَوَيْه، نَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم نَا أَحْمد ابْن إِسْحَاق الْجَوْهَرِي، نَا الزبير بن بكار، نَا مطرف بن عبد الله الْمدنِي عَن مَالك بن أنس قَالَ: قَالَ لي هَارُون الرشيد - أَمِير الْمُؤمنِينَ - يَا مَالك: صف لي قرب أبي بكر وَعمر من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقلت لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قربهما مِنْهُ فِي حَيَاته كقربهما مِنْهُ فِي وَفَاته. فَقَالَ: شفيتني يَا مَالك.
فصل
318 - أَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ، أَنا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْمُسْلِمَةِ نَا الْمُخَلِّصُ، نَا ابْنُ بِنْتِ مَنِيعٍ، نَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُفْيَان الوَاسِطِيّ،(2/358)
عَن ابْن جريح، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قَالَ رَآنِي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمْشِي أَمَامَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: " يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ أَتَمْشِي أَمَامَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؟ مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَلا غَرَبَتْ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّينَ، وَالْمُرْسَلِينَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ ".
319 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ، أَنا أَبُو الْقَاسِم عبد الْعَزِيز على السكرِي نَا أَبُو ظَاهر الْمُخَلِّصُ، نَا أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الْحَضْرَمِيُّ، نَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الْمُكْتِبُ، نَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ يَتَجَلَّى لِلنَّاسِ عَامَّةً، وَيَتَجَلَّى لأَبِي بَكْرٍ خَاصَّةً ".
320 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا وَالِدي، أَنا أَبُو عَليّ الْحسن ابْن مُحَمَّدِ بْنِ النَّصْرِ، نَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُمْرَانَ الرَّقِّيُّ قَدِمَ أَصْفَهَانَ، نَا سَعِيدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الأُمَوِيُّ نَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: خرج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْمَسْجِدِ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَمِينِهِ، وَعُمَرُ عَنْ يَسَارِهِ فَقَالَ: " هَكَذَا نُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".(2/359)
فصل
أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنا وَالِدي، أَنا أَحْمَد بن مُحَمَّد بن يَحْيَى الْبَزَّاز، نَا عبد الرَّحْمَن بن بشر بن الحكم، نَا سُفْيَان، عَن خَالِد بن سَلمَة، عَن الشّعبِيّ، عَن مَسْرُوق بن الأجدع قَالَ: حب أَبِي بكر وَعمر وَمَعْرِفَة فضلهما من السّنة.
أَخْبَرَنَا أَحْمَد بن عَليّ بن الْحُسَيْن، أَنا هبة الله بن الْحسن، أَنا إِسْمَاعِيل بن الْحسن، نَا الْحُسَيْن بن أَحْمَد بن صَدَقَة، نَا مُحَمَّد إِسْرَائِيل الْجَوْهَرِي، نَا الْوَلِيد بن الْفضل، حَدَّثَنِي عبد الْعَزِيز بن جَعْفَر اللؤْلُؤِي قَالَ: قلت لِلْحسنِ حب أَبِي بكر وَعمر سنة. قَالَ: لَا فَرِيضَة.
321 - أَخْبَرَنَا أَبُو المظفر السَّمْعَانِيّ، نَا عبد الصَّمد بن عَليّ الْهَاشِمِي نَا(2/360)
الدَّارَقُطْنِيُّ، نَا أَبُو جَعْفَرٍ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلَاء الْكَاتِب، حَدثنِي عمي أَحْمد ابْن عُمَرَ بْنِ الْعَلاءِ، نَا عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ يُعْرَفُ بِالْكُرْدِيِّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْن الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنْ أَمِنَ النَّاسُ عَلَيْنَا فِي صُحْبَتِهِ، وَذَاتِ يَدِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَحُبُّهُ، وَشُكْرُهُ وَحِفْظُهُ وَاجِبٌ عَلَى أُمَّتِي ".
أَخْبَرَنَا أَبُو المظفر السَّمْعَانِيّ، نَا عبد الصَّمد بن عَليّ الْهَاشِمِي، نَا الدراقطني نَا أَبُو بكر بن أبي سعيد الْبَزَّاز، نَا مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن خَلاد أَبُو العيناء.
وَأخْبرنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقْرِي أَنا هِبَةُ اللَّهِ بن الْحسن، نَا عَليّ بن مُحَمَّد ابْن أَحْمَد بن يَعْقُوب، أَنا أَحْمَد بن مُحَمَّد بن أَبِي سَعْدَان الْبَغْدَادِيّ نزيل الرّيّ نَا أَبُو العيناء مُحَمَّد ابْن الْقَاسِم، نَا مُحَمَّد بن خَالِد بن عَثْمَة، عَن مَالك ابْن أنس قَالَ: كَانَ السّلف يعلمُونَ أولدهم حب أَبِي بكر، وَعمر كَمَا يعلمُونَ السُّورَة من الْقُرْآن.(2/361)
فصل
322 - أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَنا أَبُو بكر بن مردوية، نَا عبد الرَّحْمَن ابْن مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سِيَاهٍ، نَا مُحَمَّدُ بن مُوسَى الْحلْوانِي، نَا أَبُو بكر بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُمَرِيُّ، نَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ عَنْ رَبَاحِ بْنِ أَبِي مَعْرُوفٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ لَا يَبْقَى فِيهَا أَهْلُ دَار وَلَا غرفَة إِلَّا قَالُوا: مرْحَبًا مَرْحَبًا، إِلَيْنَا إِلَيْنَا ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا تَوِيَ هَذَا الرَّجُلُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ؟ قَالَ: " أَجَلْ يَا أَبَا بَكْرٍ، وَأَنْتَ هُوَ ".
قيل: توى: ضَاعَ، وخسر، وَرُوِيَ مَا توى بِفَتْح الْوَاو.
323 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو بكر بن مرْدَوَيْه، نَا أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن سُلَيْمَانَ الْمَالِكِيُّ، نَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمُضَرِيُّ، نَا ابْنُ عَائِشَةَ، نَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا صَحِبَ الْمُرْسَلِينَ أَجْمَعِينَ، وَلا صَاحِبَ يَاسِينَ - يَعْنِي نَفْسَهُ - أَفْضَلُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ".(2/362)
فصل
324 - أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدٌ السَّرَّاجُ الْمُقْرِي بِبَغْدَادَ، أَنا أَبُو الْقَاسِمِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ الْحَافِظُ، أَنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ، نَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى السَّاجِيُّ، نَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّد ابْن عمرَان ابْن مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، نَا أَبِي قَالَ: قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ ابْن عِمْرَانَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ. قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَن عَائِشَة زوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَتْ: خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - يُرِيد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَقِيَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَقَدْتَ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِكَ، واتهموك بِالْعَيْبِ لآبائها، وأديانها. فَقَالَ الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ". فَلَمَّا فرغ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَمَا بَين الأخشبين أَكثر من سُرُورًا بِإِسْلامِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَمَضَى أَبُو بَكْرٍ فَرَاحَ بِعُثْمَانَ، وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَأَسْلَمُوا وَجَاءَ مِنَ الْغَدِ بِعُثْمَانَ بن مَظْعُون، وَأبي(2/363)
عُبَيْدَة ابْن الْجَرَّاحِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الأَسَدِ، وَالأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الأَرْقَمِ فَأَسْلَمُوا. قَالَتْ: فَلَمَّا أَنِ اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانُوا تِسْعَةً وَثَلاثِينَ رَجُلا أَلَحَّ أَبُو بَكْرٍ على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الظُّهُورِ فَقَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّا قَلِيلٌ "، فَلَمْ يَزَلْ يُلِحُّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى ظهر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَتَفَرَّقَ الْمُسْلِمُونَ فِي نَوَاحِي الْمَسْجِدِ، وَكُلُّ رَجُلٍ مَعَهُ عَشِيرَتُهُ، وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - خَطِيبًا، وَرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَالِسٌ، وَكَانَ أَوَّلَ خَطِيبٍ دَعَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى رَسُولِهِ، وَثَارَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ يَضْرِبُونَهُمْ فِي نَوَاحِي الْمَسْجِدِ ضَرْبًا شَدِيدًا وَوُطِئَ أَبُو بَكْرٍ، وَضُرِبَ ضَرْبًا شَدِيدًا وَدَنَا مِنْهُ الْفَاسِقُ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِنَعْلَيْنِ مَخْصُوفَيْنِ وَيُحَرِّفُهُمَا لِوَجْهِهِ، وَأَثَّرَ عَلَى وَجْهِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى مَا يُعْرَفُ أَنْفُهُ مِنْ وَجْهِهِ وَجَاءَتْ بَنُو تَيْمٍ تَتَعَادَى فَأَجْلَوُا الْمُشْرِكِينَ(2/364)
عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَحَمَلُوا أَبَا بَكْرٍ فِي ثَوْبٍ حَتَّى أَدْخَلُوهُ، وَلا يَشُكُّونَ فِي مَوْتِهِ، وَرَجَعَتْ بَنُو تَيْمٍ فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ مَاتَ أَبُو بَكْرٍ لَنَقْتُلَنَّ عُتْبَةَ، وَرَجَعُوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَجَعَلَ أَبُو قُحَافَةَ وَبَنُو تَيْمٍ يُكَلِّمُونَ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَتَّى أَجَابَهُمْ فَتَكَلَّمَ آخِرَ النَّهَارِ: مَا فَعَلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَنَالُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَعَذَلُوهُ وَقَالُوا لأُمِّ الْخَيْرِ بِنْتِ صَخْرٍ: انْظُرِي أَنْ تُطْعِمِيهِ شَيْئًا أَوْ تَسْقِيهِ إِيَّاهُ، فَلَمَّا خَلَتْ بِهِ، وَأَلَحَّتْ جَعَلَ يَقُولُ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِي عِلْمٌ بِصَاحِبِكَ. قَالَ: اذْهَبِي إِلَى أُمِّ جَمِيلٍ بِنْتِ الْخَطَّابِ فَسَلِيهَا عَنْهُ، فَخَرَجَتْ حَتَّى جَاءَتْ أُمَّ جَمِيلٍ فَقَالَتْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ يَسْأَلُكِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَتْ: مَا أَعْرِفُ أَبَا بَكْرٍ، وَلا مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَإِنْ تُحِبِّي أَنْ أَمْضِيَ مَعَكِ إِلَى ابْنِكِ فَعَلْتُ. قَالَتْ: نَعَمْ. فَمَضَتْ مَعَهَا حَتَّى وَجَدَتْ أَبَا بَكْرٍ صَرِيعًا دَنِفًا، فَرَنَّتْ أم جمل وَأَعْلَنَتْ بِالصِّيَاحِ وَقَالَتْ: إِنَّ قَوْمًا نَالُوا مِنْكَ هَذَا لأَهْلُ فِسْقٍ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَنْتَقِمَ اللَّهُ لَكَ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَتْ: هَذِهِ أُمُّكَ تَسْمَعُ. قَالَ: فَلا عَيْنَ عَلَيْكِ مِنْهَا. قَالَتْ: سَالِمٌ صَالِحٌ. قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَتْ فِي دَارِ الأَرْقَمِ. قَالَ: فَإِنَّ الله عَلَيَّ الْبَتَّةَ لَا أَذُوقُ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا أَو آتِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَأَمْهِلْنَا حَتَّى إِذَا هَدَأَّتُ الرَّجُلَ، وَسَكَنَ النَّاسُ خرجا بِهِ(2/365)
يتكئ عَلَيْهِمَا حَتَّى دخل على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: فانكب عَلَيْهِ فَقبله وأكب عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ ورق رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَقَّةً شَدِيدَةً، وَرَقَّ الْمُسْلِمُونَ رَقَّةً شَدِيدَةً. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، لَيْسَ بِي إِلا مَا نَالَ الْفَاسِقُ مِنْ وَجْهِي. هَذِهِ أُمِّي بَرَّةٌ بِوَلَدِهَا، وَأَنْتَ مُبَارَكٌ فَادْعُهَا إِلَى اللَّهِ، وَادْعُ اللَّهَ لَهَا أَنْ يَسْتَنْقِذَهَا بِكَ مِنَ النَّارِ، فَدَعَا لَهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ثُمَّ دَعَاهَا إِلَى اللَّهِ فَأَسْلَمَتْ، فَأَقَامُوا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ذَلِكَ شَهْرًا وَهُمْ تِسْعَةٌ وَثَلاثُونَ رَجُلا، وَكَانَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَسْلَمَ يَوْمَ ضُرِبَ أَبُو بَكْرٍ وَدَعَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، فَأَصْبَحَ عُمَرُ، وَكَانَتِ الدَّعْوَةُ يَوْمَ الأَرْبَعَاءِ فَأَسْلَمَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَكَبَّرَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَهْلُ الْبَيْتِ تَكْبِيرَةً سُمِعَتْ بِأَعْلَى مَكَّةَ، وَخَرَجَ أَبُو الأرقم وَهُوَ وأعمى كَافِرٌ. فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى مَا تُخْفِي دِينَنَا،(2/366)
وَنَحْنُ عَلَى الْحَقِّ، وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ، فَقَالَ يَا عُمَرُ: " إِنَّا قَلِيلٌ وَقَدْ رَأَيْتَ مَا لَقِينَا ". فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا يَبْقَى مَجْلِسٌ جَلَسْتُ فِيهِ بِالْكُفْرِ إِلا جَلَسْتُ فِيهِ بِالإِيمَانِ. ثُمَّ خَرَجَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ مَرَّ بِقُرَيْشٍ وَهُمْ يَنْظُرُونَ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: زَعَمَ فُلانٌ أَنَّكَ صَبَوْتَ. فَقَالَ عُمَرُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَوَثَبَ الْمُشْرِكُونَ إِلَيْهِ فَوَثَبَ عُمَرُ عَلَى عُتْبَةَ فَبَرَكَ عَلَيْهِ فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ، وَأَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي عَيْنَيْهِ، فَجَعَلَ عُتْبَةُ يَصِيحُ فَتَنَحَّى النَّاسُ عَنْهُ، فَقَامَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَجَعَلَ لَا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ إِلا أَخَذَ شَرِيفَ مَنْ دَنَا مِنْهُ حَتَّى أَحْجَمَ النَّاسُ عَنْهُ، وَاتَّبَعَ الْمَجَالِسَ الَّتِي كَانَ فِيهَا فَأَظْهَرَ الإِيمَانَ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: مَا يُجْلِسُكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. فَوَاللَّهِ مَا بَقِيَ مَجْلِسٌ كُنْتُ أَجْلِسُ فِيهِ بِالْكُفْرِ إِلا أَظْهَرْتُ الإِيمَانَ غَيْرَ هَائِبٍ وَلا خَائِفٍ، فَخرج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَعُمَرُ أَمَامَهُ، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَتَّى طَافَ بِالْبَيْتِ، وَصَلَّى الظُّهْرَ مُعْلِنًا، ثُمَّ انْصَرَفَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى دَارِ الأَرْقَمِ، وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعَهُ.
فصل فِي ذكر مَا رُوِيَ عَن عَليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأهل الْبَيْت فِي فضل أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -(2/367)
325 - أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيْهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن إِبْرَاهِيم، حَدثنَا أَبُو أَحْمد مُحَمَّد بن مُحَمَّدٌ الشَّطَوِيُّ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ غَسَّانَ التَّمَّارُ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْيَمَامِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْن جَابِرٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أُسَمِّيَ الثَّالِثَ.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ عُمَرَ السَّكُونِيُّ، عَنْ مُحَمَّد بن جَابر عَن مَالك ابْن غَالب مِغْوَلٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنِ الثَّالِثُ؟ قَالَ: عُثْمَانُ.
326 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مردوية، حَدثنِي مُحَمَّد بن عبد الله ابْن سَعِيدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ مُوسَى عَنْ عَاصِمٍ قَالَ: قُلْتُ لِزِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ: مَا عَنَى بِالثَّالِثِ؟ فَقَالَ زِرٌّ: كَانَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ، وَأَقْرَأَ لِكِتَابِ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ(2/368)
وَأَعْلَمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ عَلَى مِنْبَرِ الْمُسْلِمِينَ - يَعْنِي نَفْسَهُ - وَلَكِنْ عَنَى بِالثَّالِثِ: عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ.
327 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مردوية، حَدثنَا سُلَيْمَان بن أَحْمد حَدثنَا الْحسن بن مَنْصُور الرمالي، وَأَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الْعَتَكِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: بَلَغَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ أَقْوَامًا يُفَضِّلُونَهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ قَوْمًا يُفَضِّلُونِّي عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَلَوْ كُنْتُ تَقَدَّمْتُ فِيهِ لَعَاقَبْتُ مِنْهُ، فَمَنْ سَمِعْتُهُ بَعْدَ الْيَوْمِ يَقُولُ هَذَا فَهُوَ مُفْتَرٍ عَلَيْهِ حَدُّ الْمُفْتَرِي، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا: أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالْخَبَرِ بَعْدُ. قَالَ: وَفِي الْمَجْلِسِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: وَاللَّهُ لَوْ سَمَّى الثَّالِثَ لَسَمَّى عُثْمَانَ.
328 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيْهِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن نصر الصبعي، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الاحْتِيَاطِيُّ حَدَّثَنَا أَصْبَغُ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ السّديّ عَن(2/369)
عَبْدِ خَيْرٍ صَاحِبِ لِوَاءِ عَلِيٍّ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَوَّلِ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا؟ فَقِيلَ لَهُ: بَلَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ قِيلَ: فَيَدْخُلانِهَا قَبْلَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِي وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَيَدْخُلَنَّهَا قَبْلِي، وَلَيَشْبَعَانِ مِنْ ثِمَارِهَا وَلَيَرْوِيَانِ مِنْ أَنْهَارِهَا وَإِنِّي لَمَعَ مُعَاوِيَةَ مَوْقُوفٌ فِي الْحِسَابِ.
329 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيْهِ، حَدثنِي مُحَمَّد بن مُحَمَّد ابْن أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِي بِالْبَصْرَةِ حَدَّثَنَا أَبُو شُعَيْب الْحَرَّانِي، حَدثنَا يزِيد ابْن مُرَّةَ الْحِمْصِيُّ أَبُو مُرَّةَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ فَيَبْلُغُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِكَ فَلا يُنْكِرُ.(2/370)
330 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيْهِ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُثْمَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ مُكْرَمٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهُوَيْهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَكَانَ رَئِيسَ الشِّيعَةِ يَقُولُ: أَنَا إِلَى تَصْدِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَحْوَجُ مِنِّي إِلَى تكذبيه، قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أَفْضَلُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ".
331 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيْهِ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بن مُحَمَّد ابْن سُلَيْمَانَ الْمَالِكِيُّ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّخَعِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذلِيّ عَن الْحسن ابْن أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَدَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا بَكْرٍ فَصَلَّى بِالنَّاسِ، وَإِنِّي لَشَاهِدٌ غَيْرُ غَائِبٍ، وَإِنِّي لَصَحِيحٌ غَيْرُ مَرِيضٍ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُقَدِّمَنِي لَقَدَّمَنِي فَرَضِينَا لِدُنْيَانَا مَنْ رَضِيَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لِدِينِنَا.
332 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيْهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عبد الله بن زراره، حَدثنِي مُحَمَّد ابْن(2/371)
عُمَرَ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ الْعَمِّيُّ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بن سُلَيْمَان عَن إِسْمَاعِيل ابْن أُمَيَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: خَرَجَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَدْ أَبْطَأَ بَعْضَ الإِبْطَاءِ وَالنَّاسُ فِرَقٌ يَتَكَلَّمُونَ، وَقَدْ بَايَعُوا لأَبِي بَكْرٍ فَأَقْبَلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَيْهِمْ بِصَوْتِهِ حَتَّى أَنْصَتُوا فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّكُمْ يُؤَخر من قدم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: فَجَاءَ بِكَلِمَةٍ لَمْ يَأْتِ بِهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ.
فصل
أَخْبَرَنَا سُلَيْمَان بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيْهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد ابْن أَحْمَد بن مُحَمَّد بن عَليّ، حَدَّثَنَا أَبُو عوَانَة مُوسَى بن يُوسُف، حَدَّثَنَا مُحَمَّد ابْن عَليّ بن خلف الْعَطَّار، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن عَمْرو، حَدَّثَنَا الْحَارِث الْخصاف عَن جَعْفَر الْأَحْمَر عَن أَبِي الْجَارُود قَالَ: قَالَت الرافضة لزيد بن عَليّ إبرأ من أَبِي بكر، وَعمر يضْرب مَعَك مائَة ألف سيف. فَقَالَ: لَا وَالله، وَلَكِن أتولاهما، وَأَبْرَأ مِمَّن يبرءا مِنْهُمَا:(2/372)
فصل فِي قَول جَعْفَر بن مُحَمَّد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أَخْبَرَنَا أَبُو المظفر السَّمْعَانِيّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْغَنَائِم بن الْمَأْمُون حَدَّثَنَا الدَّارَقُطْنِيّ، حَدَّثَنَا أَبُو بكر أَحْمَد بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْآدَمِيّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد ابْن الْحُسَيْن الْحُسَيْنِي، حَدَّثَنَا عبد الْعَزِيز مُحَمَّد الْأَزْدِيّ، حَدَّثَنَا جَعْفَر بن غياث قَالَ: سَمِعت جَعْفَر بن مُحَمَّد يَقُول: مَا أَرْجُو من شَفَاعَة عَليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَيْئا إِلَّا أَرْجُو من شَفَاعَة أَبِي بكر مثله. وَلَقَد ولدني مرَّتَيْنِ.
قَالَ الشَّيْخ: معنى قَوْله ولدني مرَّتَيْنِ: أَن أَبَا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جده من وَجْهَيْن: لِأَن أم جَعْفَر بن مُحَمَّد هِيَ أم فَرْوَة بنت الْقَاسِم بن مُحَمَّد ابْن أَبِي بكر الصّديق، وَأم أم فَرْوَة هِيَ: أَسمَاء بنت عبد الرَّحْمَن بن أَبِي بكر الصّديق، فَأَبُو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جده من وَجْهَيْن.(2/373)
فصل قَول أَبِي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أَخْبَرَنَا أَبُو المظفر، حَدَّثَنَا ابْن الْمَأْمُون، حَدَّثَنَا الدَّارَقُطْنِيّ، حَدَّثَنَا عَليّ ابْن عبد الله بن الْفضل بِمصْر، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بن شريك، حَدَّثَنَا عقبَة ابْن مكرم حَدَّثَنَا يُونُس بن بكير عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن أَبِي جَعْفَر مُحَمَّد ابْن عَلَى قَالَ: من لم يعرف فضل أَبِي بكر، وَعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقد جهل السّنة.
فصل قَول عَليّ بن الْحُسَيْن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أَخْبَرَنَا أَبُو المظفر، أَخْبَرَنَا ابْن الْمَأْمُون، حَدَّثَنَا الدَّارَقُطْنِيّ، حَدَّثَنَا أَبُو بكر الْآدَمِيّ مُحَمَّد بن جَعْفَر الْقَارِي، حَدَّثَنَا أَبُو العينا حَازِم عَن أَبِيه قَالَ:(2/374)
سَأَلت عَليّ بن الْحُسَيْن عَن أَبِي بكر وَعمر - رضى الله عَنْهُم -، ومنزلتهما من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: كمنزلتهما الْيَوْم، هما ضجيعاه.
فصل
أَخْبَرَنَا أَبُو المظفر، أَخْبَرَنَا أَبُو الغنايم، أَخْبَرَنَا الدَّارَقُطْنِيّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد ابْن مخلد، حَدَّثَنَا أَحْمَد بن عَليّ بن زِيَاد، حَدَّثَنَا عَليّ بن الْجَعْد، أَخْبَرَنَا زُهَيْر ابْن مُعَاوِيَة عَن أَبِيه قَالَ: كَانَ لي جَار يزْعم أَن جَعْفَر بن مُحَمَّد يبرأ من أَبِي بكر وَعمر - رَضِيَ الله عَنْهُم -، فَغَدَوْت عَلَى جَعْفَر فَقلت لَهُ: إِن لي جارا يزْعم أَنَّك تتبرأ من أَبِي بكر وَعمر فَمَا تَقول أَنْت؟ فَقَالَ: بَرِيء الله من جَارك إِنِّي أَرْجُو أَن يَنْفَعنِي الله بِقَرَابَتِي من أَبِي بكر الصّديق، وَلَقَد اشتكيت شكاة، فأوصيت فِيهَا إِلَى خَالِي عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أَبِي بكر.
وَأَخْبَرَنَا أَبُو المظفر، أَخْبَرَنَا عبد الصَّمد بن عَليّ العباسي، حَدَّثَنَا الدَّارَقُطْنِيّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن أَحْمَد بن يَعْقُوب بن شيبَة، حَدَّثَنَا جدي، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّان مَالك بن إِسْمَاعِيل، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن عمر الْأنْصَارِيّ، حَدَّثَنَا كثير ابْن(2/375)
إِسْمَاعِيل قَالَ: قلت لأبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ: وَسَأَلت عَن أَبِي بكر وَعمر فَقَالَ: بغض أَبِي بكر وَعمر نفاق، وبغض الْأَنْصَار نفاق يَا كثير، من شكّ فيهم فقد شكّ فِي السّنة، تولاهما فَمَا أَصَابَك فَفِي عنقِي.
وَعَن حَكِيم بن جُبَير. قَالَ سَأَلت أَبَا جَعْفَر عَن من ينتقص أَبَا بكر وَعمر فَقَالَ: أُولَئِكَ المراق.
وَقَالَ فُضَيْل بن مَرْزُوق: قَالَ زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن: أما أَنا فَلَو كنت مَكَان أَبِي بكر لحكمت مثل مَا حكم بِهِ أَبُو بكر فِي فدك.
وَعَن هَاشم بن الْبَرِيد أَن زيد بن عَليّ قَالَ لَهُ: يَا هَاشم اعْلَم وَالله أَن الْبَرَاءَة من أَبِي بكر وَعمر هِيَ الْبَرَاءَة من عَليّ، فَإِن شِئْت فَتقدم، وَإِن شِئْت فَتَأَخر.(2/376)
وَقَالَ زيد بن عَليّ: أَبُو بكر إِمَام الشَّاكِرِينَ ثمَّ قَرَأَ: {وسنجزي الشَّاكِرِينَ} وَعَن عُرْوَة بن عبد الله قَالَ: قلت لأبي جَعْفَر: تسمي أَبَا بكر الصّديق؟ فَقَالَ سَمَّاهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصّديق، فَمن لم يسمه الصّديق فَلَا صدق الله قَوْله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وَقَالَ الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة: يَا أهل الْكُوفَة، اتَّقوا الله، وَلَا تَقولُوا فِي أَبِي بكر وَعمر مَا ليسَا لَهُ بِأَهْل. إِن أَبَا بكر الصّديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَانِي اثْنَيْنِ، وَإِن عمر أعز الله بِهِ الدّين.
وَقَالَ أَبُو خَالِد الْأَحْمَر: سَأَلت عبد الله بن حسن عَن أَبِي بكر، وَعمر فَقَالَ: صلى الله عَلَيْهِمَا، وَلَا صلى عَلَى من لم يصل عَلَيْهِمَا.
قَالَ حَفْص بن قيس: قلت لعبد الله بن الْحسن: يَا أَبَا مُحَمَّد إِن نَاسا يَقُولُونَ: إِن هَذَا مِنْكُم تقية. فَقَالَ لي وَنحن بَين الْقَبْر والمنبر: اللَّهُمَّ إِن هَذَا(2/377)
قولي فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة فَلَا تسمعن قَول أحد بعدِي. ثمَّ قَالَ: هَذَا الَّذِي يزْعم أَن عليا كَانَ مقهورا فَإِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمره بأَمْره فَلم ينفذهُ فَكفى هَذَا إزراء عَلَى عَليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومنقصة أَن يزْعم أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمره بِأَمْر فَلم ينفذهُ.
فصل فِي مَنَاقِب عمر بن الْخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
333 - أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيْهِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَالِكِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَمَانٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا الرَّيَّانُ بْنُ عَامِرِ بْنِ الرَّيَّانِ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ(2/378)
عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ عَم عمار بن يَاسر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: جَاءَ جِبْرِيل إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا جِبْرِيلُ حَدِّثْنِي بِفَضَائِلِ عُمَرَ فِي السَّمَاءِ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ لَبِثْتُ فِيكُمْ مَا لَبِثَ نُوحٌ فِي قَوْمِه أحَدثك بفضائل عمر فِي السَّمَاء لما نفذت، وَإِنَّ عُمَرَ لَحَسَنَةٌ مِنْ حَسَنَاتِ أَبِي بَكْرٍ ".
334 - وَأَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيْهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّباح، حَدثنَا مُحَمَّد ابْن رزق الله، حَدثنَا حبيب بن أبي الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ الأَسْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كَانَ جِبْرِيلُ يُذَاكِرُنِي أَمْرَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ: اذْكُرْ لِي فَضَائِلَ عُمَرَ، وَمَاذَا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ. فَقَالَ: لَوْ جَلَسْتُ مَعَكَ مَا جَلَسَ نُوحٌ فِي قَوْمِهِ مَا بَلَغْتُ فَضَائِلَ عُمَرَ وَلَيَبْكِيَنَّ الإِسْلامُ بَعْدَ مَوْتِكَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى عُمَرَ ".
335 - أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بن مرْدَوَيْه، حَدَّثَنَا مُحَمَّد ابْن الْحَسَنِ النَّقَّاشُ الْمُقْرِي، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ اللَّيْثِ الْأَنْطَاكِي، حَدثنَا مُحَمَّد ابْن(2/379)
مُهَاجِرٍ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الأَزْرَقُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا مِنْ آدَمِيٍّ إِلا وَفِي سُرَّتِهِ مِنْ تُرْبَتِهِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا، وَإِنِّي أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ خُلِقْنَا مِنْ تُرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِيهَا نَعُودُ ".
336 - أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْفضل ابْن مُحَمَّدٍ الْقَيْسِيُّ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبَانٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلا وَقَدْ ثُرِيَ عَلَيْهِ مِنْ تُرَابٍ حَفَرْتُهُ ".
قَالَ أَبُو عَاصِم: مَا نجد فَضله لأبي بكر وَعمر أنبل من هَذَا الحَدِيث لِأَن طينتيهما من طِينَة رَسُول الله
، وَمَعَهُ دفنا.
337 - وَأَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بن مردوية، حَدثنَا أَحْمد ابْن كَامِلٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْجُعْفِيُّ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ جُبَيْرٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: مرَّ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -(2/380)
بِرَجُلٍ وَهُوَ يُكَلِّمُ امْرَأَةً فَعَلاهُ بِالدِّرَّةِ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهَا امْرَأَتِي. قَالَ: هَا فَاقْتَصَّ. قَالَ: قَدْ غَفَرْتُ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: لَيْسَ مَغْفِرَتُهَا بِيَدِكَ وَلَكِنْ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَعْفُوَ فَاعْفُ. قَالَ: قَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: ثُمَّ مَرَّ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى مَنْزِلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ يَقُولُ: وَيْلُ أُمِّكَ يَا عُمَرُ تَضْرِبُ النَّاسَ وَلا يَضْرِبُونَكَ، وَتَشْتِمُ النَّاسَ وَلا يَشْتِمُونَكَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ. فَقَالَ: لَيْسَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. إِنَّمَا أَنْتَ مُؤَدِّبٌ، وَإِنْ شِئْتَ حَدَّثْتُكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ سَمِعُوا صَوْتَ مُنَادٍ يَهْتِفُ مِنْ نَحْوِ الْعَرْشِ أَلا لَا يَرْفَعَنَّ أَحَدٌ كِتَابَهُ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ".
فصل
338 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيُّ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ نَصْرٍ الْعَاصِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْبُجَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ الْبُجَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِي الله عَنهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، وَإِذِ امْرَأَةٌ تَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَذَكَرْتُ غَيْرَةَ عُمَرَ فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا ". قَالَ(2/381)
أَبُو هُرَيْرَةَ: فَبَكَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَنَحْنُ جَمِيعًا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ مَعَ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَلَيْكَ أَغَارُ.
339 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ البجيري، حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله ابْن عَبْدِ الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَشُعَيْبٍ عَنِ اللَّيْثِ عَنِ ابْنِ الْهَادِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِي سعيد الْخُدْرِيّ أَنه سمع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثَّدْيَ، وَمنا مَا يَبْلُغُ دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بن الْخطاب، وَعَلِيهِ قَمِيص يجره ".
قَالُوا: فماذ أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " الدِّينُ ".
340 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ الْبُجَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن عبد الرَّحْمَن ابْن وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَن حَمْزَة بن عبد الله ابْن عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: " بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ رَأَيْتُ قَدَحًا أُتِيتُ بِهِ فِيهِ لَبَنٌ، فَشَرِبْتُ مِنْهُ حَتَّى إِنِّي لأَرَى الَّذِي يَجْرِي فِي أَظَافِرِي، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ. قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْعِلْمُ ".
فصل
341 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن(2/382)
الْمُسْلِمَةِ، حَدَّثَنَا أَبُو طَاهِرٍ الْمُخَلِّصُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْجُنَيْدِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالُوا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بن شُرَيْح، عَن بكر ابْن عَمْرو بن مشرح ابْن هَاعَانَ الْمَعَافِرِيِّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ ".
342 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا الْمُخَلِّصُ، حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ الْحَقَّ نَزَلَ عَلَى قَلْبِ عُمَرَ وَلِسَانِهِ ".
343 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا الْمُخَلِّصُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.(2/383)
وَأخْبرنَا أَبُو المظفر، حَدثنَا أَبُو الغنايم بْنُ الْمَأْمُونِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَرْبِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّيْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ وَهْبٍ الْعَلافُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الرَّازِيُّ، عَنْ يَعْقُوبَ الْقُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " أَقْرِئْ عُمَرَ السَّلامَ وَأَخْبِرْهُ أَنَّ رِضَاهُ عِزٌّ وَغَضَبَهُ حُكْمٌ ".
فصل
344 - أَخْبَرَنَا أَبُو المظفر السَّمْعَانِيّ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بن أَبِي صَالح الديلمي حَدَّثَنَا أَبُو عمر الْقَاسِم بن جَعْفَر الْهَاشِمِي، حَدَّثَنَا أَحْمَد بن إِسْمَاعِيل حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن غَالب بن حَرْب بن زَكَرِيَّا، حَدَّثَنَا سُفْيَان، حَدَّثَنَا مجَالد عَن الشّعبِيّ عَن قبيصَة بن جَابر قَالَ: صَحِبت عمر بن الْخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَمَا رَأَيْت رجلا أَقرَأ لكتاب الله مِنْهُ، وأفقه فِي دين الله، وَلَا أحسن مدارسة مِنْهُ.
345 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ، أَخْبَرَنَا عبد الصَّمد العباسي، حَدثنَا الدراقطني حَدثنَا أَحْمد بن نصر بن حبشويه الْبُنْدَارُ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى،(2/384)
حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ أَنَّ أَهْلَ نَجْرَانَ أَتَوْا عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالُوا: نُنْشِدُكَ اللَّهَ إِلا أَرْجَعْتَنَا إِلَى أَرْضِنَا فَإِنَّ عُمَرَ أَجْلانَا مِنْهَا. فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِنَّ عُمَرَ كَانَ رَشِيدَ الأَمْرِ لَا أَرُدُّ قَضَاءً قَضَاهُ عُمَرُ.
346 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا الدَّارَقُطْنِيُّ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ الْمُؤَذِّنِ، حَدَّثَنَا سَرِيُّ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ مَخْلَدِ بْنِ قَيْسٍ الْعِجْلِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا قَدِمُوا بِسَيْفِ كِسْرَى وَمِنْطَقَيْهِ، وَزِبْرِجِهِ عَلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: إِنَّ أَقْوَامًا أَدّوا هَذَا لذوا أَمَانَةٍ. فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِنَّكَ عَفَفْتَ فَعَفَّتِ الرَّعِيَّةُ.
مَنَاقِب عُثْمَان بن عَفَّان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
كنيته أَبُو عَمْرو:
347 - قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من يحْفر بِئْر رومة فَلهُ الْجنَّة "، فحفرها عُثْمَان، وَقَالَ: " من جهز جَيش الْعسرَة فَلهُ الْجنَّة فجهزه عُثْمَان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ".(2/385)
348 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيُّ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ نَصْرٍ الْعَاصِمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْبُجَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ الْبُجَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِشْكَابَ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عمر القواريري، حَدثنَا بن زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ أَنَّ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ، حَدَّثَ عَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ حَائِطًا، وَقَالَ " احْفَظِ الْبَابَ فَجَاءَ رَجُلٌ فَاسْتَأْذَنَ، قَالَ: ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، فَخَرَجْتُ فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَاسْتَأْذَنَ قَالَ: ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، فَخَرَجْتُ فَإِذَا عُمَرُ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فَلَبِثَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُنَيْهَةً ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى شَدِيدَةٍ سَتُصِيبُهُ فَأَذِنْتُ لَهُ فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ".
349 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَزَّازُ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عَلِيِّ الْوَزِيرُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَرْمَلَةَ عَنْ عَطَاءٍ وَسُلَيْمَانَ ابْنَيْ يَسَارٍ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِي كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ، أَوْ سَاقَيْهِ فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ يَتَحَدَّثُ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ يَتَحَدَّثُ، ثُمَّ اسْتَأْذن عُثْمَان فَجَلَسَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فسوى ثِيَابه(2/386)
فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تعش لَهُ وَلَمْ تُبَالِ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تعش لَهُ وَلَمْ تُبَالِ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ قَالَ: " أَلا أَسْتَحْيِي مِنْ رَجُلٍ يستحي من الْمَلائِكَةُ ".
350 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْمُسْلِمَةِ، حَدَّثَنَا أَبُو طَاهِرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: نَظَرَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَقَالَ: " شَبِيهُ إِبْرَاهِيمَ صلوَات الله عَلَيْهِ، إِن الْمَلائِكَةَ لَتَسْتَحِي مِنْهُ ".
351 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ، أَخْبَرَنَا الشريف أَبُو الْحُسَيْن مُحَمَّد ابْن عَلِيٍّ الْعَبَّاسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْفَتْحِ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَسْرُوقٍ الْقَوَّاسُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا طَالُوتُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو هِلالٍ الرَّاسِبِيُّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ مُرَّةَ الْبَهْزِيِّ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ:(2/387)
" إِنَّهُ سَتَكُونُ فِتَنٌ كَأَنَّهَا صَيَاصِي بَقَرٍ فَمَرَّ بِنَا رَجُلٌ مُتَقَنِّعٌ، فَقَالَ هَذَا وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْحَقِّ فَذَهَبْتُ وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، فَإِذَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ".
352 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَرْبِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنِي كَهْمَسٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، حَدَّثَنِي هَرِمُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأُسَامَةُ بْنُ خُزَيْمٍ كُلُّ وَاحِدٍ، حَدَّثَنِي عَنْ مُرَّةَ الْبَهْزِيُّ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ قَالَ: " كَيْفَ تَصْنَعُونَ فِي فِتْنَةٍ تَكُونُ فِي أَقْطَارِ الأَرْضِ كَأَنَّهَا صَيَاصِي بَقَرٍ؟ ". قَالُوا: فَنَصْنَعُ مَاذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: " عَلَيْكُمْ بِهَذَا وَأَصْحَابِهِ " قَالَ: فَأَسْرَعْتُ حَتَّى عَطَفْتُ إِلَى الرَّجُلِ. قُلْتُ: هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ. قَالَ: " هَذَا ". فَإِذَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
فصل
353 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الصُّوفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ بْنِ الصَّلْتِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَطِيرِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الطَّائِيُّ، حَدَّثَنَا قُرَيْشُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ أبي نَضرة(2/388)
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدٍ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ الْمِصْرِيُّونَ عَلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضُرِبَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ عَلَى يَدِهِ فَوَقَعَتْ قَطْرَةٌ مِنَ الدَّمِ عَلَى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} فَمَدَّ عُثْمَانُ يَدَهُ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّهَا لأَوَّلُ يَد خلت الْمُفَصَّلَ.
345 - أَخْبَرَنَا الشَّرِيفُ أَبُو نَصْرٍ الزَّيْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن عمر الْوراق حَدثنَا مُحَمَّد السَّرِيِّ التَّمَّارُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِشْكَابَ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خَيْثَمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمر بِالْعَدْلِ وَهُوَ على صِرَاط مُسْتَقِيم} . هُوَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
355 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بن السّري التمار، حَدثنَا مُحَمَّد ابْن عَبْدِ الْمَلِكِ الدَّقِيقِيُّ، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التُّسْتَرِيُّ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ خَبَصَ الْخَبِيصَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ(2/389)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. خَلَطَ بَيْنَ الْعَسَلِ وَالنِّقْيِ، ثمَّ بعث بِهِ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ فِي مَنْزِلِ أُمِّ سَلَمَةَ فَلَمْ يُصَادِفْهُ فَلَمَّا جَاءَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَوَضَعته بَين يَدي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَكَلَهُ فَاسْتَطَابَهُ قَالَ: " مَنْ بَعَثَ بِهَذَا؟ " فَقَالَتْ: عُثْمَانُ فَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: " اللَّهُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ يَتَرَضَّاكَ فَارْضَ عَنْهُ ".
مَنَاقِب عَليّ بن أَبِي طَالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
كنيته أَبُو الْحسن:
356 - قَالَ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - توفّي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ عَنهُ رَاض.
357 - أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ الْعَاصِمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْبُجَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ البجيري، حَدثنَا مُحَمَّد ابْن عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ: إِنْ كَانَتْ أَحَبُّ أَسْمَاءِ عَلِيٍّ إِلَيْهِ أَبُو تُرَابٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ أَنْ نَدْعُوهُ بِهَا، وَمَا سَمَّاهُ أَبَا تُرَاب إِلَّا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: غاضب يَوْمًا(2/390)
فَاطِمَةَ فَخَرَجَ فَاضَّجَعَ إِلَى الْجِدَارِ فِي الْمَسْجِدِ، وَجَاء رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَبْتَغِيهِ فَلَمْ يَجِدْهُ فِي الْبَيْتِ فَقَالَ لِفَاطِمَةَ: " فَأَيْنَ ابْنُ عَمِّكَ؟ " قَالَتْ:: خَرَجَ آنِفًا مُغْضَبًا. فَأمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إنْسَانا مَعَه يبتغيه فَقَالَ هُوَ ذَا مَضْجَع إِلَى فِي الْجِدَارِ، وَقَدْ زَالَ عَنْ رِدَائِهِ فَامْتَلأَ ظَهره تُرَابا فَجعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ وَيَقُولُ: " اجْلِسْ أَبَا تُرَابٍ ".
358 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ الْوَزِيرُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، حَدثنَا دَاوُد ابْن عَمْرٍو الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنَا مُثَنَّى بْنُ زُرْعَةَ أَبُو رَاشِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ سُفْيَانَ الأَسْلَمِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الأَكْوَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: بعث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي قُحَافَةَ الصِّدِّيقَ بِرَايَتِهِ إِلَى بَعْضِ حُصُونِ خَيْبَرَ فَرَجَعَ، وَلَمْ يَكُنْ فتح وَقد جهد، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِفَرَّارٍ ". قَالَ سَلَمَةُ: فَدَعَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَليّ بْن أَبِي طَالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ أرمد فتفل فِي عينينه ثُمَّ قَالَ: " خُذْ هَذِهِ الرَّايَةَ فَامْضِ بِهَا حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ ". قَالَ(2/391)
سَلَمَةُ فَخَرَجَ وَاللَّهِ يُهَرْوِلُ بِهَا هَرْوَلَةً، وَأَنَا أَلْحَقُهُ نَتْبَعُ أَثَرَهُ حَتَّى رَكَزَ رَايَتَهُ فِي رَجْمٍ مِنْ حِجَارَةٍ تَحْتَ الْحِصْنِ فَاطَّلَعَ إِلَيْهِ يَهُودِيٌّ مِنْ رَأْسِ الْحِصْنِ فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ أَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ: يَقُولُ الْيَهُودِيُّ: غَلَبْتُمْ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى أَوْ كَمَا قَالَ، فَمَا رَجَعَ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ: " لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ ".
فصل
359 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْمُسْلِمَةِ، حَدَّثَنَا أَبُو طَاهِرٍ الْمُخَلِّصُ، حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو جَابِرٍ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ فِطْرٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " مَنْ أَحَبَّ عَلِيًّا فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي فَقَدْ أَحَبَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ أَبْغَضَ عَلِيًّا فَقَدْ أَبْغَضَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ".
360 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ الْعَاصِمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْبُجَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو حَفْص البجيري، حَدثنَا زِيَاد(2/392)
ابْن أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: " أُرَاهُمْ يَكْذِبُونَ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، إِنَّ عُبَيْدَةَ حَدَّثَنِي أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لِشُرَيْحٍ: إِنِّي أَكْرَهُ الْخِلافَ فَاقْضُوا كَمَا كُنْتُمْ تَقْضُونَ حَتَّى يَكُونَ جَمَاعَةٌ، أَوْ أَمُوتُ عَلَى الَّذِي مَاتَ عَلَيْهِ صَاحِبِي ".
361 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّرِيفِينِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ حُبَابَةَ، حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: يَهْلِكُ فِيَّ اثْنَانِ؛ عَدُوٌّ مُبْغِضٌ، وَمُحِبٌّ مُفْرِطٌ.
فصل فِي الْحَث عَلَى حب الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم ونسمي محاسنهم والترحم عَلَيْهِم، وَالِاسْتِغْفَار لَهُم والكف عَن مساوئهم(2/393)
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ الرَّازِيُّ يَقُولُ: سَمِعْتُ قَبِيصَةَ بْنَ عُقْبَةَ يَقُولُ: حُبُّ أَصْحَابِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كُلُّهُمْ سُنَّةٌ.
362 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ سَالِمٍ الْبَلْخِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ الْعَمِّيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَدْرَكْتُ أَرْبَعِينَ شَيْخًا مِنَ التَّابِعِينَ كُلُّهُمْ يُحَدِّثُنَا عَن أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَحَبَّ جَمِيعَ أَصْحَابِي وَتَوَلاهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ جَعَلَهُ، اللَّهُ مَعَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْجَنَّةِ ".
قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هبة الله بن الْحسن، أَخْبَرَنَا عمر بن عبد الله بن زَاذَان الْقزْوِينِي، أَخْبَرَنَا عَليّ بن إِبْرَاهِيم بن سَلمَة، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن إِدْرِيس، حَدَّثَنَا عمرَان بن مُوسَى الطرسوسي، حَدَّثَنَا عبد الصَّمد بن يزِيد عَن مُحَمَّد ابْن(2/394)
مقَاتل الْعَبادَانِي، عَن حَمَّاد بن سَلمَة قَالَ: قَالَ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ: من أحب أَبَا بكر الصّديق فقد أَقَامَ الدّين، وَمن أحب عمر فقد أوضح السَّبِيل، وَمن أحب عُثْمَان فقد استنار بِنور الله، وَمن أحب عَليّ بن أَبِي طَالب فقد استمسك بالعروة الوثقى، وَمن قَالَ الْحسنى فِي أَصْحَاب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقد برِئ من النِّفَاق.
363 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ الله بن الْحسن قَالَ: أخبرنَا الْفضل ابْن جَعْفَرِ بْنِ زَنْجَلَةَ الأَصْفَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن جَعْفَر، حَدثنَا هَارُون ابْن سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تَذكرُوا مساويء أَصْحَابِي فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ عَلَيْهِمْ وَاذْكُرُوا مَحَاسِنَ أَصْحَابِي حَتَّى تَتَأَلَّفَ قُلُوبُكُمْ عَلَيْهِمْ ".
364 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُثْمَانَ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا رَجُلٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: لَا تسبوا أَصْحَاب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَمَرَ بِالاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ سَيَقْتَتِلُونَ.
365 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَخْزُومِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَن هِشَام ابْن(2/395)
عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَت: أمروا بالاستغفار لأَصْحَاب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَبُّوهُمْ.
366 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْعَبَّاسِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَاعِدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِمْرَانَ العائذي المَخْزُومِي، حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن سعد عَن عُبَيْدَةَ بْنِ أَبِي رَايِطَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، وَلا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا من بعدِي. من أَحَبَّهُمْ فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَقَدْ أَبْغَضَنِي، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ أَذَى اللَّهُ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ ".
367 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ الْمَدَنِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَنِي وَاخْتَارَ لِي أَصْحَابًا فَجَعَلَ مِنْهُمْ وُزَرَاءَ وَأَنْصَارًا وَأَصْهَارًا، فَمَنْ سَبَّهُمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلا عَدْلا ".(2/396)
قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هبة الله، وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، أَخْبَرَنَا عبد الله ابْن مُحَمَّد بن زِيَاد، حَدَّثَنَا عبد الْملك بن عبد الحميد الْمَيْمُونِيّ قَالَ: سَمِعت أَحْمَد بن حَنْبَل رَحمَه الله يَقُول: مَا لَهُم ولمعاوية؟ أسأَل الله الْعَافِيَة.
وَقَالَ لي: يَا أَبَا الْحسن؟ إِذا رَأَيْت أحدا يذكر أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِسوء فاتهمه عَلَى الْإِسْلَام.
فصل فِي فضل عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَعَن أَبِيهَا
368 - أَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَبُو الْمُظَفَّرِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ ابْن مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الضَّحَّاكِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَفْوَانَ، وَآخَرَ مَعَهُ(2/397)
أَتَيَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا فُلانُ هَلا سَمِعْتَ حَدِيثَ حَفْصَةَ فَقَالَ ابْنُ صَفْوَانَ: وَمَا ذَاكَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَتْ: خِلالٌ فِيَّ تِسْعٌ لَمْ يَكُنْ فِي أَحَدٍ إِلا مَا أَعْطَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَرْيَمَ. وَاللَّهِ مَا أَقُولُ هَذَا أَفْتَخِرُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ صَوَاحِبَاتِي فَقَالَ صَفْوَانُ: وَمَا هُنَّ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَتْ: نَزَلَ الْمَلَكُ بِصُورَتي وَتَزَوَّجنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِسَبْعٍ، وَنُقِلْتُ إِلَيْهِ بِنْتَ تِسْعِ سِنِينَ. وَتَزَوَّجَنِي بِكْرًا لَمْ يَشْرَكْ فِيَّ أَحَدٌ، وَكُنْتُ أَحَبَّ النَّاسَ إِلَيْهِ، وَابْنَةَ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَنَزَلَتْ فِيَّ آيَاتٌ كَادَتِ الأُمَمُ أَنْ تَهْلِكَ فِيهِنَّ، وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وَلَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنْ نِسَائِهِ غَيْرِي، وَقُبِضَ فِي بَيْتِي، وَلَمْ يَلِهِ أَحَدٌ إِلا الْمَلَكُ وَأَنَا.
369 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْغَفَّارِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أبي نصر حَدثنَا أَبُو الشَّيْخ؟ خبرنَا أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ الأُشْنَانِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْوَلِيد، حَدثنَا عمر ابْن حَفْصٍ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ جَدَّتِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أُعْطِيتُ تِسْعًا مَا أُعْطِيَتْهَا امْرَأَةً بَعْدَ مَرْيَمَ: لَقَدْ نَزَلَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِصُورَتِي فِي رَاحَتِهِ حِينَ أُمِرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَتَزَوَّجَنِي، وَلَقَدْ تَزَوَّجَنِي بِكْرًا، وَمَا تَزَوَّجَ بِكْرًا غَيْرِي، وَقَدْ قُبِضَ وَإِنَّ رَأْسَهُ لَفِي حِجْرِي، وَلَقَدْ قُبِرَ فِي بَيْتِي، وَلَقَدْ حَفَّتِ الْمَلائِكَةُ بَيْتِي، وَإِنْ كَانَ الْوَحْيُ لَيَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي أَهْلِهِ فَيَتَفَرَّقُونَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْوَحْيُ لَيَنْزِلُ وَأَنَا مَعَهُ فِي لِحَافِهِ، وَإِنِّي(2/398)
لابْنَةُ خَلِيلِهِ وَصَدِيقِهِ. وَلَقَدْ نَزَلَ عُذْرِي مِنَ السَّمَاءِ، وَلَقَدْ خُلِقْتُ طَيِّبَةٌ وَعِنْدَ طَيِّبٍ، وَلَقَدْ وُعِدْتُ مَغْفِرَةً، وَرِزْقًا كَرِيمًا.
370 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْغَفَّارِ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي نَصْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى السُّوسِيُّ.
وَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَلَفْظُ الْحَدِيثِ لَهُ أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ ابْن الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا أَحْمد ابْن يَحْيَى السُّوسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَدْرٍ شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيد، حَدثنَا حَفْص الْحلَبِي مولى السّكُون عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أُعْطِيتُ تِسْعًا لَمْ يُعْطَهُنَّ شَيْئًا مِنَ النِّسَاءِ بَعْدَ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ بِصُورَتِي فِي كَفه، وَأمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِتَزْوِيجِي، وَتَزَوَّجَنِي بِكْرًا وَلَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرِي، وَقُبِضَ رَأْسُهُ فِي حِجْرِي، وَقُبِرَ فِي بَيْتِي، وَحَفَّتِ الْمَلائِكَةُ بَيْتِي، وَكَانَ يَنْزِلُ الْوَحْيُ فَيَتَفَرَّقُ عَنْهُ أَهْلُهُ وَأَنَا فِي لِحَافِهِ، وَأَنَا ابْنَةُ خَلِيفَتِهِ وَصَدِيقِهِ، وَنَزَلَ عُذْرِي مِنَ السَّمَاءِ أَوْ فِي الْقُرْآنِ، وَجُعِلْتُ طَيِّبَةً لِطَيِّبٍ وَوُعِدْتُ مَغْفِرَةً وَرِزْقًا كَرِيمًا.
فصل
371 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْغفار بن اشبنته، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي نَصْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ،(2/399)
حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " هُوِّنَ عَلَيَّ الْمَوْتُ، أَنَّنِي رَأَيْتُ أَنَّكِ زَوْجَتِي فِي الْجَنَّةِ ".
372 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ ابْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَبِيه عَن الشّعبِيّ عَن أبي سَلمَة ابْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حدثته أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهَا: " إِنَّ جِبْرِيلَ يُقْرِئُكِ السَّلامَ ". قَالَتْ: وَعَلَيْهِ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتِهِ.
373 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ خُرَّزَاذَ، حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ خَلَفٍ، حَدَّثَنَا الْعَلاءُ بْنُ عُصَيْمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ عَمَّارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عَائِشَةُ زَوْجَتِي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ".
فصل
374 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحسن، أخبرنَا عَليّ(2/400)
ابْن عُمَرَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّ عَليّ بْن أَبِي طَالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَكَرَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ: لَوْ كَانَ امْرَأَة تكون خَليفَة لكَانَتْ عَائِشَة خَلِيفَةً.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْغَفَّارِ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي نَصْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أبي كَامِل الْفَزارِيّ، حَدثنَا هودة بن خَليفَة البكرواي عَنْ عَوْفٍ الأَعْرَابِيِّ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: مَا كَلَّمْتُ امْرَأَةً أَعْقَلَ مِنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاق، عَن مُوسَى بن إِسْحَاق، عَن موسة بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: جَاوَرْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سِتَّة أشهر فَمَا سَمِعْتُ مَرِيضًا وَلا ثَكْلَى كَانَ أَشَدَّ تَأَوُّهًا مِنْهَا. كَانَتْ تَقْرَأُ وَتَأَوَّهُ، وَتُصَلِّي وَتَأَوَّهُ.
375 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ(2/401)
قَالَا، حَدثنَا نصر بن عَليّ، حَدثنَا زناد بن الرّبيع اليحمدي، حَدثنَا خَالِد ابْن سَلَمَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: مَا أُشْكِلَ عَلَيْنَا حَدِيثٌ قَطُّ فَسَأَلْنَا عَنْهُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلا وَجَدْنَا عِنْدَهَا مِنْهُ عِلْمًا.
376 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْبَزَّازُ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ الْوَزِيرُ قَالَ: قُرِئَ عَلَى يَحْيَى بْنِ صاعد، حَدثكُمْ يُوسُف ابْن مُوسَى الْقَطَّانِ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا ذُكِرَتْ عِنْدَ رَجُلٍ فَسَبَّهَا. فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَتْ أُمَّكَ؟ قَالَ: مَا هِيَ بِأُمٍّ فَبَلَغَهَا ذَلِكَ فَقَالَتْ: صَدَقَ إِنَّمَا أَنَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا الْكَافِرِينَ فَلَسْتُ لَهُمْ بِأُمٍّ.
فصل فِي فضل مُعَاوِيَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
377 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ، حَدَّثَنَا الشَّرِيفُ أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْعَبَّاسِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، قَالَ سَمِعْتُ(2/402)
عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا زِلْتُ أَطْمَعُ فِي الْخلَافَة مُنْذُ قَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا قَالَ: قَالَ لِي: " يَا مُعَاوِيَةُ إِنْ مَلَكْتَ فَأَحْسِنْ ".
378 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا الشَّرِيفُ أَبُو الْحُسَيْنِ، حَدثنَا أَبُو حَفْص ابْن شَاهِينَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عِرْقٍ القَاضِي بحمص، حَدثنَا عمي إِبْرَاهِيم ابْن عِرْقٍ حَدَّثَنَا الْجَرَّاحُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ غَالِبِ بْنِ رَاشِدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي غَالِبُ بْنُ رَاشِدٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَخْطُبُ وَهُوَ يَقُولُ: صَبَبْتُ على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وُضُوءَهُ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ وَقَالَ: " أَمَا إِنَّكَ سَتَلِي أَمْرَ أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَاقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ "، فَمَا زِلْتُ أَرْجُوهَا حَتَّى قُمْتُ مَقَامِي هَذَا.
أَخْبَرَنَا أَبُو المظفر، حَدَّثَنَا مَنْصُور بن مُحَمَّد اليمانكتي، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن الْحسن الشَّيْبَانِيّ، حَدَّثَنَا الحكم أَبُو أَحْمَد بن مُحَمَّد بن الْحسن حَدَّثَنَا أَبُو النَّصْر الحلقاني بمرو، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن قهزاد، حَدَّثَنَا عَليّ ابْن الْحسن بن شَقِيق قَالَ: قيل لعبد الله بن الْمُبَارك: عمر بن عبد الْعَزِيز أفضل أم مُعَاوِيَة؟ قَالَ: تُرَاب دخل فِي أنف مُعَاوِيَة فِي بعض مشَاهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أفضل من عمر بن عبد الْعَزِيز.(2/403)
379 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ، حَدَّثَنَا هِبَةُ اللَّهِ بن مُحَمَّد ابْن زَاذَانَ، حَدَّثَنِي عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الأَبَّارُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْفَتْحِ نصر بن مَنْصُور، حَدثنَا بشر ابْن الْحَارِثِ، حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَبِي الزَّرْقَاءِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيد بن مُسلم قَالَ: سَمِعت سعيد ابْن عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ الْمُزنِيّ أَنه سمع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَذْكُرُ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا واهد بِهِ ".(2/404)
فصل فِي أَبْوَاب من السّنة
بَاب فِي التَّمَسُّك بِالسنةِ
380 - رُوِيَ عَن أنس بن مَالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أَحْيَا سنتي فقد أَحبَّنِي وَمن أَحبَّنِي كَانَ معي فِي الْجنَّة ".
381 - وَعَن أنس - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من يَعش حَقًا بِلِسَانِهِ جرى لَهُ أجره حَتَّى يَأْتِي الله يَوْم الْقِيَامَة فيوفيه إِيَّاه ".
وَعَن سَعِيد بن جُبَير فِي قَوْله: {وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} . قَالَ: لُزُوم السّنة وَالْجَمَاعَة.(2/405)
صفحة فارغة(2/406)
بَاب فِي اجْتِنَاب الْبدع والأهواء
رُوِيَ عَن سُفْيَان الثَّوْريّ أَنه قَالَ: الْبِدْعَة أحب إِلَى إِبْلِيس من الْمعْصِيَة، لِأَن الْمعْصِيَة يُتَاب مِنْهَا، والبدعة لَا يُتَاب مِنْهَا.
382 - وخطب عمر بن الْخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: أَيهَا النَّاس قد سنت لكم السّنَن، وفرضت لكم الْفَرَائِض، وتركتم عَلَى الْوَاضِحَة إِلَّا أَن تضلوا بِالنَّاسِ يَمِينا وَشمَالًا.
وَقَالَ عبد الله بن الديلمي: وَكَانَ من التَّابِعين إِن أول ذهَاب بِالدّينِ ترك السّنة، يذهب الدّين سنة سنة كَمَا يذهب الْحَبل قُوَّة قُوَّة.
383 - وَعَن ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يَأْتِي عَلَى النَّاس عَام إِلَّا أَحْدَثُوا فِيهِ بِدعَة، وأماتوا فِيهِ سنة حَتَّى يَحْيَى الْبدع، وَتَمُوت السّنة.(2/407)
384 - وَعَن أَبِي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ قَالَ: قَالَ عبد الله: إِنَّكُم ستحدثون، وَيحدث لكم، فَإِذا رَأَيْتُمْ الْمُحدث فَعَلَيْكُم بِالْأَمر الأول.
فصل
385 - رُوِيَ عَن أَبِي قلَابَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أول مَا يذهب من النَّاس الْعلم ". قَالُوا: يَا رَسُول الله. أيذهب الْقُرْآن؟ قَالَ: " يذهب الَّذين يعلمونه، وَيبقى قوم لَا يعلمونه، فيتناولونه عَن أهوائهم ".
وَقَالَ الضَّحَّاك بن مُزَاحم: كَانَ أولكم يتعلمون الْوَرع، وَيَأْتِي عَلَيْكُم زمَان يتَعَلَّم فِيهِ الْكَلَام.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَر: من أَخذ بِرَأْيهِ وكل إِلَى نَفسه.(2/408)
فصل
قَالَ بعض الْعلمَاء: الْأُصُول الَّتِي ضل بهَا الْفرق سَبْعَة أصُول: القَوْل من ذَات الله سُبْحَانَهُ، وَالْقَوْل فِي صِفَاته، وَالْقَوْل فِي أَفعاله، وَالْقَوْل فِي الْوَعيد، وَالْقَوْل فِي الْإِيمَان، وَالْقَوْل فِي الْقُرْآن، وَالْقَوْل فِي الْإِمَامَة.
فَأهل التَّشْبِيه ضلت فِي ذَات الله، والجهمية ضلت فِي صِفَات الله، والقدرية ضلت فِي أَفعَال الله، والخوارج ضلت فِي الْوَعيد، والمرجئة ضلت فِي الْإِيمَان، والمعتزلة ضلت فِي الْقُرْآن، والرافضة ضلت فِي الْإِمَامَة.
فَأهل التَّشْبِيه تعتقد لله مثلا، والجهمية تَنْفِي أَسمَاء الله وَصِفَاته، والقدرية لَا تعتقد أَن الْخَيْر وَالشَّر جَمِيعًا من الله، والخوارج تزْعم أَن الْمُسلم يكفر بكبيرة يعملها، والمرجئة تَقول: إِن الْعَمَل لَيْسَ من الْإِيمَان وَإِن مرتكب الْكَبِيرَة مُؤمن، وَإِن الْإِيمَان لَا يزِيد وَلَا ينقص، والرافضة تنكر إِعَادَة الإجسام وتزعم أَن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يمت، وَأَنه يرجع قبل يَوْم الْقِيَامَة، والفرقة النَّاجِية: أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، وَأَصْحَاب الحَدِيث وَهُوَ السوَاد الْأَعْظَم.
وَالدَّلِيل عَلَى أَن الْفرْقَة النَّاجِية هُوَ أهل السّنة وَالْجَمَاعَة أَن أحدا لَا يشك أَن الْفرْقَة النَّاجِية هِيَ المتمسكة بدين الله، وَدين الله الَّذِي نزل بِهِ كتاب الله وبنيته سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وهم الْقَائِلُونَ: إِن الله وَاحِد: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} . وَلَا يُشَارِكهُ شَيْء من الموجودات بِوَجْه من(2/409)
الْوُجُوه، لِأَنَّهُ لَو شَاركهُ وَاحِد فِي ذَلِكَ لَكَانَ مثلا لَهُ فِي الْوَجْه الَّذِي شَاركهُ فِيهِ، فَلَا يُسمى إِلَّا بِمَا سمى بِهِ نَفسه فِي كِتَابه، أَو سَمَّاهُ بِهِ رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأجمعت عَلَيْهِ الْأمة أَو أَجمعت الْأمة عَلَى تَسْمِيَته بِهِ، وَلَا يُوصف إِلَّا بِمَا وصف بِهِ نَفسه، أَو وَصفه بِهِ رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو أجمع عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ.
فَمن وَصفه بِغَيْر ذَلِكَ فَهُوَ ضال. فَنَقُول إِنَّه قَادر عَالم حَيّ سميع بَصِير مُتَكَلم رَازِق محيي مميت، وَأَن لَهُ قدرَة، وعلما، وحياة، وسمعا، وبصرا، وكلاماً، وإراداة وَغير ذَلِكَ من صِفَاته، وَكَانَ مَوْصُوفا بِجَمِيعِ ذَلِكَ فِيمَا لم يزل، لم يستفد صفة لم تكن لَهُ من قبل، وَسَائِر الْفرق؛ وَإِن كَانَت تَدعِي أَنَّهَا متمسكة بدين الله فَإِنَّهَا ابتدعت فِي الدّين وأحدثت، وتبعت الْمُتَشَابه ابْتِغَاء الْفِتْنَة وابتغاء تَأْوِيله، وَأهل السّنة وَالْجَمَاعَة لم تتعد الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع السّلف الصَّالح، وَلم تتبع الْمُتَشَابه وتأويله ابْتِغَاء الْفِتْنَة، وَإِنَّمَا اتبعُوا الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَمَا اجْمَعْ الْمُسلمُونَ عَلَيْهِ بعدهمْ قولا وفعلا.
فَأَما مَا اخْتلفُوا فِيهِ مِمَّا لَا أصل لَهُ فِي الْكتاب وَالسّنة، وَلَا أَجمعت عَلَيْهِ الْأمة فَهُوَ مُحدث دَاخل فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
386 - " مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد ".
فَأَما مَا اخْتلفُوا فِيهِ مِمَّا لَهُ أصل فِي كتاب الله وَالسّنة فَإِنَّهُ يجب الْإِيمَان بِهِ وَيسلم تَأْوِيله إِلَى الله، وَيُقَال فِيهِ: كَمَا قَالَ الله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ(2/410)
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ من عِنْد رَبنَا} وَلَا نتعرض لشَيْء من تَأْوِيله، وَأما مَا اخْتلفُوا فِيهِ من الْمسَائِل الاجتهادية وَالْفُرُوع الدِّينِيَّة، فَإِن الْإِنْسَان لَا يصير بِهِ مبتدعا، وَلَا مذموما متوعدا.
فصل
قَالَ أهل اللُّغَة: السّنة: السِّيرَة والطريقة. فَقَوْلهم فلَان عَلَى السّنة وَمن أهل السّنة أَي هُوَ مُوَافق للتنزيل والأثر فِي الْفِعْل وَالْقَوْل، وَلِأَن السّنة لَا تكون مَعَ مُخَالفَة الله وَمُخَالفَة رَسُوله. فَإِن قيل كل فرقة تنتحل اتِّبَاع السّنة، وتنسب مخالفيها إِلَى خلاف الْحق، فَمَا الدَّلِيل عَلَى أَنكُمْ أَهلهَا دون من خالفكم؟
قُلْنَا: الدَّلِيل عَلَى ذَلِك قَول الله تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} . فَأمر باتباعه وطاعته فِيمَا أَمر وَنهى.
387 - وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عَلَيْكُم بِسنتي، وَمن رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني ".(2/411)
وعرفنا سنته بالآثار المروية بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَة، وَهَذِه الْفرْقَة الَّذين هم أَصْحَاب الحَدِيث لَهَا أطلب وفيهَا أَرغب ولصحاحها أتبع. فَعلمنَا بِالْكتاب وَالسّنة أَنهم أَهلهَا دون سَائِر الْفرق لِأَن مدعي كل صناعَة إِذا لم يكن مَعَه دلَالَة من صناعته يكون مُبْطلًا فِي دَعْوَاهُ، وَإِنَّمَا يسْتَدلّ عَلَى صناعته كل صَاحب صَنْعَة بآلته، فَإِذا رَأَيْت الرجل فتح بَاب دكانه، وَبَين يَدَيْهِ الْكِير، والمطرقة، والسندان علمت أَنه حداد، وَإِذا رَأَيْت بَين يَدَيْهِ الإبرة والمقراض عَلمته أَنه خياط، وَكَذَلِكَ مَا أشبه هَذَا، وَمَتى قَالَ صَاحب التَّمْر لصَاحب الْعطر: أَنا عطار. قَالَ لَهُ: كذبت أَنا هُوَ وَشهد لَهُ بذلك كل من أبصره من الْعَامَّة. وَقد وجدنَا أَصْحَابنَا دخلُوا فِي طلب الْآثَار الَّتِي تدل على سنَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخَذُوهَا من معادنها وجمعوها من مظانها وحفظوها، ودعوا إِلَى اتباعها وعابوا من خالفها، وَكَثُرت عِنْدهم وَفِي أَيْديهم حَتَّى اشتهروا بهَا كَمَا اشْتهر الْبَزَّاز ببزه، والتمار بتمره، والعطار بعطره، ورأينا قوما تنكبوا مَعْرفَتهَا واتباعها وطعنوا فِيهَا وزهدوا النَّاس فِي جمعهَا ونشرها، وضربوا لَهَا ولأهلها أَسْوَأ الْأَمْثَال، فَعلمنَا بِهَذِهِ الدَّلَائِل أَن هَؤُلاءِ الراغبين فِيهَا وَفِي جمعهَا وحفظها واتباعها أولى بهَا من سَائِر الْفرق الَّذين تنكبوها، لِأَن أتباعها عِنْد الْعلمَاء هُوَ الْأَخْذ بسنن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّتِي صحت عَنهُ الَّتِي أَمر بِالْأَخْذِ بِمَا أَمر، والانتهاء عَمَّا نهى، وَهَذِه دلَالَة ظَاهِرَة لأهل السّنة باستحقاقهم هَذَا الِاسْم دون مَا اتبع الرَّأْي والهوى.(2/412)
فَإِن قيل: الْأَمر كَمَا قلت. غير أَن كل فرقة تحتج لمذهبه بِحجَّة، قيل: من احْتج بِحَدِيث ضَعِيف فِي مُعَارضَة حَدِيث صَحِيح، أَو حَدِيث مُرْسل فِي مُعَارضَة حَدِيث مُسْند، أَو احْتج بقول تَابِعِيّ فِي مُعَارضَة قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يتساويان. فَإِن من اتبع قَول الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقد استمسك بِمَا هُوَ الْحجَّة قطعا، وَمن احْتج بالثابت الْقوي أحسن حَالا مِمَّن احْتج بالواهي الضَّعِيف، وَبِهَذَا استبان الِاتِّبَاع من غَيره، لِأَن صَاحب السّنة لَا يتبع إِلَّا مَا هُوَ الْأَقْوَى وَأَصْحَاب الْأَهْوَاء وَصَاحب الْهوى يتبع مَا يهوى.
فصل فِي بَيَان الرَّحْمَة الَّتِي يتراحم بهَا الْخلق مخلوقة
388 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَليّ الْمقري، أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَهْدِيٍّ الأَنْبَارِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ، وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعُ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ ".(2/413)
فصل فِي بَيَان أَن بني آدم خير من الْمَلَائِكَة
أَخْبَرَنَا أَحْمَد بن عَليّ، أَخْبَرَنَا هبة الله بن الْحسن، أَخْبَرَنَا بن عَليّ ابْن مُحَمَّد الْعَطَّار، أَخْبَرَنَا عبيد الله بن مُحَمَّد بن عبيد الله الْمكتب، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم ابْن عبد الله بن أَيُّوب، حَدَّثَنَا صَالح بن مَالك، حَدَّثَنَا أَبُو معشر، حَدَّثَنَا مُحَمَّد ابْن(2/414)
كَعْب الْقرظِيّ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْد عمر بن عبد الْعَزِيز رَحمَه الله بخناصرة، وَعِنْده أُميَّة بن عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ، وعراك بن مَالك الْغِفَارِيّ فَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز: مَا أحد أكْرم عَلَى الله من بني آدم فَقَالَ عرَاك: مَا أحد أكْرم عَلَى الله من الْمَلَائِكَة. قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارتضى وهم من خَشيته مشفقون} وَمَا خدع إِبْلِيس آدم - عَلَيْهِ السَّلامُ - إِلَّا بِالْمَلَائِكَةِ قَالَ: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} فالملائكة أُمَنَاء الله وَرُسُله وخزنة الدَّاريْنِ: الْجنَّة وَالنَّار.
فَقَالَ عمر رَحمَه الله: مَا تَقول أَنْت يَا أَبَا حَمْزَة؟ قلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. خلق الله آدم بِيَدِهِ، وَأمر الْمَلَائِكَة أَن يسجدوا لَهُ، وَجعل من ذُريَّته أَنْبيَاء ورسلا، وَجعل من ذُريَّته من تزوره الْمَلَائِكَة. قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ من كل بَاب} .(2/415)
فصل فِي بَيَان أَن الدَّجَّال يخرج لَا محَالة، وَقَالَت الْجَهْمِية الدَّجَّال كل رجل خَبِيث:
389 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بن عَليّ الْمقري، أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ وَعَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَهْدِيٍّ قَالا: أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَنِي أَنَّ مَعَ الدَّجَّالِ أَنْهَارًا وَجِبَالَ خُبْزٍ. فَقَالَ: " هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ ". قَالَ الْمُغِيرَةُ: فَكُنْتُ مِنْ أَكْثَرِ النَّاس سؤالا عَنهُ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ هُوَ بِالَّذِي يَضُرُّكَ ".
390 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْفَارِسِيُّ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَشْكَابَ، حَدثنَا عبد الصَّمد ابْن(2/416)
عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا بُعِثَ نَبِيٌّ إِلا أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الأَعْوَرَ الْكَذَّابَ أَلا إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ كَافِرٌ ".
فصل فِي بَيَان أَن الْجِنّ خلق من خلق الله يرَوْنَ من يُرِيهم الله لَا كَمَا زعمت المبتدعة أَن الْجِنّ لَا حَقِيقَة لَهُ وَإِن إِبْلِيس كل رجل سوء
391 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ، أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كُنَاسَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَاعِدًا عَلَى الْمَخْرَجِ فَجَاءَ شَيْخٌ طَوِيلُ اللِّحْيَةِ فَلْجُ الْوَجْهِ كَاشِرٌ عَنْ ثَنَايَاهُ فَقَالَ: رَأَيْتَ مِثْلِي؟ فَلَطَمَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَقَالَ لَهُ: رَأَيْت مثلي.(2/417)
392 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول الله قَالَ: " الْجِنُّ عَلَى ثَلاثَةِ أَصْنَافٍ. فَثُلُثٌ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُونَ فِي الْهَوَاءِ، وَثُلُثٌ حَيَّاتٌ وَكِلابٌ، وَثُلُثٌ يَحُلُّونَ وَيَظْعَنُونَ ".
فصل فِي بَيَان منع الْخُرُوج عَلَى أولي الْأَمر
393 - وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أخبرنَا عمر بن زكار، أخبرنَا الْحُسَيْن ابْن(2/418)
إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ ابْن عُرْوَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " سَيَلِيكُمْ بَعْدِي وُلاةٌ فَيَلِيكُمُ الْبَرُّ بِبِرِّهِ، وَالْفَاجِرُ بِفُجُورِهِ، فَاسْمَعُوا لَهُمْ وَأَطِيعُوا فِي كُلِّ مَا وَافَقَ الْحَقَّ، وَصَلُّوا وَرَاءَهُمْ فَإِنْ أَحْسَنُوا فَلَهُمْ، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ ".
394 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَغْزُو مَعَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ.
395 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ ابْن أَحْمد ابْن يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ الْحَرُورِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " عَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِكَ وَمَكْرَهِكَ وَيُسْرِكَ، وَزَاد بَعضهم، وعسرك وأثرة عَلَيْك ".(2/419)
396 - قَالَ: وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا عُقْبَةُ، أَخْبَرَنِي الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي جُنَادَةُ قَالَ: قَالَ لِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: عَلَيْكَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي يُسْرِكَ، وَعُسْرِكَ، وَمَنْشَطِكَ، وَمَكْرَهِكَ، وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ، وَلا تُنَازِعِ الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلا أَنْ يَأْمُرَكَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ بَوَاحًا: أَي جهارا.
فصل فِي ذكر شَفَاعَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
397 - أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّيْرَفِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَاذَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أبي عَاصِم،
حَدثنَا أَبُو بكر بن أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ ".(2/420)
398 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نَا دُحَيْمٌ، نَا أَبُو الْيَمَانِ، نَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، ثني أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " رَأَيْتُ مَا تَلْقَى أُمَّتِي بَعْدِي فَأَحْزَنَنِي، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيَّ مِنْ سَفْكِ دِمَاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَسَأَلْتُهُ يُوَلِّينِي شَفَاعَةً فِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَفَعَلَ ".
399 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ نَا أَبُو بَكْرٍ، نَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَمِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ وَهِيَ نَائِلَةُ مَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا ".
400 - قَالَ: وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، نَا هَمَّامٌ، نَا قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَهْتَمُّونَ بِذَلِكَ فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ فَيُرِيحُنَا مِنْ مَقَامِنَا هَذَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ أَبُونَا خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ(2/421)
وَأَسْجَدَ لَكَ الْمَلائِكَةَ، وَأَعْلَمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَقَامِنَا هَذَا، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ. أَكْلَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَقَدْ نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا فَإِنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ أَرْسَلَهُ اللَّهُ فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ. سُؤَالَهُ رَبَّهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ قَوْله {إِنِّي سقيم} وَقَوله: {بل فعله كَبِيرهمْ هَذَا} وَقَوْلَهُ حِينَ أَتَى الْمَلِكُ لامْرَأَتِهِ: قُولِي: إِنِّي أَخُوكِ فَإِنِّي أُخْبِرُهُ أَنَّكِ أُخْتِي، وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا أَعْطَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، الرَّجُلَ الَّذِي قَتَلَهُ، وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ، وَكَلِمَةَ اللَّهِ وَرُوحَهُ، فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَأْتُونِّي فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعْ يَا مُحَمَّدُ قُلْ: يُسْمَعْ لَكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهُ. فَأَرْفَعُ رَأْسِي، وَأَحْمَدُهُ بِثَنَايَا وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، فَأَشْفَعُ، فَيَحُدَّ لِي حَدًّا فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ ثُمَّ أَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي ثُمَّ ذَكَرَهُ.
401 - وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ: " ثُمَّ آتِيهِ الرَّابِعَةَ فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّي مَا بَقِيَ إِلا مَنْ حَبسه الْقُرْآن ".(2/422)
402 - وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ: أَيْ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ قَتَادَةَ: " فَيُلْهَمُونَ لِذَلِكَ ".
403 - وَفِي رِوَايَةِ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " فَيَأْتُون عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلامُ - وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ ذَنْبًا فَيَقُولُ نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ فَيَأْتُونِّي فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ، وَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلا تَرَى مَا قَدْ بَلَغْنَا، فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ أَحْسَنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لأَحَدٍ قَبْلِي ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهُ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي ثَلاثَ مَرَّاتٍ فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرَ أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى ".
404 - وَفِي رِوَايَةِ الْعَدَوِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يُجْمَعُ الأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَفَظِعَ النَّاس(2/423)
بِذَلِكَ حَتَّى انْطَلَقُوا إِلَى آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -، وَالْعَرَقُ يَكَادُ أَنْ يُلْجِمَهُمْ، فَقَالُوا: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، وَأَنْتَ اصْطَفَاكَ اللَّهُ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ. فَقَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ مِثْلَ مَا لَقِيتُمْ فَانْطَلِقُوا إِلَى أَبِيكُمْ بَعْدَ أَبِيكُمْ نُوحٍ: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيم وَآل عمرَان على الْعَالمين} فَيَنْطَلِقُونَ إِلَى نُوحٍ فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ: اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَأَنْتَ اصْطَفَاكَ اللَّهُ وَاسْتَجَابَ لَكَ فِي دُعَائِكَ، وَلَمْ يَدَعْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا. فَيَقُولُ: لَيْسَ ذَاكُمْ عِنْدِي انْطَلِقُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّهُ خَلِيلا، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ لَيْسَ ذَاكُمْ عِنْدِي انْطَلِقُوا إِلَى مُوسَى فَإِنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا فَيَقُولُ مُوسَى: لَيْسَ ذَاكُمْ عِنْدِي انْطَلِقُوا إِلَى عِيسَى بن مَرْيَم فَإِنَّهُ يبريء الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ، وَيُحْيِي الْمَوْتَى فَيَقُولُ عِيسَى: لَيْسَ ذَاكُمْ عِنْدِي، وَلَكِنِ انْطَلِقُوا إِلَى سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ يَوْم الْقِيَامَة، انْطَلقُوا إِلَى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ فَأَنْطَلِقُ فَآتِي جِبْرِيلَ فَيَأْتِي جِبْرِيلُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيَقُولُ: ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ قَالَ: فَأَنْطَلِقُ فَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا قَدْرَ جُمُعَةٍ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ قَالَ: أَذْهَبُ لأَقَعُ سَاجِدًا قَالَ: فَيَأْخُذُ جِبْرِيلُ بقبعيه فَيَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الدُّعَاءِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى بَشَرٍ فَأَقُولُ: " أَيْ رَبِّ جَعَلْتَنِي سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ وَلا فَخْرَ، وَأَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ وَلا فَخْرَ،(2/424)
حَتَّى إِنَّهُ لَيَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ أَكْثَرُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَأَيْلَةَ، ثُمَّ يُقَالُ: ادْعُوا الصِّدِّيقِينَ فَيُشَفَّعُونَ ثُمَّ يُقَالُ: ادْعُوا الأَنْبِيَاءَ فَيَجِيءُ النَّبِيُّ وَمَعَهُ الْعِصَابَةُ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الْخَمْسَةُ وَالسِّتَّةُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ ثُمَّ يُقَالُ: ادْعُوا الشُّهَدَاءَ فَيُشَفَّعُونَ لِمَنْ أَرَادَ فَإِذَا فَعَلَتِ الشُّهَدَاءُ ذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أدخلُوا جنتي من كَانَ لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا. قَالَ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ.
فصل
قَالَ بعض عُلَمَاء السّنة كل من صَحَّ عِنْده شَيْء من أَمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَنَهْيه، صغيره وكبيره بِلَا معَارض لَهُ يعرفهُ من حَدِيثه أَو نَاسخ لَهُ ثمَّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَذَا، وَأَنا أَقُول بِخِلَافِهِ فقد تكلم بعظيم، وَإِن كَانَ ذَلِكَ الشَّيْء مِمَّا لَا يضل الرجل بِتَرْكِهِ لِأَن أدنى معاندة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أدنى من أمره وَنَهْيه عَظِيم، فَمن قبل عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّمَا يقبل الله وَمن رد عَلَيْهِ فَإِنَّمَا يرد عَلَى الله قَالَ الله تَعَالَى: {مَنْ يطع الرَّسُول فقد أطَاع الله} .
وَقَول من قَالَ: تعرض السّنة عَلَى الْقُرْآن فَإِن وَافَقت ظَاهره وَإِلَّا استعلمنا ظَاهر الْقُرْآن وَتَركنَا الحَدِيث، فَهَذَا جهل لِأَن سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ(2/425)
كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ تُقَام مقَام الْبَيَان عَن الله عَزَّ وَجَلَّ، وَلَيْسَ شَيْء من سنَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُخَالف كتاب الله لِأَن الله عَزَّ وَجَلَّ أعلم خلقه أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يهدي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم فَقَالَ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} وَلَيْسَ لنا مَعَ سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْأَمر شَيْء إِلَّا الِاتِّبَاع وَالتَّسْلِيم وَلَا يعرض عَلَى قِيَاس وَلَا غَيره، وكل مَا سواهَا من قَول الْآدَمِيّين تبع لَهَا، وَلَا عذرا لأحد يتَعَمَّد ترك السّنة، وَيذْهب إِلَى غَيرهَا، لِأَنَّهُ لَا حجَّة لقَوْل أحد مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا صَحَّ.
فَإِذا لم يُوجد فِي الْحَادِثَة عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَيْء وَوجد فِيهَا عَن أَصْحَابه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فهم الْأَئِمَّة بعده، وَالْحجّة اعْتِبَارا بِكِتَاب الله وبأخبار رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما وَصفهم فِي كِتَابه من الْخَيْر والصدق وَالْأَمَانَة، وَأَنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعَن من اتبعهم بِإِحْسَان وَقَالَ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأولي الْأَمر مِنْكُم} وَاخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي أولي الْأَمر فَقَالَ بَعضهم: هم الْعلمَاء، وَقَالَ بَعضهم: هم الْأُمَرَاء، وكل هَذَا قد اجْتمع فِي أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ فيهم الْأُمَرَاء، وَالْخُلَفَاء وَالْعُلَمَاء وَالْفُقَهَاء.(2/426)
قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ} أخبر الله عَزَّ وَجَلَّ أَنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضي أَعْمَالهم وَرَضي عَمَّن اتبعهم بِإِحْسَان فهم الْقدْوَة فِي الدّين بعد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِصَابَة الْحق وأقربهم إِلَى التَّوْفِيق لما يقرب إِلَى رِضَاهُ، وَكَذَلِكَ وَصفهم الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ:
405 - " خير النَّاس قَرْني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ، ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ".
406 - وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مثل أَصْحَابِي مثل النُّجُوم فِي السَّمَاء يَهْتَدِي بهَا فَبِأَيِّهِمْ أَخَذْتُم بقوله اهْتَدَيْتُمْ ".(2/427)
407 - وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عَلَيْكُم بِمَا عَرَفْتُمْ من سنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين بعدِي ". فحض عَلَى اتِّبَاع الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، وأجمل فِي.
408 - قَوْله: " مثل أَصْحَابِي مثل النُّجُوم " وَهُوَ حَدِيث مَشْهُور.
قَالَ بَعضهم: أفيقتدي بهم فِيمَا أفتوا: أَن المَاء من المَاء، وَفِي الرُّخْصَة فِي الْمُتْعَة، وَفِي الصّرْف، وَفِي الْجنب إِذا لم يجد المَاء أَن يغْتَسل، وَفِي ترك الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ.(2/428)
فَيُقَال: نتبع فِي هَذَا أَمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَنَهْيه، لأَنهم وَإِن كَانُوا كَالنُّجُومِ فليسوا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَالنُّجُومِ إِذا خَالف قَوْلهم قَوْله، مثل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَهم كَمثل الشَّمْس مَعَ النُّجُوم إِذا طلعت لم يبد مَعهَا كَوْكَب، وَقد رُوِيَ فِيمَا ذكر النَّهْي عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيُؤْخَذ بِفِعْلِهِ، وَيتْرك أقاويلهم، وَلَكِن فِيمَا لَا يُوجد فِيهِ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر أَو نهي، وَقد حدثت حوادث بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْحُدُود وَالْأَحْكَام فَتكلم فِيهَا الصَّحَابَة، وَلم يُوجد عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خلَافهَا فهم لنا كَالنُّجُومِ الَّتِي يَقْتَدِي بهَا فِي السَّمَاء.
409 - قَالَ عبد الله بن مَسْعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِن الله نظر فِي قُلُوب الْعباد فَلم يجد قلبا خيرا من قلب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فاصطفاه لنَفسِهِ وَبَعثه برسالته، ثمَّ نظر فِي قُلُوب الْعباد بعد قلبه فَوجدَ أَصْحَابه خير قُلُوب الْعباد فجعلهم وزراء نبيه يُقَاتلُون عَن دينه فَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حسنا، فَهُوَ عِنْد الله حسن، وَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ سَيِّئًا فَهُوَ عِنْد الله سيء.
قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: لَو لم يغسلوا إِلَّا الظفر مَا جاوزناه، كفى إزراء عَلَى قوم أَن تخَالف أَعْمَالهم.(2/429)
وروى أَبُو مُطِيع الْبَلْخِي عَن أَبِي حنيفَة قَالَ: إِذا صَحَّ عندنَا عَن النَّبِي
شَيْء لزمنا الْأَخْذ بِهِ، فَإِن لم نجد عَنهُ وَوجدنَا عَن الصَّحَابَة فَكَذَلِك، فَإِذا جَاءَ قَول التَّابِعين زاحمناهم.
قَالَ أَبُو يُوسُف: إِذا جَاءَكُم عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَخُذُوا بِهِ ثمَّ مَا جَاءَكُم عَن الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَخُذُوا بِهِ ودعوا أقاويلنا.
قَالَ أهل السّنة: إِذا صحت السّنة بَطل كل رَأْي كَانَ خلَافهَا، لِأَن السّنة لَازِمَة، والرأي رهينة الْخَطَأ، وَإِنَّمَا أُبِيح اجْتِهَاد الرَّأْي نَحْو مَا أَبَاحَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمعَاذ، وَمَا أَبَاحَ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لشريح، وَمَا أَبَاحَ ابْن مَسْعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأهل الْعلم.
410 - وَرُوِيَ عَن نَاس من أهل حمص من أَصْحَاب معَاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِمعَاذ حِين أَرَادَ يَبْعَثهُ إِلَى الْيمن قَالَ: " بِمَا تقضي؟ قَالَ: بِكِتَاب الله. قَالَ: فَإِن لم تَجدهُ فِي كتاب الله؟ قَالَ: فبسنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قَالَ: فَإِذا لم تَجدهُ فِي سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: اجْتهد رَأْيِي. قَالَ الْحَمد لله الَّذِي وفْق رَسُول الله لما يُرْضِي رَسُول الله ".(2/430)
411 - وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ عَن شُرَيْح أَن عمر بن الْخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إِلَيْهِ إِذا جَاءَك شَيْء فِي كتاب الله فَاقْض بِهِ، فَإِن جَاءَك شَيْء لَيْسَ فِي كتاب الله فَانْظُر سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاقْض بهَا، فَإِن جَاءَك شَيْء لَيْسَ فِي كتاب الله، وَلَا فِيهِ سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَانْظُر مَا أجمع عَلَيْهِ النَّاس فَخذ بِهِ، فَإِن جَاءَك مَا لَيْسَ فِي كتاب اللَّه، وَلم يكن فِي سنة عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم يتَكَلَّم فِيهِ أحد قبلك فاختر أَي الْأَمريْنِ شِئْت، إِن شِئْت أَن تجتهد رَأْيك فَتقدم، وَإِن شِئْت أَن تتأخر فَتَأَخر، وَلَا أرى التَّأَخُّر إِلَّا خيرا لَك.
412 - وَرُوِيَ عَن حَدِيث ابْن ظهير قَالَ قَالَ عبد الله بن مَسْعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من عرض لَهُ مِنْكُم بعد الْيَوْم فليقض فِيهِ بِمَا فِي كتاب الله، فَإِن أَتَاهُ أَمر لَيْسَ فِي كتاب الله وَلم يقْض بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلم يقْض بِهِ الصالحون فليجتهد.
413 - وَفِي رِوَايَة: " دع مَا يريبك إِلَّا مَا لَا يربك ".(2/431)
فصل فِي مَذْهَب أهل السّنة
أهل السّنة يَعْتَقِدُونَ أَن الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَلَا مثيل لَهُ، وَأَنه لم يزل متصفا بصفاته الْحسنى، وَأَنه سميع بسمع، بَصِير ببصر، عليم بِعلم، مُتَكَلم بِكَلَام، وَالْقُرْآن كَلَامه غيرمخلوق مقروءا، أَو مَكْتُوبًا، ومحفوظا، ومسموعا كَيفَ مَا وصف وَإِلَى أَي شَيْء أضيف وَهُوَ تَعَالَى عَلَى الْعَرْش كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْش اسْتَوَى} وَأَنه ينزل كل لَيْلَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث، وَله صِفَات كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآن وَالْأَخْبَار الصِّحَاح مثل الْوَجْه كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجهه} وَقَالَ: {وَيبقى وَجه رَبك} وَفِي الْحَدِيثين:
414 - " أعوذ بِوَجْهِك " فَمن شبه وَجهه بِوَجْه المخلوقين فقد ضل وَكفر، وَمن أنكر وَجهه فقد عطل وَكفر، وَللَّه يدان كَمَا قَالَ: (لما خلقت(2/432)
بيَدي} وَقَالَ: {بل يَدَاهُ مبسوطتان} وَفِي الحَدِيث:
415 - " وَخلق آدم بيدَيْهِ "
416 - وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وكلتا يَدَيْهِ يَمِين " وَالصِّفَات الَّتِي وَردت بهَا الْأَخْبَار مثل الْكَفّ، والقدم، والأصبع، فَإِنَّهُ يجب إِطْلَاق القَوْل بهَا عَلَى مَا ورد بهَا الْخَبَر من غير أَن يصور ذَلِكَ فِي الْفِكر، أَو تخيل، أَو(2/433)
توهم، وَله رَحْمَة، وَغَضب، وَإِرَادَة، ومشيئة يُرِيد الطَّاعَات، ويرضاها، وَيُرِيد الْمعاصِي وَلَا يرضاها، وَأَن الله لم يزل مسميا نَفسه خَالِقًا ورازقا من غير أَن يعْتَقد أَن الْخلق والرزق، كَانَ فِي الْأَزَل ويعتقد أَن مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَسُول الله، وَخيرته من خلقه، وَبَعثه بشيرا وَنَذِيرا، وَأَن تَصَرُّفَاته، وأفعاله كلهَا حجَّة لنا، وَدلَالَة، ويعتقدون أَن الْجنَّة وَالنَّار خلقتا للبقاء، وَلَا يفنيان أبدا.
والمؤمنون كلهم يرَوْنَ الله بِغَيْر حجاب، ويكلمهم بِلَا ترجمان، ويؤمنون بملائكة الله، وَكتبه، وَرُسُله، وبالقدر خَيره، وشره، وبسؤال الْقَبْر، والشفاعة، والحوض، وَالْمِيزَان، والصراط عَلَى متن(2/434)
جَهَنَّم، ومرور الْخلق كلهم عَلَيْهِ، وَأَن من عصى من الْمُؤمنِينَ يدْخل النَّار، ثمَّ يخرج مِنْهَا إِذا كَانَ مَوته عَلَى الْإِيمَان.
فصل فِي النَّهْي عَن سبّ الْأُمَرَاء، والولاة، وعصيانهم
417 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَخْبَرَنَا وَالِدِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأُشْنَانِيُّ بِسَرْخَسَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُزَيْنٍ السَّرْخَسِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ شَقِيقٍ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " نَهَانَا كُبَرَاؤُنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ لَا تَسُبُّوا أُمَرَاءَكُمْ، وَلا تَعْصُوهُمْ وَاصْبِرُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ الأَمْرَ قَرِيبٌ ".(2/435)
فصل
418 - رُوِيَ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كَانَ ملك الْمَوْت يَأْتِي النَّاس عيَانًا فَأتى مُوسَى فَذهب بِعَيْنِه فعرج إِلَى ربه عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: بعثتني إِلَى مُوسَى فلطمني فَذهب بعيني، فلولا كرامته عَلَيْك لشققت عَلَيْهِ. قَالَ: ارْجع إِلَى عَبدِي فَقل لَهُ: ليضع يَده عَلَى ثَوْر فَلهُ بِكُل شَعْرَة وارت كَفه سنة يعيشها، فَأَتَاهُ فَبلغ مَا أمره بِهِ. فَقَالَ: مَا بعد ذَلِكَ؟ قَالَ: الْمَوْت. قَالَ: الْآن. فشمه شمة قبض روحه فِيهَا ورد الله عَلَى ملك الْمَوْت بَصَره، فَكَانَ بعد لَا يَأْتِي النَّاس إِلَّا خُفْيَة ".
وَفِي رِوَايَة: قَالَ " ربه أَن يُدْنِيه من الأَرْض المقدسة رمية بِحجر، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَو كنت ثمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبره إِلَى جَانب الطَّرِيق بِجنب الْكَثِيب الْأَحْمَر ".
هَذَا الحَدِيث حكم أهل الْحِفْظ بِصِحَّتِهِ، وَحمله أهل السّنة عَلَى ظَاهره، وَأَن ذَلِكَ الْفِعْل كَانَ من مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَلَى الْحَقِيقَة وَقَالُوا: فعل ذَلِكَ بِالْإِذْنِ وَللَّه تَعَالَى أَن يَأْذَن فِيمَا يَشَاء.
وَقَالَ قوم من أهل الْبِدْعَة: إِن جَازَ على ملك الْمَوْت جَازَ عَلَيْهِ الْعَمى، قَالَ بعض الْعلمَاء: إِن الله جعل الْمَلَائِكَة أَن تتَصَوَّر بِمَا شَاءَت من الصُّور(2/436)
الْمُخْتَلفَة أَلا ترى أَن جِبْرِيل أَتَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي صُورَة دحْيَة الْكَلْبِيّ، وَمرَّة فِي صُورَة أَعْرَابِي، وَمرَّة أُخْرَى وَقد سد بجناحيه مَا بَين الْأُفق. وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فتمثل لَهَا بشرا سوياً} قيل: إِن جِبْرِيل تصور بِصُورَة رجل، وَهَذِه الصُّور الَّتِي تنْتَقل تمثيلات فاللطمة أذهبت الْعين الَّذِي هِيَ تَمْثِيل.
وَقَول من قَالَ: معنى اللَّطْمَة إِلْزَام الْحجَّة. غلط، لِأَن فِي الْخَبَر أَنه عرج إِلَى ربه فَرد عَلَيْهِ عينه، وَلَا يكون هَذَا إِلَّا فِي عين هِيَ حَقِيقَة لِأَن الْعين الَّتِي لَيست بِحَقِيقَة لَا تحْتَاج إِلَى ردهَا.
وَقَوله اللَّطْمَة: إِلْزَام الْحجَّة لَو كَانَت اللَّطْمَة إِلْزَام الْحجَّة لم يعد إِلَى قبض روحه لِأَن الْحجَّة قد لَزِمته فِي ترك قبض روحه كلما عَاد ليقْبض روحه.(2/437)
فصل
وَمن السّنة لُزُوم الْبَيْت فِي الْفِتْنَة، وَصَلَاة التَّرَاوِيح فِي شهر رَمَضَان فِي الْجَمَاعَة، والحافظ لِلْقُرْآنِ لَا يدع أَن يكون لَهُ ختمة كل شهر، وَإِن لم يكن حَافِظًا يقْرَأ فِي الْمُصحف.
فصل فِي فضل توقير الْأَمِير
419 - رُوِيَ عَن معَاذ بن جبل - رَضِيَ الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خمس من فعل وَاحِدَة مِنْهُنَّ كَانَ حَقًا عَلَى الله أَن يُكرمهُ: من عَاد(2/438)
مَرِيضا أَو خرج مَعَ جَنَازَة، أَو خرج غازيا، أَو دخل عَلَى إِمَامه يُرِيد توقيره، أَو قعد فِي بَيته فَسلم النَّاس مِنْهُ، وَسلم من النَّاس ".
420 - وَرُوِيَ عَن أَبِي ذَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " يكون بعدِي سُلْطَان فَمن أَرَادَ ذله ثغر فِي الْإِسْلَام ثغرة لَيْسَ يسدها إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".
فصل
قَالَ بعض الْعلمَاء: من تعرض لكشف مَا طوى الله علمه عَن خلقه، أَو لم يسلم مَا لم يبلغهُ فهمه ووهمه، وَأنكر حكما من أَحْكَامه أَو عدم الْإِخْلَاص فِي قلبه والسكون إِلَى جَمِيع مَا نطق بِهِ كِتَابه أَنه حق وَصدق، وَأَن مَا علم من ذَلِكَ فبفضل من الله، وَمَا لم يُعلمهُ أَكثر فَهُوَ ضال جَاهِل، وَمن السّنة أَن يعلم أَن الله خَالق الْكفْر والكافرين، والمان عَلَى الْمُؤمن بِالْإِيمَان، وخالق الْفقر والغنى، والشدة والرخاء، وَالنعْمَة وَالْبَلَاء، وَالصِّحَّة والسقم، وَالْقُوَّة والضعف، والهم والفرح، والراحة والتعب، والقبيح وَالْحسن، وَالطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة، قسم من ذَلِكَ مَا شَاءَ لمن شَاءَ، اجتبى(2/439)
أهل صفوته لنبوته، وَجعل الْجنَّة دَارهم، وأهلهم لرضوانه، وأعاذهم من سخطه، وباعد الْكفْر وَأَهله من قربه، وحرمهم الْإِيمَان بِهِ، ولعنهم وأبغضهم، وَختم على قُلُوبهم وعَلى سمعهم، وَجعل عَلَى أَبْصَارهم غشاوة، وأصلاهم جَهَنَّم وَهُوَ فِي كل أَفعاله مَحْمُود، وعَلى جَمِيع قَضَائِهِ وَقدره مشكور.
فصل فِي بَيَان أَن الله عز وَجل عرض على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعمال أمته حسنها، وسيئها كلهَا
421 - رُوِيَ عَن ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِن الله رفع لي الدُّنْيَا فَأَنا أنظر إِلَيْهَا، وَإِلَى مَا هُوَ كَائِن فِيهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، كَمَا أنظر إِلَى كفي جلاه لي ".
422 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَخْبَرَنَا وَالِدِي، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَان بِمصْر، حَدثنَا عبد الله بن رواح الْمَدَائِنِي، حَدثنَا زيد بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ، عَنْ وَاصِلٍ مَوْلَى أَبِي عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُقَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، عَنْ أَبِي ذَر - رَضِي الله عَنهُ -، عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " عرضت(2/440)
عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي سَيِّئُهَا وَحَسَنُهَا فَرَأَيْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الأَذَى يُنَحَّى عَنِ الطَّرِيقِ، وَرَأَيْتُ فِي مساويء أَعْمَالِ أُمَّتِي النُّخَاعَةَ فِي الْمَسْجِدِ لَا تُدْفَنُ ".
423 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَخْبَرَنَا وَالِدِي، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بن مُحَمَّد ابْن إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ، عَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الأَرْضَ حَتَّى رَأَيْت مشارقها وَمَغَارِبهَا وَأَعْطَانِي الكنزين الْأَحْمَر وَالْبيض، وَإِنَّ مُلْكَ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا ".
فصل
424 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَخْبَرَنَا وَالِدِي، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ يُوسُفَ الطَّرَائِفِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَسْمَاءَ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا قَالَتْ فِي كسوف الشَّمْس: إِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ: " مَا مِنْ شَيْءٍ كُنْتُ لَمْ أَرَهُ إِلا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ ".(2/441)
425 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَخْبَرَنَا وَالِدِي، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بن مُحَمَّد ابْن سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبِرْتِيُّ، حَدَّثَنَا القعْنبِي، قَالَ: وَأخْبرنَا عمر ابْن الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن يُوسُف قَالَا: حَدثنَا مَالك ابْن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: انكسفت الشَّمْس على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلا فَلَمَّا انْجَلَتِ الشَّمْسُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا مِنْ مَكَانك هَذَا ثمَّ رَأَيْنَاك تقعقت، قَالَ: " إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا فَلَوْ أَخَذْتُهُ لأَكَلَتْمُ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، وَإِنِّي رَأَيْت النَّار فَلم أركاليوم مَنْظَرًا أَفْظَعَ مِنْهُ، وَإِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءُ ".
426 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَخْبَرَنَا وَالِدِي، أَخْبَرَنَا خَيْثَمَةُ، وَأحمد ابْن مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الأَزْهَرِ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
: " لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ، وَأَنَا أُصَلِّي، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ".
427 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أخبرنَا وَالِدي، أخبرنَا أَبُو النَّضر مُحَمَّد ابْن مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، حَدثنَا وهب بن بَقِيَّة، حَدثنَا خَالِد ابْن عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -(2/442)
قَالَ: خرج إِلَيْنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ يَمُرُّ وَمَعَهُ النَّفَرُ مِنْ قَوْمِهِ، وَالنَّبِيَّانِ يَمُرَّانِ، وَلَيْسَ مَعَهُمَا أَحَدٌ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ وَمَعَهُ، الرَّهْطُ، إِلَى أَنْ مَرَّ سَوَادٌ عَظِيمٌ قَالَ: قُلْتُ: هَذِهِ أُمَّتِي؟ فَقِيلَ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ، وَلَكِنِ انْظُرْ نَحْوَ الأُفُقِ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، قَدْ مَلأَ الْأُفق،. قيل انْظُر هَا هُنَا إِلَى الْجَانِبِ الآخَرَ فَإِذَا سَوَادٌ وَقَدْ مَلأَ الأُفُقَ. قِيلَ: انْظُرْ فَإِذَا سَوَادٌ أَعْجَبَنِي كَثْرَتُهُمْ قِيلَ: هَذِهِ أُمَّتُكَ، وَسِوَى هَؤُلاءِ مِنْ أُمَّتِكَ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ "، فَانْصَرَفَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ شَيْئًا فَقَالُوا: نَحْنُ هَؤُلاءِ قَدْ آمَنَّا بِاللَّهِ، وَاتَّبَعْنَا رَسُولَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ أَبْنَاؤُنَا الَّذِينَ يَكُونُونَ بَعْدَنَا وُلِدُوا فِي الْإِسْلَام فَخرج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرِقُونَ وَلا يَكْتَوُونَ وَلا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ " فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الأَسَدِيُّ فَقَالَ: أَنَا مِنْهُمْ يَا رَسُول الله؟ فَقَالَ: " أَنْت مِنْهُم ". وَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: أَنَا مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: " سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ ".
فصل فِي بَيَان أَن أَفعَال الْعباد كلهَا مخلوقة، وَالله تَعَالَى خلقهَا بقدرته، وَلَيْسَ للعباد فِيهَا خلق
يدل عَلَى هَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَالله خَلقكُم وَمَا تعلمُونَ} . وَقَوله تَعَالَى:(2/443)
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ على شَيْء} . وَقَوله تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أبكم لَا يقدر على شَيْء}
فنفي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْقُدْرَة عَلَى الْفِعْل عَن العَبْد، وَأَعْلَمنَا أَن فعل العَبْد وَقدرته عَلَى الْفِعْل شَيْء، وَهُوَ من خلق الله تَعَالَى لَا من خلقه. لِأَن نفي قدرته عَلَى جَمِيع الْأَشْيَاء، أَو جعل الشَّيْء نكرَة، والنكرة تعم الْجِنْس فَدلَّ ذَلِكَ عَلَى أَن العَبْد لَا يقدر عَلَى خلق عمل من أَعماله، وَأَن عمله وَقدرته عَلَى الْعَمَل من الله تَعَالَى لَا مِنْهُ.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء} أَي لَيْسَ لَك فِيمَا تتصرف فِيهِ من الْأَمر والأعمال وَالْقُدْرَة عَلَيْهَا شَيْء، وَلَا يمكنك أَن تخلق عملا أَو فعلا من نَفسك، بل مَا تَفْعَلهُ وتعمله مخلوقا بِخلق الله تَعَالَى إِيَّاه، ومفعوله بقدرته وتوفيقه، لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يهدي من يَشَاء} . وَلَو كَانَ العَبْد يقدر عَلَى خلق أَو عمل من تِلْقَاء نَفسه لَكَانَ يُمكنهُ أَن يهدي من أحب. لِأَن الْهِدَايَة مصدر يتَفَرَّع مِنْهُ الْفِعْل، وَقَوله: لَا تهدي فعل، فَلَمَّا نفى الْقُدْرَة عَلَى هَذَا الْفِعْل عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ مَا خصّه(2/444)
بِهِ وأكرمه بِهِ من المعجزات، دلّ عَلَى أَن غَيره من الْعباد أَكثر عَجزا وَأَقل إمكانا عَلَى خلق فعل من أَفعاله.
وَلِأَن الْإِنْسَان لَو قدر عَلَى خلق فعل من أَفعاله، أَو حَرَكَة من حركاته، لَكَانَ يُمكنهُ أَن يتغوط وَلَا يَبُول، وينام وَلَا يغمض أجفانه، وَأَن تفتح أجفانه سَاعَة مديدة، لَا يضْرب بَعْضهَا عَلَى بعض، فَلَمَّا لم يُمكنهُ أَن يفعل ذَلِكَ دلّ عَلَى أَن أَفعاله مخلوقة لله تَعَالَى.
فَإِن قيل: يُرِيد بِخلق أَفعاله حركته وسكونه. يُقَال: إِن أَفعَال الْحَيّ مخلوقة، يخلقه لِأَن الْحَيّ لَا يَخْلُو من حَرَكَة وَسُكُون فحركته فعله وسكونه فعله وهما مخلوقان مَعَه فِي ابْتِدَاء خلقه، لِأَن كَمَا وجد فعله مَعَه غير مُنْفَصِل عَنهُ، وَعدم بِعَدَمِهِ فَصَارَ جُزْءا من أَجزَاء ذَاته. فخالق كل جُزْء من أَجزَاء ذَاته، وكل صفة من صِفَات ذَاته.
لِأَن الْجُزْء من أَجزَاء الذَّات هُوَ الذت بِعَيْنِه، وَكَذَلِكَ الصّفة الذاتية هِيَ الذَّات بِعَينهَا فَلَا يجوز أَن يكون الله تَعَالَى خَالِقًا لبَعض الذَّات، وَلَا يكون خَالِقًا لبعضه.(2/445)
فصل فِي ذكر آيَة تدل عَلَى وحدانية الله تَعَالَى فِي خلق الشَّمْس وَالْقَمَر
428 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَخْبَرَنَا وَالِدِي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّد ابْن يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ يَوْمًا: " أَتَدْرُونَ أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشَّمْسُ؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " إِنَّ هَذِهِ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَخِرُّ سَاجِدَةً فَلا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ لَهَا: ارْتَفِعِي، ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلَعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا ذَلِكَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَخِرُّ سَاجِدَةً فَلا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلَعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي لَا يُنْكِرُ النَّاسُ مِنْهَا شَيْئًا حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا ذَلِكَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَيُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي، أَصْبِحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِكِ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَتَدْرُونَ مَتَى ذَلِكَ؟ حِينَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كسبت فِي إيمَانهَا خيرا} ".(2/446)
ذكر آيَة أُخْرَى تدل على وحداينة الله تَعَالَى وتعظيم قدرته فِي خلق النُّجُوم:
قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بمصابيح} ، وَقَالَ: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} .
429 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَخْبَرَنَا وَالِدِي، أخبرنَا خَيْثَمَة ابْن سُلَيْمَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ قَالا: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَزْيَدٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: حَدَّثَنِي رِجَالٌ مِنَ الأَنْصَارِ أَنَّهُمْ بَيْنَمَا هُمْ جُلُوس لَيْلَة مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذْ رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا رُمِيَ بِمِثْلِ هَذَا؟ " قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، كُنَّا نَقُولُ: وُلِدَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، وَمَاتَ اللَّيْلَةَ رجل عَظِيم. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّهَا لَا تَرْمِي لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ رَبَّنَا إِذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَتْ حَمَلَةُ الْعَرْش، ثمَّ سبحت أهل ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَقُولُ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالَ: فَيَسْتَخْبِرُ أَهْلُ السَّمَوَاتِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغَ الْخَبَرُ أَهْلَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَتَخْطَفُ الْجِنُّ فَيُلْقُونَهُ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ، وَيُرْمَوْنَ بِالشِّهَابِ، فَمَا جَاءُوا بِهِ عَلَى وَجْهٍ فَهُوَ الْحَقُّ، وَلَكِنَّهُمْ يَقْرِفُونَ فِيهِ، وَيزِيدُونَ ".(2/447)
ذكر آيَة أُخْرَى تدل عَلَى وحدانية الْخَالِق وبديع حكمته فِي إيلاج اللَّيْل فِي النَّهَار، وإيلاج النَّهَار فِي اللَّيْل:
قَالَ الله تَعَالَى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْل}
430 - أخبرنَا أَبُو عمر عبد الْوَهَّاب، أخبرنَا وَالِدي، أخبرنَا إِسْمَاعِيل ابْن يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدِّمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنِ ابْنٍ لأَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهْيَئِتِه بعد خلق الله السَّمَاوَات وَالأَرْضَ السَّنَةُ: اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِيهَا أَرْبَعَةٌ حرم، ثَلَاثَة ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَين جماد وَشَعْبَانَ ". وَهَكَذَا رَوَاهُ الثَّقَفِيّ عَن أَيُّوب وَلم يسم ابْن أَبِي بكرَة وَسَماهُ ابْن عون وقرة عَن ابْن سِرين، فَقَالَا عَن عبد الرَّحْمَن بن أَبِي بكرَة.
ذكر آيَة أُخْرَى تدل عَلَى وحدانية اللَّه تَعَالَى فِي إِمْسَاكه السَّحَاب فِي جو السَّمَاء.
431 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أَخْبَرَنَا وَالِدِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْزَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُونُسَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حبيب،(2/448)