بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
الحمد لله الذي أحكم ما خلق وقدر وعدل فيما قسم ودبر وأنذر بما أنشأ وأظهر واستأثر بما أخفى وأسر وأنعم بما أمر وحظر وأرشد إلى إنذاره بنوعي تفضيل تميز بهما جنس البشر عن كل حيوان بهيم وهما نطق يفضي إلى الفهم وعقل يؤدي إلى العلم ليعان بهما على ما كلف من أوان التعبد فيصل بالعقل إلى علمه واستعلامه وبالنطق إلى فهمه واستفهامه فيصير مهيأ لقبول ما كلف من التعارف ومعانا على ما تعبد به من الشرائع نعمة بها قطع الأعذار وعم بها المصالح ليكون الخلق على رغب يدعوهم إلى الطاعة ورهب يكفهم عن المعصية فيعم الخير بالرغبة وينحسم الشر بالرهبة وهذا لا يستقر في النفوس إلا برسل مبلغين عن الله ثوابه فيما أمر وعقابه فيما حظر فوجب أن يوضح في إثبات النبوات ما ينتفي عنه ارتياب مغرور وشبهة معاند وقد جعلت كتابي هذا مقصورا على ما أفضى ودل عليه ليكون عن الحق موضحا وللسرائر مصلحا وعلى صحة النبوة دليلا ولشبه المستريب مزيلا وجعلت ما تضمنه مشتملا على أمرين
أحدهما ما اختص بإثبات النبوة من إعلامها
والثاني : فيما يختلف من أقسامها وأحكامها ليكون الجمع بينهما أنفى للشبهة وأبلغ في الإبانة وجعلت ما تضبه هذا كتابا مشتملا على أحد وعشرين بابا
الباب الأول في مقدمة الأدلة
الباب الثاني في معرفة الإله المعبود
الباب الثالث في صحة التكليف
الباب الرابع في إثبات النبوات
الباب الخامس في مدة العالم وعدة الرسل عليهم الصلاة والسلام
الباب السادس في إثبات نبوة محمد
الباب السابع فيما يتضمنه القرآن من أنواع إعجازه
الباب الثامن في معجزات عصمته
الباب التاسع فيما شوهد من معجزات أفعاله
الباب العاشر فيما سمع من معجزات أقواله
الباب الحادي عشر فيما أكرمه الله تعالى به من إجابة دعوته
الباب الثاني عشر في إنذاره بما يستحدث بعده
الباب الثالث عشر في معجزه بما ظهر من البهائم
الباب الرابع عشر في ظهور المعجز من الشجر والجماد
الباب الخامس عشر في بشائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بنبوته
الباب السادس عشر في هتوف الجن بنبوته
الباب السابع عشر فيما هجست النفوس من إلهام العقول بنبوته
الباب الثامن عشر في مبادىء نسبه وطهارة مولده
الباب التاسع عشر في آيات مولده وظهور بركته
الباب العشرون في شرف أخلاقه وكمال فصائله
الباب الحادي والعشرون في مبتدى بعثته واستقرار نبوته
وأنا أسأل الله تعالى حسن معونته وأرغب إليه في توفيقه وهدايته وعلى آله وصحابته وهو حسبي ونعم الوكيل
في مقدمة الأدلة
و الأدلة ما أوصلت إلى العلوم بالمدلول عليه و الدليل معلوم بالعقل و الدليل عليه معلوم بالدليل فيكون العقل موصلا إلى الدليل و ليس بدليل لأن العقل أصل كل معلوم من دليل و مدلول عليه و لذلك سمي أم العلم فصار العقل مستدلا و إن لم يكن دليلا و العلم الحادث عنه ما تميز به الحق من الباطل و الصحيح من الفاسد و الممكن من الممتنع و هو على ضربين : علم اضطرار و علم اكتساب
علم الاضطرار :
فأما علم الاضطرار فهو ما أدرك ببداهة العقول وهو نوعان : حسن ظاهر و خبر متواتر و علم الحس متأخر عن العقل و علم الخبر متقدم عليه و لا يفتقر علم الاضطرار إلى نظر و استدلال لإدراكه ببديهة العقل و يشترك فيه الخاصة و العامة و لا يتوجه إليه جحد و لا تحسن المطالبة فيه بدليل لأنه غاية لتناهي النظر
علم الاكتساب :
و أما علم الاكتساب فطريقة النظر و الاستدلال : لأنه غير مدرك ببديهة العقل فصح أن يتوجه إليه الاعتراض فيه بطلب الدليل عليه فلذلك لم يتوصل إليه إلا بالنظر و الاستدلال و هو على ضربين :
أحدهما : ما كان من قضايا العقول
و الثاني : ما كان من أحكام السمع
قضايا العقول :
فأما قضايا العقول فضربان أحدهما : ما علم استدلالا بضرورة العقل و الثاني : ماعلم استدلالا بدليل العقل فأما المعلوم بضرورة العقل فهو ما لا يجوز أن يكون على خلاف ما هو به كالتوحيد فيوجب العلم الضروري و إن كان عن استدلال للوصول إليه بضرورة العقل و أما المعلوم بدليل العقل فهو ما يجوز أن يكون على خلاف ما هو به كأحد الأنبياء إذا ادعى النبوة فيوجب علم الاستدلال و لا يوجب علم الاضطرار لحدوثه عن دليل العقل لا عن ضرورته
ثبوت النبوات :
و اختلف في أصل النبوات على العموم هل يعلم بضرورة العقل أو بدليله على اختلافهم في التعبد بالشرائع هل اقترن بالعقل أو بعقبه فذهب من جعله مقترنا بالعقل إلى إثبات عموم النبوات بضرورة العقل
و ذهب من جعله متأخرا عن العقل إلى إثباتها بدليل العقل و ذهب أصحاب الإلهام إلى إسقاط الاستدلال بقضايا العقول و جعلوا إثبات المعارف بالإلهام أصلا يغني عن أصل و هذا فاسد بقول الله تعالى : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } فجعله بالاعتبار مدركا دون الإلهام يقال لمن أثبت المعارف بالإلهام لم قلت بالإلهام فإنه استدلال ناقص قال قلته بالإلهام قيل له انفصل عمن أسقط الإلهام بالإلهام و عمن قال في الإلهام بغير إلهامك في جميع أقوالك فلا تجد فصلا و كفى في ذلك فسادا فإذا ثبت أن كلا الضربين مدرك بقضية العقل فيما علم بضرورته من التوحيد أو بدليله من النبوة صار بعد العلم به واجبا
وجوب الإيمان بالأنبياء :
و اختلف في وجوبه هل و جب بما صار معلوما به من قضية العقل أو بالسمع ؟
فذهب قوم إلى وجوب التوحيد و النبوة بالعقل كما علم بالعقل و يكون التوحيد و عموم النبوات قبل السمع فرضا
و ذهب آخرون إلى وجوبهما بالسمع و إن علما بالعقل لأن الوجوب تعبد لا يثبت إلا بالسمع و اختلف من قال بهذا في وجوب ورود السمع به فأوجبه بعضهم و لم يوجبه آخرون منهم و أسقطوا فرض التوحيد عن العقلاء إذا لم يرد سمع بإيجابه
و ذهب آخرون إلى أن ما علم بضرورة العقل من التوحيد واجب بالعقل و ما علم بدليل العقل من النبوة واجب بالسمع لأن التوحيد أصل و النبوة فرع والاجتهاد فيهما فرض على أعيان ذوي العقول إذا اقترن بكمال عقله قوة الفطنة و صحة الروية فيستغني بكمال عقله و صحة رويته عن تنبيه ذوي العقول الوافرة ليصل باجتهاد عقله من اضطرار أو استدلال إلى قضايا العقول ليصير عالما بها و مستغنيا عن عقل غيره فيها
و إن ضعفت فطنته و قلت رويته لزمه أن يتنبه بذوي العقول على الوصول إليها بعقله لا بعقولهم فيعلمها بالتنبيه كما علمها غيره بالنظر و إن لم يصل إليها بالتنبيه فليس بكامل العقل و يصير تبعا لذوي العقول لأن عدم الموجب دال على سقوط الموجب
ما هو العقل :
و العقل : هو ما أفاد العلم بموجباته و قيل : بل هو قوة التمييز بين الحق و الباطل و قيل : هو العلم بخفيات الأمور التي لا يوصل إليها إلا بالاستدلال و النظر و هو ضربان : غريزي هو أصل و مكتسي هو فرع
فأما الغريزي فهو الذي يتعلق به التكليف و يلزم به التعبد و أما المكتسب فهو الذي يؤدي إلى صحة الاجتهاد و قوة النظر و يمتنع أن يتجرد المكتسب عن الغريزي و لا يمتنع أن يتجرد الغريزي عن المكتسب لأن الغريزي أصل يصح قيامه بذاته و المكتسب فرع لا يصح قيامه إلا بأصله و من الناس من امتنع من تسمية المكتسب عقلا لأنه من نتائجه و لا اعتبار بالنزاع في التسمية إذا كان المعنى مسلما
الإيمان بالسمع :
و أما أحكام السمع فمأخوذة عمن يلزم طاعته من الرسل و العقل مشروط في التزامها و إن لم يكن السمع مشروطا في قضايا العقول و ما يتضمنه السمع نوعان : تعبد و إنذار
فالتعبد الأوامر و النواهي و الإنذار الوعد و الوعيد فإن حمع الرسول بين التعبد و الإنذار فهو الشرع الكامل المغني عن غيره و إن انفرد بالتعبد دون الإنذار فإن تقدمه إنذار غيره كمل الشرع بتعبده و إنذاره من تقدمه و إن لم يتقدمه إنذار من غيره إما في مبادئ النبوات أو في من لم تبلغهم دعوة الأنبياء
هل تقتضي العقول الثواب ؟
فقد اختلف في قضايا العقول هل تقتضي الثواب على الطاعة و العقاب على المعصية ؟ فذهب فريق إلى اقتضائهما لذلك فعلى هذا يكون شرعا كمل بتعبد الرسول و إنذار العقول
و ذهب فريق إلى أن قضايا العقول لا تقتضي ثوابا و لا عقابا فعلى هذا اختلف في التعبد هل يكون مستحقا على ما تقدم من نعم الله تعالى على خلقه أو لجزاء مستقبل ؟
فذهب فريق إلى استحقاقه بسابق النعمة فإن وعد الله تعالى ثوابا عليه كان تفضلا منه يستحق بالوعد دون التعبد فعلى هذا يكون التعبد فرضا مستحقا يقتضي تركه عقابا و إن لم يقتض فعله ثوابا
و ذهب آخرون إلى استحقاقه بما يقابله من الجزاء بالثواب عليه و ما تقدم من النعمة تفضل منه فعلى هذا يكون التزام التعبد مستحبا و ليس بمستحق فلا يلزم على تركه عقاب كما لم يستحق على فعله ثواب لأنه لم يقترن به وعد بثواب يوجب التزام التعبد
و إن انفرد الرسول بالإنذار دون التعبد فالإنذار لا يكون إلا على فعل و إلا كان عبثا لا يصدر عن كليم فإن كان إنذاره على شرع تقدمه تضمن إنذاره إثبات ذلك الشرع و كان هذا المنذر من أمة ذلك المتعبد و إن كان المتعبد
قد أنذر كان هذا الإنذار تأكيدا و لم يحتج هذا المنذر إلى إظهار معجز و إن لم يكن المتعبد قد أنذر تكامل شرع المتعبد بإنذار المتأخر و تكامل إنذار المتأخر بتعبد المتقدم و احتاج هذا المنذر إلى إظهار معجز إلى إنذاره موجب لكمال الشرع و إن أنذر المتأخر على فعل الخير و اجتناب الشر خرج عن حكم الشرع إلى الوعظ و الزجر بأمر إلهي يستحق له بسط اليد في الإنكار و استيفاء ما تضمنه الإنذار (1/15)
في معرفة الإله المعبود
لا يصح التعبد ببعثة الرسل إلا بعد معرفة المعبود المرسل ليعلم أنهم رسل مطاع معبود فيطاعوا لفرض طاعة المعبود و المعبود هو الله عز و جل المنعم على عباده بما كلفهم من عبادته و افترض عليهم من طاعته بعد النعمة عليهم بخلق ذواتهم و الإرشاد إلى مصالحهم و استودعهم علم اضطرار يدرك ببداية العقول و علم اكتساب يدرك بالفكر و النظر و لما كانوا محجوبين عن ذاته لم يدركوه ببداية الحواس اضطرارا و قد ظهر من إظهار آثار صنعته و إتقان حكمته ما يوصل إلى معرفة ذاته و صفاته اكتسابا لإدراكها بالاعتبار و النظر و لو شاء لخلق ما يدرك ببداية الحواس لكن معرفته بالاستدلال أبلغ في الحكمة لظهور التباين في الرتبة فلذلك ما امتنع الوصول إلى معرفته اضطرارا و وصل إليها استدلالا و اكتسابا يخرج عن بداية العقول إلى استدلال معقول و الذي يؤدي إلى معرفته جل جلاله ثلاثة فصول :
أحدهما : أن العالم محدث و ليس بقديم
و الثاني : ان للعالم محدثا قديما
و الثالث : أنه واحد لا شريك له
حدوث العالم :
فأما الفصل الأول في حدوث العالم فالمحدث ما كان له أول و القديم ما لا أول له و الدليل على حدوث العالم شيئان :
أحدهما : أن العالم جواهر و أجسام لا تنفك عن أعراض محدثة من اجتماع و افتراق و حركة و سكون و إنما كانت الأعراض محدثة لأمرين :
أحدهما : أنه لا يصح قيامها بذواتها و الثاني : لوجودها بعد عدمها و زوالها بعد وجودها و ما لم ينفك عن الأعراض المحدثة لم يسبقها لأنه لو سبقها لكان لا مجتمعا و لا مفترقا و لا متحركا و لا ساكنا و هذا مستحيل فاستحال سبقه و ما لم يسبق المحدث فهو محدث
فإن قيل : فليس يستنكر أن تكون الحوادث الماضية لا أول لها فلم يلزم حدوث العالم
قيل : إذا كان لكل واحد من الحوادث أول استحالة أن لا يكون لجميعها أول لأنها ليست غير آحادها فصارت جميعها محدثة لأنها ذوات أوائل محدثة
و الدليل الثاني على حدوث العالم : وجوده محدودا متناهي الأجزاء و الأبعاد و ما تناهت أجزاؤه و أمكن توهم الزيادة عليه و النقصان منه كان تقديره على ما هو به دليلا على أن غيره قدره إذ ليس كون ذاته على صفة بأولى من كونه على غيرها لولا تدبر غيره لها
فإن قيل : فلم لا كانت طينته قديمة و أعراض تركيبه و تصويره حادثة كأفعال الله تعالى حادثة عن ذاته القديمة
قيل : لأن حدوث أعراضه فيه وهو لا ينفك منها فصار محدثا بها و أفعال الله تعالى حادثة في غيره فلم يمنع حدوثها من قدمه و لو حدثت فيه لمنعت من قدمه
محدث العالم قديم :
و أما الفصل الثاني أن للعالم محدثا قديما فالدليل على أن له محدثا قديما شيئان أحدهما : أنه لما استحال أن يكون للعالم محدثأ لذاته لإفضائه إلى وجوده قبل حدثه دل على أن محدثه غيره و الثاني : أن وجود ما لم يكن يوجب أن يقتضي موجدا كما اقتضى المبني بانيا و المصنوع صانعا و الدليل على قدم محدثه شيئان أحدهما : أنه لا أول له و ما لا أول له قديم و الثاني : أنه لو لم يكن قديما لاحتاج محدثه إلى محدث و لا تنتهي إلى ما لا غاية له فامتنع و ثبت قدمه أنه لم يزل و لا يزال فلم يكن له أول و لا يكون له آخر و إذا كان محدثه قديما وجب أن يكون قادرا مريدا و الدليل على قدرته أنه يصح نه أن يفعل و لا يفعل مع انتفاء الموانع و قد فعل فدل وجود الفعل منه على قدرته عليه و الدليل على أنه مريد أنه لما وجد منه الفعل و هو غير ساه و لا مكره و لا عابث لانتفاء السهو عنه بعلمه و انتفاء الإكراه عنه بحكمته دل على إرادته كما كانت كتابة الكاتب مع انتفاء هذه العوارض دليلا على إرادة كتابته فصار إحداثه للعالم دليلا على قدمه و حدوث أفعاله و قدمه يوجب أن يكون صفات ذاته قديمة لقدمه و حدوث أفعاله يوجب أن تكون صفات أفعاله محدثة
المحدث واحد لا شريك له :
و أما الفصل الثالث : أنه واحد لا شريك له و لا مثل فالدليل عليه شيئان :
أحدهما : أن عموم قدرته شامل لجميع المحدثات فوجب أن يكون محدث بعضها محدثا لجميعها إذ ليس بعضها بأخص بقدرته من بعض فأوجب تكافؤ الأمرين عموم الجميع
و الثاني : أنه لو كان معه غيره لم يخل أن يكون مماثلا أو مخالفا فإن خالفه بطل أن يكون قادرا و إن ماثله استحال وجود إحداث و احد من محدثين كما استحال و جود حركة واحدة من متحركين
زعم من أشرك :
و ذهب الثنوية من المتباينة إلى إثبات قديمين هما عندهم : نور و ظلمة يحدث الخير عن النور و الشر عن الظلمة و هذا فاسد من و جهين :
أحدهما : أن النور و الظلمة لا ينفكان أن يكونا جسما أو جوهرا أو عرضا و جميعها محدثة فدل على حدوثهما
و الثاني : أن الظلمة ليست بذات و إنما هي فقد النور عما يقبل النور و لهذا إذا فقدنا النور في الهواء تصورناه مظلما فلم يجز أن يرصف بقدم و لا يضاف إليها فعل
و ذهب المجوس إلى أن الله تعالى و الشيطان فاعلان فالله تعالى فاعل الخير و خالق الحيوان النافع و الشيطان فاعل الشر و خالق الحيوان الضار قالوا : لأن فاعل الشر شرير و يتعالى الله عن هذه الصفة و جعلوا الله تعالى جسما و إن كان قديما و اختلفوا في قدم الشيطان فقال به بعضهم و امتنع من قدمه زرادشت و أكثرهم و اختلفوا في علة حدوثه فزعم زرادشت أن الله تعالى استوحش ففكر فكرة رديئة فتولد منها أهرمن و هو إبليس و قال غيره بل شك فتولد الشيطان من شكه و قال آخرون بل حدث عفن فتولد الشيطان من عفنه و هذه أقاويل تدفعها العقول
أما جعلهم الله تعالى جسما : فدليلنا على حدوث الأجسام يمنع أن يكون الله تعالى مع قدمه جسما : و دليلنا على الثنوية يمنع أن يكون الشيطان معه ثانيا و إثبات قدرته يمنع أن يكون مغلوبا و علمه يمنع أن يكون شاكا أو مفكرا و انتفاء الحزن عنه يمنع أن يكون مستوحشا و امتناع الفساد عليه يمنع أن يكون عفنا و قولهم : إن فاعل الشر شرير قيل خروجه عن قدرته مثبت لعجزه فوجب أن يدخل في عموم قدرته
دين النصارى :
فأما النصارى فقد كانوا قبل أن تنصر قسطنطين الملك على دين صحيح في توحيد الله تعالى و نبوة عيسى عليه السلام ثم اختلفوا في عيسى بعد تنصر قسطنطين و هو أول من تنصر من ملوك الروم فقال أوائل النسطورية إن عيسى هو الله و قال أوائل اليعاقبة إنه ابن الله و قال أوائل الملكانية إن الآلهة ثلاثة أحدهم عيسى ثم عدل أواخرهم عن التصريح بهذا القول المستنكر حين استنكرته النفوس و دفعته العقول فقالوا : إن الله تعالى جوهر واحد هو ثلاثة أقانيم : أقنوم الأب و أقنوم الابن و أقنوم روح القدس و إنها واحدة في الجوهرية و ان أقنوم الأب الذات و أقنوم الابن هو الكلمة و أقنوم روح القدس هو الحياة
الأقانيم عند النصارى : و اختلفوا في الأقانيم فقال بعضهم : هي خواص و قال بعضهم هي أشخاص و قال بعضهم : هي صفات و قالوا : إن الكلمة اتحدت بعيسى و اختلفوا في الاتحاد
فقال النسطوريه : معنى الاتحاد أن الكلمة ظهرت حتى جعلته هيكلا و أن المسيح جوهران أقنومان أحدهما إآلهي و الآخر إنساني فلذلك صح منه الأفعال الإلهية من اختراع الأجسام و إحياء الموتى و الأفعال الإنسانية من الأكل و الشرب
و قال اليعاقبة : الاتحاد هو الممازجة حتى صار منها شيء ثالث نزل من السماء و تجسد من روح القدس و صار إنسانا هو المسيح و هو جوهر من جوهرين و أقنوم من أقنومين جوهر لاهوتي و جوهر ناسوتي
و قال الملكانية المسيح جوهران : أقنوم واحد و ليس لهذه المذاهب شبهة تقبلهاالعقول و فسادها ظاهر في المعقول
الرد على النصارى :
أما قولهم : إن الله تعالى جوهر فقد دللنا على حدوث الجواهر فاستحال أن يكون القديم جوهرا و أما قولهم : إنه ثلاثة أقانيم فإن جعلوها أشخاصا و قالوا بالتثليث و امتنعوا من التوحيد و قد دللنا على أن القديم واحد
و إن جعلوا الأقانيم خواص و صفات لذات واحدة فقد جعلوه أبا و ابنا من جوهر أبيه فشركوا بينهما في الجوهر الإآلهي و فضلوه على الأب بالجوهر الإنساني فلم يكن مع اشتراكهما في الجوهر الإآلهي أن يتولد من الأب بأولى أن يتولد منه الأب مع تفضيله بالجوهر الإنساني وكيف يكون قديما ما تولد عن قديم ؟ و إنما ظهرت منه الأفعال الإآلهية لأنها من قبل الله تعالى إظهارا لمعجزته و ليست من فعله : كفلق البحر لموسى عليه السلام و ليس ذلك من إآلهية موسى و قولهم جوهر لاهوتي و جوهر ناسوتي فناسوت المسيح كناسوت غيره من الأنبياء و قد زال ناسوته فبطل لاهوته
معنى الوحدانية : فإذا ثبت أن الله تعالى واحد قديم فقد اختلف في معنى وحدانيته فقالت طائفة : المراد بأنه واحد : أن جميع المحدثات منسوبة إلى قدرة واحدة أحدث القادر بها جميع المحدثات
و قالت طائفة أخرى : المراد به نفي القسمة عن ذاته و استحال التبغض و التجزئة في صفته
و قال الجمهور : ـ و هو المذهب المشهور ـ : إنه واحد الذات قديم الصفات تفرد بالقدم عن شريك مماثل و اختص بالقدرة عن فاعل معادل لا شبه لذاته تنتفي عنه الحوادث و الأعراض و لا تناله المنافع و المضار ولا ينعت بكل و لا بعض و لا يوصف بمكان يحل فيه أو يخلو منه لحدوث الأمكنة استحالة التجزئة : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } كما وصف نفسه في كتابه و دلت عليه آثار صنعته و إتقان حكمته و قد سئل علي بن أبي طالب كرم الله تعالى و جهه عن العدل و التوحيد فقال : [ التوحيد أن لا تتوهمه و العدل أن لا تتهمه ] ففصح بما بهر إيجازه و قهر إعجازه و قد لحظ دلائل التوحيد من السعداء من قال :
( أيا عجبا كيف يعصي الإله ... أم كيف يجحده جاحد )
( و في كل شيء له شاهد ... دليل على أنه واحد ) (1/20)
الباب الثالث ـ في صحة التكليف
معنى التكليف :
التكليف هو إلزام ما ورد به الشرع تعبدا و هو نوعان :
أحدهما : ما تعلق بحقه من أمر بطاعة و نهي عن معصية
و الثاني : ما تعلق بحقوق عباده من تقدير الحقوق و تقرير العقود ليكونوا مدبرين بشرع مسموع و منقادين لدين متبوع فلا تختلف فيه الآراء و لا تتبع فيه الأهواء و ليعلموا به ابتداء النشأة و انتهاء الرجعة فتصلح به سرائرهم الباطنة له و تخشع له قلوبهم القاسية و تجتمع به كلمتهم المتفرقة و تتفق عليه أحوالهم المختلفة و يسقط به تنازعهم في الحقوق المتجاذبة و يكونوا على رغب في الثواب يبعثهم على الخير و رهب من العقاب يكفهم عن الشر و هذه أمور لا يصلح الخلق إلا عليها ولا يوصل بغير الدين المشروع إليها إذ ليس في طباع البشر أن يتفقوا على مصالحهم من غير وازع ولا يتناصفوا في الحقوق من غير دافع لحرصهم على اختلاف المنافع وبهذا يفسد ما ذهبت إليه البراهمة من الاقتصار على قضايا العقول و إبطال التعبد بشرائع الرسل
فالتكليف حسن في العقول إذا توجه إلى من علمت طاعته و اختلف في حسنه إذا توجه إلى من علمت معصيته و استحسنه المعتزلة لأن فيه تعريضا للثواب و لم يستحسنه الأشعرية لأنه بالمعصية معرض للعقاب و الأول أشبه بمذهب الفقهاء و إن لم يعرف لهم فيه قول يحكى
التكليف بالأصلح :
و اختلف في التكليف هل يكون معتبرا بالأصلح فالذي عليه أكثر الفقهاء : أنه معتبر بالأصلح لأن المقصود به منفعة العباد و ذهب فريق من الفقهاء و المتكلمين إلى أنه موقوف على مشيئة الله تعالى من مصلحة و غيرها لأنه مالك لجميعها
فمن اعتبر الأصلح منع من تكليف ما لايطاق ومن اعتبره بالمشيئة جوز تكليف ما لا يطاق و يصح تكليف ما لحقت فيه المشقة المحتملة
و اختلف في صحة التكليف فيما لا مشقة فيه فجوزها الفقهاء و منع منها بعض المتكلمين و قد ورد التعبد بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة و ليس فيه مشقة و إذا اعتبر التكليف بالاستطاعة لم يتوجه إلى ما خرج عن الاستطاعة و اختلف في المانع منه فقال فريق : منع منه العقل لامتناعه فيه و قال فريق : منع منه الشرع و إن لم يمنع منه العقل بقواه تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها }
وجوب التكليف :
فإذا تقرر شروط التكليف مع كونه حسنا فقد اختلف في وجوبه فأوجبه من اعتبر الأصلح و جعله مقترنا بالعقل لأنه من حقوق حكمته و لم يوجبه من حمله على الإرادة لأن الواجب يقتضي علو الموجب و هذا منتف عن الله تعالى و اختلف من قال بهذا في تقدم العقل على الشرع
فقال فريق : يجوز أن يقترن بالعقل و يجوز أن يتأخر عنه بحسب الإرادة و لا يجوز أن يتقدم على العقل لأن العقل شرط في لزوم التكليف
و قال فريق : بل يجب أن يكون التكليف واردا بعد كمال العقل و لا يقترن به كما يتقدم عليه لقوله الله تعالى : { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } و هذه صفة متوجهة إليه بعد كمال عقله
التكليف الشرعي :
و قد استقر بما قدمناه أن التكليف الشرعي ما تضمنه الأوامر و النواهي في حقوق الله تعالى و حقوق عباده
و المأمور به ضربان : واجب و ندب
فالواجب ما وجب أن يفعل والندب ما الأولى أن يفعل
و المنهي عنه ضربان : مكروه و محظور فالمحظور ما وجب تركه والمكروه ما الأولى تركه
فأما المباح فما استوى فعله و تركه فلا يجب أن يفعل و لا الأولى أن يفعل و لا يجب أن يترك و لا الأولى أن يترك
و اختلف في دخول المباح في التكليف
فذهب بعض أصحاب الشافعي رحمه الله إلى دخوله في التكليف و اختلف قائل هذا هل دخل فيه بإذن أو بأمر على وجهين أحدهما : بإذن ليخرج حكم الندب والثاني : بأمر دون أمر الندب كما أن أمر الندب دون أمر الواجب
و ذهب آخرون من أصحاب الشافعي رحمه الله إلى خروجه من التكليف بإذن أو أمر لاختصاص التكليف بما تضمنه ثواب أوعقاب و اتفقوا في المباح أنه لا يستحق عليه حمد و لا ذم و يخرج عن القبيح و اختلفوا في دخوله في الحسن فادخله بعضهم فيه و أخرجه بعضهم منه
التكليف والإرادة :
و الأمربالتكليف هو استدعاء الطاعة بالانقياد للفعل و اختلفوا في اقتران الإرادة به هل يكون شرطا في صحته ؟
فذهب الأشعري إلى أن الإرادة غير معتبرة فيه و يجوز أن يأمر بما لا يريده و لا يكون أمرا كالذي يريده و ذهب المعتزلة إلى أنه لا يكون أمرا إلا بالإرادة فإن لم تعلم إرادته لم يكن أمرا
و اختلفوا هل تعتبر إرادة الأفراد إرادة المأمور به فاعتبر بعضهم إرادة الأمر المنطوق به و اعتبر آخرون منهم إرادة الفعل المأمور به
و الذي عليه جمهور الفقهاء أن الأمر دليل على الإرادة و ليست الإرادة شرطا في صحة الأمر و إن كانت موجودة مع الأمر فيستدل بالأمر على الإرادة و لا يستدل بالإرادة على الأمر
هل صحة الأمر موافقة العقل ؟
و من صحة الأمر أن يكون بما لا يمنع منه العقل فإن منه العقل لم يصح الأمر به لخروج التكليف عن محظورات العقول
و اختلف هل يعتبر صحته بحسنه في العقل ؟ فاعتبره فريق و أسقطه فربق و إذا لم يكن يستوعب نصوص الشرع قضايا العقول كلها جاز العمل بمقتضى العقل فيها
و اختلف في إلحاقها بأحكام الشرع فألحقها فريق بها و جعلها داخلة فيها لأن الشرع لا يخرج عن مقتضاها و أخرجها فريق منها وإن جاز العمل بها كالمشروع لأن الشرع مسموع و العقل متبوع
الأمر يكون بالقول :
و الأمر يكون بالقول أو ما قام مقام القول إذا عقل منه معنى الأمر واختلف فيه متى يكون أمرا
فذهب جمهور الفقهاء و المتكلمين إلى أنه يكون أمرا وقت القول و يتقدم على الفعل
و ذهب شاذ من الفقهاء و المتكلمين إلى أنه يكون أمرا وقت الفعل و ما تقدمه من القول إعلام بالأمر و ليس بأمر و هذا فاسد لأن الفعل يجب بالأمر فلو لم يكن ما تقدمه أمرا لاحتاج مع الفعل إلى تجديد أمر
أمر الإعلام و أمر الإلزام :
و الأمر ضربان : أمر إعلام و أمر إلزام
فأما أمر الإعلام فمختص بالاعتقاد دون الفعل ويجب أن يتقدم الأمر على الاعتقاد بزمان واحد و هو وقت العلم به
و أما أمر الإلزام فمتوجه إلى الاعتقاد و الفعل فيجمع بين اعتقاد الوجوب و إيجاد الفعل و لا يجزئه الاقتصار على أحدهما فإن فعله قبل اعتقاد وجوبه لم تجزه و إن اعتقد وجوبه ولم يفعله كان مأخوذا به
و لا يلزم تجديد الاعتقاد عند فعله إذا كان على ما تقدم من اعتقاده لأن الاعتقاد تعبد التزام و الفعل تأدية مستحق ويجب أن يتقدم الأمر على الفعل بزمان الاعتقاد و اختلف في اعتبار تقديمه بزمان التأهب للفعل على مذهبين أحدهما : و هو قول شاذ من الفقهاء يجب تقديمه على الفعل بزمانين أحدهما : زمان الاعتقاد و الثاني : زمان التأهب للفعل و به قال من المتكلمين من اعتبر القدرة قبل الفعل
و المذهب الثاني : و هو قول جمهور الفقهاء يعتبر تقديم الأمر على الفعل بزمان الاعتقاد وحده و التأهب للفعل شروع فيه فلم يعتبر تقدمه عليه وبه قال من المتكلمين من اعتبر القدرة مع الفعل (1/27)
الباب الربع ـ في إثبات النبوات
حاجة الناس إلى الرسل :
و الأنبياء هم رسل الله تعالى إلى عباده بأوامر و نواهيه زيادة على ما اقتضته العقول من واجباتها و إلزاما لما جوزته من مباحاتها لما أراده الله من كرامة العاقل و تشريف أفعاله و استقامة أحواله و انتظام مصالحه حين هيأه للحكمة و طبعه على المعرفة ليجعله حكيما و بالعواقب عليما لأن الناس بنظرهم لا يدركون مصالحهم بأنفسهم و لا يشعرون لعواقب أمورهم بغرائزهم و لا ينزجرون مع اختلاف أهوائهم دون أن يرد عليهم آداب المرسلين و أخبار القرون الماضين فتكون آداب فيهم مستعملة و حدوده فيهم متبعة و أوامره فيهم ممتثلة وو عده و وعيده فيهم زاجرا و قصص من غبر من الأمم واعظا فإن الأخبار العجيبة إذا طرقت الأسماع و المعاني الغريبة إذا أيقظت الأذهان استمدتها العقول فزاد علمها و صح فهمها و أكثر الناس سماعا و أكثرهم خواطر و أكثرهم خواطر أكثرهم تفكرا و أكثرهم تفكرا أكثرهم علما و أكثرهم علما أكثرهم عملا فلم يو جد عن بعثه الرسل معدل و لا منهم في انتظام الحق بدل
منكر و النبوات :
و أنكر فريق من الأمم نبوات الرسل و هم فيها ثلاثة أصناف :
أحدها : ملحدة دهرية يقولون يقدم العالم و تدبير الطبائع فهم بإنكار المرسل أجدر أن يقولوا بإنكار الرسل
و الصنف الثاني : براهمة موحدة يقولون بحدوث العالم و يجحدون بعثة الرسل ويبطلون النبوات و هم المنسوبون إلى بهر من صاحب مقالتهم و شذ فريق منهم فادعى أنه آدم أبو البشر و منهم من قال هو إبراهيم و من قال من هذه الفرقة الشذة منهم أنه أحد هذين أقر بنبوتهما و أنكر نبوة من سواهما و جمهورهم على خلاف هذه المقالة في اعتزائهم لصاحب مقالتهم و إنكار جميع النبوات عموما
و الصنف الثالث : فلاسفة لا يتظاهرون بإبطال النبوات في الظاهر و هم مبطلوها في تحقيق قولهم لأنهم يقولون : إن العلوم الربانية بعد كمال العلوم الرياضية من الفلسفة و الهندسة ليضعها من كملت رياضته إذا كان عليها مطبوعا
الرد على منكري النبوات :
و اختلف من أبطل النبوات في علة إبطالها فذهب بعضهم إلى أن العلة في إبطالها أن الله تعالى قد أغنى عنها بما دلت عليه العقول من لوازم ما تأتي به الرسل و هذا فاسد من وجهين : أحدهما : أنه لا يمنع ما دلت عليه العقول جواز أن تأتي به الرسل وجوبا و لو كان العقل موجبا لما امتنع أن تأتي به الرسل وجوبا و لو كان العقل موجبا لما امتنع أن تأتي به الرسل تأكيدا كما تترادف دلائل العقول على التوحيد و لا يمنع وجود بعضها من و جود غيرها
و الثاني : إنه لا تستغني قضايا العقول عن بعثة الرسل من وجهين : أحدهما : إن قضايا العقول قد تختلف فيما تكافأت فيه أدلتها فانحسم ببعثه الرسل اختلافها
و الثاني : أنه لا مدخل للعقول فيما تأتي به الرسل من الوعد و الوعيد و الجنة و النار و ما يشرعونه من أوصاف التعبد الباعث على التأله فلم يغن عن بعثة الرسل
و ذهب آخرون منهم إلى أن العلة في إبطال النبوات أن بعثة الرسل إلى من يعلم من حالتهم أنهم لا يقبلون منهم ما بلغوه إليهم عبث يمنع من حكمة الله تعالى و هذا فاسد من وجهين
أحدهما : أنه ليس بعبث أن يكون فيهم من لا يقبله كما لم يكن فيما نصبه الله تعالى من دلائل العقول على توحيده عبثا و إن كان منهم من لا يستدل به على توحيده كذلك بعثة الرسل
و الثاني : أن وجود من يقبله فهم على هذا التعليل يوجب بعثة الرسل و هم يمنعون إرسالهم إلى من يقبل و من لا يقبل فبطل هذا التعليل
و قال آخرون منهم : بل العلة فيه أن ما جاء به الرسل مختلف ينقض بعضه بعضا و نسخ المتأخر ما شرعه المتقدم و قضايا العقول لا تتناقض فلم يرتفع بما يختلف و يتناقض و هذا فاسد من و جهين : أحدهما : أن ماجاء به الرسل ضربان أحدهما : ما لا يجوز أن يكون إلا على و جه واحد و هو التوحيد و صفات الرب المربوب فلم يختلفوا فيه و أقواله متناصرة عليه
و الضرب الثاني : ما يجوز أن يكون من العبادات على وجه و يجوز أن يكون على خلافه و يجوز أن يكون في وقت و لا يجوز أن يكون في غيره و هذا النوع هو الذي اختلفت فيه الرسل لاختلاف أوقاتهم : إما بحسب الأصلح و إما بحسب الإرادة و هذا في قضايا العقول جائز
و الوجه الثاني : أن قضايا العقول قد تختلف فيها العقلاء و لا يمنع ذلك أن يكون العقل دليلا كذلك ما اختلف فيه الرسل لا يمنع أن يكون حجة
و قال آخرون منهم : بل العلة في إبطال النبوات أنه لا سبيل إلى العلم بصحتها لغيبها و أن ظهور ما ليس في الطباع من معجزاتهم ممتنع الطباع الدافعة لها فهذا فاسد من وجهين أحدهما : أن المعجزات من فعل الله تعالى فيهم فخرجت عن حكم طباعهم و الثاني : لما تميزوا بخروجهم عن الطباع من الرسالة تميزوا بما يخرج عن عرف الطباع من الإعجاز
و قال آخرون منهم : بل العلة في إبطال النبوات إن ما يظهرونه من المعجز الخارج عن العادة قد يوجد مثله في أهل الشعبذة و المخرقة و أهل النارنجيات و ليس ذلك من دلائل صدقهم فكذلك أحكام المعجزات
و هذا فاسد من وجهين أحدهما : ان الشعبذة تظهر لذوي العقول و تندلس على الغر الجهول فخالفت المعجزة التي تذهل لها العقول و الثاني : أن الشعبذة تستفاد بالتعليم فيتعلمها من ليس يحسنها فيصير مكافئا لمن أحسنها و يعارضها بمثلها و المعجزة مبتكرة لا يتعاطاها غير صاحبها و لا يعارضه أحد بمثلها كما انقلبت عصا موسى حية تسعى تلتقف ما أفكه السحرة فخروا له سجدا
إثبات النبوات :
و لئن كان في إبطاله هذه الشبهة دليل على إثباتها فيستدل على إثبات النبوات من خمسة أوجه و إن اشتملت تلك الأجوبة على بعضها :
أحدها : أن الله تعالى منعم على عباده بما يرشدهم إليه من المصالح و لما كان في بعثة الرسل ما لا تدركه العقول كان إرسالهم من عموم المصالح التي تكفل بها
و الثاني : أن فيما تأتي به الرسل من الجزاء بالجنة ثوابا على الرغبة في فعل الخير و بالنار عقابا يبعث على الرهبة في الكف عن الشر صارا سببا لئتلاف الخلق و تعاطي الحق
و الثالث : إن في غيوب المصالح ما لا يعلم إلا من جهة الرسل فاستفيد بهم ما لم يستفد بالعقل
و الرابع : أن التأله لا يخلص إلا بالدين و الدين لا يصلح إلا بالرسل المبلغين عن الله تعالى ما كلفت
و الخامس : أن العقول ربما استكبرت من موافقة الأكفاء و متابعة النظراء فلم يجمعهم عليه إلا طاعة المعبود فيما أداه رسله فصارت المصالح بهم أعم و الإتقان بهم أتم و الشمل بهم أجمع و التنازع بهم أمنع
و يجوز إثبات التوحيد و النبوات بدقيق الاستدلال كما يجوز بجليه فإن ما دق في العقول هو أبلغ في الحكمة و قد تلوح لابن الرومي هذا المعنى فنظمه في شعره فقال :
( غموض الحق حين يذب عنه ... يقلل ناصر الخصم المحق )
( يجل عن الدقيق عقول قوم ... فيقضي للمجل على المدق )
كيفية بعثة الرسل :
فإذا ثبت جواز النبوات و بعثة الرسل بالعبادات فهم رسل الله تعالى إلى خلقه إما بخطاب مسموع أو بسفارة ملك منزل و منع قوم من مثبتي النبوات أن تكون نبوتهم عن خطاب أو نزول ملك لانتفاء المخاطبة الجسمانية عنه تعالى لأنه ليس بجسم و الملائكة من العالم العلوي بسيط لا تهبط كما أن العالم السفلي كثيف لا يعلو و اختلف من قال بهذا فيما جعلهم به أنبياء
فقال بعضهم : صاروا أنبياء بالإلهام لا بالوحي و هذا فاسد من وجهين
أحدهما : أن ما بطل به إلهام المعارف في التوحيد كان إبطال المعارف به في النبوة أحق
و الثاني : أن الإلهام خفي غامض يدعيه المحق و المبطل فإن ميزوا بينهما طلبت أمارة و إن عدلوا عن الإلهام فذلك دليل يبطل الإلهام
و قال آخرون منهم : إنما صاروا أنبياء لأن لله تعالى في العالم خواص و أسرارا تخالف مجرى الطبائع فمن أظفره الله تعالى بها من خلقه استحق بها النبوة و هذا فاسد من وجهين :
أحدهما : خفاؤها فيه غير دليل على صدقه
و الثاني : أنه يكون نبيا عن نفسه لا عن ربه فصار كغيره
و قال آخرون : بل صاروا أنبياء لأن الله تعالى خصهم من كمال العقول بما يتواصلون به إلى حقائق الأمور فلا يشتبه عليهم منها ما يشتبه على غيرهم فصاروا أنبياء عن عقولهم لا عن ربهم و هذا فاسد من وجهين :
أحدهما : أن هذا يقتضي فضل العلم في حقه و لا يقتضيه في حق غيره
و الثاني : أنه إن أخبر عن نفسه لم يكن رسولا و إن أخبر عن ربه كان كاذبا
و قال آخرون : إنما صاروا أنبياء لأن النور فيهم صفا و نما بالنور الأعظم الإلهي الذي تخلص به الأفهام و تصح به الأوهام حتى ينتقلوا إلى الطباع الروحانية و يزول عنهم كدر الطباع البشرية فيخرجوا عن شبح الكائنات بصفاء نورهم و خلاصهم و هذا قول الثنوية و هذا فاسد من وجهين :
أحدهما : أنهم دفعوا أسهل الأمرين من بعثة الرسل بأغلظهما من إعطاء نوره و أولى أن يدفعوا عن الأغلظ بما دفعوا به عن الأسهل و الثاني : أنهم أثبتوا به ممازجة الباري سبحانه فيما اختص بذاته و مخالفة الذات تمنع من ممازجته
الرد على المعترض :
و الجواب عما قالوه من امتناع المخاطبة الجسمانية عمن ليس بجسم من وجهين :
أحدهما : أنه لا يمنع أن يظهر منه كخطاب الأجسام و إن لم يكن جسما كما يظهر منه كأفعال الأجسام و إن لم يكن جسما
و الثاني : أن الله تعالى يجوز أن يودعه خطابه في الأسماع حتى تعيه الأذان و تفهمه القلوب بقدرته التي أخفاها عن خلقه
و الجواب عما ذكروه من : أن جرم الملائكة علوي لا ينهبط من وجهين :
أحدهما : أنه ليس يمنع ان ينتقل جرم سماوي لطيف إلى جرم أرضى كثيف إما بزيادة أو انقلاب كما يقولون في العقل و النفس إنهما جرمان علويان هبطا إلى الجسم فحلا فيه
و الثاني : أنهم يقولون بانقلاب الأجرام الطبيعات فيقولون : إن الهواء المركب من حرارة و رطوبة إذا ارتفعت حرارته ببرودة صار ماء باردا
و إن الماء المركب من برودة و رطوبة إذا ارتفعت برودته بحرارة صار هواء و أن الهواء المركب من حرارة و رطوبة إذا ارتفعت رطوبته بيبوسة صار نارا فإذا جاز ذلك عندهم في انقلاب الطبائع كان في فعل الله تعالى أجوز و هو عليها أقدر و لا يمكن أن يدفع أقاويلهم الخارجة عن قوانين الشرع إلا بمثلها و إن خرج عن حجاج أمثالنا لينقض قولهم بقولهم فلا يتدلس به باطل و لا يضل به جهول فما يضل عن الدين إلا قادح في أصوله و مزر على أهله
شروط صحة النبوة :
فإذا ثبت أن النبوة لا تصلح إلا ممن أرسله الله تعالى بوحيه إليه فصحتها إليه معتبرة بثلاثة شروط تدل على صدقه و وجوب طاعته
أحدها : أن يكون مدعي النبوة على صفات يجوز أن يكون مؤهلا لها لصدق لهجته و ظهور فضله و كمال حاله فإن اعتوره نقص أو ظهر منه كذب لم يجز أن يؤهل للنبوة من عدم آلتها و فقد أمانتها
بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد إلى بعض أحياء العرب يدعوهم إلى الإسلام فقالوا يا خالد : صف لنا محمدا قال : بإيجاز أم بأطناب قالوا : بإيجاز قال : هو رسول الله و الرسول على قدر المرسل
و الشرط الثاني : إظهار معجز يدل على صدقه و يعجز البشر عن مثله لتكون مضاهية للأفعال الإلهية ليعلم أنها منه فيصبح بها دعوى رسالته لأنه لا يظهرها من كاذب عليه و يكون المعجز دليلا على صدقه و صدقه دليلا على صحة نبوته
و الشرط الثالث : أن يقرن بالمعجز دعوى النبوة فإن لم يقترن بالمعجزة دعوى لم يصر بظهور المعجزة نبيا لأن المعجز يدل على صدق الدعوى فكان صفة لها فلم يجز أن تثبت الصفة قبل وجود الموصوف
فإن تقدم ظهور المعجز على دعوى النبوة كان تأسيسا للنبوة ككلام عيسى عليه السلام في المهد تأسيسا لنبوته فاحتاج مع دعوى النبوة إلى إحداث معجز يقترن بها ليدل على صدقه فيها
و إن تقدمت دعوى النبوة على المعجز اكتفى بحدوث المعجز بعدها عن اقترانه بها لأن استصحابه للدعوى مقترن بالمعجز فإن ظهر المعجز المقترن بالدعوى لبعض الناس دون جميعهم نظر فإن كانوا عددا يتواتر بهم الخبر و يستفيض فيهم الأثر كان الغائب عنه محجوبا بالمشاهد له في لزوم الإجابة و الانقياد للطاعة كما يكون العصر الثاني محجوبا بالعصر الأول و إن كان المشاهد للمعجز عددا لا يستفيض بهم الخبر و لا يتواتر بهم الأثر لإمكان تواطئهم على الكذب و يتوجه إلى مثلهم الخطأ و الزلل كان المعجز حجة عليهم و لم يكن حجة على غيرهم حتى يشاهدوا من المعجز ما يكونوا محجوبين به و سواء كان من جنس الأول أو من غير جنسه فإن قصر من شاهد الأول عن عدد التواتر و قصر من شاهد الثاني عن عدد التواتر لم يثبت حكم التواتر فيهما و لا في واحد منهما لجواز الكذب على كل واحد من العددين (1/33)
المعجزات تخرق العادات
و إذا كانت حجج الأنبياء على أممهم هي المعجز الدال على صدقهم فالمعجز ما خرق عادة البشر من خصال لا تستطاع إلا بقدرة إلهية تدل على أن الله تعالى خصه بها تصديقا على اختصاصه برسالته فيصير دليلا على صدقه في ادعاء نبوته إذا وصل ذلك منه في زمان التكليف و أما عند قيام الساعة إذا سقطت فيه أحوال التكليف فقد يظهر فيه من أشراطها ما يخرق العادة فلا يكون معجزا لمدعي نبوة و إنما اعتبر في المعجز خرق العادة لأن المعتاد يشمل الصادق و الكاذب فاختص غير المعتاد بالصادق دون الكاذب
أنواع المعجزات :
و إذا تقرر أن المعجز محدود بما ذكرناه من خرق العادة فقد ينقسم ما خرج عن العادة على عشرة أقسام :
أحدها : ما يخرج جنسه عن قدرة البشر كاختراع الأجسام و قلب الأعيان و إحياء الموتى فقليل هذا و كثير معجز لخروج قليله عن القدرة كخروج كثيره
و القسم الثاني : ما يدخل جنسه في قدرة البشر لكن يخرج مقداره عن قدرة البشر كطي الأرض البعيدة في المدة القريبة فيكون معجزا لخرق العادة
و اختلف المتكلمون في المعجز منه فعند بعضهم أن ما خرج عن القدرة منه يكون هو المعجز خاصة لاختصاصه بالمعجز و عند آخرين منهم إن جميعه يكون معجزا لاتصاله بما لا يتميز منه
و القسم الثالث : ظهور العلم بما خرج عن معلوم البشر كالإخبار بحوادث الغيوب فيكون معجزا بشرطين :
أحدهما : أن يتكرر حتى يخرج عن حد الاتفاق
و الثاني أن يتجرد عن سبب يستدل به عليه
و القسم الرابع : ما خرج نوعه عن مقدور البشر و إن دخل جنسه في مقدور البشر كالقرآن في خروج أسلوبه عن أقسام الكلام فيكون معجزا بخروج نوعه عن القدرة فصار جنسا خارجا عن القدرة و يكون العجز مع القدرة على آلته من الكلام أبلغ في المعجز
و القسم الخامس : ما يدخل في أفعال البشر و يفضي إلى خروجه عن مقدار البشر كالبرء الحادث عن المرض و الزرع الحادث عن البذر فإن برئ المرض المزمن لوقته و استحصد الزرع المتأكل قبل أوانه كان بخرق العادة معجزا لخروجه عن القدرة
و القسم السادس : عدم القدرة عما كان داخلا في القدرة كإنذار الناطق بعجزه عن الكلام و إخبار الكاتب بعجزه عن الكتابة فيكون ذلك معجزا يختص بالعاجز و لا يتعداه لأنه على يقين من عجز لنفسه و ليس غيره على يقين من عجزه
و القسم السابع : إنطاق حيوان أو حركة جماد فإن كان باسدعائه أو عن إشارته كان معجزا له و إن ظهر بغير استدعاء و لا إشارة لم يكن معجزا له و إن خرق العادة لأنه ليس اختصاصه به بأولى من اختصاصه بغيره و كان من نوادر الوقت و حوادثه
و القسم الثامن : إظهار الشيء في غير زمانه كإظهار فاكهة الصيف في الشتاء و فاكهة الشتاء في الصيف فإن كان استبقاؤهما في غير زمانهما ممكنا لم يكن معجزا و إن لم يمكن استبقاؤهما كان معجزا سواء بدأ بإظهاره أو طوالب به
و القسم التاسع : انفجار الماء و قطع الماء المنفجر إذا لم يظهر بحدوثه أسباب من غيره فهو من معجزاته لخرق العادة به
و القسم العاشر : إشباع العدد الكثير من الطعام اليسير و إرواؤهم من الماء القليل يكون معجزا في حقهم غير معجز في حق غيرهم لما قدمناه من التعليل و هذه الأقسام و نظائرها الداخلة في حدود الإعجاز متساوية الأحكام في ثبوت الإعجاز و تصديق مظهرها على ما ادعاه من النبوة و إن تفاوت الإعجاز فيها و تباين كما أن دلائل التوحيد قد تختلف في الخفاء و الظهور و إن كان في كل منها دليل فأما فعل ما يقدر البشر على ما يقاربه و إن عجزوا عن مثله فليس بمعجز لأن الجنس مقدور عليه و إنما الزيادة فضل حذق به كالصنائع التي يختلف فيها أهلها فلا يكون لأحذقهم بها معجز يجوز أن يدعي به النبوة
لا تقبل الخوارق ممن يكذب نفسه :
فإن قيل : فقد جاء زرادشت و بولص بآيات مبهرة و لم تدل على صدقهما في دعوى النبوة
قيل : لأنهما قد أكذبا أنفسهما ما ادعياه في الله تعالى مما يدل على جهلهما به لأن بولص يقول إن عيسى إله و زعم زرادشت أن الله تعالى كان وحده و لا شيء معه فحين طالت وحدته فكر فتولد من فكرته : أهرمن و هو إبليس فلما مثل بين عينيه أراد قتله و امتنع منه فلما رأى امتناعه وادعه إلى مدته و سالمه إلى غايته
و من قال بهذا في الله تعالى و لم يعرف لم يجز أن يكون رسولا له ثم دعوا إلى القبائح و الأفعال السيئة كما شرع زرادشت الوضوء بالبول و غشيان الأمهات و عبادة النيران و كذلك بولص و ماني فخذلهم الله تعالى و لو دعوا إلى محاسن الأخلاق كانت الشبهة بهم أقوى و الاغترار بهم أكثر و لكن الله تعالى عصم بالعقول من استرشدها و قاد إلى الحق من أيقظه بها
لا يظهر الله المعجز إلا لنبي :
و لا يجوز أن يظهر الله تعالى المعجز مما يجعله دليلا على صدقه في غير النبوة و إن كان فيه مطيعا لأن النبوة لا يوصل إلى صدقه فيها إلا بالمعجز لأنه مغيب لا يعلم إلا منه فاضطر إلى الإعجاز في صدقه و غير النبوة من أقواله و أفعاله قد يعلم صدقه فيها بالعيان و المشاهدة و تخرج عن صورة الإعجاز و إن نفذت و إن تشبه معجزات الأنبياء بغيرها
و أما مدعي الربوبية إذا أظهر آيات باهرة فقد ذهب قوم إلى أنها قد تكون معجزة بطلت بكذبه فلم يمتنع لظهور بطلانها أن توجد منه و إن لم توجد منه إذا كان كاذبا في ادعاء النبوة لأنه لم يقترن بدعواه ما يبطلها كمدعي الربوبية
و الذي عليه قول الجمهور أنه لا يجوز أن يظهر المعجز على مدعي الربوبية كما لا يجوز أن يظهر على مدعي النبوة لأن معصيته في ادعاء الربوبية أغلظ و إفكه فيها أعظم فكان بأن لا تظهر عليه أجدر و إذا استوضح ما أظهره مدعي الربوبية من الآيات ظهر فسادها و بان اختلالها فخرجت عن الإعجاز إلى سحر أو شعبذة
ثبوت المعجزات بالأخبار المتواترة :
و لما علم الله تعالى أن أكثر عباده لا يشهدون حجج رسله و لا يحضرون آيات أنبيائه إما لعبد الدار أو لتعاقب الأعصار طبع كل فريق على الأخبار بما عاين فيعلمه الغائب من الحاضر و يعرفه المتأخر من المعاصر و قد علم مع اختلاف الهمم أن خبر التواتر إذا انتفت عنه الريب حق لا يعترضه شك و صدق لا يشتبه بإفك فصار و روده كالعيان في وقوع العلم به اضطررا فثبت به الحجة و لزم به العلم
و قد قال الطفيل الغنوي مع أعرابية في وقوع العلم بإستفاضة الخبر ما دلته عليه الفطرة و قاده إليه عليه الطبع فقال :
( تأوبني هم من الليل منصب ... و جاء من الأخبار ما لا يكذب )
( تظاهرن حتى لم يكن لي ريبة ... و لم يك عما أخبروا متعقب )
ما يجوز لمدعي النبوة :
و أما ما يجوز لمدعي النبوة فينقسم ثلاثة أقسام : أحدها : أن يكلمه الله تعالى بغير واسطة الثاني : أن يخاطبه بواسطة من ملائكته و الثالث : أن يكون عن رؤيا منام
1 - ـ كلام الله بلا واسطة :
فأما القسم الأول إذا كلمه الله تعالى بغير واسطة مثل كلامه لموسى عليه السلام حين نودي من الشجرة على ما قدمناه في الاختلاف في صفته فيعلم اضطرارا أنه من الله تعالى و فيما وقع به علم الاضطرار في كلامه لأهل العلم قولان :
أحدهما : أنه يضطره إلى العلم به كما يضطر خلقه إلى العلم بسائر المعلومات فعلى هذا يستدل بمعرفة كلامه على معرفته و يسقط عنه تكليف معرفته و يجوز أن يكون كلامه من غير جنس كلام البشر للاضطرار إلى معرفة ما تضمنه
و القول الثاني : أن يقترن بكلامه من الآيات ما يدل على أنه منه فعلى هذا لا يسقط منه تكليف معرفة و لا يصح أن يكلمه إلا بكلام البشر لعدم الاضطرار إلى معرفته
2 - ـ كلام الله بواسطة ملك
و أما القسم الثاني و هو أن يكون خاطبه بواسطة من ملائكته الذين هم رسله إلى أنبيائه فعلى الأنبياء معرفة الله تعالى قبل ملائكته في رسالته و طريق علمهم به الاستدلال ثم يصير بعد نزول الملائكة بمعجزاتهم الباهرة علم الاضطرار و على الملائكة إذا نزلوا بالوحي على الرسول إظهار معجزاتهم له كما يلزم الرسول إظهار معجزته لأمته
روي أن جبريل عليه السلام لما تصدي لرسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة في الوادي قال له قل يا محمد للشجرة أقبلي فقال لها ذلك فأقبلت و قال له : قل لها : أدبري فقال لها ذلك فأدبرت فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم حسبي يعني في العلم بصدقك فيما أتيتني به عن ربي
فتستدل الرسل بالمعجزات على تصديق الملائكة بالوحي و تستدل الأمم بمعجزات الأنبياء على تصديقهم بالرسالة و يكون أخطب الملك لفظا إن كان قرآنا أو ما قام مقام اللفظ إن كان وحيا و لا يجوز أن يؤدي الملك إلى الرسول ما تحمله عن ربه إلا بلسان الرسول كما لا يؤدي الرسول إلى قومه إلا بلسانهم
و يكون الملك واسطة بين الرسول و بين ربه و الرسول واسطة بين الملك و بين قومه و ما يؤديه الملك إلى الرسول ليؤديه الرسول إلى قومه ضربان : قرآن و وحي
فأما القرآن فيلزم الملك أن يؤديه إلى الرسول بصيغة لفظه و ليس للملك و لا للرسول أن يعدل بلفظه إلى غيره و يكون ما تضمنه من الخطاب المنزل متوجها إلى الرسول و إلى أمته
إذا تضمن الوحي تكليفا :
و أما الوحي إذا تضمن تكليفا بأمر أو نهى فصربان :
أحدهما : أن يكون نصا غير محتمل و صريحا غير متأول فهذا يعلمه الرسول من الملك بنفس الخطاب و تعلمه الأمة من الرسول بالبلاغ من غير نظر و لا استدلال و ليس للملك أو للرسول أن يعدل بالنص إلى إجمال أو احتمال له
و الضرب الثاني : أن يكون من المجمل أو المحتمل لمعان مختلفة فهذا يعلم المراد به من دليل يقترن بالخطاب و دليله ضربان : أحدهما عقل المستمع و الثاني : توقيف المبلغ فأما ما عقل دليله ببديهة العقل فمحمول على مقتضى العقل و يكفي فيه تبليغ الخطاب و أما ما دليله التوقيف الذي لا مدخل فيه لبداية العقول كالعبادات فمحمول على التوقيف من الله تعالى إلى ملائكته و من الملائكة إلى الرسول و من الرسول إلى أمته فأما معرفة الملك من ربه فهو غير مشاهد لذاته
و اختلف أهل العلم في معرفته به على مذهبين كالرسول إن كلمه أحدهما : بأن يضطره إلى العلم به و الثاني : بسماع الخطاب المقترن بالآيات و أما معرفة الرسول من الملك و معرفة الأمة من الرسول فالرسول مشاهد لذات الملك و الأمة مشاهدة لذات الرسول و لمشاهدة الذوات تأثير في العلم بمراد الخطاب : فيتنوع بيان توقيفه فيما أريد بالخطاب أنواعا فيكون بعضه باللفظ الصريح و بعضه بالفعل الظاهر
و بعضه بالإشارة الباطنة و بعضه بالإمارات التي تضطر المشاهد إلى العلم بما أريد بها و ليس لها نعت موصوف و لا حد مقدر و إنما يعلمه المشاهد بمفهوم أسبابه فيصير البيان باختلاف أنواعه توقيفا من الملك إلى الرسول و من الرسول إلى الأمة و يجوز أن يختلف نوع بيانهما إذا عرف
3 - ـ كلام الله في الرؤيا :
فأما القسم الثالث : و هو أن يكون عن رؤيا منام فإن لم يكن ممن تصدق رؤياه لكثرة أحلامه لم يجز أن يدعي به النبوة و إن كان ممن تصدق رؤياه فقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا ] لم يجز أن يدعي النبوة من أول رؤيا لجواز أن يكون من حديث النفس و أن الرؤيا
قد تصح تارة و تبطل أخرى فإن تكررت رؤياه مرارا حتى قطع بصحبتها و لم يخالجه الشك فيها جاز أن يدعي النبوة فيما كان حفظا لما تقدمها من شرع و بعثا على العمل بها من بعيد و لم يجز أن يعتد بها في نسخ شرع و لا استئاف شرع و لا تعبد و يجوز أن يعمل على رؤيا نفسه فيما يلتزمه من استئناف شرع و لا يجوز أن يعمل عليها في نسخ ما لزمه من شرع ليكون بها ملتزما و لا يكون بها مسقطا
شروط خطاب الرسول لأمته :
و أما خطاب الرسول لأمته فيما بلغهم من رسالة ربه بعد ظهور معجزته و الإخبار بنبوته و لزومه للأمة فمعتبر بخمسة شروط :
أحدها : العلم بانتفاء الكذب عنه فيما ينقله عن الله تعالى من خبر أو يؤديه من تكليف كما انتفى عنه الكذب في ادعاء الرسالة و يكون المعجز دليلا على صدقه في جميع ما تضمنه الرسالة
و الثاني : أن يعلم من حاله أنه لا يجوز أن يكتم ما أمر بأدائه : لأن كتمانه يمنع من التزام رسالته لجواز أن يكتم إسقاط ما أوجب و إن جاز أن يكتم بيانه قبل وقت الحاجة و لا يكون كتمانا
و الثالث : أن ينتفي عنه ما يقتضي التنفير من قبول قوله لأن الله تعالى حماه من الغلطة لئلا ينفر من متابعته و كان أولى أن لا ينفر عن قبول خطابه
و الرابع : أن يقترن بخطابه ما يدل على المراد به لينتفي عنه التلبيس و التعمية في أحكام الرسالة حتى يعلم حقوق التكليف و إن جاز تعمية خطابه فيما لم يتضمنه التكليف قد اعترض رسول الله صلى الله عليه و سلم رجل في أطراف بدر و قال له : ممن أنت ؟ فقال : من ماء فورى عن نسبه بما استبهم على سائله لخروجه عما يؤديه شرعا إلى أمته
و الخامس : العلم بوجوب طاعته ليعلم بها وجوب أوامره
و اختلف في طاعته هل وجبت عقلا أو سمعا بحسب اختلافهم في بعثة الرسل هل هو من موجبات العقل أم لا
خطاب الرسول مفهوم أو مبهم :
و إذا تكلمت شروط الالتزام لم يخل خطابه من أن يكون مفهوما أو مبهما
فالمفهوم أربعة : النص و فحوى الكلام و لحن القول : و مفهوم اللفظ و فحوى الكلام ما دل على ما هو أقوى من نطقه و لحن القول ما دل على مثل نطقه و مفهوم اللفظ مأخوذ من معنى نطقه فهذه الأربعة مفهومة المعاني بألفاظها مستقلة بذواتها معلومة المراد بظواهرها فلا احتياج بعد البلاغ إلى بيان
و أما المبهم فثلاثة : المجمل و المحتمل و المشتبه فأما المجمل فما أخذ بيانه من غيره و لا يدخل العقل في تفسيره فلا يعلم إلا بسمع و توقيف و أما المحتمل فهو ما تردد بين معان مختلفة فإن أمكن الجمع بين جميعها حمل على جميع ما تضمنه و استغني عن البيان إلا أن يرد بالاقتصار على بعضها بيان و إن لم يمكن حملها على الجميع لتنافيها و كان المقصود أحد معانيها فإن أمكن الاستدلال عليه بمخرج الخطاب أو بمشاهدة الحال كان فيه بيان أو تعذر بيانه من هذا الوجه حمل على عرف الشرع فإن تعذر حمل على عرف الاستعمال فإن تعذر حمل على عرف اللغة فإن تعذر فبيانه موقوف على التوقيف و أما المشتبه فما أشكل لفظه و استبهم معناه
شاهد على المبهم :
[ روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال : يا رسول الله إنك تأتينا بكلام لا نعرفه و نحن العرب حقا فقال : رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : إن ربي علمني فتعلمت و أدبني فتأدبت ]
فإن تلوح في المشتبه إشارة إلى معناه جاز أن يكون استنباطه موقوفا على الاجتهاد و إن تجرد عن تجرد عن إشارة كان موقوفا على التوقيف و على الرسول تبليغ بيانه كما كان عليه تبليغ أصله و على من سمعه من الرسول أن يبلغه من لم يسمعه حتى ينتقل إلى عصر بعد عصر على الأبد فيعلمه القرن الثاني من الأول و الثالث من الثاني و كذلك أبدا لتدوم الحجة بهم إلى قيام الساعة و لذلك [ قال النبي صلى الله تعالى عليه و سلم ليبلغ الشاهد الغائب ]
الفرق بين الأنبياء و الرسل :
فأما الفرق بين الأنبياء و الرسل فقد جاء بهما القرآن جمعا و مفصلا بقول الله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته }
و اختلف أهل العلم في الأنبياء و الرسل على قولين :
أحدهما أن الأنبياء و الرسل واحد فالنبي رسول و الرسول نبي
و الرسول مأخوذ من تحمل الرسالة و النبي مأخوذ من النبأ و هو الخبر إن همز لأنه مخبر عن الله تعالى و مأخوذه من النبوة إن لم يهمز و هو الموضع المرتفع و هذا أشبه لأن محمدا صلى الله تعالى عليه و سلم قد كان يخاطب بهما
و القول الثاني : أنهما يختلفان لأن اختلاف الأسماء يدل على اختلاف المسميات و الرسول أعلى منزلة من النبي و لذلك سميت الملائكة رسلا و لم يسموا أنبياء
و اختلف من قال بهذا في الفرق بينهما على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الرسول هو الذي تنزل عليه الملائكة بالوحي و النبي هو الذي يوحى إليه في نومه
و القول الثاني : أن الرسول هو المبعوث إلى أمة و النبي هو المحدث الذي لا يبعث إلى أمة قاله قطرب
و القول الثالث : أن الرسول هو المبتدئ بوضع الشرائع و الأحكام و النبي هو : الذي يحفظ شريعة غيره قاله الجاحظ
وجوب البلاغ و زمانه :
و إذا نزل الوحي على الرسول و عين له زمان الإبلاغ لم يكن له تقديمه عليه و لا تأخيره عنه و إن لم يعين له زمانه فعليه تبليغه في أول أوقات إمكانه فإن خاف من تبليغ ما أمر به شدة الأذى و عظم الضرر لزمه البلاغ و لم يكن الأذى عذرا له في الترك و التأخير لأن الأنبياء يتكلفون من احتمال المشاق ما لا يتكلفه غيرهم لعظم منزلتهم و ما أمدوا به من القوة على تحمل مشاقهم
و إن خاف منه القتل فقد اختلف المتكلمون في وجوب البلاغ فذهب بعضهم إلى اعتبار أمره البلاغ فإن أمر به مع تخوف القتل لزمه أن يبلغ و إن قتل و إن أمر به مع الأمن لم يلزمه البلاغ إذا خاف القتل و ذهب آخرون منهم إلى اعتبار حاله فإن لم يبق عليه من البلاغ سوف ما يخاف منه القتل
فإن لم يكن الأمر بالبلاغ مرتبا لزمه أن يقدم بلاغ ما يأمن منه القتل ثم يبلغ ما يخاف منه القتل فإن قتل فإن كلام الأمر البلاغ مرتبا بابتداء ما يخاف منه القتل فإن الله تعالى يعصمه من القتل حتى يبلغ جميع ما أمر به لما تكفل به من إكمال دينه و الله تعالى أعلم (1/42)
الباب الخامس ـ في مدة العالم و عدة الرسل
مدة الدنيا :
مدة الدنيا من ابتداء خلق العالم إلى انقضائه و فنائه سبعة آلاف سنة على ما جاءت به التوراة المنزلة على موسى عليه السلام و ذكره أنبياء بني إسرائيل و قد وافق عليه من قال بتييسر الكواكب و إنها مسير الكواكب السبعة فسير كل كوكب منها ألف سنة
و قد روي [ عن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم أنه قال : الدنيا سبعة آلاف سنة أنا في آخرها ألفا ]
[ و قال صلى الله تعالى عليه و سلم : بعثت و الساعة كهاتين ] و جمع بين أصبعيه الوسطى و السبابة يعني أن الباقي منها كزيادة الوسطى على السبابة
[ و روى سلمة بن عبد الله الجهني عن أبي مسجعة الجهني عن أبي رحاب الجهني أنه قال للنبي صلى الله تعالى عليه و سلم : رأيتك على منبر فيه سبع درج و أنت على أعلاها فقال : الدنيا سبعة آلاف سنة أنا في آخرها ألفا ]
[ و روى أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم بعد صلاة العصر يقول أيها الناس إن الدنيا خضرة حلوة و إن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعلمون و أخذ في خطبته إلى أن قال : لأعرفن رجلا منعته مهابة الناس أن يتكلم بحق إذا رآه و شهده ثم قال و قد أزف غروب الشمس إن مثل ما بقي من الدنيا فيما مضى منه كبقية يومكم هذا فيما مضى منه يوفى بكم سبعون أمة قد توفي تسع و ستون و أنتم آخرها ] فصارت هذه المدة المقدرة في عمر الدنيا سبعة آلاف متفقا عليها فيما تضمنته الكتب الإلهية و وردت به الأنباء النبوية مع ما سلك به الموافق من تسيير الكواكب السبعة و إن كان المعول في المغيب على الأنباء الصادقة الصادرة عن علام الغيوب الذي لم يشرك في غيبه إلا من أطلعه عليه من رسله فخلق العالم في ستة أيام ابتداؤها يوم الأحد و انقضاؤها يوم الجمعة
ابتداء الخلق :
و اختلف أهل الكتب السالفة و أهل العلم في شرعنا فيما ابتدئ بخلقه على ثلاثة أقاويل :
أحدها : و هو قول طائفة : أنه بدأ بخلق الأرض في يوم الأحد و الاثنين لقول الله تعالى : { قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } و خلق الجبال في يوم الثلاثاء و خلق الماء و الشجر في يوم الأربعاء خلق السماء في يوم الخميس و خلق الشمس و القمر و النجوم و الملائكة و آدم في يوم الجمعة
قال الشعبي : و لذلك سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق كل شيء
و الثاني : و هو قول فريق : أنه بدأ يخلق السموات قبل الأرض في يوم الأحد و الاثنين لقول الله تعالى : { فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أسكن في كل سماء ملائكتها
و الثاني : خلق في كل سماء ما أودعه فيها من شمس و قمر و نجوم
و الثالث : أوحى إلى كل سماء من الملائكة ما أمرهم به من العبادة ثم خلق الأرض و الجبال في يوم الثلاثاء و الأربعاء و خلق ما سواهما من العالم في يوم الخميس و الجمعة
و الثالث : و هو قول آخرين : أنه خلق السماء دخانا قبل الأرض ثم فتقها سبع سموات بعد الأرض بقول الله تعالى : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أي أعطيا الطاعة في السير المقدر لكما باختيار أو إجبار قاله سعيد بن جبير
الثاني : أخرجا ما فيكما طوعا و كرها
الثالث : كونا كما أردت من شدة و لين و حزن و سهل و ممتنع و ممكن { قالتا أتينا طائعين } أي كما أردت أن تكون
و في قولهما ذلك وجهان :
أحدهما : أن ظهور الطاعة منهما قام مقام قولهما
و الثاني : إنه خلق فيهما كلاما نطق بذلك
قال أبو النظر السكسكي : فنطق من الأرض موضع الكعبة و نطق من السماء ما بحيالها فوضع الله فيها حرمه
خلق آدم :
فأما آدم فهو آخر ما خلق الله تعالى في يوم الجمعة خلقه من تراب الأرض و نفخ في أنفه من نسمة الحياة فهو أنفس من كل ذي حياة روى أبو زهر [ عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض منهم : الأحمر و الأبيض و الأسود و بين ذلك و الحزن و السهل و الخبيث و الطيب و بين ذلك ]
و في تسميته بآدم قولان : أحدهما : أنه اسم عبراني نقل إلى العربية و القول الثاني : إنه اسم عربي و فيه قولان
أحدهما : أنه سمي بذلك لأنه خلق من أديم الأرض و أديمها وجهها
و الثاني : سمي بذلك لاشتقاقه من الأدمة و هي السمرة
خلق حواء :
فلما تكامل خلق آدم استوحش فخلق له حواء
و اختلف فيما خلقت منه على قولين
أحدهما : أنه خلقها من مثل ما خلق منه آدم و هذا قول تفرد به ابن بحر
و القول الثاني : و هو ما عليه الجمهور أنه خلقها من ضلع آدم الأيسر بعد أن ألقى عليه النوم حتى لم يجد لها مسا قال ابن عباس : فلذلك تواصلا و لذلك سميت امرأة لأنها خلقت من المرء
و في تسميتها حواء قولان أحدهما : لأنها خلقت من حي
و الثاني : لأنها أم كل حي فقال آدم : لما خلقت منه حواء : هذا الشخص عظمه من عظمي و لحمه من لحمي فلذلك صار الرجل و المرأة كجسد واحد من شدة الميل و فضل الحنو قال الله تعالى : { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } يعني آدم { وخلق منها زوجها } يعني حواء
فروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ خلق الرجل من التراب فهمه في التراب و خلقت المرأة من الرجل : فهمها الرجل ]
متى خلقت حواء :
و اختلف في الوقت الذي خلقت فيه حواء على قولين :
أحدهما : أنها خلقت منه في الجنة بعد أن استوحش من وحدته و هذا قول ابن عباس و ابن مسعود
و القول الثاني : أنها من ضلعه قبل دخوله الجنة ثم أدخلا معا إليها و هو أشبه بقول الله تعالى : { وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين }
قال ابن عباس خلق آدم يوم الجمعة و أدخل الجنة يوم الجمعة و أخرج منها يوم الجمعة و فيها تقوم الساعة
الجنة التي دخلها آدم :
و اختلف في الجنة التي أسكنها على قولين :
أحدهما : أنها جنة الخلد
و القول الثاني : أنها جنة أعدها الله تعالى لهما دار ابتلاء و ليست جنة الخلد التي جعلها دار جزاء و فيها على هذا قولان :
أحدهما : أنها في السماء لأنه أهبطها منها
و القول الثاني : إنها في الأرض لأنه امتحنها فيها بلأمر و النهي
الشجرة التي أكل منها آدم :
و اختلف في الشجرة التي نهيا عن أكلها فقيل : إنها شجرة الخلد
و قيل إنها شجرة العلم و في هذا العلم قولان :
أحدهما : علم الخير و الشر
و الثاني : علم ما لم يعلم
و قيل في الشجرة غير ذلك من الأقاويل فلما أكلا منها بدت لهما سوآتهما بالمعصية و طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة قال الله تعالى : { فأزلهما الشيطان عنها } حين بعثهما على أكل الشجرة { فأخرجهما مما كانا فيه } و فيه تأويلان :
أحدهما : عما كانا فيه من الطاعة إلى ما صارا إليه من المعصية
و الثاني : عما كانا فيه من النعيم في الجنة إلى ما صار إليه من النكد في الأرض فحزن آدم حين أهبط إلى الأرض و بقي في حزنه مائة سنة لا يقرب فيه حواء ثم غشيها فولدت له بعد المائة قابيل ثم غشيها فولدت له هابيل فقتل قابيل هابيل فحزن آدم لذلك حزنا شديدا
و قيل : إنه جعل حزنه جزاء على معصيته في الأكل و قد يصاب الأباء في أولادهم من أجل معاصيهم ثم خف حزنه فغشي حواء فولدت له شيئا
علم الله آدم الأسماء :
و علم آدم الأسماء كلها كما ذكره الله تعالى في كتابه و فيما علمه من الأسماء قولان :
أحدهما : علم النجوم قاله حميد
الثاني : إنها أسماء مسميات و فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أسماء الملائكة قاله الربيع بن أنس
و الثاني : أسماء جميع ذريته قاله عبد الرحمن بن زيد
و الثالث : أسماء جميع الأشياء و فيه على هذا قولان
أحدهما : أن تعليمه كان مقصورا على الأسماء دون معانيها
و الثاني : أنه علمه الأسماء و معانيها لأنه لا فائدة في علم الأسماء بلا معان لأن المعاني هي المقصودة و الأسماء دلائل عليها
هبوط آدم إلى الأرض :
و لما هبط آدم إلى الأرض قيل إنه أهبط إلى شرقي أرض الهند و حواء بجدة و إبليس على ساحل نهر الأبلة و الحية في البرية
و كانت نبوة آدم مقصورة عليه و ما نزل عليه من الوحي متوجها إليه فكان المصطفين دون المرسلين
و اختلف فيه أهل الكتاب هل خلق في ابتدائه قابلا للموت أو جعل الموت عقوبة له على معصيته
فقال بعضهم خلق آدم في ابتداء نشأته على الطبيعة الباقية و الطبيعة الميتة ليكون إن مال إلى الشهوات الجسمانية و أثرها وقع في التغايير الجسمانية و ناله الموت و إن آثر فضائل النفس الأمارة بالخير نال البقاء الذي سعدت به الملائكة فلم تمت فلما عصى بأكل الشجرة عدل إلى التغايير فناله الموت و استشهدوا عليه من التوراة بما ذكر فيها : إنك إن أكلت من الشجرة يوم تأكل منها فموتا تموت فلم يجز أن يتوعده بالموت عند معاقبته و هو يموت لو لم يعاقب
و قال آخرون منهم ـ و هو أشبه بمقتضى العقول : إنه خلق في ابتداء إنشائه قابلا للموت في الدنيا و إن لم يعص لأنه أحوجه إلى الغداء كذريته و ليس شيء من الجواهر التي لا ينالها الموت محتاجة إلى الغذاء و لم يجعل الموت عقوبة على المعصية و لذلك لم يمت من عصى من الملائكة و إن في التوراة مكتوبا إن مد يده في الجنة إلى شجرة الحياة و أكل منها حيي الدهر كله فدل على أنه مطبوع على قبول الموت
خلق الله آدم على أكمل عقل :
و لما خلق الله تعالى آدم ابتداء و لم يخلقه بتوسط طبيعة كما خلق نسله كان على أفضل اعتدال و أكمل عقل فصار قلبه معدنا للحكمة الإنسانية و جسده مهيأ للأفعال البشرية فلم يمتنع عليه شيء منها حتى أحاط علاما و قدرة بجميعها و لذلك علم الأسماء كلها و ألهم الحكمة بأسرها و اطلع على أسرار النجوم و عملها و عرف منافع الحيوان و النبات و مضارها و لولا ذلك لما فرق بين الغذاء و الدواء و لا بين السموم القاتلة و الشفاء و لا اهتدى بالنجوم في بر و لا بحر و كان هو المدبر لأولاده مدة حياته حتى مات بعد تسعمائة و ثلاثين سنة من عمره ثم قام بالأمر من بعده شيث بن آدم فبرع في الحكمة و فاق في علم النجوم بما أخذه عن أبيه آدم و بما استفاده بالتجربة و مررو الزمان
أولاد آدم :
و اختلف أهل الكتاب في نبوة شيث فادعاها بعضهم و أنكرها آخرون منهم و ولد بعد مائتين و ثلاثين سنة من عمر أبيه آدم و مات و له تسعمائة و اثنتا عشرة سنة فكان قيامه بالأمر بعد موت آدم مائتين و اثنتي عشرة سنة و اتفق أهل الكتاب أنه لم يكن بين شيث و إدريس نبي غير إدريس ثم قام بلأمر بعد شيث ولده أنوش بن شيث و كان مولده بعد مائتين و خمسين سنة من عمر شيث و مات أنوش و له تسعمائة و خمسون سنة فكان قيامه بالأمر بعد شيث مائتين و ثماني و ثمانين سنة
ثم قام بالأمر بعد أنوش ولده قينقان بن أنوش و ولد بعد مائة و تسعين سنة من عمر أنوش و مات قينان و له تسعمائة و عشرون سنة فكان قيامه بالأمر بعد آنوش مائة و تسعين سنة ثم قام بالأمر بعد قينان و لده مهلاييل و ولد بعد ثمانمائة و خمس و سبعين فكان قيامه بالأمر بعد قينان مائة و عشر سنين
ثم قام بالأمر بعد مهلاييل ولده يارد بن مهلاييل و ولد بعد مائة و خمس و ستين سنة من عمر مهلاييل و مات يارد وله تسعمائة و اثنتان و ستون سنة فكان قيامه بالأمر بعد مهلابيل مائتين و اثنتين و خمسين سنة
ثم قام بالأمر بعد يارد ولده أخنوخ بن يارد و هو إدريس و ولد بعد مائة و اثنتين و ستين سنة من عمر يارد و هو نبي على قول جميع أهل الملل
و اختلف أهل الكتاب هل هو أول الأنبياء أو ثانيهم فقال من زعم أن شيئا نبي هو ثاني الأنبياء
و قال من زعم أن شيئا ليس بنبي أن إدريس أول الأنبياء و هو أول من شرع الأحكام و أول من اتخذ السلاح و جاهد في سبيل الله تعالى و سبى و قتل بني قابيل و لبس الثياب و كانوا يلبسون الجلود و أول من كتب الخط في قول الأكثرين و أول من وضع الأوزان و الكيول ثم رفعه الله تعالى إليه حيا بعد سبعمائة و خمس و ثمانين سنة من عمره أقام فيها داعيا و أبوه حي على ما يقتضيه تاريخ هذه المواليد و الأعمار المأخوذة من التوراة المنزلة
قال ابن قتيبة : و سمي إدريس لكثرة ما كان يدرس من كتب الله تعالى و سنن الإسلام
نوح عليه السلام :
ثم كثر الناس فافترقوا بعد إدريس و زادوا إلى زمن نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ و هو إدريس و هو آخر نبي بعث قبل الطوفان على قول من زعم أن شيئا نبي
و نزل الطوفان بعد ستمائة سنة من عمره و أنذر قومه فكذبوه و صنع السفينة فسخروا منه و أمره الله تعالى أن يصنعها في طول ثلاثمائة ذراع و عرض خمسين ذراعا و علو ثلاثين ذراعا و تكون ثلاث طبقات ليركب فيها هو و أهله و يأخذ من كل جنس من الحيوان زوجا ذكرا و أنثى ليكونوا أصولا لنسلهم فيحيا بهم العالم ثم وعده أن يستمطره بعد سبعة أيام أربعين يوما و أربعين ليلة فلم يبق في الأرض ذو روح إلا من ركبها و غاض الطوفان بعد مائة و خمسين يوما فاستوت على الجودي و هو جبل بأرض الجزيرة شهرا و سمي الماء طوفانا لأنه طفا فوق كل شيء
و اختلف فيما عاش نوح بعد الطوفان فقال الأكثرون : ثلاثمائة و خمسين سنة و هو ظاهر و مانزل به القرآن و قال آخرون ستمائة و خمسين سنة لأنه لبث تسعمائة و خمسين سنة داعيا لقومه و كان له قبل دعائه ثلاثمائة سنة
التاريخ من آدم إلى نوح عليهما السلام :
و اختلف فيما بين هبوط آدم من الجنة إلى مجيء الطوفان فقال اثنان و سبعون حبرا من بني إسرائيل نقلوا التوراة إلى اليونانية : بينهما ألفان و مائتان و اثنتان و أربعون سنة
ثم تبللت الألسن بعد الطوفان بستمائة و سبعين سنة فافترق اثنان و سبعون لسانا في اثنتين و سبعين أمة قال و هب بن منبه : منها في ولد سام بن نوح تسعة عشر لسانا و في ولد حام سبعة عشر لسانا و في ولد يافث ستة و ثلاثون لسانا و من تبلبل الألسن إلى مولد إبراهيم الخليل عليه السلام أربعمائة و إحدى عشرة سنة و من مولد إبراهيم إلى موسى بن عمران عليه السلام أربعمائة و خمس و عشرون سنة و أخرج بني إسرائيل من مصر بعد ثمانين سنة و دبر أمرهم أربعين سنة ومات وله مائة و عشرون سنة فصار من هبوط آدم إلى وفاة موسى ثلاثة آلاف و ثمانمائة و ثماني و ستين سنة
و قال آخرون من بني إسرائيل المقيمين على التوراة العبرانية التي يتداولها جمهور اليهود في وقتنا إن من هبوط آدم من الجنة إلى مجيء الطوفان ألفا و ستمائة و ستا و خمسين سنة و من انقضاء الطوفان إلى تبلبل الألسن مائة و إحدى و ثلاثين و إحدى و ثلاثين سنة و من تبلبل الألسن إلى مولد إبراهيم مائة و إحدى وستين سنة و من مولد إبراهيم إلى وفاة موسى خمسمائة و خمسا و أربعين سنة فصار الوقت من هبوط آدم إلى وفاة موسى ألفين و أربعمائة و ثلاثا و تسعين سنة
و قالت السامرة من اليهود عن تاريخ توراتهم إن من هبوط آدم من الجنة إلى مجيء الطوفان ألفا و ثلثمائة و سبعا و ستين سنة و من الطوفان إلى تبلبل الألسن خمسمائة و ستا و عشرين سنة و من تبلبل الألسن إلى مولد إبراهيم أربعمائة و إحدى عشرة سنة و من مولد إبراهيم إلى وفاة موسى خمسمائة و خمسا و أربعين سنة فصار من هبوط آدم إلى وفاة موسى ألفين و ثمانمائة وتسعا و أربعين سنة
أول نبي بعد نوح عليه السلام :
و أول نبي بعد نوح إبراهيم و هو أول من قص شاربه و استحد و اختتن و قلم أظفاره و استاك و تمضمض واستنشق و استنجى بالماء
و اول من أضاف الضيف و أطعم المساكين و ثرد الثريد و كان داعيا إلى عبادة الله تعالى و توحيده ثم ولده إسحق بن إبراهيم ولد له عيصو و يعقوب توأمين في بطن واحد فخرج عيصو ثم خرج بعده يعقوب ويده عالقة على عقبه فسمى يعقوب فعيصو أبو الروم و كان أصفر فلذلك سميت الروم بني الأصفر و يعقوب هو إسرائيل أبو الأسباط و أيوب بن بولص كان أبوه ممن آمن بإبراهيم يوم أحرق وكان في زمن يعقوب و كان صهره زوجه يعقوب بنته ليا وهي التي ضربها بالضغث
أول نبي من بني إسرائيل :
و أول نبي من بني إسرائيل موسى و آخرهم عيسى وكانت نبوة يعقوب بن إسحق بن إبراهيم و من بعده من ولده قبل موسى مقصورة على أنفسهم حتى دعا موسى إلى نبوته بني إسرائيل و من وفاة موسى إلى ملك بختنصر تسعمائة و ثمان و سبعون سنة و إلى ملك الإسكندر ألف و أربعمائة و ثلاث عشرة سنة
آخر أنبياء بني إسرائيل :
و ولد عيسى ليلة الأربعاء الخامس و العشرون من كانون الأول لسبعمائة و تسع وثلاثين سنة من ملك بختنصر و لثلاثمائة و أربع سنين من ملك الإسكندر و من ملك بختنصر إلى ابتداء الهجرة ألف و ثلثمائة و تسع و ستون سنة و من ملك الإسكندر إلى ابتداء الهجرة ألفان و ثلثمائة و سبع و أربعون سنة فكان بين موت موسى و ابتداء الهجرة ألفان و ثلثمائة و سبع و أربعون سنة
و مولد عيسى بعد ألف و سبعمائة و سبع عشرة سنة من موت موسى و قيل بعد ستمائة و ثلاثين سنة من ابتداء الهجرة
مدة الدنيا :
فإذا تقرر ما ذكرناه من مدة الدنيا أنها مقدرة في الكتب الإلهية بسبعة آلاف سنة كان الماضي منها إلى ابتداء الهجرة محمولا على ما قدمناه من اختلاف أهل التوراة فيكون على القول الأول المأخوذ عن الأحبار الناقلين لها إلى اليونانية ستة آلاف و مائتين و ست عشرة سنة و الباقي من عمر الدنيا على قولهم بعد الهجرة سبعمائة و أربع و ثمانون سنة و هو موافق لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الدنيا سبعة آلاف سنة بعثت في آخرها ألفا ] و يكون الماضي منها على القول الثاني المأخوذ عن التوراة العبرانية أربعة آلاف و ثمانمائة و إحدى و أربعين سنة و الباقي من عمر الدنيا على هذا القول بعد الهجرة ألفا و مائة و تسعا و خمسين سنة
و قيل إنهم قالوا ذلك ليكون رسول الله صلى الله تعالىعليه و سلم في خامسها ألفا فيدفعوه بنقصان التاريخ عن صفته في التوراة إنه مبعوث في آخر الزمان و يكون الماضي على القول الثالث في توراة السامرة خمسة آلاف و مائة و سبعا و ثلاثين سنة و الباقي من عمر الدنيا على هذا القول بعد الهجرة ألفا و ثمانمائة و ثلاثا و ثلاثين سنة ليكون الرسول في سادسها ألفا لما قيل من سنيه
و السامرة قوم ناقلة من بلاد المشرق سموا بذلك لأن تفسيره بالعربية الحفظة و هم لا يقبلون من كتب الأنبياء إلا التوراة وحدها
قيام الساعة :
و الأول لأجل قول الرسول بالأشبه و إن كان قيام الساعة و انقراض مدة الدنيا و قيام العالم على هذا التاريخ الذي أثبتوه و التقدير الذي حققوه مدفوعا عندنا بقول الله تعالى : { إن الله عنده علم الساعة } و فيه تأويلان :
أحدهما : إن قيامها مختص بعلمه فامتنع أن يشاركه في علمها أحد من خلقه
و الثاني : إن قيامها موقوف على إرادته فامتنع أن يوقف على غير إرادته و قال تعالى : { فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة } يعني فجأة و البغتة غير معلومة فامتنع أن تكون عندهم معلومة
ثم قال : { فقد جاء أشراطها } فيه وجهان أحدهما : نبوة محمد صلى الله تعالى عليه و سلم و هذا يدل على أنه مبعوث في آخرها ألفا و الثاني إن أشراطها الآيات المنذرة بها
كما قال : { وما نرسل بالآيات إلا تخويفا } فلا تقوم الساعة إلا بعد أن ينذر الله تعالى بآياتها
روى سفيان بن عيينة [ عن فرار عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسد الغفاري قال : أشرف علينا رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم من علية و نحن نتذاكر أمر الساعة قال : ما كنتم تذاكرون قلنا قيام الساعة قال : إن الساعة لن تقوم حتى يكون قبلها عشر آيات قال : لا يدري بأيهن بدأ : طلوع الشمس من مغربها و الدجال و الدخان و دابة الأرض و نزول عيسى ابن مريم و خروج يأجوج و مأجوج و ثلاث خسوف خسف بالمشرق و خسف بالمغرب و خسف بجزيرة العرب و آخر ذلك نار تخرج من قبل اليمن أو من عدن تطرد الناس إلى محشرهم ]
[ و روى برد عن مكحول عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يخرج الدجال في الثمانين فإن لم يخرج ففي ثمانين و مائتين فإن لم يخرج ففي ثلاثمائة و ثمانين فإن لم يخرج ففي أربعمائة و ثمانين ]
[ و روى معاذ بن جبل : أن النبي صلى الله تعالى عليه و سلم ذكر الدجال فقال يقيم فيكم أربعين سنة أول سنة كالشهر ثم الثانية كالجمعة ثم الثالثة كاليوم و سائر سنيه كالساعة حتى ينزل عيسى بن مريم فيوجره بالحربة فيذوب كما يذوب الرصاص ] و في هذا دليل على تقدم يأجوج و مأجوج الدجال و آخرها الذي تقوم به الساعة ظهور النار و الله أعلم بمن استأثر بغيبه ثم من أطلعه عليه من رسله
الأنبياء بين موسى و عيسى عليهما السلام :
و بين موسى و عيسى عليهما السلام من الأنبياء شعيا و هو الذي بشر بني إسرائيل بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه و سلم و وصفه بعد أن بشر بعيسى فقتله بنو إسرائيل ثم حزقيل و هو الذي أصاب قومه الطاعون فخرجوا من ديارهم حذر الموت فأماتهم الله ثم أحياهم
و منهم دانيال سباه بختنصر مع العزير و نزل من بختنصر أفضل منزل لرؤيا عبرها له و قبره بناحية السوس وجده أبو موسى الأشعري فأخرجه و كفنه و صلى عليه و دفنه
و منهم الياس بعث إلى أهل بعلبك و كانوا يعبدون صنما يقال له بعل و كان ملكهم اسمه أجب و امرأته أزبيل و كان يستخلفها على ملكه و هي بنت ملك سبأ و عمرت عمرا طويلا و تزوجها سبعة من ملوك بني إسرائيل و هي التي قتلت يحيى بن زكريا عليهما السلام ثم رفع الله تعالى الياس
ثم اليسع كان تلميذ الياس فدعا له الياس فنبأه الله بعده
ثم يونس بن متى ثم زكريا قتله بنو إسرائيل في الشجرة ثم عيسى و يحيى فأما يحيى فإن أجب الملك قتله بحيلة امرأته أزبيل
و أما عيسى فإن أمه هربت به من أجب الملك إلى مصر و عاد به يوسف النجار مع أمه إلى قرية تدعى ناصرة فلذلك قيل لأصحابه نصارى لأنهم سموه عيسى الناصري
أصحاب الكهف :
و أصحاب الكهف : هم فتية من الروم دخلوا الكهف قبل المسيح عيسى و ضرب الله على آذانهم فيه فلما بعث المسيح أخبر بخبرهم ثم بعثهم الله تعالى بعد المسيح في الفترة بينه و بين النبي صلى الله تعالى عليه و سلم
و جرجيس من أهل فلسطين أدرك بعض الحواريين و بعث إلى ملك الموصل
لقمان الحكيم :
فأما لقمان الحكيم فكان عبدا حبشيا لرجل من بني إسرائيل و كان في زمن داود و اسم أبيه ثاران و اختلف في نبوته فزعم الأكثرون أنه لم يكن نبيا و قال سعيد بن المسيب كان نبيا و كان خياطا
و ذو الكفل من بني إسرائيل بعث إلى ملك كان فيهم يقال له كنعان دعاه إلى الإيمان و كفل له الجنة و كتب له كتابا و سمي ذا الكفل لذلك
عدد الأنبياء :
و ذكر وهب بن منبه أن الأنبياء كلهم مائة ألف نبي و أربعة و عشرون ألف نبي : الرسل منهم ثلاثمائة نبي و خمس عشر نبيا منهم خمسة عبرانيون : آدم و شيث و إدريس و نوح و إبراهيم و خمسة من العرب هود و صالح و إسماعيل و شعيب و محمد صلوات الله عليهم
حنظلة بن صفوان :
و روى أبو صالح عن ابن عباس قال : يعث الله إلى أهل الرس نبيا منهم يقال له [ حنظلة بن صفوان ] فكذبوه و قتلوه فأوحى الله تعالى إلى نبي كان مع بختنصر يقال له أرميا بن برخيا مر بختنصر يغزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم فيقتلهم بما صنعوا بنبيهم
و روي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم قال : [ ذاك نبي أضاعه قومه ] و ذلك أنه قال لقومه ادفنوني فإذا جاءت الظباء بعد ثلاث فأخرجوني فسأنبئكم بما أمرت فجاءت الظباء إلى قبره بعد ثلاث فلم يخرجوه و قالوا تتحدث العرب عنا إنا نبشنا موتانا و أتت بنته رسول الله صلى الله عليه و سلم فسمعته يقرأ : { قل هو الله أحد } فقالت : قد كان أبي يقرأ هذا و لا يضبط ذكر من سلف من الأنبياء لكثرتهم و قول الله تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه و سلم : { منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } و الله تعالى أعلم (1/54)
الباب السادس ـ في إثبات نبوة محمد صلى الله تعالى عليه و سلم
إثبات نبوة محمد عليه السلام :
الكلام في إثبات نبوته يتقرر مع المعترفين ببعثة الرسل لأن منكريها يعمون الجميع بها و يدفعون كل مدع لها و الكلام معهم قد قدمناه في إثبات النبوات على العموم
فأما نبوة محمد صلى الله تعالى عليه و سلم فقد اختلف فيها مخالفوه من مثبتي النبوات على أقوال شتى
أنكرت اليهود نبوة محمد صلى الله عليه و سلم :
فمنعت اليهود من نبوته لامتناعهم عن نسخ الشرع و اختلفوا في المانع من نسخه فمنع منه بعضهم بالعقل لأن نهي الله تعالى عما أمر به و أمره بما نهى عنه و إنما يكون لخفاء المصلحة عليه في الابتداء و ظهورها له في الانتهاء و الله تعالى عالم بها في الحالين لتباين الضدين
و منع منه يعضهم بالشرع و إن جوزوه في العقل بما نقلوه عن موسى عليه السلام و ذكروه في التوراة أنه قال : تمسكوا بالسبت أبدا سنة الدهر و كلا الوجهين فاسد من وجهين :
أحدهما : أن العقل لا يمنع من الأمر بالشيء في زمان و النهي عنه في غيره بحسب المصلحة في قول من اعتبرها أو بالإرادة في قول من اعتمدها و لا يكون مستقبحا من فعل حكيم كما يغني من أفقر و يفقر من أغنى إما للمصلحة أو بالإرادة و لا يكون ذلك منه لاستبهام المصلحة و إشكال الإرادة
و الثاني : ان موسى قد نسخ شرع من تقدمه لأن آدم زوج بنيه بناته و جوز يعقوب الجمع بين الأختين : و نكح إبراهين بنت أخيه و كل هذا عند موسى منسوخ بشرعه فجاز أن ينسخ شرعه بشرع غيره
قيل محمد نبي العرب خاصة :
و قال آخرون : محمد صلى الله تعالى عليه و سلم نبي مبعوث إلى قومه من العرب و ليس بنبي لغيرهم و هذا فاسد من وجهين :
أحدهما : أنه تخصيص بغير دليل
و الثاني : أن ثبوت نبوته في قومه موجب لصدقه و قد قال : إنه بعث إلى كافة الخلق و أنه خاتم الأنبياء فلم يجز رد قوله مع ثبوت صدقه
قيل محمد نبي من ليس له شرع :
و قال آخرون : هو نبي مبعوث إلى من لم يتمسك بشرع من عبدة الأوثان و ليس بمبعوث إلى من تمسك بشرع من اليهود و النصارى و هذا فاسد من وجهين مع الوجهين المتقدمين :
أحدهما : أنه يدفع به عن نسخ الشرع و قد دللنا على جوازه
و الثاني : ان من اعترف بالنبوات كان ألزم له من جحدها
قيل ليس بنبي لأنه لا مجزة قاهرة له
و قال آخرون ليس بنبي لأنه لم يأت بمعجزة قاهرة يضطر إلى صدقة كمعجزة موسى و عيسى و إن جاز نسخ الشرائع بمثلها من الشرائع و في هذا يتعين إقامة الدليل على إثبات نبوته و هو معتبر بثلاثة شروط :
أحدها : وصف المستدل و الثاني : حكم المدلول عليه و الثالث : صفة الدليل
فأما الشرط الأول في صفة المستدل فقد اختلف فيه فذكر الجاحظ : أنه العقل لأنه المميز للحق و قال الأكثرون : المستدل هو العاقل و العقل آلة استدلاله ليتوصل به إلى صحة مدلوله
و أما الشرط الثاني : ففي حكم المدلول عليه فعند فريق إنه إثبات نبوته ليعلم بها صدق قوله و عند الأكثرين إنه إثبات صدقه ليعلم بقوله صحة نبوته
و أما الشرط الثالث و هو دليل فحجاج يتنوع أنواعا لأن المستدل واحد و المدلول عليه واحد و الدليل يشتمل على أعداد متنوعة و شواهد مختلفة فرق الله تعالى بينهما لتكون الحجج متغايرة و البراهين متناظرة بحسب ما علمه من المصلحة ورآه من أسباب الإجابة كما قال تعالى : { وكذلك نصرف الآيات } أي نخالف بينها في المعجزات فكان بعضها حجة قاطعة و بعضها أمارة لائحة تجري عليها أحكام ما قاربها فتقوى بعد الضعف و تحج بعد الكشف و إن لم تكن للإنذار بانفرادها من قواطع الحجج المغنية عن دليل يحج فهذا القول في نبوة غيره فلا يلزم تطابق حججهم كما لم يلزم اتفاق شرائعهم
و قد قدمنا أقسام المعجزات فإذا ظهرت إحداهن حجت و دلت على صحة النبوة و قد ظهر في نبوة محمد صلى الله تعالى عليه و سلم أكثرها مع ما تقدمها من إنذار وظهر بها من آثار و تحقق بها من أخبار فصارت أعلم النبوات إعجازا و أوضحها طريقة و امتيازا و أكثرها تأييدا إلهيا و تعبدا شرعيا تقهر شواهدها من باين و عاند و تحج دلائلها من ناكر و جاحد لأن المهيأ منه مطبوع على آلته و منقاد إلى غايته حتى يتدرج إليه بغير تكلف و يستقر فيه بغير تصنع فلا يشتبه من تعاطاه بمن طبع بشيمة المطبوع
و لم تزل إمارات النبوة لائحة في رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم حين تدرج إليها و هو غافل عنها وغير متصنع لها فنهض بأعبائها حين أتته وقام بحقوقها حين لزمته غير ذاهل فيها و لا عاجز عنها إلى أن تكامل به الشرع فتم على أصل مستقر و قياس مستمر لا يدفعه عقل و لا يأباه قلب و لا تنفر منه نفس و هذا و هو أمي لم يقرأ كتابا و لا اكتسب علما فأوضح كل ملتبس وبين كل مشتبه حتى رجع كثير من الملل إلى شريعته في علم ما قصروا عنه من حقوق وعقود استوعب أقسامها و بين أحكامها و ما ذاك إلا بعون إلهي و تأييد لاهوتي
و حسبك بهذا شاهدا لو اقتصرنا عليه و حجاجا لو اكتفينا به و لكن سنذكر من معجزاته الفاخر و براهينه الواضحة ما يرد كل جاحد و يصد كل معاند من أنواع متغايرة و أخبار متواترة و آثار متظاهرة يصدق بعضها بعضا ليكون تغايرها جامعا لكل برهان و تظاهرها دافعا لكل بهتان فمنها ما تقدمه من نذير و بشير و منها ما تعقبه من تغيير و تأثير و منها ما قارنه من أقوال و أفعال صدرت منه و إليه فلم يبق من الآيات ما أخل به و لا من الأعلم ما قصر فيه
و سنذكر أبوابا مفصلة و أنواعا متميزة لتكون أصح بيانا و أوضح برهانا و أحقها بالسابقة و التقديم إعجاز القرآن لأنه أصل شرعته ومستودع رسالته ثم نتلوه بما يقتضيه و إن كان لو ذكرناه أول مباديه على سياق ينتهي إلى غايته لكان نظاما و لكن هذا باب حجاج لرسالته و ليس بشرح لسيرته فوجب ابتداؤه بأخصها ثم ذكر سيرته على ترتيبها (1/71)
الباب السابع ـ فيما تضمنه القرآن من أنواع إعجازه
القرآن معجزة محمد عليه السلام :
و القرآن أول معجز دعا به محمد صلى الله تعالى عليه و سلم إلى نبوته فصدع فيه برسالته و خص بإعجازه من جميع رسله و إن كان كلاما ملفوظا و قولا محفوظا لثلاثة أسباب صار بها من أخص إعجازه و أظهر آياته
أحدها : أن معجز كل رسول موافق للأغلب من أحوال عصره و الشائع المنتشر في ناس دهره لأن موسى عليه السلام حين بعث في عصره السحرة خص من فلق البحر يبسا و قلب العصا حية بهر كل ساحر و أذل كل كافر و بعث عيسى عليه السلام في عصر الطب فخص من إبراء الزمنى و إحياء الموتى بما أدهش كل طبيب و أذهل كل لبيب و لما بعث محمد صلى الله تعالى عليه و سلم في عصر الفصاحة و البلاغة خص بالقرآن في إيجازه و إعجازه بما عجز عنه الفصحاء و أذعن له البلغاء وتبلد فيه الشعراء ليكون العجز عنه أقهر و التقصير فيه أظهر فصارت معجزاتهم و إن اختلف متشاكلة المعاني متفقة العلل
و الثاني : أن المعجز في كل قوم بحسب أفهامهم و على قدر عقولهم و أذهانهم و كان في نبي إسرائيل من قوم موسى و عيسى بلادة و غباوة لأنه لم ينقل عنهم ما يدون من كلام مستحسن أو يستفاد من معنى مبتكر و قالوا لنبيهم حين مروا بقوم يعكفون على أصنام لهم : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فظنوا أن الإعجاز بما يصلون إليه ببداية حواسهم
و العرب أصح الناس أفهاما و أحدهم أذهانا قد ابتكروا من الفصاحة أبلغها و من المعاني أغربها و من الآداب أحسنها فخضوا من معجز القرآن بما تجول فيه أفهامهم و تصل إليه أذهانهم فيدركوه بالفطنة دون البديهة و بالروية دون البادرة لتكون كل أمة مخصوصة بما يشاكل طبعها و يوافق فهمها
و الثالث : أن معجز القرآن أبقى على الأعصار و أنشر في الأقطار من معجز يختص بحاضره و يندرس بانقراض عصره و ما دام إعجازه فهو أحج و بالاختصاص أحق
و جوه إعجاز القرآن : 1 ـ فصاحته
و إعجاز القرآن في خروجه عن كلام البشر و إضافته إلى الله تعالى يكون من عشرين وجها :
أحدها : فصاحته و بيانه : و ذلك معتبر بثلاثة شروط أحدها : بلاغة ألفاظه و الثاني : اسيفاء معانيه و الثالث : حسن نظمه فأما بلاغة ألفاظه فتكون من وجهين : أحدهما جزالتها حتى لا تلين
و الثاني انطباعها حتى لا تخبو
و أما استيفاء معانيه فيكون من وجهين :
أحدهما : أن يكون المعنى لائحا في مبادي ألفاظه غير مفتقر إلى مقاطعه
و الثاني : أن يكون المعنى مطابقا لألفاظه فلا يزيد عليها و لا يقصر عنه فإن زاد كان الاختلال في اللفظ و إن نقص كان الاختلال في المعنى
و أما حسن نظمه فيكون من وجهين : أحدهما أن يكون الكلام متناسبا لا يتنافر و الثاني أن يكون الوزن معتدلا لا يتباين
فإن قيل : قد يجتمع في كلام البشر ما يستكمل هذه الشروط فبطل به الإعجاز فالجواب عنه من وجهين :
أحدهما : أن أسلوب نظمه على هذه الشروط معدوم في غيره فافترقا
و الثاني : أن لنظم ألفاظه بهجة لاتوجد في غيره فاختلفا لأنك إذا جمعت بين قول الله تعالى : { ولكم في القصاص حياة } و بين قولهم [ القتل أنفى للقتل ] و جدت بينهما فروقا في اللفظ و المعنى
2ـ - إيجازه :
و الوجه الثاني من إعجازه إيجازه عن هذا الإكثار و استيفاء معانيه في قليل الكلام كقوله تعالى : { وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين }
فإن قيل : ليس جميعه و جيزا مختصرا و فيه المبسوط و المكرر و بعضه أفصح من بعض و لو كان من عند الله لتماثل و لم يتفاضل لأن التفاضل في كلام من يكل خاطره و تضعف قريحته فعنه جوابان :
أحدهما : أن اختلافه في البسط و الإيجاز ليس للعجز عن تماثله ولكن لاختلاف الناس في تصوره و فهمه و تفاضله في الفصاحة بحسب تفاضل معانيه لا للعجز عن تساويه
و الثاني : أنه خالف بين مبسوطه و مختصره و بين أفصحه و أسهله ليكون العجز عن أسهله و أبسطه أبلغ في الإعجاز من العجز عن أفصحه و أخصره و لذلك فاضل بين خلقه ليعرف به فرق ما بين الفاضل و المفضول
و قد حكى أبو عبيدة أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ : { فاصدع بما تؤمر } فسجد و قال : سجدت لفصاحة هذا الكلام
فأما تكرار قصصه و تكرار وعده وو عيده فلأسباب مستفادة منها أنها في التكرار أوكد و في المبالغة أزيد و منها أنها تتغاير ألفاظها فتكون إلى القبوا أسرع و في الإعجاز أبلغ و منها أنها إن أخل بالوقوف عليها في موضع أدركها في غيره فلم يخل من رغب و رهب
3ـ - علوم عن منظوم الكلام و منثوره :
و الوجه الثالث من إعجازه : أن نظم أسلوبه و وصف اعتداله يخرج عن منظوم الكلام و منثوره و لا يدخل في شعر و لا رجز و لا سجعة و لا خطبة حتى تجاوز محصور أقسامه و باين سائر أنواعه بأسلوب لا يشاكل و نظم لا يماثل فصار و إن كان من حروف الكلام خارجا عن أقسام الكلام فقد قال أنيس الغفاري و هو أخو أبي ذر الغفاري و كان من الموصوفين بالتقدم في [ البلاغة و الفصاحة ] : عرضت القرآن على السجع و الشعر و النظم و النثر فلم يوافق شيئا من طرق كلام العرب
و حكي عن الوليد بن المغيرة ـ و كان سيد عشيرته و أفصح قومه ـ أنه جاء إلى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و هو على كفره فقال : اقرؤا علي شيئا من القرآن فقرؤا عليه
فقال : ليس هذا من كلام البشر و ليس بشعر فمضى إليه أبو لهب قال : أفسدت قريشا بهذا القول فارجع عنه فقال : أقول إنه سحر
و قد تعاطاه من الشعراء ما خرج عن أسلوبه إلى طريقة شعره فقال في قصة الفيل :
( ألا من مهلك الفيل ... و من سار مع الفيل )
( بطير صبه الله ... عليهم من أبابيل )
( رمتهم بجناديل ... ترى من طين سجيل )
( فأضحى القوم في القاع ... كعصف غير مأكول )
فلم يساعده الطبع عليه مع أخذ معانيه و استعمال ألفاظه حتى عاد إلى مطبوع شعره
و ضمن آخر من الشعراء شيئا منه في شعره فخرج عن أسلوبه حيث يقول :
( و قرا معانا ليصدع قلبي ... و الهوى يصدع الفؤاد السقيما )
( أرأيت الذي يكذب بالدين ... فلذاك الذي يدع اليتيما )
فإن قيل : لو كان لنظم القرآن أسلوب معجز لما طلب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عند جمع القرآن من يأتيه بالآية و الآيتين شهودا أنه سمعه من رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و لاكتفى بأسلوب نظمه عن بينة تشهد به و لكان لا يشتبه على ابن مسعود في المعوذتين حين أخرجهما من القرآن و لا على أبي بن كعب في القنوت حين أدخله في القرآن و لا على امرأة ابن رواحة في شعره حتى توهمته من القرآن فعنه جوابان :
أحدهما : أن عمر التمس الشهادة في الآية و الآيتين مما لا يكون بانفرداه معجزا لأن الإعجاز مختص بما وقع به التحدي و أقل ما يقع به التحدي كأقصر سورة في القرآن آيات و حروفا و هي { سورة الكوثر } و ما قصر عنه لا إعجاز فيه فكان طلبه للشهادة متوجها إليه
و الثاني : أنه طلب الشهادة على محلها من أي سورة هي و في أي موضع منها توضع و إن كان معلوم الأسلوب بالمباينة لأن الله تعالى كان يأمر بوضع ما أنزله فيما يراه من السور لقوله تعالى : { إن علينا جمعه وقرآنه }
فأما ابن مسعود فلم يشكل عليه أسلوب المعوذتين أنهما من القرآن إنما حكمهما من مصحفه لأنه ظن أن تلاوتهما قد نسخت
و أما أبي بن كعب فظن أن تلاوة القنوت باقية و لم يعلم أنها قد نسخت
و أما امرأة ابن رواحة فلم تكن من ذوي الفصاحة و البلاغة فتفرق بين الشعر و أسلوب القرآن فلم يكن لوهمها تأثير
4 - ـ كثرة معانيه :
و الوجه الرابع من إعجازه كثرة معانيه التي لا يجمعها كلام البشر و ذلك وجهين :
أحدهما : ما يجمعه قليل الكلام من كثير المعاني كقوله تعالى : { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين } فجمع في آية واحدة بين أمرين و نهيين و خبرين و بشارتين
و الثاني : أن ألفاظه تحتمل معاني متغايرة تحار فيها العقول و تذهل فيها الخواطر و تكل فيها القرائح ثم لا تبلغ أقصاه و لا تدرك منتهاه حتى اختلف فيه الوجوه و تقابلت فيه النظائر
فإن قيل : فهذا ألغاز و رمز هو بالذم منه أولى بالحمد فعنه جوابان :
أحدهما : أن الألغاز و إن ذم فالرمز ليس بمذموم و ليس فيه لغز و إن كان فيه رمز
و الثاني : أن ما اختلف معانيه يخرج عن اللغز و الرمز لأن اللغز ما أريد به غير معناه و الرمز ما خفي معناه
5 - ـ جمعه للعلوم :
و الوجه الخامس من إعجازه ما جمعه القرآن من علوم لا يحيط بها بشر و لا تجتمع في مخلوق فلم يكن إلا من عند الله المحيط بكل شيء علما حتى علمه من لم يكن به عالما
فإن قيل : فضل العلم لا يكون إعجازا في النبوات لأن العلماء قد يتفاضلون و لا يكون للأفضل إعجاز على المفضول فعنه جوابان :
أحدهما : أن التفاضل في العلم موجود و الإحاطة بجميع العلوم مفقود
و الثاني : أن ظهور العلم فيمن يتعاطاه ليس بمعجز لظهوره من جهته و ظهور فيمن لم يتعاطه معجزا لظهوره من غير جهته
و قد كان أميا من أمة أميه لم يقرأ كتابا و لم يتعاط علما فصار ما أظهر معجزا
6 - ـ تضمنه الحجج :
و الوجه السادس من إعجازه ما تضمنه من الحجج و البراهين عاى التوحيد و الرجعة و على الدهرية و الثنوية حتى قطع بحجاجه كل محتج و خصم بجدله له كل خصم ألد
فإن قيل : فدلائل التوحيد مستفادة بالعقول فلم يكن فيها إعجاز من وجهين أحدهما وجودها من ذاته و الثاني : مشاركته فيها لغيره
و الجواب عنه من وجهين : أحدهما أنه لم يكن من أهل الجدل فيقطع كل مجادل و الثاني أنه احتج للرجعة بما زاد على قضابا العقول فخصم كل عاقل
7 - ـ تضمنه أخبار الماضين :
و الوجه السابع من إعجازه ما تضمنه من أخبار القرون الخالية و قصص الأمم السالفة و تحداه به أهل الكتاب من قصة أهل الكهف و شأن موسى و الخضر و حديث ذي القرنين فكان على ما ذكره أنبياؤهم و تضمنته كتبهم
فإن قيل : فالأخبار بما كان ليس بمعجز لأن علم غير الأنبياء به ممكن فعنه جوابان :
أحدهما : أنه ممكن فيمن علمها و متتنع فيمن لم يعلمها و لم يكن من أهلها فيعلمها فصار معجزا ممتنعا
و الثاني : أنهم اقترحوا تحديه مما لم يكن مبتدئا و لا كان له متناهيا من غوامض أسرار و غرائب أخبار جعلوها حجاجا له و عليه ففصح بالجواب عن سرائرها و صدع بنعت غوامضها فخرج عن العرف إلى ما ليس بعرف فصار معجزا
8 - ـ تضمنه عن علم الغيب :
و الوجه الثامن من إعجازه ما تضمنه من علم الغيب بأخبار تكون فكانت كقوله لليهود : { قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } ثم قال : { ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم } فما تمناه أحد منهم
و كقوله لقريش : { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } فقطع بأنهم لا يفعلون فلم يفعلوا
أو كقوله : { سيهزم الجمع ويولون الدبر } و كان ذلك في يوم بدر
و كقوله تعالى في هجرته من مكة إلى المدينة { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } فأعاده الله إلى مكة عام الفتح إلى غير ذلك من نظائره
فإن قيل : فقد يكون ذلك حدسا بشواهد الأفعال و فراسة بفضل الألمعية و قوة الفطنة فعنه جوابان :
أحدهما : أن الحدس و الفراسة و إن أصاب بهما تارة فقد يخطئ بهما أخرى و هذا إصابة في الجميع فخرجت عن الحديث و الفراسة إلى علم من لا تخفى عليه الغيوب
و الثاني : أن الحدس و الفراسة توهم غير مقطوع بهما قبل الوجود و هذا إخبار بأنه مقطوع بها قبل الوجود فافترقوا
9 - ـ إخباره بضمائر القلوب :
و الوجه التاسع من إعجازه ما فيه من الأخبار بضمائر القلوب التي لا يصل إليها إلا علام الغيوب كقوله : { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا } من غير أن يظهر منهم قول أو يوجد منهم فشل و كقوله : { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم } فكان كقوله : و إن لم يتكلموا به إلى غير ذلك من نظائره
فإن قيل : فالجمع الكثير تختلف ضمائرهم في العرف فإن وجد ذلك في بعضهم لم يوجد في جميعهم فإن لم يخل أن يعقده بعضهم خلا منه بعضهم فتقابل القولان فيهم و بطل إعجازه معهم فعنه جوابان :
أحدهما : أنهم و وجهوا بهذا الخبر على العموم فلم ينكروه فزال هذا التفصيل فصار معجزا
و الثاني : أنه جعله ذنبا لهم فلم يتنصلوا منه فدل على وجوده من جميعهم
10 - ـ جزل القرآن لا يتوعر و لا يسترذل :
و الوجه العاشر من إعجازه أن ألفاظ القرآن قد تشتمل على الجزل المستغرب و السهل المستقرب فلا يتوعر جزله و لا يسترذل سهله و يكونان إذا اجتمعا مطبوعين غير متنافرين و لا نجد ذلك في غيره من كلام البشر لأن جزله يتوعر و سهله يسترذل و الجميع بينهما يتنافر فصار من هذا الوجه مبانيا و في الإعجاز داخلا
فإن قيل : إنما كان القرآن كذلك لأنه قد تواطأ بكثرة التلاوة فاستلذته الأسماع و استحلته الألسن و لولاه لتباين و اختلف فعنه جوابان :
أحدهما : أن صفته عند أول سماعه لو كانت لما ذكر من العلة لاختلف في مباديه و غايته
و الثاني : أن غيره من الكلام المختلف لا يتواطأ بكثرة ذكره فبطلت العلة
11 - ـ اختصاص تلاوته ببواعث ليست لغيره :
و الوجه الحادي عشر من إعجازه أن تلاوته تختص بخمسة بواعث عليه لا توجد في غيره أحدها : هشاشة مخرجه و الثاني : بهجة رونقه و الثالث : سلالة نظمه و الرابع : حسن قبوله و الخامس : أن قارئه لا يكل و سامعه لا يمل و هذا في غيره من الكلام المعدوم
فإن قيل : إنما وقع في النفوس هذا الموقع للتدين بالتزامه و التخصيص بإعظامه فعنه جوابان
أحدهما : أن هذا موجود في غيره من كتب الله تعالى كالتوراة و الإنجيل و الزبور و ليس يوجد ذلك فيها مع وجود هذا التعليل و لذلك ما استعان أهلها على استحلاء تلاوتها بما وضعوه لها من الألحان و استعذبوه لها من الأصوات و القرآن مستغن عن هذا بصيغة لفظه فلذلك ما راع وهيج الطباع
و الثاني : التدين لا يسلب العقول تمييزها و لا يفسد عليها تصورها و هو بأن يزيدها بصيرة أولى من أن ينقصها و لو كان لهذه العلة لجحده من كفر كما اعترف به من آمن و قول الجميع فيه سواء
12 - ـ القرآن منزل بألفاظه و معانيه لا كسائر الكتب الدينية :
و الوجه الثاني عشر من إعجازه أنه منقول بألفاظه منزلة و معان مستودعة و بلغة الملك بلفظه و على نظمه و أداه الرسول إلى الأمة بمثله فلم ينخرم فيه لفظ و لا اختل فيه معنى و لا تغير له ترتيب حتى صار من الزلل مضبوطا و من التبديل محفوظا تستمر به الأعصار على شاكلته و تتداوله الألسن مع اختلاف اللغات على نظمه و صفته لا يختلف بتعاقب الأزمنة و لا يختل بتباعد الأمكنة و لا يتغير باختلاف الألسنة و غيره من الكتب مقصورة على حفظ معانيها و إن غويرت ألفاظها
فإن التوراة ألقى الله تعالى معانيها إلى موسى عليه السلام فذكرها بلفظه و عبر عنها بكلامه
و أما الإنجيل فهو ما أخبر به عيسى عليه السلام عن ربه و عن نفسه فجمعه تلامذته بألفاظهم و جعلوه كتابا متلوا
و أما الزبور فأدعية بتحاميد و تسابيح تنسب إلى داود عن لفظه و لئن كانت معاني هذه الكتب مضافة إلى الله تعالى فليست بصيغة لفظه و لا على نظم كلامه كما نزل القرآن جامعا لألفاظه و معانيه و ترتيبه فصار مباينا لجميع كتبه و ما هذا إلا بمعونة إلهية حفظ الله تعالى بها إعجازه و أمد بها رسوله كما قال تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }
فإن قيل : فحفظ الكلام على صيغة لفظه و اشتمال معانيه لا يكون معجزا كأشعار الجاهلية القدماء و أمثال من سلف من الحكماء فعنه جوابان :
أحدهما : أن في هذا محولا و متروكا فلم ينحفظ
و الثاني : أنه لا يعلم حاله فلم ينضبط و القرآن مخالف لهما في حفظه و ضبطه
13 - ـ ارتباط معانيه المتغايرة :
و الوجه الثالث عشر من إعجازه اقتران معانيه المتغايرة و اقتران نظائرها في السور المختلفة فيخرج في السورة من وعد إلى وعيد و من ترغيب إلى ترهيب و من ماض إلى مستقبل و من قصص إلى مثل و من حكم إلى جدل فلا ينبو و لا يتنافر و هي في غيره من الكلام متنافرة فتتجانس معانيها و كذلك هي في غيره من الكتب المنزلة مفصلة لكل نوع سفر فإن التوراة مقسومة على خمسة أسفار و كل سفر منها مفرد بمعنى واحد من المعاني المستودعة فيها
فالسفر الأول : لذكر بدء الخلق و السفر الثاني : لخروج بني إسرائيل من مصر و السفر الثالث : لأمر القرابين و السفر الرابع : لإحصاء موسى بني إسرائيل و ما دبرهم به و السفر الخامس : لتكرير النواميس و جعل اختلاف معانيها موجبا لتفاضيلها فكان أفضل ما في التوراة عند اليهود العشر الكلمات المشتملة على الوصايا التي خاطب الله تعالى بها موسى و بها يستخفون دون غيرها
و أفضل ما في الإنجيل الصحف الأربعة المنسوبة إلى تلامذة المسيح الأربعة و هي المخصوصة بالقراءة في الصلاة و الأعياد
و أفضل ما في الزبور ما اتفق أهل الكتابين على اختياره و ما اشتمل عليه القرآن من تغايرها أولى من وجهين :
إحداهما : أن لا يختص قارئه بأحدها فيعدل عن غيره
و الثاني : أن يستوعب إذا أراد جميعها قراءة جميعه فيستكمل فوائده و يستجزل ثوابه
فإن قيل : فالتفصيل أبلغ في البيان من الامتزاج فالجواب عنه ما ذكرناه من الوجهين
14 - ـ طول الآيات و قصرها لم يؤثر في أسلوبها :
و الوجه الرابع عشر من إعجازه أن اختلاف آياته في الطول و القصر لا يخرج عن أسلوبه و لا يزول عن اعتداله و غيره من نظم الكلام و نثره إذا تفاصلت أجزاؤه زال عن وزن منظومه و اعتدال منثوره فصار ذلك من إعجازه
فإن قيل : زيادة طوله هذر و نقصان قصره حصر فكيف يكون معجزا إذا تردد بين هذر و حصر ؟ فعنه جوابان :
أحدهما : أن الزيادة تكون هذرا إذا لم تفد و النقصان يكون حصرا إذا لم يقنع و الزيادة من طوله و النقصان من قصره مقنع فخرج عن الهذر و الحصر
و الثاني : أن الطويل لو انفرد لم يكن هذرا و القصير لو انفرد لم يكن حصرا فلم يكن اجتماعهما موجبا لهذر و حصر كاختلاف السور في القصر و الطول فإن أقصر السور سورة الكوثر و تشتمل مع قصرها على أربعة معان : إخبار بنعمة و أمر بعبادة و بشرى بمسرة و أسلوب هو معجز فلم تخرج إذا قورنت بما هو أطول أن تكون معجزة
15 - ـ مكثر تلاوته لا يزداد بالقراءة فصاحة
و الوجه الخامس عشر من إعجازه أن مكثر تلاوته لا يزداد به فصاحة و إن ازداد بغيره من فصيح الكلام لخروجه عن طباع البشر فصار أسلوبه معجزا في الحالين و على كلا الوجهين
فإن قيل : ما لا يؤثر في الطباع ناقص عن الكمال فكيف يوصف بالكمال ؟ فعنه جوابان :
أحدهما : أن كماله فيه فلم يلزم تعديله
و الثاني : أن كماله يوجب المنع من تساويه
16 - ـ تيسيره على جميع الألسنة :
و الوجه السادس عشر من إعجازه تيسيره على جميع الألسنة حتى حفظ الأعجمي الأبكم و دار به لسان القبطي الألكن و لا يحفظ غيره من الكتب كحفظه و لا تجري به ألسنة البكم كجريها به و ما ذاك إلا بخصائص إلهية فضله بها على سائر كتبه
فإن قيل : فقد يحفظ الشعر كحفظه و العلة فيه اعتدال وزنه الذي يحفظ بعضه بعضا فلم يكن ذلك معجزا فعنه جوابان :
أحدهما : إن ما اندرس من الشعر أكثر مما حفظ و هذا محفوظ لم يندرس فاختلفا
و الثاني : ما لم تستعذبه الأفواه متروك و القرآن مستعذب غير متروك فافترقا
17 - ـ القرآن أعلى مراتب الكلام
و الوجه السابع عشر من إعجازه أن الكلام يترتب ثلاث مراتب : منثور يدخل في قدرة الخلق و شعر هو أعلى منه يقدر عليه فريق و يعجز عنه فريق و قرآن هو أعلى من جميعها و أفضل من سائرها تجاوز رتبة النوعين فخرج عن قدرة الفريقين
فإن قيل : لو كان القرآن برهانا معجزا لخرج كثيرة و قليله عن القدرة و قليله مقدور عليه و هو أن يجمع بين ثلاث كلمات منه أو أربع فكذلك كثيره لأن الشيء إذا دخلت أوائله في جنس الممكن خرجت أواخره من جنس الممتنع فعنه جوابان :
أحدهما : أن قليله و كثيره خارج عن القدرة إذا انتظم إعجازه و هو كأقصر سورة منه فبطل هذا الاعتراض
و الثاني : أنه ليس القدرة على الكلمة و الكلمتين منه قدرة على استكمال ما يقع من التحدي كالمفحم في الشعر لا تكون قدرته على الكلمة و الكلمتين من بيت من الشعر قدرة على نظم بيت كامل من الشعر
18 - ـ الزيادة فيه ممتازة و التغيير مفتضح :
و الوجه الثامن عشر من إعجازه أن الزيادة فيه ممتازة و تغيير ألفاظه منه مفتضحة و لو كان في القدرة لالتبس و لو أمكن لاشتبه
فإن قيل : فقد زيد فيه فالتبس و اشتبه و هو أن النبي صلى الله تعالى عليه و سلم لما نزلت عليه سورة النجم بمكة قرأها في المسجد الحرام حتى بلغ إلى قوله تعالى : { أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى } ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلى و أن شفاعتهن لترتجى ثم تمم السورة و سجد فسجد معه المسلمون و فرح المشركون فسجدوا معه و رضيت كفار قريش به و سمع به من هاجر إلى أرض الحبشة فعادوا إلى أن أنكر عليه جبريل فشق عليه و نزل فيه قوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته }
قالوا : و معلوم أن هذه الزيادة هي في مثل أسلوب السورة و ليست من الله تعالى و قد اشتبهت فلم لا كان ما سواها بمثابتها فعنه جوابان :
أحدهما : أن هذه زيادة لا تبلغ قدر التحدي فخرجت عن حكمه
الثاني : أنه أنزل فيهم [ التي عندهم ] أيها الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى فاشتبه على قريش و حذفوا منه قوله [ التي عندهم ] فنسخ الله تعالى لهذا الاشتباه تلاوة هذه الزيادة
19 - ـ عجز الأمم عن معارضته :
و الوجه التاسع عشر من إعجازه عجز الأمم عن معارضته و قد تحداهم أن يأتوا بسورة مثله فلم تخرجهم أنفة التحدي و صبروا على نغص العجز مع شدة حميتهم و قوة أنفتهم و قد سقه أحلامهم و سب أصنامهم و لو وجدوا إلى المعارضة سبيلا ـ و كان في مقدورهم داخلا و قد جعله حجة لهم في رد رسالته ـ لعارضوه و لما عدلوا عنه إلى بذل نفوسهم في قتاله و سفك دمائهم في محاربته
فإن قيل : فليس يمتنع أن يكونوا قد عارضوا بمثله فكتم ما هجي به من الأشعار و قرف به من العار فعنه جوابان :
أحدهما : أنهم لو عارضوه لظهر و لو ظهر لانتشر لأن تكاتم الاستفاضة لا تستطاع لما في الطباع من الإذاعة و في نفثات الصدور من الإشاعة و لقيل قد عورض فكتم كما قيل هجي فكتم و لو جاز هذا في معارضة القرآن لجاز مثله في معجزة كل نبي أن يقال : قد عورض معجزه فكتم فيفضي إلى إبطال كل معجز و هذا مدفوع في معارضة غير للقرآن فكان مدفوعا في معارضة القرآن
و الثاني : أنه قد جعل معارضته حجة لهم في رد رسالته فلو عارضوه لاحتجوا عليه بالمعارضة و لما احتاجوا معه إلى القتال و المحاربة مع بذل النفوس و استهلاك الأموال و لدفعوه بالأهون دون الأصعب و قد نقل ما عورض به فظهر فيه العجز و بان فيه النقص حتى فضحته ركاكة لفظه و سخافة نظمه
نماذج من المعارض السخيفة :
فحكى ابن قتيبة عن مسيلمة أنه قال في معارضة القرآن : يا ضفدع نقي كم تنقين لا الماء تكدرين و لا الشراب تمنعين فلما سمع هذا أبو بكر رضي الله تعالى عنه قال إن هذا الكلام لم يخرج من إله
و حكى عن غيره و أحسبه العنسي أنه قال : ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى أخرج من بطنها نسمة تسعى من بين شراسيف وحشى
و حكى عن آخر الفيل ما الفيل له ذنب وثيل و مشفر طويل فإن ذلك من خلق ربنا لقليل
و حكى الحكم عن عكرمة أن النضر بن الحارث و كان من فصحاء قريش عارض القرآن فقال : و الزارعات زرعا و الحاصدات حصدا و الطاحنات طحنا و العاجنات عجنا و الخابزات خبزا فاللاقمات لقما
و قال أخر قد أفلح من هينم في صلاته و أطعم المساكين من مخلاته و أخرج الواجب من زكاته
و قال آخر : في معارضة سورة النجم و النجم إذا سما و البحر إذا طما ما زاغ منذركم و ما طغى و ما كذب بها و غوى فيما نطق به و روى فأنزل الله تعالى في ذلك : { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء } فهذه المعارضة و قد احتذوا فيها مثالا عدلوا بها عن طوال السور إلى قصارها فأتوا بسقيم الكلام دون سليمه و بسخيفه دون جميله فكيف يقابل به غايته القصوى و يواري به طبقته العليا و هل ذلك إلا كمن عارض فصاحة سحبان بعي باقل أو تخليط مجنون بحزم عاقل أو قاس الدر بالمدر و شاكل بين الصفو و الكدر و من تعاطى ما ليس في طبعه فخر صريعا و هوى سريعا
20 - ـ الصرفة عن معارضته :
الوجه العشرون من إعجازه الصرفة عن معارضته و اختلف من قال بها هل صرفوا عن القدرة على معارضته أو صرفوا عن معارضته مع دخوله في مقدورهم ؟ على قولين :
أحدهما : أنهم صرفوا عن القدرة و لو قدروا لعارضوا
و القول الثاني : أنهم صرفوا عن المعارضة مع دخوله في مقدورهم و الصرفة إعجاز على القولين معا في قول من نفاها و أثبتها فخرقها للعادة فيما دخل في القدرة
فإن قيل : فإن عجزوا عن معارضته بمثله لم يعجزوا عن معارضته بما تقاربه و إن نقص عن رتبته و المعجز ما لم يمكن مقاربته كما لا يمكن مماثلته فعنه جوابان :
أحدهما : أن مقاربته تكون بما في مثل أسلوبه إذا قصر عن كماله و الأسلوب ممتنع فبطلت المقاربة و ثبت الإعجاز
و الثاني : أن المقاربة تمنع من المماثلة و التحدي إنما كان بالمثل دون المقاربة
فإذا ثبت إعجاز القرآن من هذه الوجوه كلها صح أن يكون كل واحد منها معجزا فإذا جمع القرآن سائرها كان إعجازه أقهر و حجاجه أظهر و صار كفلق البحر و إحياء الموتى لأن مدار الحجة في المعجزة إيجاد ما لا يستطيع الخلق مثله سواء كان جسما مخترعا أو جرما مبتدعا أو عرضا متوهما (1/76)
القرآن معجز للعرب العاربة و المولدين
فإن قيل : أفيعتبرون عجز العرب العاربة عنه دون المولدين أو عجز الجميع
قيل : فيه خلاف بين أهل العلم على وجهين :
أحدهما : أن المعتبر فيه عجز الجميع ليكون أعم و الوجه الثاني معتبر فيه عجز العرب العاربة دون المولدين ليكون معتبرا بمن يلجأ إلى طبعه و لا يعول على تكفله و تعلمه
و هكذا اختلفوا هل يعتبر فيه عجز أهل عصره أو في جميع دهره على هذين الوجهين :
أحدهما : يعتبر فيه عجز أهل العصر لأنهم حجة على أهل كل عصر و الوجه الثاني : أنه يعتبر عجز أهل عصر لعموم التحدي فيه لأهل كل عصر
إعجاز القرآن من الله تعالى :
فإن قيل : فليس عجز كل الإنس عن مثله موجبا لإضافته إلى الله تعالى لجواز أن تكون الشياطين قد أعانت عليه حتى خرج عن مقدور الإنس كما أعانت سليمان على ما عجز عنه الإنس فعنه أجوبة :
أحدها : إن هذ يتوجه على موسى في فلق البحر و على عيسى في إحيار الموتى و يقدح في جميع النبوات فلم يجز لمن أثبتها أن يخص به بعض المعجزات
و الجواب الثاني : أن الشياطين لم يعرفوا إلا من الرسل و لولاهم لما علم الناس أن في الدنيا شيطانا و لا جانا و قد جهر الرسل بلعنهم و دعوا إلى معصيتهم و لو كانوا أعوانا لدعوا إلى طاعتهم و موالاتهم لأن معونة من أطيع و ولي أحق من معونة من عصى وعودي
و الجواب الثالث : أن الشياطين لا يقدرون على ذلك إلا بمعونة الله تعالى لهم و هو لا يعين كاذبا عليه فإن كان عن أمره كان معجزا لأنه من فعله و على هذا كان تسخير سليمان للجن و الله تعالى غني عن الشياطين أن يكونوا سفراء إلى رسله و أعوانا لأنبيائه و هم ينهمون عن طاعته و يدعون إلى معصيته و هذا القرآن و قد تحدى به الجن كما تحدي به الإنس بقوله تعالى : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا }
و حكى عنهم عجزهم عنه بقوله سبحانه : { إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به }
الرسول أعلمنا أن الإعجاز من الله :
فإذا تقررت هذه الجملة في إعجاز القرآن فإعجازه يعلم أنه من غير كلام البشر و لا يعلم أنه من عند الله تعالى إلا بقول الرسول فلو أراد الرسول أن يقول مثله لم يقدر عليه لأنه من البشر إلا أن يمده الله تعالى بعون منه فيصير قادرا عليه و معجزا له لو لم يضف القرآن إلى الله تعالى فأما مع إضافته إليه فلا يكون معجزا له و يكون مصروفا عنه لأن ما أضيف إلى الله تعالى يمتنع أن يكون من غيره لدخوله في جملة الكذب ثم يصير القرآن أصلا للشرع و معجزا للرسول فيجب على الأمة التزام أحكامه و طاعة الرسول
طاعة القرآن لازمة عقلا و شرعا :
و اختلف في لزوم طاعته و هل وجبت بعد ثبوت رسالته بالعقل أو بالشرع على وجهين :
أحدهما : بالعقل لأن طاعة الرسول طاعة المرسل
و الوجه الثاني : بالشرع بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } لأن الرسول مبلغ
القرآن أصل الشرع : و إذا كان القرآن أصلا للشرع فقد اختلف العلماء في حد الأصل و الفرع على وجهين :
أحدهما : أن حد الأصل ما دل على غيره و حد الفرع ما دل عليه غيره فعلى هذا يكون القرآن فرعا لعلم الحس لأنه الدال على صحته
و الوجه الثاني : أن الأصل ما تفرع عنه غيره و الفرع ما تفرع عن غيره فعلى هذا يمتنع أن يكون القرآن فرعا لعلم الحس لأن الله تعالى تولاه و جعله أصلا دل العقل عليه
إبلاغ الرسول ملزم للأمة :
و اختلف العلماء في إبلاغ الرسول هل يكون أمرا أو إعلاما ؟
فقال بعضهم يكون أمرا لا يلزم الأمة أحكامه لو عرفوه قبل إبلاغه و الوجه الثاني : يكون إعلاما و يلزمهم أحكامه لو عرفوه قبل إبلاغه و يجوز أن يعلم جميع الأحكام الشرعية من القرآن و لا يجوز أن يعلم جميعها من الاجتماع و لا من القياس لأنهما ينعقدان عن أصل مسموع
و اختلف في جواز العلم بجميعها من سنة الرسول فجوزه بعضهم لقوله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } و امتنع منه بعضهم لقوله تعالى : { وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى } و الله تعالى أعلم (1/96)
الباب الثامن : في معجزات عصمته صلى الله تعالى عليه و سلم
معجزات في عصمة النبي عليه السلام :
أظهر الله تعالى لرسوله صلى الله تعالى عليه و سلم من أعلام نبوته بعد ثبوتها بمعجز القرآن و استغنائه عما سواه من البرهان ما جعله زيادة استبصار يحج بها من قلت فطنته و يذعن لها من ضعفت بصيرته ليكون إعجاز القرآن مدركا بالخواطر الثاقبة تفكرا و استدلالا و إعجاز العيان معلوما ببداية الحواس احتياطا و استظهارا فيكون البليد مقهورا بوهمه و بيانه و اللبيب محجوبا بفهمه و بيانه لأن لكل فريق من الناس طريقا هي عليهم أقرب و لهم أجذب فكان ما جمع انقياد الفرق أوضح سبيلا و أعم دليلا
عصمة النبي من أعدائه الكثيرين :
فمن معجزاته : عصمته من أعدائه و هم الجم الغفير و العدد الكثير و هم على أتم حنق عليه و أشد طلب لنفيه و هو بينهم مسترسل قاهر و لهم مخالط و مكاثر ترمقه أبصارهم شزرا و ترتد عنه أيديهم ذعرا و قد هاجر عنه أصحابه حذرا حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة ثم خرج عنهم سليما لم يكلم في نفس و لا جسد و ما كان ذاك إلا بعصمة إليهية وعده الله تعالى بها فحققها حيث يقول : { والله يعصمك من الناس } فعصمه منهم
أعداؤه يحاولون قتله :
و إن قريشا اجتمعت في دار الندوة و كان فيهم النضر بن الحارث بن كنانة و كان زعيم القوم و ساعده عبد الله بن الزبعري و كان شاعر القوم فحضهم على قتل محمد صلى الله تعالى عليه و سلم و قال لهم : الموت خير لكم من الحياة فقال بعضهم : كيف نصنع ؟
فقال أبو جهل : هل محمد إلا رجل واحد و هل بنو هاشم إلا قبيلة من قبائل قريش فليس منكم من يزهد في الحياة فيقتل محمدا و يريح قومه و أطرق مليا فقالوا : من فعل هذا ساد
فقال أبو جهل : ما محمد بأقوى من رجل منا و إني أقوم إليه فأشدخ رأسه بحجر فإن قتلت أرحلت قومي و إن بقيت فذاك الذي أوثره
و على ذلك خرجوا فلما اجتمعوا في الحطيم خرج عليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فقالوا : قد جاء فتقدم من الركن فقام يصلي فنظروا إليه يطيل الركوع و السجود
فقال أبو جهل : فإني أقوم فأريحكم منه فأخذ مهراشا عظيما و دنا من رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو ساجد لا يلتفت و لا يهابه و هو يراه فلما دنا منه ارتعد و أرسل الحجر على رجله فرجع و قد شدخت أصابعه و هو يرتعد و قد دوخت أوداجه و رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم ساجد
فقال أبو جهل لأصحابه : خذوني إليكم فالتزموه و قد غشي عليه ساعة فلما أفاق قال له أصحابه ما الذي أصابك ؟ قال : لما دنوت منه أقبل علي من رأسه فحل فاغر فاه فحمل علي أسنانه فلم أتمالك و إني أرى محمدا محجوبا
فقال له بعض أصحابه : يا أبا الحكم رغبت و أحببت الحياة و رجعت
قال : ما تغروني عن نفسي
قال النضر بن الحارث : فإن رجع غدا فأنا له
قالوا له : يا أبا سهم لئن فعلت هذا لتسودن فلما كان من الغد اجتمعوا في الحطيم منتظرين رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما أشرف عليهم قاموا بأجمعهم فواثبوه فأخذ حفنة من تراب و قال : شاهت الوجوه و قال : حمر لا يبصرون فتفرقوا عنه
و هذا دفع إلهي وثق به من الله تعالى فصبر عليه حتى وقاه الله و كان من أقوى شاهد على صدقه
معمر بن يزيد يحاول قتل النبي صلى الله عليه و سلم :
و من أعلامه : أن معمر بن يزيد و كان أشجع قومه استغاثت به قريش و شكوا إليه أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و كانت بنو كنانة تصدر عن رأيه و تطبع أمره فلما شكوا إليه قال لهم : إني قادم إلى ثلاث و أريحكم منه و عندي عشرون ألف مدجج فلا أرى هذا الحي من بني هاشم يقدر على حربي و إن سألوني الدية أعطيتهم عشر ديات ففي مالي سعة و كان يتقلد بسيف طوله سبعة أشبار في عرض شبر و قصته في العرب مشهورة بالشجاعة و البأس
فلبس يوم وعده قريشا سلاحه و ظاهر بين درعين فوافقهم بالحطيم و رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم في الحجر يصلي و قد عرف ذلك فما التفت و لا تزعزع و لا قصر في صلاة فقيل له : هذا محمد ساجد فأهوى إليه و قد سل سيفه و أقبل نحوه فلما دنا منه رمى بسيفه و عاد فلما صار إلى باب الصفا عثر في درعه فسقط فقام و قد أدمى وجهه بالحجارة يعدو كأشد العدو حتى بلغ البطحاء ما يلتفت إلى خلف فاجتعموا و غسلوا عن وجهه الدم
و قالوا ماذا أصابك ؟
قال : و يحكم المغرور من غررتموه قالوا ما شأنك ؟ قال : ما رأيت كاليوم دعوني ترجع إلي نفسي فتركوه ساعة و قالوا : ما أصابك يا أبا الليث ؟
قال : إني لما دنوت من محمد فأردت أن أهوي بسيفي إليه أهوي إلي من عند رأسه شجاعان أقرعان ينفخان بالنيران و تلمع في أبصارهما فعدوت فما كنت لأعود في شيء من مساءة محمد
كلدة بن أسد يحاول قتل النبي صلى الله عليه و سلم :
ومن أعلامه : أن كلدة بن أسد أبا الأشد و كان من القوة بمكان خاطر قريشا يوما في قتل رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فأعظموا له الخطر إن هو كفاهم فرأى رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم في الطريق يريد المسجد ما بين دار عقيل و عقال فجاء كلدة و معه المزراق فرجع المزراق في صدره فرجع فزعا فقالت له قريش : ما لك يا أبا الأشد ؟ فقال : و يحكم فإني أراه فلم يزل يعدو حتى بلغ الطائف فاستهزأت به ثقيف فقال : أنا أعذركم لو رأيتم ما رأيت لهلكتم
أبو لهب يحاول قتل النبي صلى الله عليه و سلم :
و من أعلامه : أن أبا لهب خرج يوما و قد اجتمعت قريش فقالوا له : يا أبا عتبة إنك سيدنا و أنت أولى بمحمد منا و إن أبا طالب هو الحائل بيننا و بينه و لو قتلته لم ينكر أبو طالب و لا حمزة منك شيئا و أنت بريء من دمه فنؤدي نحن الدية و تسود قومك
فقال : فإني أكفيكم ففرحوا بذلك و مدحته خطباؤهم
فلما كان في تلك الليلة و كان مشرفا عليه نزل أبو لهب و هو يصلي و تسلقت أم جميل الحائط حتى وقفت على رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و هو ساجد فصاح أبو لهب فلم يلتفت إليه و هما كانا لا ينقلان قدما و لا يقدران على شيء حتى تفجر الصبح و فرغ صلى الله تعالى عليه و سلم
فقال أبو لهب : يا محمد أطلق عنا فقال : ما كنت لأطلق عنكما أو تضمنا لي أنكما لا تؤذياني قالا : قد فعلنا فدعا ربه فرجعا
قريش تتوعد النبي صلى الله عليه و سلم
و من أعلامه : أن قريشا اجتمعوا في الحطيم فخطبهم عتبة بن ربيعة فقال : إن هذا ابن عبد المطلب قد نغص علينا عشينا و فرق جماعتنا و بدد شملنا و عاب ديننا و سفه أحلامنا و ضلل آباءنا و كان في القوم الوليد بن المغيرة و أبو جهل بن هشام و شيبة بن ربيعة و النضر بن الحرث و منبه و نبيه ابنا الحجاج و أمية و أبي ابنا خلف في جماعة من صناديد قريش فقال له : قل ما شئت فإنا نطيعك قال : سأقوم فأكمله فإن هو رجع عن كلامه و عما يدعو إليه و إلا رأينا فيه رأينا فقالوا له : شأنك يا أبا عبد شمس
فقام فتقدم إلى النبي صلى الله تعالى عليه و سلم و هو جالس وحده فقال : أنعم صباحا يا محمد
قال : يا عبد شمس إن الله قد أبدلنا بهذا السلام تحية أهل الجنة
قال : يا ابن أخي إني جئتك من عند صناديد قريش لأعرض عليك أمورهم إن أنت قبلتها فلك الحظ فيها و لنا فيها الفسحة ثم قال : يا ابن عبد المطلب إنك دعوت العرب إلى أمر ما يعرفونه فأقبل مني ما أقول لك قال : قل قال : إن كان ما تدعو إليه تطلب به ملكا فإنا نملكك علينا من غير تعب و نتوجك فارجع عن ذلك فسكت ثم قال له : و إن كان ما تدعو إليه أمرا تريد به امرأة حسناء فنحن نزوجك
فقال : لا قوة إلا بالله ثم قال له : و إن كان ما تتكلم به تريد مالا أعطيناك من الأموال حتى تكون أغنى رجل في قريش فإن ذلك أهون علينا من تشتت كلمتنا و تفريق جماعتنا و إن كان ما تدعو إليه جنونا داويناك كما تداوي قيس بني ثعلبة مجنونهم
فسكت النبي صلى الله تعالى عليه و سلم فقال : يا محمد ما تقول ؟ و بم ارجع إلى قريش ؟
فقال النبي صلى الله تعالى عليه و سلم : { حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون * بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون } حتى بلغ إلى قوله { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود }
قال عتبة : فلما تكلم بهذا الكلام فكأن الكعبة مالت حتى خفت أن تمس رأسي من إعجازها و قام فزعا يجر رداءه فرجع إلى قريش و هو ينتفض انتفاض العصفور و قام النبي صلى الله تعالى عليه و سلم يصلي فقالت قريش لقد ذهبت من عندنا نشيطا و رجعت فزعا مرعوبا فما وراءك ؟
قال : و يحكم دعوني إنه كلمني بكلام لا أدري منه شيئا و لقد رعدت علي الرعدة حتى خفت على نفسي و قلت الصاعقة قد أخذتني فقدموا عني ذلك
قال ابن عرفة : الصاعقة اسم العذاب على أي حال كان و إنما أهلكت عاد بالريح و ثمود بالرجف فسمى الله تعالى ذلك صاعقة قال الأزهري : الصاعقة : صوت الرعد الشديد الذي يصعق منه الإنسان أي يغشى عليه
سراقة بن مالك يحاول قتل النبي صلى الله عليه و سلم :
و من أعلامه : أنه لما أراد الهجرة خرج من مكة و معه أبو بكر فدخل غارا في جبل ثور ليستخفي من قريش و قد طلبته و بذلت لمن جاء به مائة ناقة حمراء فأعانه الله تعالى إخفاء أثره و أنبت على باب الغار ثمامة و هي شجرة صغيرة و ألهمت العنكبوت فنسجت على باب الغار نسج سنين في طرفه عين ولدغ أبو بكر هذه اللية غير لدغة فخرق ثيابه و جعلها في الشقوق و سد بعضها بقدمه اتقاء لرسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم
و أقام فيه ثلاثة أيام ثم خرج منه فلقيه سراقة بن مالك بن جعشم و هو من جملة من توجه لطلبه فقال له أبو بكر : هذا سراقة قد قرب فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : اللهم اكفنا سراقة فأخذت الأرض قوائم فرسه إلى إبطها فقال سراقة : يا محمد ادع الله أن يطلقني و لك علي أن أرد من جاء يطلبك و لا أعين عليك أبدا فقال اللهم إن كان صادقا فأطلق عن فرسه فأطلق الله عنه ثم أسلم سراقة و حسن إسلامه
دعثور يحاول قتل النبي صلى الله عليه و سلم :
و من أعلامه : أن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم انفرد في غزوة ذي أمر عن أصحابه و اضطجع وحده فوقف عليه دعثور فسل سيفه و قال : يا محمد من يمنعك مني ؟
فقال : الله فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم ثم قال له : من يمنعك مني ؟
قال : لا أحد أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله
و عاد إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام و فيه نزل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم }
شيبة بن عثمان يحاول قتل النبي صلى الله عليه و سلم :
و من أعلامه : أن الناس لما انهزموا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم يوم حنين و هو معتزل عنهم رآه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة فقال : اليوم أدرك ثأري و أقتل محمدا لأن أباه قتل يوم أحد في جماعة إخوته و أعمامه قال شيبة : فلما أردت قتله أقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطلق ذلك : فعلمت أنه ممنوع
أربد بن قيس يسعى لقتل النبي صلى الله عليه و سلم :
و من أعلامه : أن عامر بن الطفيل و أربد بن قيس و هو أخو لبيد بن ربيعة الشاعر لأمه وفدا على رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم في قومهما من بني عامر فقال عامر لأربد : إذا قدمنا على محمد فإني شاغل عنك وجهه فأعله أنت بالسيف حتى تقتله
قال أربد : أفعل ثم أقبل عامر يمشي و كان رجلا جميلا حتى قام على رأس رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فقال يا محمد : مالي إن أسلمت ؟ فقال : لك ما للإسلام و عليك ما على الإسلام
قال : ألا تجعلني الوالي من بعدك ؟ قال : ليس ذلك لك و لا لقومك و لكن لك أعنة الخيل تغزو بها
قال : أو ليست لي اليوم ؟ و لكن اجعل لي و لك المدد قال : ليس ذلك لك
فقال : قم يا محمد إلى ههنا فقام إليه فوضع عامر يده بين منكبيه ثم أومأ إلى الأبد أن اضرب فسل أربد سيفه قريبا من ذراع ثم أمسك الله يده فلم يستطيع أن يسله و لا يغمده
فالتفت رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم إلى أربد فرآه على ما هو عليه [ فقال اللهم اكفنيها بما شئت اللهم اهد بني عامر و أغن الدين عن عامر ] فانطلقا و عامر يقول : و الله لأملأنها عليك خيلا دهما و وردا فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : [ يأبى الله ذاك و أبناء قيلة يعني الأنصار ] ثم قال عامر لأربد : ويلك لم أمسكت عنه ؟ فقال و الله ما هممت به مرة إلا رأيتك و لا أرى غيرك أفأضربك بالسيف ؟
و سارا فأما عامر فطرح الله عليه الطاعون في عنقه فقتله في بيت امرأة من بني سلول فجعل يقول : أغدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني سلول و ركب فرسه فركضه حتى مات
و أما أربد فقدم على قومه فقالوا ما وراءك يا أربد ؟ فقال : و الله لقد دعانا محمد إلى عبادة شيء لوددت أنه عندي الآن فأرميه بنبلي هذا حتى أقتله ثم خرج بعد مقالته بيوم أو يومين و معه جمال له تتبعه فأرسل الله عليه و على جماله صاعقة أحرقتهم و قيل نزل في صاعقته قول الله تعالى : { هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا } يعني خوفا من الصواعق و طمعا في المطر و فيه يقول لبيد بن ربيعة و هو أخو أربد لأمه :
( أخشى على أربد الحتوف و لا ... أرهب نوع السماك و الأسد )
( أفجعني الرعد الصواعق بالفا ... رس يوم الكريهة النجد )
( كل بني حرة مصيرهم ... قل و إن أكثرت من العدد )
( أن يغبطوا يهبطوا و إن أمروا ... يوما يصيروا للهلك و النكد )
فإن قيل : فهذه أخبار آحاد لا يقطع بمثلها قيل : العداوة ظاهرة و الطلب معلوم و السلامة موجودة فلم تدفع جملة الأخبار و لم يصح في جميعها توهم الكذب و إن جاز في آحادها توهم الكذب كالمحكي من سخاء حاتم و شجاعة عنتزة (1/100)
الباب التاسع ـ فيما شوهد من معجزات أفعاله
أفعال العباد مقدرة :
إن الله تعالى قدر لعباده أفعالا كما قدر لهم أجساما و آجالا انتهى إلى غاية أعجزهم عن تجاوزها : لتكون أفعالهم مقصورة على عرف مألوف و حد معروف : يتوصلون بها إلى مصالحهم فيعلمون أن ما تجاوزها و خرج عن عرفها من أفعال الله تعالى فيهم لا من أفعالهم فإن أظهرها في أحدهم دل على اختصاصه بالله تعالى دونهم فكان بها ممتازا و إليه تعالى منحازا ليخص بطاعته إلهية كما اختص بأفعلا لاهوتية فلذلك صارت الأفعال المعجزة شاهدة على صحة النبوة
معجزة الطعام القليل المتكاثر :
فمن أعلامه : ما رواه البخاري عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه قال : قلت لجابر بن عبد الله : حدثني بحديث عن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم سمعته منه أرويه عنك فقال جابر : كنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم يوم الخندق نحفر فلبثنا ثلاثة أيام لم نطعم طعاما و لا نقدر عليه فعرضت في الخندق كدية غليظة لا يعمل فيها الفأس فجئت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فقلت هذه كدية قد عرضت في الخندق و رششنا عليها الماء
فقام و بطنه معصب بالحجر فأخذ المعول و المسحاة ثم سمي ثلاثا ثم ضرب فعادت كثيبا أهيل فلما رأيت ذلك منه قلت : يا رسول الله إئذن لي فأذن لي فجئت إلى امرأتي فقلت : ثكلتك أمك إني رأيت من رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم شيئا لا صبر لي عليه فما عندك قالت عندي صاع من شعير و عناق قال : فطحنا الشعير و ذبحنا العناق و طبخناها و جعلناها في البرمة و عجنا العجين
ثم رجعت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فلبثت ساعة ثم استأذنت ثانية فأذن لي فجئت فإذا بالعجين قد أمكن فأمرتها بالخبز و جعلت القدر على الأثافي ثم جئت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فشاورته و قلت : عندنا طعيم لنا فإن رأيت أن تقوم معي أنت و رجل أو رجلان معك فعلت
فقال : ما هو و كم هو ؟ قلت : صاع من شعير و عناق فقال : ارجع إلى أهلك فقل لها : لا تنزع البرمة من الأثافي و لا يخرج الخبز من التنور حتى آتي ثم قال للناس : قوموا إلى بيت جابر فاستحييت حياء لا يعلمه إلا الله تعالى فقلت لامرأتي : قد جاء رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم بأصحابه أجمعين
فقالت : أكأن سألك كم الطعام ؟ قلت : نعم قالت : الله و رسوله أعلم قد أخبرته بما كان عندنا فذهب عني بعض ما أجده و قلت لها : صدقت
و جاء رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فدخل ثم قال لأصحابه : لا تضاغطوا ثم برك على التنور و البرمة فجعلنا نأخذ من التنور الخبز و نأخذ من البرمة اللحم فنثرد و نغرف و نقرب إليهم
فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : ليجلس على الصحفة سبعة أو ثمانية فلما أكلوا : كشفنا التنور و البرمة فإذا هما قد عادا إلى أملأ مما كانا عليه حتى شبع المسملون كلهم و بقيت طائفة من الطعام
فقال لنا رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : إن الناس قد أصابهم مخمصة فكلوا و أطعموا فلم نزل يومنا نأكل و نطعم
قال : فأخبروني أنهم كانوا ثمانما ئة أو قال مئتين أقل من الثمانمائة و هذا نظير معجزة عيسى عليه السلام في المائدة
و من أعلامه : [ ما رواه مالك بن أنس عن إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول : قال أبو طلحة لأم سليم : لقد سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم ضعيفا أعرف فيه الجوع فهل عندك من شيء قالت نعم فأخرجت أقراصا من شعير ثم أخرجت خمارا لها فلفت الخبز ببعضه ثم أرسلني إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فوجودته في المسجد معه الناس فقمت عليهم
فقال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : أرسلك أبو طلحة ؟ قلت : نعم قال : للطعام ؟ قلت : نعم
فقال لمن معه : قوموا فانطلق و انطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته فقال أبو طلحة : يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و ليس عندنا من الطعام ما نطعمهم فقالت : الله و رسوله أعلم فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و أنس معه حتى دخلا فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : يا أم سليم هلمي ما عندك فجاءت بذلك الخبز فأمر به ففت و عصرت أم سليم عكة لها ثم قال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم ما شاء أن يقول ثم قال : إئذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال : ائذن لعشرة حتى أكل القوم و شبعوا و خرجوا و القوم سبعون أو ثمانون رجلا و المعجز فيه مع إطعام العدد الكثير من الطعام اليسير ما أخبر به أنس بن مالك مما جاء فيه ]
النبي يدعو أهل الصفة إلى صحفة :
و من أعلامه : ما رواه أنيس بن أبي يحيى [ عن إسحق بن سالم عن أبي هريرة قال : خرج علينا رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فقال لي : ادع لي أصحابك يعني أصحاب الصفة قال : فجعلت أتبعهم رجلا رجلا أوقظهم حتى جمعتهم فجئنا باب رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فاستأذن فأذن لنا و وضعت بين أيدينا صحفة أظن فيها صنيعا : قدر مد من الشعير فوضع رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم يده فقال : خذوا بسم الله فأكلنا ما شئنا ثم رفعنا أيدينا فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم حين وضعت الصحفة : و الذي نفس محمد بيده ما أمسى في آل محمد طعام غير شيء ترونه فقيل لأبي هريرة : قدركم كانت حين فرغتم قال مثلها حين وضعت إلا أن فيها أثر الأصابع ]
تفجر الماء من البئر الجافة :
و من أعلامه : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما حصل بالحديبية و هي جافة قال للناس : انزلوا فقالوا : يا رسول الله ما بالوادي ماء ننزل عليه فأخرج سهما فدفعه إلى البراء بن عازب و قال : اغرز هذا السهم في بعض قلب الحديبية و هي جافة ففعل فجاش الماء و نادى الناس بعضهم بعضا من أراد الماء ؟
فقال أبو سفيان : قد ظهر بالحديبية قليب فيه ماء ثم قال لسهيل ابن عمرو : قم بنا إلى ما فعل محمد فأشرفا على القليب و العيون تحت السهم فقالا : ما رأينا كاليوم قط و هذا من سحر محمد قليل
فلما أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم بالرحيل قال للناس خذوا حاجتكم من الماء ثم قال للبراء : اذهب فرد السهم فلما فرغوا أو ارتحلوا أخذ البراء السهم فجف الماء كأنه لم يكن هناك ماء ]
و هذا نظير ما أعطي موسى من الحجر الذي انفجرت منا اثنتا عشرة عينا
و مثله [ ما روي أنه في غزوة بني المصطلق دعا بركوة جافة ثم تفل فيها ثم قلبها فتفجرت من بين أصابعه عيون حتى شرب الخيل و الإبل و ملئ كل سقاء ]
تحول الماء المالح إلى زلال :
و من أعلامه : [ أن قوما شكوا إليه صلى الله تعالى عليه و سلم ملوحة مائهم فقام بأصحابه حتى أشرف على بئرهم فتفل فيها ثم انصرف فانفجرت بالماء الزلال و كانت غائرة و إنها على حالها إلى اليوم و يتوارثها أهلها و يعدونها من أعظم مفاخرهم ]
و لما بلغ ذلك قول مسيلمة سألوه مثلها فتفل فيها فصار ماؤها أجاجا كبول الحمار و هي إلى اليوم على حالها
إصلاح شعر قد تمعط :
[ و جاءته صلى الله تعالى عليه و سلم امرأة بصبي لها قد تمعط شعره فمسح رأسه بيده فاستوى شعره ]
فبلغ ذلك قوم مسيلمة فأتوه بصبي مثله فمسح رأسه فصلع و بقي نسله صلعا إلى وقتنا هذا
عبور الوادي العميق :
و من أعلامه : ما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : [ لما غزونا خيبر و معنا من يهود فدك جماعة فلما أشرفنا على القاع إذا نحن بالوادي و الماء يقلع الأشجار و يهدهد الجبال فقدرنا الماء فإذا هو أربع عشرة قامة
فقال بعض الناس يا رسول الله العدو من ورائنا و الوادي قدامنا فنزل رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فسجد و دعا ثم قال : سيروا على اسم الله
فعبرت الخيل و الإبل و الرجال فكان الفتح و الغلبة له و هذا نظير فلق البحر لموسى ]
طفلة مقتولة تستجيب لنداء النبي :
نوع آخر من أعلامه : روى الحسن : [ أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله تعالى عليه و سلم فقال : إني قدمت من سفر لي فبينا بنت خماسية تدرج حولي في وصيفها و حليها أخذت بيدها فانطلقت بها إلى وادي فلان فطرحتها فيه
فقال النبي صلى الله تعالى عليه و سلم انطلق معي فأراني الوادي فانطلق معه إلى الوادي
فقال النبي صلى الله تعالى عليه و سلم لأبيها : ما كان اسمها ؟ فقال : فلانة فقال النبي : يا فلانة أجيبي بإذن الله فخرجت الصبية و هي تقول لبيك يا رسول الله و سعديك فقال : لها إن أبويك قد أساءا فإن أحببت أن أردك عليهما فقالت : لا حاجة لي فيهما وجدت الله خير أب منهما ]
و هذا نظير مافعله عيسى عليه السلام من إحياء الموتى
إبراء المجذوم و الأبرص :
و من أعلامه : [ أن طفيلا العامري جاء إلى النبي صلى الله تعالى عليه و سلم فشكا إليه الجذام فدعا بركوة ثم تفل فيها و أمره أن يغتسل بها فاغتسل فقام صحيحا ]
[ و أتاه حسان بن عمرو الخزاعي مجذوما فدعا له بماء فتفل فيه ثم أمره فصبه على نفسه فخرج من علته كأن لم تكن به قط فرجع و دعا قومه إلى الإسلام فأسلموا عن آخرهم ]
[ و أتاه قيس اللخمي و هو من سادات قومه و به برص فتفل عليه فما بقي عليه إلا مقدار الحبة ]
و هذا نظير ما كان من عيسى بن مريم عليه السلام في إبراء الأكمه و الأبرص
تحويل العرجون إلى مشعل :
و من أعلامه : ما رواه سعيد بن أبي سعيد [ عن أبيه عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله تعالى عليه و سلم انصرق ليلة من العشاء فأضاءت له برقة فنظر إلى قتادة بن النعمان فعرفه فقال : يا نبي الله كانت ليلة مطيرة فأحببت أن أصلي معك فأعطاه عرجونا و قال خذ هذا يستضيء لك ليلتك فإذا أتيت بيتك فإن الشيطان قد خلفك فانظر في الزاوية على يسارك فدخلت فنظرت حيث قال : فإذا أنا بسواد معلق به حتى سبقني و في هذا الخبر معجزات من فعل و قول ]
شفاء العيون المصابة :
و من أعلامه : [ أن أبا قتادة بن ربعي جاءه يوم أحد و قد انقلعت إحدى عينيه و تعلقت على وجهه فقال : يا رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم إن لي امرأة و أخشى أن يقصني هذا عندها فردها رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم إلى موضعها فكانت أحسن عينيه ]
و مثله ما رواه عروة بن الزبير : أن زبيرة أسلمت فأصيب بصرها فقالوا لها أصابك اللات و العزى فرد الله عليها بصرها فقال عظماء قريش : لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا إليه زبيرة فأنزل الله تعالى : { وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه }
شفاء اليد المصابة :
و من أعلامه : [ أن جرهدا أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم و بين يديه طبق فأدنى يده الشمال ليأكل و كانت اليمنى مصابة فنفث عليها فما اشتكاها بعد إلى ساعته و أبصر رجلا يأكل بشماله فقال : كل بيمينك فقال : لا أستطيع فقال : لا استطعت فما وصلت إلى فيه بعد و كان كلما رفع اللقمة إلى فيه ذهبت في شق آخر ]
يد الرسول المباركة :
و من أعلامه : [ شاة أم معبد الخزاعية و كانت مجهودة عجفاء و ضراء فمسح رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم ضرعها فدرت لبنا و امتلأت سمنا و بقيت على حالها إلى أن وافاها أجلها ]
[ و أهدت له أم شريك عكة فيها سمن فأخذ منه شيئا و رد العكة عليها فلم تزل العكة تصب سمنا مدة طويلة إلى أمثال هذا و نظائره ]
مناقشة معارضي المعجزات :
فإن قيل : لا يثبت إعجاز النبوات بمثل هذا من أخبار الآحاد فعنه جوابان :
أحدهما : إن رواة الآحاد قد أضافوا إليه في جمع كثير قد شاهدوه و سمعوا روايه فصدقوه و لم يكذبوه و في الممتنع إمساك العدد الكثير عن رد الكذب كما يمتنع افتعالهم للكذب و لئن جاز اتفاقهم على الصدق مع الكثرة و الافتراق و امتنع اتفاقهم على الكذب فلأن دواعي الصدق عامة متناصرة و دواعي الكذب خاصة متنافرة و لذلك كان صدق أكذب الناس أكثر من كذبه لأنه لا يجد من الصدق بدا و يجد من الكذب بدا
و الثاني : أنها أخبار وردت من طرق شتى و أمور متغايرة فامتنع أن يكون جميعها كذبا و إن كان في آحادها مجوز فصار مجموعها من التواتر و مفترقها من الآحاد فصار متواتر مجموعها حجة و إن قصر مفترق أحادها عن الحجة و الله تعالى أعلم (1/111)
الباب العاشر ـ فيما سمع من معجزات أقواله
الإخبار عن غائب :
و المعجزات من القول هو الإخبار عن غائب لا يعلم به غير مخبره فيكون على صدقه دليلا لأن الخبر ما احتمل الصدق و الكذب و حقيقة الخبر عليه مجازا فإن أضيف المستقبل إلى فعل الخبر كان وعدا يصح من نبي و غير نبي و إن أضيف إلى فعل غيره كان من العيوب المعجزة لا يصح إلا من نبي مبعوث و عن وحي منزل إذا تكرر عاريا عن الأسباب المنذرة و لئن ظهر خبر من غير نبي فهو بالاتفاق عن حدس إن صح في خبر لم يصح في كل خبر و يصح من النبي صلى الله تعالى عليه و سلم في كل خبر لأنه من الله تعالى المحيط بعلم الغيوب كما قال لنبيه : { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير }
و في خزائن الله ههنا تأويلان : أحدهما : خزائن الرزق فأغنى و أفقر و الثاني : خزائن العذاب فأعجل وادخر
تفسير قوله تعالى { ولا أعلم الغيب }
و في قوله : { ولا أعلم الغيب } تأويلان :
أحدهما : علم الخزائن على ما مضى من التأولين
و الثاني : علم ما غاب عن ماض و مستقبل إلا أن المستقبل لا يعلمه إلا الله تعالى و من أطلعه عليه من أنبيائه و أما الماضي فقد يعلمه المخلوقون من أحد وجهين إما من مخلوق معاين أو من خالق مخبر فكانت الأخبار المستقبلة من آيات الله تعالى المعجزة فأما الماضية فإن علم بها غير المخبر لم تكن معجزة و إن لم يعلم بها أحد كانت آية معجزة
تفسير قوله تعالى : { ولا أقول لكم إني ملك } : و في قوله : { ولا أقول لكم إني ملك } تأويلان :
أحدهما : أنه لا يقدر على ما يعجز عنه العباد و إن قدرت عليه الملائكة
و الثاني : إنه من البشر و ليس بملك لينفي عن نفسه غلو النصارى في المسيح
و في نفيه أن يكون ملكا تأويلان أحدهما : أنه دفع عن نفسه منزلة الملائكة تفضيلا لهم على الأنبياء و الثاني : إني لست ملكا في السماء فأعلم غيب السماء الذي تشاهده الملائكة و يغيب عن البشر و إن كان الأنبياء أفضل من الملائكة مع غيبهم عما يشاهده الملائكة
و في قوله : { إن أتبع إلا ما يوحى إلي }
أحدهما : لن أخبركم إلا بما أطلعني الله عليه
و الثاني : لن أفعل إلا ما أمرني الله به
{ قل هل يستوي الأعمى والبصير } فيه تأويلان
أحدهما : العالم و الجاهل
و الثاني : المؤمن و الكافر فثبت بما قررناه أن في الأقوال معجزة كالأفعال من أعلام النبوة و آيات الرسل و نحن نذكر منها مااختص بقول الرسول دون ما تضمنه القرآن لأن القرآن معجز في الخبر و غير الخبر
و مجيء الأخبار ينقسم على أربعة أقسام : أخبار استفاضة و أخبار تواتر و أخبار آحاد بقرائن و أخبار آحاد مجردة
أخبار الاستفاضة :
فأما أخبار الاستفاضة و التواتر فقد أطلق أهل العلم ذكرهما و لم يفرقوا بينهما و هما عندي مفترقان لأن اختلاف الأسماء موضوع لاختلاف المسمى فكان حملها على حقيقة الاختلاف أولى من حملها على مجاز الائتلاف
فأخبار الاستفاضة : ما بدأت منتشرة عن كل مخبر بر و فاجر عن قصد و غير قصد و يتحققها كل سامع من عالم و جاهل فلا يختلف فيها مخبر و لا يتشكك فيها سامع و يستوي طرفاها و وسطها فتكون أوائلها كأواخرها و تناهيها و هي أقوى الأخبار ورودا و أبلغها ثبوتا
أخبار التواتر : و أما أخبار التواتر : فهو ما أخبر به الواحد بعد الواحد حتى كثروا أو بلغوا عددا ينتفي عن مثلهم المواطأة على الكذب و الاتفاق على الغلط و لا يعرض في خبرهم شك و لا توهم فيكون من أوله من أخبار الآحاد و في أخره من أخبار التواتر فيصير مخالفا لأخبار الاستفاضة في أوله و موافقا لها في آخره و يكون الفرق بين خبر الاستفاضة و خبر التواتر من ثلاثة أوجه :
أحدها : ما ذكرناه من اختلافهما في الابتداء و الانتهاء
و الثاني : أن أخبار الاستفاضة قد تكون عن غير قصد و أخبار التواتر لا تكون إلا عن قصد
و الثالث : أن أخبار الاستفاضة لا يعتبر فيها عدالة المخبرين و يعتبر في أخبار التواتر عدالة المخبرين ثم يستوي الخبران في انتفاء الشك عنهما و وقوع العلم بهما
و مثال الاستفاضة في أحكام الشرع أعداد الصلوات و مثال التواتر في أحكام الشرع نصب الزكوات و اختلف في وقوع العلم بهما هل هو علم اضطرار أو علم اكتساب على وجهين :
أحدهما : أنه علم اكتساب وقع عن استدلال : و هوقول بعض أصحاب الشافعي و بعض المتكلمين لأن العلم بخبرهم يقترن بصفات تختص بهم فصار طلب الصفات استدلالا يوصل إلى العلم بخبرهم
و اختلف القائلون بهذا : هل اكتسب العلم به من الخبر أو المخبر على وجهين أحدهما : من الخبر لأنه المقصود و الثاني : من المخبر لأنه المبلغ فهذا قول من جعله علم استدلال
و الوجه الثاني : و هو قول الأكثرين من الفقهاء و المتكلمة : أنه علم اضطرار أدرك ببداية العقول لأن العلم به قد يسبق إلى اليقين من غير نظر و يستقر في القلوب من غير انتقال
و اختلف القائلون بهذا في علمه بالاضطرار هل هو من فعل المخبر أو من فعل الله تعالى على وجهين : أحدهما : من فعل المخبر لوصوله إليه بنفسه و هو أكثر الفقهاء و الوجه الثاني : أنه من فعل الله تعالى لأنه الملجىء إليه و هو قول أكثر المتكلمين
و اختلف من قال بهذا منهم على وجهين : أحدهما : أنه من فعل الله تعالى في الخبر و الثاني : أنه من فعله في المخبر و الذي أراه أولى أن أخبار الاستفاضة توجب علم الاضصرار و أخبار التواتر توجب علم الاستدلال لاستغناء الإفاضة عن نظر و احتياج التواتر إلى نظر مع و قوع العلم بهما و زعمت الإمامية أنه لا يقع العلم بأخبار الاستفاضة و التواتر إلا أن يكون في يكون في الخبرين إمام معصوم أو يصدقهم عليه إمام معصوم
و حكي عن ضرار بن عمرو أن حجة الاستفاضة و التواتر لا تقوم بعد الرسل بنقل أقوالهم و أفعالهم إلا بإجماع الأمة على صدقهم أو صحة نقلهم و كلا القولين مدفوع بقضايا العقول لأنها تضطر إلى العلم بها كعلم الاضطرار بالمشاهدات و مدركات الحواس لأن الأخبار بالبلاد أن فيها مكة و الصين يعلم بالضطرار كما يعلم بالمشاهدة و كما يعلم الإنسان أن تحته أرضا و سماء فوقه لوجود أنفسنا عالمة بها على سواء و لما في غرائز الفطر من ذلك
قال طفيل الغنوي و هو أعرابي بطبع سليم من التكلف و بديهة خلصت من التعمق و التعسف ما يدل على العلم بأخبار الاستفاضة و التواتر :
( تأوبني هم من الليل منصب ... و جاء من الأخبار ما لا يكذب )
( تظاهرن حتى لم تكن لي ربية ... و لم يك فيما أخبروا متعقب )
أخبار الآحاد :
و أما أخبار الآحاد فضربان :
أحدهما : أن يقترن بها ما يوجب العلم بمضونها و قد يكون ذلك من خمسة أوجه :
أحدها : أن يصدقه عليه من يقطع بصدقه كالرسول أو من أخبز الرسول بصدقه فيعلم به صدق المخبر و صحة الخبر
و الثاني : أن تجتمع الأمة على صدقه فيعلم بإجماعهم أنه صادق في خبره
و الثالث : : أن يجمعوا على قبوله و العمل به فيكون دليلا على صدق خبره
و الرابع : أن يكون الخبر مضافا إلى حال قد شاهدها عدد كبير و سمعت رواية الخبر فلم ينكروه على المخبر فيدل على صحته و صدق المخبر
و الخامس : أن يقترن بالخبر دلائل العقول فإن كان مضافا إليها كان صدقا لازما لأن ما وافقها لا يكون إلا حقا و إن كان مضافا إلى غيرها لم يدل موافقتها على صدق الخبر و إن أوجب صحة ما تضمنه الخبر
و الضرب الثاني : أن ينفرد خبر الواحد عن قرينة تدل على صدقه فهي أمارة توجب عليه الظن و لا تقتضي العلم بقوى إذا تطاول به الزمان فلم يعارض برد و لا مخالفة و إن تكرر في معناها ما يوافقها صار جميعها متواترا و إن كان أفرادها آحادا و إذا استقر هذا الأصل في الأخبار و لم يخرج المروي من أعلام الرسول عنها و قد ذكرنا ما روي من أفعاله و سنذكر ما روي من أقواله :
إخبار النبي عن اتساع ملك المسلمين :
فمنها : ما روي عن النبي صلى الله تعالى عليه و سلم أنه قال : [ أزويت لي الأرض فأريت مشارقها و مغاربها و سيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها ] فصدق الله خبره و حقق ما ذكره و ملك أمته أقطار الأرض حتى دان له بشرعه من في المشرق و المغرب
إخباره بفتح المدائن :
و قال عليه السلام لعدي بن حاتم : [ لا يمنعك من هذا الدين ما ترى من جهد أهله و ضعف أصحابه فلكأنهم ببيضاء المدائن قد فتحت عليهم و لكأنهم بالظعينة تخرج من الحيرة حتى تأتي مكة بغير غفارة لا يخاف إلا الله فأبصر عدي ذلك كله و هذا لا يكون إلا من إطلاع الله تعالى على غيبه و تحقيقه لوعده في قوله : { ليظهره على الدين كله } ]
إخباره عن فتح الشام و فارس و اليمن :
و من أعلامه : ما رواه البراء بن عازب قال : [ أمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم بحفر الخنذق فعرضت لنا صخرة عظيمة لا يأخذ فيها المعول فأخذ المعول و قال : بسم الله و ضرب ضربة فكسر ثلثها و قال الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر و قال : الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس ثم ضرب الثالثة فقطه بقية الحجر و قال : الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن فصدق الله قوله و أعطاه ما فتح له ]
إخباره بفتح مصر :
و روى كعب بن مالك قال : [ سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم يقول : إذا فتحت مصر فاستوصوا بالقبط خيرا فإن لهم رحما و ذمة ] يعني أن أم إسماعيل بن إبراهيم كانت منهم
إخباره عن مقتل كسرى و زوال ملكه :
و من أعلامه : أنه كتب إلى كسرى كتابا يدعوه إلى الإسلام و بدأ باسمه قبل اسمه فلما قرأه أنف لنفسه من ابتدائه باسمه فمزق كتابه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فقال : [ تمزق ملكه ]
ثم كتب كسرى في الوقت إلى عامله باليمن باذان و يكنى أبا مهران : أن أحمل إلي هذا الذي يذكر أنه نبي و بدأ باسمه قبل اسمه و دعاني إلى غير ديني فبعث إليه فيروز بن الديلمي مع جماعة من أصحابه و كتب معهم كتابا يذكر فيه ما كتب به كسرى
فأتاه فيزور بمن معه و قال له : إني ربي يعني كسرى أمرني أن أحملك إليه فاستنظره ليلة فلما كان من الغد حضر فيزور فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : [ أخبرني ربي أنه قتل ربك البارحة سلط عليه ابنه شيرويه على سبع ساعات من الليل فأمسك ريثما الخبر ] فراع ذلك فيزور و هاله
و عاد فيزور إلى باذان فأخبره فقال له باذان كيف وجدت نفسك حين دخلت إليه فقال : و الله ما هبت أحدا قط كهيبة هذا الرجل فقال باذان : إن كان ما قاله حقا فهو نبي فلم يرعه إلا ورود الخبر عليه بقتله في تلك الليلة من تلك الساعة فأسلم باذان و فيزور و من معهم من الأبناء
و ظهر العنسي بما افتراه من الكذب فأرسل فيزوزر أن اقتله قتله الله فقتله و في هذا الخبر من آيات الغيوب ما لا يعلمه إلا الله أو من أطلعه عليه
بشارته لسراقة بأنه سيلبس سواري كسرى :
و من أعلامه : أنه رأى ذراعي سراقة بن مالك بن جعشم دقيقين أشعرين فقال : كيف بك إذا ألبست بعدي سواري كسرى فلما فتحت فارس دعاه عمر و ألبسه سواري كسرى و قال له : قل الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز و ألسبهما سراقة بن جعشم
إخباره عن وفاة النجاشي :
و من أعلامه : ما رواه جابر بن عبد الله قال : [ صلى بنا رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم ثم قال : إن النجاشي أصحمة قد توفي هذه الساعة فاخرجوا بنا إلى المصلى نصلي عليه فصلى عليه و كبر أربعا فقال المنافقون : أنظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط فأنزل الله تعالى : { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم } الآية ثم جاء الخبر بموت النجاشي من تجار و ردوا من المدينة ]
و مثله ما روي أن ريحا هبت بتبوك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا موت منافق عظيم النفاق قد مات في ذلك الوقت
إخباره عن انتصار العرب بذي قار :
و من أعلامه : أنه قال لأصحابه : [ اليوم نصرت العرب على العجم و بي نصروا ] فجاء خبر الوقيعة بذي قار و ما دال الله تعالى فيه العرب من العجم حين قتلت فيه بنو شيبان و بكر بن وائل من الفرس من قتلوا و كان أول يوم انتصف فيه العرب على العجم و جاءهم الخبر أنه كان في الساعة من اليوم الذي أخبر به رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم
إخباره ما جرى في معركة مؤتة :
و من أعلامه : [ أنه كشف الله تعالى له ما غاب عنه في جيش مؤتة فقال لأصحابه : أخذ الراية زيد بن حارثة و تقدم فقتل و مات شهيدا ثم أخذ الراية بعده جعفر بن أبي طالب و تقدم فقتل و مات شهيدا و وقف وقفة ثم قال و أخذ الراية بعده عبد الله بن رواحة و تقدم فقتل و مات شهيدا لأن عبد الله بن رواحة توقف عن أخذ الراية بعد قتل جعفر زمانا ثم أخذها قال : ثم ارتضى المسلمون خالد بن الوليد فكشف العدو عنهم حتى خلصوا ثم قام إلى بيت جعفر بن أبي طالب فاستخرج ولده و دمعت عيناه و نعى جعفر إلى أهله ] و جاءت الأخبار : بأنهم قتلوا في ذلك اليوم على ما وصفه
إخباره عن قافلة بعيدة :
و من أعلامه : [ قوله في ليلة الإسراء حين أصبح مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياما و إذا إناء فيه ماء و قد غطوا عليه فكشفت غطاءه و شربت ما فيه و رددت الغطاء كما كان و آية ذلك أن عيرهم الآن تقبل من موضع كذا يقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحدهما : سوداء و الأخرى ورقاء فابتدر القوم الثنية فوجدوا ما وصف و سألهم عن الإناء فوجدوا الأمر كما قال ]
إخباره عن مقتل علي و عمار رضي الله عنهما :
و من أعلامه : [ أنه رأى عليا كرم الله وجهه في غزاة العشيرة على التراب و معه عمار فقال لهما : ألا أخبركما بأشقى الناس ؟ قالا : بلى قال : أشقى الناس أحمر ثمود و عاقر الناقة و الذي يخضب يا علي هذه من هذه و أشار إلى لحيته من رأسه و قال لعمار : تقتلك الفئة الباغية و آخر زادك من الدنيا صاع من لبن ] فكان من قتل ابن ملجم لعنه الله لعلي كرم الله وجهه ما كان و قتل عمار يوم صفين فلما ذكر الخبر لمعاوية لم ينكره و دفعه عن نفسه بأنه قال : إنما قتله من جاء به
إخباره عن قطع يد زيد بن صوجان :
و مثله ما روي : [ أن النبي صلى الله تعالى عليه و سلم ذكر زيد صبوحان فقال : زيد و ما زيد يسبقه عضو منه إلى الجنة قطعت يده يوم نهاوند في سبيل الله و قال : الخلافة بعدي ثلاثون و ما بعد ذلك ملك ]
إخباره عن وجود ماء مع أعرابية بعيدة
نوع من آخر من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : [ أنه نزل بجيشه في غزوة تبوك على غير ماء و هم نحو من ثلاثين ألفا فعطشوا و شكوا ذلك إليه فبعث أبا قتادة و أبا طلحة و سماك بن خرشنة و سعد بن عبادة يلتمسون الماء فغابوا إلى قائم الظهيرة ثم رجعوا و لم يجدوا شيئا و بلغ العطش من الناس و الخيل و الدواب فصلى بأصحابه متيمما فلما فرغ شكوا إليه العطش فبعث أسيد بن حضير و أسامة يلتمسون الماء من الأعراب
فقال المنافقون إن محمدا يخبر بأخبار السماء و هو لا يدري الطريق إلى الماء فأتاه جبريل عليه السلام فأخبره بقولهم و سماهم له فشكا ذلك إلى سعد بن عبادة فقال سعد : إن شئت ضربت أعناقهم
فقال : لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه و لكن نحسن صحبتهم ما أقاموا معنا ثم قال لأبي الهيثم بن التيهان و أبي قتادة و سهيل بن بيضاء يستعرضون الطريق و يأخذون على الكثيب فتقفوا ساعة فإن عجوزا من الأعراب تمر بكم على ناقة لها معها سقاء من ماء فأطعموها و اشتروا منها بما عز و هان و جيئوا بها مع الماء فمضوا حتى بلغوا الموضع الذي وصف لهم فإذا بالمرأة فقالوا : تبيعنا هذه الماء قالت : أنا و أهلي أحوج إلى الماء منكم فطلبوا إليها أن تأتي رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم مع الماء فأبت و قالت : إن هذا لساحر خير الأشياء أن لا أراه و لا يراني فشدوها وثاقا حتى جاءوا بها مع الماء
فلما وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : خلوا عنها و قال لها : تبيعين هذا الماء ؟ قالت : إن أهلي أحوج إليه منكم قال : فائذني لنا فيه و ليصيرن ذلك كما جئت به قالت : شأنكم
فقال لأبي قتادة : هات الميضاة فقربت إليه فحل السقاء و تفل فيه و صب في الميضاة ماء قليلا ظنا أن يكون نصف الميضاة فوضع يده فيه ثم قال : ادنوا فخذوا فجعل الماء يزيد و الناس يأخذون حتى ما أبقوا معهم سقاء إلا ملأوه و أرووا خيلهم و إبلهم و الميضاة ملأى ثم زاد رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم في السقاء حتى ملأه و بقي في الميضاة ثلثاه ثم توضأوا كلهم حين أصبحوا و هو يزيد و لا ينقص ]
إخباره عن مكان ناقة ضلت :
[ و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : أن ناقة له ضلت في توجهه إلى تبوك فتفرق الناس في طلبها و كان عنده عمارة بن حزم و في رحل عمارة زيد بن اللصيت و كان يهوديا قد أسلم و نافق فقال زيد في رحل عمارة : يزعم محمد أنه نبي يخبركم خبر السماء و هو لا يدري أين ناقته
فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : إن منافقا يقول أليس محمد يزعم أنه نبي و يخبركم بخبر السماء و لا يدري أين ناقته و الله لا أعلم إلا ما علمني ربي و قد أعلمني أنها في الوادي في شعب كذا حبستها سمرة بزمامها فبادر الناس فوجدوها كذلك فأتوه بها
فرجع عمارة بن حزم إلى رحله و قال : لقد عجبت مما ذكره رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فقال رجل : كان في رحله مع زيد بن اللصيت : أن زيدا قال هذا قبل أن تطلع علينا فوجأ عمارة زيدا في عنقه و قال : إنك لداهية في رحلي اخرج يا عدو الله منه
و لأجل ما لقيه في غزوة تبوك من الجهد قال لأصحابه : ألا أسركم قالوا : بلى يا رسول الله قال : إن الله تعالى أعطاني الليلة الكنزين فارس و الروم و أمدني بالملوك ملوك حمير يجاهدون في سبيل الله و يأكلون فيء الله فكان ذلك ]
إخباره خالد بن الوليد عما سيحصل له مع الأكيدر :
[ و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : أنه بعث خالد بن الوليد من تبوك في أربعمائة و عشرين فارسا إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل من كندة فقال خالد : يا رسول الله كيف لي به وسط بلاد كلب و إنما أنا في عدد يسير ؟ فقال : ستجده يصيد البقر فتأخذه
فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين في ليلة قمراء صائفة و هو على سطح له من شدة الحر مع امرأته فأقبلت البقر تحك بقرونها باب الحصن
فقال أكيدر : و الله ما رأيت بقرا جاءتنا ليلا غير هذه الليلة لقد كنت أضمر لها الخيل إذا أردتها شهرا و أكثر ثم نزل فركب بالرجال و الآلة فلما فصلوا من الحصن و خيل خالد تنظر إليهم لا يصهل منهافرس و لا يتحرك فساعة فصل أخذته الخيل فاستؤسر أكيدر ]
إخباره علي بن أبي طالب عن موقف لم يحصل بعد :
[ و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : أنه لما قاضى سهيل بن عمرو بالحديبية حين صدته قريش عن العمرة و كتبت بينه و بينه القضية
قال لعلي كرم الله تعالى وجهه : اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو
فقال سهيل : لو أعلم أنك رسول الله ما صددتك و لكن أقدمك لشرفك أكتب محمد بن عبد الله فقال يا علي : أمح رسول الله فقال علي : لا أستطيع أن أمحو اسمك من النبوة
فمد رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم يده إلى الموضع فمحاه فقال لعلي : ستسام مثلها فتجيب فقيل له مثلها يوم الحكمين حين ذكر في كتاب التحكيم هذا ما تحاكم عليه علي أمير المؤمنين فقال له عمرو : و لو أنك أمير المؤمنين ما نازعناك فمحا أمير المؤمنين و لما قال سهيل ذلك قال عمر : يا رسول الله دعني أنزع ثنيتي سهيل لنلثغ لسانه فلا يقوم علينا خطيبا أبدا
و كان سهيل أعلم الشفة السفلى فكان خطيبا بينا : فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : دعه يا عمر فعسى أن يقوم لك مقاما تحمده فكان من حسن قيامه بمكة حين هاج أهلها بموت رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و استخفى عتاب بن أسيد ما حمد أثره ]
إخباره عن رجل منافق سيأتي مجلسه :
[ و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : ما حكاه السدي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم قال لأصحابه : يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان فأتاه الحطم بن هند البكري وحده و خلف خيله خارجة من المدينة فدعاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إلام تدعو ؟ فأخبره فقال : انظرني فلي من أشاوره فخرج من عنده فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : لقد دخل بوجه كافر و خرج بعتب غادر فمر بسرح من سرح المدينة فاستاقه و انطلق مرتجزا يقول :
( لقد لفها الليل سواق حطم ... ليس براعي إبل و لا غنم )
( و لا بجزار على ظهر وضم ... باتوا نياما و ابن هند لم ينم )
( باتت يناسيها غلام كالزلم ... مدلج الساقين ممسوح القدم )
ثم أقبل عام قابل حاجا قد قلد الهدي فأراد رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم أن يبعث إليه فنزل عليه قوله تعالى : { لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام } فقال له ناس من أصحابه هذا صاحبنا خل بيننا و بينه فقال إنه قد قلد ]
نوع آخر من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم
إخباره عن حديث سري بين اثنين من الكفار :
[ روى عاصم بن عمرو عن قتادة قال : لما رجع المشركون إلى مكة من بدر قال عمير بن وهب الجمحي لصفوان بن أمية : قبح الله العيش بعد قتلى بدر و الله لولا دين علي لا أجد له قضاء و عيال لا أدع لهم شيئا لرحلت إلى محمد حتى أقتله إن ملأت عيني منه قتلته فإنه بلغني أنه يطوف في الأسواق
فقال له صفوان : دينك علي و عيالك أسوة عيالي فاعمد لشأنك فجهزه و حمله على بعير فشحذ عمير سيفه و سمه و سار إلى المدينة فدخلها متقلدا سيفه فبصر به عمر رضي الله تعالى عنه فوثب إليه و وضع حمائل سيفه في عنقه و أدخله على رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و قال : هذا عدو الله عمير بن وهب
فقال : تأخر عنه يا عمر ثم قال له : ما أقدمك ؟ قال : لفداء أسيري عندكم قال : فما بال السيف ؟ قال : قبحها الله و هل أغنت من شيء ؟ و إنما نسيته حين نزلت و هو في رقبتي فقال له : فما شرطت لصفوان بن أمية في الحجر ؟ ففزع عمير و قال : ماذا شرطت له ؟ قال : تحملت له بقتلي على أن يقضي دينك و يعول عيالك و الله تعالى حائل بيني و بين ذلك
فقال عمير : اشهد أنك لرسول الله و أنك صادق و أشهد أن لا إله إلا الله كنا نكذبك بالوحي من السماء و هذا الحديث كان سرا بيني و بين صفوان كما قلت لم يطلع عليه أحد غيري
فقال عمر : و الله لخنزير كان أحب إلي منه حين طلع و هو الساعة أحب إلي من بعض ولدي
فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : علموا أخاكم القرآن و أطلقوا له أسيره
فقال عمير : إني كنت جاهدا في إطفاء نور الله و قد هداني الله فله الحمد فائذن لي فألحق قريشا فأدعوهم إلى الله و الإسلام فأذن له فلحق بمكة و دعاهم فأسلم بشر كثير و حلف صفوان أن لا يكلمه أبدا ]
إخباره عن حديث النفس :
[ و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : ما حكاه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة قال : ما كان أحد أبغض إلي من رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و كيف لا يكون كذلك و قد قتل منا ثمانية كل منهم يحمل اللواء فلما فتح الله تعالى مكة يئست مما كنت أتمناه من قتله و قلت في نفسي قد دخلت العرب في دينه فمتى أدرك ثأري منه ؟ فلما اجتمعت هوازن بحنين قصدتهم لأجد منه غرة فأقتله
فلما انهزم الناس عنه و بقي مع من ثبت معه جئت من ورائه فرفعت السيف حتى كدت أحطه غشي فؤادي و رفع لي شواظ من نار فلم أطق ذلك و علمت أنه ممنوع فالتفت إلي و قال : ادن يا شيب فقاتل و وضع يده في صدري فصار أحب الناس إلي و تقدمت فقاتلت بين يديه و لو عرض لي أبي لقتلته في نصرته فلما انقضى القتال دخلت عليه فقال لي : الذي أراد الله بك خير مما أردته لنفسك و حدثني بجميع ما زورته في نفسي فقلت ما اطلع على هذا أحد إلا الله فأسلمت ]
النبي يخبر النضير عما حدثته نفسه :
[ و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : ما رواه محمد بن إبراهيم بن شرحبيل عن أبيه قال : كان النضير بن الحرث بن كلدة يصف شدة عداوته لرسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم لقتله لأخيه النضر بن الحرث قال : كنت شهدت بدرا فرأيت قلة المسلمين و كثرة قريش فلما نشب القتال رأيت المسلمين أضعاف قريش فانهزمت قريش و رأيت يومئذ رجالا على خيل بلق بين السماء و الأرض معلمين يأسرون و يقتلون فهربت مذعورا ثم خرجت معه بعد الفتح إلى هوازن لأصيب منه غرة فلما انهزم المسلمون صعدت لرسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فإذا هو في وجه العدو واقف على بغلة شهباء حوله رجال بيض الوجوه فأقبلت عامدا إليه فصاحوا بي إليك إليك فرعب فؤادي و أرعدت جوارحي فقلت هذا مثل يوم بدر إن الرجل لعلى حق و أنه معصوم فأدخل الله في قلبي الإسلام ثم التقيت برسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم بعد رجوعه من الطائف فحين رآني قال : النضير ؟ قلت : لبيك قال : هذا خير لك مما أردت يوم حنين ما حال الله بينك و بينه ]
النبي يحدث عمه العباس عن شيء أسره :
[ و من أعلامه صلى الله عليه و سلم : انه قال لعمه العباس و قد أسر يوم بدر إفد نفسك و ابني أخيك عقيلا و نوفلا و حليفك فإنك ذو مال فقال يا رسول الله : إني كنت مسلما و أخرجت مكرها
فقال : الله أعلم بإسلامك ! فأين المال الذي وضعته بمكة عند أم الفضل حين خرجت و ليس معكما أحد ؟ فقلت إن أصبت في سفري فللفضل كذا و لعبد الله كذا و لقلثم كذا
فقال : و الذي بعثك بالحق ما علم بهذا أحد غيري و غيرها و إني لأعلم أنك رسول الله ففدى نفسه و ابني أخيه و حليفه فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله سيعوضك خيرا إن كان ما قلته من إسلامك حقا فعوضه الله تعالى مالا جما ]
وصف النبي امرأة بأنها شهيدة قبل أن تقتل :
[ و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : ما روي عن النبي صلى الله تعالى عليه و سلم كان إذا أراد الذهاب إلى أم فروة الأنصارية قال لأصحابه : انطلقوا بنا إلى الشهيدة فنزورها و أمر أن يؤذن لها و يقام و أن تؤم أهل دارها في الفرائض فقتلها في أيام عمر رضي الله تعالى عنه غلام و جارية كانا لها فصلبها عمر رضي الله عنه فكانا أول من صلب في الإسلام فقال عمر : صدق رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : كان يقول انطلقوا نزور الشهيدة ]
لام النبي الزبير ما فعله خفية :
[ و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : مارواه عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال : أتيت النبي صلى الله تعالى عليه و سلم و هو يحتجم فلما فرغ قال : يا عبد الله اذهب بهذا الدم فاهرقه حيث لا يراك أحد فلما برز عنه عمد إلى الدم فحساه
فلما رجع قال : يا عبد الله ما صنعت ؟ قال : جعلته في أخفى مكان ظننت أنه خاف عن الناس
قال لعلك شربت الدم قال : نعم قال : ويل للناس منك و ويل لك من الناس ]
إلى أمثال ذلك من نظائره التي يطول الكتاب بذكره حتى كان المنافقون لا يخوضون في شيء من أمره إلا أطلعه الله عليه فكان يخبرهم به حتى كان بعضهم يقول لصاحبه اسكت و كف فو الله لو لم يكن عنده إلا الحجارة لأخبرته حجارة البطحاء
الفرق بين إخبار النبي عليه السلام و إخبار المنجم :
فإن قيل : فليس في ذكر ما كان و يكون إعجاز نبوة يقهر و لا آية رسالة تظهر لأن المنجمين يخبرون بذلك و لا يكون من إعجاز الأنبياء و آيات الرسل
فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها أن المنجم يعمل على حساب و يرجع على استدلال و لا يبتكر قولا إلا بعدهما و إخبار الرسل عن بديهة تخلو من سبب و تعرى عن استدلال
و الثاني : أن من خلا من علم النجوم لم يصح الإخبار عنها و لم يتعاط محمد صلى الله عليه و سلم على النجوم و لا خالط أهلها فيكون مخبرا عنها فبطل أن يخبر بها إلا عن علام الغيوب المطلع على ضمائر القلوب
و الثالث : أن المنجم يصيب في الأقل و يخطىء في الأكثر و يستحسن منه الصواب و لا يستقبح منه الخطأ و إخبار الرسل كلها صدق لا يتخلله كذب و صواب لا يعتروه زلل (1/121)
الباب الحادي عشر ـ فيما أكرم صلى الله تعالى عليه و سلم من إجابة أدعيته
فضل الأنبياء على سواهم :
إن الله تعالى لما فضل الأنبياء على جميع خلقه مما فوض إليهم من القيام بحقه تميزوا بطلب المصلحة فخصوا بإجابة الأدعية ليكون عونا على ما كلفهم و آية على من أنكرهم فدخل بهذا الامتياز في أقسم الإعجاز
دعا النبي على عتبة فافترسه أسد :
فمن أعلامه صلى الله عليه و سلم في الإجابة : [ أن النبي صلى الله تعالى عليه و سلم لما تلا : { والنجم إذا هوى } قال عتبة بن أبي لهب : كفرت بالذي دنا فتدلى
فقال النبي صلى الله تعالى عليه و سلم : اللهم سلط كلبا من كلابك يعني الأسد فخرج عتبة مع أصحابه في عير إلى الشام حتى إذا كانوا في طريقهم زأر الأسد فجعلت فرائص عتبة ترعد فقال أصحابه من أي شيء ترعد ؟ فو الله ما نحن و أنت إلا سواء
فقال : إن محمدا دعا علي و ما ترد له دعوة و لا أصدق لهجة فوضعوا العشاء فلم يدخل يده فيه و حاط القوم أنفسهم بمتاعهم و جعلوه وسطهم و ناموا فجاء الأسد يستشهي رؤوسهم رجلا رجلا حتى انتهى إليه فهشمه هشمة كانت إياها
فقال و هو بآخر رمق : ألم أقل لكم إن محمدا أصدق الناس لهجة دعا النبي على سبعة من أشد خصومه فهلكوا ] :
[ و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : أن المستهزئين به من قريش و هم سبعة : [ الوليد بن المغيرة ] و [ العاص بن وائل السهمي ] و [ الأسود بن عبد يغوث الزهري ] و [ فكيهة بن عامر الفهري ] و [ الحرث بن الطلاطلة ] و [ الأسود بن الحرث ] و [ ابن عيطلة ] كانوا يكثرون منه الاستهزاء و يواصلون عليه الإيذاء و كان لا يقرأ إلا مستسرا و لا يدعو إلا مستخفيا
فنزل قوله تعالى : { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا } أي لا تجهر بها فيؤذوك و لا تخافت بها عن أصحابك فلا يسمعوك و ابتغ بين الجهر و الإسرار سبيلا
فأذن لأصحابه حين اشتد بهم الأذى في الهجرة إلى أرض الحبشة لأن ملكها كان منصفا و رغب إلى الله تعالى أن يكفيه أمرهم فنزل عليه قوله تعالى : { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين * إنا كفيناك المستهزئين } و في قوله : { فاصدع بما تؤمر } تأويلان : أحدهما امض لما تؤمر به من إبطال الشرك و الثاني : أظهر ما تؤمر به من الحق
و في قوله : { وأعرض عن المشركين } تأويلان : أحدهما : استهزىء بهم و الثاني : لا تهتم باستهزائهم : { إنا كفيناك المستهزئين } يعنى بما عجله من إهلاكهم
فاما الوليد بن المغيرة فإنه ارتدى فعلق بردائه شوك فذهب يجلس عيه فقطع أكحله فنزف فمات لوقته
و أما العاص بن وائل فوطىء على شوكة فتساقط لحمه من عظامه فمات من يومه
و أما الأسود بن عبد يغوث فقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم دعا عليه بالعمى وثكل ولده فأتى بغصن فيه شوك فأصاب عينه فسالت حدقتاه على وجهه و قتل ولده زمعة يوم بدر فأعمى الله بصره و أثكله ولده
و أما فكيهة بن عامر فخرج يريد الطائف ففقد و لم يوجد
و أما الحرث بن الطلاطلة فإنه خرج لبعض حوائجه فضربه السموم في الطريق فاسود منه ومات
و اما الأسود بن الحرث فأكل حوتا مملوحا فأصابه عطش فلم يتمالك من شرب الماء حتى انشق بطنه و مات
أما ابن عيطلة فاستسقى فمات ]
دعا على نفر من قريش فقتلوا في بدر :
و مثله ما رواه ابن مسعود : [ قال كنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم نصلي في ظل الكعبة و ناس من قريش و أبو جهل قد نحروا جزورا في ناحية مكة فبعثوا فجاءوا بسلاها و طرحوه بين كتفيه و هو ساجد فجاءت فاطمة فطرحته عنه
فلما انصرف قال : اللهم عليك بقريش و بأبي جهل وعتبة و سشيبة و الوليد بن عتبة و أمية بن خلف و عقبة بن أبي معيط قال عبد الله بن مسعود فلقد رأيتهم قتلى في قليب بدر ]
دعا على قوم آذوا المسلمين فاستجيب دعاؤه :
[ و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : أن خباب بن الأرت أتاه حين اشتد الأذى من قريش فقال يا رسول الله : ادع لنا ربك أن يستنصر لنا على مضر
فقال إنكم تعجلون لقد كان الرجل ممن قبلكم يمشط بأمشاط الحديد حتى يخلص إلى ما دون عظمه من لحم أو عصب و يشق بالمنشار فلا يرده ذلك عن دينه و إنكم تعجلون و الله ليمضي هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله و الذئب على غنمه ثم دعا عليهم فقال : اللهم اشدد وطأتك على مضر و اجعلها عليهم سنين كسني يوسف
فقطع الله عنهم المطر حتى مات الشجر و ذهب الثمر و أجدبت الأرض و ماتت المواشي و اشتروا القد و أكلوا العلهز فلما انتهت بهم الموعظة استعطفوه فعطف و رغب إلى الله تعالى فمطروا ]
استمطر يوم العسرة فأجيبت دعوته :
[ و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : ما رواه ابن عباس قال : قيل لعمر : حدثنا عن شأن جيش العسرة
فقال عمر رضي الله تعالى عنه : خرجنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش خشينا أن تنقطع رقابنا فكان الرجل يذهب ليلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع و حتى كان الرجل ينحر بعيره فيعصر فرثه ثم يجعل ما بقي على صدره
فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع الله لنا قال : أتحب ذلك ؟ قال نعم
فرفع رسول الله صلى الله عليه و سلم يده فلم يرجعها حتى مالت السحاب فأظلت و أمطرت حتى رووا و ملأوا ما معهم من الأوعية فذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر ]
أعرابي يشكو الجفاف فيدعو له النبي فيجاب حالا :
[ و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : و من أعلامه ما رواه مسلم الملالي عن أنس بن مالك قال أتى أعرابي إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فقال : يا رسول الله لقد أتيناك و ما لنا بعير يئط و لا صبي يصطبح ثم أنشد :
( أتيناك و العذراء يدمى لبانها ... و قد شغلت أم الصبي عن الطفل )
( و ألقى بكفيه الصبي استكانة ... من الجوع ضعفا ما يمر و لا يحلي )
( و لا شيء مما يأكل الناس عندنا ... سوى الحنظل العامي و العلهز الفسل )
( و ليس لنا إلا إليك فرارنا ... و أين فرار الناس إلا إلى الرسل )
فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم يجر رداءه حتى صعد المنبر فحمد الله تعالى و أثنى عليه ثم قال : اللهم اسقنا غيثا سحا طبقا غير رايث تنبت به ازرع و تملأ به الضرع و تحيي به الأرض بعد موتها و كذلك تخرجون
فما استتم الدعاء حتى ألقت السماء بأروقتها فجاء أهل البطانة يضجون يا رسول الله الغرق فقال : حوالينا و لا علينا فانجاب السحاب عن المدينة كالإكليل فضحك رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم حتى بدت نواجذه و قال : لله در أبي طالب لو كان حيا لقرت عيناه من الذي ينشدنا شعره ؟ فقال علي بن أبي طالب كرم الله و جهه يا رسول الله كأنك أردت قوله :
( و أبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل )
( يعوذ به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة و فواضل )
( كذبتم و بيت الله نبري محمدا ... و لما نقاتل دونه و نناضل )
( و نسلمه حتى نصرع حوله ... و نذهل عن أبنائنا و الحلائل )
و قام رجل من كنانة و أنشد :
( لك الحمد و الحمد ممن شكر ... سقينا بوجه النبي المطر )
( دعا الله خالقه دعوة ... و أشخص معها إليه البصر )
( فلم يك إلاك لقاء الردى ... و أسرع حتى رأينا الدرر )
( و فاق العز إلى جم البعاق ... أغاث الله به عليا مضر )
( و كان كما قاله عمه ... أبو طالب أبيض ذو غرر )
( به الله يسقي صوت الغمام ... و هذا العيان لذاك الخبر )
فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم إن يك شاعر يحسن فقد أحسنت ]
العباس عم النبي يستسقي فيجاب دعاؤه :
و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : ما أظهره الله تعالى من كرامته في عمه العباس و حين استسقى به عمر رضي الله عنه متوسلا إليه بعمه فخرج يستسقي به و قد أجدب الناس فقال : اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك و بقية آبائه و كبير رجاله فاحفظ اللهم نبيك في عمه فقد دلونا به إليك مستشفعين إليك مستغفرين
فقال العباس و عيناه تنضحان : اللهم أنت الراعي لا تهمل الضالة فقد ضرع الصغير و رق الكبير و ارتفعت الشكوى و أنت تعلم السر و أخفى اللهم فأغثهم بغياثك من قبل أن يقنطوا ليهلكوا فإنه لا ييأس من روحك إلا القوم الكافرون
فنشأت السحاب و هطلت السماء فطفق الناس بالعباس يمسحون أركانه و يقولون هنيئا لك ساقي الحرمين فقال حسان بن ثابت :
( سأل الإمام و قد تتابع جدبنا ... فسقى الغمام بغرة العباس )
( عم النبي و صنو والده الذي ... ورث النبي بذاك دون الناس )
( أحيا الإله به البلاد فأصبحت ... مخضرة الأجناب بعد الياس )
فقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب يفتخر بذلك :
( بعمي سقى الله الحجاز و أهله ... عشية يستسقي بسيبته عمر )
( توجه بالعباس في الجدب راغبا ... فما كر حتى جاد بالديمة المطر )
النبي عليه السلام يدعو للإمام علي :
[ و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : ما روي أن أسماء بنت عميس قالت لفاطمة إن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما كان عند رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و قد أوحى إليه فجلله بثوبه فلم يزل كذلك حتى أدبرت الشمس أو كادت تغيب ثم إنه سري عن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فقال أصليت يا علي ؟ قال : لا فقال : اللهم رد على علي الشمس فرجعت الشمس حتى بلغت نصف المسجد ]
دعاء النبي صلى الله عليه و سلم لعلي و ابن عباس :
و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : [ ما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال : بعثني رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم إلى اليمن فقلت : يا رسول الله تبعثني و أنا حدث السن لا علم لي بالقضاء قال : انطلق فإن الله سيهدي قلبك و يثبت لسانك قال علي رضي الله تعالى عنه فما شككت في قضاء بين اثنين و لذلك قال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : أقضاكم علي ومثله قوله لابن عباس وهو يومئذ غلام : اللهم فقهه في الدين و علمه التأويل فخرج أفقه الناس في الدين و أعلمهم بالتأويل حتى سمي البحر لسعة علمه ]
دعاء النبي بالبركة لتمر أبي هريرة :
و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : [ ما رواه أبو العالية عن أبي هريرة : قال : أتيت رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم بتميرات فقلت : ادع الله لي بالبركة فيهن فصفهن على يدي ثم دعا بالبركة فيهن ثم قال اجعلهن في المزود فإذا أردت شيئا فأدخل يدك فيه و لا تنثره قال أبو هريرة : فلقد حملت من ذلك التمر كذا و كذا وسقا في سبيل الله و كنا نأكل منه و نطعم و كان لا يفارق حقوي فلما كان يوم قتل عثمان انقطع فذهب ]
دعاؤه لصاحب فرس عجفاء فقويت و أنتجت :
و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : [ مارواه جعيل الأشجعي قال غزوت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم في بعض غزواته فقال : سر يا صاحب الفرس فقلت يا رسول الله هي عجفاء ضعيفة فرفع مخفقة معه فضربها بها و قال اللهم بارك له فيها قال : فلقد رأيتني ما أمسك رأسها أن تقدم الناس و لقد بعت من بطنها باثني عشر ألفا ]
دعاؤه للمدينة فبارك الله فيها :
و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : [ ما روت عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم المدينة و هي أوبأ أرض فقال : اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة و صححها لنا و بارك لنا في صاعها و مدها و انقل حماها إلى الجحفة فصارت كذلك ]
دعاؤه على الكفار في بدر :
و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : [ أنه أخذ يوم بدر كفا من حصى و تراب و رمى به في وجوه القوم و قال : شاهت الوجوه فتفرق الحصى في المشركين و لم يصل ذلك الحصى و التراب أحدا إلا قتل أو أسر و فيه نزل قول الله تعالى :
{ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } ]
دعاؤه للطفيل بن عمر و لقومه واستجابة الدعاء :
و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : [ أن الطفيل بن عمرو الدوسي قدم مكة و كان شاعرا لبيبا فقالت قريش : احذر محمدا فإن قوله كالسحر يفرق بين المرء و بين زوجه
فأتاه في بيته و قال : يا محمد اعرض أمرك فعرض عليه الإسلام و تلا عليه القرآن فأسلم و قال : يا رسول الله إني امرؤ مطاع في قومي و إني راجع إليهم و داعيهم إلى الإسلام فادع الله أن يجعل لي آية تكون عونا عليهم
فقال : اللهم اجعل له آية فخرجت حتى إذا كنت بثنية وقع نور بين عيني مثل المصباح فقلت : اللهم في غير وجهي و أخشى أن يظنوا بي أنها مثلة فتحول فوقع في رأس سوطي فجعل الحاضرون يرون ذلك النور في سوطي كالقنديل المعلق و أنا أهبط من الثنية ثم دعوت رؤساء قومي إلى الإسلام فأبطأوا
فجئت رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فقلت يا رسول الله إنهم قد غلبوني على دوس فادع الله عليهم فقال اللهم إهد دوسا ارجع إلى قومك فادعهم إلى الله و ارفق بهم فرجعت إليهم فلم أزل بأرض دوس أدعوهم حتى أسلموا ]
دعا النبي لابن أخطب أن يجمله الله فجمله :
و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : [ ما رواه أبو نهيك الأزدي عن عمرو بن أخطب قال : استسقى رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم ماء فأتيته بإناء فيه ماء و فيه شعرة فرفعتها ثم ناولته فقال : اللهم جمله قال : فرأيته بعد ثلاث و تسعين ما في رأسه و لحيته شعرة بيضاء
و نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم أن ينقي الرجل شعره في الصلاة فرأى رجلا ينقي شعره في الصلاة فقال قبح الله شعرك فصلع مكانه ]
الفرق بين دعاء الأنبياء و سواهم :
فإن قيل : فإجابة الأدعية لا تكون معجزة للنبوة لأنه قد تجاب دعوة غير الأنبياء
قيل : أدعية الأنبياء مجابة على العموم في جميعها و أدعية غيرهم إن أجيبت فعلى الخصوص في بعضها : لأن الأنبياء منطقون بالحق فإذا نطقت ألسنتهم بالدعاء صادف ما أمروا به فأجيبوا إليه و غيرهم قد ينطق بالحق و بغيره فإن أجيبت أدعيتهم فهو تفضل يقف على مشيئة الله تعالى (1/142)
الباب الثاني عشر : في إنذاره صلى الله تعالى عليه و سلم بما سيحدث بعده
إنذار النبي صلى الله عليه و سلم لعلي بأنه سيؤمر و يقتل :
روى فضالة بن أبي فضالة الأنصاري قال : خرجت مع أبي إلى ينبع عائدا لعلي بن أبي طالب عليه السلام و كان بها مريضا فقال له : يا أبا الحسن ما يقيمك بهذا البلد لا آمن أن يصيبك أجلك فلا يكن أحد يليك إلا أعراب جهينة فلو احتملت إلى المدينة فإن أصابك أجلك وليك أصحابك و صلوا عليك
فقال : يا أبا فضالة أخبرني حبيبي و ابن عمي رسول الله صلى الله عليه و سلم أني لا أموت حتى أؤمر و لا أموت حتى أقتل الفئة الباغية و لا أموت حتى تخضب هذه من هذه ـ و ضرب بيده على لحيته و هامته ـ قضاء مقضيا و عهدا معهودا و قد خاب من افترى
إنذار النبي بولاية أبي بكر و عمر رضي الله عنهما :
و من إنذاره صلى الله تعالى عليه و سلم : ما رواه أبو سلم [ عن أبي هريرة قال : دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم بمارية القبطية في بيت حفصة بنت عمر فوجدتها معه تضاحكه فقال : يا رسول الله في بيتي من دون بيوت نسائك قال : فإنها علي حرام أن أمسها ثم قال لها يا حفصة ألا أبشرك ؟ قالت بلى بأبي أنت و أمي قال : يلي هذا الأمر لمن بعدي أبو بكر اكتمي هذا علي فخرجت حتى دخلت على عائشة فقالت : لها ألا أبشرك يا ابنة أبي بكر قالت : بماذا فذكرت ذلك لها و قالت قد استكتمني فاكتميه فأنزل الله تعالى : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك } الآيات ]
إنذار النبي بأن أولى الناس بالنبي المتقون من كانوا :
و من إنذاره صلى الله تعالى عليه و سلم : ما رواه معاذ بن جبل قال : [ بعثني رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم إلى اليمن فخرج معي يوصيني فلما فرغ قال : يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد هذا و لعلك تمر بمسجدي و منبري فبكى معاذ ثم التفت رسول الله صلى الله عليه و سلم فأقبل بوجهه نحو المدينة و قال : إن أهل بيتي هؤلاء يرون أنفسهم أولى الناس بي و ليس كذلك إن أولى الناس بي المتقون من كانوا أو حيث كانوا اللهم إني لا أحل لهم فساد ما أصلحت ]
إنذار النبي صلى الله عليه و سلم عثمان بمقتله :
و من إنذاره صلى الله تعالى عليه و سلم : ما رواه عبد الله بن عباس قال : [ كنت قاعدا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أقبل عثمان فلما دنا منه قال : يا عثمان تقتل و أنت تقرأ سورة البقرة تقع قطرة من دمك على : { فسيكفيكهم الله } يغبطك أهل المشرق و المغرب و تبعث يوم القيامة أميرا على كل مخذول ]
إنذار النبي بشهادة طلحة بن عبيد الله :
و من إنذاره صلى الله تعالى عليه و سلم : ما رواه جابر بن عبد الله قال : [ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله ]
إنذار النبي فاطمة بأنها أول من تلحق به :
و من إنذاره صلى الله تعالى عليه و سلم : [ ما روي أنه قال لفاطمة رضي الله تعالى عنها إنك أول أهل بيتي لحاقا بي و نعم السلف أنا لك فكانت أول من مات بعده من أهل بيته صلى الله تعالى عليه و سلم ]
إنذار النبي صلى الله عليه و سلم بما سيحدث لعائشة أم المؤمنين :
و من إنذاره صلى الله تعالى عليه و سلم : ما رواه عبد الله بن عباس قال : [ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم لنسائه : ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تخرج فتنبحها كلاب الحوأب يقتل عن يمينها و يسارها قتلى كثير و تنجو بعدما كادت تقتل ]
فقيل إن عائشة رضي الله تعالى عنها لما وصلت إلى مياه بني عامر ليلا نبحتها الكلاب فقالت : ما هذا ؟ قالوا : الحوأب قالت : ما أظنني إلا راجعة إن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم قال لنا ذات يوم كيف بإحداكن إذا نبح عليها كلاب الحوأب
إنذار النبي صلى الله عليه و سلم بأن سبطه الحسن سيصلح بين المسلمين :
و من إنذاره صلى الله تعالى عليه و سلم : ما رواه ثابت عن الحسن البصري قال : [ كان الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما يجيء و رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم ساجد فيجلس على عنقه فإذا أراد أن يرفع رأسه أخذه فوضعه في حجره ثم قال : إن ابني هذا سيد و إن الله تعالى سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ]
إنذار النبي صلى الله عليه و سلم بمقتل الحسين بن علي :
و من إنذاره صلى الله تعالى عليه و سلم : ما رواه عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : [ دخل الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما على رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و هو يوحى إليه فبرك على ظهره فقال جبريل : يا محمد إن أمتك ستفتن بعدك و يقتل ابنك هذا من بعدك و مد يده فأتاه بتربة بيضاء و قال : في هذه الأرض يقتل ابنك اسمها الطف فلما ذهب جبريل خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم إلى أصحابه و التربة في يده و فيهم أبو بكر و عمر و علي و حذيفة و عمار و أبو ذر و هو يبكي فقالوا : ما يبكيك يا رسول الله ؟ فقال : أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف و جاءني بهذه التربة فأخبرني أن فيها مضجعه ]
إنذاره بأنه سيخرج من الطائف كذاب و مبير :
و من إنذاره صلى الله تعالى عليه و سلم : أن الحجاج لما قتل عبد الله بن الزبير دخل على أمه أسماء بنت أبي بكر فقال لها : إن أمير المؤمنين أوصاني بك فهل لك من حاجة ؟ قالت : ما لي من حاجة و لكن أنتظر حتى أحدثك شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ يخرج من ثقيف كذاب و مبير أما الكذاب فقد رأيناه تعني المختار و أما المبير فأنت ] فقال الحجاج : أنا مبير المنافقين
إنذاره بولاية معاوية :
و من إنذاره صلى الله تعالى عليه و سلم : ما رواه عبد الملك بن عمير قال : قال معاوية رضي الله تعالى عنه و الله ما حملني على الخلافة إلا قول النبي صلى الله تعالى عليه و سلم لي : [ يا معاوية إن وليت فأحسن ]
إنذار النبي بولاية بني العباس :
و من إنذاره صلى الله عليه و سلم : ما رواه عبد الله بن عباس [ عن أبيه : أن النبي صلى الله تعالى عليه و سلم نظر إليه مقبلا فقال : هذا عمي أبو الخلفاء الأربعين أجود قريشا كفا و إن من ولده السفاح و المنصور و المهدي يا عم بي فتح الله هذا الأمر و برجل من ولدك يختم إلى كثير من نظائر هذا ] (1/153)
الباب الثالث عشر : في معجزه صلى الله تعالى عليه و سلم بما ظهر من البهائم
المعجزات تظهر حيث أراد الله تعالى :
إذا كان الإعجاز خارقا للعادة لم يمتنع فيه ظهور ما خالفها و إذا أراد كاتب البهائم مسلوبة الأفهام مفقودة الكلام فليس بمستنكر إذا أراد الله تعالى بها إظهار معجز أن يعطيها من المعرفة أن تنطق بما ألهمها و تخبر بما أعلمها ثم سلبها ذلك فتعود إلى طبعها كما أحل في الشجرة كلاما سمعه موسى و في العصا أن صارت حية تسعى لتكون من باهر الآيات و قاهر المعجزات
ذئب يبشر ببعثه النبي صلى الله عليه و سلم :
فمن آياته صلى الله تعالى عليه و سلم : أن رجلا كان في غنمه يرعاها فأغلفها ساعة من نهاره فخاتله ذئب فأخذ منها شاة فأقبل يلهث فطرح الذئب الشاة ثم كلمه بكلام فصيح فقال : ويحك لم تمنعني رزقا رزقنيه الله تعالى فجعل أهبان يصفق بيديه و يقول : تالله ما رأيت كاليوم ذئب يتكلم
فقال الذئب : أنت أعجب و في شأنكم عبرة هذا محمد يدعو إلى الحق ببطن مكة و أنتم لاهون عنه فهدي الرجل لرشده و أقبل حتى أسلم و حدث القوم بقصته و بقي لعقبه شرف يفخرون به على العرب و يقول مفتخرهم أنا ابن مكلم الذئب
ذئب آخر يبشر بالنبي :
و من آياته صلى الله تعالى عليه و سلم : ما رواه أبو سعيد الخدري قال : بينما راع يرعى في الحرة غنما إذ جاء ذئب إلى شاة من غنمه فانتهزها فحال الراعي بين الذئب و الشاة فأقعى الذئب على عريمة ذنبه و قال للراعي : ألا تتقي الله و تحول بيني و بين رزق ساقه الله إلي ؟ فقال الراعي : العجب من ذئب يقعي على ذنبه يكلمني بكلام الإنس فقال له الذئب : ألا أحدثك بأعجب من هذا هذا رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم بين الحرتين يحدث الناس بأنباء ما قد سبق فأخذ الراعي الشاة فأتى بها المدينة ـ و أتى النبي صلى الله تعالى عليه و سلم فخرج إلى الناس فقال للراعي : [ قم فحدثهم ] فقام يحدثهم فقال : [ صدق الراعي ] و كان اسمه عمير الطائي فسمي مكلم الذئب
شهادة الضب بنوة محمد صلى الله عليه و سلم :
و من آيات صلى الله تعالى عليه و سلم : ما روى ابن عمر عن أبيه عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم كان في محفل من أصحابه إذ جاء إعرابي قد صاد ضبا و جعله في كمه ليذهب به فيأتي رأي الجماعة قال : و ما هذا ؟ قالوا : النبي صلى الله تعالى عليه و سلم فجاء يشق الناس و قال : و اللات و العزى ما أحذ أبغض إلي منك و لولا أن تسميني قومي عجولا لعجلت بقتلك فقال عمر رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله ادعني أقوم فاقتله فقال : يا عمر أما علمت الحليم كاد أن يكون نبيا ثم قال للأعرابي : ما حملك على ما قلت ؟ فقال : و اللات و العزى لا آمنت أو يؤمن بك هذا الضب و أخرج الضب من كمه فطرحه بين يدي النبي صلى الله تعالى عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : [ ياضب فأجابه الضب بلسان عربي مبين يسمعه القوم جميعا : لبيك و سعديك يا زين من يوافي القيامة قال : من تعبد ؟ قال الذي في السماء عرشه و في الأرض سلطانه و في الجنة رحمته و في النار عقابه قال فمن أنا يا ضب ؟ قال : رسول رب العالمين و خاتم النبيين و قد أفلح من صدقك و قد خاب من كذبك
فقال الأعرابي : لا أتبع أثرا بعد عين و الله لقد جئتك و ما علي ظهر الأرض أحد أبغض إلى منك و إنك اليوم أحب إلي من نفسي و من والدي و إني لأحبك بداخلي و خارجي و سري و علانتي أشهد أن لا إله إلا الله و أنك محمد رسول الله
فقال صلى الله تعالى عليه و سلم : الحمد لله الذي هداك بي إن هذا الدين يعلو و لا يعلى ] فرجع الأعرابي إلى قومه فأخبرهم بالقصة و كان من بني سليم فأتى رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم ألف إنسان منهم فأمرهم أن يكونوا تحت راية خالد بن الوليد رحمة الله عليه و لم يؤمن من العرب ألف في وقت واحد غيرهم
عنزة تسجد للنبي عليه السلام :
و من آياته صلى الله تعالى عليه و سلم : [ ما رواه أنس بن مالك قال : دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم حائطا للأنصار و معه أبو بكر رضي الله تعالى عنه و في الحائط عنز فسجدت له فقال أبو بكر : يا رسول الله كنا نحن أحق بالسجود لك من هذه العنزة
فقال : إنه لا ينبغي أن يسجد أحد لأحد و لو كان ينبغي أن يسجد أحد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ]
سجود البعير للنبي عليه السلام :
و من آياته صلى الله تعالى عليه و سلم [ ما رواه عبد الله بن أبي أوفى قال : بينما نحن قعود عند رسول الله بن إذا أتاه آت فقال : يا رسول الله ناضح بني فلان قد دبر عليهم قال فنهض و نهضنا معه فقلنا : يا رسول الله لا تقربه فإنا نخافه عليك فدنا من البعير فلما رآه البعير سجد له فوضع يده على رأس البعير و قال : هات السكان فوضعه في رأسه و أوصى به خيرا ]
صوت يبشر بالنبي صلى الله عليه و سلم :
و من آياته صلى الله تعالى عليه و سلم : ما رواه جبير بن مطعم قال : كنا جلوسا عند صنم لنا قبل أن يبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم بشهر فنحرنا جزورا فسمعنا صائحا يصيح : اسمعوا إلى العجب ذهب استراق السمع لنبي بمكة اسمه [ أحمد ] مهاجر إلى يثرب فكان هذا من الآيات المنذرة و الآثار المبشرة
جمل يستجير بالنبي عليه السلام :
و من آياته صلى الله تعالى عليه و سلم : [ أنه بينما هو جالس في أصحابه إذ هو بجمل قد أقبل له رغاء فوقف فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : أتدرون ما يقول هذا ؟ إنه ليقول : إني لآل فلان [ لحي من الخزرج ] استعملوني و كدوني حتى كبرت و ضعفت فلما لم يجدوا في حيلة يريدون ذبحي فأنا أستغيث بك منهم فأوقفه رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و بعث إليهم فاستوهبه منهم فوهبوه له و خلاه في الحي ]
عجل ينذر أهل دريح :
و من آياته صلى الله تعالى عليه و سلم : ما رواه برد عن مكحول قال : بينما أهل دريح [ حي من عرب اليمن في مجلسهم ] إذ أقبل عجل و سلم فسألهم و قال : أهل دريح أمر نجيح ببطن مكة يصيح بلسان فصيح بشهادة أن لا إله إلا الله فأجيبوه و قال و فيه نزل قول الله تعالى : { ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا }
فإن قيل فيجوز أن يكون ما سمع من كلام البهائم كالصدى يحكي كلام المتكلم فيظنه السامع كلام الصدى و هو كلام المتكلم و يكون ذلك بقوة يحدثها الله تعالى في المتهيء لذلك يخفي عن الأسماء و الأبصار
فعنه جوابان : أحدهما : أن الصدى يحكي كلاما مسموعا إذا قابله قبل صوته فحكاه و ليس كلام البهيمة مقابلا لكلام يحيكه فامتنع التشاكل
و الثاني : أن القوة المهيأة لذلك ليست من جنس قوى البشر فلا يكون في التفاضل إعجاز و إنما هي خارجة عن جنس قواهم فخرج عن قدرتهم و ما خرج عن قدرة البشر كان معجزا لو صح هذا الاعتراض لبطل به الاعتراض (1/158)
الباب الرابع عشر : في ظهور معجزه صلى الله تعالى عليه و سلم من الشجر و الجماد
و لئن كانت المعارف من الجمادات أبعد و الكلام منها أغرب فليس بسمتبعد و لا مستغرب أن يحدث الله تعالى فيها من الآيات الخارجة عن العادة ما يحج الله تعالى به من استبصر و يمد به من استنصر
الرسول ينادي الشجرة فتقبل نحوه :
و من آياته صلى الله تعالى عليه و سلم : [ ما حكاه أهل النقل عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : أنه خطب على الناس خطبته المعروفة بالناصعة فقال فيها : الحمد لله الذي هو العالم بمضمرات القلوب و محجوبات الغيوب أيها الناس اتقوا الله و لا تكونوا لنعمه عليكم أضدادا و لا لفضله عندكم حسادا و لا تطيعوا أساس الفسوق و أحلاس العقوق فإن الله تعالى مختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم ألا ترون أنه اختبر الأولين من لدن آدم إلى الآخرين من هذا العالم بأنواع الشدائد و تعبدهم بألوان المجاهد ليجعل ذلك أبوابا فتحا إلى فضله و أسبابا ذللا لعفوه فاحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال و ذميم الأعمال أن تكونوا أمثالهم فلقد كانوا على أحوال مضطربة و أيد مختلفة و جماعة متفرقة في بلاء أزل و أطباق جهل من بنات موؤودة و أصنام معبودة و أرحام مقطوعة و غارات مشنونة فانظروا إلى موقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولا كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها و أسالت لهم جداول نعيمها فهم حكام على العالمين و ملوك في أطراف الأرضين يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم و يمضون الأحكام على من كان يمضيها فيهم
و لقد كنت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و قد أتاه الملأ من قريش فقالوا : يا محمد إنك قد ادعيت عظيما لم يدعه آباؤك و لا أحد من أهل بيتك و نحن نسألك أمرا إن أجبتنا إليه و أريتناه علمنا أنك نبي و رسول و إن لم تفعل علمنا أنك ساحر كذاب قال لهم : و ما تسألون قالوا : تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها و تقف بين يديك
فقال صلى الله تعالى عليه و سلم : إن الله على كل شيء قدير فإن فعل الله ذلك لكم أتؤمنون و تشهدون بالحق ؟ قالوا : نعم قال فإني سأريكم ما تطلبون و إني لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير و أن منكم من يطرح في القليب و من يحزب الأحزاب ثم قال : يا أيتها الشجرة إن كنت تؤمنين بالله و اليوم الآخر و تعلمين أني رسول الله فانقلعي : بعروقك حتى تقفي بين يدي بإذن الله تعالى
قال علي رضي الله عنه : فو الذي بعثه بالحق لانقلعت بعروقها و جاءت و لها دوي شديد و قصف كقصيف أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم مرفوفة و ألقت بعضها الأعلى عليه و ببعض أغصانها على منكبي و كنت عن يمينه
فلما نظر القوم إلى ذلك قالوا علوا و استكبارا فمرها فليأتك نصفها فأمر بذلك فأقبل نصفها كأعجب إقبال و أشده دويا فكادت تلتف برسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم
فقالوا : كفرا و عتوا
فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان فأمره فرجع فقلت : أنا لا إله إلا الله فأنا أول مؤمن بك يا رسول الله و أول من أقر بأن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تعالى تصديقا لنبوتك و إجلالا لكلمتك
فقال القوم كلهم : بل ساحر كذاب عجيب السحر خفيف فيه و هل يصدقك في أمرك هذا إلا مثل هذا يعنونني و هذا حكاه خطيبا على الأشهاد و قل أن يخلو جمع مثله ممن يعرف حق ذلك من باطله فكانوا بالموافقة مجمعين على صحته و لولاه لظهر الرد و إن ندر و هذا من أبلغ آية و أظهر إعجاز له ]
أعرابي يطلب من النبي صلى الله عليه و سلم أن يدعو الشجرة فيفعل :
و من آياته صلى الله تعالى عليه و سلم : [ ما رواه عبد الله بن بريدة عن أبيه قال جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : فقال يا محمد هل من آية فيما تدعو إليه ؟
قال : نعم ائت تلك الشجرة فقل لها رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم يدعوك فمالت عن يمينها و يسارها و بين يديها فتقطعت عروقها ثم جاءت تخد الأرض حتى وقفت بين يديه
فقال الأعرابي : مرها لترجع إلى منتبها فأمرها فرجعت إلى منبتها فقال الأعرابي : ائذن لي أسجد لك
فقال : لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها قال : فائذن لي أن أقبل يديك و رجليك فأذن له ]
النبي صلى الله عليه و سلم يطلب من وديتين أن تنضما فتفعلا :
من آياته صلى الله عليه و سلم : [ ما رواه يعلى بن شبابة قال : كنت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم في مسير فأراد أن يقضي حاجته فأمر وديتين فانضمت إحداهما إلى الأخرى ثم أمرهما بعد قضاء حاجته أن يرجعا إلى منبتها فرجعتا ]
الشجر يسلم على النبي صلى الله عليه و سلم :
و من آياته صلى الله تعالى عليه و سلم : [ ما رواه علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم في مكة فخرج في بعض نواحيها فما استقبله شجر و لا جبل إلا قال : السلام عليك يا رسول الله ]
سدرة تنقسم ليمر النبي عليه السلام :
و من آياته صلى الله تعالى عليه و سلم : [ أنه مر في غزوة الطائف في كثيف من طلح فمشى و هو وسن من النوم فاعترضته سدرة فانفرجت السدرة له بنصفين فمر بين نصفيها و بقيت السدرة منفرجة على ساقين إلى قريب من أعصارنا هذه و كانت معروفة بذلك في مكانها يتبرك بها كل مار و يسمونها سدرة النبي صلى الله تعالى عليه و سلم ]
تحرك الجبل لصعود النبي عليه :
و من آياته صلى الله تعالى عليه و سلم : [ ما رواه سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال صعد النبي صلى الله تعالى عليه و سلم حراء و معه أبو بكر و عمر و عثمان و علي و عبد الرحمن و الزبير و طلحة و سعيد فتحرك الجبل فقال النبي صلى الله تعالى عليه و سلم اسكن حراء فليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد فسكن الجبل ]
الحجر و الشجر يسلم على النبي :
و من آياته صلى الله تعالى عليه و سلم : [ ما رواه جابر بن عبد الله قال : كان في رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم خصال لم يكن يمر في طريق فيبتعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عرفه و لم يكن يمر بحجر و لا شجر إلا سجد له ]
تسبيح الحصى :
و من آياته صلى الله تعالى عليه و سلم : [ ما رواه ثابت عن أنس قال : كنا عند رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فأخذ كفا من حصى فسبحن في يده حتى سمعنا التسبيح ثم صبهن في يد أبي بكر فسبحن في يده حتى سمعنا التسبيح ثم صبهن في أيدينا فما سبحن في أيدينا ]
تسليم الحجر على النبي :
و من آياته صلى الله تعالى عليه و سلم : [ ما رواه جابر بن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : إني لأعرف حجرا من مكة كان يسلم علي ]
تحويل الخشبة إلى سيف :
و من آياته صلى الله تعالى عليه و سلم : [ أن عكاشة بن محصن انقطع سيفه بيده يوم بدر فدفع إليه رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم قطعة من خشب و قال قاتل بها الكفار يا عكاشة فتحولت سيفا في يده فكان يقاتل به حتى قتله طليحة في الردة ]
حنين الجذع :
و من آياته صلى الله تعالى عليه و سلم : [ أنه كان يخطب إلى جذع يستند إليه فلما اتخذ منبرا تحول عن الجذع إليه فحن إليه الجذع حتى ضمه إليه فسكن ]
تسبليح الحصيات :
و من آياته صلى الله تعالى عليه و سلم : [ أن مكرزا العامري أتاه فقال : هل عندك من برهان نعرف به أنك رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فدعا بتسع حصيات فسبحن في يده فسمع نغماتها من جمودتها و هذا أبلغ من إحياء عيسى للموتى ]
كلام الطعام :
و من آياته صلى الله تعالى عليه و سلم : [ أنه لما حاصر الطائف سموا له جذعة فكلمه منها الذراع : لا تأكلني فإني مسمومة و هذا نظير إحياء الموتى ]
الحجر و المدر يسلم على النبي :
و من آياته صلى الله تعالى عليه و سلم : [ أن أول ما أوحي إليه لم يمر بحجر و لا مدر إلا سلم عليه بالنبوة و هذا نظير قول الله تعالى لداود : { يا جبال أوبي معه والطير } ]
إضاءة أصابع النبي ليلا :
و من آياته صلى الله تعالى عليه و سلم : [ ما رواه حمزة بن عمرو الأسلمي قال : نفرنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم في ليلة ظلماء فأضاءت أصابعه ]
تسبيح الطعام :
و من آياته صلى الله تعالى عليه و سلم : [ ما رواه إبراهيم الله علقمة عن عبد الله بن مسعود قال : إنكم تعدون الآيات عذابا و إنا كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم بركة لقد كنا نأكل مع رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و نحن نسمع تسبيح الطعام ]
رد على شبهات المغترضين على المعجزات :
فإن قيل : فقد يجوز أن يتخيل ذلك للناظر كما يتخيل لراكب السفينة سير النخل و الشجر فعنه جوابان :
أحدهما : أنه و إن تخيل ذلك لراكب السفينة فهو غير متخيل لغيره من قائم و قاعد و هذا متحقق عند كل مشاهد على اختلاف أحواله
و الثاني : أن راكب السفينة يعلم أنه تخيل له غير معلوم و هذا معلوم غير متخيل
و إن قيل : فقد يجوز أن يكون في خواص الجوهر ما يجذب النخل و الشجر كما في خاص حجر المغناطيس أن يجذب الحديد فعنه جوابان :
أحدهما : أنه قد علم خاصية حجر المغناطيس و ظهر و لم يعلم ذلك في غيره فلم يوجد و لو كان ذلك موجودا لكان الملوك عليه أقدر و لكان مذخورا في خزائنهم كادخار كل مستغرب و مستظرف و لجاز ادعاء مثله في قلب الأعيان و إبطال الحقائق
و الثاني : أنه لو كان ذلك لخاصة الجوهر جاذبا كان بظهوره جاذبا و بملاقاته للنخل و الشجر فاعلا ولا ينقل إليه عن غيره و عنه إلى غيره و كل هذا فيه معدوم و إن كان في حجر المغناطيس موجودا (1/163)
الباب الخامس عشر ـ في بشائر الأنبياء عليهم السلام بنبوته صلى الله تعالى عليه و سلم
الأنبياء معانون على تأسيس النبوة :
إن الله تعالى عونا على أوامره و إغناء عن نواهيه فكان أنبياء الله تعالى معانين على تأسيس النبوة بما تقدمه من بشائرها و تبديه من أعلامها و شعائرها ليكون السابق مبشرا و نذيرا و اللاحق مصدقا و ظهيرا فتدوم بهم طاعة الخلق و ينتظم بهم استمرار الحق و قد قدمت بشائر من سلف من الأنبياء بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه و سلم مما هو حجة على أممهم
و معجزة تدل على صدقه عند غيرهم بما أطلعه الله تعالى على غيبه ليكون عونا للرسول و حثا على القبول
بشارة لهاجر عن بعثة النبي :
فمن ذلك بشائر موسى عليه السلام في التوراة : فأولها في الفصل التاسع من السفر الأول
لما هربت هاجر من سارة تراءى ملك و قال : يا هاجر أمة سارة ارجعي إلى سيدتك فاخضعي لها فإن الله سيكثر زرعك و ذريتك حتى لا يحصون كثرة و ها أنت تحبلين و تلدين ابنا و تسمينه إسماعيل لأن الله تعالى قد سمع خشوعك و هو يكون عين الناس و تكون يده فوق الجميع مبسوطة إليه بالخضوع و هذا لم يكن في ولد إسماعيل إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم لأنهم كانوا قبله مقهورين فصاروا به قاهرين
بشارة لإبراهيم عليه السلام :
و منها قوله في هذا السفر لإبراهيم حين دعاه في إسماعيل و باركت عليه و كثرته و عظمته جدا جدا و سيلد اثني عشر عظيما و أجعله لأمة عظيمة و ليس في ولد إسماعيل من جعله لأمة عظيمة غير محمد صلى الله تعالى عليه و سلم
بشارة لموسى عليه السلام :
و منها في الفصل الحادي عشر من السفر الخامس عن موسى عليه السلام : [ إن الرب إلهكم قال : إني أقيم لهم نبيا مثلك من بين إخوتهم أجعل كلامي على فمه فأيما رجل لم يسمع كلماتي التي يؤديها عني ذلك الرجل باسمي فأنا أنتقم منه ]
و معلوم أن أخا بني إسرائيل هم بنو إسماعيل و ليس منهم من ظهر كلام الله تعالى على فمه غير محمد صلى الله تعالى عليه و سلم
بشارة أخرى من موسى عليه السلام :
و منها في الفصل العشرين من هذا السفر [ إن الرب جاء من طور سيناء و أشرق من ساعير و استعلى من جبال فاران و معه عن يمينه ربوات جيش القديسين فمنحهم إلى الشعوب و دعا لجميع قديسيه بالبركة ]
فمجيء الله تعالى من طور سيناء و هو إنزاله التوراة على موسى و إشراقه من ساعير إنزاله الإنجيل على عيسى لأنه كان سكن ساعير أرض الخليل في قرية ناصرة و استعلاؤه من جبال فاران إنزاله القرآن على محمد صلى الله تعالى عليه و سلم و فاران هي جبال مكة في قول الجميع فإن ناكروا كان دفعا لما في التوراة و لأنه لم يستعل الدين كاستعلائه منها فاندفع الإنكار بالعيان
بشائر الأنبياء :
فصل من البشائر به : كان بين موسى و عيسى من الأنبياء الذين أتوا الكتاب باتفاق أهل الكتابين عليهم ستة عشر نبيا ظهرت كتبهم في بني إسرائيل فبشر كثير منهم بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه و سلم
التوراة تتحدث عن مكة :
فمنهم شعيا بن أموص قال في الفصل الثاني و العشرين قومي فأزهري مصباحك يعني مكة فقد دنا وقتك و كرامة الله طالعة عليه فقد تجلل الأرض الظلام و غطى على الأمم الضباب و الرب يشرق عليك إشراقا و يظهر كرامته عليك فتسير الأمم إلى نورك و الملوك إلى ضوء طلوعك ارفعي بصرك إلى ما حولك و تأملي فإنهم يستجمعون عندك و يحجونك و يأتيك ولدك من بلد بعيد و تسرين و تبتهجين من أنه يميل إليك ذخائر البحر و يحج إليك عساكر الأمم حتى تغمرك الإبل المؤبلة و تضيق أرضك عن القطرات التي تجمع إليك و يساق إليك كباش مدين و يأتيك أهل سبأ يحدثون بنعم الله و يمجدونه و تسير إليك أغنام قاذار يعني غنم العرب لأنه من ولد قاذار بن إسماعيل و يرتفع إلى مديحي ما يرضينني و أحدث حينئذ لبيت محمدتي حمدا و هذه الصفات كلها موجودة بمكة فكان ما دعا إليها و هو الحق و من قام بها هو المحق
و في فصل آخر من كتابه : قال لي الرب فامض فأقم على المنظرة تخبرك بما ترى فرأى راكبين أحدهما راكب حمارا يعني عيسى و الآخر راكب جملا يعني محمدا فبينما هو كذلك إذ أقبل أحد الراكبين و هو يقول : هوت بابل و تكسرت آلهتها المنجورة على الأرض فهذا الذي سمعت الرب إله إسرائيل قد أنبأتكم
التوارة تتحدث عن الحجاز :
و في الفصل السادس عشر منه لتفرح أرض العطشى بمنتهج البراري و العلوات و لتسر و تزهو مثل الوعل فإنها ستعطى بأحمد محاسن لبنان و يكمل حسن الدساكر و الرياض و سترون جلال الله تعالى بها قال شعيا و سلطانه على كتفه يريد : علامة نبوته على كفته و هذه صفة محمد صلى الله عليه و سلم و بادية الحجاز
و في الفصل التاسع عشر منه : هتف هاتف من البدو فقال خلو الطريق للرب و سهلوا سبيل القفر فستمتلئ الأودية مياها و تفيض فيضا و تنخفض الجبال و الروابي انخفاضا و تصير الآكام دكا دكا و الأرض الورعة مذللة ملسا و تظهر كرامات الرب و يراها كل أحد
و في الفصل العشرين منه و هو مذكور في ثلاث و خمسين و مائة من مزامير داود لترتاح البوادي و قراها و لتصير الأرض قاذار مؤوجا و يسيح سكان الكهوف و ليهتفوا من قلال الجبال بحمد الرب و ليرفعوا تسابيحه فإن الرب يأتي كالجبار الملتضي المتكبر و هو يزجر و يقتل أعداءه و أرض قاذار هي أرض العرب لأنهم ولد قاذار و المروج ما صار حول مكة من النخل و الشجر و العيون
و في الفصل الحادي و العشرين منه أيضا إن الضعفاء و المساكين يستسقون ماء و لا ماء لهم فقد جفت ألسنتهم من الظمأ و أنا الرب أجيب يومئذ دعوتهم و لن أهملهم بل أفجر لهم في الجبال الأنهار و أجري بين القفار العيون و أحدث في البدو أجساما و أجري في الأرض العطشى ماء معينا و أنبت في البلاقع القفار الصنوبر و الآس و الزيتون و أغرس في القاع الصفصف البر ليروها جميعا ثم يتدبروا و يعلموا أن يد الله صنعت ذلك و قدوس إسرائيل ابتدعه و هذه صفات بلاد العرب فيما أحدث الله تعالى لهم فيها بإسلامهم
بشائر نوال بن نوتال :
فصل من بشائر نوال بن نوتال من أنبياء بني إسرائيل : مثل الصبح المسلط على الجبال شعب عظيم عزيز لم يكن مثله قط و لا يكون بعده مثله إلى أبد الأبد أمامه نار تتأجج و خلفه لهيب و تلتهب الأرض بين يديه مثل فردوس عدن فإذا جاز فيها و عبرها تركها برية خاوية رؤيته كرؤية الجبل رجالته فر سراع مثل الفرسان أصواتهم كصوت لهب النار الذي يحرق الهشيم رجفت الأرض أمامهم و تزعزعت السماء و أظلمت الشمس و غاب نور النجوم و الرب أسمع صوتا بين يدي أجناده لأن عسكره كثير جدا و عمل قوله عزيز لأن نور الرب عظيم مرهوب جدا و هذا نعت رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم
من بشائر عويديا :
فصل من بشائر عويديا من أنبياء بني إسرائيل : و في كتابه : قد سمعنا خبرا من قبل الرب و أرسل رسولا إلى الشعوب ثم يتقدم إليه بالحرب أيها الساكن في بحر الكهف و محله في الموضع الأعلى لأن يوم الرب قريب من جميع الشعوب فهذا مرموز في نبوته
من بشائر ميخاء
من أنبياء بني إسرائيل في كتابه : فأما الآن فسيتسلم إلى الوقت الذي تلد فيه الوالدة و يقوم فيرعاهم يعني الرب و بكرامة اسم الله ربه و يقبلون بهم إلى من سيعظم سلطانه إلى أقطار الأرض و يكون على عهد الإسلام
من بشائر حبقو ق :
فصل من بشائر حبقوق من أنبياء بني إسرائيل : جاء الله من طور سيناء و استعلن القدوس من جبال فاران و انكسفت لبهاء محمد و انخسفت من شعاع المحمود و امتلأت الأرض من محامده لأن شعاع منظره مثل النور يحفظ بلده بعده و تسير المنايا أمامه و تصحب سباعؤ الطير أجناده قام فمسح الأرض و قابل الأمم و بحث عنهم فتصفصفت الجبال القديمة و اتضعت الروابي الدهرية و تزعزع سور أرض مدين و لقد جاز المساعي القديمة قطع الرأس من حب الأثيم و دمغت رؤوس سلاطينه بعضبه و معلوم أن محمدا و أحمد و محمودا صريح في اسمه و هما يتوجهان إلى من انطلق عليه اسم المحمد و هو بالسرياينة موشيحا أي محمد و محمود و لهذا إذا أراد السرياني أن يحمد الله تعالى قال : شريحا لإلهنا
من بشائر حزقيال :
فصل من بشائر حزقيال من أنبياء بني إسرائيل : في كتابه [ إن الذي يظهر من البادية فيكون فيه حتف اليهود كالكرمة أخرجت ثمارها و أغصانها عن مياه كثيرة و تفرعت منها أغصان مشرقة على أغصان الأكابر و السادات و بسقت فلم تلبث نار فأكلتها فكذلك غرس غرس في البدو و في الأرض المهملة المعطلة العطشى و خرج من أغصانه الفاضلة نار فأكلت ثمار تلك حتى لم يبق منها عصا قوية و لا قضيب ينهض بأمر السلطان ]
من بشائر يرصفينا :
فصل من بشائر يرصفينا من أنبياء بني إسرائيل : في كتابه أيها الناس ترجوا اليوم الذي أقوم فيه للشهادة فقد حان أن أظهر حكمي بحشر الأمم و جميع الملوك لأصب عليهم سخطي و تكبري هناك أجدد للأمم اللغة المختارة ليرفعوا اسم الرب جمعيا و ليعبدوه في ربقة واحدة معا و ليأتوا بالذبائح من مغارتها تكون و معلوم أن اللغة العربية هي المختارة لأنها طبقت الأرض و انتقلت أكثر اللغات إليها حتى صار ما عداها نادرا
من بشار زكريا :
فصل من بشائر زكريا بن يوحنا من أنبياء بني إسرائيل : في كتابه رجع الملك الذي ينطق على لساني و أيقظني كالرجل الذي يستيقظ من نومه و قال لي ما الذي رأيت فقلت منارة من ذهب و كفة على رأسها و أريت على الكفة سبعة سرج لكل سراج منها سبعة أفواه و فوق الكفة شجرتا زيتون إحداهما عن يمين الكفة و الأخرى عن يسارها فقلت للملك الذي ينطق على لساني ما هذه يا سيدي فرد الملك علي و قال لي أما تعلم ما هذه ؟ فقلت ما أعلم فقال لي هذا قول الرب في زربايال يعني محمدا و هو يدعى باسمي و أنا أستجيب له للنصح و التطهير و أصرف عن الأرض أنبياء الزور و الأرواح النجسة لا بقوة و لا بعز و لكن بروحي بقول الرب القوي و يعني بشجرتي الزيتون الدين و الملك و زربايال هو محمد صلى الله تعالى عليه و سلم
من بشائر دانيال :
فصل من بشائر دانيال من أنبياء بني إسرائيل : في كتابه : رأيت على سحاب السماء المسمى كهيئة إنسان جاء فانتهى إلى عتيق الإمام و قدموه بين يديه فحوله الملك و السلطان و الكرامة أن تعبد له جميع الشعوب و الأمم و اللغات سلطانه دائم إلى الأبد له يتعبد كل سلطان و يمضي ألفان و ثلثمائة ينقضي عقاب الذنوب يقوم ملك منيع الوجه في سلطانه عزيز القوة لا تكون عزته تلك بقوة نفسه و ينجح فيما يريد و يجوز في شعب الأطهار و يهلك الأعزاء و يؤتى بالحق الذي لم يزل قبل العالمين و في هذا دليل على أمرين أحدهما صدق الخبر لوجوده على حقه و الثاني صحة نبوته لظهور الخبر في صحته
من بشائر رؤيا بختنصر :
فصل من بشائره في رؤيا بختنصر : و هو أن بختنصر رأى في السنة الثانية من ملكه رؤيا ارتاع منها و نسيها فأحضر من في ممالكه من الكهنة و المنجمين و كان قد ملك الأقاليم السبعة و سألهم عن الرؤيا و تأويلهم فقالوا له اذكروا لنا حتى نذكر تأويلها لك فأمر بقتلهم إن لم يذكروها و تأويلها و كان دانيال النبي قد سباه من اليهود فاستمهل في أمرهم و رغب إلى الله تعالى في اطلاعه على الرؤيا و تأويلها فأطلعه الله تعالى على ذلك فأتى بختنصر و قال : أيها الملك إنك كلفت هؤلاء ما لا يعلمه إلا الله و قد رغبت إليه فأطلعني عليه و رؤياك التي رأيتها أن قلبك جاش و اختلج بما يحدث بعدك في آخر الزمان فعرفك مبدي السرائر ما يكون إنك أبها الملك رأيت صنما عظيما قائما قبالتك له منظر رائع رأسه من الذهب الأبريز و صدره و ذراعاه من فضة و فخذاه من نحاس و ساقاه من حديد و بعض رجليه من حديد و بعضها من خزف و رأيت حجرا انقطع من جبل عظيم بغير يد إنسان فضرب ذلك الصنم فهشمه حتى صار جبلا عظيما امتلأت منه الأرض كلها فهذه الرؤيا و أنا معبرها أما الصنم فهو الملوك فأنت الرأس الذهب و يقوم من بعدك من هو دونك ألين منك فأما المملكة الثالثة التي هي مثل النحاس فتسلط على الأرض كلها و أما المملكة الرابعة التي هي مثل الحديد فتكون عزيزة كما أن الحديد يهشم الجميع فكذلك هذه تسحق و تغلب الكل و أما الأرجل و الأصابع التي رأيت أن منها من خزف الفخار و منها من حديد فإن المملكة تكون مختلفة و متفرقة يكون منها أصل من جوهر الحديد و خلط من خزف الفخار فيكون بعض المملكة قويا و بعضها واهيا كسيرا لا يأتلف بعضها ببعض كما لا يختلط الحديد بالخزف و أما الحجر الواقع من الجبل فإن إله السماء يرسل مملكة من عنده لأنه لم تقطع الحجر يد إنسان في زمان هذه الممالك يهلكها و يبقى إلى آخر الدهر و لا يكون لأمة أخرى مملكة و لا سلطان إلا دقه كما يدق الحجر الحديد و النحاس و الفضة و الذهب فعرفك الله العظيم ما يكون بعدك في آخر الأيام فهذا رؤياك و تأويلها
فخر بختنصر على وجهه ساجدا لدانيال و قال إن إلهكم هذا هو إله الآلهة و رب الأملاك حقا و هو مبدي السرائر و جعل دانيال رأسا مؤمرا على أرض بابل و معلوم أنه لم يرسل الله تعالى سلطانا أزال به الممالك و ملأ به الأرض و دام له الأمر إلا بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه و سلم
من بشائر أرميا :
فصل من بشائر أرميا بن برخنا من أنبياء بني إسرائيل في أيام بختنصر : لما قتل أهل الرس نبيهم قال ابن عباس أمر الله تعالى أن يأمر بختنصر أن يغزو العرب الذين لا إغلاق لبيوتهم فيقتلهم بما صنعوا بنبيهم فأمره بذلك فدخل بختنصر بلاد العرب فقتل و سبى حتى انتهى إلى تهامة فأتى بمعد بن عدنان فأمر بقتله فقال له النبي لا تفعل فإن في صلب هذا نبيا يبعث في آخر الزمان يختم الله به الأنبياء فخلى سبيله و حمله معه حتى أتى حصونا باليمن فهدمها و قتل أهلها و زوج معدا بأجمل امرأة منهم في زمانها و خلفه بتهامة حتى نسل بها قال ابن عباس و في ذلك نزل قوله تعالى : { وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين }
من بشائر داود في الزبور :
فصل من بشائر داود في الزبور : سبحان الذي هيكله الصالحون يفرح إسرائيل بخالقه و بيوت صيلون من أجل أن الله اصطفى له أمته و أعطاه النصر و سدد الصالحين منه بالكرامة يسبحون على مضاجعهم و يكبرون الله بأصوات مرتفعة بأيديهم سيوف ذوات شفرتين لينتقموا من الأمم الذين لا يعبدونه يوثقون ملوكهم بالقيود و أشرافهم بالأغلال و معلوم أن سيوف العرب هي ذوات الشفرتين و محمد هو المنتقم بها من الأمم
و فيه [ أن الله أظهر من صيقون إكليلا محمودا ] و صيقون العرب و الإكليل النبوة و محمود هو محمد صلى الله تعالى عليه و سلم
و في مزمور آخر منه : [ أنه يجوز من بحر إلى بحر و من لدن الأنهار إلى الأنهار إلى منقطع الأرض و أن تخر أهل الجزائر بين يديه على ركبهم و تلحس أعداؤه التراب تأتيه الملوك بالقرابين و تسجد و تدين له الأمم بالطاعة و الانقياد لأنه يخلص المضطهد البائس ممن هو أقوى منه و ينقذ الضعيف الذي لا ناصر له و يرأف بالضعفاء و المساكين و أنه يعطي من ذهب بلاد سبأ و نصلي عليه في كل وقت و يبارك عليه في كل يوم و يدوم ذكره إلى الأبد ] و معلوم أنه لم يكن هذا إلا لمحمد صلى الله تعالى عليه و سلم
و في [ مزمور آخر ] قال داود : [ اللهم ابعث جاعل السنة حتى يعلم الناس أنه بشر ] أي ابعث نبيا يعلم الناس أن المسيح بشر لعلم داود أن قوما سيدعون في المسيح ما ادعوه و هذا هو محمد صلى الله تعالى عليه و سلم
من بشائر المسيح في الإنجيل :
فصل من بشائر المسيح به في الإنجيل : قال المسيح عليه السلام للحواريين : [ أنا ذاهب و سيأتيكم البارقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه إلا كما يقال له و هو يشهد علي و أنتم تشهدون لأنكم معي من قبل الناس و كل شيء أعده الله لكم يخبركم به ] و في نقل يوحنا عنه : [ إن البارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب فإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة و لا يقول من تلقاء نفسه شيئا و لكنه مما يسمع به يكلمكم و يسوسكم بالحق و يخبركم بالحوادث و الغيوب ]
من هو البارقليط ؟
و في نقل آخر عنه [ إن البارقليط روح الحق الذي يرسله باسمي هو يعلمكم كل شيء إني سائل أن يبعث إليكم بارقليط آخر يكون معكم إلى الأبد و هو يعلمكم كل شيء ]
و في نقل آخر عنه : [ إن البشيرذاهب و البارقليط بعده يحيى لكم الأسرار و يقيم لكم كل شيء و هو يشهد لي كما شهدت له فإني لأجيئكم بالأمثال و هو يأتيكم بالتأويل ] و البارقليط بلغتهم لفظ من الحمد و قد قال النبي صلى الله تعالى عليه و سلم و أنا أحمد و أنا محمود و أنا محمد
بشائر الأنبياء تثبت نبوة محمد صلى الله عليه و سلم :
فهذه من بشائر الأنبياء عن الكتب الإلهية المتناصرة بصحة نبوته المتواترة الأخبار بانتشار دعوته و تأييد شريعته و لعل ما لم يصل إلينا منها أكثر فمنهم من عينه باسمه و منهم من ذكره بصفته و منهم من عزاه إلى قومه و منهم من أضافه إلى بلده و منهم من خصه بأفعاله و منهم من ميزه بظهوره و انتشاره و قد حقق الله جميعها فيه حتى صار جليا بعد الاحتمال و يقينا بعد الارتياب
رد مزاعم مفتراة عن النبي عليه السلام :
فإن قيل : مجيء الأنبياء موضوع لمصالح العالم و هم مأمورن بالرأفة و الرحمة و محمد جاء بالسيف و سفك الدماء و قتل النفوس فصار منافيا لما جاء به موسى و عيسى فزال عن حكمهما في النبوة لمخالفتهما في السيرة فعنه ثلاثة أجوبة :
أحدها : أن الله تعالى بعث إلى كل نبي بحسب زمانه فمنهم من بعثه بالسيف لأن السيف أنجع و منهم من بعثه باللطف لأن اللطف أنفع كما خالف بين معجزاتهم بحسب أزمانهم فبعث موسى بالعصا في زمان السحر و بعث عيسى بإحياء الموتى في زمان الطب و بعث محمدا بالقرآن في زمان الفصاحة لأن الناس في بدء أمرهم يتعاطفون مع القلة ثم يتنافرون و يتحاسدون مع الكثرة و لذلك قال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : [ نجا أول هذه الأمة باليقين و الزهد و يهلك آخرها بالبخل و الأمل ]
و الجواب الثاني : أن السيف إذا كان لطلب الحق كان خيرا و اللطف إذا كان مع إقرار الباطل كان شرا لأن الشرع موضوع لإقرار الفضائل الإلهية و الحقوق الدينية و لذلك جاء الشرع بالقتل و الحدود ليستقر به الخير و ينتفي به الشر لأن النفوس الأشرة لا يكفها إلا الرهبة فكان القهر أبلغ في انقيادها من الرغبة و كانت العرب أكثر الناس شرا و عتوا لكثرة عددهم و قوة شجاعتهم فلذلك كان السيف فيهم أنفع من اللطف
و الجواب الثالث : أنه لم يكن في جهاده بالسيف بدعا من الرسل و لا أول من أثخن في أعداء الله تعالى و قبل هذا إبراهيم عليه السلام جاهد الملوك الأربعة الذين ساروا إلى بلاد الجزيرة للغارة على أهلها و حاربهم حتى هزمهم بأحزابه و أتباعه
و هذا يوشع بن نون قتل نيفا و ثلاثين ملكا من ملوك الشام و أباد من مدنها ما لم يبق له أثر و لا من أهلها صافر من غير أن يدعوهم إلى دين أو يطلب منهم أتاوة و ساق الغنائم
و غزا داود من بلاد الشام ما لم يدع فيها رجلا و لا امرأة إلا قتلهم و هو موجود في كتبهم و محمد صلى الله تعالى عليه و سلم بدأ بالاستدعاء و حارب بعد الإباء
لم يكن النبي شديدا إلا في الحق :
و روى ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : ما رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم منتصرا من مظلمة ظلمها قط ما لم ينتهك من محارم الله تعالى شيء فإذا انتهك من محارم الله تعالى شيء كان أشدهم في ذلك غضبا و ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن مأثما
و قد كان صلى الله تعالى عليه و سلم أحث الناس على الصفح و التعاطف روى أسيد بن عبد الرحمن [ عن فروة بن مجاهد عن عقبة بن عامر قال : لقيت رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فقال لي يا عقبة : صل من قطعك و أعط من حرمك و اعف عمن ظلمك فهل يكون أحنى على الخلق ممن يأمرهم بمثل هذا ؟ و إنما تطلبت الملحدة بمثل هذا الاعتراض القدح في النبوات فإنهم لم يعفوا نبيا من القدح في معجزاته و الطعن على سيرته حتى قال منهم في عصرنا ما طعن به موسى و عيسى و محمد صلى الله تعالى عليه و سلم بشعر نظمه فقال :
( و فالق البحر لم يفلق جوانبه ... إذا ضاع فيه ضياع الحر في السفل )
( و مدع يدعي الأشياء خلقته ... ما باله زال و الأشياء لم تزل )
( و آخر يدعي بالسيف حجته ... هل حجه السيف إلا حجة البطل ) ]
شاعر يرد على خصوم النبي :
فحضرني حين وردت هذه الأبيات إلى بعض أهل العلم فأجاب عنها فقال :
( قل للذي جاء بالتكذيب للرسل و رد معجزهم بالزيغ و الدغل )
( و قال في ذاك أبياتا مزخرفة ليوقع الناس في شك من الملل )
( ضياع موسى دليل من أدلتهمن بعد ما صار فرق البحر كالجبل )
( ليعلم الناس ان الله فالقه ... و أن موسى ضعيف تاه في السبل )
( و المعجز الحق في فلق المياه له و جعله البر ما يحتاط بالحيل )
( و ابن البتول فإن الله نزهه عما ذكرت من الدعوى على الجمل )
( ما كان منه سوى طير يقدره طينا و ربي أحياه و لم يزل )
( و قال إني بإذن الله فاعله و إذن ربي يحيى الخلق لا عملي )
( و صاحب السيف كان السيف حجته ... بعد البيان عن الإعجاز و المثل )
( و جاء مبتديا بالنصح مجتهدا بمعجزات لها حارت أولو النحل )
( منها كتاب مبين نظمه عجب فيه من الغيب ما أوحي إلى الرسل )
( فأفحم الشعراء المفلقين به لما تحداهم بالرفق في مهل )
( و أنبع الماء عذبا من أنامله من غير ما صخرة كانت و لا وشل )
( و شارف القوم وافاه و كلمه و قال إني من قتلي على وجل )
( و الذئب قد أخبر الراعي بمبعثه فجاء يشهد بالإسلام في عجل )
( و الجذع حن إليه حين فارقه حنين ذات جؤار ساعة الهبل )
( و أخبر الناس عما في ضمائرهم مفصلا بجواب غير محتمل )
( و نبأ الروم عن نصر يكون لها من بعد سبعة أعوام على جدل )
( و الفرس أخبرها عن قتل صاحبها ... برويز إذ جاءه فيروز في شغل )
( و إن تقصيت ما جاء النبي به طال النشيد و لم آمن من الملل ) (1/171)
الباب السادس عشر ـ في هتوف الجن بنبوته صلى الله تعالى عليه و سلم
من هم الجن ؟
و الجن من العالم الناطق المميز يأكلون و يتناكحون و يتناسلون و يموتون و أشخاصهم محجوبة عن الأبصار و إن تميزوا بأفعال و آثار إلا أن يخص الله تعالى برؤيتهم من يشاء و إنما عرفهم الإنس من الكتب الإلهية و ما تخيلوه من آثارهم الخفية قال الله تعالى فيما وصفه من إنشاء الخلق : { ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون * والجان خلقناه من قبل من نار السموم } يريد بقوله : { لقد خلقنا الإنسان من صلصال } آدم أبا البشر عليه السلام
خلق الإنسان و خلق الجان :
و في الصلصال و جهان أحدهما : أنه الطين النابت و الثاني : أنه الطين الذي تسمه النار و الحمأ جمع حمأة و فيها وجهان أحدهما : أنه المنصوب القائم فيكون صفة للإنسان و الثاني : أنه المنسوب فيكون تمييزا للجنس و قوله : { والجان خلقناه من قبل } يعني من قبل آدم لأن آدم خلق آخر الخلق
و في الجان وجهان أحدهما : أنه إبليس و الثاني : انه أبو الجن فآدم أبو البشر و الجان أبو الجن و إبليس أبو الشياطين
و في قوله : { من نار السموم } وجهان أحدهما : من نار الشمس و الثاني : نار الصاعق بين السماء و بين حجاب دونها فلم يختلفوا في أن الجن يتناسلون و يموتون و منهم مؤمن و منهم كافر
و اختلف في الشياطين فزعم قوم أنهم كفار الجن يتناسلون و يموتون و زعم آخرون أنهم غير الجن و أنهم من ولد إبليس
و اختلف من قال بهذا في تناسلهم و موتهم فذهب فريق إلى أنهم يتناسلون و يموتون و ذهب آخرون إلى أنهم كإبليس لا يموتون إلا معه و أن تناسلهم انقطع بإنظار إبليس إلى يوم يبعثون
فإن أنكر قوم خلق الجن و لم يؤمنوا بالكتب الإلهية قهرتهم براهين العقول و حجج القياس لأن الله تعالى أنشأ خلق العالم من أربعة أجرام جعلها أصولا لما خلق من العالم الحي و هي الأرض و الماء و الهواء و النار
و العالم نوعان اتفاقا : علوي و سفلي فالعالم السفلي نوعان خلقهما من جرمين أحدهما : من الأرض و هو ما عليها من الحيوان و الثاني : من الماء و هو ما فيه من السموك و هما هابطان لهبوط الأرض و الماء و ظاهران لظهور أصلهما و استمر القياس فيهما
و بقي العالم العلوي جرمان : الهواء و النار و قد استقر خلق الملائكة من الهواء فاقتضى معقول القياس أن يكون خلق الجن من النار لتكون الأجرام الأربعة أصولا لخلق أجناس أربعة و لعلو الهواء كان عالمه من الملائكة علويا و لخفائه كان خفيا لا يهبط إلا عن أمر إلهي و لا يعاين إلا بمعونة إلهية و لعلو النار في أصل هابط كان لعالمه من الجن علو و هبوط و لخفاء كمونها خفي عالمها عن العيان إلا بمعونة إلهية فصار أصلان من الأربعة محسوسين بالعيان و هما على الأرض و في الماء و أصلان معقولين بالقياس و هما الملائكة و الجن و لو لا أن دافع ذلك عادل عن الدلائل الشرعية لما عدلنا عنها إلى هذا الاستدلال الخارج عن البراهين الشرعية
الجان مكلفون :
فإذا ثبت خلق الجان بما دللنا عليه من شرع و معقول فهم مكلفون لأن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم تحداهم بالقرآن بقوله تعالى : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } و قال تعالى : { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن }
و في صرفهم وجهان أحدهما : أنهم صرفوا عن استراق سمع السماء برجوم الشهب و لم يصرفوا عنه بعد عيسى إلا بعد بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فقالوا : ما هذا الحادث في السماء إلا لحادث في الأرض علموا به تجديد النبوة فجابوا الأرض حتى وقفوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم ببطن مكة عامدا إلى عكاظ و هو يصلي الفجر فاستمعوا القرآن و رأوه كيف يصلي و يقتدي به أصحابه فعلموا أنه لهذا الحادث صرفوا عن استراق السمع برجوم الشهب و هذا قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه
السورة التي استمع لها الجن :
و حكى عكرمة أن السورة التي كان يقرأها : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } و الوجه الثاني : أنهم صرفوا عن بلادهم بالتوفيق هداية من الله تعالى حتى أتوا نبي الله ببطن نخلة فنزل عليه جبريل بهذه الآية و أخبره بوفود الجن و أمره بالخروج إليهم فخرج و معه ابن مسعود حتى جاء الحجون عند شعب أبي ذر قال ابن مسعود فخط على خطا و قال لا تجاوزه و مضى إلى الحجون فانحدروا عليه أمثال الحجل حتى لم أره فعلى الوجه الأول لم يعلم بهم حتى أتوه و على الوجه الثاني أعلمه جبريل قبل إتيانهم و اختلف أهل العلم في رؤيته لهم و قراءته عليهم
فحكى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يرهم و لم يقرأ عليهم و إنما سمعوا قراءته حين مروا به مصليا
و حكى عن ابن مسعود أنه رآهم و قرأ عليهم القرآن و في قوله : { فلما حضروه قالوا أنصتوا } و جهان : أحدهما فلما حضروا قراءته القرآن قالوا : أنصتوا لسماعه
و الوجه الثاني : فلما حضروا رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم قالوا أنصتوا لسماع قوله فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين و فيه وجهان :
أحدهما : فلما فرغ من الصلاة ولوا إلى قومهم منذرين به
و الثاني : لما فرغ من قراءته القرآن ولوا إلى قومهم منذرين و قالوا ما حكاه الله تعالى عنهم { إنا سمعنا قرآنا عجبا } في فصاحته و بلاغته و الثاني عجبا في حسن مواعظه
النبي كان عام الرسالة :
و في قوله { يهدي إلى الرشد فآمنا به } وجهان : أحدهما إلى مراشد الأمور و الثاني إلى معرفة الله تعالى فثبت أن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم كان عام الرسالة إلى الإنس و الجن فلم يختلف أهل العلم أنه يجوز أن يبعث إليه رسولا من الإنس
و اختلفوا في جواز بعثة رسول منهم فجوزه قوم لقول الله تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } و منع آخرون منه و هذا قول من جعلهم من ولد إبليس و حملوا قوله : { ألم يأتكم رسل منكم } على الذين لما سمعوا القرآن ولوا إلى قومهم منذرين
فأما كفارهم فيدخلون النار و أما مؤمنوهم فقد اختلفوا في دخولهم الجنة و حكى سفيان عن ليث أنهم يثابون بها الإيمان بأن يجازوا على النار خلاصا منها ثم يقال لهم كونوا ترابا كالبهائم
استراق الجن للسمع في السماء :
فأما استراقهم للسمع فقد كانوا في الجاهلية قبل بعث الرسول يسترقونه و لذلك كانت الكهانة في الإنس لإلقاء الجن إليهم ما استرقوه من السمع في مقاعد كانت لهم يقربون فيها من السماء كما قال الله تعالى : { وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع } ليستمعوا من الملائكة أخبار السماء فيلقونها إلى الكهنة : { فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا } يعني بالشهب الكواكب المحرقة و بالرصد الملائكة
فأما استراقهم للسمع بعد بعث الرسول فقد اختلف فيه أهل العلم على قولين : أحدهما : أنه زال استراقهم للسمع و لذلك زالت الكهانة و الثاني : أن استراقهم باق بعد بعث الرسول و كان قبل الرسول لا تأخذهم الشهب لقول الله تعالى : { فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا } و الذي يستمعونه أخبار الأرض دون الوحي لأن الله تعالى قد حفظ وحيه منهم لقوله تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } و اختلف على هذا في أخذ الشهب لهم هل يكون قبل استراقهم للسمع أو بعده فذهب بعض أهل العلم إلى أن الشهب تأخذهم قبل استراق السمع حتى لا يصل إليهم لانقطاع الكهانة بهم و تكون الشهب منعا عن استراقه
الشهب تأخذ المسترقين للسمع :
و ذهب آخرون منهم إلى أن الشهب تأخذهم بعد استراقه و تكون الشهب عقابا على استراقه و فيها إذا أخذتهم قولان أحدهما : أنها تقتلهم و لذلك انقطعت الكهانة بهم و الثاني : أنها تجرح و تحرق و لا تقتل و لذلك عادوا لاستراقه بعد الاحتراق و لولا بقاؤهم لانقطع الاستراق بعد الاحتراق و يكون ما يلقونه من السمع إلى الجن دون الإنس لانقطاع الكهانة عن الإنس و في الشهاب الذي يأخذهم قولان : أحدهما : أنه نور يمتد لشدة ضيائه ثم يعود و القول الثاني : أنه نار تحرقهم و لا تعود فهذا خطب الجن فيما هم عليه من نعت و حكم
هتوف الجن برسول الله :
فأما هتوفهم برسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فهو من آيات نبوته فإن كان قبل مبعثه كان من نذر آياته الصادرة عن إلهام فمن هتوفهم بنبوته ما حكاه إبراهيم بن سلامة عن إسماعيل بن زياد عن ابن جريج عن ابن العباس رضي الله عنهما أنه كان يحدث عن رجل من خثعم قال : كانت خثعم لا تحل حلالا و لا تحرم حراما و كانت تعبد أصناما فبينا نحن عند صنم منها ذات ليلة نتقاضى إليه في أمر قد شجر بيننا إذ صاح من جوف الصنم صائح يقول :
( يا أيها الركب ذوو الأحكام ... ما أنتم وطائش الأحلام )
( و مسندو الحكم إلى الأصنام )
( هذا نبي سيد الأنام ... يصدع بالحق و بالإسلام )
( أعدل ذي حكم من الأحكام )
( و يتبع النور على الإظلام ... سيعلن في البلد الحرام )
( قد طهر الناس من الآثام )
قال الخثعمي ففزعنا منه و خرجت إلى مكة و أسلمت مع النبي صلى الله تعالى عليه و سلم
قصة سواد بن قارب مع رئيه من الجن :
و من بشائر هتوفهم : ما رواه عثمان بن عبد الرحمن عن محمد بن كعب قال : بينما عمر بن الخطاب رضوان الله عليه ذات يوم جالسا إذ مر به رجل فقيل له : اتعرف هذا المار يا أمير المؤمنين ؟ قال : و من هو ؟ قالوا : هذا سواد بن قارب من أهل اليمن و كان له رئي من الجن فأرسل إليه عمر فقال : أنت سواد بن قارب ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين فقال : أنت الذي أتاك رئيك بظهور النبي صلى الله تعالى عليه و سلم ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين بينا أنا ذات ليلة بين النائم و اليقظان إذ أتاني رئي من الجن فضربني برجله و قال : قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالي واعقل إن كنت تعقل إنه قد بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم من لؤي بن غالب يدعوا إلى الله تعالى و إلى عبادته و أنشأ يقول :
( عجبت للجن و تطلابها ... و شدها العيس بأقتابها )
( تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما صادق الجن ككذابها )
( فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس قدامها كأذنابها )
فقلت له : دعني فإني أمسيت ناعسا و لم أرفع بما قال رأسا
فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله و قال : قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي و اعقل إن كنت تعقل إنه قد بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم من لؤي بن غالب يدعوا إلى الله تعالى و إلى عبادته و أنشأ يقول :
( عجبت للجن و تخبارها ... و شدها العيس بأكوارها )
( تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنو الجن ككفارها )
( فارحل إلى الصفوة من هاشم ... بين روابيها و أحجارها )
فقلت دعني فقد أمسيت ناعسا و لم أرفع بما قال رأسا
فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله و قال قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي و اعقل إن كنت تعقل قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعوا إلى الله تعالى و إلى عبادته و أنشأ يقول :
( عجبت للجن و تجساسها ... و شدها العيس بأحلاسها )
( تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما خير الجن كأنجاسها )
( فارحل إلى الصفوة من هاشم ... و اسم بعينيك إلى رأسها )
قال فأصبحت و قد امتحن الله تعالى قلبي للإسلام فرحلت ناقتي و أتيت المدينة فإذا رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و أصحابه فقلت : اسمع مقالتي يا رسول الله قال هات فأنشأت :
( أتاني نجي بين هدو و رقدة ... و لم أك فيما قد نجوت بكاذب )
( ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك رسول من لؤي بن غالب )
( فشمرت من ذيل الإزار و وسطت ... بي الذعلب الوجناء بين السباسب )
( فأشهد أن الله لا شيء غيره ... و أنك مأمون على كل غائب )
( و أنك أدنى المرسلين وسيلة ... إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب )
( فمرنا بما يأتيك يا خير من مشى ... و إن كان فيما جاء شيب الذوائب )
( و كن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب )
ففرح رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و أصحابه بمقالتي فرحا شديدا حتى رؤي الفرح في وجوههم قال فوثب إليه عمر فالتزمه و قال : قد كنت أحب أن أسمع منك هذا الحديث فهل يأتيك رئيك اليوم فقال : منذ قرأت القرآن فلا و نعم العوض كتاب الله من الجن
من بشائر هتوف الجن :
و من بشائر هتوفهم : ما رواه إبراهيم بن سلامة عن إسماعيل بن زياد عن ابن جريج عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب حدث يوما في مجلس بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فقال : خرجنا قبل مظهر النبي صلى الله تعالى عليه و سلم بشهرين إلى الأبطح بمكة معنا عجل نريد ذبحه و نحن نفر فلما ذبحناه و تصاب دمه و مات إذ صاح من جوفه صائح يا زريح يا زريح صائح يصيح بصوت فصيح نبي يظهر الحق يفيح يقول لا إله إلا الله
فصاح كذلك ثلاث مرات ثم هدأ صوته و تفرقنا و رعبنا منه فلم يلبث النبي صلى الله تعالى عليه و سلم أن ظهر
فقال رجل من القوم : لا تعجب يا أمير المؤمنين خرجت و أصحاب لي في تجارة لنا و نحن أربعة نفر نريد الشام حتى إذا كنا ببعض أودية الشام قرمنا إلى اللحم قرما شديدا قبل مظهر النبي صلى الله تعالى عليه و سلم فإذا بظبية قد عرضت لنا مكسورة القرن فلم نزل بها حتى أخذناها قال : فو الله إننا نتآمر بذبحها إذ هتف هاتف فقال :
( يا أيها الركب السراع الأربعة ... خلوا سبيل الظبية المروعة )
( فإنها لطفلة ذات دعة ... خلوا عن العضبان فقدامي سعة )
ثم قال خلوا عنها فو الله لقد رأيت هذا الوادي و ما يمر فيه أقل من خمسين رجلا حتى كنتم به قال فأرسلناها فلما أمسينا أخذ بأزمة رواحلنا حتى أتى بنا إلى حاضر لجب كثير الأهل فأطعمنا من الثريد ما أذهب قرمنا ثم خرجنا حتى قضى الله تجارتنا فصحبنا رجل من يهود فلما كنا بذلك الوادي هتف هاتف فقال :
( إياك لا تعجل و خذها موبقه ... فإن شر السير سير الحقحقه )
( قد لاح نجم فاستوى في مشرقه ... يكشف عن ظلما عبوس موبقه )
( يدعو إلى ظل جنان مونقه )
فقال اليهودي : ندرون ما يقول هذا الصارخ ؟ قلنا : ما يقول ؟ قال : يخبر أن نبيا قد ظهر خلافكم بمكة فقدمنا فوجدنا النبي صلى الله تعالى عليه و سلم بمكة
هاتف سمعته قريش :
و من بشارئر هتوفهم : ما حكاه أبو عيسى قال سمعت قريش في الليل هاتفا على أبي قبيس يقول :
( فإن يسلم السعدان يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف مخالف )
فلما أصبحوا قال أبو سفيان : من السعدان سعد بكر و سعد تميم ؟ فلما كان في اللية الثانية سمعوه يقول :
( أيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرا ... و يا سعد سعد الخزرجين الغطارف )
( أجيبا إلى داعي الهدى و تمنيا ... على الله في الفردوس منية عارف )
( فإن ثواب الله للطالب الهدى ... جنان من الفردوس ذات زخارف )
فلما أصبحوا قال أبو سفيان هما و الله سعد بن معاذ و سعد بن عبادة
و من بشائر هتوفهم : ما رواه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن أسماء بنت أبي بكر قالت : ما علم المشركون من أهل مكة أين توجه رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم حين هاجر إلى المدينة حتى هتف هاتف بعد ذلك بأيام فقال :
( جزى الله خيرا و الجزاء فريضة ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد )
( هما دخلاها بالهدى و اهتدى به ... فأفلح من أمسى رفيق محمد )
( ليهن بني كعب محل فتاتهم ... و مقعدها للمسلمين بمرصد )
و قالت أسماء ما علم المشركون من أهل مكة بوقعة بدر حتى هتف هاتف من جبال مكة و فتيان يشمرون بمكة فقال :
( أزال الحنيفيون بدرا بوقعة ... سينقض منها ملك كسرى و قيصرا )
( أصاب رجالا من لؤي و جردت ... حرائر يضربن الترائب حسرا )
( ألا ويح من أمسى عدو محمد ... لقد ذاق حزنا في الحياة و حسرا )
( و أصبح في هامي العجاج معفرا ... تناوبه الطير الجياع و تنقرا )
فعلموا بذلك و ظهر الخبر من الغد و لئن كانت هذه الهتوف أخبار آحاد عمن لا يرى شخصه و لا يحج قوله فخروجه عن العادة نذير و تأثيره في النفوس بشير و قد قبلها السامعون و قبول الأخبار يؤكد حجتها
هتوف الجن من البشائر :
فإن قيل : إن كانت هتوف الجن من دلائل النبوة جاز أن تكون دليلا على صحة الكهانة
فعنه جوابان أحدهما : أن دلائل النبوة غيرها و إنما هي من البشائر بها و فرق بين الدلالة و البشارة إخبارا و الثاني : أن الكهانة عن مغيب و البشارة عن معين فالعيان معلوم و الغائب موهوم (1/186)
الباب السابع عشر ـ فيما هجست به النفوس من إلهام العقول بنبوته عليه السلام
العقل إلهي ركبه الله تعالى في النفوس الناطقة فهو ينذر بالخواص الكائنة حدسا و يعلم بعد الوجود حسا فقل حادث إلا تقدم نذيره و بحسب خاطره يكون تأثيره و لا حادث أعظم مما جدده الله تعالى بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه و سلم فاقتضى أن تكون بشائر نبوته أشهر و شواهد آياته أظهر
هاجس كعب بن لؤي :
فمن الهواجس نبوته : أن كعب بن لؤي بن غالب كان يجمع إليه الناس في كل جمعة و كان يوم الجمعة و كان يخطب فيه الناس و يقول بعد خطبته : حرمكم عظموه و تمسكوا به فسيأتي له نبأ عظيم و سيخرج به النبي كريم و الله لو كنت فيه ذا سمع و بصر و يد و رجل لنصبت تنصب الخيل و لأرقلت إرقال الفحل ثم يقول :
( يا ليتني شاهد فحواء دعوته ... حين العشيرة تبغي الحق خذلانا )
هاجس أبو كريب الحميري :
و من هواجس الإلهام : ما حكاه ابن قتيبة أن أبا كريب بن أسعد الحميري آمن بالنبي صلى الله تعالى عليه و سلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة و قال :
( شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم )
( فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له و ابن عم )
هاجس تبع الأصغر :
و من هواجس الإلهام : ما حكاه عبيد الجرهمي و كان كبير السن عالما بأخبار الأمم : أن تبعا الأصغر و هو تبع بن حسان بن تبع سائر بيثرب فنزل في سفح أحد و ذهب إلى اليهود فقتل منهم ثلاثمائة و خمسين رجلا صبرا و أراد خرابها فقام إليه رجل من اليهود كبير السن فقال :
أيها الملك مثلك لا يقتل على الغضب و لا يقبل قول الزور أمرك أعظم من أن يطير بك برق أو تسرع بك لجاج فإنك لا تستطيع أن تخرب هذه
قال : و لم ؟ قال : لأنها مهاجر نبي من ولد إسماعيل يخرج من هذه الثنية يعني البيت الحرام
فكف تبع و مضى إلى مكة و معه هذا اليهودي و رجل آخر عالم من اليهود فكسا البيت و نحر عنده ستة آلاف جزور و أطعم الناس و قال :
( قد كسونا البيت الذي حرم الله ... ملاء معضدا و برودا )
و قيل إنه ملك ثلاثمائة و عشرين سنة
هاجس في مكة يوم مولد النبي :
و من هواجس الإلهام : ما روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : كان يهودي يسكن مكة فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم حضر مجلس قريش فقال يا معشر قريش : هل ولد فيكم الليلة مولود ؟ فقال القوم : و الله ما نعلم قال : الله أكبر أما إذا أخطأكم فلا بأس انظروا و احفظوا ما أقول لكم و لد في هذه الليلة نبي بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنها عرف وثن فتسارع القوم عن مجلسهم و هم متعجبون من قوله
فلما صاروا إلى منازلهم أخبر كل إنسان منهم أهله فقالوا : ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام سموه محمدا : فانطلق القوم إلى اليهودي فأخبروه فقال : اذهبوا بي حتى أنظر إليه فأدخلوه على آمنة قالوا : اخرجي إلينا ابنك فأخرجته و كشفوا عن ظهره فرأى اليهودي تلك الشامة فوقع مغشيا عليه فلما أفاق فقالوا له : مالك ؟ قال : ذهبت و الله النبوة من بني إسرائيل يا معشر قريش و الله ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق إلى المغرب
و كان في القوم الذين أخبرهم اليهودي بذلك هشام بن المغيرة و الوليد بن المغيرة و عبيد بن الحرث بن عبد المطلب و عتبة بن ربيعة فعصمه الله تعالى منهم
هاجس سمعته خديجة بنت خويلد :
و مثله : أنه كان لقريش في الجاهلية عيد يجتمه فيه النساء دون الرجال فاجتمعن فيه فوقف عليهن يهودي و فيهن خديجة فقال لهن : يا معشر نساء قريش يوشك أن يبعث فيكن نبي فأيكن استطاعت أن تكون له أرضا فلتفعل فحصبنه و وقر ذلك في نفس خديجة حتى حققه الله لها فكانت أول من آمن به
هاجس تاجر نصراني قدم مكة :
و مثله : أن جماعة من النصارى قدموا من الشام تجارا إلى مكة فنزلوا بين الصفا و المروة فرأوه و هو ابن سبع سنين فعرفه بعضهم بصفته من كتبهم و سمته في فراستهم فقال له : من أنت و ابن من أنت ؟
فقال : أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب فقال له : من رب هذه ؟ و أشار إلى الجبال
فقال : الله ربها لا شريك له
فقال له : من رب هذه ؟ و أشار إلى السماء
فقال : الله ربها لا شريك له فقال له النصراني : فهل لها رب غيره ؟ فقال : لاتشككني في الله ما له شريك و لا ضد فقام بالتوحيد في صغره و فصح النصراني يخبره و أنذر بنبوته
هاجس ظهر في مكة و بصرى :
و مثله : أنه كان في كفالة جده عبد المطلب و كان أحب إليه من جميع أولاده فلما حضرته الوفاة وصى به عمه أبي طالب لأنه كان أخا عبد الله لأبيه و أمه و أنشأ يقول :
( وصيت من كنيته بطالب ... عبد مناف و هو ذو تجارب )
( يا ابن الحبيب أكرم الأقارب ... يا ابن الذي مذ غاب غير آيب )
فتقبل أبو طالب الوصية و كان قد سمع من راهب إنذارا فأنشأ يقول :
( لا توصين بلازم و واجب ... فلست بالآنس غير الراهب )
( بأن حمد الله قول الراهب ... إني سمعت أعجب العجائب )
( من كل حبر عالم و كاتب )
و مات عبد المطلب بعد ثماني سنين من مولده فتكفله عمه أبو طالب و خرج به إلى الشام في تجارة له و هو ابن تسع سنين فنزل تحت صومعة بالشام و كان عند بصرى و كان في الصومعة راهب يقال له بحيرا قرأ كتب أهل الكتاب و عرف ما فيها من الأنباء و الأمارات
فرأى بحيرا من صومعته غمامة قد أظلت رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم من الشمس فنزل إليه و جعل يتفقد جسده حتى رأى خاتم النبوة بين كتفيه و سأله عن حاله في منامه و يقظته فأخبره بها فوافقت ما عنده في الكتب و سأل أبا طالب عنه فقال ابني فقال : كلا فقال ابن أخي مات أبوه و هو حمل قال : صدقت و عمل لهم و لمن معهم طعاما لم يكن يعمله لهم من قبل و قال : احفظوا هذا من اليهود و النصارى فإنه سيد العالمين و سيبعث نبيا إليهم أجمعين و إن عرفوه معكم قتلوه فقالوا : كيف عرفت هذا ؟ قال : السحابة التي أظلته و رأيت خاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة على النعت المذكور و رأيت المدر و الشجر يسجدان له و لا يسجدان إلا لنبي
و جاء رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و كان في رعيه الإبل قد سبقه القوم إلى ظل شجرة فلما جلس مال ظل الشجرة عليه فقال لهم : هذا من آيات نبوته و إن الروم إن رأوه عرفوه بصفته فيقتلوه ثم التفت فإذا هو بسبعة نفر قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم و قال ما جاء بكم قالوا : جئنا لأن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث فيه ناس و نحن آخر من بعث إلى طريقك هذا فقال لهم : هل خلفتم خلفكم أحدا هو خير منكم ؟ قالوا : لا قال : أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده ؟ قالوا : لا قال : فارجعوا فتابعوه على الرجوع و زودهم الراهب حتى أسرع به أبو طالب
فكانت هذه البشائر من رهبان النصارى و ما تقدم من أخبار اليهود و قد توارد عليها جميعهم مع اختلاف معتقدهم و تغاير كتبهم من أوائل الشهود على تعيين النبوة فيه إما عن كتب نعت فيها فأصابوه على النعت فكان إنذارا إلهيا تواردت عليه الخواطر لأن ما هجست به النفوس من أمر كان و ما تخيلته العقول ظهر وبان لأن القلوب طلائع الأقدار و العقول مرايا الأسرار
هاجس سيف بن ذي يزن :
و من هواجس الإلهام : ما حدثنا أبو الحسن محمد بن علي بن محفل رحمه الله قال : حدثنا عمر بن حماد الفقيه قال : حدثنا عمر بن محمد ابن بحير السمرقندي قال : حدثنا أحمد بن عبد ربه الضبي قال : أخبرنا عبد الرحمن بن نوح بن عبيد قال : حدثنا عمر بن بكير قال : حدثني أحمد بن القاسم عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رحمة الله عليه قال : لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة و ذلك بعد مولد النبي صلى الله تعالى عليه و سلم بسنين أتى وفود العرب و أشرافها و شعراؤها لتهنئته و مدحه و ذكر ما كان من بلائه و طلبه بثأر قومه فأتاه وفد قريش و فيهم عبد المطلب بن هاشم و أمية بن عبد شمس و عبد الله بن جدعان و أسد بن خويلد بن عبد العزى في ناس من أشراف قريش فلما قدموا عليه إذ هو في رأس قصر يقال له غمدان و هو الذي يقول فيه أمية بن أبي الصلت :
( اشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا ... في رأس غمدان دار منك محلال )
قال فاستأذنوا عليه فأذن لهم فدخلوا عليه فإذا الملك مضمخ بالعنبر يرى و بيص الطيب من مفرقه عليه بردان متزر بأحدهما مرتد بالآخر سيفه بين يديه و عن يمينه و عن يساره الملوك و أبناء الملوك و المقاول قال : فدنا عبد المطلب و استأذن في الكلام
فقال : إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فتكلم فقد أذنا لك فقال عبد المطلب : إن الله أحلك أيها الملك محلا رفيعا صعبا منيعا شامخا باذخا و أنبتك منبتا طابت أرومته و عزت جرثومته و ثبت أصله و بسق فرعه في أكرم موطن و أطيب معدن و أنت أبيت اللعن ملك العرب و ربيعها الذي يخصب به وأنت أيها الملك رأس العرب الذي إليه تنقاد و عمودها الذي عليه العماد و معلقها الذي تلجأإليه العباد سلفك خير سلف و أنت لنا منهم خير خلف فلن يخمل ذكر من أنت سلفه و لن يهلك من أنت خلفه و نحن أيها الملك أهل حرم الله و سدنة بيته أشخصنا إليك الذي أبهجنا لكشف الكرب الذي فدحنا فنحن وفد التهنئة لا وفد التعزية
فقال ابن ذي يزن : فأيهم أنت أيها المتكلم ؟ فقال : أنا عبد المطلب بن هاشم قال : ابن اختنا ؟ قال : نعم ابن أختكم قال : ادن فأدناه على القوم وعليه فقال : مرحبا و أهلا و ناقة و رحلا و مستناخا سهلا و ملكا ربحلا يعطي عطاء جزلا قد سمع الملك مقالتكم و عرف قرابتكم و قبل وسيلتكم فأنتم أهل الليل و و أهل النهار لكم الكرامة ما أقمتم و الحباء إذا ظعنتم قال : ثم استنهضوا إلى دار الضيافة و الوفود فأقاموا شهرا لا يصلون إليه و لا يأذن لهم بالانصراف
قال : ثم انتبه انتباهه فأرسل إلى عبد المطلب فأعلاه و أدنى مجلسه و قال : يا عبد المطلب إني مفوض إليك من سر علمي ما لو كان غيرك لم أبح له و لكن رأيتك معدنه و أطلعتك عليه فليكن عندك مطويا حتى يأذن الله فيه فإن الله بالغ فيه أمره إني أجد في الكتاب المكنون و العلم المخزون الذي اخترناه لأنفسنا و احتجبناه دون غيره خبرا عظيما و خطرا جسيما فيه شرف الحياة و فضيلة الوفاة للناس عامة و لرهطك كافة و لك خاصة
قال عبد المطلب : أيها الملك فمثلك من سر وبر فما هو فداك أهل الوبر زمرا بعد زمر قال : إذا ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامة كانت له الإمامة و لكم به الزعامة إلى يوم القيامة فقال له عبد المطلب : أبيت اللعن لقد أتيت بخبر ما أتى بمثله وافد فلولا هيبة الملك و إجلاله و إعظامه لسألته من بشارته إياي ما ازداد به سرورا قال ابن ذي يزن هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد اسمه أحمد يموت أبوه و أمه و كفله جده و عمه قد ولدناه مرارا و الله باعثه جهارا و جاعل منا له أنصارا يعز بهم أولياءه و يذل بهم أعداءه يضرب بهم الناس عن عرض و يستفتح بهم كرائم الأرض يكسر الأوثان و يخمد النيران و يعبد الرحمن و يدحر الشيطان قوله فصل و حكمه عدل يأمر بالمعروف و يفعله و ينهى عن المنكر و يبطله
قال عبد المطلب : أيها الملك عز جدك و علا عقبك و طاب ملكك و طال عمرك فهل الملك ساري بإفصاح فقد أوضح بعض الإيضاح
فقال : ابن ذي يزن : و البيت ذي الحجب و العلامات على النصب إنك يا عبد المطلب لجده غير الكذب
قال فخر عبد المطلب ساجدا فقال ابن ذي يزن : ارفع رأسك ثلج صدرك و علا أمرك فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك ؟
فقال : نعم أيها الملك كان لي ابن و كنت به معجبا رفيقا فزوجته كريمة من كرائم قومي آمنة بنت وهب بن عبد مناف فأتت بغلام سميته محمدا مات أبوه و أمه و كفلته أنا و عمه بين كتفيه شامة و فيه كما ذكرت من علامة
قال ابن ذي يزن : إن الذي قلت لك لكما قلت لك فاحتفظ بابنك و احذر عليه من اليهود فإنهم له أعداء و لن يجعل الله لهم عليه سبيلا فاطو ما ذكرته دون هؤلاء الرهط الذين معك فإني لست آمن أن يداخلهم النفاسة و من أن تكون لك الرياسة فيبغون له الغوائل و ينصبون له الحبائل و هم فاعلون و أبناؤهم و لولا أني أعلم أن الموت يجتاحني قبل مبعثه لسرت بخيلي و رجلي حتى أصير بيثرب دار ملكي فإني أجد في الكتاب الناطق و العلم السابق أن يثرب استحكام أمره و أهل نصرته و موضع قبره و لولا أني أقيه الآيات و أحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنه ذكره و أوطيت أسنان العرب عقبه و لكني صارف ذلك إليك بغير تقصير ممن معك
ثم أمر لكل رجل عن القوم بعشرة أعبد و عشرة إماء سود و حلتين من حلل البرود و خمسة أرطال ذهب و عشرة أرطال فضة و كرش مملوءة عنبرا و لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك
و قال له إذا حال الحول فائتني بأمره و ما يكون من خبره قال فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول قال فكان عبد المطلب كثيرا يقول : يا معشر قريش لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك و إن كان كثيرا فإنه إلى نفاد و لكن ليغبطني بما يبقى لي و لعقبي ذكره و فخره و شرفه فإذا قيل له : و ما ذاك ؟ قال : ستعلمون ما أقول لكم و لو بعد حين
هاجس خديجة زوج النبي عليه السلام : و من هواجس الإلهام : إنه نشأ في قريش على أحسن هدى و طريقة و أشرف خلق و طبيعة و أصدق لسان و لهجة حتى سمته قريش في حداثته الأمين تأسيسا لما سيكون
و كانت خديجة بنت خويلد ذات شرف و يسار و كان لها متاجر و مضاربات فلما عرفت أمانة رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و صدق لهجته أبضعته مالا يتجر به إلى الشام مضاربا و أنفذت معه مولاها ميسرة ليخدمه في طريقه
فنزل ذات يوم تحت صومعة راهب فرأى الراهب من ظهور كرامة الله تعالى له ما علم أنه لا يكون إلا لنبي فقال لميسرة : من هذا ؟ فقال : رجل من قريش من أهل الحرم فقال : إنه نبي فكان ميسرة يراه إذا ركب تظله غمامة تقيه حر الشمس فلما قدم على خديجة قص ميسرة عليها حديث الراهب و ما شاهده من ظل الغمامة و ما تضاعف من ريح التجارة فتنبهت به على عظم شأنه و شواهد برهانه فرغبت خديجة في نكاحه و كان قد خطبها أشراف قريش فامتنعت و سفر بينهما في النكاح ميسرة و خافت امتناع أبيها عليه فعقرت له ذبيحة و ألبسته حبرة و غلفته بطيب و عبير و سقته خمرا حتى سكر و حضر رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و معه حمزة بن عبد المطلب
و اختلف في حضور عمه أبي طالب فقال الأكثرون حضر مع حمزة و خطبها من أبيها فأجابه و زوجه و هو ابن خمس و عشرين سنة و خديجة ابنة أربعين سنة و دخل بها من ليلته
فلما أصبح خويلد و صحا رأى آثار ما عليه فقال : ما هذا العقير و العبير و الحبر ؟ فقيل : زوجت خديجة بمحمد قال : ما فعلت قيل له : قبيح بك هذا و قد دخل بها فرضي و لأجل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا يرفع إلي نكاح نشوان إلا أجزته ]
و قامت خديجة رضي الله تعالى عنها بأمره حتى كفته أمور دنياه فكان ذلك عونا من الله تعالى و لطفا تفضل به عليه منا و إسعافا
هاجس زيد بن عمرو بن نفيل :
و من هواجس الإلهام : ما حكاه عامر بن ربيعة قال : سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول : أنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل من بني عبد المطلب و لا أراني أدركه و أنا أؤمن به و أصدقه و أشهد أنه نبي فإن طالت بك مدة فرأيته فاقرأه مني السلام و سأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك قلت هلم
قال : هو رجل ليس بالقصير و لا بالطويل و لا بكثير الشعر و لا بقليله و ليس بفارق عينيه حمرة و خاتم النبوة بين كتفيه و اسمه أحمد و هذا البلد مولده ثم يخرجه قومه منها و يكرهون ما جاء به حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره فإياك أن تخدع عنه فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم فكل من أسأله عنه من اليهود و النصارى و المجوس يقولون : هذا الدين وراءك و ينعتونه مثل ما نعت لك و يقولون : لم يبق نبي غيره
قال عامر : فلما أسلمت أخبرت رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم بقول زيد و أقرأته منه السلام فرد عليه السلام و ترحم عليه و قال [ قد رأيته في الجنة يسحب الذيول ]
هاجس كسرى :
و من هواجس الإلهام : ما رواه الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال : بعث الله تعالى إلى كسرى ملكا و هو في بيت إيوانه الذي لا يدخل عليه فيه فلم يرعه إلا به قائما على رأسه في يده عصا بالهاجرة من ساعته التي كان يقيل فيها فقال : يا كسرى أتسلم أو أكسر هذه العصا ؟ فقال : بهل بهل فانصرف عنه فدعا حراسه و حجابه فتغيظ عليهم فقال : من أدخل هذا الرجل ؟ فقالوا : ما دخل عليك أحد و لا رأيناه
حتى إذا كان العام القابل أتاه في الساعة التي أتاه فيها فقال له كما قال ثم قال : أتسلم أو أكسر هذه العصا ؟ فقال : بهل بهل بهل ثلاثا فخرج عنه فدعا كسرى حراسه و حجابه فتغيظ و قال لهم كما قال أول مرة فقالوا : ما رأينا أحدا دخل عليك
حتى إذا كان في العام الثالث أتاه في الساعة التي فيها فقال له كما قال ثم قال : أتسلم أو أكسر هذه العصا ؟ فقال بهل بهل فكسرها ثم خرج فلم يكن إلا تهور ملكه و انبعاث ابنه و الفرس على قتله حتى قتلوه هاجس منام كسرى :
و من هواجس المنام : ما حكاه ابن قتيبة أن كسرى أبرويز بن هرمز كان سائرا ذات يوم فهوم على مركبه و طال حتى استغفل فأيقظه بعض قواده فانتبه مذعورا لرؤيا رآها قطعها عليه الموقظ له فقال : رأيت قائلا لي إنكم غيرتم فغيرناكم و نقل الملك إلى أحمد
و قيل له : سلم ما بيدك إلى صاحب الهرواة إلى أن ورد عليه كتاب النعمان بن المنذر يخبر فيه أن خارجا نجم بتهامة يخبر أنه رسول الله إله السماء و الأرض إلى أهل الأرض كافة فارتاع لذلك و أكبره و علم أنه الذي رآه في منامه و كان يتوقعه
هاجس رقية بنت أبي ضبعي :
و من هواجس المنام : ما رواه عروة بن مضرس عن مخرمة بن نوفل عن أمه رقية بنت أبي ضبعي بن هاشم قال : تتابعت على قريش سنون أمحلت الضرع و أدقت العظم فبينا أنا نائمة للهم أو مهمومة إذا هاتف يصرخ بصوت صخب يقول يا معشر قريش إن هذا النبي المبعوث فيكم قد أظلتكم أيامه و هذا إبان نجومه فحيهلا بالحياء و الخصب ألا فانظروا رجلا منكم وسيطا جسيما أبيض بضا أوطف الأهداب سهل الخدين أشم العرنين له فخر يكظم عليه و سنه يهدي إليه فليخلص هو و ولده و ليهبط إليه من كل بطن رجل فليستنوا من الماء و ليمسوا من الطيب ثم ليستلموا الركن ثم ليرتقوا أبا قبيس فليستسق الرجل و ليؤم القوم فغثتم ما شئتم
فأصبحت علم الله تعالى مذعورة فاقشعر جلدي و وله عقلي و اقتصصت رؤياي فو الحرمة و الحرم ما بقي بها أبطحي إلا قال هذا شيبة الحمد يعنون عبد المطلب فتتامت إليه رجالات قريش و هبط إليه من كل بطن رجل فسنوا و مسوا و استلموا ثم ارتقوا أبا قبيس و طبقوا جانبيه ما يبلغ سعيهم مهلة حتى استووا بذروة الجبل
فقام عبد المطلب و معه رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم غلام حين أيفع أو كرب فقال : اللهم ساد الخلة و كاشف الكربة أنت معلم غير معلم و مسئول غير مبخل و هذه عبادك و إماؤك بغدرات حرمك يشكون إليك سنتهم أذهبت الخف و الظلف اللهم فامطر علينا غيثا مغدقا مريعا فو الكعبة ما راحوا حتى تفجرت السماء بمائها و سال الوادي بثجيجة فسمعت شيوخا من قريش و أجلتها : عبد الله بن جدعان و حرب بن أمية و هشام بن المغيرة يقولون لعبد المطلب : هنيئا لك أبا البطحاء أي عاش بك أهل البطحاء و في ذلك يقول رفيقه :
( بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا ... لما فقدنا الحيا و اجلوذ المطر )
( فجاد بالماء جوي له سبل ... سحا فعاشت به الأنعام و الشجر )
( مبارك الأمر يستسقى الغمام به ... ما في الأنام له عدل و لا خطر )
هواجس في فارس :
و من هواجس الإنذار و الإلهام و المنام : ما رواه أبو أيوب يعلى بن عمران النحلي عن مخزوم بن هاني المخزومي عن أبيه و أتت له مائة و خمسون سنة قال : لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم أو بعث ارتجس إيوان كسرى فسقطت منه أربع عشرة شرفة و خمدت نار فارس و لم تخمد قبل ذلك بألف عام و غارت بحيرة ساوة فأفزع ذلك كسرى فلبس تاجه و قعد على سريره و جمع وزراءه و مرازبته و أخبرهم برؤياه
فقال الموبذان : و أنا أصلح الله تعالى الملك قد رأيت في هذه الليلة إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة و انتشرت في بلادنا
فقال أي شيء هذا يا موبذان ؟ فقال : حادثة تكون من ناحية العرب فكتب إلى النعمان بن المنذر أن ابعث إلي يرجل عالم أسأله عما أريد فوجه إليه عبد المسيح بن عمرو بن نفيلة الغساني
فلما قدم عليه أخبره فقال : أيها الملك علم ذلك عند خال لي يسكن مشارق الشام يقال له سطيح قال : فأته فاسأله عما أخبرتك به ثم أحضر بجوابه فركب عبد المسيح راحلته حتى ورد على سطيح و قد أشفى على الموت و وضع على شفير قبره فسلم عليه و حياه فلم يخبر سطيح جوابا فأنشأ عبد المسيح يقول :
( أصم أم يسمع غطريف اليمن ... يا فاضل الخطة أعيت من و من )
( أتاك شيخ الحي من آل سنن ... و أمه من آل ذئب بن حجن )
( أبيض فضفاض الردا خجر البدن ... رسول قيل العجم يسري للوسن )
فرفع سطيح رأسه و قال : عبد المسيح على جمل مشيح وافى إلى سطيح و قد أوفى به إلى الضريح بعثك ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان و خمود النيران و رؤيا الموبذان رأى إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة و انتشرت في بلادها ثم قال : يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة و بعث من تهامة صاحب الهرواة و فاض وادي السماوة و غاضت بحيرة ساوة و خمدت نار فارس فليس الشام لسطيح شاما يملك منهم ملك و ملكات بعدد الشرفات و كل ما هو آت آت ثم قضى سطيح فسار عبد المسيح على راحلته و هو يقول :
( شمر فإنك ماضي الهم شمير ... و لا يغرنك تفريق و تغيير )
( أن يمس ملك بني ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطوارد هارير )
( فربما أصبحوا يوما بمنزلة ... تهاب صولهم الأسد المهاصيم )
( منهم أخو الصرح بهرام و إخوته ... و الهرمزان و سابور و سابور )
( و الناس أولاد علات فمن علموا ... أن قد أقل فمهجور و محقور )
( و هم بنو الأم إلا أن يروا نسبا ... فذاك بالغيب محفوظ و منصور )
( و الخير و الشر مقرونان في قرن ... فالخير متبع و الشر محذور )
فلما قدم عبد المسيح على كسرى و أخبره قال كسرى إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا قد كانت أمور فملك منهم عشرة ملوك أربع سنين و زال ملكهم عن يزدجر الرابع عشر بعد اثنتي عشرة سنة
اعتراض على الهواجس :
فإن قيل : فهذا قول كاهن قد أبطلته النبوة فلم يقبل قوله في إثبات النبوة فعنه جوابان
أحدهما : أنه تأويل رؤيا تحققت خرج بها عن حكم الكهانة
و الثاني : أنه علمها بنقل الجن كهتوف الجن كما قال الله تعالى : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم } فإذا سبر ما اختلف طرقه و تغاير وصفه خرج عن القلة إلى التكاثر وعن الآحاد إلى التواتر فصار الظن معلوما و التوهم محتوما (1/198)
الباب الثامن عشر : في مبادئ نسبه و طهارة مولده صلى الله تعالى عليه و سلم
الأنبياء صفوة العباد :
لما كان أنبياء الله صفوة عباده و خيرة خلقه لما كلفهم من من القيام بحقه استخلصهم من أكرم العناصر و أمدهم بأوكد الأواصر حفظا لنسبهم من قدح و لمنصبهم من جرح لتكون النفوس لها أوطأ و القلوب لهم أصفا فيكون الناس إلى إجابتهم أسرع و لأوامراهم أطوع
و لما تفرع الملك عن إبراهيم و اختصت النبوة بولده انحازت إلى ولد إسحاق دون إسماعيل فصارت في بني إسرائيل لكثرتهم بعد القلة و قوتهم بعد الذلة فبدأت النبوة بموسى و انختمت بعيسى
تكاثر ولد إسماعيل :
و لما كثر ولد إسماعيل و انتشروا في الأرض تميز بعد الكثرة ولد قحطان عن ولد عدنان و استولت قحطان على الملك انحازت النبوة إلى ولد عدنان فأول من أسس لهم مجدا و شيد لهم ذكرا معد بن عدنان حين اصطفاه بختنصر و قد ملك أقاليم الأرض و كان قد هم بقتله حين غزا بلاد العرب فأنذره نبي كان في وقته بأن النبوة في ولده فاستبقاه و أكرمه و مكنه و استولى على تهامة بيد عالية و أمر مطاع و فيه يقول مهلهل الشاعر :
( غنيت دارنا تهامة بالأمس ... و فيها بنو معد حلولا )
عز نزار بن معد :
ثم ازاداد العز بولده نزار و انبسط به اليد و تقدم عند ملوك الفرس و اجتباه [ تستشف ] ملك الفرس و كان اسمه خلدان و كان مهزول البدن فقال الملك : ما لك يا نزار ؟ و تفسيره في لغتهم : يا مهزول فغلب عليه هذا الاسم و فيه يقول قمعة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان :
( جديسا خلفناه و طسما بأرضه ... فأكرم بنا عند الفخار فخار )
( فنحن بنو عدنان خلدان جدنا ... فسماه تستشف الهمام نزارا )
( فسني نزارا بعدما كان اسمه ... لدى العرب خلدان بنوه خيارا )
أولاد نزار الأربعة :
و كان لنزار أربعة أولاد : مضر و ربيعة و إياد و أنمار فلمل حضرته الوفاة وصاهم فقال : يا بني هذه القبة الحمراء و ما أشبهها لمضر و هذا الخباء الأسود و ما أشبهه لربيعة و هذه الخادمة و ما أشبهها لأياد و هذه الندوة و المجلس و ما أشبهها لأنمار فإن أشكل عليكم و اختلفتم فعليكم بالأفعى الجرهمي بنجران
فاختلفوا في القسمة فتوجهوا إليه فبينما هم يسيرون إذ رأى مضر كلأ قد رعي فقال : إن البعير الذي رعى هذا الكلأ لأعور و قال لربيعة : هو أزور و قال إياد : هو أبتر و قال أنمار : و هو شرود فلم يسيروا قليلا حتى لقيهم رجل يوضع على راحلته فسألهم عن البعير فقال مضر : هو أعور قال نعم قال ربيعة : هو أزور قال : نعم و قال إياد : هو أبتر قال نعم و قال أنمار : هو شرود قال نعم و هذه و الله صفة بعيري فدلوني عليه فقالوا : و الله ما رأيناه قال : قد وصفتموه بصفته فكيف لم تروه
و سار معهم إلى نجران حتى نزلوا بالأفعى الجرهمي فناداه صاحب البعير هؤلاء أصحاب بعيري وصفوه لي بصفته و قالوا : لم نره فقال لهم الأفعى الجرهمي : كيف وصفتموه و لم تروه ؟
فقال مضر : رأيته يرعى جانبا و يترك جانبا فعرفت أنه أعور
و قال ربيعة : رأيت إحدى يديه ثابتة الأثر و الأخرى فاسدة الأثر فعرفت أنه أزور
و قال إياد : رأيت بعره مجتمعا فعرفت أنه أبتر
و قال أنمار : رأيته يرعى المكان الملتف ثم يجوزه إلى غيره فعرفت أنه شرود
فقال الجرهمي لصاحب البعير : ليسوا أصحاب بعيرك فاطلب من غيرهم ثم سألهم من هم فأخبروه أنهم بنو نزار بن معد فقال : أتحتاجون إلي و أنتم كما أرى ؟ فدعا لهم بطعام فأكلوا و بشراب فشربوا و شرب فقال مضر لم أر كاليوم خمرا أجود لولا أنها نبتت على قبر و قال ربيعة : لم أر كاليوم لحما أطيب لولا أنه ربي بلبن كلبة و قال إياد : لم أر كاليوم رجلا أسرى لولا أنه يدعي لغير أبيه و قال أنمار : لم أر كاليوم كلاما أنفع في حاجتنا و سمع الجرهمي الكلام فتعجب لقولهم و أتى أمه فسألها فأخبرته : أنها كانت تحت ملك لا ولد له فكرهت أن يذهب الملك فأمكنت رجلا من نفسها كان نزل بها فوطئها فحملت منه به و سأل القهرمان عن الخمر فقال من كرمة غرستها على قبر أبيك و سأل الراعي عن اللحم فقال : شاة أرضعتها بلبن كلبة لأن الشاة حين ولدت ماتت و لم يكن ولد في الغنم شاة غيرها فقيل لمضر من أين عرفت الخمر و نباتها على قبر ؟ قال : لأنه أصابني عليها عطش شديد
و قيل لربيعة من أين عرفت أن الشاة ارتضعت على لبن كلبة ؟ قال : لأني شممت منه رائحة الكلب
و قال لإياد : من أين عرفت أن الرجل يدعى لغير أبيه ؟ قال لأبي رأيته يتكلف ما يعمله
ثم أتاهم الجرهمي و قال : صفوا لي صفتكم فقصوا عليه ما أوصاهم به أبوهم نزار فقضى لمضر بالقبة الحمراء و الدنانير و الإبل و هي حمر فسمي مضر الحمراء و قضى لربيعة بالخباء الأسود و الخيل الدهم سمي ربيعة الفرس و قضى لأياد بالخادمة الشمطاء و الماشية البلق و قضى لأنمار بالأرض و الدراهم
مضر و خزاعة يستولون على الحرم :
و هذا الذي ظهر في أولاد نزار من قوة الذكاء و حدة الفطنة تأسيسا لتمييزهم بالفضل و اختصاصهم بوفور العقل مقدمة لما يراد بهم ثم تفرقت القبائل منهم فاختص ولد مضر بن نزار بالحرم فتميزوا بأنسابهم و تناصروا بسيوفهم حتى استولت قريش على الحرم بعد جرهم و خزاعة لأن جرهم كانوا جبابرة فبغوا و تجبروا حتى بعث الله تعالى عليهم الرعاف و النمل فأفناهم و أفضى أمرهم إلى عامر بن الحرث و هم القائلون :
( واد حرام طيره و وحشة ... نحن ولاته فلا تغشه )
فاجتمعت خزاعة و رئيسهم عمرو بن ربيعة بن حارثة على عامر بن ربيعة و بقية جرهم فأخرجوهم من الحرم و استولت عليه خزاعة و ولي البيت عمرو بن ربيعة فقال :
( نحن ولينا البيت بعد جرهم ... نعمره من كل باغ ملحد )
و لما انحاز عامر بن الحرث مع بقية جرهم عن الحرم عند استيلاء خزاعة عليه خرج بغزالي الكعبة و حجر الركن يلتمس التوبة و هو يقول :
( لاهم إن جرهما عبادك ... الناس طرف و هم تلادك )
فلم تقبل توبته فألقى غزالي الكعبة و حجر الركن في زمزم و دفنها و خرج ببقية جرهم و هو يقول :
( كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس و لم يسمر بمكة سامر )
( بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي و الدهور الغواير )
فلما رأى عامر بن الحرث الجرهمي ما صاروا إليه بعد الكثرة و القوة قال :
( يا أيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا )
( كنا أناسا كما كنتم فغيرنا ... دهر فأنتم كما كنا تكونونا )
( خطوا المطى و أرخوا من أزمتها ... قبل الممات و قضوا ما تقضونا )
فوليت خزاعة البيت و الحرم غير أنه كان في مضر من أمره ثلاث خلال
إحداهن : الدفع عن عرفة إلى المزدلفة كان إلى الغوث بن بزمر و هو صرفه
الثانية : الإفاضة من مزدلفة إلى منى للنحر كان لزيد بن عدوان و آخر من أفضى إليه أبو سيارة
الثالثة : النسيء لشهور الحج كان للمتلمس من بني كنانة و آخر من أقضى إليه حتى جاء الإسلام : ثمامة بن عوف فشركت مضر خزاعة في معالم الحج و إن كانت زعامة الحرم لخزاعة و قريش في أوزاع بني كنانة من مضر
زعامة الحج لقريش :
و أفضت معالم الحج من أوزاع من مضر إلى قريش فولاها منهم كعب ابن لؤي بن غالب و كان يجمع الناس في كل يوم جمعة و يخطب فيه على قريش فيأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر و يقول : حرمكم عظموه و تمسكوا به فسيأتي له نبأ عظيم و سيخرج منه نبي كريم و هو أول من فصح بالنبوة حين شاهد آثارها و عرف أسرارها من انقياد العرب إليهم تدينا بحرمهم و إعظاما لكعبتهم و كان ذلك إلهاما هجست به نفسه و تخيلا صدق فيه حدسه لأن لكل خطب نذيرا و لكل مستقبل بشيرا و انتهضت خزاعة في الحرم إلى خليل بن الحبشية الخزاعي فكان يلي الكعبة و أمر مكة فتزوج إليه قصي بن كلاب فاشتد به قصي و كان اسمه زيد فلما هلك خليل رأى قصي أنه أولى بالولاية على الكعبة و أمر مكة من خزاعة فاستولى عليها
قصي يلي أمر الكعبة و مكة :
و اختلف في سبب استيلائه فقال قوم لأن خليلا أوصى إليه بذلك و قال آخرون بل اشتراه من آل خليل بزق من خمر و قال آخرون بل استنصر على خزاعة بأخيه لأمه رزاح بن ربيعة القضاعي حتى أجلي خزاعة عن مكة فخلصت الرياسة لقصي فجمع قريشا و هم في أوزاع بني كنانة فمنعت بنو كنانة منهم فحاربهم بمن أطاعه حتى أفردهم منهم و جمعهم بمكة فسمي مجمعا و فيه يقول شاعرهم :
( أبونا قصي كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر )
قصي يقسم مكة بين قومه :
فلما اجتمعوا أنزلهم بطحاء مكة في الشعاب و رؤوس الجبال و قسمها بينهم أرباعا بين قومه و أنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة التي أصبحوا عليها و كانت إليه الحجابة و السقاية و الوفادة و الندوة و اللواء و صارت سنته في قريش كالدين الذي لا يعمل بغيره فزادت القوة بجمعهم حتى عقد الولاية و جدد بناء الكعبة وهو أول من بناها بعد إبراهيم و إسماعيل و بنى دار الندو للتحاكم و التشاجر و التشاور و هي أول دار بنيت بمكة و كانوا بمكة و كانوا يجتمعون في جبالها
ثم بني القوم دورهم بها فتمهدت لهم الرياسة و ظهرت فيهم السياسة فصاروا بها زعماء عبادة أنذرت بطاعة إلهية و ديانة نبوية توطئة لما جدده الله تعالى منها برسوله و تأسيسا لمباديها فقاموا بالكعبة و نزهوا الحرم و تكفلوا بالحج فصاروا دياني العرب و مولاة الحرم و قادة الحجيج و شاع ذلك في الأمم
فحكى قوم من دياني العرب أن جماعة من ملوك الفرس زاروا الكعبة بمكة و عظموها و حملوا إليها صنوف الثياب و أنواع الطيب و زمزموا و من معهم من الفرس عند بئر زمزم فلذلك سميت زمزم و استشهد قائل هذ بقول الشاعر :
( زمزمت الفرس على زمزم ... و ذاك في سالفه الأقدم )
من هم قريش ؟
و قريش هم ولد النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر و قيل : بل هم بنو فهر بن مالك بن النضر فمن نسبهم إلى النضر فلأنه تفرقت قبائل بني كنانة و قيل كان يسمى قريشا و من نسبهم إلى فهر فلأن فهرا في زمانه كان رئيس الناس بمكة و قصدها حسان بن عبد كلال في حمير و قبائل اليمن ليهدم الكعبة و ينقل أحجارها إلى اليمن ليبنيه بيتا باليمن يجعل حج الناس إليه فنزل بنخلة و أغار على سرح مكة فسار إليه فهر في كنانة و أحلافهم من قبائل مضر فانهزمت حمير و أسر الحرث بن فهر حسان بن عبد كلال فبقي في يد فهر ثلاث سنين أسيرا بمكة حتى فدى نفسه و خرج فمات بين مكة و اليمن فعظم بهذا الحرث شأن فهر فأغزت إليه قريش حين حمى مكة و منع من هدم الكعبة و كانت من أشباه عام الفيل
سبب تسمية قريش :
و اختلف في تسميتهم قريشا على أربعة أقاويل أحدها : لتجمعهم بعد التفرق و التقرش التجمع و منه قول الشاعر :
( إخوة قرشوا الذنوب علينا ... في حديث من دهرهم و قديم )
و الثاني : لأنهم كانوا تجارا يأكلون من مكاسبهم و القرش التكسب :
و الثالث : لأنهم كانوا يفتشون الحاجة عند ذي الخلة فيسدون خلته و القرش التفتيش و منه قول الشاعر :
( أيها السامت المقرش عنا ... عند عمرو فهل له إبقاء )
و الرابع أن قريشا اسن دابة في البحر من أقوى دوابه سميت بها قريش لقوتها لأنها تأكل و لا تؤكل و تعلو لا تعلى :
قاله ابن عباس و استشهد بقول الشاعر :
( و قريش هي التي تسكن البحر ... بها سميت قريش قريشا )
( سلطت بالعلو في لجة البحر ... على ساكني البحور جيوشا )
( تأكل الغث و السمين و لا ... تترك يوما لذي الجناحين ريشا )
( هكذا في البلاد حتى قريش ... يأكلون البلاد أكلا كشيشا )
( و لهم آخر الزمان نبي ... يكثر القتل فيهم و الخموشا )
( تملأ الأرض خيله و رجال ... يحشرون المطي حشرا كميشا )
سبب تسمية مكة :
و هذا من هواجس النفوس المخبرة و آيات العقول المنذرة
فأما مكة فلها اسمان مكة و بكة و قد جاء القرآن بهما و اختلف في الاسمين هل هما لمسمى واحد أو لمسمين على قولين :
أحدهما : إنه لمسمى واحد لأن العرب تبدل الميم بالباء فيقولون ضربة لازم و لازب لقرب المخرجين
و القول الثاني : و هو أشبه أنهما اسمان لمسميين و اختلف من قال بهذا في السمى منهما على قولين أحدهما أن مكة اسم البلد و بكة اسم البيت و هذا قول إبراهيم النخعي و القول الثاني : أن مكة الحرم كله و هذا قول زيد بن أسلم فأما مكة فمأخوذة من قولهم تمككت المخ إذا استخرجته لأنها تمك الفاجر أي تخرجه قال الشاعر :
( يا مكة الفاجر مكي مكا ... و لا تمكي مذحجا و عكا )
و أما بكة قال الأصمعي سميت بذلك لأن الناس يبك بعضهم بعضا أي يدفع و أنشد قول الشاعر :
( إذا الشريب أخذته بكة ... فخله حتى يبك بكه )
رئاسة قريش تفضي لعبد مناف :
ثم أفضت رئاسة قريش بعد قصي إلى ابنه عبد مناف بن قصي فجاد و زاد و ساد حتى قال فيه الشاعر :
( كانت قريش بيضة فتفقأت ... فالمح خالصه لعبد مناف )
و كان اسمه المغيرة فدفعته أمه إلى مناف و كان أعظم أصنام مكة تعظيما له فغلب عليه عبد مناف و كان يسمى القمر لجماله فاستحكمت رياسته بعد أبيه لجوده و سياسته ثم ببنيه فولد له هاشم و عبد شمس توأمان في بطن فقيل إنه ابتدأ خروج أحدهما و إصبعه ملصقة بجبهة الآخر فلما ازيلت دمي موضعها فقيل يكون بينهما دم
هاشم يسود قريش :
ثم ولد بعدهما نوفل ثم المطللب و كان أصغرهم فسادوا و تقدمهم هاشم لسخائه و سؤدده و كان اسمه عمرا فسمي هاشما لأنه أول من هشم الثريد لقومه بمكة في سنة لزبة قحطة رحل فيها إلى فلسطين فاشترى منها الدقيق و قدم به إلى مكة و نحر الجزر و جعلها ثريدا عم به أهل مكة حتى استقلوا فقال فيه الشاعر :
( يا أيها الرجل المحول رحله ... هلا نزلت بآل عبد مناف )
( الآخذون العهد من آفاقها ... و الراحلون لرحلة الإيلاف )
( و الرايشون و ليس يوجد رايش ... و القائلون هلم للأضياف )
( و الخالطون غنيهم ... بفقيرهم حتى يكون فقيرهم كالكافي )
( عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... و رجال مكة مسنتون عجاف )
هاشم سن رحلتي الشتاء و الصيف :
و هاشم أول من سن الرحلتين لقريش رحلة الشتاء و رحلة الصيف و أراد أمية بن عبد شمس أن يتشبه بهاشم في صنيعة فعجز عنه فشمت به ناس كثير من قريش فقال فيه وهب بن عبد قصي :
( تحمل هاشم ما ضاق عنه ... و أعيا أن يقوم به بريض )
( أتاهم بالغرائر مثقلات ... من الشام بالبر البغيض )
( فأوسع أهل مكة من هشيم ... و شاب اللحم باللحم العريض )
العداوة بين أمية و هاشم :
و نشبت العداوة بين أمية و هاشم و أراد منافرته فكره هاشم ذلك لنسبه و قدره فلم تدعه قريش حتى نافره إلى الكاهن الخزاعي في خمسين ناقه سود الحدق ينحرها ببطن مكة و الجلاء من مكة عشر سنين فنفر الخزاعي هاشما و قال لأمية : تنافر رجلا هو أطول منك قاما و أعظم منك هامة و أحسن منك و سمة و أقل منك لامة و أكثر منك ولدا و أجزل منك صفرا
فقال أمية : من انتكاث الزمان أن جعلناك حكما فأخذ هاشم الإبل فنحرها و أطعمها من حضره و خرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين
فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم و أمية و ملك هاشم الوفادة و السقاية و استقرت له الرياسة و صارت قريش له تابعة تقاد لأمره و تعمل برأيه و تنافرت قريش و خزاعة إليه فخطبها بما أذعن له الفريقان بالطاعة فقال في خطبته :
خطبة هاشم :
أيها الناس نحن آل إبراهيم و ذرية إسماعيل و بنو النضر بن كنانة و بنو قصي بن كلاب و أرباب مكة و سكان الحرم لنا ذروة الحسب و معدن المجد و لكل في كل حلف يجب عليه نصرته و إجابة دعوته إلا ما دعا إلى عقوق عشيرة و قطع رحم
يا بني قصي أنتم كغصني شجرة أيهما كسر أوحش صاحبه و السيف لا يصان إلا بغمده و رامي العشيرة يصيبه سهمه و من أمحكه اللجاج أخرجه إلى البغي
أيها الناس الحلم شرف و الصبر ظفر و المعروف كنز و الجود سؤدد و الجهل سفه و الأيام دول و الدهر غير و المرء منسوب إلى فعله و مأخوذ بعمله فاصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد و دعوا الفضول تجانبكم السفهاء و أكرموا الجليس يعمر ناديكم و حاموا الخليط يرغب في جواركم و أنصفوا من أنفسكم يوثق بكم و عليكم بمكارم الأخلاق فإنها رفعة و إياكم و الأخلاق الدنيئة فإنها تضع الشرف و تهدم المجد ألا و إن نهنهة الجاهل أهون من حزيرته و رأس العشير يحمل أثقالها و مقام الحليم عظة لمن انتفع به
فقالت قريش : رضينا بك أبا نضلة و هي كنيته فانظروا إلى ما أمر به من شريف الأخلاق و نهى عنه من مساوئ الأفعال هل صدر إلا عن عزارة فضل و جلالة قدر و علو همة ؟ و ما ذاك إلا لا صطفاء يراد و ذكر يشاد لأن توالي ذلك في الآباء يوجب تناهيه في الأبناء
عبد المطلب يحل محل هاشم :
و مات هاشم بغزة من أرض الشام و هو أول من مات من ولد عبد مناف ثم مات عبد شمس بمكة فقبر بأجياد ثم مات نوفل بسلمان من طريق العراق و مات المطلب بربمان من أرض اليمن و كان هاشم قد تزوج بيثرب من الخزرج بسلمى بنت عمرو النجارية فولدت له بيثرب عبد المطلب و كان اسمه شيبة الحمد و نشأ فيهم حتى مات أبوه هاشم و انتقلت عنه الرياسة و الوفادة و السقاية إلى أخيه المطلب و وصف له شيبة بيثرب فخرج فاستنزل أمه عنه حتى أخذه منها و دخل به مكة مردفا له فقالت قريش من هذا ؟ فقال : عبدي فسمي عبد المطلب إلى أن مات فوثب عليه عمه نوفل بن عبد مناف في ركح كان له فاغتصبه إياه و الركح الساحة فسأل عبد المطلب رجالات قومه النصرة عى عمه فقالوا : لسنا داخلين بينك و بين عمك فلما رأى عبد المطلب ذلك كتب إلى أخواله من بني النجار يقول :
( يا طول ليلى لأشجاني و أشغالي ... هل من رسول إلى النجار أخوالي )
( يبني عديا و دينارا و مازنها ... و مالكا عصمة الجيران عن حالي )
( و كنت ما كنت حيا ناعما جذلا أمشي الغضية سحابا لأذيالي )
( حتى ارتحلت إلى قومي و أزعجني عن ذاك مطلب عمي بترحالي )
( فغاب مطلب في قعر مظلمة و قام نوفل كي يعدو على مالي )
( أإن رأى رجلا غابت عمومته و غاب أخواله عنه بلا والي )
( أنحى عليه و لم يحفظ له رحما ما أمنع المرء بين العم و الخال )
( فاستنفروا و امنعوا ضيم ابن أختكم ... لا تخذلوه و ما أنتم بخذالي )
( ما مثلكم في بني قحطان قاطبة حي لجار و إنعام بإفضال )
( أنتم كيان لمن لانت عريكته سلم لقوم و سماح الأبلج العالي )
فقدم عليه ثمانون راكبا من بني النجار و نصروه على عمه نوفل و ارتجعوا منه الركح و عادوا و قد اشتد بهم عبد المطلب فدعا ذلك نوفلا أن حالف بني عبد شمس على عبد المطلب و بني هاشم و دعا ذلك عبد المطلب على أن حالف بني هاشم على نوفل و بني عبد شمس فقوي عبد المطلب و ضعف نوفل
و انتقلت السقاية و الوفادة و الرياسة إلى عبد المطلب و أخذ نوفل عهدا من أكاسرة العراق و صارت رحلته إليها و أخذ عبد المطلب عهدا من ملوك الشام و أقيال حمير باليمن و صارت رحلته إليها و حفر عبد المطلب حين قوي و اشتد بئر زمزم و أخرج منها ما كان ألقاه فيها عامر بن الحرث الجرهمي من غزالي الكعبة و حجر الركن فضرب الغزالين صفائح ذهب على باب الكعبة و وضع الحجر في الركن
و صار عبد المطلب سيدا عظيم القدر مطاع الأمر نجيب النسل حتى مر به أعرابي و هو جالس في الحجر و حوله بنوه كالأسد فقال : إذا أحب الله إنشاء دولة خلق لها أمثال هؤلاء فأنشأ الله لهم بالنبوة دولة خلد بها ذكرهم و رفع لها قدرهم حتى سادوا الأنام و صاروا الأعلام
و صار كل من قرب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم من آياته أعظم رياسة و تنوها و أكثر فضلا و تألها
عبد المطلب ينذر نذرا خطيرا :
فحكى الزهري و يزيد بن رومان و صالح بن كيسان أن المطلب بن هاشم نذر أنه متى رزق عشرة أولاد ذكور و رآهم بين يديه رجالا إن ينحر أحدهم للكعبة شكرا لربه حين أعلم أن إبراهيم أمر بذبح ولده تصورا من أنه أفضل قربة فلما استكمل ولده العدد و صاروا له من أظهر العدد قال لهم : يا بني كنت نذرت نذرا علمتموه قبل اليوم فما تقولون ؟ قالوا : الأمر لك و إليك و نحن بين يديك فقال : لينطلق كل واحد منكم إلى قدحه و ليكتب عليه اسمه ففعلوا ثم أتوا بالقداح فأخذها و جعل يرتجز و بقول :
( عاهدته و أنا موف عهده ... و الله لا يحمد شيء حمده )
( إذ كان مولاي و كنت عبده ... نظرت نظرا لا أحب رده )
( و لا أحب أن أعيش بعده )
ثم دعا بالأمين الذي يضرب بالقداح فدفع إليه قداحهم و قال : حرك و لا تعجل و كان أحب ولد عبد المطلب إليه عبد الله فضرب صاحب القداح السهم على عبد الله فأخذ عبد المطلب الشفرة و أتى بعبد الله و أضجعه بين أساف و نائلة و أنشأ مرتجزا يقول :
( عاهدته و أنا موف نذره ... و الله لا يقدر شيء قدره )
( هذا بني قد أريد نحره ... و أن يؤخره يقبل عذره )
و هم بذبحه فوثب إليه ابنه أبو طالب و كان أخا عبد الله لأبيه و أمه و أمسك يد عبد المطلب عن أخيه و أنشأ مرتجزا يقول :
( كلا و رب البيت ذي الأنصاب ... ما ذبح عبد الله بالتلعاب )
( يا شيب إن الريح ذو عقاب ... إن لنا جرة في الخطاب )
( أخوال صدق كأسود الغاب )
فلما سمعت بنو مخزوم هذا من أبي طالب ـ و كانوا أخواله ـ قالوا : صدق ابن أختنا و وثبوا إلى عبد المطلب فقالوا : يا أبا الحرث إنا لا نسلم ابن أختنا للذبح فاذبح من شئت من ولدك غيره فقال : إني نذرت نذرا و قد خرج القدح و لا بد من ذبحه قالوا : كلا لا يكون ذلك أبدا و فينا ذو روح و إنا لنفديه بجميع أموالنا من طارف و تالد و أنشأ المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم مرتجزا يقول :
( يا عجبا من فعل عبد المطلب ... و ذبحه ابنا كتمثال الذهب )
( كلا و بيت الله مستور الحجب ... ما ذبح عبد الله فينا باللعب )
( فدون ما يبغي خطوب تضطرب )
ثم وثب السادات من قريش إلى عبد المطلب فقالوا : يا أبا الحرث إن هذا الذي عزمت عليه عظيم و إنك إن ذبحت ابنك لم تتهن بالعيش من بعده و لكن لا عليك أنت على رأس أمرك تثبت حتى نسير معك إلى كاهنة بني سعد فما أمرتك من شيء فامتثله فقال عبد المطلب لكم ذلك و كانوا يرون الكهانة حقا ثم خرج في جماعة من بني مخزوم نحو الشام إلى الكاهنة فلما دخلوا عليها أخبرها عبد المطلب بما عزم عليه من ذبح ولده و ارتجز يقول :
( يا رب إني فاعل لما ترد ... إن شئت ألهمت الصواب و الرشد )
( يا سائق الخير إلى كل بلد ... قد زدت في المال و أكثرت العدد )
فقالت الكاهنة : انصرفوا عني اليوم فانصرفوا و عادوا في الغد فقالت : كم دية الرجل عندكم ؟ قالوا : عشرة من الإبل قالت : فارجعوا إلى بلدكم و قدموا هذا الغلام الذي عزمتم على ذبحه و قدموا معه عشرة من الإبل ثم اضربوا عليه و على الإبل القداح فإن خرج القدح على الإبل فانحروها و إن خرج على صاحبكم فزيدوا في الإبل عشرة عشرة حتى يرضى ربكم
فانصرف القوم إلى مكة و أقبلوا عليه يقولون : يا أبا الحرث إن لك في إبراهيم أسوة فقد علمت ما كان من عزمه في ذبح ابنه إسماعيل و أنت سيد ولد إسماعيل فقدم مالك دون ولدك
فلما أصبح عبد المطلب غدا بابنه عبد الله إلى الذبح و قرب معه عشرة من الإبل ثم دعا بأمين القداح و جعل لابنه قدحا و قال : اضرب ولا تعجل فخرج القدح على عبد الله فجعلها عشرين فضرب فخرج القدح على عبد الله فجعلها ثلاثين فضرب فخرج القدح على عبد الله فجعلها أربعين فضرب فخرج القدح على عبد الله فجعلها خمسين
فضرب فخرج القدح على عبد الله فجعلها ستين فضرب فخرج القدح على عبد الله فجعلها سبعين فضرب فخرج القدح على عبد الله فجعلها ثمانين فضرب فخرج القدح على عبد الله فجعلها تسعين فضرب فخرج القدح على عبد الله فجعلها مائة و ضرب فخرج القدح على الإبل فكبر عبد الله و كبرت قريش و قالت : يا أبا الحارث إنه قد أنهى رضاء ربك و قد نجا ابنك من الذبح فقال : لا و الله حتى أضرب عليه ثلاثا فضرب الثانية فخرج على الإبل فضرب الثالثة فخرج على الإبل فعلم عبد المطلب أنه قد أنهى رضاء ربه في فداء ابنه فارتجز يقول :
( دعوت ربي مخلصا و جهرايا رب لا تنحر بني نحرا )
( و فاد بالمال تجد لي و فرا أعطيك من كل سوام عشرا )
( عفوا و لا تشمت عيونا حزرا بالواضح الوجه المغشى بدرا )
( فالحمد لله الأجل شكرا ... فلست و البيت المغطى سترا )
( مبدلا نعمة ربي كفرا ... ما دمت حيا أو أزور القبرا )
ثم قربت الإبل و هي مائة من جملة إبل عبد المطلب فنحرت كلها فداء لعبد الله و تركت في مواضعها لا يصد عنها أحد يتناوبها من دب و درج فجرت السنة في الدية بمائة من الإبل إلى يومنا هذا و انصرف عبد المطلب بابنه عبد الله فرحا فكان عبد الله يعرف بالذبيح
محمد ابن الذبيحين :
و لذلك قال النبي صلى الله تعالى عليه و سلم : [ أنا ابن الذبيحين يعني إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام و أباه عبد الله بن عبد المطلب ] و هذا من صنع الله تعالى لرسوله لما قدره من رسالته و قضاه من آيات نبوته فما يخلو نبي من بلوى منذرة و لا ملك من بلية زاجرة (1/215)
الأنبياء مبتلون
هذا سليمان بن داود عليهما السلام و قد أعطاه الله مع النبوة ملكا لا ينبغي لأحد من بعده و سأل الله تعالى الحكمة فأعطاه قلبا عليما و فهما سليما حتى وضع ثلاثة آلاف مثل تهذبت بها أخلاق قومه و استقامت بها سيرة ملكه بعد أن سخرت له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب و سخرت له الشياطين يعملون له ما يشاء من محاريب و تماثيل و جفان كالجواب
و ذكر في سيرته أنه كان نزله في كل يوم من دقيق السميد ثلاثين كرا و من غير السميد كرا و ارتفاقه في كل سنة ستة و ثلاثين ألف ألف ألف و ثلاثة و ثلاثين ألف ألف و ثلاثمائة ألف مثقال و كان له ألف و أربعمائة قيل متفرقة في القرى و ملك أربعين سنة كأبيه داود فابتلاه الله تعالى في أثناء ملكه بعد عشرين سنة منه ما حكاه الله تعالى في كتابه بقوله { ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب } و في فتنته قولان :
أحدهما : أن سليمان سبى بنت مالك غزاه في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدوت فألقيت عليه محبتها و هي معرضة عنه تذكرا لأبيها لا تنظر إليه إلا شزرا و لا تكلمه إلا نزرا ثم إنها سألته أن يصنع لها تمثالا على صورته فأمر به فصنع لها فعظمته و سجدت له و سجد معها جواريها وصار صنما معبودا في داره و هو لا يعلم به حتى مضت أربعون يوما و فشا خبره في بني إسرائيل و علم به سليمان فكسره ثم حرقه ثم ذراه في الريح هذا قول شهر بن حوشب
و الثاني : إن الله تعالى قد جعل ملك سليمان في خاتمه فقال : لآصف ـ و هو شيطان اسمه آصف الشياطين ـ و كيف تضلون الناس ؟ فقال له الشيطان : أعطني خاتمك حتى أخبرك فأعطاه خاتمه فألقاه في البحر حتى ذهب ملكه و هذا قول مجاهد
و في الجسد الذي ألقي على كرسيه قولان : أحدهما : أنه شيطان الذي ألقي خاتم سليمان في البحر جلس على كرسي سليمان متشبها بصورته يقضي بغير الحق و يأمر بغير الصواب
و الثاني : أكثر من غشي جواريه طلبا للولد فولد له نصف إنسان فكان هو الجسد الملقى على كرسيه و زال عن سليمان ملكه فخرج هاربا إلى ساحل البحر يتضيف الناس و يحمل سموك الصيادين بالأجر و إذا أخبر الناس أنه سليمان كذبوه إلى أن أخذ حوته من صياد قيل إنه استطعمها و قيل بل أخذها أجرا فلما شق بطنها و جد خاتمه في جوفها و ذلك بعد أربعين يوما من زوال ملكه عنه و هي عدة الأيام التي عبد فيها الصنم في داره فسجد الناس له حين عاد الخاتم إليه
و قال يحيى بن أبي عمر : وجد خاتمه بعسقلان فمشى فيها إلى بيت المقدس تواضعا لله و في ثم أناب تأويلان :
أحدهما ثم رجع إلى ملكه قاله الضحاك
و الثاني : ثم أناب من ذنبه قاله قتادة و بقي في ملكه بعد فتنته عشرين سنة استكمل بها الأربعين و هي مدة الأربعين التي زال ملكه فيها
بلوى الملك بختنصر :
و أما بلوى الملوك : فإن بختنصر كان ملكه طبق عمارة الأرض حتى ملك الأقاليم السبعة و دانت له ملوك الأمم و أدوا إليه خراج بلادهم فطغى قلبه و شمخ أنفه فداخلته العزة و اعتقد أن أمم الخلق قد صاروا عبيدا له و خولا و أن ملوك الأرض دانت بطاعته خوفا و رهبا
فغضب الله تعالى عليه و سلبه عزة سلطانه و سطوته و أزال عنه هيبته و قدرته و جعل قلبه مثل قلوب الحيوان فانحط عن سرير ملكه و نفاه أعوانه عنهم فسكن الفلوات يأكل حشيشها و ابتل جسمه من قطر السماء حتى طال شعره و صارت أظافره كمخاليب الطير حتى حال سبعة أحوال و هو في سكرة لا يدري الناس إلا أنه كنوع من الحيوان الذي في صورة البشر إلى أن استنقذه الله تعالى من كربه فثاب إليه عقله و راجعه تمييزه فرجع ببصره إلى السماء معظما لله تعالى و مستجيرا به و معترفا أن لا سلطان إلا له يؤتيه من يشاء و ينزعه ممن يشاء فطلبه قواده ليردوه إلى سلطانه حتى وجدوه فأعادوه إلى دار عزه و أجلسوه على سرير ملكه فعاد إلى خوف الله تعالى و مراقبته و إلى ما كان عليه من جميل سيرته و استناب دانيال النبي في خلافته و تدبير ملكه إلى أن مضى لسبيله بعد أحدى و خمسين سنة من ملكه و دانيال على خلافته
بلوى كسرى ابرويز :
و منهم من ملوك الفرس كسرى ابرويز : بلغ في الملك مبلغا عظيما و كان في قصره اثنا عشر ألف جارية منهن للاستماع ثلاثة آلاف جارية و باقيهن للغناء و الخدمة و كان في داره ثلاثة آلاف رجل يقومون بخدمته و كان له ألف فيل إلا فيلا و من الخيل و البغال خمسون ألف رأس منها لمركبة ثمانية آلاف و خمسمائة و أمر أن يحصى ما اجتبى من خراج بلاده سنة ثماني عشرة من ملكه فكان ستمائة ألف ألف درهم و عدد على ابنه شيرويه بعد قبضه عليه أنه قال : أمرنا في سنة ثلاثين ملكنا بإحصاء ما في بيوت أموالنا سوى ما أمرنا بعزله لأرزاق الجند و كان من الورق أربعمائة ألف بدرة يكون فيها ألف ألف ألف مثقال و ستمائة ألف ألف مثقال سوى ما أفاءه الله تعالى علينا و زادنا من أموال ملوك الروم في سفن أقبلت بها الريح إلينا قسمناه في الرياح و لم تزل تزداد أموالنا إلى سنتنا هذه و هي سنة ثمان و ثلاثين من ملكنا و فيها قبض عليه ابنه حتى قتله و قد ذكر له ما جمع لأنه استطال و احتقر الناس
فانظر أيها المعتبر بعقله في صنع الله تعالى و قدرته فمن يبتليه اختبارا أو يبلوه ازدجارا هل لما قضاه من دافع و فيما ابتلاه من مانع إلا بلطف منه يؤتيه من يشاء و هو القوي العزيز
طهارة مولد محمد عليه السلام :
و أما طهارة مولده فإن الله تعالى استخلص رسوله من أطيب المناكح و حماه من دنس الفواحش و نقله من أصلاب طاهرة إلا أرحام طاهرة و قد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه في تأويل قول الله تعالى { وتقلبك في الساجدين } أي تقلبك من أصلاب طاهرة من أب بعد أب إلى أن جعلتك نبيا و قد كان نور النبوة في آبائه ظاهرا
حكي أن كاهنة بمكة يقال لها : فاطمة بنت مر الخثعمية قرأت الكتب فمر بها عبد المطلب و معه ابنه عبد الله يريد أن يزوجه آمنة بنت وهب فرأت نور النبوة في وجه عبد الله فقالت : هل لك أن تغشاني و تأخذ مائة من الإبل ؟ فعصمه الله تعالى من إجابتها و قال لها :
( أما الحرام فالممات دونه ... و الحل لا حل فاستبينه )
( فكيف بالأمر الذي تبغينه )
فلما تزوجت به أمنة و حملت منه رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم قال لها : هل لك فيما قلت ؟ فلم تر ذلك النور في وجهه فقالت له : قد كان ذلك مرة فاليوم لا ماذا صنعت ؟ فقال : زوجني أبي آمنة بنت وهب الزهرية فقالت : قد أخذت النور الذي كان في وجهك و أنشأت تقول :
( و الآن قد ضيعت ما كان ظاهرا ... عليك و فارقت الضياء المباركا )
( غدوت علي خاليا فبذلته ... لغيري هنيا فالحقن بنسائكا )
( و لا تحسبن اليوم أمس و ليتني ... رزقت غلاما منك في مثل حالكا )
و داخلها الأسف على ما فاتها و الحسرة على ما تولى عنها فحسدت آمنة على ما صار لها فأنشأت تقول :
( إني رأيت مخيلة نشأت ... فتلألأت كتلألؤ الفجر )
( و لما بها نور يضيء به ... ما حولها كإضاءة البدر )
( و رأيتها متبينا شرفا ... ما كل قادح زنده يوري )
( لله ما زهرية سلبت ... ثوبيك ما استلبت و ما تدري )
و أنذرت به بني هاشم فقالت :
( بني هاشم قد غادرت من أخيكم ... أمينة إذ للباه يعتلجان )
( كما غادر المصباح بعد خموده ... فتائل قد ميث له بدهان )
( و ما كل ما يحوي الفتى من بلاد ... هم بحزم و لا ما فاته لتوان )
( فاجمل إذا طالبت مرأ فإنه ... سيكفيكه جدان يعتلجان )
( و لما حوت منه أمينة ما حوت ... منه فخارا ما لذلك ثان )
( سيكفيكه إما يد منغلة ... و إما يد مبسوطة لبنان )
و هذا من آيات الله تعالى في رسوله أن عصم أباه حين كان في ظهره أن يضعه من سفاح حتى وضعه من نكاح ثم زالت العصمة بعد وضعه حتى عرض بالطلب بعد أن كان مطلوبا و رغب فيه بعد أن كان مرغوبا ثم لم يشركه في ولادته من أبويه أخ و لا أخت لانتهاء صفوتهما إليه و قصور نسبهما عليه ليكون مختصا بنسب جعله الله تعالى للنبوة غاية و لتفرده بها آية فيزول عنه أن يشارك فيه و يماثل به فلذلك مات أبواه عنه في صغره فأما أبوه عبد الله فمات عنه بمكة وهو حمل و أما آمنة فماتت عنه بالمدينة و هو ابن ست سنين لأنها رحلت إليها لزيارة أخوالها من بني النجار فماتت بها عندهم
و إذا خبرت حال نسبه و عرفت طهارة مولده علمت أنه سلالة آباء كرام سادوا و رأسوا لأنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر ابن نزار بن معد بن عدنان ليس في آبائه خامل مسترذل و لا مغمور مستذل كلهم سادة قادة وهم أخص الناس بالمناكح الطاهرة حتى تخرجوا من نكاح المحارم و إن استباحه غيرهم من العرب حتى حكي أن حاجب بن زرارة و هو سيد بني تميم نكح بنته و أولدها و قد كان سماها و دختنوس باسم بنت كسرى و قال فيها حين نكحها مر تجزا :
( يا ليت شعري عنك دختنوس ... إذا أتاها الخبر المرموس )
( أتسحب الذيلين أم تميس ... لا بل تميس إنها عروس )
و هذا في قريش من الفواحش و في التوراة أن لوطا نكح بنتين له فولدتا غلامين و لهما ذرية كبيرة و لوط هو ابن أخي إبراهيم الخليل و قد تزوج إبراهيم بنت أخيه سارة بنت هاران بن تارخ فتنزهت قريش من هذه المناكح حفظا لحرمة الأرحام الدانية أن تنتهك بالمناكح العاهرة فتضعف الحمية و تقل الغيرة
إجابة عن اعتراض :
فإن قيل : يشارك الأنبياء في شرف النسب و طهارة المولد غيرهم فلم يستحق بهما النبوة
قيل : هما من شروط النبوة و إن استحقت بغيرهما فلم يمتنع أن يكون لهما في النبوة تأثير معتبر و وصف مختبر (1/233)
الباب التاسع عشر : في آيات مولده و ظهور بركته صلى الله تعالى عليه و سلم
شواهد النبوة :
آيات الملك باهرة و شواهد النبوة قاهرة تشهد مباديها بالعواقب فلا يلتبس فيها كذب يصدق و لا منتحل بمحق و بحسب قوتها و انتشارها يكون بشائرها و إنذارها
أصحاب الفيل :
و لما دنا مولد رسول الله تعالى صلى الله عليه و سلم تعاطرات آيات نبوته و ظهرت آيات بركته فكان من أعظمها شأنا و أظهرها برهانا و أشهرها عيانا و بيانا أصحاب الفيل أنفذهم النجاشي من أرض الحبشة في جمهور جيشه إلى مكة لقتل رجالها و سبي ذراريها و هدم الكعبة
و اختلف في سببه فذكر قومه أن إبراهيم الصباح استولى على اليمن معتزيا إلى النجاشي فبنى بصنعاء اليمن كنيسة للنصارى و استعان في بنيانها بقيصر و النجاشي حتى بناها في تشييدها و حسنها ليعدل بالعرب عن حج الكعبة إليها فأنكرته العرب و دخل هيكلها بعض بني كنانة من قريش فأحدث فيها
فكتب إلى النجاشي يستمده بالفيل و جيش الحبشة ليغزو قريشا و يهدم الكعبة فسار بهم و أخذ أبا رغال من الطائف دليلا إلى مكة حتى أنزله بالمغمس و مات أبو رغال بالمغمس فدفن فيه فرجمت العرب قبره فهو المرجوم بالمغمس
و قال آخرون بل سببه أن نفرا من تجار قريش مروا ببيعة للنصارى على شاطئ البحر فنزلوا بفنائها و أوقدوا نارا لعمل طعامهم فاحترقت البيعة فأقسم النجاشي ليسبين مكة و ليهدمن الكعبة فأنفذ جيشه و الفيل مع إبراهيم بن الصباح و ابن مكسوم و حجر بن شراحيل و الأسود بن مقصود
من هم رؤساء أصحاب الفيل :
و كان النجاشي هو الملك و أبرهة صاحب جيشه على اليمن و أبو مكسوم وزيره و حجر و الأسود من قواده فساروا بالجيش مع الفيل حتى نزلوا بذي المجاز و تقدمهم الأسود بن مقصود فاستاق سرح مكة فقال فيه عبد الله بن مخزوم :
( لا هم اخز الأسود بن مقصود ... الآخذ الهجمة بعد التقليد )
( و يهدم البيت الحرام المعبود ... و المروتين و المشاعر السود )
( اخزهم يا رب و أنت معبود )
الجيش الغازي يسلب أنعام مكة :
و كان في السرح مائتا بعير لعبد المطلب و قد قلد بعضها فخرج و كان وسيما جسيما إلى أبرهة و سأله في أبله فقال له إبرهة : قد كنت أعجبتني حين رأيتك و قد زهدت الآن فيك قال و لم ؟ قال : جئت لأهدم الكعبة بيتا هو دينك و دين آبائك فلم تسألني فيه و سألتني في إبلك فقال عبد المطلب : أنا رب إبلي و للبيت رب غيري سيمنعه منك فقال أبرهة : ما كان ليمنعه مني و رد على عبد المطلب إبله مستهزئا ليعود فيأخذها
فأحرزها عبد المطلب في جبال مكة و أتى الكعبة فأخذ حلقة الباب و جعل يقول :
( يا رب إن المرء يمنع ... حله فامنع حلالك )
( لا يغلبن صليبهم ... و محالهم أبدا محالك )
( إن كنت تاركهم ... و كعبتنا فأمر ما بدا لك )
( فلئن فعلت فإنه ... أمر يتم به فعالك )
( اسمع بارجس من أرا ... دوا العدو و انتهكوا حلالك )
( جروا جميع بلادهم ... و الفيل كي يسبوا عيالك )
( عمدوا حماك بكيدهم ... جهلا و ما رقبوا جلالك )
جيش أبرهة يتقدم صوب مكة :
و توجه الجيش إلى مكة من طريق منى و الفيل معهم إذا بعث على الحرم أحجم و إذا عدل عنه أقدم فوقعوا بالمغمس فقال أبو الطيب بن مسعود في ذلك و قيل بل قاله عبد المطلب :
( إن آيات ربنا ساطعات ... ما يماري بها إلا الكفور )
( حبس الفيل بالمغمس حتى ... مر يعوي كأنه معقور )
طيور أبابيل تهاجم الجيش :
و بصر أهل مكة بالطير قد أقبلت من ناحية البحر
فقال عبد المطلب إن هذه غريبة بأرضنا ما هي نجدية و لا تهامية و لا حجازية و إنها لأشباه اليعاسيب و كان في مناقيرها و أرجلها حجارة فلما أظلت على القوم ألقتها عليهم حتى هلكوا فأفلت من القوم أبرهة
و رجع إلى اليمن فمات في طريقه بعد أن كان يسقط من جسده عضو عضو حتى هلك و لما تأخر القوم عنهم و استعجم خبرهم عليهم قال عبد المطلب :
( يا رب لا نرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع منهم حماكا )
( إن عدو البيت من عاداكا ... امنعهم أن يخربوا قراكا )
و بعث ابنه عبد الله ليأتيه بخبرهم فوجد جميعهم قد شدختهم الأحجار حتى هلكوا فعاد راكضا إلى عبد المطلب و أصحابه و أخذوا أموالهم فكانت أول أموال بني عبد المطلب فأنشأ مرتجزا يقول :
( أنت منعت الجيش و الأفيالا ... و قد رعوا بمكة الأخيالا )
( و قد خشينا منهم القتالا ... و كل أمر لهم معضالا )
( شكرا و حمدا لك ذا الجلالا )
آية الرسول من قصة الفيل :
و آية الرسول صلى الله عليه و سلم من قصة الفيل : أنه كان في زمانه حملا في بطن أمه بمكة لأنه ولد بعد خمسين يوما من الفيل و بعد موت أبيه في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول و وافق بين شهور الروم العشرين من شباط في السنة الثانية عشرة من ملك هرمز بن أنوشروان
و حكى أبو جعفر الطبري أن مولده كان لاثنتين و أربعين سنة من ملك أنوشروان [ فكانت آيته ] في ذلك من وجهين : أحدهما أنهم لو ظفروا لسبوا و استرقوا فأهلكهم الله تعالى لصيانة رسوله أن يجري عليه السبي حملا و وليدا
و الثاني : أنه لم يكن لقريش من التأله ما يستحقون به رفع أصحاب الفيل عنهم و ما هم أهل كتاب لأنهم كانوا بين عابد صنم أو متدين وثن او قائل بالزندقة أو مانع من الرجعة
و لكن لما أراده الله تعالى من ظهور الإسلام تأسيسا للنبوة و تعظيما للكعبة و أن يجعلها قبلة للصلاة و منسكا للحج
مقارنة بين عمل أبرهة و عمل الحجاج :
فإن قيل : فكيف منع الكعبة قبل مصيرها قبلة و منسكا و لم يمنع الحجاج من هدمها و قد صارت قبلة و منسكا حتى أحرقها و نصب المنجنيق عليها فقال فيها على ما حكي عنه :
( كيف تراه ساطعا غباره ... و الله فيما يزعمون جاره )
و قال راميها بالمنجنيق :
( قطارة مثل الفنيق المزبد ... أرمي بها أعواد كل مسجد )
قيل : فعل الحجاج كان بعد استقرار الدين فاستغنى عن آيات تأسيسه و أصحاب الفيل كانوا قبل ظهور النبوة فجعل المنع منها آية لتأسيس النبوة و مجيء الرسالة على أن الرسول قد أنذر بهدمها فصار انهدم آية فلذلك اختلف حكمها في الحالين و الله تعالى أعلم
تهيب العرب الحرم و أعظموه :
و لما انتشر في العرب ما صنع الله تعالى بجيش الفيل تهيبوا الحرم و أعظموه و زادت حرمته في النفوس و دانت لقريش بالطاعة و قالوا : أهل الله قاتل عنهم و كفالة كيد عدوهم فزادوهم تشريفا و تعظيما و قامت قريش لهم بالوفادة و السدانة و السقاية
و الوفادة مال تخرجه قريش في كل عام من أموالهم يصنعون به طعاما للناس أيام منى فصاروا أئمة ديانين وقادة متبوعين و صار أصحاب مثلا في الغابرين
قصة عمر بن الخطاب مع العشار :
و روى هشام بن محمد الكلبي عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه خرج في الجاهلية تاجرا إلى الشام فمر بزنباع بن روح ـ و كان عشارا ـ فأساء إليه في اجتيازه و أخذ مكسه فقال عمر بعد انفصاله :
( متى ألف زنباع بن روح ببلدة ... إلى النصف منها يقرع السن بالندم )
( و يعلم أن من لؤي من غالب ... مطاعين في الهيجا مضاريب في التهم )
فبلغ ذلك زنباعا فجهز جيشا لغزو مكة فقيل له : إنها حرم الله ما أرادها أحد بسوء إلا هلك كأصحاب الفيل فكف زنباع فقال :
( تمنى أخو فهر لقاي و دونه ... قراطبة مثل الليوث الحواظر )
( فو الله لولا الله لا شيء غيره ... و كعبته راقت إليكم معاشري )
( لأقتل منكم كل كهل معمم ... و أسبي نساء بين جمع الأباعر )
فبلغ ذلك عمر رضوان الله تعالى عليه فأجابه و قال :
( ألم تر أن الله أهلك من بغى علينا قديما في قديم المعاشر )
( و أردى أبا مكسوم أبرهة الذيأتانا مغيرا كالفنيق المخاطر )
( بجمع كثير يحرج العين وسطهعلى رأسه تاج على رأس باكر )
( فما راعنا من ذلك العبد كيده و كنا به من بين لاه و ساخر )
( و قال سابغي البيت هدما و لا أرى ... بمكة ماش بين تلك المشاعر )
( فرداه رب العرش عنا رداءة و لم ينجه إعظامه بالمرائر )
( فأهلكه و التابعين له معا و أسري به من ناصر و مسامر )
( و ليس لنا فاعلم و ليس لبيتنا ... سوى الله من مولى عزيز و ناصر )
( فدونك زرنا تلق مثل الذي لقوا جميعهم من دراعين و حاسر )
و كان شأنا الفيل رادعا لكل باغ و دافعا لكل طاغ و قد عاصر رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم في زمن نبوته و بعد هجرته جماعة شاهدوا الفيل و طير الأبابيل منهم : حكيم بن حزام و حاطب بن عبد العزى و نوفل بن معاوية لأن كل واحد من هؤلاء عاش مائة و عشرين سنة منها ستين سنة في الجاهلية و ستين سنة في الإسلام
حمل الرسول و ولادته عليه السلام :
و لما حملت آمنة بنت وهب برسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم حدثت أنها أتيت فقيل لها : إنك قد حملت بسيد هذه الأمة فإذا وقع على الأرض فقولي : أعيذه بالواحد من شر كل حاسد ثم سميه محمدا و رأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت منه قصور بصرى من أرض الشام
قالت أم عثمان بن العاص : شهدت ولادة آمنة برسول الله صلى الله عليه و سلم و كان ليلا فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نور و إنني أنظر إلى النجوم تدنو و إني أقول لتقعن علي و لما وضعته تركت عليه في ليلة ولادته جفنة فانقلبت عنه فكان من آياته إن لم تحوه و أرسلت إلى جده عبد المطلب أن قد ولد لك غلام فأته فانظر إليه فأتاه و نظر إليه و حدثته بما رأت حين حملت به و ما قيل لها فيه و ما أمرت أن تسميه فقيل إن عبد المطلب أخذه فدخل به على هبل في جوف الكعبة فقام عنده يدعو و يشكر بما أعطاه ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها و قال قد رأى فيه سمات المجد و ترسم فيه أمارات السؤدد و أن محمدا لن يموت حتى يسود العرب العجم و أنشأ يقول :
( الحمد لله الذي أعطاني ... هذا الغلام الطيب الأردان )
( أعيذه بالواحد المنان ... من كل ذي عيب و ذي شنآن )
( حتى أراه شامخ البنيان )
قدوم المرضعات إلى مكة :
و لم يزل موفور البركة على كل لائذ به و كافل له فروى جهم بن أبي الجهم عن عبد الله بن جعفر قال : لما ولد رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم قدمت حليمة بنت الحرث بن عبد العزى تلتمس الرضعاء في سنة شيبة قالت و معنا شارف و الله ما يبض لنا بقطرة من لبن و معي بني لي منه و ما نجد في ثديي ما نعلله إلا أنا نرجو الغيث و كانت لنا غنم فنحن نرجوها
فلما قدمنا مكة لم يبق منا امرأة إلا عرض عليها رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فلم تقبله و كرهناه ليتمه فأخذ كل صواحبي رضعاء و لم أجد غيره فأخذته و أتيت به رحلي فو الله إن هو إلا ثبت في الرحل و أمسيت فأقبل ثدياي باللبن حتى أرويته و أرويت أخاه
لبركة تصل إلى الناقة :
و قام أبوه إلى شارفنا تلك ليمسها بيده فإذا هي حافل فحلبها ما رواني من لبنها و روى الغلمان فقال : يا حليمة و الله لقد أصبنا نسمة مباركة
رجوع مرضعة النبي إلى بلدها :
ثم اغتدينا راجعين إلى بلادنا فركبت أتاني و حملته معي فو الذي نفس حليمة بيده لقد طفت بالركب حتى إن النسوة ليقلن : يا حليمة أمسكي عنا أهذه أتانك التي خرجت عليها ؟ قلت : نعم فقلت : و الله إني لأرجو من الله أن أكون قد حملت عليها غلاما مباركا قالت : فكان الله يزيدنا به في كل يوم خيرا و إن غنما لتعود من الرعي بطانا حفلا و تعود غنم الناس خماصا جياعا
شق صدر النبي عليه السلام :
قالت : فبينا هو يلعب خلف البيوت و أخوه في بهم لنا إذ أتاني أخوه يشتد فقال : إن أخي القرشي جاءه رجلان عليهما ثوبان أبيضان فأخذاه فأضجعاه و شقا بطنه فخرجت أنا و أبوه فوجدناه قائما قد انتفع لونه فلما رآنا أجهش إلينا باكيا قالت : فالتزمته أنا و أبوه و قلنا له : ما لك ؟ فقال : جاءني رجلان فأضجعاني فشقا بطني و صنعا بي يلم رداءه كما هو
قال أنس بن مالك : جاءه جبريل فصرعه فشق بطنه فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة فقال : هذا حظ الشيطان منك ثم غسله ثم لأمه ثم أعاده مكانه قال أنس : قد كنت أنظر إلى أثر المخيط في صدره
حليمة ترجع الطفل محمدا إلى أهله :
ثم إن زوج حليمة قال لها : يا حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر به ذلك فاحتملته حليمة حتى قدمت به على أمه آمنه فقالت أمه : ما أقدمك به يا ظئر قالت : قد قضيت الذي علي و تخوفت الأحداث عليه فأديته إليك كما تحبين
قالت : ما هذا شأنك فاصدقيني فأخبرتها حليمة بحاله و قالت : تخوفت عليه الشيطان فقالت أمه : كلا و الله ما للشيطان عليه سبيل و إن له لشأنا و إني رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاءت منه قصور بصرى و وقع حين ولدته و إنه لواضع يده بالأرض رافع رأسه في السماء دعيه فانطلقي راشدة و في هذا الخبر من آياته ما تذعن النفوس بصحة نبوته
صيانة الله لمحمد صلى الله عليه و سلم و هو غلام :
و روى محمد بن إسحق قال حدثني بعض أصحابنا : أن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم قال : لقد رأيتني و أنا غلام يفع بمكة مع غلمان قريش نحمل حجارة على أعناقنا و قد حملنا أزرنا فوطأنا على رقابنا إذ دفعني دافع ما أراه و قال : اشدد عليك إزارك فشددت إزاري و هذا من نذر الصيانة ليكون عليها ناشئا و لها آلفا
صيانة الله لمحمد و هو يافع :
[ و روى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم يقول : ما هممت بشيء مما كان في الجاهلية يعملون به غير مرتين كل ذلك يحول الله تعالى بيني و بين ما أريد
فإني قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة : لو أبصرت إلى غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها ما يسمر الشباب فقال : أدخل فخرجت أريد ذلك حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفا بالدفوف و المزامير فقلت : ما هذا ؟ قالوا : فلان بن فلان تزوج فلانة ابنة فلان فجلست أنظر إليهم فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس قال : فجئت صاحبي فقال : ما فعلت ؟ فقلت : ما صنعت شيئا و أخبرته الخبر
قال ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك فقال : افعل فخرجت فسمعت حين جئت مكة مثل ما سمعت و دخلت مكة تلك الليلة فجلست أنظر فضرب الله على أذني فو الله ما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فأخبرته الخبر ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله برسالته ]
فهذه أحوال عصمته قبل الرسالة و صده عن دنس الجهالة فاقتضى أن يكون بعد الرسالة أعظم و من الأدناس أسلم كفى بهذه الحالة أن يكون من الأصفياء الخيرة إن أمهل و من الأتقياء البررة إن أغفل و من أكبر الأنبياء عند الله تعالى من أرسل مستخلص الفطرة على النظرة و قد أرسله الله تعالى بعد الاستخلاص و طهره من الأدناس فانتفت عن تهم الظنون و سلم من ازدراء العيون ليكون الناس إلى إجابته أسرع و إلى الانقئاد له أطوع
قريش ترغب في تجديد بناء الكعبة :
و لما نشأ رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم في قريش على أحمد هدى و صيانة و أكمل عفاف و أمانة سموه الأمين بعد اختباره و قدموه لفضله و وقاره و تشاوروا في هدم الكعبة و بنائها لقصر سمكها
و كان فوق القامة و سعة حيطانها و كان يتهافت فأرادوا تجديدها و تعليتها و خافوا من الإقدام على هدمها و كان للكعبة كنز وجدوه عند دويك مولى لبني مليد بن خزاعة و أخذته قريش منه و قطعت يده و اتهموا به الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف أن يكون قد تولى أخذه و أودعه عند دويك فنافروه إلى كاهنة من كهان العرب فسجعت عليه من كهانتها : أن لا يدخل مكة عشر سنين بما استحل من حرمة الكعبة فكان يجول حول مكة حتى استوفى العشر
حية عظيمة منعت الهدم :
و كان يظهر في الكعبة حية يخاف الناس منها لا يدنو منها أحد إلا اخزألت و فتحت فاها فتوقوها إلى أن علت ذات يوم على جدار الكعبة فسقط طائر فاختطفها فقالت قريش : إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا
و كان البحر قد قذف سفينة على ساحل جدة لرجل من تجار الروم و كان بمكة نجار من القبط فهيأ لهم تسقيف الكعبة بخشب السفينة
لا تبنى الكعبة إلا بمال طيب :
فلما أزمعوا على هدمها قام أبو وهب بن عمير و كان خال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم ذا شرف و قدر فأخذ حجرا من الكعبة فوثب الحجر من يده حتى عاد في موضعه فقال : يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا و لا تدخلوا فيها مهر بغي و لا بيع ربا و لا مظلمة أحد من الناس و تصورت قريش أن عود الحجر من يد أبي وهب إلى موضعه أن الله تعالى قد كره هدمها فهابوه
بدء هدم الكعبة :
و قال الوليد بن المغيرة : أنا أبدؤكم في هدمها فأخذ المعول و قام عليها و هو يقول : اللهم لا نريد إلا الخير ثم هدم الركنين فتربض الناس به تلك الليلة و قالوا : ننتظر فإن أصيب لم نهدم و إن لم يصب هدمناها و قد رضي ما صنعنا
فأصبح الوليد من ليلته و عاد إلى عمله و تحاصت قريش الكعبة فكان شق البيت لبني عبد مناف و زهرة و ما بين الركن الأسود و الركن اليماني لبني مخزوم و تيم و قبائل انضمت إليه من قريش و كان شق الحجر و الحطيم لبني عبد الدار و بني عبد العزى و بني عدي و كان ظهر الكعبة لبني جمح و بني سهم حتى انتهوا إلى الأساس فأفضوا إلى حجارة خضر قيل إنها كانت على قبر إسماعيل فضربوا المعول بين حجرين فلما تحركا انتفضت مكة بأسرها فكفوا و انتهوا إلى أصل الأساس
بدء بناء الكعبة :
و جمعت كل قبيلة حجارة ما هدمت و بنوا حتى انتهوا إلى ركن الحجر فتنازعت القبائل فيمن يضع الحجر في موضعه من الركن فأقبلوا حتى مكثوا أربع ليال أو خمسا ثم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا فقال أبو أمية بن المغيرة ـ و كان أمين قريش في وقته ـ : يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول رجل يدخل من باب هذا المسجد فكان أول داخل عليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فقالوا : هذا محمد و هو الأمين فقالوا : قد رضينا به لما قد استقر في نفوسهم من فضله و أمانته فلما وصل إليهم أخبروه فقال : ائتوني ثوبا فأتوه بثوب فأخذ الحجر و وضعه فيه بيده و قال : ليأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب و ليرفعوه جمعيا ففعلوا فلما بلغ الحجر إلى موضعه وضعه فيه بيده فكان هذا الفعل من مستحسن أفعاله و آثاره و الرضاء به من أمارات طاعته و كان ذلك بعد عام الفجار بخمس عشرة سنة و رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم يومئذ ابن خمس و ثلاثين سنة فكان ذلك تأسيسا لما يريده الله تعالى به من كرامته و توطئة لقبول ما تحمله من رسالته و الله أعلم بمغيب ما استأثر من علمه (1/240)
الباب العشرون ـ في شرفه أخلاقه و كمال فضائله صلى الله تعالى عليه و سلم
فضائل محمد صلى الله عليه و سلم ثابته قبل النبوة :
المهيأ لأشرف الأخلاق و أجمل الأفعال المؤهل لأعلى المنازل و أفضل الأعمال لأنها أصول تقود إلى ما ناسبها و وافقها و تنفرد مما باينها و خالفها و لا منزلة في العالم أعلى من النبوة التي هي سفارة بين الله تعالى و عباده تبعث على مصالح الخلق و طاعة الخلق فكان أفضل الخلق بها أخص و أكملهم بشروطها أحق بها و أمس
و لم يكن في عصر الرسول و ما دانى طرفيه من قاربه في فضله و لا داناه في كماله خلقا و خلقا وقولا و فعلا و بذلك و صفه الله تعالى في كتابه بقوله : { وإنك لعلى خلق عظيم }
فإن قيل : فليست فضائله دليلا على نبوته و لم يسمع بنبي احتج بها على أمته و لا عول عليها في قبول رسالته لأنه قد يشارك فيها حتى يأتي بمعجز يخرق العادة فيعلم المعجز أنه نبي لا بالفضل
قيل : الفضل من أماراتها و إن لم يكن من معجزاتها و لأن تكامل الفضل معوز فصار كالمعجز و لأن من كمال الفضل اجتناب الكذب و ليس من كذب في ادعاء النبوة بكامل الفضل فصار كمال الفضل موجبا للصدق و الصدق موجبا لقبول القول فجاز أن يكون من دلائل الرسل
كمال خلق النبي صلى الله عليه و سلم :
فإذا وضح هذا فالكمال المعتبر في البشر يكون من أربعة أوجه :
أحدها : كمال الخلق و الثاني : كمال الخلق و الثالث : فضائل الأقوال و الرابع : فضائل الأعمال
فأما الوجه الأول في كمال خلقه بعد اعتدال صورته فيكون بأربعة أوصاف :
أحدها : السكينة الباعث على الهيبة و التعظيم الداعية إلى التقديم و التسليم و كان أعظم مهيب في النفوس حتى ارتاعت رسل كسرى من هيبته حين أتوه مع ارتياضهم بصولة الأكاسرة و مكاثرة الملوك الجبابرة فكان في نفوسهم أهيب و في أعينهم أعظم و إن لم يتعاظم بأهبة و لم يتطاول بسطوة بل كان بالتواضع موصوفا و بالوطاء معروفا
و الثاني : الطلاقة الموجبة للإخلاص و المحبة الباعثة على المصافاة و المودة و قد كان محبوبا و لقد استحكمت محبة طلاقته في النفوس حتى لم يقله مصاحب و لم يتباعد منه مقارب و كان أحب إلى أصحابه من الآباء و الأبناء و شرب البارد على الظمأ
و الثالث : حسن القبول الجالب لممائلة القلوب حتى تسرع إلى طاعته و تذعن بموافقته و قد كان قبول منظره مستوليا على القلوب و لذلك استحكمت مصاحبته في النفوس حتى لم ينفر منه معاند و لا استوحش منه مباعد إلا من ساقه الحسد إلى شقوته و قاده الحرمان إلى مخالفته
و الرابع : ميل النفوس إلى متابعته و انقيادها لموافقته و ثباته على شدائده و مصابرته فما شذ عنه معها من أخلص و لا ند عنه فيها من تخصص
و هذه الأربعة من دواعي السعادة و قوانين الرسالة و قد تكاملت فيه فكمل لما يوازيها و استحق ما يقتضيها
كمال أخلاق النبي صلى الله عليه و سلم :
و أما الوجه الثاني في كمال أخلاقه فيكون بست خصال :
إحداهن رجاحة عقله و صحة وهمه و صدق فراسته و قد دل على وفور ذلك فيه صحة رأيه و صواب تدبيره و حسن تألفه و أنه ما استفعل في مكيدة و لا استعجز في شديدة بل كان يلحظ الإعجاز في المبادي فيكشف عيوبها و يحل خطوبها و هذا لا ينتظم إلا بأصدق وهم و أوضح جزم
ثباته في الشدائد عليه السلام :
و الخصلة الثانية ثباته في الشدائد و هو مطلوب و صبره على البأساء و الضراء و هو مكروب و محروب و نفسه في اختلاف الأحوال ساكنة لا يجوز في شديدة و لا يستكين لعظيمة أو كبيرة و يقدر على الخلاص و هو بالشر لا يزداد إلا اشتدادا و صبرا و قد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي و يهد الصياصي و هو من الضعف يصابر صبر المستعلي و يثبت ثبات المستولي
و روى حماد بن سلمة [ عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم قال : لقد أخفت في الله و ما يخاف أحد و لقد أوذيت في الله و ما يؤذي أحد و لقد أتت علي ثلاثون من بين يوم و ليلة و مالي و لبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال ]
و روى عبد الرحمن بن زيد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : ما شبع آل محمد من الشعير يومين حتى قبض رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم
و من صبر على هذه الشدائد في الدعاء إلى الله تعالى امتنع أن يريد به الدنيا و قد زويت عنه و ما ذاك إلا لطلب الآخرة و مستحيل ممن كذب في ادعائه إليها أن يستوحشها أو كذب على الله تعالى أن يثاب بها
زهده في الدنيا عليه السلام :
و الخصلة الثالثة زهده في الدنيا و إعراضه عنها و قناعته بالبلاغ منها فلم يمل إلى نضارتها و لم يله لحلاوتها
و روى سفيان الثوري [ عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة بن عبد الرحمن قال : قيل لرسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم إن شئت أعطيت خزائن الأرض ما لم يعط أحد قبلك و لا يعطاه أحد بعدك و لا ينقضك في الآخرة شيئا قال : اجمعوها لي في الآخرة فنزلت : { تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا } ]
و روى هلال بن أبي خباب [ عن عكرمة عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب رضوان الله تعالى عليه دخل على رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و هو على حصير قد أثر في جسمه فقال له : يا رسول الله لو اتخذت فراشا أوطأ من هذا فقال : ما لي و للدنيا و الذي نفسي بيده ما مثلي و مثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من النهار ثم راح و تركها ]
و روى حميد بن بلال بن أبي بردة قال : أخرجت إلينا عائشة رضي الله تعالى عنها كساء ملبدا و إزارا غليظا و قالت : قبض رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم في هذين
هذا و قد ملك من أقصى الحجاز إلى عذار العراق و من أقصى اليمن إلى شجر عمان و هو أزهد الناس فيما يقتني و يدخر و أعراضهم عما يستفاد و يحتكر لم يخلف عينا و لا دينا و لا حفر نهرا و لا شد قصرا و لم يورث ولده و أهله متاعا و لا مالا ليصرفهم عن الرغبة في الدنيا كما صرف نفسه عنها فيكونوا على مثل حاله في الزهد فيها
و روى أبو سلمة [ عن أبي هريرة قال : جاءت فاطمة عليها السلام الى أبي بكر رضي الله تعالى عنه تريد الميراث فمنعها فقالت : من يرثك ؟ قال : ولدي و أهلي فقالت : فلا ترث رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم بنته ؟ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم يقول : إنا لا نورث ما تركنا فهو صدقة فمن كان رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم يعوله فأنا عوله و من كان رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم ينفق عليه فأنا أنفق عليه ]
و حث رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم على الزهد في الدنيا و الإعراض عن التلبس بها ليكون عونا على السلامة من تبعاتها و صرف النفوس عن شهواتها
و روى عبد المطلب بن حاطب [ عن أبي موسى الأشعري : أن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم قال : من أحب دنياه أضر بآخرته فآثروا ما يبقى على ما يفنى ]
وروى [ عن الحسن رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : حب الدنيا رأس كل خطيئة ]
و روى أبو حكيم [ عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : احذروا الدنيا فإنها أسحر من هاروت و ماروت ]
و روى عمرو بن مرة [ عن أبي جعفر قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : يا عجبا كل العجب للمصدق بدار الخلود و هو يسعى لدار الغرور ]
و روى عوف [ عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم إنما مثل الدنيا كمثل الماشي على الماء هل يستطيع الذي يمشي على الماء أن لا تبتل قدماه ؟ ! ]
و هذه الدواعي و الوصايا ما اقتدى به خلفاؤه في زهده و انتقلوا بالأمور من بعده
فكان أبو بكر رضوان الله عليه يتخلل عباءة له و هو خليفة فسمي : ذا الخلالين
و كان عمر رضي الله تعالى عنه يلبس مرقعة من صوف فيها رقاع من أدم و يطوف في الأسواق على عاتقه درة يؤدب بها الناس و يمر بالنوى فيلقطه و يلقيه في منازل الناس حتى ينتفعوا به و يطوف وحده في الليل عسا و يتطلع غوامض الأمور تجسسا ليأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر
و كان عثمان رضي الله تعالى عنه يقوم الليل كله يختم القرآن في ركعة و جاد بماله و فدى الخلق بنفسه و قال : إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد و أشرب كما يشرب العبد
و اشترى علي رضي الله تعالى عنه و هو خليفة قميصا بثلاثة دراهم و قطع كمه من موضع الرسغين و قال : الحمد لله الذي هذا من رياشه و لم يزل يأكل الخشن و يلبس الخشن و فرق الأموال حتى رش بيت المال و نام فيه و قال : يا صفراء يا بيضاء غري غيري
و حقيق بمن كان في الدنيا بهذه الزهادة حتى اجتذب أصحابه إليها أن لا يتهم بطلبها و يكذب على الله تعالى في ادعاء الآخرة بها و يقنع في العاجل و قد سلب الآجر بالميسور النزر و رضي بالعيش الكدر
و قد روى الزهري [ عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم يقول في شهر رمضان : قدمي غداءك المبارك و قالت : ربما لم يكن إلا تمرتين ]
و روى عبد الله بن مسلمة [ عن مالك بن أنس أنه بلغه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم دخل المسجد فوجد أبا بكر و عمر رضي الله تعالى عنهما فسألهما فقال : ما أخرجكما فقالا : أخرجنا الجوع فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : و أنا أخرجني الجوع فذهبوا إلى أبي الهيثم بن التيهان فأمر له بحنطة أو شعير عنده يعمل و قام فذبح لهم شاة فقال له نكب عن ذات الدر و استعذب لهم ماء علق على نخلة ثم أوتوا بذلك الطعام فأكلوا منه و شربوا من ذلك الماء فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : لتسألن عن نعيم هذا اليوم ثم ملكوا الدنيا فرفضوها و اقتنعوا بالبلاغة فيها ]
تواضعه عليه السلام :
و الخصلة الرابعة تواضعه للناس و هم اتباع و خفض جناحه لهم و هو مطاع يمشي في الأسواق و يجلس على التراب و يمتزج بأصحابه و جلسائه فلا يتميز عنهم إلا بإطراقه و حيائه : فصار بالتواضع متميزا و بالتذلل متعززا و لقد دخل عليه بعض الأعراب فارتاع من هيبته فقال خفف عليك فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة و هذا من شرف أخلاقه و كريم شيمه فهي غريزة فطر عليها و جبلة طبع بها و لم تندر فتعد و لم تحصر فتحد
حلمه و وقاره عليه السلام :
و الخصلة الخامسة حلمه و وقاره عن طيش يهزه أو خرق يستفزه فقد كان أحلم في النفار من كل حليم و أسلم في الخصام من كل سليم و قد مني بجفوة الأعراب فلم يوجد منه نادرة و لم يحفز عليه بادرة و لا حليم غيره إلا ذو عسرة و لا وقور سواه إلا ذو هفوة فإن الله تعالى عصمه من نزع الهوى و طيش القدرة بهفوة أو عثرة ليكون بأمته رؤوفا و على الخلق عطوفا قد تناولته قريش بكل كبيرة و قصدته بكل جريرة و هو صبور عليهم و معرض عنهم و ما تفرد بذلك سفهاؤهم دون حلمائهم و لا أراذلهم دون عظمائهم بل تمالأ عليه الجلة و الدون فكلما كانوا عليه من الأمر و ألح كان عنهم أعرض و أفصح حت قهر فعفا و قدر فغفر و قال لهم حين ظفر بهم عام الفتح و قد اجتمعوا إليه : ما ظنكم بي ؟ قالوا : ابن عم كريم فإن تعف فذاك الظن بك و إن تنتقم فقد أسأنا فقال : بل أقول كما قال يوسف لأخوته { لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين } قال صلى الله تعالى عليه و سلم : [ اللهم قد أذقت أول قريش نكالا فأذق آخرهم نوالا ]
و أتته هند بنت عتبة و قد بقرت بطن عمه حمزة و لاكت كبده فصفح عنها و أعطاها يده لبيعتها
فإن قيل : فقد ضرب رقاب بني قرييظة صبرا في يوم أحد و هم نحو سبعمائة فأين موضع العفو و الصفح ؟ و قد انتقم انتقام من لم يعطفه عليهم رحمة و لا داخلته لهم رقة
قيل إنما فعل ذلك في حقوق الله تعالى و قد كانت بني قريظة رضوا بتحكيم سعد بن معاذ عليهم فحكم أن من جرت عليه الموسى قتل و من لم تجر عليه استرق فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم هذا حكم الله من فوق سبعة أرقعة فلم يجز أن يعفو عن حق وجب لله تعالى عليهم و إنما يختص عفوه بحق نفسه
حفظه عليه السلام للعهد :
و الخصلة السادسة حفظه للعهد و وفاؤه بالوعد فإنه ما نقض لمحافظ عهدا و لا أخلف لمراقب وعدا يرى الغدر من كبار الذنوب و الإخلاف من مساوئ الشيم فيلتزم فيها الأغلظ و يرتكب فيهما الأصعب حفظا لعهده و وفاء بوعده حتى يبتدئ معاهدوه بنقضه فيجعل الله تعالى له مخرجا كفعل اليهود من بني قريظة و بني النضير و كفعل قريش بصلح الحديبية فجعل الله تعالى له في نكثهم الخيرة فهذه ست خصال تكاملت في خلقه فضله الله تعالى بها على جميع خلقه
فضائل أقوال النبي عليه السلام :
و أما الوجه الثالث في فضائل أقواله فمعتبر بثماني خصال :
إحداهن ما أتى من الحكمة البالغة و أعطي من العلوم الجمة الباهرة و هو أمي من أمة أمية لم يقرأ كتابا و لا درس علما و لا صحب عالما و لا معلما فأتى بما بهر العقول و أذهل الفطن من اتقان ما أبان و إحكام ما أظهر فلم يعثر فيه بزلل في قول أو عمل و جعل مدار شرعه على أربعة أحاديث أوجز بها المراد و أحكم بها الاجتهاد
أحدها : قوله : [ إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرئ ما نوى ]
و الثاني قوله : [ الحلال بين و الحرام بين و بين ذلك أمور مشتبهات و من يحم حول الحمى يوشك أن يقع فيه ]
و الثالث قوله : [ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ]
و الرابع قوله : [ دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ]
و قد شرع من تقدم من حكماء الفلاسفة سننا حملوا الناس على التدين بها حين علموا أنه لا صلاح للعالم إلا بدين ينقادون له و يعملون به فما راق لها أثر و لا فاق لها خبر و هم ينبوع الحكم و أعيان الأمم و ما هذه الفطرة في الرسول إلا من صفاء جوهره و خلوص مخبره
و الخصلة الثانية حفظه لما أطلعه الله تعالى عليه من قصص الأنبياء مع الأمم و أخبار العالم في الزمن الأقدم حتى لم يعزب عنه منها قليل و لا كثير و هو لا يضبطها بكتاب يدرسه و لا يحفظها بعين تحرسه و ما ذاك إلا من ذهن صحيح و صدر فسيح و قلب شريح و هذه الثلاثة آلة ما استودع من الرسالة و حمل من أعباء النبوة فجدير أن يكون بها مبعوثا و على القيام بها محثوثا
و الخصلة الثالثة إحكامه لما شرع بأظهر دليل و بيانه بأوضح تعليل حتى لم يخرج منه ما يوجبه معقول و لا دخل فيه ما تدفعه العقول و لذلك قال صلى الله تعالى عليه و سلم :
[ أوتيت جوامع الكلم و اختصرت لي الحكمة اختصارا ] لأنه نبه بالقليل على الكثير فكف عن الإطالة و كشف عن الجهالة و ما تيسر ذلك إلا و هو عليه معان و إليه مفاد
و الخصلة الرابعة ما أمر به من محاسن الأخلاق و دعا إليه من مستحسن الأدب و حث عليه من صلة الأرحام و ندب إليه من التعطف على الضعفاء و الأيتام ثم ما نهى عنه من التباغض و التحاسد و كف عنه من التباعد فقال : [ لا تقاطعوا و لا تدابروا ولا تباغضوا و كونوا عباد الله إخوانا ] لتكون الفضائل فيهم أكثر و محاسن الأخلاق بينهم أنشر و مستحسن الآداب عليهم أظهر و تكون إلى الخير أسرع و من الشر أمنع فيتحقق فيهم قول الله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } فلزموا أوامره و اتقوا زواجره فتكامل بهم صلاح دينهم و دنياهم حتى عز بهم الإسلام بعد ضعفه و ذل بهم الشرك بعد عزه فصاروا أئمة أبرارا و قادة أخيارا
و الخصلة الخامسة وضوح جوابه إذا سئل و ظهور حجاجه إذا جودل لا يحصره عي و لا يقطعه عجز و لا يعارضه خصم في جدال إلا كان جوابه أوضح و حجاجه أرجح أتاه أبي بن خلف بعظم نخر من المقابر قد صار رميما ففركه حتى صار كالرماد ثم قال : يا محمد أنت تزعم أنا و آباءنا نعود إذا صرنا هكذا لقد قلت قولا عظيما ما سمعناه من غيرك { من يحيي العظام وهي رميم } فأنطق الله تعالى رسوله صلى الله تعالى عليه و سلم ببرهان نبوته فقال : { يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم } فانصرف مبهوتا و لم يحر جوابا و لما قال عليه الصلاة و السلام [ لا عدوى و لا طيرة قال له رجل يا رسول الله إنا نرى النقبة من الجرب في مشفر البعير فيعدو سائره قال : فمن أعدى الأول ؟ و أسكته ]
و الخصلة السادسة أنه محفوظ اللسان من تحريف في قول و استرسال في خبر يكون إلى الكذب منسوبا و للصدق مجانبا فإنه لم يزل مشهورا بالصدق في خبره فاشيا و كثيرا حتى صار بالصدق مرقوما و بالأمانة مرسوما
و كانت قريش بأسرها تتيقن صدقه قبل الإسلام فجهروا بتكذيبه في استدعائهم إليه فمنهم من كذبه حسدا و منهم من كذبه عنادا و منهم من كذبه استبعادا أن يكون نبيا أو رسولا و لو حفظوا عليه كذبه نادرة في غير الرسالة لجعلوها دليلا على تكذيبه في الرسالة و من لزم الصدق في صغره كان له في الكبر ألزم و من عصم منه في حق نفسه كان في حقوق الله تعالى أعصم و حسبك بهذا دفعا لجاحد وردا لمعاند
و الخصلة السابعة تحرير كلامه في التوخي به إبان حاجته و الاقتصار منه على قدر كفايته فلا يسترسل فيه هذرا و لا يحجم عنه حصرا و هو فيما عدا حالتي الحاجة و الكفاية أجمل الناس صمتا و أحسنهم سمتا و لذلك حفظ كلامه حتى لم يختل و ظهر رونقه حتى لم يعتل و استعذبته الأفواه حتى بقي محفوظا في القلوب مدونا في الكتب فلن يسلم الإكثار من ذلل و لا الهذر من ملل
أكثر أعرابي عنده الكلام فقال : يا أعرابي كم دون لسانك من حجاب ؟ قال شفتاي و أسنني فقال صلى الله تعالى عليه و سلم : [ إن الله يكره الانبعاق في الكلام فنضر الله و جه امرىء قصر من لسانه و اقتصر على حاجته ]
و الخصلة الثامنة أنه أفصح الناس لسانا و أوضحهم بيانا و أوجزهم كلاما و أجزلهم ألفاظا و أصحهم معاني لا يظهر فيه هجنة التكلف و لا يتخلله فيهقة التعسف و قال صلى الله تعالى عليه و سلم : [ أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون و قال : إياك و التشادق و لما نزل عليه قوله تعالى : { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه } بنى مساجد قباء فحضر عبد الله بن رواحة فقال : يا رسول الله قد أفلح من بنى المساجد قال : نعم يا ابن رواحة قال : و لم يبت لله إلا ساجد قال : يا ابن رواحة كف عن السجع ] فما أعطي شيئا شرا من طلاقة في لسانه
من جوامع كلام النبي عليه السلام الموجز :
فمن كلامه الذي لا يشاكل في إيجازه قوله صلى الله تعالى عليه و سلم : [ الناس بزمانهم أشبه ] و قوله [ ماهلك امرؤعرف قدره ] و قوله : [ لو تكاشفتم ما تدافنتم ] و قوله : [ السعيد من وعظ بغيره ] وقوله : [ حبك للشيء يعمي و يصم ] و قوله : [ العقل ألوف مألوف ] و قوله : [ العدة عطية ] و قوله : [ اللهم إني أعوذ بك من طمع يهدي إلى طبع ] و قوله : [ أفضل الصدقة جهد المقل ] و قوله : [ اليد العليا خير من اليد السفلى ] و قوله [ ترك الشر صدقة ] و قوله : [ الخير كثير و قليل فاعله ] و قوله : [ الناس كمعادن الذهب ] وقوله : [ نزلت المعونة على قدر المؤنة ] و قوله : [ إذاأراد الله بعبد خيرا جعل له واعظا من نفسه ] و قوله : [ أدي الأمانة إلى من ائتمنك و لا تخن من خانك ] و قوله : [ المؤمن غر كريم و الفاجر خب لئيم ] و قوله : [ الدنيا سجن المؤمن و بلاؤه و جنة الكافر و رخاؤه ]
من كلام الرسول الذي لا يشاكل فصاحة :
و من كلامه الذي لا يشاكل في فصاحته قوله صلى الله تعالى عليه و سلم : [ إياكم و المشاورة فإنها تميت الغرة و تحيي الفرة ] و قوله : [ لا تزال أمتي بخير ما لم تر الأمانة مغنما و الصدقة مغرما ] و قوله : [ رحم الله عبدا قال خيرا فغنم أو سكت فسلم ] و قوله : [ اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع و نفس لا تشبع و قلب لا يخشع و عين لا تدمع ] وقوله : [ هل يطمع أحدكم إلا غنى مطغيا أو فقرا منسيا أو مرضا مفسدا أو هرما مفندا أو الدجال فهو شر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى و أمر ] وقوله : [ ثلاث منجيات و ثلاث مهلكات فأما المنجيات فخشية الله تعالى في السر و العلانية و الاقتصاد في الغنى والفقر و الحكم بالعدل في الرضا و الغضب و أما المهلكات فشح مطاع و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسه ] و قوله : [ و تقبلوا لي بست أتقبل لكم الجنة قالوا : و ما هي يا رسول الله ؟ قال إذا حدث أحدكم فلا يكذب و إذا وعد فلا يخلف و إذا ائتمن فلا يخن غضوا أبصاركم و احفظوا فروجكم و كفوا أيديكم ] و قوله [ في بعض خطبه : إلا أن الأيام تطوى و الأعمار تفنى و الأبدان في الثرى تبلى و إن الليل و النهار يتراكضان تراكض البريد يقربان كل بعيد و يخلقان كل جديد و في ذلك عباد الله ماألهى عن الشهوات ورغب في الباقيات الصالحات ] و قوله [ في بعض خطبه و قد خاف من أصحابه فطرة : أيها الناس كأن الموت فيها على غيرنا كتب و كأن الحق فيها على غيرنا و جب و كأن الذي يشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون نبوئهم أجداثهم و نأكل تراثهم كأنا مخلدون بعدهم قد نسينا كل واعظة و أمنا كل جائحة طوبى لمن شغلته آخرته عن دنياه طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ] و هذا يسير من كثير و لا يأتي عليه إحصاء و لا يبلغه استقصاء وغنما ذكرنا مثالا ليعلم أن كلامه جامع لشروط البلاغة و معرب عن نهج الفصاحة و لو مزج بغيره لتميز بأسلوبه و لظهر فيه آثار التنافر فلم يلتبس حقه من باطله و لبان صدقه من كذبه هذا و لم يكن متعاطيا للبلاغة و لا مخالطا لأهلها من خطباء أو شعراء أو فصحاء و إنما هو من غرائز فطرته و بداية جبلته و ماذاك إلا لغاية تراد و حادثة تشاد
فإن قيل : إذا كان كلامه مخالفا غيره لكلام غيره في البلاغة و الفصاحة حتى لم يكن فيه مساجلا أيكون له معجزا ؟
قيل له : لو كان هكذا و تحدى به صار معجزا و لايكون مع عدم التحدي معجزا (1/254)
فضائل أفعاله
و أما الوجه الرابع في فضائل أفعاله فمختبر بثماني خصال :
إحدهن حسن سيرته و صحة سياسته في دين ابتكر شرعه حتى استقر و تدبير أحسن وضعه حتى استمر نقل به الأمة عن مألوف و صرفهم به عن معروف فاذعنت به النفوس طوعا و انقادت خوفا و طمعا و شديد عادة منترعة إلا لمن كان مع التأييد الإلهي معانا بحزم صائب و عزم ثاقب و لئن كان مأمور بما شرع فهي الحجة القاهرة ولئن كان مجتهدا فيها فهي الآية الباهرة و حسبك يما استقرت قواعده على الأبد حتى انتقل عن سلف إلى خلف يزاد فيهم حلاوته و يشتد فيهم جدته ويرونه نظاما لأعصار تنقلب صروفها و يختلف مألوفها أن يكون لمن قام به برهانا و لمن ارتاب به بيانا
و الخصلة الثانية أن جمع بين رغبة من استمال و رهبة من استطاع حتى اجتمع الفريقان على نصرته و قاموا بحقوق دعوته رغبا في عاجل و آجل و رهبا من زائل و نازل لاختلاف الشيم و الطباع في الانقياد الذي لا ينتظم بأحدهما و يستديم إلا بهما فلذلك صار الدين بهما مستقرا و الصلاح بهما مستمرا
الخصلة الثالثة انه عدل فيما شرعه من الدين عن غلو النصارى في التشديد و عن تقدير اليهود في التقصير إلى التوسط بينهما [ وخير الأمور أوساطها ] لأنه العدل بين طرفي سرف و تقصير فليس لما جاوز العدل حظ من رشد و لانصيب من سداد و قد قال صلى الله تعالى عليه و سلم [ إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق فشر السير الحقحقة و إن المنبت لا أرضا قطع و لاظهرا أبقى ]
و الخصلة الرابعة أنه لم يمل بأصحابه إلى الدنيا كما رغبت اليهود و لا في رفضها كما ترهبت النصارى و أمرهم فيها بالاعتدال أن يطلبوا منها قدر الكفاية و يعدلوا عن احتجان و استزادة و قال لأصحابه [ خيركم من لم يترك دنياه لآخرته و لا آخرته لدنياه و لكن خيركم من أخذ من هذه و هذه ] و هذا صحيح لأن الانقطاع إلى أحدهما اختلال و الجمع بينهما اعتدال و قال صلى الله تعالى عليه و سلم : [ نعم المطية الدنيا فارتحلوها تبلغكم الآخرة ] و إنما كان كذلك لأن منها يتزود لآخرته و يستكثر فيها من طاعته و لأنه لا يخلو تاركها من أن يكون محروما مضاعفا أو مرحوما مراعى و هو في الأول كل و في الثاني مستذل
[ أثني على رجل بخير عند رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و قالوا : يا رسول الله كنا إذا ركبنا لا يزال يذكر الله تعالى حتى ننزل و إذا نزلنا لا يزال يصلي حتى نرفع فقال فمن كان يكفيه علف بعيره و إصلاح طعامه قالوا : كلنا قال : فكلكم خير منه ]
و الخصلة الخامسة تصديه لمعالم الدين و نوازل الأحكام حتى اوضح للأمة ما كلفوه من العبادات و بين لهم ما يحل و ما يحرم من مباحات و محظورات و فصل لهم ما يجوز و يمتنع من عقود و مناكح و معاملات حتى احتاج اليهود في كثير من معاملاتهم و مواريثهم لشرعه و لم يحتج شرعه إلى شرع غيره ثم مهد لشرعه أصولا تدل على الحوادث المغفلة و يستنبط لها الأحكام المعللة فأغنى عن نص بعد ارتفاعه و عن التباس بعد إغفاله ثم أمر الشاهد أن يبلغ الغائب ليعلم بإنذاره و يحتج بإظهاره فقال صلى الله تعالى عليه و سلم [ بلغوا عني و لا تكذبوا علي فرب مبلغ أوعى من سامع و رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ] فأحكم ما شرع من نص و تنبيه و عم بما أمر من حاضر و بعيد حتى صار لما تحمله من الشرع مؤديا و لما تقلده من حقوق المة موفيا لئلايكون في حقوق الله زلل و لا في مصالح الأمة خلل و ذلك في برهة من زمانه لم يستوف تطاول الاستيعاب حتى أوجز و أنجز و ما ذاك إلا بديع معجزهم
الخصلة السادسة انتصابه لجهاد الأعداء و قد أحاطوا بجهاته و أحدقوا بجنباته و هو في قطب مهجور و عدد محقور فزاد به من قل و عز به من ذل و صار بإثخانه في الأعداء محذورا و بالرعب منه منصورا فجمع بين التصدي لشرع الدين حتى ظهر و انتشر و بين الانتصاب لجهاد العدو حتى قهر قهر و انتصر و الجمع بينها معوز إلا لمن أمده الله بمعونته و أيده بلطفه و المعوز معجز
الخصلة السابعة ماخص به من الشجاعة في حروبه و النجدة في مصابرة عدوه فإنه لم يشهد حربا في فزاع إلا صابرا حتى انجلت عن ظفر أو دفاع و هو في موقفه لم يزل عنه هربا و لاحاز فيه رغبا بل ثبت بقلب آمن و جأش ساكن قد ولى عنه أصحابه يوم حنين حتى بقي بإزاء جمع كثير و جم غفير في تسعة من أهل بيته و أصحابه على بغلة مسبوقة إن طلبت غير مستعدة لهرب و لاطلب و هو ينادي أصحابه و يظهر نفسه و يقول : [ إلي عباد الله أنا النبي لاكذب أنا ابن عبد المطلب ] فعادوا أشذاذا و أرسالا و هوازن تراه وتحجم عنه فما هاب حرب من كاثره و لا انكفأ عن مصاولة من صابره و قد عضده الله تعالى بأنجاد و نجاد فانحازوا و صبر حتى أمده الله بنصره و ما لهذه الشجاعة من عديل
و لقد طرق المدينة فزع فانطلق الناس نحو الصوت فوجدوا رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم قد سبقهم إليه فتلقوه عائدا على فرس عري لأبي طلحة الأنصاري و عليه السيف فجعل يقول : [ يا أيها الناس لم تراعوا بل تراعوه ] ثم قال لأبي طلحة : [ إنا وجدناه بحرا ] و كان الفرس يبطئ فما سبقه فرس بعد ذلك و ما ذاك إلا عن ثقة من أن الله تعالى سينصره و أن دينه سيظهره تحقيقا لقوله تعالى : { ليظهره على الدين كله } و تصديقا لقول رسوله صلى الله تعالى عليه و سلم : [ زويت لي الأرض فرأيت مشارقها و مغاربها و سيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها ] و كفى بهذا قياما بحقه و شاهدا على صدقه
الخصلة الثامنة ما منح من السخاء و الجود حتى جاد بكل موجود و آثر بكل مطلوب و محلول و مات و درعه مرهونة عند يهودي على آصع من شعير لطعام أهله و قد ملك جزيرة العرب و كان فيها ملوك و أقبال لهم خزائن و أموال يقتنونها زخرا و يتباهون بها فخرا و يستمتعون بها أشرا أو بطرا
و قد حاز ملك جميعهم فما اقتنى دينارا و لا درهما لا يأكل إلا الخشن و لا يلبس إلا الخشن و يعطي الجزل الخطير و يصل الجم الغفير و يتجرع مرارة الإقلال و صبر على سغب الاختلال
و قد حاز غنائم هوازن و هي من السبي ستة آلاف رأس و من الإبل أربعة و عشرون ألف بعير و من الغنم أربعون ألف شاة و من الفضة أربعة آلاف أوقية فجاد بجميع حقه و عاد خلوا
روى أبو وائل [ عن مسروق عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : ما ترك رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم دينارا و لا درهما و لا شاة و لا بعيرا و لا أوصى بشيء ]
و روى عمرو بن مرة [ عن سويد بن الحارث عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : ما يسرني أن لي أحد ذهبا أنفقه في سبيل الله أموت يوم أموت و عندي منه دينار إلا أن أعده لغريم ]
و كان صلى الله تعالى عليه و سلم إذا سئل و هو معدم وعد و لم يرد و انتظر ما يفتح الله فروى حماد بن زيد [ عن المعلى بن زياد عن الحسن أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله تعالى عليه و سلم يسأله فقال : اجلس سيرزقك الله ثم جاء آخر ثم آخر فقال لهم اجلسوا فجاء رجل بأربع أواق فأعطاه إياها و قال : يا رسول الله هذه صدقة فدعا الأول فأعطاه أوقية ثم دعا الثاني فأعطاه أوقية ثم دعا الثالث فأعطاه أوقية و بقيت معه أوقية واحدة فعرض بها للقوم فما قام أحد فلما كان الليل وضعها تحت رأسه و فراشه عباؤه فجعل لا يأخذه النوم فيرجع فيصلي فقالت له عائشة : يا رسول الله حل بك شيء قال لا قالت : فجاء أمر من الله قال لا قالت : إنك صنعت منذ الليلة شيئا لم تكن تفعله فأخرجها و قال : هذه التي فعلت بي ما ترين إني خشيت أن يحدث أمر من أمر الله و لم أمضها ]
و روى الزهري [ عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه و سلم أنه قال : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن ترك دينا فعلي و من ترك مالا فلورثته ] فهل مثل هذا الكرم و الجود كرما و جودا ! ! أم هل لمثل هذا الإعراض و الزهادة إعراضا و زهدا ! ! هيهات هل يدرك شأو من هذه شذور من فضائله و يسير من محاسنه التي لا يحصى لها عدد و لا يدرك لها أمد لم تكمل في غيره فيساويه و لا كذب بها ضد يناويه و لقد جهد كل منافق و معاند و كل زنديق و ملحد أن يزري عليه قول أو فعل أو يظهر بهفوة في جدل أو هزل فلم يجد إليه سبيلا و قد جهد جهده و جمع كيده فأي فضل أعظم من فضل تشاهده الحسدة و الأعداء فلم يجدوا فيه مغمزا لثالب أو قادح و لا مطعنا لجارح أو فاضح فهو كما قال الشاعر :
( شهد الأنام بفضله حتى العدى ... و الفضل ما شهدت به الأعداء )
و حقيق لمن بلغ في الفضائل غايتها و استكمل لغايات الأمور آلتها أن يكون لزعامة العالم مؤهلا و للقيام بمصالح الخلق موكلا و لا غاية بعد النبوة أن يعم به صلاح أو ينحسم به فساد فاقتضى أن يكون لها أهلا و للقيام بها مؤهلا و لذلك استقرت به حين بعث رسولا و نهض بحقوقها حين قام به كفيلا فناسبها و ناسبته و لم يذهل لها حين أتته و كل متناسبين متشاكلان و كل متشاكلين مؤتلفان و كل مؤتلفين متفقان و الاتفاق وفاق و هو أصل كل انتظام و قاعدة كل التئام فكان ذلك من أوضح الشواهد على صحة نبوته و أظهر الأمارات في صدق رسالته فما ينكرها بعد الوضوح إلى مفضوح و الحمد لله الذي وفق لطاعته و هدى إلى التصديق برسالته (1/268)
الباب الحادي و العشرون : في مبدأ بعثته و استقرار نبوته صلى الله تعالى عليه و سلم
لكل مقدور نذير أو بشير :
إن الله تعالى جعل لكل مقدور من الأمور إذا دنا نذيرا أو بشيرا يظهر بهما مبادئ ما أخفاه و يشعر بحلولهما قدره و قضاه ليكونا تعذيرا و تحذيرا تستيقظ بهما العقول و يزدجر بهما العقول و يزدجر بهما الجهول لطفا بعباده من فجأة الأمور المذهلة أن تصدم ببوادر لا تستدرك لتكون النفوس في مهلة من استدفاع خطبها و حل صعبها
انتشر في الأمم أن الله تعالى سيبعث نبيا :
و لما دنا مبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم بالنبوة رسولا و إلى الخلق بشيرا و نذيرا انتشر في الأمم أن الله تعالى سيبعث نبيا في هذا الزمان و أن ظهوره قد قرب و آن فكانت كل أمة لها كتاب يعرف ذلك من كتابها و التي لا كتاب لها ترى من الآيات المنذرة ما تستدل عليه بعقولها و تنبيه عليه بهواجس فطرها إلهاما أعان به الفطن اللبيب و أنذر به الحازم الأريب هذا و رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم غافل عنها و غيره عالم أنه مراد بها و مؤهل لها لم يشعر بها حتى نودي و لا تحققها حتى نوجي ليكون أبعد من التهمة و أسلم من الظنة فيكون برهانه أظهر و حجاجه أقهر و كان مع تمييزه عن قومه بشرف أخلاقه و كرم طباعه لم يعبد معهم صنما و لا عظم وثنا و كان متدينا بفرائض العقول في قول جميع الفقهاء و المتكلمين : من توحيد الله تعالى و قدمه و حدوث العالم و فنائه و شكر المنعم و تحريم الظلم و وجوب الإنصاف و أداء الأمانة
كيف كان تعبد محمد صلى الله عليه و سلم قبل البعثة :
و اختلف أهل العلم هل كان قبل مبعثه بشريعة من تقدم من الأنبياء ؟ فذهب أكثر المتكلمين و بعض الفقهاء من أصحاب الشافعي و أبي حنيفة إلى أنه لم يكن متعبدا بشريعة من تقدمه من الأنبياء لأنه لو تعبد بها لتعلمها و لعمل بها و لو عمل بها لظهرت منه و لو ظهرت لاتبعه فيها الموافق و نازعه فيها المخالف
و ذهب بعض المتكلمين و أكثر الفقهاء من أصحاب الشافعي و أبي حنيفة إلى أنه كان متعبدا بشريعة من تقدمه من الأنبياء لأنهم دعوا إلى شرائعهم من عاصرهم و من يأتي بعدهم ما لم تنسخ بنبوة حادثة فدخل الرسول صلى الله تعالى عليه و سلم في عموم الدعاء قبل مبعثه لأن الله تعالى لا يخلي زمانا من شرع متبوع و لا متدينا من تعبد مسموع
و اختلف من قال بهذا فيما كان متعبدا به من الشرائع المتقدمة فذهب بعضهم إلى أنه كان متعبدا بشريعة جده إبراهيم عليهما السلام لقوله تعالى : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } لأنه كان في الحج و العمرة على مناسكه
و ذهب آخرون إلى أنه كان متعبدا بشريعة موسى فيما لم تنسخه شريعة عيسى عليهم السلام لظهور شريعته في التوراة و دروس ما تقدمها من الشرائع مع قول الله تعالى : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى }
و ذهب آخرون إلى أنه كان متعبدا بشريعة عيسى عليه السلام لأنها كانت ناسخة لشريعة موسى فسلم قبل مبعثه من حرج في دينه و قدح في يقينه و هذا من أمارات الاصطفاء و مقدمات الاجتباء
الخلاء في غار حراء :
و لما وجد الأمر في النبوة و دنا وقتها حبب الله إلى رسوله الخلاء بعد أربعين سنة من عمره حين تكامل نهاه و اشتد قواه ليكون متهيئا لما قدر له و متأهبا لما أريد له فكان يتخلى في غار حراء في ذوات العدد من الليالي [ و قيل ] شهرا في السنة على عادة كانت لقريش في التبرز بالمجاورة بحراء و يعود إلى أهله إلى أن استدام الخلاء في الغار لما أراد الله تعالى به فكان يؤتى بطعامه و شرابه فيأكل منه و يطعم المساكين برهة من زمانه و هو غافل عن النبوة و إن كان في الناس موهوما و عند أهل الكتب معلوما ليكون ابتكار البديهة بها مانعا من التصنع لها فلا ينسب إلى اختراعها و لو تصنع و اخترع لظهرت أسبابهما و تمت شواهدهما و لم يخف على من عاداه أن يتداوله و على من والاه أن يتأوله و حسبك بهذا وضوحا أن يكون بعيدا من التهمة بهما سليما من الظنة فيهما
فلم يزل صلى الله تعالى عليه و سلم على خلوته إلى أن أظهر الله تعالى له أمارات نبوته فأيقظه بها بعد الغفلة و بشره بها بعد المهلة ثم بعثه بها رسولا بعد البشرى على تدريج ترتبت فيها أحواله ليتوطأ لتحمل أثقالها و يعلم لوازم حقوقها حتى لا تفجأه بغتة فيذهل و لا يخفى عليه حقوقها فينكل و كان ذلك من الله لطفا به و إنعاما عليه و داعيا لأمته في الانقياد إليه فسبحان من لطيف بعباده منعم على خلقه
تدرج أحوال محمد إلى أن وصل إلى النبوة :
تدرجت إليه أحواله في النبوة حتى علم أنه مبعوث و رسول مبلغ ترتب تدرجه على ستة أحوال نقل فيهن إلى منزلة بعد منزلة حتى بلغ غايتها
الرؤيا الصادقة :
فالمنزلة الأولى الرؤيا الصادقة في منامه بما سيؤول إليه أمره فكان ذلك إذكارا بها ليروض لها نفسه و يختبر فيها حواسه فيقوم بها إذا بعث و هو عليها قوي و بها ملي
روى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنه أنها قالت : أول ما ابتدئ به رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم من الوحي الرؤيا الصادقة كانت تجيء مثل فلق الصبح حتى فجأه الحق و اختلف في هذه الرؤيا هل كانت قبل انقطاعه إلى الخلوة بحراء ؟
فحكي عن عروة عن عائشة أنه حبب إليه الخلاء بعد الرؤيا و ذهب قوم إلى أن الرؤيا جاءته بعد خلوته لأنه خلا على غفلة من أمره و قد روت برة بنت أبي تحراه : أن الله تعالى لما أراد كرامة رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم بالنبوة كان لا يمر بشجر و لا حجر إلا قال : السلام عليك يا رسول الله فكان يلتفت عن يمينه و شماله و خلفه فلا يرى أحدا فاحتمل أن يكون ذلك قبل رؤيا المنام فيكون كالهتوف الخارجة عن أعلام الوحي إلى إعجاز النبوة و احتمل أن يكون بعد الرؤيا فيكون تصديقا لها و تحقيقا لصحتها
تطهيره من الأرجاس و الأدناس :
و المنزلة الثانية ما ميز به عن سائر الخلق من تقديسه عن الأرجاسه و تطهيره من الأدناس ليصفو فيصطفى و يخلص فيستخلص فيكون ذلك إنذارا لأمر و تنبيها على العاقبة و هو ما رواه [ عن عروة بن الزبير عن أبي ذر الغفاري قال : سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم عن أول نبوته فقال : يا أبا ذر أتاني ملكان و أنا ببطحاء مكة فوقع أحدهما على الأرض و الآخر بين السماء و الأرض فقال أحدهما لصاحبه : أهو هو ؟ قال هو هو قال : فزنه برجل من أمته فوزنت برجل فرجحته ثم قال زنه بعشرة فوزنت بعشرة فرجحتهم ثم قال : زنه بمائة فوزنت بمائة فرجحتهم ثم قال زنه بألف فوزنت بألف فرجحتهم فجعلوا ينثرون علي في كفة الميزان فقال أحدهما للآخر لو وزنته بأمته رجحها ثم قال أحدهما لصاحبه : شق بطنه فشق بطني ثم قال : شق قلبه فشق قلبي فأخرج منه مغمز الشيطان و علق الدم ثم قال اغسل بطنه غسل الإناء و اغسل قلبه غسل الملاءة ثم دعا بالسكينة فأدخلت قلبي ثم قال : خط بطنه فخاط بطني فما هو أن وليا حتى كأنما أعاين الأمر ]
و روى أنس بن مالك قال : [ لما حان أن ينبأ رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم كان ينام حول الكعبة و كانت قريش تنام حولها فأتاه جبريل و ميكائيل فقال : بأيهم أمرنا ؟ فقالا : أمرنا بسيدهم ثم ذهبا و جاءا من القابلة و هم ثلاثة فألفوه و هو نائم فقلبوه لظهره و شقوا بطنه ثم جاءوا بماء زمزم فغسلوا ما كان في بطنه من شك أو ضلالة أو جاهلية ثم جاءوا بطست من ذهب قد ملئت إيمانا و حكمة فملئ بطنه و جوفه إيمانا و حكمة ] و هذا موافق لحديث أبي ذر في المعنى و إن خالفه في الصفة فتوارد في الرواية و هو إنذار بالنبوة
البشرى بالنبوة :
و المنزلة الثالثة البشرى بالنبوة من ملك أخبره بها عن ربه و اختصت بشراه بالإشعار و تجردت عن تكليف و إنذار لم يسمع بها وحيا و لا رأى معها شخصا و إنما كان حساسا بالملك اقترن بآية دلت و أمارة ظهرت اكتفى بها عن مشاهدته و استغنى بها عن نطقه ليعلم أنه من أنبياء الله تعالى فيتأهب لوحيه و يعان بإمهاله فيكون على البلوى أصبر و للنعمة أشكر
روى الشعبي و داود بن عامر أن الله تعالى قرن إسرافيل بنبوة رسوله صلى الله تعالى عليه و سلم ثلاث سنين يسمع حسه و لا يرى شخصه و يعلمه الشيء و لا ينزل عليه القرآن فكان في هذه المدة مبشرا بالنبوة و غيره مبعوث إلى الأمة فاحتمل أن يكون إمهاله فيها معونة للرسول و احتمل أن يكون نظرا للأمة و احتمل أن يكون لأوان المصلحة و ليس يمتنع أن يكون لجميعها فإنه أعلم بسر ما أخفى و أعرف بمعنى ما أظهر
نزول جبريل بالوحي :
و المنزلة الرابعة أن نزل عليه جبريل بوحي ربه حتى رأى شخصه و سمع مناجاته فأخبره أنه نبي الله و رسوله و اقتصر به على الإخبار و لم يأمره بالإنذار ليعلمها بعد البشرى عيانا و يقطع بها يقينا فيكون معتقده بها أوثق و علمه بها أصدق فلا يعترضه وهم و لا يخالجه ريب
روى الزهري [ عن عائشة رضي الله تعالى عنها : أن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم لما فاجأه الحق أتاه جبريل عليه السلام فقال : يا محمد أنت رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فجثوت لركبتي و أنا قائم ثم رجعت ترجف بوادري ثم دخلت على خديجة فقلت زملوني زملوني حتى ذهبت عني ثم أتاني فقال يا محمد أنا جبريل و أنت رسول الله ثم قال : إقرأ قلت : ما أقرأ قال فأخذني فغتني ثلاث مرات حتى بلغ مني الجهد و قال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } فأتيت خديجة فقلت لقد أشفقت على نفسي فأخبرتها خبري فقالت : ابشر فو الله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم و تصدق الحديث و تؤدي الأمانة و تحمل الكل و تقري الضيف و تعين على نوائب الحق ثم انطلقت بي إلى ورقة بن نوفل و كان ابن عمها و خرج في طلب الدين و قيل قرأ التوراة و الإنجيل و تنصر و قالت اسمع من ابن أخيك فسألني فأخبرته خبري فقال : هذا الناموس الذي نزل على موسى عليه السلام يعني جبريل عليه السلام ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك قلت أو مخرجي هم ؟ قال نعم إنه لم يجئ رجل قط بما جئت به إلا عودي و لئن يدركني يومك لأنصرنك نصرا مؤزرا ثم كان أول ما نزل علي من القرآن بعد اقرأ : { ن والقلم وما يسطرون * ما أنت بنعمة ربك بمجنون * وإن لك لأجرا غير ممنون * وإنك لعلى خلق عظيم * فستبصر ويبصرون }
و نزل عليه ذلك ليزداد ثباتا و لنفسه استبصارا و لنعمة ربه شكرا ]
و روى أن خديجة قالت لرسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : [ و هل تستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا إذا أتاك ؟ يعني جبريل عليه السلام قال : نعم قالت فأخبرني به إذا جاءك فجاءه جبريل فقال لها يا خديجة هذا جبريل قد جاء قالت : قم فاجلس على فخذي اليسرى فجلس عليها فقالت هل تراه ؟ قال نعم قالت : فتحول على فخذي اليمنى إليها فقالت هل تراه ؟ قال : نعم قالت فتحول في حجري فتحول في حجرها فقالت : هل تراه ؟ قال : نعم قال : فحسرت و ألقت خمارها و هو جالس في حجرها فقالت هل تراه ؟ قال : لا قالت يا ابن عمي أثبت و أبشر فو الله إنه لملك و ما هو بشيطان ]
و آمنت به فكانت أول من أسلم من جميع الناس و استظهرت خديجة بما فعلته من هذا في حق نفسها لا في حق الرسول و لا استظهارا عليه و اكتفى رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم في تصديق جبريل بما عاينته خديجة من آياته المعجزة و كان ما نزل به جبريل في هذا الحال مقصورا على إخباره بالنبوة ليعلم أن الله تعالى قد اصطفاه لها فينقطع إليه و يوقف نفسه على ما يؤمر به و ينزل عليه فيكون لأوامره متبعا و لما يراد به متوقعا و أذن له في ذكره و إن لم يؤذن له في إنذاره لقول الله تعالى : { وأما بنعمة ربك فحدث } أي بما جاءك من النبوة فكان يذكرها مستسرا
النبي يؤمر بالإنذار :
والمنزلة الخامسة أن أمر بعد النبوة بالإنذار فصار به رسولا و نزل عليه القرآن بالأمر والنهي فصار مبعوثا و لم يأمر بالجهر و عموم الإنذار ليختص بمن أمنه و يشتد بمن أجابه فنزل عليه قول الله تعالى : { يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر } فتمت نبوته بالوحي و الإنذار و إن كان على استسرار و كان ذلك في يوم الإثنين من شهر رمضان
قال هشام بن محمد أول ما تلقاه جبريل فقال ليلة السبت و ليلة الأحد ثم ظهر له برسالته في يوم الاثنين
و روى أبو قتادة [ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم عن صوم يوم الإثنين فقال : ذاك يوم ولدت فيه و أنزل علي فيه النبوة ]
و اختلف في أي إثنين كان من شهر رمضان فقال أبو قلابة : كان في الثامن عشر منه و قال أبو الخلد : كان في الرابع و العشرين منه و هو ابن أربعين سنة في قول الأكثرين لأربعين سنة مضت من عام الفيل و زعم قوم أنه كان ابن ثلاث و أربعين سنة قال هشام بن محمد و ذلك لعشرين سنة من ملك كسرى أبرويز و قال غيره لست عشرة سنة من ملكه [ ثم روي أن جبريل عليه السلام نزل عليه في يوم الثلاثاء ثاني النبوة و هو بأعلى مكة فهم بعقبة في الوادي فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل منها ليريه كيف الطهور فتوضأ مثل وضوئه ثم قام جبريل فصلى و صلى رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم بصلاته فكانت هذه أول عبادة فرضت عليه ثم انصرف جبريل فجاء رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم إلى خديجة فتوضأ لها حتى توضأت و صلى بها كما صلى به جبريل فكانت أول من توضأ بعده و صلى و استسر بالإنذار من يأمنه ]
أول من أسلم :
و اختلف في أول من أسلم بعد خديجة على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أول من أسلم من الذكور و صلى و هو ابن تسع سنين و قيل ابن عشر و هذا قول جابر بن عبد الله و زيد بن أسلم
و روى يحيى بن عفيف عن أبيه عفيف قال : جئت في الجاهلية إلى مكة فنزلت على العباس بن عبد المطلب فلما طلعت الشمس و تحلقت في السماء أقبل شاب فرمى ببصره إلى السماء و استقبل الكعبة فقام مستقبلها فلم يلبث أن جاء غلام فقام عن يمينه فلم يلبث أن جاءت امرأة فقامت خلفهما فركع الشاب و ركع الغلام و المرأة فخر الشاب ساجدا فسجدا معه فقلت للعباس يا عباس أمر عظيم هل تدري من هذا ؟ قال العباس : نعم هذا محمد بن عبد الله ابن أخي و هذا علي بن أبي طالب ابن أخي و هذه خديجة زوجة ابن أخي و هذا حدثني أن رب السماء أمره بهذا الذي تراهم عليه و أيم الله ما أعلم على ظهر الأرض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة
و القول الثاني : [ أن أول من أسلم و صلى أبو بكر رضي الله تعالى عنه و هذا قول ابن عباس و أبي أمامة الباهلي و روى أبو أمامة عن عمرو بن عنسبة السلمي قال أتيت رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و هو نازل بعكاظ فقلت يا رسول الله من تبعك على هذا الأمر ؟ قال : تبعني عليه رجلان حر و عبد أبو بكر و بلال ] قال : فأسلمت عند ذلك فلقد رأيتني إذ ذاك ربع الإسلام و قال الشعبي سألت ابن عباس من أول الناس إسلاما فقال أما سمعت قول حسان بن ثابت :
( إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا )
( خير البرية أتقاها و أعدلها ... بعد النبي و أوفاها بما حملا )
( الثاني التالي المحمود مشهده ... و أول الناس منهم صدق الرسلا )
و القول الثالث : إن أول من أسلم زيد بن حارثة و هذا قول عروة بن الزبير و سليمان بن يسار
و جعل أبو بكر يدعو إلى الإسلام من يثق به لأنه كان تاجرا ذا خلق و معروف و كان أنسب قريش و أعلمهم بما كانوا عليه من خير و شر حسن التأليف لهم و كانوا يكثرون غشيانه فأسلم على يديه عثمان بن عفان و طلحة بن عبد الله و الزبير بن العوام و سعد بن أبي وقاص و عبد الرحمن بن عوف فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم حين استجابوا له بالإسلام و صلوا فصاروا مع من تقدم ثمانية نفر هم أول من أسلم و صلى و قيل : إنه أسلم معهم سعيد بن العاص و أبو ذر ثم تتبع الناس في الإسلام و رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم على استسراره بالدعاء و إن انتشرت دعوته في من من أصحاب من قريش
الإنذار للعموم بعد الخصوص :
و المنزلة السادسة : أن أمر أن يعم بالإنذار بعد خصوصه و يجهر بالدعاء إلى الإسلام بعد استسراه فأنزل الله تعالى عليه : { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين } فجهر بالدعاء قال ابن إسحق [ ذلك بعد ثلاث سنين من مبعثه و أمر أن يبدأ بعشيرته الأقربين فقال تعالى : { وأنذر عشيرتك الأقربين * واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } قال ابن عباس فصعد رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم الصفا فهتف يا صباحاه يا بني عبد المطلب يا بني عبد مناف حتى ذكر الأقرب فالأقرب من قبائل قريش فاجتمعوا إليه و قالوا مالك قال : أرايتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أما كنتم تصدقوني ؟ قالوا : بلى ما جربنا عليك كذبا قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب : تبا له ألهذا جمعتنا ثم قام فأنزل الله تعالى : { تبت يدا أبي لهب وتب } إلى أخر السورة ]
قال ابن إسحق و لم يكن في قريش في دعائه لهم مباعدة له و لكن ردوا عليه بعض الرد حتى ذكر ألهتهم و عابها و سفه أحلامهم في عبادتها فلما فعل ذلك أجمعوا على خلافه و تظاهروا بعداوته إلا من عصمه الله تعالى منهم بالإسلام و هم قليل مستحقرون فصار بعموم الإنذار و الجهر بالدعاء إلى التوحيد و الإسلام عام النبوة مبعوثا إلى كافة الأمة فكمل الله تعالى بذلك نبوته و تمم به رسالته فصدع بأمره و قام بحقه و جاهد بأنذاره و عم بدعائه و جاهد في الله حق جهاده حتى خصم قريشا حين جادلوه و صابرهم حين عاندوه و جمعهم غفير و جمعهم كثير إلى أن علت كلمته و ظهرت دعوته و كابد من الشدائد ما لم يثبت عليها إلا معصوم و لا يسلم منها إلا منصور و كل هذه آيات تنذر بالحق و تلائم الصدق لأن الله لا يهدي كيد الخائنين و لا يصلح عمل المفسدين
ما شرع من الدين بعد التوحيد :
فأما ما شرعه من الدين فالشرع بعد التوحيد يشتمل على قسمين : عبادات و أحكام فأما العبادات فلم يشرع منها مدة مقامه بمكة إلا الطهارة و الصلاة حين علمه جبريل الوضوء و الصلاة و كانت فرضا عليه و سنة لأمته لقول الله تعالى : { يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه } فكان هذا حكمها في حقه و حقوق أمته إلى أن فرضت الصلوات الخمس بعد إسرائه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وذلك في السنة التاسعة من نبوته فصارت الصلوات الخمس فرضا عليه و على أمته و لم يفرض ما سواها من العبادات حتى هاجر إلى المدينة و صارت له بالإسلام دارا و صار أهلها أنصارا
أول ما فرض في المدينة من العبادات :
فأول ما فرض بالمدينة من العبادات بعد فرض الصلوات الخمس بمكة صيام شهر رمضان في الثانية من الهجرة في شعبان و فيها حولت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة و فرض فيها زكاة الفطر و شرع فيها صلاة العيد و كان فرض الجمعة قد تقدم في أول الهجرة بدلا من صلاة الظهر ثم فرضت زكاة الأموال بعد ظهور القوة و سد الخلة ثم الحج و العمرة
و أما الأحكام فما أوجبته قضايا العقول من تحريم القتل و الزنا كان مشروعا بمكة مع ظهور إنذاره و ما تردد في قضايا العقول بين فعله و تركه كف عن الحكم فيه بتحليل أو تحريم أو حظر أو إباحة أو استحباب أو كراهة فلم يحلل بمكة حلالا و لا حرم بها حراما حتى هاجر منها فحلل بعد الهجرة و حرم و أباح و حظر لأنه كان بمكة مغلوبا باستيلاء قريش عليها و كانت دار شرك لا ينفذ فيها أحكامه فلم يحلل و لم يحرم حتى صار بالمدينة في دار إسلام تنفذ فيها أحكامه فبين ما حلل و حرم و بين ما أباح و حظر و بين ما يصح من القول و يفسد و لذلك كان بمكة مسالما و بالمدينة محاربا فكانت الحكمة موافقة لأفعاله و التوفيق معاضدا لأقواله و إن كان مأمورا بها كما قال الله تعالى : { وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى } لكن لحسن قيامه بها و موافقة الصواب في مواضعها تظهر آثار حكمته في صحة حزمه و صدق عزمه
فهذه جملة متفقة في أعلام نبوته و قاعدة مستقرة في ترتيب رسالته و أحكام شريعته فأما أحكام جهاده في حروبه و غزواته فسنذكره في كتاب نفرده في سيرته نوضح به مواقع أعلامه و مبادي أحكامه و بالله تعالى التوفيق
[ تم بحمد الله ] (1/275)