مجموع فيه رسائل
للحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي
محمد بن أبي بكر عبد الله بن محمد القيسي
(777 - 842 هـ)
تحقيق وتعليق
أبي عبد الله مشعل بن باني الجبرين المطيري
دار ابن حزم
الطبعة الأولى
1422 هـ - 2001 م(/)
افتتاح القاري لصحيح البخاري(1/311)
بسم الله الرحمن الرحيم
[و] صلى الله على محمدٍ وآله وصحبه وسلم.
قال الشيخ الإمام الحافظ المتقن المتفنن أبو عبد الله محمد بن أبي بكر عبد الله بن محمد بن أحمد الشهير بابن ناصر الدين الدمشقي -مد الله في أجله وجعله بين العلماء علماً وأطلق له بالإفادة لساناً وقلماً-:
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، والآلاء والإنعام، المتفرد بالوحدانية على الدوام، المقتدر بالإلهية على الخاص والعام، الذي هدانا للإسلام، ومن علينا بنبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، فأرسله رحمةً شافيةً للأسقام، وابتعثه نعمةً شاملةً للأنام، وجعل منطقه فصلاً بين الحلال والحرام، وإرشاداً للأمة وإحكاماً للأحكام، ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى يوحى من الملك العلام.
أحمده حمداً ينتهي إلى رضاه يزيد ولا يبيد، وأشكره شكراً يوجب لنا من نعمه المزيد، واستعينه استعانة من وفقه للسداد، واستهديه فهو الهادي للرشاد، واستغفره من كل ذنبٍ حديثٍ وقديم، وأعوذ به من شر نفسي وشر كل دابةٍ هو آخذٌ بناصيتها إن ربي على صراطٍ مستقيم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا ضد ولا كفؤ ولا معين، ولا وزير {ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير}.(1/317)
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي من اقتفى سنته لقي النجاح، ومن اقتدى طريقته وجد الفلاح، صلى الله عليه أرفع الصلوات وأزكاها، وأطيبها وأكثرها وأنماها، وجزاه عنا أفضل الجزاء والسلام عليه ورحمة الله وبركاته وعلى آله وصحبه أئمة الدين، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد.
فقد قال الله عز وجل: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتب والحكمة}.
ذكر علماء التفسير وغيرهم أن الحكمة هنا هي السنن المروية عن سيد الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم -.
قال الإمام أبو عبد الله نعيم بن حماد بن معاوية الخزاعي المروزي: حدثني محمد بن كثير عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {الكتاب والحكمة} قال: الكتاب والسنة.
وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي -رضي الله عنه- فيما بلغنا عنه في تفسير هذه الآية الشريفة قال:
((فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)).
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة}.
قال: القرآن والسنة.(1/318)
وقال تعالى في وصف صاحب الحكمة والحكم ومن أوتي جوامع الكلم محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: {وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحيٌ يوحى}.
صح من حديث أيوب عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال:
((قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أمر، وسكت في ما أمر: {وما كان ربك نسياً}.
وفي بعض طرقه: ((قول النبي- صلى الله عليه وسلم - فيما أمر)).
وخرج الإمام الزاهد أبو الفتح نصر بن إبراهيم بن نصر المقدسي -رحمه الله- في كتابه ((الحجة)) من طريق المعافى بن عمران، عن الأوزاعي، عن أبي عبيد، عن القاسم بن مخيمرة، عن ابن نضيلة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((لا يسألني الله عز وجل عن سنةٍ أحدثتها فيكم لم يأمرني الله عز وجل)).
تابعه محمد بن كثير وأبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج الخولاني وأيوب بن خالد عن الأوزاعي نحوه وفي الحديث قصةٌ.
رواه أبو بكر بن أبي علي فقال: أخبرنا القاضي أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا أحمد بن هارون حدثنا سليمان بن سيف حدثنا(1/319)
أيوب عن خالد [حدثنا] الأوزاعي حدثني أبو عبيد حاجب سليمان بن عبد الملك [حدثنا] القاسم بن مخيمرة حدثني طلحة بن نضيلة قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : سعر لنا يا رسول الله، فقال:
((لا يسألني الله عز وجل عن سنةٍ أحدثتها فيكم لم يأمرني بها ولكن سلوا الله من فضله)).
أبو عبيد مولى سليمان بن عبد الملك وحاجبه تابعي من ثقات الشاميين مختلفٌ في اسمه فقيل: حيي سماه مسلمٌ في كتابه ((الكنى)) وصدر به البخاري في ((تاريخه الكبير)) وقال: ((سماه أي هكذا عبد الله بن أبي الأسود)).
ثم قال: ((قال عبد الحميد بن جعفر: حوي)).
وابن نضيلة، ويقال: ابن نضلة اسمه عبيد، وقيل: طلحة كما تقدم في رواية أيوب بن خالد وهو الخزاعي الأزدي أبو معاوية الكوفي المقرئ اختلف في صحبته فأثبتها جماعةٌ ونفاها آخرون، ولم يذكره البخاري في ((تاريخه)) في الصحابة بل ذكره في التابعين الذين رووا عن ابن مسعود والمغيرة بن شعبة، وكذا ذكره مسلمٌ في كتابه ((الكنى)).
والجمهور على أنه تابعي، وعلى هذا فالحديث مرسلٌ.(1/320)
وحدث عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الثقة المأمون، عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال:
((كان جبريل -عليه السلام- ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن يعلمه إياها كما يعلمه القرآن)).
رواه علي بن خشرم ونعيم بن حماد وغيرهما عن عيسى.
ورواه محمد بن إسحاق الصغاني، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا الأوزاعي فذكره بمثله.
تابعهما أبو إسحاق الفزاري وأبو يوسف محمد بن كثير المصيصي عن الأوزاعي نحوه.
والأحاديث والآثار في معنى ذلك جمة، وقد قال البيهقي في كتابه ((معارف السنن)):
((قال الشافعي: وقيل لم يسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط إلا بوحي الله عز وجل فمن الوحي ما يتلى، ومنه ما يكون وحياً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيستن به)). انتهى.(1/321)
قال مصنفه -رحمه الله-:
فالسنن النبوية، هي وحي من الله تعالى أيضاً وعليها مدار الأحكام، وفيها معرفة أصول التوحيد وذكر صفات رب العالمين، وتنزيهه عن مقالات الملحدين، وفيها صفة الجنان، وما أعد الله فيها للأبرار ووصف النار، وما هيأ الله فيها للفجار، وما خلق الله تعالى في السموات والأرض من بديع المصنوعات، وعظيم الآيات، واختلاف أجناس المخلوقات من الملائكة والجن والأنس وسائر البريات، وفيها أنباء الأنبياء، وكرامات الأولياء، وقصص الأمم القدماء، وبيان مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسراياه، وبعوثه وكتبه وأحكامه وأقضيته ومواعظه ووصاياه، ومعجزاته وأيامه وصفاته، وأخلاقه وآدابه وأحواله إلى حين مماته، وذكر أزواجه وأولاده وأصهاره وأصحابه، ونشر فضائلهم ومناقبهم وأقاويلهم في الشريعة، وفيها تفسير القرآن العظيم، وبيان لأكثر الآيات المجملة فيه، وبها عرف الحلال والحرام، والهدى من الضلال، وما يحبه الله ويرضاه ويقرب إليه ويبعد عنه، غير ما فيها من الفوائد الظاهرة والخفية والمعاني الشريفة التي لا توجد إلا فيها وكيف لا وهي كلام أفصح الخلق، وحبيب الحق، ومن أعطي جوامع الكلم وخص ببدائع الحكم - صلى الله عليه وسلم -.
وقد نصب الله تعالى للسنة رجالاً رحلوا في طلبها إلى البلاد الشاسعة، وجمعوها من الأماكن القاصية على اختلاف وجوهها، وتشعب طرقها، وتغاير ألفاظها، وهذبوا إسنادها الذي أكرم الله به هذه الأمة، وحرروا أحوال رجالها، وبينوا الثقة من الصدوق، والعدل من المستور، والمشهور من المجهول، والقوي من اللين، والضعيف من الواهي، والمتروك من الكذاب، حتى عرف صحيح السنن من سقيمها، ومسندها ومرسلها، ومرفوعها من موقوفها، وموصولها من مقطوعها، ومعللها من سليمها، ومقلوبها من قويمها، ومتواترها من أفرادها، وشاذها ومشهورها من غريبها، وناسخها من منسوخها، ومبينها من مجملها، ودونوها للطالبين، ونفوا عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وشبه المبتدعين، فأهلها هم خلفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين دعا لهم بالرحمة والنضرة.(1/322)
قال أبو محمد يحيى بن محمد ابن صاعد: وحدثنا محمد بن الحسن الهمذاني الكوفي حدثنا أبو طاهر أحمد بن عيسى بن عبد الله العلوي، حدثنا ابن أبي فديك عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عن ابن عباس، سمعت علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يقول:
خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((اللهم ارحم خلفائي)) قلنا: يا رسول الله! ومن خلفاؤك؟.
قال: ((الذين يأتون من بعدي يروون سنتي وأحاديثي ويعلمونها الناس)).
وجاء أن أهل الحديث هم الأبدال في الأرض.
قال أبو الفتح يوسف بن عمر بن مسروق القواس الزاهد - وكان يقال: إنه من الأبدال -رحمه الله- قال: حدثنا محمد بن إسحاق المقرئ إملاء سمعت عبد الله بن إسحاق سمعت أبي يقول: قيل لأحمد بن حنبل -رحمه الله- ما الأبدال؟ أو: هل لله تعالى أبدال في الأرض؟.
قال: ((نعم لله في الأرض أبدال))، قيل: من هم، قال؛ ((إن لم يكن أصحاب الحديث هم الأبدال فلا أعرف لله أبدالاً)).
وروى نحوه عمر بن بكار القافلاني عن أحمد.(1/323)
وكذا قال صالح بن محمد الرازي فيما رويناه عنه وسأله رجل فقال: ((إذا لم يكونوا أصحاب الحديث هم الأبدال فلا أدري من الأبدال)).
وقال: هذا كلام يزيد بن هارون ذكره عن سفيان الثوري.
وقال النضر بن شميل فيما روينا عنه: سمعت الخليل بن أحمد يقول: ((إن لم يكن أهل القرآن والحديث أولياء لله فليس لله في الأرض من ولي)).
وقال محمد بن عصام: سمعت عبد الرحمن بن محمد بن حاتم يقول: قال إبراهيم بن أدهم:
((إن الله -عز وجل- يدفع البلاء عن هذه الأمة برحلة أصحاب الحديث)).
وقال هشام بن عمار: حدثنا الجراح بن مليح حدثنا بكر بن زرعة سمعت أبا عنبة الخولاني -وكان ممن صلى القبلتين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكل الدم في الجاهلية- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
((لا يزال الله عز وجل يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم بطاعته)).(1/324)
وخرجه أبو عمر ابن عبد البر في كتابه ((بيان العلم)).
واسم أبي عنبة: عبد الله بن عنبة، وقيل: عمارة.
واختلف في صحبته فقال مسلم في كتاب ((الكنى)): ((له صحبة)).
وعلى هذا جماعةٌ وبعضده هذا الحديث وأنه من السابقين رضي الله عنهم أجمعين.
قال أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم البغدادي: بلغني عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال: ((هم أصحاب الحديث)).
وقال ابن أبي فديك: حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس سمعت علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يقول: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((اللهم أرحم خلفائي)) قلنا: يا رسول الله؟ من خلفاؤك؟. قال:
((الذين يروون أحاديثي وسنتي ويعلمونها الناس)).(1/325)
وقال أبو الحسن محمد بن عبيد الله بن محمد بن بشر الفسوي فيما روينا عنه: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقلت: يا رسول الله! من الفرقة الناجية من ثلاث وسبعين فرقة؟.
قال: ((أنتم يا أصحاب الحديث)).
وقال أبو الفضل محمد بن جعفر بن عبد الكريم بن بديل الخزاعي المقرئ -وفيه مقال-: سمعت أبا العباس أحمد بن منصور الحافظ يقول: سمعت أحمد بن محمد بفسا يقول: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقلت: يا رسول الله! قلت: ((أن أمتي تفترق على ثلاث وسبعين فرقة)) من الناجية منهم؟.
قال: ((أنتم يا أصحاب الحديث)).
فأصحاب الحديث هم الفرقة الناجية من الفرق، وهم الذين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله.
قال أبو بكر بن أبي داود فيما روينا عنه: حدثنا أبي عن سعيد بن يعقوب الطالقاني أو غيره قال: ذكر عبد الله بن المبارك حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من ناوأهم حتى تقوم الساعة)).
قال ابن المبارك: هم عندي أصحاب الحديث.(1/326)
وقال يزيد بن هارون في هذا الحديث:
((إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم)).
وكذا قال أحمد بن حنبل فيما رواه عنه الفضل بن زياد وموسى بن هارون.
وقاله أيضاً أبو جعفر أحمد بن سنان القطان، وأبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري.
وقال الترمذي أبو عيسى في ((جامعه)):
حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة عن معاوية بن قرة، عن أبيه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((إذا فسد أهل الشام فيكم لا تزال طائفةٌ من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة)).(1/327)
قال علي بن المديني: ((هم أصحاب الحديث)).
ورواه عثمان بن سعيد الدارمي عن ابن المديني.
وروينا عن إبراهيم بن معقل النسفي سمعت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري يقول: كنا ثلاثة أو أربعة على باب علي بن عبد الله بن المديني فخرج علينا بعد ساعة فقال: إني لأرجو أن تأويل هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم)) إني لأرجو أن تأويل هذا الحديث أنتم لأن التجار قد شغلوا أنفسهم بالتجارات وأهل الصنعة قد شغلوا أنفسهم بالصناعات، والملوك قد شغلوا بالمملكة، وأنتم تحيون سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -)).
وجاء علي بن المديني أنه قال:
((ليس قوم خيراً من أصحاب الحديث الناس في طلب الدنيا وهم في إقامة الدين)).
وقال عمر بن حفص بن غياث: سمعت أبي، وقيل له: ((ألا تنظر إلى أصحاب الحديث وما هم فيه)).
قال: ((هم خير أهل الدنيا)).
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا قبيصة سمعت سفيان الثوري يقول:
((الملائكة حراس السماء وأصحاب الحديث حراس الأرض)).
وقال يزيد بن زريع: ((لكل دين فرسان، وفرسان هذا الدين أصحاب الحديث الأسانيد)).(1/328)
وقال زهير بن صالح: سمعت صالح بن أحمد بن حنبل، سمعت أبي يقول:
((من يعظم أصحاب الحديث يعظم في عين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن حقرهم سقط من عين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن أصحاب الحديث أحباب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)).
فأهل السنن أحباب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفرسان الدين، وحماة الإسلام، وحفظة الشريعة، وكتبهم المصنفة فيها أجل الكتب المصنفة وأصحها مطلقاً الصحيحان للإمامين أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي مولاهم البخاري وأبي الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري -رحمة الله عليهما-، وأصحها وأكثرها فوائد ظاهرة وكامنة صحيح البخاري، وبه قال جمهور العلماء والمحققين.
وذكر أبو زكريا النووي -رحمة الله عليه- أنه الصواب.
وقال الحافظ أبو الفضل عبد الرحيم ابن العراقي فيما أنبأنا: ((وهو الصحيح)). انتهى.
وقد نص الحافظ أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي أنه بعد كتاب الله أصح الكتب تحت أديم السماء.
وخرج الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي في ((تاريخه)) من طريق أبي الفضل جعفر بن الفضل أخبرنا محمد بن موسى بن يعقوب بن المأمون قال: سئل أبو عبد الرحمن -يعني النسائي- عن العلاء وسهيل.
فقال: ((هما خير من فليح ومع هذا فما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب محمد بن إسماعيل البخاري)).(1/329)
وقال الحافظ أبو علي الحسين بن علي النيسابوري:
((ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم في علم الحديث)).
وذهب إلى تفضيله أيضاً بعض أهل المغرب.
وحكى القاضي أبو الفضل عياض بن أبي مروان الطبني -وهو عبد الملك بن زيادة الله بن علي الحماني السعدي التميمي- قال:
((كان من شيوخي من يفضل كتاب مسلم على كتاب البخاري)).
قال مصنفه -عفا الله عنه-:
ومن حجة من فضل كتاب مسلم أن مسلماً جرد الصحيح ويورده كاملاً بطرقه وألفاظه وزياداته في مكان واحد فيسهل على الطالب النظر في ذلك كله عند وقوفه عليه بخلاف البخاري فإنه يفرق الأحاديث وزيادة ألفاظها في أبواب شتى وأماكن متباعدة وكثير منها يذكره في غير بابه الذي يسبق إلى الفهم أنه أولى به فيصعب على الطالب النظر في جميع طرقه ووجوهه المختلفة.
ومن حجتهم أيضاً أن البخاري يذكر التعليقات كثيراً في أبوابه. والجواب أن هذا ليس يقتضي في تقديم ((صحيح مسلم)) على ((صحيح البخاري)) بل هو أصح منه وأكثر فوائد وتفريقه الأحاديث في أبواب مختلفة لدقيقة عظيمة يفهمها البخاري منه.
وأيضاً فإن البخاري اتفق العلماء على أنه أجل من مسلم وأعلم بعلل الحديث، وأنواعه منه ولقد قال إسحاق بن راهويه وكان البخاري جالساً:
((يا معشر أصحاب الحديث انظروا إلى هذا الشاب واكتبوا عنه فإنه لو(1/330)
كان في زمن الحسن بن أبي الحسن لاحتاج إليه الناس لمعرفته بالحديث وفقهه)).
وأما احتجاجهم بالتعليقات فقد وقعت أيضاً في ((صحيح مسلم)) في أربعة عشر موضعاً فيما ذكره الحافظ أبو علي الغساني لكن رواها مسلم متصلة ثم عقبها بقوله عند كل موضع: ((ورواه فلان)) يذكره تعليقاً إلا موضعاً واحداً ذكره تعليقاً في التيمم فقال:
((وروى الليث بن سعد عن جعفر بن ربيعة)).
فذكر حديث أبي الجهم بن الحارث بن الصمة -رضي الله عنه-:
((أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار فمسح وجهه ويديه ثم رد عليه السلام)).
ولم يوصله مسلمٌ كغيره من التعليقات ووصله البخاري في ((صحيحه)) فقال:
حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث فذكره.
والذي عليه الجمهور تفضيل جامع البخاري على كتاب مسلم ومما يقوي ذلك أيضاً ويرجحه أن شرط البخاري في ((صحيحه)) أخص وأرجح من شرط مسلم، فشرط البخاري أن يكون الراوي جمع بين العدالة والإتقان، وأن يكون عاصر شيخه الذي روى عنه مع لقائه وثبوت سماعه منه.
واشترط مسلمٌ المعاصرة ولم يشترط ثبوت السماع وبالغ في الرد على(1/331)
مشترطه في ((مقدمة صحيحه)) وعلى هذا كل ما صححه البخاري يلزم إخراجه مسلماً ولا ينعكس، ومن ثم ينفصل النزاع ويظهر ترجيح ((صحيح البخاري)) على ((صحيح مسلم)).
ومسلمٌ -رحمه الله- ادعى الإجماع على ما شرطه وأنكر اشتراط ثبوت اللقاء فادعى أنه قولٌ مخترعٌ لم يسبق قائله إليه، وذكر أن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديماً وحديثاً أنه يكفي في ذلك أن يثبت كونهما في عصر واحد، وإن لم يأت في خبر أنهما اجتمعا أو تشافها.
وهذا الذي رده مسلمٌ صوبه المحققون، وهو المختار الصحيح وعليه أئمة المحدثين كعلي بن المديني والبخاري وغيرهما من المتقدمين والمتأخرين.
والبخاري لم يشترط هذا الشرط إلا في هذا الكتاب صيانة له.
وأما ما قاله الشافعي -رحمة الله عليه- فيما رواه أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ في كتابه ((حلية الأولياء)) فقال:
حدثنا محمد بن إبراهيم ومحمد بن عبد الرحمن قالا: حدثنا محمد بن زبان بن حبيب سمعت الربيع بن سليمان، سمعت الشافعي يقول:
((ما بعد كتاب الله أكثر صواباً من موطأ مالك)).
وحدث به أبو محمد عبد الله بن جعفر الورد، عن علي بن(1/332)
محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا هارون بن سعيد، سمعت الشافعي -رحمه الله- يقول:
((ما من كتاب أكثر صواباً بعد كتاب الله -تبارك وتعالى- من كتاب مالك -يعني: الموطأ-)).
فهذا لا ينافي ما قاله الحافظ أبو عبد الرحمن النسائي أن ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب البخاري وقد تقدم لأن الشافعي -رحمة الله عليه- إنما قال هذا قبل البخاري ومسلم وكان في ذلك الوقت كتبٌ مصنفةٌ لجماعةٍ من أتباع التابعين منهم هشام بن حسان، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، كان له مصنفان أحدهما في التفسير والآخر في السنة، وكان كذلك لسعيد بن أبي عروبة.
وصنف حماد بن سلمة مصنفات في الأبواب منها ((كتاب المواريث)) وهو موجودٌ اليوم.
وقيل: إن مالكاً أئتم في تصنيفه الموطأ بمصنف حماد، وصنف عبد الله بن المبارك موطأ وكذا هشيم وإبراهيم بن أبي يحيى وموطأه كبيرٌ.
وصنف وكيع بن الجراح، والوليد بن مسلم كتباً، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وصنف الأوزاعي والثوري وابن عيينة الجامع، وكذا معمر بن راشد، وعبد الرزاق، ثم صنف نعيم بن حماد، وسعيد بن منصور، وأبو بكر بن أبي شيبة وغيرهم.
ومصنفات هؤلاء فيها من جنس ما في الموطأ من المسند، والمرسل والموقوف، وقول التابعي وغير ذلك، ولا ريب أن هذه الكتب لم يكن فيها أصح من موطأ مالك، ولا أكثر صواباً منه كما قال الشافعي -رحمه الله- ولهذا اعتنى الناس به، ويوجد بالاستقراء أن البخاري إذا كان عنده في الباب حديث مسند لمالك قدمه على غيره في ((صحيحه)).
وبعد هذه المصنفات جرد العلماء المسند من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصنفوا المسانيد كمسند أبي محمد عبيد الله بن موسى العبسي، وأبي داود(1/333)
سليمان بن داود الطيالسي وهما أول من صنف المسند على تراجم الرجال في الإسلام.
ومسند موسى بن طارق أبي قرة الزبيدي، وإسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل، ومسدد بن مسرهد، وأحمد بن منيع، وأبي خيثمة زهير بن حرب، وعبد الله بن عمر القواريري، وأبي عبد الله الشافعي وغيرهم.
وبعد هذا صنف الناس أنواعاً من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فصنف الحديث الصحيح مجرداً من غيره البخاري ومسلم، والبخاري أول من صنف ذلك ولم نعلم أن أحداً تقدم البخاري في جمع الصحيح، فإنه أول من اعتنى بجمعه وتبعه بعد ذلك مسلم ولم يلتزما بإخراج جميع ما صح من الأحاديث لأن في السنن وغيرها أحاديث صحيحة ليست في كتابيهما، وما قاله الحافظ أبو عبد الله محمد بن يعقوب ابن الأخرم:
((قل ما يفوت البخاري ومسلماً -يعني: -في صحيحيهما- من الأحاديث الصحيحة)).
فقد ناقشه الإمام أبو عمرو ابن الصلاح في ذلك فإن الحاكم قد استدرك عليهما أحاديث كثيرة وإن كان في بعضها مقال إلا أنه يصفو له شيء كثير.
وذكر الإمام أبو بكر البيهقي أنهما اتفقا على أحاديث من صحيفة همام بن منبه وأن كل واحد منهما انفرد عن الآخر بأحاديث منها، والإسناد واحد وهذا يشعر أنهما لم يلتزما استيعاب الأحاديث الصحيحة، بل صرَّحَا بأنهما لم يستوعباها فقد ثبت فيما رواه أبو أحمد ابن عدي الحافظ فقال: وسمعت الحسن بن الحسين البزاز يقول: سمعت إبراهيم بن معقل، سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول:(1/334)
((ما أدخلت في هذا الكتاب -يعني: جامعه الصحيح- إلا ما صح وتركت من الصحاح كيلا يطول الكتاب)).
وحدث بنحوه أبو عبد الله محمد بن أحمد البخاري الحافظ المعروف بـ ((غنجار)) عن أبي الحسين محمد بن الحسين بن علي بن يعقوب الكاتب سمعت إبراهيم بن معقل فذكره.
وقال مسلم في ((صحيحه)):
((ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هنا، إنما وضعت هنا ما أجمعوا عليه)).
يريد ما وجد عنده فيها شرائط الصحيح المجمع عليه، وإن لم يظهر اجتماعها في بعضها عند بعضهم قاله ابن الصلاح.
وقال الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله في كتابه ((المستخرج على صحيح مسلم)).
((ومتى قصد فارس من فرسان هذه الصنعة ورام الزيادة عليه في شرطه -يعني البخاري- من الأصول أمكنه ذلك لتركه -رحمه الله- ما لا يتعلق بالأبواب والتراجم التي بنى عليها كتابه)).
وهذا بعينه قول الحاكم أبي عبد الله وتوفي قبل أبي نعيم بخمس وعشرين سنة تقريباً فقال الحاكم في كتابه ((المدخل إلى معرفة رجال الصحيحين)):(1/335)
((وأما محمد بن إسماعيل فإنه بالغ في الاجتهاد فيما خرجه وصححه، ومتى قصد الفارس من فرسان أهل الصنعة أن يزيد على شرطه من الأصول أمكنه ذلك، لتركه كل ما لم يتعلق بالأبواب التي بنى كتابه الصحيح عليها فإذا كان الحال ما وصفنا بان للمتأمل من أهل الصنعة أن كتابيهما لا يشتملان على كل ما يصح من الحديث وأنهما لم يحكما أن من لم يخرجاه في كتابيهما مجروح أو غير صدوق)) انتهى.
وروي عن أبي قريش محمد بن جمعة بن خلف القايني الحافظ قال: كنت عند أبي زرعة الرازي فجاء مسلم بن الحجاج، فسلم عليه وجلس ساعة وتذاكرا فلما قام قلت له: هذا جمع أربعة آلاف حديث في الصحيح قال أبو زرعة: فلمن ترك الباقي.
وهذا يرد على أبي الحسن الدارقطني وغيره، حيث ألزموا البخاري ومسلماً إخراج أحاديث تركا إخراجها وأسانيدها صحيحة وأنه ليس بلازم في الحقيقة إخراج ذلك في صحيحيهما لما ذكرناه.
وقد خرجت كتب على الصحيحين فيها فوائد منها:
زيادة ألفاظ كتتمة لمحذوف، أو زيادة شرح في حديث ونحو ذلك وهي صحيحة أيضاً وربما دلت على زيادة حكم.
ومنها: علو الإسناد.
وهاتان الفائدتان اقتصر الحافظ أبو عمرو ابن الصلاح عليها.
وزاد شيخنا أبو الفضل ابن العراقي ثالثةً وهي: قوة الحديث بكثرة الطرق للترجيح عند المعارضة(1/336)
وزاد مصنفه -رحمه الله- عليهما فائدة رابعة، وخامسة، وسادسة، وسابعة، وثامنة، وتاسعة أيضاً.
فمنها: وصل تعليق علقه الشيخان أو أحدهما.
ومنها: بيان من تابع من الرواة الراوي من رجال الصحيحين على حديثه.
ومنها: معرفة اتفاقهما أو اختلافهما في الحرف أو الحرفين فصاعدا.
ومنها: بيان الزيادة التي على لفظ الصحيحين أو أحدهما من حديث وقعت، وهل انفرد بها أم لا؟ كما في ((الصحيح المخرج على صحيح البخاري)) للإمام أبي بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الإسماعيلي، في باب التكبير إذا قام من السجود من حديث عبيد الله بن موسى عن همام عن قتادة عن عكرمة قال: صليت خلف شيخ بمكة فكبر ثنتين وعشرين تكبيرة من صلاة الظهر فذكرت ذلك لابن عباس فقال: ثكلتك أمك تلك سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -.
فقوله: ((في صلاة الظهر)) ليست في حديث موسى بن إسماعيل، شيخ البخاري، الذي حدث عنه بهذا الحديث في الباب المذكور عن همام.
فظهر لنا أن قوله: ((في صلاة الظهر)) وقع من حديث عبيد الله بن موسى.
وخرجه الإسماعيلي أيضاً في الباب المذكور في ((صحيحه)) بهذه الزيادة من حديث يزيد بن زريع، وعبدة بن سليمان، عن سعيد بن قتادة فذكره بالزيادة المذكورة، فعلمنا بهذا أن للزيادة أصلاً وأن عبيد الله بن موسى لم يتفرد بها.
وللحديث طرق.
ومن فوائد المستخرجات أيضاً ذكر قصة في الحديث لم تقع للبخاري(1/337)
في ((صحيحه)) مثلاً ووقعت في المستخرج كما في صحيح الإسماعيلي في باب ((إتمام الركوع والاعتدال فيه والاطمأنينة)) من حديث غندر عن شعبة عن الحكم أن مطر بن ناجية لما ظهر على الكوفة أمر أبا عبيدة أن يصلي بالناس، فكان إذا رفع رأسه من الركوع، أطال القيام قدر ما يقول: اللهم ربنا لك الحمد مثل قول عبد الله بن مسعود.
وقال شعبة: قال الحكم: فحدثت ابن أبي ليلى فحدث عن البراء -رضي الله عنه- قال:
((كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى فركع وإذا رفع رأسه من الركوع وإذا سجد فرفع رأسه بين السجدتين قريباً من السواء)).
وحدث بهذا الحديث البخاري في ((صحيحه)) في الباب المذكور عن بدل بن المحبر حدثنا شعبة فذكر المسند فقط دون القصة.
ومنها: رفع إشكال وقع في لفظ من الصحيحين أو أحدهما كما في ((صحيحي البخاري ومسلم)) من حديث يعقوب بن إبراهيم بن سعد حدثنا أبي عن الوليد بن كثير حدثني محمد بن عمرو بن حلحلة أن ابن شهاب حدثه أن علي بن الحسين حدثه إنهم حين قدموا المدينة من عند يزيد بن معاوية بعد مقتل حسين بن علي -رضوان الله عليهما- لقيه المسور بن مخرمة الحديث.
وفيه: ((أن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل على فاطمة فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب الناس في ذلك على منبره هذا وأنا يؤمئذ محتلم)) الحديث.
فقوله: ((محتلم)) فيه إشكال لأن المسور ولد في السنة الثانية من الهجرة بعد مولد ابن الزبير فلم يدرك من حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا نحو ثمان(1/338)
سنين فكيف يكون محتلماً حين سمع هذه الخطبة فخرج الإسماعيلي هذا الحديث في ((صحيحه)) عن أحمد بن الحسن بن عبد الجبار عن يحيى بن معين عن يعقوب بن إبراهيم فذكره وفيه: إن المسور قال: وأنا يؤمئذ كالمحتلم.
ووجدت في ((أطراف الصحيحين)) لخلف الواسطي بخط الحافظ أبي علي البرداني في حديث المسور هذا من المتفق عليه، حديث أن علياً خطب بنت أبي جهل على فاطمة، فسمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس وأنا يؤمئذ كالمحتلم فقال: ((إن فاطمة مني)).
وذكره مختصراً وعزاه بطرقه.
وقد تكمل تلك الفوائد التسع التي في المستخرجات بفائدة عاشرة، وهي أنه من فاته مثلاً سماع الصحيحين أو أحدهما قد يصل إلى ذلك بأحاديثه وتراجمه بسماع أحد الكتب المستخرجة على الكتاب الذي فاته سماعه والله أعلم.
ومن الكتب المستخرجة على صحيح البخاري، كصحيح الإسماعيلي المذكور، صحيح الحافظ أبي بكر أحمد بن محمد بن غالب البرقاني، وصحيح أبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني.
وكذلك ((المستخرج على صحيح مسلم)) لأبي عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفراينيي ولأبي نعيم الأصبهاني أيضاً ولأبي سعيد أحمد بن أبي بكر محمد بن عثمان الحيري النيسابوري، ولأبي محمد عبد الله بن محمد بن جعفر ابن حيان أبي الشيخ الأصبهاني.
وثم كتب أخر التزم أصحابها صحتها، كصحيح أبي بكر محمد بن إسحاق ابن خزيمة، وصحيح أبي حاتم محمد ابن حبان البستي المسمى: ((المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع من غير وجود قطع في سندها ولا ثبوت جرح في ناقليها))، وكذلك ((المستدرك على الصحيحين)) لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم، ويوجد في مسند أحمد بن حنبل -رحمه الله- من الأحاديث ما يوازي كثيراً من أحاديث مسلم بل والبخاري أيضاً وليست(1/339)
عندهما ولا عند أحدهما، وكذلك يوجد الصحيح في معجم الطبراني الكبير، والأوسط، ومسند أبي يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي، ومسند أبي بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار، وغير ذلك من المسانيد والمعاجم بل والأجزاء فجميع ما ذكرنا يدل على أن البخاري ومسلماً لم يستوعبا الصحيح من الأحاديث في كتابيهما وما روياه فيهما مسندًا متصلاً فهو مقطوع بصحته، والعلم اليقيني القطعي حاصل به وإلى هذا ذهب أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي، والإمام الخير الصالح أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الخالق بن أحمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف اليوسفي، والإمام الحافظ أبو عمرو عثمان ابن الصلاح وغيرهم.
وقال النووي في كتابه ((التقرير والتيسير)):
((خالف ابن الصلاح المحققون والأكثرون فقالوا: يفيد الظن ما لم يتواتر)) انتهى.
وقد انتقد بعض الحفاظ كأبي الحسن الدارقطني، وأبي مسعود الدمشقي، وأبي محمد ابن حزم وأبي علي الغساني من الصحيحين، مواضع وقد أجاب العلماء عنها بأجوبةٍ جيدةٍ وقد تطرق كلام بعض القادحين إلى التعليقات التي في صحيح البخاري، فجعل مثل ذلك انقطاعاً قادحاً في الصحة وليس كذلك، بل ما علقه البخاري بصيغة الجزم كقال فلان ونحوه فصحيح إلى من علقه عنه فإن كان من مشايخه كقوله:
((وقال هشام بن عمار)) وساق بإسناده حديث أبي عامر أو أبي مالك الأشعري مرفوعاً.
((ليكونن في أمتي أقوامٌ يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)) الحديث.
فليس حكم هذا حكم التعليق من شيوخ شيوخه فمن فوقهم، بل(1/340)
حكمه حكم الإسناد المعنعن، وحكم المعنعن الاتصال بشرط ثبوت اللقاء والسلامة من التدليس ولقاء البخاري لشيوخه معروف وهو سالم من التدليس، فلهذا حكم الاتصال جزم به المحققون منهم ابن الصلاح.
وقد يكون قول البخاري: قال فلان، وهو من شيوخه من باب قول الصحابي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم.
وحديث هشام بن عمار الذي مثلنا به، رواه الحسن بن سفيان الفسوي عن هشام خرجه البيهقي من طريقه.
وخرجه الطبراني فقال:
حدثنا محمد بن يزيد بن عبد الصمد حدثنا هشام بن عمار فذكره.
وخرجه أبو داود من طريق آخر مختصراً.
وما كان من تعليقات البخاري بصيغة التمريض، كيروى، ويذكر، ونحو ذلك فلا يستفاد منه صحة بل يستأنس بها ولا تنافيها الصحة أيضاً فقد وقع من ذلك كذلك وهو صحيح وربما خرجه مسلمٌ في ((صحيحه)).
وقول البخاري الذي قدمناه: ((ما أدخلت في هذا الكتاب -يعني(1/341)
جامعه الصحيح- إلا ما صح)) حمل ابن الصلاح هذا على أن المراد مقاصد الكتاب وموضوعه ومتون الأبواب دون التراجم ونحوها.
وكل ما قال البخاري فيه: قال لي فلان أو لنا، أو زادني ونحو ذلك فهو متصل عند الجمهور.
وحكى ابن الصلاح من بلاغاته عن بعض المتأخرين من المغاربة أن ذلك تعليق متصل من حيث الظاهر، منفصل من حيث المعنى.
وقال أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى ابن منده في ((جزء جمعه في اختلاف الأئمة في القراءة والسماع والمناولة والإجازة)):
((أخرج البخاري في كتبه الصحيحة وغيرها، قال لنا فلان وهي إجازة)) انتهى.
وقال الحاكم أبو عبد الله:
((سمعت أبا عمرو ابن أبي جعفر -يعني محمد بن الحافظ أبي جعفر أحمد بن حمدان بن علي بن سنان الحيري النيسابوري- سمعت أبي يقول: كل ما قال البخاري: قال لي فلان: فهو عرضٌ ومناولة)) انتهى.
والجمهور على أن هذا متصل.
ومن عادة البخاري اختصار الأحاديث وتقطيعها في عدة تراجم من ((صحيحه)) والعلماء مختلفون في جواز ذلك على أقوال:
أحدها: المنع مطلقاً.
والثاني: الجواز إذا لم يخل حذفه بالمعنى كالاستثناء، والشرط، والحال، ونحو ذلك فإن أخل لم يجز بلا خلاف.
والثالث: أن المختصر إن لم يكن قد رواه مرة أخرى بتمامه، ولم(1/342)
يعلم أن غيره رواه تاماً لم يجز وإن كان قد رواه تاماً مرة أخرى، أو علم أن غيره رواه جاز.
والرابع: وهو الصحيح كما قال ابن الصلاح: أنه يجوز ذلك من العالم العارف إذا كان ما تركه متميزاً عما نقله غير متعلق به، بحيث لا يختل البيان ولا تختلف الدلالة فيما نقله بترك ما تركه.
قال ابن الصلاح:
((فهذا ينبغي أن يجوز وإن لم يجز النقل بالمعنى أن ذلك بمنزلة خبرين منفصلين [لا تعلق لأحدهما بالآخر])) انتهى.
ومن هذا الرابع اختصار البخاري الأحاديث عند حصول الفائدة التي عقد لأجلها الترجمة حتى كأن الحديث تام عند سامعه.
وبعض تراجم هذا الكتاب خالية من الأحاديث، وذلك -والله أعلم- أن الحديث الموافق لتلك الترجمة ليس من شرطه ولكنه أشار إليه، حيث جعله ترجمة، ويكون رواه أحد الأئمة في كتبهم، وربما أصحاب الصحيح كحديث ((الدين النصيحة لله ولرسوله والأئمة المسلمين وعامتهم)) ويحتمل غير ذلك والله أعلم.
قال الحافظ أبو أحمد عبد الله ابن عدي الجرجاني:
وسمعت عبد القدوس بن همام يقول: سمعت عدة من المشايخ يقولون: حول محمد بن إسماعيل تراجم جامعه بين قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنبره وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين)).
فأول ما صنف البخاري فيما بلغنا من ((صحيحه)) الأبواب، ثم سندها(1/343)
بعد بالأحاديث وبقي في تهذيبه وتحريره، ست عشرة سنة وانتقاه من زهاء ستمائة ألف حديث.
خرج الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد البخاري غنجار في ((تاريخه)) عن إبراهيم بن معقل، سمعت محمد بن إسماعيل البخاري -رحمه الله- يقول:
((خرجت كتاب الجامع في بضع عشرة سنة وجعلته فيما بيني وبين الله حجة)).
وخرج الحافظ أبو بكر الخطيب في ((تاريخه)) من طريق أبي الهيثم الكشميهني سمعت محمد بن يوسف الفربري يقول: قال لي محمد بن إسماعيل البخاري:
((ما وضعت في كتاب الصحيح حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين)).
وجميع ما فيه من الأحاديث بإسقاط المكرر أربعة آلاف حديث على ما قيل، وبالمكرر سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثاً، على ما عده أبو محمد عبد الله بن أحمد الحموي مفصلاً على الأبواب، وهكذا عده مجملاً بفربر الحسين بن محمد الجوزجاني، وبهذا العدد جزم ابن الصلاح.
قال أبو الفضل ابن العراقي:
((وهو مسلم -أي هذا العدد- في رواية الفربري، وأما رواية حماد بن شاكر فهي دونها بمائتي حديث ودون هذه بمائة حديث رواية إبراهيم بن معقل)) انتهى.(1/344)
ومبلغ مشايخه الذين أخرج عنهم في ((الصحيح)) مئتان وستة وسبعون شيخاً، على ما قاله الحاكم أبو عبد الله في كتابه ((المدخل)) وذكر أبو أحمد ابن عدي أن عدد شيوخه الذين في جامعه مائتان وتسعة وثمانون شيخاً -رحمهم الله-.
ذكره في كتابه ((أسامي من روى عنهم البخاري من مشايخه)).
وما في مشايخه فمن فوقهم رجلٌ محتج به في الأصول إلا ورواياته صحيحة، وقد تكون حسنة، ومن احتج به في الكتاب متابعة أو استشهاداً فمنهم من هو ثقة، ومنهم من في توثيقه توقف لكن من خرج له في ((الصحيح)) لحق بالثقات.
وكان الحافظ أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي يقول في الرجل الذي يخرج عنه في الصحيح: ((هذا جاز القنطرة)).
يعني ذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه.
قال الإمام أبو الفتح محمد بن علي وهب القشيري المنفلوطي -رحمه الله-:
((وهكذا نعتقد وبه نقول: ولا يخرج عنه إلا ببيان شاف وحجة ظاهرة تزيد في غلبة الظن على المعنى الذي قدمناه، من اتفاق الناس بعد الشيخين على تسمية كتابيهما بالصحيح)) انتهى.
وقال الحاكم أبو عبد الله في كتابه ((المدخل إلى معرفة رجال الصحيحين)).
((والبيان أنهما -يعني الشيخين- لم يخرجا الحديث في كتابيهما إلا عن الثقات الإثبات، إلا عند الاستشهاد بخبر لم يستغنيا فيه عن تقييده(1/345)
بمتابع شاهد، يكون في الحفظ والإتقان دون المتابع لأن كلاً منهما قد احتاط لدينه فيما نحا نحوه، وأتعب من بعده في طلب ما خرجه فجزاهما الله عن دينهما ونبيهما -عليه الصلاة والسلام- خيراً)).
وقال أيضاً:
((فقد حدثونا عن محمد بن إسماعيل أنه قال: كنا على باب إسحاق بن إبراهيم بنيسابور فسمعت أصحابنا يقولون: لو جمع جامعٌ مختصراً صحيحاً تعرف به الآثار فأخذت في جمع هذا الكتاب)) انتهى.
وهذه الحكاية رواها المعمر بن محمد بن الحسين، أخبرنا أحمد بن علي الحافظ، أخبرني محمد بن أحمد بن يعقوب، أخبرنا محمد بن عبد الله سمعت خلف بن محمد سمعت إبراهيم بن معقل سمعت أبا عبد الله البخاري يقول: كنت عند إسحاق بن راهويه فقال لنا بعض أصحابنا: لو جمعتم كتاباً مختصراً لسنن النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع هذا الكتاب)).
ورواها الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في ((تاريخه)) فقال:
أخبرني محمد بن أحمد بن يعقوب، أخبرنا محمد بن نعيم الضبي، سمعت خلف بن محمد بن إسماعيل البخاري، سمعت إبراهيم بن معقل النسفي فذكرها.
فهذه الحكاية فيها التصريح بسب تأليف البخاري كتابه الصحيح، وقد قيل: إنه عمل قبل كتاب الصحيح كتاباً يقال له: المبسوط، وجمع فيه جميع كتبه على الأبواب ثم نظر إلى أصح الحديث على ما رسمه، فأخرجه بجميع طرقه في كتابه الصحيح وقد سماه اسماً مطابقاً لأحكامه موافقاً لإتقانه وإحكامه، وهو ((الجامع الصحيح المختصر من أمور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسننه وأيامه))، وقال عنه لما فرغ من تأليفه وأبداه:(1/346)
((وجعلته حجة فيما بيني وبين الله)).
فلهذا صار هذا الكتاب عمدة الدين، وعدة المتعبدين، وسبباً للوصول إلى سبيل المتقين، وسنناً إلى اتباع سنن سيد المرسلين، صلى الله عليه وعليهم أجمعين.
وقد ابتدأه مؤلفه بما ابتدأ الله به نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام من أنواع الوحي المعظم فقال -رحمة الله عليه، ولا زال الرضوان يهدى إليه-:
بسم الله الرحمن الرحيم
باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(1/347)