بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الأوّل الأزلي قبل الكون والمكان، من غير أوّل ولا بداية، الآخر الأبدي بعد فناء المكنونات والأزمان بغير آخر ولا غاية، الظاهر في علوّه بقهره عن غير بعد، والباطن في دنوّه بقربه من دون مسّ، الذي أحسن بلطفه كل شيء بدأه وأتقن صنع كل شيء أنشأه، ودبرت الأحكام حكمته وصرفت المحكومات مشيئته، فأظهر في الغيب والشهادة لطيف قدرته وعمّ في العاجل والآجل خلقه بنعمته، ونشر على مَن أحبّ منهم فضله، وبسط لجميعهم عدله، وأنعم عليهم بتعريفهم إياه، سبحانه وتعالى، به عزّ وجلّ، وأحسن إليهم باجتبائه إياهم إليه، وأفضل عليهم بتيسير كلامه لهم، ومنَّ عليهم ببعثه رسولاً من أنفسهم إليهم، فنسأله الصلاة على النبي وآله، وأن يوزعنا بفضله وشكر نعمه، ويعرفنا خفيّ قدره، وصلّى الله تبارك وتعالى على سيّد الأوّلين والآخرين، رسوله المفضل بالشفاعة والحوض المورود، المخصوص بالوسيلة والمقام المحمود، وعلى إخوانه السالفين في الأزمان، وأنصاره التابعين بإحسان.
وبعد فهذا كتاب قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد، تصنيف الشيخ أبي طالب محمد بن علي بن عطية الحارثي المكي رضي الله عنه يشتمل على ثمانية وأربعين فصلاً هذا ذكرها: الفصل الأول: في ذكر الآي التي فيها المعاملات.
الفصل الثاني: في الآي التي فيها ذكر أوراد الليل والنهار.
الفصل الثالث: في ذكر عمل المريد في اليوم والليلة.
الفصل الرابع: في ذكر ما يستحب من الذكر وقراءة الآي المندوب إليها بعد التسليم من صلاة الصبح.
الفصل الخامس: في ذكر الأدعية المختارة بعد صلاة الصبح.
الفصل السادس: في ذكر عمل المريد بعد صلاة الصبح.
الفصل السابع: في ذكر أوراد النهار وهي سبعة أوراد.
الفصل الثامن: في ذكر أوراد الليل وهي خمسة أوراد.(1/7)
الفصل التاسع: في ذكر وقت الفجر.
الفصل العاشر: فيه كتاب معرفة الزوال وزيادة الظل ونقصانه بالأقدام.
الفصل الحادي عشر: فيه كتاب فضل الصلاة في الأيام والليالي.
الفصل الثاني عشر: في ذكر الوتر وفضل الصلاة في الليل.
الفصل الثالث عشر: فيه كتاب جامع ما يستحب أن يقول العبد إذا استيقظ من نومه وفي يقظته عند الصباح.
الفصل الرابع عشر: في تقسيم قيام الليل ووصف القائمين.
الفصل الخامس عشر: في ذكر ورد العبد من التسبيح والذكر والصلاة في اليوم والليلة وفضل صلاة الجماعة وذكر فضل الأوقات المرجو فيها الإجابة وذكر صلاة التسبيح.
الفصل السادس عشر: في ذكر معاملة العبد في التلاوة ووصف التالين حقّ تلاوته بقيام الشهادة.
الفصل السابع عشر: فيه كتاب ذكر نوع من المفصل والموصل من الكلم ومدح العاملين به وذم الغافلين عنه وهو من تفسير غريب القرآن.
الفصل الثامن عشر: فيه كتاب ذكر الوصف المكروه من نعت الغافلين.
الفصل التاسع عشر: فيه كتاب ذكر الجهر بالقرآن وما في ذلك من النيات وتفصيل حكم الجهر والإخفات.
الفصل العشرون: في ذكر الليالي المرجوّ فيها الفضل المستحب إحياؤها وذكر مواصلة الأوراد في الأيام الفاضلة.
الفصل الحادي والعشرون: في كتاب الجمعة وهيئة آدابها وذكر المزيد في يوم الجمعة وليلتها.
الفصل الثاني والعشرون: فيه كتاب الصوم وترتيبه ووصف الصائمين.
الفصل الثالث والعشرون: في ذكر محاسبة النفس ومراعاة الوقت.
الفصل الرابع والعشرون: في ذكر ماهية الورد للمريد ووصف حال العارف بالمزيد.
الفصل الخامس والعشرون: في كتاب تعريف النفس وتصريف مواجيد العارفين.
الفصل السادس والعشرون: فيه كتاب ذكر مشاهدة أهل المراقبة.
الفصل السابع والعشرون: فيه كتاب أساس المريدين.
الفصل الثامن والعشرون: فيه كتاب مراقبة المقربين.
الفصل التاسع والعشرون: فيه ذكر أهل المقامات من المقربين وتمييزهم ونعت حال المتعبدين الموقنين وتمييز حال أهل الغفلة المبعدين.(1/8)
الفصل الثلاثون: فيه كتاب ذكر خواطر القلب لأهل معاملات القلوب.
الفصل الحادي والثلاثون: فيه كتاب العلم وتفضيله وأوصاف العلماء، وذكر فضل علم المعرفة على سائر العلوم، وكشف طريق العلماء من السلف الصالح، وذكر بيان فضل علم الباطن على علم الظاهر، والفرق بين علماء الدنيا وعلماء الآخرة، وذكر علماء السوء الآكلين بعلومهم الدنيا، وذكر وصف العلم وطريق السلف، وما أحدث المتأخرون من القصص والكلام، وباب ذكر ما أحدث الناس من القول والفعل فيما بينهم مما لم يكن عليه السلف، وباب من تفضيل علم الإيمان واليقين على سائر العلوم والتحذير من الزلل فيه وبيان ما ذكرناه، وباب تفصيل الأخبار وبيان طريق الآثار.
الفصل الثاني والثلاثون: في شرح مقامات اليقين وأحكام الموقنين وأصل مقامات اليقين التي ترد إليها فروع أحوال اليقين وهي تسعة: أوّلها التوبة ثم الصبر ثم الشكر ثم الرجاء ثم الخوف ثم الزهد ثم التوكل ثم الرضا ثم المحبة.
الفصل الثالث والثلاثون: فيه شرح مباني الإسلام وهي خمسة: فالأول فرض شهادة التوحيد للمؤمنين ووصف فضائلها وهي شهادة المقربين وذكر شهادة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفضلها للموقنين، والثاني شرح الصلاة فأوّلها فرض الاستنجاء وسننه وفرائض الوضوء وسننه وفضائله وفرائض الصلاة وسننها وأحكام المصلّي في فوت الصلاة ودركها وما يتعلق بها وهيئة الصلاة وآداب المصلّي فيها، والثالث شرح الزكاة ووقت أدائها وذكر فضائل الصدقة وآداب العطاء ووصف أحوال الفقراء، والرابع شرح صوم شهر رمضان، والخامس شرح كتاب الحج الذي به كمال الشريعة وتمام الملة.
الفصل الرابع والثلاثون: فيه كتاب تفصيل الإسلام والإيمان وعقود السنّة واعتقاد القلوب، وشرح معاملة الناس من العلم الظاهر، وذكر دعائم الإسلام وأركان الإيمان، واتصال الإيمان بالإسلام واقتران القلوب بالعمل وذكر بيان التفرقة بين الإيمان والإسلام، والاستثناء في الإيمان والإشفاق من النفاق وطريقة السلف في ذلك.
الفصل الخامس والثلاثون: فيه كتاب السنّة وشرح فضائلها وجمل من آداب الشريعة وذكر عقود القلوب من علم الظاهر وهي ستَّ عشْرَةَ خصلة: أولها أن تعتقد أن الإيمان قول وعمل، وأن القرآن كلام الله تبارك وتعالى غير مخلوق، وأن تسلم أخبار الصفات، وأن تعتقد وتعلم تفضيل أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن تقدم من قدمه الله عزَّ وجلّ ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن تعتقد أن الإمامة في قريش عامة إلى أن تقوم الساعة، وأن لاتكفر أحداً من أهل القبلة، وأن تصدق بجميع أقدار الله عزّ وجلّ خيرها وشرها، وأن مساءلة منكر ونكير حق، وأن عذاب القبر حق، وأن تؤمن بالميزان، وأن تعتقد أن الصراط حق، وأن تؤمن بالحوض المورود حوض محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن تؤمن بالنظر إلى الله سبحانه وتعالى، وأن تعتقد إخراج الموحدين من النار، وأن تؤمن بوقوع الحساب وفيه فصل مستنبط من(1/9)
معنى الإجماع بذكر أهل البدع وإخراجهم من الجماعة، وذكر فضائل السنة ووصف طرائق السلف التابعين بإحسان.
الفصل السادس والثلاثون: فيه ذكر جمل الشريعة وعز الإيمان، وذكر شرط المسلم الذي يكون به مسلماً، وذكر حسن إسلام المرء وعلامة محبة الله عزّ وجلّ له وذكر حق المسلم على المسلم وهو وجوب حرمة الإسلام على المسلمين، وذكر سنن الجسد وذكر ما في اللحية من المعاصي والبدع، وذكر ما جاء في فضل بعض ذلك واستحسانه، وكتاب ما ذكر من نوافل الركوع وما يكره من النقصان منه.
الفصل السابع والثلاثون: فيه كتاب شرح الكبائر وتفصيلها ومسألة في محاسبة الكفّار.
الفصل الثامن والثلاثون: فيه كتاب الإخلاص وشرح البيان والأمر بتحسينها في تصرف الأحوال والتحذير من دخول الآفات عليها في الأفعال.
الفصل التاسع والثلاثون: فيه كتاب ترتيب الأقوات بالنقصان منها أو بزيادة الأقوات.
الفصل الأربعون: فيه كتاب الأطعمة وما يجمع الأكل من السنن والآداب وما يشتمل على الطعام من الكراهية والاستحباب.
الفصل الحادي والأربعون: فيه كتاب فرائض الفقر وفضائله ونعت عموم الفقراء وخصوصهم وتفصيل قبول العطاء ورده وطريق السلف فيه.
الفصل الثاني والأربعون: فيه كتاب حكم المسافر والمقاصد في الأسفار.
الفصل الثالث والأربعون: فيه كتاب حكم الإمام ووصف الإمامة والمأموم.
الفصل الرابع والأربعون: فيه كتاب الأخوّة في الله عزّ وجلّ والصحبة ومحبة الإخوان فيه تبارك وتعالى وأحكام المؤاخاة وأوصاف المحبين.
الفصل الخامس والأربعون: فيه كتاب ذكر التزويج في فعله وتركه أيهما أفضل ومختصر أحكام النساء في ذلك.
الفصل السادس والأربعون: فيه كتاب ذكر دخول الحمام.
الفصل السابع والأربعون: فيه كتاب الصنائع والمعايش والبيع والشراء وما يجب على التاجر والصانع من شروط العلم في أحكام التصرف.
الفصل الثامن والأربعون: فيه كتاب تفصيل الحلال والحرام وما بينهما من الشبهات وفضل الحلال وذم الشبهة وتمثيل ذلك بصور الألوان.(1/10)
الفصل الأول
في ذكر الآي التي فيها ذكر المعاملة
قال الله تعالى: (ومن أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) الإسراء: 19، وقال عزّ وجلّ: (مَنْ كَانَ يُريدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُريدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ في الآخِرَةِ مِنْ نَصيبٍ (الشورى: 20، وقال سبحانه وتعالى: (وَأَنْ لَيْسَ للإنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى (النجم: 39و04و41، وقال جلّت قدرته: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ في الأيَّامِ الْخَالِيَةِ) الحاقة: 24، وقال عزّ من قائل: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) الأنعام: 132، وقال تبارك وتعالى: (وَمَا أمْوَالُكُمْ وَلاَ أوْلاَدُكُمْ بِالَّتي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا) سبأ: 37، وقال سبحانه وتعالى: (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون) الأعراف: 43، وقال سبحانه وتعالى: (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) السجدة: 17، وقال سبحانه وتعالى: (نِعْمَ أَجْرُ العَامِلينَ الَّذِيْنَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) العنكبوت: 58 - 59، وقال سبحانه: (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كانُوا يَعْمَلونَ) الأنعام: 127(1/11)
الفصل الثاني
في ذكر الآي التي فيها أوراد الليل والنهار
قال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذي جَعَلَ اللَّيْلَ والنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً) الفرقان: 62، وقال جلّ ثناؤه: (إِنَّ لَكَ في النَّهَارِ سَبْحاً طَويلاً واذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتيلاً) المزمل: 7 - 8، وقال سبحانه: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وأَصيلاً وَمِنْ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَويلاً) الدهر: 25 - 26، وقال تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) ق: 39 - 40، وقال تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ ربِّكَ حينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإدْبَارَ النُّجُومِ) الطور: 48 - 49، وقال تعالى: (إنَّ نَاشِئِة اللَّيلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأ وَأَقْوَمُ قِيلاً) المزمل: 6، وقال تعالى: (وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافِ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) طه: 130، وقال تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللََّيْلِ سَاجِداً وَقَائماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) الزمر: 9، وقال تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعًا) السجدة: 61، وقال عزّ اسمه: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) الفرقان: 64، وقال سبحانه وتعالى: (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) الذاريات: 17 - 18، وقال تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ) الإسراء: 78 - 79، وقال: (وَأَقِمِ الصَّْلاَةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) هود: 114، وقال سبحانه وتعالى: (فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الحَمْدُ في السَّمَوَاتِ وَالأًرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ) الروم: 17 - 18.(1/12)
الفصل الثالث
في ذكر عمل المريد في اليوم والليلة
من فرائض الأوامر وفضائل النوادب
فمن ذلك يستحب عند طلوع الفجر، وهو البياض المشتق من سواد الليل المعترض في قطر السماء الشرقي عند إدبار النجوم وإدبارها افتراقها وذهاب ضوئها لغلبة ضوء الفجر عليها، وهو الوقت الذي أمر الله تعالى فيه بذكره إذ يقول تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإدْبَارَ النُّجُومِ) الطور: 49، فليصلِّ العبد ركعتَي الفجر، يقرأ فيهما: (قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ) الكافرون: 1 و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) الإخلاص: 1، فهو أكثر ما روي أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ فيهما، فإن شاء خافت وإن شاء جهر.
فقد روي حديثان أحدهما يدل على المخافتة؛ وهو حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخفف ركعتي الفجر حتى أقول قرأ فيهما بفاتحة الكتاب أم لا، والآخر يدل على الجهر، وهو حديث ابن عمر: رمقت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرين يوماً فسمعته يقرأ في ركعتي الفجر (قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ) الكافرون: 1 و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) الإخلاص: 1، وفي حديث أبي هريرة وابن عباس أنه قرأ في الركعة الأولى الآية التي في سورة البقرة (قُوْلُوا آمَنّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلى إبْرَاهيمَ وَإسْمََاعيلَ) البقرة: 631، إلى آخرها، وفي الركعة الثانية (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِِينَ) آل عمران: 53، فليقرأ بذلك أحياناً، ثم يستغفر الله تعالى سبعين مرة يقول في كلّ مرة: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأسأله التوبة ثم يسبح الله ويهلّله مائة مرة بالكلمات الأربع الجامعات المختصرات التي في القرآن وليست(1/13)
بقرآن: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وأستغفر الله وتبارك الله مرة واحدة، وليدع بهذا الدعاء فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدعو به بعد ركعتي الفجر.
روينا عن ابن أبي ليلى عن داود عن علي عن أبيه عن ابن عباس قال: بعثني العباس إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آله فأتيته ممسياً وهو في بيت خالتي ميمونة فقام يصلّي من الليل فلما صلّى الركعتين قبل صلاة الفجر قال: اللهم إني أسألك رحمةً من عندك تهدي بها قلبي، وتجمع بها شملي، وتلم بها شعثي، وتردّ بها أُلفَتي، وتصلح بها علانيتي، وتقضي بها ديني، وتحفظ بها غائبي، وترفع بها شاهدي، وتزكي بها عملي، وتبيض بها وجهي، وتلقني بها رشدي، وتعصمني بها من كل سوء، اللهم أعطني إيماناً صادقاً، ويقيناً ليس بعده كفر، ورحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك الفوز عند القضاء ومنازل الشهداء وعيش السعداء ومرافقة الأنبياء والنصر على الأعداء، اللهم إني أنزلُ بك حاجتي وإن قصر رأيي، وضعف عملي، وافتقرت إلى رحمتك فأسألك يا قاضي الأمور ويا شافي الصدور كما تجير بين البحور أن تجيرني من عذاب السعير، ومن دعوة الثبور ومن فتنة القبور، اللهم ما قصر عنه رأيي، وضعف عنه عملي، ولم تبلغه نيتي، ومنيتي من خير وعدته أحداً من خلقك أو خير أنت معطيه أحداً من عبادك، فإني أرغب إليك فيه وأسألك يا ربّ العالمين اللهم اجعلنا هادين مهديين غير ضالين، ولا مضلين، حرباً لأعدائك، وسلماً لأوليائك، نحب بحبك الناس ونعادي بعداوتك من خالفك من خلقك، اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، لا حول ولا قوة إلا بالله ذي الحبل الشديد، والأمر الرشيد، أسألك الأمن يوم الوعيد والجنة يوم الخلود، مع المقرّبين الشهود، والركّع السجود، والموفين بالعهود، إنك رحيم ودود، أنت تفعل ما تريد، سبحان الذي تعطف بالعز وقال به، سبحان الذي لبس المجد وتكرم به، سبحان الذي لا ينبغي التسبيح إلاّ له، سبحان ذي الفضل والنعم، سبحان ذي القدرة والكرم، سبحان الذي أحصى كل شيء بعلمه، اللهم اجعل لي نوراً في قلبي، ونوراً في قبري، ونوراً في سمعي، ونوراً في بصري، ونوراً في شعري، ونوراً في بشري، ونوراً في لحمي، ونوراً في دمي، ونوراً في عظامي، ونوراً من بين يدي، ونوراً من خلفي، ونوراً عن يميني، ونوراً عن شمالي، ونوراً من فوقي، ونوراً من تحتي، اللهم زدني نوراً، وأعطني نوراً، واجعل لي نوراً هذه الأنوار التي سألها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آله في كل جزء من أجزائه، إنما هو دوام النظر من نور النور يشاهد القيومية في كل سكون وحركة، منه يكلؤه بنظره، ويتولاه بحيطته، فينظر إليه بدوام نظره ليستقيم له بتولي حفظه فلا يزيغ بصره ولا يطغى ولا(1/14)
تستهويه النفس بهوى، فليدع العبد بهذا الدعاء بعد ركعتي الفجر، لكن يقدم على دعائه المسألة لله تبارك وتعالى في الصلاة على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آله فيستجيب سبحانه وتعالى دعوته ولا يرده، لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سألتم الله تعالى حاجة فابدؤوا بالصلاة عليّ فإن الله تعالى أكرم من أن يُسأل في حاجتين فيعطي إحداهما ويرد الأخرى، ثم ليصلّ العبد صلاة الغداة في جماعة ليكون في ذمة الله وجواره، وفي الحديث صلاة الغداة في جماعة أفضل من قيام ليلة وصلاة العشاء الآخرة في جماعة أفضل من قيام نصف ليلة وليكن قائماً في صلاته بإلقاء سمع، وشهود قلب، وحضور عقل، وجمع هم، وصحة تيقّظ، وحسن إقبال، وتدبر للكلام، وترتيل وتفهم بالتماس غرائب التنزيل.
فإذا سلم من صلاته قال ما يستحب من الذكر.(1/15)
الفصل الرابع
في ذكر ما يُستحبّ من الذكر
وقراءة الآي المندوب إليها بعد التسليم من صلاة الصبح
استخرجناها من الآثار، اللهم صلّ على محمد وآله، اللهم أنت السلام، ومنك السلام، وإليك يعود السلام، فحيّنا ربّنا بالسلام، وأدخلنا دار السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، ثم ليقل سبحان الله العظيم ويحمده ثلاثاً، ثم يستغفر الله ثلاثاً، ثم يقول: اللهم لا مانع لما أَعطيت ولا معطي لما منَعت ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ، ثم ليقل وهو ثانٍ رجِلَه من قبل أن يتكلم هذه الكلمات عشر مرات: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد، يُحيي ويُميت وهو حي لا يموت، بيده الخير كلّه وهو على كل شيء قدير، ثم ليقرأ وهو كذلك: قل هو الله أحد عشراً، ويقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ربّ أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك ربّ أن يحضرون عشر مرات، وليقل: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يصِفُون الصافات: 180 إلى آخر السورة ثلاث مرات، وليقل: (فَسُبْحَانَ اللهِ حينَ تُمْسُونَ وَحينَ تُصْبِحُون) الروم: 71 إلى آخر الثلاث آيات ثلاث مرات، ثم يسبح ثلاثاً وثلاثين ويحمد كذلك، ويكبّر أربعاً وثلاثين، فتلك مائة مرة وإن أحب جعلها خمساً وعشرين زاد فيها التهليل، وإن قال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمساً وعشرين مرة استوعب ذلك مائة تسبيحة وكان أيسر عليه لأجل المداومة، ثم يقرأ سورة الحمد وآية الكرسي وخاتمة البقرة من قوله: (آمَنَ الرَّسُولُ) البقرة: 285، و (شَهِدَ اللهُ) آل عمران: 18 الآية، و (قل اللهم مالك الملك) آل عمران: 62، الآيتين ثم يقرأ: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم) التوبة: 128 إلى آخرها، ثم يقرأ: (وَقُلِ الحَمْدُ للهِ الذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) الإسراء: 111 الآية، ثم يقرأ: (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) الفتح: 27 إلى آخر السورة، ثم يقرأ خمساً من أول سورة الحديد وثلاثاً من آخر سورة الحشر، ثم ليقل: اللهم إني أسألك بكرم وجهك الصلاة على محمد وآله؛ وأسألك الجنة وأعوذ بك من النار سبع مرات،(1/16)
وقال قبيصة بن مخارق للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: علّمني كلمات ينفعني الله بها وأوجز فقد كبر سنّي وعجزت عن أشياء كنت أعملها، فقال: أما لدنياك فإذا صليت الغداة فقل ثلاث مرات سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وبحمده لا حول ولا قوة لا بالله فإنك إذا قلتهن أمِنْتَ من عمى وجذام وبرص وفالج، أما لآخرتك فقل: اللهمّ صلّ على محمد وآل محمد واهدني من عندك وأفِضْ عليّ من فضلك وانشر عليّ من رحمتك وأنزل عليّ من بركاتك، ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما أنه إذا وافى بهن يوم القيامة لم يدعهن فتح له أربعة أبواب من الجنة يدخل من أيّها شاء وإن قال المسبعات العشر التي أهداها الخضر عليه السلام إلى إبراهيم التيمي ووصاه أن يقولها غدوة وعشية وقال له الخضر: أعطانيها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكر من فضلها وعظَّم شأنها ما يجل عن الوصف وإنه لا يداوم على ذلك إلا عبد سعيد قد سبقت له من الله عزّ وجلّ الحسنى وحذفنا ذكر فضائلها اختصاراً، فإن قال ذلك فقد استكمل الفضل والمداومة عليهن تجمع له جميع ما فرّقناه من الأدعية، روى ذلك سعيد بن سعيد عن أبي طيبة عن كرز بن وبرة قال: وكان من الأبدال، قال: أتاني أخ لي من الشام فأهدى لي هدية، وقال: يا كرز اقبل مني هذه الهدية فإنها نعم الهدية، فقلت: يا أخي من أهدى لك هذه الهدية؟ قال: أعطانيها إبراهيم التيمي، قلت: أفلم تسأل إبراهيم من أعطاه؟ قال: بلى، قال: كنت جالساً في فناء الكعبة، وأنا في التهليل والتسبيح والتحميد فجاءني رجل فسلّم عليّ وجلس عن يميني فلم أرَ في زماني أحسن منه وجهاً ولا أحسن منه ثياباً ولا أشدّ بياضاً ولا أطيب ريحاً، فقلت: يا عبد الله من أنت ومن أين جئت؟ فقال: أنا الخضر، فقلت: في أي شيء جئتني؟ قال: جئتك للسلام عليك، وحباً لك في الله عزّ وجلّ، وعندي هدية أريد أن أهديها إليك، فقلت: ما هي؟ قال: هي أن تقرأ قبل طلوع الشمس وتبسط على الأرض، وقبل أن تغرب سورة الحمد سبع مرات، وقل أعوذ برب الناس سبع مرات، وقل أعوذ برب الفلق سبع مرات، وقل هو الله أحد سبع مرات، وقل أيها الكافرون سبع مرات، وآية الكرسي سبع مرات، وتقول سبحان الله والحمد لله ولا إليه إلا الله والله أكبر سبع مرات
وتصلي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبع مرات، وتستغفر لنفسك ولوالديك وما توالدا ولأهلك وللمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات سبع مرات، وتقول اللهم يا ربّ افعل بي وبهم عاجلاً وآجلاً في الدين والدنيا والآخرة ما أنت له أهل ولا تفعل بنا يا مولاي ما نحن له أهل، إنك غفور حليم، جوّاد كريم رؤوف، رحيم سبع مرات، وانظر أن لا تدع ذلك غدوةً وعشية، فقلت: أحب أن تخبرني من أعطاك هذه العطية، فقال: أعطانيها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: أخبرني(1/17)
بثواب ذلك، فقال لي: إذا لقيت محمّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسله عن ثوابه فإنه سيخبرك، فذكر إبراهيم التيمي رحمه الله أنه رأى ذات ليلة في منامه أن الملائكة جاءته فاحتملته حتى أدخلوه الجنة فرأى ما فيها، ووصف وصفاً عظيماً مما رأى في صفة الجنة، قال: فسألت الملائكة فقلت: لمن هذا كله؟ فقالوا: للذي عمل مثل عملك وذكر أنّه أكل من ثمرها وسقوه من شرابها فأتاني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه سبعون نبياً وسبعون صفاً من الملائكة، كل صف مثل ما بين المشرق والمغرب فسلّم عليّ وأخذ بيدي، فقلت: يا رسول الله إن الخضر أخبرني أنه سمع منك هذا الحديث، فقال: صدّق الخضر وكل ما يحكيه فهو حق وهو عالم أهل الأرض وهو رئيس الأبدال وهو من جنود الله عزّ وجلّ في الأرض، فقلت: يا رسول الله فمن فعل هذا ولم يرَ مثل الذي رأيت في منامي، هل يعطى ممّا أعطيته؟ قال: والذي بعثني بالحق إنه ليعطي العامل بهذا وإن لم يرني ولم يرَ الجنة إنه ليغفر له جميع الكبائر التي عملها ويرفع الله عزّ وجلّ عنه غضبه ومقته ويؤمر صاحب الشمال أن لا يكتب عليه شيئاً من السيّئات إلى سنة والذي بعثني بالحق نبياً ما يعمل بهذا إلا من خلقه الله تعالى سعيداً ولا يتركه إلا من خلقه شقياً، وقد كان إبراهيم التيمي رحمه الله مكث أربعة أشهر لم يطعم طعاماً ولم يشرب شراباً فلعله بعد الرؤيا والله تعالى أعلم ذكره الأعمش عنه فهذا من جمل ما أتى ممّا يُستحبّ أن يقرأ ويقال بعد صلاة الغداة، ولذلك فضائل جمة وردت بها الأخبار حذفنا ذكرها للاختصار.(1/18)
الفصل الخامس
في ذكر الأدعية المختارة بعد صلاة الصبح
الجامعة المختصرة المأثورة في الأخبار المتفرقة رُويَ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا افتتح دعاء افتتحه بقوله سبحان ربي العلي الأعلى الوهاب، وأنه كان يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد، يُحيي ويُميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله أهل النعمة والفضل والثناء الحسن لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، وروينا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعائشة رضي الله عنها: عليك بالجوامع الكوامل، قولي: اللهم إني أسألك الصلاة على محمد وآله، وأسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم، وأسألك الجنة، وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار، وما قرب إليها من قول وعمل، وأسألك من الخير ما سألك به عبدك ورسولك محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأستعيذك مما استعاذك منه عبدك ورسولك محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسألك ما قضيت لي من أمر أن تجعل عاقبته رشداً برحمتك يا أرحم الراحمين.
وعن أنس بن مالك قال، قال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا فاطمة ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به أن تقولي يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث فأغثني ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله، وعلّم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر الصديق رضي الله عنه هذا الدعاء فقال: قل اللهم إني أسألك بمحمد نبيك وإبراهيم خليلك وموسى نجيّك وكليمك وعيسى روحك وكلمتك وبكلام موسى وإنجيل عيسى وزبور داود وفرقان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكل وحي أوحيته أو قضاء قضيته أو سائل أعطيته أو غني أقنيته أو فقير أغنيته أو ضال هديته وأسألك باسمك(1/19)
الذي أنزلته على موسى وأسألك باسمك الذي ثبت به أرزاق العباد وأسألك باسمك الذي وضعته على الأرض فاستقرّت وأسألك باسمك الذي وضعته على السموات فاستقلّت وأسألك باسمك الذي وضعته على الجبال فأرست وأسألك باسمك الذي استقلّ به عرشك وأسألك باسمك الطهر الطاهر الأحد الصمد الوتر المنزل في كتابك من لدنك من النور المبين وأسألك باسمك الذي وضعته على النهار فاستنار وعلى الليل فأظلم وبعظمتك وكبريائك وبنور وجهك أن تصلي على محمد نبيك وعلى آله وأن ترزقني القرآن والعم وتخلطه بلحمي ودمي وسمعي وبصري وتستعمل به جسدي بحولك وقوّتك فإنه لا حول لي ولا قوّة إلا بك يا أرحم الراحمين.
وروينا عن ابن عمر أن جبريل عليه السلام أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلمه هذا الدعاء: يا نور السموات والأرض يا جمال السموات والأرض يا عماد السموات والأرض يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا صريخ المستصرخين يا غوث المستغيثين يا منتهى رغبة الراغبين والمفرج عن المكروبين والمروّح عن المغمومين ومجيب دعوة المضطرين وكاشف السوء وأرحم الراحمين وإله العالمين منزول بك كل حاجة يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لم يكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدع أن يدعو بهؤلاء الكلمات حين يصبح، وحين يمسي: اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، وأسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وفي أهلي ومالي، اللهم استر عورتي وآمن روعاتي، وأقلني عثراتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بك أن أغتال من تحتي.
وقال بريد الأسلمي: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا بريد ألا أعلمك كلمات من أراد الله عزّ وجلّ به خيراً علمهن إياه ثم لم ينسهن إياه أبداً، قال: قلت بلى يا رسول الله صلّى الله عليك، قال: قل اللهم إني ضعيف فقوّ في رضاك ضعفي، وخذ إلى الخير بناصيتي، واجعل الإسلام منتهى رضاي، اللهم إني ضعيف فقوّني وإني ذليل فأعزني وإني فقير فأغنني برحمتك يا أرحم الراحمين.
وروينا عن أبي مالك الأشجعي قال: حدثني أبي قال كنا نغدو إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيجيء الرجل أو تجيء المرأة فيقول كيف أقول يا سول الله إذا أصبحت؟ قال: تقول اللهم صلّ على محمد وآله واغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني وأجبرني فقد جمعن لك خير دنياك وآخرتك.
وروينا عن أبي زرعة قال: كتب إليّ أبو هريرة فيما أكاتبه وشافهني به فيما ألقاه أن الشيطان لا يطيف بإنسان يقول حين يصبح وحين يمسي اللهم إني أعوذ باسمك وكلمتك التامة من شر السامة والهامة وأعوذ باسمك وكلمتك التامة من شر عذابك وشر عبادك وأعوذ باسمك وكلمتك التامة من شر الشيطان الرجيم، اللهم إني أسألك بأسمائك وكلمتك التامة أن تصلي على نبيك محمد وآله وأسألك من خير ما تعطي وما تسأل ومن خير ما تخفي وخير ما تبدي، اللهم إني أعوذ باسمك وكلمتك التامة من شر ما يجري به(1/20)
النهار إن ربّي الله الذي لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم وإن كان مساء قال ومن شر ما جاء به الليل يقول ذلك ثلاثاً.
وروينا عن عمر بن عبد العزيز عن محمد بن عبيد الله قال: أتى أبو الدرداء فقيل له احترقت دارك، فقال: ما كان الله عزّ وجلّ ليفعل، ثم أتاه آتٍ فقال: يا أبا الدرداء إن النار حيث دنت من دارك طفئت، فقال: قد علمت، فقيل له: ما ندري أي قوليك أعجب، قال: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول من قال هؤلاء الكلمات في ليل أو نهار لم يضره شيء وقد قلتهن، وهي اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت عليك توكلت وأنت ربّ العرش العظيم لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ما شاء الله عزّ وجلّ ربي كان وما لم يشأ لم يكن أعلم أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً، اللهم إني أعوذ بك من شرّ نفسي ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربّي على صراط مستقيم.
وقد روينا عن أبي الدرداء أنه قال: من قال في كل يوم سبع مرات فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم كفاه الله عزّ وجلّ ما يهمه من أمر آخرته صادقاً كان أو كاذباً، وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: ما أصاب أحداً همّ ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماضٍ فيّ حكمك عدل فيّ قضاؤك أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تصلي على نبيك وحبيبك محمد وآله وأن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله عزّ وجلّ همه، وحزنه وأبدله مكانه فرحاً، قال: قيل يا رسول الله ألا تتعلمها؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بل ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها، وروينا في الأخبار أن إبراهيم الخليل كان يقول إذا أصبح: اللهم هذا خلق جديد فافتحه عليّ بطاعتك واختمه لي بمغفرتك ورضوانك وارزقني فيه حسنة تقبلها مني وزكها وضعفها لي وما عملت فيه من سيئة فاغفرها لي إنك غفور رحيم ودود كريم، قال: ومن دعا بهذا الدعاء إذا أصبح فقد أدى شكر يومه وكذلك إذا أمسى، وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قال إذا أصبح وإذا أمسى ثلاث مرات رضيت بالله عزّ وجلّ ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبيّاً كان حقاً على الله أن يرضيه يوم القيامة، وروينا عن معمر عن جعفر بن برقان أن عيسى بن مريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: اللهم إني أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره ولا أملك نفع ما أرجو وأصبح الأمر بيدك لا بيد غيرك وأصبحت مرتهناً بعملي فلا فقير أفقر مني، اللهم لا تشمت بي عدوي ولا تُسِيء بي صديقي ولا تجعل مصيبتي في ديني ولا تجعل الدنيا أكبر همي ولا مبلغ علمي ولا غاية أملي ولا تسلط عليّ من لا يرحمني.
وروينا عن عطاء عن ابن عباس قال: يلتقي الخضر وإلياس في كل موسم فيفترقان(1/21)
عن هذه الكلمات: بسم الله ما شاء الله لا حول ولا قوّة إلا بالله ما شاء الله كل نعمة من الله ما شاء الله الخير كله بيد الله عزّ وجلّ ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله، فمن قالها إذا أصبح ثلاث مرات أمن الحرق والغرق والسرق، ويقال: إن هذا من استغفار الخضر عليه السلام: اللهم إني أستغفرك من كلّ ذنب تبت إليك منه ثم عدت فيه اللهم إني أستغفرك من كل عقبد عقدته لك ثم لم أفِ لك به اللهم إني أستغفرك من كل نعمة أنعمت بها علي فقويت بها على معصيتك اللهم إني أستغفرك من كل عمل عملته لوجهك خالطه ما ليس لك.
وحكى سعيد بن أبي الروحاء الجمال وكان من أهل الخير أنه توحد ذات ليلة في أرض قفرة فاستوحش وفزع فظهر له شخص قال: فاشتد جزعي منه حتى سمعته يقرأ القرآن ثم قال: ألا أدلك على شيء إذا أنت قلته أنست إذا استوحشت واهتديت إذا ضللت ونمت إذا أرقت، قلت: علمني رحمك الله قال، قل: " بسم الله ذي الشأن عظيم البرهان شديد السلطان كل يوم هو في شأن لا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم ".
وحدثونا عن يعقوب بن عبد الرحمن الدعاء قال: سمعت محمد بن حسان يقول: قال لي معروف الكرخي رحمه الله ألا أعلمك عشر كلمات خمسة للدنيا وخمسة للآخرة من دعا الله عزّ وجلّ بهن وجد الله سبحانه وتعالى عندهن قلت: اكتبها، قال: لا ولكن أرددها عليك كما رددها عليّ بكر بن حبيش: حسبي الله تبارك وتعالى لديني، حسبي الله عزّ وجلّ لدنياي، حسبي الله الكريم لما أهمني، حسبي الله الحكيم القوي لمن بغى علّي، حسبي الله الشديد لمن كادني بسوء، حسبي الله الرحيم عند الموت، حسبي الله الرؤوف عند المسألة في القبر، حسبي الله الكريم عند الحساب، حسبي الله اللطيف عند الميزان، حسبي الله القدير عند الصراط، حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، وادع بهؤلاء الكلمات: اللهم يا هادي المضلين وراحم المذنبين ومقيل عثرات العاثرين ارحم عبدك ذا الخطر العظيم المسلمين كلهم أجمعين واجعلنا من الأحياء المرزوقين الذي أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا ربّ العالمين، يقال إن عتبة الغلام رئي في المنام فقال: دخلت الجنة بهذه الدعوات، وليقل بعد ذلك هذا الدعاء: اللهم عالم الخفيات رفيع الدرجات ذا العرش تلقي الروح من أمرك على من تشاء من عبادك غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذا الطول لا إله إلا أنت إليك المصير، رُئي إبراهيم الصائغ في النوم فقيل له: بأي شيء نجوت؟ فقال: بهذه الدعوات وليقل هذا الدعاء: يا من لا يشغله سمع عن سمع ولا تشتبه عليه الأصوات يا من لا تغلطه المسائل ولا تختلف عليه اللغات يا من لا يتبرم بإلحاح الملحين أذقني برد عفوك وحلاوة رحمتك، يقال إن الخضر عليه السلام علم علي بن أبي طالب عليه السلام هذا الدعاء وليسبح تسبيحات أبي المعتمر وهو سليمان التيمي فقد روى من فضلها(1/22)
أن يونس بن عبيد رأى رجلاً كان قد قتل شهيداً ببلاد الروم فقال له: ما أفضل ما رأيت ثم من الأعمال قال: رأيت تسبيحات أبي المعتمر من الله سبحانه وتعالى بمكان.
وقال المعتمر بن سليمان: رأيت عبد الملك بن خالد بعد موته فقلت: ما صنعت؟ قال: خيراً، قلت: نرجو للخاطئ شيئاً، قال: يلتمس تسبيحات أبي المعتمر فإنها نعم الشيء، وهذه هي التسبيحات: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلا بالله عدد ما خلق الله وعدد ما هو خالق وزنة ما خلق وزنة ما هو خالق وملء ما خلق وملء ما هو خالق وملء سمواته وملء أرضه ومثل ذلك وأضعاف ذلك وعدد خلقه وزنة عرشه ومنتهى رحمته ومداد كلماته ومبلغ علمه ورضاه وحتى يرضى وإذا رضي وعدد ما ذكره به خلقه في جميع ما مضى وعدد ما هم ذاكروه فيما بقي في كل سنة وشهر وجمعة ويوم وليلة وساعة من الساعات ونسمة وشم ونفس ولمحة وطرفة من الأبد إلى الأبد أبد الدنيا وأبد الآخرة وأكثر من ذلك لا ينقطع أولاه ولا ينفد أخراه وليدعُ بهذا الدعاء فإنه دعاء التوبة مرجوّ فيه الإجابة.
روينا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أراد الله عزّ وجلّ أن يتوب على آدم طاف سبعاً بالبيت وهو يومئذ ليس بمبنى ربوة حمراء ثم قام فصلى ركعتين ثم قال: اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي، اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنّه لا يصيبني إلا ما كتبت لي والرضا بما قسمت لي يا ذا الجلال والإكرام فأوحى الله عزّ وجلّ إليه إني قد غفرت لك ولن يأتيني أحد من ذريتك فيدعوني بمثل الذي دعوتني به إلا غفرت له وكشفت غمومه وهمومه ونزعت الفقر من بين عينيه وأتجرت له من وراء كل تاجر وجاءته الدنيا وهي راغمة وإن كان لا يريدها وليقل هذه الكلمات المنثورة فإنها ممّا روى في اسم الله سبحانه وتعالى الأعظم بأخبار في ذلك مأثورة: اللهم إني أسألك بأن الحمد لك لا إله إلا أنت الحنان المنان بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد يا حي يا قيوم ياحي حين لا حي في ديمومية ملكه وبقائه يا حي محيي الموتى يا حي مميت الأحياء وارث أهل الأرض والسماء اللهم إني أسألك باسمك بسم الله الرحمن الرحيم وباسمك الذي لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم اللهم إني أسألك باسمك الأعظم الأجل الأعز الأكرم الذي إذا دعيت به أجبت، وإذا سئلت به أعطيت يا نور النور يا مدبر الأمور يا عالم ما في الصدور يا سميع يا قريب يا مجيب الدعاء يا لطيفاً لما يشاء يا رؤوف يا رحيم يا كبير يا عظيم يا الله يارحمن يا ذا الجلال والإكرام الله لا إله إلا هو الحي القيوم وعنت الوجوه للحي القيوم يا إلهي وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت،(1/23)
اللهم إني أسألك باسمك الله الله الله الله الذي لا إله إلا هو ربّ العرش العظيم فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو ربّ العرش الكريم أنت الأول الآخر الظاهر الباطن وسعت كل شيء رحمة وعلماً كهيعص حمعسق الر حم ن يا واحد، يا قهار، يا عزيز، يا جبار، يا أحد، يا صمد، يا ودود، يا غفور، هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، هو الرحمن الرحيم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين اللهم إني أدعوك باسمك المكنون المخزون المنزل السلام، الطهر الطاهر، القدس المقدس، يا دهر، يا ديهور، يا ديهار، يا أبد يا أزل، يا من لم يزل، ولا يزول، هو يا هو، لا إله إلا هو، يا من لا هو إلا هو، يا من لا يعلم ما هو إلا هو، يا كان يا كينان يا روح يا كائن قبل كل كون يا كائن بعد كل كون يا مكنون لكل كون اهيا شر اهيا أدناي أصباؤت يا مجلي عظائم الأمور فإن تولّوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو ربّ العرش العظيم ليس كمثله شيء وهو السميع البصير اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وليقل هذه الأدعية المأثورة اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك وأسألك اللهم يا ربّ قلباً سليماً ولساناً صادقاً وعملاً متقبلاً وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شرّ ما تعلم وأستغفرك لما تعلم فإنك تعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد واغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أعلنت وما أسررت فإنك أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير وعلى كل غيب شهيد اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد ونعيماً لا ينفد وقرة عين الأبد ومرافقة نبيّك محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أعلى جنة الخلد اللهم إني أسألك الطيبات وفعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين أسألك اللهم يا ربّ الصلاة على محمد وعلى آله أجمعين وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقرب إلى حبك وأن تتوب عليّ وتغفر لي وترحمني، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون يا أرحم الراحمين اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي أسألك اللهم يا ربّ خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة العدل في الرضا والغضب والقصد في الغنى والفقر ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك وأعوذ بك من ضراء مضرة
وفتنة مضلة اللهم يا ربّ زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد واقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تدخلنا به جنتك ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وارزقنا حزن خوف الوعيد وسرور رجاء الموعود حتى نجد لذة ما نطلب وغم ما منه نهرب اللهم صلّ على محمد وعلى آل(1/24)
محمد سيد الأولين والآخرين وصلّ على محمد وعلى آله أجمعين وألبس وجوهنا منك الحياء واملأ قلوبنا بك فرحاً، وأسكن في نفوسنا من عظمتك، وذلل جوارحنا لخدمتك واجعلك أحب إلينا ممّا سواك واجعلنا أخشى لك ممّا سواك اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وأعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وأسألك تمام النعمة بتمام التوبة ودوام العافية بدوام العصمة وأداء الشكر بحسن العبادة اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وأعوذ بك من فتنة الغنى وفتنة الفقر وأعوذ بك من ضيق الصدر وشتات الأمر وعذاب القبر وأعوذ بك من غنى مطغي ومن فقر منسي ومن هوى مردي وقرين مغوي اللهم إني أسألك الصلاة على محمد وعلى آله وأسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى اللهم صلّ على محمد نبيّك وصفيك ولا تقدمني لعذاب ولا تؤخرني لسيء الفتن أعوذ بك يا الله من الفتن ما ظهر منها وما بطن وأعوذ بك من المحن ما خفي منها وما علن. وفتنة مضلة اللهم يا ربّ زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد واقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تدخلنا به جنتك ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وارزقنا حزن خوف الوعيد وسرور رجاء الموعود حتى نجد لذة ما نطلب وغم ما منه نهرب اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد سيد الأولين والآخرين وصلّ على محمد وعلى آله أجمعين وألبس وجوهنا منك الحياء واملأ قلوبنا بك فرحاً، وأسكن في نفوسنا من عظمتك، وذلل جوارحنا لخدمتك واجعلك أحب إلينا ممّا سواك واجعلنا أخشى لك ممّا سواك اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وأعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وأسألك تمام النعمة بتمام التوبة ودوام العافية بدوام العصمة وأداء الشكر بحسن العبادة اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وأعوذ بك من فتنة الغنى وفتنة الفقر وأعوذ بك من ضيق الصدر وشتات الأمر وعذاب القبر وأعوذ بك من غنى مطغي ومن فقر منسي ومن هوى مردي وقرين مغوي اللهم إني أسألك الصلاة على محمد وعلى آله وأسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى اللهم صلّ على محمد نبيّك وصفيك ولا تقدمني لعذاب ولا تؤخرني لسيء الفتن أعوذ بك يا الله من الفتن ما ظهر منها وما بطن وأعوذ بك من المحن ما خفي منها وما علن.
اللهم إني أسألك الصلاة على نبيّك محمد وعلى آله وأسألك خير هذا اليوم وخير ما فيه وأعوذ بك من شرّه وشرّ ما فيه أعوذ بك اللهم يا ربّ من شرّ طوارق الليل والنهار ومن بغتات الأمور وفجأة الأقدار ومن شرّ كل طارق يطرق إلا طارقاً يطرق منك بخير يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما اللهم صلّ على محمد وعلى آله واجعل يومنا هذا أوّله صلاحاً وأوسطه فلاحاً وآخره نجاحاً اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد واجعل أوّله رحمة وأوسطه نعمة وآخرة تكرمة اللهم صلّ على محمد نبيّك وعلى آله وأعوذ بك أن أزلّ أو أُزل أو أضل أو أُضل أو أظلم أو أُظلم أو أجهل أو يجهل عليّ عزّ جارك وجلّ ثناؤك وتبارك أسماؤك ولا إله غيرك اللهم صلّ على محمد وعلى آله وأعوذ بك من عذاب جهنم وعذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح والدجال وإذا أردت بقوم سوءًا أو فتنة فاقبضني إليك غير مبدل ولا مفتون اللهم صلّ على محمد وعلى آله اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي وأسألك خير الحياة وبركة الحياة وأعوذ بك من شرّ الوفاة، وأسألك خير ما بينهما وخير ما بعد ذلك أحيني حياة السعداء حياة من تحب بقاءه وتوفني وفاة الشهداء وفاة من تحب لقاءه يا خير الرازقين، ويا أحسن التوّابين ويا أحكم الحاكمين ويا أرحم الراحمين ويا ربّ العالمين، أعوذ بك من شر ما يلج في الأرض وما يخرج منها ومن شرّ ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، الحمد لله الذي تواضع كل شيء لعظمته وذلّ كل شيء لعزته وخضع كل شيء لملكه واستسلم كل شيء لقدرته، والحمد لله الذي سكن كل شيء لهيبته والحمد لله الذي أظهر كل شيء بحكمته وتصاغر كل شيء لكبريائه اللهم صلّ على نبيّك محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته(1/25)
في العالمين إنك حميد مجيد كريم، اللهم صلّ على محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي الرسول الأمين وأعطه المقام المحمود يوم الدين، اللهم إني أعوذ بك من حدة الحرص وشدة الطمع وسورة الغضب وسنة الغفلة وتعاطي الذلة، أعوذ بك من مباهاة المكثرين والإزراء على المقلين وأن أنصر ظالماً أو أخذل مظلوماً وأن أقول في العلم بغير العلم وأعمل في الدين بغير يقين، اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم، اللهم إني أعوذ بك من اتباع خطوات الشيطان وشركه في المال والأهل وقبول أمره في السوء والفحشاء، اللهم إني أسألك الصلاة على نبيّك محمد، وعلى آله وأسألك حسن الاختيار وصحة الاعتبار وصدق الافتقار، اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، وافتح بخير واختم بخير وأنت الفتاح العليم، اللهم صلّ على نبيك محمد وعلى آل محمد، وارحم ما خلقت واغفر ما قدرت وطيّب مارزقت وتمّم ما أنعمت وتقبّل ما استعملت واحفظ ما استحفظت ولا تهتك ما سترت فإنّه لا إله لنا إلا أنت، أستغفرك من كل لذة بغير ذكرك ومن كل راحة بغير خدمتك ومن كل سرور بغير قربك ومن كل فرح بغير مجالستك ومن كل شغل بغير معاملتك، اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، واجعلنا من أوليائك المتقين وحزبك المفلحين وعبادك الصالحين، اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، واستعملنا بمرضاتك عنّا ووفقنا لمحابك منّا وصرفنا بحسن اختيارك لنا، اللهم صلّ على نبيك محمد وعلى آله، ونسألك جوامع الخير وفواتحه وخواتمه ونعوذ بك من جوامع الشرّ وفواتحه وخواتمه، اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، واحفظنا فيما أمرتنا واحفظنا عمّا نهيتنا واحفظ لنا ما أعطيتنا يا حافظ الحافظين ويا ذاكر الذاكرين ويا شاكر الشاكرين، بحفظك حفظوا وبذكرك ذكروا وبفضلك شكروا، يا غوث يا مغيث يا مستغاث يا غياث المستغيثين لا تكلني إلى نفسي يا ربّ طرفةَ عين فأهلك ولا تكلني إلى الخلق فأضيع اكلأني كلاءة الوليد ولا تخلّ عني وتولني بما تتولّى به عبادك الصالحين، اللهم صلّ على نبيك محمد وعلى آله وبقدرتك عليّ تب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم، وبحلمك عني اعفُ عني إنك أنت الغفار وبعلمك بي ارفق بي إنك أنت الرحمن الرحيم وبملكك لي ملكني نفسي ولا تسلطها علي إنك أنت الملك الجبار سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت، عملت سوءًا وظلمت نفسي فاغفر لي ذنبي إنك أنت ربّي لا إله إلا أنت، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، وألهمني رشدي وقني شرّ نفسي، اللهم صلّ على
محمد، وعلى آل محمد وارزقني حلالاً لا تعاقبني عليه وقنعني بما رزقتني واستعملني به صالحاً تقبله مني، اللهم إني أسألك أن تصلّي على نبيك محمد وعلى آل محمد، وأسألك العفو والعافية وحسن اليقين والمعافاة في الدنيا والآخرة،(1/26)
اللهم صلّ على نبيك محمد وعلى آل محمد وأعوذ بعفوك من عقابك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك أبوء بنعمتك إليك وأبوء بذنوبي إليك، هذه يداي بما كسبت أنا عبدك ابن عبدك ناصيتي بيدك، جارٍ فيّ حكمك نافذ فيّ قضاؤك، عدل في مشيئتك إن تعذب فأهل ذلك أنا، وإن ترحم فأهل ذلك أنت فافعل. حمد، وعلى آل محمد وارزقني حلالاً لا تعاقبني عليه وقنعني بما رزقتني واستعملني به صالحاً تقبله مني، اللهم إني أسألك أن تصلّي على نبيك محمد وعلى آل محمد، وأسألك العفو والعافية وحسن اليقين والمعافاة في الدنيا والآخرة، اللهم صلّ على نبيك محمد وعلى آل محمد وأعوذ بعفوك من عقابك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك أبوء بنعمتك إليك وأبوء بذنوبي إليك، هذه يداي بما كسبت أنا عبدك ابن عبدك ناصيتي بيدك، جارٍ فيّ حكمك نافذ فيّ قضاؤك، عدل في مشيئتك إن تعذب فأهل ذلك أنا، وإن ترحم فأهل ذلك أنت فافعل.
اللهم يا مولاي يا الله ياربّ، افعل بي ما أنت له أهل، ولا تفعل اللهم يا ربّ يا الله بي ما أنا له أهل، فإنك أهل التقوى وأهل المغفرة، يا من لا تضره الذنوب ولا تنقصه المغفرة هب لي اللهم يا ربّ ما لا يضرك وأعطني ما لا ينقصك، أفرغ اللهم علينا يا ربّ صبراً وتوفَّنا مسلمين وألحقنا بالصالحين أنت وليّنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة إنّا هدنا إليك، ربّنا عليك توكّلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربّنا إنك أنت العزيز الحكيم، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، ربّنا آتنا من لدنك رحمة وهيّئ لنا من أمرنا رشداً، ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم إني أسألك أن تصلي على نبيك محمد وعلى آل محمد، وأسألك الصيانة والعون على الطاعة والعصمة من المعصية وإفراغ الصبر في الخدمة وإيزاع الشكر على النعمة، وأسألك يا مولاي يا الله يا ربّ الصلاة على نبيك محمد وعلى آل محمد وحسن الخاتمة اللهم إني أسألك أن تصليّ على نبيك محمد وعلى آل محمد، وأسألك اليقين وحسن المعرفة بك وأسألك المحبة وحسن التوكّل عليك وأسألك الرضا وحسن المنقلب إليك، ربّنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أنْ آمنوا بربّكم فآمنا ربّنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنا سيّئاتنا وتوفنا مع الأبرار، ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تُخزِنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد، ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربّنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا إلى آخرها.
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وطهّر قلوبنا في قلوب الأبرار، وزكِّ أعمالنا في عمل الأخيار وصلّ على أرواحنا في أرواح الشهداء يا أكرم الأكرمين ويا أجود الأجودين ويا أرحم الراحمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وعلماً وزهداً وعبادة وأمناً ورزقاً من حلال وفي الآخرة حسنة رضوانك والجنة، وقنا برحمتك عذاب النار وعذاب القبر، وقنا سخطك وغضبك وعذابك وأهواله عاجلاً وآجلاً في الدين والدنيا والآخرة برحمتك يا أرحم الراحمين، وإن تمجد الله تعالى غدوة وعشية بما مجد به نفسه عزّ وجلّ، فقد روي من ثواب ذلك ما هو غاية الطالبين، روينا عن علي عليه السلام عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن الله تبارك وتعالى يمجد نفسه في كل يوم، يقول سبحانه وتعالى: إني أنا الله رب العالمين، إني أنا الله لا إله إلا أنا الحي(1/27)
القيوم، إني أنا الله لا إله إلا أنا العلي العظيم، إني أنا الله لا إله إلا أنا العفو الغفور، إني أنا الله لا إله إلا أنا مبدئ كل شيء وإليّ يعود، إني أنا الله لا إله إلا أنا لم ألد ولم أولد، إني أنا الله لا إله إلا أنا العزيز الحكيم، إني أنا الله لا إله إلا أنا مالك يوم الدين، إني أنا الله لا إله إلا أنا الرحمن الرحيم، إني أنا الله لا إله إلا أنا خالق الخير والشر، إني أنا الله لا إله إلا أنا خالق الجنة والنار، إني أنا الله الذي لا إله إلا أنا الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يتّخذ صاحبة ولا ولداً، إني أنا الله لا إله إلا أنا الفرد الوتر، إني أنا الله لا إله إلا أنا عالم الغيب والشهادة، إني أنا الله لا إله إلا أنا الملك القدوس، إني أنا الله لا إله إلا أنا السلام المؤمن المهيمن، إني أنا الله لا إله إلاّ أنا العزيز الجبار المتكبر، إني أنا الله لا إله إلا أنا الخالق البارئ، إني أنا الله لا إله إلا أنا الأحد المصور، إني أنا الله لا إله إلا أنا الكبير المتعال، إني أنا الله لا إله إلا أنا المقتدر القهار، إني أنا الله لا إله إلا أنا الحكيم الكبير، إني أنا الله لا إله إلا أنا القادر الرزاق، إني أنا الله لا إله إلا أنا أهل الثناء والمجد، إني أنا الله لا إله إلا أنا أعلم السر وأخفى، إني أنا الله لا إله إلا أنا فوق الخلق والخليقة، إني أنا الله لا إله إلا أنا الجبار المتكبر، فيختم ويقول فسبحان الله ربّ العرش العظيم، فمن دعا بهذه الكلمات فليقل أنت الله كذا وأنت الله كذا، ومن دعا بهذه الأسماء كتب من الشاكرين الساجدين المخبتين الذين يجاورون محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإبراهيم وموسى وعيسى والنبيين صلوات الله عليهم أجمعين في دار الجلال وله ثواب العابدين في السموات والأرضين، وليقل اللهم صلّ على محمد وآل محمد صلاة تكون لك رضاء ولحقّه أداء، وأعطه الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته وأجزه عنا ما هو أهله وأجزه أفضل ما جازيت نبياً عن أمته وأعطه الشرف والشفاعة يوم الدين، اللهم صلّ على محمد نبي الرحمة وسيد الأمة وعلى جميع إخوانه النبيين وصلّ على أبينا آدم وأمنا حواء ومن ولدا بينهما من الصالحين والمسلمين، وصلّ على ملائكتك أجمعين من أهل السموات والأرضين، وصلّ علينا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين، واغفر لي ولوالدي وما توالدا، وارحمهما كما ربياني صغيراً واغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، ربّ اغفر وارحم وتجاوز عمّا تعلم وأنت الأعز الأكرم وأنت خير الراحمين وخير الغافرين، وإنا لله وإنّا إليه راجعون ولا حوْل ولا قوّة إلا بالله العليّ العَظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وحسبنا الله وحده لا شريك له، فهذا جامع ما جاء من فضائل ما يقال من الدعاء عن المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن الصحابة وعن أئمة الهدى، وحذفنا ذكر فضائل ذلك وما جاء فيه من الروايات إيجازاً، يقول هذا الدعاء بعد صلاة الغداة وقبل غروب الشمس في كل يوم، فإن قاله بعد صلاة مكتوبة فقد استكمل الفضل بفضل الله عزّ وجلّ ورحمته.(1/28)
الفصل السادس
في ذكر عمل المريد بعد صلاة الغداة
وهو أنه يأخذ في تلاوة القرآن وفي أنواع الذكر من التسبيح والحمد والثناء وفي التفكر في عظمة الله سبحانه وتعالى وآلائه وفي تواتر إحسانه ونعمائه، من حيث يحتسب العبد ومن حيث لا يحتسب وفيما يعلم العبد وفيما لا يعلم، ويتفكّر في تقصيره عن الشكر في ظواهر النعم وبواطنها وعجزه عن القيام بما أمره به من حسن الطاعة ودوام الشكر على النعمة، أو يتفكّر فيما عليه من الأوامر والنوادب فيما يستقبل، أو يتفكّر في كثيف ستر الله تبارك وتعالى عليه ولطيف صنعه به وخفيّ لطفه له وفيما اقترف وفرط فيه من الزلل وفي فوت الأوقات الخالية من صالح العمل، أو يتفكّر في حكم الله تعالى في الملك وقدرته في الملكوت وآياته وآلائه فيهما، أو يتفكر في عقوبات الله عزّ وجلّ وبلائه الظاهرة والباطنة فيهما ومن ذلك قوله عزّ وجلّ: (وَذَكِّرْهُمْ بأَيَّامِ اللهِ) إبراهيم: 5، قيل بنعمه وقيل بعقوباته ومنه قوله عزّ وجلّ: (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الأعراف: 69، ومثله (فَبأيّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) الرحمن: 25 أي بأي نعمة تكذبان يا معشر الجن والإنس إن استطعتم وهما الثقلان، ففي أي نوع من هذه المعاني أخذ فيه فهو ذكر، والذكر عبادة، وهو يخرج إلى الفكر والفكر يدخل في الخوف، والذكر إذا قوي صار مشاهدة، كما قال عز وجلّ: (يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً) آل عمران: 191، ثم قالَ: (وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّمَواتِ والأَرْضِ) آل عمران: 191 ثم قال: (سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) آل عمران: 191 ولا يكون مشاهدة إلا عن يقين واليقين روح الإيمان ومزيده وفن المؤمن، وقال بعض العلماء في تفسير الخبر تفكُّر ساعة خير من عبادة سنة، وهو التفكر الذي ينقل أي من المكاره إلى المحاب ومن الرغبة والحرص إلى القناعة والزهد، وقيل هو التفكر الذي يظهر مشاهدة وتقوى ويحدث ذكراً وهدى، كقوله تعالى: (وَاذْكُرُوا مَا فيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة: 63، ولقوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الزمر: 28، أو يحدث لهم ذكراً ومثله: (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) البقرة: 219 في الدنيا والآخرة أي يفعلون لما يبقى ويرغبون فيما يدوم ويزهدون فيما يفنى وقد جعل الله عزّ وجلّ البيان(1/29)
يعلمنا اقتضاء الشكر عليه فقال: (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) المائدة: 89 وكما قال تعالى: (وَاذْكُرُوا مَا فيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة: 63 وقد وصف أعداءه بعد ذلك فقال: (الَّذينَ كَانَتْ أعْيُنُهُمْ في غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِى) الكهف: 101، وقالت أم الدرداء كانت أكثر عبادة أبي الدرداء التفكر، وقد كان يقول: ما يسرني أن أريح في كل يوم ثلاثمائة دينار أنفقها في سبيل اللّّه عزّ وجلّ، قيل: ولم ذلك؟ قال: يشغلني ذلك عن التفكّر، أو يعتقد حسن النيات وينوي جميل الطويات فيما بينه وبين الخالق تعالى وفيما بينه وبين الخلق أو يستغفر الله تعالى، ويجدد التوبة لما مضى من عمره ولما يأتنف من مستقبله، أو يخلص الدعاء بتمسكن وتضرع وتملّق وتخشع ووجل وإخبات إلى أن يعصمه من جميع المنهى، وأن يوفقه لصالح الأعمال ويتفضل عليه برغائب الأفضال وهو في ذلك فارغ القلب مجرد الهم موقن بالإجابة راض بالقسم، أو يتكلم بمعروف وخير ويدعو به إلى الله تعالى وينفع به أخاه، ويعلم من هو دونه في العلم، فهذه كانت أذكار المتقدمين وأفكار السالفين، وقد كان الذكر والفكر من أفضل عبادة العابدين وهو طريق مختصر إلى ربِّ العالمين ففي أي هذه المعاني أخذ فهو ذاكر لله عزّ وجلّ، فلا يزال كذلك وهو في جميع ذلك مستقبل القبلة في مصلاه، ولا يُستحب له أن يتكلم أو يعمل غير ما ذكرناه من الأذكار، وقد كانوا يكرهون الكلام بغير معروف وتقوى من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ومنهم من شدّد في ذم الكلام من الفجر إلى صلاة الغداة بغير ذكر وبر، وهذه سنة قد خملت فمن عمل بها فقد ذكرها.(1/30)
الفصل السابع
في ذكر أوراد النهار
وهي سبعة أوراد، وهذا هو الورد الأول من النهار، وفي النهار سبعة أوراد أولها من طلوع الفجر، الثاني إلى طلوع الشمس وهو كما ذكرناه من الأذكار وهو الذي أقسم الله عزّ وجلّ به فقال: (وَالصُّبْحِ إذَا تَنَفَّس) التكوير: 18، فتنفسه من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس وهو الظل الذي أمده الله تعالى لعباده ثم قبضه إليه ببسطه الشمس عليه وأظهر من آياته وجعل الشمس كشفاً له ودليلاً عليه فقال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) الفرقان: 45، يعني بسطه ولو شاء لجعله ساكناً يعني مقيماً على حاله لا يتجوّل، (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَليلاً) الفرقان: 45 يقول كشفناه بها ففيه أن الدليل هو الذي يكشف المشكل ويرفع المشتبه (ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إلَيْنَا قَبْضاً يَسيراً) الفرقان: 46 يعني أن الظل من تحت الشمس قبض قبضاً يسيراً أي خفيفاً لا يفطن له ولا يرى فاندرج الظل في الشمس بقدرته اندراج الظلمة في النور إذا دخل عليها بحكمته وهو الإصباح والفلق الذي يُمدح الله عزّ وجلّ بخلقه وأمرنا بالتنزيه له عنده والاستعاذة من شرّ ما خلق فيه فقال عزّ وجلّ: (فَالِقُ الإِصْبَاحِ) الأنعام: 96 وقال: (فَسُبْحَانَ اللهِ حينَ تُمْسُونَ وَحينَ تُصْبِحُونَ) الروم: 17، أي فسبحوه بالصلاة عندهما وقال: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) الفلق: 1 - 2 يعني فلق الصبح فإذا أمن العبد الفتنة والكلام فيما لا يعنيه والاستماع إلى شبهة من القول وأمن النظر إلى ما يكره أو يشغله عن الذكر أو يذكره الدنيا أمن من دخول الآفة عليه من التزين والتصنع للناس ورُزق الشغل بمولاه والإخلاص له بالإعراض عمّن سواه فقال ما ذكرناه من الذكر في مصلاه في مسجد الجماعة فهو أفضل، فلذلك أمر الله برفع المساجد في قوله عزّ وجلّ: (في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فيهَا اسْمُهُ) النور: 36، وإن لم يأمن الفتنة وخشي دخول الآفة عليه من لقاء من يكره، ومن يلجئه إلى تقية ومداراة أو خاف الكلام فيما لا يعنيه أو الاستماع إلى ما لا يندب إليه انصرف إذا صلّى الغداة إلى منزله أو إلى موضع خلوة بعد أن يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، عشر مرات في مصلاه، وهو ثانٍ رجله قبل أن يقوم، ويقرأ بعدها (قُلْ هُوَ اللهُ أحَدٌ) الإخلاص: 1(1/31)
عشراً قبل أن يتكلم، فقد اشترط ترك الكلام في هذين الحديثين اللذين وردا فيهما، ثم أتى ببقية ورده في بيته أو في خلوته، وهو في ذلك مستقبل القبلة وهذا حينئذ أفضل له وأجمع لقلبه، ولا يقدم على التسبيح لله عزّ وجلّ والذكر له بعد صلاة الغداة، وقبل طلوع الشمس إلا أحد معنيين معاونة على برّ وتقوى فرض عليه أو ندب إليه ما يختص به لنفسه أو يعود نفعه على غيره، ويكون ذلك أيضاً ممّا يخاف فوته بفوت وقته، والمعنى الآخر يكون إلى تعلم علم أو استماعه ممّا يقرّبه إلى الله تعالى في دينه وآخرته ويزهده في الدنيا، والهويّ من العلماء بالله عزّ وجلّ الموثوق بعلمهم وهم علماء الآخرة أولو اليقين والهدى، الزاهدون في فضول الدنيا، ويكون في طريقه ذاكراً لله عزّ وجلّ أو متفكراً في أفكار العقلاء عن الله عزّ وجلّ فإن اتفق له هذان فالغدوّ إليهما أفضل من جلوسه في مصلاه لأنهما ذكر الله عزّ وجلّ وعمل له، وطريق إليه على وصف مخصوص مندوب إليه، قال الله عزّ وجلّ: (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغَداةَ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) الأنعام: 52، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من غدا من بيته في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع.
وقال ابن مسعود: اغدُ عالماً أو متعلماً أو مستمعاً ولا تكن الرابع فتهلك والغدوّ والغداة تكون قبل طلوع الشمس، وفي الخبر من خرج من بيته في طلب العلم فهو في سبيل الله عزّ وجلّ حتى يرجع، ومن خرج من منزله يلتمس علماً وضعت له الملائكة أجنحتها رضا بما صنع، واستغفر له دواب الأرض وملائكة السماء وطير الهواء وحيتان الماء، وفي حديث أبي ذر الغفاري رحمه الله حضور مجلس علم أفضل من صلاة ألف ركعة وأفضل من شهود ألف جنازة ومن عيادة ألف مريض، قيل: ومن قراءة القرآن؟ فقال: وهل تنفع قراءة القرآن إلا بعلم، فإن لم يتفق له أحد هذه المعنيين فقعوده في مصلاه أو في مسجد جماعته أو في بيته أو في خلوته ذاكراً الله عزّ وجلّ بأنواع الأذكار أو متفكراً فيما فتح له بمشاهدة هذه الأفكار في مثل هذه الساعة أفضل له ممّا سواها، روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأن أقعد في مسجد أذكر الله عزّ وجلّ فيه من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس أحب إليّ من أن أعتق أربع رقاب، وروينا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا صلّى الغداة قعد في مصلاه حتى تطلع الشمس، وفي بعضها، ويصلي ركعتين، وقد ندب إلى ذلك في غير حديث، وجاء من فضل الجلوس بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس وفي صلاة ركعتين بعد ذلك ما يجل وصفه، اختصرناه.
روينا عن الحسن أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يذكر من رحمة ربه أنه قال يا ابن آدم اذكرني من بعد صلاة الفجر ساعة وبعد صلاة العصر ساعة أكفك ما بينهما، فإذا ارتفعت الشمس وابيضت صلّى الضحى ثماني ركعات وهذا الوقت هو الذي ذكره الله عزّ وجلّ في قوله (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِّي وَالإِشْرَاقِ) ص: 18 ثم ينظر، فإن علم مريضاً عاده، وإن حضرت جنازة شيعها، وإن كانت معونة على برّ وتقوى سعى فيها، وإن كانت حاجة لأخ من إخوانه(1/32)
قضاها، وإن كانت فرضاً يلزمه القيام به سارع إليه، وإن لاح له فضل ندب إليه انتهزه قبل فوته، فهذا أفضل شيء يعمله بعد الأذكار والأفكار من بعد طلوع الشمس.
فإذا فرغ من ذلك ولم يتفق له ما ذكرناه من القربات أخذ في الصلاة أو تلاوة القرآن أو صنوف الأذكار ممّا أمر به أو ندب إليه أو المحاسبة لنفسه فيما سلف أو المطالبة لها والاستخراج منها فيما يأتنف أو المراقبة لربه في كل حال إلى أن تنبسط الشمس وترمض الفصال ويرتفع النهار، هذا هو الورد الثاني من النهار وهو الضحى الأعلى الذي أقسم الله تعالى به فقال: (وَالضُّحَى) الضحى: 1، أي إذا أضحت الأقدام بحرّ الشمس، وإذا كان العبد على ذلك فقد اتبع ما أنزل إليه ربّه عزّ وجلّ، وقد سمع قوله عزّ وجلّ: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) الأعراف: 3، لأنه قال: (إنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الّذي حَرَّمَها) النمل: 91، ثم قال: (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) النمل: 92، كما قال تعالى: (أُتْلُ مَا أوْحِيَ إلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إن الصّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ) العنكبوت: 45 وصلاة الضحى في هذا الوقت أفضل وهو حقيقة وقتها وجود اسمها، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الضحى إذا رمضت الفصال، وخرج على أصحابه عليه الصلاة والسلام يوماً وهم يصلون عند الإشراق فنادى بأعلى صوته ألا إنَّ صلاة الأوّابين إذا رمضت الفصال، وقوله الأوّابين يعني التوابين إلى الله عزّ وجلّ في كل وقت، ثم ليأخذ العبد بعد ذلك فيما ندب إليه وأبيح له من التصرف في معاش إن كان من تجارة بصدق أو صناعة بنصح إن أحوج إلى ذلك وليكتف إن كفى، وأدنى أحواله الصمت والنوم ففيهما سلامة من الآثام ومخالطة الأنام فقد جاء في العلم يأتي على الناس زمان يكون أفضل علمهم الصمت وأفضل أعمالهم النوم، ومن الناس من يكون أحسن أحواله النوم وليت العبد يكون في اليقظة كالنوم إذ في نومه سلامة والسلامة متعذرة في يقظته وإنما الفضائل للأفاضل الذين زادوا على السلامة والعدل بالإحسان والفضل، هذا لدخول المشكلات في الكلام ووجود الآفات في الأحوال وخروج الإخلاص من الأعمال.
وكان سفيان الثوري يقول: كان يعجبهم إذا تفرغوا أن يناموا طلباً للسلامة، فمن الناس من يكون أحسن أحواله النوم وليت العبد يكون يقظته كالنوم إذ في نومه السلامة وأفضل أعماله في هذا الوقت السلامة، وإنما الفضائل لأهل الأفضال الذين زادوا على السلامة والعدل بالإحسان، والفضل، فإن نام في هذا الوقت فهو حينئذ نوم القائلة وما تسبب فيه من المعايش يصنعه في هذا الوقت من الضحى الأعلى إلى زوال الشمس، وهذا هو الورد الثالث من النهار، ثم يتوضأ للصلاة قبل دخول وقتها وكذلك ويستحب وهو من المحافظة عليها والإقامة لها فإن حصلت كفايته في يومه وقوته في وقت من النهار ترك السوق ودخل بيته أو قعد في(1/33)
بيت مولاه تعالى واشتغل بخدمته متزوداً لعاقبته، وقد كان الصالحون كذلك يفعلون، كان يقال لا يوجد المؤمن إلا في ثلاث مواطن: مسجد يعمره، أو بيت يستره، أو حاجة لا بدّ له منها، فإذا زالت الشمس فإن أبواب السماء تفتح للمصلين والذاكرين ويستجاب الدعاء للمؤمنين، فهذا هو الورد الرابع من النهار، فليصل بعد الزوال أربع ركعات يقرأ فيهن بمقدار سورة البقرة أو سورتين من المائتين أو أربع من المثاني يطيلهنّ ويحسنهن ولا يفصل بينهن بتسليم هذه الصلاة وحدها من بين صلاة النهار أربع ركعات بتسليمة واحدة، وهذا الورد هو الإظهار الذي ذكر الله عزّ وجلّ الحمد فيه فقال: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحينَ تُظْهِرُونَ) الروم: 18، وليتق العبد الصلاة عند استواء الشمس في كبد السماء وهو قبل زوالها عند تقلص الظل وقيام ظل كل شيء تحته، فإذا زال الظل فقد زالت وقد خفي استواؤها في الشتاء لقصر النهار ولعدول الشمس في سيرها عن وسط الفلك فتقطع عرضاً فيكون أقرب لغروبها فليقدر ذلك تقريباً ومقدار استوائها قبل الزوال نحو أربع ركعات بجزء من القرآن أو قدر جزء وهو آخر الورد الثالث، وإنما فيه ورد القراءة والتسبيح والتفكر وهو أحد الأوقات الخمسة التي نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الصلاة فيهن والأربعة الأخر عند طلوع الشمس حتى ترتفع قيد رمحين في عين الناظر وعند تدليها للغروب حتى تحتجب وبعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر وأحب له الإحياء ما بين الأذان والإقامة بالركوع، لأنها ساعة مستجاب فيها الدعاء وتفتح فيها أبواب السماء وتزكو فيها الأعمال، وأفضل أوقات النهار أوقات الفرائض فإن لم يقرأ بين الأذانين من درسه فاستحب له أن يقرأ في تنفله الآي التي فيها الدعاء مثل آخر سورة آل عمران ومن تضاعيف السور الاثنين والثلاث مثل قوله تعالى: (أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْلَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الغَافِرينَ) الأعراف: 155، ومثل قوله: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) آل عمران: 8، وقوله: (رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ) الممتحنة: 4، وإن قرأ الآي التي فيها التعظيم والتسبيح والأسماء الحسنى فحسن، مثل أول سورة الحديد وآخر سورة الحشر ومثل آية الكرسي وقل هو الله أحد ليكون بذلك جامعاً بين التلاوة والدعاء وبين الصلاة والتعظيم والمدح بالأسماء، ثم ليصل الظهر في جماعة ولا يدع أن يصلِي قبلها أربعاً وبعدها أربعاً بعد ركعتين، وهذا آخر الورد الرابع من النهار وهو أقصر الأوراد وأفضلها، فإن كان قد رقد قبل الزوال فلا يرقد في هذا الورد فإنه يكره له نومتان في يوم كما يكره له نوم النهار من غير سهر بالليل.
وروينا عن بعض العلماء، ثلاث يمقت الله عليها: الضحك من غير عجب، والأكل من غير جوع، ونوم النهار من غير سهر بالليل، وإن لم يكن قد رقد فأحب أن ينام بين(1/34)
الظهر والعصر ليتقوى بذلك على قيام الليل فلينم، فإن نومه بعد الظهر لليلة المستقبلة ونومه قبل الظهر لليلة الماضية، فإن دام سهره بالليل واتصلت أوراده بالنهار حسن أن ينام قبل الظهر لما سلف من ليله، وينام بعد الظهر لما غبر من الأخرى، إلا أنه لا يستحب له أن يزيد في اليوم والليلة أكثر من نوم ثمان ساعات، ومن الناس من يقول إنه إن نقص من نوم هذا المقدار في اليوم والليلة اضطرب بدنه لأن النوم قوت الجسم وراحته، قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً) النبأ: 9، أي راحة كما قال: (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً) النبأ: 11، إلا أن يكون السهر عادة فإن العادة قد تعمل عمل الطبع وتنقل عن العرف فلا يقال عليها، وإحياء ما بين الظهر والعصر وهو صلاة الغفلة وهو يشبَّه بقيام الليل، ويستحب العكوف في المسجد بين الأولى والعصر للصلاة والذكر ليجمع بين الاعتكاف والانتظار للصلاة فقد كان ذلك من سنة السلف، قال: كان الداخل يدخل المسجد بين الظهر والعصر فيسمع للمصلين دوياً كدويّ النحل من التلاوة إلا أن يكون بيته أسلم لدينه وأجمع لقلبه فالأسلم هو الأفضل،، كذلك إحياء الورد الثالث الذي هو بين الضحى الأعلى إلى زوال الشمس فوق هذا الفضل يدرك به العبد فوت قيام الليل لأن الناس في هذين الوقتين مشغولون بطلب الدنيا وخدمة الهوى والقلب المتيقظ لربه عزّ وجلّ يفرغ في هذين الوقتين ويسكن، ويجد العامل للعمل حلاوة وللإقبال والتفرغ لذة ويكون لفراغه من الخلق وشغله بالخالق تعالى مزيد وبركة، وهذا أحد الوجهين في قوله تعالى: (وَهُوَ الذي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أوْ أرَادَ شُكُوراً) الفرقان: 62 أي جعلهما خلفتين يتعاقبان في الفضل فيخلف أحدهما الآخر، فمن فاته شيء من الليل قضاه في هذين الوردين من النهار، أحدهما من الضحى الأعلى إلى الزوال، والثاني ما بين الأولى والعصر، والوجه الثاني أن النهار كله خلفة من الليل فمن فاته شيء من عمل الليل قضاه بالنهار فكان منه بدَلاً، ومن فاته شيء من أوراد النهار كان الليل خلفاً إذ لكل واحد منهما خلف من صاحبه، ففيه درك ما فات، وخلف ما سلف من الذكر والشكر، والذكر اسم جامع لأعمال القلوب كلها من مقامات اليقين، ومشاهدة العلوم من الغيب، والشكر أيضاً يستعمل على جمل أعمال الجوارح من شرائع الإسلام، وهذان جملة عمل العبد وكنه خدمته، وهذان المعنيان اللذان هما ذكرهما الكليم للجليل في قوله تعالى: (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثيراً) (وَنَذْكُرَكَ كَثيراً) طه: 33 - 34، انتظم التسبيح والذكر في جمل تصرف الجسم وتصرف القلب، وهذا الورد الخامس الذي هو ما بين العصرين من أطول الأوراد وأمتعها للعبادة وهو يضاهي الورد الثالث في الطول وهو أصيل النهار وأحد الآصال التي ذكر الله عزّ وجلّ فيه سجود كلّ شيء، وقرنه بالغدوّ فقال: (وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ في السَّمَواتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالغُدُوِّ والأَصَالِ) الرعد: 15، فما أقبح أن تكون الأشياء الموات لربها(1/35)
ساجدات ذاكرات والمؤمن الحي عن ربه معرض ذو غفلات، ثم ليصلّ قبل صلاة العصر أربعاً ويغتنم الصلاة بين الأذان والإقامة كما ذكرنا آنفاً فإنها ساعة مرجوة فيها الإجابة فإذا دخل وقت العصر دخل العبد في الورد السادس من النهار وقد أقسم الله عزّ وجلّ به في قوله: (وَالْعَصْرِ) العصر: 1، وهذا أحد المعنيين في الآية وهو أحد الوجهين من الوقت في الآصال الذي ذكره الله عزّ وجلّ، وهو العشي الذي ذكر الله عزّ وجلّ التسبيح فيه والتنزيه والحمد له فقال: (وَعَشِيّّاً وَحينَ تُظْهِرُونَ) الروم: 18، وقال بالعشي والإشراق وليس في هذا الورد صلاة إلا ما كان بين الأذانين ثم ينتقل بعد العصر فيما شاء من ذكر أو فكر من أعمال القلوب والجوارح فيما فرض عليه أو ندب إليه، وأفضل ذلك تلاوة القرآن بتدبر وترتيل وتفهّم وحسن تأويل، فإذا اصفرّت الشمس ومات حرها وارتفعت إلى أطراف الجدر ورؤوس الشجر فكانت مثلها حين تطلع دخل في الورد السابع من النهار، فهذا للتسبيح والذكر والتلاوة والاستغفار إلى
غروب الشمس، ومن أفضل ما قيل في هذا الوقت وفي مثله من أول النهار أن يقال: أستغفر الله لذنبي وسبحان الله بحمد ربي، لجمعه بين الاستغفار والتسبيح في الكلام بلفظ الأمر بهما في القرآن لقوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ) غافر: 55، وإن قال أستغفر الله الحي القيوم وأسأله التوبة سبحان الله العظيم وبحمده، فقد جاء فضل ذلك في الأثر والأفضل الاستغفار على الأسماء كما في القرآن مثل أن يقول أستغفر الله إنّه كان غفّاراً أستغفر الله إنّه كان تواباً أستغفر الله إنّ الله غفور، أستغفر اللّّه التّواب الرحيم رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين، فاغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الغافرين، وهذا الورد في الفضل مثل الورد الأول من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وهو المساء الذي ذكر الله تعالى التنزيه فيه فقال: (فَسُبْحَانَ الله حينَ تُمْسُونَ وَحينَ تُصْبِحُونَ) الروم: 71، أي سبحوا الله عزّ وجلّ، فأقام الاسم مقام الفعل وهو الطرف الثاني من النهار الذي أمر الله عزّ وجلّ فيه بالتسبيح بقوله عزّ وجلّ: (فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) طه: 130، ويستحب أن يقرأ قبل غروب الشمس (وَالشمْسِ وَضُحَاهَا) الشمس: 1 (وَالليلِ إذَا يَغْشَى) الليل: 1 والمعوّذتين وأن تغرب الشمس عليه وهو في الاستغفار فذلك مما أمر به في هذا الوقت من الأذكار، وكل ما يستحب من التسبيح والحمد والدعاء والذكر في أوّل النهار قبل طلوع الشمس فإنه يستحب في هذا الورد قبل غروب الشمس لأن الله تعالى قرنهما في الذكر فقال تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الّشمْسِ وَقَبْلَ غُرُوِبهَا) طه: 031، وقال تعالى: (وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) طه: 031، وقال تعالى: (بالْعشِيِّ وَالإبْكَارِ) غافر: 55، وقال تعالى: (قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ، (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَبَ) الفلق: 1 - 2 - 3،(1/36)
أي من شر الليل إذا دخل، فليعد العبد ما ذكرناه في الورد الأول من الأدعية والتسبيح وليقل عند أذان المغرب: اللْهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك وحضور صلاتك وشهود ملائكتك، صلّ على محمد وعلى آله وأعطه الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، ثم ليقل: رضيت بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً؛ ثلاثاً، ففي هذا أثر وفضل، وكذلك فليقل مثله إذا سمع أذان الفجر إلا أنه يقول: عند إدبار ليلك وإقبال نهارك والنص بهذا في صلاة المغرب، وكان الحسن البصري يقول: كانوا أشد تعظيماً للعشي منهم لأول النهار، وقال بعض السلف: كانوا يجعلون أول النهار للدنيا وآخره للآخرة، فإذا توارت بالحجاب انقضت أوراد النهار السبعة، فانظر أيها المسكين ماذا انقضى لك معها وماذا انقضى منك عندها وماذا قضى عليك فيها، فقد قطعت من عمرك مرحلة ونقصت من أيامك يوماً، فماذا قطعت في سفرك بقطع مرحلتك وماذا ازددت في غدك بما نقصت من يومك، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الناس غاديان: فغاد لنفسه فمعتقها أو راهن نفسه فموبقها، وقد قال الله عزّ وجلّ في تصديق قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتّى) الليل: 4، وقال في معناه: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَاكَسَبَتْ رَهينَةٌ) (إلاّ أصْحَابَ اليَمين) المدثر: 83 - 93، وجاء في الخبر: لا بورك لي في يوم لا أزداد فيه خيراً، وجاء في الأثر: من استوى يوماه فهو مغبون ومن كان يومه شراً من أمسه فهو محروم، ثم دخلت أوراد الليل الخمس فتدارك الآن رحمك الله تعالى فيما يستقبل من الليل ما فات فيما مضى من النهار، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن الله عزّ وجلّ يبغض كل جعظريّ جوّاظ أي سمين كثير الأكل سخاب بالأسواق جيفة بالليل حمار بالنهار عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة.(1/37)
الفصل الثامن
في ذكر أوراد الليل الخمسة
وفي الليل خمسة أوراد أوّلها أن يصلي بعد المغرب ست ركعات، ويستحب ذلك قبل أن يكلم أحداً، يقرأ في الأوليين: (قُلْ يَا أيُّهَا الكَافِرُونَ) الكافرون: 1 (قُلْ هُوَ اللهُ أحَدٌ) الإخلاص: 1 وليسرع بهما بعد صلاة المغرب من قبل أن يتكلم ويشتغل بشيء، وفي الخبر: أسرعوا بركعتين بعد المغرب فإنهما يرفعان معها: فإن كان منزله قريباً من مسجده فلا بأس أن يركعهما في بيته وليطل الأربعة الأخر، وكان أحمد بن حنبل رحمه الله يستحب أن يصليهما الرجل في بيته، وكذلك كان يفعل ويقول: هو سنة، لأنه روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصليهما في بيته، ولكن بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في مؤخر المسجد، وقد صلاهما في المسجد، ثم ليصل بين العشاءين ما تيسر إلى أن يغيب الشفق الثاني وهو البياض الذي يكون بعد ذهاب الحمرة وبعد غسق الليل وظلمته لأنه آخر مابقي من شعاع الشمس في القطر الغربي إذا قطعت الأرض العليا ودارت من وراء جبل قاف مصعدة تطلب المشرق فهذا هو الوقت المستحب لصلاة العشاء الآخرة، وهذا آخر الورد الأول من أوراد الليل، والصلاة فيه ناشئة الليل أي ساعاته لأنه أول نشوء ساعاته، وهو آن من الآناء التي ذكرها الله عزّ وجلّ في قوله: (وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ) طه: 031، فالآناء جمع آن أي وقت منه فصل وقيل ناشئة الليل قيام الليل، هذا وافق لسان الحبشة تقول نشا إذا قام، وقد أقسم الله تعالى به فقال: (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) الانشقاق: 61 والشفق ما بين العشاءين، وهي صلاة الأوّابين ويقال أيضاً صلاة الغفلة، قال يونس بن عبيد عن الحسن في قوله عزّ وجلّ: (تَتَجَافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجعِ) السجدة: 61، قال الصلاة بين العشاءين، حتى قال أنس بن مالك رضي الله عنه وقد سئل عمن نام بين المغرب والعشاء، فقال لاتفعل فإنها هي الساعة التي وصف الله عزّ وجلّ المؤمنين بالقيام فيها فقال عزّ وجلّ: (تَتَجَاْفَى جُنُوبُهُمْ عَن الْمَضَاجعِ) السجدة: 61، يعني الصلاة بين المغرب والعشاء وقد أسند ابن أبي الدنيا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سئل عن هذه الآية (تَتَجَافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجع) السجدة: 61، قال الصلاة فيما بين العشاءين، ثم قال عليكم بالصلاة فيما بين العشاءين(1/38)
فإنها تذهب بملاغاة أول النهار وتهذب آخره، قوله الملاغاة: جمع ملغاة من اللغو أي تسقط اللغو أي تطرح المطرح عن العبد من الباطل واللهو وتهذب له آخره أي تصفيه وتجوده، ويستحب العكوف في المسجد بين العشاءين للصلاة وتلاوة القرآن، فقد روي فضل ذلك لا أن يكون بيته أسلم له لدخول آفة عليه فما سلم فيه فضل به، ثم ليصل قبل العشاء الآخرة أربعاً وبعدها ركعتين ثم أربعاً ويقال إن الأربع بعد صلاة العشاء في بيته يعدلن مثلهن من ليلة القدر، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصليهن في بيته أول ما يدخل قبل أن يجلس، وكان ابن مسعود يكره أن يصلي بعد كل صلاة مثلها وكانوا يستحبون أن يصلّي بعد المكتوبة ركعتين ثم أربعاً، وإن قرأ في الأربع في الأولى آية الكرسي والآيتين اللتين بعدها وفي الثانية (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّه) البقرة: 582، والآية قبلها وفي الثالثة أول الحديد إلى قوله عزّ وجلّ: (وَهُوَ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) الحديد: 6، وفي الرابعة آخر الحشر من قوله تعالى: (هُوَ الله لاَ إلهَ إلاّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ) الحشر: 22، فقد أحسن وأصاب، فإن صلّى بعد الأربع ثلاث عشرة ركعة آخرهن الوتر إن أحب، فإن هذا العدد أكثر ما روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلّى به من الليل إلا في خبر مقطوع وهو سبعة عشر ركعة، والمشهور أنه كان يصلي إحدى عشْرة ركعة وثلاث عشرة ركعة وربما حسبوا فيها ركعتي الفجر واستحب له أنه يقرأ في ركوعه هذا ثلاثمائة آية فصاعداً فإذا فعل ذلك لم يكتب من الغافلين ودخل في أحوال العابدين، فقد قيل إنّ الأكياس يأخذون أوقاتهم من أول الليل والأقوياء يأخذون أورادهم من آخر الليل، فإن قرأ في ركوعه هذا سورة الفرقان وسورة الشعراء ففيهما ثلاثمائة آية فإن لم يحسنهما قرأ خمساً من المفصل فيهن ثلاثمائة آية سورة الواقعة، وسورة نون، وسورة الحاقة، وسورة المدثر، وسورة سأل سائل، فإن لم يحسنهن قرأ من سورة الطارق إلى آخر القرآن
ثلاثمائة آية، ولا يستحب للعبد أن ينام حتى يقرأ هذا المقدار من الآي في هذا العدد من الركوع بعد صلاة العشاء الآخرة، فإن قرأ في هذا الورد الثاني أعني بعد صلاة العشاء الآخرة وقبل أن ينام ألف آية فقد استكمل الفضل وكتب له قنطار من الأجر وكتب من القانتين، وأفضل الآي أطولها لكثرة الحروف وإن اقتصر على قصار الآي عند فتوره أدرك الفضل لحصول العدد، ومن سورة الملك إلى آخر القرآن ألف آية فإن لم يحسن قرأ: (قُلْ هُوَ اللهُ أحَدْ) الإخلاص: 1 مائتي وخمسين مرة في ثلاث عشرة ركعة فإن فيها ألف آية فهذا فضل عظيم وفي الخبر من قرأها عشر مرات بنى الله عزّ وجلّ له قصراً في الجنة. ئة آية، ولا يستحب للعبد أن ينام حتى يقرأ هذا المقدار من الآي في هذا العدد من الركوع بعد صلاة العشاء الآخرة، فإن قرأ في هذا الورد الثاني أعني بعد صلاة العشاء الآخرة وقبل أن ينام ألف آية فقد استكمل الفضل وكتب له قنطار من الأجر وكتب من القانتين، وأفضل الآي أطولها لكثرة الحروف وإن اقتصر على قصار الآي عند فتوره أدرك الفضل لحصول العدد، ومن سورة الملك إلى آخر القرآن ألف آية فإن لم يحسن قرأ: (قُلْ هُوَ اللهُ أحَدْ) الإخلاص: 1 مائتي وخمسين مرة في ثلاث عشرة ركعة فإن فيها ألف آية فهذا فضل عظيم وفي الخبر من قرأها عشر مرات بنى الله عزّ وجلّ له قصراً في الجنة.
وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السور التي لم يكن يدعها في كل ليلة ثلاثة أحاديث أشهرها أنه لم يكن ينام حتى يقرأ سورة السجدة، وتبارك الملك والذي بعده أنه كان يقرأ في كل(1/39)
ليلة بني إسرائيل والزمر، والقريب منها أنه كان يقرأ المسبحات في كل ليلة ويقول فيها إنه أفضل من ألف آية، قال: وكان العلماء يجعلونها ستاً ويزيدون فيها (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) الأعلى: 1 وفي الخبر: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) الأعلى: 1 فهذا يدل على أنه كان يكثر قراءتها ولا يدع أن يقرأ هذه الأربع سور في كل ليلة سورة يس، وسورة لقمان، وسورة الدخان، وتبارك الملك فإن ضم إليها سورة الواقعة، وسورة الصف، والحاقة، والزمر، فقد أكثر وأحسن فإن لم يكن من عبادته القيام من الليل قدم الوتر بنية الخبر المروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لا أنام إلا على وتر، وإن كان معتاداً لصلاة الليل فالأفضل تأخير الوتر إلى آخر صلاته من تهجده أو إلى السحر على حديث ابن عمر رضي الله عنه: صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بركعة، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: أوتر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أول الليل ومن أوسطه ومن آخره وانتهى وتره إلى السحر، فإن نام على وتر ورزق القيام لم يوتر بعده وكفاه وتره الأول على الخبر الذي جاء: لا وتران في ليلة، وقد قال بعض العلماء: يصلي ركعة واحدة يشفع بها وتره من أول الليل ثم يصلي صلاته من الليل ويوتر آخر صلاته، وقد روي في هذا أثر عن عثمان وعلي رضي الله عنهما، وإن كان قد صلّى ركعتين من جلوس بعد وتره الأول ثم استيقظ للصلاة شفعتا وتره الركعة الواحدة لأنهما بمنزلة ركعة واحدة يشفع بها ركعة الوتر التي صلاها قبلها، ثم ليصل من الليل مستأنفاً ما بدا له ثم يوتره بركعة واحدة في آخر صلاته فيكون له في ذلك ثلاثة أعمال: قصر الأمل، وتحصيل الوتر، والوتر من آخر الليل، وكذلك كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي ركعتين جالساً بعد وتره والله تعالى أعلم، فليقرأ فيهما جالساً بسورة الزلزلة وسورة ألهاكم التكاثر فقد جاء ذلك في حديثين: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ فيهما بذلك لما في الزلزلة والتكاثر من التخويف والوعظ، وفي رواية قل يا أيها الكافرون لما في سورة الكافرون من التنزيه من عبادة سوى المعبود وإفراد العبادة لله سبحانه فيها بالتوحيد، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بها عند النوم وأوصى رجلاً بقراءتها عند منامه وتقديم الوتر مستحب لمن لم يكن عادته قيام الليل ولمن كان الأغلب عليه النوم وتأخير الوتر يكون لمن أخر صلاته قبل طلوع الفجر أفضل وليقل بعد التسليم من الوتر: سبحان الملك القدوس رب الملائكة والروح جللت السموات والأرض بالعظمة والجبروت وتعززت بالقدرة وقهرت العباد بالموت، يقول هذا ثلاث مرات وهذا هو الورد الثاني من الليل أعني الصلاة بعد العشاء الآخرة إلى حد نومة الناس فقد أقسم الله عزّ وجلّ في قوله: (وَالليْلِ وَمَا وَسَقَ) الانشقاق: 71، أي وما جمع من ظلمته وذكره الله عزّ وجلّ في قوله: (إلى غَسَقِ اللَّيْلِ) الإسراء: 87، فهناك يغسق الليل وتستوسق ظلمته ثم ينام إن أحب وهو على طهارة وعن ذكر،(1/40)
وقد كان الصالحون لاينامون إلا عن غلبة ويكرهون التعمد للنوم وهو التهيؤ للعادة وقد كان منهم من يمهد لنفسه بالنوم ليتقوّى بذلك على صلاة أوسط الليل وآخره للفضل في ذلك ومن غلبه النوم حتى شغله عن الصلاة والذكر فإن السنة أن ينام حتى يعقل ما يقول وينشط في خدمته، وقد كان ابن عباس يكره النوم قاعداً، وفي الخبر لا تكابدوا الليل، وقيل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن فلانة تصلي من الليل فإذا غلبها النوم تعلقت بحبل فنهى عن ذلك وقال ليصلّ أحدكم من الليل ما تيسر فإذا غلبه النوم فليرقد، وقال: اكفلوا من العمل ما تطيقون فإن الله تعالى لا يمل حتى تملوا، وقيل له: إن فلاناً يصلّي الليل لاينام ويصوم الدهر لا يفطر، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خير هذا الدين أيسره، ثم قال: لكني أنا أصلي وأنام وأصوم وأفطر فهذه سنتي، فمن رغب عن سنتي، فليس مني، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تشادوا هذا الدين فإنه متين فمن يشاده يغلبه ولا
تبغض إلى نفسك عبادة الله عزّ وجلّ، والورد الثالث يكون بعد نومة الناس وهو التهجد الذي ذكره الله في قوله: (وَمِنَ الليلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ) الإسراء: 97 ولا يكون التهجد إلا بعد النوم وتلك النومة هي الهجوع الذي قال الله عزّ وجلّ من القائمين آنَاء اللّيْل فقال تعالى: (كَانوا قَليلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) الذاريات: 71، فالهجوع النوم والتهجد القيام وقد يقال الهجود أيضاً وهذا يكون نصف الليل، فهذا أوسط الأوراد وهو يشبه الورد الأوسط من النهار في أفضل أوراده وهو أفضل الأوراد وأمتعها للعبادة، وقد أقسم الله عزّ وجلّ به في قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إذَا سَجى) الضحى: 2، قيل إذا سكن وسكونه هدوه وسنة كل عين فيه وغفلتها إلا عين الله تبارك وتعالى فإنه الحي الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وقيل إذا سجى إذا امتد وطال ويقال إذا أظلم وسئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي الليل أسمع فقال: جوف الليل الغابر. ض إلى نفسك عبادة الله عزّ وجلّ، والورد الثالث يكون بعد نومة الناس وهو التهجد الذي ذكره الله في قوله: (وَمِنَ الليلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ) الإسراء: 97 ولا يكون التهجد إلا بعد النوم وتلك النومة هي الهجوع الذي قال الله عزّ وجلّ من القائمين آنَاء اللّيْل فقال تعالى: (كَانوا قَليلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) الذاريات: 71، فالهجوع النوم والتهجد القيام وقد يقال الهجود أيضاً وهذا يكون نصف الليل، فهذا أوسط الأوراد وهو يشبه الورد الأوسط من النهار في أفضل أوراده وهو أفضل الأوراد وأمتعها للعبادة، وقد أقسم الله عزّ وجلّ به في قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إذَا سَجى) الضحى: 2، قيل إذا سكن وسكونه هدوه وسنة كل عين فيه وغفلتها إلا عين الله تبارك وتعالى فإنه الحي الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وقيل إذا سجى إذا امتد وطال ويقال إذا أظلم وسئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي الليل أسمع فقال: جوف الليل الغابر.
وروينا في أخبار داود عليه السلام: إلهي إني أحب أن أتعبد لك فأي وقت تقبل؟ فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: ياداود لا تقم أول الليل ولا آخره، فإنه من نام أوله نام آخره ومن قام آخره لم يقم أوله ولكن قم وسط الليل حتى تخلو بي وأخلو بك وارفع إليّ حوائجك، والورد الرابع يكون بين الفجرين أحدهما الفجر الأول وهو بدو سلطان شعاع الشمس إذا ظهرت من وراء الأرض الخامسة وسطع ضوءُها في وسط السماء حتى يقطعها بمقدار طلوع الفجر الأول ثم تغرب في الفلك الأسفل المتجانف وتحجبها الأرض السادسة فيذهب الضوء ويعود سواد الليل كما كان لغيبة الشمس وهو الثلث الأخير وفيه وردت الأخبار باهتزاز العرش وانتشار الرياح من جنات عدن ومن نزول الجبار إلى سماء الدنيا وفيه الخبر الذي جاء أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل أي الليل أفضل؟ فقال: نصف الليل الغابر يعني الباقي وهذا هو الورد الرابع من نصف الليل إلى وقت السحر الأول، ثم يدخل الورد الخامس وهو السحر الأخير وفيه يستحب السحور، فمن لم يتسحر في أوله بغته الفجر وهو قبل طلوع الفجر الثاني بمقدار قراءة جزء من القرآن،(1/41)
في هذا الورد الخامس الاستغفار وقراءة القرآن وقد ذكره الله عزّ وجلّ في قوله: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) الإسراء: 87، قيل تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار لتوسط هذا الورد بينهما، ومن ذلك ذهب أهل الحجاز إلى أن الصلاة الوسطى التي نص الله تعالى على المحافظة عليها هي صلاة الفجر تعظيماً لهذا الوقت وتشريفاً له لتوسطه بين آخر الليل وأول النهار، فهذا الورد هو أقصر الأوراد ومن أفضلها وهو من السحر الأول إلى طلوع الفجر الثاني إلا ما كان من صلاة نصف الليل فذلك هو أفضل شيء من الليل، وهو أوسط الأوراد لأنه هو الورد الثالث، ويصلح في هذا الورد الخامس من السحر الأخير الصلاة لمن استيقظ من ساعته أو لمن تمم به صلاته، فالصلاة فيه لها فضل وشرف وهو بمنزلة الصلاة في أول الليل بين العشاءين، ولأن معنى قوله عزّ وجلّ عند بعض المفسرين: (وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) الذاريات: 81، أي يصلون وكذلك قوله عزّ وجلّ: (وَقُرْآنَ الْفَجْر) الإسراءِ: 87 يعني به الصلاة فكنى بذلك القرآن والاستغفار عن الصلاة لأنهما وصفان منها، كما قيل للصلاة تسبيح وسبحة لأن فيها التسبيح، وكذلك يقال للصلاة استغفار لأنه يطلب بها المغفرة وتكون هذه الصلاة في السحر بدلاً من السحور إلى طلوع الفجر الثاني وقد أمر بها سلمان أخاه أبا الدرداء ليلة زاره في حديث طويل قال في آخره: فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء ليقوم فقال له سلمان: نم، فنام ثم ذهب ليقوم فقال له: نم، فنام فلما كان عند الصبح قال له سلمان: قم الآن فقاما، فصليا، فقال: إن لنفسك عليك حقاً وإن لأهلك عليك حقاً وإن لربك عليك حقّاً وإن لضيفك عليك حقّاً فأعط كل ذي حق حقه، وذلك أن امرأة أبي الدرداء أخبرت سلمان أنه لاينام الليل، قال: فأتيا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرا ذلك له فقال: صدق سلمان، وهذا الورد الخامس يشبه الورد السابع من النهار قبل الغروب في فضل وقتيهما وهذا قبل الفجر الثاني، والفجر الثاني هو انشقاق شفق الشمس وهو بدو بياضها الذي تحته الحمرة وهو الشفق الثاني على ضد غروبها، لأن شفقها الأول من العشاء وهو الحمرة بعد الغروب وبعد الحمرة البياض وهو الشفق الثاني من أول الليل وهو آخر سلطان الشمس، وبعد البياض سواد الليل وغسقه، ثم ينقلب ذلك إلى الضد فيكون بدو طلوعها الشفق الأول وهو البياض وبعده الحمرة وهو شفقها الثاني وهو أول سلطانها من آخر الليل وبعده طلوع قرص الشمس، والفجر هو انفجار شعاع الشمس من الفلك الأسفل إذا ظهرت على وجه الأرض الدنيا يستر عينها الجبال والبحار والأقاليم المسروقة العالية ويظهر شعاعها منتشراً إلى وسط السماء عرضاً مستطيراً فهذا آخر الورد الخامس وعنده يكون الوتر فإذا طلع الفجر فقد انقضت أوراد الليل الخمسة ودخلت أوراد النهار، فانظر هل دخلت في دخوله عليك في جملة العابدين أم خرج عنك وأنت فيه من الغافلين وتفكر أي لبسة ألبسك فإن الليل جعل لباساً هل ألبست فيه حلة النور بتيقظك فتربح تجارة لن(1/42)
تبور أم ألبسك الليل ثوب ظلمته فتكون ممن مات قلبه بموت جسده بغفلتك، ثم يقوم العبد حينئذ فيصلي ركعتي الفجر
وهما معنى قوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإدبَارَ النُّجُومِ) الطور: 94، قيل ركعتي الفجر ثم يقرأ: نعوذ بالله من سخطه وبعده شهد الله أنه لا إله إلا هو إلى آخرها ويقول: أنا أشهد بما شهد الله به لنفسه وشهدت به ملائكته وأولو العلم من خلقه، وأستودع الله العظيم هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة حتى يؤديها وأسأله حفظها حتى يتوفاني الله عليها، اللّم احطط بها عني وزراً، واجعل لي بها عندك ذخراً، واحفظني بها واحفظها علي، وتوفني عليها حتى ألقاك بها غير مبدل تبديلاً، وأفضل ما عمل العبد في ورد من أوراد الليل والنهار بعد القيام بفرض يلزمه أو قضاء حاجة لأخيه المؤمن يعينه الصلاة بتدبر الخطاب، ومشاهدة المخاطب، فإن ذلك يجمع العبادة كلها ثم بعد ذلك التلاوة بتيقظ عقل وفراغ هم ثم أي عمل فتح له فيه من فكر أو ذكر برقة قلب وخشوع جوارح ومشاهدة غيب فإن ذلك أفضل أعماله في وقته.(1/43)
الفصل التاسع
فيه ذكر وقت الفجر وحكم ركعتيه
الأداء والقضاء وحكم الوتر ووقت القضاء له والأداء، وفي الشهر ليلتان يعتبر بهما وقت الفجر: إحداهما يطلع القمر فيها عند طلوع الفجر الأول وهي ليلة ست وعشرين، والأخرى يغيب القمر فيها عند طلوع الفجر وهي ليلة اثنتي عشرة من الشهر، ومن طلوع الفجر إلى طلوع الشمس مقدار ثلثي سبع تلك الليلة، وهذ يكون في الصيف، ويكون في الشتاء أقل من ذلك، لأنه يكون نصف سدس تلك الليلة، وهذا الورد الأول من النهار ووقت الأداء للوتر من بعد صلاة العشاء الآخرة إلى طلوع الفجر الثاني، فإذا طلع الفجر الثاني فقد ذهب وقت الأداء وهو وقت القضاء للوتر فليصلِّ الوتر حينئذ من لم يكن أداه إلى قبل صلاة الصبح، فإذا صلّى الصبح ذهب وقت قضاء الوتر أيضاً ووقت الأداء لركعتي الفجر إذا طلع الفجر الثاني، فالمستحب له أن يصليهما في منزله وقبل صلاة الغداة والسنة أن يخففهما فإذا صلّى الصبح ولم يكن صلاهما فقد ذهب وقت الأداء وبقي له وقت القضاء، فليمهل حتى تطلع الشمس وتحل الصلاة فليقدمها على سبحة الضحى، وهذا وقت القضاء لركعتي الفجر إلى صلاة الظهر، فإذا صلّى الظهر ولم يكن صلاهما فقد ذهب وقت قضائهما أيضاً، ومن فاته ورد من الأوراد فاستحب له فعل مثله في وقته أو قبله إذا ذكره لا على وجه القضاء، فإنه لا يقضي إلا الفرائض ولكن على وجه التدارك ورياضةَ النفس بذلك ليأخذ بالعزائم كيلا يعتاد التراخي والترخص، ولأجل الخبر المأثور أحب الأعمال إلى الله عزّ وجلّ أدومها وإن قل كيف، وفي حديث عائشة رضي الله عنها الوعيد على ترك العادة في العبادة روت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عبد الله تعالى عبادة ثم تركها ملالة مقته الله تعالى وقالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا غلبه النوم أو عاقه مرض فلم يقم في تلك الليلة صلّى من النهار اثنتي عشرة ركعة، ومن دخل المسجد لصلاة الصبح ولم يكن صلّى ركعتي الفجر في منزله صلاهما(1/44)
وأجزأتا عنه تحية المسجد، ومن كان قد صلاهما في بيته نظر، فإن كان دخوله المسجد بغلس عند طلوع الفجر واشتباك النجوم صلّى ركعتين تحية المسجد، وإن كان دخوله عند انمحاق النجوم ومسفراً عند الإقامة قعد ولم يصلِّ ركعتين لئلا يكون جامعاً بين صلاة الصبح وبين صلاة قبلها، ولا يصلّي بعد طلوع الفجر الثاني شيئاً إلا ركعتي الفجر فقط، ومن دخل المسجد ولم يكن صلّى ركعتي الفجر، فإن كان قبل الإقامة صلاهما وإن دخل وقت الإقامة وقد افتتح الإمام الصلاة فلا يصليهما وليدخل في الصلاة المكتوبة فإنه أفضل والنهي فيه.
روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة وليقل من قعد في المسجد من غير صلاة ركعتين تحية المسجد: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هذه الأربع كلمات يقولها أربع مرات فإنها عدل ركعتين في الفضل وكذلك من دخله وكان على غير وضوء أو مر في المسجد عابر طريق ومن دخل مسجداً فلا يقعد حتى يصلّي ركعتين وأكره له دخول المسجد والقعود فيه على غير وضوء.(1/45)
الفصل العاشر
كتاب معرفة الزوال
وزيادة الظل ونقصانه بالأقدام واختلاف ذلك في الصيف والشتاء، قال الله جلت قدرته: (أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَليلاً) الفرقان: 45 وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيلَ وَالنَّهارَ آيَتَينِ) الإسراء: 12، الآية إلى قوله عدد السنين والحساب، وقال سبحانه: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) الرحمن: 5، وفي حديث أبي الدرداء وكعب الأحبار في صفة هذه الأمة يراعون الظلال لإقامة الصلاة وأحب عباد الله إلى الله عزّ وجلّ الذين يراعون الشمس والقمر والأظلة لذكر الله عزّ وجلّ، وقال بعض العلماء بالحساب والأثر من أهل الحديث: إن الليل والنهار أربع وعشرون ساعة وإن الساعة ثلاثون شعيرة يأخذ كل واحد منهما من صاحبه في كل يوم شعيرة حتى تستكمل الساعة في الشهر، وبين أول الشهر وآخره ثلاثون درجة، الشمس كل يوم في درجة، قال: وتفسير ذلك أنه إذا مضى من أيلول سبعة عشر يوماً استوى الليل والنهار، ثم يأخذ الليل من النهار من ذلك اليوم في كل يوم شعيرة حتى يستكمل ثلاثين يوماً فيزيد ساعة حتى يصير سبعة عشر يوماً من كانون الأول فينتهي طول الليل وقصر النهار وكانت تلك الليلة أطول ليلة في السنة وهي خمس عشرة ساعة وكان ذلك اليوم أقصر يوم في السنة وهو تسع ساعات، ثم يأخذ النهار من الليل كل يوم شعيرة حتى إذا مضى سبع عشرة ليلة من آذار استوى الليل والنهار وكان كل واحد منهما اثنتي عشْرةَ ساعة ثم يأخذ النهار من الليل كل يوم شعيرة حتى إذا مضى سبعة عشر يوماً من حزيران كان نهاية طول النهار وقصر الليل فيكون النهار يومئذ خمسَ عشْرَةَ ساعة والليل تسع ساعات ثم ينقص من النهار كل يوم شعيرة حتى إذا مضى سبع عشرة ليلة من أيلول استوى الليل والنهار ثم يعود الحساب على ذلك، قال: فمواقيت الصلاة من ذلك أن الشمس إذا وقفت فهو قبل الزوال فإذا زالت بأقل القليل فذلك أول وقت الظهر، فإذا زادت على سبعة أقدام بعد الزوال فذلك أول وقت العصر؛ وهو آخر وقت الظهر، قال: والذي جاء في الحديث أن الشمس إذا زالت بمقدار شراك فذلك وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شيء مثله فذلك آخر وقت الظهر(1/46)
وأول وقت العصر، وهكذا صلّى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أول يوم ثم صلِّى من الغد الظهر حين صار ظل كل شيء مثله فذلك آخر وقت الظهر وأول وقت العصر، ثم صلّى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، وقال ما بين هذين وقت فإذا أردت أن تقيس الظل حتى تعرف ذلك فانصب عوداً أو قم قائماً في موضع من الأرض مستوٍ ثم اعرف موضع الظل ومنتهاه فخط على موضع الظل خطاً ثم انظر أينقص الظل أم يزيد فإن كان الظل ينقص فإن الشمس لم تزل بعد ما دام الظل ينقص فإذا قام الظل فذلك نصف النهار ولا يجوز في هذا الوقت الصلاة فإذا زاد الظل فذلك زوال الشمس إلى طول ذلك الشيء الذي قست به طول الظل وذلك آخر وقت الظهر فإذا زاد الظل بعد ذلك قدماً فقد دخل وقت العصر حتى يزيد الظل طول ذلك الشيء مرة أخرى فذلك وقت العصر الثاني فإذا قمت قائماً تريد أن تقيس الظل بطولك فإن طولك سبعة أقدام بقدمك سوى قدمك التي تقوم عليها فإذا قام الظل فاستقبل الشمس بوجهك ثم مر إنساناً يعلم طرف ذلك بعلامة ثم قس من عقبك إلى تلك العلامة فإن كان بينهما أقل من سبعة أقدام سوى ما زالت عليه الشمس من الظل فإنك في وقت الظهر ولم يدخل وقت العصر حتى يزيد الظل على سبعة أقدام سوى ما تزول الشمس عليه من الظل فذلك وقت العصر ثم إن الأقدام تختلف في الشتاء والصيف فيزيد الظل وينقص في الأيام، فمعرفة ذلك أن استواء الليل والنهار في سبعة عشر يوماً من آذار فإن الشمس تزول يومئذ وظل الإنسان ثلاثة أقدام وكذلك ظلّ كل شيء تنصبه، فإن الشمس تزول يومئذ وظل كل شيء ثلاثة أسباعه ثم ينقص الظل وكلما أمضى ستة وثلاثون يوماً نقص الظل قدماً حتى ينتهي طول النهار وقصر الليل في سبعة عشر يوماً من حزيران فتزول الشمس يومئذ وظلّ الإنسان نصف قدم وذلك أقل ما تزول عليه الشمس ثم يزيد الظل فكلما مضت ستة وثلاثون يوماً زاد الظل قدماً حتى يستوي الليل والنهار في سبعة عشر يوماً من أيلول فتزول الشمس يومئذ، والظل على ثلاثة أقدام ثم يزيد الظل وكلما مضى أربعة عشر يوماً زاد الظل قدماً حتى ينتهي طول الليل وقصر
النهار في سبعة عشر يوماً من كانون الأول فتزول الشمس يومئذ على تسعة أقدام ونصف قدم وذلك أكثر ما تزول الشمس يومئذ عليه ثم كلما مضى أربعة عشر يوماً زاد الظل قدماً حتى ينتهي إلى سبعة عشر يوماً من آذار فذلك استواء الليل والنهار، وتزول الشمس على ثلاثة أقدام وذلك دخول الصيف وزيادة الظل ونقصانه الذي ذكرناه في كل ستة وثلاثين يوماً قدم في الصيف والقيظ وزيادته في كل أربعة عشر يوماً قدم في الربيع والشتاء، وهذا ذكره بعض علماء المتأخرين من أهل العلم بالنجوم وقد ذكر غيره من القدماء قريباً من هذا وذكر زوال الشمس بالأقدام في شهر تشرين وخالف هذا في حدين من نهاية الطول والقصر قدمين فذكر أن أقل ما تزول عليه الشمس في حزيران على قدمين وأن أكثر(1/47)
ما تزول عليه الشمس في كانون ثمانية أقدام فكان الأول هو أدق تحديداً وأقوم تحريراً وذكر أن الشمس تزول في أيلول على خمسة أقدام وفي تشرين الأول على ستة وفي تشرين الأخير على سبعة وفي كانون على ثمانية قال: وذلك منتهى قصر النهار وطول الليل وهو أكثر ما تزول عليه الشمس، قال: ثم ينقص الظل ويزيد النهار فتزول الشمس في كانون الأخير على سبعة أقدام وتزول في شباط على ستة أقدام وفي آذار على خمسة وذلك استواء الليل والنهار وتزول في نيسان على أربعة أقدام وتزول في أيار على ثلاثة أقدام وتزول في حزيران على قدمين فذلك منتهى طول النهار وقصر الليل وهو أقل ما تزول الشمس عليه فيكون النهار حينئذ خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات وتزول الشمس في تموز على ثلاثة أقدام وفي آب على أربعة أقدام وفي أيلول على خمسة أقدام وفيه يستوي الليل والنهار. ر في سبعة عشر يوماً من كانون الأول فتزول الشمس يومئذ على تسعة أقدام ونصف قدم وذلك أكثر ما تزول الشمس يومئذ عليه ثم كلما مضى أربعة عشر يوماً زاد الظل قدماً حتى ينتهي إلى سبعة عشر يوماً من آذار فذلك استواء الليل والنهار، وتزول الشمس على ثلاثة أقدام وذلك دخول الصيف وزيادة الظل ونقصانه الذي ذكرناه في كل ستة وثلاثين يوماً قدم في الصيف والقيظ وزيادته في كل أربعة عشر يوماً قدم في الربيع والشتاء، وهذا ذكره بعض علماء المتأخرين من أهل العلم بالنجوم وقد ذكر غيره من القدماء قريباً من هذا وذكر زوال الشمس بالأقدام في شهر تشرين وخالف هذا في حدين من نهاية الطول والقصر قدمين فذكر أن أقل ما تزول عليه الشمس في حزيران على قدمين وأن أكثر ما تزول عليه الشمس في كانون ثمانية أقدام فكان الأول هو أدق تحديداً وأقوم تحريراً وذكر أن الشمس تزول في أيلول على خمسة أقدام وفي تشرين الأول على ستة وفي تشرين الأخير على سبعة وفي كانون على ثمانية قال: وذلك منتهى قصر النهار وطول الليل وهو أكثر ما تزول عليه الشمس، قال: ثم ينقص الظل ويزيد النهار فتزول الشمس في كانون الأخير على سبعة أقدام وتزول في شباط على ستة أقدام وفي آذار على خمسة وذلك استواء الليل والنهار وتزول في نيسان على أربعة أقدام وتزول في أيار على ثلاثة أقدام وتزول في حزيران على قدمين فذلك منتهى طول النهار وقصر الليل وهو أقل ما تزول الشمس عليه فيكون النهار حينئذ خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات وتزول الشمس في تموز على ثلاثة أقدام وفي آب على أربعة أقدام وفي أيلول على خمسة أقدام وفيه يستوي الليل والنهار.
وقد روينا عن سفيان الثوري رحمه الله أكثر ما تزول عليه الشمس تسعة أقدام وأقل ما تزول عليه قدم وهذا أقرب إلى القول الأول في التحديد، وقد جاء في ذكر الأقدام لوقت الصلاة أثر من سنة فلذلك ذكرنا منها ما شرحه من عرفه، روينا عن أبي مالك سعد بن طارق الأشعري عن الأسود بن زيد عن ابن مسعود قال: كان قدر صلاة الظهر مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام وفي الشتاء خمسة أقدام إلى ستة أقدام وفصل الخطاب أن معرفة الزوال بهذا التحديد ليس بفرض ولكن صلاة الظهر بعد تيقن زوال الشمس فرض متى زالت الشمس مبلغ علمك ويقين قلبك ومنظر عينك فكانت الشمس على حاجبك الأيمن في الصيف إذا استقبلت القبلة فقد زالت لا شكّ فيه فصلِّ إلى أن يكون ظل كل شيء مثله فهذا آخر وقت الظهر وأول وقت العصر ثم صلِّ العصر إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه، فهذا آخر وقت العصر المستحب ثم إلى أن تصفر الشمس وتدلى للغروب، فهذا وقت الضرورات وهو مكروه إلا لمريض أو معذور، وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ومن أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح فإذا كانت الشمس على حاجبك الأيسر وأنت مستقبل القبلة في الصيف فإن الشمس لم تزل مبلغ علمك ومنظر عينك، فإذا كانت بين عينيك فهو استواؤها في كبد السماء نظر عينك ويصلح أن تكون قد زالت لقصر النهار وفي أول الشتاء وقد لا تكون زالت إذا طال النهار وتوسط الصيف فإذا صارت إلى حاجبك الأيمن فقد زالت في أي وقت كان، ثم إن هذا يختلف في الشتاء فإذا كانت على حاجبك الأيسر في الشتاء وأنت مستقبل القبلة فيصلح أن تكون زالت لقصر النهار في أول الشتاء وقد لا تكون زالت إذا امتد النهار وفي أول الصيف فإذا كانت الشمس بين عينيك في الشتاء فقد زالت لا شك فيه(1/48)
فصل الظهر فإذا صارت إلى حاجبك الأيمن فهذا آخر وقت الظهر في الشتاء وهو أوّل وقت الظهر في الصيف وهذا التقدير إنما هو لأهل إقليم العراق وخراسان لأنهم يصلون إلى الحجر الأسود وتلقاء الباب من وجهة الكعبة فأما إقليم أهل الحجاز واليمن فإن تقديرهم على ضد ذلك وقبلتهم إلى الركن اليماني وإلى مؤخر الكعبة فلذلك اختلف التقدير وتضادد الاختلاف للتوجه إلى شطر البيت وتفاوت الأمصار في الأقاليم المستديرة حوله فهذا كان تقدير المتقدمين وما سوى ذلك من التدقيق والتحرير فمحدث إلا أنه علم لأهله، ومن أشكل عليه الوقت لجهل بالأدلة أو لغيم اعترض فليتحرَّ بقلبه ويجتهد بعلمه ولا يصلِّ صلاة إلا بعد تيقن دخول وقتها وإن تأخر ذلك فهذا أفضل حينئذ ولكن قد جاء في الخبر ثلاث من مناقب الإيمان: الصيام في الصيف، وإسباغ الوضوء في الشتاء، وتعجيل الصلاة في يوم دجن، ومن أمثال العرب يوم الدجن يضرب فيه عبد السوء هذا لأن الوقت في الغيم كأنه يقصر لغيبة الشمس فيغفل الإنسان عن مراعاة الوقت أو يتشاغل عنه لأن الفرائض لا تقبل إلا عن يقين فأداؤها بعد دخول الوقت على اليقين أفضل من أدائها في الوقت على الشك، ألم تسمع إلى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن غم عليكم فأكملوا عدد شعبان ثلاثين، فترك الاحتياط لليقين، ومن صلّى وهو يرى أنه الوقت أو توجه إلى القبلة فيما يعلم ثم تبين له بعد أنه صلِّى قبل الوقت أو صلى لغير القبلة نظر فإن كان في الوقت أو بعده قليلاً أعاد الصلاة احتياطاً وإن كان للوقت قد خرج فلا شيء عليه وهو معفو الخطأ وأحب أن يعيد تلك الصلاة متى ذكرها.
وقال بعض العلماء: للشمس سبعة أزولة، ثلاثة منها لا يعلم بها البشر: الزوال الأول نزوله عن قطب الفلك الأعلى لا يشهده ولا يعلمه إلا الله عزّ وجلّ، والزوال الثاني عن وسط الفلك لا يعلمه من خلق اللّّه تعالى إلا خزان الشمس الموكلون بها الذين يرمونها بجبال الثلج ليسكن حرها ويحتبسوا شعاعها عن العالمين ويسوقونها على العجلة المركبة في الفلك، والزوال الثالث يعلمه ملائكة الأرض، ثم إن الزوال الرابع يكون على ثلاث دقائق وهو ربع شعيرة، والشعيرة جزء من اثني عشر جزءاً من ساعة، فهذا الزوال تعرفه الفلاسفة من المنجمين أهل العلم بمساحة الفلك وتركيب الأفلاك فيه وتقدير سير الشمس في الشتاء والصيف في فلكها منه فيقوّمون ذلك بالنظر في المرتجلات الطالعة على التقويم، فإذا زالت الشمس الزوال الخامس نصف شعيرة وهي ست دقائق عرف زوالها أهل الحساب والتقاويم بالإسطرلاب الطالع فإذا زالت شعيرة وهو الزوال السادس المشترك وهو جزء من اثني عشر جزءاً من ساعة عرف زوالها علماء المؤذنين وأصحاب مراعاة الأوقات فإذا زالت ثلاث شعيرات فهو الزوال السابع، وهو ربع ساعة عرف الناس كلهم(1/49)
زوالها، وعند هذا الوقت صلاة الكافة وهو أوسط الوقت وأوسعه، وذلك واسع برخصة الله سبحانه وتعالى ورحمته، وهذا كله لبعد منصب السماء ولاستواء تقويم صنعتها في الأفق الأعلى ولإتقان صنعتها في الجو المتخرق علواً وفي الأقطار المتسعة المستديرة استواءً ومتناسباً، وقد يروى في الخبر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل جبريل عليه السلام فقال: هل زالت الشمس؟ فقال: لا نعم، فقال: كيف هذا فقال بين قولي لك لا نعم قطعت في الفلك خمسين ألف فرسخ فكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأله عن زوالها على علم اللّّه سبحانه وتعالى به، وقد قال بعض الفلاسفة إن السماء تدور كما تدور الرحى فتدير الأفلاك بدورانها على القطب ولكن لا يرى ذلك منها لبعدها وعلوها وتقويم استدارتها، وقد ذكره بعض العلماء من السلف فتبارك اللّّه أحسن الخالقين وذكر بعض العارفين أعجب من هذا وألطف من قدرة اللّّه عزّ وجلّ وخفي صنعه ذكر أن الليل والنهار أربعة وعشرون ساعة وإن الساعة اثنتا عشْرَةَ دقيقة كل دقيقة اثنتا عشْرَةَ شعيرة وكل شعيرة أربعة وعشرون نفساً فتظهر الأنفاس من خزانة الجسم فتنشئ الشعائر وتنشأ الشعائر فتظهر الدقائق فتنتج الساعات وتتحرك الساعات فتدير الأفلاك وتدور الأفلاك فتنشر الليل والنهار في الجو والأقطار وينشر الليل والنهار فتدير السماء في الآفاق وينعقد الحسبان بالتفصيل فإذا خفي الإحساس انقطعت الأنفاس فانفكت الأفلاك فعندها تنتشر النجوم وتنشق السماء وتخرب الديار وتظهر دار القرار فسبحان الله ألطف الصانعين وأقهر القادرين وقد قال سبحانه وتعالى: (إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) التكوير: 1 - 2، وقال سبحانه وتعالى: (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً) الطور: 9، يعني تدور دوراً فسبحان اللطيف الحكيم أدار تلك الأفلاك الكثاف بهذه الأنفاس اللطاف كما حجب الفلك الكثيف بستر الفضاء اللطيف، فالفلك العظيم لا يحجب السماء والفضاء الرقيق يحجب الفلك، لأنه أراد سبحانه وتعالى أن يرينا السماء وأحب أن يخفي عنا الفلك فلم نَر إلا ما أرانا، فالعبد هو سبب لذلك ومحرك لذلك ولا يشعر بذلك فمداره أنفاسه وأنفاسه ساعاته وساعاته عمره وعمره أجله وأجله آخرته وهو في غفلة بدنياه وفي لعب بما يهواه، فإن نظرت إلى السماء رأيتها تنشئ الأنفاس وإن نظرت إلى الأنفاس، رأيتها تدير الأفلاك، وإن نظرت إلى فوق الفوق عميت عما سواه، فلا إله إلا هو رب العرش العظيم (صُنْعَ اللهِ الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) النمل: 88 إن ربي لطيف لما يشاء، (سَنُرِيهِم آَياتِنا في الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِم) فصلت: 35، (وَفِي الأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) الذاريات: 02، (وَفِي أَنْفُسِكُم أَفَلا تُبْصِرُونَ) الذاريات: 12، (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ) الحاقة: 83، (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقى) الأعلى: 01 فأما صلاة المغرب فأفضل ما صلّيت فيه إذا تدلى حاجب الشمس الأعلى وهو غيبتها عن الأبصار، روي عن عمر رضي اللّّه عنه أنه أخر صلاة المغرب ليلة حتى طلع نجم فأعتق رقبة.(1/50)
وروينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أخر المغرب حتى طلع كوكبان فأعتق رقبتين، وأفضل ما صليت فيه عشاء الآخرة إذا غاب البياض الغربي وأظلم مكانه وهو الشفق الثاني إلى ما بعد ذلك فتأخيرها أفضل إلى ربع الليل ما لم تنم والنوم قبلها مكروه شديد ووقت حسن في سنة أن تصلّي بمقدار غيبة القمر ليلة ثلاث من الشهر وهذا يكون بعد سبع ونصف من الليل لأنا روينا أنّ رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلّي العشاء الآخرة لسقوط القمر ليلة ثلاث، وأفضل ما صلّيت فيه صلاة الصبح إذا طلع الفجر الثاني وهي الصلاة الوسطى التي أفرد اللّّه تبارك وتعالى محافظتها لأنها تختص بمعان ثلاث من التوسط لا توجد في سائر الصلوات، منها أنها بين الليل والنهار، والثاني أنها بين صلاتين من صلاة الليل وصلاتين من صلاة النهار، والثالث أنها متوسطة بين صلاتي جهر وصلاتي مخافتة، وأيضاً فإنها أقصر الصلاة عدداً لا ثلاثاً ولا أربعاً، فلما اختصت بتوسط هذه المعاني دون غيرها كانت هي الوسطى، وأيضاً فإن اللّّه تعالى نص على ذكر الفجر في قوله عزّ وجلّ: (وَقُرْآنَ الْفَجْر إنَّ قُرآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) الإسراء: 78، وقيل في تفسير ذلك تشهده ملائكة الليل والنهار فكان هذا ذكراً لها بوصف آخر توكيداً للمحافظة عليها فإن صح الخبر عن رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر بطل ما قلناه وثبت قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه هو الحق وبه نقول ولا أحسب الخبر إلا ثابتاً فقد جاء بأشد اليقين أخبرنا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عنها فقال: هي التي شغل عنها أخي سليمان حتى توارت بالحجاب، والسنة أن تقرأ في صلاة الصبح بسورة من المثاني أو بطوال المفصل لأنها قصرت وعوّض عنها طول القيام فإن كان أجمع للمصلين وأكثر لعددهم إذا توسط الوقت فحسن قبل أن تمحق النجوم فأما أن يسفر حتى ينتشر البياض تحت الحمرة وذلك هو شيء من شعاع الشمس فلا، وإن كثروا فصلاتها بغلس في القليل أفضل، والمحافظة على أوائل الأوقات من كل صلاة من أفضل الأعمال إلا ما ذكرناه من تأخير صلاة العشاء الآخرة للأثر فيه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضل الصلاة في أول الوقت على الصلاة في آخر الوقت كفضل الآخرة على الدنيا وفي الخبر أن العبد ليصلّي الصلاة في آخر وقتها ولما فاته من الوقت الأول خير له من الدنيا وما فيها، والخبر المشهور أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل أي الأعمال أفضل؟ فقال: الصلاة لوقتها، وقد جاء في الأثر الوقت الأول رضوان الله عزّ وجلّ والوقت الأخير عفو الله تبارك وتعالى، قيل: فرضوان الله عزّ وجلّ يكون للمحسنين وعفو اللّّه سبحانه وتعالى يكون عن المقصرين، والوقت الأول من كل صلاة من عزيمة الدين وطريقة المقيمين للصلاة المحافظين، والوقت الثاني رخصة في الدين وسعة من الله عزّ وجلّ ورحمة للغافلين.(1/51)
الفصل الحادي عشر
كتاب فضل الصلاة في الأيام والليالي
ذكر ما جاء في صلاة النهار من الفضائل
روينا عن أبي سلمة وعن أبي هريرة قالا: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خرجت من منزلك فصلِّ ركعتين يمنعانك مخرج السوء وإذا دخلت إلى منزلك فصلِّ ركعتين يمنعانك مدخل السوء، عن سعيد بن أبي سعيد الطويل سمع أنس بن مالك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في صلاة الصبح: من توضأ ثم توجه إلى مسجد يصلي فيه الصلاة كان له بكل خطوة حسنة ومحا عنه سيئة، والحسنة بعشر أمثالها، فإذا صلّى ثم انصرف عند طلوع الشمس كتب له بكل شعرة في جسده حسنة وانقلب بحجة مبرورة فإن جلس حتى يركع كتب الله له بكل جلسة ألف ألف حسنة، ومن صلّى العتمة فله مثل ذلك وانقلب بحجة وعمرة مبرورة، عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من صلّى أربع ركعات بعد زوال الشمس يحسن قراءتهن وركوعهن وسجودهن صلّى معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى الليل ولم يكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدع أربعاً بعد الزوال يطيلهن ويقول إن أبواب السماء تفتح في هذه الساعة وأحب أن يرفع لي فيها عمل، قيل: يا رسول الله فيهن سلام فاصل، قال: لا، وروي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحم اللّّه عبداً صلّى أربعاً قبل العصر.
ذكر صلاة يوم الأحد
وروي عن سعيد بن جبير عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلّى يوم الأحد أربع ركعات يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وآمن الرسول مرة كتب الله عزّ وجلّ له بعدد كل نصراني ونصرانية حسنات وأعطاه ثواب نبي وكتب له حجة وعمرة وكتب له بكل ركعة ألف صلاة وأعطاه الله عزّ وجلّ في الجنة بكل حرف مدينة من مسك أذفر، وروينا عن علي عليه السلام عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: وحدوا الله تبارك وتعالى بكثرة الصلاة في يوم الأحد فإنه سبحانه وتعالى واحد أحد لا شريك له، فمن صلّى يوم الأحد بعد صلاة الظهر(1/52)
أربع ركعات بعد الفريضة والسنة قرأ في الركعة الأولى فاتحة اللكتاب وتنزيل السجدة وفي الثانية فاتحة الكتاب وتبارك الملك، ثم تشهد وسلم، ثم قام فصلّى ركعتين أخريين قرأ فيهما فاتحة الكتاب وسورة الجمعة وسأل الله تبارك وتعالى حاجته كان حقاً على الله سبحانه وتعالى أن يقضي حاجته ويبرئه مما كانت النصارى عليه.
ذكر صلاة يوم الاثنين
روينا عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صلّى يوم الاثنين عند ارتفاع النهار ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وآية الكرسي مرة وقل هو اللّّه أحد مرة، والمعوذتين مرة فإذا سلم استغفر الله عزّ وجلّ عشر مرات وصلّى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشر مرات غفر الله عزّ وجلّ له ذنوبه كلها.
ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صلّى يوم الاثنين اثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وآية الكرسي مرة فإذا فرغ من صلاته قرأ اثنتي عشرة مرة قل هو الله أحد واستغفر الله اثنتي عشرة مرة ينادي به يوم القيامة أين فلان بن فلان ليقم فيأخذ ثوابه من الله عزّ وجلّ فأول ما يعطي من الثواب ألف حلة، ويتوج ويقال له ادخل الجنة، فيستقبله مائة ألف ملك مع كل ملك هدية يسعون به حتى يدور على ألف قصر من نور يتلألأ.
ذكر صلاة يوم الثلاثاء
يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صلِّى يوم الثلاثاء عشر ركعات عند انتصاف النهار يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وآية الكرسي مرة وقل هو الله أحد ثلاث مرات لم يكتب عليه خطيئة إلى سبعين يوماً فإن مات إلى سبعين يوماً مات شهيداً وغفر له ذنوبه سبعين سنة.
ذكر صلاة يوم الأربعاء
أبو إدريس الخولاني عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صلى يوم الأربعاء اثنتي عشرة ركعة عند ارتفاع النهار يقرأ فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد ثلاث مرات والمعوذتين ثلاث مرات نادى به ملك عند العرض يا عبد الله استأنف العمل فقد غفر لك ما تقدم من ذنبك ودفع الله عزّ وجلّ عنه عذاب القبر وضيقه وظلمته ودفع عنه شدائد القيامة ورفع له من يومه عمل نبي،(1/53)
ذكر صلاة يوم الخميس
روينا عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صلّى يوم الخميس ما بين الظهر والعصر ركعتين يقرأ في الركعة الأولى فاتحة الكتاب مرة ومائة مرة آية الكرسي وفي الركعة الثانية فاتحة الكتاب مرة ومائة مرة قل هو الله أحد ويصلّي على النبي مائة مرة أعطاه الله عزّ وجلّ ثواب من صام رجب وشعبان ورمضان وكان له من الثواب مثل حاج البيت وكتب له بعدد كل من آمن بالله عزّ وجلّ وتوكل عليه.
ذكر صلاة يوم الجمعة
روينا عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول يوم الجمعة صلاة كلّه ما من عبد مؤمن قام إذا استقلت الشمس وارتفعت قيد رمح أو أكثر من ذلك فتوضأ ثم أسبغ الوضوء فصلى تسبيحة الضحى ركعتين إيماناً واحتساباً كتب الله له مائتي حسنة ومحا عنه مائتي سيئة ومن صلّى أربع ركعات رفع الله تبارك وتعالى له في الجنة أربعمائة درجة ومن صلّى ثماني ركعات رفع الله له في الجنة ثمانمائة درجة وغفر الله له ذنوبه كلها ومن صلّى اثنتي عشرة ركعة كتب الله عزّ وجلّ له ألفاً ومائتي حسنة ومحا عنه ألفاً ومائتي سيئة ورفع له في الجنة ألفاً ومائتي درجة.
أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلّى الصبح يوم الجمعة في جماعة ثم جلس في المسجد يذكر الله سبحانه وتعالى حتى تطلع الشمس كان له في الفردوس الأعلى سبعون درجة بعد ما بين الدرجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة، ومن صلّى صلاة الجمعة في جماعة كان له في الفردوس خمسون درجة حضر الجواد خمسين سنة، ومن صلّى العصر في جماعة فكأنما أعتق ثمانية من ولد إسماعيل كلهم رب بيت، ومن صلّى المغرب في جماعة فكأنما حج حجة مبرورة وعمرة متقبلة.
نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من دخل الجامع يوم الجمعة فصلّى أربع ركعات قبل صلاة الجمعة قرأ في كل ركعة الحمد مرة وقل هو الله أحد خمسين مرة فإنه لم يمت حتى يرى مقعده في الجنة أو يرى له.(1/54)
ذكر صلاة يوم السبت
سعيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلّى يوم السبت أربع ركعات يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وقل يا أيها الكافرون ثلاث مرات، فإذا فرغ وسلم قرأ آية الكرسي، كتب الله له بكل حرف حجة وعمرة ورفع له بكل حرف أجر سنة صيام نهارها وقيام ليلها وأعطاه الله عزّ وجلّ بكل حرف ثواب شهيد وكان تحت ظل عرشه مع النبيين والشهداء.
فضل صلاة الجماعة
أبو كامل عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من صلّى أربعين يوماً في جماعة لا تفوته التكبيرة الأولى مع الإمام كتب الله عزّ وجلّ له براءتين: براءة من النار وبراءة من النفاق.
ذكر ما جاء في صلوات الليل وما دخل فيه من الصلاة بين العشائين
صلاة ليلة الأحد
عن مختار بن فلفل عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من صلّى ليلة الأحد عشرين ركعة قرأ في كل ركعة الحمد لله مرة وقل هو الله أحد خمسين مرة والمعوذتين مرة ثم استغفر الله عزّ وجلّ مائة مرة واستغفر لنفسه ولوالديه مائة مرة وصلى على النبي وتبرأ من حوله وقوته والتجأ إلى حول الله عزّ وجلّ وقوته وقال أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن آدم صفوة اللّّه تبارك وتعالى وفطرته وإبراهيم خليل الله وموسى كليم الله وعيسى روح الله ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبيب الله تبارك وتعالى، كان له من الثواب بعدد من دعا لله عزّ وجلّ ولداً ومن لم يدع لله عزّ وجلّ ولداً وبعثه الله تبارك وتعالى يوم القيامة مع الآمنين وكان حقاً على الله سبحانه وتعالى يوم القيامة أن يدخله الجنة مع النبيين،
فصل صلاة ليلة الاثنين
روينا عن الأعمش عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلّى ليلة الاثنين أربع ركعات قرأ في الركعة الأولى الحمد لله وقل هو الله أحد عشر مرات، وفي الركعة الثانية الحمد لله وقل هو الله أحد عشرين مرة، وفي الركعة الثالثة الحمد مرة وقل هو الله أحد(1/55)
ثلاثين مرة، وفي الركعة الرابعة الحمد مرة وقل هو الله أحد أربعين مرة، ثم تشهد وسلم، وقرأ قل هو الله أحد خمساً وسبعين مرة واستغفر الله لنفسه ولوالديه خمساً وسبعين مرة وصلّى على محمد خمساً وسبعين مرة ثم سأل الله سبحانه وتعالى حاجته كان حقاً على الله عزّ وجلّ أن يؤتيه سؤله ما سأل وهي تسمى صلاة الحاجة.
القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلّى ليلة الاثنين ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وقل هو اللّّه أحد خمس عشرة مرة وقل أعوذ برب الفلق خمس عشرة مرة وقل أعوذ برب الناس خمس عشرة مرة ويقرأ بعد التسليم خمس عشرة مرة آية الكرسي ويستغفر الله سبحانه وتعالى خمس عشرة مرة، جعل الله عزّ وجلّ اسمه في أصحاب الجنة وإن كان من أصحاب النار، وغفر له ذنوب السر وذنوب العلانية، وكتب له بكل آية قرأها حجة وعمرة، وإن مات ما بين الاثنين إلى الاثنين مات شهيداً.
ذكر صلاة ليلة الثلاثاء
في الخبر من صلّى ليلة الثلاثاء اثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وإذا جاء نصر الله خمس عشرة مرة بنى الله له بيتاً في الجنة عرضه وطوله وسع الدنيا سبع مرات.
صلاة ليلة الأربعاء
في الخبر: من صلّى ليلة الأربعاء ركعتين يقرأ في أول ركعة فاتحة الكتاب مرة وقل أعوذ برب الفلق عشرة مرات، وفي الركعة الثانية فاتحة الكتاب مرة وقل أعوذ برب الناس عشر مرات، نزل من كل سماء سبعون ألف ملك يكتبون ثوابه إلى يوم القيامة،
فضل صلاة ليلة الخميس
أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلّى ليلة الخميس ما بين المغرب والعشاء ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وأية الكرسي خمس مرات وقل هو الله أحد خمس مرات والمعوذتين خمس مرات فإذا فرغ من صلاته استغفر الله تبارك وتعالى خمس عشرة مرة وجعل ثوابه لوالديه فقد أدى حقهما وإن كان عاقّاً لهما وأعطاه الله تعالى ما يعطي الصديقين والشهداء.
فضل صلاة ليلة الجمعة
أبو جعفر محمد بن علي عن جابر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من صلّى ليلة الجمعة(1/56)
بين المغرب والعشاء اثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وقل هو اللّّه إحدى عشرة مرة فكأنما عبد اللّّه سبحانه وتعالى اثنتي عشرة سنة صيام نهارها وقيام ليلها، وروينا عن كثير بن سليم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلّى ليلة الجمعة العشاء الآخرة في جماعة وصلّى ركعتي السنة ثم صلّى بعدهما عشر ركعات قرأ في كل ركعة الحمد مرة وقل هو اللّّه أحد مرة والمعوذتين مرة ثم أوتر بثلاث ركعات ونام على جنبه الأيمن ووجهه إلى القبلة فكأنما أحيا ليلة القدر، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أكثروا عليّ من الصلاة في الليلة الغراء والىوم الأزهر يعني ليلة الجمعة ويوم الجمعة.
فضل صلاة ليلة السبت
عن كثير بن شنظير عن أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من صلّى ليلة السبت بين المغرب والعشاء اثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً في الجنة وكأنما تصدق على كل مؤمن ومؤمنة وتبرأ من الىهودية وكان حقاً على الله عز وجل أن يغفر له.
ذكر فضل الصلاة بين العشاءين وما يختص به ذلك الوقت في كل ليلة
روينا عن سليمان التيمي أن رجلاً حدثه قال: قيل لعبيد مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر بالصلاة غير المكتوبة؟ قال: ما بين المغرب والعشاء.
أبو صخر سمع محمد بن المنكدر يحدث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من صلّى ما بين المغرب والعشاء فإنها من صلاة الأوّابين.
عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: ما أتيت عبد الله بن مسعود في تلك الساعة إلا وجدته يصلّي فقلت له في ذلك فقال نعم ساعة الغفلة يعني بين المغرب والعشاء، وسئل مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي شيء كان يصنع النبي لله بين المغرب والعشاء إذا دخل منزله؟ قال: يصلّي.
ثابت البناني قال: كان أنس بن مالك يصلّي بين المغرب والعشاء ويقول هي ناشئة الليل حدثنا عن فضيل بن عياض عن أبان بن أبي عياش قال: سألت امرأة أنس بن مالك فقالت إني أرقد قبل العشاء فنهاها وقال: نزلت هذه الآية فيما بينهما (تَتَجَافَى(1/57)
جُنُوبُهُم عن المَضَاجعِ) السجدة: 16.
حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: قلت لأبي سليمان الداراني: أصوم النهار وأقعد تعشى بين المغرب والعشاء أحب إليك أو أفطر النهار وأحيي ما بينهما؟ فقال: إن جمعتهما فهو أفضل، قلت: فإن لم يتيسر لي، قال: فافطر بالنهار وصلِّ بين المغرب والعشاء.
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أفضل الصوات عند الله عز وجل صلاة المغرب لم يحطها عن مسافر ولا مقيم فتح بها صلاة الليل وختم بها صلاة النهار، فمن صلّى المغرب وصلّى بعدها ركعتين بنى الله له قصرين في الجنة - لا أدري من ذهب أو فضة - ومن صلّى بعدها أربع ركعات غفر الله له ذنوب عشرين سنة أو قال أربعين سنة.
أبو سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلّى ست ركعات بعد المغرب عدلت له عبادة سنة أو كأنه أحيا ليلة القدر.
سعيد بن جبير عن ثوبان قال: قال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من عكف نفسه ما بين المغرب والعشاء في مسجد جماعة لم يتكلّم إلاّ بصلاة أو قرآن كان حقًّا على اللَّه سبحانه وتعالى أن يبني له قصرين في الجنة مسيرة كل قصر منهما مائة عام ويغرس له بينهما غراساً لو طافه أهل الدنيا لوسعهم.
محمد بن الحجاج سمع عبد الكريم بن الحرث يحدث أن رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من ركع عشر ركعات ما بين المغرب والعشاء بني له قصر في الجنة، فقال عمر: إذاً تكثر قصورنا يا رسول اللَّه، قال: اللَّه أكبر وأفضل أو قال وأطيب.
أبو عائشة السعدي وأبو حفص العوفي عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلّى المغرب في جماعة ثم صلّى بعدها ركعتين ولم يتكلم بشيء فيما بين ذلك من أمر الدنيا يقرأ في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب وعشر آيات من أول البقرة وآيتين من وسطها وهي: (وَإلُهكُمْ إلهٌ وَاحِدُ لاَ إلهَ إلاَّ هوَ الرحَّمْنُ الرَّحيمُ) البقرة: 163، إلى آخر الآيتين (قُلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌُ) الإخلاص: 1، خمس عشرة مرة ثم يركع ويسجد فإذا قام إلى الركعة الثانية قرأ بفاتحة الكتاب وآية الكرسي وآيتين بعدها إلى قوله تعالى: (أُولئِكَ(1/58)
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَاِلِدونََ) البقرة: 257، وثلاث آيات من آخر البقرة من قوله عزّ وجلّ: (مَا في السَّموَاتِ) البقرة: 284، إلى آخرها (وَقُلْ هُو اللَّه أَحَدٌ) الإخلاص: 1، خمس عشرة مرة بني له في جنات عدن ألف مدينة من الدر والىاقوت في كل مدينة ألف قصر في كل قصر ألف دار في كل دار ألف حجرة في كل حجرة ألف صفة في كل صفة منها ألف خيمة في كل خيمة ألف سرير من أصناف الجواهر على كل سرير ألف فراش بطائنها من إستبرق وظواهرها من نور منضد وألف مرفقة من هذا الطرف من السرير وألف مرفقة من الطرف الآخر فوق تلك الفرش زوجة من الحور العين لا توصف بشيء إلا زادت عليه جمالاً وكمالاً لا يراها ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا افتتن بحسنها قد ملأ مأكمتاها مابين طرفي السرير على كل زوجة منهن ألف حلة لا تواري حلة حلة ولا تواري الحلل كلها الجلد يرى بعضها من تحت بعض كما يرى السلك من الىاقوتة وكما يرى الشراب الأحمر من الزجاجة البيضاء لكل زوجة منهن مائة ألف وصيف ومائة ألف جارية ومائة ألف قهرمان على قصورها وضياعها هذا لها خاصة سوى خدم زوجها في كل خيمة منهن نهر من التسنيم ونهر من الكوثر وعين من الكافور وعين من الزنجبيل وعين من السلسبيل وغصن من شجرة طوبى وغصن من سدرة المنتهى في كل خيمة ألف مائدة من الدر والىاقوت أدنى مائدة منها مثل استدارة الدنيا مرتين على كل مائدة منها ألف صحفة صحاف من ذهب مكللة بالدر والجوهر في كل صحفة منها مائة ألف لون من طعام مختلف طعمه ولونه وريحه يعطي اللَّه سبحانه وتعالى وليه المؤمن من القوّة ما يأتي على تلك الأطعمة ومثلها من الأشربة ويأتي على أولئك الأزواج كلهن في مقدار يوم من أيام الدنيا فسبحان الملك الوهاب القادر على مايشاء ربّ العالمين.
عبد الرحمن بن منصور عن سعد بن سعيد عن كرز بن وبرة قال: وكان وبرة من الأبدال قال: قلت للخضر عليه السلام: علمني شيئاً أعمله في ليلي، فقال: إذا صليت المغرب فقم إلى صلاة العشاء الآخرة مصلياً من غير أن تكلم أحداً وأقبل على صلاتك التي أنت فيها وسلم في كل ركعتين واقرأ في ركعة بفاتحة الكتاب مرة وقل هو اللَّه أحد سبع مرات، فإذا فرغت في صلاتك انصرف إلى منزلك ولا تكلم أحداً وصلِّ ركعتين واقرأ بفاتحة الكتاب مرة وقل هو اللَّه أحد سبع مرات في كل ركعة ثم اسجد بعد تسليمك واستغفر اللَّه سبحانه وتعالى سبع مرات وصلّ على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبع مرات وقل سبحان اللَّه والحمد ولا إله إلا اللَّه والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلا باللَّه العلي العظيم سبع مرات ثم ارفع رأسك من السجود واستو جالساً وارفع يديك وقل: يا حيّ، يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا إله الأوّلين والآخرين، يا رحمن الدنيا والآخرة، ورحيمهما،(1/59)
يا ربّ، يا ربّ، يا ربّ، يا اللَّه، يا اللَّه، يااللَّه، ثم قم وأنت رافع يديك وادع بهذا الدعاء ثم نم حيث شئت مستقبل القبلة على يمينك وصلّ على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأدم الصلاة عليه حتى يذهب بك النوم، فقلت له: أحب أن تعلمني ممّن سمعت هذا الدعاء، فقال: إني حضرت محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث علم هذا الدعاء وأوحي إليه وكنت عنده وكان ذلك بمحضر مني فتعلمته ممّن علمه إياه ويقال إن هذه الصلاة وهذا الدعاء من داوم عليه بحسن يقين وصدق نية رأى رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامه قبل أن يخرج من الدنيا وقد فعل ذلك بعض الناس فرأى أنه دخل الجنة ورأى فيها الأنبياء ورأى فيها رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكلمه وعلمه ولهذا فضائل كثيرة اختصرناها للإيجاز.(1/60)
الفصل الثاني عشر
في ذكر الوتر وفضل الصلاة بالليل
عن مبارك بن عوف الأحمسي عن عمر بن الخطاب قال: إن الأكياس الذين يوترون أول الليل وإن الأقوياء يوترون آخر الليل، وهو أفضل، وقد يروى في خبر أن رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل أبا بكر رضي اللَّه عنه متى توتر؟ فقال: من أول الليل قبل أن أنام، وقال لعمر رضي اللَّه عنه متى توتر؟ فقال: من آخر الليل، فقال لأبي بكر حذر هذا وقال لعمر قوي هذا، وفي بعض الأخبار أنه قال لأبي بكر مثلك كالذي قال أحرزت نهبي وابتغي النوافلا وقال لعمر إنك لقوي مكين.
وروينا عن عثمان رضي اللَّه عنه أنه قال: أما أنا فأوتر أول الليل فإذا استيقظت صليت ركعة شفعت بها وتري فما شبهتهما إلا كالغربية من الإبل ضممتها إلى أخواتها ثم أوترت من آخر صلاتي والمشهورة عنه من فعله أنه كان يحيي الليل كله بركعة واحدة يختم فيها القرآن وهي وتره.
وروينا عن علي عليه السلام أنه قال: الوتر على ثلاثة أنحاء إن شئت أوترت أول الليل ثم صلّيت ركعتين، ركعتين، وإن شئت أو ترت بركعة، فإذا استيقظت شفعت إليها أخرى، ثم أو ترت من آخر الليل، وأن شئت أخرت الوتر حتى يكون آخر صلاتك، وفي حديث ابن عمر صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بركعة، وهذا أحب الوجوه إلي، وقال مجاهد قال عبد اللَّه بن عمر: من صلّى أربعاً بعد العشاء كن كعدلهن من ليلة القدر، وقال حصين: فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال: كان عبد اللَّه بن مسعود يكره أن تتبع كل صلاة بمثلها، وكانوا يصلون العشاء ثم يصلون ركعتين ثم أربعاً، فمن بدا له أن يوتر أوتر ومن أراد أن ينام نام، وقال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أوتروا يا أهل القرآن من كل الليل، وقالت عائشة رضي الله عنها: قد أوتر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أوله وأوسطه وانتهى وتره إلى السحر، وفي الخبر كان رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوتر عند الأذان ويصلي ركعتين عند الإقامة(1/61)
وسأل رجل علياً عليه السلام عن وقت الوتر فسكت عنه ثم خرج إلىهم عند الأذان لصلاة الفجر فقال أين السائل عن الوتر هذا وقت وتر حسن.
أبو أمامة عن عمرو بن عنبسة قال: سمعت رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن أقرب ما يكون الرب عزّ وجلّ من العبد جوف الليل الأخير فإن استطعت أن تكون ممّن يذكر اللَّه سبحانه وتعالى في تلك الساعة فكن.
أبو ذر الغفاري قال: قلت يا رسول اللَّه أي الليل الصلاة فيه أفضل؟ قال: نصف الليل الغابر يعني الباقي، وسأل رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل عليه السلام أي الليل أسمع؟ فقال: إن العرش يهتز من السحر، وقد روي في الخبر أن في الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل اللَّه خيراً إلا أعطاه، وروي في خبر آخر يصلّي أو يدعو إلا استجاب له وهي في كل ليلة، ويقال إن في الليل وقتاً لا بدّ أن ينام فيه أو تغفل كل ذي عين إلا الحي الذي لا يموت فلعلها هذه الساعة، وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا مضى نصف الليل، وفي لفظ آخر إذا بقي ثلث الليل الأخير نزل الجبار سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا فقال لا يسأل عن عبادي غيري هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من داع فأستجيب له، هل من سائل فأعطيه، كذلك حتى يطلع الفجر، وفي حديث عمرو بن عنبسة عليك بصلاة آخر الليل فإنها مشهودة محضورة يعني يحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار.(1/62)
الفصل الثالث عشر
كتاب جامع ما يستحب أن يقول العبد إذا استيقظ من نومه
للتهجد وفي يقظته عند الصباح
ليقل إذا استيقظ من منامه بكرة أصبحنا وأصبح: الملك للَّه، والعظمة للَّه، والسلطان للَّه، والبهاء للَّه، والقدرة للَّه، والعزة للَّه، والتسبيح للَّه، أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، وعلى دين نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفاً، وما كان من المشركين، الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور، اللهم إنا نسألك أن تبعثنا في يومنا هذا إلى كل خير، ونعوذ بك أن نجترح فيه سوءاً أو نجره إلى مسلم، فإنك قلت: وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى، اللهم فالق الإصباح، وجاعل الليل سكناً، والشمس والقمر حسباناً، أسألك خير هذا اليوم وخير ما فيه، وأعوذ بك من شرّه وشرّ ما فيه، بسم اللَّه، ما شاء اللَّه، لا قوّة إلا باللَّه، ما شاء اللَّه، كل نعمة من اللَّه، ما شاء اللَّه، الخير كله بيد اللَّه، بسم اللَّه، لا يصرف السوء إلا اللَّه، رضيت باللَّه عزّ وجلّ، رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا، وإليك المصير، وليقرأ المعوذتين فإذا أمسى قال مثل ذلك كله إلا أنه يقول: أمسينا، وأمسى الملك للَّه، عزّ وجلّ، أسألك خير هذه الليلة، ولا يدع أن يقول في كل ليلة: بسم اللَّه الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، أعوذ بكلمات اللَّه التامات، وأسمائه كلها من شر ما ذرأ وبرأ، ومن شر كل ذي شر، ومن شر كل دابة، أنت آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم وإن يقلّ دخوله من الخلاء عند وقت السحر كان أفضل، كيلا يشغله عن الذكر، يجعل ذلك في آخر النهار أو من أول الليل فقد فعل ذلك كثير من الصالحين، وهو حسن، إلا أن دخول الخلاء عند الصباح أصلح للجسد من جهة الطب وأنظف للطهارة، سيما لمن يأكل بالنهار.
ذكر ما يستحب من القول
إذا أخذ العبد مضجعه للنوم ليقل باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه، اللهم(1/63)
إن أمسكت نفسي فاغفر لها وارحمها وإن أرسلتها فاعصمها واحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين.
وعلم رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البراء بن عازب أن يقول إذا أخذ مضجعه ليلاً: اللهم إني وجهت وجهي إليك وفوّضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رهبةً ورغبةً إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت وبرسولك الذي أرسلت.
وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول عند النوم: اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك وأنه أمر أن يقال الحمد لله الذي علا فقهر، الحمد لله الذي بطن فجبر، الحمد لله الذي ملك فقدر، الحمد لله الذي هو يحيي الموتى، وهو على كل شيء قدير، وليقل بعد ذلك: اللهم إني أسألك الراحة بعد الموت، والعفوعند الحساب، اللهم إني أعوذ بك من غضبك وسوء عقابك وشر عبادك وشر الشياطين وشركهم، وليقرأ خمساً من أول سورة البقرة وثلاثاً من آخرها وآية الكرسي والآيتين اللتين بعدها، وليقرأ قوله عزّ وجلّ: (وَإلهُكُمْ إلهُ وَاحِدٌ لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحيمُ) البقرة: 163، والآية التي بعدها إلى قوله تعالى: (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) البقرة: 164، ويقال من قرأ هذه الآية عند منامه حفظ عليه القرآن فلم ينسه ولا يدع أن يقرأ آخر بني إسرائيل الآيتين: (قل ادعوا اللَّه أو ادعوا الرحمن) الإسراء: 110، وهذه الآية من سورة الأعراف: (إنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الذِي خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضَ فِي سِتَّةِ أيَّامٍ) الأعراف: 54، فإنه يدخل في شعاره ملك يوكل بحفظه ويستغفر له وليقرأ الخمس الآيات من أوّل سورة الحديد والثلاث من آخر سورة الحشر، وقل: يا أيها الكافرون وقل: هو الله أحد والمعوذتين، وينفث بهن في يديه ويمسح بهما وجهه وسائر جسده.
كذلك روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قوله وفعله وليقرأ عشراً من أوّل الكهف وعشراً من آخرها وهذه الآي لقيام الليل وأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقراءة: قل يا أيها الكافرون عند النوم، وكان عليه السلام يقول: ما أرى أن رجلاً مستكمل عقله ينام قبل أن يقرأ الآيتين من سورة البقرة آمن الرسول، وليقل: اللهم أيقظني في أحب الساعات إليك واستعملني بأحب الأعمال لديك التي تقربني إليك زلفى وتبعدني من سخطك بعداً أسألك فتعطيني وأستغفرك فتغفر لي وأدعوك فتستجيب لي، اللهم لا تؤمنني مكرك ولا تولني غيرك ولا ترفع عني سترك ولا تنسني ذكرك ولا تجعلني من الغافلين، يقال: من قال هذه الكلمات عند نومه أهبط الله سبحانه وتعالى ثلاثة أملاك يوقظونه للصلاة فإن صلّى ودعا أمنوا على دعائه وإن لم يقم تعبدت الأملاك في الهواء وكتب له ثواب عبادتهم، ثم ليسبّح ثلاثاً وثلاثين مرة، وليحمد ثلاثاً وثلاثين مرة، وليكبر ثلاثاً وثلاثين مرة، وإن أحب ربعها خمساً وعشرين مرة، فقال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر خمساً وعشرين مرة، فهن يجمعن له مائة كلمة وهو أخف عليه للمداومة.(1/64)
وروينا عن مطرف عن الشعبي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخر ما يقول حين ينام وهو واضع خده على يده الىمنى وهو يرى أنه مقبوض في تلك الليلة: اللهم ربّ السموات السبع، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، منزل التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، فالق الحب والنوى، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، اللهم أنت الأوّل فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر، وليسبّح ثلاثاً وثلاثين مرة وليحمد ثلاثاً وثلاثين مرة وليكبر أربعاً وثلاثين مرة وإن شاعر بها خمساً وعشرين مرة وزاد فيها التهليل فهن يجمعن له مائة كلمة وهو أخف عليه للمداومة، وقد أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك وندب إليه في إدبار الصلوات الخمس وعند النوم فهذا جامع ما يستحب من قراءة الآي والدعاء عند النوم.
ذكر هيئة العبد عند النوم وأهبته للمضجع
ومعنى الإعتبار بذلك لذوي الأبصار يستحب للعبد أن ينام على طهارة سابعة، وإلا مسح أعضاءه بالماء مسحاً، وقد كانوا يستحبون السواك عند النوم، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعله، وكان بعض السلف يجعل عند رأسه سواكه وطهوره، فإذا انتبه من الليل استاك ومسح أعضاءه بالماء مسحاً، وكانوا يذكرون الله عزّ وجلّ بالتلاوة والتسبيح في تقلبهم ويعدون هذا يعدل قيام الليل، وقد روي هذا الخبر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن غيره، وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحوه وأنه كان يستاك في ليلة مراراً عند كل قومة من نومه فليعد العبد طهوره وسواكه عند رأسه وينوي قيام الليل فأي وقت استيقظ توضأ وصلّى أو قعد فقرأ أو دعا وذكر الله عزّ وجلّ واستغفره أو تفكر في آلائه وعظمته ومعاني قدرته ففي أي وجه أخذ من هذه المعاني فهو ذكر، وقد استعمل بذلك وفيه قربة إلى الله عزّ وجلّ، وهو فضل من الله تعالى ورحمته عليه، ولا ينبغي للعبد أن يبيت وله شيء يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عنده فإنه لا يأمن القبض بالوفاة، وقد ندب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ذلك في قوله: لا ينبغي لعبد أن ينام ليلتين وله شيء يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عنده، ويقال: من مات عن غير وصية لم يؤذن في الكلام في البرزخ إلى يوم القيامة، تتزاور الأموات ويتحدثون وهو لا يتكلم فيما بينهم إلى يوم القيامة فيقول بعضهم لبعض: هذا المسكين مات عن غير وصية فيكون ذلك حسرة عليه بينهم، وموت الفجأة تخفيف ومستحب للمؤمن الفقير للثواب الذي حلب لا مال له ولا دين عليه فأما المثقل بالدين والمخلط في الدين ومن له مال أو هو مصر على مطل فإن موت الفجأة لهؤلاء عقوبة ومكروه، ولا ينبغي للعبد أن يبيت إلا تائباً من كل ذنب، سليم القلب لجميع المسلمين، لا يحدث نفسه بظلم أحد، ولا يعقد على الخطيئة إن استيقظ، وقد جاء في الخبر: من أوى إلى فراشه لا ينوي ظلم أحد ولا يحقد على أحد غفر له ما اجترم(1/65)
وليستقبل في نومه القبلة واستقبال القبلة، على ضربين إن كان مستلقياً فاستقباله القبلة أن يكون وجهه إليها مع أخمص قدميه كحال الميت المسجى وإن كان نائماً على جنب فاستقبال القبلة أن يكون وجهه إليها مع شقه الأيمن كهيئة الملحد في قبره فسيصير إليه عن قريب وليذكر بنومه على هذين الحالين عند موته وحين اضطجاعه في قبره، وقد قال الله عزّ وجلّ: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كفَاتاً) (أَحيَاءً وَأَمََوَاتاً) المرسلات: 25 - 26، في أحد الوجهين وهو مذهب أهل التفسير أي يكفتهم ويجمعهم أحياء على ظهرها وأمواتاً في بطنها، وقد جعل الله سبحانه وتعالى النوم من آياته الدالة عليه لأهل السمع منه وهو سمع اليقين وقرنه بالابتغاء من فضله فقال عزّ وجلّ: (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِالَّليْلِ وَالَّنهَارِ وَاْبِتغَاؤُكُمْ مِنْ فَضِلْهِ إنَّ في ذِلكَ لآياتٍ لَقوْمٍ يَسْمَعُون) الروم: 23، وكان فقراء أهل الصفة وبعض زهاد التابعين إذا رقدوا لا يجعلون بينهم وبين الأرض شيئاً، كان أحدهم يباشر التراب بجلده ويطرح ثوبه فوقه ويقول: منها خلقناكم وفيها نعيدكم، كأنهم كرهوا الترفع عليها والوقاية منها يجدون ذلك أرق لقلوبهم وأبلغ في تواضعهم، ومثل النوم عند أهل الاعتبار مثل البرزخ هو بين الدنيا والآخرة كذلك النوم بين الحياة والموت فإذا كشف حجاب النوم ظهرت الدنيا بالحكمة وكذلك إذا كشف الغطاء ظهرت الآخرة بالقدرة فصارت الدنيا كلاأحلام في النوم وقد قال الله عزّ وجلّ: (وَهُوَ الّذي يَتَوَفّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيعْلَمُ مَاجَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فيهِ) الانعام: 60 وكان بعضهم يقول عجباً لمن يعصي الله عزّ وجلّ ثم ينام بعد ذلك.
وذكر بعض العلماء عن الله عزّ وجلّ: إن كنتم تعصوني فاخرجوا من بساطي ولا تناموا في قبضتي، وقال لقمان لابنه: يا بني إن كنت تشك في الموت فلا تنم، فكما أنك تنام فكذلك تموت، وإن كنت تشك في البعث فإذا نمت فلا تنتبه، فكما أنك تنتبه بعد نومك فكذلك تبعث بعد موتك، فيلتذكر العبد عند نومه حين موته وليعلم أن الله تعالى يكون له يعد موته كما كان العبد له قبل نومه فلينظر على أي حال نام وعلى أي هم توفاه الله عليه وليتذكر بانتباهه البعث فإن العبد يبعث على ما مات عليه في الدنيا فيبعث بهمه ويحشر مع محبوبه كما ينتبه النائم عن همه إلى محبوبه الذي نام عنه، وفي الخبر أن المرء مع من أحب وله ما احتسب، وروي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من مات على مرتبة من المراتب بعث عليها يوم القيامة، وروينا عن كعب الأحبار قال: إذا نمت فاضطجع على شقك الأيمن واستقبل القبلة بوجهك فإنها وفاة.
بيان آخر من الاعتبار لأهل التبصرة والتذكار
وليعلم العبد أن الله عزّ وجلّ يكون له بعد بعثه من قبره كما كان العبد له بعد بعثه من نومه، فلينظر إلى أي حال يبعث، وإن كان العبد لنظر مولاه مكرماً ولشأنه معظماً ولحرماته معظماً وإلى محبوبه ومرضاته ومسرته من النعيم المقيم مسرعاً كان الله تعالى في(1/66)
آخرته لوجهه مكرماً، وان كان العبد في حق مولاه متهاوناً وبأمره مستخفاً ولشعائره مستصغراً كان الله تعالى له مهيناً وبشأنه متهاوناً، قال الله تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمى وَالْبَصُير) فاطر: 19، والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء، ثم قال: (قَليلاً مَا تَذَكَّرُونَ) الأعراف: 3، موبخاً لهم بذلك، وقال في مثله: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمينَ كالْمُجْرِمينَ) القلم: 35، ثم قال: (مَا لَكمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) القلم: 36، ذاماً عائباً لحكمهم؟ ثم أخبر بحكمه فيهم فقال: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) الجاثية: 12، هكذا تقدير الكلام وهو من المقدم والمؤخر، فرفع حسناتهم وأخبر بسوء حكمهم ثم ذكر حكمهم عنده في المحيا والممات فقال: (سَواءً مَحْيَاهُمْ وَمَماتُهُم) الجاثية: 21، أي كما كانوا في الحياة كذلك يكونون بعد الوفاة، ثم عقب ذلك بذكر عدله في خلقه فقال: (وَخَلَقَ اللهُ السَّموات والأرْضَ بِالحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الجاثية: 22 فكان هذا فصل الخطاب وتذكار أولي الألباب، وقال في معناه وأمر بتدبر كلامه وأمر بتذكر العقلاء عن خطابه فقال: (كِتَابٌ أنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِه وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الألْبَابَ) ص: 29، هل يتدبرون فيجدون أنا نجعل المفسدين كالمصلحين أو نجعل المتقين كالفاسقين وهو قوله تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلْوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدينَ في الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتقَّينَ كَالْفُجّارِ) ص: 28، فالتدبر التفهم، والتذكر التقوى والعمل، وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحب أن يعلم منزلته عند الله عزّ وجلّ فلينظر كيف منزلة الله تعالى من قلبه فإن الله عزّ وجلّ ينزل العبد عنده بحيث نزله العبد من نفسه، فإذا نام العبد على طهارة وذكر وعن مثل هذه المشاهدة والفكر فإن مضطجعه يكون مسجداً وإنه يكتب مصلياً حتى يستيقظ ويدخل في شعاره ملك فإن تحرك في نومه فذكر الله عزّ وجلّ دعا له الملك واستغفر له، وفي الخبر: إذا نام العبد على طهارة عرج بروحه إلى العرش فكانت رؤياه صادقة، وإن لم ينم على طهارة قصرت روحه عن البلوغ فتلك المنامات أضغاث أحلام لا تصدق، فإن غلبه النوم حتى يصبح حسب له قيام ليلة وكان نومه عليه صدقة ومن كان هذا وصفه في منامه يسبق كثيراً من العباد في قيامهم عن شهود غفلة وسهو. وقد روينا في خبر نوم العالم عبادة ونفسه تسبيح.
ذكر ما يستحب من القول عند القيام إلى التهجد
فإذا قام من الليل متهجداً فليقل: الحمد لله الذي أحياني بعد إذ توفاني وإليه النشور، وليقرأ العشر الأواخر من سورة آل عمران، وليستك وليتوضأ ويقول: سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأسألك التوبة فاغفر لي وتب علي إنك أنت التوّاب الرحيم، اللهم اجعلني من التوّابين واجعلني من المتطهرين واجعلني صبوراً شكوراً(1/67)
واجعلني أذكرك كثيراً وأسبحك بكرة وأصيلاً، ثم يرفع رأسه إلى السماء فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، أنا عبدك ابن عبدك، ناصيتي بيدك، جارِ فِي حكمك، عدل فيّ قضاؤك، هذه يدي بما كسبت، هذه نفسي بما اجترحت، لا إله إلاّ إنت سبحانك إني كنت من الظالمين عملت سوءًا وظلمت نفسي فاغفر لي ذنبي إنك أنت ربّي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فإذا قام إلى الصلاة متوجهاً فليقل الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراًً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، ثم ليسبح عشراً وليحمد عشراً وليهلل عشراً وليكبر عشراً وليقل الله أكبر ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والجلال والعظمة والقدرة، وليقل هذه الكلمات فإنها مأثورة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قيامه للتهجد: اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد، أنت بهاء السموات والأرض، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت زين السموات والأرض، ولك الحمد أنت قيام السموات والأرض، ومن فيهن ومن عليهن، أنت الحق، ومنك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر اللهم يا ربّ لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، اللهم آت نفسي تقواها، اللهم زكها، أنت خير من زكاها، أنت وليها، ومولاها، اللهم اهدني لأحسن الأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت، أسألك مسألة البائس المسكين وأدعوك دعاء المفتقر الذليل فلا تجعلني بدعائك رب شقياً، وكن بي رؤوفاً رحيماً، يا خير المسؤولين، ويا أكرم المعطين، ويستحب أن يفتح صلاته بركعتين خفيفتين، ويستحب له أن لا يأكل شيئاً ولا يشرب ماء حتى يقضي همته من صلاته فإن العبد إذا استيقظ من نومه يكون جام القلب فارغ الهم، فإذا أكل وشرب تغير قلبه عن هيئته فليغيب أكله إلاّ أن يخاف أن يفجأه الفجر إن لم يتسحر أو يشرب فليبدأ حينئذ بذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(1/68)
الفصل الرابع عشر
في ذكر تقسيم قيام الليل ونومه
ووصف القائمين والمتهجدين
قد قرن الله سبحانه وتعالى قوّام الليل برسوله المصطفى وجمعهم معه في شكر المعاملة وحسن الجزاء فقال تعالى: (إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفُهُ وَثُلُثَهُ وَطَاِئفَةٌ مِنَ الَّذينَ مَعَكَ) المزمل: 20، وقد أخبر الله سبحانه أن قراءة الليل أشدّ وطئًا للقلب وأقوم قيلاً للحفظ والذكر أي يواطئ القلب اللسان بالفهم والحفظ، وقدسمى الله تعالى أهل الليل علماء وجعلهم أهل الخوف والرجاء وأخفى لهم قرة العين من الجزاء فقال: (أَمَّنْ هوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِهِ) الزمر: 9، ثم قال: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذينَ يَعْلَمُونَ وَالذَّينَ لاَ يْعْلَمونَ) الزمر: 9، وهذا من المحذوف ضده لدلالة الكلام عليه والمعنى أمّن هو هكذا عالم قانت مطيع لا يستوي مع من هو غافل نائم ليله أجمع فهو غير عالم بما يحذر وبما يرجو من ربه عزّ وجلّ، وقال عزّ وجلّ في وصفهم في الدنيا، ووصف ما أعد لهم في الآخرة والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً: (تَتَجَافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) السجدة: 16، أي تنبو عن الفراش فِلا تطمئن لما فيها من خوف الوعيد ورجاء الموعود، ثم قال: (فَلا تَعْلَمْ نَفْسٌُ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةٍ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلونَ) السجدة: 17، قيل: كان عملهم قيام الليل وقيل بل كانوا أهل خوف ورجاء، وهذان من أعمال القلوب عن مشاهدة الغيوب فلما أخفوا له الإخلاص بأعمال السرائر أخفي لهم من الجزاء نفيس الذخائر ولا تقر أعين هؤلاء المحبين إلا بوجهه كما لم يعملوا إلا لوجه الله تعالى، وقال بعض العلماء في قوله تعالى: (وَاسْتَعينُوا بِالصبَْرِ وَالصَّلاةِ) البقرة: 45 قال: هي صلاة الليل استعينوا بها على مجاهدة النفس ومصابرة العدوّ، ثم قال: (وَإنَّهَا لَكَبيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعينَ) البقرة: 45، يعني الخائفين المتواضعين لا تثقل عليهم ولا تجفو بل تخف وتحلو، وفي الخبر: قيل يارسول الله إن فلاناً يصلي من الليل فإذا أصبح سرق فقال سينهاه ما تقول، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم الرجل عبد الله بن عمر لو كان يصلِي من الليل قال فما فاتته بعد ذلك ليلة حتى يقوم فيها، وفي الخبر: عليكم بقيام الليل فإنه مرضاة لربكم(1/69)
ومكفر سيّئاتكم وهو دأب الصالحين قبلكم ومنهاة عن الإثم وملقاة للوزر ومذهبة لكيد الشيطان ومطردة للداء عن الجسد، وقد جعل الله سبحانه قيام الليل من أوصاف الصالحين بقَوله: (يَتْلُونَ آياتِ الله آناءَ الَّلَيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) آل عمران: 113، إلى قوله: (وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّاِلحينَ) آل عمران: 114 فيستحب من قيام الليل ثلثاه وأقل الاستحباب من القيام سدسه، لأنا روينا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقم ليلة قط حتى أصبح، بل كان ينام منها، ولم ينم ليلة حتى يصبح بل كان يقوم منها، ويقال إن الصلاة أوّل الليل للمتهجدين، وقيام أوسطه للقانتين، وقيام آخره للمصلين، والقيام من الفجر للغافلين، وحدثنا عن عبد اللّّه بن عمر قال: حدثنا يوسف بن مهران قال: بلغني أن تحت العرش ملكاً في صورة ديك براثنه من لؤلؤ وصئصئتاه من زبرجد أخضر فإذا مضى نصف الليل الأوّل ضرب بجناحه وزقى، وقال: ليقم القائمون، فإذا مضى نصف الليل ضرب بجناحه وزقى وقال: ليقم المتهجدون، فإذا مضى ثلث الليل ضرب بجناحه وزقى وقال: ليقم المصلون، فإذا طلع الفجر ضرب بجناحه وزقى، وقال: ليقم الغافلون وعليهم أوزارهم وقال بعض العلماء أهل الليل على ثلاثة أصناف قوم قطعهم الليل فكان هؤلاء المريدون ذوو الأوراد والأجزاء كابدوا الليل فغلبهم قال وقوم قطعوا الليل فكان هؤلاء العالمون الذين صبروا وصابروا فغلبوه وقال قوم قطع بهم الليل فكان هؤلاء المحبون والعلماء أهل الفكر والمحادثة وأهل الأنس والمجالسة وأهل الذكر والمناجاة وأهل التملّق والملاقاة نغص عليهم الليل حالهم وقصر النعيم عليهم ليلهم ورفع الحبيب عنهم نومهم وخفف الفهم عليهم قيامهم وأذهب مزيد الوصل عنهم مللهم وأوصل العتاب لهم سهرهم.
وقيل لبعض أهل الليل كيف أنت والليل؟ فقال: ما رعيته قط يريني وجهه ثم ينصرف وما تأملته، وقال آخر: أنا والليل فرسا رهان مرة يسبقني إلى الفجر ومرة يقطعني عن الفكر، وقيل لبعضهم: كيف الليل عليك؟ فقال: هو ساعة أنا فيها بين حالين، أفرح بظلمته إذا جاء وأغتم بفجره إذا طلع ما تم فرحي به قط، ولا اشتفيت منه قط وقيل لبعض المحبين: كيف الليل عليك؟ فقال: والله ما أدري كيف أنا فيه إلا أنا بين نظرة ووقفة يقبل بظلامه فأتدرعه ثم يسفر قبل أن أتلبسه ثم أنشد:
لم أستتم عناقه لقدومه ... حتى بدا تسليمه لوداع
وقال بعضهم:
وزارني طيفك حتى إذا ... أراد أن يمضي تعلّقت به
فليت ليلي لم يزل سرمداً ... والصبح لم أنظر إلى كوكبه(1/70)
وشكا بعض المريدين إلى أستاذه طول سهره بالليل وأن السهر قد أضر به ثم قال: أخبرني بشيء أجتلب به النوم، فقال له أستاذه: يا بني أن لله نفحات في الليل والنهار تصيب القلوب المتيقظة وتخطئ بالقلوب النائمة فتعرض لتلك النفحات ففيها الخيرة، فقال: يا أستاذ تركتني لا أنام بالليل ولا بالنهار، وتذاكر قوم قصر الليل عليهم فقال بعضهم: أما أنا فإن الليل يزورني قائماً ثم ينصرف قبل أن جلس، وقال علي بن بكار منذ أربعين سنة ما أحزنني شيء إلا طلوع الفجر وقال الفضيل بن عياض: إذا غربت الشمس فرحت بدخول الظلام لخلوتي فيه بربي، فإذا طلع الفجر حزنت لدخول الناس علي، وقال أبو سليمان: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، وقال أيضاً: لو عوض الله عزّ وجلّ أهل الليل من ثواب أعمالهم ما يجدونه في قلوبهم من اللذة لكان ذلك أكبر من أعمالهم وقال بعض العلماء: ليس في الدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملّق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة، وقال بعضهم: قيام الليل والتملّق للحبيب والمناجاة للقريب في الدنيا ليس من الدنيا هو من الجنة أظهر لأهل الله تعالى في الدنيا، لا يعرفه إلا هم، ولا يجده سواهم روحاً لقلوبهم، وقال عتبة الغلام: كابدت الليل عشرين سنة، ثم تنعمت به عشرين سنة وقال يوسف بن أسباط: قيام ليلة أسهل علي من عمل قفة وكان يعمل كل يوم عشر قفاف، وقال غيره: ما رأيت أعجب من الليل إذا اضطربت تحته غلبك، وإن ثبت له لم يقف، وبكى عامر بن عبد الله حين حضرته الوفاة فقيل له ذلك فقال: والله ما أبكي حباً للبقاء ولكن ذكرت ظمأ الهواجر في الصيف وقيام الليل في الشتاء، وقال ابن المنكدر: ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، والصلاة في جماعة، وقال بعض العارفين: إن الله عزّ وجلّ ينظر بالأسحار إلى قلوب المتيقظين فيملؤها أنواراً فترد الفوائد على قلوبهم فتستنير ثم تنشر من قلوبهم العوافي إلى قلوب الغافلين.
وقال بعض العلماء: إن الله عزّ وجلّ ينظر إلى الجنان عند السحر نظرة فتشرق وتضيء وتهتز وتربو وتزداد جمالاً وحسناً وطيباً ألف ألف ضعف في جميع معانيها، ثم تقول: قد أفلح المؤمنون فيقول الله عزّ وجلّ: هنيئاً لك منازل الملوك وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أسكنك جباراً ولابخيلاً ولا متكبراً ولا فخوراً، وينظر إلى العرض نظرة فيتسع ألف ألف سعة ويزداد بكل سعة ألف ألف عالم منها كل عالم لا يعلم وسعه إلا الله عزّ وجلّ، ثم يهتز فيثقل على الحملة حتى يموج بعضهم في بعض ويحطم بعضهم بعضاً وهم بعدد جميع ما خلق الله عزّ وجلّ وأضعاف ما خلق الله عزّ وجلّ فيقول العرش سبحانك أينما كنت وأينما تكون، فينادي حملة العرش: سبحان من لا يعلم أين هو إلا هو، سبحان من لا يعلم ما هو إلا هو.(1/71)
وروينا عن بعض العلماء من القدماء أن الله عزّ وجلّ أوحى إلى بعض الصديقين: أن لي عباداً من عبادي يحبونني وأحبهم ويشتاقون إليّ وأشتاق إليهم ويذكرونني وأذكرهم وينظرون إليّ وأنظر إليهم، فإن حذوت طريقهم أحببتك وإن عدلت عنهم مقتك، قال: يا ربّ وما علامتهم؟ قال: يراعون الظلام بالنهار كما يراعي الراعي الشفيق غنمه ويحنّون إلى غروب الشمس كما تحن الطيور إلى أوكارها عند الغروب، فإذا جنهم الليل واختلط الظلام وفرشت الفرش ونصبت الأسرّة وخلا كل حبيب بحبيبه نصبوا لي أقدامهم وافترشوا إلى وجوههم وناجوني بكلامي وتملقوا لي بأنعامي، فبين صارخ وباكٍ ومتأوّه وشاكٍ وبين قائم وقاعد وبين راكع وساجد بعيني ما يتحملون لأجلي وبسمعي ما يشتكون من حبي، أوّل ما أعطيهم أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم، والثانية لو كانت السموات السبع والأرض وما فيهما من موازينهم لاستقللتها لهم، والثالثة أقبل بوجهي عليهم فترى من أقبلت بوجهي عليه يعلم أحد ما أريد أن أعطيه، وقال مالك بن دينار: إذا قام العبد يتهجّد من الليل ورتل القرآن كما أمر قرب الجبار تعالى منه قال: وكانوا يرون أن ما يجدون في قلوبهم من الرقة والحلاوة والفتوح والأنوار من قرب الرب تعالى من القلب، وفي الأخبار من الجبّار عزّ وجلّ: أي عبدي أنا الله الذي اقتربت لقلبك وبالغيب رأيت نوري، وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أذن الله لشيء إذنه لحسن الصوت بالقرآن يعني ما استمع إلى شيء كاستماعه إليه، وفي الحديث الآخر لله أشد أذناً إلى قارئ القرآن من صاحب القينة إلى قينته وأهل اللهو في غفلة عمّا أهل الآخرة فيه وفي عمى عمّا ينظر هؤلاء الحاضرون إليه وكأين من آية في السموات والأرض يمرّون عليها وهم عنها معرضون بل قلوبهم في غمرة من هذا، وطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون، يقال إن وهب بن منبه اليماني ما وضع جنبه إلى الأرض ثلاثين سنة كانت له مسورة من أدم إذا غلبه النوم وضع صدره عليها، وخفق خفقات ثم يفزع إلى القيام وكان يقول لأن أرى في بيتي شيطاناً أحب إليّ من أن أرى فيه وسادة يعني لأنها تدعو إلى النوم، وقال رقبة بن مسقلة: رأيت رب العزة تعالى في النوم فسمعته يقول: وعزتي وجلالي لأكرمن مثوى سليمان التيمي فإنه صلّى الغداة بوضوء العشاء الآخرة أربعين سنة، ويقال إنه كان مذهبه أن النوم إذا خامر القلب وجب الوضوء.
ذكر من روي عنه أنه أحيا الليل كله
ومن اشتهر بإحياء الليل كله وصلّى الغداة بوضوء العشاء الآخرة أربعين سنة أو ثلاثين سنة حتى نقل عنه ذلك أربعون من التابعين منهم: سعيد بن المسيب وصفوان بن سليم المدنيان وفضيل بن عياض ووهيب بن الورد المكيان وطاوس ووهب بن منبه اليمانيان والربيع بن خيثم والحكم بن عيينة الكوفيان وأبو سليمان الداراني وعلي بن بكار الشاميان وأبو عبد الله الخواص وأبو عاصم العباديان وحبيب أبو محمد وأبو جابر(1/72)
السلماني الفارسيان ومالك بن دينار وسليمان التيمي ويزيد الرقاشي وحبيب بن أبي ثابت ويحيى البكاء البصريون وكهمس بن المنهال، وكان يختم في الشهر تسعين ختمة وما لم يفهم رجع فقرأه مرة أخرى وأيضاً من أهل المدينة أبو حازم ومحمد بن المنكدر في جماعة يكثر عددهم، هؤلاء المشهورون منهم، فإن أحب المريد نام ثلث الليل الأول وقام نصفه ونام سدسه الأخير، وإن أراد نام نصف الليل وقام ثلثه ونام سدسه، فقد روي أن هذا من أفضل القيام وإنه كان قيام نبي اللّّه عزّ وجلّ داود عليه السلام، جاء ذلك في روايتين وإن أحب العبد قدم القيام فيهما وأخر وتره إلى السحر فإن قام نصف الليل قسم نومه في أوّل الليل وآخره فإن قام ثلث الليل نام سدسه الأخير وإن اختار أن يقوم من أول الليل حتى يغلبه النوم ثم ينام ثم يقوم متى استيقظ ثم ينام متى غلبه النوم ثم يقوم آخر الليل فيكون له في الليل نومتان وقومتان فهذا من مكابدة الليل وهو من أشد الأعمال وهذه طريقة أهل الحضور واليقظة وأهل التذكار والتذكرة فقد كان هذا من أخلاق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال أنس ابن مالك ما كنت تريد أن ترى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نائماً إلا رأيته ولا كنت تريد أن تراه قائماً إلا رأيته وكان هذا مذهب ابن عمر وأولي العزم من الصحابة في قيام الليل وفعله جماعة من التابعين، وقد رأينا من كان له في الليل قومات ونومات في تضاعيف ذلك، فإما أن يكون المنام والقيام موزوناً عدلاً فليس ذلك إلا لنبي بقلب دائم اليقظة وبوحي من الله عزّ وجلّ ولا يسلك هذا الطريق إلا بأسباب هي زاده لأن كل طريق يقطع بزاد مثله فمن أراده احتقب وأخذ من زاده فالأسباب أحدها هم يلزم القلب وحزن يسكن فيه أو يقظة دائمة يحيا بها القلب وفكر في الملكوت متصل وخلو المعدة من الطعام وقلة الشرب وأن يقيل بالنهار ولا يكثر تعب جوارحه في أمر الدنيا فهذه رياضة المريد إلى أن يألف القيام وليستوطن حينئذ فيتجافى جنبه لما في قلبه من الخوف والرجاء الذي قد استكن فيه.
وروي عن الله سبحانه وتعالى: إن عبدي الذي هو عبدي حقاً الذي لا ينتظر بقيامه صياح الديك ففي هذا حث على القيام قبل السحر ونوم آخر الليل نستحبه لمعنيين: أحدهما أنه يذهب بالنعاس بالغداة وقد كانوا يكرهون النعاس بالغداة ويأمرون الناعس بعد صلاة الصبح بالنوم، والمعنى الثاني أنه يقل صفرة الوجه فلو قام العبد أكثر الليل ونام سحراً ذهب نعاسه بالغداة وقلت صفرة وجهه ولو نام أكثر الليل وسهر من السحر جلب عليه النعاس بالغداة وصفرة الوجه فليتقِ العبد ذلك فإنه باب غامض من الشهرة والشهوة الخفيفة وليقل شرب الماء بالليل فقد يكون منه الصفرة سيما في آخر الليل وبعد الانتباه من النوم.
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أوتر من آخر الليل فإن كانت له حاجة إلى أهله دنا منهن وإلا اضطجع في مصلاه حتى يأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة(1/73)
وقالت أيضاً ما ألفيته السحر الأعلى إلا نائماً تعني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي الخبر الآخر كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أوتر من آخر الليل اضطجع على شقه الأيمن ضجعة حتى يأتيه بلال فيخرج معه إلى الصلاة فقد كان السلف يستحبون هذه الضجعة بعد الوتر وقبل صلاة الصبح حتى قال بعضهم فهي سنة - منهم أبو هريرة ومروان - والنوم من آخر الليل وفي الثلث الأخير مزيد لأهل المشاهدة والحضور لأنه كشف لهم من الملكوت واستماع العلوم من الجبروت وهو راحة وسكن للعمال وأهل المجاهدة ولذلك حظرت الصلاة بعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر ليستريح عمال الله عزّ وجلّ وأهل أوراد الليل والنهار فيهما، والنوم من آخر الليل هو نقصان لأهل السهو والغفلة من حيث كان مزيداً لأهل الشهود واليقظة لأنه آخر خدمة أولئك ففيه راحتهم وهو تطاول النوم والغفلة بهؤلاء فهو نقصهم وليفصل العبد في تضاعيف صلاة الليل بجلوس يسبح فيه مائة تسبيحة فذلك ترويح له وعون على الصلاة وهو داخل في قوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) سورة ق: 40، أي أعقاب الصلاة في أحد الوجهين على قراءة من نصب وإن أراد المزيد أحيا الوردين اللذين من أوّل الليل أحدهما بين العشاءين والثاني قبل نومة الناس فإن إحياء هذين الوردين عند بعض العلماء أفضل من صيام يوم ثم ليقم الورد الرابع وهو ما بين الفجرين وهو أوّل ثلث الليل الأخير أو الورد الخامس وهو السحر الخير قبل طلوع الفجر الثاني وهو يصلح للقراءة والاستغفار إن كان لم يعتد للقيام في جوف الليل، وفي خبر أبي موسى ومعاذ لما التقيا قال معاذ لأبي موسى: كيف تصنع في قيام الليل؟ قال: أقومه أجمع لا أنام منه شيئاً وأتفوّق القرآن فيه تفوقاً، قال معاذ: لكني أنام ثم أقوم وأحتسب في نومتي ما أحتسب في قومتي، فذكرا ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لأبي موسى: معاذ أفقه منك، وقد كان بعضهم لا ينام حتى يغلبه النوم، وكان بعض السلف يقول: هي أوّل نومة فإن انتبهت ثم عدت إلى نومة أخرى فلا أنام الله عينيّ، وسئل فزارة الشامي عن وصف الأبدال وكانوا يظهرون له فقال أكلهم فاقة ونومهم غلبة وكلامهم ضرورة وصمتهم حكمة وعلمهم قدرة، وقيل لآخر صف لنا الخائفين، فقال: أكلهم أكل المرضى ونومهم نوم الغرقى ولا يدع العبد أن يقوم مقدار خمس الليل أو سدسه وهو ورد من أوراد الليل أو وردان على اختلافهما في الطول والقصر متفرقاً كان قيامه أو متصلاً وأي ورد أحياه من الليل بأي نوع من الأذكار فقد دخل في أهل الليل وله معهم نصيب ومن أحيا أكثر ليلته أو نصفها كتب له إحياء جميعها وتصدق عليه بما بقي منها، ومن صلّى في ليلة عشرين ركعة وأوتر بعدها بثلاث حسب له كأنه أحياها بفضل الله ورحمته، وقد كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوم ليلة نصف الليل وليلة ثلثه وليلة ثلثيه وذلك مذكور في أوّل الآيتين من قيام الليل في سورة المزمّل وقد كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوم ليلة نصف الليل ونصف سدسه معه ويقوم(1/74)
ليلة ربعه ويقوم ليلة سدس الليل حسب وذلك مذكور في آخر الآيتين من قيام الليل وهذا على قراءة من كسر ونصفه وثلثه فأما من نصب فقال ونصفه وثلثه فإنه يعني يقوم النصف مع نصف السدس والنصف وحده والثلث وحده وهو الذي ذكرناه من الآية الأولى.
وقد جاء في التفسير نحو هذا وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مفترض عليه صلاة الليل، فالآية الأولى أمره تعالى بقيام الليل فيها والأخرى أخبر عنه بقيامه كيف هو فالأجود أن يكون ما أخبر عنه مواظباً لما أمره به فالذي أمره به أنه قال تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ) المزمل: 2، ثم استثنى القليل منه فقال: (إلاّ قَليلاً) المزمل: 2، ثم فسر أمره فقال نصفه أو أنقص منه قليلاً يعني والله أعلم أنقص نصف السدس أو نصف الثلث هذان أقل أسماء النقصان عند العرب، ثم قال: (أَوْ زِدْ عَلَيهِ) المزّمّل: 4 أو زد عليه يعني زد على النصف كأنه رد عليه نصف سدس الليل لأنه أخبر عنه في الآية الأخرى بأقل من الثلثين فقال: إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل يكون هذا نصفاً ونصف سدس وهو أقل التسمية عندهم، ثم قال: ونصفه أي ويعلم أنك تقوم نصفه أيضاً وثلثه أي وتقوم ثلثه، فهذه الأخبار أشبه بوطء الأمر من قراءة من كسر فقال ونصفه وثلثه يريد وتقوم أدنى من نصفه وهو الربع أو الثلث وأدنى من ثلثه وهو السدس أو نصف السدس.
وقد قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوم من الليل إذا سمع الصارخ يعني الديك فهذا يكون من السحر فقط فكان هذا يكون سدس الليل أو نصف سدسه ففيه رخصة وسعة لقوّام الليل، قلنا هذا تقريب لا تحديد والله أعلم والنصب اختيارنا في القراءة على معنى كثرة القيام ولمواطأة الخبر عنه للأمر، وقد جاء في الأثر صلِّ من الليل ولو قدر حلب شاة فهذا قد يكون أربع ركعات وقد يكون ركعتين، وقال أبو سليمان: من أحسن في نهاره كوفئ في ليله ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره وكان يقول: أهل الليل على ثلاث طبقات منهم إذا قرأ متفكراً بكى ومنهم إذا تفكر صاح وراحته في صياحه ومنهم من إذا قرأ وتفكر بهت فلم يبك ولم يصح، قلت له: من أي شيء صاح هذا ومن أي شيء بهت هذا؟ فقال: لا أقوى على التفسير، وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد إني أبيت معافى وأحب قيام الليل وأتخذ طهوري فما بالي لا أقوم؟ فقال: ذنوبك قيدتك يا ابن أخي، وكان الحسن إذا دخل السوق فسمع لغطهم ولغوهم قال أظن ليل هؤلاء ليل سوء ما يقيلون.
وقال بعض السلف: كيف ينجو التاجر من سوء الحساب وهو يلغو بالنهار وينام بالليل، وقال الثوري: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته، قيل له: ما هو؟ قال رأيت رجلاً بكى فقلت في نفسي هذا مراء، وقال بعضهم: دخلت على كرز بن وبرة وهو يبكي، فقلت: ما بالك أتاك نعي بعض أهلك؟ فقال: أشد، فقلت وجع يؤلمك؟ قال:(1/75)
أشد، قلت فما ذاك؟ قال: بابي مغلق وستري مسبل ولم أقرأ جزئي البارحة وما ذاك إلا بذنب أحدثه، وقال محمد بن شبانة: سمعت بعض الشيوخ الثقات المستورين ببغداد يقول: سمعت ابن الصافي البقال بدينور يقول: كان بدينور سجان قال إني بقيت على باب السجن نيفاً وثلاثين سنة فما من أحد حمل إلى السجن من الذين أخذهم الطوف بالليل إلا سألته فقلت له هل صليت صلاة العشاء الآخرة في جماعة إلا قال لا، وقال أبو سليمان: لا يفوت أحداً صلاة في جماعة إلا بذنب وكان يقول: الاحتلام بالليل عقوبة والجنابة البعد فكأنه بعد من الصلاة والتلاوة إذ في ذلك قرب ومن هذا قوله تعالى: (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) القصص: 11، وكان الحسن يقول إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل وصيام النهار.
وقال بعض العلماء: إذا صمت يا مسكين فانظر عند من تفطر وعلى أي شيء تفطر فإن العبد ليأكل الأكلة فينقلب قلبه عما كان عليه فلا يعود إلى حاله الأول، وقال آخر: كم من أكلة منعت قيام الليل، وكم من نظرة حرمت قراءة سورة وإن العبد ليأكل الأكلة أو يفعل فعلة فيحرم بها قيام سنة فبحسن التفقد تعرف المزيد من النقصان وبقلة الذنوب يوقف على التفقد وكان الفضيل يقول: لو رزقت من فهم القرآن وقيام الليل في أول أمري ما رزقت الآن، ما كتبت حديثاً قط ولا اشتغلت بغير القرآن، ويقال إن طول القيام راحات القيامة وإن صلاة الليل كفارات الكبائر وقيل إنه جبران لما نقص من الفرائض من صلاة الليل، وقد كانوا يستحبون في صلاة النهار كثرة الركوع والسجود وفي صلاة الليل طول القيام، واعلم أنّ صلاة الليل نافلة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه كان متمماً لفرائضه وصلاة الليل تكملة لفرائضنا، وفي الخبر: إذا نام العبد عقد الشيطان على رأسه ثلاث عقد فإن قعد وذكر الله انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عقدة، وإن صلّى ركعتين انحلت العقد كلها، فأصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح كسلاناً خبيث النفس، وفي الخبر أن الرجل إذا نام حتى يصبح بال الشيطان في أذنه، وقد روينا في الخبر الآخر أن للشيطان سعوطاً ولعوقاً وذروراً فإذا أسعط العبد ساء خلقه وإذا ألعقه ذرب لسانه بالشر وإذا ذره نام بالليل حتى يصبح ويستعان على قيام الليل بثلاث: أكل الحلال، والاستقامة على التوبة، وغم خوف الوعيد أو شوق رجاء الموعود، والذي يحرم العبد به قيام الليل أو يعاقب معه بطول الغفلة ثلاث: أكل الشبهات أو إصرار على الذنب وغلبة هم الدنيا على القلب.(1/76)
الفصل الخامس عشر
في ذكر ورد العبد من التسبيح والذكر
والصلاة في اليوم والليلة
وفضل صلاة الجماعة وذكر أفضل الأوقات المرجو فيها الإجابة وذكر صلاة التسبيح
وما يستحب أن يكون شعاره ليكن للعبد في كل يوم وليلة ورد من التسبيح وأقل ذلك تسعمائة مرة من أنواع الأذكار التي وردت بها الأخبار، فليقل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي، لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير مائة مرة، فإذا قال ذلك مائتي مرة لم يعمل أحد في يومه أفضل من عمله بأثر فيه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليقل سبحان الله، والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وتبارك الله مائة مرة، وليقل: اللهم صلّ على محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي مائة مرة، وليقل: أستغفر الله الحي القيوم، وأسأله التوبة مائة مرة، ليقل: سبحان الله العظيم وبحمده مائة مرة، وليقل: لا إله إلاّ الله الملك الحق المبين مائة مرة، وليقل: ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله مائة مرة، يقول هذا في كل يوم وفي كل ليلة فإن رزق مزيداً عليه فهو فضل وإلا كان هذا معلومه وقد كان في الصحابة من ورده كل يومِ اثنا عشر ألف تسبيحة، وكان من التابعين من ورده في كل يوم ثلاثون ألفاً، وحدثونا عن إبراهيم بن أدهم عن بعض الأبدال أنه قام ذات ليلة يصلي على شاطئ البحر فسمع صوتاً عالياً بالتسبيح ولم يرَ أحداً فقال: من أنت أسمع صوتك ولا أرى شخصك، فقال أنا ملك من الملائكة موكل بهذا البحر أسبح الله عزّ وجلّ هذا التسبيح منذخلقت قلت فما اسمك؟ قال مهيهيائيل، قلت: فما ثواب من قاله؟ قال: من قاله مائة مرة لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة أو يرى له، وهو هذا التسبيح: سبحان الله العلي الديان، سبحان الله شديد الأركان، سبحان من يذهب بالليل ويأتي بالنهار سبحان من لا يشغله شأن عن شأن، سبحان اللّّه الحنان، المنان، سبحان الله المسبح في كل مكان، وإن كان للعبد من الصلاة أوراد معلومة فحسناً قد فعل كان من التابعين من ورده في كل يوم ثلاثمائة ركعة وأربعمائة ركعة وكان منهم من ورده ستمائة ركعة إلى ألف ركعة وأقل ما نقل عنه من الأوراد مائة ركعة في اليوم، وكان كرز بن وبرة مقيماً بمكة وكان(1/77)
يطوف في كل يوم سبعين أسبوعاً وفي كل ليلة سبعين أسبوعاً، قال: فحسبنا ذلك فكان عشرة فراسخ، فلهذه الأسابيع مائتان وثمانون ركعة، قال: وكان يختم مع ذلك القرآن في اليوم والليلة مرتين، وقال هشام بن عروة: كان أبي يواظب على ورده من التسبيح كما يواظب على جزئه من القرآن، وروي عنه أيضاً: كان يواظب على جزئه من الدعاء كما يواظب على جزئه من القرآن ولا يدع العبد أن يسبح أدبار الصلوات الخمس مائة تسبيحة عند كل صلاة مكتوبة وكذلك عند النوم مائة وليواظب على أن يقول إذا أصبح وإذا أمسى ما جاء في تفسير قوله عزّ وجلّ: (لَهُ مَقَاليدُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ) الزمر: 63 فإن لذلك ثواباً عظيماً.
وروينا عن عثمان رضي اللّّه عنه أنه سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تفسير هذه الآية: له مقاليد السموات والأرض، فقال: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك هو لا إله إلاّ الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده ولا حول ولا قوة إلاّ بالله وأستغفر الله الأول والآخر والظاهر والباطن له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير، من قالها عشراً حين يصبح وحين يمسي أعطي بها ست خصال فأول خصلة يحرس من إبليس وجنوده والثانية يعطى قنطاراً من الأجر والثالثة يرفع له درجة في الجنة والرابعة يزوجه الله عزّ وجلّ من الحور العين والخامسة يحضرها اثنا عشر ملكاً والسادسة يكون له من الأجر كمن حج واعتمر وقد روينا في تفسيرها قولاً آخر من رواية أخرى واتصل به ذكر كنز أهل الجنة ما هو فإن ضم هذا إليه فقد جمع الروايتين واستوعب الفضيلتين، رواه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنّه سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسائل فأجابه عنها فقال: ما مقاليد السموات والأرض؟ فقال: إن يقول العبد لا إله إلاّ الله محمد رسول الله وأما كنز أهل الجنة فيقول: سبحان من في السماء عرشه سبحان من في السماء موضع أثره سبحان من سبقت رحمته غضبه سبحان من لا ملجأ ولا مهرب إلاّ إليه يا عثمان من قالها كل يوم عشر مرات كتب له بها ست خصال ينجيه الله من إبليس وجنوده وإن مات مات شهيداً وبني له قصراً في الجنة وكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وكأنما اشترى ثمانية من ولد إسماعيل وأعتقهم ولا يدع قراءة هذه الآيات الست عند كل صلاة يصليها فريضة أو تطوع، ففي ذلك ثواب عظيم: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون) الصافات: 180 إلى آخر السورة وقوله: (فَسُبْحَانَ اللهِ حينَ تُمْسُونَ وَحينَ تُصْبِحُونَ) الروم: 17 إلى قوله: (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) الروم: 19 واستغفر للمؤمنين والمؤمنات في كل يوم خمسين مرة خمساً وعشرين إذا أصبح وخمساً وعشرين إذا أمسى فإنه يكتب من الأبدال بأثر في ذلك، رويناه من ذلك ولفظ الاستغفار الذي جاء في الخبر أن يقول: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات حيهم وميتهم شاهدهم وغائبهم قريبهم وبعيدهم إنك تعلم متقلبهم(1/78)
ومثواهم وليقل هذا الاستغفار في تشهده أيضاً فقد جاء ذلك وليقل في كل عشر مرات اللهم أصلح أمة محمد اللهم ارحم أمة محمد اللهم فرج عن أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقال من قاله في كل يوم كتب له ثواب بدل من الأبدال وليقل إذا أصبح ثلاثاً وإذا أمسى ثلاثاً اللهم أنت خلقتني وأنت هديتني وأنت تطعمني وأنت تسقيني وأنت تميتني وأنت تحييني وأنت ربي لا ربّ لي سواك ولا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك فإن في ذكر شكر نعمة يومه ولا يدع أن يقول كلّما استيقظ من نومه وكلما أراد المنام هذه الكلمات بسم الله ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ما شاء الله كل نعمة من الله ما شاء الله الخير كله بيد الله ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله ففي هذا عصمة من الله عزّ وجلّ وحرز له من الشيطان وقد جاء في الخبر من قالهن مائة مرة يوم عرفة قبل غروب الشمس ناداه الله عزّ وجلّ من فوق عرشه قد أرضيتني وعلي رضاك سلني ما شئت أعطك ولا يدع أن يقول كل غداة وكل عشية فإن تولوا فقل: حسبي الله، لا إله إلاّ هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم، سبع مرات، وكذلك يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار سبعاً وكلما سمع الأذان قال كما يقول المؤذن، فإذا فرغ فليقل رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً، اللهم بهذه الدعوة التامة والكلمة الصادقة والصلاة القائمة صلِّ على محمد وآله وأعطه الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، فإن كان الأذان لصلاة الصبح أو صلاة المغرب زاد في ذلك، اللهم هذا إدبار ليلك وإقبال نهارك وأصوات دعاتك وحضور صلاتك وشهود ملائكتك صلِّ على محمد وآله ثم ليدع بما أحب وليغتنم الصلاة والدعاء بين الأذان والإقامة فإنه يستحب، ولتكن هذه الكلمة هجيره وشعاره في الأوقات فإنها من دعاء الأبدال فيما بينهم وشعارهم في أوقاتهم: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، العفو الغفور، يا سلام، سلم، يارب، يا رب، يا ذا الجلال والإكرام، افتح بخير واختم بخير، فلا
إله إلا الله الحي القيوم، سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً، يا رب، يا رب، يالله، يا الله، يا عزيز، يا عزيز، يا قريب، يا قريب، يا حليم، يا ستار، سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً، يا الله، يا الله، يا عزيز، يا عزيز، يا قريب، يا قريب، يا كريم، يا غفار، يا واسع المغفرة، اغفر لي عافناً، واعف عنا نسألك العفو والعافية، يا غياث المستغيثين، وفي جميع ما ذكرنا فضائل وردت بها الآثار عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن الصحابة والتابعين لهم بإحسان طوينا نشر ذلك إذ لم يكن قصدنا ذكر فضائل الأعمال وإنما أردنا شرح أوراد العمال ولا يدع السواك كلما استيقظ من نوم النهار وبالليل فإنه يقال من خير خصال الصائم إلاّ بعد العصر فقد كره للصائم. إلا الله الحي القيوم، سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً، يا رب، يا رب، يالله، يا الله، يا عزيز، يا عزيز، يا قريب، يا قريب، يا حليم، يا ستار، سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً، يا الله، يا الله، يا عزيز، يا عزيز، يا قريب، يا قريب، يا كريم، يا غفار، يا واسع المغفرة، اغفر لي عافناً، واعف عنا نسألك العفو والعافية، يا غياث المستغيثين، وفي جميع ما ذكرنا فضائل وردت بها الآثار عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن الصحابة والتابعين لهم بإحسان طوينا نشر ذلك إذ لم يكن قصدنا ذكر فضائل الأعمال وإنما أردنا شرح أوراد العمال ولا يدع السواك كلما استيقظ من نوم النهار وبالليل فإنه يقال من خير خصال الصائم إلاّ بعد العصر فقد كره للصائم.
وفي الخبر طيبوا طرق القرآن من أفواهكم بالسواك، وفي الحديث السواك مطهرة(1/79)
للفم مرضاة للرب عزّ وجلّ، ويقال إن الصلاة بعد السواك تفضل على الصلاة بغير سواك سبعين ضعفاً وأوكد ما استعمل فيه السواك أربعة أوقات قبل الزوال للصائم ويوم الجمعة مع الغسل لها وفي قيام الليل وبالغداة عند الاستيقاظ من النوم وقد كانوا يستحبون أن لا يأتي على العبد يوم وليلة إلا تصدق فيه بصدقة وإن قل مثل لقمة أو ثمرة حتى كان بعضهم يتصدق ببصلة وبخيط لأنه جاء في الأثر كل امرئ يوم القيامة في ظل صدقته والله سبحانه يشكر القليل الدائم وهو أحب إليه من الكثير المنقطع ألم تر كيف ذم من أعطى وقطع في قوله تعالى: (وَأَعْطى قَليلاً وَأَكْدى) النجم: 34 أي قطع ومدح فواكه الجنة يعيب بذلك فواكه الدنيا في تدبر الخطاب فقال: (وَفَاكِهَةٍ كَثيرَةٍ) (لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ) الواقعة: 32 - 33 أي فازهدوا من فوكه الدنيا فإنها مقطوعة ممنوعة رغبة في هذه الدائمة وكان من أخلاق السلف أن لا يردوا سائلاً إلا بشيء وإن قل لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتقوا النار ولو بشق تمرة ولقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: للسائل حق ولو جاء على فرس مطوّق بفضة ولقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ترد السائل ولو بظلف محترق ودفعت عائشة رضي الله عنها إلى السائل عنبة واحدة قال فنظر بعضنا إلى بعض فقالت: ما لك إن فيها لمثاقيل ذرة كثيرة وقد كان من أخلاقهم أن لا يسأل أحد شيئاً أو يراد بأمر مباح فيقول لا لكراهتهم الخلاف ومحبتهم الائتلاف وكان من أخلاق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما سئل شيئاً قط فقال: لا، فإن لم يقدر عليه سكت وقد كانوا يجتمعون على الأمر الواحد بقلب واحد ولا يستبد بعضهم بأمر دون بعض ولا يستأثر أحدهم بشيء دون أخيه وبذلك وصفهم الله عزّ وجلّ في قوله تعالى: (وَأمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) الشورى: 38 أي أمورهم مشاعة فيما بينهم غير مقسومة هم فيها سواء، ويستحب للعبد أن يجمع بين هذه الأعمال الأربعة صوم وصدقة وعيادة مريض وشهود جنازة وقد كان هذا طريق المريدين يسارعون إليه ويحرصون عليه، وفي الخبر من جمع بين هذه الأربع في يوم غفر له، وفي بعضها دخل الجنة فإن اتفق له منها ثلاث أو اثنان فأعجزه ما بقي حسب له تمامها لحسن نيّته، ولا يدعنّ الجماعة سيما إذا سمع التأذين أو كان في جوار المسجد، وحد الجوار أن يكون بينه وبين المسجد ثلاث دور، وأولى المساجد أن يصلّي فيه أقربها منه إلا أن يكون له نية في الأبعد لكثرة الخطأ أو لفضل الإمام فيه والصلاة خلف العالم الفاضل أفضل أو يريد أن يعمر بيتاً من بيوت الله عزّ وجلّ بالصلاة فيه وإن بعد، وقال سعيد بن المسيب: من صلّى الخمس في جماعة فقد ملأ البرين والبحرين عبادة وليتوضأ لكل صلاة قبل دخول وقتها فإنه من المحافظة عليها ومن حسن معاملتها، وقال أبو الدرداء: وحلف بالله وما سمعته حالفاً بالله قط قال: من أحب الأعمال إلى الله عزّ وجلّ ثلاث: أمر بصدقة، وخطوة إلى صلاة جماعة، أو إصلاح بين الناس،(1/80)
ويستحب له كلّما دخل المسجد أو منزله أن يصلي ركعتين فإن ذلك من عمل الأبرار وكلما خرج منه صلّى ركعتين وقد كان السلف لا يخرجون من منازلهم حتى يتوضؤوا ويستحب له كلما أحدث أن يتوضأ وكلما توضأ أن يصلّي ركعتين فإن ذلك من عمل الأبرار وهو لمن مات على هذا العمل شهادة وإذا خرج من منزله قال: بسم الله ما شاء الله حسبي الله توكلت على الله لا قوة إلاّ بالله اللهم إليك خرجت وأنت أخرجتني اللهم سلمني وسلم مني في ديني كما أخرجتني اللهم إني أعوذ بك أن أزل أو أضل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل عليّ عزّ جارك وجلّ ثناؤك ولا إله غيرك وليقرأ سورة الحمد والمعوذتين ولا يدع صلاة الضحى أربع ركعات ويزيد ما شاء الله إلى ثمان ركعات إلى اثنتي عشرة ركعة ولا يزيد على ذلك إن نشط أطالهن وإن فتر قصرهن وليجعل من قراءته فيهن والشمس وضحاها وسورة والضحى وآخر سورة البقرة وآخر سورة الحشر، ثم ليتنفل بعد ذلك بما شاء من غير أن تكون ورد الضحى فيلزمه المواظبة عليه، وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلّي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله، وفي خبر عن الله عزّ وجلّ: يا ابن آدم صلِّ لي أربع
ركعات في أول النهار أكفك آخره. ات في أول النهار أكفك آخره.
وفي حديث أم هانئ بنت أبي طالب أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلّى الضحى ثمان ركعات، وفي الخبر يصبح ابن آدم: وعلى كل سلامى من جسده صدقة يعني في كل مفصل وفي جسده ثلاثمائة وستون مفصلاً، فأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، وحملك عن الضعيف صدقة، وهدايتك إلى الطريق صدقة، وإماطتك الأذى صدقة، حتى ذكر التسبيح والتهليل ثم قال: وركعتا الضحى تأتي على ذلك كله، أو قال: تجمعن لك ذلك، وقد كان من سيرة المتقدمين دخول المسجد سحراً قبل طلوع الفجر والقعود فيه إلى صلاة الصبح ويفضلون هذا الفعل، حدثونا عن رجل من التابعين قال: دخلت المسجد قبل طلوع الفجر فألفيت أبا هريرة قد سبقني فقال: يا ابن أخي لأي شيء خرجت من منزلك هذه الساعة؟ فقلت لصلاة الغداة، فقال: أبشر فإنا كنا نعد خروجنا وقعودنا في هذا المسجد هذه الساعة ننتظر الصلاة بمنزلة غزوة في سبيل الله عزّ وجلّ، أو قال مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فأفضل الأوقات المرجو فيها الإجابة أربعة: عند السحر، وعند طلوع الشمس، وعند غروبها، وبين الأذان والإقامة، وأفضل أوقات الليل والنهار أوقات الصلوات المكتوبات، وإذا دعا الله وتعالى فليدعه بمعانى أسمائه فإنها صفاته وهو يحب ذلك وإنما أظهرها ليعرف بها الداعي وليدعُ بها مثل أن يقول: يا جبار اجبر قلبي، يا غفار اغفر ذنبي، يارحمن أصلحني، يارحيم ارحمني، يا تواب تب عليّ، يا سلام سلمني، واستحب أن يدعو الله عزّ وجلّ بأسمائه التسعة والتسعين في كل يوم وليلة مرة، فإنه روى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أحصاها دخل الجنة وهي متفرقة في جميع القرآن، فمن دعا الله عزّ وجلّ بها موقناً كان كمن ختمه فإن تعذر عليه حفظها فإنها منشورة على غير ترتيب فليتطرق إليها من(1/81)
حروف المعجم فليذكر من كل حرف ما فيه كأن يبتدئ بالألف فينسق ما عليه من الأسماء ثم بالباء ثم بالتاء فيقول: يا الله، يا أول، يا آخر، يا بارئ، يا باطن، يا تواب، وقد يتعذّر عليه وجود بعضها في بعض الحروف كغيرها إلاّ أنها تخرج في سائر الحروف المتيسرة بالأسماء الظاهرة فإذا عد من الأحرف تسعة وتسعين إسماً أجزأه لأنه يجد في الحرف الواحد العشرة فأكثر ودون ذلك فلا يضره إن لم يعرف في بعض الحروف اسماً إذا أحصى العدد فقد حصل له الفضل للأثر في ذلك.
ذكر صلاة التسبيح
استحب له أن يصلّي صلاة التسبيح في الجمعة مرتين: مرة نهاراً ومرة ليلاً؛ وهي ثلاثمائة تسبيحة في أربع ركعات، إن صلاها نهاراً لم يفصل بينهن بتسليم، وإن صلاها ليلاً سلم فيها سلامين فقد كان الصالحون يصلونها ويتعرفون بركتها ويتذاكرون فضلها، وقد روينا فيها روايتين: إحداهما، حديث الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للعباس بن عبد المطلب: ألا أعطيك، ألا أمنحك، ألا أحبوك بشيء، إذا أنت فعلته غفر الله لك ذنبك أوله وآخره، قديمه وحديثه، وخطأه وعمده، سره وعلانيته، تصلّي أربع ركعات تقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة وأنت قائم قلت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر خمس عشرة مرة، ثم تركع فتقولها عشراً، ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشراً، ثم تسجد فتقولها عشراً، ثم ترفع من السجود فتقولها عشراً، ثم تسجد الثانية فتقولها عشراً، ثم ترفع من السجود ثم تجلس فتقولها عشراً، ثم تقوم فذلك خمسة وسبعون في كل ركعة تفعل ذلك في أربع ركعات إن استطعت أن تصلّيها في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تفعل ففي كل جمعة مرة، فإن لم تفعل ففي كل شهر مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، وإن لم تفعل ففي عمرك مرة، حدثناه عن أبي داود السجستاني فقال: ليس في صلاة التسبيح حديث أصح من هذا فذكر في هذه الرواية أنه يسبح في القيام خمس عشرة مرة بعد القراءة وأنه يسبح عشراً بعد السجدة الثانية في الركعة الأولى قبل القيام كأنه يجلس جلسة قبل أن ينهض، وفي الركعة الثانية أيضاً، كذلك قبل التشهد، وروينا في الخبر الآخر أنه يفتتح الصلاة فيتوجه ويقول سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، ثم يسبح خمس عشرة تسبيحة قبل القراءة ثم يقرأ الحمد وسورة ثم يسبح عشراً ثم يركع فيكون له في قيامه خمس وعشرون تسبيحة، ولا يسبح بعد السجود في الجلسة الأولى بين الركعتين ولا في جلسة التشهد شيئاً، وكذلك روينا في حديث عبد الله بن زياد بن سمعان عن معاوية بن عبد الله بن جعفر عن أبيه: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمه صلاة التسبيح قال فيها: يفتتح الصلاة مكبراً، ثم يقول فذكر الكلمات وزاد فيها ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم، وقال(1/82)
فيه: يقول ذلك خمس عشرة مرة، ولم يذكر بعد السجدة الثانية عند القيام أن يقولها، وهذه الرواية أحب الوجهين إليّ وهو اختيار عبد الله بن المبارك، حدثونا عن سهل بن عاصم عن ابن وهب قال: سألت ابن المبارك عن الصلاة التي يسبح فيها فقال: يقول سبحان الله، والحمد لله، الكلمات خمس عشرة مرة، ثم يتعوّذ ويقرأ فاتحة الكتاب وسورة، ثم يقولها عشراً ثم يركع وذكرها قال: فذلك خمس وسبعون يصلّي أربع ركعات على هذا إن صلّيت ليلاً فأحب أن يسلّم في الركعتين وإن صلّيت نهاراً صلّيت أربعاً وإن شئت سلمت وإذا عدّ في الركوع فعد بإصبعه على ركبتيه وفي السجود بإصبعه على الأرض، وحدثونا عن محمد بن جابر قال: قلت لابن المبارك في صلاة التسبيح إذا رفعت رأسي للقيام من آخر السجدتين أسبح قبل أن أقوم، قال: لا تلك القعدة ليست من سنة الصلاة، وقال ابن أبي رزمة عن ابن المبارك: قلت له يقول: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات، سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات، قال: نعم، قلت: فإن سها يسبح في السهو عشراً، قال: لا إنما هي ثلاثمائة تسبيحة، وأحب أن تكون السورة التي يقرأها في صلاة التسبيح مع الحمد فوق العشرين آية، فقد روينا في حديث عبد الله بن جعفر الذي رواه إسماعيل بن رافع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في السورة التي بعد أم القرآن عشرين آية فصاعداً وكذلك أحب زيادة لا حول ولا قوة إلا بالله لما ذكرناه في الخبر الآخر فإن قرأ مع فاتحة الكتاب في كل ركعة عشر مرات قل هو الله أحد فقد ضاعف العدد واستكمل الأجر.(1/83)
الفصل السادس عشر
في ذكر معاملة العبد في التلاوة ووصف التالين
للقرآن حق تلاوته بقيام الشهادة
استحب للمريد أن يختم القرآن في كل أسبوع ختمتين؛ ختمة بالنهار وختمة بالليل، ويجعل ختمة النهار يوم الاثنين في ركعتي الفجر أو بعدهما، ويختم ختمة الليل ليلة الجمعة في ركعة المغرب أو بعدهما ليستقبل بختمته أوّل النهار وأوّل الليل فإن الملائكة تصلّي عليه إن كانت ختمته ليلاً حتى يصبح وتصلّي عليه إن كان ختمه نهاراً حتى يمسي فهذان الوقتان يستوعبان كلية الليل والنهار، وفي الخبر لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث، وأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله بن عمر أن يقرأ القرآن في كل سبع وكذلك جماعة من الصحابة يختمون القرآن في كل جمعة، وروينا عن يحيى بن الحارث الديناري عن القاسم بن عبد الرحمن قال: كان عثمان بن عفان رضي الله عنه يفتتح ليلة الجمعة بالبقرة إلى المائدة وليلة السبت بالأنعام إلى هود وليلة الأحد بيوسف إلى مريم وليلة الاثنين بطه إلى طسم موسى وفرعون وليلة الثلاثاء بالعنكبوت إلى صاد وليلة الأربعاء بتنزيل إلى الرحمن ويختم ليلة الخميس وكذلك كان زيد بن ثابت وأبي يختمان القرآن في كل سبع، روينا عن ابن مسعود أنه سبع القرآن في سبع ليال فكان يقرأ في كل ليلة بسبعه إلا أن تأليفة على غير ترتيب مصحفنا هذا فلم يذكره لأن الاعتبار لا يتبيّن به وجماعة يذكر عنهم ختم القرآن في كل يوم وليلة وقد كره ختمه في أقل من ثلاث طائفة والتوسط من ذلك ما ذكرناه وهو أن يختم في كل ثلاثة أيام.
ذكر أحزاب القرآن وكيف حزبه الصحابة
رضي الله عنهم
وإن قرأ القرآن أحزاباً في كل يوم وليلة حزباً فحسن، وهو سنة فذلك أشد لمواطأة القلب وأقوم للترتيب وأدنى إلى الفهم وإن أحب قرأ في كل ركعة ثلث عشر القرآن أو نصف ذلك يكون الجزء من الأجزاء الثلاثين في كل ركعة أو ركعتين فإن قرأ في كل ورد حزباً أو حزبين أو دون ذلك فحسن وأحزاب القرآن سبعة: فالحزب الأول ثلاث سور، والحزب الثاني خمس سور، والحزب الثالث سبع سور، والرابع تسع سور، والخامس إحدى عشرة سورة، والسادس ثلاث عشرة سورة، والمفصل من ق، فهذه كانت أحزاب(1/84)
القرآن ولذلك حزبه الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وكانوا يقرؤونه كذلك، وفي ذلك خبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكأنه حزبه على عدد هذه الآي إذ عددها ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية، وقد اعتبرت ذلك في كل حزب فرأيته يتقارب، وهذا قبل أن تعمل الأخماس والعواشر والأجزاء فما سوى هذا محدث يقال: إن الحجاج جمع قرّاء البصرة والكوفة منهم: عاصم الجحدري، ومطر الوراق، وشهاب بن شريفة فأمرهم بذلك، وقد كان الحسن وابن سيرين ينكران هذه الأخماس والعواشر والأجزاء، وروي عن الشعبي وإبراهيم كراهية النقط بالحمرة وأخذ الأجر على ذلك وكانوا يقولون جردوا القرآن، وقال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير: كان القرآن مجرداً في المصاحف، فأول ما أحدثوا فيه النقط على الباء والتاء وقالوا: لا بأس به فإنه نور له ثم أحدثوا بعده نقطاً كباراً عند منتهى الآي فقالوا: لا بأس به يعرف به رأس الآي ثم أحدثوا بعد ذلك الخواتيم والفواتح وقالوا: لا بأس به لأنها علامة تعرف بها واعلم أنه لا يجد فهم القرآن الفهم الذي يكشف بمشاهدته ويظهر من الملكوت قدره عبد فيه إحدى هذه الخصال أدنى بدعة أو مصر على ذنب أو عبد في قلبه كبراً ومقارب لهوى قد استكن في قلبه أو محب الدنيا أو عبد غير متحقق بالإيمان أو ضعيف اليقين ولا من هو واقف مع مقراه ولا عبد مهتم يتبع حروفه واختياره ولا ناظر إلى قول مفسر ساكن إلى عمله الظاهر ولا راجع إلى معقوله ولا قاض بمذاهب أهل العربية واللغة في باطن الخطاب وسر المرء وهؤلاء كلهم محجوبون بعقولهم مردودون إلى ما يقدر في علومهم موقوفون مع ما تقرر في عقولهم مزيدهم على مقدار علومهم وغرائز عقولهم وهؤلاء مشركون بعقولهم ومعلومهم عند الموحدين فهذا داخل في الشرك الخفي الذي أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء، قال محمد بن علي بن سنانة إذ معقوله وعلمه عن عقل غير كامل لأن العقل الكامل ماعقل عن الله عزّ وجلّ وفهم حكمه وكلامه، ويعقل به كلامه وقد قال الرسول صلوات الله عليه في صفة كمال العقل العاقل: من عقل عن الله سبحانه وتعالى أمره ونهيه، وفي الخبر أكثر منافقي أمتي قراؤها فهذا نفاق الوقوف مع سوى الله تعالى والنظر إلى غيره لإنفاق الشرك والإنكار لقدرة الله عزّ وجلّ فهو لا ينتقل عن التوحيد ولكنه لا ينتقل إلى مقام المزيد فإذا كان العبد ملقياً السمع بين يدي سميعه مصغياً إلى سرّ كلامه شهيد القلب لمعاني صفات شهيده ناظراً إلى قدرته تاركاً لمعقوله ومعهود علمه متبرئاً من حوله وقوته معظماً للمتكلم واقفاً على حضوره مفتقراً إلى الفهم بحال مستقيم وقلب سليم وصفاء يقين وقوة علم وتمكين سمع فصل الخطاب وشهد علم غيب الجواب وأفضل القراءة الترتيل لأنه يجمع الأمر والندب وفيه التدبر والتذكر.
روي عن علي رضي الله عنه لا خير في عبادة لا فقه فيها ولا في قراءة لا تدبر فيها، وعن ابن عباس لأن(1/85)
أقرأ البقرة وآل عمران أرتلهما وأتدبرهما أحب إليّ من أن أقرأ القرآن كله هذرمة، وروي عنه أيضاً لأن اقرأ إذا زلزلت والقارعة أتدبرهما أحب إلي من أن أقرأ البقرة وآل عمران تهذراً، وسئل مجاهد عن رجلين دخلا في صلاة فكان قيامهما واحد إلاّ أن أحدهما قرأ البقرة والآخر قرأ القرآن كله فقال هما في الأجر سواء لأن قيامهما كان واحداً وأفضل الترتيل والتدبر في القرآن ما كان في صلاة ويقال إن التفكر في الصلاة أفضل منه في غير الصلاة لأنهما عملان وهذا هو التفكر في معاني التدبر والفهم بخطاب الوعد والوعيد والزجر والأمر تعظيماً للمتوعد وإجلالاً للآمر، وسئل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي الصلاة أفضل؟ فقال: طول القنوت، وروي في خبر آخر من سجد لله عزّ وجلّ سجدة رفعه الله عزّ وجلّ بها درجة وأنه قال لأبي فاطمة خادمه وقد سأله مرافقته في الجنة فقال أعني بكثرة السجود، وروينا عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال إنه كثرة السجود بالنهار وإنه طول القيام بالليل ويقال إن العبد يحشر عند الموت من قبره على هيئته في صلاته من السكون والطمأنينة وتكون راحته في الموقف على قدر راحته وتنعمه بالصلاة، وروينا معنى هذا عن أبي هريرة وعلى هذا المعنى تأويل قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبلال: أرحنا بالصلاة أي روحنا إليها نعمنا بها من الروح والراحة إليها ويقال أرحنا بالشيء أي روحنا وأرحنا منه أي أسقطه عنا وخفف عنا منه ولم يقل أرحنا منها كيف وقرة عينه فيها، وقال بعضهم: إني لأفتتح السورة فيوقفني بعض ما أشهد فيها عن الفراغ منها حتى يطلع الفجر وما قضيت منها وطري، وقال سليمان بن أبي سليمان الداراني إنه وعد ابن ثوبان أخاً له أن يفطر عنده فأبطأ عليه حتى طلع الفجر فلقيه أخوه من الغد، قال: وعدتني أن تفطر عندي فأخلفت، فقال: لولا ميعادك ما أخبرتك بالذي حبسني عنك إني لما صليت العتمة قلت أوتر قبل أن أجيئك لأني لا آمن ما يحدث من الموت، فلما كنت في الدعاء من الوتر رفعت لي روضة خضراء فيها أنواع الزهر من الجنة، فما زلت أنظر إليها حتى أصبحت، وقال عزّ وجلّ: (كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) المجادلة: 22، قيل: القرآن قوى إيمانهم بعلم القرآن، فالقرآن روح الإيمان، وتقويتهم استعمالهم به، وفي التفسير يا يحيى خذ الكتاب بقوة، قيل: بجد واجتهاد ومثله خذوا ما آتيناكم بقوّة، قيل: بعمل به، وقيل لبعضهم: إذا قرأت القرآن تحدث نفسك بشيء فقال أو شيء أحب إليّ من القرآن أحدث نفسي به؟ وهذه صفة قوي مكين، ويقال إن في القرآن ميادين وبساتين ومقاصير وعرائس وديابيج ورياضاً وخانات، فالميمات ميادين القرآن والراآت بساتين(1/86)
القرآن والحاآت مقاصيره والمسبحات عرائس القرآن والحواميم ديباج القرآن والمفصل رياضه والخانات ما سوى ذلك، فإذا جال المريد في الميادين وقطف من البساتين ودخل المقاصير وشهد العرائس ولبس الديباج وتنزه في الرياض وسكن غرف الخانات اقتطعه وأوقفه ما يراه وشغله الشاهد به عما سواه.
وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قرأ بسم الله الرحمن الرحيم فرددها عشرين مرة وكان له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل ورده فهم، ومن كل كلمة علم، فينبغي أن يكون قلب التالي بوصف كل كلمة يتلوها مشاهداً لمعناها إلى ما يفتح الله عزّ وجلّ له من المزيد عليها من مجاورتها ومع ما يفهم بها من غيرها ويشهد غيرها منها فقد كان بعضهم يقول: كل آية لا أتفهمها ولا يكون قلبي فيها لم أعد لها ثواباً، وكان بعض السلف إذا قرأ السورة ولم يكن قلبه فيها أعادها ثانية، فإذا مرّ بتسبيح وتكبير سبّح وكبّر، وإن مرّ بدعاء واستغفار دعا واستغفر، وإن مرّ بمخوف ومرجو استعاذ وسأل، فذلك معنى قوله عزّ وجلّ: (يَتْلُونَهُ حقَّ تِلاَوَتِه) البقرة: 121، وكذلك كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تلاوته وعلى هذا المعنى ما روي في الخبر من أراد أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد أي على معنى تلاوته لأنه كان يقرأ بقلب شهيد وسمع عتيد وبصر حديد فكان يتلو القرآن على معاني الكلام وعلى شهادة وصف المتكلم الوعيد منه بالتحزين والوعد بالتشويق والوعظ بالتخويف والإنذار بالتشديد والتفسير بالترقيق والتبشير بالتوفيق لأنه كان عالماً بصفات المتكلم واجد الذوق الكلم، فمثل هذا العبد أحسن الناس صوتاً بالقرآن كما جاء في الخبر: أحسن الناس صوتاً بالقرآن من إذا قرأ رأيت أنه يخشى الله، ومن هذا قيل إذا قرأتم القرآن فابكوا وإن لم تبكوا فتباكوا، ومثل هذا أن القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فتحازنوا أي أن القرآن لما فيه من التهديد والوعيد والوثائق والعهود يوجب البكاء والحزن، فإن لم تحزنوا وجداً ولم تبكوا نفساً يقيناً فتباكوا وتحازنوا لفظاً لأجل التصديق والإقرار به، فندبهم إلى التحازن في التلاوة والتباكي ليجتمع همّ العبد في المتلو فيتدبر الكلام عسى أن يكون قلبه بمعناه فيكون التباكي والتحزين سبباً لجمع همّه وفراغ قلبه، لأن المتباكي الصادق مجتمع الهمّ فيما يبكيه والحزين حاضر القلب مجموع الفكر ومشغول عن سوى مبكيه، من ذلك ما روينا عن ابن عباس إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا، فإن لم تبكِ عين أحدكم فليبكِ قلبه فبكاء القلب حزنه وخشيته، أي فإن لم تبكوا بكاء العلماء عن الفهم فتحزن قلوبكم على فقد البكاء وليخشَ كيف لم يوجد فيكم وصف أهل العلم، وقد روينا في غرائب التفسير من معنى قوله تعالى: (وَإنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ) البقرة: 74 قال: هي العين الكثيرة البكاء (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ(1/87)
الْمَاءُ) البقرة: 74 قال: هي العين القليلة البكاء (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله) البقرة: 74 قال: هو بكاء القلب من غير دموع عين قال ثابت البناني: رأيت في النوم كأني أقرأ على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآن، فلما فرغت قال هذه القراءة فأين البكاء؟ وكان الحسن يقول: والله ما أصبح اليوم عبد يتلو هذا القرآن يؤمن به إلا كثر حرنه وقل فرحه وكثر بكاؤه وقل ضحكه وكبر نصبه وشغله وقلت راحته وبطالته.
والناس في التلاوة على ثلاث مقامات، أعلاهم من شهد أوصاف المتكلم في كلامه ويعرف أخلاقه بمعاني خطابه، وهذا مقام العارفين من المقربين، ومنهم من يشهد ربه تعالى يناجيه بألطافه ويخاطبه بإنعامه وإحسانه، فمقام هذا الحياء والتعظيم وحاله الإصغاء والفهم، وهذا للأبرار من أصحاب اليمين، ومنهم من يرى أنه يناجي ربّه عزّ وجلّ فمقامه السؤال والتملّق وحاله الطلب والتعلّق، وهذا للمعترفين والمريدين وهم من خصوص أصحاب اليمين، وينبغي للعبد أن يشهد في التلاوة أن مولاه يخاطبه بالكلام لأنه سبحانه متكلّم بكلام نفسه وليس للعبد في كلامه كلام إنما جعل له حركة اللسان بوصفه وتيسير الذكر بلسانه بحكم ربه عزّ وجلّ حداً للعبد ومكاناً له، كما كانت الشجرة وجهة لموسى عليه السلام وكلمة الله عزّ وجلّ منها، ويقال: إن كل حرف من كلام الله عزّ وجلّ في اللوح المحفوظ أعظم من جبل قاف وإن الملائكة لو اجتمعت على الحرف الواحد أن يتلوه ما أطاقوه حتى يأتي إسرافيل وهو ملك اللوح المحفوظ فيرفعه فيقله بإذن الله عزّ وجلّ ورحمته إذ كان الله تعالى أطاقه ذلك لما استعمله به، وقال جعفر بن محمد الصادق: والله لقد تجلّى الله عزّ وجلّ لخلقه في كلامه ولكن لا يبصرون، وقال أيضاً: وقد سألوه عن شيء لحقه في الصلاة حتى خرّ مغشياً عليه فلما سُرِيَ عنه قيل له في ذلك فقال: ما زلت أردد الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم بها فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته تعالى، وكذلك الخصوص يرددون الآية بقلوبهم على قلوبهم ويتحقّقون بها في مشاهدتهم بمدد من شهيدهم وسيدهم حتى يستغرقهم الفهم فيغرقون في بحر العلم، فإن قصرت مشاهدة التالي عن هذا المقام فيشهد أنه يناجيه بكلامه ويتملقه بمناجاته، فإن الله عزّ وجلّ إنما خاطبه بلسانه وكلّمه بحركته وصوته ليفهم عنه بعلمه الذي جعل له ويعقل عنه بفهمه الذي قسم له حكمة منه ورحمة، إذ لو تكلم الجبار عزّ وجلّ بوصفه الذي يدركه سمعه لما ثبت للكلام عرش ولا ثري لتلاشي ما بينهما من عظمة سلطانه وسبحات أنواره فحجب ذلك في غيب علمه عن العقول وستر بصنع قدرته عن القلوب وأظهر للقلوب علوم عقولها وأشهد للعقول عرف معقولها بلطفه وحنانه ورحمته وإحسانه.
وبلغنا في الأخبار السالفة أن ولياً من أولياء الله عزّ وجلّ من الصديقين ابتعثه في(1/88)
الفترة إلى ملك من الجبابرة يدعو إلى التوحيد وإلى شريعة الأنبياء، فسأله الملك عن أشياء من معاني التوحيد فجعل الصديق يجيبه عنها بما يقرب من فهمه ويدركه عقله من ضروب الأمثال بما يستعمله الناس بينهم ويتعارفونه عندهم إلى أن قال له الملك: أفرأيت ما يأتي به الأنبياء إذا ادعيت أنه ليس بكلام الناس ولا رأيهم، أمن كلام الله هو؟ قال الحكيم: نعم قال الملك: فكيف يطيق الناس حمله؟ قال الصديق: إنّا رأينا الناس لما أرادوا أن يفهموا بعض الدواب والطير ما يريدون من تقديمها وتأخيرها وإقبالها وإدبارها لم يجدوا الدواب والطير تحمل كلامهم فوضعوا لها من النقر والصفير والزجر ما عرفوا أنها تطيق حمله، فكذلك الناس يعجزون أن يحملوا كلام الله ككنهه بكماله وصفته، فصاروا بما تراجعوا بينهم من الأصوات التي سمعوا بها الحكمة كصوت الزجر والنقر الذي سمعت به الدواب من الناس ولم يمنع ذلك معاني الحكمة المخبوءَة في تلك الأصوات من أن شرف الكلام بشرفها وعظم بتعظيمها فكان الصوت للحكمة جسداً ومسكناً والحكمة للصوت نفساً وروحاً، فكما أن أجساد البشر تكرّم وتعزّ لمكان الروح التي فيها وكذلك أصوات الكلام تشرّف وتكرّم للحكمة التي فيها، والكلام على المنزلة رفيع الدرجة قاهر السلطان نافذ الحكم في الحق والباطل وهو القاضي العادل والشاهد المرتضى يأمر وينهى ولا طاقة للباطل أن يقوم قدام كلام الحكمة كما لا يستطيع الظل أن يقوم قدام شعاع الشمس ولا طاقة للبشر أن ينفذوا غور الحكمة كما لا طاقة لهم أن ينفدوا بأبصارهم ضوء عين الشمس، ولكنهم ينالون من شعاع الشمس ما تحيا به أبصارهم ويستدلون به على حوائجهم، فالكلام كالملك المحجوب الغائب وجهه الشاهد أمره كالشمس الغزيرة الظاهرة مكنون عنصرها، وكالنجوم الزاهرة التي قد يهتدي بها من لا يقع على سرّها، فالكلام أعظم وأشرف من ذلك هو مفتاح الخزائن النفسية وباب المنازل العالية ومراقي الدرجات الشريفة وشراب الحياة الذي من شرب منه لم يمت، ودواء الأسقام التي من سقي منه لم يسقم إذا لبسه من لم يتسلّح به أبدى عورته وإذا تسلح به غير أهله لم يخرج إلاّ منهم نقلت هذا نقلاً من كلام الصديق الحكيم الذي خاطب به الملك فاستجاب له بإذن الله عزّ وجلّ فهذا وصف كلام الله عزّ وجلّ الذي جعله الله لنا آية وعبرة ونعمة علينا ورحمة، فانظر إلى الحكيم كيف جعل عقول البشر في فهم كلام الله العظيم بمنزلة فهم البهائم والطير بالنقر والصفير إلى عقول البشر وجعل النقر والصفير والإفهام من الناس للأنعام والهوام مثلاً لما أفهم الله تعالى به الأنام من معاني كلامه الجليل بما ألهم به من الكلام، إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم، فهذه قدرة لطيفة من قدرته التي لا تتناهى وحكمة محكمة من حكمه التي لا تضاهى، إنه حكيم عليم، ثم ليشهد العبد أنه مقصود بجميع القرآن من فاتحته إلى خاتمه مراد معنى به له(1/89)
ضربت الأمثال به وفيه جميع ذكره وأوصافه لأن الله سبحانه وتعالى لما تكلم بهذا الكلام وخاطب به المؤمنين كان هو واجدهم وكان حاضراً معهم وقد سوى الله عزّ وجلّ بين المؤمنين في تنزيل القرآن عليهم وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمعنى من المعاني فقال: (واذكروا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزل عَلَيْكُم مِنَ الكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ) البقرة: 231 كما قال: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إليْكُمْ كِتَاباً فيهِ ذِكْرُكُمْ) الأنبياء: 10 وكذلك قال: (وَأَنْزَلْنَا إليْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلْنَّاسِ مَا نُزِّلَ إليْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) النحل: 44، وقال: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلْنَّاسِ أمْثَالَهُمْ) محمد: 3 يعني صفاتهم وقال: ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات كما قال: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إليْكَ آياتٍ بَيِّنَاتٍ) البقرة: 99، وقال عزّ وجلّ: (وَاتَّبعْ مَا يُوحَى إليْكَ واصْبِرْ) يونس: 109 ثم قال: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إليْكُمْ مِنْ رَبِّكُم) الأعراف: 3 وقال: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ) هود: 112 غير أنه سبحانه عمّ الجملة بالبصائر والبيان وخصّ بالهدى والرحمة أولي التقي والإيمان، فمن ذلك قوله عزّ وجلّ: (هذا
بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) الجاثية: 20: (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلمُتَّقِينَ) آل عمران: 138، فالموقنون هم المتّقون، والمهديّون هم المرحومون وقد أمرنا بطلب فهم القرآن كما أمرنا بتلاوته. َائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) الجاثية: 20: (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلمُتَّقِينَ) آل عمران: 138، فالموقنون هم المتّقون، والمهديّون هم المرحومون وقد أمرنا بطلب فهم القرآن كما أمرنا بتلاوته.
وروينا عن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: اقرؤوا القرآن والتمسوا غرائبه، وقال ابن مسعود: من أراد علم الأوّلين والآخرين فليثوّر القرآن، ومن حديث علي رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والذي بعثني بالحق نبياً لتفترقنّ أمتي على أصل دينها وجماعتها على اثنين وسبعين فرقة كلها ضالّة مضلّة يدعون إلى النار، فإذا كان ذلك فعليكم بكتاب الله عزّ وجلّ فإن فيه نبأ ما كان قبلكم ونبأ ما يأتي بعدكم وحكم ما بينكم وبين من خالفه من الجبابرة قصمه الله ومن ابتغى العلم من غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين ونوره المبين وشفاؤه النافع عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه لا يعوجّ فيقام ولا يزيغ فيستقيم ولا تنقضي عجائبه ولا يخلقه كثرة الرد، هو الذي سمعته الجن فلمّا قضى ولّوا إلى قومهم منذرين فقالوا: يا قومنا (إنا سمعنا قرآنا عجباً يهدي إلى الرشد) الجن: 1 من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم، وروينا معناه في حديث حذيفة لما أخبره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالاختلاف والفرقة بعده قال: فقلت يا رسول الله فما تأمرني إن أدركت ذاك؟ فقال: تعلّم كتاب الله عزّ وجلّ واعمل بما فيه فهو المخرج من ذلك، قال: فأعدت عليه فقال: تعلّم كتاب الله عزّ وجلّ واعمل بما فيه فهو المخرج من ذلك، قال: فأعدت عليه فقال: تعلّم كتاب الله واعمل بما فيه ففيه النجاة ثلاثاً، وعن علي رضي الله عنه قال: ما أسرّ إليّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً كتمه الناس إلاّ أن يؤتي الله عبداً فهماً في كتابه، وعنه رضي الله عنه أنه قال: ومن فهم فسّر جمل العلم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره في قوله عزّ وجلّ: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَة فَقَدْ(1/90)
أُوتِيَ خَيْراً كَثيراً) البقرة: 269، قال: الفهم في كتاب الله عزّ وجلّ وقال أحسن القائلين: (فَفَهَّمْناهَا سُليْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً) الأنبياء: 79 فرفع الفهم مقاماً فوق الحكم والعلم وأضافه إليه للتخصيص وجعله مقاماً عاماً فيهما فإذا فهم العبد الكلام وعامل به المولى تحقق بما يقول وكان من أصحابه ولم يكن حاكياً لقائله مثل أن يتلو منه: (إني أَخافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظيمٍ) يونس: 15 ومثل أن يقول: (عليك توكلنا وإليك أَنَبْنَا) الممتحنة: 4، ومثل قوله: (ولنصبرنّ على ما آذيتمونا) إبراهيم: 12 فيكون هو الخائف لليوم العظيم ويكون هو المتوكّل المنيب وهو الصابر على الأذى متوكل على المولى ولا يكون مخبراً عن قائل قاله فلا يجد حلاوة ذلك ولا ميراثه فإذا كان هو كذلك وجد حلاوة التلاوة وتحقق جزء الولاية، وكذلك إذا تلا الآي المذموم أهلها الممقوت فاعلها مثل قوله تعالى: (وَهُمْ في غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) الأنبياء: 1 وقوله: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) النجم: 29، ومثل قوله عزّ وجلّ: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الحجرات: 11 فما أقبح من يعيب ذلك وهو من أهله وما أعظم أن يذم أهل ذلك وهو بوصفه فهذا من حجج القرآن عليه فلا يجد مع ذلك حلاوة المناجاة ولا يسمع خطاب المناجي لأن وصفه المذموم قد حجبه وهواه المردي عن حقيقة الفهم قد حرمه، ولأن قسوة قلبه عن الفهم صرفه وكذبه في حاله عن البيان وأخرسه، فإذا كان هو المتيقظ المقبل فهو التائب الصادق سمع فصل الخطاب ونظر إلى الداعي وله استجاب، وقد اشترط الله عزّ وجلّ للإنابة التبصرة وحضور القلب للتذكرة فقال عزّ وجلّ: (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنيبٍ) ق: 8 وقال وما يذكر إلا من ينيب وقال عزّ وجلّ: (إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأََلْبَابِ) الزمر: 9 الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق، فالاستقامة على التوبة من الوفاء بالعهد وتعدّي الحدود من نقض الميثاق وقلة الصدق والإنابة هي التوبة والإقبال على الله عزّ وجلّ، والألباب هي العقول الزاكية والقلوب الطاهرة وينبغي للتالي الخائف الناصح لنفسه وللخلق السليم القلب إذا تلا آي الوعد والمدح ومحاسن الوصف ومقامات المقربين أن لا يشهد نفسه هناك ولا يراها مكاناً لذلك بل يشهد للمؤمنين فيها وينظر إلى الصديقين منها سلامةً ونصحاً، فإذا تلا الآي الممقوت أهلها المتهدّد عليها
المذموم وصفها من مقامات الغافلين وأحوال الخاطئين شهد نفسه هناك وأنه هو المخاطب المقصود بذلك خوفاً منه وشفقاً، فبهذه المشاهدة يرجو للخلق ويخاف على نفسه ومن هذه الملاحظة يسلم قلبه للعباد ويمقت نفسه. موم وصفها من مقامات الغافلين وأحوال الخاطئين شهد نفسه هناك وأنه هو المخاطب المقصود بذلك خوفاً منه وشفقاً، فبهذه المشاهدة يرجو للخلق ويخاف على نفسه ومن هذه الملاحظة يسلم قلبه للعباد ويمقت نفسه.
وروينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول اللهم إني أستغفرك لظلمي وكفري قال: فقلت يا أمير المؤمنين هذا الظلم فما بال الكفر؟ فتلا قوله: (إنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) إبراهيم: 34 فإن قلب هذان المعنيان على عبد حتى يشهد نفسه في المدح(1/91)
والوصف ويشهد غيره في الذم والمقت انقلب قلبه عن وجهة الصادقين وتنكب بقصده عن صراط الخائفين فهلك وأهلك لأن من شهد البعد في القرب لطف به بالخوف، ومن شهد القرب في البعد مكر به في الأمن، وقال بعض العلماء: كنت أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة حتى تلوته كأني أسمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتلوه على أصحابه ثم رفعت إلى مقام فوقه فكنت أتلوه كأني أسمعه من جبريل عليه السلام يلقيه على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم جاء الله بمنزلة أخرى فأنا الآن أسمعه من المتكلم عزّ من قائل فعندها وجدت له نعيماً ولذة لا أصبر عنها، وقال عثمان رضي الله عنه: أو حذيفة لو طهرت القلوب لم تشبع من تلاوة القرآن، وقال ثابت البناني: كابدت القرآن عشرين سنة وتنعمت به عشرين سنة، وقال بعض علمائنا: لكل آية ستون ألف فهم وما بقي من فهمها أكثر، وعن علي رضي الله عنه: لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً من تفسير فاتحة الكتاب، وعن أبي سليمان الداراني: إني لأتلو الآية فأقيم فيها أربع ليال وذكر خمس ليال ولولا أني أقطع الفكر فيها لما جاوزتها إلى غيرها.
وروينا عن بعض السلف أنه بقي في سورة هود ستة أشهر يكررها ولا يفرغ منها، وحدثنا عن بعض العارفين قال: لي في كل جمعة ختمة؛ وفي كل شهرختمة؛ وفي كل سنة ختمة؛ ولي ختمة منذ ثلاثين سنة ما فرغت منها بعد، يعني ختمة التفهم والمشاهدة، وكان هذا يقول أقمت نفسي في العبودية مقام الأجراء فأنا أعمل مياومة ومجامعة ومشاهرة ومسانهة وإنما حجب الخلق عن فهم كنه الكلام ومعرفة سرّ المراد لأنه حجبهم عن حقيقة كنه معرفته وإنما أعطاهم من معرفة الكلام بقدر ما أعطاهم من معرفة المتكلم إذ بمعاني كلامه تعرف معاني صفاته وأفعاله وأحكامه ولأن معاني كلامه من معاني أوصافه وأخلاقه، فلذلك جاء فيه السهل اللطيف والشديد العسوف والمرجو والمخوف، لأن من أوصافه الرحمة واللطف والانتقام والبطش، فلما لم يصلح أن يعرفوه كعلمه بنفسه لم يصلح أن يعلم كنه كلامه إلا هو، ويعرف كنه صفاته إلا هو، فأعلم الخلق لمعاني كلامه أعرفهم لمعاني الصفات وأعرف العباد بمعاني الأوصاف والأخلاق وغوامض الأحكام أعرفهم بسرائر الخطاب ووجه الحروف ومعاني باطن الكلام، وأحقهم بذلك أخشاهم له أقربهم منه، وأقربهم منه من خصّه بأثرته وشمله بعنايته، فقد جاء في الخبر: أحسن الناس صوتاً بالقرآن من إذا قرأ رأيت أنه(1/92)
يخشى الله، ولا يخشاه حتى يعرفه، ولا يعرفه حتى يعامله ولا يعامله حتى يقربه، ولا يقربه حتى يعني به، وينظر إليه، فعندها يعرف سرّ الخطاب ويطلع على باطن الكتاب، فإذا سجد العبد سجود القرآن فليدع في سجدته بمعاني الآية من الخير وليستعذ من معاني شرّها فإن ذلك فعل العلماء بالقرآن والله يحب ذلك، ولتلك المعاني أسجدهم له مثل أن يقرأ قوله عزّ وجلّ: (خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ) السجدة: 15، فيقول اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك أو على أوليائك، ومثل هذا قوله عزّ وجلّ: (وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزيدُهُمْ خُشُوعاً) الإسراء: 109، فليقل: اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك وعلى هذه المعاني ونحوها وليكن القرآن هو علمه وعمله وذكره ودعاؤه وهمّه وشغله فعنه يسأل وعليه يثاب ومقامه منه وذكره فيه وأحواله فيه مجموع له ذلك كله فيه، فبكلامه عرفه العارفون وبمخاطبته شهد أوصافه الموقنون فعلومهم من كلامه ومواجيدهم عن علومهم ومشاهدتهم عن معاني أوصافه وكلامهم عن مشاهدتهم لأن ضروب الكلام عن الله هي معاني الصفات: فمنه كلام راضٍ ومنه كلام غضبان ومنه كلام منعم وكلام منتقم وكلام جبّار متكبّر وحنّان متعطّف، فإذا كان العبد من أهل العلم بالله والفهم عنه والسمع من الله عزّ وجلّ والمشاهدة له شهد ما غاب عن غيره وأبصر ما عمي عنه سواه، وقد قال سبحانه وتعالى: (فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ) (وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ) الحاقة: 38 - 39 وقال عزّ وجلّ: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولي الأَبْصَارِ) الحشر: 2 معناه في الفهم أعبروا إليّ فقد أبصرتم فالتاء قد تكون بمعنى تاء التفعل تدخل للتحقيق والوصول بالوصف والمبالغة في الفعل فلما أعطاهم الأيدي والأبصار عبروا بقواهم إلى ما أبصروا ففروا إلى الله عزّ وجلّ من الخلق حين ذكروه بما خلق فخرجوا على معيار حسن الابتلاء ولم ينقصهم البلاء شيئاً فكانوا كما أخبروا كالذي أمر في قوله عزّ وجلّ: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) الذاريات: 49، ففروا إلى الله ثم قال: (وَلاَ تَجْعَلُوا مَعَ الله إِلهاً آخَرَ) الذاريات: 51 فكانوا هم الموحدون المخلصون له وكان هو المنفرد المستخلص لهم ثم جاوزوا التذكرة بالأشياء إليه فذكروه عنده به، فحينئذ هربوا إليه منه حين هللوه به فلم يتألهوا إلى ما سواه كما لم يعبدوا إلا إياه وكذلك رأيتها في مصحف عبد الله ففروا إلى الله منه إني لكم منه نذير مبين، وفي الخبر عن ابن مسعود وبعض الرواة يرفعه وقد روينا مسنداً من طريق وهو خصوص العارفين من المحبين والخالصين اطلعوا على السرّ وأوقفوا على الخبر فكانوا مقربين شاهدين أن للقرآن ظهراً وبطناً وحداً ومطلعاً فنقول فظهره لأهل العربية وباطنه لأهل اليقين وحده لأهل الظاهر ومطلعة لأهل الأشراف وهم العارفون المحبون(1/93)
والخائفون اطلعوا على لطف
المطلع بعد أن خافوا هول المطلع فأودعوا السرّ عند مقام أمين وأوقفوا على الخبر في حال مكين فكانوا لديه مقربين إذ كانوا به شاهدين، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يرى الشاهد ما لا يرى الغائب فمن حضر شهد ومن شهد وجد ومن وجد وحد ومن وحد عزز ومن غاب عمي ومن عمي فقد ومن فقد نسي ومن نسي فقد نسي وقد قال الله عزّ وجلّ: (كَذلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسيتَهَا وَكَذلِك الْيَوْمَ تُنْسى) طه: 126 أي تركتها فلم تعبأ بها ولم تنظر إليها وهكذا اليوم تترك فلا ينظر إليك برحمة ولا تكلم بلطف ولا تزلف بقرب.(1/94)
الفصل السابع عشر
كتاب ذكر نوع من المفصل والموصل من الكلام
وفيه مدح العالمين وذم الغافلين عنه وتفسيرالغريب والمشكل من القرآن
باختصار الأصول الدالة على المعنى فأما ظاهر الكلام فعلى معنيين عجيبين وهو مجمل مختصر وموصل مكرر فإجماله واختصاره للبلاغة والإيجاز قال تعالى: (إنَّ في هذاَ لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدين) الأنبياء: 106 ومكرره وتفصيله للإفهام والتذكار، قال الله تعالى: (ولَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون) القصص: 51، وقال عزّ وجلّ في المبهم المجمل والتوحيد المفصل: (آلركِتابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكيمٍ خَبيرٍ) هود: 1 فهذه ثلاثة أسماء الله لطيف رحيم وقيل بل هي حروف من اسم وهو الرحمن ثم أظهر السبب فقال كتاب أحكمت آياته يعني بالتوحيد ثم فصلت أي بالوعد والوعيد ثم قال من لدن حكيم أي للأحكام خبير أي بالأحكام خبير بالتفصيل للحلال والحرام ألا تعبدوا إلا الله هذا هو التوحيد الذي أحكمه أنني لكم منه نذير وبشير هذا الوعد والوعيد الذي أعمله فمن المختصر للإيجاز قوله تعالى: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا) الإسراء: 59، ففي هذا مختصر ومحذوفان فالمضمر قوله مبصرة المعنى آية مبصرة فأضمر ومحذوفاه قوله فظلموا بها المعنى ظلموا أنفسهم بالتكذيب بها فاختصرت كلمتان من كلمتين للإيجاز ومثله قوله: (وَهِيَ خَاويَةٌ عَلى عُرُوشِها) البقرة: 259 الخواء الخلاء والعروش السقوف وهو جمع عرش فكيف تكون خاوية من العروش والعروش موجودة فيها، فهذا من المختصر المحذوف ومعناه وهي خاوية من ثمرها أو من أهلها واقعة على عروشها ومثله قوله تعالى: (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) البقرة: 177، حذف الفعل وأقيم الاسم مقامه فالمعنى فيه ولكن البرّ برّ من آمن بالله وقد يكون من المبدل فيكون المحذوف هو اسم أبدل الفعل مكانه ولكن البر من آمن بالله فلمّا كان البر وصفه أقيم مكانه وممثل معنى الأوّل قوله عزّ وجلّ: (وَأُشْرِبُوا في قُلُوبِهِمِ العِجْلَ) البقرة: 93 أي حب العجل، ومن ذلك قوله عزّ وجلّ: (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) الكهف: 74، ولم يذكر قتله والمعنى بغير نفس قتلها فحذف الفعل ومثله أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في(1/95)
الأرض أضمر قوله بغير نفس قتلها أو بغير فساد في الأرض فاكتفى عنه بذكر غير الأولى وكذلك قوله: (مَنْ فِي السَّمَواتِ وَالأرْض) آل عمران: 83 معناه ومن في الأرض وكذلك قوله: (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِينِ) التين: 7 هو متصل بقوله سبحانه: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أحْسَنِ تَقْويمٍ) التين: 4 وفصل بينهما النعت والاستثناء والمعنى فما يكذبك بعد هذا البيان أيها الإنسان بالديانة فأي شيء يحملك على التكذيب بأن تدين اللّّه تعالى وهو أحكم الحاكمين ومن المبدل المضمر أيضاً: (إذاً لأذَقنَاكَ ضِعْفَ الحَياةِ وَضِعْفَ المَماتِ) الإسراء: 75 المعنى ضعف عذاب الأحياء وضعف عذاب الموتى فأضمر ذكر العذاب وأبدل الأحياء والموتى بذكر الحياة فأقام الوصف مقام الاسم، ويصلح أيضاً أن يترك الوصف على لفظه ويضمر أهل فيكون ضعف عذاب أهل الحياة وضعف عذاب أهل الممات كما أضمر أهل في ذكر القرية وذكر العير فقال: (وَسئَلِ القرْيَةَ التي كُنَّا فِيها والعَيْرَ التي أقبَلْنَا فيهَا) يوسف: 82 والمعنى: واسأل أهل القرية وأسأل أهل العير، ومن هذا المعنى قوله تعالى: (ثَقُلَتْ في السَّمَواتِ وَالأَرْضِ) الأعراف: 187 هو من المبدل المضمر، فمبدله ثقلت ومعناه خفيت، أبدل بدلالة المعنى عليه لأن الشيء إذا خفي علمه ثقل وكذلك قوله في السموات معناه على ومضمر أهل والمعنى خفيت على أهل السموات وأهل الأرض لا تأتيكم إلا بغتة يعني فجأة، ومنه قوله عزّ وجلّ: (تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُف) يوسف: 85 فيه مضمر ومحذوف، فمحذوفه تزال؛ ومضمره لا التي هي جواب القسم، والمعنى: قالوا تاللّّه لا تزال تفتؤا تذكر يوسف فأضمرت لا وأبدلت تزال بقوله تفتؤا وهي من مختصر الكلام وفصيحه وبليغه وهي لغة لبعض العرب وفي القرآن من كل لغة.
ومن هذا قوله عزّ وجلّ: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون) الواقعة: 82 وقوله سبحانه: (بَدَّلُوا نِعْمَتَ الله كُفْراً) إبراهيم: 28 معناه تجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون وكذلك بدلوا شكر نعمة الله كفراً بها ومثله (فَكَأيّن مِنْ قَرْيَةٍ أهْلَكْنَاهَا) الحج: 45: (وَكَأيّن مِنْ قَرْيَةٍ أمْلَيْتُ لَهَا) الحج: 48 معناه أهل قرية مثل قوله: (وَسئَلِ العَيْرَ) يوسف: 82 المعنى أهل العير والعير هي الإبل المجهولة وهذا الذي تسميه النحويون المجاز، وهكذا قوله: (إنَّ هَذَ القُرْآنَ يَهْدِي لِلًَّتي هِيَ أَقْوَمْ) الإسراء: 9 معناه للطريقة التي هي أقوم، ومثل هذا قوله عزّ وجلّ: (وَقُلْ لِعَبادي يَقُولُوا الَّتي هِي أَحَسَنُ) الإسراء: 53 أي يقولوا الكلمة التي هي أحسن ومثل هذا قوله: (ادْفَعْ بِالَّتي هِي َ أَحْسَنُ السَيِّئَةَ) المؤمنون: 96 أي بالكلمة أو بالفعلة التي هي أحسن ومثل قوله: (إِنَّ الذينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى) الأنبياء: 101 أي الكلمة الحسنى والوجه الآخر أن الحسنى اسم لا نعت فمعناه الجنة وهكذا قوله: (عَلى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) البقرة: 102 أي على عهد(1/96)
ملك سليمان فأضمر قوله عهد، ومثل قوله: (وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلى رُسُلِكَ) آل عمران: 194 أي على ألسنة رسلك فأضمر ألسنة ومن المكنّى المضمر قوله تعالى: (وَمَا أَنْسانِيهُ إلاّ الشَّيْطَانُ) سورة الكهف: 63 أضمر الحوت وذكره واسم موسى للاختصار والمعنى، وما أنساني ذكر الحوت لك إلا الشيطان ومثله قوله: (إنَّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدرِ) القدر: 1 أي أنزلنا القرآن فكنّي عنه ولم يتقدّم له ذكر وكذلك قوله: (حَتّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) ص: 32 يعني توارت الشمس بحجاب الليل فكنِّي عنها ولم يجرِ لها ذكر ومثله وقوله عزّ وجلّ: (وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَّذينَ صَبَرُوا) فصلت: 35 أي الكلمة الطيبة أو الفعلة التي هي أحسن وبمعناه قوله تعالى: (وَلاَ يُلَقَّاهَا إلاَّ الصَّابرُون) القصص: 80 يعني كلمة الزهد في الدنيا ومقالة الترغيب والرغبة في الآخرة عائد على قوله تعالى: (وَيْلَكُمْ ثَوَابٌ الله خَيْرٌ) القصص: 80 أي هذه المقالة ومن المبدل المختصر قوله عزّ وجلّ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ الله أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بالإِثْم) البقرة: 206 معناه حملته العزة على الإثم أي حمله التعزز والأنفة على الإثم ولم يبال فأخذته بمعنى حملته بالإثم بمعنى على الإثم.
ومن هذا قوله: (لاَ تأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ) البقرة: 255 أي لا تحمله سنة ولا نوم لأن السنة تحمل العبد أي تذهب به عن التيقظ ومن المنقول المنقلب قوله عزّ وجلّ: (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِِهِ) الحج: 13 اللام في لمن منقولة والمعنى يدعو من لضره أقرب من نفعه ومثله: (لَتَنُوأُ بِالعُصْبَة) القصص: 76 معناه لتنوء العصبة بها أي لتثقل بحملها لثقلها عليهم ومثله قوله: (وَطُورٍ سِنِين) التين: 2 سلام على آل ياسين وهو مما قلب اسمه لازدواج الكلم المعنى طورسينا وسلام على الياسين قيل إدريس لأن في حرف ابن مسعود سلام على إدريس ونحوه جعلوا القرآن عضين أي أعضاء كأنهم عضوه فآمنوا ببعض وكفروا ببعض وبمعناه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت المعني وجعل منهم عبد الطاغوت ويصلح أن يكون معطوفاً على قوله: (مَنْ لَعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ) المائدة 60، ومن (عَبَدَ الطَّاغُوتَ) المائدة: 60 ومن قرأ الطاغوت بالكسر فإنه يجعل عبد أسماً وأضافه إلى الطاغوت بمعنى وعبدة وعباد وفيه خمس لغات أخرى عباد الطاغوت وعبد الطاغوت وعبدة الطاغوت وعباد الطاغوت وعبد الطاغوت، وأما عبد الطاغوت نصباً فهو بمعنى الفعل من العبادة ومن المضمر المختصر أيضاً قوله عزّ وجلّ: (أَلاَ إنَّ عَاداً كَفَروا رَبَّهُمْ) سورة هود: 60 ضميره إحدى كلمتين كفروا نعمة ربهم كفروا توحيد ربهم فأضمر للاختصار وانتصاب الاسم لسقوط الخافض وفيها وجه غريب إلاّ أنه محمول على المعنى لأنه أي غطوا ربهم التغطية أي غطوا آياته وما دعا إليه من الحق والمعنى كفرهم أي غطى عليهم بما غطوا ربهم هكذا حقيقة في التوحيد إذ الأولية في كل فعل منه وهم ثوان فيما بعد فهو بمعنى قوله: (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) الأنعام: 9 اللبس التغطية.(1/97)
ومنه قوله: (الَّذينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله أَوْلِيَاءً) العنكبوت: 41، ما نعبدهم مضمره يقولون ما نعبدهم ومثله فظلتم تفكرون إنّا لمغرمون أي يقولون إنّا لمغرمون وعلى هذا المعنى وجه قوله: (فَمَالِ هؤُلاَء الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُون حَدِيثاً) النساء: 78 ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك، المعنى فيه يقولون: ما أصابك على معنى الإخبار عنهم والذم لهم فهلكت بذلك القدرية لجهلهم بعلم العربية فظنوا أنه ابتداء شرع وبيان من الله عزّ وجلّ وقد أحكم الله عزّ وجلّ ابتداء شرعه وبيانه بأوّل الآية في قوله: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ الله) النساء: 78، وقد كان ابن عباس يقول إذا اشتبه عليكم شيء من القرآن فالتمسوه في كلام العرب فإن الرجل يتلو الآية فيعيا بوجهها فيكفره وقرأتها في مصحف عبد الله بن مسعود فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً قالوا ما أصابك من حسنة فهذا كما أنبأتك وقد رأيت في مصحف عبد الله والذين اتخذوا من دونه أولياء قالوا ما نعبدهم فهذا من ذلك، ومن المضمر قوله تعالى: (وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً في الأَرْضِ يَخْلُفُونَ) الزخرف: 60 ليس أنه يجعل من البشر ملائكة ولكن معناه لجعلنا بدلاً منكم ملائكة ويصلح لجعلنا بدلكم بمعنى منكم، ومن المبدل له قوله عزّ وجلّ: (وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) المؤمنون: 61 اللام بدل من الباء المعنى وهم بها سابقون لأنهم لو سبقوها لفاتتهم، وعلى هذا المعنى قال بعضهم إن قوله عزّ وجلّ: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) الأعراف: 143، أي بالجبل كان الجبل حجاباً لموسى فكشفه عنه فتجلّى به كما قال من الشجرة أن يا موسى إنني أنا الله فكانت الشجرة وجهة لموسى كلمه الله عزّ وجلّ منها ومثله: (وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ في جُذُوعِ النَّخْلِ) طه: 71 معناه على جذوع، وكذلك: (فَلا تَجْعَلْني فِي القَوْمِ الظَّالِمين) المؤمنون: 94 معناه أي مع القوم وبمعناه: (أمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فيه) الطور: 38 أي عليه ويصلح به وكذلك قوله: (مُسْتَكْبرينَ بِهِ) المؤمنون: 67 أي عنه يعني عن القرآن، فعلى هذا مجاز قوله تعالى: (فَاسْألْ بِهِ خَبيراً) الفرقان: 59 أي سل عنه، فحروف العوامل يقوم بعضها مقام بعض، ومثله قوله: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بهِ) المزمل: 18 أي فيه يعني في اليوم مثله: (لَئِلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌْ إلاَّ الَّذينَ ظَلَمُوا) البقرة: 150 معناه ولا الذين ظلموا فأبدلت إلا بقوله ولا يجوز أن تكون إلا مستأنفة بمعنى لكن الذين ظلموا متصلة بخبرها من قوله: (فَلا تَخْشَوْهُمْ) البقرة: 150 فهو بمعنى قوله: (لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) (إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ) النمل: 10 - 11، أي لكن من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء فيكون مبتدأ لذكر خبرها بعد وبمعناه قوله تعالى: (وَلاَ تأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُم) النساء: 2، أي مع أموالكم وكذلك قوله: (وَأَيْدِيَكُمْ إلى الْمَرَافِقِ) المائدة: 6 أي مع المرافق لأنها داخلة في الغسل والحروف العوامل تنوب بعضها عن بعض ولو أظهر مثل هذا المضمر ووصل مثل هذا المحذوف لكانت القراءة ضعيفة.(1/98)
ومن الموصول المكرر للبيان والتوكيد قوله عزّ وجلّ: (وَمَا يَتَّبعُ الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ) يونس: 66 قوله له: (إنْ يَتَّبِعُونَ) يونس: 66 مردود ردّه للتوكيد والإفهام كأنه لما طال الكلام أعيد ليقرب من الفهم والمعنى ما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء (إِلاَّ الظَّنَّ) يونس: 66 أي أتباعهم الشركاء ظن منهم غير يقين ونحوه من المكرر المؤكد قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم اختصاره الذين استكبروا لمن آمن من الذين استضعفوا فلما قدم الذين استضعفوا وكان المراد بعضهم كرر المراد بإعادة ذكر من آمن منهم للبيان ومثله: (إلاَّ آلَ لُوطٍ إنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أجْمَعينَ) الحجر: 59 (إلاَّ امْرَأَتَهُ) الحجر: 60، فأدخل الاستثناء على الاستثناء وهو يطول في كلامهم لأنه أراد بالنجاة بعض الآل فلما أجملهم أخرج مستثنى من مستثنى وفي هذا دليل أن الأزواج من الآل لأنه استثنى امرأته من آله ومن المكرر للتوكيد قوله تعالى: (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ) القصص: 19، مختصره فلما أراد يبطش وقد قيل أن هذا من المختصر المضمر مما أضمر فيه الاسم وحذف منه الفعل وهو غريب، فيكون تقديره فلما أن أراد الإسرائيلي أن يبطش موسى: (بِالَّذي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا) القصص: 19 فلم يفعلْ، (قَالَ يَا مُوسى أتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي) القصص: 19 فهذا حينئذ من أخصر الكلام وأوجزه ومن المكرر المؤكد قوله عزّ وجلّ: (فَيَنْظُرُ كَيْفَ كان عَاقِبَةُ الَّذينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا همْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) غافر: 21 مفهومه وجائزه فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشدّ منهم قوّة فوصل بمن ووكد فكان هم أشد، وقراءتها في مصحف ابن مسعود عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشدّ قوّة ليس فيها كانوا ولا قوله هم وبمعناه وإن قصر قوله تعالى: (لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) الزخرف: 33، هذا مما طول للبيان والمعنى لجعلنا البيوت من يكفر بالرحمن فلما قدم من وهي أسماء من يكفر أعيد ذكر البيوت مؤخراً ومن المكني المبهم المشتبه قوله عزّ وجلّ: (ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَمْلوكاً لاَ يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍٍ) النحل: 75 الشيء في هذا الموضع الإنفاق مما رزق الله وقوله تعالى: (وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) النحل: 76، فالشيء في هذا الموضع الأمر بالعدل والاستقامة على الهدى وكذلك قوله: (فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْني عَنْ شَيْءٍ) الكهف: 70 الشيء في هذا الموضع وصف مخصوص من وصف الربوبية من العلم الذي علمه الخضر عليه السلام من لدنه لا يصلح أن يسأل عنه حتى يبتدئ به فلذلك كني عنه وكذلك العلم على ضربين: ضرب لا يصلح أن يبتدأ به حتى يُسأل عنه وهو مما لا يضيق علمه فلذلك وسع جهله وحسن كتمه، وعلم لا ينبغي أن يُسأل عنه من معنى صفات التوحيد ونعوت الوحدانية لا يوكل إلى العقول بل يخص بها المراد المحمول فعلم الخضر الذي شرط على موسى عليهما السلام أن لا يسأل عنه حتى يبادئه به من هذا النوع والله(1/99)
غالب على أمره وقوله عزّ وجلّ: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) الطور: 35 يعني الله تعالى أي كيف يكون خلق من غير خالق، ففي وجودهم ثبوت خالق فهم دلالة عليه أنه خلقهم، وروينا ذلك عن ابن عباس وعن زيد بن علي رضي الله عنهما قالا في قوله عزّ وجلّ: (مِنْ غَيْرِ شيْءٍ) النحل: 76، أي من غير رب كيف يكون خلق من غير خالق وقوله عزّ وجلّ: (وَالله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ في الرِّزْقِ) النحل: 71 فالبعض الأوّل المفضل في الرزق هم الأحرار والبعض الآخر المفضول هم المماليك ومثله قوله تعالى: (وَقَالَ قَرينُهُ هذَا مَا لَدَيَّ عَتيدٌ) ق: 23 قرنه هذا هو الملك الموكل بعلمه أحضر ما عنده مما علمه من فعله، وقوله عزّ وجلّ: (قَالَ قَرينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيتُهُ) ق: 27 قرينه هذا هو شيطانه المقرون به ومثله قوله تعالى: (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ في الْغَيّ ثُمَّ لاَ يُقْصِِرونَ) الأعراف: 202 الهاء والميم المتصلة بإخوان أسماء الشياطين والهاء والميم المتصلة بِيَمُدُّونَ أسماء المشركين أي
الشياطين إخوان المشركين يمدّون المشركين في الغيّ ولا يقصرون عنهم في الإمداد وبمعنى هذا قوله تعالى: (إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّْذينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) النحل: 100 الهاء الأولى المتصلة بِيَتَوَلَّوْنَ كناية عن إبليس والهاء المتصلة بالباء من قوله هم به هي اسم الله عزّ وجلّ وقد قيل أيضاً إنها عائدة على إبليس أيضاً فيكون المعنى هم به قد أشركوا في التوحيد أي أشركوه بعبادة الله عزّ وجلّ ومثل هذا قوله عزّ وجلّ: (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) العاديات: 4 - 5، الهاء الأولى كناية عن الحوافر وهنّ الموريات قدحاً يعني الخيل تقدح بحوافرها فتوري النار فأثرن به أي بالحوافر النقع يعني التراب والهاء الثانية كناية عن الإغارة فوسطن أي توسطن به بالإغارة وهنّ المغيرات صبحاً وسطن جمع المشركين أغاروا عليهم بجمعهم والمشركون غارون وبهذا المعنى قوله عزّ وجلّ: (فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَات) الأعراف: 57 الهاء الأولى عائدة على السحاب أي أنزلنا بالسحابة الماء وفي قوله به مبدل ومكنى، فالمكنى هو ما ذكرناه من أسماء السحاب والمبدل أن به بمعنى منه ومثل هذا قوله: (يَشْرَبُ بِها عِبَادُ اللهِ) الإنسان: 6 أي منها وهو صريح قوله في المفسر: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً) النبأ: 14 يعني السحاب وهو قوله: (سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) الأعراف: 57 وقوله في الهاء الثانية أخرجنا به من كل الثمرات يعني بالماء فجمع بين اسم السحاب والماء بالهاء فأشكل ومن البيان الثاني والثالث للخطاب المجمل قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذي أُنْزِلَ فيهِ الْقُرآن) البقرة: 185 فلم يفهم إلا أن القرآن أنزل في شهر رمضان ولم يدر أنهاراً أنزل فيه أو ليلاً، فقال في البيان الثاني: (إنَّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةٍ مبَارَكَةٍ) الدخان: 3، فلم يفهم منه إلا أنه أنزل منه ليلاً في ليلة مباركة ولم يدر أي ليلة هي فقال في البيان الثالث: (إنَّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ) القدر: 1 فهذا غاية البيان وبمعناه قوله تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّه واستوى آتَيْنَاهُ) يوسف: 22. شياطين إخوان المشركين يمدّون المشركين في الغيّ ولا يقصرون عنهم في الإمداد وبمعنى هذا قوله تعالى: (إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّْذينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) النحل: 100 الهاء الأولى المتصلة بِيَتَوَلَّوْنَ كناية عن إبليس والهاء المتصلة بالباء من قوله هم به هي اسم الله عزّ وجلّ وقد قيل أيضاً إنها عائدة على إبليس أيضاً فيكون المعنى هم به قد أشركوا في التوحيد أي أشركوه بعبادة الله عزّ وجلّ ومثل هذا قوله عزّ وجلّ: (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) العاديات: 4 - 5، الهاء الأولى كناية عن الحوافر وهنّ الموريات قدحاً يعني الخيل تقدح بحوافرها فتوري النار فأثرن به أي بالحوافر النقع يعني التراب والهاء الثانية كناية عن الإغارة فوسطن أي توسطن به بالإغارة وهنّ المغيرات صبحاً وسطن جمع المشركين أغاروا عليهم بجمعهم والمشركون غارون وبهذا المعنى قوله عزّ وجلّ: (فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَات) الأعراف: 57 الهاء الأولى عائدة على السحاب أي أنزلنا بالسحابة الماء وفي قوله به مبدل ومكنى، فالمكنى هو ما ذكرناه من أسماء السحاب والمبدل أن به بمعنى منه ومثل هذا قوله: (يَشْرَبُ بِها عِبَادُ اللهِ) الإنسان: 6 أي منها وهو صريح قوله في المفسر: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً) النبأ: 14 يعني السحاب وهو قوله: (سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) الأعراف: 57 وقوله في الهاء الثانية أخرجنا به من كل الثمرات يعني بالماء فجمع بين اسم السحاب والماء بالهاء فأشكل ومن البيان الثاني والثالث للخطاب المجمل قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذي أُنْزِلَ فيهِ الْقُرآن) البقرة: 185 فلم يفهم إلا أن القرآن أنزل في شهر رمضان ولم يدر أنهاراً أنزل فيه أو ليلاً، فقال في البيان الثاني: (إنَّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةٍ مبَارَكَةٍ) الدخان: 3، فلم يفهم منه إلا أنه أنزل منه ليلاً في ليلة مباركة ولم يدر أي ليلة هي فقال في البيان الثالث: (إنَّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ) القدر: 1 فهذا غاية البيان وبمعناه قوله تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّه واستوى آتَيْنَاهُ) يوسف: 22.(1/100)
فهذا البيان الأوّل زيادة على الأشد وهو الوصف إلاّ أنه غير مفسر ثم قال في البيان الثاني: (حَتّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعينَ سَنَةً) الأحقاف: 15، ففسّر الأشد بالأربعين إذا كانت الواو للمدح والوصف في أحد الوجهين ومعناه الجمع قوله تعالى: (وَالْعَصْرِ) (إنَّ الإنْسَانَ لَفي خُسْرٍ) العصر: 1 - 2 معناه أن الناس لفي خسر أي لفي خسران لقوله: (إنَّ الَّذينَ آمنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) مريم: 96 ولا يستثنى جماعة من واحد وإنما يستثنى جماعة من جماعة أكثر منهم وإنما وحد الاسم للجنس وكذلك قوله تعالى: (يَا أيُّهَا الإنْسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً) الانشقاق: 6 معناه يا أيها الناس إنكم كادحون دل عليه قوله عزّ وجلّ: (فَأمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ) الانشقاق: 7 (وَأمَّا مَنْ أُوتِي كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِه) الانشقاق: 10 وإنما وحد النعت لتوحيد الاسم وكذلك قوله عزّ وجلّ: (وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) الأحزاب: 72 معناه حملها الناس كلهم وهذا أحب الوجهين إليّ لقوله عزّ وجلّ: (لِيُعَذِّبَ الله الْمُنَافِقينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكينَ وَالْمُشْرِكَاتِ) الأحزاب: 73 ومثله قوله عزّ وجلّ: (وَإنَّا إذَا أَذَقْنَا الإنْسانَ منَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا) الشورى: 48 معناه وإنا إذا أذقنا الناس منا رحمة فرحوا بها فلما وحد الاسم وحد نعته دل عليه قوله تعالى: (وَإنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِم) الشورى: 48 فأظهر الجمع ومن الجمع المراد به الواحد قوله عزّ وجل: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلين) الشعراء: 105 يعني نوحاً وحده لأنه لم يرسل إلى قوم نوح غيره ودلّ عليه قوله تعالى: (إذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ) الشعراء: 106، فوحّد الجمع ومثله فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء يعني بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده يوم خيبر ومن الجمع المكني قوله عزّ وجلّ: (لَخَلْقُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) غافر: 57 يعني في هذا الموضع الدجال ونزل ذلك في الذكر الدجال واستعظامهم لوصفه وكذلك قوله تعالى: (الَّذينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) آل عمران: 173 يعني رجلاً واحداً قاله لهم وهو عروة بن مسعود الثقفي، فجمع لفظه لأجل جنسه والعرب تجمع الواحد للجنس، وكذلك قيل في أحد الوجوه إن قوله عزّ وجلّ: (ثُمَّ أَفيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) البقرة: 199 يعني آدم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده وهو أوّل من طاف بالبيت وأتاه جبريل وأشعر له المناسك وقد قرأت في بعض حروف السلف من حيث أفاض آدم فهذا شاهد له ومن المقدم والمؤخر لحسن تأليف الكلم ومزيد البيان والإظهار قوله عزّ وجلّ: (مَنْ كَفَرَ بالله مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإِيمَان وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْراً) النحل: 106 اختصاره ومؤخره من كفر بالله بعد إيمانه وشرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن وكد بقوله ولكن من شرح بالكفر صدراً لما استثنى المكره وقلبه مطمئن بإيمان ولم يجعل المكره آخر الكلام لئلا يليه قوله: (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ) النحل: 106 فيتوهم انه خبره وجعل آخر الكلام فعليهم غضب من الله وهو في(1/101)
المعنى مقدم خبر الأوّل من قوله من كفر بالله من بعد إيمانه فأخر ليليه قوله تعالى: (ذلِكَ بأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الحيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ) النحل: 107 لأنه من وصفهم فيكون هذا أحسن في تأليف الكلام وسياق المعنى وكذلك قوله تعالى: (وَقيلِهِ يَا رَبِّ إنَّ هؤُلاَءِ قَوْمٌ) الزخرف: 88، هذا من المعطوف المضمر ومن المقدم والمؤخر فعاطفه قوله وعنده علم الساعة وضميره قوله وعلم قيله والمعنى وعنده علم الساعة وعلم قيله يا ربّ هذا على حرف من كسر اللام فأما من نصبها فإنه مقدم أيضاً ومحمول على أن المعنى أي وعنده علم الساعة ويعلم قيله يا ربّ، فأما من رفع اللام فقرأ وقيله فتكون مستأنفة على الخبر وجوابها الفاء من قوله: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) الزخرف: 89 أي قوله إن هؤلاء قوم لا يؤمنون فاصفح عنهم، وقد تكون الواو في قوله
وقيله للجمع مضمومة إلى علم الساعة والمعنى وعنده علم الساعة وعنده قيله يا رب جمع بينهما بعند فهذا مجاز هذه المقارى الثلاث في العربية ومما حمل على المعنى قوله عزّ وجلّ: (فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) الأنعام: 96ثم قال: (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً) الأنعام: 96 فلو لم يحمل على المعنى لكانت الشمس والقمر خفضاً إتباعاً للفظ قوله فالق وجاعل ولكن معناه وجعل الشمس والقمر حسباناً وهي على قراءة من قرأ وجعل الليل سكناً متبعة لجعل ظاهر أو بمعناه قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرجُلَكُمْ) المائدة: 6 في قراءة من نصب اللام محمولاً على معنى الغسل من قوله عزّ وجلّ: (فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ) المائدة: 6 أيضاً، ومن قرأ وأرجلكم خفضاً حمله على اتباع الإعراب من قوله عزّ وجلّ: (بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) المائدة: 6 فأتبع الإعراب بالإعراب قبله لأن مذهبه الغسل لا المسح واختيارنا نصب اللام في المقروء على نصب الغسل واتباع الوجه واليدين إلا أنه روي عن ابن عباس وأنس بن مالك نزل القرآن بغسلين ومسحين وسنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غسل الأقدام فنحن نفعل كما فعل. وقيله للجمع مضمومة إلى علم الساعة والمعنى وعنده علم الساعة وعنده قيله يا رب جمع بينهما بعند فهذا مجاز هذه المقارى الثلاث في العربية ومما حمل على المعنى قوله عزّ وجلّ: (فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) الأنعام: 96ثم قال: (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً) الأنعام: 96 فلو لم يحمل على المعنى لكانت الشمس والقمر خفضاً إتباعاً للفظ قوله فالق وجاعل ولكن معناه وجعل الشمس والقمر حسباناً وهي على قراءة من قرأ وجعل الليل سكناً متبعة لجعل ظاهر أو بمعناه قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرجُلَكُمْ) المائدة: 6 في قراءة من نصب اللام محمولاً على معنى الغسل من قوله عزّ وجلّ: (فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ) المائدة: 6 أيضاً، ومن قرأ وأرجلكم خفضاً حمله على اتباع الإعراب من قوله عزّ وجلّ: (بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) المائدة: 6 فأتبع الإعراب بالإعراب قبله لأن مذهبه الغسل لا المسح واختيارنا نصب اللام في المقروء على نصب الغسل واتباع الوجه واليدين إلا أنه روي عن ابن عباس وأنس بن مالك نزل القرآن بغسلين ومسحين وسنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غسل الأقدام فنحن نفعل كما فعل.
وقوله عزّ وجلّ: (وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزِاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً) طه: 129 من المقدم والمؤخر، فالمعنى فيه ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاماً وبه ارتفاع الأجل ولولا ذلك لكان نصباً كاللزام فأخر لتحسين اللفظ وبمعناه قوله عزّ وجلّ: (يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) الأعراف: 187 المعنى يسألونك عنها كأنك حفيّ بها أي ضنين بعلمها ومثله قوله تعالى: (أَوْ نُنْسِهَا نَأَتِ بخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) البقرة: 106 أي نأت منها بخير فقدم بخير وأخر منها فأشكل ومن المؤخر بعد توسط الكلام قوله عزّ وجلّ: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) الانشقاق: 19 في قراءة من وحد الفعل هو متصل بقوله عزّ وجلّ: (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً) الانشقاق: 6 لتركبن طبقاً عن طبق أي حالاً بعد حال في البرزخ فأخر الأحوال(1/102)
للقرار في الدار وكذلك هو في قراءة من جمع فقال لتركبن أيها الناس فيكون الإنسان في معنى الناس كما ذكرناه آنفا، ويكون الجمع عطفاً على المعنى وإنما وحد للجنس فكأنه قال يا أيها الناس لتركبن طبقاً عن طبق فأخر هذا الخبر لما توسطه من الكلام المتصل بالقصة ومعناه التقديم، ومثل هذا قوله عزّ وجلّ: (وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيْطَانَ) النساء: 83 وقوله: (إلاَّ قَليلاً) النساء: 83 هو متصل بقوله: (لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ إلاَِ قَليلاً) النساء: 83 وآخر الكلام: (لاََتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ) النساء: 83، وقد قيل إن قوله إلا قليلاً مستثنى من الأول في قوله: (وَإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوفِ أَذاعُوا بِهِ) النساء: 83 إلاّ قليلاً منهم وفي هذا بعد والأول أحب إليّ، وعلى هذا المعنى قرأ ابن عباس في رواية عنه لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم جعله متصلاً بقوله تعالى: (مَا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) النساء: 147 إلا من ظلم وصار آخر الكلام لا يحب الله الجهر بالسوء من القول فاصلاً ومثل هذا قوله تعالى: (وَالَّذينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأَرْضِ) الأنفال: 73 إنما هو من صلة قوله: (وَإن اسْتَنْصَرُوكمْ في الدّينِ فَعَلَيْكمُ النَّصْرُ) الأنفال: 72 إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض.
وكذلك قوله في أوّل السورة: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَريمٌ) الأنفال: 74 كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ليس هذا من صلة الكلام إنما هو مقدم ومتصل في المعنى بقوله: (قُلِ الأَنْفَالُ لله والرَّسُول) الأنفال: 1 و (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالحَقِّ) الأنفال: 5، أي فصارت أنفال الغنائم لك إذ أنت راضٍ بإخراجك وهم كارهون فاعترض بينهما الأمر بالتقوى والإصلاح والوصف بحقيقة الإيمان والصلاح فأشكل فهمه، وعلى هذا قوله عزّ وجلّ: (حَتّى تُؤْمِنُوا بِالله وَحْدَهُ إلاّ قَوْلَ إبْراهيمَ لأبيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) الممتحنة: 4 إنما هو موصول بقوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إبْراهيمَ وَالََّذينَ مَعَهُ إلاّ قَوْلَ إبْراهيمً لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَك) الممتحنة: 4 لأنها نزلت في قولهم فقد استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك عند قوله: لأستغفر لك ربّي فقالوا: فهلاّ نستغفر لآبائنا المشركين، فنزلت هذه الآية ليستثني القدوة في إبراهيم في هذا ثم نزلت الآية الأخرى معذرة له أوعده إياه إلى أن علم موته على الكفر فقال وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه الآية، وكذلك قوله عزّ وجلّ: (وَرَضيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ ديناً فَمَنِ اضْطُرَّ في مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ) المائدة: 3، وهذا متصل بقوله: (حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ) النحل: 115 إلى آخر المحرمات، ثم قال: (فَمَنْ اضْطُرَّ في مَخْمَصَةٍ) المائدة: 3 يعني مجاعة ومثل ما ذكرناه من علم القرآن كثير وإنما نبهنا بيسير على كثير ودللنا بنكت على جم غفير ليستدل بما ذكرناه على نحوه ويتطرق به إلى مثله وهذا كله على ضروب كلام العرب(1/103)
ومعاني استعمالهم ووجوه استحسانهم أنه في كلامهم المطوّل للبيان والمختصر للحفظ والمقدم والمؤخر للتحسين وكله فصيح بليغ، لأن وصف البلاغة عندهم رد الكثير المنثور إلى القليل المجمل وبسط القليل المجمل إلى المبثوث المفسر فالمقصر من الكلام عندهم مع الحاجة إلى المعاني المتفرقة عجز والمطول منه مع الاكتفاء بالمعنى الجامع منه عيّ، فلما خاطبهم بكلامهم أفهمهم بعقولهم ومستعملاتهم ليحسن ذلك عندهم فيكون حجة عليهم من حيث يعقلون لأنه أمرهم بما يعلمون وما يستحسنون حكمة منه ولطفاً، فذلك أيضاً على هذه المعاني يفهم الخصوص من مكانهم ومشهدهم على علوّ مقامهم في مكان ما أظهر لهم من العلم به ونصيب ما قسم لهم من العقل عنه، فهم متفاوتون في الأشهاد والفهوم حسب تفاوتهم في الأنصبة من العقول والعلوم إذ القرآن عموم وخصوص ومحكم ومتشابه وظاهر وباطن؛ فعمومه لعموم الخلق، وخصوصه لخصوصهم وظاهره لأهل الظاهر وباطنه لأهل الباطن والله واسع عليم.
فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فإذا صفا القلب بنور اليقين وأيد العقل بالتوفيق والتمكين وتجرد الهم من التعلق بالخلق وتأله السر بالعكوف على الخالق وخلت النفس من الهوى سرت الروح فجالت في الملكوت الأعلى كشف القلب بنور اليقين الثاقب ملكوت العرش عن معاني صفات موصوف وأحكام خلاق مألوف وباطن أسماء معروف وغرائب علم رحيم رؤوف فشهد عن الكشف أوصاف ماعرف فقام حينئذ بشهادة ما عرف فكان ممن قال سبحانه: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) البقرة: 121، فحق التلاوة للمؤمنين لأنه إذا أعطاه حقيقة من الإيمان أعطاه مثلها من معناه ومعدنها حقيقة من مشاهدة، فكانت تلاوته عن مشاهدة وكان مزيده عن معنى تلاوته وكان ذلك على معيار حقيقة من إيمانه كما قال: (وإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إيماناً) الأنفال: 2، أولئك هم المؤمنون حقّاً فيكون العبد بوصف من نعت بالحضور والإنذار وخص بالمزيد والاستبشار في قوله عزّ وجلّ: (فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرينَ) الأحقاف: 29 وفي قوله عزّ وجلّ: (فَزَادَتْهُمْ إيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) التوبة: 124 ويكون من نعت من مدحه بالعلم وأثنى عليه بالرجاء وصفه بالخوف في قوله تعالى: (يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذينَ لاَ يَعْلَمُونَ) الزمر: 9، وقال عزّ وجلّ: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) السجدة: 16 فكان هذا من أهل الله وخاصته ومن محبيه وخالصته.
كما روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل القرآن أهل الله وخاصته من خلقه وقال ابن مسعود لا على أحدكم أن يسأل عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله وإن لم يكن يحب القرآن فليس يحب الله وهذا كما قال لأنك إذا أحببت متكلماً أحببت كلامه وإذا كرهته كرهت مقاله، وقال أبو محمد سهل: من علامة الإيمان حب الله عزّ(1/104)
وجلّ، ومن علامة حب الله حب القرآن ومن علامة حب القرآن حب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلامة حب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتباعه، وعلامة اتباعه الزهد في الدنيا، وحدثونا عن بعض المريدين قال: كنت في جدة إرادتي قد لهجت بتلاوة القرآن ثم رهقتني فترة فبقيت أياماً لا أقرأ فهتف بي هاتف من قبل الله عزّ وجلّ: إن كنت تحبني فلم جفوت كتابي أما ترى ما فيه من لطيف عتابي وقال بعض العارفين لا يكون المريد مريداً حتى يجد في القرآن كل ما يريد ويعرف منه النقصان والمزيد ويستغني بالمولى عن العبيد وأقل ما قيل في العلوم التي يحويها القرآن من ظواهر المعاني المجموعة فيه أربعة وعشرون ألف علم وثمانمائة علم إذ لكل آية علوم أربعة: ظاهر، وباطن، وحد، ومطلع، وقد يقال إنه يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتين من علوم إذ لكل كلمة علم وكل علم وصف فكل كلمة تقتضي صفة وكل صفة موجبة أفعالاً حسنة وغيرها على معانيها فسبحان الفتّاح العليم.(1/105)
الفصل الثامن عشر
كتاب ذكر الوصف المكروه من نعت الغافلين
فإذا خالف التالي هذا الوصف الذي شرحناه أو كان على ضد ذلك من السهو والغفلة والعمى والحيرة محدثاً لنفسه مصغياً إلى هواه ووسوسة عدوّه متوهماً للظنون عاكفاً على الأماني حقت عليه أن يكون بمعاني ما قال الله عزّ وجلّ: (وَمِنْهُمْ أُمِيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلاّ أَمَانِيَّ) البقرة: 78 يعني إلا تلاوة القرآن لا غير وإن هم إلا يظنون فوصفهم بالظن وهو ضد اليقين، كما أخبر عن الظانين في قولهم: إن نظن إلا ظنّاً وما نحن بمستيقنين وبمعنى ما قال: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ في السَّمَواتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) يوسف: 105، فالقرآن من أجل آيات الأرضين والسموات الدالة على فاطرهما ومنزله، وكان يوصف من يهدده بعلمه فيه عند استماعه لكلامه العزيز متهاوناً به مناجياً لغيره أن يقول تعالى: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى) الإسراء: 47، وبمثل من يسمع وقلبه مشغول عن المسموع بما يضره عما ينفعه حتى إذا خرج عن الكلام سأل من حضر بقلبه ماذا فهم من الخطاب الذي كان هو عنه بغفلته قد غاب وقد كان حاضراً بجسمه حجة عليه فمن ذلك قوله عزّ وجلّ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ حَتّى إِذاَ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً) محمد: 16، قال الله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذينَ طَبَعَ الله عَلى قُلُوبِهِمْ) محمد: 16 أي عن فقه الخطاب فلم تسمعه القلوب ولم تعه واتبعوا أهواءهم يعني أباطيلهم وظنونهم الكاذبة، ويقال: إن العبد إذا تلا القرآن واستقام نظر الله إليه برحمته فإذا قرأ القرآن وخلط ناداه الله عزّ وجلّ ما لك ولكلامي وأنت معرض عني دع عنك كلامي إن لم تتب إليّ.
وروينا في الإسرائيليات أوحى الله عزّ وجلّ إلى نبيه موسى وداود عليهما السلام مر عصاة بني إسرائيل أن لا يذكروني فإني آليت على نفسي أن أذكر من ذكرني وإني أذكرهم بلعنة وكان بوصف من أخبر عنه إذ يقول تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الأَذْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا) الأعراف: 169 الآيَة، وهذا وصفهم الظن الكاذب والرجاء المختلف اللذان لم يفترقا إلى خوف وإشفاق عصوا خالقهم عاجلاً وتمنوا عليه(1/106)
المغفرة آجلاً جهلاً منهم بحكمته وإعراضاً عن أحكامه، قال الله عزّ وجلّ: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ ميثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى الله إلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فيهِ) الأعراف: 169، ثم أخبر عن علمهم بذلك علم قول وخبر لا علم يقين ومعاينة، قال سبحانه: (وَدَرَسُوا مَا فِيهِ) الأعراف: 169 أي قرؤوا هذا وعلموه ولم يعملوا به فلم ينتفعوا بشيء منه، فكان هذا توبيخاً لهم وتقريعاً كقوله تعالى: (قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ) البقرة: 93 وفيها وجه غريب ودرسوا ما فيه أي محوه بترك العمل به والفهم له من قولك: درست الريح الآثار إذا محتها وخط دارس وربع دارس إذا محي وعفي أثره وهذا المعنى مواطئ لقوله تعالى: (نَبَذَ فَريقٌ مِنَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ الله وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) البقرة: 101 واتبعوا ما تتلو الشياطين أي ما تتبع وتهوى ومواطئ لقوله تعالى: (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرُوْا بِهِ ثَمَناً قَليلاً فَبِئسَ مَا يَشْتَروُنَ) آل عمران: 187 فسمي ترك العمل منهم به في كل حالة طرحاً له وإلقاء ونفياً له وبيعاً له وبالدنيا اشتراء وكل آية في التهدد والوعيد فللخائفين منها وعظ وتخويف وللغافلين عنها وصف وتعريف علمه من علمه كقوله تعالى في ذكر النار: (ذلِكَ يُخَوِّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّْقُونِ) الزمر: 16، وقال في خبرها أعدت للكافرين، وقال بعض السلف: إن العبد ليفتتح سورة فتصلّي عليه الملائكة حتى يفرغ منها وإن العبد ليفتتح سورة فتلعنه حتى يفرغ منها، فقيل: وكيف ذلك؟ قال إذا أحل حلالها وحرم حرامها صلت عليه وإلا لعنته، وقال بعض العلماء: إن العبد ليتلو القرآن فيلعن نفسه وهو لا يعلم يقول ألا لعنة الله على الظالمين وهو ظالم ألا لعنة الله على الكاذبين وهو منهم، وقال سفيان في قوله تعالى: (سَأَصرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذينَ يَتَكَبَّرُونَ في الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) الأعراف: 146، قال: أصرف عنهم فهم القرآن، وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا عظمت أمتي الدنيا والدرهم نزع منها هيبة الإسلام وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرموا بركة الوحي، قال الفضيل: حرموا فهم القرآن وفي الأخبار من ذم قراءة البطالين أكثر من أن تذكر، فمنها ما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال أكثر منافقي أمتي قراؤها، وكان الحسن يقول: إنكم اتخذتم قراءة القرآن مراحل وجعلتم الليل جملاً فأنتم تركبونه فتقطعون به مراحله وإن من كان قبلكم رأوه رسائل أتتهم من ربّهم فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار، وكان ابن مسعود من قبله يقول أنزل عليهم القرآن ليعملوا به فاتخذوا دراسته(1/107)
عملاً إن أحدهم ليتلو القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط منه حرفاً وقد أسقط العمل به.
وفي حديث ابن عمر وحديث جندب لقد عشنا برهة من دهرنا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن فتنزل السورة على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنتعلم حلالها وحرامها وأمرها وزجرها وما ينبغي أن يقف عليه منها كما تعلمون أنتم القرآن، ثم بعد لقد رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرآ ما بين فاتحته إلى خاتمته لا يدري ما أمره ولا زجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه فينثره نثر الدقل وهذا كما قال لأن المراد والمقصود بالقرآن الائتمار لأوامره والانتهاء عن زواجره إذ حفظ حدوده مفترض ومسؤول عنه العبد ومعاقب عليه وليس حفظ حروفه فريضة ولا عقاب على العبد إذا لم يحفظ ما وسعه منه قال الله عزّ وجلّ: (إنَّا سَنُلْقي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقيلاً) المزمل: 5 أي العمل به ثقيل وإلا فقد يسره للذكرى، ومن ذلك الخبر المأثور عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم ولانت له جلودكم فإذا اختلفتم فلستم تقرؤونه وفي بعضها فإذا اختلفتم فقوموا عنه.
وحدثني شيخ فاضل قرأت عليه القرآن قال: قرأت القرآن على شيخ لي فلما ختمت رجعت إليه لأقرأ فانتهرني وقال: جعلت القرآن عليّ عملاً اذهب فأقرأ على الله عزّ وجلّ فانظر ماذا يسمعك منه ويفهمك عنه وقد كان من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من لا يحفظ إلا الجزئ والجزءَين والسور المعدودة وسورتين وكان من يحفظ الحزب منه وهو السبع أو البقرة والأنعام علماً فيهم، وقبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عشرين ألف صحابي لم يقرؤوا القرآن غير نظر فلم يحفظ القرآن كله منهم إلا ستة اختلف منهم في اثنين، وقال بعضهم: ولم يكن جمعه من الخلفاء الأربعة أحد، وختم ابن عباس على أبي بن كعب وقرأ عبد الرحمن ابن عوف على ابن عباس وقرأ عثمان بن عفان على زيد بن ثابت وقرأ أهل الصفة على أبي هريرة، وكلهم كان متبعاً لأوامره مجتنباً لزواجره عالماً به فقيهاً فيه، وقال يوسف بن أسباط: وقد قيل له إذا ختمت القرآن بأي شيء تدعو؟ فقال بأي شيء أدعو أستغفر الله عزّ وجلّ مائة مرة من تلاوتي، وكان يقول: إني لأهم بقراءة القرآن فإذا ذكرت ما فيه خشيت المقت فأعدل إلى التسبيح والإستغفار وأعلم أن للعبد في قراءة القرآن بحسب ما له من تعظيمه والفهم له والمشاهدة منه والمعاملة به لأنه من أكبر شعائر الله في خلقه وأعظم آياته في أرضه الدالات عليه وأسبغ نعمه الكاملة علينا وللعبد من التعظيم له بقدر تقواه، وله من فهم الخطاب وتعظيم الكلام على نحو ما أعطي من معرفة المتكلم وهيبته وإجلاله فإذا عظم المتكلم في قلبه وكبر في فهمه أنعم تدبر كلامه وأطال الفكر في خطابه وأكثر ترداده وتكريره على قلبه وأسرع بذكره عند النازلة به والحاجة إليه فاتقى وحذى ولذلك قال سبحانه: (وَاذْكُرُوا مَا فيهِ لَعَلَكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة: 63 وقال كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ولعلهم يتذكرون لأن كل(1/108)
كلام موقوف على قائله يعظم بتعظيمه ويقع في القلب بعلو مكانه أو يهون بسهولة شأنه، قال الله عزّ وجلّ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيءْ) الشورى: 11 في العظمة والسلطان وليس ككلامه كلام في الأحكام والبيان، وقرأت في سورة الحنين من التوراة: يا عبدي أما تستحي مني يأتيك كتاب من بعض إخوانك وأنت في الطريق تمشي فتعدل عن الطريق وتقعد لأجله وتقرؤه وتتدبره حرفاً حرفاً حتى لا يفوتك شيء منه، وهذا كتابي أنزلته إليك أنظر كم وصلت لك فيه من القول وكم كررت عليك فيه فتأملت طوله وعرضه ثم أنت معرض عنه، أفكنت أهون عليك من بعض إخوانك أي عبدي يقعد إليك بعض إخوانك فتقبل عليه بكل وجهك وتصغي إلى حديثه بكل قلبك فإن تكلم متكلم أو شغلك شاغل عن حديثه أومأت إليه أن كف وها أنا ذا مقبل عليك ومحدث لك وأنت معرض بقلبك عني فجعلتني أهون عندك من بعض إخوانك أو كما قال وإنما خف القيام على أهل الليل لفهم الخطاب وثقل على أهل النوم لانفصام القلوب عن الفقه وشدة الحجاب كما قال تعالى: (ثَقُلَتْ في السَّمَواتِ وَالأََرْضِ) الأعراف: 187 أى خفي علمها يعني الساعة فثقلت عليهم فسمي ما خفي علمه ثقيلاً والله أعلم.(1/109)
الفصل التاسع عشر
كتاب الجهر بالقرآن
ما في ذلك من النيات وتفصيل حكم الجهر والإخفات
روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: فضل قراءة السرّ على قراءة العلانية كفضل صدقة السرّ على صدقة العلانية، وفي لفظ آخر الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر به كالمسر بالصدقة، وفي الخير العام يفضل عمل السرّ على عمل العلانية بسبعين ضعفاً، وفي مثله من العموم خير الرزق ما يكفي وخير الذكر الخفي، وفي الخبر لا يجهر بعضكم على بعض في القراءة بين المغرب والعشاء، وسمع سعيد بن المسيب ذات ليلة في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر بن عبد العزيز يجهر بالقرآن في صلاته وكان حسن الصوت فقال لغلامه برد اذهب إلى هذا المصلي فمره أن يخفض من صوته، فقال الغلام: إن المسجد ليس لنا وإن للرجل فيه نصيباً فرفع سعيد صوته فقال: يا أيها المصلي إن كنت تريد الله عزَّ وجلَّ بصلاتك فاخفض صوتك وإن كنت تريد الناس فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً، قال: فسكت عمر وخفف ركعته فلما سلم أخذ نعليه وانصرف، وهو يومئذٍ أمير المدينة، وعلى ذلك فقد كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسمع جماعة من أصحابه يجهرون بالقراءة في صلاة الليل فيصّوب ذلك لهم ويسمع إليهم وقد أمر بالجهر.
فيما روي عنه إذا قام أحدكم من الليل يصلي فليجهر بقراءته فإن الملائكة وعمار الدار يستمعون إلى قراءته ويصلون بصلاته ومرّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ثلاثة من أصحابه في الليل مختلفي الأحوال؛ منهم من كان يخافت وهو أبو بكر رضي الله عنه فسأله عن ذلك فقال: إن الذي أناجيه هو يسمعني ومنهم من كان يجهر وهو عمر رضي الله عنه فسأله عن ذلك فقال: أوقظ الوسنان وأزجر الشيطان، ومنهم من كان يقرأ آياً من هذه السورة ومن هذه السورة وهو بلال فسأله عن ذلك فقال: أخلط الطيب بالطيب فقال: كلكم قد أحسن وأصاب فنقول: والله أعلم إن المخافتة بالقراءة أفضل إذا لم تكن للعبد نية في الجهر أو كان ذاهباً عن المهمة والمعاملة بذلك لأنه أقرب إلى السلامة وأبعد من دخول الآفة وإن الجهر أفضل لمن كان له نية في الجهر ومعاملته مولاه به لأنه قد قام بسنة قراءة الليل لأن المخافت نفعه لنفسه والجهر نفعه له ولغيره وخير الناس من ينفع الناس(1/110)
والنفع بكلام الله عزّ وجلّ أفضل المنافع ولأنه قد أدخل عملاً ثانياً يرجو به قربة ثانية على عمله الأول فكان في ذلك أفضل وليجعل العبد مفتاح درسه أن يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، رب أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون، وليقرأ (قُلْ أعُوذُ برَبِّ النَّاس) الناس: 1، وسورة: الحمد قبلها، وليقل عند فراغه من كل سورة: صدق الله، وبلغ رسول الله، اللهم انفعنا به، وبارك لنا فيه، الحمد لله رب العالمين، أستغفر الله الحي القيوم، ومن حفظ جوارحه وقلبه عن المنهي فقد عمل بالقرآن إلى خاتمه لأنه مقسط على جملة العبد وجوارحه جملة، وفي الجهر بالقراءة سبع نيات منها الترتيل الذي أمر به، ومنها تحسين الصوت بالقرآن الذي ندب إليه في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زينوا القرآن بأصواتكم، وفي قوله:
ليس منا من لم يتغن بالقرآن أي يحسن به صوته وهو أحد الوجهين وأحبهما إلى أهل العربية، والوجه الآخر أي من لم يستغن به من الغنية والاكتفاء، وقد يقال: من هذا الوجه يتغانى به ومنها أن يسمع أذنيه ويوقظ قلبه ليتدبّر الكلام ويتفهم المعاني ولا يكون ذلك كله إلا في الجهر؛ ومنها أن يطرد الشيطان والنوم عنه برفع صوته، ومنها أن يرجو بجهره يقظة نائم فيذكر الله عزّ وجلّ، فيكون هو سبب إحيائه؛ ومنها أن يراه بطال غافل فينشط للقيام ويشتاق إلى الخدمة فيكون معاوناً له على البرّ والتقوى؛ ومنها أن يكثر بجهره تلاوته ويدوم قيامه على حسب عادته للجهر، ففي ذلك كثرة عمله، فإذا كان العبد معتقداً لهذه النيات طالباً لها ومتقرباً إلى الله سبحانه وتعالى عالماً بنفسه مصححاً لقصده ناظراً إلى مولاه الذي استعمله فيما يرضاه فجهره أفضل لأن له فيه أعمالاً وإنما يفضل العمل بكثرة النيات فيه وارتفع العلماء وفضلت أعمالهم بحسن معرفتهم بنيات العمل واعتقادهم لها فقد يكون في العمل الواحد عشر نيّات يعلم ذلك العلماء فيعملون بها فيعطون عشرة أجور وأفضل الناس في العمل أكثرهم نية فيه وأحسنهم قصداً وأدباً وفي بعض التفاسير في قوله عزّ وجلّ (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) الضحى: 11، قال: قراءة القرآن.
وفي الخبر من استمع إلى آية من كتاب الله عزّ وجلّ كانت له نوراً يوم القيامة، وفي خبر آخر كتب له عشر حسنات والتالي شريك المستمع في الأجر لأنه أكسبه ذلك، وقال بعضهم: للقارئ أجر وللمستمع أجران، وقال آخر: للمستمع تسعة أجور وكلاهما صحيح، لأن كل واحد منهما على قدر إنصاته ونيته، فإذا كان التالي مكسباً لغيره هذه الأجور فإن له بكل أجر أكسبه إياه أجراً يكتسبه لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدال على الخير كفاعله سيما إذا كان عالماً بالقرآن فقيهاً فيه فيكون مقراه ووقوفه حجة وعلماً لسامعه، وفي الخبر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ينتظر عائشة رضي الله عنها فأبطأت عليه، فقال: ماحبسك؟ فقالت: يارسول الله كنت أستمع قراءة رجل ماسمعت صوتاً أحسن منه، فقام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى استمع إليه طويلاً ثم رجع فقال: هذا سلام مولى أبي حذيفة الحمد لله(1/111)
الذي جعل في أمتي مثله واستمع أيضاً ذات ليلة إلى قراءة عبد الله بن مسعود ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهم فوقفوا طويلاً ثم قال: من أراد أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن مسعود: اقرأ فقال يارسول الله أقرأ وعليك أنزل، فقال إني أحب أن أسمعه من غيري فكان يقرأ وعينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفيضان وذلك عند قوله: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً، واستمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قراءة أبي موسى فقال: لقدأوتي هذا مزماراً من مزامير داود فبلغ ذلك أبا موسى فقال: يا رسول الله لو علمت أنك تسمع إليّ لحبرت لك تحبيراً، وكان ابن مسعود يأمر علقمة بن قيس أن يقرأ بين يديه فيقول له: رتل فداك أبي وأمي، وكان حسن الصوت بالقرآن، وفي الخبر كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا اجتمعوا أمروا أحدهم أن يقرأ سورة من القرآن.
وقد كان عمر يقول لأبي مسعود رضي الله عنهما: ذكرنا ربنا فيقرأ عنده حتى كاد وقت الصلاة أن يتوسط فيقال: ياأمير المؤمنين الصلاة الصلاة، فيقول: أولسنا في صلاة؟ فكأنه يتأول قوله عزّ وجلّ، ولذكر الله أكبر، وقال بعض عباد البصريين لما وضع بعض البغدادين كتاباً في معاني الرياء ودقائق آفات النفوس، قال: لقد كنت أمشي بالليل أسمع أصوات المتهجدين كأنها أصوات الميازيب، فكان في ذلك أنس وحث على الصلاة والتلاوة حتى جاء البغداديون بدقائق الرياء وخفايا الآفات فسكت المتهجدون فلم يزل ذلك ينقص حتى ذهب وانقطع وترك إلى اليوم، فإن لم يكن للتالي نية في شيء مما ذكرناه وكان ساهياً غافلاً عن ذلك وكان واقفاً مع شيء من الآفات أو لمح في قلبه شخص أو ساكن ذكرى هوى فقد اعتل فعليه أن يحتمي الجهر فإن جهر على ثقل قلبه فسد عمله لاستكنان الداء فيه وكان إلى النقصان أقرب ومن الإخلاص أبعد فعليه حينئذ بالإخلاص فهو دواؤه يعالج به حاله فإنه أصلح لقلبه وأسلم لعمله وأحمد في عاقبته، وقد يكون العبد واجداً لحلاوة الهوى في الصلاة والتلاوة وهو يظن أن ذلك حلاوة الإخلاص وهذا من دقيق شأن الشهوة الخفية ولطيف الانتقاص، وقد يلتبس ذلك على الضعفاء ولا يفطن له إلا العلماء، وإنما يجد حلاوة الإخلاص الزاهدون في الدنيا وفي مدح الناس لهم به ويتلذذون بنصح المعاملة وصدق الخدمة المحبون لله عزّ وجلّ الخائفون منه واعتبار فقد ذلك بأحد شيئين: سقوط النفس باستواء المدح والذم وهذا حال في مقام الزهد، أو الخلو من القلب بشهادة اليقين وهذا في مقام المعرفة، وفي هذين المقامين يستوي السر والعلانية وقد تكون العلانية أفضل لأئمة التقوى والعدل.
وحدثت عن رجل من أهل الخير قال: كنت أقرأ في السحر في غرفة لي شارعة(1/112)
سورة طه فلما ختمتها غفوت بعدها فرأيت شخصاً نزل من السماء بيده صحيفة بيضاء فنشرها بين يدي فإذا فيها سورة طه وإذا تحت كل كلمة عشر حسنات مثبتة إلا كلمة واحدة فإني رأيت مكانها محواً ولم أرَ تحتها شيئاً فغمني ذلك فقلت: قد والله قرأت هذه الكلمة ولم أرَ لها ثواباً ولا أراها أثبتت فقال الشخص صدقت قد قرأتها وكتبناها لك الا أنا سمعنا منادياً ينادي امحوها وأسقطوا ثوابها فمحوناها فبكيت في منامي وقلت: لم فعلتم ذلك قالوا: مرّ رجل فرفعت صوتك بها لأجله فمحوناها.
وقد روينا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع رجلاً يجهر بقراءته فناداه: يافلان أسمع الله ولا تسمعني واعلم أن السمعة مقرونة بالرياء ومحكوم لها بحكمه من فساد العمل ونقصان العامل وهي مأخوذة من السمع، كان العبد يسمع بعمله غير الله عزّ وجلّ ويحب أن يسمع به مخلوقاً ليمدحه به لغلبة هواه وضعف نفسه فيكون قد أشرك في عمله غير الله عزّ وجلّ فيبطل عمله لجهله بالتوحيد إذ لو علم يقيناً أن لا نافع إلا الله عزّ وجلّ ولاضار ولا معطي ولا مانع إلا إياه خلص له توحيد من الشرك فخلص له عمله من الرياء، وكذلك الرياء مأخوذ من رأي العين فالسمعة هي بمعناه، وفي الخبر: لايقبل الله عزّ وجلّ من مسمع ولا مراء، وفي خبر آخر: من سمع سمع الله به ومن راءى راءى الله به وصغره وحقره، فأما من كانت له نية صالحة في أن يسمع أخاه كلام الله ليتعظ به ويتدبره أو ينتفع باستماعه ويتذكر به فليس داخلاً في السمعة لوجود حسن النية وصحة القصد ولفقد اقتران الآفة لإرادة طمع عاجل من مدح أو غرض دنيا، كماقال أبو موسى لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيراً، فلم ينكر عليه لأنه ذو نية في الخير وحسن قصد به، وقال الآخر الذي رفع صوته بالآية أسمع الله عزّ وجلّ ولاتسمعني فأنكر عليه لما شهد السمعة فيه.
وقد روينا أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرّ برجل يظهر التأوّه والوجل فقال: من كان معه يارسول الله؟ أتراه مرائياً؟ فقال: لابل أوّاه منيب واعلم أن الأكل والنوم على السلامة والصدق أفضل في الحال وأرفع في المقام وأحمد في المآل من القيام والصيام على يسير من التصنع والتزين للخلق، ومعرفة هذا والقيام به هو موضع علم العلماء بالله عزّ وجلّ، وحدثنا عن الحسن البصري قال: تفقد الحلاوة في ثلاث: فإن وجدتها فابشر وامض لقصدك وإن لم تجدها فاعلم أن بابك مغلق عند تلاوة القرآن وعند الذكر وفي السجود وزاد غيره وعند الصدقة وبالأسحار وقراءة القرآن في المصحف أفضل من قراءته عن ظهر قلب، يقال: الختمة بسبع ختم لأن النظر في المصحف عبادة وكان كثير من الصحابة والتابعين يقرؤون في المصحف ويستحبون أن لا يخرجوا يوماً إلا نظروا فيه وخرق عثمان مصحفين من كثرة درسه فيهما.(1/113)
الفصل العشرون
في ذكر أحياء الليالي المرجوّ فيها الفضل المستحب
إحياؤها وذكر مواصلة الأوراد في الأيام الفاضلة
ويستحب إحياء خمس عشرة ليلة في السنة خمس منها في شهر رمضان وهي وتر ليالي العشر الأخير منه وليلة سبع عشرة من رمضان هي صبيحة يوم الفرقان يوم التقى الجمعان فيه كانت وقعة بدر وكان ابن الزبير يذهب إلى أنها ليلة القدر وأما التسعة الأخر فأوّل ليلة من شهر المحرم وليلة عاشوراء وأوّل ليلة من شهر رجب وليلة النصف منه وليلة سبع وعشرين منه وفيه أسري برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة المعراج وليلة عرفة وليلة العيدين وليلة النصف من شعبان وقد كانوا يصلون في هذه الليلة مائة ركعة بألف مرة: قل هو الله أحد عشراً في كل ركعة ويسمون هذه الصلاة صلاة الخير ويتعرفون بركتها ويجتمعون فيها وربما صلوها جماعة.
وروينا عن الحسن قال: حدثني ثلاثون من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن من صلّى هذه الصلاة في هذه الليلة نظر الله عزّ وجلّ إليه سبعين نظرة وقضى له بكل نظرة سبعين حاجة أدناها المغفرة، وقد قيل: إن هذه الليلة هي التي قال الله عزّ وجلّ فيها (فيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكيمٍ) الدخان: 4، وأنه ينسخ فيها أمر السنة وتدبير الأحكام إلى مثلها من قابل والله أعلم، والصحيح من ذلك عندي أنه في ليلة القدر وبذلك سميت لأن التنزيل يشهد له إذ في أوّل الآية إنا أنزّلناه في ليلة مباركة ثم وصفها فقال: فيها يفرق كل أمر حكيم، فالقرآن انما أنزل في ليلة القدر فكانت هذه الآية بهذا الوصف في هذه الليلة مواطئة لقوله عزّ وجلّ: (إنَّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ) القدر: 1.
ذكر مواصلة الأوراد في الأيام الفاضلة وهي تسعة عشر يوماً تستحب فيها مواصلة الأوراد والدأب في العبادة يوم عاشوراء ويوم عرفة ويوم سبعة وعشرين من رجب ويوم سبعة عشر من شهر رمضان ويوم النصف من شعبان ويوم الجمعة ويوم العيد والأيام المعلومات وهي عشر ذي الحجة والأيام المعدودات وهي أيام التشريق، وفي الخبر صوم يوم عرفة يكفر سنتين سنة ماضية وسنة مستقبلة، وصوم يوم عاشوراء كفارة سنة.(1/114)
وقد روينا عن أنس بن مالك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا سلم يوم الجمعة سلمت الأيام وإذا سلم شهر رمضان سلمت السنة وقال بعض علمائنا: من أخذ مهناه في هذه الأيام الخمسة في الدنيا لم ينل مهناه في الآخرة وقال هذه الأيام يرجى فيها الفضل من الله عزّ وجلّ والمزيد، فإذا اشتغلت فيها بهواك وعاجل الدنيا فمتى ترجو الفضل والمزيد يعني بالأيام الخمسة العيدين ويوم الجمعة ويوم عرفة ويوم عاشوراء، ومن فواضل الأيام بعد هذه يوم الاثنين ويوم الخميس يومان ترفع فيهما الأعمال إلى الله عزّ وجلّ، ومن الفاضل الشهور الأربعة الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب خصهن الله عزّ وجلّ بالنهي عن الظلم فيهن لعظم حرمتهن، فكذلك الأعمال لها فيهن فضل على غيرها وأفضلها ذو الحجة لوقوع الحج فيه ولما خصّ به من الأيام المعلومات والأيام المعدودات ثم ذو القعدة لجمعه الوصفين معاً وهو من الأشهر الحرم ومن أشهر الحج فأما المحرم ورجب فليسا من أشهر الحج، وأما شوّال فليس من أشهر الحرم ولكنه من أشهر الحج وأفضل الأيام في الشهر العشران العشر الآخر والعشر الأوّل من ذي الحجة وبعدهما عشر المحرم من أوله فالأعمال في هذه الأيام لها فضل ومزيد على سائر الشهور.
وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صام ثلاثة أيام من شهر حرام بعده الله من النار سبعمائة عام يوم الخميس ويوم الجمعة ويوم السبت، وفي خبر آخر صوم يوم من شهر حرام يعدل صوم ثلاثين يوماً من غيره، وصوم يوم من شهر رمضان يعدل صوم ثلاثين يوماً من شهر حرام، ثم إن أفضل الأوقات في جملة الأيام أوقات الصلوات الخمس.
وروينا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا دخلت العشر الأواخر من شهر رمضان طوى الفراش وشد المئزر، وفي حديث آخر: إذا دخلت العشر الأواخر دأب وأدأب أهله يعني أدام وأداموا التعب والنصب في العبادة، وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما من أيام العمل فيهن أفضل وأحب إلى الله عزّ وجلّ من أيام عشر ذي الحجة، إن صوم يوم منه يعدل صيام سنة وقيام ليلة منه يعدل قيام ليلة القدر، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع منهما بشيء، وفي لفظٍ آخر إلا من عقر جواده وأُهْرِقَ دمه، واذا أحب الله عزّ وجلّ عبداً استعمله في الأوقات الفاضلة بأفضل الأعمال ليثيبه أفضل الثواب وإذا مقت عبداً استعمله بأسوأ الأعمال في أفاضل الأوقات ليضاعف له السيّئات بانتقاص حرمات الشعائر وانتهاك المحرمات في الحرمات، ويقال من علامات التوفيق ثلاث: دخول أعمال البرّ عليك من غير قصد لها، وصرف المعاصي عنك مع الطلب لها، وفتح باب اللجا والافتقار إلى الله عزّ وجلّ في الشدة والرخاء، ومن علامات الخذلان ثلاث: تعسر الخيرات عليك مع الطلب لها، وتيسر المعاصي لك مع الرهب منها وغلق باب اللجا والافتقار إلى الله عزّ وجلّ، في كل حال فنسأل الله تعالى بفضله حسن التوفيق والاختيار ونعوذ به من سوء القضاء والأقدار.(1/115)
الفصل الحادي والعشرون
كتاب الجمعة
وذكر هيئاتها وآدابها وذكر مايستحب للمريد في يوم الجمعة وليلتها
صلاة الجمعة واجبة بأوصاف وساقطة بأوصاف فوجوبها يكون بالإقامة والاستطاعة وحضور وقت الظهر وتكملة عدة أربعين رجلاً أحراراً وسقوطها بالسفر ودخول وقت العصر ونقصان العدد ووقوع العذر وهي من أعمال الأمراء تصلي خلف كل من أقام بها منهم إلا اني أحب إعادتها ظهراً إذا صلّيت خلف مبتدع فإن اجتمع في بلد كبير جامعان صليت خلف الأفضل من إماميهما، فإن استويا في الفضل صلّيت في القديم من الجامعين، فإن تساويا صلّيت في الأقرب منهما إلا أن تكون له نيّة في الأبعد لاستماع علم أو نشره أو تعلّمه، فصلاتها في الجامع الأعظم وحيث يكون المسلمون أكثر وأفضل، ومن صلّى في أيهما أحب حسبت صلاته، قال ابن جريج: قلت لعطاء إذا كان في المصر جامعان أو ثلاثة في أيها أصلّي؟، قال: صلِّ حيث جمع المسلمون فإنها جمعة وهو يوم عظم الله تعالى به الإسلام وزينه وشرف به المسلمين وفضلهم قال عزّ وجلّ: (يَاأَيُّهَا الَّذين آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُوا الْبَيْع) الجمعة: 9 الآية، فالبيع والشراء محرم بعد الأذان للجمعة عند طائفة من العلماء لعموم النهي عنه، ومنهم من قال: يرد البيع لأنه فاسد إلا أني أحسب أن ذلك يحرم عند الأذان الثاني وهو مع خروج الإمام إذا قعد على المنبر لأن هذا كان هو الأذان على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والأذان الأوّل أحدثه عثمان رضي الله عنه لما كثر الناس، وقال الله عزّ وجلّ: (فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا في الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ الله) الجمعة: 01 الآية، فأمر عباده المؤمنين في يوم الجمعة بالذكر له ونهاهم عن البيع وأمرهم فيه بطلب الفضل منه ووعدهم الخير والفلاح وهما اسمان جامعان لغنيمة الدنيا والآخرة.
وروي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن الله عزّ وجلّ فرض عليكم الجمعة في يومي هذا في مقامي هذا وروي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ترك الجمعة ثلاثاً من غير عذر طبع الله على قلبه، وفي لفظ حديث آخر فقد نبذ الإسلام وراء ظهره واختلف رجل إلى ابن عباس فسأله عن(1/116)
رجل مات لم يكن يشهد جمعة ولا جماعة فقال: في النار، فلم يزل يتردّد إليه شهراً يسأل عنه، كل ذلك يقول في النار، وتقصد الجمعة من فرسخين أو ثلاثة، واستحب لمن بكر إليها من أهل القرى فأدركها وأدركه الليل فأواه إلى أهله إذا رجع أن يشهدها إلا أنها ساقطة عن خمسة: الصبي، والمملوك، والمرأة، والمسافر، والمريض، فمن شهدها من هؤلاء فصلاها أجزأت عنه وكان مؤدياً لفرضه، وفي الخبر أن أهل الكتابين أعطوا يوم الجمعة فقد اختلفوا فيه فصرفوا عنه وهدانا الله عزّ وجلّ برحمته له ادخره لهذه الأمة جعله عيداً لهم فهم أول الناس به سبقاً وأهل الكتابين لهم تبع، وفي حديث أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قال: أتاني جبريل عليه السلام وفي كفه مرآة بيضاء فقال: هذه الجمعة يفرضها عليك ربك لتكون لك عيداً ولأمتك من بعدك، قلت: فما لنا فيها؟ قال: لكم فيها خير ساعة، من دعا فيها بخير هو له قسم أعطاه الله عزّ وجلّ أو ليس من قسم أدخره ماهو أعظم أو يتعوّذ من شرّ هو عليه مكتوب إلا أعاده الله تعالى من أعظم منه وهو سيد الأيام عندنا ونحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد، قلت: ولم قال إن ربك عزّ وجلّ اتخذ في الجنة وادياً أفيح من مسك أبيض فإذا كان يوم الجمعة نزل من عليين على كرسيه وذكر الحديث قال فيه: ويتجلّى لهم حتى ينظروا إلى وجهه ذكرناه بتمّامه في مسند الألف.
وروي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أهبط إلى الأرض وفيه تقوم الساعة وهو عند الله يوم المزيد كذلك تسمية الملائكة في السماء وهو يوم النظر إلى الله عزّ وجلّ في الجنة في أخبار يطول ذكرها، وفي الحديث: ما من دابة إلا وهي قائمة على ساق يوم الجمعة مصيخة أي مصغية تتوقع مشفقة من قيام الساعة إلا الشياطين شقي بني آدم ويقال: إن الطير والهوام يلقى بعضها بعضاً في يوم الجمعة فتقول سلام سلام يوم صالح، وفي الخبر أن الله عزّ وجلّ في كل يوم جمعة يعتق ستمائة ألف عتيق من النار، وفي حديث أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا سلم يوم الجمعة سلم الأيام، وقال كعب في الخبر: إنّ الله عزّ وجلّ فضل من كل شيء من خلقه شيئاً ففضل من البلدان مكة ومن الشهور رمضان ومن الأيام الجمعة، وفي الخبر أنّ جهنم تسعر في كل يوم قبل الزوال عند استواء الشمس في كبد السماء فلا تصلوا في هذه الساعة إلا يوم الجمعة فإنه صلاة كله وإن جهنم لا تسعر فيه فأفضل مايعمله العبد في يوم الجمعة البكور إلى الجامع في الساعة الأولى فإن لم يفعل ففي الساعة الثانية فإن لم يفعل ففي الساعة الثالثة لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من راح إلى الجمعة في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنه ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راج في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما أهدى دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما(1/117)
أهدى بيضة، فإذا خرج الإمام طويت الصحف ورفعت الأقلام واجتمعت الملائكة عند المنبر يسمعون الذكر، فمن جاء بعد ذلك فكأنما جاء لحق الصلاة وليس من الفضل في شيء فالساعة الأولى تكون بعد صلاة الصبح والساعة الثانية تكون عند ارتفاع الشمس والثالثة تكون عند انبساطها وهي الضحى الأعلى إذا رمضت الأقدام بحر الشمس والساعة الرابعة تكون قبل الزوال والساعة الخامسة إذا زالت الشمس أو مع استوائها وليس الساعة الرابعة والخامسة مستحبتين للبكور ولا فضل لمصلي الجمعة بعد الساعة الخامسة لأن الإمام يخرج في آخرها فلا يبقى إلا فريضة الجمعة، ويقال: إن الناس يكونون في قربهم من الله عزّ وجلّ عند الزيارة للنظر إليه تعالى على قدر بكورهم إلى الجمعة، ودخل ابن مسعود يوم الجمعة بكرة فرأى ثلاثة نفر وقد سبقوه بالبكور فوجم لذلك وجعل يقول: رابع أربعة يعني نفسه وما رابع أربعة من الله ببعيد وهذا من اليقين في هذه المشاهدة للخبر، وقد جاء في الأثران: الملائكة يفتقدون العبد إذا تأخر عن وقته يوم الجمعة فيسأل بعضهم بعضاً عنه مافعل فلان وما الذي أخره عن وقته فيقولون: اللهم إن كان أخره فقره فاغنه وإن كان أخره مرض فاشفه وإن كان أخره شغل عنه ففرغه لعبادتك وإن كان أخره لهو فأقبل بقلبه على طاعتك ولا تقعد إلى القصاص يوم الجمعة فقد كره ذلك ولا في حلقة قبل الصلاة.
وروينا في خبر مقطوع عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث لو يعلم الناس ما فيهن لركضوا الإبل في طلبهن: الأذان، والصف الأوّل، والغدّو إلى الجمعة، قال أحمد بن حنبل وقد ذكر هذا الحديث أفضلهن الغدّو إلى الجمعة، وقد يروى في خبر آخر إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد بأيديهم صحف من فضة وأقلام من ذهب يكتبون الأول فالأول على مراتبهم.
وروينا في خبر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه نهى عن التحلّق يوم الجمعة قبل الصلاة الا أن يكون عالماً بالله تعالى، يذكر بأيام الله عزّ وجلّ ويفقه في دين الله عزّ وجلّ، يتكلم في الجامع بالغداة فيجلس إليه فيكون جامعاً بين البكور إلى الجمعة والإستماع إلى العلم ولا يدع الغسل لها يوم الجمعة إلاّ من ضرورة فإنه عند بعض العلماء فرض والاغتسال في البيت أفضل.
وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غسل الجمعة واجب على كل محتلم، والمشهور من حديث نافع عن ابن عمر: من أتى الجمعة فليغتسل وكان أهل المدينة يتسابون بينهم فيقولون لأنت شر ممن لا يغتسل يوم الجمعة، وقد قال عمر لعثمان رضي الله عنهما لما دخل وهو يخطب: أهذه الساعة فقال: مازدت بعد أن سمعت الأذان أن توضأت وخرجت، فقال عمر: والوضوء أيضاً، وقد علمت أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأمر الغسل ولكن في ترك بالغسل رخصة لوضوء عثمان مع علمه ويسند ذلك إلى الخبر المسند من(1/118)
توضأ يوم الجمعة فيها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل.
وروينا عن الصحابة: أمرنا بالغسل يوم الجمعة فلما جاء الشتاء كان من شاء اغتسل ومن لم يشأ ترك الغسل، وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من شهد الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل فلذلك قال مالك بن أنس إن النساء إذا حضرن الجمعة اغتسلن له ومن اغتسل من جنابة أجزأه لغسل الجمعة إذا نوى ولا بدّ من النية لغسل الجنابة لأجل الجمعة فهو أفضل، ويكون الغسل للجمعة داخلاً فيه، فإذا أفاض عليه الماء ثانية بعد غسله للجنابة لأجل الجمعة فهو أفضل دخل بعض الصحابة على ابنه يوم الجمعة وهو يغتسل فقال: للجمعة غسلك هذا؟ قال: لا بل من الجنابة، قال: فأعد غسلاً ثانياً فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: واجب على كل مسلم أن يغتسل يوم الجمعة، ومن اغتسل بعد طلوع الفجر أجزأه ولكن أفضل الغسل لها عند الرواح إلى الجامع وأحب أن لايحدث وضوءاً بعد الغسل حتى يفرغ من صلاة الجمعة فمن العلماء من كره ذلك ولكن إن بكر إلى الجامع فتوضأ هناك من حدث لحقه لامتداد الوقت فإنه على غسل الجمعة ويستحب أن يستاك وأن يلبس من صالح ثيابه ويجتنب الشهرة من الثياب ومن أفضل ما لبس البياض أو بردين يمانيين ولبس السواد يوم الجمعة ليس من السنة ولا من الفضل أن ينظر إلى لابسه وليقلّم أظفاره ويأخذ من شاربه فقد روي فضل ذلك من فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن أمره.
وقد روينا عن ابن مسعود وغيره من قلّم أظفاره يوم الجمعة أخرج الله عزّ وجلّ منها داء وأدخل شفاء وليتطيب بالطيب طيبه مما ظهر ريحه وخفي لونه فذلك طيب الرجال وطيب النساء مما ظهر لونه وخفي ريحه، روينا ذلك في الأثر وتستحب العمامة يوم الجمعة، وقد روينا فيها حديثاً شاذاً عن واثلة بن الأسقع عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله عزّ وجلّ وملائكته يصلّون على أصحاب العمائم يوم الجمعة فإن أكربه الحر فلا بأس أن ينزعها قبل الصلاة وبعدها ولكن يخرج من منزله إلى الجامع وهو لابسها ولا يصلّي إلا معتّماً بها لتحصل له فضيلة العمة، فإن نزعها فليلبسها حينئذ عند صعود الإمام المنبر ثم ليصلِّ وهي عليه فإن شاء نزعها بعد ذلك وليخرج إلى الله عزّ وجلّ خاشعاً متواضعاً ذا سكينة ووقار وإخبات وافتقار وليكثر من الدعاء والاستغفار وينوي في خروجه زيارة مولاه في بيته والتقرّب إليه بأداء فريضته والعكوف في المسجد إلى حيث انقلابه ثم لينوِ كف جوارحه عن اللهو واللغو ويتقِ الشغل حين يخدم مولاه وليترك راحته في ذلك اليوم في مهناه من عاجل حظ دنياه وليواصل الأوراد فيه فيجعل أوله إلى انقضاء صلاة الجمعة للخدمة بالصلاة وأوسطه إلى صلاة العصر لاستماع العلم ومجالس الذكر وآخره إلى غروب الشمس للتسبيح والاستغفار، فكذلك كان المتقدمون يقسمون يوم الجمعة هذه الأقسام الثلاثة وإن صامه فحسن يضم إليه يوم الخميس أو يضيف إليه يوم السبت وقد(1/119)
كره إفراده بصوم ومن لم يصمه وكان أهل فالمستحب أن يجامع فيه فقد روي فضل ذلك وكان بعض السلف يفعله.
وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من غسل واغتسل وغدا وبكر ودنا من الإمام ولم يلغ كان له بكل خطوة صيام سنة وقيامها، وفي خبر آخر: ودنا من الإمام واستمع كان له ذلك كفارة لما بين الجمعتين وزيادة ثلاثة أيام، وفي لفظ آخر: غفر له إلى الجمعة الأخرى وقد اشترط في بعضها ولم يتخطّ رقاب الناس، فمعنى قوله: من غسل بالتشديد أي غسل أهله كناية عن الجماع، وبعض الرواة يخففه فيقول: غسل واغتسل فيكون معناه غسل رأسه واغتسل لجسده وليتق أن يتخطّى رقاب الناس فإن ذلك مكروه جداً وقد جاء فيه وعيد شديد إن من فعل ذلك جعل جسراً يوم القيامة على جهنّم تتخطاه الناس وقال ابن جريج حديثاً مرسلاً أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينما هو يخطب يوم الجمعة إذ رأى رجلاً يتخطّى رقاب الناس حتى تقدم وجلس فلما قضى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاته عارض الرجل حتى لقيه فقال يافلان مامنعك أن تجمع اليوم معنا؟ فقال: يانبي الله قد جمعت فقال: أو لم أرك تتخطّى رقاب الناس؟ وفي حديث مسند أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: مامنعك أن تصلّي معنا الجمعة؟ فقال: أو لم ترني؟ قال: قد رأيتك تأنيت وآذيت، أي تأخرت عن البكور وآذيت بالحضور، ولا يقعد إلى القصاص في يوم الجمعة فقد كره ذلك ولا في حلقة قبل الصلاة.
فقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عمران أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن التحلّق يوم الجمعة قبل الصلاة إلاّ أن يكون عالماً بالله عزّ وجلّ يذكر بأيام الله ويفقه في الدين يتكلم في الجامع بالغداة فيجلس إليه فيكون جامعاً بين البكور إلى الجمعة وبين الاستماع إلى العلم، وقد روينا عن بعض علماء السلف قال: إن الله تعالى فضلاً من الرزق سوى أرزاق العباد لا يعطي من ذلك الفضل إلا من سأله عشية الخميس ويوم الجمعة، وفي الخبر المشهور: أن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله عزّ وجلّ فيها شيئاً إلا أعطاه، وفي لفظ آخر لا يصادفها عبد يصلّي، واختلف في وقت هذه الساعة فقيل: إنها عند طلوع الشمس، وقيل: إذا قام الناس إلى الصلاة، وقيل عند الزوال، ويقال: مع الأذان، وقيل: هي إذا صعد الإمام المنبر وأخذ في الذكر، وقيل: بعد العصر من آخر أوقاتها، وقيل: عند غروب الشمس إذا تدلّى حاجبها الأسفل، كانت فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تراعي ذلك الوقت وتأمر خادمها أن ينظر إلى الشمس فيؤذنها بسقوطها فتأخذ في الدعاء والاستغفار في ذلك الوقت إلى أن تغرب الشمس وتخبر أن تلك الساعة هي المنتظرة وتؤثره عن أبيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهذا جمل ماقيل في هذه الساعة بروايات جاءت في ذلك متفرقة حذفنا ذكرها للاختصار فليتوخ هذه الأوقات وليتعهد الدعاء فيها والصلاة فيما صلح منها.
وقد قال بعض العلماء إن هذه الساعة مبهمة في جميع اليوم لا يعلمها إلاّ الله عزّ(1/120)
وجلّ كأنها بمنزلة ليلة القدر مبهمة في جميع شهر رمضان وكأنها مثل الصلاة الوسطى في جملة الصلوات الخمس، وقد قيل: إنها تنتقل في ساعات يوم الجمعة كتنقل ليلة القدر عند بعضهم في ليالي الشهر، ذلك ليكون العبد طالباً إلى الله عز وجلّ وراغباً متضرعاً مفتقراً في جميع ذلك اليوم، فمن واصل الأوراد فيه وعمر بالذكر كل ساعة صادفها بإذن الله عزّ وجلّ فإن لم يواصل الساعة في يوم واحد فليواصلها في جمع شتى وقتاً على وقت على ترتيب أوقات يوم فإنها تقع في جميع الأوقات لا محالة وليكثر الدعاء والتضرّع وفي وقتين خاصة عند صعود الإمام المنبر إلى أن تقام الصلاة ويدخل فيها وعند آخر ساعة وقت تدلّي الشمس للغروب، فهذان الوقتان من أفضل أوقات الجمعة ويقوي في نفسي أن في أحدهما الساعة المرجوّة، وقد اجتمع كعب الأحبار مع أبي هريرة واجتمع رأي كعب أنها في آخر ساعة من يوم الجمعة، فقال أبو هريرة: كيف تكون آخر ساعة وقد سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لايوافقها عبد يصلي ولات حين صلاة، فقال كعب: ألم يقل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قعد ينتظر الصلاة فهو في صلاة، قال: بلى، قال: فذاك صلاة، فسكت أبو هريرة فكأنه وافقه وليكثر من الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في يوم الجمعة وليلتها وأقل ذلك أن يصلّي عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثمائة مرة.
وقد جاء في الخبر من صلّى عليّ في يوم الجمعة ثمانين مرة غفر الله له ذنوب ثمانين سنة، قيل: يارسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال: تقول اللهم صلِّ على محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وتعقدها واحدة فكيف ما صلّى عليه بعد أن يأتي بلفظ ذكر الصلاة عليه فهي صلاة، والصلاة المشهورة هي التي رويت في التشهد وإن جعل من صلاته عليه أن يقول: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد صلاة تكون لك رضاء ولحقه أداء وأعطه الوسيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته وأجزه عنا ماهو أهله وأجزه أفضل ماجزيت نبياً عن أمته وصلِّ على جميع إخوانه من النبيّين والصالحين ياأرحم الراحمين.
تقول هذا سبع مرات، ففي هذا فضل عظيم ويقال: من قاله سبع جمع في كل جمعة سبعة مرات وجبت له شفاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن زاد هذه الصلاة فهي مأثورة: اللهّم اجعل فضائل صلواتك وشرائف زكواتك ونوامي بركاتك ورأفتك ورحمتك وتحيتك على محمد سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين ورسول رب العالمين قائد الخير وفاتح البر ونبي الرحمة وسيد الأمة، اللهم ابعثه مقاماً محموداً تزلف به قربه وتقربه عينه يغبطه به الأولون والآخرون، الّلهم أعطه الفضل والفضيلة والشرف والوسيلة والدرجة الرفيعة والمنزلة الشامخة المنيفة، اللهم أعط محمداً سؤله وبلغه مأموله واجعله أول شافع وأول مشفع، الّلهم عظم برهانه وثقل ميزانه وأبلج حجته وارفع في أعلى المقربين درجته، اللهم احشرنا في زمرته واجعلنا من أهل شفاعته وأحينا على سنته وتوفّنا على ملته وأوردنا(1/121)
حوضه واسقنا بكأسه غير خزايا ولانادمين ولاشاكين ولا مبدلين ولافتانين ولا مفتونين آمين، رب العالمين، وليكثر من الاستغفار يوم الجمعة وليلتها وأي لفظ ذكر فيه سؤال المغفرة فهو مستغفر، وإن قال: اللهم اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم فهو أفضل، وإن قال: رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم وأنت خير الراحمين فحسن، واستحب له أن يقرأ ختمة يوم الجمعة، فإن ضاق عليه ذلك فليشفع إليه ليلتها ليكون ابتداؤه من ليلة الجمعة، وإن جعل ختمه للقرآن في ركعتي الفجر من يوم الجمعة أو في ركعتي المغرب ليلة الجمعة فحسن، ليستوعب بذلك كله اليوم والليلة، وإن جعل ختمه بين الأذان للجمعة والإقامة للصلاة ففيه عظيم، ويستحب أن يصلّي قبل الجمعة اثنتي عشْرة ركعة وبعدها ست ركعات، وإذا دخل الجامع فليصلِّ أربع ركعات يقرأ فيهن: قل هو الله أحد مائتي مرة في كل ركعة خمسين مرة ففيه أثر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فعله لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة أو يرى له، وإذا دخل الجامع فلا يقعدن حتى يصلّي ركعتين قبل أن يجلس وكذلك إن دخل والإمام يخطب صلاّهما خفيفتين وإن سمعه لأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك لأنه قد جاء في حديث غريب أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سكت له حتى صلاّهما فقال الكوفيون إن سكت له الإمام صلاّهما، ولعل سكوت رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخصوص له لوجوب قوله، وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وأبي هريرة قالا: قال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أو يوم الجمعة أعطي نوراً من حيث يقرأها إلى مكة وغفر له إلى الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام وصلَّى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح وعوفي من الداء والدبيلة وذات الجنب والبرص والجذام وفتنة الدجال، واستحب أن يصلّي يوم الجمعة أربع ركعات بأربع سور سورة الأنعام، وسورة الكهف، وسورة طه، وسورة يس، فإن لم يحسن ذلك قرأ سورة يس وسجدة لقمان وسورة الدخان وسورة الملك ولا يدع قراءة الأربع سور في كل ليلة جمعة ففي ذلك أثر وفضل كبير فإن لم يحسن جميع القرآن قرأ ما يحسن منه فذلك له ختمة فقيل ختمة من حيث علمه، وقد كان العابدون يستحبون أن يقرؤوا يوم الجمعة ألف مرة: قل هو الله أحد، فإن قرأها في عشر ركعات أو عشرين فهو أفضل من ختمة، وقد كانوا يصلون على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألف مرة، ومن التسبيح والتهليل بالكلمات الأربع ألف مرة وهذه ثلاثة أوراد حسنة في يوم الجمعة أعني قراءة: قل هو اللَّه أحد والصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتسبيح والتهليل ألفاً ألفاً فلا يدعن ذلك من رزقها أو أحدها فإنه من أفضل الأعمال في هذا اليوم وإن صلّى يوم الجمعة قبل الزوال صلاة التسبيح وهي ثلاثمائة تسبيحة في أربع ركعات فقد أكثر وأطاب.
وقد روي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهُ قال: صلّها في كل جمعة مرة، وذكر أبو الجوزاء(1/122)
عن ابن عباس أنه لم يكن يدع هذه الصلاة كل يوم بعد الزوال وأخبر عن فضلها ما يجلُّ وصفه، وإن قرأ المسبحات الست في يوم الجمعة أو ليلتها، فحسن، وليس يروى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ السور بأعيانها إلا يوم الجمعة وليلتها، فإنا روينا أنه كان يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة: قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد وكان يقرأ في صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة وسورة المنافقين، وقد روي أنه كان يقرأ بهاتين السورتين في صلاة الجمعة وكان يقرأ في صلاة الغداة يوم الجمعة بسورة سجدة لقمان وسورة هل أتى على الإنسان واستماعه إلى علم اليقين والمعرفة وحضور مجالس الذكر أفضل من صلاته وصلاته أفضل من حضوره مجالس القصاص وروينا في حديث أبي ذر حضور مجلس علم أفضل من صلاة ألف ركعة وفي خبر آخر لأن يتعلم أحدكم باباً من العلم أو يعلمه خير له من صلاة ألف ركعة وفي خبر قيل: يا رسول الله ومن قراءة القرآن فقال: وهل ينفع القرآن إلا بعلم والصلاة إذا عدم مجلس العلم بالله والتفقه في دين اللهه عزّ وجلّ أزكى من حضور مجلس القصص ومن الاستماع إلى القصاص فإن القصص كان عندهم بدعة وكانوا يخرجون القصاص من الجامع، روي أن ابن عمر جاء ذات يوم إلى مجلسه في المسجد فإذا قصاص يقص فقال له: قم من مجلسي فقال لاأقوم وقد جلست فيه أو قال: قد سبقتك إليه قال: فأرسل ابن عمر إلى صاحب الشرطة فأقامه فلو كان ذلك من السنة لما حل لابن عمر أن يقيمه من مجلسه سيما وقد سبقه إلى الموضع كيف وهو الذي روى عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يقيم أحدكم أخاه من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسّعوا قال: فكان ابن عمر إذا قام له الرجل من مجلسه لم يجلس فيه حتى يعود إليه.
وروينا ثم يجلس فيه وقد روينا أن قاصاً كان يجلس بفناء حجرة عائشة يقص فأرسلت إلى ابن عمر أن هذا قد آذاني بقصصه وشغلني عن سبحتي قال: فضربه ابن عمر حتى كسر عصا على ظهره ثم طرده وليحذر أن يمر بين يدي المصلي وإن كان مروره لا يقطع الصلاة ففي الخبر لأن يقف أربعين سنة خير له من أن يمر بين يدي المصلي وقد جاء فيه وعيد شديد لأن يكون الرجل رماداً تذروه الرياح خير له من أن يمر بين يدي المصلي وقد سوّى في ذلك بين المار والمصلي في الوعيد ففي حديث زيد بن خالد الجهني قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو يعلم المار بين يدي المصلي والمصلي ما عليهما في ذلك لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه(1/123)
وليدن المصلي من اسطوانة أو جدار فإذا فعل ذلك فلا يدعن أحداً أن يمرّ بين يديه وليدفعه ما استطاع، وفي حديث عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان، وكان أبو سعيد يدفع من يمر بين يديه حتى يصرعه فربما تعلق به الرجل فاستعدى عليه مروان فيخبره أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره بذلك فإن لم يتفق له اسطوانة فليجعل شيئاً بين يديه يكون طوله عظم الذراع، وقد قيل: إن كان حبلاً ممدوداً فحاجز بينه وبين المارة، وقد قيل أربع من الجفاء: أن يبول الرجل قائماً، أو يصلي في الصف الثاني ويترك الأول فارغاً، أو يمسح جبهته في صلاته، أو يصلي بسبيل من يمر بين يديه، وقد كان الحسن يقول: تخطوا رقاب الذين يقعدون على أبواب الجامع يوم الجمعة فإنه لا حرمة لهم وليقرب من الإمام وينصت ويسمع ويستقبله بوجهه كذلك السنة إلا أن يخاف أن يسمع أو يرى منكراً من لبس نقش سواد أو حرير أوديباج أو جميل سلاح ثقيل ولا يستطيع تغييره ليبعد حينئذ فهو أسلم ولا يلغو ولا يتكم في خطبة الإمام وإن بعد ولايجلس في حلقة من يتكلم والإمام يخطب ولا يقول لآخر اسكت ولكن يومئ إليه إيماء أو يحصبه بحصاة فإن لغا والإمام يخطب بطلت جمعته ولا يتكلم في العلم في خطبة الإمام ومن لم يقرب من الإمام ولم يستمع فلينصت وإن بعد كذلك المستحب.
وقد روينا عن عثمان وعلي رضوان اللَّه عليهما: من استمع وأنصت فله أجران ومن لم يستمع وأنصت فله أجر ومن سمع ولغا فعليه وزران ومن لم يستمع ولغا فعليه وزر واحد، وفي حديث أبي ذر لما سأل أُبياً والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب فقال: متى أنزلت هذه السورة فأومَأ إليه أن اسكت، فلما نزل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له أُبي: اذهب فلا جمعة لك، فشكاه أبو ذر إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: صدق أبي، وكذلك جاء في الخبر: من قال لصاحبه والإمام يخطب أنصت أومه فقد لغا ومن لغا والإمام يخطب فلا جمعة له وليقطع الصلاة إذا قام المؤذنون للأذان بين يدي الإمام.
فقد روى أبو إسحاق عن الحارث عن علي رضوان الله عليهم: تكره الصلاة في أربع ساعات، بعد الفجر، وبعد العصر، ونصف النهار، والصلاة والإمام يخطب، وقد جاء في الأثر خروج الإمام يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام وسجود العامة عند قيام المؤذنين للأذان قبل الخطبة ليس بسنة فإن وافق ذلك سجوده في صلاته أو سجود قرآن فلا بأس أن يمتد في الدعاء إلى فراغهم لأنه وقت مفضل ولا أعرف في ذلك أثراً غير أنه مباح، ومن العلماء من كره الصلاة في المقصورة لأجل أنها قصرت على السلطان وأوليائه وذلك بدعة عند أهل الورع ابتدعت في المساجد لأنها غير مطلقة لجملة الناس، فلذلك نقل في الخبر: كان الحسن وبكر المزني لا يصليان في المقصورة.
وروي: رأيت أنس بن مالك يصلي في المقصورة وعمران بن حصين أيضاً ومنهم من لم يكره ذلك ورأيت فيه فضلاً لأجل السنة في الدنو من الإمام واستماع الذكر فإن(1/124)
أطلقت للعامة زالت الكراهة عنها وإن خصّ بها أولياء السلطان تركت عليهم فإن صلّى سبعاً يصلّي فيها فإن بعض العلماء كره الصلاة في فناء المنبر من قبل أن المنبر يقطع الصفوف وكان عندهم أن تقدمة الصفوف إلى فناء المنبر بدعة وكان الثوري يقول: الصف الأول: هو الخارج من بين يدي المنبر ومن خشي الفتنة والآفة في قربه من الإمام بأن يسمع ما يجب عليه إنكاره أو يرى ما يلزم الأمر فيه أو النهي عنه من لبس حرير أو لبس ديباج أو الصلاة في السلاح الثقيل للشغل كان بعده من الصفوف المقدمة أصلح لقلبه وأجمع لهمه لقلة ملاقاة الناس ولترك النظر إليهم، فالأصلح للقلب والأجمع للهم هو الأفضل حينئذ وقد كان جماعة من العلماء والعباد يصلون في أواخر الصفوف إيثاراً للسلامة وقيل لبشر بن الحرث: نراك تبكر يوم الجمعة وتصلي في أواخر الصفوف فقال: يا هذا إنما نريد قرب القلوب لا قرب الأجساد، ونظر سفيان الثوري إلى شعيب بن حرب عند المنبر يستمع إلى خطبة أبي جعفر فلما جاءه بعد الصلاة قال: شغل قلبي قربك من هذا هل أمنت أن تسمع كلاماً يجب عليك إنكاره فلا تقوم به ثم ذكر ما أحدثوا من لبس السواد قلت: يا أبا عبد الله أليس في الخبر إذن واستمع فقال ويحك ذاك للخلفاء الراشدين المهديين فأما هؤلاء فكلما بعدت عنهم ولم تنظر إليهم كان أقرب لك إلى اللَّّْه عزّ وجلّ.
وقد روينا عن أبي الدرداء فضيلة في الصف المؤخر قال سعيد بن عامر صليت إلى جنبه فجعل يتأخر في الصفوف حتى كنا في آخر صف فلما صلْينا قلت له أليس يقال خيراً الصفوف أوّلها قال: نعم إلا أن هذه أمة مرحومة منظور إليها من بين الأمم وإن اللَّه عزْ وجلْ إذا نظر إلى عبد منهم في الصلاة غفر لمن وراءه من الناس فإنما تأخرت رجاء أن تغفر لي بواحد منهم ينظر اللَّه إليه وقد رفعه بعض الرواة أن أبا الدرداء سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقول ذلك: والصدقة مستحبة مفضلة يوم الجمعة خاصة فإنها تضاعف إلا على من سأل والإمام يخطب وكان يتكلم في كلام الإمام فهذا مكروه قال صالح بن أحمد: سأل مسكين يوم الجمعة والإمام يخطب وكان بجنب أبي فأعطاه رجل قطعة ولم يعرفه ليناوله إياها فلم يأخذها منه أبي وقال ابن مسعود: إذا سأل الرجل في المسجد فقد استحق أن لا يعطى وإذا سأل على القرآن فلا تعطوه، ومن العلماء من كره الصدقة على سؤال الجامع الذين يتخطون رقاب الناس إلا أن يسأل قائماً من غير أن يتخطّى المسلمين أو قاعداً في مكان.
وروينا عن كعب الأحبار: من شهد الجمعة ثم انصرف يتصدق بشيئين مختلفين من الصدقة ثم رجع فركع ركعتين يتم ركوعهما وخشوعهما وسجودهما ثم يقول: اللهم إني أسألك باسمك بسم اللَّه الرحمن الرحيم وباسمك الذي لا إله إلاّ هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولانوم لم يسأل اللَّه عزّ وجلّ شيئاً إلا أعطاه، وقد روينا عن بعض السلف على غير هذا الوصف قال: من أطعم مسكيناً في يوم(1/125)
الجمعة ثم غدا وابتكر ولم يؤذ أحداً ثم قال حين يسلم الإمام اللَّهم إني أسألك ببسم اللَّه الرحمن الرحيم الحي القيوم أن تغفر لي وترحمني وأن تعافيني من النار ثم دعا بما بدا له استجيب له وإن سمع قراءة الإمام لم يقرأ في صلاته إلا سورة الحمد لا غير وإن لم يسمع قراءته قرأ سورة مع الحمد إن أحب فأما من سمع قراءة الإمام وقرأ معه سورة الجمعة أو غيرها من السور فقد خالف الأمة وعصى رسولا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أعلمه مذهب أحد من المسلمين فإذا سلم من صلاة الجمعة قرأ وهو ثان رجله قبل أن يتكلم الحمد سبع مرات وقل هو اللَّه أحد سبعاً والمعوذتين سبعاً سبعاً، ففي ذلك أثر عن بعض السلف أن من فعله عصم من الجمعة إلى الجمعة وكان ذلك حرزاً له من الشيطان واستحب له أن يقول بعد صلاة الجمعة: اللَّهم يا غني، ياحميد، يا مبدئ، يا معيد، يا رحيم، ياودود، أغنني بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، يقال: من داوم علي هذا الدعاء أغناه اللَّه عزّ وجلّ عن خلقه ورزقه من حيث لا يحتسب، وقد روي ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلّي بعد الجمعة ركعتين، وروى أبو هريرة أنه كان يصلّي بعدها أربعاً، وروى علي وعبد اللَّه رضي اللَّه عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلَّي بعدها ستاً فإذا صلّى العبد ست ركعات فقد استوعب جميع الروايات وأكره شراء الماء في المسجد للشرب أو لتسبيله لئلا يكون مبتاعاً في المسجد فقد كره الشراء والبيع في المسجد فإن بايعه أو دفع إليه القطعة خارجاً من المسجد وشرب أو سبل في المسجد فلا بأس وقد جاء عن بعض السلف أنه كره الصلاة في رحاب الجامع عن بعض الصحابة أنه كان يضرب الناس ويقيمهم من الرحاب ويقول: لا تجوز الصلاة في الرحاب فهذا عندي على ضربين وهو أن الصلاة في رحاب الجامع الزوائد فيه المتصلة بالصفوف المحيط بها حائط الجامع الأعظم كالصلاة في وسطه غير مكروهة، والصلاة في رحابه المتفرقة في أفنيته التي هي من وراء جدر الجامع كله مكروهة، وكذلك الصلاة في الطرقات المنفردة عن الجامع غير المتصلة بالصفوف لحجز طريق أو بعد مكان فلا يجوز، وهذا الذي كرهه من كان ينهي عن الصلاة فيه، فإذا صلّى الجمعة انتشر في أرض اللَّه عزّ وجلّ يطلب من فضل اللَّه عزّ وجلْ ومن الفضل طلب العلم واستماعه، ويقال: هو مزيد يوم الجمعة للعالم والمتعلم، قال اللَّه عزّ َوجلّ: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَاَنَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظيماً) النساء: 311 قال الله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاَ) سبأ: 01، يعني بدليل نظيرها من الآية الأخرى في قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقَالاَ الْجَمْدُ لله الَّذي فَضَّلَنَا) النمل: 15.
وروينا عن أنس بن مالك في قوله عزّ وجلْ: (فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلوةُ فَاْنتشَِرُوا في الأَرضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّه) الجمعة: 01، قال أما أنه ليس بطلب دنيا ولكنه عيادة مريض(1/126)
وشهود جنازة وتعلّم علم وزيارة أخ في الله عزّ وجلّ فإن الذكر بالعلم وتعليم الناس إياه والتذكير باللَّه عزّ وجلّ والدعوة إليه في يوم الجمعة له فضل على سائر الأيام لأنه يوم المزيد، فللقلوب فيه إقبال وتحديد، وكذلك السعي إليه والاستماع له وحضور مجالس الذكر يوم الجمعة لا مجالس القصاص أفضل من سائر الأيام، والمستمع شريك القائل في الأجر وقد قيل إنه أقرب للرحمة وقد كره العلماء الجلوس إلى القصاص سيمايوم الجمعة خاصة لأنهم يثبطون عن الغدوّ إلى الجامع في الساعة الأولى والثانية لأن الكتاب ورد بالفضل فيهما، فمن اتفق له عالم باللَّه عزّ وجلّ يذكره به ويدله عليه من علماء الآخرة الزاهدين في الدنيا يوم الجمعة غدوة في الجامع أو بعد صلاة الجمعة جلس إليه واستمع منه وإن حضر مفتِ يتكلّم بعلم الدين وكان العبد محتاجاً إلى ذلك وجالسه فهو الأفضل فإن مجالس العلماء في الجامع من زين يوم الجمعة ومن تمام فضله.
قال الحسن: الدنيا ظلمة إلا مجالس العماء، فإن لم يتفق له ذلك أحيا ما بين الصلاتين وهو الورد الخامس من النهار، ويستحب صلاة العصر في الجامع إلاّ لسبب لا بدّ منه مانع، وإن قعد إلى غروب الشمس فهو أثوب للساعة المنتظرة من آخر النهار إذا أمن الفتنة والتصنع والكلام فيما لا يعنيه، ويقال: من صلّى العصر في الجامع كان له ثواب حجة ومن صلّى المغرب كان له ثواب عمرة فإن خشي دخول الآفة عليه أو لم يأمن التصنّع والخوض فيما لا يعنيه انصرف إلى منزله ذاكراً للَّه عزّ وجلّ مفكراً في آلائه وحسن نعمائه فراعى غروب الشمس بالأذكار والتسبيح والاستغفار في منزله أو مسجد حيه فذلك حينئذ أفضل له، وقال بعض السلف: أوفر الناس نصيباً يوم الجمعة من راعاها وانتظرها من الأمس وأخس الناس منها نصيباً من يصبح يوم الجمعة فيقول: أيش اليوم وقد كان بعضهم يبيت ليلة الجمعة في الجامع لأجل صلاة الجمعة ومنهم من كان يبيت ليلة السبت في الجامع لمزيد الجمعة وكثير من السلف من كان يصلِّي الغداة يوم الجمعة في الجامع ويقعد ينتظر صلاة الجمعة لأجل البكور ليستوعب فضل الساعة الأولى ولأجل ختم القرآن وعامة المؤمنين كانوا ينحرفون من صلاة الغداة في مساجدهم فيتوجهون إلى جوامعهم ويقال: أوّل بدعة حدثت في الإسلام ترك البكور إلى الجوامع.
قال: وكنت ترى يوم الجمعة سحراً وبعد صلاة الفجر الطرقات مملوءَة من الناس يمشون في السرج يزدحمون فيها إلى الجامع كما ترون اليوم في الأعياد حتى درس ذلك وقل وجهل وترك أولا يستحي المؤمن أن أهل الذمة يبكرون إلى كنائسهم وبيعهم قبل خروجه إلى جامعه أولا يعتبر بأهل الأطعمة المباعة في رحاب الجامع أنهم يغدون إلى الدنيا والناس قبل غدوّه هو إلى اللَّه تعالى وإلى الآخرة فينبغي أن يسابقهم إلى مولاه(1/127)
ويسارعهم إلى ماعنده من زلفاه، ويجب أن يكون للمؤمن يوم الجمعة مزيد في الأوراد والأعمال وليتفرغ فيه لربه عزّ وجلّ ويجعله يوم آخر إن لم يكن له يوم السبت فيوم الجمعة في الأوراد المتصلة والمزيد من الأذكار على المعلوم منها فلا يكون الجمعة كالسبت في تجارة الدنيا والشغل بأسبابها وأكره له التأهب ليوم الجمعة في باب الدنيا من يوم الخميس من إعداد المأكول والترفّه من النعمة والأكل والشرب، فقد روينا حديثاً من طريق أهل البيت فيه نظر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يأتي على أمتي زمان يتأهبون لجمعتهم في أمر دنياهم عشية الخميس كما يتأهب اليهود لسبتها عشية الجمعة وإنما كان المؤمنون يتأهبون فيه للآخرة بالأوراد الحسنة يزدادون من الأوراد المتصلة، وقد كان أبو محمد سهل رحمه اللَّه يقول: من أخذ مهنأه من الدنيا في هذه الأيام لم ينل مهنأه في الآخرة منها يوم الجمعة وقال أيضاً: يوم الجمعة من الآخرة ليس هو من الدنيا، وقال بعضهم: لولا يوم الجمعة ما أحببت البقاء في الدنيا فهو عند الخصوص يوم العلوم والأنوار ويوم الخدمة والأذكار لأنه عند اللَّه عزّ وجلّ يوم المزيد بالنظر إليه في المزار.
وروينا حديثاً غريباً عن ابن عباس قال: قال رسول الله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دعوا أشغالكم يوم الجمعة فإنه يوم صلاة وتهجّد.
وروينا عن جعفر الصادق قال: يوم الجمعة للَّه عزّ وجلّ ليس فيه سفر، قال اللَّه تعالى: (وَابتَْغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّه) الجمعة: 10 وما ذكرناه من الصلاة والسور المقروءَة والصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجميع الذكر في يوم الجمعة فإنه يستحب في ليلتها وهي من أفضل الليالي فلا يدعن ذلك من وجد إليه سبيلاً، فإن للصادق المريد في كل وقت مفضل من اللَّه عزّ وجلّ مزيداً فإذا أحب اللَّه تعالى عبداً استعمله في الأوقات الفاضلة بفواضل الأعمال وإذا مقت عبداً استعمله في الأوقات المفضلة بسئ الأعمال ليكون أوجع في عقابه وأشد لمقته لحرمانه بركة الوقت وانتهاكه حرمة الوقت ومما يختص به يوم الجمعة من الذكر والتمجيد بالأسماء فصول أربعة: أولها: الأربعون اسماً التي دعا بها إدريس صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خصه الله تعالى بها وذكر الحسن البصري أن موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كان دعا بهن وأنها كانت من دعاء محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والفصل الثاني: كان إبراهيم بن أدهم الزاهد يدعو بها كل يوم جمعة عشر مرات إذا أصبح وإذا أمسى فكان ذلك من عمله في يومه.
والفصل الثالث: روينا عن علي رضي اللَّه عنه رواه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن اللَّه عزَّ وجلّ يمجد نفسه في كل يوم وليلة.
والفصل الرابع: تسبيحات أبي المعمر وهو سليمان التيمي الذي كان رأى الشهيد(1/128)
بعد قتله في المنام فقيل له: ما أفضل ما رأيت هناك من الأعمال؟ فقال: رأيت تسبيحات أبي المعتمر من اللَّه عزّ وجلّ بمكان، فأما هذان الفصلان من تمجيد الرب سبحانه وتعالى نفسه، وتسبيحات أبي المعتمر فقد ذكرناهما في أوّل الكتاب فيما اخترنا من الأدعية المختارة بعد صلاة الغداة وقبل غروب الشمس في كل يوم فاستثقلنا إعادتها ههنا، وأما الفصلان الآخران فنحن ذاكروهما.
ذكر دعاء إدريس النبي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حدثنا الحسن بن يحيى الشاهد: حدثنا القاسم بن داود القراطيسي حدثنا عبد اللَّه بن محمد القرشي حدثنا محمد بن سعيد المؤذن حدثنا سلام الطويل عن الحسن البصري قال: لما بعث الله عزّ وجلّ إدريس إلى قومه علّمه هذه الأسماء فأوحى اللَّه إليه: قلهنّ سراً في نفسك ولا تبدهنّ للقوم فيدعوني بهنّ، قال: وبهن دعا، فرفعه اللَّه عزّ وجلّ مكاناً علياً ثم علّمهن اللَّه عزّ وجلّ موسى عليه السلام ثم علّمهن اللَّه عزّ وجلّ محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبهن دعا في غزوة الأحزاب قال الحسن: وكنت مستخفياً من الحجاج فدعوت اللَّه بهنّ فحبسه عني ولقد دخل عليَّ ست مرات فأدعو اللَّه بهن فأخذ اللَّه عزّ وجلّ بأبصارهم عني فادع اللَّه عزّ وجلّ بهنّ لالتماس المغفرة لجميع الذنوب ثم سل حاجتك من أمر آخرتك ودنياك فإنك تعطاه إن شاء اللَّه تعالى فإنهن أربعون اسماً عدد أيام التوبة سبحانك لا إله إلاأنت، يا رب كل شيء، ووارثه، ورازقه، وراحمه، يا إله الآلهة، الرفيع جلاله، يا اللَّه المحمود في كل فعاله، يا رحمن كل شيء وراحمه، ياحي حين لا حيّ في ديمومة ملكه وبقائه، يا قيوم فلا يفوت شيء من علمه ولايؤده، ياواحد، الباقي في أول كل شيء وآخره، يا دائم فلا فناء ولا زوال لملكه، ياصمد من غير شبيه ولا شيء كمثله، يا بارىء فلا شئ كفؤه ولا مكان لوصفه، يا كبير أنت الذي لا تهتدي القلوب لوصف عظمته، يابارئ النفوس بلامثال خلا من غيره، يا زاكي الطاهر من كل آفة تقدسه، يا كافي الموسع لما خلق من عطايا فضله، يانقياً من كل جور لم يرضه ولم يخالطه فعاله، ياحنان أنت الذي وسعت كل شيء رحمة وعلماً، يا ذا الإحسان قد عمّ كل الخلائق منه، يا ديان العباد كل يقوم خاضعاً لرهبته، يا خالق من في السموات والأرض وكل إليه معاده، يا رحيم كل صريخ ومكروب وغياثه ومعاده، يا تام فلاتصف الألسن كل جلال ملكه وعزه، يا مبدع البدائع لم يبلغ في إنشائها عوناً من خلقه، يا علاّم الغيوب فلا يفوته شيء من خلقه ولا يؤده، يا حليم ذا الأناة فلا يعادله شيء من خلقه، يا معيد ما أفناه إذا برز الخلائق لدعوته من مخافته، ياحميد الفعال ذا المنّ على جميع خلقه بلطفه، يا عزيز المنيع الغالب على أمره فلا شيء يعادله، يا قاهر ذا البطش الشديد أنت الذي لا يطاق انتقامه، يا قريب المتعالي فوق كل شيء علو ارتفاعه، يا مذلّ كل جبار عنيد بقهر عزيز سلطانه، يانور كل شيء وهداه، أنت الذي فلق الظلمات بنوره،(1/129)
يا عالي الشامخ فوق كل شيء علو ارتفاعه، يا قدّوس الطاهر من كل سوء فلا شيء يعادله من خلقه، يا مبدئ البرايا ومعيدها بعد فنائها بقدرته، يا جليل المتكبر عن كل شيء فالعدل أمره والصدق وعده، يا محمود فلا تبلغ الأوهام كنه ثنائه ومجده، ياكريم العفو ذا العدل أنت الذي ملأ كل شيء عدله، يا عظيم ذا الثناء الفاخر وذا العزّ والمجد والكبرياء فلا يذل عزه، يا عجيب فلا تنطق الألسن بكنه آلائه وثنائه، يا غياثي عند كل كربة ويا مجيبي عند كل دعوة، أسألك اللَّهم يا رب الصلاة على نبيك محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأماناً من عقوبات الدنيا والآخرة وأن تحبس عني أبصار الظالمين المريدين بي السوء وأن تصرف قلوبهم عن شرّ ما يضمرون بي إلى خير ما لا يملكه غيرك، اللَّهم هذا الدعاء ومنك الإجابة وهذا الجهد وعليك التكلان ولاحول ولا قوّة إلا باللَّه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
ذكر دعاء إبراهيم بن أدهم
حدثنا أحمد بن الموصلي الوكيل بن الموكل حدثنا: جعفر بن نصير الخواص الخراساني حدثني إبراهيم بن بشار خادم إبراهيم بن أدهم قال: كان إبراهيم بن أدهم يقول هذا الدعاء في يوم الجمعة إذا أصبح ويقوله إذا أمسى مثل ذلك مرحباً بيوم المزيد والصبح الجديد والكاتب الشهيد يومنا هذا يوم عيد اكتب لنا ما نقول بسم اللَّه الحميد المجيد الرفيع الودود الفعّال في خلقه ما يريد أصبحت باللَّه مؤمناً وبلقائه مصدقاً وبحجته معترفاً ومن ذنبي مستغفراً ولربوبية اللَّه خاضعاً ولسوى اللَّه عزّ وجلّ في الإلهية جاحداً وإلى اللَّه فقيراً وعلى اللَّه متوكلاً وإلى اللَّه منيباً، أشهد اللَّه وأشهد ملائكته وأنبياءه ورسله وحملة عرشه ومن خلق ومن هو خالقه بأنه هو اللَّه لا إله إلا هو وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن الجنة حق والنار حق والحوض حق والشفاعة حق ومنكراً ونكيراً حق ولقاءك حق ووعدك حق والساعة آتية لا ريب فيها وأن اللَّه يبعث من في القبور على ذلك أحيا وعليه أموت وعليه أبعث إن شاء الله، اللَّهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك اللَّهم من شرّ كل ذي شرّ، اللَّهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف اللَّهم يا رب عني سيئها فإنه لا يصرف سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله بيديك أنا لك وإليك أستغفرك وأتوب اليك، آمنت اللَّهم بما أرسلت من رسول، وآمنت اللَّهم بما أنزلت من كتاب وصلّى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وسلم كثيراً خاتم كلامي ومفتاحه وعلى أنبيائه ورسله أجمعين آمين يا رب العالمين، اللَّهم أوردنا حوضه واسقنا بكأسه مشروباً روياً سائغاً هنيئاً، لا نظمأ بعده أبداً(1/130)
واحشرنا في زمرته غير خزايا ولا نادمين ولاناكثين ولا مرتابين ولامفتونين ولا مغضوباً علينا ولا ضالين، اللَّهم اعصمني من فتن الدنيا ووفقني لماتحب وترضى من العمل وأصلح لي شأني كله وثبتني بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولا تضلني وإن كنت ظالماً سبحانك سبحانك يا علي، ياعظيم، يا بار، يا رحيم، ياعزيز، يا جبار، سبحان من سبحت له السموات بأكنافها، وسبحان من سبحت له الجبال بأصواتها، وسبحان من سبحت له البحار بأمواجها، وسبحان من سبحت له الحيتان بلغاتها، وسبحان من سبحت له النجوم في السماء بأبراقها، وسبحان من سبحت له الشجر بأصولها ونضارتها، وسبحان من سبحت له السموات السبع والأرضون السبع ومن فيهن ومن عليهن، سبحانك سبحانك يا حي، يا حليم، سبحانك لا إله إلا أنت وحدك، لا شريك لك تحيي وتميت وأنت حي لا تموت، بيدك الخير وأنت على كل شيء قدير، فإذا دعا بهده الأدعية الأربع يوم الجمعة فقد كمل اللَّه عزّ وجلّ عمله وتمّ عليه فضله فإذا عمل بخير ما ذكرناه من الأعمال والأذكار واجتنب سيّء ما ذكرناه من الأقوال والأفعال فهو من أهل الجمعة وممن له المزيد بها نصيباً موفوراً وكان عمله الخالص وذكره الصادق عند اللَّه عزّ وجلّ مشكوراً، وهذا آخر كتاب الجمعة وهيْئاتها وآدابها.(1/131)
الفصل الثاني والعشرون
كتاب الصيام
وترتيبه ووصف الصائمين وذكر مايستحب للعبد من الصيام وطرقات الصائمين في الصوم
ووصف صوم الخصوص
قال اللَّه عزّ وجلّ: (وَاسْتَعينُوا بِالصبَّْرِ وَالصَّلاةِ) البقرة: 351، جاء في التفسير: الصبر يعني الصوم وكان رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسمي رمضان شهرالصبر لأن الصبر حبس النفس عن الهوى وإيقافها وحبسها على أمر المولى، وقد روينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: الصبر نصف الإيمان والصوم نصف الصبر، وقال اللَّه تعالى: (وَاسْتَعينُوا بِالصّبْرِ) البقرة: 351، قيل: معناه على مجاهدة النفس وقيل: على مصابرة العدوّ، وقال بعض العلماء: استعينوا بالصبر على الزهادة في الدنيا بالصوم، لأن الصائم كالزاهد العابد، فالصوم مفتاح الزهد في الدنيا وباب العبادة للمولى لأنه منع النفس عن ملاذها وشهواتها من الطعام والشراب كما منعها الزاهد العابد بدخوله في الزهد وشغله بالعبادة، ولذلك جمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهما في المعنى فقال: إن اللَّه عزّ وجلّ يباهي ملائكته بالشاب العابد فيقول: أيها الشاب التارك شهوته من أجلي المبتذل شبابه لي أنت عندي كبعض ملائكتي، وقال في الصائم: مثل ذلك يقول عزّ وجلّ: يا ملائكتي انظروا إلى عبدي ترك شهوته ولذته وطعامه وشرابه من أجلي، ففي الصوم عون على مجاهدة النفس وقطع حظوظها ومنع عادتها وفيه إضعاف لها ونقصان لهواها، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول اللَّه عزّ وجلّ: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، فأضافه عزّ وجلّ إليه تفضيلاً له تخصيصاً كما قال تعالى: (وَأنْ المسَاجِدَ للَِّه فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أحَداً) الجن: 18 وكما قال: (إنَّمَا أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ رَبَّ هِذِهِ البَلْدَةِ الذي حَرَّمَهَا) النمل: 91 فلما كانت المساجد أحب بيوت الدنيا إليه وكانت مكة أشرف البلاد عنده أضافها إلى ذكره وله كل شيء كذلك لما كان الصيام أفضل الأعمال عنده وأحبها إليه لأن فيه خلقاً من أخلاق الصمدية ولأنه من أعمال السر بحيث لا يطلع عليه إلا هو أضافه لنفسه، وقيل: ما في عمل ابن آدم شيء إلا ويقع فيه قصاص ويذهب برد المظالم إلا الصوم(1/132)
فإنه لا يدخله قصاص، ويقول اللَّه عزَّ جلّ يوم القيامة: هذا لي فلا يقتص منه أحد شيئاً، يقال: ما من عمل إلا وله جزاء معلوم إلا الصوم فإنه لا تعلم نفس ماجزاؤه ويكون أجره بغير حساب يفرغ له إفراغاً ويجازف مجازفة وهو أحد الوجوه في قوله عزّ وجلّ: (فَلا تَعْلَمْ نَفْسُ مَا أُخِفْيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيُنٍ جَزاءً بِمَا كَانوا يَعْمَلْونَ) السجدة: 71، قيل: كان عملهم الصيام، وكذلك في تأويل قوله عزّ وجلّ: السائحون قيل هم الصائمون كأنهم ساحوا إلى ربهم عزّ وجلّ بجوعهم وعطشهم وتركوا قرّة أعين أبناء الدنيا من أكلهم وشربهم فآواهم مولاهم فيما أخفي لهم من قرّة أعين جزاء لعملهم، وقال تعالى: (إنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) الزمر: 01، قيل: الصائمون والصبر اسم من أسماء الصوم فلما أخفي ذكره بالصوم في نفسه أخفى اللَّه عزّ وجلْ جزاءه إياه عن غير نفسه.
وفي الحديث: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، فالصوم ذكر الله عزّ وجلّ وهو سرّ وليس أستحب للعبد أن يزيد على إفطار أربعة أيام نسقاً فإن ذلك يقسي القلب ويغيّر الحال ويولّد العادات ويفتق الشهوات ولأنه لم يؤمر ولم يندب إلى أن يوالي بين إفطار أكثر من أربعة أيام متوالية وهي النحر وأيام التشريق، ويستحب له أن يصوم يوماً ويفطر يوماً أو يصوم يومين ويفطر يومين وذلك صوم نصف الدهر وإن أحب فليصم يومين ويفطر يوماً وذلك صوم ثلثي الدهر فإن أحب فليصم يوماً ويفطر يومين وهذا صيام ثلث الدهر، هذه طريق الصائمين وفيها روايات حذفنا ذكر فضائلها للاختصار، فإن صام ثلاثاً من أول الشهر وثلاثاً من وسطه وثلاثاً من آخره فحسن، فإن صام الأثانين والأخمسة والجمع فذلك خير كبير وأقل من ذلك أن يصوم الأيام البيض وأول يوم من الشهر وآخر يوم منه، وأفضل الصيام ما كان في الأشهر الحرم وأفضل ذلك ماوقع في العشرين منها وهو المحرم وذو الحجة وبعد ذلك ما كان في شعبان فإن رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يكثر الصيام فيه حتى يصله بشهر رمضان ولايدع أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وليواظب على صوم الاثنين والخميس، وفي الخبر: أفضل الصيام بعد شهر رمضان وشهر اللَّه المحرم وصوم النصف الأول من شهر شعبان مستحب، وقد كانوا يفطرون النصف الأخير منه، وقد روينا خبر: إذا كان النصف من شعبان فلا صوم حتى يدخل رمضان وليفطر قبل رمضان أياماً فإن وصل شعبان برمضان فجائز، ولا يجوز أن يستقبل رمضان بيومين أو ثلاثة إلا أن يوافق ذلك يوم اثنين أو خميس قد كان يصومه، وقد كان بعض الصحابة يكره أن يصام رجب كله لئلا يضاهي به شهر رمضان وكانوا يستحبون أن يفطروا منه أياماً وقد كره قوم صيام الدهر كله وردت أخبار في كراهته وقد تأوّل ذلك بأنهم كانوا يصومون السنة كلها مع يوم العيد وأيام التشريق فوردت الكراهة لذلك، وإن كان يريد صلاح قلبه وانكسار نفسه واستقامة حاله في صوم الدهر فليصمه، فهو حينئذ كالواجب(1/133)
عليه إذا كان تقواه وصلاحه فيه، فقد روينا عن سعيد عن قتادة عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صام الدهر ضيقت عليه جهنم وعقد تسعين معناه لم يكن له فيها موضع وقد دلت الأصول على فضل صوم الدهر وقد صامه طبقات من السلف الصالح من الصحابة والتابعين بإحسان إلا أن يكون الرجل يرغب عن السنة ولا يرى الرخصة في الإفطار فيكره له صوم الدهر للمعاندة لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بالسعة في الدين وأخبر اللَّه عزّ وجلّ بأنه يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه، وفي لفظ آخر: يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتي معصيته، وقد دلّت الأخبار على فضل صوم نصف الدهر بأن يصوم يوماً ويفطر يوماً وذلك ليكون العبد بين حالين حال صبر وحال شكر، ومن ذلك ما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرضت عليَّ مفاتيح خزائن الدنيا وكنوز الأرض فرددتها فقلت: أجوع يوماً وأشبع يوماً أحمدك إذا شبعت وأتضرع إليك إذا جعت، ومن ذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أفضل الصيام صيام أخي داود عليه السلام، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ومن ذلك منازلته عليه السلام لعبد الله بن عمرو في الصوم وهو يقول: إني أريد أفضل من ذلك حتى قال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صُم يوماً وافطر يوماً قال: أريد أفضل من ذلك قال: لا أفضل من ذلك، وروي في الخبر: صوم يوم من شهر حرام أفضل من صوم ثلاثين يوماً من غيره وصوم يوم من رمضان أفضل من صوم ثلاثين يوماً من شهر حرام، وفي حديث: من صام ثلاثة أيام من شهر حرام الخميس والجمعة والسبت كتب الله تعالى له عبادة سبعمائة عام، وقد روينا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما صام شهراً كاملاً قط إلا رمضان بل كان يفطر منه وقد وصل مرة شعبان برمضان وفصل صوم رمضان مراراً من شعبان، وما ذكرنا من أنواع الصوم فهو صيام جماعة من السلف الصالح وفي كل منه ورد فيه فضائل يكثر ذكرها وكذلك في جميع ما نذكره من أعمال القلوب والجوارح في الأيام والليالي وكذلك فيما نذكره من أخلاق الإيمان وأوصاف الموقنين، وقدجاءت في أكثر ذلك فضائل ومثوبات إلا أنا لم نقصد تعديد ذلك وليس مذهبنا الاشتغال بذكر فضائل الأعمال إنما طريقنا تهذيب قلوب العمال، فبطهارة القلوب وحقيقة الإيمان تزكو
الأعمال وتقرب العاملون من ذي الجلال ولا حول ولاقوة إلا بالله العليَّ العظيم. ال وتقرب العاملون من ذي الجلال ولا حول ولاقوة إلا بالله العليَّ العظيم.
ذكر صوم الخصوص من الموقنين
اعلم وفقك اللَّه تعالى أن الصوم عند الصائمين هو صوم القالب فأما صوم الخصوص من الموقنين فإن الصوم عندهم هو صوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية ثم صوم السمع والبصر واللسان عن تعدي الحدود وصوم اليد والرجل عن البطش والسعي في أسباب النهي، فمن صام بهذا الوصف فقد أدرك وقته في جملة يومه(1/134)
وصار له في كل ساعة من نهاره وقت وقد عمر يومه كله بالذكر، ولمثل هذا قيل: نوم الصائم عبادة ونفسه تسبيح وقد قرن اللَّه عزَّ وجلّ الاستماع إلى الباطل والقول بالإثم إلى أكل الحرام ولولا أن في المسموعات والمقولات حراماً على المستمع والإصغاء إليه وحراماً على القائل النطق به ما قرنهما إملي أكل الحرام وهو من الكبائر، فقال تعالى: سماعون للكذب أكّالون للسحت، وقال سبحانه وتعالى: (لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانُّيون وَالأَحْبَارُ عَنْ قَولِهِمُ الإثَمْ وَأَكلِهِمُ السُّحْتَ) المائدة: 36، فالعبد الحافظ لحدود اللَّه عزّ وجلّ إن أفطر بالأكل والجماع فهو صائم عند اللَّه في الفضل للأتباع ومن صام عن الأكل والجماع وتعدى الحدود وأضاع فهو مفطر عند اللَّه عزّ وجلّ صائم عند نفسه، لأن ما أضاع أحب إلى اللَّه عزّ وجلّ وأكثر ممَّا حفظ، ومثل من صام من الأكل وأفطر بمخالفة الأمر بسائر الجوارح مثل من مسح كل عضو من أعضائه في وضوئه ثلاثاً ثلاثاً ثم صلَّى فقد وافق الفضل في العدد إلا أنه تارك للفرض من الغسل فصلاته مردودة عليه لجهله وهو مغتر بفعله ومثل من أفطر بالأكل وصام بجوارحه عن النهي مثل من غسل كل عضو من أعضائه في وضوئه مرة مرة فهو تارك للفضل في العدد إلا أنه مكمل للفرض محسن في العمل فصلاته متقبلة لأحكامه للأصل ولعمله بالعلم، ومثل من صام من الأكل والجماع وحفظ جوارحه عن الآثام كمثل من غسل كل عضو ثلاثاً ثلاثاً فقد تمم الفرض وأحسن بتكملة الفضل فهذا كما قال تعالى تماماً على الذي أحسن، وكما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الوضوء، كذلك هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ووضوء أبي إبراهيم عليه السلام وقد قال اللَّه تعالى: (مِلَّةَ أَبيكُمْ إبْراهيمَ) الحج: 87 أي عليكم بها فائتموا واقتدوا به فيها، وقد روينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر، وجاء في الخبر أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأجهدهما الجوع والعطش في آخر النهار حتى كادتا أن تتلفا فبعثتا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستأذناه في الإفطار فأرسل إليهما قدحاً وقال: قل لهما قيئا فيه ما أكلتما قال:
فقاءت إحداهما نصفه دماً عبيطاً ولحماً عريضاً وقاءت الأخرى مثل ذلك حتى ملأتاه، فعجب الناس من ذلك فَقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هاتان صامتا عما أحل اللَّه عزَّ وجلَّ لهما وأفطرتا على ما حرم اللَّه عزّ وجلَّ عليهما قعدت إحداهما الى الأخرى فجعلا يغتابان الناس فهذا ما أكلا من لحومهم، وكان أبو الدرداء يقول: يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم يعيبون صوم الحمقى وسهرهم ولذرة من ذي يقين وتقوى أفضل وأرجح من أمثال الجبال من عبادة المغترين وكل محظور عليك أن تتفوّه به فمحظور عليك أن تستمع إليه وكل حرام عليك أن تفعله(1/135)
فمكروه أن تنظر إليه أو يخطر ببالك، وقد سوّى اللَّه عزّ وجلّ بين المستمع والقائل في قوله تعالى: (إنَّكُمْ إذاًِ مِثْلُهُمْ) النساء: 041 ومثل الصائم مثل التوبة لأن الصبر من أوصافها وإنما كانت التوبة مكفرة لما سلف من السيئات لأجل أنه صبر عما سلف من سئ العادات ثم اعتقد ترك العود إلى مثل ما سلف بصيانة جوراحه التي كانت طرائق المكروهات، كذلك كان الصيام جنة من النار وفضيلة من درجات الأبرار، إذا صبر عليه الصائم فحفظ جوارحه فيه من المآثم فإذا أمرحها في الآثام كان كالتائب المتردد الناقض للميثاق لم تكن توبته نصوحاً ولا كان صوم هذا صالحاً وصحيحاً ألا ترى إلى قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصوم جنة من النار ما لم يخرقها بكذب أو غيبة وأمره في قوله عليه السلام: إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولايجهل وان امرؤ شاتمه فليقل: إني صائم، وفي لفظ آخر لايجعل يوم صومه ويوم فطره سواء أي يتحفّظ في صومه لحرمته، وفي خبر: آخر الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته، فحفظ الأمانة من صيانة الجوارح لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لماتلا هذه الآية: (إنَّ اللَّهَ يَأمُرُُكُمْ أنْ تؤَدُّوا الأمانَاتِ إلى أهْلِهَا) النساء: 58 وضع يده على سمعه وبصره قال السمع أمانة والبصر أمانة فذلك مجاز قوله فليقل: إني صائم، أي يذكر الأمانة التي حمل فيؤديها إلى أهلها ومن حفظ الأمانة أن يكتمها فإن أفشاها من غير حاجة فهي خيانة لأن مودعها قد لا يجب أن يظهرها وحقيقة حفظ السرّ نسيانه وضياع السرّ أن يكثر خزانه فحقيقة الصائم أن يكون ناسياًً لصومه لا ينتظر الوقت شغلاً عنه بالمؤقت.(1/136)
الفصل الثالث والعشرون
كتاب محاسبة النفس ومراعاة الوقت
قال اللَّه عزّ وجلَّ: (وَنَضَعُ الْمَوازينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِىامَةِ) الأنبياء: 47 إلى قوله: (أَتَيْناَ بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبين) الأنبياء 47 وقرئت: آتينا بها ممدودة أي جازينا بها فالتخويف بهذا الحرف أشد وأبلغ، وقال تعالى يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم الآية، وأوصى أبو بكر عمر رضي اللَّه عنهما عند موته، فقال: إن الحق ثقيل وهو مع ثقله مريء وإن الباطل خفيف وهومع خفته وبيء وإن للَّه عزّ وجلّ حقاً بالنهار لا يقبله بالليل وحقاً بالليل لايقبله بالنهار وإنك لو عدلت على الناس كلهم وجرت على واحد منهم لمال جورك بعدلك فإن حفظت وصيتي لم يكن شئ أحبّ إليك من الموت وهو مدركك وإن ضيعت وصيتي لم يكن شيء أبغض إليك من الموت ولن تعجزه، وقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وتزينوا للعرض الأكبر على اللَّه تعالى يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية وإنما خف الحساب في الآخرة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا وثقلت موازين قوم في الآخرة وزنوا أنفسهم في الدنيا وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلاً، فمحاسبة النفس تكون بالورع والموازنة تكون بمشاهدة اليقين والتزين للعرض الأكبر يكون بمخافة الملك الأكبر وهو حقيقة الزهد، وأوصى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا ذر فقال له: اتق اللَّه أينما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن، ووجدت هذه الوصية في كتاب اللَّّّّّّه عزّ وجلّ لعباده بقوله عزّ وجلَّ: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُم وَإيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّه) النساء: 131.
والكلمة الثانية في قوله تعالى: (وَيَدْرَءونَ بِالحَسَنِةَ السَّيِّئَةَ) الرعد: 22 أي يدفعون بعمل الحسنة ويتبعونها السيئة المتقدمة تكفرها، والكلمة الثالثة في قوله تعالى: وَقُولُوا للِنَّاسِِ حُسْناً) البقرة: 83 وقد أخبر اللَّه عزّ وجلّ عن وصية عباده الصالحين بثلاث فقال: (إنَّ الإنْساَنَ لَفِي خُسْرٍ) العصر: 2 أي لفي خسران ونقص بفوت أوقاته وفقد أرباحه، ثم استثنى فقال: إلاَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ وَتَواصَوْا بالحَقِّ وَتَوَاصَّوْا بِالصَّبْرِ) العصر: 3.(1/137)
وقال في الوصف الثالث: (وَتَوَاصَوْا بِالمَرْحَمِةَ) البلد: 17 واتباع الحق بمخالفة الهوى فيه الصلاح، إذ في موافقة الهوى الفساد، والصبر قوام الأمر، وبمقداره يكون الريح والرحمة للخلق باب الرحمة من الخالق ومفتاح حسن الخلق ومعها حسن الظن وسلامةالقلب وعندها ينتفي الحسد والغل ويوجد التواضع والذل، وهذا وصف أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين اختارهم لصحبة نبيه عليه السلام وأنزل عليهم السكينة وأيدهم بروح منه فقال: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُم) الفتح: 29 وقال تعالى في حقيقة الرحمة: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَة) الاسراء: 24 وقال في مثله عن وصف أحبابه لإخوانهم: أذلة على المؤمنين، فهذه الثلاثة مفاتيح رقة القلب ومغالق القسوة وفي الرقة الإقبال على اللَّه عزّ وجلّ وعلى الدار الآخرة والتيقظ لأمره والتفكّر في وعده ووعيده وفي القسوة الإعراض وطول الغفلة فمحاسبة النفس تكون بالورع وموزنتها تكون بمشاهدة عين اليقين والتزين للعرض الأكبر يكون بمخافة الملك الأكبر وهو حقيقة الزهد.
وروينا عن علي رضي اللَّه عنه: أما بعد فإن المرء يسره درك مالم يكن ليفوته ويسوءه فوت مالم يكن ليدركه، فمانا لك من دنياك فلا تكترث به فرحاً وما فاتك منها فلا تتبعه نفسك أسفاً وليكن سرورك بما قدمت وأسفك على ماخلفت وشغلك لآخرتك وهمك فيما بعد الموت، وقال أيضاً: الهوى شريك العمى، ومن التوفيق الوقوف عند الحيرة ونعم طارد الهم اليقين وعاقبة الكذب الذم وفي الصدق السلامة، رب بعيد أقرب من قريب وغريب من لم يكن له حبيب والصديق من صدق غيبه ولايعدمك من حبيب سوء الظن، نعم الخلق التكرم والحياء سبب إلى كل جميل وأوثق العرى التقوى وأوثق سبب أخذت به نفسك سبب بينك وبين اللَّه عزّ وجلّ إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك والرزق رزقان، رزق تطلبه ورزق يطلبك، فإن لم تأته أتاك وإن كنت جازعاً على ما أتلفت من يديك فلا تجْزَعَنَّ على مالم يصل إليك واستدلل على مالم يكن بما كان فإن الأمور أشباه، وقال عبد اللَّه بن عباس: لكل شيء آفة وآفة العلم النسيان وآفة العبادة الكسل وآفة اللب العجب وآفة الظرف الصلف وآفة التجارة الكذب وآفة السخاء التبذير، وآفة الجمال الخيلاء وآفة الدين الرياء وآفة الإسلام الهوى، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آفة أمتي الدينار والدرهم، وروينا عن وبرة السلمي عن مجاهد قال: أوصاني ابن عباس بخمس لهن أحسن من الدرهم الموقوف ومن الذهب الموصوف قال: لا تتكلمن فيما لا يعنيك فإنه أقرب لك من السلامة ولا آمن عليك الخطأ ولا تتكلمن فيما يعنيك حتى ترى له موضعاً، فربّ متكلم فيما يعنيه قد وضعه في غير موضعه فلقي عنتاً، ولا تمارين حليماً ولاسفيهاً أما الحليم فيقليك وأما السفيه فيؤذيك، واخلف أخاك إذا غاب عنك بمثل ماتحب أن يخلفك به إذا غبت عنه واعفه مما تحب أن يعفيك منه واعمل بعمل رجل يعلم أنه مكافأ بالإحسان مأخوذ بالإساءة، وفي وصية العباس لابنه عبد اللَّه قال: يا بني إني أرى هذا(1/138)
الرجل يقدمك على الأشياخ ويكرمك فاحفظ عني هذه الخصال لا تفشين له سرّاً ولا تعصين له أمراً ولاتغتابنّ عنده أحداً ولا يطلعن منك على خيانة ولا يجربن عليك كذبة، هذا في روايتين دخلت إحداهما في الأخرى قال في إحداهما: قلت للشعبي: كل واحدة منهن خير من ألف، فقال كل واحدة منهن خير من عشرة آلاف، وقال يوسف بن أسباط: كان يقال ثلاث من كنّ فيه فقد استكمل إيمانه من إذا رضي لم يخرج رضاه إلى باطل وإذا غضب لم يخرج غضبه عن حق وإذا قدر لم يأخذ ماليس له، وقد روينا مسنداً من طريق، وقال سري بن المغلس: ثلاث يستبين بهن اليقين، القيام بالحق في مواطن الهلكة، والتسليم لأمر اللَّه عزّ وجلّ عند نزول البلاء، والرضا بالقضاء عند زوال النعمة نعوذ باللَّه منه، وقد روينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث من كنّ فيه استكمل إيمانه لا يخاف في اللَّه لومة لائم ولا يرائي بشيء من عمله، وإذا عرض عليه أمران: أحدهما للدنيا والآخر للآخرة آثر الآخرة على الدنيا، وفي الخبر المشهورثلاث منجيات وثلاث مهلكات، فأما المنجيات فخشية اللَّه في السر والعلانية وكلمة العدل في الرضا والغضب والقصد في الغنى والفقر وأما المهلكات فشح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه، وروينا في الخبر التكرم التقوى والشرف التواضع والغنى اليقين، وفي الحديث الآخر: الإيمان عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء وثمرته العلم، وفي حديث عمار أسنده إلى رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفى بالموت واعظاً وكفى بالخشية علماً وكفى باليقين غنى وكفى بالعبادة شغلاً.
روينا عن رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد الخطباء وخطيب الخطباء وحكيم الحكماء في خطبة الوداع كلمات جامعات موجزات في الوعظ والتذكرة والتزهد والتبصرة وينتظم جميع معاني ما قيل في معناها رواه أبان بن عياش عن أنس بن مالك أن رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب على ناقته فقال: يا أيها الناس كأن الموت فيها على غيرنا كتب وكأن الحق فيها على غيرنا وجب وكأن من نشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون نبوّئهم أجداثهم ونأكل تراثهم كأنّا مخلدون بعدهم قد نسينا كل واعظة وأمنا كل جائحة، طوبى لمن شغله عيب نفسه عن عيوب الناس وأنفق من مال اكتسبه من غير معصية ورحم أهل الذل والمسكنة وخالط أهل الفقه والحكمة، طوبى لمن أذل نفسه وحسنت خليقته وصلحت سريرته وعزل عن الناس شرّه، طوبى لمن عمل بعلمه وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله ووسعته السنة ولم يعدها إلى بدعة، وقد روي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديث جامع لهذه المعاني المبثوثة مختصر في اللفظ والمعنى يقال إنه نصف العلم وهو قوله من حسن إسلام المرء تركه ما لايعنيه، وما لم يؤمر به(1/139)
العبد فرضاً ولم يندب إليه فضلاً ولا يحتاج إليه مباحاً فهو مما لايعنيه وفي حديث آخر هو نصف الورع قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الإثم جوار القلوب أي دع ما تشكنّ فيه من قول أو فعل فإن فيه غنيمة أو سلامة إلى شيء أنت على يقين من الفضيلة فيه أو السلامة معه وما حز في قلبك ولم ينشرح له فدعه فإن ذلك إثم وإن قل ودق، وقد روينا عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الوصف المبسوط من أوصاف المؤمنين كوصف اللَّه تعالى أولياءه في الكلام المشروح أنه بينما هو جالس صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أصحابه إذ سجد فأطال ثم رفع رأسه مادّاً يديه فقال: اللَّهم أكرمنا ولاتهنّا وزدنا ولا تنقصنا وأعزنا ولا تذلنا، قلنا: وما ذاك يا رسول اللَّه؟ قال: أنزلت عليّ آيات من أقامها دخل الجنة ثم تلا علينا قدأفلح المؤمنون إلى آخر العشر.
وروينا عنه في حديث مجمل أن رجلاً سأله فقال: يا رسول الله متى أعلم أني من أهل الجنة، وفي لفظ آخر أني مؤمن حقاً، فقال: إذا كنت بهذه الأوصاف، ثم تلا عليه: قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم إلى آخر النعوت، وروينا عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الوصف الجامع المختصر كوصف الحكيم الأكبر من صلح له من عباده بالإخلاص في التوحيد والعمل فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو لم تنزل عليّ إلا هذه الآية كانت تكفي، ثم قرأ آخر سورة الكهف (فََمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّه فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً) الكهف 110 إلى آخرها، فكان هذا أفصل الخطاب وبلاغاً لأولي الألباب فالعمل الصالح الإخلاص في العبادة ونفي الشرك بالخلق هو اليقين بتوحيد الخالق، وقد قال الله وهو أحسن القائلين في وصف أوليائه الخائفين: (إِنَّ الَّذينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبَّهمْ مُشْفِقُونَ) (والَّذينَ هُمْ بآيات رَبِّهِمْ يُؤْمِنُون) المؤمنون: 57 - 58 إلى قوله: (وَهُمْ لَهَا سَابقُونَ) المؤمنون: 16، فوصفهم بسبع مقامات جامعات بالغات تنتظم بمقامات أهل المحاسبة وتستحوذ على معاني أحوال أهل المراقبة افتتحها بالخشية والإشفاق وختمها بالوجل والإنفاق وجعل موجبها اليقين وهو الذي رجحت به موازين المتقين صيره آخر وصفهم ونهاية نعتهم وهو قوله تعالى: (أنَّهُمْ إلَى رَبَّهم راجعُونَ) المؤمنون: 60 أي لأجل يقينهم بمرجعهم إليه خافوه وأشفقوا وآمنوا به وأخلصوا وأتوه نفوسهم وأموالهم فهذا كقوله في الكلام المختصر: (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أنّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّر المُؤمِنين) البقرة: 223 فللخائفين الأمن من الخوف عند اللقاء وحسن المنقلب والبشرى بالقرب لديه والزلفى، فصورة المحاسبة أن يقف العبد وقفة عند ظهور الهمة وابتداء الحركة ثم يميز الخاطر وهو حركة القلب والاضطراب وهو تصرف الجسم فإن كان ما خطر به الخاطر من الهمة التي تقتضي نية أو عقداً أو عزماً أو فعلاً أو سعياً إن كان عزّ وجلّ وبه وفيه معنى عزّ وجلّ أي خالصاً لأجله ومعنى به أي بمشاهدة قربه لا بمقاربة نفسه وهواه ومعنى فيه أي(1/140)
في سبيله وطلب رضاه عنه وما ندب عنده أمضاه وسارع في تنفيذه وإن كان لعاجل دنيا أو عارض هوى أو لهو وغفلة سرى بطبع البشرية ووصف الجبلية نفاه وسارع في نفيه ولم يمكن الخاطر من قلبه بالإصغاء إليه والمحادثة له فيولد فيه هماً ردياً يصعب عليه بعد حين طرحه وينتج منه فكراً دنيّاِ يعسر بعد وقت نفيه ويؤثر ذلك في قلبه أثراً يستبين له بعد حين فعله، معنى قولنا: إن كان الله تعالى أي خالصاً لأجله ومعنى قولنا به أي بمشاهدة قربه لا بمقارنة نفسه ووصفه وهواه ومعنى قولنا فيه أي في سبيله وطلب ماعنده لا لأجل عاجل حظه فإن اشتبه عليه الخاطر فلم ينكشف له ماورد به أمحمود هو الله عزّ وجلّ فيه رضاه وعلى العبد فيه سبق وتنفيذ أم مكروه وليس لله فيه محبة وللعبد في نفيه مزيد وقربة فيكون أشكال ذلك لأحد معان ثلاث؛ ضعف يقين عن نقص معرفة بالمبتلي، أو قلة علم عن جهل بغامض الحكم الباطل، أو لغلبة هوى كامن في النفس متولد من طبائع الحس، وقد قال بعض العلماء: ليس العالم الذي يعرف الخير من الشر هذا العاقل يعرفه ولكن العالم من يعرف خير الشرين يعني يفعله إذا اضطر إليه وعرف شر الخيرين يعني فاجتنبه لما يؤول إليه واعلم أن حكم الله فيما اشتبه من الأمور الإمساك والوقوف وأن لا يقدم العبد على ذلك بعقد ولا عزم إن كان من أعمال القلوب ولا يمضي ذلك بفعل ولا سعي إن كان من عمل الجوارح بل يقف ويوقف الأمر حتى يتبين له وهو صورة الورع لأن الورع هو الجبن والتأخر عن الإقدام على المشكلات وعن الهجوم في الشبهات لا بقول ولا بفعل ولا بعقد حتى تنكشف وانكشافها بغامض العلم لغموضها وتدقيق معرفة المعاني لدقتها وخفائها كما جاء في الخبر: أعلم الناس أعرفهم بالحق إذا اختلف الناس، وعن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله عزّ وجلّ يحب البصير الناقد عند ورود الشبهات والعقل الكامل عند هجوم الشهوات.
وجاء عن ابن مسعود في وصف كثرة الشبهات: أنتم اليوم في زمان خيركم فيه المسارع وسيأتي عليكم زمان يكون خيركم فيه المئبت كما وقف طائفة من الصحابة عن القتال مع أهل العراق وأهل الشام لما أشكل عليه الحال منهم سعد وابن عمر وأسامة ومحمد بن مسلمة وغيرهم، فمن لم يتوقف عند الشبهات وأقدم عليها كان متعباً لهواه معجباً برأيه وهذا من معنى الخبر الذي جاء في ذم من كان هذا وصفه، فإذا رأيت شحاً مطاعاً وهوي متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك فلم يذم بوجود الشح لأنه صفة النفس وإنما ذم من أطاع النفس في شحّها بإمساك محبوبها على إيثار محبة الله عزّ وجلّ من الإنفاق ومثله وهوى متبع فلم يغب بوجود الهوى لأنه روح النفس مستكن فيها وإنما عيب باتباعه وكذلك قوله: وإعجاب كل ذي رأي برأيه لم ينقصه(1/141)
بوجود رأيه ممّا رآه من الأمر لأنه نتيجة عقله وثمرة فهمه وإنما نقصه بنظره إليه وإدلاله به دون سبق نظره إلى من أراه وبنور هداه وبإيثار رأيه على رأي من هو أعلم منه أو بأن يزري على رأي غيره افتخاراً برأيه، وقد قال الله عزّ وجلّ: (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) النجم32: وقد وصف أهل الرأي من أوليائه في قوله عزّ وجلّ: (إنّ في ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمينَ) الحجر75:، وقال تعالى: (عَلَى بَصِيرةٍ أنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) يوسف: 108، وجاء في الأثر: ما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو عند الله قبيح، وجاء: أنتم شهداء الله في أرضه، وعن بعض السلف: أفضل العبادة الرأي الحسن؛ فأما ما أشكل لتجاذب الأمثال ولم يتبين لك إلى أي مثل ترده فالورع أن تقف ولا تمضي حتى ينكشف، وأما ما اشتبه لقصور العلم بالاستدلال فالعلم فيه أن تعرف الأصلين من الحرام والحلال ثم ترده إلى أشبههما به وهذا ظاهر مثل ماأحلت طائفة النظر إلى الغلام الجميل لأنه ذكر فتحتاج إلى أن ترده إلى أحد الأصلين لأنه مشتبه قال الله عزّ وجلّ: (انْظُرُوا إلى ثَمَرهِ إذا أثْمَرَ) الأنعام: 99، وقال: (قُلْ لِلْمُؤْمِنينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارهِمْ) النور: 30 فكان هذا الأصل أشبه لوجود الجنس ومثله الاستماع إلى القصائد أي إنشاد الشعر المباح فكان الاستماع إلى القرآن حلالاً والاستماع إلى الغناء حراماً وكانت القصائد بالغناء أشبه فكرهناه لغير أهله، وكذلك القول في تلحين القرآن: إذا جاوز الحد في مد المقصور وقصر الممدود مكروه لشبهه بالأغاني ومثل لبس القطن ولبس الحرير فكرهنا لبس الملحم والعمل به لأنه بالحرير أشبه لما فيه منه فأما الإقدام على الأمور الغامضة مما لم ينكشف للأسماع فلم يظهر للأبصار فإن القلوب تسأل عن عقود سوء الظن بها والقطع بظاهر الأمر عليها وهو معنى قول الله عزّ وجلّ عن قفو ما لم يبين علمه إذا لم يجعل من علم العبد وتهدده عليه بمساءلة الجوارح عنه في قوله تعالى: (وَلاتَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) الإسراء: 36، أي لا تتبع ولا تجسس أثر ما لم تعلم فتشهد عليه بسمع أو رؤية أو عقد قلب إذ حقيقة العلم السمع والمشاهدة فلذلك قال: (إنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤادَ كُلُّ أُولئِك كَانَ عَنْهُ مَسْؤوُلاً) الإسراء: 36 وكذلك قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث فمن اشتبه عليه الأمر فقطع به فهو متبع للهوى ومن تفرس في فعل أوامر غاب عنه حقيقة فأخبر به وأظهره على صاحبه فقد أساء كيف
وقد جاء في الخبر: من حدّث بما رأته عيناه أو سمعت أذناه كتبه الله عزّ وجلّ من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، هذا لكشف ستر الله على عباده ومحبته للساترين منهم، ولذلك كان من دعاء أبي بكر الصديق رضي الله عنه: اللهم أرنا الحق حقاً فنتبعه والباطل باطلاً فنجتنبه ولا تجعل ذلك علينا متشابهاً فنتبع الهوى، وكذلك روينا عن عيسى عليه السلام: إنما الأمور ثلاثة: أمر استبان لك رشده(1/142)
فاتبعه، وأمر استبان غيّه فاجتنبه، وأمر أشكل عليك فكله إلى عالمه، وقد كان من دعاء عليّ رضى الله عنه: اللهم إني أعوذ بك أن أقول في العلم بغير علم فنعمة الله سبحانه تعالى في كشف الباطل باطلاً وبيان الضلال ضلالاً مثل نعمه في إظهار الحق وبيان الصدق لأنه باب من اليقين،، ولذلك تجمل الله به على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعله من تفصيل آياته في قوله سبحانه وتعالى: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمين) الأنعام: 55 فنصب سبيل على إضمار اسمه ورفعه على كشف دلالاته وتبيان طرقه وقد وعد الله ذلك للمتقين وقدمه على تكفير السيئات والمغفرة وأخبر أن ذلك من الفضل العظيم في قوله عزّ وجلّ: (يَاأيُّها الَّذين آمَنُوا إنْ تَتَّقوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانَاً وَيُكَفِّرّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُم) الأنفال: 29 أي نوراً في قلوبكم تفرقون به بين الشبهات ومثله، ومن يتق الله يجعل له مخرجاً أي من كل أمر أشكل على الناس ورزقه من حيث لا يحتسب علم بغير تعليم بل إلهام وتوفيق من لدن الخبير العليم، وقد وعد ذلك المؤمنين عند اختلاف العلماء للبغي بينهم وهو الكبر والحسد، وحرم ذلك المنافقين الذين لايصدقون بالآيات والقدر والغائبات فقال عزّ وجلّ في ذلك: (وَمَا اخْتَلَفَ فيهِ إلاَّ الَّذينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الَبِّينَات بَغْياً بَيْنَهُمْ) البقرة: 213 فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فصنع الهداية للحق أن يكشف الحق إذا هدي التقى له ما يبدئ الباطل للابتلاء وما يعيد على العبد من الأحكام، وقد يكون الباطل اسماً للعدوّ ويكون وصفاً للنفس ألم تسمع قوله عزّ وجلّ: (قُلْ جَاءَ الحَقُّ وَمَا يُبْدئُ البَاطِلُ وَمَا يُعيدُ) سبأ: 49 أي: لما جاء الحق أبدى الباطل وأعاده فأظهر حقيقة الأمر بدءاً وعوداً وقد قيل إن الباطل يعني به إبليس ههنا فتدبروا وقال: (إنَّ الَّذينَ لا يُؤْمِنُونَ بآيات اللّّه لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) النحل: 104 وكما أن الله عزّ وجلّ في البيان نعمة لأنه لاتقع إلا بقدرة كما قال: فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير فكذلك على العبد فيه شكر وقد يكون سبباً للإنعام بالبيان وعلى الله المزيد على الشكر، كما قال: (كَذَلِكَ يُبِيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون) المائدة: 98، وقال في تحقيق الشكر بالمزيد للشاكرين على التصريف: (كَذَلِكَ نُصَرِّف الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُون) الأعراف: 58 فإذا وقف العبد في الشبهات عن الإمضاء وأوقف الخاطر على الابتداء حتى يكشفه الله عزّ وجلّ له بمزيد علم أو قوة يقين أو كشف حجاب الهوى فقد وفق للصواب وهو من معنى قوله عزّ وجلّ: (آتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطَابِ) ص: 20 وداخل في قوله: (وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كثيراً) البقرة: 269 هذا إذا لم يرد بالطلب ولم يجعل لعالم آخر فيه مكان كشفه للعبد بوصفه فإذا أراده بالطلب لأوليائه وجعل للعلماء مكاناً للدلالة عليه اضطره أن يسأل عالماً بالله وبباطن أحكامه عارفاً بلطيف حجابه وخفي كشفه فيكشف له على لسانه إذا لم يكن العبد ممن يكاشف بقلبه(1/143)
لتحقيق قوله: (فَاسْألُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ) النحل: 43 ولتصديق قوله الرحمن فاسأل به خبيراً والله تعالى هو المسير الأوّل والمبين الآخر إلا أن السير والسؤال على العبد والهدى والبيان على الهادي المبين، كما قال: (قُلْ سيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا) النمل: 69 وقال تعالى: (فَإنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمّا أنْزَلْنَا إلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ) يونس: 94 الآية، ثم قال: (إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) القيامة: 19 إن علينا للهدى وعلى الله قصد السبيل كذلك سننه التي قد خلت من
قبل ولا تبديل لها ولا تحويل، ألم تسمع قول الله تعالى: (وَعَلَّم آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا) البقرة: 31 فهذا هو المجتبي للتعليم الآخذ نصيبه من الله عزّ وجلّ بتفهيم المصطفى لمكان التخصيص، ثم قال: (يَا آدَمُ أنْبِئْهُمْ بأسْمَائِهِم) البقرة: 33، فلما أنبأهم بأسمائهم ترك آدم ورد إليه وذكر نفسه بالعلم منه بعد أن دلّ بالواسطة عليه، فقال: ألم أقل لكم إني أعلم ولم يقل إن آدم يعلم فأخذ آدم نصيبه من رازقه بقلبه لمكان رتبته وأخذت الملائكة أنصبتها من الله عزّ وجلّ من نصيب آدم بواسطته والله هو الرزاق ذو القوة المتين كما هو الخلاّق، هل من خالق غير الله يرزقكم؟ والعبيد يأخذون أنصبتهم بأقسامهم من حيث هي طرق وسبب لهم، وهذا حينئذ أول المحاسبة عن مشاهدة حسيب، والتحقيق بالمحاسبة هو أول المراقبة عن رؤية رقيب، والمقام من المراقبة هو حال من أحوال الموقنين، وعلم اليقين هو آخر علم الإيمان وآخر نصيب العبد من علم اليقين أعني نهايته أول عين اليقين وهو شهادة المعرفة والمعرفة على هذا الوصف أول المشاهدة؛ وهذا هو مقام المقربين أعني بمشاهدة وصف قريب يحيط ببعد النفس فيستولي عليها فيغيب بعدها في قربه وينتبه عقله تحت ظنه وتنطوي حكمته في قدرته كمحو نور القمر في ضياء الشمس والله غالب على أمره وعلم معاني الأسماء والصفات وتعريف الأخلاق وباطن أحكام الذات يكون في مقامات القرب بمرآة نور الوجه فيرفع نور حكم المكان ويشهد كأن رفع كون المرآة ويشهد الوجه بنورها وتغيب المرآة عن كونها فيكون العبد قائماً بقصر قيوميته فيصير العبد شبه ميتة مشاهداً بحيطة قربه لا بكونه كما يشهد الوجه بنور المرآة لا بجسمها ولا يكون هذا إلا بعد معاينة وصف وبعد حسن المراقبة في جميع المعاملة وحسن الأدب في محاضرة الرب بتنفييذ خواطر الخبر وسرعة نفي خواطر السر حتى لا يبقى شئ منها وهذا حال المشاهدة والقرب، وذلك يخرج العبد إلى صفاء القلب بعلم اليقين، وصفاء القلب يرفعه مقامات في مشاهدة العين حتى لا يخطر بقلبه إلا خاطر حق فإن عصاه عصى الحق وفي ترك هذا والغض عنه كدر القلب وفي كدره ظلمته وذلك مقامات في القسوة وهي أول البعد وبلغني أن ما من فعلة وإن صغرت إلا وينشر لها ثلاثة دواوين: الديوان الأول لِمَ(1/144)
والثاني كيف، والثالث لمن، فمعنى لِمَ أي لِمَ فعلت؟ وهذا موضع الابتلاء عن وصف الربوبية بحكم العبودية أي أكان عليك أن تعمل لمولاك أم كان ذلك منك بهواك فإن سلم من هذا الديوان بأن كان عليه أن يعمل كما أمر به سئل عن الديوان الثاني، فقيل له: كيف فعلت هذا؟ وهو مكان المطالبة بالعلم وهو البلاء الثاني أي قد عملته بأن كان عليك عمله فكيف عملته أبعلم أم بجهل؟ فإن الله تعالى لا يقبل عملاً إلا من طريقته وطريقة العلم، فإن سلم من هذا نشر عليه الديوان الثالث فقيل لمن؟ وهذا طريق التعبد بالإخلاص لوجه الربوبية وهو البلاء الثالث وهم بغية الله عزّ وجلّ من خلقه الذين قال في حقهم: (إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصينَ) الحجر: 40 وهذا مقتضى كلمة الإخلاص من نفي ماسواه وهي لا إله إلا الله وليس بعده إلا الإشفاق إلى وقت التلاق أي قد عملته بعلم فلمن عملته لوجه الله عزّ وجلّ خالصاً فأجرك عليه أم لشخص مثلك فخذ أجرك منه أم عملته لتناول عاجل دنياك فقد وفينا إليك عملك فيها أم عملته لنفسك بسهولة وغفلتك فقد سقط أجرك وحبط عملك لذهابك عن القصد وعدم النية في الفعل فجميع ماأردت به سواه فقد تعرضت للمقت واستوجبت العقاب بترك ما عليك وجهل ما لمولاك إذ كنت عبداً لي تتولى غيري وإذا أنت تأكل رزقي وتعمل لسواي وإذا كان الدين قد جعلته لنفسي فقصدت به من دوني ويلك أما سمعتني أقول ألا لله الدين الخالص ويلك ما قبلت أمري إذ قلت وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقول له: ويلك أما سمعتني أقول إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه فهده أمثال القرآن يشهد منها العلماء أمثالهم وهي إذا كان الخطاب عند تدبره يفهم بها العارفون أذكارهم فيكون توبيخ الله عزّ وحلّ للغافلين بعزائم كلامه وغليظ خطابه أشد عليهم وأوجع لهم من أليم عقابه، وذلك أن الله تعالى استخلص الدين لنفسه ولم يشرك فيه أحداً من خلقه فقال: (ألاَ الله الدّين
الخَالِصُ) الزمر: 3 يعني الطريق الموحد غير المشترك الصافي غير الكدر لأن الإخلاص التصفية من أكدار الهوى والشهوة وضده الشرك وهو الخلط بغيره من النفس والناس كما أنعم علينا بالرزق الخالص من بين الفرث والدم فتمت به النعمة فقال: (نُسْقيكُمْ مِمَّا في بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً) النحل: 66 فلو وجد فيه خلط من أحدهما لم تتم به النعمة علينا، فكذلك ينبغي أن يكون عملنا له خالصاً من الهوى والشهوة لنستحق به الأجر والحظوة منه مع القيام بواجب الحق علينا فكما أنّا لو رأينا في اللبن الذي أنعم به علينا فرثاً أو دماً عافته أنفسنا فلم نأكله فكذلك الحكيم الخبير إذا رأى في عملنا خلطاً من رياء أو شهوة رده علينا فلم يقبله وكما عمل لنا مما عملت يده بقدرته أنعاماً ذللها لنا منها(1/145)
ركوبنا ومأكلنا فينبغي أن نشكره فنعمل له بعد الأكل عملاً صالحاً كما أمرنا بعد إذ أنعم الله علينا، فقال: (كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً) المؤمنون: 51 فمن جهل ما جعل الله لنفسه وترك ماأمر به من الإخلاص بالدين لوجهه استوجب المقت لجهله واستحق العقاب لمخالفته وفي تدبر ماقلناه الهرب من الخلق والبكاء على النفس إلى لقاء الحق لمن أشهد ووقف وأريد بالحضور فلم يصرف.(1/146)
الفصل الرابع والعشرون
ذكر ماهية الورد للمريد
ووصف حال العارف بالمزيد
اعلم أن الورد اسم لوقت من ليل أو نهار يرد على العبد مكرراً فيقطعه في قربة إلى الله ويورد فيه محبوباً يرد عليه في الآخرة؛ والقربة اسم لأحد معنيين: أمر فرض عليه أو فضل ندب إليه، فإذا فعل ذلك في وقت من ليل أو نهار ودوام عليه فهو ورد قدمه يرد عليه غداً إذا قدم، وأيسر الأوراد صلاة أربع ركعات أو قراءة سورة من المثاني أو سعي في معاونة على برٍّ وتقوى، قال أنس بن سيرين: كان لمحمد بن سيرين في كل ليلة سبعة أوراد، فكان إذا فاته منها شيء قضاه بالنهار فسمي العمل الموظف المؤقت ورداً، وقال المعتمر بن سليمان: ذهبت ألقن أبي عند الموت فأومأ إليّ بيده دعني فإني في وردي الرابع فسمي الحزب من أحزاب القرآن لوقت ما ورداً، فمن العمال من كان يجعل الأوراد من أجزاء القرآن ومنهم من كان يجعله من أعداد الركوع وفوق هؤلاء من العلماء كانوا يجعلون الأوراد من أوقات الليل والنهار، فإن قطع الوقت بآية أو ركعة أو فكرة أو شهادة فذاك ورده، وأما العارفون فإنهم لم يوقتوا الأوراد ولم يقسموا الأوقات بل جعلوا الورد واحداً لمولاهم وجعلوا حاجاتهم من الدنيا ضرورتهم، وصيروا الوقت متساوياً لسيدهم وتصريفهم لمصالحهم يدخل عليهم فوضعوا رقابهم في رقّ العبودية وصفوا أقدامهم في مصاف الخدمة فكانوا في كل وقت بحكم مايستعملون وبوصف ما به يطالبون ذلك وردهم وتلك علامتهم عن حسن اختيار الله عزّ وجلّ لهم وجميل توليه إياهم لا يكلهم إلى نفوسهم ولا يوليهم بعضهم وهو يتولّى الصالحين مشاهدتهم ذكرهم وقرب الحبيب حبهم ليس يشهدون فضيلة في غير محبوبهم ولا يرجون قربة بغير معروفهم؛ به يتقربون إليه، وإليه، به يسبّحون له، وعليه يتوكلون له، ومنه يخافون عنه، وإياه يحبون منه لو أسقطوا الأعمال كلها غير ماتعلق بالتوحيد ثبوته ما نقص من توحيدهم ذرة ولو تركوا أوراد المريدين كلهم ما أثر في قلوبهم بقسوة ولا فترة لأنهم لا يزيدون بالأعمال فينقصون(1/147)
بها ولا يتفقدون قلوبهم وأحوالهم بالأوراد فيعرفون النقصان والمزيد منها ولا تجتمع قلوبهم بسبب ولا تقوى نفوسهم بطلب فتتشتت لفقد سبب ويضعف يقينهم لطلب هذه المعاني هي أحوال المريدين وجملة تغييرهم في شيئين: ضيقهم بالخالق فهربوا منه، واتساعهم بالخلق فاستراحوا إليه، ولو دام قربهم منه لدامت راحتهم به ولو وقفت شهادتهم عليه لما نظروا إلى سواه، وأما العارفون فقد فرغ لهم من قلوبهم واجتمعت المتفرقات بمجامعها لهم وأقامهم القائم لهم بشهادتهم له فلهم بكل شيء مزيد ومن كل شيء توحيد، كل خاطر بهم يردهم إليه وكل منظور إليه يدلهم عليه وكل نظرة وحركة طريق لهم إليه، فتوحيدهم في مزيد ويقينهم في تجديد بغير تغيير ولا تصريد ولا إيقاف ولا تحديد، ولربما طلب أحدهم التسبب بالأسباب فيجمعه بها رب الأرباب لأنه مراد بالاجتماع وإنما استروح بالشتات لاستجمام ماهو في قلبه آت ثقة منه بحبيبه وتمكناً عند محبوبه إذ قد علم أنه طالب فطرح نفسه ليحمله فحمله بما تولاه ولم يكله إلى نفسه وهواه، فهذه مقامات لأهلها لا يعرفها سواهم ولا تصلح إلاّ لهم ولا تليق إلاّ بهم ولا يقاس عليها ولا يدعى مكانها ولا تنتظر فتترك لها الأوراد ولا تتوقع فيقصر لأجلها في الاجتهاد والمرادون بها محمولون بها مواجهون بعلمها مسلوك بهم طريقها مزوّدون زادها وهي محبوسة عليهم مقصورة لهم فهم لها سابقون، فأولياء الله عابدوه وقد عكفوا بقلوبهم لمن عبدوه ونظروا إلى معبودهم الذي عكفوا عليه ففهموا عنه فصل الخطاب بما آتاهم من شهادة حكمه حكم الكتاب إذ يقول: (وَانْظُرْ إلى إلهِكَ الَّذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً) طه: 97 بعد قوله للغافلين فصيرهم معرضاً نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين مع قوله: (أنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ) ص: 6، إن هذا الشيء يراد إلى قوله: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإنَّك بِأعْيُنِنا) الطور: 84، فعلموا أن الإخلاص الذي أمروا به هو العبادة ولا عبادة إلا بمجانبة الهوى وبعدها الإنابة إلى المولى، أما سمعت قوله عزّ وجلّ: (وَالَّذينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أنْ يَعْبدُوهَا وَأنَابُوا إلَى اللهِ لَهُمُ البُشْرَى) الزمر: 17وأيقنوا أن الصلاة عماد الدين ولا صلاة إلا للمتقين ولا تقوى إلا بإنابة، كما قال تعالى: (مُنيبينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ) الروم: 31ثم قال:
(وَأقِيمُوا الصِّلاةَ وَلاَ تَكَونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ) الروم31 فهذه عبادة العارفين على سنة النبيين فإنابتهم مشاهدتهم لمذكورهم كقوله في وصف ضدهم: (كَانَتْ أعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءِ عَنْ ذِكْرَى) الكهف: 101 فهم عن كشف من ذكره إذ كانوا بضد وصفهم وحقيقة ذكرهم نسيانهم لسوى مذكورهم بمعنى قوله: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسيتَ) الكهف: 24 فأخرجهم الذكر له إلى الفرار إليه كما فهموا عنه إذ يقول: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) الأنعام: 152 ففروا إلى الله فلما هربوا أواهم بقربه ووهب لهم هداية إلى حبه ونشر لهم من رحمته وطواهم في قبضبته فلم يرهم إلا هم ولم يعرفهم سواهم، وقد قال تعالى: ((1/148)
وَإذِ اعْتَزَلْتُموهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إلاَّ اللهَ فَأْوُوا إلَى الكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِه) الكهف: 16 وقال تعالى: (إنّي ذَاهِبٌ إلَى رَبِّي سَيَهدِينِ) الصافات: 99.
ذكر الأوراد وما يرجى بها من الازدياد
ولكن بمواصلة الأوراد المرسومة والأعمال الموقتة المعلومة يستبين للمريد النقصان من المزيد ويعرف قوّة العزم والشره من وهن العادة والفترة في الأوراد أيضاً فضيلة وهو أن العامل إذا شغل عنها بمرض أو سفر كتب له الملك مثل ثواب ما كان يعمل في الصيحة، وقد يكون نوم العارف أفضل من صلاة الجاهل لأن هذا النائم سالم وهو ذلك الزاهد العالم إذا استيقظ وجد وهذا الصائم القائم لا يؤمن عليه الآفات وتطرقه الأعداء في العبادات وهو ذلك الجاهل المغتر إذا وجد فقد، وقد روينا في خبر نوم العالم عبادة ونفسه تسبيح وفي الحديث عالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، وروينا في خبر مقطوع لو وقعت هذه على هذه يعني السماء على الأرض ما ترك العالم علمه لشيء ولو فتحت الدنيا على عابد ترك عبادة ربه ولأن العالم قد يكاشف في نومه بالآيات والعبر ويكشف له الملكوت الأعلى والأسفل ويخاطب بالعلوم ويشاهد القدرة من معنى ما تشهده الأنبياء في يقظتهم فيكون نوم العارف يقظة لأن قلبه حياة ويكون يقظة الغافل نوماً لأن قلبه موات فيعدل نوم العالم يقظة الجاهل وتقرب يقظة الجاهل الغافل من نوم العالم، كيف وقد جاء في خبر أبي موسى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظر إلى أحد فقال: هذا جبل أحد ولا يعلم خلق وزنه وإن من أمتي من تكون التسبيحة منه والتهليلة أوزن عند الله عزّ وجلّ منه، وفي حديث ابن مسعود إذ قال لعمر: ما أنكرت أن يكون عمل عبد في يوم واحد أثقل من في السموات والأرض ثم وصف ذلك بأنه هو العاقل عن الله عزّ وجلّ الموقن العالم به، وقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رمضان فقالت: ما كان يخص رمضان بشيء دون غيره ولا كان يزيد في رمضان على سائر السنة شيئاً وقال أنس بن مالك: ما كنت تريد أن ترى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نائماً من الليل إلا رأيته ولا تريد أن تراه قائماً إلا رأيته، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينام ثم يقوم قدر مانام ثم ينام قدر ما قام ثم يقوم قدر مانام ثم ينام ثم يخرج إلى الصلاة، وقالت عائشة رضي الله عنها: ما صام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهراً كاملاً قط إلا رمضان ولاقام ليلة إلى الصبح حتى ينام منها، قالت: وكان يصوم من الشهر ويفطر ويقوم من الليل وينام، وفي الخبر الآخر: كان يصوم، حتى تقول لايفطر ويفطر حتى تقول لا يصوم وكان يصبح صائماً ثم يفطر ويصبح مفطراً ثم يصوم وفي الخبر الآخر: كان يدخل من الضحى فيقول: هل عندكم من شيء؟ فإن قدم إليه شيء أكل وإلا قال إني صائم وخرج يوماً فقال إني صائم ثم دخل، فقلنا: يا رسول الله أهدي لنا حيس فقال: أمَّا إني كنت أردت الصوم ولكن قريبه وكان ورده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1/149)
حكم ما ورد عليه فعن هذا المعدن يكون تصريف العارفين ومن هذا المعنى تكون مشاهدة الموقنين ليسوا مع الله بإيراد توقيت ولا يقطع على تحديد كما قيل لبعضهم بأي شيء عرفت الله عزّ وجلّ؟ فقال: بفسخ العزائم وحلّ العقد ولكن الأوراد طريق العمال والوظف أحوال العباد منها دخلوا وفيها يرفعون إلى أن يشهدوا الواحد فتكون الأوراد كلها ورداً واحداً ويكونون بشهادتهم قائمين، قال بعض العلماء من السلف الإيمان ثلاثمائة خلق وثلاثة عشر على أعداد الأنبياء المرسلين كل مؤمن على خلق منها هو طريقه إلى الله عزّ وجلّ ووجهته من الله عزّ وجلّ ونصيبه وفي كل طريقه من المؤمنين طبقة وبعضهم أعلى مقاماً من بعض، وقال عالم آخر الطرق إلى الله عزّ وجلّ بعدد المؤمنين، وقال بعض العارفين: الطرق إلى الله بعدد الخليقة يعني أن للشهيد بكل خلق طريقاً فقد صارت المكوّنات للمكوّن طرقات.
وروينا في الخبر: الإيمان ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون طريقة من لقي الله عزّ وجلّ بالشهادة على طريقة منها دخل الجنة، ومن هذا قوله عزّ وجلّ: (قُلْ كُلُّ يَعْمَلُ عَلى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبيلاً) الإسراء: 84 فدل أنهم كلهم مهتدون وبعضهم أهدى من بعض بمعنى أنه أقرب إلى الله عزّ وجلّ وأفضل، وقد ندب إلى القرب في الأمر بطلبه وأخبر عن المقربين بالمنافسة في طلب القرب فقال: (يَاأُيُّهَا الَّْذين آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابَتَغُوا إلَيْهِ الوَسيلةَ) المائدة: 35 يعني القرب، وقال تعالى فيما أخبر: (أُولَئِكَ الَّذينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهم الوَسيلةَ أيُّهُمْ أقْرَب) الاسراء: 57 فأقرب الخلق من الله عزّ وجلّ أعلاهم عند الله عزّ وجلّ وأعلاهم عنده أعرفهم به وأفضلهم لديه.
وروينا في التفسير: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شَاكِلَتِه) الإسراء: 84، قال: على وحدانيته؛ يعني بذلك على توحيده الذي يوحد الله عزّ وجلّ به ويعرفه منه، والشاكلة الطريقة والخلق قد شاكله وقد شكل فيه ومن ذلك قول علي رضي الله عنه: لكل مؤمن سيد من عمله فهذا السيد من العمل هو الذي يرجو به المؤمن النجاة ويفضل به عند مولاه، وقال بعض العلماء: كان عباد الكوفة أربعة؛ أحدهم صاحب ليل ولم يكن صاحب نهار، والآخر صاحب نهار ولم يكن صاحب ليل، وبعضهم صاحب سر ولم يكن صاحب علانية، والآخر صاحب علانية ولم يكن صاحب سر، وقد كان بعضهم يفضل عبادة النهار على عبادة الليل لما فيها من مجاهدة النفس وكف الجوارح لأن النهار مكان حركة الغافلين وموضع ظهور الجاهلين فإذا سكن العبد عند حركة الغافلين وموضع ظهور الجاهلين كان هو التقي المجاهد والفاضل العابد، وقد قيل إن العبادة ليست الصوم والصلاة حسب بل أفضل العبادة أداء الفرائض واجتناب المحارم وتقوى الله عزّ وجلّ عند اكتساب الدرهم وهذا من أعمال النهار، وقد قال الله عزّ وجلّ: (وَهُوَ الََّذي(1/150)
يَتَوَفَّاكُمْ باللَّيْل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ) الأنعام60 رأى ماكسبت جوارحكم فعلق الاجتراح بالنهار ثم يبعثكم فيه فإذا لم يعلم من عبد اجتراحاً بالنهار ولم يبعثه فيه في مخالفة فمن أفضل منه؟ وكان الحسن يقول: أشد الأعمال قيام الليل بالمداومة على ذلك ومداومة الأوراد من أخلاق المؤمنين وطرائق العابدين وهي مزيد الإيمان وعلامة الإيقان وسئلت عائشة رضي اللَّه عنها عن عمل رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: كان عمله ديمة وكان إذا عمل عملاً أتقنه وهذا كان سبب ما نقل عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صلاته بعد العصر ركعتين أنه كان ترك مرة ركعتي النافلة بعد الظهر شغله الوفد عن ذلك فصلاهما بعد العصر ثم لم يزل يصليهما بعد العصر كلما دخل منزله روت ذلك عنه عائشة وأم سلمة ولم يكن يصليهما في المسجد لئلا يستن الناس به، وفي الخبر المشهور: أكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن اللَّه عزّ وجلّ لا يملّ حتى تملوا، وفي الحديث الآخر: أحب الأعمال إلى اللَّه عزّ وجلّ ما ديم عليه وإن قل، وقد روينا في خبر: من عوَّده اللَّه عزّ وجلّ عبادة فتركها ملالة مقته اللَّه تعالى، وفي خبر عن عائشة رضي اللَّه عنها وقد أسنده بعض الرواة من طريق كل يوم لا أزداد فيه علماً فلا بورك لي في صباح ذلك اليوم، وقد جاء في الخبر كلام تارة يروى عن الحسن بن علي وتارة يروى عن الحسن البصري ومرة عن رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع يقول من استوى يوماه فهو مغبون ومن كان يومه شرًّا من أمسه فهو محروم ومن لم يكن في مزيد فهو في النقصان وفي لفظ آخر من لم يتفقد النقصان من نفسه فهو في نقصان ومن كان في نقصان فالموت خير له ولعمري إن المؤمن شكور والشاكر على مزيد.(1/151)
الفصل الخامس والعشرون
ذكر تعريف النفس وتصريف مواجيد العارفين
اعلم أن النقصان يبدو من الغفلة والغفلة تنشأ من آفات النفس والنفس مجبولة على الحركة وقد أمرت بالسكون وهو ابتلاؤها لتفتقر إلى مولاها وتبرأ من حولها وقواها ومثل ذلك قوله تعالى: (وَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأنْتُمْ مُسْلِمُونَ) آل عمران: 102 لتفزعوا إليه فتقولوا: ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفّنا مسلمين، وكما قال: (وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولاً) الإسراء: 11 (خُلِقَ الإنْسَانُ عَجَلٍ) الأنبياء: 37 ثم قال: (سَأُريكُمْ آيَاتي فَلاتَسْتَعْجِلونِ) الأنبياء: 37 قال: (أتَى أمّْرُ اللَِّه فَلا تَسْتَعْجِلوهُ) النحل: 1 فأخبر عن وصفه بالعجلة ثم أمره بتركها للبلوى، فإن نزلت السكينة وهي مزيد الإيمان سكنت النفس عن الهوى بإذن منفسها وإن حجب القلب بالغفلة وهي علامة على الإفتقار والتضرع تحركت النفس بطبعها، فإن سكنت عن حركتها فبالمنة والفضل وإن تحركت بوصفها فبالابتلاء والعدل، فأوّل البلاء اختلافها وأول اختلافها خلافها ومقدمته الهمة وبابه السمع وهو طريق إلى الكلام والنظر والقول طريق إلى الشهوة والشهوة مفتاح الخطيئة والخطيئة مقام من النار حتى يزحزح عنها الجبار بالتوبة في الدنيا والعفو في العقبى، وقد تكون المخالفة على المحب العارف أشد من النار كما حدثت عن بعضهم قال: لأن أبتلي بدخول النار أحبّ إلي من أن أبتلي بمعصية، قيل: ولم؟ قال: لأن في المعصية خلاف ربي تعالى وسخطه وفي النار إظهار قدرته وانتقامه لنفسه قال: فسخطه أعز علي وأعظم من تعذيب نفسي، وكذلك حدثونا في معناه عن بعض الموقنين من العمال أنه قال: ركعتان تتقبل مني أحبّ إلي من دخول الجنة، قيل: وكيف؟ قال: لأن في الركعتين رضا ربي عزّ وجلّ ومحبته وفي الجنة رضاي وشهوتي فرضا ربي عز َّوجلّ أحبّ إليَّ من محبتي، وقد قال وهيب بن الورد المكي في لبن سئل أن يشر به فلم يفعل لأنه سأل عن أصله فلم يستطبه فقالت له أمه: اشرب فإني أرجو إن شربته أن يغفر اللَّه لك، فقال: ما أحب أني شربته وأن اللَّه غفر لي، قالت: ولم؟ قال: لا أحب أن أنال مغفرته بمعصيته، فجملة وصف النفس معنيان، الطيش والشره، فالطيش عن الجهل والشره عن الحرص،(1/152)
وهما فطرة النفس فمثلها في الطيش كمثل كرة أو جوزة في مكان أملس مصوّب سكونها بالمنة فإن أشرت إليها أو حركتها أدنى حركة تحركت بوصفها وهو خفتها واستدارتها وصورتها في الشره المتولدة من الحرص، إنها على صورة الفراشة إنها تقع في النار جاهلة شرهة تطلب بجهلها الضوء وفيه هلاكها فإذا وصلت إلى شيء منه لم تقتنع بيسيره لشرهها فتحرص على الغاية منه وتطلب عين الضوء وجملته وهونفس المصباح فتحرق، ولو قنعت بقليل الضوء عن بعد سلمت فكذلك النفس في طيشها الذي يتولد من العجلة وفي شرهها الذي ينتج من الحرص والطمع، والحرص والطمع هما اللذان كانا سبب إخراج آدم عليه السلام من الجنة لأنه طمع في الخلود فحرص على الأكل وكان ذلك عن الجهل، فكانت معصيته سبب عمارة الدنيا فصارت الطاعة سبب عمارة الآخرة، فلذلك قيل: حب الدنيا رأس كل خطيئة فصار الزهد أصل كل طاعة، فانظر كيف أخرج من الجنة بعد أن جعل فيها بذنب واحد وأنت تريد أن تدخلها ولم تملك النظر إليها بذنوب كثيرة، وفي الحديث الآخر: الإيمان عريان فلياسه التقوى وزينته الحياء وثمرته العلم، من ثم قيل: إن الجنة طيبة لا يسكنها إلا الطيب فمتى طابوا لها دخلوها، ألم تسمع إلى وفاته بين ذلك في قوله تعالى: (الَّذيَن تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبينَ يَقٍولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ) ، النحل: 23، وقال تعالى: (وَقَاَلَ لَهْمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيكُمْ طِبْتُتمْ فَادْخُلُوهَ خَاِلدينَ) ، الزمر: 73 لأنه قال: (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً في جَنِّاتِ عَدْنٍ) التوبة: 72 والذنوب خبائث كما قال: (وَيُحَرَّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَاِئث) الأعراف: 157 فلما طابوا لها طابت لهم وقد أجمل ذلك بقوله تعالى: (الخَبيثاَتُ لِلْخَبيثين) النور: 26 وبقوله: (وَالطَيِّباتُ لِلْطَيِّبينَ) النور: 26، وقد مثل بعضهم النفس في شرهها بمثل ذباب مرّ على رغيف عليه عسل فوقع فيه يطلب الكلية فعلق بجناحه فقبله وآخر مر به فدنا من بعضه فنال حاجته فرجع إلى ورائه سالماً وقد مثل بعض الحكماء ابن آدم مثل دود القز لا يزال ينسج على نفسه لجهله حتى لا يكون له مخلص فيقتل نفسه ويصير
القز لغيره وربما قتلوه إذا فرغ من نسيجه لأن القز يلتف عليه فيروم الخروج منه فيشمس وربما غمزوه بالأيدي حتى يموت لئلا يقطع القز وليخرج القز صحيحاً، فهذه صورة المكتسب الجاهل الذي أهلكه أهله وماله فتنعم ورثته بما شقي به فإن أطاعوا به كان أجره لهم وحسابه عليه وإن عصوا به كان شريكهم في المعصية لأنه أكسبهم إياها به فلا يدري أي الحسرتين عليه أعظم أذهابه عمره لغيره أو نظره إلى ماله في ميزان غيره، ومما سمعت في علم شره النفس ما حدثني بعض إخواني عن بعض هذه الطائفة قال: قدم علينا بعض الفقراء فاشترينا من جار لنا جملاً مشوياً ودعوناه عليه في جماعة من أصحابنا فلما مد يده ليأكل وأخذ لقمة وجعلها في فيه لفظها ثم اعتزل وقال: كلوا(1/153)
أنتم فإنه قد عرض لي عارض منعني من الأكل، فقلنا: لا نأكل إن لم تأكل معنا، فقال: أنتم أعلم أما أنا فغير آكل ثم انصرف، قال: فكرهنا أن نأكل دونه، فقلنا: لو دعونا الشوّاء فسألناه عن أصل هذا الجمل فلعل له سبباً مكروهاً فدعوناه فلم نزل به نسأل عنه حتى أقر أنه كان ميتة وأن نفسه شرهت إلى بيعه حرصاً على ثمنه فشواه فوافق اأنكم اشتريتموه، قال: فمزقناه للكلاب، قال: ثم إني لقيت الرجل بعد وقت فسألته لأي معنى تركت أكله وبأي عارض؟ فقال: أخبرك ما شرهت نفسي إلى طعام منذ عشرين سنة بالرياضة التي رضتها به فلما قدمتم إلي هذا شرهت نفسي إليه شرهاً ماعهدته قبل ذلك فعلمت أن في ذلك الطعام علة فتركت أكله لأجل شره النفس إليه فانظر رحمك اللَّه كيف اتفقا في شره النفس عن قصد واحد ثم اختلفا في التوفيق والخذلان فعصم العالم بالورع والمحاسبة وترك الجاهل مع شره النفس بالحرص وتركه المراقبة أعني البائع للجمل ثم عصم الآخرون للتوفيق بحسن الأدب وهو قمع شره النفس عن الأكل بعد صاحبهم ثم تدارك البائع بعد وقوعه لصدق المشتري وحسن نيته. قز لغيره وربما قتلوه إذا فرغ من نسيجه لأن القز يلتف عليه فيروم الخروج منه فيشمس وربما غمزوه بالأيدي حتى يموت لئلا يقطع القز وليخرج القز صحيحاً، فهذه صورة المكتسب الجاهل الذي أهلكه أهله وماله فتنعم ورثته بما شقي به فإن أطاعوا به كان أجره لهم وحسابه عليه وإن عصوا به كان شريكهم في المعصية لأنه أكسبهم إياها به فلا يدري أي الحسرتين عليه أعظم أذهابه عمره لغيره أو نظره إلى ماله في ميزان غيره، ومما سمعت في علم شره النفس ما حدثني بعض إخواني عن بعض هذه الطائفة قال: قدم علينا بعض الفقراء فاشترينا من جار لنا جملاً مشوياً ودعوناه عليه في جماعة من أصحابنا فلما مد يده ليأكل وأخذ لقمة وجعلها في فيه لفظها ثم اعتزل وقال: كلوا أنتم فإنه قد عرض لي عارض منعني من الأكل، فقلنا: لا نأكل إن لم تأكل معنا، فقال: أنتم أعلم أما أنا فغير آكل ثم انصرف، قال: فكرهنا أن نأكل دونه، فقلنا: لو دعونا الشوّاء فسألناه عن أصل هذا الجمل فلعل له سبباً مكروهاً فدعوناه فلم نزل به نسأل عنه حتى أقر أنه كان ميتة وأن نفسه شرهت إلى بيعه حرصاً على ثمنه فشواه فوافق اأنكم اشتريتموه، قال: فمزقناه للكلاب، قال: ثم إني لقيت الرجل بعد وقت فسألته لأي معنى تركت أكله وبأي عارض؟ فقال: أخبرك ما شرهت نفسي إلى طعام منذ عشرين سنة بالرياضة التي رضتها به فلما قدمتم إلي هذا شرهت نفسي إليه شرهاً ماعهدته قبل ذلك فعلمت أن في ذلك الطعام علة فتركت أكله لأجل شره النفس إليه فانظر رحمك اللَّه كيف اتفقا في شره النفس عن قصد واحد ثم اختلفا في التوفيق والخذلان فعصم العالم بالورع والمحاسبة وترك الجاهل مع شره النفس بالحرص وتركه المراقبة أعني البائع للجمل ثم عصم الآخرون للتوفيق بحسن الأدب وهو قمع شره النفس عن الأكل بعد صاحبهم ثم تدارك البائع بعد وقوعه لصدق المشتري وحسن نيته.
وجبلات النفس الأربعة هي أصول ماتفرّع من هواها وهي مقتضى ما فطرها عليه مولاها: أولها الضعف وهو مقتضى فطرة التراب، ثم البخل وهو مقتضي جبلة الطين، ثم الشهوة وموجبها الحمائم، الجهل وهو ما اقتضاه موجب الصلصال وهذه الصفات على معاني تلك الجبلات للابتلاء بالأمشاج ففيه بدء الأمت والإعوجاج، ذلك تقدير العزيز العليم، ثم إن النفس مبتلاة بأوصاف أربعة متفاوتة: أولها معاني صفات الربوبية نحو الكبر والجبرية وحب المدح والعز والغنى ومبتلاة بأخلاق الشياطين مثل الخداع والحيلة والحسد والظنة ومبتلاة بطبائع إليها ثم وهو حب الأكل والشرب والنكاح وهي مع ذلك كله مطالبة بأوصاف العبودية مثل الخوف والتواضع والذل بمعنى ما قلناه، قيل: إنها خلقت متحركة وأمرت بالسكوت وإني لها بذلك إن لم يتداركها المالك وكيف تسكن بالأمر إن لم يسكنها محركها بالخير فلا يكون العبد عبداً مخلصاً حتى يكون للمعاني الثلاث مخلصاً فإذا تحقق بأوصاف العبودية كان خالصاً من المعاني التي هي بلاؤه من صفات الربوبية، فإخلاص العبودية للوحدانية عند العلماء الموحدين أشد من الإخلاص في المعاملة عند العاملين، وبذلك رفعوا إلى مقامات القرب وذلك أنه لا يكون عندهم عبداً حتى يكون مما سوى اللَّه عزّ وجلّ حراً فيكف يكون عبد رب وهو عبد عبد لأن ما قاده إليه فهو إلهه وماترتب عليه فهو ربه وهذا شرك في الإلهية عند المتألهين ومرج بالربوبية عند الربانيين فهو متعوس منكوس بدعاء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ يقول: تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الزوجة، تعس عبد الحلة، فهؤلاء عبيد العدد الذين قال مولاهم: إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً لقد أحصاهم(1/154)
وعدّهم عداً أصحاب النفوس الأمّارة بالسوء المسوَّلة الموافقة للهوى المخالفة للمولى وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً إلى آخر وصفهم أولو النفس المرحومة المطمئنة المرضية هم عباد الرحمن أهل العلم والحكمة علمهم من لدنه واختارهم لنفسه ولا يكون المريد بدلاً حتى يبدل بمعاني صفات الربوبية صفات العبودية وبأخلاق الشياطين أوصاف المؤمنين وبطبائع البهائم أوصاف الروحانيين من الأذكار والعلوم، فعندهاكان بدلاً مقرباً والطريق إلى هذا بأن يملك نفسه فيملكها وتسخر له فيسلط عليها فإن أردت أن تملك نفسك فلا تملكها وضيّق عليها ولا توسع لها فإن ملكتها ملكتك وإن لم تضيّق عليها اتسعت عليك فإن أردت الظفر بها فلا تعرضها لهواها واحتبسها عن معتاد بلاها فإن لم تمسكها انطلقت بك وإن أردت أن تقوى عليها فأضعفها بقطع أسباب هواها وحبس مواد شهواتها وإلا قويت عليك فصرعتك فأول الملكة لها أن تحاسبها في كل ساعة وتراقب حسبتها في كل وقت وتقف عند كل همة من خواطرها فإن كانت الهمة للَّه عزّ وجلّ سابقت الموت وبادرت الفوت في إمضائها وإن كانت الهمة لغير اللَّه تعالى سابقت وبادرت في محوها لئلا تثبت وعملت في الإستبدال بها كيلا تستبدل بك، وفي تأويل الخبر المروي البر يزيد في العمر وهو معنى الدعاء المشهور من قول الناس: جعل اللَّه في عمرك البركة، وقد بورك له في عمره، فإن البركة في العمر أن تدرك في عمرك القصير بيقظتك ما فات غيرك من عمره الطويل بغفلته فيرتفع لك في سنة ما لا يرتفع له في عشرين سنة وللخصوص من المقربين في مقامات القرب عند التجلي بصفات الرب الحاق برفيع الدرجات وتدارك ما فات عند أذكارهم وأعمال قلوبهم اليسيرة في هذه الأوقات، فكل ذرة من ذكر بتسبيح أو تهليل أو حمد أو تدبر وتبصرة وتفكر وتذكرة بمشاهدة قرب ووجد برب ونظرة إلى حبيب ودنو إلي قريب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الغافلين الذين هم بنفوسهم واجدون وللخلق مشاهدون مثل العارفين فيما ذكرته من قيامهم بمشاهدتهم ورعايتهم لأمانتهم وعهدهم في وقت قربهم وحضورهم مثل العامل في ليلة القدر العمل فيها لمن وافقها خير من ألف شهر، وقد قال بعض العلماء كل ليلة للعارف بمنزلة ليلة القدر.
وروينا عن علي رضي اللَّه عنه: أنه قال كل يوم لا يُعصى اللَّه عزّ وجلّ فيه فهو لنا عيد وكان الحسن إذا تلا قوله تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنيئاً بِمَا أسْلَفْتُمْ في الأيَّامِ الخَاِليَةِ) ، الحاقة: 24 قال: يا إخواني هي واللَّه أيامكم هذه فاقطعوها بالجد والاجتهاد ولا تضيعوها فخلوها فراغاً من حسن المعاملة وبطالتك فيها عن الشغل بمعادك المحصول عليك منها، كما قال المبطلون: يا حسرتنا على ما فرطنا فيها يعني في الأيام الخالية التي هي محصولهم ومرجعهم ومثواهم، وكما قالت النفس الأمارة بالسوء: يا حسرتا على ما(1/155)
فرطت في جنب اللَّه يعني أيام الدنيا التي ضيعت العمر فيها فخلت من الثواب والجزاء غداً، وهذا أحد الوجهين في قوله الأيام الخالية، والوجه الآخر الخالية أي الماضية خلت أوقاتها وخلدت أحكامها وذهبت شهواتها وبقيت عقوباتها فإن قصرت عن هذه المحاسبة للحسيب ولم يكن لك مقام المراقبة للرقيب ولا مكان المحاسبة للحبيب فلا يفوتنّك مقام الورعين ولا تبن عن حال التائبين وهو أن تجعل لك وردين في اليوم والليلة لمحاسبة النفس وموافقتها مرة بعد صلاة الضحى لما مضى من ليلتك وماسلف من غفلتك، فإن رأيت نعمة شكرت الله وإن رأيت بلية استعفرت فإن وجدت في حالك أوصاف المومنين التي وصفهم اللَّه عزّوجلّ ومدحهم عليها رجوت وطمعت واستبشرت، وإن وجدت من قلبك وحالك وصفاً من أوصافِ المنافقين أو خلقاً من أخلاق الجاهلين التي ذمهم اللَّه عزّ وجلّ بها ومقتهم عليها حزنت وأشفقت وتبت من ذلك واستغفرت، والمرة الثانية أن تحاسب نفسك بعد الوتر وقبل النوم لمامضى من يومك من طول غفلتك وسوء معاملتك ومافعلته من أعمالك كيف فعلتها وماتركته من سكوتك وصمتك لم تركته ولمن تركته فتنعقد الزيادة والنقصان وتعرف بذلك التكلف والإخلاص من حركتك وسكونك فما تحركت فيه وسكنت لأجل اللَّه عزّ وجلّ به فهو الإخلاص ثوابك فيه على الله عزّ وجلّ عند مرجعك إليه فأعمل في الشكر على نعمة التوفيق وحسن العصمة من التهلكة وما سكنت فيه أو تحركت لهواك وعاجل دنياك فهو التكلف، الذي أخبر رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه هو والأتقياء من أمته برآء من التكلف وقد استوجبت فيه العقاب عند نشر الحساب إلا أن يغفر المولى الكريم الوهاب فاعمل حينئذ في الاستغفار بعد حسن التوبة وجميل الاعتذار وخف أن يكون قد وكلك إلى نفسك فتهلك، فلعل مشاهدة هذين المعنيين من خوف ما سلف منك والطمع في قبول ما أسلفت يمنعك من المنام ويطرد عنك الغفلة فتحيي ليلتك بالقيام فتكون ممن وصف اللَّه عزّ وجلّ في قوله: (تَتَجَافي جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) السجدة: 16قد قال بعض السلف: كان أحدهم يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك لشريكه، وقد قال بعض العلماء: من علامة المقت أن يكون العبد ذاكراً لعيوب غيره ناسياً لعيوب نفسه ماقتاً للناس على الظن محباً لنفسه على اليقين وترك محاسبة النفس ومراقبة الرقيب من طول الغفلة عن اللَّه عزّ وجلّ والغافلون في الدنيا هم الخاسرون في العقبي لأن العاقبة للمتقين قال اللَّه عزّ وجلّ: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُون) النحل: 108لاجرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون وطول الغفلة من العبد عن طبائع االقلب من المعبود والغفلة في الظاهر غلاف القلب في الباطن، تقول العرب غفله وغلفه بمعنى كماتقول جذب وجبذ وخشاف وخفاش وطبائع القلب عن ترادف الذنب(1/156)
بعضه فوق بعض وهوالران الذي يتعقب الكسب فيكون عقوبة له.
قال اللَّه تعالى: (كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوايَكْسِبُونَ) المطففين: 14، قيل: الكاسب الخبيثة وأكل الحرام، وفي التفسير: هو الذنب على الذنب حتى يسود القلب، وأصل الرين الميل والغلبة وهو التغطية أيضاً، يقال: ران عليه النعاس إذا غلبه ورانت الخمر على عقله أي غطته، ومن هذا قول عمر رضي اللَّه عنه في سابق الحاج فادّان معرضاً فأصبح وقد رين به أي مال به الدين فغلبه، وأصل ترادف الذنوب من إغفال المراقبة وإهمال المحاسبة وتأخير التوبة والتسويف بالاستقامة وترك الاستغفار والندم، وأصل ذلك كله هوحب الدنيا وإيثارها على أمر اللَّه عزّ وجلّ وغلبة الهوى على القلب، ألم نسمع إلى قوله عزّ وجلّ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الحيَاةَ الدٌّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ) النحل: 107 إلى قوله عزْ وجلْ: (أُولِئكَ الَّذينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) النحل: 108 وقال في دليل الخطاب: (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى) النازعات: 40 يعني عن إيثار الدنيا لأن صريح الكلام وقع في وصفهم بالطغيان وإيثار الحياة الدنيا، ثم قال: (طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أهْوَاءَهُمْ) محمد: 16، فاتباع الهوى عن طبائع القلب وطبائع القلب عن عقوبة الذنب وميراث العقاب الصمم عن فهم الخطاب، أما سمعته يقول: لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون وقد جعل علي رضي اللَّه عنه الغفلة مقاماً من مقامات الكفر فقال في حديثه الطويل: فقام إليه سلمان فقال: أخبرنا عن الكفر على ما بني فقال: على أربع مقامات: على الشك، والجفاء، والغفلة، والعمى، فإذا كثرت غفلة القلب قل إلهام الملك للعبد وهو سمع القلب لأن طول الغفلة يصمه عن السمع وعدم سمع الكلام من الملك عقوبة الخطايا وتثبيت الملك للعبد على الخير والطاعة وحي من اللَّه عزّ وجلَّ إليهم وتفضيل للعبد، أما سمعت قول اللَّه عزّ وجلّ: (إذْ يُوحي رَبُّكَ إلى المَلائِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذينَ آمَنُوا) الأنفال: 12، وفي الخبر: إن آدم عليه السلام حجب عن سمع كلام الملائكة فاستوحش بذلك فقال: يا رب مالي لا أسمع كلام الملائكة؟ فقال: خطيئتك يا آدم، فإذا لم يسمع العبد كلام الملائكة لم يفهم كلام الملك، وإذا لم يسمع الكلام لم يستجب للمتكلم إنما يستجيب الذين يسمعون، وقال الحسن: إن بين العبد وبين اللَّه عزّوجلّ حداً محدوداً من الذنوب فإذا بلغه العبد طبع على قلبه فلم يوفقه للخير أبداً فبادر أيها المجاوز للحدود بالتوبة والرجوع قبل أن تبلغ الحد فتلقى عياً وجهداً، وفي حديث ابن عمر الطابع معلّق بقائم عرش الرحمن فإذا انتهكت المحارم بعث اللَّه عزّوجلّ بالطابع على القلوب فأعماها وهذا هوالقفل الذي قال اللَّه عزّ وجلّ: (أَفَلا يَتَدبَّرُونَ الْقُرْآنَ) النساء: 82 أم على قلوب أقفالها(1/157)
واعلم أن القسوة التي يهدد اللَّه عزّ وجلّ عليها بالويل المتولدة من طول الغفلة في قوله عزّوجلّ (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) الزمر: 22 وقد قرنها اللَّه عزّ وجلْ بالنفاق وأخبر أنه يجعل إلقاء الشيطان فتنة لأهل النفاق والقسوة، فإلقاءالشيطان يكثر عند قلة إلهام الملك كماذكرنا آنفاً ينتظم ذلك قوله عزّ وجلّ: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَة للَّذينَ في قُلُوبِهِم) الحج: 53 أي وللقاسية قلوبهم أيضاً، والقسوة ثمرة البعد والبعد عقوبة الخيانة واللَّه لا يحب الخائنين، فذلك من تدبر الخطاب من قوله: (فَبِمَا نَقْضهِمْ ميثَاقَهُمْ) المائدة: 13 أي فبنقضهم الميثاق وماصلة في الكلام فهذا هوالخيانة، لعناهم أي أبعدناهم وجعلنا قلوبهم قاسية بترادف الذنوب بعد القسوة من الكذب والنسيان وكثرة الإطلاع على الخيانة منهم والبهتان فأصيبوا بالذنوب فوقع الطابع على القلوب فصمت عن سمع كلام المحبوب، كما قال: (أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوِبِهِمْ) الأعراف: 100، فجلاء هذا الطابع التقوى فهو مفتاح السمع كما قال: اتقوا اللَّه واسمعوا واللَّه تعالى الموفق.(1/158)
الفصل السادس والعشرون
كتاب ذكر مشاهدة أهل المراقبة
أعلم أن مشاهدة المراقبين هي أول مراقبة المشاهدين، وذلك إن من كان مقامه المراقبة كان حاله المحاسبة ومن كان مقامه المشاهدة كان وصفه المراقبة فأول شهادة المراقب هو أن يعلم يقيناً أن لا يخلو في كل وقت وإن قصر من أحد ثلاثة معان: أن يكون للَّه عزّ وجلَّ عليه فرض، والفرض على ضربين شيء أمر بفعله أو شيء أمر بتركه وهو اجتناب المنهي، والمعنى الثاني ندب حث عليه وهو المسابقة بخير يقربه إلى اللَّه عزّ وجلّ والمسارعة بعمل بر يبتدره قبل فوته، والمعنى الثالث شيء مباح فيه صلاح جسمه وقلبه وليس للمؤمن وقت رابع فإن أحدث وقتاً رابعاً فقد تعدّى حدود اللَّه ومن يتعدَّ حدود اللَّه فقد ظلم نفسه وقد أحدث في دين اللَّه سبحانه وتعالى ومن أحدث في دين اللَّه فقد سلك غير طريق المتقين، ألم تسمع إلى قوله عزّ وجلّ: (وَهُوَ الَّذي جَعَلَ الليلَ والنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أرَادَ أنْ يَذَّكَّرَ أوْ أرَادَ شُكُوراً) الفرقان: 62 فهل ترى بين هذين وقتاً يجهل أو هوى كما لا ترى بين الليل والنهار وقتاً ثالثاًِ، فالذكر الإيمان والعلم، فهذان ينتظمان جهل أعمال القلوب والشكر والعمل بأخلاق الإيمان وأحكام العلوم، وهذان يشتملان على جميع أعمال الجوارح، قال اللَّه عزّ وجلّ: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَشُكْراً) سبأ: 12 وقال: (فَاتَّقُوا اللَّه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون) آل عمران: 123 وقال: (كَما أَرْسَلّْنْا فيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) البقرة: 151 إلى قوله: (فَاذْكُرُوني أذّْكُرّْكُمْ وَاشْكُرُوا لي وَلا تَكْفُرُون) البقرة: 152 وقال اللَّه تعالى: (مَا يَفعَلُ اللَّه بِعَذَابِكُمْ إنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ) النساء: 416 وقال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقد عوتب في طول قيامه حتى تورمت قدماه فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً، ففسر الشكر بالعمل كما فسر اللَّه عزّوجلّ العمل بالشكر، والوقت الثالث هو المباح داخل فيهما لأنه معين عليهما وبه استقامة العبد فيهما، وقد كان بعض العلماء يقول: لنا في معاصي الطاعات همّ وشغل عن معاصي المخالفات فيبتدئ العبد المراقب فينظر بيقظته في أدنى وقت هل عزّ وجلّ فيه فرض من أمر أو نهي؟ فيبدأ بذلك حتى يفرغ منه فإن لم يجد فإنه لا يخلو من نوادب وفضائل(1/159)
فيبتدئ بالأفضل فإن لم يكن عمل في أدنى الفضيلتين فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن يومه لأمسه ومن ساعته ليومه ومن دنياه لآخرته، كما أمره مولاه في قوله سبحانه وتعالى: (وَلاَتَنْسَ نَصِىبَكَ مِنَ الدُّنْيا) القصص: 77 أي لا تترك أن تأخذ نصيبك للآخرة من دنياك وهو أن تحسن كما أحسن الله إليك ولا تطلب الفساد في الدنيا فتكون قد نسيت نصيبك من الد نيا ولا تترك أن تأخذ نصيبك من الآخرة فيتركك اللَّه من جزيل ثوابه الدي أعد لأحبابه كما قال: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) التوبة: 67 أي تركوه فتركهم، وتركهم له ترك نصيبهم منه وتركه عزّ وجلّ لهم ترك محابهم من الآخرة فيبتدئ العبد الفطن فيأخذ من عمره ووقته فيجعله لآخرته التي أيقن بها ثم يأخذ من وقته أعلى ما فيه مما يختص به الوقت ولا يوجد إلا فيه ويفوت دركه بفوت وقته وهو نأفضل ما يقدر عليه مما أدّاه علمه إليه فيجعله لمولاه، ثم إن العبد لا يخلو في كل وقت وإن قل من أحد مقامين، مقام نعمة، أو مقام بلية فحاله عن مقام النعمة الشكر وحاله عن مقام البلية الصبر، ثم ليس يفقد أحد مشاهدتين شهود نعمة أو شهود منعم من حيث لا يخلو من وجود مالك وحضور مملوك فعليه الخدمة للموجود وعليه الحضور في خدم المعبود والمراقبةعلامة الحضور والمحاسبة دليل المراقبة ويكون له أيضاً في أدنى أوقاته وهو الوقت الثالث الذي هو لمباحه وهو أدنى أحوال المؤمن يكون له فيه مشاهدة منعم أو شهود نعمة لئلا يذهب وقته هذا أيضاً فارغاً من دنياه ولا يعود عليه شيء من ذكرمولاه أو يذكر نعمة تدله على منعم أو تخرجه إليه فينفعه ذلك في عقباه إذ العاقبة للمتقين فإن شهد منعماً اقتطعه الحياء بالسكينة والوقار للهيبة وهذا مخصوص بخصوص، وإن شهد نعمة استغرقه بالشكر والاعتبارفكان لديه تبصرة وتذكار، وهذا العموم الخصوص قال الله عزّوجلّ في وصف الأولين: (وَمنْ كُّلِّ شَيْء خَلَقّْنَا زَوْجَينِ لَعَلَّكُمْ تَذَكْرُون) الذاريات: 49 ففروا إلى اللَّه، وقال في المقام الثاني:
(وَلاَتَجْعَلُوُا مَعَ اللَّهِ إلهاً آخرَ) الذاريات: 51 وقال في مقام الأوّلين: (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَيُجيرُوَلا يُجارُعَلَيْهِ) المؤمنون: 84 إلى قوله: (أفَلاَ تَتَّقُونَ) الأعراف: 56 وقال في وصف الآخرين؟: (قُل لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فيهَا) المؤمنون: 84 إلى قوله: (قُلْ أفَلاَ تَذَكَّّّرُوُن) المؤمنون: 85. ُوُا مَعَ اللَّهِ إلهاً آخرَ) الذاريات: 51 وقال في مقام الأوّلين: (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَيُجيرُوَلا يُجارُعَلَيْهِ) المؤمنون: 84 إلى قوله: (أفَلاَ تَتَّقُونَ) الأعراف: 56 وقال في وصف الآخرين؟: (قُل لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فيهَا) المؤمنون: 84 إلى قوله: (قُلْ أفَلاَ تَذَكَّّّرُوُن) المؤمنون: 85.
وقد روينا في الأثر من صفات العاقل وحال المراقب وحشو الأوقات بما ينبغي أن تملأ به جمل ما ذكرناه من حديث أبي ذر الطويل ولا يكون المؤمن ظاعناً إلا في ثلاث: تزوّد لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة في غير محرم وبمعناه وعلى العاقل أن يكون له أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه عزّ وجلّ، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفكر في صنع اللَّه عزّْ وجلّ، وساعة يخلو فيها للمطعم والمشرب، فإن في هذه الساعة عوناً له على الساعات وفيه أيضاً ثلاث مجملات من صفة العاقل ومن علامة العاقل أن يكون(1/160)
مقبلاً على شانه حافظاً للسانه عارفاً بزمانه وفي بعضها مكرماً لإخوانه فأوّل وقت المباح من الأوقات فالنوائب والحاجات تطرقه به والفاقات تدخله عليه فلا يتكلفه قبل وقته فيشغله عن وقته ثم إن العباد في مشاهدة الملك على أربع مقامات: كل عبد يشهد الملك من مقامه بعين حاله فمنهم من ينظر إلى الملك بعين التبصرة والعبرة فهؤلاء أولو الألباب الذين كشف عن قلوبهم الحجاب وهم أولو الأيدي والأبصار الذين أقامهم مقام الإعتبار وهذا مقام العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، ومنهم من ينظر إلى الملك وأهله بعين الرحمة والحكمة وهذا مقام الخائفين، ومنهم من ينظر إلى الملك وأهله بعين المقت والبغضة وهذا مقام الزاهدين ومنهم من ينظر إلى الملك بعين الشهوة والغبطة وهذا مقام الهالكين وهم أبناء الدنيا الذين لها يسعون وعلى فوتها يتحسرون، فإن أعطى العبد النظر إلى الملك بعين العبرة والحكمة أدخله الملك على الملك فاستغنى به عما سواه وإن أعطى الخائف النظر إلى الملك بعين الرحمة اغتبط بمقامه وعظمت لربه تعالى عليه النعمة وإن أعطى الزاهد النظر إلى الملك بعين البغضة أخرجه الملك عن الملك بالزهد فيه فعوَّضه من فوت الملك الصغير درك الملك الكبير، ومن ابتلى بالنظر إلى الملك بعين الغبطة والحسرة أوقعه الملك في الهلكة فسلك طريق المهالك، ومن شاهد معنى خلق من أخلاق الذوات أو معنى وصف من الصفات كان مقتضاه ما يوجب الخلق أو الوصف من شهود نعيم أو عذاب وهو مقام له في التعريف يرفعه إلى مقام التعرف وهذه شهادة العارفين من كل ماشهدوه من الأفعال التي تدل على معاني الأخلاق والأوصاف لأنه أظهرها عنه ليستدل عليه بها وينظر إليه منها فأما من شهد شهوة من شهوات النفس بعين الهوى أخرجته إلى الأهواء فتخطفه الشياطين وهوت به الريح في مكان سحيق وتنكب طريق المسالك إلى المولى التي تخرجه إلى القريب وتقعده عند الحبيب في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فمن فاته القرب وقع في التيه والبعد فهو اليائس المغبون الخائن المفتون الذي يكون أبداً يومه شرّاً من أمسه وغده شرًّا من يومه، فالموت خير له من حياته لأن حياته عن الحبيب تبعده وبقاءه عن السبيل يصده ووجده لهواه يفقده وظهور نفسه عليه من السوابق يقعده لأنه إذا كان في إدبار وكان إدباره في إقبال فقد فاته عمره عن آخره كفوت وقت واحد وفوت شيء واحد لأن العمر ليس مما يتأتى فوته دفعة واحدة كشيء واحد لأنه ينشأ وقتاً بعد وقت وإنما يفوت جزءاً جزءاً على حكمة من الله عزّ وجلّ وتمهّل واستدراج منه وقتاً بعد وقت ويوماً بعد يوم يستدرجه في ذلك كما يصعد الدراج في الدرج مرقاة مرقاة، كذلك يشغله في وقت عنه ويفرغه وقتاً آخر لغيره ويذكره في وقت سواه وينسيه وقتاً آخر إياه فشغله حينئذ كفراغه وذكره يومئذ كنسيانه وعلى هذا سائر أوقاته تارة يقطعه عنه وتارة(1/161)
يصله بغيره حتى تفنى الأيام بالفوت وتنقضي الأوقات إلى الموت وفي ذلك يسبل عليه الستر ليغتر ويسبغ عليه النعم كيلا يعلم ويديم له العوافي لئلا يفطن ويبسط له الأمل ليزداد من سوء العمل ويقبض عنه الأجل ليقبض منه الوجل وينشر له الرجاء ويطوي عنه الخوف حتى يبغتهم فجأة من حيث أمنهم ويأخذهم بغتة في حال غمرتهم كما قال: (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُون) النمل: 50 ومن معنى ماذكرناه قوله تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أبْوَابَ كُلِّ شَيءْ) الأنعام: 44 أي لماتركوا ما وعظوا به وخوفوا أسبغنا عليهم النعم وأنسيناهم الشكر فترادفت منهم الذنوب وأنسيناهم الإستغفار، ثم قال: (حَتَّى إذا فَرِحُوا بِما أوتُوا) الأنعام: 44 أي سكنوا إلى ذلك واطمأنوا ولم يريدوا التحويل عنه ولا الاستعتاب
منه: (أخَذْنَاهُم بَغْتَة) الكهف: 28 أي فجأة في حين أمنهم وقيل بغتة بعد أربعين سنة فإذا هم مبلسون متحيرون باهتون آيسون من كل خير، واعلم أن العبد إذا كان بعد ساعة شرّاً منه قبلها وبعد يوم شرّاً منه قبله ثم لم يستعتب ولم يتدارك كانت أوقاته كلها وأيامه كيوم واحد في الشر ووقت سرمد في السوء فكان كمن فات عمره كله كفوت وقت واحد منه لأنه على هذا الوصف يكون فوت العمر لتراخيه وقتاً بعد وقت وينساه شيئاً بعد شيء ولتربية العبد بأوقاته وقتاً بعد وقت إلا أنها في آخر الحساب ومجمله كيوم واحدأضاعة فكان مثله كما قال تعالى: (وَلاَ تُطِعْ مَنْ أغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أمْرُهُ فُرُطاً) الكهف: 28 وكمن كان حاله الغفلة عن الوعد والوعيد فلما كشف عنه الغطاء حار بصره وبهت واحتد وبرق لمعاينة ما كان عنه غفل وحسرة على ما فيه فرط لقوله تعالى: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذَا فَكَشَفْنَا عَنَكَ غِطَاءَكَ فَبَصرُكَ اليَومَ حَديدٌ) ق: 22، قيل محدد إلى أعمالك السيئة أو ثقتك وقيل حديد إلى لسان الميزان يتوقع النقص والرجحان وكان كمن قال تعالى في قوله: (وَأنِذرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إذْ قُضيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَة) مريم: 39 قيل جاءهم الموت وهم مشغولون بأمور الدنيا وقيل: كانوا متشاغلين في شأن النساء وبوصف من قيل له وغرتكم الأماني يعني أماني الهوى حتى جاء أمر اللَّه أي قدم الموت ولم تقدموا له شيئاً يقدموا به عليه فمثلهم كمن وصفهُ بالإفلاس وأخبر عنه بالإياس في قوله عزّ وجلّ: (حَتَّى إذا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوفَّاهُ حًسَابَهُ) النور: 39. (أخَذْنَاهُم بَغْتَة) الكهف: 28 أي فجأة في حين أمنهم وقيل بغتة بعد أربعين سنة فإذا هم مبلسون متحيرون باهتون آيسون من كل خير، واعلم أن العبد إذا كان بعد ساعة شرّاً منه قبلها وبعد يوم شرّاً منه قبله ثم لم يستعتب ولم يتدارك كانت أوقاته كلها وأيامه كيوم واحد في الشر ووقت سرمد في السوء فكان كمن فات عمره كله كفوت وقت واحد منه لأنه على هذا الوصف يكون فوت العمر لتراخيه وقتاً بعد وقت وينساه شيئاً بعد شيء ولتربية العبد بأوقاته وقتاً بعد وقت إلا أنها في آخر الحساب ومجمله كيوم واحدأضاعة فكان مثله كما قال تعالى: (وَلاَ تُطِعْ مَنْ أغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أمْرُهُ فُرُطاً) الكهف: 28 وكمن كان حاله الغفلة عن الوعد والوعيد فلما كشف عنه الغطاء حار بصره وبهت واحتد وبرق لمعاينة ما كان عنه غفل وحسرة على ما فيه فرط لقوله تعالى: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذَا فَكَشَفْنَا عَنَكَ غِطَاءَكَ فَبَصرُكَ اليَومَ حَديدٌ) ق: 22، قيل محدد إلى أعمالك السيئة أو ثقتك وقيل حديد إلى لسان الميزان يتوقع النقص والرجحان وكان كمن قال تعالى في قوله: (وَأنِذرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إذْ قُضيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَة) مريم: 39 قيل جاءهم الموت وهم مشغولون بأمور الدنيا وقيل: كانوا متشاغلين في شأن النساء وبوصف من قيل له وغرتكم الأماني يعني أماني الهوى حتى جاء أمر اللَّه أي قدم الموت ولم تقدموا له شيئاً يقدموا به عليه فمثلهم كمن وصفهُ بالإفلاس وأخبر عنه بالإياس في قوله عزّ وجلّ: (حَتَّى إذا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوفَّاهُ حًسَابَهُ) النور: 39.
وقد كان أبو محمد يقول لايبلغ العبد منازل الصديقين حقيقة من هذا الأمر حتى يكون فيه هذه الأربع: أداء الفرائض بالسنة، وأكل الحلال بالورع، واجتناب النهي في الظاهر والباطن، والصبر على ذلك إلى الممات، وكان الحسن يقول: واللَّه ما لعمل المؤمن انتهاء دون الموت واللَّه ما المؤمن الذي يعمل الشهر والشهرين والسنة والسنتين إنما المؤمن المداوم على أمر اللَّه، الخائف من مكر اللَّه، إنما الإيمان شدة في لين وعزم في يقين واجتهاد في صبر وعلم في زهد وكان عمر رضي اللََّه عنه إذا تلا قوله(1/162)
تعالى: (إنَّ الَّذينَ قَالُوا رَبُّنَا اللُّه ثُمّ اسْتقَامُوا) الأحقاف: 13 يقول قد قالها الناس ثم رجعوا، فمن استقام على أمر اللَّه في السر والعلانية والعسر واليسر ولم يخف في اللَّه لومة لائم وقال مرة استقاموا واللَّه لربهم ولم يروغوا روغان الثعالب، وقال بعض العلماء: من كان طلب الفضائل أهم إليه من أداء الفرائض فهو مخدوع ومن شغل بغيره عن نفسه فقد مكر به، وقال سفيان الثوري وغيره: إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول فأفضل شيء للعبد معرفته بنفسه ووقوفه على حده وأحكامه لحاله التي أقيم فيها، فابتداؤه بالعمل بما افترض عليه بعد اجتنابه مانهى عنه بعلم لم يدبره في جميع ذلك وورع يحجزه عن الهوى في ذلك ولا يشتغل بطلب فضل حتى يفرغ من فرض لأن الفضل لا يصح إلا بعد حوز السلامة كما لا يخلص الربح للتاجر إلا بعد حصول رأس المال فمن تعذرت عليه السلامة كان من الفضل أبعد والى الإغترار أقرب وقد تلتبس الفضائل بالفرائض لدقة معانيها وخفي علومها فيقدم العبد النفل وهو يحسب أنه الواجب، فمن ذلك أن أبا سعيد رافع بن المعلى كان قائماً يصلي فدعاه رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يجبه فظن أن وقوفه بين يدي اللَّه عزّ وجلّ بالغيب أفضل له فلما سلم جاءه فقال له رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مامنعك أن تجيبني حين دعوتك فقال: كنت أصلي فقال: ألم تسمع اللَّه عزّ وجلّ يقول: (اسْتَجيبْوا للَّهِ وَللِرَّسُولِ إذا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْييكُمْ) الأنفال: 24 فكان رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعاه وهو في الصلاة ليفيده باطن العلم أو لينظر مبلغ علمه كيف يعمل وكان إجابته لرسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل من صلاته لأن صلاته نافلة له فهو مطيع الله عزّ وجلّ في الغيب باختياره وإجابته لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل من صلاته لأنها فريضة عليه فهو مطيع للَّه تعالى في الشهادة بإيجابه ففضل استجابته لرسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صلاته لنفسه كفضل الفرض على النفل، وقد قال سبحانه: (مَنّْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطَاعَ اللَّه) النساء: 80 وقال تعالى: (إنَّ الذينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ الله) الفتح: 10 واللَّه تعالى معه في المكانين معاً وهو عند الرسول عليه السلام على يقين، فعبادة اللَّه عزّ وجلّ ههنا أبلغ في مرضاته وأثوب له في آخرته، وفي هذا الحديث دليل أن الخبر إذا ورد في أمر كان على جملة عمومه وكلية ما تعلق به حتى تخص السنة أو الإجماع بعض شأنه ومن ذلك أن قول اللَّه عزّ وجل: (اسْتَجيبُوا للَّهِ ولِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْييكُمْ) الأنفال: 24، إن ظاهره مقصور على الاستجابة للرسول للَّه بالإيمان بالطاعة في أوامر القرآن لا الإجابة له في التصويت خاصة في الصلاة وهذا هو الذي حمله أبو سعيد ابن المعلى عليه وتأوله من الآية فأشكل عليه، ومثل هذا فعل عمار في التيمم لما نزلت آية الإباحة للتيمم في صلاة الفجر وهم في سفر، فقال عزّ وجلّ: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعيداً طَيبَّا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأيْدِيكُمْ) النساء: 43 ولم يكن يسمع من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تخصيص بعض اليد شيئاً قال:(1/163)
فتيممنا إلى المناكب واستوعب جملة اليد لعموم الخطاب حتى أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك فأمرهم بالتيمم إلى المرفقين، وفي خبر: إلى الزندين باختلاف الروايتين فخص بعض اليد فلذلك اختلف العلماء في تبعيض اليد في المسح وكذلك العمل فيما ورد مجملاً أن يستعمل في الجملة حتى تخصه السنة، فمن ذلك ما روي أن رجلين على عهد رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تآخيا في العبادة فاعتزلا الناس فقال أحدهما لصاحبه: هلم اليوم فلننفرد عن الناس
ونلزم الصمت فلا نكلم من يكلمنا فإنه أبلغ في عبادتنا، قال: فاعتزلا في خلوة وصمتا فمر بهما رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسلم عليهما فلم يردا عليه السلام، قال: فسمعناه يقول حين جاوزنا: هلك المعتمقون المتنطعون فاعتذرا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتابا من ذلك إلى الله عزّ وجلّ، ومثل ذلك ماروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يعس ذات ليلة فنظر إلى مصباح أبيض في خلل باب فاطلع فإذا قوم على شراب لهم فلم يدر كيف يصنع فدخل المسجد فأخرج عبد الرحمن بن عوف فجاء به إلى الباب فنظر وقال له: كيف ترى أن نعمل؟ فقال: أرى والله أنا قد أتينا مانهانا الله عنه لأنّا تجسسنا على عورة فاطلعنا عليها وقد سترها الله دوننا وما كان لنا أن نكشف ستر الله عزّ وجلّ، فقال: ماأراك إلا قد صدقت سبعاً ما أنفذ عنك فانصرفنا، وفي لفظٍ آخر أنه قال له: أرى أنّا قد عصينا الله ورسوله ونهانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التجسس فقال: صدقت فأخذ بيده وانصرف. ونلزم الصمت فلا نكلم من يكلمنا فإنه أبلغ في عبادتنا، قال: فاعتزلا في خلوة وصمتا فمر بهما رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسلم عليهما فلم يردا عليه السلام، قال: فسمعناه يقول حين جاوزنا: هلك المعتمقون المتنطعون فاعتذرا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتابا من ذلك إلى الله عزّ وجلّ، ومثل ذلك ماروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يعس ذات ليلة فنظر إلى مصباح أبيض في خلل باب فاطلع فإذا قوم على شراب لهم فلم يدر كيف يصنع فدخل المسجد فأخرج عبد الرحمن بن عوف فجاء به إلى الباب فنظر وقال له: كيف ترى أن نعمل؟ فقال: أرى والله أنا قد أتينا مانهانا الله عنه لأنّا تجسسنا على عورة فاطلعنا عليها وقد سترها الله دوننا وما كان لنا أن نكشف ستر الله عزّ وجلّ، فقال: ماأراك إلا قد صدقت سبعاً ما أنفذ عنك فانصرفنا، وفي لفظٍ آخر أنه قال له: أرى أنّا قد عصينا الله ورسوله ونهانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التجسس فقال: صدقت فأخذ بيده وانصرف.
ورينا نحو هذا أن عمر رضي الله عنه كان يعس ليلة مع ابن مسعود فاطلع من خلل الباب فإذا شيخ بين زق خمر وقينة تغنيه فتسور عليه وقال: ماأقبح بشيخ مثلك أن يكون على مثل هذه الحال، فقام إليه الرجل فقال: ياأمير المؤمنين أنشدك الله ألا أنصفتني حتى أتكلم فقال له: قل فقال: إن كنت قد عصيت الله عزّ وجلّ في واحدة فقد عصيته أنت في ثلاث، قال: وماهي؟ قال: قد تجسست وقد نهاك الله عزّ وجلّ عن ذلك وتسوّرت وقد قال الله عزّ وجل (وَلَيْسَ الْبِرُّ بأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) البقرة: 189 ودخلت بغير إذن وقد قال الله عزّ وجلّ (لا تَدْخُلُوا بُيُوتِاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتى تَسْتَأنِسُوا وَتُسَلِّموا عَلى أَهْلِهَا) النور: 27 فقال عمر: صدقت فهل أنت غافر لي ذلك فقال: غفر الله لك فخرج عمر وهو يبكي حتى علا نشيجه وهو يقول: ويل لعمر إن لم يغفر اللّّه له، تجد الرجل كان يتخفى بهذا عن ولده وجاره فالآن يقول: رآني أمير المؤمنين ونحو ذلك، وجاء في الخبر: إذا دعي أحدكم إلى طعام فإن كان مفطراً فليجب وإن كان صائماً فليقل إني صائم، فأمره بإظهار عمله وهو يعلم أن الإخفاء أفضل ولكن إظهار عمله من حيث لايؤثر في قلب أخيه وجداً أفضل من إخفائه لنفسه مع تأثير ذلك في قلب أخيه لتفضيل المؤمن وحرمته على الأعمال إذ الأعمال موقوفة على العامل وإنما يعطي الثواب على قدر العامل لا على قدر العمل لتضعيف الجزاء لمن يشاء على غيره في العمل الواحد فدل ذلك أن المؤمن أفضل من العمل فقيل له: ارفع التأثير والكراهة عن قلب أخيك بإظهار عملك فهو خير لك من(1/164)
إخفاء العمل مع وجد أخيك عليك لأن أخاك إذا دعاك إلى طعام صنعه لك فلم تجبه ولم تعتذر إليه عذراً بيّناً يقبله منك ويعرفه شق عليه إن كان صادقاً في دعائك.
وبمعنى هذا من خفي الأعمال ما يحكى عن بعض السلف أنه كان يكون في الجماعة فيقرأ في نفسه سرّاً لئلا يطلع على أعماله أحد فإذا مرّ بآية فيها سجدة سجد بين الملأ فكنا نعرف بسجوده أنه يقرأ فلعل فارغاً قليل الفقه يقول: إن هذا قدأظهر عمله إذ فعل ما يدل عليه فلو ترك السجود ليخفي عمله كان أفضل لأنه قد أظهر ما أخفاه فهذا يدل على جهله بالمعاملة، وقد سمعت بعض العلماء يطعن على هذا بفعله بمعنى ما ذكرناه من القول وهكذا يكون علم المريدين القصيرين العلم وليس الأمر كما قدره هذا المنكر بسجوده بل القائل المنكر لفعله قليل الفقه بدقائق الإخلاص جاهل بطريقة العاملين من العارفين والعامل الذي نقل عنه هذا الفعل فقيه مخلص وذلك لأنه قد حاز الفضلين معاً لأنه كان فاضلاً فيما أخفى إذ ابتدأ عمله بالخفية فلما جاء السجود الذي لايكون إلا ظاهراً لم يصلح أن يترك قربة إلى الله عزّ وجلّ من أجل الناس فكان يسجد كما أمر به ويقرأ كما ندب إليه فصار فاضلاً في الحال الثاني لأنه أظهر لأجل الله عزّ وجلّ كما أخفى لأجله ولأنه ترك مراقبة الناس ولم يترك عمله لأجلهم ولو كان الفضل في ترك السجود لإخفاء العمل كان الأفضل لمن دخل عليه في منزله وهو يصلي أن يقعد لأجلهم.
وقد وردت السنة في ذلك أن له أجرين: أجر السر وأجر العلانية، كيف وقد كانوا يعدون أن الرياء ترك العمل لأجل الناس فأما العمل لأجلهم فشرك، وقد قيل: لا تعمل للرياء ولا تترك العمل للحياء، فالحياء من الخلق شرك كما إن الحياء من الخالق إيمان.
وأيضاً لو أنه أطاع العدوّ في ترك العمل لأجل الناس أطاعه مرة أخرى في العمل لأجلهم، ومثل هذا كمثل من كان يصوم ويصلي يومه أجمع في منزله لا يعلم به مخلوق فلو نوى الاعتكاف ليضمه إلى صومه خرج إلى المسجد فكان يصلّي مقيماً فيه فظهر الناس على عمله فلم يكن ليدع مانواه من العكوف في المسجد لأجل نظرهم إليه ولم يضره ظهور عمله لثباته على نيته ولمزيد من الاعتكاف إذا كان عالماً متمكناً، وأيضاً فان الإمام المتمكن المقتدى به لايضره ظهور الناس على أعماله إذا لم يقصد ذلك ولم يحب مدحهم وربما كان له أجر، إن في ذلك لتنبيه الغافلين عن الذكر وتشويق العاملين إلى البر كيف وعند بعض العلماء أن سجود القرآن فرض وأن على من سمع آية سجدة أو تلاها وكان على غير وضوء أن يسجد لها إذا توضأ، ونحو هذه المعاني ما هو حال للعبد وأولى به من حال غيره ما رواه أبو نصر التمار أن رجلاً جاء يودع بشر بن الحرث قال: قد عزمت على الحج أفتأمرني بشيء؟ فقال له بشر: كم أعددت للنفقة؟ قال: ألفي درهم قال: فأي شيء تبتغي بحجك نزهة أو اشتياقاً إلى البيت أو ابتغاء مرضاة الله عزّ وجلّ، قال: ابتغاء مرضاة الله عزّ وجلّ قال: فإن أصبت(1/165)
رضا الله وأنت في منزلك وتنفق ألفي درهم وتكون على يقين من مرضاة الله عزّ وجلّ أتفعل ذلك؟ قال نعم: قال: اذهب فأعطها عشرة أنفس؛ مدين يقضي بها دينه، وفقير يرم شعثه، ومعيل يحيي عياله، ومربي يتيم يفرحه، وإن قوى قلبك أن تعطيها لواحد فافعل، فإن ادخالك السرور على قلب امرئ مسلم وتغيث لهفان وتكشف ضر محتاج وتعين رجلاً ضعيف اليقين أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام قم فأخرجها كما أمرناك وإلا فقل لنا ما في قلبك فقال: ياأبا نصر سفري أقوى في قلبي فتبسم بشر وأقبل عليه، وقال له: المال إذا جمع من وسخ التجارات والشبهات اقتضت النفس إلى أن تقضي به وطراً ويشرع إليه فظاهرت أعمال الصالحات وقد آلى على نفسه أن لا يقبل إلا عمل المتقين، وفي نحوه قيل لبشر أيضاً إن فلاناً الغني كثير الصوم والصلاة فقال: المسكين ترك حاله ودخل في حال غيره إنما حال هذا إطعام الطعام للجياع والإنفاق على المساكين فهذا أفضل له من تجويعه نفسه ومن صلاته لنفسه مع جمعه للدّنيا ومنعه للفقراء، وقد يكون اختفاء الأوجب من الفرائض والتباسه بالفضائل محنة من الله عزّ وجلّ لعباده وحكمة له فيهم فيرتكبون التأويل للسعة ويتركون الضيق لخفائه عليهم لينفذ فيهم العلم ويجري عليهم الحكم ويكون ذلك تأديباً لهم وتعريفاً ومزيداً في التسليم وتوفيقاً، وقد قال الله تعالى فيما عتب على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووعظه وزجره في قوله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى) (أنْ جَاءَهُ الأعْمَى) (وَمَايُدْريكَ لَعَلَّهُ يَزَّكّى) عبس: 1 - 2 - 3، يقال إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يغتم في عمره كغمه حين أنزل عليه سورة عبس لأن فيها عتباً شديداً على مثله لأنه الحبيب الرشيد ومع ذلك لم يقصده في الخطاب فيكون أيسر للعتاب بل كشف ذلك للمؤمنين ونبّه على فعله عباده المتقين لأن معنى قوله عبس وتولى: أي انظروا أيها المؤمنون، أو اعجبوا إلى الذي عبس وتولى أن جاءه الأعمى، ولذلك روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه أن بعض المنافقين يؤم قومه فكان لا يقرأ بهم إلا بسورة عبس فأرسل فضرب عنقه يستدل بذلك على كفره ليضع من الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك عنده وعند قومه ومثله قوله عزّ وجلّ عاتباً على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ) التوبة43 ونحوه: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغي مَرْضَات أزْواجِكَ) التحريم: 1 وبمعناه قوله عزّ وجلّ: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْديهِ وَتَخْشَى النَّاس واللهُ أحَقُّ أنْ تَخْشَاهُ) الأحزاب: 37حتى قالت عائشة رضي الله عنها: لو كتم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً من القرآن كتم هذه الآية، ومن أعجب ما سمعت في هذا المعنى ماحدثونا في الإسرائيليات عن وهب بن منبه اليماني أن سليمان بن داود عليهما السلام لما قبضه الله عزّ وجلّ خلف رجالاً من ولده يعمرون بيت المقدس ويعظمونه برهة من الدهر حتى خلفه بعدهم رجل من ولد سليمان فخالف طريقة آبائه وترك شريعتهم وتكبر في الأرض وطغى وقال بني جدي داود وأبي سليمان مسجداً فما لي لا
أبني مسجداً مثل ما بنو وأدعو الناس إلى شريعتي كما دعوا(1/166)
فبنى مسجداً يضاهي به بيت المقدس وادعى على الله عزّ وجلّ أنه أمره بذلك وصرف الناس إليه وبذل لهم الأموال وأخرب مسجد بيت المقدس وهجره فدخل الناس في دينه رغبة ورهبة، قال: فابتعث الله نبيّاً من بعض أهل القرى فقال: اركب أتانك هذه وأت هؤلاء القوم أحفل ما يكونون فناد في مسجدهم ومجمعهم بأعلى صوتك: يامسجد الضرار إن الله عزّ وجلّ حلف باسمه ليوحشنك من عمارك وليقتلنّ أهلك فيك وليشدخنّهم بخشبك وجندلك ولتلغن الكلاب دماءهم وتأكل لحومهم فيك وناد في المدينة بأعلى صوتك بمثل ذلك ولا تأكل ولا تشرب ولا تستظل ولا تنزل عن أتانك هذه حتى ترجع إلى قريتك التي خرجت منها قال ففعل ذلك فثار الناس إليه يضربونه بالخشب ويشجونه بالحجارة وهو على أتانه لاينزل عنها فناله على ذلك أذى كثير وضرب عظيم ثم كرّ راجعاً في آخر النهار يؤمّ قريته التي خرج منها وقد أدّى الرسالة وصبر على الضرب والبلاء لله عزّ وجلّ فلما كان ببعض الطريق سمع به نبي آخر كان في بعض القرى استقبله وسلم عليه فقال: إنك قد أدّيت رسالة ربك وإنك أمضيت أمره وإنك قد نصبت ولقيت عناء من هؤلاء القوم وأنت جائع عطشان تسيل دماؤك على جسدك وثيابك فاغد إلى منزلك فكل واشرب واسترح واغسل جسدك وثيابك فقال إن الله عزّ وجلّ لما أرسلني قد كان عهد إليّ أن لا آكل ولا أشرب ولا أستظل حتى أرجع إلى أهلي فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فإني من أهلك لأنني نبي مثلك وأخوك في الدين فلا أرى الله عزّ وجلّ عني بذلك إلا القوم الذين بعثك إليهم لأنهم أعداؤه فنهاك أن تأكل من طعامهم وتستظل عندهم ولا أحسب حرم عليك دخول منزلي ولا الأكل من طعامي لأني شريكك في الأخوّة والنبوّة قال: فصدقه وانصرف معه إلى منزله، فلما وضع الطعام بين يديه وأهوى ليأكل عن جوع شديد قد أضرّ به أوحى الله عزّ وجلّ إلى ذلك النبي الذي دعاه إلى منزله قل له: آثرت شهوتك وبطنك على أمري ألم أعهد إليك أن لا تنزل ولا تستظل ولا تأكل حتى ترجع إلى قريتك التي خرجت منها ولولا أنك اجتهدت برأيك وقلت بمبلغ علمك لعمكما العقاب وهو أقل عندي عذراً منك لأني عهدت إليه فآثر هواه شهوته وترك عهدي، فأخبره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أمر فوثب مذعوراً يجر إزاره وجعل يرحل أتانه ويعجل ولا يعقل ما هو فيه فركبها طارداً لها على وجهه لجوعه وعطشه ودماؤه على ثيابه وجسده لاينثني، فلما هبط عن عقبة تحتها غيضة عارضه سبع فافترسه وانتصب السبع مقعياً على قارعة الطريق يزأر يحرس أتانه ورحله كلما أقبل إنسان زأر الأسد عليه حتى يطرده فسمع بخبره ذاك النبي فأقبل نحوه فلما نظر إليه الأسد انصرف عنه وخلى بينه وبينه قال: فكفنه وواراه وانصرف برحله وأتانه إلى أهله، فقال: يارب عبدك هذا الذي بلغ رسالتك وأمضى أمرك وقد كان أجهده البلاء(1/167)
فخالف ماأردت فلم يعلم فعاقبته بهذه العقوبة فأوحى الله عزّ وجلّ إليه ليست هذه عقوبة ولم أفعل ذلك لهوانه عليّ ولكن هذه مغفرة ورحمة، إنه خالف أمري وكان قد اقترب أجله فكرهت له أن يلقاني على المخالفة فألقاه بما يكره فقيضت له كلباً من كلابي فطهره للقائي فكان ذلك له عندي شهادة ودرجة فوق نبوته فقال سبحانك وبحمدك أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين فالعالم عند العلماء من علم خير الخيرين، فسبق إليه قبل فوته وعلم شر الخيرين فأعرض عنه لئلا يشغله عن الأخير منهما وعلم أيضاً خير الشرين ففعله إذا اضطر إليه وابتلى به وعلم شر الشرين فأمعن في الهرب منه واحتجب بحجابين عنه وفي هذه المعاني دقائق العلوم وغرائب الفهوم وأدلة للسائلين وعبرة وآيات للعالمين فأما شر الشرين ومعرفة الخير من الشر فهو معروف بأدلة العقول وظاهر العلوم. مسجداً مثل ما بنو وأدعو الناس إلى شريعتي كما دعوا فبنى مسجداً يضاهي به بيت المقدس وادعى على الله عزّ وجلّ أنه أمره بذلك وصرف الناس إليه وبذل لهم الأموال وأخرب مسجد بيت المقدس وهجره فدخل الناس في دينه رغبة ورهبة، قال: فابتعث الله نبيّاً من بعض أهل القرى فقال: اركب أتانك هذه وأت هؤلاء القوم أحفل ما يكونون فناد في مسجدهم ومجمعهم بأعلى صوتك: يامسجد الضرار إن الله عزّ وجلّ حلف باسمه ليوحشنك من عمارك وليقتلنّ أهلك فيك وليشدخنّهم بخشبك وجندلك ولتلغن الكلاب دماءهم وتأكل لحومهم فيك وناد في المدينة بأعلى صوتك بمثل ذلك ولا تأكل ولا تشرب ولا تستظل ولا تنزل عن أتانك هذه حتى ترجع إلى قريتك التي خرجت منها قال ففعل ذلك فثار الناس إليه يضربونه بالخشب ويشجونه بالحجارة وهو على أتانه لاينزل عنها فناله على ذلك أذى كثير وضرب عظيم ثم كرّ راجعاً في آخر النهار يؤمّ قريته التي خرج منها وقد أدّى الرسالة وصبر على الضرب والبلاء لله عزّ وجلّ فلما كان ببعض الطريق سمع به نبي آخر كان في بعض القرى استقبله وسلم عليه فقال: إنك قد أدّيت رسالة ربك وإنك أمضيت أمره وإنك قد نصبت ولقيت عناء من هؤلاء القوم وأنت جائع عطشان تسيل دماؤك على جسدك وثيابك فاغد إلى منزلك فكل واشرب واسترح واغسل جسدك وثيابك فقال إن الله عزّ وجلّ لما أرسلني قد كان عهد إليّ أن لا آكل ولا أشرب ولا أستظل حتى أرجع إلى أهلي فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فإني من أهلك لأنني نبي مثلك وأخوك في الدين فلا أرى الله عزّ وجلّ عني بذلك إلا القوم الذين بعثك إليهم لأنهم أعداؤه فنهاك أن تأكل من طعامهم وتستظل عندهم ولا أحسب حرم عليك دخول منزلي ولا الأكل من طعامي لأني شريكك في الأخوّة والنبوّة قال: فصدقه وانصرف معه إلى منزله، فلما وضع الطعام بين يديه وأهوى ليأكل عن جوع شديد قد أضرّ به أوحى الله عزّ وجلّ إلى ذلك النبي الذي دعاه إلى منزله قل له: آثرت شهوتك وبطنك على أمري ألم أعهد إليك أن لا تنزل ولا تستظل ولا تأكل حتى ترجع إلى قريتك التي خرجت منها ولولا أنك اجتهدت برأيك وقلت بمبلغ علمك لعمكما العقاب وهو أقل عندي عذراً منك لأني عهدت إليه فآثر هواه شهوته وترك عهدي، فأخبره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أمر فوثب مذعوراً يجر إزاره وجعل يرحل أتانه ويعجل ولا يعقل ما هو فيه فركبها طارداً لها على وجهه لجوعه وعطشه ودماؤه على ثيابه وجسده لاينثني، فلما هبط عن عقبة تحتها غيضة عارضه سبع فافترسه وانتصب السبع مقعياً على قارعة الطريق يزأر يحرس أتانه ورحله كلما أقبل إنسان زأر الأسد عليه حتى يطرده فسمع بخبره ذاك النبي فأقبل نحوه فلما نظر إليه الأسد انصرف عنه وخلى بينه وبينه قال: فكفنه وواراه وانصرف برحله وأتانه إلى أهله، فقال: يارب عبدك هذا الذي بلغ رسالتك وأمضى أمرك وقد كان أجهده البلاء فخالف ماأردت فلم يعلم فعاقبته بهذه العقوبة فأوحى الله عزّ وجلّ إليه ليست هذه عقوبة ولم أفعل ذلك لهوانه عليّ ولكن هذه مغفرة ورحمة، إنه خالف أمري وكان قد اقترب أجله فكرهت له أن يلقاني على المخالفة فألقاه بما يكره فقيضت له كلباً من كلابي فطهره للقائي فكان ذلك له عندي شهادة ودرجة فوق نبوته فقال سبحانك وبحمدك أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين فالعالم عند العلماء من علم خير الخيرين، فسبق إليه قبل فوته وعلم شر الخيرين فأعرض عنه لئلا يشغله عن الأخير منهما وعلم أيضاً خير الشرين ففعله إذا اضطر إليه وابتلى به وعلم شر الشرين فأمعن في الهرب منه واحتجب بحجابين عنه وفي هذه المعاني دقائق العلوم وغرائب الفهوم وأدلة للسائلين وعبرة وآيات للعالمين فأما شر الشرين ومعرفة الخير من الشر فهو معروف بأدلة العقول وظاهر العلوم.(1/168)
الفصل السابع والعشرون
كتاب أساس المريدين
قال بعض العلماء: الخلق محجوبون بثلاث؛ حب الدرهم، وطلب الرياسة وطاعة النساء، وقال بعض العارفين: الذي قطع العباد عن الله عزّ وجلّ ثلاثة أشياء؛ قلة الصدق في الإرادة،، والجهل بالطريق، ونطق علماء السوء بالهوى، وقال بعض علمائنا: إذا كان المطلوب محجوباً والدليل مفقوداً والاختلاف موجوداً لم ينكشف الحق، وإذا لم ينكشف الحق تحير المريد، واعلم أن المريد لابدّ له من خصال سبع: الصدق في الإرادة وعلامته إعداد العدة ولا بدّ له من التسبب إلى الطاعة وعلامة ذلك هجر قرناء السوء ولا بدّ له من المعرفة بحال نفسه وعلامة ذلك استكشاف آفات النفس ولا بدّ له من مجالسة عالم بالله وعلامة ذلك إيثاره على ماسواه ولا بد له من توبة نصوح فبذلك يجد حلاوة الطاعة ويثبت على المداومة وعلامة التوبة قطع أسباب الهوى والزهد فيما كانت النفس راغبة فيه ولا بدّ له من طعمة حلال لا يذمّها العلم وعلامة ذلك الحلال المطالبة عنه وحلول العلم فيه يكون بسبب مباح وافق فيه حكم الشرع ولا بدّ له من قرين صالح يؤازره على ذلك وعلامة القرين الصالح معاونته على البر والتقوى ونهيه إياه عن الإثم والعدوان، فهذه الخصال السبع قوّت الإرادة لا قوام لها إلا بها ويستعين على هذه السبع بأربع هن أساس بنيانه وبها قوة أركانه؛ أوّلها الجوع، ثم السهر، ثم الصمت، ثم الخلوة، فهذه الأربع سجن النفس وضيقها وضرب النفس وتقييدها بهن يضعف صفاتها وعليهن تحسن معاملاتها ولكل واحدة من الأربع صنعة حسنة في القلب، فأما الجوع فإنه ينقص من دم القلب فيبيضّ وفي بياضه نوره ويذيب شحم الفؤاد وفي ذوبه رقته ورقته مفتاح كل خير لأن في القسوة مفتاح كل شر وإذا نقص دم القلب ضاق مسلك العدوّ منه لأن دم القلب مكانه فإذا رق القلب ضعف سلطان العدوّ منه لأن في غلظ القلب سلطانه والفلاسفة يقولون إن النفس كلية الدم وحجتهم في ذلك أن الإنسان إذا مات لم يفقد من جسمه إلا دمه مع روحه، والعلماء منهم قالوا: الدم هو مكان النفس وهذا هو الصحيح لأنه مواطئ لما في التوراة سمعت أن في التوراة مكتوباً: ياموسى لا تأكل العروق فإنها(1/169)
مأوى كل نفس وهذا مصدق للحديث الذي روي أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع والعطش، وقدعبر علماء الكوفة عن الدم بالنفس فقالوا: إذا مات في الماء من الهوام ماليس له نفس سائلة لم ينجس يعنون الخنافس والصراصر والعناكب، ففي الجوع نقصان الدم ونقصانه ضيق مسلك العدوّ وضعف مسكن النفس لسقوط مكانها، وفي خبر عن عيسى عليه السلام: يامعشر الحواريين جوّعوا بطونكم وعطشوا أكبادكم وأعروا أجسادكم لعل قلوبكم ترى الله عزّ وجلّ يعني بحقيقة الزهد وصفاء القلب، فالجوع مفتاح الزهد وباب الآخرة وفيه ذلّ النفس واستكانتها وضعفها وانكسارها وفي ذلك حياة القلب وصلاحه وأقل ما في الجوع إيثار الصمت وفي الصمت السلامة وهي غاية للعقلاء، وقال سهل رحمه الله: اجتمع الخير كله في هذه الأربع خصال، وبها صار الإبدال إبدالاً إخماص البطون والصمت والسهر والاعتزال عن الناس، وقال: من لم يصبر على الجوع والضر لم يتحقق بهذا الأمر وكان عبد الواحد بن زيد يحلف بالله ما تحول الصديقون صديقين إلا بالجوع والسهر فإنه ينير القلب ويجلوه وفي استنارته معاينة الغيب وفي جلائه صفاء اليقين فتدخل الاستنارة والجلاء على البياض والرقة فيصير القلب كأنه كوكب دريّ في مرآة مجلوة ويشهد الغيب بالغيب فيزهد في الفاني لما عاين من الباقي وتقل رغبته في عاجل حظوظ هواه لما أبصر من وبال العقاب ويرغب في الطاعات لمشاهدة الآخرة ورفيع الدرجات فيصير الآجل عاجلاً ويكون العاجل غائباً ويصير الغائب حاضراً والحاضر آفلاً يطلبه ويرغب فيه فلا يحب الآفل ولا يبتغيه ويطلب الآجل ويرغب فيه وينكشف له عوار الدار ويظهر له بواطن الأسرار ويزول عنه كامن الإغترار فهناك صار العبد مؤمناً حقاً بوصف حارثة الأنصاري إذ يقول: عزفت نفسي عن الدنيا وكأني أنظر إلى عرش ربي تعالى بارزاً وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون وإلى أهل النار يتعادون، وكذلك وصف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلب المؤن في قوله: القلوب أربعة؛ قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن وانجراد القلب بالزهد في الدنيا(1/170)
وتجرده من الهوى وسراجه الذي يزهر فيه هو نور اليقين به يبصر الغيب
وقال بعض علمائنا: من سهر أربعين ليلة خالصاً كوشف بملكوت السماء وكان يقول اجتمع الخير كله في أربع ذكر منها سهر الليل واعلم أن نوم العلماء عن غلبة المنام بعد طول السهر بالقيام مكاشفة لهم وشهود وتقريب لهم منه وورود ومن صفة الإبدال أن يكون أكلهم فاقة ونومهم غلبة وكلامهم ضرورة ومن سهر بالليل لأجل الحبيب لم يخالفه بالنهار فإنه أسهره بالليل في خدمته ودخل الحسن ذات يوم إلى السوق فسمع لغطهم وكثرة كلامهم فقال أظن ليل هؤلاء ليل سوء ما يقيلون وفي الخبر قيلوا فإن الشياطين لا تقيل واستعينوا على قيام الليل بقائلة النهار وقد قيل في قوله عزّ وجلّ: (وَاسْتعِينُوا بِالصَبْرِ وَالصَّلاَةِ) البقرة: 54 قيل بالصوم على قيام الليل وقيل: استعينوا بالجوع وصلاة الليل على مجاهدة النفس وقيل: استعينوا بالصبر والصلاة على اجتناب النهي. قال بعض علمائنا: من سهر أربعين ليلة خالصاً كوشف بملكوت السماء وكان يقول اجتمع الخير كله في أربع ذكر منها سهر الليل واعلم أن نوم العلماء عن غلبة المنام بعد طول السهر بالقيام مكاشفة لهم وشهود وتقريب لهم منه وورود ومن صفة الإبدال أن يكون أكلهم فاقة ونومهم غلبة وكلامهم ضرورة ومن سهر بالليل لأجل الحبيب لم يخالفه بالنهار فإنه أسهره بالليل في خدمته ودخل الحسن ذات يوم إلى السوق فسمع لغطهم وكثرة كلامهم فقال أظن ليل هؤلاء ليل سوء ما يقيلون وفي الخبر قيلوا فإن الشياطين لا تقيل واستعينوا على قيام الليل بقائلة النهار وقد قيل في قوله عزّ وجلّ: (وَاسْتعِينُوا بِالصَبْرِ وَالصَّلاَةِ) البقرة: 54 قيل بالصوم على قيام الليل وقيل: استعينوا بالجوع وصلاة الليل على مجاهدة النفس وقيل: استعينوا بالصبر والصلاة على اجتناب النهي.
وأما الصمت فإنه يلقح العقل ويعلم الورع ويجلب التقوى ويجعل الله عزّ وجلّ به للعبد بالتأويل الصحيح والعلم الرجيح مخرجاً ويوفقه بإيثار الصمت للقول السديد والعمل الرشيد، وقد قال بعض السلف: تعلمت الصمت بحصاة جعلتها في فمي ثلاثين سنة كنت إذا هممت بالكلمة تلجلج بها لساني فيسكت، وقال بعضهم: جعلت على نفسي بكل كلمة أتكلم بها فيما لا يعنيني صلاة ركعتين فسهل ذلكّ عليّ فجعلت على نفسي بكل كلمة صوم يوم فسهلّ عليّ فلم أنتهِ حتى جعلت على نفسي بكل كلمة أن أتصدق بدرهم فصعب ذلك فانتهيت، وقال عقبة بن عامر: يارسول الله فيم النجاة؟ قال: أملك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخبر الجامع المختصر: من سره أن يسلم فليلزم الصمت وأوصى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذاً بالصلاة والصيام وغير ذلك ثم قال في آخر وصيته: ألا أدلك على ماهو أملك لك من ذلك كله، هذا وأومأ بيده إلى لسانه فقلت: يارسول الله وإنا لمؤاخذون بما تتكلم به ألسنتنا فقال: ثكلتك أمك يامعاذ وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم إنك ماسكت فإنك سالم فإذا تكلمت فإنما هو لك أو عليك وقال عبد الله بن سفيان عن أبيه، قال: قلت يارسول الله أوصني بشيء في الإسلام لا أسأل عنه أحداً بعدك فقال: قل ربي الله ثم استقم قال: قلت فما أتقى بعد ذلك، وفي لفظ آخر ذلك وفي لفط آخر فأخبرني بأضر شيء عليّ فقال هذا وأومأ إلى لسانه، وفي الخبر لا يتقي العبد ربه تعالى حق تقاته حتى يخزن من لسانه.(1/171)
وفي الحديث لايصلح العبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه وقال ابن مسعود: ليس شيء أحق بطول سجن من لسان، وقال بعض السلف: فتشت الورع فما وجدت في شيء أقل منه في اللسان، وقال بعض العلماء: مااستقام لسان عبد إلا عرفت الصلاح في سائر عمله وما اختلف لسانه إلا عرفت الفساد في سائر عمله وقال بعض الحكماء: إذا كثر العقل قل الكلام، وإذا قل العقل كثر الكلام، وقال أحمد بن حنبل: علماء أهل الكلام زنادقة، وقال بعض هذه الطائفة: من تكلم فأحسن كثير ولكن الشأن فيمن يحسن أن يسكت، وقال ذو النون المصري: الخوف يقلق والحياء يسكت، وقال بعض العارفين: قد جزئ العلم على قسمين: نصفه سكوت ونصفه أن تدري أين تضعه، وقال الضحاك بن مزاحم: أدركتهم وما يتعلمون إلا الصمت والورع وهم اليوم يتعلمون الكلام، وقال الحسن عن أنس بن مالك: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أربع لا يصبن إلا بعجب الصمت وهو: أول العبادة، والتواضع، وذكر الله عزّ وجلّ، وقلة الشيء، وقال حماد بن زيد: قلت لأيوب: العلم اليوم أكثر أو فيما مضى؟ فقال: يابني الكلام اليوم أكثر والعلم فيما مضى كان أكثر وقيل: كانوا ينتفعون بصمت العلم مثل ما ينتفعون بكلامه، وقد قيل: من لم ينتفع بسكوت المتكلم لم ينتفع بكلامه، وقيل لبعض العلماء: فلان أعلم أم فلان؟ فقال فلان أعلم وفلان أكثر كلاماً ففرق بين العلم والكلام، وقيل لبعض علماء خراسان عند وفاته: دلنا على رجل نجلس إليه بعدك فقال لهم: فلان فذكر لهم رجلاً صموتاً متعبداً لا يعرف بكثير علم فقيل له: إن فلاناً ليس عنده من العلم ما يجيب عن كل ما نسأله عنه من العلم فقال: قد علمت، ولكن عنده من الورع مالا يتكلم بما لايعلم وكان الأعمش يقول: من الكلام كلام جوابه السكوت، وقال بعض السلف: الصمت زين العالم وستر الجاهل، وقال غيره: الصمت جوابه وفي الخبر: الصمت زين للعالم وشين للجاهل، وقال بعضهم: ليس شيء أشد على الشيطان من عالم حليم إن تكلم تكلم بعلم وإن سكت سكت بحلم، يقول الشيطان: انظروا إليه سكوته أشدُّ عليّ من كلامه، وقال بعض السلف: تعلّم الصمت كما تتعلّم الكلام، فإن يكن الكلام يهديك فإن الصمت يقيك ولك في الصمت خصلتان تدفع به جهل من هو أجهل منك وتعلم به علم من هو أعلم منك، وقال بعض العلماء: تعلم لاأدري ولا تتعلم أدري فإن قلت لاأدري علموك حتى تدري وإن قلت أدري سألوك حتى لا تدري، وقد قال العلماء: إذا أخطأ العالم قول أدري أصيبت مقاتله، وقال عيسى عليه السلام: الخير كله في ثلاثة: في الصمت، والكلام، والنظر، فمن لم يكن صمته تفكراً فهو في سهو، ومن لم يكن كلامه ذكراً فهو في لغو، ومن لم يكن نظره عبراً فهو في لهو، وقال بعضهم: يأتي على الناس زمان يكون أفضل أعمالهم النوم وأفضل علومهم الصمت يعني لفساد الأعمال ولاشتباه(1/172)
العلم، ويقول أيضاً مع ذلك: وأفضل أحوالهم الجوع لانتشار الحرام وغموض الحلال، وقال بعض العلماء: الصمت نوم العقل والنطق يقظته وكل يقظة تحتاج إلى نوم وما صمت عاقل قط إلا اجتمع عقله وحضر لبه، وفي وصية ابن عباس مجاهداً لا تتكلمن فيما لا يعنيك فإنه أسلم ولا آمن عليك الخطأ ولا تتكلّم فيما لايعنيك حتى ترى له موضعاً فرب متكلّم فيما يعنيه قد وضعه في غير موضعه فعنت، وقال بعض العلماء: يستبين ورع الرجل في منطقه وفي الخبر: من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه مات قلبه، ويقال: إذا قلّ الكلام كثر الصواب، وعن جماعة السلف: إن تسعة أعشار السلامة في الصمت، ويقال: كل كلمة من هزل أو مزح أو لغو يوقف العبد عليها خمس مواقف بتوبيخ وتقرير، أوّلها أن يقال له لم قلت كلمة كذا أكانت فيما يعنيك؟ والثانية هل نفعتك إذ قلتها؟ والثالثة هل ضرتك لو لم تقلها؟ والرابعة ألا سكت فربحت السلامة من عاقبتها؟ والخامسة هلا جعلت مكانها قول سبحان الله والحمد لله فغنمت ثوابها، ويقال ما من كلمة إلا وينشر لها ثلاثة دواوين: الديوان الأوّل لم، والثاني كيف، والثالث لمن، فإن نجا من الثلاث وإلا طال وقوفه للحساب، وقال الحسن: لسان المؤمن وراء قلبه إذا أراد أن يتكلم تفكر فإن كان له تكلم وإن كان عليه أمسك، وقلب المنافق على طرف لسانه أي كل شيء خطر بقلبه تكلم به ولا يتوقف ولا ينثني، وفي الخبر: من آفة العالم أن يكون الكلام أعجب إليه من الصمت
وفي الكلام تنميق وزيادة، وفي الصمت سلامة وغنم، وفي موعظة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله، والأخبار في الصمت وفي جميع ماذكرناه من المعاني تكثر ولم نقصد جمعها وأما الخلوة فإنها تفرغ القلب من الخلق وتجمع الهم بأمر الخالق وتقوّي العزم على الثبات إذ في مخالطة الناس وهن العزم وشتات الهم وضعف النية والخلوة تقل الأفكار في عاجل حظوظ النفس لفقد مشاهدتها بالأبصار لأن العين باب القلب ومنها يدخل آفاته وعندها توجد شهواته ولذاته، وقد قال بعض العلماء: من كثرت لحظاته دامت حسراته والخلوة تجلب أفكار الآخرة وتجدد الإهتمام بها لما شهد به الإيقان وتنسي ادّكار العباد وتواصل ذكر المعبود، والخلوة من أكبر العوافي، وذلك أنه قد جاء في الحديث: سلوا الله العافية فما أعطي عبد بعد اليقين أفضل من العافية، ثم قد روي في الخبر: العزلة عن الناس عافية، فدخل ذلك في معنى ماندب إليه من السؤال وفيما فضل بعد اليقين على جميع الأحوال ولا يكون المريد صادقاً حتى يجد في الخلوة من اللذة والحلاوة والمزيد ما لا يجده في الجماعة ويجد في السر من النشاط والقوة ما لا يجده في العلانية ويكون أنسه في الوحدة وروحه في الخلوة وأحسن أعماله في السر، ومثل الخلوة في الأحوال من المخالطة للناس مثل الخوف في المقامات من المحبة، الخوف يصلح لجميع العابدين(1/173)
والمحبة مزيد لأهلها المخصوصين كذلك الخلوة والانفراد يصلح لجميع المريدين والأنس بالناس مزيد لأهله خاصة من الأئمة العالمين إلا أن الخلوة تحتاج إلى عقل آخر والوحدة والانفراد يحتاج إلى إيمان ثان. ي الكلام تنميق وزيادة، وفي الصمت سلامة وغنم، وفي موعظة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله، والأخبار في الصمت وفي جميع ماذكرناه من المعاني تكثر ولم نقصد جمعها وأما الخلوة فإنها تفرغ القلب من الخلق وتجمع الهم بأمر الخالق وتقوّي العزم على الثبات إذ في مخالطة الناس وهن العزم وشتات الهم وضعف النية والخلوة تقل الأفكار في عاجل حظوظ النفس لفقد مشاهدتها بالأبصار لأن العين باب القلب ومنها يدخل آفاته وعندها توجد شهواته ولذاته، وقد قال بعض العلماء: من كثرت لحظاته دامت حسراته والخلوة تجلب أفكار الآخرة وتجدد الإهتمام بها لما شهد به الإيقان وتنسي ادّكار العباد وتواصل ذكر المعبود، والخلوة من أكبر العوافي، وذلك أنه قد جاء في الحديث: سلوا الله العافية فما أعطي عبد بعد اليقين أفضل من العافية، ثم قد روي في الخبر: العزلة عن الناس عافية، فدخل ذلك في معنى ماندب إليه من السؤال وفيما فضل بعد اليقين على جميع الأحوال ولا يكون المريد صادقاً حتى يجد في الخلوة من اللذة والحلاوة والمزيد ما لا يجده في الجماعة ويجد في السر من النشاط والقوة ما لا يجده في العلانية ويكون أنسه في الوحدة وروحه في الخلوة وأحسن أعماله في السر، ومثل الخلوة في الأحوال من المخالطة للناس مثل الخوف في المقامات من المحبة، الخوف يصلح لجميع العابدين والمحبة مزيد لأهلها المخصوصين كذلك الخلوة والانفراد يصلح لجميع المريدين والأنس بالناس مزيد لأهله خاصة من الأئمة العالمين إلا أن الخلوة تحتاج إلى عقل آخر والوحدة والانفراد يحتاج إلى إيمان ثان.
وقد روينا عن سفيان الثوري وعن بشر بن الحرث: إذا استوحشت من الوحدة واستأنست بالخلق لم آمن عليك الرياء، وكان أبو محمد يقول: اجتمع الخير كله في هذه الخصال الأربع وبها صار الإبدال إبدالاً: إخماص البطون، والصمت، واعتزال الخلق، وسهر الليل، وحدثت عن عبد العزيز عن سهل رحمه الله قال: مخالطة الولي للناس ذلّ وتفرّده عزّ وقلّ مارأيت وليّاً لله عزّ وجلّ إلا منفرداً، وقال بعض العارفين: الأنس بالوحدة علامة وجود الطريق فمن علامة صدق الإرادة بعد صحة التوبة وقوة العزم على الاستقامة إيثار هذه الأربع التي ذكرناه على أضدادها ووجود القلب عندها وانشراح الصدر بها وحسن الخلق معها لأن ضدها هو أبواب الدنيا ومفاتيح الغفلة وطرقات الهوى، من ذلك فإن في الشبع قسوة القلب وظلمته وفي ذلك قوّة صفات النفس وانتشار حظوظها وفي قوّتها وبسطها ضعف الإيمان وخمود أنواره وفي ضعف النفس وخمود طبعها قوة الإيمان واتساع شعاع أنوار اليقين وفي ذلك قرب العبد من القريب ومجالسته للحبيب والشبع مفتاح الرغبة في الدنيا، وقال بعض الصحابة: أول بدعة حدثت بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشبع إذ القوم لما شبعت بطونهم جمحت بهم شهواتهم.
وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يجوعون من غير إعواز أي مختارين لذلك، وقال ابن عمر: ماشبعت منذ قتل عثمان رضي الله عنه، وقال هذا في زمن الحجاج، وفي حديث أبي حجيفة لما تجشأ عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: اكفف عنا جشاءك فإن أطولكم شبعاً في الدنيا، أكثركم جوعاً في الآخرة، فقال: والله ما تمليت طعاماً من يومئذ إلى يومي هذا، وأرجو أن يعصمني الله عزّ وجلّ فيما بقي، ويستحب على هذا أن يكون جوع العبد في الدنيا أكثر من شبعه وهي علامة الأولياء، فمن كان له أكلة بين جوعتين إلى منتهاهما فجوعه حينئذ أكثر من شبعه، ومن كان له بعد جوعة بالغة شبعة متوسطة فقد اعتدل شبعه وأكله وجوعه، ومن أكل في يوم مرتين أو أكل من غير جوع ثم شبع فشبعه أكثر من جوعه، وهذا مكروه، وكل من أكل بعد الجوع، ورفع يده قبل الشبع فجوعه أكثر من شبعه وهذا أوسط الأحوال، وقال هشام عن الحسن: والله لقد أدركت أقواماً كانوا لا يشبعون يأكل أحدهم حتى إذا رد نفسه أمسك ذائباً ناحلاً مقبلاً على نية يعيش عمره كله ما طوى له ثوب قط ولا أمر أهله بصنعة طعام قط ولا جعل بينه وبين الأرض شيئاً قط، وقال جعفر بن حيان عن الحسن: المؤمن لا يأكل في كل بطنه، ولا تزال وصيته تحت جنبه.
وروينا عن الثوري: خصلتان تقسيان القلب؛ طول الشبع، وكثرة الكلام، وروينا عن(1/174)
مكحول خصال ثلاث يحبها الله عزّ وجلّ وثلاث يبغضها الله عزّ وجلّ، فأما اللاتي يحبها: فقلة الأكل، وقلة النوم، وقلة الكلام، وأما اللاتي يبغض: فكثرة الأكل، وكثرة الكلام، وكثرة النوم، فأما النوم فإن في مداومته طول الغفلة وقلة العقل ونقصان الفطنة وسهوة القلب، وفي هذه الأشياء الفوت وفي الفوت الحسرة بعد الموت، وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قالت أم سليمان بن داود لابنها: يابني لاتكثر النوم بالليل فإن كثرة النوم تترك العبد فقيراً يوم القيامة وقيل كان شبان يتعبدون في بني إسرائيل فكانوا إذا حضر عشاؤهم قام فيهم عالمهم فقال: يا معشر المريدين لا تأكلوا كثيراً فتشربوا كثيراً فترقدوا كثيراً فتخسروا كثيراً، وكان بعض السلف يقول: أدنى أحوال المؤمن: الأكل والنوم، وأفضل أحوال المنافق: الأكل والنوم، وقال بعض الناس لفيلسوف من الحكماء: صف لي شيئاً أستعمله حتى أكون أنام النهار، فقال: ياهذا ماأضعف عقلك إن نصف عمرك نوم والنوم من الموت، تريد أن تجعل ثلاثة أرباعه نوماً وربعه حياة؟ قال: وكيف؟ قال: أنت إذا عشت أربعين سنة فإنما هي عشرون سنة أفتريد أن تجعلها عشر سنين؟ وأما كثرة الكلام فإن فيه قلة الورع وعدم التقوى وطول الحساب وكثرة المطالبين وتعلق المظلومين وكثرة الأشهاد من الأملاك المكاتبين ودوام الإعراض من الملك الكريم، لأن الكلام مفتاح كبائر اللسان، فيه الكذب والغيبة والنميمة والبهتان، وفيه شهادة الزور، وفيه قذف المحصن والافتراء على الله تعالى والإيمان، وفيه القول فيما لايعني والخوض فيما لاينفع، وقد جاء في الخبر: أكثر خطايا ابن آدم في لسانه وأكثر الناس ذنوباً يوم القيامة أكثرهم خوضاً فيما لايعنيه، وفي اللسان التزين والتصنع للخلق والتحريف والإحالة لمعاني الصدق، وفيه المداهنة والمواراة والتملق لأهل الأهواء وفي اجتماع هذا على العبد شتات قلبه وفي شتاته تفريق همه، وفي تفريق همه سقوطه من مقام المقربين، وفي وصية ابن عباس لمجاهد لا تمارينّ حليماً ولا سفيهاً فإن الحليم يقلاك وإن السفيه يؤذيك، وفي الخبر: إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يلقي لها بالاً يهوي بها أبعد ما بين السماء والأرض، وفي لفظ آخر ليتكلم بها فيهوي في جهنم سبعين خريفاً، وقال لقمان لابنه: لأن تعيش أخرس يسيل لعابك على صدرك خير لك من أن تنطق في نادي القوم بما لايعنيك، وفي خبر: من افتتح بكلمة سوء ثم خاض الناس في مثلها كان عليه مثل أوزارهم، وفي الخبر: لايأتي بخير السوء إلا رجل السوء، وحدثونا عن إبراهيم بن أدهم أنه كان إذا صحبه رجل فجاء بخبر سوء فارقه، وروينا في الحديث: من حدث بما سمعت أذناه ورأت عيناه كتبه الله تعالى من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
وروينا عن علي رضي الله عنه: مذيع الفاحشة في الناس كفاعلها، وفي الخبر: إن بعض فقراء أهل الصفة استشهد في سبيل الله عزّ وجلّ فقالت أمه: هنيئاً لك في الجنة(1/175)
جاهدت في سبيل الله وهاجرت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقتلت شهيداً، طوبى لك الجنة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وما يدريك أنه في الجنة؟ فلعله كان يتكلم فيما لا ينفعه أو يبخل بما لا يضره وفي لفظ آخر: لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويبخل بما لايغنيه، وفي الخبر: إن بعض الصحابة قال لرجل إنه لنؤوم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اغتبتم أخاكم سلوه أن يستغفر لكم، وفي خبر آخر: إنهم قالوا ماأعجز فلاناً فقال: أكلتموه، وفي حديث عائشة رضي الله عنها، قالت لامرأة: ماأطول ذيلها وفي لفظ آخر قالت: إنها لقصيرة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اغتبتها وفي خبر آخر: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لها: لقد تكلمت بكلمة لو مزج بها ماء البحر لامتزج، فهذا من وصف المبالغة في الشدة، وفي الخبر الجامع لهذه المعاني في وصف الغيبة ما روي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قال في أخيه مافيه فقد اغتابه.
وفي حديث أبان عن أنس عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أشد من ذلك أنه قال الغيبة ما إن قلت في أخيك لم تزكه به فهذا نهاية القول من الشدة وغاية التشديد في الغيبة والغيبة اسم لغوي معناه شرعي مشتق من غيب الإنسان وفسرها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها أن يقول العبد في أخيه ما فيه وعظمها بقوله هي أشد من الزنا، فمتى قال العبد لأخيه في غيبته ما يعلمه يقيناً فيه مما لا يقوله بمحضره أو مما ينقصه به أو لا يزكيه فيه فقد اغتابه، فلو لم يكن في الصمت إلا السلامة من الغيبة لكان ذلك غنيمة موفورة، كيف وقد روي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا ثلاثة أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو ذكر الله عزّ وجلّ، وأما مخالطة الناس فإنها تضعف العزم الذي كان قوياً في أعمال البر وتحل العقد المبرم الذي استوطنه العبد في الخلوة لقلة المتعاونين على البر والتقوى وكثرة المتعاونين على الإثم والعدوان، وفي مخالطة الناس قوّة الطلب والحرص على عاجل الدنيا لما يعاين من إقبال أهلها عليه وفيه الفتور عن الخدمة بالنظر إلى أهل الغفلة والملل للطاعة بمجالسة أهل البطالة ونقصان حلاوة المعاملة وذهاب نور العلم وسرعة خروج الوجد بالفهم لاستماع كلام أهل الجهالة والنظر إلى الموتى من أبناء الدنيا كما روي عن عيسى عيه السلام: لا تجالسوا الموتى فتموت قلوبكم، قيل: ومن الموتى؟ قال: المحبون للدنيا الراغبون فيها، وقد كان الحسن يقول في قوله عزّ وجلّ: (وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلاَ الأمْوَاْتُ) فاطر: 22، قال: الفقراء والأغنياء كان الفقراء حيوا بذكر الله عزّ وجلّ والأغنياء ماتوا على الدنيا، وأعظم ما في مخالطة الناس ومجالسة أهل البطالة وذوي غفلتهم ضعف اليقين برؤيتهم، وأضر ما ابتلي به العبد وأعمله في هلاكه وأشده لحجبه وإبعاده ضعف يقينه بما وعد به بالغيب وتوعد عليه في الشهادة وهذا أخوف ما خافه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أمته فيما روينا عنه أنه قال: أخوف ماأخاف على أمتي ضعف اليقين، وذلك أن ضعف اليقين هو أصل الرغبة في الدنيا والحرص على التكاثر منها والتضرع إلى أبنائها والطمع فيهم، كما قال ابن مسعود: إن الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه فيرجع إلى بيته وما معه من دينه(1/176)
شيء يلقى هذا فيقول: إنك لذيت وذيت ويلقى هذا فيقول أنت كيت وكيت ولعله لا يخلى منهم بشيء ويرجع إلى بيته وقد أسخط الله عزّ وجلّ، وقد قال بعض التابعين: إن العبد ليقعد في الخلوة على خصال من الخير فيخرج إلى الناس فيحللون ما عقده عقدة عقدة حتى يرجع وقد انحلت العقد كلها، وقوّة اليقين أصل كل عمل صالح لأن في قوّة يقينه سرعة منقلبه وطول مثواه في دار إقامته إيثار التقلل من الفاني وتقديمه للباقي وضعف حرصه وقلة طلبه وفقد طمعه وفراغه من الاشتغال بعاجله وإقباله وشغله بما ندب إليه من مستقره، وفي جميع ذلك إخلاصه في أعماله وحقيقة زهده في تصرف أحواله وفي قصر أمله وتحسين عمله، ألم تسمع إلى وصف من أخبر الله عزّ وجلّ عنه بالتكاثر الذي ألهاه حتى زار برزخه ومثواه كيف تهدده حتى يعلم يقيناً وتوعده إذا رأى آخرته عياناً فقال سبحانه: (ألْهَاكُمُ التَّكاثُرُ) التكاثر: 1 أي شغلكم الجمع للمكاثرة حتى حللتم القبور، ثم قال: (كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ) التكاثر: 5 أي لشغلكم العمل الصالح للآخرة عن اللعب واللهو الذي هو مقتضى الشك إذ هو ضد اليقين فاشتغلتم بالآخرة عن التكاثر من الدنيا كما شغلكم التكاثر باللهو واللعب لعدم علم اليقين، كما قال: (أبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إنّا مُوقِنونَ) السجدة: 12بعد أن قال: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍ يَلْعَبُون) الدخان: 9 ثم ثوعدهم على ذلك مرتين وتهددهم بالسؤال عن النعيم الذي شغلهم وهو التكاثر في فضول العاجل وقيل: هو الجمع والمنع، فاعلم أن الذي قطع العباد عن التوبة وعرج بالتائبين عن الاستقامة ثلاثة أشياء: الكسب، والإنفاق، والجمع، وهذه الأسباب متعلقة بالخلق وموجودة بوجودهم ومفقودة بالانفراد عنهم فمن زهد في هذه الثلاثة فقد زهد في الخلق ومن رغب في الخلق فقد رغب في هذه الثلاث، وقال الثوري: من خالط الناس داراهم ومن داراهم راياهم ومن راياهم وقع فيما وقعوا فهلك كما هلكوا، وقد قال بعض هذه الطائفة
من الصالحين: قلت لبعض الأبدال المنقطعين عن الخلق: كيف الطريق إلى التحقيق؟ وقال مرة قلت له دلني على عمل أعمله أجد فيه قلبي مع الله تعالى في كل وقت مع الدوام فقال: لاتنظر إلى الخلق فإن النظر إليهم ظلمة قلت: لا بدّ لي من ذلك، قال فلا تسمع كلامهم فإن كلامهم قسوة قلت لا بدّ لي من ذلك، قال فلا تعاملهم فإن معاملتهم وحشة، قلت: أنا بين أظهرهم لا بدّ من معاملتهم، قال: فلا تسكن إليهم فإن السكون إليهم هلكة، قلت: هذه العلة فقال: ياهذا أتنظر إلى الغافلين وتسمع كلام الجاهلين وتعامل البطالين وتريد أن تجد قلبك مع الله عزّ وجلّ على الدوام هذا ما لايكون، وقد جاء في فضل العزلة والانفراد وفي فضل الصمت، وفي جميع ماذكرناه من الجوع والسهر ومن مكابدة الليل ما يكثر جمعه فيما نبهنا عليه وأشرنا إليه بلاغ وغنية لمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن ولمن أريد بالمعاملة والمتاجرة ولا حول ولا قوّة إلا بالله. من الصالحين: قلت لبعض الأبدال المنقطعين عن الخلق: كيف الطريق إلى التحقيق؟ وقال مرة قلت له دلني على عمل أعمله أجد فيه قلبي مع الله تعالى في كل وقت مع الدوام فقال: لاتنظر إلى الخلق فإن النظر إليهم ظلمة قلت: لا بدّ لي من ذلك، قال فلا تسمع كلامهم فإن كلامهم قسوة قلت لا بدّ لي من ذلك، قال فلا تعاملهم فإن معاملتهم وحشة، قلت: أنا بين أظهرهم لا بدّ من معاملتهم، قال: فلا تسكن إليهم فإن السكون إليهم هلكة، قلت: هذه العلة فقال: ياهذا أتنظر إلى الغافلين وتسمع كلام الجاهلين وتعامل البطالين وتريد أن تجد قلبك مع الله عزّ وجلّ على الدوام هذا ما لايكون، وقد جاء في فضل العزلة والانفراد وفي فضل الصمت، وفي جميع ماذكرناه من الجوع والسهر ومن مكابدة الليل ما يكثر جمعه فيما نبهنا عليه وأشرنا إليه بلاغ وغنية لمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن ولمن أريد بالمعاملة والمتاجرة ولا حول ولا قوّة إلا بالله.(1/177)
الفصل الثامن والعشرون
كتاب مراقبة المقربين ومقامات الموقنين
ذكر المقام الأول من المراقبة
العبد إذا قوي يقينه علم علم يقين أن أوقاته هذه التي وكل تربيته إليها وجعل سبب نمائه وحياته منها وهي مكررة عليه في البرزخ ومردودة إليه يوم القيامة ومعادة عليه في الجنة إن دخلها ليس يجازى هناك إلا بمقدار ما أعطي من المعاملة ههنا، ولا يعطي ثم إلا بقدر ما وفق ههنا، لا يُسأل إلا عن أوقاته، ولا يحاسب إلا بساعاته، ولا يجازى إلا عليها ولا ترد عليه أوقات غيره، كما لا يعاد هو في صورة غيره ولا يعطى جزاء سواه كما لم يعامل ههنا معاملة سواه ولكن الله يُبْدئ ويعيد، فيمن ذلك قوله تعالى: (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) الأعراف: 92 وقال تعالى: (أفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجرِمِينَ) القلم35 (كِتَابٌ أنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَاْرَكٌ لِيَدَّبروا آيَاتِهِ) ص: 29 من تدبره: (أمْ نَجْعَلُ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أمْ نَجْعَلُ المُتَّقِيْنَ كَالفُجَّارِ) ص: 28 أي تدبروا آياته هل ترون جزاء هؤلاء لوصف هؤلاء أم هل تجدون وصف هؤلاء له جزاء أو لا ومثله قوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَاِنيِّ أهْلِ الْكِتَابِ) النساء: 123 فنفى أمانيهم بليس وأنبت حكمه بلكن وهي مضمرة في الكلام المعني لكن من يعمل سوءاً يجزيه، وفسره رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال المؤمن يجزى بسيئته في الدنيا من المصائب والجوع والعري، والمنافق تبقى ذنوبه عليه حتى يوفي يوم القيامة كأنه حمار يجازى بها في الآخرة، وكان الحسن يقول: عباد اللَّه، اتقوا هذه الأماني، فإنها أودية النوكى يحلون فيها، واللَّه ما أتى عبد اللَّه بأمنيته خيراً من دنياه ولا آخرته، وقال بعض العلماء: كلما قل العقل كثرت الأماني، وكتب بعض السلف إلى بعض إخوانه من أبناء الد نيا يعظه: أخبرني عن هذا الذي تكدح فيه وتحرص عليه من أمر الدنيا هل بلغت فيه ما تريد وأدركت ما تتمنى؟ فقال: لا واللَّه، فقال: أرأيتك هذا الذي أنت حريص عليه لم تنل منه ما تريد فكيف تنال من الآخرة وقد أعرضت عنها وصرفت عنها فما أراك تضرب إلا في حديد بارد، وقال بعض العلماء: من ظن أنه يدخل الجنة بغير عمل فهو متمن ومن قال أدخلها بعمل فهو متعن، وقال بعضهم: الأماني تنقص العقل، وفي الخبر: ليس الإيمان بالتحلَّي ولا بالتمني ولكن ما(1/178)
وقر في القلب وصدقه العمل ومن هذا قول اللَّه عزّ وجلّ: (هَلْ جَزآءُ الإحْسَانِ إلاَّ الإحْسَانُ) الرحمن: 60 وقال في ضده: (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَة فَلاَ يُجْزَى إلاَّ مِثْلَهَا) غافر: 40 وقال في معناه: (أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ) التوبة: 16 وكذلك قوله تعالى: (أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأتِكُمْ مَثَلُ الَّذينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلكُمْ) البقرة: 214 وقال في مثله: (أمْ حَسِتَ الَْذينَ اجتْرَحُوا السَّيِّئاتِ أنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّاِلحَاتِ) الجاثية: 21 ثم قال: (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) العنكبوت: 4 فأبطل حسبانهم وأدحض حكمهم ثم أحكم ماعنده بقوله: (سَوَاء مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) الجاثية: 21 أي هم كما كانوا في المحيا محسنين يعملون الصالحات كانت لهم الحسنى في الممات وكما كانوا في المحيا مفسدين يعملون السيئات كانت لهم السوأى والمكروهات، وقيل: كانت هذه الآية مبكاة للعابدين لأنها محكمة غير متشابهة، وكذلك جميع ما ذكرناه من نظائرها هو من المحكم الذي هو أم الكتاب غير منسوخ ولا متشابه، وهذه الآي من عزائم القرآن وهو من أحسن ما أنزل علينا من ربنا الذي أمر اللَّه سبحانه وتعالى باتباعه ووصف أهل الهدى وأولي الألباب باستماعه في قوله تعالى: (الَّذينَ يَسْتَمِعونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَةُ) الزمر: 18 قيل عزائمه ووعيده، وقد قيل في قوله تعالى: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسبُونَ) الزمر: 47 قبل الرجاء الخائب بالإغترار والظن الكاذب، وقيل: عملوا أعمالاً ظنوا أنها حسنات فوجدوها عند المحاسبة سيئات، والصحيح ما صح بعد الحساب والحق ماثقل عند الميزان كما قال تعالى: (وَالوَزْنُ يَوْمَئِذِ الحَقَّ) الأعراف: 8 قيل: العلم والعمل، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ)
الأعراف: 52 ثم قال: (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمَ بِعِلْمٍ) الأعراف: 7 ثم قال تعالى: (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهمْ مَا كَانُوا بهِ يَسْتَهْزِءُونَ) الزمر: 48 قيل: كانوا يقدمون الذنب ويؤخرون التوبة ويسوفون بالمغفرة، وكانت هذه الآية محزنة للخائفين ومخافة للعارفين وقد أخبر اللَّه سبحانه وتعالى أنه أعد النار للكافرين ثم أمر المؤمنين باتقائها ثم وصف الكافرين فيها وخوف عباده بها فقال تعالى: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتي أُعِدَّتْ لِلْكَاِفرين) آل عمران: 131 وقال سبحانه: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النِّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذِلكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) الزمر: 16 ويقال: إن العبد يستحق النار بأول معصية عصى مولاه بها بعد المعرفة ثم هو بعد ذلك في المشيئة وإن في كل عبد خصلة كريهة يخاف عليه منها وكان عبد الواحد ابن زيد يقول: ما صح خوف خائف قط ظن أنه لا يدخل النار وما صدق خوف من ظن أنه يدخل النار فظن أنه يخرج منها أي أن حقيقة الخوف خشية دخول النار ثم الخلود فيها، وقد روينا مثل ذلك عن الحسن وقد ذكر له الرجل الذي يخرج من النار بعد ألف عام فبكى ثم قال: ياليتني مثل ذلك الرجل، وروي عن رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قال إني في الجنة فهو في النار ومن قال: إني عالم فهو جاهل، وروي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(1/179)
من أراد أن يعلم كيف منزلته من اللَّه تعالى فلينظر كيف منزلة اللَّه في قلبه، فإن اللَّه ينزل العبد منه بحسب ما أنزله من نفسه.
ذكر المقام الثاني من المراقبة
ثم يعلم العبد يقيناً أن لكل عمل صالح نعيماً في الجنة وروحاً في البرزخ ولك عمل حسن ومعرفة خالصة مقاماً في الجنة، وقد قسم جزء هناك لعطاء معاملة ههنا وأن لكل عمل سيء وجهل قبيح عذاباً في الآخرة وكرباً في البرزخ ومقاماً من النار قد قسم جزء هناك لعمل ههنا ثم قد أخفى اللَّه ذلك الجزء من الخير والشر وأظهر أعمالهما للحمكين وأبان لهما طريقين يجريان إلى دارين بن حكمة منه ثم قدم المعاملات من المعنيين وأخر المثوبات من النوعين إحكاماً منه للأفعال واستسعاء للعبد بالأعمال ابتلاء منه لتجزي كل نفس بما تسعى منة منه ورحمة وقدرة منه ومحبة لا يسئل عما يفعل لأنه ملك قهار عزيز جبار وهم يسئلون لأنهم عبيد مقهرون وذلل مجبورون ولا تضرب لهم الأمثال لأنه قد جاوز الإحتجاج والاعتدال ولا يسوى بالعبيد لأنه قد فات التقدير والتحديد فله الحجة والقدرة النافذة في كل شيء ليس كمثله شيء في جميع ذلك كله، وقد أحكم اللَّه تعالى ما ذكرناه في توحيد نفسه بالمشيئة والأفعال ونهيه عن الشرك به وضرب الأمثال وعجب ممن يسوي بينه وبين خلقه في الأحكام وجعل ذلك جحود النعمة وشركاً في ملكه وأخبر به عن المشركين وإضلالهم أتباعهم بعد ضلالهم المبين وإضلالهم بتسويتهم بينه وبين عباده في الأحكام في قوله تعالى: (قَالُوا وَهُمْ فيهَا يَخْتَصمُون) (تَاللَّه إنْ كُنَّا لَفي ضَلالٍ مُبين) (إذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمين) (وَمَا أَضَلَّنَا إلاَّ الْمُجْرِمُونَ) الشعراء: 96، 97، 98، 99، قيل: أنزلت في القدرية لأنهم أضافوا الحول والقوَّة في الشر إلى الخلق فسوّوا بينهم وبين الخالق، وقد قال اللَّه تعالى: (وَاللَّه خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلْونَ) الصافات: 96 فأضاف الأعمال إلى أنه خلقها كخلقه إياهم فهم المجرمون الذين أنزلت فيهم هذه الآية التي ذكر فيها القدرية فوصفوا بإنكارهم في قوله تعالى: (إنَّ الْمُجْرِمينَ في ضَلالٍ وَسُعُرٍ) (يَوّْمَ يُسْحَبُونَ في النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) (إنّا كُلَّ شَيء خَلَقْنَاهُ بِقدَرٍ) القمر: 47، 48، 49 هم المجرمون الذين أضلوا أتباعهم وهم الغاوون الذين كبكبوا في النار مع أشياعهم وقد أحكم الله تعالى تفضيل ما ذكرناه آنفاً في خمس آيات محكمات تنظم جمل معاني ما ذكرناه تركنا شرح ذلك وبسطه خشية الإطالة لأنا لم نقصد الإحتجاج في الاستدلال من ذلك قوله تعالى: (وَاللَّه فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضِ في الرّزْقِ) النحل: 71 يعني: فضل الموالي على العبيد فماالذين فضلوا يعني الموالي برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة اللَّه يجحدون، والآية الثانية قوله تعالى: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلكَتْ أَيْمَانُكُم مِنْ شُرَكَاء في مَا رَزَقْنَاكُم فَأَنْتُمْ فيهِ سَوَآءٌ)(1/180)
الروم: 28 أي: فكذلك أنا لا شريك لي من عبيدي فلا تجعلوا لي ما لم أجعل أحد لا خلقي ولا عبيدي عليكم إذ لم أسوِّ بينكم وبين عبيدكم فلا تشركوا عبيدي في حكمي، والثالثة قوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّه مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لاَ يَقْدِرُ عَلى شَيء) النحل: 75 يعني: الإنفاق، ومن رزقناه منا رزقاً حسناً فهو ينفق منه فجعلهما على وصفين أحدهما بخيل لم يقدره على الإنفاق ثم ذم بالبخل والعجز وهو الذي أعجزه ومنعه وجعل الآخر جواداً إذا قدره وأعطاه الإنفاق ثم مدحه بالجود، وقال في الآية الرابعة: (وَضَرَبَ اللَّه مَثَلاً رَجُلَينْ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلى شيءٍ) النحل: 76 هو الحكمة والعلم ثم قال: (هَلْ يَسْتَوي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْل) النحل: 76 فجعل له عبدين: أحدهما سفيه جاهل أبكم عن الحكمة ولم يقدره على علم ولم يعطه استقامة ثم ذمه بوصفه ومقته لمنعه وجعل الآخر آمراً بالعدل عن أمره مستقيماً على صراطه المستقيم الذي هو عليه وهو أقامه كما قال: (هذا صراط علي مستقيم) فهل يسلك أحد طريقه إلا به وهل يجوز عبد على سبيله إلا بحوله ثم مدحه بإعطائه إياه ووصفه بوصفه ثم علم سبحانه أن للعقل في هذا تشبيهاً وتمثيلاً بخلقه وتجويزاً وتظليماً من خالقه على قياس العقول، إن من فعل بعبدين له مثل هذا ثم مدح أحدهما وهو أعطاه وأقدره وذم الآخر وهو الذي منعه وأعجزه أنه قد ظلمه فحسم ذلك عزّوجلّ بنهيه
وأحكم النهي عن التمثيل به في الآية الخامسة الفاصلة القاضية التي نهانا فيها أن نضرب له بنا الأمثال مثل ما أجرى علينا من الأفعال، فقال سبحانه وتعالى: (فَلاَ تَضْرِبُوا للَّه الأَمْثَالَ إنَّ اللَّه يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا َ تَعْلَمُونَ) النحل: 74 فوكد ذلك بتحقيق علمه وغاية جهلنا ثم أيد هذا بقوله سبحانه: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) فسلم الراسخون في العلم الأحكام كلها للحاكم فسلموا من عذابه وآمن المؤمنون بجميع الأقدار أنها عدل وحكمة من حاكم عادل حكيم فأمنوا من عقابه لأنهم آمنوا بالمتشابه وأعطاهم بفضله من فضله جزيل ثوابه فهلك الزائغون بالأقاويل تتبعاً للشبهات وابتغاء للتأويل فوقعوا في الضلال وهلكوا غداً في المآل. كم النهي عن التمثيل به في الآية الخامسة الفاصلة القاضية التي نهانا فيها أن نضرب له بنا الأمثال مثل ما أجرى علينا من الأفعال، فقال سبحانه وتعالى: (فَلاَ تَضْرِبُوا للَّه الأَمْثَالَ إنَّ اللَّه يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا َ تَعْلَمُونَ) النحل: 74 فوكد ذلك بتحقيق علمه وغاية جهلنا ثم أيد هذا بقوله سبحانه: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) فسلم الراسخون في العلم الأحكام كلها للحاكم فسلموا من عذابه وآمن المؤمنون بجميع الأقدار أنها عدل وحكمة من حاكم عادل حكيم فأمنوا من عقابه لأنهم آمنوا بالمتشابه وأعطاهم بفضله من فضله جزيل ثوابه فهلك الزائغون بالأقاويل تتبعاً للشبهات وابتغاء للتأويل فوقعوا في الضلال وهلكوا غداً في المآل.
وقد روى الضحاك عن ابن عباس تصديق ما ذكرناه قبيل قوله عزّوجلّ: (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنُهمْ جُزْءٌ مَقْسُوْمٌ) الحجر: 44 قال ابن عباس: طبق أسفل من طبق سبع دركات على قدر أعمالهم كذلك يقتسمون الدركات بقدرما اجترموا كما اقتسم أهل الجنة الدرجات بالفضائل لكل باب منهم جزء مقسوم يعني نصيباً معلوماً مفروضاً لكل طبقة سكان، وقال بعض العلماء: تاللَّه ما في الجنة قصر ولا نهر ولا نعيم إلا عليه اسم صاحبه مكتوب واسم ذلك العمل الذي هو جزاؤه مكتوب وكذلك جهنم ما فيها غل ولا قيد ولاشعب ولاعذاب إلا وعليه وصف ذلك العمل الذي هو جزاؤه واسم صاحبه مكتوب،(1/181)
وقال: قد أدخلهم الجنة قبل أن يطيعوه وأدخلهم النار قبل أن يعصوه، وقال بعض العارفين أيضاً: الخالق أهون من أن يعصوه عزّوجلّ بما لم يردوا للَّه أعز من أن يرضيه إلا من أحب لكنه غضب على قوم في العدم فلما أظهرهم استملهم بأعمال أهل الغضب ليحلهم دار الغضب ورضي عن قوم في القدم فلما أظهرهم استعملهم بأعمال أهل الرضا ليحلّهم دار الرضا، وقال بعض أهل المعرفة: أظهر الخلق في العدم وأوجدهم سبعاً إياهم اقتداراً ثم أظهر لهم أعمالهم وخيرهم الأعمال منه اختياراً فاختار كل عبد منهم عملاً بعينه ثم طوى الأعمال فيهم وطواهم في الغيب فلما أظهرهم الآن في الوجود حجبهم بالعقول وأجرى كل عبد منهم اختياره لنفسه فبذلك وقعت الحجة عليهم إذا كشف لهم غداً ما حجبه عنهم اليوم وحدثت عن بعض هذه الطائفة قال: كان قد بقي في نفسي شيء من القدر وكنت أستكشفه من العلماء فلا ينكشف حتى قيض اللَّه تعالى لي بعض الأبدال فاستكشفته إياه فقال: ويحك ما تصنع بالاحتجاج نحن يكشف لنا عن سر الملكوت فننظر إلى الطاعات تنزل صوراً من السماء حتى تقع على جوارح قوم فتتحرك الجوارح بها وننظر إلى المعاصي صوراً مصورة تنزل من السماء فتقع على جوارح قوم فتتحرك بها، قال: فكشف عن قلبي القدر وأوقع لي العلم بمشاهدة القدرة وكنت أنا مرة خاطبت بعض إخواننا في شيء من الاستطاعة مع الفعل لا أنه قبله ولا بعده فتكلمت في ذلك بمذهب المثبتة من أهل الكلام قبل أن يكشف لي بمشاهدة علم اليقين فرأيت في النوم كأنّ قائلاً يقول: القدر من القدرة، والقدرة صفة القادر، فيقع القدر على الحركة ولا يتبين فتظهر الأفعال من الجوارح، أوَ قال فتتحرك الجوارح بالأفعال ولا تتبين فكيف يتكلم في شيء لا يتبين فجعلت على نفسي أني لا أناظر أحداً منهم بعد ذلك في شيء من هذا الباب، وقد حدثونا عن بعض العابدين قال: صليت من السحر ركعتين ثم غفوت بعدهما فرأيت قصراً عالياً ذا شرف بيض كأنها الكواكب فاستحسنته فقلت لمن هذا القصر؟ قيل لي: هذا ثواب هاتين الركعتين ففرحت فجعلت أطوف حوله فرأيت شرافة من ركنه قد وقعت فشانه ذلك فاغتممت وقلت: لو كانت هذه الشرافة في أعلاه في هذا الموضع لتم حسن هذا القصر فإن ثلمها قد شانه فقال لي غلام هناك: قد كانت هذه الشرافة في مكانها من القصر إلا أنك التفتّ في صلاتك فسقطت، وحدثونا عن بعض الزهاد أنه كوشف مقامه من الجنة فرأى الحور العين وقلن نحن أزواجك، فلما خرجت تعلقت بي الحور وقلن: ننشدك اللَّه إلا ماحسنت أعمالك فإنك(1/182)
كلما حسنتها ازددنا لك حسناً وازددت بنا نعيماً، وحدثونا عن رابعة العدوية رحمها الله تعالى قالت: سبحت ذات ليلة تسبيحات من السحر ثم نمت فرأيت شجرة خضرة نضرة لا توصف عظماً وحسناً وإذا عليها ثلاثة أنواع من الثمر لا أعرفه من ثمار الدنيا كثدي الأبكار ثمرة بيضاء وثمرة حمراء وثمرة صفراء، فهن يلمعن كالأقمار والشموس في خلال خضرة الشجرقالت: فاستحسنتها فقلت: لمن هذه؟ فقال لي قائل: هذه لك بتسبيحاتك آنفاً، قالت: فجعلت أطوف حولها فإذا تحتها ثمرة منتشرة على الأرض في لون الذهب فقلت: لو كانت هذه الثمرة مع هذه الثمار على هذه الشجرة لكان أحسن فقال لي الشخص: كانت هناك إلا أنك حين سبحت تفكرت هل اختمر العجين أم لا فانتثرت هذه الثمرة فهذه عبرة لأولي الأبصار ومواعظ لأهل التقوى والأذكار.
ذكر المقام الثالث من المراقبة
روي أن كعب الأحبار قال لعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: لو لقيت اللَّه تعالى بعمل سبعين نبياً لخشيت أنك لا تنجو من هول ذلك اليوم، وقال بعض السلف: لو أن العبد كان يجر على وجهه من أول الدنيا إلى قيام الساعة في طاعة اللَّه وعبادته لاحتقره يوم القيامة لما يرى من الزلازل والأهوال، وفي الحديث: معالجة ملك الموت أشد من ألف ضربة بالسيف وإن ألم شعرة من الموت لو وضع على جميع الخلائق لماتوا وإن بين الخلائق وبين الموت وبين دخول الجنة مائة ألف هول كل هول منها يزيد على ألم الموت مائة ألف ضعف لا ينجو العبد من كل هول منها إلا برحمة فيحتاج العبد إلى مائة ألف رحمة تنجيه من تلك الأهوال يكون ذلك العدد من الرحمة مقسوماً على مائة ألف حسنة أعطيها من حسناته في الدنيا التي أحسن بها إليه يكون مكاناً لظهور الرحمة وطريقاً لعطائها غداً حكمة من الحكيم وقسماً مدبراً من الرحيم لأن الصالحات طرق الجزاء والحسنات كلها عن الرحمة الواحدة التي سبقت له بها النجاة ثم سقطت في طرقات الأعمال أماكن الثواب فيعطى ذلك ههنا اليوم وهوالعطاء الأول يحسن توفيقه ولطف عنايته ويعطى الجزاء هناك غداً بفضل رحمته وتمام نعمته ذلك تقدير العزيز العليم كما قال تعالى: (هَلْ جَزَاءُالإحْسِانِ إلاَّ الإحْسَانُ) الرحمن: 60 قيل في الخبر: ما جزاء من أنعمنا عليه بالتوحيد إلا الجنة، وقال بعض العلماء: وليس لقول لا إله إلا اللَّه جزاء إلا النظر لوجه اللَّه تعالى والجنة جزاء الأعمال ألم ترَ أنه لو حرم التوحيد اليوم لحرم الجنة ولو منع الإسلام اليوم لم يغفر اللَّّّه له أبداً كما قال عزّ وجل: (إنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ باللَّه فَقَدّْ حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِ الجَنَّة) المائدة: 72 وقال: (إنَّ الَّذينَ كَفَرُوا وَصَدّوا عَنْ سَبيِل اللَّه ثَمْ مَاْتُوا وهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يغفرَ اللُّه لَهُم) محمد: 34 فهذا مما لاحيلة فيه ولا سبيل إليه، وقد قال: (هُوَ أهْلُ التَقْوَى وَأهْلُ المَغْفِرَةِ) المدثر: 56 قيل: هو أهل أن يعطى التقوى ومن أعطاه التقوى فهو أهل أن يعطيه المغفرة(1/183)
كقوله تعالى: (وَأَلزَمَهُمْ كِلَمَةَ التَّقْوى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) الفتح: 26 وقال: (وَاتَّقُوا اللَّه لَعَلَّكُمّْ تُرْحَمُونَ) الحجرات: 10 وقال: (إنَّ رَحّْمَةَ اللَّه قَريبٌ مِنَ المُحْسِنينَ) الأعراف: 56 وقال سبحانه تماماً على الذي أحسن وقال تعالى: (وَسَنَزيدُ الْمُحْسنينَ) البقرة: 58، إلى قوله ماعلى المحسنين من سبيل، وقال تعالى: (وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فيهَا حُسْناً) الشورى: 23، فمن كانت أعماله الحسنات فهو من المحسنين ومن كانت أعماله سيئة فهو من المسيئين فاشتقاق الحسنة من الحسن وجزاؤها الحسنى وهي الجنة واشتقاق السيئة من السوء وجزاؤها السوأى وهي النار وقدسبق خلقهما قبل خلق الخلائق وفرغ من نصيب العباد من الجنة والنار وسئل رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإحسان فقال: أن تعبد اللَّّه كأنك تراه، فهذا أول المراقبة لأنها عن غير المشاهدة ترى الرقيب ثم تراقب، وقد خص اللَّه تعالى بالطيبّات من الأعمال الطيَّبين من العمال وابتلى بالخبيثات من الأعمال الخبيثين من العمال وفرغ من ذلك بعلمه وقدره بحكمه وأخفاه بلطفه فقال تعالى: (الْخَبيثَاتُ للْخَبيثينَ) النور: 26 قيل الخبيثات من الأفعال والأقوال للخبثين من الرجال، وقال: (الطَىِّبَاتُ للِطَّيِبينَ) النور: 26 وقيل: الطيِّبات من الأعمال والمقال للطيِّبين من الرجال، ثم أخبر بحسن خاتمة أوليائه وسوء خاتمة أعدائه فقال تعالى: (الَّذينَ تَتَوَفّاهُمُ الْملائِكَةُ طَيبّينَ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) النحل: 32، قيل: طابت حياتهم فطابت وفاتهم وطابت أعمالهم فطاب الموت لهم، وقال في وصف الظالمين: (الَّذينَ تَتوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالمِي أنْفُسِهِمْ) النحل: 28 قالوا: فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض قالوا: ألم تكن أرض اللَّه واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً أظلمت حياتهم وأعمالهم فأظلمت قبوررهم ومثواهم فمن شهد ما ذكرناه يقيناً دامت مراقبته وحسنت معاملته فاتصلت أوراده وكثر من الخير ازدياده ونفدت مشاهدته لصفاء يقينه ودوام مزيده فكان
ممن ندب اللَّه عزّ وجلّ في قوله تعالى: (لِمثِْلِ هذَا فَلْيَعمَلِ الْعَامِلُونَ) الصافات: 61 وفي ذلك فليتنافس المتنافسون وكان ممن وصف إذ يقول: (يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاِت وَهُمْ لَهَا سَابِقُون) المؤمنون: 61 أي يسارعون الموت ويسابقون الفوت ويسارعون الغافلين ويسابقون البطالين ولعل بطالاً من الشاطحين جاهلاً بحكمة الحكيم يتوهم علينا بظنه أنَّا نقول إنه لا يعطي إلا شيئاً بشيء ولسنا نقول ذلك إنما نقول إنه يعطي شيئين بلا شيء، فهو المعطي الأول للشيء الذي هوالظرف والمكان من العبادة والإيمان وهو الذي يعطي الشيء الذي هو النعيم والجنان إلا أنه أجرى ذلك بتقديره في مجاري حكمته كما سبق ذلك في علمه ثم أنشأه في معلومه لأنه حكيم عليم. ندب اللَّه عزّ وجلّ في قوله تعالى: (لِمثِْلِ هذَا فَلْيَعمَلِ الْعَامِلُونَ) الصافات: 61 وفي ذلك فليتنافس المتنافسون وكان ممن وصف إذ يقول: (يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاِت وَهُمْ لَهَا سَابِقُون) المؤمنون: 61 أي يسارعون الموت ويسابقون الفوت ويسارعون الغافلين ويسابقون البطالين ولعل بطالاً من الشاطحين جاهلاً بحكمة الحكيم يتوهم علينا بظنه أنَّا نقول إنه لا يعطي إلا شيئاً بشيء ولسنا نقول ذلك إنما نقول إنه يعطي شيئين بلا شيء، فهو المعطي الأول للشيء الذي هوالظرف والمكان من العبادة والإيمان وهو الذي يعطي الشيء الذي هو النعيم والجنان إلا أنه أجرى ذلك بتقديره في مجاري حكمته كما سبق ذلك في علمه ثم أنشأه في معلومه لأنه حكيم عليم.
ذكر المقام الرابع من مراقبة الموقنين
ثم يعلم العبد يقيناً أنه تنشر له سنوه في الآخرة شهوراً وتبسط شهوره أياماً وتفترش أيامه ساعات وتكشف ساعاته أنفاساً ثم يسأل عن كل نفس وينشر له بكل فعلة فعلها وإن(1/184)
صغرت ثلاثة دواوين: الأول لم فعلت وهذا مكان الابتلاء بالأحكام فإن سلم له نشر له، الديوان الثاني وهو كيف فعلت وهو موضع المطالبة بصحة العلم فإن صح له هذا نشر عليه، الديوان الثالث وهولمن فعلت وهذا مكان المطالبة في الإخلاص فإن اعتل بكيف أو بلم أو بلمن خيف عليه الهلكة إلا أن يتعطف عليه الكريم المنَّان بحيث لا يحتسب فيستنقذه ويسمج له وقد قال تعالى: (وَإنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدلٍ أَتَيْنَا بِهَا) الأنبياء: 47 أي جئنا بها أي أحضرناها وقرئت بالمد آتينا بها بمعنى جازينا بها، وقال عزّوجلَّ: (فَمْنَ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهٌُ) الزلزال: 7 - 8 وقيل: هذه أحكم آية في كتاب اللَّه عزّ وجلّ وهي مجملة مبهمة عامة، وكان رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سئل عن شيء لم يوح إليه فيه بشيء يقول: ما عندي فيه إلا هذه الآية الجامعة الفاذة، فمن يعمل مثقال ذرة الآية، ولما تعلم صعصعة جد الفرزدق من أسفل القرآن إلى هذه السوة قال: حسبي حسبي قد عرفت الخير والشر فقال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انصرف الرجل فقيهاً وقيل الذرة قشرة الهباء الذي يظهر في شعاع الشمس مثل رؤس الإبر.
وروي عن ابن عباس أنه قال إذا وضعت كفك على التراب ثم رفعتها فكل شيء تعلق بها من التراب فهو ذرة، وقد قيل أربع ذرات خردلة، وذكر بعض العلماء أن الذرة جزء من ألف جزء من شعيرة، ففي الأعمال مايزن هذا الشبح ومايثقل به هذا الخفاء، فلذلك أخبر به الخبير وحذر منه الرؤوف وفي معنى ما ذكرنا آنفاً من حسب أنه يدخل الجنة بعمل فهو متعن ومن حسب أنه يدخلها بغير عمل فهو متمن يعني أنه ينبغي أن يعمل ما عليه ولا ينظر إليه ثم يتوكل في ذلك على اللَّه عزّوجلّ ويرجو قبوله بكرمه ويخاف رده بعدله ولذلك مدح اللَّه سبحانه وتعالى عباده الصابرين له المتوكلين في أعمالهم عليه فأنعم أجرهم فقال: (نِِعمَ أجْر العَامِلِينَ) (الَّذينَ صبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون) العنكبوت: 58 - 59 فالمزيد في الجنة بفضل اللَّه ورحمته هو تأبيد جزاء المعاملة الموهوبة اليوم ودوام خلود العامل في تأبيد جزائه ألم تسمع قوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتَرِفَ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً) الشورى: 23 مع قوله: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) إلى قوله: (فَأوُلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعفِ بِمَا عَمِلُوُا) سبأ: 37 ومثله (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) الأنعام: 132 ونحوه: (أوُلَئِكَ يُؤْتُونَ أجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالحَسَنِةَ السَّيِّئةَ) القصص: 54 أي وبما يدرؤون بالحسنة الحديثة السيئة القديمة فلما استعملهم في الدنيا بعملين بالصبر وبدرء السيئة الماضية بالحسنة المستأنفة أعطاهم في الآخرة أجرين، وهذا من الكلام المحذوف الموجز فمحذوفه وبما يدرأون أي وبما يدفعون أيضاً فلما حذفت بما أشكل الكلام فأشبهت(1/185)
الواو واو النسق ومؤخره السيئة والمعنى يدفعون السيئة التي تقدمت منهم بالحسنة التي يعملونها بعدها فتكون الحسنة المستقبلة رافعة لعقاب السيئة الفارطة منهم ومن أحسن الصبر: الصبرعلى المصيبة ومن أحسن الحسنات: التوبة النصوح بعد ماسلف من الذنوب والفضوح فكأنهم قد عملوا عملين صبروا عن الشهوة ودفعوا بالتوبة ما سلف من السيئة فأعطاهم أجرين لما استعملهم بعملين إذ لا صبر إلا به ولا توبة لهم إلا منه كما قال تعالى: (وَمَا صبَرُكَ إلاَّ بِاللَّهِ) النحل: 127 وقال: (تَوْبَةً مًنَ اللَّهِ) النساء: 92 وليس من العبد أو إليه فيما من اللَّه وإلا كان مشركاً في اسم أوّل، ومن أحسن الحسنات مراقبة الرقيب عند خطرات القلوب ومن أفضل القربات محاسبة النفس للحسيب واستجابتها بطاعة الحبيب وكذلك حكمته في مزيد أهل النار ودركات بعضهم على بعض في العتوّ والفساد فقال تعالى: (إنَّ الَّذينَ كَفَرُوا وَصَدَّوا عَنْ سَبيلِ اللَّه) النساء: 167 زدناهم عذاباً فوق العذاب أي زدناهم عذاباً فوق عذاب الذين كفروا ولم يصدوا عن سبيل اللَّه وبمعناه قوله تعالى: (إنَّ الَّذينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لم يَكُنِ اللَّه لِيغْفَرَ لَُهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَريقاً) النساء: 168 فلم يغفر لهم بكفرهم ولم ينوِّر لهم طريق الهداية بظلمهم، وكذلك قال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الظلم ظلمات يوم القيامة ومثل ذلك قوله تعالى: (إنَّ الَّذينَ فَتَنُوا المؤمنين والْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَريقِ) البروج: 10 فصار عليهم عذابان: عذاب جهنم بما لم يتوبوا وعذاب الحريق بما فتنوا المؤمنين، ومثله قوله تعالى: (فَلاَ تُعجِبْكَ أمْوَالُهُمْ وَلاَ أوْلادُهُمْ إنَّمَا يُريدُ اللَّه لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحَياة الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَاِفرُون) التوبة: 55 أي يريد أن يعذبهم بها في الدنيا ويريد أيضاً أن تزهق أنفسهم على الكفر ليعذبهم بها في الآخرة وهذا نص صريح: إن اللَّه تعالى يريد الكفر من الكافر لأن تزهق انتصب بالعطف على يريد الأول والواو فيه للجمع وقد قيل إن في هذه الآية تقديماً وتأخيراً فيكون المعنى: ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الدنيا إنما يريد اللَّه ليعذبهم في الآخرة فأراد أن يجمع العذابين عليهم في جهنم: أحدهما الأموال والأولاد، والثاني لإرادته تعالى أن تخرج نفوسهم على الكفر فمن لا مال له ولا ولد له منهم كان عليه عذاب واحد في جهنم لأجل قوله تعالى: بها أي بسببها، وهذا مواصل للخبر الذي جاء أن
فقراء الكفار يدخلون النار بعد أغنيائهم بخمسمائة عام لأجل الفقر الذي كانوا فيه في الدنيا كما أن الفقراء من المؤمنين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام لأجل غنى أولئك. اء الكفار يدخلون النار بعد أغنيائهم بخمسمائة عام لأجل الفقر الذي كانوا فيه في الدنيا كما أن الفقراء من المؤمنين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام لأجل غنى أولئك.
وفي الخبر أيضاً وتدخل المرضى إلى الجنة قبل الأصحّاء بأربعين خريفاً ويدخل المقتول في سبيل الله مقبلاً قبل المقتول في اللَّه مدبراً بأربعين خريفاً وتدخل المماليك قبل الموالي بأربعين خريفاً ويدخل سليمان بن داود الجنة بعد الأنبياء بأربعين خريفاً(1/186)
لمكان ملكه فالحسرة العظمى والفوات الأكبر الذي لا درك له وهو تأبيد حرمان ما أعطي غيرك من المزيد هناك لفوت أوقاتك في الدنيا ههنا ثم درك ذلك بأوقاته العامرة ههنا تأبيد مزيد جزائه ثم وهذا هو التغابن؛ غبن العاملون البطالين وغبن السابقون المخلفين وغبن المسارعون المثبطين ثم خلود العبد البطال المغبون في الدنيا في تأبيد حرمان مزيد الغابن العامل ومن هذا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما من ساعة تأتي على ابن آدم لا يذكر اللََّه تعالى فيها إلا كانت عليه حسرة وان دخل الجنة، وفي لفظ آخر، وهو أشد إلا كانت عليه ترة يوم القيامة أي مطالبة ومؤاخذة، فالحسرة في الجنة بعد دخولها والظفر بنعيمها هو ما ذكرناه من حرمان مزيد العاملين فيها ثم دوام الحرمان مؤبد بها وهو كون العبد في نقصان درجة غيره ثم هو مخلد في النقصان سرمداً ومع ذلك فلا يؤبه له ولا يفطن به كيلا ينقص عليه نعيمه والطرفة والنفس إذا خلتا من اليقظة والذكر فيهما بمنزلة الساعة الخالية إلا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص على الساعة ولم يذكر ما دونها لأن اسم الساعة أقل الزمان المستعمل عند العرب ليواطىء بقوله قول اللَّه سبحانه وتعالى: (فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولاَ يَسْتَقّْدِمُونَ) الأعراف: 34 ومعلوم أنه إذا جاء الأجل لا يستأخرون نفساً ولا طرفة عين وكذلك لا يستقدمون طرفة ولانفساً، فذكرت الساعة دون ما نقص منها لئلا يخرج الكلام عن حد استعمالهم وعرفهم وليستدل بها على ما دونها في القلة من النفس والطرفة، وكذلك دل رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنصه على الساعة على ما دونها لأن حكمته من حكمة مولاه وكلامه على معاني كلامه وقد دخلت الساعة فما دونهافي الأيام التي قال اللَّه تعالى: (كُلُوا وَاشرَبُوا هَنيئاً بِمَا أسْلَفْتُمْ في الأَيَّامِ الْخَاِليَةِ) الحاقة: 24 قيل: هي واللَّه أيامكم هذه وستخلو فأشغلوها بالأعمال الصالحة قبل خلوّها منكم وانقضائها عنكم، وكان الحسن يقول: يا ابن آدم إنما أنت مراحل كلما مضى منك يوم أو ليلة قطعت مرحلة فإذا فنيت المراحل بلغت المنزل إلى الجنة أو النار، فالساعات تنقلنا والأيام تطوينا، وكما قال بعض الحكماء: مثل العبد في عمره مثل رجل في سفينة تسير وهو قاعد كذلك العبد يدنو من الآخرة وهو غافل ويقال: إن العبد تعرض عليه ساعاته في اليوم والليلة فيراها خزائن مصفوفة أربعة وعشرين خزانة فيرى في كل خزانة نعيماً ولذة وعطاء وجزاء لما كان أودع خزانته من ساعاته في الدنيا من الحسنات فيسره ذلك ويغتبط به، فإذا مرت به في الدنيا ساعة لم يذكر الله تعالى فيها رآها في الآخرة خزائن فرغاً لا عطاء فيها ولا جزاء عليها فيسوءه ذلك ويتحسر كيف فاته أن لم يدخر فيها شيئاً فيرى جزاءه مدخراً ثم يلقى في نفسه الرضا والسكون فلو لم يتحسر العبد إلا على فوت الفضائل والمندوب إليه من الخيرات لكان في فوت المسابقة والمسارعة حسرات فكيف بمن فاته أوقاته في السيئات وفرطت منه في الخسارات ولو لم يشتغل العبد في عمره إلا بالحلال(1/187)
والمباحات لكان ذلك نقصاناً من الدرجات له فكيف بمن شغل بالمحظورات؟ فسبحان اللَّه ما أعظم الخطر وأصعب الأمر وأقل المشاهدين لذلك وأغفل البطالين، وقد قال بعض العلماء: هب أن المسيء قد غفر له، أليس قد فاته ثواب المحسنين، وقد جاء في الأثر أن بعض أهل الجنة بيناهم في نعيم إذ سطع لهم نور من فوقهم أضاءت منه منازلهم كما تضيء الشمس لأهل الدنيا فنظروا إلى رجال من فوقهم أهل عليين يرونهم كما يرى الكوكب الدري في أفق السماء قد فضلوا عليهم في الأنوار والنعيم والجمال كما فضل القمر على سائر الكواكب فينظرون إليهم يطيرون على نجب تسرح بهم في الهواء حيث شاؤوا ويتزاورون بعضهم بعضاً يزورون ذا الجلال والإكرام فينادون هؤلاء: يا إخواننا ما أنصفتمونا، كنا نصلَّي كماتصلون ونصوم كما تصومون فما هذا الذي فضلتم به علينا؟ قال: فإذا النداء من اللَّه عزّ وجلّ إنهم كانوا يجوعون حين تشبعون ويعطشون
حين تروون ويعرون حين تكتسون ويبكون حين تضحكون ويقومون حين تنامون ويخافون حين تأمنون فلذلك فضلواعليكم اليوم، فذلك قوله تعالى: (فَلا تَعْلَمُ نَفّْسٌ مَا أُخِفْي َ لَهُمْ مِنْ قُرَّة أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانوا بَعْمَلُون) السجدة: 17، وقد جاء في الخبر: أكثر أهل الجنة البله وعليون لذوي الألباب. ن تروون ويعرون حين تكتسون ويبكون حين تضحكون ويقومون حين تنامون ويخافون حين تأمنون فلذلك فضلواعليكم اليوم، فذلك قوله تعالى: (فَلا تَعْلَمُ نَفّْسٌ مَا أُخِفْي َ لَهُمْ مِنْ قُرَّة أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانوا بَعْمَلُون) السجدة: 17، وقد جاء في الخبر: أكثر أهل الجنة البله وعليون لذوي الألباب.
ذكر المقام الخامس من مراقبة الموقنين من المقربين
قال اللَّه تعالى مخوفاً للكافة: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال: رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت) ثم أجابه فقال: كلا وحقق قوله تعالى فقال: (إنَّهَا كَلِمَةٌ هوَ قَاِئلُهَا) المؤمنون: 100 ثم نهى المؤمنين نهياً صريحاً عن مثل هذه الحال وأخبر بنقصان من فعل ذلك فقال: (يَا أيُّهَا الَّذينَ آمنَوا لاَ تُلْهِكُمْ أمْوَالُكُمْ ولاَ أوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) المنافقون: 9 أي لا تشغلكم عن الطاعة اللَّه تعالى ثم قال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فأُولَئِكَ هُمُ الخاَسِرُونَ) المنافقون: 17 أي المغبونون المنقوصون في الآخرة لأنهم آثروا المال والولد على الخالق الرازق ثم أمر بالإنفاق مما رزق وقرنه بالإيمان وأخبر أنه استخلفنا في ملكه اختباراً لنا فقال: (آمِنُوا باللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسّْتَخلَفِينَ فِيهِ) الحديد: 7 فيه فسمع الغافلون نصف الكلام فآمنوا ولم ينفقواوعقل العاملون كل الكلام فآمنوا وأنفقوا ومايعقلها إلا العالمون، وقال سبحانه: (وَأنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِي أحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتِنَي إلَى أجَلٍ قَرِيبٍ فَأصّدَّقَ وَأكُنْ مِنَ الصَّالحيَنَ) المنافقون: 10 أي بالأعمال وكان ابن عباس يقول: هذه الآية من أشد شيء على أهل التوحيد لأنه لا يتمنّى التأخير والرجوع إلى الدنيا أحد له عند اللَّه خير في الآخرة،(1/188)
ومثل هذا قوله سبحانه: (أنْ تَقُولَ نَفسُ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْب اللَّه) الزمر: 56 الحسرة هي أعظم الندامة وهي اسم لفوت شيء لا تدارك فيه فرطت أي ضيعت وونيت وفرط مني أي ذهب وفات وجنب اللَّه قيل: على ما فاتني من الجزاء منه في الآخرة وقيل: ما فات من النصيب في أيام الدنيا إلى قوله أو تقول حين ترى العذاب: (لَوْ أنَّ لِي كَرَّةً) الزمر: 58 يعني إلى الدنيا عودة أخرى (فَأكُونَ مِنَ المُحْسِنينَ) الزمر: 58، وقوله أن تقول نفس من الكلام المضمر المعطوف ومضمره من قبل أن تقول أو خشية أن تقول ومعطوفه هو قوله: (وَأنيبُوا إلَى رَبِّكُمْ وَأسْلِمُوا لَهُ) الزمر: 54، أي اقبلوا إليه وتوبوا واستسلموا وسلموا قلوبكم ونفوسكم وأموالكم في طاعته وعبادته (وَاتَّبِعُوا أحسَنَ مَا أُنْزِلَ إليّكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) الزمر: 55، أي اتبعوا العزائم من الأمور والفواضل من الأعمال فهو أحسن من الرخص والمباحات مثل الزهد والورع والخوف والإيقان فهذا من أحسن ما أنزل إلينا من ربنا ثم قال تعالى: (أنْ تَقُولَ نَفّْسٌ يَا حَسْرَتى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) الزمر: 56، فلما طال الكلام وأضمر معطوفه وبعد عاطفه للاختصار أشكل فهمه، وفي القرآن ما هو أشد اختصاراً وأبعد من هذا إضماراً كقوله تعالى: (فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بالدّينِ) التين: 7، المعنى: فما الذي يحملك على التكذيب أيها الإنسان الذي خلقناه في أحسن تقويم بعد هذا البيان والبرهان بالدين بالغائبات والكائنات من أمور الدين والحسنات والجزاء ثم أحكم ذلك بردّه إليه فقال: (ألَيْسَ اللُّّّّه بِأحّكَمِ الحَاكِمينْ) التين: 8 وكذلك قوله: (وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا) القصص: 77، المعنى: لا تترك أن تعمل في الدنيا بأيامك هذه فتدرك نصيبك غداً من الآخرة في الدنيا فإنك لا تدكه إلا فيها ثم أحكمه بقوله: (وَأَحْسِنْ كَمَا أحْسَنَ اللَّهُ إليْك) القصص: 77، أي أحسن إلى نفسك وإلى إخوانك الفقراء كالذي أحسن إليك به من المال والغنى، فبذلك تدرك نصيبك من الدنيا في الآخرة، ثم أخبر اللَّه سبحانه الكل وحذرهم فقال: (حَتَّى إذَا جَاءَتْهُمُ السًّاعةُ بَغّتَةً قالوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا َفَرَّطْنَا فِيهَا) الأنعام: 31، أي: يا ندامتنا على ما ضيعنا في الدنيا وفاتنا في الآخرة، وفي الخبر: لا يموت أحد إلا بحسرة وندامة إن كان مسيئاً كيف لم يحسن وإن كان محسناً كيف لم يزدد وذلك أن اللًّه تعالى جعل أهل السلامة والنجاة طبقتين بعضهم أعلى من بعض وجعل أهل الهلكة طبقة واحدة بعضهم أسفل من بعض فكان صاحب الشمال يتحسر كيف لم يكن من أصحاب اليمين لقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهينَةٌُ) (إلاّ أصْحَابَ اليَمينِ) المدثر: 38 - 39 وصاحب اليمين يتحسر كيف لم يكن من المقربين
والصالح من المقربين يتمنّى أن يكون من الشهداء والشهيد يوّد أنه من الصديقين فهو يوم الحسرة الذي أنذر به أهل الغفلة فكيف بهم في ذلك اليوم إذا كانوا اليوم أمواتاً ولم يكن له حسنة فإني لهم النذارة والتذكرة كما قال: (وَأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفلَةٍ) مريم: 93، وقد قال: (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيَّاً) يس: 07، كما قال: ((1/189)
إنَّما أنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا) النازعات: 54 (إنَّمَاْ تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِاْلغَيْبِ) ، وقال تعالى: (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَديدٌ) ق: 22، يعني إلى ماقدمت وقيل حديد إلى لسان الميزان تخاف النقصان وقال تعالى: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بالْحَقِّ) ق: 91 قيل بالسابقة لهم وعليهم فهو الحق سبقت لهم منا الحسنى حقت عليهم كلمة ربك لايؤمنون وسقط ما دونها وقد قيل إنما يوزن من الأعمال خواتيمها والخواتم من السوابق وما بينهما زاهق والوزن يومئذ الحق ما سبق من العدل والصدق وتمت كلمة ربك صدقاً لأوليائه وعدلاً على أعدائه ألا له الخلق والأمر.
ذكر المقام السادس من مشاهدة المقربين
الخيرات هي من ثمرات الإيمان، والصالحات هي مقتضى اليقين، واللعب مقتضى الشك، والسمع والبصر وصفان للمتقين، والعمى والصمم وصفان للشك، تنتظم هذه المعاني في قول الله تعالى: (قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمُ بِهِ إيمَانُكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤمِنينَ) البقرة: 93فدل أن الإيمان يأمر المؤمنين بالبر والتقوى وقوله تعالى مخبراً عمن أيقن فسمع وأبصر فينال العمل الصالح: (رَبَّنَا أبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إنَّا مُوقِنُون) السجدة: 12قوله تعالى في وصف اللاعبين: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍ يَلْعَبُونَ) الدخان: 9، ثم ذكر حالهم لعدم اليقين فقال تعالى: (مَا كَانُوا يَسْتَطيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ) هود: 20 لأنهم لم يكونوا موقنين، فلما جاءهم اليقين وهو المعاينة أبصروا وسمعوا فقالوا: وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فوصفهم بشدة السمع والبصر حينئذ لما أيقنوا فقال عزّ وجلّ: (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا) مريم: 38أي ما أسمعهم وأبصرهم اليوم لما جاؤونا فرأوا ما عندنا وهذا للمبالغة في الوصف كما تقول: أكرم وأعظم به أي: ما أكرمه وأعظمه، فكذلك إذا أتيته اليوم وأنت موقن سمعت مالم تسمع وأبصرت ما لم ترَ قبل ذلك ولكن شغلتك الأزواج التي خلق والأشكال والأشباه التي أظهر فتألهت إليها ووقفت معها ولو فررت منها إلى الله تعالى لفررت إلى خير مفر ولأواك عنده في أحسن مقر وقد أمرك بالفرار منها إليه لو قبلت ونهاك عن التأله إليها لو سمعت وبين لك النذارة لو فهمت وجعل ما خلق من الأزواج تذكرة به ولو عرفت ورادة إليه لو أنك للذكر اتبعت ومشوقة إليه لوكنت لقربه أحببت أما سمعته يقول: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلّكُمْ تَذَكَّرُونَ) الذاريات: 49 أي مثلين وشكلين لكي تذكروا الله بها وتشتاقوا إليه منها ثم قال: (فَفِرُّوا إلى اللهِ) الذاريات: 50 أي عنها بالزهد ثم قال: (وَلاَ تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إلهاً آخَرَ) الذاريات: 51 أي لا تؤلهوا معه إلهاً ولا تشركوا بتألهكم إليه إياها فهذا فهم المقربين عن سمعهم بشهادة أبصار قلوبهم فعندها كان استجابتهم له كما قال: إنما يستجيب الذين يسمعون وقال: (وَيَسْتَجِيبُ الذَّينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) الشورى: 26 ولكن(1/190)
كيف يسمع من ينادي من مكان بعيد وكيف يبصر من القفل على قلبه عتيد وكيف يستجيب من لا يسمع وكيف يشهد من لا يبصر وقد قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حبك للشيء يعمي ويصمّ، فالهوى يعمي عن الحق والشهوة تصم عن النصح والصدق، وكذلك لو أحببته لنظرت إليه ولو نظرت إليه لعميت عمن سواه ولو أقبلت عليه لاستمعت إليه ولو سمعت لصممت عن غيره ولو أحبك لكان سمعك وبصرك وقلبك ويدك وناصرك ومؤيدك تدعوه فيجيبك وتسأله فيعطيك وتنصح له فينصح لك، كذلك جاء الخبر بذلك فشغلك به عنك وفرغك له منك فكيف تسمع عنه وتنظر إليه وتتقلب عنده وتتحرك به لا بنفسك وهواك ولا بشهوتك ودنياك فهذا وصف حبيب عن تقلب حبيب وخبر محبوب عن تثبيت محبوب فإذا تيقن العبد يقين عين لا يقين ظن وسمع بما ذكرناه من سرعة فوت الوقت وفوت دركه شغله الغم والحزن على مافات عن مثل ما سلف مما ندم عليه في مستقبل الأوقات فلم يضم إلى الفوت الأوّل فوتاً ثانياً لحزنه وندمه عليه فكيف يردفه في الحال بما يشبه ما ندم عليه من سوء الأعمال وما لا يحمد عاقبته ولا يغتبط به في المال، فمثل العبد المتيقظ في آخر غفلته مثل عبد كان عليه عمل لا بد أن يعمله في يومه ذلك إلا أنه لهي عنه لغفلة ملهية أو نومة منسية فلم يفق لعمله ذلك الذي لا بد منه إلا بعد العصر فلا يسأل عن حرصه وانكماشه وتشهيره وبداره في بقية نهاره ليدرك به ما فاته من أوّل النهار فهو يود أن وقته ذلك إلى الليل مدّ له أضعافه أو ردّ إلى أوّل النهار ليدرك ما فاته فهذا حال التائب المتيقظ من رقدته وهذا لا يستبين له إلا بعد الموت لمعاينة تقضي الأوقات ولليقين بعدم درك مافات، فهناك وقعت الندامة الكبرى وحينئذ حلت الحسرة العظمى، فالحزم عند العقلاء الموقنين هو الانكماش والتشمير فيما بقي من العمر القصير لأن الاشتغال بما فات في وقت درك مثله في المستقبل هو إضاعة ثانية لما هو آت، فحرص هذا المتيقظ واجتهاده
أن يكون له في كل وقت وقت ومن كل ساعة نصيب فأودع في كل خزانة من ساعاته التي هي خزائن أعماله شيئاً فشيئاً لئلا يرى خزائنه فارغة غداً فيتحسر على فراغه منها وهذا طريق أهل الرجاء الذين تمنوا زيادة الأعمال ورغبوا في طول البقاء بحسن خدمة المولى وهو مقام التائب المستقيم ليتدارك بحديث الأوقات ما فرط منه من الغفلة في القديم، فهذا هو الحزم والاحتياط عند العلماء فإن يكن الأمر صعباً شديداً كما يحدث عنه كان قد سلم بحسن توفيق الله تعالى من صعوبته وإن كان الأمر سهلاً قريباً كما يرجوه كانت الأعمال درجات والفضائل مقامات. يكون له في كل وقت وقت ومن كل ساعة نصيب فأودع في كل خزانة من ساعاته التي هي خزائن أعماله شيئاً فشيئاً لئلا يرى خزائنه فارغة غداً فيتحسر على فراغه منها وهذا طريق أهل الرجاء الذين تمنوا زيادة الأعمال ورغبوا في طول البقاء بحسن خدمة المولى وهو مقام التائب المستقيم ليتدارك بحديث الأوقات ما فرط منه من الغفلة في القديم، فهذا هو الحزم والاحتياط عند العلماء فإن يكن الأمر صعباً شديداً كما يحدث عنه كان قد سلم بحسن توفيق الله تعالى من صعوبته وإن كان الأمر سهلاً قريباً كما يرجوه كانت الأعمال درجات والفضائل مقامات.
ذكر المقام السابع من مشاهدة الموقنين
اعلم أن ما ذكرناه من تدارك الأوقات خوف فوتها ليس هو بتمني مكان دون مكان ولا هو بانتظار وقت ثان الذي هو في الأصل فكر الوقت الذي هو فيه ولا توقع حال(1/191)
سوى الحال الذي هو يليه إنما هو صوم يوم أو قيام ليلة أو ذكر في ساعة أو جمع هم عن شتات قلب أو قطع لأثر في خطر ويكون ذلك أيضاً غض طرفه وصون سمعه وكف يده وحبس قدمه وصمتاً عن كلمة دنية وترك لقمة شهية ونقصاناً من قوت وزيادة جوع للمقيت وأمراً بكلمة رشيدة ونهياً عن فعلة دنية وعقد نية حميدة وحل نية ذميمة وتجديد توبة وإعمال قلب في فكرة وإخراج سوء ظن واعتقاد حسن ظن واستقامة وصحة عزم في قصد وتسبباً إلى ما يقوي العزم ومعونة على برّ وتقوى؛ وهذا كله يكون في الوقت ويحدثه في الحال لا يسوف به ولا ينتظر منه ولا يتوقعه في وقت ثانٍ ولا يؤخر إلى زمان دون وقته ولا يتربص به في مكان دون مكان فهذا هو التدارك للأوقات في وقتك الذي أنت فيه خشية فوت الوقت فيحصل على التسويف والتمني أو في الانتظار والتراخي؛ فهذه من جنود إبليس يقطع بها المريدين وهو مقام المغترين وأحوال البطالين الذين وكلوا إلى أنفسهم وتركوا مع هواهم ولم يتداركوا في أحوالهم ولم يقدموا لغدهم نسوا الله فنسيهم والوقت إذا انقضى فقد، ولم يوجد إلى يوم القضاء والساعة إذا مرت طويت فلم تنشر إلى يوم النشور وإنما ينشر مثلها ويخلق شبهها فإذا أيقن العقد علم أن عمره كله يوم وأن يومه كله ساعة وأن ساعته كلها وقته الآن وأن وقته حاله وأن حاله قلبه فأخذ من حاله لقلبه ما يقرّبه إلى مقلبه بنهاية عمله، فعمل أفضل ما دل علمه عليه وما ندبه مولاه إليه ومما يجب أن يفجأه عليه فيكون ذلك خاتمة عمله الذي يلقى مولاه به ثم أخذ من وقته لحاله ما يصلح حاله لقلبه ويقوي قلبه ويخلصه لربه وأخذ من ساعته لوقته ما يزين به حاله عند ربه وأخذ من يومه لساعته صلاحه فيها وحاجته إليها وأخذ من شهره ليومه فكان شهره يومه وكان يومه ساعته فشغله وقته عن ساعته وشغله حاله عن وقته فكان على هذا مراعياً لوقته محافظاً على حاله قائماً على نفسه جامعاً لهمه محصياً لأنفاسه مراقباً لرقيبه مجالساً لحبيبه لا يخرج عنه نفس في أدنى وقت إلافي ذكر لمذكور أو شكر على نعمة لمنعم أو صبر في محبة عتيدة أو رضا عند شدة شديدة ويكون في ذلك كله ناظراً إلى الرقيب مصغياً إلى القريب سائحاً إلى الحبيب لا ينظر إلا إليه ولا يعكف إلا عليه وقد جعل العمر يوماً واليوم ساعة والساعة وقتاً والوقت حالاً والحال نفساً والنفس مراقبة والمراقبة مواجهة فتوجه في وجهته فلم ينثنِ وساح في قربه فلم ينِ فكان من الإيمان على مزيد ومن اليقين في تجديد وأعطي من الحياة الطيبة بغير حساب وكشف له عن قلبه الحجاب فكانت المعرفة مقامه وقصرت عليه أيامه فكان وقته وقتاً واحداً لواحد وكان قلبه واحداً لواحد وهمه منفرداً لمنفرد، وهذا حال الأبدال الذين هم من الرسل أمثال، وعددهم في الموقنين قليل ونصيبهم من اليقين وافر جليل، وهم المقربون والصديقون ومن علم ما ذكرناه على يقين فهو من(1/192)
الصالحين ومن آمن به ولم يشك فيه لأهله إيمان تصديق فهو من الموقنين ومن شهد منه شهادة يكون له منها مطالعات وزيادة فهو من الشاهدين وجميع ماذكرناه من مراقبة المؤمنين وشهادة المقربين يدرك بأحد مقامين: من أقيم في أحدهما جمع له ذلك استقامة في توبة وعمل بعلم فمن كان مقامه التوبة وحاله الاستقامة رفع إلى شهادة المحبين ومن كان مقامه العلم وحاله العمل بعلمه تحقق بنعت الخائفين وهما حالا العارف الدائم الوجد بقرب القائم بالشهادة بحضور الشهيد فأنفاسه وطرفاته صالحات وتصرفاته وآثاره حسنات وأفكاره وأذكاره مشاهدات فهو حاضر في تصريفه متيقظ في تقلبه وبهذا وصف العارف والدائم الوجد وحدثت عن بعض هذه الطائفة أنه دخل على بعض المنقطعين إلى الله تعالى من أهل المراقبة فقال له: أحصيت من نعم الله تعالى عليّ في نوع واحد أربعة وعشرين ألف نعمة، قلت: وكيف ذلك؟ قال: حسبت أنفاسي في اليوم والليلة فوجدتها أربعة وعشرين ألف نفس، ويقال: أن الطرفات ضعف ذلك لأن كل نفس طرفتان وسمعت أن الله عزّ وجلّ أوحى إلى بعض الأنبياء كيف تؤدي شكر نعمتي عليك ولي في كل شعرة نعمتان إن لينت أصلها وإن طمنت رأسها، وقال بعض العلماء: روي ذلك أيضاً عن علي عليه السلام: ليس
شيء أعز من الكبريت الأحمر إلا ما بقي من عمر العبد، قال: ولا يعرف مقدار مابقي من عمره إلا نبي أو صديق. يء أعز من الكبريت الأحمر إلا ما بقي من عمر العبد، قال: ولا يعرف مقدار مابقي من عمره إلا نبي أو صديق.
وقال بعضهم: لا يعرف قدر ما بقي من عمره في العزة إلا من عرف ينبوع الكبريت الأحمر فإنه يقال: إنه عيون تنبع في الظلمات لا يعرفها إلا الأبدال والكبريت الأحمر هو كيمياء الذهب الذي يعمل منه الذهب الخالص واذا ألقى منه اليسير على كيمياء الذهب المستعمل ثبت على حاله وإلا استحال وتغير بعد سنين ولا أعلم ذكر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكبريت الأحمر إلا في حديث علي عليه السلام الذي وصف فيه الأبدال فذكر عدتهم ونعمتهم وقال في آخر وصفهم: هم في أمتي أعز من الكبريت الأحمر ولا ذكر الذهب الإبريز إلا في حديث الابتلاء، إن الله تعالى يجرب عبده بالبلاء كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار فمنهم من يخرج كالذهب الإبريز ومنهم من يخرج أسود محترقاً ومنهم من يخرج بين ذلك.(1/193)
الفصل التاسع والعشرون
ذكر أهل المقامات من المقربين
وتمييز أهل الغفلة المبعدين
فإذا كان العبد يوصف ما ذكرنا كان كما قال الله تعالى: (والَّذِيْنَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (وَالَّذين هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ) المعارج32 - 33 وقال بعض العارفين: عمر العبد أمانة الله تعالى عنده يسأله عند موته، فإن كان فرط فيه ضيع أمانة الله تعالى وترك عهده، وإن راعى أوقاته فلم تخرج ساعة إلا في طاعة الله حفظ أمانته ووفى بعهده فله الوفاء من الله على الوفاء، كما قال سبحانه وتعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) البقرة: 40 أي في تضييع العهد وفي ترك الوفاء وكما قال تعالى: (أفَمَنْ كَانَ عَلى بَيِّنةٍ مِنْ رَبِّه وَيَتْلُوه شَاهِدٌ مِنْهُ) هود: 17أي شهد مقام الله تعالى منه بالبيان فقام بشهادة الإيقان فليس هذا كمن زين له سوء عمله واتبع هواه فآثره على طاعة مولاه بل هذا قائم بشهادته متبع لشهيده مستقيم على محبة معبوده وكان كمن وصف في قوله تعالى: (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه) وكمن مدحه بحقيقة الإيمان في قوله تعالى: (وَإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَاناً) الأنفال: 2 أي علامته ودلائله (وعلى ربهم يتوكلون) أي به يثقون وإليه ينظرون وعليه في كل حال يعتمدون ولديه من كل شيء يطمئنون وعنده دون كل شيء يوجدون ثم قال سبحانه: (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الأنفال: 4 الآية، وليس أهل الحقائق من المتوكلين الذين مدحهم الحق بالحق وأعد لهم الدرجات العلى، والكريم من الرزق كمن ذكره بعدهم فقال: وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين لهم مع قوله ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا، فجعل حال هؤلاء وصفاً مشبهاً لمقام أعدائه لما بقي عليهم من أهوائهم وجعل مقام الصالحين بمعنى من وصفهم في الآية بحقيقة زهدهم فقال تعالى: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَات الْعُلى) طه75 فهو العلي وأحباؤه الأعلون وإنما كانو أعلين لأن الأعلى معهم وكنا نحن الأدنين لأن الدنيا عندنا، قال الله سبحانه في وصف من أعرض عن ذكره ولم يرد إلا الحياة الدنيا إذا أمر الحبيب بالإعراض عنه لأنه طلب(1/194)
الأدنى عاجلاً أو سوّف بالمغفرة آجلاً لقوّة جهله وضعف يقينه فقال تعالى: (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الأدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا) الاعراف: 169 وقال: (فَأعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلاَّ الحَيَاة الدُّنْيَا) النجم: 29، وقال في وصف الصادقين المؤمنين: (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْه) الأحزاب: 23 وقال في نعت غيرهم: (يَا أيُّهَا الذَّين آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ) الصف: 2، كبر مقتاً عند الله فشتان بين من وصف بصدق العهد وبين من ذكر بالخلف وعرض للمقت، وقال في وصف طائفة: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَليْهِمْ إبلِيس ظَنَّهُ فَاتَّبِعُوهُ إلاَّ فَريقاً مِنَ المُؤمِنِين) سبأ: 20فخص أولياءه بترك أتباعه وأدخل بعض المؤمنين في تصديق ظنه واتباعه إلا فريقاً فهم الصديقون والشهداء ولاصالحون وحسن أولئك رفيقاً وهم المتوكلون المؤمنون حقاً الذين قال إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون وليس من باع ماله ونفسه محبة لمولاه كمن لم يسأله مولاه دون نفسه لئلا يحفيه فيخرج ضغنه عليه كما قال لطائفة من المؤمنين: (يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْألْكُمْ أمْوَالَكُم) محمد: 36، إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم الأحفاء الاستقصاء أي سألكم سأل الجملة كلها وأحب منكم الزهد في نفوسكم بعدها؛ والأضغان جمع ضغن وهو الحقد تقول: فلستم في مكان سؤال إذ لا يكون البخيل زاهداً لأن أوّل الزهد الجود، فمن لم يجد لم يزهد ومن لم يزهد في الدنيا لم يحبه المولى لأنه محب لما يبغض ومريد لما لا يحب فلم يعامل مولاه بأخلاقه ولم يوافقه في مرضاته فباعده وحجبه عن مشاهدة أوصافه كما قال تعالى: (تُريدُونَ عَرَض الدُّنْيَا وَالله يُريدُ الآخِرَةَ) الأنفال: 67، وكما قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المبلغ عن المآل إذا أردت أن يحبك الله فازهد في الدنيا ولا تقدر أن تصف حشو قلوب هذه
الطائفة من المؤمنين الذين وصفهم المؤمن أن لو سألهم أموالهم ظهرت عليهم أضغانهم لأنهم من الله في اغترار بما ألبسهم من الإظهار فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيراً إلا أن الله تعالى لا يسأل من يحبه إكراماً له ممن يعلم أنه يسارع إليه بجملة ما سأله لأنه كريم جواد لا يكبر عنده شيء إن سأل سأل الكلية وهو المال والنفس إلا أنه لا يسأل إلا من خلقه بخلق من أخلاقه فمتى لم يكن على العبد سواه شيء سأله محبوبه كل شيء ومتى عظم في قلبه العرض الفاني وهو ضغين لم يسأله شيء فإذا لم يبق للعبد في نفسه نفساً ولا من ماله ملكاً كان الجواد عوضاً له من ماله وكان الجبار عوضاً له من نفسه إلا أن الله سبحانه لم يذكر إياه في العوض من النفس وذكر الجنة في البدل عن المال لئلا يدخل تحت حكم وهو الحاكم وكيلا ينضم إلى عوض فيكون شفعاً وهو الفرد فأخفى نفسه وهو الدليل وذكر خلقه وهو إليه السبيل فهذا فهم أوليائه عنه. طائفة من المؤمنين الذين وصفهم المؤمن أن لو سألهم أموالهم ظهرت عليهم أضغانهم لأنهم من الله في اغترار بما ألبسهم من الإظهار فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيراً إلا أن الله تعالى لا يسأل من يحبه إكراماً له ممن يعلم أنه يسارع إليه بجملة ما سأله لأنه كريم جواد لا يكبر عنده شيء إن سأل سأل الكلية وهو المال والنفس إلا أنه لا يسأل إلا من خلقه بخلق من أخلاقه فمتى لم يكن على العبد سواه شيء سأله محبوبه كل شيء ومتى عظم في قلبه العرض الفاني وهو ضغين لم يسأله شيء فإذا لم يبق للعبد في نفسه نفساً ولا من ماله ملكاً كان الجواد عوضاً له من ماله وكان الجبار عوضاً له من نفسه إلا أن الله سبحانه لم يذكر إياه في العوض من النفس وذكر الجنة في البدل عن المال لئلا يدخل تحت حكم وهو الحاكم وكيلا ينضم إلى عوض فيكون شفعاً وهو الفرد فأخفى نفسه وهو الدليل وذكر خلقه وهو إليه السبيل فهذا فهم أوليائه عنه.
وهذه علامة المحبة الخالصة التي لاشرك فيها لسواه ولا دخل عليها من غيره إياه(1/195)
ولا يصلح أيضاً أن يكشف عن وصف هؤلاء المحبين لأن حالهم يجلّ عن الوصف ومقامهم يجاوز علوم العقل والوقت، إلا أن الله تعالى أحكم ذلك بقوله عزّ وجلّ: (وَفيهَا مَا تَشْتَهيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ) الزخرف: 17وبقوله: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقُونَهُ سَلامٌ) الأحزاب: 44 مع قوله: (وَلَكُمْ فيهَا مَا تَدَّعُونَ) (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحيمٍ) فصلت31 - 32 وقوله: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبينَ فَرَوْحٌ وَرَيحَانٌ) الواقعة: 88 - 89، وأحكم ذلك بقوله تعالى: (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الأنعام: 127وبقوله تعالى: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ الله وَالله بَصير ٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) آل عمران: 163 ففيه وصف لأهل الولايات والحب ومدح لأهل الدرجات والقرب بقوله: بصير بما يعملون أي لذلك جعلهم درجات عنده، ولقوله: وليهم بما كانوا يعملون بما تولاهم به قربهم منه وفيه أيضاً ذم المنافقين على القراءة الأخرى والله بصير بما تعلمون فقد أبصر أعمالكم أنتم فلم يجعلكم مثلهم إذ لم تكن أعمالكم كأعمالهم فهذا كما قال: (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنْزَلَ السَّكِينَة عَلَيْهِمْ وأثَابَهُمْ فَتْحاً قَريْباً) الفتح: 18 ثم قال في وصف قلوبنا: (وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللهُ عَليماً حَليماً) الأحزاب: 15 ثم قال في فصل من القول: ليس بهزل سوّى بين هؤلاء وهؤلاء: (إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً) ثم قال في ضد أولئك كلاماً فاصلاً لمفصل مفسر للمجمل: (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أسْمَعَهُمْ لَتَولَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) الأنفال23 أي ليس لهم فيه شيء ولا لهم منه نصيب لأنه لم يجعل عندهم مكاناً لخير فيوجد فيه خيراً فكان هذا فصل الخطاب وبلاغاً لأولي الألباب شهد لهم بذلك إذ قال: (أفَلَمْ يَيْأَسِ الّذين آمَنُوا أنْ لَوْ يَشاءُ الله لَهَدَى النَّاس جَمِيعاً) الرعد: 13.
فأيس المؤمنون من هداية هؤلاء فلم يرجو منهم مجاهدة فيه أبداً لأن الله تعالى لا يهدي من يضلّ وقيل ييأس لغة بمعنى يعلم أي فقد علموا مما أعلمهم الله تعالى، ويشهد لهذا المعنى الحرف الآخر لأنه بمعناه أفلم يتبين الذين آمنوا فبين لهم بما بين المبين فسلموا له وأقبلوا عليه وأعرضوا عنهم فسلموا منهم فكذلك قال الولي الحميد، وكذلك تولى بعض الظالمين بعضاً وقال: (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) البقرة: 118، فيتبعون ما تشابه منه فكم بين من ثبت قلبه فرسخ العلم فيه وبين من أزاغه فمال إلى فتنة التأويل يبتغيه وشتان بين من تولاه بنفسه إذ صلح له وبين من ولاّه إذا أعرض عنه فهذه مقامات المبعدين كما تلك مقامات المقربين فقد دخلوا تحت حكمين لم يخرجوا منهما أعلاهم دخل تحت فضله وأدناهم لم يخرج من عدله وقد أجمل سبحانه وصفهم بقوله: (لِيَجْزِيَ الَّذين آمَنُوا وَعَمِلوا الصَّالِحَاتِ من فضله) الروم: 45 وقال في ذكر العموم: (لِيَجْزِيَ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بالقِسْط) يونس: 4، بالقسط فخص أولياءه بالفضل وعمّ خلقه بالعدل، فكم من قلب لا يشهد إلا الله ولا يسمع إلا منه ولا إليه والله هو الأغلب على همه والأقرب إلى قلبه وبين قلب حشوه الخلق وهمه الرزق لا ينظر إلا إليهم ولا يطمع إلا(1/196)
فيهم ولا ينظر إلا هم الخلق أغلب شيء عليه والخلق أقرب شيء إليه، فهذا من المبعدين بهم لأن البعد صفتهم وظهور النفس عليه وتحكم سلطانها فيه مكان البعد الذي يوجد البعد معه والأوّل من المقربين به لأن القرب صفته وخنوس نفسه عنه وتسخيرها له مكان القرب الذي يوجد القرب عنده فذلك من السابقين إلى ربه والمبعد مثبط بنفسه عن ربه وقد قال تعالى: (فَلا تَدْعُ مَعَ الله إلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبينَ) الشعراء: 213، فالبعد حجاب والمبعد في عذاب والقرب نعيم والمقرب على مزيد، ألم تسمع قوله تعالى في تعذيب المحجوب: (كَلاَّ إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئذٍ لمَحْجُوبُونَ) المطففين: 15، ثم إنهم لصالوا لجحيم وقال في ترويح المقربين: (فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ المُقَرَّبينَ) (فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) الواقعة: 88 - 89 روح بقريب وريحان من حبيب وجنة نعيم بقرب منعم وقال المروح بالقرب المحيا بالحضور:
فروحي وريحاني إذا كنت حاضراً ... وإن غبت فالدنيا علىّ محابس
إذا لم أنافس في هواك ولم أغر ... عليك ففيمن ليت شعري أنافس
وقال المكروب بالبعد المغصص بالفقد:
فكيف يصنع من أقصاه مالكه ... فليس ينفعه طب الأطباء
من غص داوى بشرب الماء غصته ... فكيف يصنع من قد غص بالماء
وشتان بين عبد منقطع إلى ربه يخدمه وآخر منقطع لخدمة الخلق يعبدهم وكم بين عبد منقطع عن الناس وبين عبد موصول به الوسواس وشتان بين عبد منقطع بالشوق إلى المولى وبين عبد منقطع بالهوى معانق للدنيا فهذه مقامات المقربين بالحسنى وأضدادها مقامات المبعدين بالسوء فإذا كان العبد على وصف من الحقيقة وفي مقام من التقوى استحق الثناء من مولاه لتحققه بالوصف ونال القرب من القريب لتبعده عن حظوظ النفس، وفي حسن الثناء من العظيم الأعظم غاية الطالبين ونهاية رغبة الراغبين ولا يكون ذلك إلا لأوليائه المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين وهم أهل القلوب السليمة الطاهرة وذوو الجوارح الخاشعة الذاكرة وأولو الألباب الراجحة الفاخرة وهم ثلاث طبقات من مقربي أصحاب اليمين؛ أهل العلم بالله تعالى، وأهل الحب لله تعالى، وأهل الخوف من الله تعالى فهؤلاء خصوص أوليائه المقربين استحضرهم فحضروا واستحفظهم العلم فحفظوا واستشهدهم عليه فشهدوا فهم الأدلة منه عليه وهو دليلهم إليه وهم جامعو العباد به وهو جامعهم عنده لديه أبدال الأنبياء والربانيون من العلماء أئمة المتقين وأركان الدين أو القوّة والتمكين الذين كشف لهم الكتاب المستبين وهداهم إليه الطريق المستقيم عليه وهم المنظور إلى قلوبهم كفاحاً والمقصودون بالمزيد والتحف مساءً وصباحاً ومن سواهم من عموم المؤمنين من القراء والعباد وأهل المجاهدة والزهد والأوراد قد أعطاهم الولايات وفرقهم في الأعمال والسياحات وأظهر لهم الآيات تسكيناً لقلوبهم بها وطمأنينة(1/197)
منهم إليها لئلا تدخل عليهم الشبهات فيهلكوا ولا تجذبهم الشهوات فيرجعوا فشغلوا بالإظهار عن الظاهر وحجبوا بالظواهر عن الباطن واغتبطوا بالحجاب وسكنوا إلى الأسباب وعكفوا على المقامات واستتروا بالملكوت والآيات فهم مغبوطو الأموات من أهل الدنيا وهم مرحومو الأحياء من أهل الأعلى لأن قربهم بعد عند المقربين وكشفهم حجب عند المشاهدين وعطاءهم رد عند المواجهين إلا أن الله تعالى نظر إليهم لما نظروا لنفوسهم حكمة ورحمة منه لهم فسكنهم في حالهم ورضاهم بمقامهم كيلا تشتت قلوبهم ولا تتحير عقولهم والسابقون الأوّلون هم الوجهة العليا والمتمسكون بالعروة الوثقى نظروا إليه سبحانه وتعالى به فنظر إليهم منه فهم كما وصفهم: (ومن الناس من يشتري نفسه ابتغاء مرضاة الله) لايرجعون إلى مال ولا ينظرون إلى حال يحبهم ويحبون رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه فهم كما وصفوا في الكتب السالفة، قال الحواريون: ياروح الله صف لنا أولياء الله الذين لاخوف عليهم ولا هم يحزنون فقال: هم الذين نطق بهم الكتاب وبه نطقوا وبهم علم الكتاب وبه علموا وبهم قام الكتاب وبه قاموا نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها وعاينوا أجل الدنيا حين عاين الناس عاجلها فأماتوا منها ماخشوا أن يميتهم وتركوا منها ما علموا أن سيتركهم فصار دركهم منها فواتاً وفرحهم بها حرماناً ما عارضهم منها رفضوه وما أشرف لهم بغير الحق وضعوه خلقت الدنيا عندهم فلم يجددوها وخربت فيما بينهم فلم يعمروها وماتت في صدورهم فلم يحيوها قدموها فبنوا بها آخرهم أحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة يحبون الله ويحبون ذكره ويستضيئون بنوره ويضيئون به لهم خبر عجيب وعندهم أعجب الخبر العجيب، وقال عزّ وجلّ في وصفهم: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله) المائدة: 50حديثاً والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء وقال تعالى: (شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إلهَ إلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وأُولُوا الْعِلْمِ قَائِماً بالْقِسطِ) آل عمران: 18 وفيها مقرأ غريب بمعنى الجمع للشهداء وكأنه جعل وصفاً لما تقدم من ذكرهم في قوله تعالى: (الصَّابِرينَ والصَّادِقينَ) آل عمران: 17، إلى قوله: (وَالْمُسْتَغْفِرينَ بِالأسْحَار) آل عمران: 17 شهد الله أنه لا إله إلا هو وقال: (كَفَى بِاللهِ شَهيداً بَيْني وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتَابِ) الرعد43، فهذا وصف يزيد على كل وصف ويستغرق نعت الواصفين ويجمع هذه المقامات السبعة من المراقبة والمشاهدة حالان عن مقامين مدار المقامات كلها عليهما ومستخرج المزيد من الكرامات منهما؛ فأحدهما الخوف عن مقام العلم والحال الثاني الرجاء عن مقام العمل، فمن كان مقامه العلم بالله
كان حاله الخوف منه ومن كان مقامه الرجاء لله تعالى كانت حاله المعاملة له، ألم تسمع إلى قوله تعالى: (إنَّما يَخْشَى الله مِِِنْ عِبَاْدِهِ العُلَمَاءُ) فاطر: 28 وقوله: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَة رَبَّهِ أَحداً) الكهف110.(1/198)
الفصل الثلاثون
فيه كتاب ذكر تفصيل الخواطر لأهل القلوب
وصفة القلب وتمثيله بالأنوار والجواهر
قال الله سبحانه وتعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوّاهَا) (فَأَلْهَمَهَا فُجُوْرَهَا وَتَقْواهَا) الشمس: 7 - 8 أي ألقي فيها وقذف فيها، وقال عزّ وجلّ: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ به نَفْسُهُ) ق: 16وقال: (فَطَوَّعتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أخِيهِ فَقَتَلَهُ) المائدة: 30 وقال تعالى: (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) الناس: 4 الآية، وقال: (إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوَّاًِ إنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ) فاطر: 6 وقال تعالى: (اِسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ الله) المجادلة: 19 وقال عزّ وجلّ: (الْشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بالْفَحْشَاءِ) البقرة: 268 وقال سبحانه مخبراً عن العدوّ: (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) الأعراف: 16 (ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنَ أيْديهِمْ) الأعراف: 17 إلى آخر الآية، وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه فقعد له بطريق الإسلام فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر فتذر أرضك وسماءك فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: أتجاهد وهو جهد النفس والمال فتقاتل فتنكح نساؤك ويقسم مالك فعصاه فجاهد، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من فعل ذلك فمات كان حقاً على الله تعالى أن يدخله الجنة وقد أخبر الله تعالى عنه أنه قال: (وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ ولأمرنّهم) النساء: 119 إلى آخر الآية.
وروينا أن عثمان بن أبي العاص قال: يارسول الله حال الشيطان بيني وبين صلاتي وقراءتي فقال ذلك الشيطان يقال له خنزب إذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثاً قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله تعالى عني، وفي الخبر: أن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان فاستعيذوا باللَّه منه، وقد روينا أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم والحديث المشهور: ما منكم من أحد إلا وله شيطان قالوا: وأنت يا رسول(1/199)
اللَّه: قال: وأنا، إلا أن اللَّه تعالى أعانني عليه فأسلم، وقال ابن مسعود رضي اللَّه عنه: وقد روينا من طريق مسند في القلب لمتان؛ لمة من الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق ولمة من العدوّ إيعاد بالشر وتكذيب بالحق ونهي عن الخير، وروينا عن الحسن رحمه اللَّه أنه قال: هما همان يجولان في القلب همّ من اللَّه تعالى وهمّ من عدوّه فرحم اللَّه عبداً وقف عند همه فما كان اللَّه أمضاه وما كان عدوّه يجاهد، وقال مجاهد في قوله تعالى: (مِنْ شَرِّ الوَسْوَاسِِ الخَنَّاس) الناس: 4 قال: هو منبسط على قلب الإنسان، فإذا ذكر اللَّه تعالى خنس وانقبض وإذا غفل انبسط على قلبه وقال عكرمة الوسواس محله في الرجل في فؤاده وعينيه ومحله في المرأة في عينيها إذا أقبلت وفي عجيزتها إذا أدبرت، وقال جرير بن عبدة العدوي: شكوت إلى العلاء بن زياد ما أجد في صدري من الوسوسة فقال: إنما مثل ذلك مثل النقب الذي تمر به اللصوص فإن كان فيه شيء عالجوه وإلا مضوا وتركوه، وقد روى أبو صالح عن أبي هريرة عن رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه فهو الران الذي ذكره اللَّه تعالى: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكسِبُونَ) المطففين: 14.
وروينا عن جعفر بن برقان قال: سمعت ميمون بن مهران يقول: إن العبد إذا أذنب ذنباً نكت في قلبه بذلك نكتة سوداء فإن تاب محيت من قلبه فترى قلب المؤمن مجلواً مثل المرآة ما يأتيه الشيطان من ناحية إلا أبصره، وأما الذي يتتابع في الذنوب كلما أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء فلا يزال ينكت في قلبه حتى يسود قلبه فلا يبصر الشيطان من حيث يأتيه وقد أخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن قلب المؤمن أجرد فيه سراج يزهر في تقسيمه القلوب.
روينا عن أبي سعيد الخدري وأبي كبشة الأنماري وبعضه أيضاً عن حذيفة عن رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: القلوب أربعة، قلب فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن، وقلب أسود منكوس فذلك قلب الكافر، وقلب أغلف مربوط على غلافه فذلك قلب المنافق وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه مثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد، فأي المدتين غلبت عليه حكم له بها، وفي لفظ بعضهم: غلبت عليه ذهبت به، وقال اللَّه تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّه) المائدة: 50 وقال تعالى: (إنَّ الَّذينَ اتَّقُوا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فإذَا هُمْ مُبْصِرْونَ) الأعراف: 201 فأخبر أن جلاء القلوب الذكر به يبصر القلب وأن باب الذكر التقوى به يذكر العبد، فالتقوى باب الآخرة كما أن الهوى باب الدنيا، وأمر اللَّه تعالى بالذكر وأخبر أنه مفتاح التقوى لأنه سبب الاتقاء وهو الاجتناب والورع فقال تعالى: (وَاذْكُرُوا مَا فيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الأعراف: 171 وأخبر أنه أظهر البيان للتقوى في(1/200)
قوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاِتِهِ للِنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقونَ) البقرة: 187 وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الإنْسَانَ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَريمِ) (الَّذي خَلَقَكَ فَسوَّاكَ فَعَدَلَك) الانفطار: 6 - 7 وقال تعالى: (لَقَد خَلَقنَا الإْنسَانَ في أَحْسَنِ تَقويمٍ) التين: 4 وقال: (وَمِن كُلِّ شَيء خَلَقْنَا زَوٌجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تََذَكَّرُونَ) الذاريات: 49 فمن السواء والتعديل والازدواج والتقويم أدوات الظاهر وأعراض الباطن وهي حواس الجسم والقلب.
فأدوات الجسم هي الصفات الظاهرة وأعراض القلب هي المعاني الباطنة قد عدلها اللَّه تعالى بحكمته وسواها على مشيئته وقومها إتقاناً بصنعته وأحكاماً بصنعه، أولها النفس والروح وهما مكانان للقاء العدّو والملك وهما شخصان ملقيان للفجور والتقوى، ومنها غرضان متمكنان في مكانين وهما العقل والهوى عن حكمين في مشيئة حاكم وهما التوفيق والإغواء، ومنها نوران ساطعان في القلب عن تخصيص من رحمة راحم وهما العلم والإيمان، فهذه أدوات القلب وحواسه ومعانيه الغائبة وآلاته، والقلب في وسط هذه الأدوات كالملك، وهذه جنوده تؤدي إليه أو كالمرآة المجلوّة وهذه الآلة حوله تظهر فيراها ويقدح فيه فيجدها، فتفصيل ذلك على الإيجاز أن جمل الخواطر ستة: هي حدود القلب وقوادحه من ورائها خزائن الغيب وملكوت القدرة وهي جنود اللَّه تعالى عتيدة وسلطان منه مبين والقلب خزانة من خزائن الملكوت قد أودعه مقلبه من لطائف الرغبوت والرهبوت وشعشع فيه من أنوار العظمة والجبروت ما شاء لأهل الرفيق الأعلى وذوي الملكوت الأدنى فأوّل التفصيل خاطر النفس وخاطر العدوّ وهذان لا يعدمهما عموم المؤمنين وهما مذمومان محكوم لهما بالسوء لا يردان إلا بالهوى وضد العلم وخاطر الروح وخاطر الملك وهذان لا يعدمهما خصوص المؤمنين وهما محمودان لا يردان إلا بحق وبما دل عليه العلم وخاطر العقل وهومتوسط بين هذه الأربعة يصلح للمذمومين فيكون حجة على العبد لمكان تمييز العقل وتقسيم المعقول لأن العبد يدخل في هواه بشهوة جعلت له واختيار لا يعسر عليه من حيث لا يعقل ولا إجبار ويصلح أيضاً للمحمودين فيكون شاهداً للملك ومؤيداً لخاطر الروح ويثاب العبد في حسن النية وصدق المقصد وإنما كان خاطر العقل تارة مع النفس والعدوّ وتارة مع الروح والملك حكمة من اللَّه تعالى لصنعته وإتقاناً لصنعه ليدخل العبد في الخير والشر بوجود معقول وصحة شهود وتمييز فيكون عاقبة ذلك من الجزاء والعقاب عائداً له وعليه إذ قد جعل سبحانه هذا الجسم مكاناً لجريان أحكامه ومحلاً لنفاذ مشيئته في مباني حكمته كذلك جعل العقل مطية للخير والشر يجري معهما في خزانة الجسم إذ كان مكاناً للتكليف وموضعاً للتصريف وسبباً للتعريف العائد من معاني ذلك على صورة العبد من لذة النعيم أو عذاب أليم فلم يكن العقل غائباً فيكون العبد عن العقل ذاهباً ولم تكن الشهوة عازبة فتكون النفس(1/201)
مفقودة إذ في ذلك تضعيف لحجة اللَّه تعالى عليه ووهن لبرهانه لأن العقل شاهد الحجة والشهوة في النفس مكان البلوى والنية في القلب طريق الججة وذلك أصل سبب عود جزاء الأمر والنهي فالعقل مطبوع على التمييز مجبول على التحسين والتقبيح والنفس مجبولة على الشهوة مطبوعة على الأمر بالهوى وهذا نصيبهما من عطائه وهداه لهما إلى رشاده وإغوائه وخطهما من الكتاب وقسمهما من ولي الأسباب، كما قال تعالى في أحكام ما ذكرناه تكملة لما أخبرنا عما سبق في علمه: (أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) وقال تعالى: (أٌُولِئَكَ يَنَالُهُمْ نَصيبَُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ) الأعراف: 37 وقال تعالى: (كِتُبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْديهِ إلى عَذَابِ السَّعيِر) الحج: 4 والخاطر السادس هو خاطر اليقين وهو روح الإيمان ومزيد العلم يردان إليه ويصدران عنه وهذا الخاطر مخصوص بخصوص لا يجده إلا الموقنون وهم الشهداء والصديقون لا يرد إلا بحق وإن خفي وروده ودق ولايقدح إلا بعلم اختيار لمراد مختار وإن لطفت أدلته وبطن وجه الاستدلال به ولكن ليس يخفى هذا إلا الخاطر على مقصود به ومراد له وهم الذين وصفهم اللَّه تعالى بالذكرى.
ورد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم الفتيا فقال سبحانه: (إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَاَنَ لَهُ قَلْب) ق: 37، أي من تولى اللَّه حفظ قلبه، وقال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما حاك في صدرك فدعه والإثم حواز القلوب يعني ما يؤثر فيها فيحزها لرقتها وصفائها ولينها ولطفها وقال للرجل الذي سأله عن البر والإثم وهما أصلا أعمال الخير والشر استفت قلبك وان أفتاك المفتون أي أن المتقين يعلمون معاني التأويل والرخصة عن علمهم العلانية وأنت على علم فوقهم مطالب بالتحقيق والعزيمة عن علمك السر وأهل الظاهر أيضاً يعلمون حكم اللَّه تعالى الظاهر عن علم اللسان الظاهر الذي هو حجة على أهل العلم الظاهر وقلبك فقيه منوّر بالإيمان تنظر به أو ينطق به حكم اللَّه تعالى الباطن عن علم القلب الباطن الذي هوحقيقة الإيمان ومنفعته لأهل العلم الباطن ولا يصلح أن يرد رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سائلاً إلا إلى فقيه فلولا أن علم القلب هو حقيقة الفقه ما ردّ صاحبه من فتا أهل الظاهر إليه ولا حكم على المفتين به فقد صار علم القلب هو علم العلم إذ جعله الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاضياً على المفتين بالحكم وصار عالم الباطن هوعالم العلماء إذ لم يسعه تقليد العلماء، وفي الحديث الآخر: البر ما اطمأن إليه القلب وسكنت إليه النفس وإن أفتوك وأفتوك فهذا وصف قلب مكاشف بالذكر ونعت نفس ساكنة بمزيد السكينة والبر كما وصف من قلوب المؤمنين في صريح الكلام وفي دليل الخطاب، فأما صريحه فقوله تعالى: (الَّذينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّه أَلاَ بِذِكْرِ اللَّه تَطْمَئِنُْ القُلُوب) الرعد: 28 وقوله تعالى: (هُوَ الَّذي أَنْزَلَ السَّكينَةَ في قُلُوبِ الْمؤْمِنينَ لِِيزْدَادُوا إيمَاناً مَعَ إيماِنهِم) الفتح: 4 وأما دليل الكلام الذي يشهد بالتدبر فقوله تعالى في(1/202)
وصف قلوب أعدائه المحجوبين: (كَاَنَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لاَيَستَطيعُونَ سَمْعاً) الكهف: 101 ومثله: (أعِنْدَهُ عِلْمُ الغيب فَهُوَ يَرَى) النجم: 35 ففي تدبر معناه أن أولياءه المستجيبين له سامعون منه مكاشفون بذكره ناظرون إلى غيبه، وقال تعالي في مثله (مَثَلُ الفَريقَيْنِ كَالأعْمَى وَالأصَمِّ) هود: 24 هذا فريق المتبعين للسبل المتفرقة عن سواء السبيل بهم الضالين عن سواء الصراط، (وَالبَصِيرِ وَالسَّميعِ) هود: 24 هو فريق المهتدين المتبعين للصراط المستقيم، وقال تعالى: (مَا كَانُوا يَسْتَطِعُون السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِروُن) هود: 20 أو ألقي السمع وهو شهيد إن كان اللَّه يريد أن يغويكم هو ربكم وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مجمل صفة القلب التقوى ههنا وأشار إلى القلب وقال اللَّه سبحانه وتعالى في ذكر القلوب المقفلة بالذنوب: (لَوْ نَشَاءُ أَصبَنْاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ) الأعراف: 100 وقال تعالى في فض طابعها بالتقوى: (وَاتَّقُوا الله وَاسْمَعُوا) المائدة: 108 و (اتَّقُوَا اللَّه وَيَعَلِّمُكُمُ اللَّه) البقرة: 282 وفي الخبر: إذا أراد اللَّه بعبد خيراً جعل اللَّه زاجراً من نفسه وواعظاً من قلبه، وفي الخبر الآخر: من كان له من قلبه واعظ كان عليه من اللَّه حافظ.
وروينا في تفسير قوله تعالى: (رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي للإيمَانِ) آل عمران: 193 قال سمعناه من قلوبنا وقال في ضده لأعدائه: (أُولئِكَ يُنَادُونَ مِنْ مَكانٍ بَعيدٍ) فصلت: 44 عن قَلوبهم، وقال اللَّه تعالى في التوبة من ميل القلوب وهمها: (إنْ تَتُوبَا إلى اللَّه فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) التحريم: 4، وبمعناه وهموا بما لم ينالوا فإن يتوبوا يك خيراً لهم، وقال في تحقيق العمى للقلب: (فَإنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلوبُ الْتي في الصُّدُور) الحج: 46 فأهل القلوب يتعظون بلا واعظ من خلق ويزدجرون بلا زاجر في ظاهر وسائر ما ذكرناه من الخواطر لا تعدمه المؤمنون والقلب خزانة اللَّه تعالى من خزائن الغيب وهذه المعاني جنود الله تعالى مقيمة حول القلب يخفي منها ما يشاء ويظهر ويبدي منها ما يريد ويعيد ويبسط القلب بما يشاء منها ويقبضه فيما شاء عنها وكل قلب اجتمع فيه ثلاثة معان لم تفارقه خواطر اليقين، ولكن يضعف الخاطر ويخفي لضعف المعاني ودقتها ويقوي اليقين ويظهر بقوتها لأن هذه الثلاثة مكان اليقين أحدها الإيمان وموضعه من اليقين مكان حجر النار والثاني العلم ومكانه موضع الزناد والثالث العقل وهو مكان الحراق فإذا اجتمعت هذه الأسباب قدح خاطر اليقين في القلب، ومثل القلب في قوته بقوة مدده وفي صفائه بجودة عدده مثل المصباح في القنديل إلى مكان العقل منه والزيت موضع العلم به وهو روح المصباح وبمدده يكون ظهور اليقين والفتيلة مكان الإيمان منه وهي أصله وقوامه الذي يظهر بها، فعلى قدر قوة الفتيلة وجودة جوهرها يقوى اليقين وهو مثل الإيمان في قوته بالورع وكماله بالخوف وعلى مقدار صفاء الزيت ورقته واتساعه تضيء النار التي هو اليقين وهو مثل العلم في مدد الزهد وفقد(1/203)
الهوي فصار العلم مكاناً للتوحيد فتمكن الموحد في التوحيد على قدر المكان، وقد قال اللَّه تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إلهَ إلا اللَّه) محمد: 19 وقال تعالى: (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّه وأنْ لاَ إلَه إلاَ هوَ) هود: 14 فقدم العلم علي التوحيد فصار أوّله فكلما اتسع القلب بالعلم باللَّه وزهد في الدنيا ازداد إيماناً وعلا لأنه يرى في علوّه ما لا يراه غيره ويعلم في اتساعه ما لا يعلمه سواه فيكبر المؤمن فيكون ذلك مزيد إيمانه وقوته ثم يشهد كل ما آمن به فيكون بذلك قوة نفسه وسعة مشاهدته وكلما قصر علم القلب باللَّه تعالى وبمعاني صفاته وأحكام ملكوته قلّ إيمان هذا العبد ثم أشهد ما آمن به من وراء حجاب لما غلب عليه من حب الأسباب وسمع الكلام من خلف ستر لعجزه عن المسارعة إلى البر فيضعف بذلك إيمانه ويتخيل مشاهدته ولا يتحقق فليس من علم من صفات اللَّه سبحانه وتعالى وقدرة آياته مائة ألف معنى ثم شهدها كلها من قرب عن كشف مثل من علم منها عشرة معانٍ ثم شهدها من بعد عن حجاب وهما مؤمنات معاً لكن بين إيمانهما في القرب والعلّو والزيادة والنقصان كما بين العشرة إلى مائة ألف فيكون إيمان قلب المسلم معشار معشار عشر إيمان قلب الموقن والمعشار هو عشر العشر جزء من مائة جزء ويكون إيمان قلب المؤمن فيما بين ذلك من الزيادة على العشر والنقصان من مائة ألف على قدر قسمه.
ومثل ذلك فيما نعقله مثل رجل قال لك: إن عندي فلاناً فقد حصل لك علم زنه عنده غير زن هذا العلم غير يقين لأنه يجوز أن يكون قد اشتبه عليه أو يكون قد كان عنده ثم خرج وليس هو الآن عنده وهذا مثل إيمان المسلم هو على علم خبر لا خبر، ثم إنك تأتي إليّ فتسمع كلامه من وراء حجاب فقد علمت الآن أنه عندي لأنك سمعت كلامه واستدللت به على كونه، إلا أن هذا العلم أيضاً غير تحقيق لأن الأصوات تشتبه والأجرام تتقارب، ولو قلت لك بعد ذلك: لم يكن عندي وإنما كان ذلك غيره أشبه صوته تشككت فيه لاحتمال ذلك ولم يكن عندك يقين عين تدفع به قولي ولا شهادة نظر تنكر بها عليّ وهذا مثل لإيمان عموم المؤمنين فهو إيمان خبر لعمري وفيه يقين استدلال ممتزج بظنه إلا أنه غير مشاهدة العارفين لأنه قد يدخل عليهم التخييل والتشبيه فلا يدفعونه بشهادة يقين ثم إنك تدخل إلى الآن بعد أن قيل لك هو عندي أو بعد أن سمعت كلامه فتشهده جالساً لا حجاب بينك وبينه، فهذا هو يقين المعرفة وهذه شهادة الموقن وعندها انتفى كل شك وتحقق خبر العلم وهذا مثل لعلم إيمان الموقنين الذي قد اندرج فيه إيمان عموم المؤمنين من علم الخبر المحتمل ومن سماع الكلام المشتبه من وراء حجاب واسم الإيمان واقع على جميعهم ولكن الأوّل علم أنه عندي بما قيل له فصدق والثاني علم بما سمع فاستدل ولم يشهد فيقطع والثالث هو الذي عاين فقطع وقد شهد له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمزيد فقال(1/204)
رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس الخبر كالمعاينة وقال: وليس المخبر كالمعاين، ومثل هذا أيضاً أن ترى الشيء بالنهار فتعرفه معرفة عين وتعرف مكانه بنظر لا تخطئه ثم إنّك تحتاج إليه ليلاً فلست تعرف مكانه رأي عين وإنما تقصده بمعرفة استدلال عليه وبحسن ظن أنه موجود على حاله أو يعرف بشيء معهود أنه لا يتحول، وكذلك الأدلة هي الغائبات وسقوطها مع المشاهدات وبمعناها رؤية الشيء بنور القمر فإنه يشبح ويلوح المشكلات ورؤيته في ضياء الشمس فإنها تكشف الأمر على ما هو به، فهذا مثل نور اليقين إلى نور الإيمان ومثل رابع في تفاوت المؤمنين في حقيقة الكمال ودخولهم في الاسم والمعنى مثل صلاة رباعية أقيمت فجاء رجل فأدرك تكبيرة الإحرام ثم جاء آخر فأدرك الركوع ثم جاء آخر فأدرك الركعة الثانية ثم جاء ثالث فأدرك الركعة الثالثة ثم جاء رجل رابع فأدرك الركعة الآخرة فكلهم قد صلوا وأدركوا الصلاة في جماعة ونال فضلها لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة، ولكن ليس من أدرك الركعة الأولى في كمال الصلاة وإدراك حقيقتها كمن أدرك الثالثة والرابعة ولا يكون أيضاً من أدرك التكبيرة للإحرام في الفضل كمن لم يدرك شيئاً من القيام وهما مدركان معاً فكذلك المؤمنون في كمال الإيمان وحقائقه لا يستوون وإن استووا في الاسم والمعنى وكذلك في تفاوتهم في الآخرة.
فقد جاء في الخبر أنه يقال: أخرجوا من قلبه مثقال ذرة من إيمان ونصف مثقال وربع مثقال وشعيرة وذرة من إيمان فقد حصلوا متفاوتين في الإيمان ما بين الذرة إلى المثقال وكلهم قد دخل النار إلا أنهم على مقامات فيها وفيه دليل أن من كان في قلبه وزن دينار من إيمان لم يمنعه ذلك من دخول النار لعظم ما اقترف من الأوزار وأن من كان في قلبه وزن ذرة من إيمان لم يحق عليه الخلود في دار الهوان لتعلقه بيسير الإيقان وأن من زاد إيمانه على وزن دينار لم يكن للنار عليه سلطان فكان من الأبرار وأن من نقص إيمانه عن ذرة لم يخرج من النار وإن كانت سيماه واسمه في الظاهر في المؤمنين لأنه في علم الله من المنافقين الفجار، وقد قال اللَّه تعالى في وصفهم: (وَإنَّ الٌفُجَّارَ لَفِيَ جَحيم) الانفطار: 14 ثم قال: (وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبينَ) الانفطار: 16 ثم صار صاحب المثقال والذرة في الجنة على تفاوت درجات وكان الزائد إيمانه على مثقال في أعلى عليين علا هؤلاء وترفع أهل الدرجات العلى على أهل عليين ارتفاع الكوكب الذي في أفق السماء وكلهم قد اجتمع في الجنة على تفاوت مقامات وتعالي درجات، وروينا عن رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس شيء خيراً من ألف مثله إلا الإنسان فلعمري إن قلب المؤقن خير من ألف قلب مسلم لأن إيمانه فوق مائة إيمان مؤمن وعلمه باللَّه تعالى أضعاف علم مائة مسلم، ويقال إن واحداً من الأبدال الثلاثمائة قيمته قيمة ثلاثمائة مؤمن، وكان أبو محمد يقول: يعطي اللَّه تعالى بعض المؤمنين من الإيمان بوزن جبل أحد ويعطي(1/205)
بعضهم مثل ذرة، وقد قال الَّله تعالى: (وَأنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إنٌ كُنْتُمْ مَؤْمِنينَ) آل عمران: 139، بالعلو ولا نهاية لعلو الإيمان فصار علوّ كل قلب على قدر إيمانه ولذلك رفع العلماء على المؤمنين درجات في قوله تعالى: (يرفع اللَّه الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) ، ففسرها ابن عباس رضي اللَّه عنه فقال: (الَّذينَ أُوتوا العِلْمَ) الروم: 56 فوق المؤمنين بسبعمائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، وفي الخبر: أكثر أهل الجنة البله وعليون لأولي الألباب، وعن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب.
وروينا في لفظ أبلغ من هذا كفضلي على أمتي، فالموقنون من المؤمنين أعلى إيماناً والعالمون من الموقنين أرفع مقاماً ثم على قدر بياض الماء يستبين من القنديل حسنه وصفاؤه ومثل هذا العقل في صحته من الإعتلال وصفائه من كدر الأحوال والأموال ويجمع ذلك كله القنديل وهو القلب، فعلى قدر رقة القلب ولطف جوهره وصفائه من كدره وحسن طهارته عن الآثار تكون هذه العلوم فيه والأنوار وجوهر الزجاجة في الصفاء محتاج إلى صفاء الماء كما أن صفاء الماء محتاج إلى صفاء الجوهر وبمعيارهما يكون القلب والعقل ووقود النور محتاج إلى قوّة الفتيلة ومدد الزيت فبموضعها في القوّة والمدد يكون العلم باللَّه تعالى واليقين ذلك تقدير العزيز العليم وكل قلب اجتمع فيه ثلاثة معان لم يفارقه خواطر الهوى الجهل والطمع وحب الدنيا ثم يضعف خاطر الهوى ويقوى على قدر تمكن هذه الثلاثة من النفس وحقائقها على مثل ماذكرناه من تمكن خواطر اليقين وضعفها لوجود مكانها وهو العلم والإيمان والعقل، وفي القلب يظهر سلطان ذلك أجمع فأي جند كانت المشيئة معه غلب، وروينا عن علي عليه السلام أن اللَّه فى أرضه آنية وهي القلوب فأحبها إليه أرقها وأصفاها وأصلبها، ثم فسره فقال: أصلبها في الدين وأصفاها في اليقين وأرقها على الإخوان فمثل القلوب مثل الأواني في تقارب جوهرها، فأرقها وأصفاها وأعلاها يصلح للملك والوجه والطيب، وأكثفها وأرداها يصلح للأدناس، وما بين ذلك يصلح لما بينهما، ومثلهما أيضاً مثل الموازين الطيار اللطيف والمعيار يصلح لوزن الذهب بالتحرير والمعيار والكثيف الجافي يصلح للقت والأنعام وما بينهما يصلح لما بين ذلك فيوزن بكل ميزان ما يصلح له من كل شيء موزون كما يجعل في كل إناء ما يليق به من كل شيء مرذول أو مصون، كذلك الحكم والحكمة في الملكوت الباطن كالحكمة والحكم في الملكوت الظاهر بتعديل الظاهر الباطن، وفي تفسير قوله عزّ وجلّ: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ في زُجَاجَة) النور: 35، فسره أبيّ بن كعب قال: مثل نور المؤمن وكذلك كان يقرأه قال: فقلب المؤمن هو المشكاة فيها مصباح، فكلامه نور وعمله نور ويتقلب في نور، ثم قال في قوله تعالى: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ في بَحْرٍ لُجِّيّ) النور: 40 قال قلب المنافق فكلامه(1/206)
ظلمة وعمله ظلمة ويتقلب في ظلمة وكان زيد بن أسلم يقول في قوله تعالى: (في لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) البروج: 22، قال قلب المؤمن وقال أبو محمد سهل مثل القلب والصدر مثل العرش والكرسي.
وروينا في حديث ابن عمر قال قيل يا رسول اللَّه أين اللَّه في الأرض؟ قال: في قلوب عباده المؤمنين، وفي الخبر المأثور عن اللَّه تعالى لم يسعني سمائي ولاأرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن، وفي بعضها اللين الوادع فاللين يعني السهل الرقيق القريب والوادع يعني الساكن المطمئن، وفي الخبر: ما ألبس العبد لبسة أحسن من خشوع في سكينة فهذه لبسة المتقين وصبغة اللَّه تعالى للعارفين، وفي الحديث قيل: يا رسول اللَّه من خير الناس؟ قال: كل مؤمن محموم القلب، ثم فسره رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: هو التقي الذي لا غش فيه ولا بغي ولا غلّ ولا حسد، وقال بعض العارفين في معنى قوله تعالى: (إلاّ مَنْ أَتَى اللَّه بِقَلْبٍ سَليم) الشعراء: 89 أي مما سوى اللَّه ليس فيه غير اللَّه وفي قول أهل التفسير: سليم من الشرك والنفاق، وقال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل وهذا لا يعدمه المؤمنون إلا الصديقين وقال: أكثرمنافقي أمتي قراؤها، وهذا لا يعدمه العابدون إلا العارفين، ومن خواطر اليقين ما يرد بشيء لا تظهر دلائله في الظاهر لخفائه وغموض شواهده فليس يعلم إلا بباطن العلم وغامض الفهم والغوص على لطائف معاني التبيين وباطن الاستنباط منفهم التنزيل وتعليم التأويل كما قال الحبيب الخليل رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن عباس: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل، كما قال علي بن أبي طالب: ماعندنا شيء أسره إلينا رسول اللََّه سوى كتاب اللَّه تعالى إلا أن يؤتي اللَّه تعالى عبداً فهماً في كتابه، وكما جاء في تفسير قوله تعالى: (يُؤْتي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ) البقرة: 269 قال: الفهم في كتاب اللَّه، وقال أصدق القائلين: (فَفَهَّمْنَاْهَا سُلَيْمَانَ) الأنبياء: 79 فخصه بفهم منه زاده به فوق الحكم والعلم الذي شرك فيه أباه فزاده على فتيا أبيه.
وروينا عن علي عليه السلام في الحديث الطويل الذي يقول فيه: واليقين على أربع شعب، على تبصرة الفطنة، وتأويل الحكمة، وموعظة العبرة، وسنة الأوّلين، فمن تبصر الفطنة تأول الحكمة ومن تأول الحكمة عرف العبرة ومن عرف العبرة كان في الأوّلين إلا أن أهل اليقين المرادين به العارفين بأحكام اللَّه تعالى الباطنة يعلمون تفصيل خواطر اليقين ومقتضاها من حيث أشهدوا مطلعها من الغيب وبحيث عرفوا موجبها من الوصف بنور اللَّه الثاقب وقربه الحاضر وسلطانه النافذ، كما جاء في الخبر: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللَّه تعالى أي باليقين، وفي لفظ آخر: اتقوا فراسة العالم فكأنه مفسر له ومنه قوله تعالى: (إنَّ فِي ذِلكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّميِنَ) الحجر: 75 وقوله: (قَدْ بَيَّنّا الآيات لِقَومٍ يُوقِنُون) البقرة: 118 أي بنور اليقين، وكان أبو الدرداء يقول: المؤمن ينظر إلى الغيب(1/207)
من وراء ستر رقيق واللَّه إنه للحق يقذفه اللَّه تعالى في قلوبهم ويجريه على ألسنتهم، وقال بعض العلماء: ظن المؤمن كهانة أي كأنه سحر من نفاذه وصحة وقوعه، وقال بعض العلماء: يد اللَّه تعالى على أفواه الحكماء لا ينطقون إلا بما هيأ اللَّه عزّ وجلّ لهم من الحق، وقال آخر: لو شئت لقلت إن اللَّه يطلع الخاشعين على بعض سره، وكتب عمر ابن الخطاب رضي اللَّه عنه إلى أمراء الأجناد: احفظوا ما تسمعون من المتعظين فإنهم ينجلي لهم أمور صادقة، وقال اللَّه تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّه قيلاً) النساء: 87: (يَا أىُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إنْ تَتَّقُوا اللَّه يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً) الأنفال: 29 قيل نور تفرقون به بين الشبهات ويقين تفرقون به المشكلات، ومن هذا قوله سبحانه وتعالى: (وَمَنْ يَتَّق اللَّّه يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) الطلاق: 2 قيل مخرجاً من كل أمر ضاق على الناس ويرزقه من حيث لا يحتسب يعلمه علماً بغير تعليم ويفطنه بغير تجربة أي بالشاهد الصحيح والحق الصريح، ومثله قوله تعالى: (وَالَّذينَ جَاهَدُوا فينَا لَنَهدِيَنَّْهُم سُبُلَنَا) العنكبوت: 69 قيل: الذين يعملون بما يعلمون، قال يوفقهم ويهديهم إلى ما لا يعلمون حتى يكونوا علماء حكماء، وقال بعض السلف: نزلت هذه الآية في المتعبدين المنقطعين إلى اللَّه سبحانه وتعالى المستوحشين من الناس فيسوق اللَّه تعالى إليهم من يعلمهم أو يلهمهم التوفيق والعصمة.
وفي الخبر: من علم بما يعلم أورثه اللَّه تعالى علم ما لم يعلم ووفقه فيمايعمل حتى يستوجب الجنة، ومن لم يعمل بما يعلم تاه فيما يعلم ولم يوفق فيما يعمل حتى يستوجب النار، فمعنى أورثه علم ما لم يعلم أي من علوم المعارف التي هي مواريث أعمال القلوب مثل الفرق بين الاختبار والاختيار والابتلاء والاجتباء والمثوبة والعقوبة ومعرفة النقص من المزيد والقبض والبسط والحل والعقد والجمع والتفرقة إلى غير ذلك من علوم العارفين بعد حس التفقه والأدب عن مشاهدة الرقيب والقرب لصحة المواجيد والقلوب، وقال بعض التابعين: من عمل بعشر ما يعلم علمه اللَّه تعالى ما يجهل، وقد قال حذيفة: أنتم اليوم في زمان من ترك عشر ما يعلم هلك وسيأتي بعدكم زمان من عمل بعشر ما يعلم نجا، وقال بعضهم: كلما ازداد العبدعبادةً واجتهاداً ازداد القلب قوّة ونشاطاً، وكلما ملّ العبد وفتر ازداد القلب ضعفاً ووهناً، وليس يكاد علم اليقين يقدح في معدن العقل لأن علوم العقل مخلوقات ولا يكاد ينتجه الفكر ولا يخرجه التدبر فما أنتجته الأفكار واستخرجته الفطرة من الخواطر والعلوم فتلك علوم العقل وهي كشوف المؤمنين ومحمودات لأهل الدين فأما خاطر اليقين فإنه يظهر من عين اليقين ينادي به العبد مناداة ويبغته مفاجأة لأنه مخصوص به مراد مقصود به محبوب متولى به مطلوب لا يجده إلا عارف أو خائف أو محبّ ومن سوى هؤلاء فبحاله محجوب وبعاداته مطلوب وإلى مقامه ناظر وفي طريقه بمعقوله سائر فأما العارفون المواجهون بعين اليقين المكاشفون بعلم الصديقين فإنهم مسيرون(1/208)
محمولون سابقون مستهترون قد وضعت الأذكار عنهم الأوزار، كما جاء في الخبر: سيروا سبق المفردون بالفتح والمفردون أيضاً بالكسر فهم مفردون للَّه تعالى بما أفردهم اللَّه تعالى كما قال جلّ ذكره: (حَاْفِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بمَا حَفِطَ اللَّهُ) النساء: 34، قيل: ومن المفردون؟ قال: المستهترون بذكر اللَّه وضع الذكر أوزارهم فوردوا القيامة خفافاً، فلما أفردهم اللَّه تعالى ممن سواهم له أفردوه عما سواه به فذكرهم فاستولى عليهم ذكره فاصطلم قلوبهم نوره تعالى فاندرج ذكرهم في ذكره فكان هو الذاكر لهم وكانوا هم المكان لمجاري قدرته عزّ وجلّ فلا يوزن مقدارهذا الذكر ولا يكتب كيفية هذا البر فلو وضعت السموات والأرض في كفة لرجح ذكره تعالى لهم بهما وهم الذين قال لهم فترى من واجهته بوجهي لعلم أحد أي شيء أريد أن أعطيه لوكانت السموات والأرض في موازينهم لاستقللتها لهم أوّل ما أعطيهم أن أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم وهذا هو ظاهر أوصافهم وأوّل عطاياهم فطلب هؤلاء لا يعرف ونصيبهم لا يكيف ومطلوبهم كنه قدره لا يوصف عطاؤهم غير مخلوق ومشاهدتهم وصف التحقيق بعين اليقين إلى حق اليقين فأول نصيبهم من مطلوبهم علم اليقين وهو صفاء المعرفة باللَّه تعالى وآخر علم الإيمان أول عين اليقين وهو مشاهدة وصف معروف وهذه وجهة التوحيد ولا آخر لأول علم اليقين ولا انقطاع لآخر نصيبهم من مشاهدتهم، فظاهر التوحيد توحيد اللَّه تعالى في كل شيء وتوحيده بكل شيء ومشاهدة إيجاده قبل كل شيء ولا نهاية لعلم التوحيد ولا غاية لمزيد عطاء الموحدين ولكن لهم نهايات يوقفون تحتها وغايات يصدرون عنها تجعل أماكن لمزيدهم ويزدادون في وسعها ويمدون بعلوم يطلبون بها ما يكاشفون به لما وراءها أبداً لا بديلاً آخر ولا أمد ولا يصل العبد إلى مشاهدة علم التوحيد إلا بعلم المعرفة وهونور اليقين ولا يعطي نور اليقين حتى تمخض الجوارح بالأعمال الصالحات، كمايمخضُ الزق باللبن حتى تظهر الزبدة، وهي اليقين، وليست هذه الزبدة غاية الطالبين ولا بغية الصديقين لأن وراءها صفوها وخالصها ثم تذاب هذه الزبدة حتى يخلص سمنها وهو صفوها ونهايتها وهذا مثل لعين اليقين بعد علمه وبعد مشاهدة الوجه بمرآة القرب وهي نوره فحينئذ لا يفارقه وجده وحضوره فيرفع العبد من خواطر اليقين إلى مشاهدة الصفات بعد ذوب علم الخواطر يتجوهر نور شعاع وجه الذات وهذا مقام الإحسان وإن اللَّه لمع المحسنين بعد مجاهدتهم النفوس فيه وبيعها مع الأموال منه فأحسن إليهم باشترائها منهم وكان معهم كما قال سيجزيهم وصفهم فإنما كانوا محسنين لأن المحسن معهم كما كانوا أعلين إذ الأعلى معهم فقد قال: (وَأنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ
مَعَكُمْ) محمد: 35 وسئل رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإحسان فقال: أن تعبد اللَّه كأنك تراه، وينتقل العبد من أعمال الجوارح وهي(1/209)
المجاهدة التي طرح عليه ثقلها فحملها فتحمل فيما حمل وتحفظ له ما استحفظ إلى علم اليقين وهو الروح والرضا وهذا هو هداية السبيل، وأوّل هذا كله أن يدخل العبد بعد التوبة النصوحة في أحوال المريدين وأعمال المجاهدين للنفس والعدوّ ثم ينتقل إلى خواطر اليقين فهذا ميراث المجاهدين، كما قال: (وَالَّذينَ جَاهَدُوا فِينَا) العنكبوت: 69 يعني نفوسهم وأموالهم وجاهدوا عدوّهم إذ يعدهم الفقر ويأمرهم بالفحشاء فصابرهم فغلبوه فباعوا النفوس والأموال فأعتقوا من رق الهوى ونجوا من أهوال الحساب: (لَنَهْديَنَّهُمْ سُبُلَنَا) العنكبوت: 69 أي لنطرقنّهم إلى مكاشفات العلوم ولنسمعنّهم غرائب الفهوم ولنوصلنّهم إلى أقرب الطرق إلينا بحسن مجاهدتهم فينا، ثم ختم الأمر بقوله تعالى: (وَإنَّ اللَّه لَمَعَ الْمحْسِنينَ) العنكبوت: 69 هذا مقام مشاهدة الصفات فكان المجاهد فيه معهم أولاً بالتوفيق فيه صبروا له بالتأييد وكان المحسن معهم آخر اليوم فيه أحسنوا إلى نفوسهم غداً.) محمد: 35 وسئل رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإحسان فقال: أن تعبد اللَّه كأنك تراه، وينتقل العبد من أعمال الجوارح وهي المجاهدة التي طرح عليه ثقلها فحملها فتحمل فيما حمل وتحفظ له ما استحفظ إلى علم اليقين وهو الروح والرضا وهذا هو هداية السبيل، وأوّل هذا كله أن يدخل العبد بعد التوبة النصوحة في أحوال المريدين وأعمال المجاهدين للنفس والعدوّ ثم ينتقل إلى خواطر اليقين فهذا ميراث المجاهدين، كما قال: (وَالَّذينَ جَاهَدُوا فِينَا) العنكبوت: 69 يعني نفوسهم وأموالهم وجاهدوا عدوّهم إذ يعدهم الفقر ويأمرهم بالفحشاء فصابرهم فغلبوه فباعوا النفوس والأموال فأعتقوا من رق الهوى ونجوا من أهوال الحساب: (لَنَهْديَنَّهُمْ سُبُلَنَا) العنكبوت: 69 أي لنطرقنّهم إلى مكاشفات العلوم ولنسمعنّهم غرائب الفهوم ولنوصلنّهم إلى أقرب الطرق إلينا بحسن مجاهدتهم فينا، ثم ختم الأمر بقوله تعالى: (وَإنَّ اللَّه لَمَعَ الْمحْسِنينَ) العنكبوت: 69 هذا مقام مشاهدة الصفات فكان المجاهد فيه معهم أولاً بالتوفيق فيه صبروا له بالتأييد وكان المحسن معهم آخر اليوم فيه أحسنوا إلى نفوسهم غداً.
وروينا عن الحسن البصري عن رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: العلم علمان، فعلم باطن في القلب فذاك هو النافع، وسئل رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن معنى قوله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّه أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرحْ صَدْرَهُ للإسْلام) الأنعام: 125 ما هذا الشرح؟ قال: هو التوسعة يعني: أن النور إذا قذف في القلب اتسع له الصدر وانشرح، وقال بعض العارفين: لي قلب إذا عصيته عصيت اللَّه تعالى يعني أنه لا يقذف فيه إلا طاعة ولا يقر فيه إلا حق فقد صار رسوله إليه فإذا عصاه فقد عصا المرسل بمعنى الخبر الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل وبقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المؤمن ينظر بنور اللَّه، فمن نظر بنور اللَّه كان على بصيرة من اللَّه تعالى وكان عمله بنوره طاعة تعالى، وقال بعض العارفين: منذ عشرين سنة ما سكن قلبي إلى نفسي ساعة وما ساكنته طرفة عين، وسئل بعض العلماء عن علم الباطن أي شيء هو؟ فقال: سر من سر اللَّه تعالى يقذفه في قلوب أحبابه لم يطلع عليه ملكاً ولا بشراً.
وقد روينا فيه خبراً مسنداً أحببنا أن نسنده وقد جاء رجل إلى النبي فقال: علمني من غرائب العلم فقال: هل عرفت الرب فأخبر أن غرائب العلوم في المعرفة وقد أمر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصل العلوم الذي فيه غرائب الفهوم فقال: اقرأوا القرآن والتمسوا غرائبه يعني تدبر معانيه واستنباط بواطنه إذ بكلامه عرفه أولياؤه وقد قيل: تكلموا تعرفوا، فمن عرف معاني الكلام ووجوه الخطاب عرف به معاني الصفات وغرائب علوم أسماء الذات، وقال ابن مسعود: من أراد علم الأوّلين والآخرين فليثوّر القرآن، وقال بعض أهل المعرفة في فهم هذه الآية: إن اللَّه يأمر بالعدل والإحسان قال: العدل تدبر القرآن وفهمه والإحسان مشاهدة الفهم، وفي تأويل قوله عليه الصلاة والسلام في صفة العدل شاهد لقوله هذا في حديثه الذي وصف فيه شعب الإيمان فقال: الإيمان على أربع دعائم: على الصبر، واليقين، والعدل، والجهاد، ثم قال والعدل على أربع شعب: غائص الفهم، وزهرة(1/210)
العلم، وروضة الحلم، وشرائع الحكم، فمن فهم فسر جمل العلم ومن علم عرف شرائع الحكم ومن حلم لم يفرط في أمره وعاش في الناس حميداً، وقال بعض المكاشفين ظهر لي الملك: فسألني أن أملي عليه شيئاً من ذكري الخفي من مشاهدتي من التوحيد وقال: ما نكتب لك عملاً ونحن نحب أن نصعد لك بعمل نتقرب به إلى الله تعالى فقلت: أليس يكتبان الفرائض؟ قال: بلى، قلت: فيكفيهما ذلك.
وقال بعض العارفين قال: سألت بعض الأبدال عن مسألة من مشاهدة اليقين فالتفت إلى شماله وقال: ما تقول رحمك اللَّه ثم التفت إلى يمينه فقال ماتقول رحمك اللَّه ثم أطرق إلى صدره وقال: ما تقول رحمك اللَّه ثم أجابني بأغرب جواب ماسمعته قط وأعلاه فقلت رأيتك التفتّ عن شمالك ويمينك ثم أقبلت على صدرك فماذا؟ فقال: سألتني عن مسألة لم يكن عندي فيها علم عتيد فالتفت إلى صاحب الشمال فسألته عنها وظننت أن عنده منها علماً فقال: لا أدري فسألت صاحب اليمين وهو أعلم منه فقال: لا أدري فنظرت إلى قلبي فسألته فحدثني بما أجبتك وإذا هو أعلم منها، وقد كان أبو يزيد وغيره يقولون: ليس العلم الذي يحفظ من كتاب اللَّه فإذا نسي ما حفظ صار جاهلاً إنما العلم الذي يأخذ علمه من ربه عزّ وجلّ أي وقت شاء بلا تحفظ ولا درس فهذا لعمري لا ينسى علمه وهو ذاكر أبداً لا يحتاج إلى كتاب وهو العالم الرباني وهذا هو وصف قلوب الأبدال من الموقنين ليسوا واقفين مع حفظ إنما هم قائمون بحافظ.
وقد روينا في الخبر: إن من أمتي محدثين ومكلمين وإن عمر منهم وقرأ ابن عباس: وما أرسلنامن قبلك من رسول ولا نبي ولامحدث يعني الصديقين وهذا كان طريق السلف من الصحابة وخيار التابيعن إذا سئلوا وفقوا وألهموا الصواب لقربهم من حسن التوقيق وسلوكهم حقيقة محجة الطريق فخاطر اليقين إذا ورد على قلب مؤمن اضطرته مشاهدته إلى القيام به وإن خفي على غيره وحكم عليه بيانه وبرهانه بصحة دليله وإن التبس على من سواه.
وقد قال اللَّه تعالى في تخصيص الموقنين: (قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) البقرة: 118 هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون، وقال في نعت المتقين: (وَمَاَ خَلَقَ الله فِي السَّمَوَاتُ والأرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقْونَ) يونس: 6 وقال تعالى: (هذَا بَيَانٌ للِنَّاسِ وَهُدًى وَموْعِظَةٌ لِلْمُتَّقينَ) آل عمران: 138 وقال في فضل العلماء: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذينَ أُوتُوا العِلْمَ) العنكبوت: 49 وقال: (قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الأنعام: 97 فحقيقة العلم إنما هو من التقوى واليقين وهذا هوعلم المعرفة المخصوص به المقربون وهب لهم الآيات وخصهم بالبيان والدلالات بما استحفظوا من كتاب اللَّه وكانوا عليه شهداء، فهذه الخواطر تبدو في القلوب عن هذه الأواسط التي هي خزائن اللَّه تعالى من(1/211)
خزائن الأرض وخزائن السموات والأرض ولكنّ المنافقين لا يفقهون والفقه صفة القلب لا لسان العرب، تقول: فقهت بمعنى فهمت، وابن عباس يفسر قول اللَّه عزّ وجلّ: (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا) الأعراف: 179 يقول لا يفهمون بها ويجعل الفقه الفهم فخاطر اليقين والروح والملك من خزائن اللَّه وخاطر العقل والنفس والعدوّ من خزائن الأرض كما قيل النفس ترابية خلقت من الأرض فهي تميل إلى التراب والروح روحاني خلق من الملكوت فهي ترتاح إلى العلوّ والقلب خزانة من خزائن الملكوت مثله كالمرآة تقدح هذه الخواطر عن أوساطها من خزائن الغيب فتوقد في القلب فيتلألأ فيه للتأثير، فمنها مايقع في سمع القلب، فيكون فهماً، ومنها ما يقع في بصر القلب فيكون نظراً وهو المشاهدة، ومنهاما يقع في لسان القلب فيكون كلاماً وهو الذوق، ومنها ما يقع في شم القلب فيكون علماً وهو الفكر وهو العقل المكتسب بتلقيح العقل الغريزي وهذا أقلها لبثاً وأيسرها عناء وما وقع في ناظر القلب وحسه فخرق شفافه ووصل إلى سويدائه وهو المباشرة كان وجداً وهذا هو الحال عن مقام مشاهدة، ومن هذا قوله: أسألك إيماناً يباشر قلبي.
وقال بعض العارفين: إذا كان الإيمان في ظاهر القلب كان العبد محباً للآخرة وللدنيا وكان مرة مع اللَّه تعالى ومرة مع نفسه فإذا دخل الإيمان إلى باطن القلب أبغض العبد الدنيا وهجر هواه وقد قال عالمنا أبو محمد سهل رحمه اللَّه: للقلب تجويفان، أحدهما باطن وفيه السمع والبصر وكان يسمى هذا قلب القلب، والتجويف الآخر ظاهر القلب وفيه العقل، ومثل العقل في القلب مثل النظر في العين هو صقال لموضع مخصوص فيه بمنزلة الصقال الذي في سواد العين فإذا كانت هذه الخواطر عن أواسط الهداة به وهي الملك والروح كانت تقوى وهدى ورشداً وكانت من خزائن الخير ومفتاح الرحمة قدحت في قلب العبد نوراً وطيباً أدركه الحفظة وهم أملاك اليمين فأثبتوهاحسنات وإن كانت الخواطر عن أواسط الغواة وهم العدوّ والنفس كانت فجوراً وضلالاً وهي من خزائن الشر ومعالق الأعراض قدحت في القلوب ظلمة ونتناً أدرك ذلك الحفظة من أملاك الشمال فكتبوها سيئات وكل هذا إلهام وإلقاء من خالق النفس ومسويها وجبار القلوب ومقلبها حكمة منه وعدلاً لمن شاء، ومنة ً وفضلاً لمن أحب، كما قال: (وَتَمَّتْ كِلَمَةُ رَبٍّكَ صِدْقاً وَعدْلاً) الانعام: 115 أي بالهداية صدقاً لأوليائه ما وعدهم من ثوابه وبالاضلال عدلاً على أعدائه ما أعد لهم من عقابه.
ثم قال تعالى: (لاَ يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلونَ) الأنبياء: 23 فهذه جنود منقادة لأمره وهو ملك جبار عزيز قهار تعالى عن مباشرة الأشياء إذا كانت تنقاد لمشيئته وتطوع لقدرته فتنفذ قدرته إرادته تظهر حكمته أفعاله إذا أراد شيئاً قال له: كن بخفي قدرته فكان بظاهر حكمته، والرب سبحانه قادر على كل شيء، بيده ملكوت كل شيء حكيم في كل شيء، والعبد ضعيف عاجز جاهل لا يقدر على شيء قد ابتلي بالأسباب ووقع عليه(1/212)
الحجاب وجعل مكاناً للأحكام بالعقاب والثواب فالأسباب أواسط البلاء والعبد موضع الابتلاء.
والأوّل سبحانه وتعالى هوالمبلي المريد المبدئ المعيد وينشئكم فيما لا تعلمون وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً وليس يشهد العبد إلا ما أشهد فكذلك تفاوت العباد في المشاهدة ولا يستبين له إلا ما أبين له وأريد به فعند ذلك اختلفوا في الأدلة فإذا أراد اللَّه عزّ وجلّ إظهار شيء من خزائن الغيب حرك النفس بلطيف القدرة فتحركت بإذنه فقدح من جوهرها بحركتها ظلمة تكتب في القلب همة سوء فينظر العدوّ إلى القلب وهو مراصد ينتظر والقلوب له مبسوطة والنفوس لديه منشورة يرى ما فيها ما كان من عمله المبتلي به المصرف فيه فإذا رأى همة قد قدحت في النفس فأثرت ظلمة في القلب ظهر مكانه فقوي بذلك سلطانه والهمة ترد على أحد ثلاث معانٍ لا تحصى فروعها لأن همة كل عبد على قدر بغيته أحدهما هوى وهو عاجل حظ النفس أو أمنيته وهذا عن الجهل الغريزي أو دعوى حركة أو سكون وهو آفة العقل ومحبة القلب، فأي هذه الثلاث قدح في القلب فهو وسوسة نفس وحضور عدوّ منسوب إليه محكوم عليه بالذم ليست تصدر إلا بأحد ثلاثة أصول بجهل، أو غفلة، أو طلب فضول دنيا، وهن مما لا يعني ومضافات إلى الدنيا وأعمالها.
والأفضل مجاهدة النفس والعدوّ عن إمضائها وحبس الجوارح عن السعي فيها إن كنّ من فضول الدنيا المباحات فإن كنّ هذه الثلاث وردن بمحرّمات ففرض عليه كفّ الجوارح عن السعي فيها فإن أمرح قلبه في ذكرها أو نشر خطواته في طلبها كن حجاباً بين قلبه وبين اليقين وإن كنّ وردن بمباحات ففضل له بنفيها عن قلبه كيلا يكون قلبه موطناً للغفلات وأصلهن الابتلاء من اللَّه تعالى بالتقليب والامتحان منه في التصريف ولذلك خلق النفس والروح والموت والحياة وجعل ما على الأرض زينة لها ليظهر أحسن العمل بالزهد فيها وينظر كيف تعملون فإذا أراد اللَّه تعالى سلامة هذا العبد بعد أن أشرف على الهلاك والبعد بتسليط العدوّ عليه وتسويل النفس له نظر القلب عند الابتلاء فهدى النفس بنور إيمانه إلى اللَّه تعلى فأسر الالتجاء إليه وأخفى التوكل عليه عائذاً لائذاً به واضطر مخلصاً له فهناك توكل عليه فكان حسبه وعندها فوّض إليه أمره فوقاه مكر عدوّه وحينئذ اضطر إليه واتقاه فجعل له مخرجاً ونجاه فينظر اللَّه تعالى إلى القلب نظرة تخمد النفس وتمحق الهمة وتخنس العدوّ لسقوط مكانه وتذهب لخنوسه شدة سلطانه فيصفو القلب من التأثير بنور السراج المنير ويملس من التحرير بقوّة القهار العزيز فيخاف العبد مقام الرب لصفاء القلب عن نظر الرب تعالى فيفزع من الخطيئة ويهرب أو يستغفر منها ويتوب ويظهر عليه شعار تقواه.
وإن أراد الله تعالى بعبد هلكة وكان قد حكم بوقوع الشر نظر القلب بعد الهمة(1/213)
بهوى النفس إلى العقل فرجع العقل إلى النفس فسوّلت وطوعت فسكن العقل واطمأن إلى تسويل النفس وطوعها فانشرح الصدر بالهوى لسكون العقل وانتشر الهوى في القلب لشرح الصدر وتوسعته فقوي سلطان العدوّ لاتساع مكانه فأقبل بتزيينه وغروره وأمانيه ووعده يوحي بذلك زخرفاً من التحول وغروراً فيضعف سلطان الإيمان لقوّة سلطان العدوّ وخفاء نور اليقين فغلب الهوى لقوّة الشهوة فأحرقت الشهوة العلم والبيان فارتفع الحياء واستتر الإيمان بالشهوة فظهرت المعصية لغلبة الهوى وارتفاع الحياء، وهذان المعنيان من ظهور الخيروالشر والطاعة والمعصية فلهذه الأسباب يوجدان في طرفة عين فتصير أجزاء العبد جزأ واحداً ومفصلاته تعود بالمراد منه فصلاً واحداً كالبرق في السرعة بتغليب القدرة على المشيئة إذا قال جلّ وعلا له: (كُنْ فَيَكُونُ) آل عمران: 59.
وإن أراد الله تعالى إظهار خير وإلهام تقوى من خزائن الملكوت حرّك الروح بخفي اللطف فتحركت بأمره جلّت قدرته فقدح من جوهرها نور سطع في القلب همة عالية وهمة الخير ترى بأحد ثلاثة معان لا تحصى فروعها لأن كل عبد همته في الخير مبلغ علمه ومنتهي مقامه، فأحد الأصول مسارعة إلى أمر يفرض أو ندب لفضل يكون عن عمل حال العبد أو علم يكون فطنة له أظهر عليه من مكاشفة غيب من ملك أو ملكوت، والمعنى الثالث بتحمل مباح من تصرف فيما يعني مما يعود صلاحه عليه واستراحة النفس بما أبيح له يكون نفعه لغيره أو ترويحات من الأفكار لقلبه الغائص في البحار يكون حملاً لكربه وتخفيفاً لثقله، فهذه مرافق للعبد باختيار من المعبود وحكمة من الحكيم وفي كلها رضاه سبحانه وتعالى فإمضاؤها أفضل للعبد وبعضها أفضل من بعض، وهذه الأصول الستة من الخير والشر هي الفرق بين لمة الملك وبين لمة العدوّ وبين إلهام التقوى وإلهام الفجور التي هي النية والوسوسة، وهما الاختيار أو الاختبار، وقد تكون هذه المعاني مكاشفات مزيد للعبد ينظر إلى الله منها ويجد الله تعالى بما أوجده منه عندها ويكون تعريفاً من الله يتعرف إليه بها ويفتح له باب الأنس والشوق منها ثم تتفاوت العباد في مشاهدتها على حسب علوّهم في اليقين وعلى قدر قوّتهم ومكانهم من التمكين إلا أن أصول معاني الخير وأواسطها إلهام الملك والإلقاء في الروح وقوادح الأنوار في كتب الإيمان وفروعها الآخرة والعلم مما أمر به أو ندب إليه والمباح وأصول معاني الشر أضدادها أواسطها النفس والعدوّ وأسبابها الشهوة والهوى يظهرن عن الجهل ويوقعن الحجاب ويصدرن إلى عقاب.
فإذا أراد الله تعالى إظهار خير من خزانة الروح حركها فسطعت نوراً في القلب فأثرت فينظر الملك إلى القلب فيرى ما أحدث الله تعالى فيه فيظهر مكانه فيتمكن على مثال فعل العدوّ في خزانة الشر، وهي النفس، والملك مجبول على الهداية مطبوع على(1/214)
حب الطاعة كما أن العدو مجبول على الغواية مطبوع على حب المعصية فيلقي الملك الإلهام وهو خطوره على القلب بقدح خواطره يأمر بتقييد ذلك ويحسنه له ويحثه عليه وهذا هو إلهام التقوى والرشد وينظر الملك إلى اليقين كما ينظر العدو إلى النفس فيشهد اليقين للملك بذلك فيطمئن العقل ويسسكن إلى شهادة اليقين ويصير العقل الآن بإذن الله تعالى مع الملك بتأييد الله تعالى كما كان مع النفس أول مرة مطمئناً إليها فينشرح الصدر لطمأنينة العقل فتظهر أدلة العلم لانشراح الصدر فيقوى سلطان اليقين لصفاء الإيمان وتندرج ظلمة الهوى في نور اليقين وتنطفئ شعلة الشهوة لظهور نور الإيمان ويزين الإيمان بزينة الحياء فتضعف صفات النفس لسقوط الشهوة ويقوى القلب لضعف النفس ويزيد الإيمان بقوّة اليقين وظهور أدلة العلم فتغلب الهدايةلمزيد الإيمان ولبسة الحياء فتظهر الطاعة لغلبة الحق والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ذكر نوع آخر من البيان
وقد تختلف اللمتان من الملك والعدوّ ويتفاوت الإلهام والوسوسة في المعاني من الخير والشر، فربما تقدمت لمة العدوّ بالأمر بالشر وتقدح بعدها لمة الملك نصرة للعبد وتثبيتاً على الخير وعناية من الرب تعالى فينهي عن ذلك، فعلى العبد أن يعصي الخاطر الأوّل ويطبع الخاطر الثاني، وقديتقدم إلهام الملك بالأمر بالخير ثم يقدح بعده خاطر العدوّ بالنهي عنه والتثبيط والإملاء فيه بالتأخير محنة من الله تعالى للعبد لينظر كيف يعمل وحسداً من العدوّ فعليه أن يطيع الخاطر الأوّل ويعصي الخاطر الثاني، ثم تدق الخواطر من إلهام الملك بالخير ومن وسوسة العدوّ بالشر، وقد يتفاوت ذلك من ضعف خاطر الخبر لقوّة الرغبة في الدنيا ومن قوّة خاطر الشر لقوّة الشهوة والهوى وفي المزيد والنقص منهما والتقديم والتأخير بهما لتفاوت الأحكام والإرادة من الحاكم ومن قبل تقليب القدرة وغرائب الأحكام بالمشيئة لأن له في خزانة الخير خزانة الشر إذا شاء وله في خزانة الشر خزائن الخير إذا أحب لمن يحبه لئلا يسكن إلى سواه ولا يدل العبد بما منه أبداه، فإذا شهد العارف ذلك لم يقطع بخير ولم يدل به أبداً لأنه لا يأمن مكر الله تعالى بتقليب خزائن الشر من خزائن الخير إذا عليه أبداه ولم ييأس من شر عليه أبداه لأنه يرجو تقليب خزائن الخير من خزئان الشر فيكون بين الخوف والرجاء ولا يدرك ذلك إلا بدقائق العلوم ولطائف الفهوم وغوامض الفطن وصفاء الأنوار من تعليم الرحيم الجبار، فما كان للعبد يجد بعد خطرة الشر خطرة خير منها تنهاه عنها فهو منظور إليه متدارك وهذا هو الواعظ القائم في القلب والزاجر المؤيد للعقل، وقد تترادف خواطر الشر من النفس والهوى فلا يتعاقبها خاطر خير من الملك وهذا علامة البعد ونهاية قسوة القلب، وقد تتابع خواطر الخير والبر من الروح والملك ويعافى العبد من خاطريالهوى(1/215)
والنفس وهذا علامة القرب وهو حال المقربين وقد ترد خواطر العدوّ ووساوسه بالخير والبر ابتلاء من الله تعالى لعبده وحيلةً من العدوّ ومكراً من النفس يريد العدوّ بذلك الشر أو يخرجه آخر إلى إثم أو خير ليقطعه بذلك عن واجب أو يشغله به عن الأفضل في الحال فيكون ظاهره براً وباطنه إثماً ويكون أوّله خيراً وآخره إثماً، وبغية العدوّ من ذلك باطنه وآخره، وشهوة النفس في ذلك هواها ومناها قد لبسا ظاهره بالخير تزييناً وموّها أوّله بالبر تحسيناً وهذا من أدق ما يبتلى به العاملون ولا يعرف بواطنه وسرائره إلا العالمون.
فأما خاطر الملك فلا يرد إلا بخبر صريح وبر محض على كل حال إذا ورد لأن الخداع والحيلة ليس من وصف الملائكة ولكن قد تنقطع خواطر الملك من القلب إذا اشتدت قسوته ودامت معصيته من المتعبدين فيخلى بين القلب وبين نوازع العدوّ اللعين ويتخلى العدوّ بهوى النفس فيستحوذ ويقترن بالعبد نعوذ بالله من إبعاده وعدم خيره وإرشاده ولايزال العبد مع إلهام الملك في مقام الإيمان، فإذا رفع إلى مقام اليقين تولاه الله تعالى بواسطة أنوار الروح، فكان الروح مكان إلقاء الحق حتى يرد عليه من الله تعالى بواسطة أنوار الروح، من السرائر ما لا يطلع عليه الملك ولا يكون ذلك حتى تفنى خواطر النفس بالهوى ولا تبقى منها باقية، وتطوى النفس فتندرج في الروح فلا يظهر منها داعية ثم يتولاه الله تعالى بنور اليقين فيسطع له نور اليقين من خزانة الغيب المحجوب بمكاشفات الجبروت فيشهد العبد شهادة الحق بالحق معاينة الغيب بفقد كونه ووجد كينونته وما لا يصلح بعد ذلك كشفه إلا لأهله أو لمن سأل عنه، وهذا يكون في مقام التوحيد وهذا أنصبة المقربين.
ذكر بيان آخر من تفصيل المعاني
وكل عمل وإن قل لا بدَّ فيه من ثلاثة معانٍ قد استأثر الله تعالى بتوليها أوّلها التوفيق وهو الإتفاق أن يجمع بينك وبين الشيء ثم القوّة وهو اسم لثبات الحركة التي هي أوّل العقل ثم الصبر وهو تمام الفعل الذي به يتم، فقد رد الله عزَّ وجلَّ هذه الأصول التي يظهر عنها كل عمل إليه، فقال سبحانه: (وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بالله) هود: 88، وقال: (مَا شاءَ اللهُ لاَ قُوَّةَ إلاَّ باللهِ) الكهف: 39، وقال عزّ وجلّ: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلاّ بِالله) النحل: 127، وقد أجمل الله عزّ وجلّ ذكر تقليب الكون بمشيئته في قوله تعالى: (يُقَلِّبُ الله اللَّيْلَ والنَّهَارَ) النور: 44، والمعنى بما فيهما لأنهما ظرفان للأشياء فعبر عنهما بهما كقوله تعالى: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ والنَّهَارَ) سبأ: 33، والمعنى مكركم في الليل والنهار فعبر بهما عن مكرهم لأنهما مكان لمكرهم، وكذلك قوله تعالى: (وَلَهُ ما سَكَنَ في اللَّيْل والنَّهَارِ) الأنعام: 13 فيها وجهان أحدهما أي ما أقام من السكن والثاني ما سكن من السكون وإنما(1/216)
ذكر السكون دون الحركة لأنه هو الأصل حتى تحرك وهو الأقرب إلى العجز والعدم والتحريك حادث جارٍ بأحداث الله تعالى وإجرائه، ويجوز أيضاً ذكر السكون ليستدل به على الحركة لأنه ضدها، كما قال الله تعالى: (سَرَابيلَ تَقيكُمُ الْحَرَّ) النحل: 81 وهي أيضاً تقي البرد فذكر أحد الوصفين ليستدل به على الآخر.
وقال سبحانه: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهمْ) الأنعام: 110، وكان قسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ومقلب القلوب لما شهد من عظيم القدرة ولطيف الصنع في التقليب، ولما رأى من سرعة نفاذ القدرة بالمراد في المقلبات مما لم يشهد سواه فجعله قسماً له تعظيماً لقدرة المحلوف به وخوفاً من سابق العلم بالتقليب فكان يقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قالوا له: وتخاف يا رسول الله؟ قال وما يؤمنني والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وفي لفظ حديث آخر: إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه، وقد روي عنه: مثل القلب مثل العصفور في تقلبه يتقلب في كل ساعة، وفي خبر آخر: مثل القلب في تقلبه كالقدر إذا استجمعت غلياً والخبر المشتهر مثل القلب كمثل ريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح ظهر البطن، فالقلب مكان للتقليب بما فيه من خزائن الغيب كالليل والنهار مكان للأحكام بالتصريف من اختلاف الأزمان في الأوقات والإيمان بتقليب القلوب وبأن المقلب يحول بين القلب وبين صاحبه واجب.
وقد قرن الله عزّ وجلّ الإيمان بالبعث الأمر بهما في قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) الأنفال: 24، وفسره ابن عباس فقال: يحول بين المؤمن وبين الكفر ويحول بين الكافر وبين الإيمان وقيل يحول بين العبد وبين الاستجابة لله تعالى والرسول وقيل: يحول بين المؤمن وبين سوء الخاتمة وبين الكافر(1/217)
وبين حسن الخاتمة وقيل يحول بين المؤمن وبين أن يلقيه في كبيرة يهلك فيها وبين المنافق وبين أن يوفقه لطاعة فينجو بها ويحول بين الموحد وبين الخاتمة بالتوحيد، وهذه مخاوف للمؤمنين بتحقيق الوعيد وكذلك الكون بأسره عند الموحدين في القدرة بالتقليب كمثل ريشة في ريح عاصف تقلبه القدرة على مشيئة القادر وليس في القدرة ترتيب ولا مسافة ولا بعد ولا يحتاج إلى زمان ولا مكان، فما ظهر من الملك وثبت للعيون بمكان وزمان فلأجل الحكمة والصنعة والإتقان وما خفي من الملكوت وتقلب ببصائر القلوب فبلطف القدرة وقهر السلطان ونصيب كل عبد من مشاهدة القدرة بقدر نصيبه من التوحيد ونصيبه من التوحيد حسب قسمه من اليقين وقسمه، من اليقين على قربه من القريب وقربه علي حسب قرب الله تعالى من قلبه وقرب الله تعالى منه بقدر علمه بالله تعالى واتساعه في العلم بالله عزّ وجلّ على نحو مكانه من مزيد الإيمان ومزيد إيمانه على قدر إحسان الله تعالى إليه وإحسانه إليه على قدر عنايته به وإيثاره له وعلم الله من وراء ذلك وذاك سر القدرة المحجوب المخزن ونصيب كل عبد من الجهل على قدر نصيبه من الغفلة ونصيبه من الغفلة على حسب حب الدنيا وحبه للدنيا على قدر قوّة الهوى وقوّة الهوى على قدر غلبة سلطان النفس ونشر صفاتها عليه وقوّة صفات النفس على قدر ضعف اليقين وضعف يقينه على كثافة الحجاب والبعد بينه وبين الله عزّ وجلّ والحجاب والبعد ميراثه الكبر وقسوة القلب والقسوة تورث الانهماك في المعاصي وإدمان المعاصي عن الإعراض والمقت، والإعراض والمقت، من قلة عناية المولى بعبده وسوء نظره له، ومن وراء ذلك سر القدر الذي به عن الخلق قد استأثره، فهذه الأوصاف المذمومة العبد مبتل بها على تضاد تلك الصفات المحمودة التي هي من المنعم بها ولكل وجهة هو موليها ومكان الهوى من القلب على قدر تزيين العدوّ له وتسليطه عليه، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً، (إنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فلا غَالِبَ لَكُمْ وَإنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِه) آل عمران: 160، وان يمسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا رادّ لفضله، فإذا كان الهادي هو المضلّ فمن يهدي؟.
وقد قال تعالى: (فإِنَّ الله لا يَهْدي مَنْ يُضِلُّ) النحل: 37 أي فإن الله من شأنه أن أحداً لا يهدي من أضله ومن كان أضله الله في سابق علمه فكيف يهديه الآن، كذلك قال على الحرف الآخر فإن الله لا يهدي من يضلّ فإذا كان المعطي هو المانع فمن يعط ولو كان الخير كله في قلب عبد ما قدر أن يوصل إلى قلبه من قلبه ذرة ولا استطاع أن ينفع نفسه بنفسه خردلة لأن قلبه وان كان جارحته فهو خزانته وله فيه ما لا يعلم هو فهو لا يطلع على ما فيه كما قال معجباً لمن جهله وأضله أطّلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً فكيف به أن يملك ما فيه فيصرفه بما يحب، وقد قال: سبحان مصرف القلوب وقد(1/218)
خاطب الله تعالى سيد البشر وأمره أن يخبر فقال: (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعَاً ولا ضَرَّا إلاَّ مَا شاءَ اللهُ) الأعراف: 188، ثم قال بعد ذلك: (قُلْ إنِّي لا أمْلِكُ لَكُمْ ضُرًّا ولا رشَداً) الجن: 21، ثم قال بعد ذلك: (قُلْ إنّي لَنْ يُجيرني مِن اللهِ أحَدٌ ولنْ أجِدَ مِنْ دُونِه مُلْتَحَداً) الجن: 22، وإذا كان المالك عزيزاً جباراً وكان كل شيء بيده لم يوصل إلى ما عنده بقوة ولا حيلة فليس الطريق إليه إلا الصدق والإخلاص والذل والافتقار وقد حجب العقل المكيد عن النظر إلى المبدئ المعيد بما أظهر له من صورته وحركته فستره عن الأول المصوّر وعن القادر المحرّك فادّعى عن نظره إلى حركته وسكونه التي هي حجة له عن المحرّك لغيب ادعاء الحركة والسكون بنفسه لوقوف نظره على نفسه إذ كان مشهوداً وعمي عن النظر إلى الشاهد المحرّك المسكن لبعد مقامه لأنه غيب من وراء الحركة والغيب لا يشهد إلا بغيب وهو اليقين كما لا تدرك الشهادة إلا بشهادة وهي العين فمن عمي بصره لم يرَ من الملك شيئاً كذلك من حجب قلبه لم يرَ من الملك شيئاً، فلعدم اليقين عمي عند المشاهدة ولإيقاع الحجة والحجاب أدرك بالمعقول الشهادة، ولو كان من أولي البصائر لاعتبر الحركة الغيبية بالمتحرك المشاهد فكما أن الحركة غيب في الجسم ظهر عنها المتحرك فأظهر سبحانه المتحرك وأخفى الحركة فيه وأظهر الصنعة وأخفى الصنع فيها لتفصيل حكمته كذلك الصانع ذو الصنعة الأول والحاكم الأعلى ذو الحكمة الأغلب غيب عن الحركة التي أخفاها هو من ورائها بلطائف القدرة فشهد المعقول ما أشهدهما أظهر له ووجه به لأنه معقول عليه محدود له وعمي عما غيب عنه لفقد اليقين منه فعندهما ادّعى الحركة والسكون للشاهد فحجبه ذلك عن الشهيد وشهد الموحد بشهادة التوحيد فوجد لما كشف له الملكوت بنور اليقين فأفرد، وقد قال بعض العارفين: من نظر في توحيده إلى عقله لم ينجه توحيده من النار ومن كان توحيده في الدنيا معلقاً بمعقوله لم يحمل توحيده معه لي اليقين أحسب أن هذا إيمان الذي يقال أخرجوا من النار من كان في قلبه وزن مثقال من إيمان فما زاد على هذا المقدار فهو متصل باليقين وهو مؤيد بالروح يمده روح التأييد فلا ينطفئ فهو المزحزح عن النار
وقد قال بعض علمائنا: من ظن أنه يصل إلى الله بغير الله تعالى قطع به، ومن استعان على عبادة الله تعالى بنفسه وكل إلى نفسه، ثم إن الخلق محجوبون بعد هذا الحجاب بثلاثة حجب بعضها أكثف من بعض أحدها أواسط وأسباب معترضة وشهوات جاذبة وعادات راجعة صادرة، فالأسباب توقفهم عليها والشهوات تجذبهم إليها والعادات تردهم فيها، فأي هذه الحجب ظهر في القلب وبعضها أشد عليه من بعض فهو مكان للعدوّ أوسع من مكان فتمكن سلطانه على قدر سعة مكانه فقويت النفس بتزيين العدوّ وسوّلت(1/219)
بتأميلها فملكت العبد ملكاً أشد من ملك، فإذا ملكت النفس العبد كان مملوكها وأسيرها وكانت بالهوى أميرة فاستهواه الشيطان حينئذ بالغواية والإضلال واستحوذ عليه بمعاني المشاركة في الأولاد والأموال، فشغله بذلك عن الله سبحانه وتعالى وأنساه ذكر الله عزّ وجلّ، وهذا هو الاقتران الذي ذمه الله تعالى في قوله: (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَريناً فَسَاءَ قَريناً) النساء: 38 وهو فوق النزغ الهمز والخاطر بعد الهمة وهو خطور العدوّ على القلب بالوسوسة يزين الهمة ويملي للعبد ويرجيه ويفسح له في أمله ويمنيه بالتوبة حتى تهون عليه المصية ويعده بعدها بالمغفرة حتى يجرئه على الخطيئة وهذا هو الوعد بالغرور وبعده الهلاك والثبور، كما قال يعدهم أي التوبة ويمنيهم المغفرة وما يعدهم الشيطان إلا غروراً، وهذا كله تصديق ظن العدوّ بالعبد واتباع العبد له بالهوى عن مقام البعد وكشف لعلم الله تعالى بإظهار الحكم وإنفاذ المشيئة وهو الابتلاء بالأسباب فصار العدوّ سبباً لقوله تعالى: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْليسُ ظَنَّهُ فاتَّبعُوهُ إلاَّ فَريقاً مَنَ الْمُؤْمنينَ) سبأ: 20، ثم أحكم ذلك بسابق علمه فقال (وما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطان) سبأ: 21، يعني بحوله وقوّته وبقهره ومشيئته إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك أي لنرى وقيل لنعلم العلم الذي يجازي عليه بالثواب والعقاب وقيل: لنختبر ونكشف وقيل: لنعلم المؤمنين ذلك فيستبين لهم ويعلم من عمل تلك الأعمال التي ظهرت منه فتوقع عليه بذلك الحجة ويتبين له كذبه كما قال: (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذِبينَ) العنكبوت: 3، فعلى هذه المعاني مجاز كل ما في كتاب الله عزّ وجلّ من قوله لنعلم وحتى نعلم إذ كان علمه تعالى قد سبق المعلومات وإذا كانت الأشياء عن علمه بعلمه جاريات فجعل تسليط العدوّ بسلطانه كشفاً وإظهاراً لما أخفاه من سابق علمه كما جعل أفعال العباد الظاهر كشفاً وإظهاراً لإرادته الباطنة، وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سبق العلم وجفّ القلم وقضى القضاء وتم القدر بالسعادة من الله تعالى لأهل طاعته وبالشقاء من الله تعالى لأهل معصيته.
ذكر تقسيم الخواطر وتفصيل أسمائها
فأما تسمية جملة الخواطر فما وقع في القلب من علم الخبر فهو إلهام وما وقع من علم الشر فهو وسواس وما وقع في القلب من المخاوف فهو الحساس وما كان من تقدير الخير وتأميله فهو نية وما كان من تدبيرالأمور المباحات وترجيها والطمع فيها فهو أمنية وأمل وما كان من تذكرة الآخرة والوعد والوعيد فهو تذكر وتفكير وما كان من معاينة الغيب بعين اليقين فهو مشاهدة وما كان من تحدث بمعاشها وتصريف أحوالها فهو هم وما كان من خواطر العادات ونوازع الشهوات فهو لمم، ويسمّى جميع ذلك خواطر لأنه خطور همة نفس أو خطور عدوّ بحسد أو خطرة ملك بهمس، ثم إن ترتيب الخواطر المنشأة من خزائن الغيب القادحة في القلب على ستة معانٍ، وهذه حدود الشيء المظهر ثلاثة منها معفوة وثلاثة منها مطالب بها، فأول ذلك الهمة وهو ما يبدو من وسوسة النفس بالشيء(1/220)
يجده العبد بالحس كالبرقة فإن صرفها بالذكر امتحت وإن تركها بالغفلة كانت خطرة وهو خطور العدوّ بالتزيين وإن نفى الخاطر ذهب وإن ولي عنه قوي فصار وسوسة وهذا محادثة النفس للعدوّ وإصغاؤها إليه وإن نفى العبد هذه الوسوسة بذكر الله خنس العدوّ وصغت النفس، وهذه الثلاث معفوة برحمة الله تعالى غير مؤاخذ بها العبد وإن أمرج العبد النفس في محادثة العدوّ وطاولت النفس العود بالإصغاء والمحادثة قويت الوسوسة فصارت نية فإن أبدل العبد هذه النية بنية خير فاستغفر منها وتاب وإلا قويت فصارت عقداً فإن حلّ هذا العقد بالتوبة وهو الإصرار والأقوى فصار عزماً وهو القصد.
وهذه الثلاثة من أعمال القلب مأخوذ بها العبد ومسؤول عنها فإن تداركه الله تعالى بعد العزم وإلا تمكن العزم فصار طلباً وسعياً وأظهر العمل على الجوارح من خزائن الغيب والملكوت فصار من أعمال الجسم في خزانة الملك والشهادة، فهذه الأعمال توجد من أعمال البر والإثم، فما كان منها من البر همة ونية وعزماً كان محسوباً للعبد في باب النيات مكتوباً له في ديوان الإرادة له به حسنات وما كان منها من الشر نية وعقداً وعزماً فعلى العبد فيه مؤاخذه من باب أعمال القلوب ونيات السوء وعقود المعاصي وليس شيء مجانس للعدوّ مؤاخٍ له إلا النفس جمع الله تعالى بينهما في الوسوسة بقوله: (الوَسْواسِ الخَنَّاس) الناس: 4، وقوله: (ونَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بهِ نَفْسُهُ) ق: 16، وكل شيء خلقه الله تعالى فله مثل وضد، فمثل النفس الشيطان وضدهما الروح، ثم إن أعمال الجوارح من النوعين الطاعة والمعصية أعظم في الأجر والوزر معاً إلا ما لا يتأتى أن يعمله بظاهر الجسم من شهادة التوحيد أو وجود شك أو كفر أو اعتقاد بدعة.
باب آخر من البيان والتفصيل
فأما ما كان من لائح يلوح في القلب من معصية ثم يتقلب فلا يلبث فهذا نزغ من قبيل العدوّ وما كان في القلب من هوى ثابت أو حال مزعج دائم لابث فهو من قبل النفس الأمارة بطبعها أو مطالبة منها بسوء عادتها وما ورد على العبد من همه بخطيئة ووجد العبد فيها كراهتها، فالورود من قبل العدوّ والكراهة من قبل الإيمان وما وجده العبد وجداً بهوى أو معصية ثم ورد عليه المنع من ذلك فالوجد من النفس والوارد بالمنع من الملك وما وجده العبد من فكر في عاقبة الدنيا أو تدبير الحال ونظر إلى معهود فهذا من قبل العقل وما وجد من خوف أو حياء أو ورع أو زهد أو من شأن الآخرة فهذا عن الإيمان وما شهد القلب من تعظيم أو هيبة أو إجلال أو قرب فهذا من اليقين وهو من مزيد الإيمان وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه كما قال صاحب الأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أعوذ بك وإنما هذا تفصيل الحدود وإظهار المكان وإحكام العلم كما قال تعالى: (وَكُلَّ شَيء فصَّلْنَاه تَفْصيلاً) الإسراء: 12، وقال: (قَدْ فَصَّلْنا الآياتِ لِقَوْم يَعْلَمُونَ) الأنعام: 97، وليس في التوحيد ولا في المشاهدة تفكر ولا في الإشارة عيان ولا في القدرة ترتيب ولكن لا بدّ(1/221)
من علم التفصيل لا عن التوحيد وهو التفرقة بلسان الشرع عن عين الجمع لإظهار الطرق واستنارة السبل وتطريق السالكين وترتيب العاملين ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيا من حي عن بيّنة والله غالب على أمره، وقد فصل بعض العلماء أعمال العباد وفرق بين الأمر والإرادة فقال: إن أعمال العباد لا تخلو من ثلاثة أنواع: فرض وفضل ومعصية، قال: فنقول إن الفرض بأمر الله تعالى ومحبة الله ومشيئة الله، تجتمع هذه المعاني الثلاثة في الفرائض قال: ونقول إن النفل لا بأمر الله لأنه لم يوجبه ولم يعاقب على تركه ولكن بمحبة الله ومشيئته جلّ وعلا أي لأنه شرعه وندب إليه فقال: ونقول إن المعصية لا بأمر الله لأنه لم يشرعها على ألسنة المرسلين ولا بمحبة الله لأنه قد كرهها إذ لم يأمر بها ولم يندب إليها ولكن بمشيئة الله جلّت عظمته أن لا يخرج شيء من إرادته كما لم يخرج شيء من علمه، والإرادة والمشيئة اسمان بمعنى واحد فقد دخل كل شيء فيها كما دخل كل شيء في العلم فالله سبحانه عالم بما أراده وقد سبق به علمه كذلك هو مريد لما علمه أظهرت إرادته سابق علمه وكشف علم الغيب بظهور إرادته الشهادة فهو عالم الغيب والشهادة فالغيب علمه والشهادة معلومة فكيف يخالف المعلوم العلم وهو إجراؤه والإرادة نفذت العلم في معلومات الخلق وهذا فرض التوحيد فخرجت النوافل عن الأمر خرجت المعاصي عن المحبة في تفصيل الأحكام، وتبين الحلال والحرام ولم تخرج معصية عن مشيئة، وقد قال الله جلّ ثناؤه: (وَكُلُّ صَغيرٍ وَكَبيرٍ مُسْتَطَرٌ) القمر: 53، وقد قال رسول الله: كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس فذكر عرضين لطيفين هما سببا المنع والعطاء وقد فرق عالمنا بين الأمر والإرادة فرقاً لطيفاً فحدثني بعض أصحابنا أنه سئل عن قول الله عزّ وجلّ لما أمر إبليس بالسجود لآدم أراد منه ذلك أم لا فقال أراده ولم يرده منه يعني أراده شرعاً وإظهاراً وعليه إيجاباً ولم يرده منه وقوعاً ولا كوناً إذ لا يكون إلا ما إراد الله تعالى إذ لو أراد كونه لكان ولو أراده فعلاً لوقع لقوله تعالى: (إنَّمَا أَمْرُهُ إذا أرادَ شَيْئاً أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون) يس: 82، فلما لم يكن علمت أنه لم يرده، فقد كان الأمران معاً إرادته بالتكليف والتعبد وإرادته بأن لا يسجد كما لم يقدر من أن يمتنع من أن يؤمن، فكذلك القول في نهيه لآدم عن أكل الشجرة إنه أراد الأكل منه ولم يرده له أي أراده وقوعاً وكوناً لأنه قد وجد وكان كقوله إذا أردناه أن نقوله له كن فيكون فلما كان علمت أنه أراده ولم يرده شرعاً ولاأمراً لأنه لم يأمره به ولاشرعه له فقد كان الأمران جميعاً إرادته أن يكون العبد مكلفاً مأموراً وإرادته الأكل منه لأنه قد كان وكذلك القول في كل ما أمر به وأراده إنه أراد الأمر والنهي لهم ليكونوا مكلفين متعبدين ولم يرده ممن لم يكن منه الائتمار والانتهاء لأنه قال تعالى: (إنَّما قَوْلُنا لِشَيْء إذا أرَدْناهُ أنْ نَقُولَ لًَهُ كُنْ فَيَكُونُ) النحل: 40، فأخبر أنه إذا أراد شيئاً كونه كما أنه إذا كوّن شيئاً فقد أراده
بدلالة(1/222)
كونه، فلما لم يمكن الأمر من العاصين علمنا أنه لم يرده إذ لو أراده كان، ولما كان النهي من المأمورين علمنا أنه أراد كونه إذ لو لم يردْهُ لم يكن، فصار كون الشيء دليلاً على إرادته، وقد وقعت الإرادة بالأمر والنهي فكان الكل مأمورين منتهين ولم يقع الفعل من الكل لأنه لم يرد وقوعه إذ لو أراده كان وهذا أصل الابتلاء وإرادة ظهور البلاء، يأمر الله تعالى بالشيء ويريد كون ضده وقد أراد الأمر به حسب وينهى عن الشيء ويريد كونه وقد أراد النهي عنه فقط، وقد كان عالمنا أبو الحسن رحمة الله عليه يتكلم في علم الأمر والخير وفي الابتلاء والقهر بمعانٍ لا يهتدى إليها اليوم ولا يسأل عنها أحد أي يظهر الأمر بالترك ويظهر النهي بالفعل ويظهر الأحكام لوقوع البلاء ويقهر الجوارح بالجبر على إرادته للابتلاء وقد فرق الحسن البصري رحمه الله قبله وهو إمامنا في هذا العلم بين التعذيب على جريان العلم ومخالفة الأمر لما بلغه أن عمرو بن عبيد وهو إمام المعتزلة اليوم وإليه نسبوا لما اعتزل عن الحسن البصري بعد أن صحبه ولم يختم له بصحبته بلغه أنه يقول إنّ الله لا يقضي بالشيء ثم يعذب عليه فقال له: ويلك إن اللّّه عزّ وجلّ لا يعذب على جريان حكمه وإنما يعذب على مخالفة أمره، تفسير ذلك أن ما حكمه الله تعالى منفرداً به لم يجعل فيه أمراً ولا نهياً لا يعذب عليه لأنه لم يجعل للعبد مدخلاً فيه بشهوة ولا فعل وإن ما قضاه على العبد مما أدخله فيه بقصده وشهوته عذبه عليه وهذا من شؤم النفس وتكدير الخلق أنها إذا أدخلت في شيء انقلب عليها شره والأمة مجتمعة على قول ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن واجتمعت على قول: لا حول ولا قوّة إلا بالله، فهذا عام في كل شيء ليس في بعض الأشياء دون بعض والحول في اللغة هو الحركة والعرب تقول للشخص يبدو من بعيد يظن أنه إنسان أو شجرة أو صخرة انظروا إليه فإن كان يحول فهو إنسان أي يتحرك والقوّة هو الثبات بعد الحركة وهو أول الصبر حتى يظهر الفعل بقوّة الله تعالى، وقد روينا في تفسير ذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا حول عن معصية الله إلا بعصمة اللهّ ولا قوّة على طاعة الله إلا بعون الله. ة كونه، فلما لم يمكن الأمر من العاصين علمنا أنه لم يرده إذ لو أراده كان، ولما كان النهي من المأمورين علمنا أنه أراد كونه إذ لو لم يردْهُ لم يكن، فصار كون الشيء دليلاً على إرادته، وقد وقعت الإرادة بالأمر والنهي فكان الكل مأمورين منتهين ولم يقع الفعل من الكل لأنه لم يرد وقوعه إذ لو أراده كان وهذا أصل الابتلاء وإرادة ظهور البلاء، يأمر الله تعالى بالشيء ويريد كون ضده وقد أراد الأمر به حسب وينهى عن الشيء ويريد كونه وقد أراد النهي عنه فقط، وقد كان عالمنا أبو الحسن رحمة الله عليه يتكلم في علم الأمر والخير وفي الابتلاء والقهر بمعانٍ لا يهتدى إليها اليوم ولا يسأل عنها أحد أي يظهر الأمر بالترك ويظهر النهي بالفعل ويظهر الأحكام لوقوع البلاء ويقهر الجوارح بالجبر على إرادته للابتلاء وقد فرق الحسن البصري رحمه الله قبله وهو إمامنا في هذا العلم بين التعذيب على جريان العلم ومخالفة الأمر لما بلغه أن عمرو بن عبيد وهو إمام المعتزلة اليوم وإليه نسبوا لما اعتزل عن الحسن البصري بعد أن صحبه ولم يختم له بصحبته بلغه أنه يقول إنّ الله لا يقضي بالشيء ثم يعذب عليه فقال له: ويلك إن اللّّه عزّ وجلّ لا يعذب على جريان حكمه وإنما يعذب على مخالفة أمره، تفسير ذلك أن ما حكمه الله تعالى منفرداً به لم يجعل فيه أمراً ولا نهياً لا يعذب عليه لأنه لم يجعل للعبد مدخلاً فيه بشهوة ولا فعل وإن ما قضاه على العبد مما أدخله فيه بقصده وشهوته عذبه عليه وهذا من شؤم النفس وتكدير الخلق أنها إذا أدخلت في شيء انقلب عليها شره والأمة مجتمعة على قول ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن واجتمعت على قول: لا حول ولا قوّة إلا بالله، فهذا عام في كل شيء ليس في بعض الأشياء دون بعض والحول في اللغة هو الحركة والعرب تقول للشخص يبدو من بعيد يظن أنه إنسان أو شجرة أو صخرة انظروا إليه فإن كان يحول فهو إنسان أي يتحرك والقوّة هو الثبات بعد الحركة وهو أول الصبر حتى يظهر الفعل بقوّة الله تعالى، وقد روينا في تفسير ذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا حول عن معصية الله إلا بعصمة اللهّ ولا قوّة على طاعة الله إلا بعون الله.
وهذا التفصيل في هذه المعاني من الأحكام هو ظاهر العلم وفرض القدر وفحوى التنزيل والشرع والجبر للملك الجبار يجبر خلقه على ما شاء كما خلقهم لما شاء ويردهم إلى ما شاء كما ينشئهم فيما يشاء فالحكم لله العلي الكبير الواحد القهار يقهر عباده كيف شاء ويجري عليهم ما يشاء وله الحجة البالغة والعزة القاهرة والقدرة النافذة والمشيئة السابقة بوصف الربوبية وبحكم الجبرية وعليهم الاستسلام والانقياد والطاعة والاجتهاد طوعاً وكرهاً بوصف العبودية وبحق الملكة إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم إن تعذبهم فإنهم عبادك وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين، (للهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) الروم: 4(1/223)
الفصل الحادي والثلاثون
كتاب العلم وتفضيله
وأوصاف العلماء وذكر فضل علم المعرفة على سائر العلوم وكشف طرق العلماء من السلف الصالح وذكر بيان تفضيل علوم الصمت وطريق الورعين في العلم والفرق بين العلم الظاهر والباطن وبين علماء الدنيا والآخرة وفضل أهل المعرفة على علماء الظاهر وذكر علماء السوء الآكلين بعلومهم الدنيا ووصف العلم وطريق التعليم وذم ما أحدثه المتأخرون من القصص والكلام وباب ذكر ما أحدث الناس من القول والفعل فيما بينهم مما لم يكن عليه السلف وبيان فضل الإيمان واليقين على سائر العلوم والتحذير من الرأي.
وذكر معنى قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طلب العلم فريضة على كل مسلم وفي الحديث الآخر اطلبوا العلم ولو بالصين فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم، قال عالمنا أبو محمد سهل رحمه الله: أراد بذلك علم حال يعني علم حال العبد من مقامه الذي أقيم فيه بأن يعلم أحدكم حاله الذي بينه وبين الله عزّ وجلّ في دنياه وآخرته خاصة فيقوم بأحكام الله تعالى عليه في ذلك، وقال بعض العارفين معناه طلب علم المعرفة وقيام العبد بحكم ساعته وما يقتضي منه في كل ساعة من نهاره، وقال بعض علماء الشام إنما عنى به طلب علم الإخلاص ومعرفة آفات النفس ووساوسها ومعرفة مكايد العدو وخدعه وغروره وما يصلح الأعمال ويفسدها فريضة كله من حيث كان الإخلاص في الأعمال فريضة ومن حيث أعلم بعداوة إبليس ثم أمر بمعاداته وذهب إلى هذا القول عبد الرحيم ابن يحيى الأرموي ومن تابعه، وقال بعض البصريين في معناه: طلب علم القلوب ومعرفة الخواطر وتفصيلها فريضة لأنها رسل الله تعالى إلى العبد ووسواس العدوّ والنفس فيستجيب لله تعالى بتنفيذ ما منه إليه ومنها ابتلاء الله تعالى للعبد واختبار تقتضيه مجاهدة نفسه في نفيها ولأنها أول النية التي هي أول كل عمل وعنها تظهر الأفعال وعلى قدرها تضاعف الأعمال فيحتاج أن يفرق بين لمة الملك ولمة العدوّ وبين خاطر الروح ووسوسة النفس وبين علم اليقين وقوادح العقل ليميز بذلك الأحكام، وهذا عند هؤلاء فريضة وهو مذهب مالك بن دينار وفرقد السنجي وعبد الواحد بن زيد وأتباعهم من النساك وقد كان أستاذهم الحسن البصري يتكلم في ذلك وعنه حملوا علوم القلوب، وقال عباد أهل الشام معناه طلب علم(1/224)
الحلال فريضة إذ قد أمر الله تعالى به وأجمع المسلمون على تفسيق آكل الحرام، وقد جاء في خبر مفسر طلب الحلال فريضة بعد الفريضة ومال إلى هذا القول إبراهيم بن أدهم ويوسف بن أسباط ووهيب بن الورد وحبيب بن حرب.
وقال بعض هذه الطائفة من أهل المعرفة: معناه طلب علم الباطن فريضة على أهله قالوا وهذا مخصوص لأهل القلوب ممن استعمل به واقتضى منه دون غيره من عوام المسليمن ولأنه جاء في لفظ الحديث: تعلموا اليقين فمعناه اطلبوا علم اليقين وعلم اليقين لا يوجد إلا عند الموقنين وهو من أعمال الموقنين المخصوص في قلوب العارفين وهو العلم النافع الذي هو حال العبد عند الله تعالى ومقامه من الله تعالى كما شهد له الخبر الآخر في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وعلم باطن في القلب وهو العلم النافع فهذا تفسير ما أجمل في غيره، وقال جندب: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيعلمنا الإيمان ثم يعلمنا القرآن فازددنا إيماناً وسيأتي زمان قوم يتعلمون القرآن قبل الإيمان يعين تعلمنا علم الإيمان وهذا مذهب نساك أهل البصرة، وقال بعض السلف: إنما معناه طلب علم ما لم يسع جهله من علم التوحيد وأصول الأمر والنهي، والفرق بين الحلال والحرام إذ لا غاية لسائر العلوم بعد ذلك وكلها يقع عليه اسم علم من حيث هي معلومات ثم قد أجمعوا أن ليس تعليم ما زاد على ما ذكرناه فرضاً وإنما فيه فضل أو ندب، وقال بعض فقهاء الكوفة: معناه طلب علم البيع والشراء والنكاح والطلاق وإذا أراد الدخول فيه افترض عليه مع دخوله في ذلك طلب علمه لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يتجر في سوقنا هذا إلا من تفقه وإلا أكل الربا شاء أم أبى وكما قيل تفقه ثم اتجر ومال إلى هذا سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابهما، وقال بعض المتقدمين من علماء خراسان: هو أن يكون الرجل في منزله فيريد أن يعمل شيئاً من أمر الدين أو يخطر على قلبه مسألة الله سبحانه وتعالى فيها حكم وتعبد وعلى العبد في ذلك اعتقاد أو عمل فلا يسعه أن يسكت على ذلك ولا يجوز له أن يعمل فيه برأيه ولا يحكم بهواه فعليه أن يلبس نعليه ويخرج فيسأل عن أعلم أهل بلده فيسأله عن ذلك عند النازلة فهذا فريضة وحكي هذا القول عن ابن المبارك وبعض أصحاب الحديث.
وقال آخرون: يعني طلب علم التوحيد فرض وإنما اختلفوا في كيفية الطلب وماهية الإصابة، فمنهم من قال من طريق الاستدلال والاعتبار، ومنهم من قال من طريق البحث والنظر، ومنهم من قال من طريق التوفيق والأثر، وقالت طائفة من هؤلاء: إنما أراد طلب علم الشبهات والمشكلات إذا سمعها العبد وابتلى بها وقد كان يسعه ترك الطلب إذا كان غافلاً عنها على أصل التسليم ومعتقد جملة المسلمين لا يقع في وهمه ولا يحيك في صدره شيء من الشبهات فيسعه ترك البحث فإذا وقع في سمعه شيء من ذلك ووقر في(1/225)
قلبه ولم يكن عنده تفصيل ذلك وقطعه ومعرفة تمييز حقه من باطله لم يحل له أن يسكت عليه لئلا يعتقد باطلاً أو ينفي حقاً فافترض عليه طلب ذلك من العلماء به فيستكشفه حتى يكون على اليقين من أمره فيعتقد من ذلك الحق وينفي الباطل ولا يقعد عن الطلب فيكون مقيماً على شبهة فيتبع الهوى أو يكون شاكاً في الدين فيعدل عن طريق المؤمنين أو يعتقد بدعة فيخرج بذلك عن السنة ومذهب الجماعة وهو لا يعلم، ولهذا المعنى كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم أرنا الحق حقاً فنتبعه وأرنا الباطل باطلاً فنجتنبه ولا تجعل ذلك متشابهاً علينا فنتبع الهوى، وهذا مذهب أبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي وداود بن علي والحسين الكرابيسي والحرث بن أسد المحاسبي ومن تابعهم من المتكلمين، فهذه أقوال العلماء في معنى هذا الخبر: حكينا ذلك عن علمنا بمذاهبهم على معنى مذهب كل طائفة واحتججنا لكل قول، فالألفاظ لنا والمعنى لهم وهذا كله حسن ومحتمل وهؤلاء كلهم وإن اختلفوا في تفسير الحديث بألفاظ فإنهم متقاربون في المعنى إلا أهل الظاهر منهم فإنهم حملوه على ما يعلمونه وأهل الباطن تأولوه على علمهم ولعمري أن الظاهر والباطن علمان لا يستغني أحدهما عن صاحبه بمنزلة الإسلام والإيمان مرتبط كل واحد بالآخر كالجسم والقلب لا ينفك أحدهما عن صاحبه، وهؤلاء المختلفون في الأقوال مجمعون أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرد بذلك طلب علم الأقضية والفتاوى ولا علم الاختلاف والمذاهب ولا كتب الأحاديث مما لا يتعين فرضه وإن كان الله تعالى لا يخلى من ذلك من يقيمه بحفظه والذي عندنا في حقيقة معنى هذا الخبر والله أعلم أن قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طلب العلم فريضة يعني علم هذه الفرائض الخمس التي بني الإسلام عليها من حيث لم يفترض على المسلمين غيرها، ثم إن العمل لا يصح إلا بعلمه فأول العمل العلم به فصار علم العمل فرضاً من حيث افترض العمل.
فلما لم يكن على المسلمين فرض من الأعمال إلا هذه الخمس فصار طلب علم هذه الخمس فرضاً لأنه فرض الفرض وعلم التوحيد داخل فيها لأنه في أوّله شهادة أن لا إله إلا الله بإثبات صفاته المتصلة بذاته ونفي صفات سواه المنفصلة عن إياه كله داخل في علم شهادة: أن لا إله إلا الله وعلم الإخلاص داخل في صحة الإسلام إذا لا يكون مسلماً إلا بإخلاص العمل لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث لا يغلّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله فبدأ به واشترط للإسلام والأصل في هذا أنه لم يرد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم كل ما جاز أن يكون معلوماً بإجماع الأمة، إنه لم يعن بذلك علم الطب أو علم النجوم ولا علم النحو أو الشعر أوالمغازي وهذه تسمى علوماً لأنها تكون معلومة وأربابها علماء بها إلا أن الشرع لم يرد بالأمر بمقتضاها والأمة مجمعة أيضاً أنه لم يرد بذلك علم الفتيا والقضاء ولا علم افتراق المذاهب واختلاف الآراء وهذه تسمى علوماً عند أهلها وبعضها فرض على الكفاية وكلها ساقطة عن الأعيان، والخبر جاء بلفظ العموم بذكر الكلية وبمعنى الاسم فقال:(1/226)
طلب العلم فريضة ثم قال: على كل مسلم بعد قوله: اطلبوا العلم فكان هذا على الأعيان فكأنه على ما وقع عليه إسم العلم ومعناه المعهود المعروف بإدخال التعريف عليه فأشير بالألف واللام إليه فإذا بطلت هذه الوجوه صحّ أن قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طلب العلم فريضة على كل مسلم أي طلب علم ما بني الإسلام عليه فافترض على المسلمين علمه فريضة بدليل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأعرابي حين سأله: أخبرني ماذا افترض الله تعالى عليّ، وفي لفظ آخر: أخبرنا بالذي أرسلك الله تعالى إلينا به، فأخبره بالشهادتين والصلوات الخمس والزكاة وصوم شهر رمضان وحج البيت، فقال: هل علي غيرها؟ فقال: لا إلا أن تطوع فقال: والله لا أزيد عليه شيئاً ولا أنقص منه شيئاً فقال: أفلح ودخل الجنة إن صدق فكان علم هذه الخمس فريضة من حيث كان معلومه فريضة إذ لا عمل إلا بعلم.
وقد قال عزّ وجلّ: (إلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الزخرف: 86، وقال في مثله: (حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) النساء: 43، وقال: (هلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إنْ تَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ) الأنعام: 148، وقال: (بَلِ اتَّبَعَ الَّذينَ ظلمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدي مَنْ أضَل الله) الروم: 29، وقال تعالى: (ولا تَتَّبعْ أَهْواءَ الَّذين لا يَعْلَمُونَ) (إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ الله شَيْئاً) الجاثية: 18 - 19، وقال سبحانه وتعالى: (فَاعْلَمُوا أنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ الله وأنْ لا إله إلاَّ هُوَ) هود: 14، وقال: (فَسْئَلُوا أهْلَ الذِّكر إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الأنبياء: 7، فهذه الآية افترض الله فيها طلب العلم وذلك الخبر الذي جاء في أبنية الإسلام الخمسة افترض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه هذه الأعمال ثم قال مجملاً: طلب العلم فريضة ثم وكده بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على كل مسلم فكان تفسير ذلك وتفصيله أن علم هذه الخمس التي هي بنية الإسلام فرض لأجل فرضها.
وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طريق مرسل أنه مر برجل والناس مجتمعون عليه فقال: ما هذا؟ فقالوا رجل علامة فقال: بماذا؟ قالوا بالشعر والأنساب وأيام العرب، فقال: هذا علم لا يضرّ جهله، وفي لفظ آخر: علم لا ينفع وجهل لا يضر، وروينا في الخبر: إن من العلم جهلاً وإن من القول عياً، وفي الخبر الآخر: قليل من التوفيق خير من كثير من العلم، وفي خبر غريب: كل شيء يحتاج إلى العلم يجتاج إلى التوفيق والخبر المشهور قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أعوذ بك من علم لا ينفع فسماه علماً إذ له معلوم وأن أصحابه علماء عند أصحابهم ثم رفع المنفعة عنهم واستعاذ بالله منه.(1/227)
وقد روينا في خبر أن الشيطان ربما سبقكم بالعلم، قلنا: يا رسول الله كيف يسبقنا بالعلم؟ قال: يقول اطلب العلم ولا تعمل حتى تعلم فلا يزال في العلم قائلاً وللعمل مسوفاً حتى يموت وما عمل، ففي هذا الخبر دليلان، أحدهما أنه أريد به طلب فضول العلم الذي لا نفع له في الآخرة ولا قربة في طلبه من الله والثاني أن العلم المفضل المندوب إليه إنما هو الذي يقتضي العمل لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يأمر بعمل بغير علم ولايكره طلب علم للعمل به ألا تسمع إلى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخبر الآخر: فضل من علم أحب إليّ من فضل من عمل وخير دينكم الورع.
ذكر فضل علم المعرفة واليقين على سائر العلوم وكشف طريق علماء السلف الصالح من علماء الدينا والآخرة
قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ألوف من صحابته كلهم علماء بالله فقهاء عن الله تعالى أهل رضوان من الله تعالى ولم ينصب نفسه إلى الفتيا ولا حملت عنه الأحكام والقضايا إلا بضعة عشر رجلاً، وكان ابن عمر إذا سئل عن الفتيا قال: اذهب إلى الأمير الذي تقلّد أمور الناس فضعها في عنقه، وروى ذلك عن أنس ثم جماعة من الصحابة والتابعين بإحسان، وكان ابن مسعود يقول: إن الذي يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يسأل عن عشر مسائل فيجيب عن مسألة ويسكت عن تسعة، وكان ابن عباس على ضد ذلك كان يسئل عن عشرة فيجيب في تسعة ويسكت عن واحدة، وكان من الفقهاء من يقول لا أدري أكثر من أن تقول أدري، منهم: سفيان الثوري ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل وفضيل بن عياض وبشر بن الحرث رضي الله عنهم، وكانوا في مجالسهم يجيبون عن بعض ويسكتون عن بعض ولم يكونوا يجيبون في كل ما يُسألون عنه.
وروينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت في هذا المسجد مائة وعشرين من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما منهم من أحد يسأل عن حديث أو فتيا إلا ودّ أن أخاه كفاه ذلك، وفي لفظ آخر كانت المسألة تعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر ويردها الآخر للآخر حتى يرجع إلى الذي سئل عنها أول مرة، وروي عن ابن مسعود وابن عمر وغيرهما من التابعين، وقد روينا مسند ألا يفتي الناس إلا ثلاثة: أمير أو مأمور أو متكلّف، تفصيل ذلك أن الأمير هو الذي يتكلم في علم الفتيا والأحكام كذلك كان الأمراء يسئلون ويفتون والمأمور الذي يأمره الأمير بذلك فيقيمه مقامه ويستعين به لشغله بالرعية والمتكلف هو القاصّ الذي يتكلم في القصص السالفة ويقص أخبار من مضى لأن ذلك لا يحتاج إليه في الحال ولم يندب إليه من العلوم وقد تدخله الزيادة والنقصان والاختلاف، فلذلك كره(1/228)
القصص فصار القاصّ من المتكلفين.
وقد جاء في لفظ الحديث الآخر بتأويل معناه: لا يتكلم على الناس إلا ثلاثة: أمير أو مأمور أو مراء فكان قولهم: أمير هو المفتي في الأقضية والأحكام كما ذكرنا آنفاً ومعنى مأمور هو العالم بالله عزّ وجلّ الزاهد في الدنيا يتكلم في علم الإيمان واليقين وفي علم القرآن والحث على مصالح أعمال الدين بأمر من الله تعالى أذن الله تعالى له في ذلك بقوله تعالى: (وإذْ أَخَذَ الله ميثاقَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ) آل عمران: 187، وقد كان أبو هريرة وغيره يقولون: لولا آيتان في كتاب الله تعالى ما حدثتكم بحديث أبداً ثم يتلو هذه والآية التي قبلها ويقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أتى الله تعالى عالماً علماً إلا أخذ عليه من الميثاق ما أخذ على النبيين أن يبينه ولا يكتمه، وأما المرائي فهو المتكلم في علوم الدنيا الناطق عن الهوى يستميل بذلك قلوب الناس ويجتلب بكلامه المزيد من الدنيا والرفعة فيها، وقال بعض العلماء: كان الصحابة والتابعون بإحسان يتدافعون أربعة أشياء: الأمانة والوديعة والوصية والفتيا، وقال بعضهم: كان أسرعهم إلى الفتيا أقلهم علماً وأشدهم دفعاً لها وتوقفاً عنها أروعهم، وقال بعض السلف: كان شغل الصحابة والتابعين بإحسان في خمسة أشياء: قراءة القرآن، وعمارة المساجد، وذكر الله تعالى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا ثلاثاً: أمر بمعروف، أو نهي عن منكر أو ذكر الله تعالى، وقال الله أصدق القائلين: (لا خَيْرَ في كَثيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أمَرَ بِصَدقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ أوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) النساء: 114، ورأى بعض أصحاب الحديث بعض فقهاء الكوفة من أهل الرأي بعد موته في المنام قال: فقلت له ما فعلت فيما كنت عليه من الفتيا والرأي قال: فكره وجهه وأعرض عني وقال ما وجدناه شيئاً وما حمدنا عاقبته.
وحدثونا عن علي بن نصر بن علي الجهضمي عن أبيه قال: رأيت الخليل بن أحمد في النوم بعد موته فقلت: ما أجد أعقل من الخليل لأسألنه فقال لي: أرأيت ما كنا فيه؟ فإني لم أر شيئاً ما رأيت أنفع من قول: سبحان الله، والحمد للّّه، ولا إله إلا الله والله، أكبر، وحدثونا عن بعض الأشياخ قال: رأيت بعض العلماء في المنام فقلت له: ما فعلت تلك العلوم التي كنا نجادل فيها ونناظر عليها قال: فبسط يده ونفخ فيها وقال طاحت كلها هباءً منثوراً ماانتفعت إلا بركعتين حصلتا لي في جوف الليل وحدثت عن أبي داود السجستاني قال: كان بعض أصحابنا كثير الطلب للحديث حسن المعرفة به فمات فرأيته في المنام فقلت ما فعل الله بك فسكت فأعدت عليّه فسكت فقلت غفر الله لك قال: لا،(1/229)
قلت لم؟ قال: الذنوب كثيرة والمناقشة دقيقة ولكن قد وعدت بخير وأنا أرجو خيراً، قلت: أي الأعمال وجدتها فيما هناك أفضل، قال: قراءة القرآن والصلاة في جوف الليل، قلت: فأيما أفضل ما كنت تقرأ أو تقرئ؟ فقال: ما كنت أقرأ قلت: فكيف وجدت قولنا فلان ثقة وفلان ضعيف فقال: إن خلصت فيه النية لم يكن لك ولا عليك، وحدثت عن بعض الشيوخ قال: حدثني أحمد بن عمر الخاقاني قال: أريت في منامي كأني في طريق أمضي إذ صادفني رجل فأقبل عليّ وهو يقول: وإن تطع أكثر من في الأرض يضّلوك عن سبيل الله فقلت له: لي تعني؟ فقال: لك ولذاك الذي خلفك، فالتفت فإذا سري رحمه الله فأعرضت عن الرجل وأقبلت على السري وقلت: هذا أستاذنا ومؤدبنا الذي كان يؤدبنا في الدنيا، ثم قلت له: يا أبا الحسن إنك قد صرت إلى الله تعالى فأخبرنا بأي عمل تقبله الله تعالى فأخذ بيدي ثم قال تعال فجئت أنا وهو إلى بنية مثل الكعبة فوقفنا إلى جانبها إذا أشرف علينا من البنية شخص فأضاء ذلك الموضع منه فأومأ سري إليه وأشالني نحوه وكان سري قصيراً وأنا أيضاً قصير فمد ذلك الشخص الذي كان فوق البنية يده فأخذني فشالني إليه فلم أقدر أفتح عيني من أنواركانت في ذلك المكان، ثم قال لي: قد سمعت كلامك مع الشيخ كل خلق في القرآن محمود تفعله وكل خلق في القرآن مذموم تنتهي عنه وحسبك هذا.
وقد حدثونا عن سري السقطي قال: كان شاب يطلب علم الظاهر ويواظب عليه ثم ترك ذلك وانفرد واشتغل بالعبادة فسألت عنه فإذا هو قد اعتزل الناس وقعد في بيته يتعبد فقلت له: قد كنت حريصاً على الطلب لعلم الظاهر فما بالك انقطعت؟ قال: رأيت في النوم قائلاً يقول لي: كم تضيع العلم ضيعك الله فقلت إني لأحفظه فقال: إن حفظ العلم العمل به فتركت الطلب وأقبلت على النظر فيه للعمل، وقد كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: ليس العلم بكثرة الرواية وإنما العلم الخشية، وقال غيره من الفقهاء: إنما العلم نور يقذفه الله تعالى في القلب، وكان الحسن البصري رضي الله عنه يقول: اعلموا ما شئتم أن تعملوا فو الله لا يؤجركم الله تعالى عليه حتى تعملوا فإن السفهاء همتهم الرواية وإن العلماء همتهم الرعاية.
وروينا عنه أيضاً أنه قال: إن الله لا يعبأ بذي قول ورواية إنما يعبأ بذي فهم ودراية، وقال أبو حصين: إن أحدهم ليفتي في مسألة لو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر، وقال غيره: يسأل أحدهم عن الشيء فيسرع للفتيا ولو سئل أهل بدر عنهالأعضلتهم، وقال عبد الرحمن بن يحيى الأسود وغيره من العلماء: إن علم(1/230)
الأحكام والفتاوى كان الولاة والأمراء يقومون به وترجع العامة إليهم فيه ثم ضعف الأمر وعجزت الولاة عن ذلك لميلهم إلى الدنيا وشغلهم بالحروب عنها فصاروا يستعينون على ذلك بعلماء الظاهر وبالمفتين في الجوامع، فكان الأمير إذا جلس للمظالم قعد عن يمينه وشماله مفتيان يرجع إليهما في القضاءوالأحكام ويأمر الشرط بمثل ذلك فكان من الناس من يتعلم علم الفتيا والقضاء ليستعين بهم الولاة على الأحكام والقضاء حتى كثر المفتون رغبة في الدنيا وطلباً للرياسة ثم اختلف الأمر بعد ذلك حتى تركت الولاة الاستعانة بالعلماء ومما يدلك على ذلك حديث عمر رضي الله عنه حيث كتب إلى ابن مسعود عقبة بن عامر ألم أخبر أنك تفتي الناس ولست بأمير ولا مأمور، وفي حديث أبي عامر الهروي قال: حججت مع معاوية فلما قدمنا مكة حدث عن رجل يقضي ويفتي الناس مولى لبني مخزوم فأرسل إليه فقال: أمرت بهذا قال: لا، قال: فما حملك عليه؟ قال: نفتي وننشر علماً عندنا، فقال معاوية: لو تقدمت إليك قبل يومي هذا لقطعت منك طابقاً ثم نهاه ولم يكونوا يقولون ذلك في علم القلوب ولا علم الإيمان واليقين بل قد كتب عمر إلى أمراء الأجناد: احفظوا ما تسمعون من المطيعين فإنهم تجلّى لهم أمور صادقة وقد كان عمر رضي الله عنه يجلس إلى المريدين فيستمع إليهم.
وفي الخبر: إذا رأيتم الرجل قد أوتي صمتاً وزهداً فاقتربوا منه فإنه تلقى الحكمة، وقال بعض أصحاب الحديث: رأيت سفيان الثوري حزيناً فسألته فقال وهو برم: ما صرنا إلا متجر الأبناء الدنيا قلت: وكيف؟ قال: يلزمنا أحدهم حتى إذا عرف بنا وحمل عنا جعل عاملاً أو جابياً أو قهرماناً، وكان الحسن يقول: يتعلم هذا العلم قوم لا نصيب لهم منه في الآخرة يحفظ الله تعالى بهم العلم على الأمة لئلا يضيع، وقال المأمون رحمه الله: لولا ثلاث لخربت الدنيا: لولا الشهوة لانقطع النسل ولولا حب الجمع لبطلت المعايش ولولا حب الرياسة لذهب العلم، فهذا كله وصف علماء الدنيا وأهل علم الألسنة، وأما علماء الآخرة وأهل المعرفة واليقين فإنهم كانوا يهربون من الأمراء ومن أتباعهم وأشياعهم من أهل الدنيا وكانوا ينتقصون علماء الدنيا ويطعنون عليهم ويتركون مجالستهم، وقال ابن أبي ليلى أدركت في هذا المسجد مائة وعشرين من الصحابة ما سئل أحدهم عن حديث ولا استفتي في فتيا إلاودّ أن صاحبه قد كفاه ذلك، وقال مرة: أدركت ثلاثمائة يسأل أحدهم عن الفتيا أو الحديث فيرد ذلك إلى الآخر ويحيل الآخر على صاحبه وكانوا يتدافعون الفتيا ما بينهم ولم يكونوا إذا سئل أحدهم عن مسألة من علم القرآن أو علم اليقين والإيمان يحيل على صاحبه ولا يسكت عن الجواب.(1/231)
وقد قال الله سبحانه: (فَسْئلُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) النحل: 43 فهم أهل الذكر لله تعالى وأهل التوحيد والعقل عن الله تعالى ولم يكونوا يتلقنون هذا العلم دراسة من الكتب ولا يتلقاه بعضهم من بعض بالألسنة إنما كانوا أهل عمل وحسن معاملات فكان أحدهم إذا انقطع إلى الله تعالى واشتغل به واستعمله المولى بخدمته بأعمال القلوب وكانوا عنده في الخلوة بين يديه لايذكرون سواه ولا يشتغلون بغيره فإذا ظهروا للناس فسألوهم ألهمهم الله تعالى رشدهم ووفقهم لسديدقولهم وآتاهم الحكمة ميراثاً لأعمالهم الباطنة عن قلوبهم الصافية وعقولهم الزاكية وهممهم العالية فآثرهم بحسن توفيقه أن ألهمهم حقيقة العلم وأطلعهم على مكنون السر حين آثروه بالخدمة وانقطعوا إليه بحسن المعاملة فكانوا يجيبون عما عنه يسألون بحسن أثرة الله تعالى لهم وبجميل أثره عندهم فتكلموا بعلم القدرة وأظهروا وصف الحكمة ونطقوا بعلوم الإيمان وكشفوا بواطن القرآن وهذا هو العلم النافع بين العبد وبين الله تعالى وهو الذي يلقاه به ويسأله عنه ويثيبه عليه وهو ميزان جميع الأعمال.
وعلى قدر علم العبد بربه تعالى ترجح أعماله وتضاعف حسناته وبه يكون عند الله تعالى من المقربين لأنه لديه من الموقنين فهم أهل الحقائق الذين وصفهم علي عليه السلام وفضلهم على الخلائق، فقال في وصفهم القلوب أوعية وخيرها أوعاها والناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم يزكيه العمل والمال تنقصه النفقة، محبة العلم دين يدان به يكسبه الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد موته، العلم حاكم والمال محكوم عليه، ومنفعة المال تزول بزواله، مات خزان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر ثم تنفس الصعداء فقال: ها إن ههنا علماً جماً لو أجد له حملة بلى أجد لقناً غير مأمون يستعمل الدين في طلب الدنيا ويستطيل بنعم الله تعالى على أوليائه ويستظهر بحججه على خلقه أو منقاداً لأهل الحق ينزرع الشك في قلبه بأوّل عارض من شبهة لا بصيرة له وليسا من رعاة الدين في شيء لا ذا ولا ذاك فمفهوم باللذة سلس القيادة في طلب الشهوات أو مغرىً بجمع الأموال والإدخار منقاد لهواه أقرب شبهاً بهما الأنعام السائمة، اللهم هكذا يموت العلم إذا مات حاملوه بل لا تخلو الأرض من قائم لله تعالى بحجة، إمّا ظاهر مكشوف وإما خائف مقهور لئلا تبطل حجج الله تعالى وبيّناته وأين أولئك الأقلون عدداً الأعظمون قدراً أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة يحفظ الله تعالى بهم حججه حتى يودعها نظراءهم ويزرعوها في القلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فباشروا روح اليقين فاستلانوا ما استوعر منه المترفون وأنسوا بما(1/232)
استوحش منه الغافلون صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى أولئك أولياء الله من خلقه وعماله في أرضه والدعاة إلى دينه، ثم بكى وقال: واشوقاه إلى رؤيتهم فهذه كلها أوصاف علماء الآخرة وهذه نعوت علم الباطن وعلم القلوب لا علم الألسنة وكذلك وصفهم معاذ بن جبل رضي الله عنه في وصف العلم بالله تعالى.
فيما رويناه من حديث رجاء بن حيوة بن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ قال: تعلّموا العلم فإن تعلّمه لله خشية وطلبه عبادة ومدراسته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقه وبذله لأهله قربة وهو الأنيس في الوحدة والصاحب في الخلوة والدليل على السرّاء والضرّاء والزين عند الإخلاء والقريب عند الغرباء ومنار سبيل الجنة يرفع الله تعالى به أقواماً فيجعلهم الله في الخيرقادة وهداة يقتدي بهم أدلة في الخير تقتص آثارهم وترمق أعمالهم ويقتدى بفعالهم وينتهي إلى رأيهم وترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم حتى كل رطب ويابس لهم مستغفر حتى حيتان البحر وهوامه وسابع البر ونعامه والسماء ونجومها لأن العلم حياة القلوب من العمى ونور الأبصار من الظلم وقوّة الأبدان من الضعف يبلغ به العبد منازل الأبرار والدرجات العلى والتفكر فيه يعول بالصيام ومدارسته بالقيام به يطاع الله تعالى وبه يعبد وبه يوحد وبه يتورع وبه توصل الأرحام العلم إمام والعمل تابعه تلهمه السعداء وتحرمه الأشقياء، فهذه أوصاف علماء الآخرة ونعت العلم الباطن.
وقد كان من أفضل الأمراء بعد الخلفاءالأربعة: عمر بن عبد العزيز فحدثونا عن زكريا بن يحيى الطائي قال: حدثني عمي زجر بن حصين أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الحسن رحمهما الله: أما بعد فأشر علي بقوم أستعين بهم على أمر الله تعالى فكتب إليه: أما أهل الدين فلن يريدوك وأما أهل الدنيا فلن تريدهم ولكن عليك بالأشراف فإنهم يصونون شرفهم أن يدنسوه بالخيانة، وكان الحسن يتكلم في بعض علماءالبصرة ويذمهم وكان أبو حازم وربيعة المدنيان يذمان علماء بني مروان، وقد كان الثوري وابن المبارك وأيوب وابن عون يتكلمون في بعض علماء الدنيا من أهل الكوفة، وكان الفضيل وإبراهيم ابن أدهم ويوسف بن أسباط يتكلمون في بعض علماءالدنيا من أهل مكة والشام كرهنا تسمية المتكلم فيهم لأن السكوت أقرب إلى السلامة، وكان بشر يقول: حدثنا باب من أبواب الدنيا فإذا سمعت الرجل يقول: حدثنا فإنما يقول: أوسعوا لي، وقدكان سفيان الثوري إمامه من قبله يقول لأهل علم الظاهر: طلب هذا ليس من زاد الآخرة، وقال ابن وهب ذكر طلب العلم عند مالك، فقال: إن طلب العلم لحسن، وإن نشره لحسن إذا صحت فيه النية ولكن انظر ماذا يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي ومن حين تمسي إلى حين تصبح فلاتؤثرن عليه شيئاً.(1/233)
وقال أبو سليمان الداراني: إذا طلب الرجل الحديث أو تزوّج أو سافر في طلب المعاش فقد ركن إلى الدنيا، وأما علم الإيمان والتوحيد وعلم المعرفة واليقين فهو مع كل مؤمن موقن حسن الإسلام وهو مقامه من الله وحاله بين يدي الله ونصيبه منه في درجات الجنة، به يكون من المقربين عنده والعلم بالله تعالى والإيمان به قرينان لا يفترقان، فالعلم بالله تعالى هو ميزان الإيمان به يستبين المزيد من النقصان لأن العلم ظاهر الإيمان يكشفه ويظهره والإيمان باطن العلم يهيجه ويشعله، فالإيمان مدد العلم وبصره والعلم قوّة الإيمان ولسانه وضعف الإيمان وقوّته ومزيده ونقصه بمزيدالعلم بالله عزّ وجلّ ونقصه وقوّته وضعفه، وفي وصية لقمان الحكيم لابنه: يابني كمالايصلح الزرع إلا بالماء والتراب كذلك لا يصلح الإيمان إلا بالعلم والعمل ومثل المشاهدة من المعرفة من اليقين من الإيمان كمثل النشاء من الدقيق من السويق من الحنطة، والحنطة تجمع ذلك كله كذلك الإيمان أصل ذلك والمشاهدة أعلى فروعه كالحنطة أصل هذه المعاني والنشاء أعلى فروعها فهذه المقامات موجودة في أنوار الإيمان يمدها علم اليقين، ثم إن المعرفة على مقامين: معرفة سمع ومعرفة عيان، فمعرفة السمع في الإسلام وهو أنهم سمعوا به فعرفوه، وهذا هو التصديق من الإيمان ومعرفة العيان في المشاهدة وهو عين اليقين والمشاهدة أيضاً على مقامين: مشاهدة الاستدلال ومشاهدة الدليل عنها، فمشاهدة الاستدلال قبل المعرفة وهذه معرفة الخبر وهو في السمع لسانها القول والواجد بها واجد يعلم علم اليقين من قوله تعالى: (سَبَإٍ بَنَبَإٍ يَقينٍ) (إِنّي وَجَدْتُ) النمل: 22 - 23، فهذا العلم قبل الوجدوهو علم السمع وقد يكون سببه التعليم ومنه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تعلموا اليقين أي جالسوا الموقنين واسمعوا منهم علم اليقين لأنهم علماؤه وأما مشاهدة الدليل فهي بعد المعرفة التي هي العيان وهو اليقين لسانه الوجد والواجد بها واجد قرب وبعد هذا الوجد علم من عين اليقين وهذا يتولاه الله تعالى بنوره على يده بقدرته، ومنه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فوجدت بردها فعلمت فهذا التعليم بعد الوجد من عين اليقين باليقين وهذا من أعمال القلوب، وهؤلاء علماء الآخرة وأهل الملكوت وأرباب القلوب وهم المقربون من أصحاب اليمين وعلم الظاهر من علم الملك وهو من أعمال اللسان والعلماء به موصوفون بالدنيا وصالحوهم أصحاب اليمين وجاء رجل إلى معاذ بن جبل فقال: أخبرني عن رجلين، أحدهما مجتهد في العبادة كثير العمل قليل الذنوب إلا أنه ضعيف اليقين يعتريه الشك في أموره فقال معاذ: ليحبطن شكّه أعماله، قال: فأخبرني عن رجل قليل العمل إلا أنه قوي اليقين وهو في ذلك كثير الذنوب فسكت معاذ فقال الرجل: والله لئن أحبط شكّ الأوّل أعمال بره ليحبطن يقين هذا ذنوبه كلها قال: فأخذ معاذ بيده وقام قائماً ثم قال: ما رأيت الذي هو أفقه من هذا وقد(1/234)
روينا معناه مسنداً قيل: يا رسول الله رجل حسن اليقين كثيرالذنوب ورجل مجتهد في العبادة قيل اليقين: فقال ما من آدمي إلا وله ذنوب ولكن من كانت غريزته العقل وسجيته اليقين لم تضره الذنوب لأنه كلما أذنب تاب واستغفر وندم فتكفر ذنوبه ويبقى له فضل يدخل به الجنة.
وروينا في حديث أبي أمامة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ومن أعطى حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصام النهار، وفي وصية لقمان لابنه: يا بني لا يستطاع العلم إلا باليقين ولا يعمل المرء إلا بقدر يقينه ولا يقصر عامل حتى يقصر يقينه وقد يعمل الضعيف إذا كان متيقناً أفضل من العمل القوي الضعيف في يقينه ومن يضعف يقينه تغلبه المحقرات من الإثم، وقد كان يحيى بن معاذ يقول: إن للتوحيد نوراً وللشرك ناراً وإن نور التوحيد أحرق لسيّئات الموحدين من نار الشرك لحسنات المشركين واليقين على ثلاث مقامات: يقين معاينة وهذا لا يختلف خبره فالعالم به خبير وهو للصديقين والشهداء، ويقين تصديق واستسلام وهذا في الخبر والعالم به مخبر مسلم وهذا يقين المؤمنين وهم الأبرار منهم الصالحون ومنهم دون ذلك كقوله تعالى جده: (وَمَا زَادَهُمْ إلاّ إيمَاناً وَتسْليمًا) الأحزاب: 22، وقد يضعف هؤلاء بعدم الأسباب ونقصان المعتاد ويقوون بوجودها وجريان العادة ويحجبون بنظرهم إلى الأواسط ويكاشفون بها ويجعلون مزيدهم وأنسهم بالخلق ويكون نقصهم ووحشتهم بفقدهم ويكون من هؤلاء الاختلاف ويتلوّنون بالخلاف لتلوين الأشياء وتغيرها نقصها.
المقام الثالث من اليقين
وهو يقين ظن يقوى بدلائل العلم والخبر وأقوال العلماء ويجد هؤلاء المزيد من الله تعالى والنصيب منه لهم ويضعف بفقدالأدلة وصمت القائلين وهذا يقين الاستدلال وعلوم هذا في المعقول وهو يقين المتكلمين من عموم المسلمين من أهل الرأي وعلوم العقل والقياس والنظر وكل موقن بالله تعالى فهو على علم من التوحيد والمعرفة ولكن علمه ومعرفته على قدر يقينه ويقينه من نحو صفاء إيمانه وقوّته وإيمانه على مقتضى معاملته ورعايته، فأعلى العلوم علم المشاهدة عن عين اليقين وهذا مخصوص للمقربين في مقامات قربهم ومحادثات مجالستهم ومأوى أنسهم ولطيف تملقهم، وأدنى العلوم علم التسليم والقبول بعدم الإنكار وفقد الشكوك وهذا لعموم المؤمنين وهو من علم الإيمان ومزيد التصديق وهذا لأصحاب اليمين، وبين هذين مقامات لطيفات من أعلى طبقات المقربين إلى أوسط المقامات ومن أدنى طبقات أصحاب اليمين إلى أعلى أواسط الأعلين.(1/235)
ذكر بيان تفضيل علوم الصمت وطريق الورعين في العلوم
وروينا في الخبر: العلم ثلاثة، كتاب ناطق، وسنة قائمة، ولا أدري، وعن الشعبي أنه قال: لا أدري، نصف العلم يعني أنه من الورع وكان الثوري رضي الله عنه يقول: إنما العلم الرخصة من ثقة فأما التشديد فكل أحد يحسنه يعني أن التورع والتوقف في الأمور هو سيرة المؤمنين وإن لم يكونوا علماء لأن الورع هو الجبن عن الإقدام والهجوم على الشبهات والوقوف عند المشكلات بسكون أو سكوت، واليقين هو الإقدام على الأشياء ببصيرة وتمكين والقطع بالأمر على علم وخبر فهذا صفة العلماء الموثوق بعلمهم لا يحسنه سواهم كما قال علي عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية وقدمه أمامه يوم الجمل وجعل يقول له: أقدم أقدم ومحمد يتأخر وهو يركزه بقائم رمحه، فالتفت إليه محمد ابنه فقال: هذا والله الفتنة المظلمة العمياء فوكزه عليّ برمحه، ثم قال: تقدم لا أم لك أتكون فتنة أبوك قائدها وسائقها والمرء إذا قال: لا أدري فقد عمل بعلمه وقام بحاله فله من الثواب بمنزلة من درى فقام بحاله وعمل بعلمه فأظهره، فلذلك كان قول لا أدري نصف العلم ولأن حسن من سكت لأجل الله تعالى تورعاً كحسن من نطق لأجله بالعلم تبرعاً، وقال علي بن الحسين ومحمد بن عجلان: إذا أخطأ العالم قول لا أدري أصيبت مقالته، وقاله مالك والشافعي بعدهما واعلم أن مثل العلم والجهل في تفاوت الناس فيهما مثل الجنون والعقل والمجانين طبقات، كالعقلاء طبقات، وكذلك الجهال طبقات كالعلماء فخصوص الجهال يشبهون عموم العلماء فهم يشتبهون على العامة حتى يحسبوهم علماء وهم مكشوفون عند العلماء بالله تعالى وكذلك العارفون يشتبهون على عموم العلماء وهم ظاهرون للموقنين، وقال بعض العلماء: العلم علمان، علم الأمراء وعلم المتقين، فأما علم الأمراء فهو علم القضايا وأما علم المتقين فهو علم اليقين والمعرفة.
وقد قال الله سبحانه في وصف علم المؤمنين وذكر علم الإيمان: (يَرْفَعِ الله الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والَّذينَ أُوتُوا العْلْمَ دَرَجَاتٍ) المجادلة: 11، فجعل المؤمنين علماء فدل على أن العلم والإيمان لا يفترقان والواو هنا عند أهل اللغة للمدح لاللجمع، العرب إذا مدحت بالأوصاف أدخلت الواو للمبالغة فقالوا: فلان العاقل والعالم والأديب، ومثل هذا قوله تعالى: (لكنِ الراسخون في الْعِلْمِ مِنْهُمْ والْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِليْكَ وما أُنْزِلَ مِنْ قبْلِكَ والْمُقيمينَ الصَّلاةَ والْمؤْتُونَ الزَّكوة) النساء: 162 كله نعت، فالمؤمنون هم الراسخون في العلم وهم المقيمون والمؤتون أيضاً وكلهم وصف الراسخون في العلم ولذلك انتصب قوله والمقيمين الصلاة لأنه مدح والعرب تنصب وترفع بالمدح وبمعناه قوله تعالى: (والرَّاسِخُونَ في العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بهِ) آل عمران: 7، فوصف العلماء بالإيمان كما وصف المؤمنين بالعلم وكذلك قوله تعالى: (وقالَ الَّذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ والإيمانَ) الروم: 56، ومن هذا حديث أنس عن(1/236)
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أمتي خمس طبقات كل طبقة أربعون عاماً فطبقتي وطبقة أصحابي أهل العلم والإيمان والذين يلونهم إلى الثمانين البر والتقوى والذين يلونهم إلى مائة وعشرين أهل التواصل والتراحم، فقرن العلم بالإيمان وقدمهما على سائرالطبقات.
وقد قرن الله سبحانه الإيمان بالقرآن وهو علم: كما قرن القرآن بالإيمان كما قال تعالى: (كتبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمانَ وَأيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) المجادلة: 22، قيل القرآن وتكون الهاء عائدة إلى الله تعالى في أكثر الوجوه، كما قال: (ما كُنْتَ تَدْرِي ما الكِتَابُ ولا الإيمانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً) الشورى: 52، فأهل الإيمان هم أهل القران وأهل القرآن أهل الله وخاصته، وقال المهدي لسفيان بن الحسين لما دخل عليه وكان أحد العلماء أمن العلماء أنت فسكت فأعادعليه فسكت فقيل: ألا تجيب أمير المؤمنين؟ فقال: يسألني عن مسألة لا جواب لها، إن قلت لست بعالم وقد قرأت كتاب الله تعالى كنت كاذباً وإن قلت إني عالم كنت جاهلاً، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أنس في قوله: (إِنَّما يَخْشى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلماءُ) فاطر: 28، قال: من لم يخشَ الله تعالى فليس بعالم ألا ترى أن داود صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك بأنك جعلت العلم خشيتك والحكمة والإيمان بك فما علم من لم يخشك وما حكم من لم يؤمن بك، وقد سمّى عبد الله بن رواحة العلم إيماناً فكان يقول لأصحابه: اقعدوا بنا نؤمن ساعة فيتذاكرون علم الإيمان وقدجعل الله للمؤمنين سمعاً وبصراً وقلباً، وهذه طرائق العلم التي يؤخذ العلم منها ويوجد بها وهي أصول العلم والنعم التي أنعم الله على الخلق بها وطالبهم بالشكر عليها، فقال سبحانة: (والله أخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وجعلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبْصارَ والأفئدِةَ لعلَّكُمْ تَشْكُرون) النحل: 78، فأثبت العلم بها بعد النفي بها له، وقال تعالى في وصف من لم يكن مؤمناً ونفي الغنية بالعلم بها: (وجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وأبْصاراً وأفْئِدةً فما أغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ ولا أبْصارُهُمْ ولا أفْئِدتُهُمْ مِنْ شيء إذ كانوا يجْحَدوان بآياتِ الله) الأحقاف: 26، فمن آمن بآيات الله تعالى أغنى عنه سمعه وبصره وقلبه فكانت طرق العلم إليه.
وقال عزّ وجلّ في معنى ذلك أيضاً: (ولا تقْفُ ما ليْسَ لكَ بهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤادَ كُلُّ أُولئكَ كان عَنْهُ مَسْؤُولاً) الإسراء: 36، فلولا أن العلم يقع بالسمع والبصر والقلب ما نهى عما لا يعلم هذه الأشياء ففي النهي عن قفو ما لا يعلم هذه الأواساط ويتبعه إثبات العلم بها فكل مؤمن هو ذو سمع وبصر وقلب فهو عالم بفضل الله ورحمته.
ومما فضل الله تعالى به هذه الأمة على سائر الأمم وخصها به ثلاثة أشياء: تبقية الإسناد فيهم يأثره خلف عن سلف متصلاً إلى نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى من خلا من علمائنا وإنما كانوا فيهم يستنسخون الصحف كلما اختلقت صحيفة جددت فكان ذلك أثرة العلم فيهم، والثاني حفظ كتاب الله تعالى المنزل عن ظهر غيب، وإنما كانوا يقرؤون كتبهم(1/237)
نظراً ولم يحفظ جميع كتاب أنزله الله تعالى قط غير كتابنا هذا إلا ما ألهمه الله تعالى غزيراً من التوراة بعد أن كان بختنصر أحرق جميعها عند إحراق بيت المقدس، فلذلك قال سبط من اليهود إنه ابن الله تعالى عزّ عن ذلك علواً كبيراً لما خصه به وأفرده من حفظ جميع التوراة، والثالث أن كل مؤمن من هذه الأمة يسئل عن علم الإيمان ويسمع قوله ويؤخذ من رأيه وعلمه مع حداثة سنه ولم يكونوا فيما مضى يسمعون العلم إلا من الأحبار والقسيسين والرهبان لا غير من الناس، وزادها رابعة على أمة موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثبات الإيمان في قلوبهم لا يعتريه الشك ولا يختلجه الشرك مع تقليب القلوب في المعاصي، وكانت أمة موسى عليه السلام تتقلب قلوبهم في الشك والشرك كما تتقلب جوارحهم في المعاصي، فلذلك قالوا: يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة بعد أن رأوا الآيات العظيمة من انفلاق البحر وسلوكهم فيه طرائق وأنجاهم من الغرق وأهلك فرعون.
وروينا بعض الأخبار أن في بعض الكتب المنزلة: يا بني إسرائيل لا تقولوا العلم في السماء من ينزل به ولا في تخوم الأرضين من يصعد به ولا من وراء البحار من يعبره يأتي به العلم مجعول في قلوبكم، تأدّبوا بين يدي بآداب الروحانيين وتخلّقوا لي بأخلاق الصديقين أظهر العلم في قلوبكم حتى يعطيكم ويغمركم، وفي الإنجيل مكتوب: لا تطلبوا علم ما لم تعملوا حتى تعملوا بما قد علمتم، وفي أخبارنا نحن: من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم حتى قيل: من علم بعشر ما يعلم ورثه الله علم ما يجهل، وقد روينا عن حذيفة بن اليمان: إنكم اليوم في زمان من ترك فيه عشر ما يعلم هلك ويأتي بعدكم زمان من عمل منهم بعشر ما يعلم نجا، هذا لقلة العاملين وكثرة البطالين، وفي كتابنا المجمل المختصر: واتقوا الله ويعلمكم الله واتقوا الله واعلموا واتقوا الله واسمعوا، واعلم أن من عمل بعلم أو نطق به فأصاب الحقيقة عند الله تعالى فله أجران، أجر التوفيق وأجر العمل - وهذا مقام العارفين، ومن نطق بجهل أو عمل به وأخطأ الحقيقة فعليه وزران - وهذا مقام الجهال، ومن قال أو عمل بعلمه وأخطأ الحقيقة فله أجر لأجل العلم وهذا مقام علماء الظاهر، ومن قال بجهل أو عمل عملاً وأصاب الحقيقة فعلية وزر لتركه طلب العلم وهذا مقام جهلة العابدين، ومثل العالم مثل الحاكم وقد قسم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحكام ثلاثة أقسام فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: القضاة ثلاثة: قاضٍ قضى بالحق وهو يعلم فذاك في الجنة وقاضٍ قضى بالجور وهو يعلم أو قضى بالجور وهو لا يعلم فهما في النار، ومن أحسن ما سمعت في قوله تعالى: (يا بني آدَمَ قَدْ أَنْزَلنا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُواري سوْءاتِكُمْ) الأعراف: 26 قيل العلم وريشاً قيل اليقين ولباس التقوى أي الحياء.
وروينا عن وهب بن منبه اليماني في معناه: الإيمان عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء وثمرته العلم وقد أسنده حمزة الخراساني عن الثوري فرفعه إلى عبد الله عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1/238)
وقد رويناه أيضاً مسنداً، قال مسعر عن سعد بن إبراهيم وسأله سائل: أي أهل المدينة أفقه؟ فقال: أتقاهم لله عزّ وجلّ، وقال بعض العلماء: لو قال لي قائل أي الناس أعلم لقلت أورعهم ولو قال لي قائل أي أهل هذه المدينة خير؟ لقلت: تعرفون أنصحهم لهم، فإذا قالوا نعم قلت هو خيرهم وقال آخر: لو قيل لي من أحمق الناس لأخذت بيد القاضي فقلت هذا وقال الله تعالى: (وَاتَّقُوا الله وَاسْمَعُوا) المائدة: 108 و (اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَديداً) الأحزاب: 70، فجعل تعالى مفتاح القول السديدوالعلم الرشيد والسمع المكين التقوى، وهي وصية الله تعالى من قبلنا وإيانا إذ يقول الله سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ وَصّيْنا الَّذينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وإِيَّاكُمْ أنِ أتَّقُوا الله) النساء: 131، وهذه الآية قطب القرآن ومداره عليها كمدار الرحى على الخشبان.
وروينا عن عيسى عليه السلام كيف يكون من أهل العلم من مسيره إلى آخرته، وهو مقبل على دنياه وكيف يكون من أهل العلم من يطلب الكلام ليخبر به وهو لا يطلبه ليعمل به، وقال الضحاك بن مزاحم: أدركتهم وما يتعلم بعضهم من بعض إلا الورع وهم اليوم يتعلمون الكلام، وفي الحديث: ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أعطوا الجدل ثم قرأ: ماضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون، وفي قوله عزّ وجل: (فأمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) آل عمران: 7، الآية هم أهل الجدل الذين عنى الله تعالى فاحذروهم، وعن بعض السلف: يكون في آخر الزمان علماء يغلق عنهم باب العمل ويفتح عليهم باب الجدل، وفي بعض الأخبار: إنكم في زمان ألهمتم فيه العلم وسيأتي قوم يلهمون الجدل، وعن ابن مسعود: أنتم اليوم في زمان خيركم فيه المسارع ويأتي بعدكم زمان خيركم فيه المتبين يعني الآن لبيان الحق واليقين في القرن الأول وبعد ذلك في زماننا هذا لكثرة الشبهات والالبتاس ودخول المحدثات مداخل الليل في السير، فأشكل الأمر إلا على الفرد الذي يعرف طرائق السلف فيجتنب الحدث كله.
وروينا عن بعض العلماء: إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له باب العمل وأغلق عنه باب الجدل وإذا أراد الله بعبدسوءًا أغلق عنه باب العمل وفتح عليه باب الجدل، وفي الخبر المشهور عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أبعض الخلق إلى الله عزّ وجلّ الألد الخصم، وقد روينا في خبر الحياء والعي شعبتان من الإيمان والبذاء والبيان شعبتان من النفاق وفي بعضها مفسراً والعي عي اللسان لا عي القلب، والخبر الآخر ما روى الحكم بن عيينة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أوتي قوم المنطق إلا منعوا العمل، وفي الحديث أن الله تعالى ليبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل الكلام بلسانه كما تتخلل الباقرة الخلاء بلسانها، والخلاء هو الحشيش الرطب، وكان أحمد بن حنبل يقول: العلم إنما هو ما جاء من فوق يعني إلهاماً من غير تعليم وقال أيضاً: علماء أهل الكلام زنادقة، وقال قبله أبو يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق.(1/239)
بيان آخر في فضل علم الباطن على الظاهر
مما يدلك على أن العلم الذي فضله العلماء وأعظموا ذكره وخطره ووصفوا به العالم ومدحوه به وجاءت بفضله الآثار وندب إليه وفضل في الأخبار أهله إنما هو العلم بالله تعالى الدال على الله تعالى الراد إليه الشاهد بالتوحيد في علم الإيمان واليقين وعلم المعرفة والمعاملة دون سائر علوم الفتيا والأحكام، إنهم يقولون من عمل بعلمه ويذكرون العمل بالعلم ويصفون جملته بالخشية والخشوع فهذا إنما هو علم القلوب لا علم اللسان الذي يكون به العلم ولا تتأتى عنه المعاملات من أعمال الإيمان مثل أعمال القلوب التي هي مقامات اليقين وصفات المتقين ومثل أعمال الجوارح من الصالحات التي هي مزيد الإيمان والذين أربابها أهل الفقر والزهد وذو التوكل والخوف وأصحاب الشوق والمحبة وليس يعنون أن يكون الإنسان إذا علم علم الأحكام والقضايا عمل بها والتزم الدخول في أحكامها ليعامل منها مثل أن يطلب القضاء فيقضي بين الناس إذا كان عالماً به أويقتني المال ويدخل في البيع والشراء إذا كان عالماً بالزكوات والبياعات أو يتزوج النساء ويطلق لأنه عالم بالنكاح والطلاق ليكون بهذه الأشياء عاملاً بعلمه، هذا ما قاله أحد بل قد روي في كراهة ذلك وذمه ما يكثر ذكره، وأهل هذه العلوم موصوفون بالرغبة في الدنيا والحرص على جمعها ويلابسون الأمراء فيعاملون لهم فبطل أنهم هم المعنيون بالعلم الموصوفون بالخشوع والزهد، ومثل ذلك أيضاً تفضيل الجمهور من السلف العلم على العمل وقولهم ذرة من علم أفضل من كذا من العمل وركعتان من عالم أفضل من ألف ركعة من عابد، وحديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فضل العالم على العابد كفضلي على أمتي، والخبر المشهور: كفضل القمر على سائر الكواكب، وقول ابن عباس وسعد، وقدروينا مسنداً: عالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد وكذلك قيل في موته أحب إليه من موت ألف عابد إنما يعنون بذلك العلم بالله تعالى أفضل من العمل لأن العلم بالله تعالى وصف من الإيمان ومعنى من اليقين الذي لم ينزل من السماء أعزّ منه فهو لا يعادله شيء لا يصح عمل ولا يقبل إلا به ولأنه معيار الأعمال كلها على وزنه تتقبل الأعمال قبولاً حسناً بعضه أحسن من بعض ويثقل في الميزان ثقلاً فوق ثقل ويرفع به العاملون في درجات عليين بعضها من بعض، وقد قال تعالى: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ على عِلْمٍ) الأعراف: 52، ثم قال: (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) الأعراف: 7، وقال تعالى: (والْوَزْنَ يَوْمَئِذٍ الحْقَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازينُهُ) الأعراف: 8 فما كان العائد منه إلى الربوبية أقرب كان أفضل والعمل وصف العامل وحكم العبودية لا أنهم يعنون العلم بالفتيا والأحكام والقضاء التي هي أماكن الخلق عائدة عليهم أفضل من معاملات الله سبحانه وتعالى بالقلوب من مقامات التوكل والرضا والمحبة التي هي(1/240)
معاينة اليقين الذي هو مقام المقربين هذا لا يقوله عالم.
وقد روينا عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أقرب الناس من درجة النبوّة أهل العلم وأهل الجهاد أما أهل العلم فدلوا الناس على ما جاءت به الرسل وأما أهل الجهاد فجاهدوا بأسيافهم على ما جاءت به الرسل، ألا تراه كيف جعل العلم دالاً على الله تعالى كالجهاد، وكذلك جاء في الخبر: أول من يشفع الأنبياء ثم الشهداء، وفي الخبر: للأنبياء على العلماء فضل درجة وللعلماء على الشهداء فضل درجتين، وقال ابن عباس في معنى قوله عزّ وجلّ: (يَرْفَعِ الله الَّذين آمَنُوا مِنْكُم والَذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ درَجاتٍ) المجادلة: 11، قال: للعلماء درجات فوق الذين آمنوا بسبعمائة درجة ما بين الدرجتين خمسمائة عام، وقال ابن مسعود: لما مات عمر رضي الله عنهما: إني لأحسب أنه ذهب بتسعة أعشار العلم فقيل: تقول هذا وفينا جله الصحابة فقال: ليس أعني العلم الذي تريدون إنما أعني العلم بالله تعالى، فجعل العلم بالمعلومات غير حقيقة العلم وفضل العلم بالله تعالى بتسعة أعشارها وليس يزيد علم الظاهر على الأعمال كثير زيادة إذ هو من الأعمال الظاهرة لأنه صفة اللسان ولأنه للعموم من المسلمين، فأعلى مقاماته الإخلاص فإن فاتهم فهو دنيا كسائر الشهوات والإخلاص هو أول حال العالم بالله تعالى بالعلم الباطن ولا نهاية لمقاماتهم إلى أعلى مقامات العارفين ودرجات الصديقين.(1/241)
باب ذكر الفرق بين علماء الدنيا وعلماء الآخرة وذم علماء السوء الآكلين بعلومهم الدنيا
وقد فرقت العلماء بين العلم بالله تعالى وبين العلم بأمر الله تعالى وفرقوا بين علماء الدنيا وعلماء الآخرة، فقال سفيان: العلماء ثلاثة، عالم بالله وبأمر الله فذلك العالم الكامل، وعالم بالله تعالى فذاك التقيّ الخائف، وعالم بأمر الله تعالى غير عالم بالله تعالى فذاك العالم الفاجر، وقيل أيضاً: عالم لله تعالى وهو العامل بعلمه، وعالم بأيام الله تعالى وهو الخائف الراجي، وسئل سفيان عن العلم ما هو؟ فقال هو الورع، قيل: وأي شيء هو الورع؟ فقال: طلب العلم الذي يعرف به الورع وهو عند قوم طول الصمت وقلة الكلام وما هو كذلك إنما هو المتكلم العالم عندنا افضل من الصامت.
وروينا عن لقمان في وصيته: للعلم ثلاث علامات، العلم بالله وبما يحبه الله تعالى وبما يكره فجعل حقيقة العلم ودليل وجوده هذه الثلاث، ومما يدلك على الفرق بين علماء الدنيا وعلماء الآخرة أن كل عالم بعلم إذا رآه من لا يعرفه لم يتبين عليه أثر علمه ولا عرف أنه عالم إلا العلماء بالله عزّ وجلّ فإنما يعرفون بسيماهم للخشوع والسكينة والتواضع والذلة، فهذه صبغة الله تعالى لأوليائه ولبسته للعلماء به، ومن أحسن من الله صبغة فمثلهم في ذلك كمثل الصناع إذ كل صانع لو ظهر لمن لا يعرفه لم يعرف صنعه دون سائر الصنائع ولم يفرق بينه وبين الصناع إلا الصناع، فإنه يعرف بصنعته لأنها ظاهرة عليه إذ صارت له لبسة وصفةلالتباسها بمعاملته، فكانت سيماه كما قيل: ما ألبس الله تعالى عبداً لبسة أحسن من خشوع في سكنية هي لبسة الأنبياء وسيما الصديقين والعلماء فاعلم الناس بلطف ما يحب الله تعالى وخفي ما يكره أهل القلوب الفاقهة عن الله تعالى وهم العارفون به، وقد كان سهل رحمه الله يقول: العلماء ثلاثة، عالم بالله تعالى، وعالم لله تعالى وعالم بحكم الله تعالى يعني العالم بالله تعالى العارف الموقن، العالم لله عزّ وجلّ هو العالم بعلم الإخلاص والأحوال والمعاملات، والعالم بحكم الله تعالى هو العالم بتفصيل الحلال والحرام فسرنا ذلك على معاني قوله ومعرفة مذهبه، وقد قال مرة في كلام أبسط من هذا: عالم بالله لا بأمر الله ولا بأيام الله وهم المؤمنون، وعالم بأمر الله لابأيام الله وهم المفتون في الحلال والحرام، وعالم باللّّه تعالى عالم بأيام الله وهم(1/242)
الصديقون، يعني قوله بأيام الله أي بنعمته الباطنة وبعقوباته الغامضة، ثم قال: الناس كلهم موتى إلا العلماء والعلماء نيام إلا الخائفين والخائفون منقطعون إلا المحبين، والمحبون أحياء شهداء وهم المؤثرون لله تعالى على كل حال، وقد كان يقول: طلاب العلم ثلاثة، واحد يطلبه للعمل به، وآخر يطلبه ليعرف الاختلاف فيتورع ويأخذ بالاحتياط، وآخر يطلبه ليعرف التأويل فيتناول الحرام فيجعل حلالاً فهذا يكون هلاك الحق على يديه، وقد حدثت عن أبي يوسف أنه كان إذا صار رأس الحول وهب ماله لامرأته واستوهبها مالها فتسقط عنهما الزكاة فذكر ذلك لأبي حنيفة فقال: ذلك من فقهه فإنما يطلب لعلم المعرفة الورع والاحتياط للدين فهذا هو العلم النافع فإذاطلب لمثل هذا ولتأويل الهوى كان الجهل خيراً منه وصار هذا العلم هو الضار الذي استعاذ الرسول منه.
وروينا عن عمر وغيره: كم من عالم فاجر وعابد وجاهل، فاتقوا الفاجر من العلماء والجاهل من المتعبدين، وعن عمر أيضاً: وقد رويناه مسنداً: اتقوا كل منافق عليم اللسان يقول ما تعرفون ويعمل ما تنكرون، وروينا عنه أيضاً تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم وتواضعوا لمن تعلمون وليتواضع لكم من يتعلم منكم ولا تكونوا جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم بجهلكم، وروينا عن علي وابن عباس رضي اللّّه عنهما وعن كعب الأحبار: يكون في آخر الزمان علماء يزهدون الناس في الدنيا ولا يزهدون ويخوّفون ولا يخافون وينهون عن غشيان الولاة ولا ينتهون ويؤثرون الدنيا على الآخرة ويأكلون الدنيا بألسنتهم أكلاً يقربون الأغنياء ويباعدون الفقراء يتغايرون على العلم كما تتغاير النساء على الرجال يغضب أحدهم على جليسه إذاجالس غيره ذلك حظهم من العلم، وفي حديث علي رضي الله عنه: علماؤهم شر الخليفة، منهم بدت الفتنة وفيهم تعود، وفي حديث ابن عباس: أولئك الجبارون أعداء الرحمن، وروينا عن علي عليه السلام: ما قطع ظهري في الإسلام إلا رجلان، عالم فاجر، ومبتدع ناسك، فالعالم الفاجر يزهد الناس في علمه لما يرون من فجوره والمبتدع الناسك يرغب الناس في بدعته لما يرون من نسكه، وقال صالح بن حسان البصري: أدركت المشيخة وهم يتعوذون بالله تعالى من الفاجر العالم بالسنة، وقال الفضيل بن عياض: إنما هما عالمان، عالم دنيا وعالم آخرة، فعالم الدنيا علمه منشور وعالم الآخرة علمه مستور، فاطلب عالم الآخرة واحذر عالم الدنيا لا يصدنك بشكره، ثم قرأ إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله، قال: فالأحبار العلماء والرهبان الزهاد، وقال سهل بن عبد الله: طلاب العلم ثلاثة، فواحديطلب علم الورع مخافة دخول الشبهة عليه، فيدع الحلال خوف الحرام فهذا زاهد تقي، وآخر يطلب علم الاختلاف(1/243)
والأقاويل فيدع ما عليه ويدخل فيما أباح الله تعالى بالسعة ويأخذ للرخصة، وآخر يسأل عن شيء فيقال: هذا لا يجوز فيقول: كيف أصنع حتى يجوز لي، فيسأل العلماء فيخبرونه بالاختلاف والشبهة، فهذا يكون هلاك الخلق على يديه وقد أهلك نفسه وهم علماء السوء، واعلم أن كل محب للدنيا ناطق بعلم فإنه آكل للمال بالباطل وكل من أكل أموال الناس بالباطل فإنه يصد عن سبيل الله لا محالة وإن لم يظهر ذلك في مقاله ولكنك تعرفه في لحن معناه بدقائق الصد عن مجالسة غيره وبلطائف المنع من طرقات الآخرة لأن حب الدينا وغلبة الهوى يحكما عليه بذلك شاء أم أبى.
وقال بعض العلماء: إن الله عزّوجلّ يحب العالم المتواضع ويبغض الجبار من العلماءومن تواضع لله تعالى ورثه الله تعالى الحكمة، وفي الخبر عن ابن مسعود: إن الله تعالى ليمقت الحبر السمين، وقال رسول الله لمالك بن الصيف: حبر من أحبار اليهود، فقال: نشدتك الله تعالى ألم تجدفيما أنزل تعالى على موسى عليه السلام أن الله تعالى يبغض الحبر السمين، وكان ابن الصيف سميناً فغضب عندها فقال: (ما أنْزل اللهُ على بَشَرٍ منْ شَيءٍ) الأنعام: 91، ففيه نزلت هذه الآية تعريفاً لبهته: (قُلْ مَنْ أنْزلَ الكِتابَ الَّذي جاءَ بهِ مُوسى نُوراً) الأنعام: 91، فقال له أصحابه: ويحك ماذا قلت جحدت كتاب موسى فقال: إنه محكني فقلت ذلك ويقال ما آتى الله تعالى عبداً علماً إلا أتاه معه حلماً وتواضعاً وحسن خلق ورفقاً فذلك علامة العلم النافع، وقد روينا معناه في الأثر: من آتاه عزّ وجلّ زهداً وتواضعاً وحسن خلق فهو إمام المتقين، وكان الحسن يقول: الحلم وزير العلم والرفق أبوه والتواضع سرباله، وفي أخبار داود عليه السلام: إن الله تعالى أوحى إليه يا داودلاتسألنّ عني عالماً قد أسكرته الدنيا فيصدك عن طريق محبتي أولئك قطاع طريق عبادي المريدين، يا داود إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي، يا داود إذا رأيت لي طالباً فكن له خادماً، يا داود من ردّ إليّ هارباً كتبته عندي جهبذاً ومن كتبته جهبذاً لم أعذبه أبداً.
وروينا عن عيسى عليه السلام: مثل علماء السوء مثل صخرة وقعت على فم النهر لا هي تشرب الماء ولا تترك الماء يخلص إلى الزرع، وكذلك علماء الدنيا قعدوا على طريق الآخرة فلا هم نفذوا ولا تركوا العباد يسلكون الله عزّ وجلّ، قال: ومثل علماء السوء كمثل قناة الحش ظاهرها حسن وباطنها نتن ومثل القبور المشيدة ظاهرها عامر وباطنها عظام الموتى،(1/244)
وقال بشر بن الحارث: من طلب الرياسة من العلماء فتقرب إلى الله تعالى ببغضه فإنه مقيت الله في السماء والأرض، وكان الأوزاعي يروي عن بلال بن سعد أنه كان يقول: ينظر أحدكم إلى الشرطي والعون فيستعيذ بالله تعالى من حاله ويمقته وينظر إلى عالم الدنيا قد تصنع للخلق وتشوف للطمع والرياسة فلا يمقته، هذا العالم أحقّ بالمقت من ذلك الشرطي، وقد كان أبو محمد يقول: لا تقطعوا أمراً من الدين والدنيا إلابمشورة العلماء تحمدوا العاقبة عند الله قيل: يا أبا محمد من العلماء؟ قال الذين يؤثرون الآخرة على الدنيا ويؤثرون الله تعالى على نفوسهم، وقد قال عمر رضي الله عنه في وصيته: وشاور في أمورك الذين يخشون الله تعالى.
وروينا في الإسرائيليات أن حكيماً من الحكماء صنف ثلاثمائة وستين مصحفاً في الحكمة حتى وصف بالحكم فأوحىالله تعالى إلى نبيهم: قل لفلان قد ملأت الأرض نفاقاً ولم تردني بشيء من ذلك وإني لا أقبل شيئاً من نفاقك قال: فأسقط في يديه وحزن وترك ذلك وخالط العامة ومشى في الأسواق وواكل بني إسرائيل وتواضع في نفسه فأوحى الله تعالى إلى النبي عليه السلام: قل له الآن وافقت رضاي، وقال بعض العلماء: كان أهل العلم على ضربين، عالم عامة وعالم خاصة، فأما عالم العامة فهو المفتي في الحلال والحرام وهؤلاء أصحاب الأساطين، وأما عالم الخاصة فهو العالم بعلم التوحيد والمعرفة هؤلاء أهل الزوايا وهم المنفردون وقد كانوا يقولون مثل الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه مثل دجلة كل أحد يعرفها، ومثل بشر بن الحارث مثل بئر عذبة مغطاة لا يقصدها إلا واحد بعد واحد، وقال حماد بن زيد: قيل لأيوب العلم اليوم أكثر أو فيما مضى؟ فقال: العلم فيما مضى كان أكثر والكلام اليوم أكثر، ففرق بين العلم والكلام وقد كانوا يقولون فلان عالم وفلان متكلم وفلان أكثر كلاماً وفلان أكثر علماً، وكان أبو سليمان يقول: المعرفة إلى السكوت أقرب منها إلى الكلام، وقال بعض العارفين هذا العلم على قسمين: نصفه صمت ونصفه تدري أين تضعه، وزاد آخر: ونصفه وجد ونصفه نظريعني تفكراً واعتباراً، وسئل سفيان عن العالم من هو؟ فقال: من يضع العلم في مواضعه ويؤتي كل شيء حقه، وقال بعض الحكماء: إذا كثر العلم قل الكلام، وقد كان إبراهيم الخواص رحمه الله يقول: الصوفي كلما ازداد علماً نقصت طينته، وقال بعض شيوخنا: قلت للجنيد يا أبا القاسم يكون لسان بلاقلب، قال(1/245)
كثير: قلت فيكون قلب بلا لسان فقال: نعم قد يكون، ولكن لسان بلا قلب بلاء وقلب بلا لسان نعمة قلت فإذا كان لسان وقلب قال: فذاك الزيد بالنرسبان يعني العسل.
وقد روينا حديثاً مقطوعاً عن سفيان عن مالك بن مغول قال: قيل يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: اجتناب المحارم ولايزال فوك رطباً من ذكر الله تعالى، قيل: يا رسول الله فأي الأصحاب خير؟ قال: صاحب إن ذكرت أعانك وإن نسيت ذكرك، قيل: فأي الأصحاب شر؟ قال: صاحب إن سكت لم يذكرك وإن ذكرت لم يعنك، قال: فأي الناس أعلم؟ قال: أشدهم لله تعالى خشية، قال فاخبرنا بخيارنا نجالسهم قال: الذين إذا رأوا ذكر الله تعالى قالوا: فأي الناس شر يا رسول الله؟ قال: اللهم اغفرا قالوا أخبرنا يا رسول الله قال: العلماء إذا فسدوا وقد وصف علي عليه السلام علماء الدنيا الناطقين عن الرأي والهوى بوصف غريب.
رويناه عن خالد بن طليق عن أبيه عن جده وجده عمران بن حصين قال: خطبنا علي بن أبي طالب عليه السلام ورضي عنه فقال: ذمتي رهينة وأنا زعيم لا يهيج على التقوي زرع قوم ولا يظمأ على الهدى شح أصل، وإن أجهل الناس من لا يعرف قدره وكفى بالمرء جهلاً أن لا يعرف قدره، وإن أبغض الخلق إلى الله تعالى رجل قمش علماًً أغار في أغباش الفتنة عمي عماً في غيب الهدنة سماه أشباه الناس وأرذالهم عالماً ولم يغن في العلم يوماً سالماًً بكر فاستكثر مما قل منه خير مما كثر حتى إذا ارتوى من آجن وأكثر من غير طائل جلس للناس مفتياً لتخليص ما التبس على غيره فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ؟ لها عشوالرأي من رأيهم فهو من قطع الشبهات في مثل غزل العنكبوت لا يدري أخطأ أم أصاب ركاب الجهالات خباط عشوات ظلمة لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم ولا يعض على العلم بضرس قاطع فيغنم، تبكي منه الدماء وتصرخ منه المواريث وتستحل بقضائه الفروج الحرام، لا ملئ والله بإصدار ما ورد عليه ولا هو أهل لما قرطبه أولئك الذين حلت عليهم النياحة والبكاء أيام حياة الدنيا، ووصف علي عليه السلام علماء الآخرة في حديث كهيل بن زياد الذي يقول فيه الناس: ثلاثة عالم رباني يعني عالماً بالربوبية فننسبه إلى رب كما سماهم الله في قوله: (كُونُوا رَبَّانِيِّين بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ) آل عمران: 79 الآية، فسمّى العالم بكتابه ربانياً والدارس له ربانياً فهذا قد جمع العلم والعمل وكذلك يقال: العالم الرباني هو الذي يعلم ويعمل ويعلم الناس الخير، قال: فذاك الذي يدعى عظيماً في ملكوت السماء، وقال تعالى في تقدمتهم: (لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ والأحْبَارُ) المائدة: 63 فقدم الربانيين على الأحبار وهم علماء الكتب(1/246)
وكذلك رويناه عن مجاهد قال: الربانيون فوق الأحبار درجة، وقال غيره: والأحبار فوق الرهبان يعني علماء القلوب أرفع من علماء الألسنة والعلماء بالكتب أفضل من العباد بدرجة، وقد ضمهم الله تعالى إلى أنبيائه في النصرة له والصبر معه في قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثيرٌ) آل عمران: 641، ثم وصفهم بالثبات لأمره والقوة في دينه والصبر لحكمه في تمام الآية وربيون جمع ربي يقال ربي ورباني فجمع ربي ربيون وجمع رباني ربانيون.
وكذلك جاء عن رسول الله: يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء فقدم العلماء على الشهداء لأن العالم إمام أمة فله مثل أجور أمته والشهيدعمله لنفسه، وفي خبر آخر: حبر العلماء يوزن بدم الشهداء فأعلى حال الشهيد دمه وأدنى وصف العالم حبره، فسوى بينهما وزاد العالم على الشهيد بأعلى مقامه وكان علي عليه السلام يقول العالم أفضل من الصائم القائم والمجاهد في سبيل الله وإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمةلا يسدها إلاخلف منه.
وقد روينا معناه مسنداً إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيءما طرد الليل والنهار إلا موت العالم بحم طمس وموت قبيلة أيسر من موت عالم ثم قال علي عليه السلام في حديث كهيل ومتعلم على سبيل النجاة يعني مريداً طالباً للعلم متعلماً من العلماء بالله تعالى على طريق معاملة وإخلاص لطلب السلامة وأن ينجو من الجهل في الدنيا ومن العذاب في الآخرة، ثم قال: وهمج رعاع الهمج الفراش الذي يتهافت في النار لجهله واحدته همجة رعاع خفيف طياش لاعقل له يستفزه الطمع ويستخفه الغضب ويزدهيه العجب ويستطيله الكبر ثم بكى علي عليه السلام وقال: هكذا يموت العلم بموت حامليه ثم تنفس عند وصف الربانيين فقال: واشوقاه إلى رؤيتهم يعني الربانيين من العلماء وقد ذكرنا هذا الحديث بطوله في الباب الذي قبل هذا، فهؤلاء الذين بكى عليهم شوقاً هم الذين اشتاق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم قبله فقال: واشواقاه إلى لقاء إخواني ووددت أني قد رأيت إخواني، ثم قال: هم قوم يجيئون بعدكم، ثم وصفهم فإنما كانوا إخوانه لأن قلوبهم على قلوب الأنبياء عليهم السلام وأخلاقهم بمعاني صفات الإيمان وهم أبدال هذه الأمة جاء في وصفهم ما يجل عن الوصف هم على ثلاث طبقات: صديقون، وشهداء، وصالحون، وإن منهم من قلبه على قلب إبراهيم الخليل ومنهم من قلبه على قلب موسى الكليم وعيسى الروح ومحمد الحبيب صوات الله عليهم وسلم أجمعين، ومنهم على قلب جبريل وميكائيل وإسرافيل والأخوة تقع بين الاثنين في المجالسة وقرب الشبه في الأفعال والأخلاق كما قال الله عزّ وجلّ: (أَلَمْ تَرَ إلى الَّذين نافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوانِهِمْ الَّذينَ كَفَرُوا) الحشر: 11 لما كانوا على أوصافهم في القلوب من أسرار الكفر واعتقاد الشك جعلهم إخواناً، وكذلك قال: إن(1/247)
المبذرين كانوا إخوان الشياطين، وهؤلاء ليسوا أمثالهم في الخلقة ولا بينهم أبوة ولا أمومة لأن الشياطين من ولد إبليس والمبذرين أولاد آدم عليه السلام، ولكن تشابهت قلوبهم في المواجيد والأخلاق والأفعال، فآخى بينهم للتشابه، فمن كان من علماء الآخرة فعقله يستضيء من أنوار قلبه وفهمه ينبئ عن استنباط علمه ومشاهدته وأخلاقه على معاني يقينه وقوته وطريقه وسلوكه في منهاج سنته وسبيله فهو من إخوانه وإخوان النبيين الذين اشتاق إلى رؤيتهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم الغرباء بين الملأ الذين قال بدا الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء قيل: ومن الغرباء؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس، وفي لفظ آخر الذين يصلحون ما أفسده الناس من سنتي والذين يحيون ما أمات الناس من سنتي يعني أنهم يظهرون طريقته التي تركها الناس وجهلوها، وفي خبر آخر: هم المتمسكون بسنتي وما أنتم عليه اليوم، وفي حديث آخر: الغرباء ناس قليلون صالحون بين ناس سوء كثيرين من يبغضهم أكثر ممن يحبهم، فهؤلاء الغرباء الذين قد أنعم الله عليهم بمرافقة النبيين في أعلى عليين فقال مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين إلى قوله رفيقاً، وقد كان الثوري يقول: إذا رأيت العالم كثير الأصدقاء فأعلم أنه مخلط، وقال أيضاً إذا رأيت الرجل محبباً إلى إخوانه محموداً في جيرانه فأعلم أنه مراء، وقد وصف الله تعالى علماء السوء بأكل الدنيا بالعلم ووصف علماء الآخرة بالخشوع والزهد فقال تعالى في علماء الدنيا: (وإذْ أخذاللهُ مِيثاق الذين أُوتُوا الكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلْنَّاس ولا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وراءَ ظُهُورِهِمِ واشتَرَوْا بهِ ثًمناً قليلاً) آل عمران: 187، وقال في نعت علماءالآخرة: (وإنَّ مِنْ أهْلِ الكِتابَ لَمَن يُؤمْنُ بِالله وما أُنْزل إليْكُم) آل عمران: 199 إلى قوله: (لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِم) آل عمران: 199
وقد روينا عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: علماء هذه الأمة رجلان، فرجل آتاه الله علماً فبذله للناس ولم يأخذ عليه طمعاً ولم يشتر به ثمناً فذاك يصلي عليه طير السماء وحيتان الماء ودواب الأرض والكرام الكاتبون يقدم على الله تعالى يوم القيامة سيداً شريفاً حتى يرافق المرسلين، ورجل أتاه الله تعالى علماً في الدنيا فضنّ به عن عباد الله عزّ وجلّ وأخذ عليه طمعاً واشترى به ثمناً يأتي يوم القيامة ملجماً بلجام من نار ينادي مناد على رؤوس الخلائق: هذا فلان بن فلان آتاه الله تعالى علماً في الدنيا فضنّ به على عبادالله تعالى وأخذعليه طمعاً واشترى به ثمناً يعذب حتى يفرغ من حساب الناس،(1/248)
ومن أغلظ ما سمعت فيمن أكل الدنيا بالعلم ما حدثونا عن عتبة بن واقد عن عثمان بن أبي سليمان قال: كان رجل يخدم موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعل يقول: حدثني موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحدثني موسى نجي الله، حدثني موسى كليم الله، حتى أثرى وكثر ماله ففقده موسى صفي الله فجعل يسأل عنه فلا يحس له أثراً حتى جاءه رجل ذات يوم وفي يده خنزير وفي عنقه حبل أسود فقال له موسى عليه السلام: أتعرف فلاناً قال الرجل: نعم هوذا الخنزير: فقال موسى: يا رب أسألك أن ترده إلى حاله حتى أسأله فيما أصابه هذا فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى لو دعوتني بما دعاني به آدم فمن دونه ما أجبتك فيه ولكني أخبرك لم صنعت به هذا لأنه كان يطلب الدنيا بالدين.
وروينا عن الحسن بأنه انصرف يوماً من مجلسه فأستأذن عليه رجل من أهل خراسان فوضع بين يديه كيساً فيه خمسة آلاف درهم وأخرج من حقيبته رزمة فيها عشرة أثواب من دقيق بر خراسان، فقال الحسن: ما هذا؟ فقال: يا أبا سعيد هذه نفقة وهذه كسوة، فقال له: عافاك الله ضم إليك نفقتك وكسوتك فلا حاجة لنا بذلك، إنه من جلس مثل مجلسي هذا وقبل من الناس مثل هذا لقي الله تعالى يوم القيامة لاخلاق له، وفي خبر: إن العبد لينشر له من الثناء ما بين المشرق والمغرب وما يزن عند الله جناح بعوضة وعلماء الدنيا الطالبون لها بالعلم الآكلون لها بالدين المتخذون الأصدقاء والأخلاء من أبنائها المكرمون المحبون لهم المقبلون بالبشر والبشاشة عليهم هم معرفون في كل زمان بأوصافهم ولحن قولهم وسيماهم، وقد روينا في مقامات علماء السوء حديثاً شديداً نعوذ بالله من أهله ونسأله أن لا يبلونا بمقام منه فرويناه مرة مسنداً من طريق ورويناه موقوفاً على معاذ بن جبل رضي الله عنه وأنا أذكره موقوفاً أحب إليّ، حدثونا عن منذر بن علي عن أبي نعيم الشامي عن محمد بن زياد عن معاذ بن جبل يقول فيه: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووافقته أنا على معاذ قال: من فتنة العالم أن يكون الكلام أحبّ إليه من الاستماع، وفي الكلام تنميق وزيادة ولا يؤمن على صاحبه الخطأ وفي الصمت سلامة وعلم، ومن العلماء من يخزن علمه فلا يحب أن يوجد عند غيره فذلك في الدرك الأوّل من النار، ومن العلماء من يكون في علمه بمنزلة السلطان فإن رد عليه شيء من علمه أو تهاون بشيء من حقه فغضب فذلك في الدرك الثاني من النار، ومن العلماء من يجعل حديثه وغرائب علمه لأهل الشرف واليسار ولا يرى أهل الحاجة له أهلاً فذلك في الدرك الثالث من النار، ومن العلماء من ينصب نفسه للفتيا فيفتي بالخطا والله عزّ وجلّ يبغض المتكلفين فذلك في الدرك الرابع من النار، ومن العلماء من يتكلم بكلام اليهود والنصارى ليغزر به علمه فذلك في الدرك الخامس من النار، ومن العلماء من يتخذ علمه مروءة ونبلاً وذكراً في الناس فذلك في الدرك السادس من النار، ومن العلماء من يستفزه الزهو(1/249)
والعجب فإن وعظ عنف وإن وعظ أنف فذلك في الدرك السابع من النار عليك بالصمت فيه تغلب الشيطان وإياك أن تضحك من غير عجب أو تمشي في غير أرب.
وقد روينا حديثاً يدل على أوصاف علماء الآخرة وفيه أصول ما يدعون الخلق إليه من مقامات الإيمان وأسباب الدين والإيقان، رويناه عن شقيق بن إبراهيم البلخي عن عباد بن كثير عن أبي الزبير عن جابر ذكره عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وواقفته أنا على جابر بن عبد الله قال: لا تجلسوا عند كل عالم إلا عالم يدعوكم من خمس إلى خمس من الشك إلى اليقين ومن الرياء إلى الإخلاص ومن الرغبة إلى الزهد ومن الكبر إلى التواضع ومن العداوة إلى النصيحة ومما يدلك أن علم اليقين والتقوى وعلم المعرفة والهدى هو العلم المذكور، المقصود عند السلف أن الصحابة والتابعين كانوا يشفقون من فقد ذلك ويخافون عدمه ويخبرون عن رفعه وقلته في آخر الزمان وإنما يعنون بذلك علم القلوب والمشاهدات الذي هو نتيجة التقوى وعلم المعرفة واليقين الذي هو من مزيد الإيمان وثمرة الهدى، فإذا فقد المتقون وقل الخائفون وعدم الزاهدون ذهبت هذه العلوم لأنها قائمة بهم موجودة عندهم هم أربابها والناطقون بها وهي أحوالهم وطرائقهم هم السالكون لها والقائمون بها فلأجل معرفة الصحابة والتابعين عزة ذلك كانوا يبكون على فقده، وقدوصف الله العلماء بالزهد في الدنيا والاستصغار لها وبعمل الصالحات والإيمان بها كما وصف أبناء الدنيا بالرغبة فيها والإستعظام لها قال تعالى في معنى ذلك: (فَخَرَجَ على قَوْمِهِ في زينتهِ قال الَّذين يُريدونَ الْحياة الدُّنْيا يا ليْتَ لنا مِثْل ما أُوتي قارُونُ إنَّهُ لذُو حظٍّ عَظيمٍ) القصص: 79، (وقال الَّذين أوتُوا العِلْمَ وَيْلكُمْ ثوابُ الله خِيْرٌ لِمَنْ آمنَ وعمِلَ صالحِاً) ، ثم قال عزّ وجل: (ولا يُلَقَّاها إلا الصَّابِرون) القصص: 80، أي لا يلقى هذه الحكمة إلا الصابرون عن زينة الدنيا التي خرج فيها قارون.
وروينا عن جندب بن عبد الله البجلي قال: كنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غلماناً حزاورة فيعلمنا الإيمان قبل القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً، وعن ابن مسعود قال: أنزل القرآن ليعمل به فاتخذتم دراسته عملاً وسيأتي قوم يثقفونه تثقيف الغناء ليسوا بخياركم، وفي لفظ آخر: يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه، وروينا عن ابن عمر وغيره لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا يؤتي الإيمان قبل القرآن وتنزل السورة فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يتوقف عنده منها كما تتعلمون أنتم اليوم القرآن ولقد رأيت رجالاً يؤتي أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته لا يدري ما آمره ولا زاجره وما ينبغي أن يقف عنده وينثره نثر الدقل، وفي الخبر الآخر بمعناه: كنا أصحاب رسول الله أوتينا الإيمان قبل القرآن وسيأتي بعدكم قوم يؤتون القرآن قبل الإيمان يقيمون حروفه ويضيعون حدوده ويقولون قرأنا، فمن أقرأ منا وعلمنا فمن أعلم منا فذلك حظهم منه، وفي لفظ آخر:(1/250)
أولئك شرار هذه الأمة، فأما العلم المأثور الذي نقله خلف عن سلف والخبر المرسوم في الكتب المستودع في الصحف الذي يسمعه من غبر عمن قدم فهذا علم الأحكام والفتيا وعلم الإسلام والقضايا طريقه السمع ومفتاحه الاستدلال وخزانته العقل وهو مدون في الكتب ومحبر في الورق يتلقاه الصغير عن الكبير بالألسنة وهو باق بقاء الإسلام وموجود بوجود المسلمين لأنه حجة الله تعالى على عباده ومحجة العموم من خلقه فضمن إظهاره فلم يكن ليظهر إلا بحملة تظهره ونقلة تحمله فقال تعالى: (لِيُظْهِرَهُ على الدّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) الصف: 9، وكما قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمعناه وعلم ظاهر على اللسان فذلك حجة الله تعالى على خلقه وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن سمع منكم فأخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعلم العتيد المستودع ظهور الكتب الذي هو ظاهر الدين وفي جهله وعدمه وجود الشرك كما ضمن الله تعالى تبقية الإسلام على كره المشركين وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رحم اللّّه من سمع منا حديثاً فبلغه كما سمعه فربّ حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وقد أخبر أن حامل الفقه قد يكون غير فقيه القلب إذا لم يعمل بعلمه وأنه قد يحمله إلى من هو أفقه منه إذا عمل به إذا وعاه كما قال في الخبر الآخر: ربّ مبلغ أوعى من سامع فمدحه بالعمل به إذا وعاه، فتذكر به وتفكر فيه وإن لم يكن سمعه منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال الله سبحانه وتعالى: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) الحاقة: 12 يعني أذن القلب الحافظة ما سمعت الذاكرة لما وعت كما قال تعالى: (إنَّ في ذلك لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهُوَ شَهيدٌ) ق: 37 يعني أصغي بسمعه إلى سامعه وشهد بقلبه ما سمعه من شاهده، وقد جاء في تفسير قوله تعالى: (وَتَعِيها أُذُن ٌواعيِةٌ) الحاقة: 12، قال: أذن عقلت عن الله تعالى أمره ونهيه فوعته وعملت به كما وصف سبحانه وتعالى المؤمنين الذين نعتهم بقوله في تمام وصفهم: (والحْافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) التوبة: 112، وقدروينا عن عليّ رضي الله عنه: اطلبوا العلم تعرفوا به واعملوا به تكونوا من أهله، وقال أيضاً رضي الله عنه: إذا سمعتم العلم فاكظموا عليه ولا تخلطوه بهزل فتمجه القلوب وقال بعض السلف: من ضحك ضحكة مج مجة من العلم، وقال الخليل بن أحمد رحمه اللهّ: ليس العلم ما حواه القمطر إنما العلم ما وعاه الصدر، وإذا جمع العالم ثلاثاً تمت النعمة به على المتعلم الصبر والتواضع وحسن الخلق، وإذا جمع المتعلم ثلاثاً تمت النعمة به على العالم العقل والأدب وحسن الفهم والله أعلم.
ذكر وصف العلم وطريقة السلف وذم ما أحدث المتأخرون من القصص والكلام
لا بدّ للعالم بالله تعالى من خمس هي علامة علماء الآخرة: الخشية، والخشوع،(1/251)
والتواضع، وحسن الخلق، والزهد، قال الله تعالى: (إنَّما يَخْشى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلماءُ) فاطر: 28 وقال تعالى: (خاشِعينَ لله) آل عمران: 199 الآية فلا بدّ له من التواضع وحسن الخلق، قال اللّّه عزّ وجلّ: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنينَ) (وَقُلْ إني أنا النَّذيرُ المْبُينُ) الحجر: 88 - 89، وقال تعالى: (فبِما رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ) آل عمران: 159 الآية والزهد في الدنيا، قال الله تعالى: (الَّذينَ أُوتُوا الْكتَابَ) التوبة: 29 ويلكم ثواب الله خير فمن وجد فيه هذه الخلال فهو من العلماء بالله عزّ وجل واعلم أنه إنما يستبين العالم عند المشكلات في الدين ويحتاج إلى العارف عند شبهات حاكت الصدور كما قال عبد الله بن مسعود رضي اللّّه عنه: لا تزالون بخير ما إذا حاك في صدر أحدكم شيء وجد من يخبره به ويشفيه منه وأيم الله أوشك أن لا تجدوا ذلك، وكما قال له رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي الناس أعلم فقال: الله ورسوله أعلم، فقال أعلمهم بالحق إذا اشتبهت الأمور ووقعت المشكلات، وإن كان يزحف على أسته، فكذلك إذا اختلف الناس وإن كان في عمله تقصير وكما قال في حديث عمران بن حصين: إن الله تعالى يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات والعقل الكامل عند هجوم الشهوات ويحب السخاء ولو على تمرات ويحب الشجاعة ولوعلى قتل الحيات، وقد حصلنا في زماننا هذا في مثل ما خافه ابن مسعود لأن مشكلة لو وردت في معاني التوحيد وشبهة لو اختلجت في صدر مؤمن من معاني صفات الموحد وأردت كشف ذلك على حقيقة الأمر بما يشهده القلب الموفق ويثلج له الصدر المشروح بالهدى كان ذلك عزيزاً في وقتك هذا ولكنت في استكشاف ذلك بين خمسة نفر، مبتدع ضال يخبرك برأيه عن هواه فيزيدك حيرة، أو متكلم يفتيك بقصور علمه عن شهادة الموقنين وبقياس معقوله على ظاهر الدين وهذا شبهة فكيف تنكشف به شبهة، أو صوفيّ شاطح تائه غالط يجاوز بك الكتاب والسنة لا يباليهما ويخالف بقوله الأئمة لا يتحاشاها فيجيبك بالظن والوسواس والحدس والتمويه ويمحو الكون والمكان ويسقط العلم والأحكام ويذهب الأسماء والرسوم، وهؤلاء تائهون في مفازة التيه لم يقفوا على الحجة قد غرقوا في بحر التوحيدلم يجعلوا أئمة المتقين ولا حجة للمتقين وهذا ساقط القول إذ ليس معه حجة ولا هو على سنن المحجة، أو مفتٍ عالم عند نفسه موسوم بالفقه عند أصحابه يقول هذا من أحكام الآخرة ومن علم الغيب لا نتكلم فيه لأنّا لم نكلفه وهو في أكثر مناظرته يتكلم فيما لم نكلف ويجالد فيما لم ينطق به السلف ويتعلم ويعلم ما علمه بتكلف ولا يعلم المسكين أنه كلف علم يقين الإيمان وحقيقة التوحيدومعرفة إخلاص المعاملة وعلم ما يقدح في الإخلاص ويخرج من جملته قبل ما هو فيه لأنه متكلف لبعض ما هو يبتغيه لأن علم الإيمان وصحة التوحيد وإخلاص العبودية للربوبية وإخلاص الأعمال من الهوى الدنيوية(1/252)
وما يتعلق بها من أعمال القلوب هو من الفقه في الدين ونعت أوصاف المؤمنين إذ مقتضاه الإنذار والتحذير لقوله تعالى: (لِيَتفَقَّهُوا في الدينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) التوبة: 122 الآية، ولقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تعلموا اليقين فإني متعلم معكم ولقول الصحابة رضي الله عنهم تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً فهذا مزيداً الهداية بالإيقان وهو زيادة المؤمنين في الإيمان كما قال تعالى: (فَزَادَهُمْ إيماناً) آل عمران: 173 وقال عزّ وجلّ: (ويَزَيدُ الله الَّذينَ اهْتَدَوْا هُدىً) مريم: 76 ولا يشعر أن حسن الأدب في المعاملة بمعرفة ويقين هو من صفات الموقنين وذلك هو حال العبد في مقامه بينه وبين ربه عزّ وجل ونصيبه من ربه تعالى، وحظه من مزيد آخرته.
وذلك معقود بشهادة التوحيدالخالصة المقترنة بالإيمان من خفايا الشرك وشعب النفاق وهو مقترن بالفرائض وفرض فرضها الإخلاص بالمعاملة وإن علم ما سوى هذا مما قد أشرب قلبه وحبب إليه من فضول العلوم وغرائب الفهوم إنما هو حوائج الناس ونوازلهم فهو حجاب عن هذا واشتغال عنه، فآثر هذا الغافل لقلة معرفته بحقيقة العلم النافع ما زين له طلبه وحبّب إليه قصده، آثر حوائج الناس وأحوالهم على حاجته وحاله وعمل في أنصبتهم منه في عاجل دنياهم من نوازل طوارقهم وفتياهم ولم يعمل في نصيبه الأوفر من ربه الأعلى لأجل آخرته التي هي خبر وأبقى إذ مرجعه إليها ومثواه المؤبد فيها، فآثر التقرب منهم على القربة من ربه عزه وجلّ وترك للشغل بهم حظه من الله تعالى إلا جزل وقدم التفرغ لهم على فراغ قلبه لما قدم لغده من تقواه بالشغل بخدمة مولاه وطلب رضاه واشتغل بصلاح ألسنتهم عن صلاح قلبه وظواهر أحوالهم عن باطن حاله وكان سبب ما بلي به حب الرياسة وطلب الجاه عند الناس والمنزلة بموجب السياسة والرغبة في عاجل الدنيا وعزها بقلة الهمة وضعف النية في عاجل الآخرة وذخره فأفنى أيامه لأيامهم وأذهب عمره في شهواتهم ليسميه الجاهلون بالعلم عالماً وليكون في قلوب البطالين عندهم فاضلاً فورد القيامة مفلساً وعندما يراه من أنصبة المقربين مبلساً إذ فاز بالقرب العاملون وريح الرضا العالمون ولكن أنّى له وكيف بنصيب غيره؟ وقد جعل الله تعالى لكل عمل عاملاً ولكل علم عالماً أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب كل ميسر لما خلق له هذا فصل الخطاب بينهما فإن الأمة لم تختلف، إن علم التوحيد فريضة سيما إذا وقعت الشبهات وأدخلت فيه المشكلات وإنما اختلفوا في مسألتين أي شيء هو التوحيد وفي كيفية طلبه والتوصل إليه، فمنهم من قال بالبحث والطلب ومنهم من يقول بالاستدلال والنظر، ومنهم من قال بالسمع والأثر، وقال بعضهم: بالتوقيف والتسليم وقال بعض الناس: يدرك دركه بالعجز والتقصير عن بلوغ دركه، والرجل الخامس(1/253)
من العلماء هو صاحب حديث وآثار وناقل رواية الأخبار يقول لك إذا سألته اعتقد التسليم وأمر الحديث كما جاء ولا تفتيش وهذا يتلو المفتي في السلامة وهو أحسنهم طريقة وأشبههم بسلف العامة خليقة ليس عنده شهادة يقين ولا معرفة بحقيقة ما رآه ولا هو مشاهد واصف لمعنى ما نقله إنما هو للعلم رواية وللأثر والخبر ناقلة عن غير خبر يخبره ولا فقه في نقله فهو على بينة من ربه وليس يتلوه شاهد منه، وقدكان الزهري يقول: حدثني فلان، وكان من أوعية العلم ولا يقول وكان عالماً وكان مالك بن أنس رحمه الله يقول: أدركت سبعين شيخاً من التابعين منهم عباد ومنهم مستجاب الدعاء ومنهم من يستسقى به ما حملت عنهم علماً قط قيل: ولم ذاك قال لم يكونوا من أهل هذا الشأن وفي رواية لم يكونوا يدرون ما يحدثون به ولم يكن لهم فقه فيما يسألون عنه قال مالك وتقدم علينا ابن شهاب الزهري وهو حديث السن فنزدحم عليه حتى نصل إليه لأنه كان عالماً بما يحدث به فهذا بمعنى ما روي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
وقال بعض السلف ما كانوا يعدون علم من لا يعرف اختلاف العلماء علماً وقال آخرين: من لم يعرف اختلاف العلماء لم يحل له أن يفتي ولم يسمَّ عالماً وقال قتادة وسعيد بن جبير أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس وقيل للإمام أحمد رضي الله عنه إذا كتب الرجل مائة ألف حديث له أن يفتي، قال: لا، قيل: فمائتي ألف حديث قال: لا قيل فثلاثمائة ألف حديث قال أرجو وفي التوراة مكتوب الطبيب الحاذق للعلة الباطنة يصلح.
وكتب سلمان الفارسي من المدائن إلى أبي الدرداء وكان قد آخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهما فيمن آخى: يا أخي بلغني أنك أقعدت طبيباً تداوي المرضى فانظر فإن كنت طبيباً فتكلم فإن كلامك شفاء وإن كنت متطبباً فالله الله لا تقتل مسلماً، قال: فكان أبو الدرداء يتوقف بعد ذلك إذا سئل عن شيء وسأله إنسان عن شيء فأجابه ثم قال ردوه فقال له: أعد عليّ فأعاد فقال: متطبب والله فرجع في جوابه ولعمري أنه قدجاء عن رسول اللهّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من تطبب ولم يعلم منه طب فقتل فهو ضامن، وقد كان ابن عباس رضي الله عنه يقول: سلوا جابر بن زيد فلو نزل أهل البصرة على فتياهل وسعهم وكان من صالحي التابعين، وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا سئل عن شيء يقول: سلوا سعيد بن المسيب، وكان أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: سلوا مولانا الحسن فإنه قد حفظ ونسينا، وقال بعض البصريين: قدم علينا رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتينا الحسن فقلنا ألا نذهب إلى هذا الصحابي فنسأله عن حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتجيء معنا؟ قال: نعم فاذهبوا، قال: فجعلنا نسأله عن حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعل يحدثنا حتى حدثنا عشرين حديثاً قال: والحسن ينصت يستمع إليه، ثم جثا الحسن(1/254)
على ركبتيه فقال: يا صاحب رسول الله أخبرنا بتفسير ما رويت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نفقه فيه، فسكت الصحابي وقال ما عندي إلاما سمعت، قال: فابتدأ الحسن رحمه الله يفسر ما رواه، فقال: أما الحديث الأوّل الذي حدثتنا به فإن تفسيره كيت وكيت والحديث الثاني تفسيره كذا وكذا حتى سرد عليه الأحاديث كلها التي حدثنا بها وأخبرنا بتفسيرها، قال: فلا ندري نعجب من حسن حفظه إياه وأدائه الحديث أو من علمه وتفسيره، قال: فأخذ الصحابي كفاً من حصى وحصينا به ثم قال: تسألوني عن العلم وهذا الحبر بين أظهركم فهؤلاء أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يردون الأمور في الفتيا وعلم اللسان إلى من هو دونهم في القدر والمنزلة وهو في علم التوحيد والمعرفة والإيمان فوقهم درجات ولا يرجعون إليهم في الشبهات ولا يردون إليهم في علم المعرفة واليقين فهذا كما قيل: إنما العلم نور يقذفه الله تبارك وتعالى في قلوب أوليائه فقد يكون ذلك تفضيلاً للنظراء بعضهم على بعض، وقديكون تخصيصاً للشباب على الشيوخ ولمن جاء بعد السلف من التابعين وربما كان تكرمة للخاملين المتواضعين لينبه عليهم ويعرفون شأنهم ليعظمواويرفعوا كما قال الله تعالى: (وَنُريدُ أنْ نَمُنَّ على الَذينَ اسْتُضْعِفُوا في الأرضِ وَنَجْعَلهُمْ أَئِمَّةً) القصص: 5 والنور إذا جعل في الصدر انشرح القلب بالعلم ونظر باليقين فنطق اللسان بحقيقة البيان وهو الحكمة التي يودعها الله تعالى في قلوب أوليائه كما جاء في تفسير قوله عز وجلّ: (وَآتيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وفَصْلَ الْخِطابِ) ص: 20 قيل: الإصابة في القول فكأنه يوفقه للحقيقة وقوله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ ومنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فقدْ أُوتيَ خيْراً كَثيراً) البقرة: 269 قيل: الفهم والفطنة.
وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصف الهداية حين تلا قوله عزّ وجلّ (فَمَنْ يُرِدِ الله أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ) الأنعام: 125 فقيل: يا رسول الله ما هذا الشرح؟ فقال: إن النور إذا قذف في القلب انشرح له الصدر وانفسح، قيل: فهل لذلك من علامة؟ قال: نعم التجافي عن دارالغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله فذكر سببه الزهدفي الدنياوالإقبال على خدمة المولى وحسن التوفيق والإصابة في العلم مواهب من اللهّ عزّ وجلّ وأثرة يختص بها من يشاء كما سئل أبو موسى الأشعري وهو أمير الكوفة عن رجل قتل في سبيل الله مقبلاً غير مدبر أين هو؟ فقال أبو موسى: في الجنة، فقال ابن مسعود للسائل: أعد على الأمير فتياك فلعله لم يفهم، قال السائل: قلت أيها الأمير ما قولك في رجل قاتل في سبيل الله فقتل مقبلاً غير مدبر أين هو؟ فقال أبو موسى: في الجنة، فقال ابن مسعود رضي الله عنه أعد على الأمير فلعله لم يفهم فأعاد عليه ثلاثاً كل ذلك يقول أبو موسى في الجنة، ثم قال ما عندي غير هذا فما تقول أنت؟ فقال ابن مسعود لكني لا أقول هكذا، قال: فما قولك؟ فقال: أقول إن قتل في سبيل الله فأصاب الحق(1/255)
فهو في الجنة فقال أبو موسى صدق لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم والقول في تسليم أخبار الصفات والسكوت عن تفسيرها كما قال أصحاب الحديث إلا أن بمعرفة معاني الأسماء والصفات وشهودها ينفي الظن والوسواس فيها وترك التشبيه والتمثيل بها والطمأنينة إلى اليقين بالمعرفة بمشاهدتها هو مقام الموقنين واعتقاد أنها صفات لله تعالى يتجلى بها وبما شاء من غيرها بلا حد ولا عدد يظهر بصفة صفة كيف شاء غير موقوف على صفة ولا محكوم عليه بصورة بلا إظهار غيرته بل هو كيف ظهر وبأي وصف تجلّى مع نفي الكيفية والمثلية لفقد الجنس والجوهرية هو مقام المقربين من الشهداء، وهؤلاء هم الصديقون وخصوص الموقنين فمن عدل به عن وجهة هؤلاء ولم يواجه بشهادتهم عدل إلى التسليم والتصديق فوقف عنده فكان معقله واستراحته وليس بعد هؤلاء مقام يمدح ولا وصف يذكرفمن فتش ذلك بعقله وفسره برأيه دخل عليه التشبيه أو خرج إلى النفي والإبطال.
ومن الدليل على فضل هذا العلم على سائر العلوم ما جاء في الأخبار المأثورة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن الصحابة والتابعين في فضل مجالس الذكر وفضل الذاكرين: إنما يريدون به علم الإيمان والمعرفة وعلوم المعاملات والتفقه في بصائر القلوب والنظر بعين اليقين إلى سرائر الغيوب وليس يريدون به مجالس القصص ولا يعنون بذلك القصاص لأنهم كانوا يرون القصص بدعة ويقولون لم يقص في زمن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أبي بكر ولا عمر حتى ظهرت الفتنة فلما وقعت الفتنة ظهر القصاص ولما دخل علي رضي اللهّ عنه البصرة جعل يخرج القصاص من المسجد ويقول: لا يقصّ في مسجدنا حتى انتهى إلى الحسن وهو يتكلم في هذا العلم فاستمع إليه ثم انصرف ولم يخرجه وجاء ابن عمر إلى مجلسه من المسجد فوجد قاصّاً يقصّ فوجّه إليه صاحب الشرطة أن أخرجه من المسجد فأخرجه، فلو كان القصص من مجالس الذكر والقصّاص علماء لما أخرجهم ابن عمر من المسجد، هذا مع ورعه وزهده، وقد روينا عن ابن شوذب عن أبي التياح قال: قلت للحسن إمامنا يقصّ فيجتمع الرجال والنساء فيرفعون أصواتهم بالدعاء ويمدون أيديهم فقال الحسن: رفع الصوت بالدعاء بدعة ومدّ الأيدي بالدعاء بدعة، وروى أبو الأشهب عن الحسن: القصص بدعة، وقيل لابن سيرين: لو قصصت على إخوانك فقال: قد قيل لا يتكلم على الناس إلا أحد ثلاثة: أمير أو مأمور أو أحمق فلست بأمير ولا مأمور وأكره أن أكون الثالث.
وروينا عن عون بن موسى عن معاوية بن قرة قال: سألت الحسن البصري قلت: أعود مريضاً أحبّ إليك أوأجلس إلى قاصّ، فقال: عد مريضك فقلت أشيع جنازة أحبّ إليك أو أجلس إلى قاصّ قال: شيع جنازتك قلت: وإن استعان بي رجل في حاجة أعينه(1/256)
أو أجلس إلى قاصّ قال: اذهب في حاجتك حتى جعله خيراً من مجالس الفراغ، فلوكانت مجالس الذكر عندهم هي مجالس القصّاص ولو كان القصص هو الذكر لما وسع الحسن أن يثبط عنه ولا يؤثر عليه كثيراً من الأعمال لأنه قد كان يدعو إلى الله تعالى بالتوحيد ويتكلم في علم المعرفة واليقين والذاكرين لله تعالى وحضور مجلس الذكر من مزيد الإيمان وقد رفع الله تعالى مقام الذاكرين فوق مقام المؤمنين في قوله تعالى: (إنَّ المُسْلِمينَ والْمسْلِمَاتِ والْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ) الأحزاب: 35 فجعل الذاكرين والذاكرات أعلى المقامات.
وقد روينا في خبر أبي ذر حضور مجلس ذكر أفضل من صلاة ألف ركعة وحضور مجلس علم أفضل من عيادة ألف مريض وحضور مجلس علم أفضل من شهود ألف جنازة، قيل يا رسول الله ومن قراءة القرآن فقال: وهل تنفع قراءة القرآن إلا بعلم؟ وقال بعض السلف: حضور مجلس ذكر يكفر عشرة من مجالس الباطل وأما عطاء فإنه قال مجلس ذكريكفر سبعين مجلساً من مجالس اللهو وحدثونا عن معاذ الأعلم قال: رآني يونس بن عبيدوأنا في حلقة المعتزلة فقال تعال فجئت فقال: إن كنت لا بد فاعلاً فعليك بحلقة القصاص، وقد كان الحسن البصري أحد المذكرين وكانت مجالسه مجالس الذكر يخلو فيها مع إخوانه وأتباعه من النساك والعباد في بيته مثل مالك بن دينار وثابت البناني وأيوب السجستاني ومحمد بن واسه وفرقد السنجي وعبد الواحد بن زيد فيقول: هاتوا انشروا والنور فيتكلم عليهم في هذا العلم من علم اليقين والقدرة في خواطرالقلوب وفساد الأعمال ووسواس النفوس وربما قنع بعد أصحاب الحديث رأسه فاختفى من ورائهم ليسمع ذلك فإذا رآه الحسن قال له: يا لكع وأنت ما تصنع ههنا؟ إنما خلونا مع إخواننا نتذاكر والحسن رحمه الله هو إمامنا في هذا العلم الذي نتكلم به أثره نقفو وسبيله نتبع ومن مشكاته نستضيء أخذنا ذلك بإذن الله تعالى إماماً عن إمام إلى أن ينتهي ذلك إليه، وكان من خيار التابعين بإحسان قيل: ما زال يعي الحكمة أربعين سنة حتى نطق بها وقدلقي سبعين بدرياً ورأى ثلاثمائة صحابي وولد لليلتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة عشرين من التاريخ ولد بالمدينة وكانت أمه مولاة لأم سلمة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقال إنها ألقمته ثديها تعلله حين بكى فدّر ثديها عليه وكان كلامه يشبه بكلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورأى عثمان بن عفان ولعي بن أبي طالب ومن بقي في وقته من العشرة ثم رأى من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عهد عثمان ومن سنة نيف وعشرين من الهجرة إلى سنة نيف وتسعين.(1/257)
ومن آخر من مات من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبصرة أنس بن مالك وبالمدينة سهل بن سعد الساعدي ومكة أبو الطفيل وباليمن أبيض بن جمال المازني وبالكوفة عبد الله بن أبي أوفى وبالشام أبو قرصافة وبخراسان بريدة الأسلمي ودخلت سنة مائة من التاريخ ولم يبق على وجه الأرض عين تطرف رأت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جميع أطراف الأرض ثم توفي الحسن في سنة عشر ومائة وكان أبو قتادة العدوي يقول: عليكم بهذا الشيخ فو الله ما رأينا أحداً لم يصحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشبه بأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه وكانوا يقولون كنا نشبهه بهدى إبراهيم الخليل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حلمه وخشوعه ووقاره وسكينته فكان على شمائله ونذرت امرأة بالبصرة نذراً إن فعل الله تعالى ذلك بها أن تنسج ثوباً من غزلها وصفته وتكسوه خير أهل البصرة فرأت تمام نذرها فوفت بما نذرت ثم سألت: من خير أهل البصرة؟ فقالوا: الحسن، وكان الحسن رضي الله عنه أول من أنهج سبيل هذا العلم وفتق الألسنة به ونطق بمعانيه وأظهر أنواره وكشف به قناعه وكان يتكلم فيه بكلام لم يسمعوه من أحد من إخوانه فقيل له: يا أبا سعيد إنك تتكلم في هذا العلم بكلام لم نسمعه من أحد غيرك، فممّن أخذت هذا؟ فقال: من حذيفة بن اليمان قيل: وقالوا الحذيفة بن اليمان نراك تتكلم في هذا العلم بكلام لا نسمعه من أحد من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن أين أخذته فقال خصّني به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان الناس يسألونه عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه وعلمت أن الخير لا يسبقني وقال مرة فعلمت أن من لا يعرف الشر لا يعرف الخير.
وفي لفظ آخر كان الناس يقولون يا رسول الله مالمن عمل كذا وكذا يسألونه عن فضائل الأعمال وكنت أقول: يا رسول الله ما يفسد كذا وكذا؟ فلما رآني أسأل عن آفات الأعمال خصني بهذا العلم وكان حذيفة قد خص بعلم المنافقين وأفرد بمعرفة علم النفاق وبسرائر العلم ودقائق الفهم وخفايا اليقين من بين الصحابة فكان عمر وعثمان وأكابر أصحاب رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسألونه عن الفتن العامة والفتن الخاصة ويرجعون إليه في العلم الذي خصه به ويسألونه عن المنافقين وهل بقي منهم ممن ذكر الله تعالى وأخبر عنهم أحد فكان يخبر بأعدادهم ولا يذكر أسماءهم وكان عمر يستكشفه عن نفسه هل يعلم فيه شيئاً من النفاق فبرأه منه ثم يسأله عن علامات النفاق وآية المنافق فيخبر من ذلك بما يصلح مما أذن له فيه ويستعفي مما لا يجوز له أن يخبر به فيعذر في ذلك وكان عمر رضي الله عنه إذا دعي إلى جنازة ليصلي عليها نظر فإن حضر حذيفة صلّى عليها وإن لم ير حذيفة لم يصل عليها وكان حذيفة يسمى صاحب السر وكان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سئلوا عن علم يقول أحدهم تسألوني عن هذا وصاحب السر فيكم يعني حذيفة.
وروينا عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه لما حدث عن النبي في فضل مجلس الذكر لأن أقعد مع قوم يذكرون اللّّه تعالى من غدوة إلى طلوع الشمس أحبّ إليّ من أن(1/258)
أعتق أربع رقاب، قال: فالتفت إلى يزيد الرقاشي وزياد النميري فقال لم تكن مجالس الذكر مثل مجالسكم هذه يقص أحدكم ويخطب على أصحابه ويسرد الحديث سرداً إنما كما نقعد فنذكر الإيمان ونتدبر القرآن ونتفقه في الدين ونعد نعم الله تعالى علينا وقد كان عبد الله بن رواحة يقول لأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تعالوا حتى نؤمن ساعة فيجلسون إليه فيذكرهم العلم بالله تعالى والتوحيد والآخرة وكان يخلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد قيامه فيجتمع إليه الناس يذكرهم الله تعالى وأيامه ويفقههم فيما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فربما خرج عليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم مجتمعون عنده فيسكتون فيجلس إليهم ويأمرهم أن يأخذوا فيما كانوا فيه ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا أمرت وإلى هذا دعوت، وروي نحو هذا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه وقد كان يتكلم بهذا العلم، وقد روينا هذا مفسراً في حديث جندب: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن فسمي علم الإيمان إيماناً كما سماه ابن رواحة لأن علم الإيمان وصف الإيمان والعرب تسمي الشيء بوصفه وتسميه بأصله كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مثله: تعلموا اليقين، وكما قال تعالى: (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ) يوسف: 84 أي من البكاء فسماه بأصله لأن الحزن أصل البكاء.
وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه خرج ذات يوم فرأى مجلسين، أحدهما يدعون الله تعالى ويرغبون إليه والآخر يتفقهون في الدين ويعلّمون الناس فوقف بينهما ثم قال: أما هؤلاء فيسألون اللّّه تعالى فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم وأما هؤلاء فيعلّمون الناس ويفقهون في الدين وإنما بعثت معلماً ثم عدل إلى الذين يفقهون الناس في الدين ويذكرون الله تعالى فجلس معهم، ويحكي عن بعض السلف قال: دخلت المسجد ذات يوم فإذا بحلقتين، أحدهما يقصون ويدعون والأخرى يتكلمون في العلم وفقه الأعمال قال: فملت إلى حلقة الدعاء فجلست إليهم فحملتني عيناي فنمت فهتف بي هاتف أو قال لي شخص: جلست إلى هؤلاء وتركت مجلس العلم أما لو جلست إليهم لوجدت جبريل لله عندهم، فحقيقة الذكر هو العلم بالله تعالى، ألا تسمع إلى ما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أفضل الذكر قول لا إله إلا الله، وقال سبحانه وتعالى: في تصديق: (فاعْلَمْ أنَّهُ لا إلّهَ إلاَّ اللهُ) محمد: 19 وقال في مثله: (فَاعْلَمُوا أنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وأنْ لا إلهِ إلاَّ هُوَ) هود: 14، ثم إن العلم من الذكر علم المشاهدة والمشاهدة، صفة عين اليقين فإذا كشف غطا العين شهدت معاني الصفات بأنوارها وهو مزيد نور اليقين الذي هو كمال الإيمان وحقيقته، فهنالك ذكرت الموصوف بمشاهدة المذكور بنور وصفه: ألم تر إلى قولّه تعالى: (كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ في غِطاءٍ عَنْ ذِكْري) الكهف: 101، فمن كانت عينه في كشف من ذكره شهد المذكور فعندها ذكر ثم توجد حقيقة العلم بعد نسيان الخلق كقوله تعالى: (واذْكُرْ رَبَّكَ إذا(1/259)
نَسيتَ) الكهف: 24، فحق الذكر نسيان ما سواه كما أن حقيقة الإيمان الكفر بكل إله كقوله تعالى (فَمَنْ يَكْفُرْ بالطَّاغُوتِ وَيؤْمِنْ بالله) البقرة: 256، وقال بعض أهل الحديث: جاءني رجل من إخواني من أهل المعرفة، فقال: قد وجدت من قلبي غفلة فأريد أن تحملني إلى مجلس من مجالس الذكر فقلت نعم فسمّى له مذكراً يتكلم في علوم العامة قال: فحضرنا عنده واجتمع الخلق فأخذ في شيء من القصص وذكر الجنة والنار فنظر إليّ صاحبي فقال أليس زعمت أن هذا يذكر الله ويذكر ربه عزّوجلّ ويذكر أيامه فقلت: نعم هكذا هو عندنا فقال: ما أسمع إلا ذكر الخلق فأين ذكرالله تعالى؟ ثم توقف ساعة ينتظر منه ما يريد من علم المعرفة ومما سمعه من شيوخه الصوفية قال: فليس إلا القصص والحكايات فالتفت إليّ وقال: قم بنا فإنه لا يسعني الجلوس لأنه لا نية لي في ذلك فقلت أما أنا فأستحي أن أتخطى الناس فاصنع أنت ما ترى فقام يتخطى الناس حتى خرج.
وقد روى الزهري عن سالم عن ابن عمر أنه خرج من المسجد وقال: ما أخرجني إلا القصاص ولولاه ما خرجت وقال ضمرة: قلت للثوري رحمه الله نستقبل القاص بوجهنا فقال: ولّوا البدع ظهوركم وقال ابن عون: دخلت على ابن سيرين فقال: ما كان اليوم من خبر؟ فقلت: نهى الأمير القصاص أن يقصوا، وحدثنا عن أبي معمر عن خلف بن خليفة قال: رأيت سياراً أبا الحكم يستاك على باب المسجد وقاصّ يقص في المسجد فجاءه رجل فقال: يا أبا الحكم إن الناس ينظرونك فقال: إني في خير مما هم فيه أنا في سنة وهم في بدعة وقد فعل الأعمش أبلغ من ذلك دخل البصرة وكان فيها غريباً فنظر إلى قاصّ في الجامع وهو يقول: حدثناالأعمش عن أبي إسحاق وحدثنا الأعمش عن أبي وائل قال: فتوسط الأعمش الحلقة ورفع يده وجعل ينتف شعر إبطه فبصر به القاصّ فقال: يا شيخ ألا تستحي نحن في علم وأنت تفعل هذا؟ فقال له الأعمش: الذي أنا فيه أفضل من الذي أنت فيه، قال: كيف؟ قال: لأني في سنة وأنت في كذب، أنا الأعمش وما حدثتك مما تقول شيئاً فلما سمع الناس ذكر الأعمش انفضوا عن القاص واجتمعوا حوله وقالوا حدثنا يا أبا محمد، وأخبرونا عن محمد بن أبي هارون أن إسحاق حدثه قال: صليت مع الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه صلاة العيد فإذا قاصّ يقص يلعن المبتدعة ويذكر السنة فلما قضينا الصلاة وصرنا ببعض الطريق ذكر أبو عبد الله القاص فقال ما أنفعهم للعامة وإن كان عامة ما يحدثون به كذباً وأخبرت عن محمد بن جعفر أن أبا الحرث حدثه أنه سمع الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول أكذب الناس القصاص والسؤال وحدثونا عنه أيضاً أنه قال: ما أحوج الناس إلى قاصّ صدوق لأنهم يذكرون الميزان وعذاب القبر قلت له: أنت تحضر مجالسهم؟ قال: لا.
وروينا عن حبيب بن أبي ثابت عن زياد النميري قال: أتيت أنس بن مالك وهو(1/260)
بالزاوية فقال لي: قصّ فقلت كيف؟ والناس يزعمون أنه بدعة فقال: ليس شيء من ذكر الله تعالى بدعة، قال: فقصصت وجعلت أكثر قصصي ودعائي رجاء أن يؤمن، قال: فجعلت أقص وهو يؤمن وقد كانوا يجعلون الدعاء قصصاً وحدث يوسف بن عطية عن محمد بن عبد الرحمن الخراز قال: فقد الحسن عامر بن عبد الله العنبري فقال: اذهبوا بنا إلى أبي عبد الله فأتاه الحسن فإذا عامر في بيت قد لف رأسه وليس إلا رمل فقال له الحسن: يا أبا عبد الله لم نرك منذ أيام، فقال: إني كنت أجلس هذه المجالس فأسمع تخليطاً وتغليظاً وانّي كنت أسمع مشيختنا فيما يروون عن نبيينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول إن أصفى الناس إيماناً يوم القيامة أكثرهم فكرة في الدنيا وأكثر الناس ضحكاً في الجنة أكثرهم بكاءً في الدنيا وأشد الناس فرحاً في الآخرة أطولهم حزناً في الدنيا فوجدت البيت أخلى لقلبي وأقدر لي من نفسي على ما أريد منها، قال الحسن: أما إنه لم يعن مجالسنا هذه إنما عنى مجالس القصاص في الطرق الذين يخلطون ويغلطون ويقدمون ويؤخرون وقد قسم بعض العلماء المتكلمين ثلاثة أقسام فوصفهم بأماكنهم فقال المتكلمون ثلاثة أصحاب الكراسي وهم القصاص وأصحاب الأساطين وهم المفتنون وأصحاب الزوايا وهم أهل المعرفة فمجالس أهل العلم بالله تعالى وأهل التوحيد والمعرفة هي مجالس الذكر وهي التي جاءت فيها الآثار، وفي الخبر: إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا فيها قيل: وما رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر، وفي الحديث أن لله تعالى ملائكة سياحين في الهواء فضلاً عن كتاب الخلق إذا رأوا مجالس الذكر ينادي بعضهم بعضاً: ألا هلموا إلى بغيتكم فيأتوهم حتى يجلسوا إليهم فيحفون بهم ويستمعون منهم ألا فاذكروا الله واذكروا أيامه، وقال وهب بن منبه اليماني: مجلس يتنازع فيه العلم أحب إليّ من قدره صلاة لعل أحدهم يسمع الكلمة فينتفع بها السنة أو ما بقي من عمره، وسئل أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى عن مجالس الذكر وفضلها فرغب فيها وقال رحمه الله: وأي شيء أحسن من أن يجتمع الناس فيذكرون الله عزّ وجلّ ويعددون نعمه عليهم كما قالت الأنصار.
وروينا عن عليّ كرم الله وجهه: ما يسرني أن الله تعالى أماتني طفلاً وأدخلني الدرجات العلى من الجنة قيل: ولم؟ قال: لأنه أحياني حتى عرفته، وقال مالك بن دينار: خرج الناس من الدنيا ولم يذوقوا طيب شيء فيها قيل: وما هو؟ قال: المعرفة ثم أنشأ يقول:
إن عرفان ذي الجلال لعز ... وضياء وبهجة وسرور
وعلى العارفين أيضاً بهاء ... وعليهم من المحبة نور
فهنياً لمن عرفك إلهي ... هو والله دهره مسرور(1/261)
وقال يحيى بن معاذ الرازي: في الدنيا جنة من دخلها لم يشتق إلى شيء ولم يستوحش، قيل: وما هي؟ قال: معرفة الله تعالى، وقال آخر: لم يخطئك من العارف إحدى ثلاث خلال تدل عليه هيبة أو حلاوة أو أنس، وقال عالمنا أبو محمد سهل رحمه الله: خرج العلماء والزهاد والعباد وقلوبهم مقفلة ولم يفتح إلا قلوب الصديقين والشهداء ثم تلا وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو يعني مقفلة عن مفاتح المعرفة وشهادة عين التوحيد فمجالس الذكر هذه قديماً كانت لأهل المعرفةوأصحاب معاملات القلوب وعلم الباطن وهم علماء الآخرة وأهل الفقة في الدين، وقد قال اللّّه تعالى وهو أصدق القائلين: (فلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدّينِ) التوبة: 122 الآية، فذكر الفقة الذي هو من صفة القلب والخوف الذي هو سبب الفقه وعلم العقل داخل في علم الظاهر والعلم بالله داخل فياليقين كما روي في الخبر اليقين الإيمان كله، وقال الله تعالى: (وما يَعْقِلُهَا إلا الْعَالِمُون) العنكبوت: 43 فجعل العقل وصفاً من العلم وقد أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتعليم اليقين كما أمر بطلب العلم فكان هذا الحديث مخصوصاً من ذاك فيكون قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تعلّموا اليقين للخصوص لأن اليقين مقام فوق العلم ويكون قوله طلب العلم فريضة للعموم وفي قوله تعلموا اليقين أمر بمجالسة الموقنين لأن اليقين لا يظهر بذاته وإنما يوجد عندا لموقنين فقد أمرهم ولم يقل تعلموا علم المعقول ولا علم الفتاوى وكان علماء الظاهر قديماً يسمون المفتين ومن ذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استفت قلبك وإن أفتاك المفتون فرده إلى فقه القلب وصرفه عن فتيا المفتين فلولا أن القلب فقيه لم يجز أن يدله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على غير فقيه ولولا أن علم الباطن حاكم على الظاهر ما دفعه من علوم أهل الظاهر وهم علماء الألسنة إلى علم الباطن وهو علم أهل القلوب مارده إليه ولا يجوز أن يرده من فقيه إلى فقيه دونه كيف وقد جاء هذا الحديث بلفظه مؤكدة بالتكرير والمبالغة فقال استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك، وهذا مخصوص لمن كان له قلب وألقى سمعه وشهد قيام شاهده وعرى عن شهواته ومعهوده لأن الفقه ليس من وصف اللسان ألم تسمع قوله تعالى: (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) الأعراف: 179، فمن كان له قلب سميع بسميع شهيد بشهيد فقه به الخطاب فاستجاب لما سمع وأناب وذكر في قوله تعالى: (لِيتَفَقَّهُوا في الدّينِ) التوبة: 122 وصفين ظهرا عن الفقه أحدهما النذارة وهو مقام في الدعوة إلى الله عز وجل ولا يحكون النذير إلا مخوّفاً ولا يكون المخوف إلا خائفاً والخائف عالم والثاني الحذر وهو حال من المعرفة بالله عزّ وجلّ وهو الخشية له، والفقه والفهم اسمان لمعنى واحد والعرب تقول: فقهت بمعنى فهمت وقد فضل الله تعالى الفهم عنه على العلم والحكمة ورفع الإفهام على القضاء والأحكام فقال تعالى: (فَفَهَّمْنَاها سُلَيْمانَ) الأنبياء: 79، فأفرده بالفهم عنه وهو الذي فضله به على حكم(1/262)
أبيه في القضية بعد أن أشركهما في الحكم والعلم، وقد فضل الحسن بن علي رضي الله عنهما علماء الهداية إلى الله سبحانه وتعالى الدالين عليه عزّوجلّ وسماهم العلماء وحققهم بالعلم في كلام روي لنا عنه منظوماً وقد رويناه أيضاً عن عليّ كرم الله وجهه ورضي عنه:
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم ... على الهدى لمن استهدى أدلاّء
ووزن كل امرئ ما كان يحسنه ... والجاهلون لأهل العلم أعداء
فمن كان عالماً يعلم معلومه الله سبحانه وتعالى فمن أفضل منه وأي قيمة تعرف له إذ كل علم قيمته معلومة ووزن كل عالم علمه، وقد قال عبد الواحد بن زيد إمام الزاهدين كلاماً في هذا المعنى ويفرد به العلماء بالله تعالى ويرفع طريقهم فوق كل طريق أنشدونا عنه رحمه الله تعالى:
الطرق شتى وطرق الحق مفردة ... والسالكون طريق الحق أفراد
لايعرفون ولا تسلك مقاصدهم ... فهم على مهل يمشون قصاد
والناس في غفلة عما يراد بهم ... فجلهم عن سبيل الحق رقاد
وروينا عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال لما مات عمر رضي الله عنه: إني لأحب هذا الرجل قد ذهب بتسعة أعشار العلم فقيل له: تقول هذا وأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متوافرون فقال: إني لست أعني العلم الذي تذهبون إليه إنما أعني العلم بالله عز وجلّ، وكان ابن مسعود يقول: المتقون متوارون، وكذلك كان يقول: المتقون سادة والعلماء قادة ومجالستهم زيادة يعني أن المتقين سادة الناس كماقال الله عزّ وجل: (إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أتقاكُمْ) الحجرات: 13 والعلماء قادة المتقين أي أئمتهم يقتفون آثارهم لأنه قال تعالى: (واجْعَلْنا لِلْمُتَّقينَ إِمَاماً) الفرقان: 74، ففضل العلماء على المتقين وجعلهم أئمة لهم صار المتقون أصحابه وأخبر بالمزيد في مجالستهم أي مجالستهم زيادة على مجالسة المتقين غير العلماء لأن كل عالم تقيّ وليس كل تقيّ عالماً كما روى بمعناه العلماء كثير والحكماء من العلماء قليل والصالحون كثير والصادقون من الصالحين قليل، وسئل ابن المبارك من الناس؟ قال: العلماء، قيل فمن الملوك؟ قال: الزهاد، قيل: فمن السفلة؟ قال: من يأكل بدينه، وقال مرة في رواية الذين يتلبسون ويطلبون ويتعرضون للشهادات وقال فرقد السنجي للحسن رحمهما الله تعالى في شيء سأله عنه، فأجابه: يا أبا سعيد إن الفقهاء يخالفونك فقال: ثكلتك أمك فرقد وهل رأيت بعينيك فقهاء؟ إنما الفقيه الزاهدفي الدنيا الراغب في الآخرة البصيربدينه المداوم على عبادة ربه الورع الكافّ عن أعراض المسلمين العفيف عن أموالهم الناصح لجماعتهم جمعنا قوله هذا في ثلاث روايات عنه مختلفة فهذه صفات العالم بالله تعالى وهم العارفون.
وحدثنا عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: قلت لأبي: بلغنا أنك كنت تختلف إلى(1/263)
معروف أكان عنده حديث؟ فقال: يا بني كان عنده رأس الأمر تقوى الله عزّ وجلّ وقيل للإمام أحمد رضي الله عنه: بأي شيء ذكر هؤلاء الأئمة ووصفوا؟ فقال: ما هو إلا الصدق الذي كان فيهم قيل له: وما الصدق؟ قال: هو الإخلاص قيل له: فالإخلاص ما هو؟ قال: الزهد، قيل: وما الزهد؟ فأطرق ثم قال: سلوا الزهاد سلوا بشر بن الحرث وقد حدثت عن بشر في منصور بن عمار رحمهما الله حكايات ظريفة كان منصور بن عمار من الواعظين المذكرين ولم يكن العلماء في وقته مثل بشر وأحمد وأبي ثور يعدونه عالماً كان عندهم من القصاص وكانت العامة تسمية عالماً فحدثت عن نصر بن علي الجهضمي أنه مزح ذات يوم مزاحاً أفرط فيه فقيل له: تقول هذا وأنت من العلماء؟ فقال: ما رأيت أحداً من العلماء إلا وهو يمزح فقيل له: قد رأيت بشر بن الحرث فهل سمعته يمزح قال: نعم كنت جالساً معه ذات يوم في بعض الدروب فجاء منصور بن عمار يعدو، فقال: يا أبا نصر الأمير قد أمر بجمع العلماء والصالحين فترى لي أن أختفي؟ فدفعه بشر وقال: تنح عنا لا يمر حمل شوك فيلقيك علينا فنحترق فهذا كان محل القصاص عندالعلماء فيما سلف حتى ذهب أهل هذا العلم وجهلت مجالس الذكر وعلوم اليقين والمعاملات إلا من عرف سيرة المتقدمين وطريقة السالفين الذين كانوا يفرقون بين مجالس الذكر وبين القصاص ويميزون بين العلماء وبين المتكلمين وبين علم اللسان وفقه القلب وبين علم اليقين وعلم العقل لأن الفرق بين العالم والقاص أن العالم يسكت حتى يُسأل فإذا سئل أجاب فيما يعلم بما هيأ الله تعالى له وكشف وينطق فيما أجراه الله عزّوجلّ عليه وعرف فإن كان الصمت أفضل آثر السكوت لعلمه بالأفضل فإن لم ير أهله تربص حتى يضعه في أهله وأهله من عرفه وكان له نصيب من مشاهدته ووجده.
وقال الله سبحانه وتعالى: (فَسْئَلُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) النحل: 43، ففي ذلك معنيان، أحدهما أن أهل الذكر هم العلماء بالله تعالى لقوله: إن كنتم لا تعلمون فلا يجوز أن يقول سلوا من لا يعلم وهم جاهلون فيزدادوا جهلاً، والمعنى الثاني يدل على أن العلماء سكوت حتى يسألوا فإذا سئلوا وجب عليه أن يجيبوا لقوله تعالى لمن لا يعلم فاسئلوا فدل أن مجالس الذكر هي مجالس العلماء التي وردت الأخبار بفضائلها وفي تدبره أن أهل الذكر هؤلاء المسؤولون هم الذين وصل لهم القول لعلهم يتذكرون فلما وصل لهم المفصل تذكروا عما وعد تعالى فلما تذكروا علموا فعندها أمر أن يسألوا، ولذلك روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا ينبغي للجاهل أن يستقر على جهله ولا ينبغي للعالم أن يسكت على علمه.
وقد قال الله تعالى: (فَسْئلُوا أهْل الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لاتَعْلَمُونَ) النحل: 43 وهكذا قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخبر الذي رويناه من طريق أهل البيت: العلم خزائن مفتاحها السؤال(1/264)
فاسألوا فإنه يؤجر فيه أربعة: السائل، والعالم، والمستمع، والمحب لهم، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: إن من يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون، وقال الأغمش: من الكلام كلام جوابه السكوت، وقال ذو النون المصري رحمه الله تعالى: حسن سؤال الصادقين مفتاح قلوب العارفين، فأما القاص فهو الذي يبتدئ فيقصّ الأخبار ويذكر القصص والآثار ولذلك سمي قاصهًا أي يتبع قصة من سلف، ومنه قوله تعالى: (وقالت لأُخْتِهِ قُصِّيهِ) القصص: 11، أي تتبعي أثر موسى تعرفي قصته وأخبريني خبره، وقال مالك بن أنس رحمه الله تعالى: من اذالة العلم أن ينطق به قبل أن يسأل عنه، وقال مرة من إذالة العلم أن يجيب عن كل ما يسأل عنه أي من إهانته ووضعه، يقال أشل هذا وأذل هذا أي ارفع وضع، يقال: إذا تكلم بالعلم قبل أن يسأل عنه ذهب ثلثا نوره، وقد قال إبراهيم بن أدهم وغيره: سكوت العالم أشد على الشيطان من كلامه لأنه يسكت بحلم وينطق بعلم فيقول الشيطان: انظروا إلى هذا سكوته أشد عليّ من كلامه، ولذلك يقال: الصمت زين العالم وستر الجاهل وعن القاسم بن محمد أنه قال: من أكرم المرء نفسه أن يسكت على ما عنده حتى يسأل عنه، وكذلك هو لعمري لأنه إذا تكلم بعد السؤال فهو صاحبها وربما كان فرضاً وليس الحاجة إلاالقيام بالفرض من الشهوات، ولقوله تعالى: (فَسْئلوا أهْلَ الذِّكْر) النحل: 43 فأوجب أن يجيبوا من حيث أمر أن يسألوا وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار فتوعد عليه بالعقاب، وقد يكون الابتداء بالشيء من خفايا الشهوات والشهوات من الدنيا ووصف رجل لمالك بن أنس فقال: لابأس به لولا أنه يتكلم بالشيء قبل أن يسأل عنه، وقال مرة: لابأس به إلا أنه يتكلم بكلام شهر في يوم، وقد قيل في معنى ما ذكر: إن الكلام من الشهوات، قال: هو الذي يبتدئ به قبل أن يسأل عنه ووصف بعضهم الأبدال فقال في وصفهم: أكلهم فاقة وكلامهم ضرورة وكانوا لا يتكلمون حتى يسألواعن شيء فيجيبوا، ومن لم يتكلم حتى يسأل فليس يعد لاغياًولا متكلماً فيما لايعنيه لأن الجواب بعد السؤال كالفرض بمنزلة رد السلام وكما قال ابن عباس رضي الله عنهما إني لأرى رد الجواب واجباً كرد السلام، وقد قال أبو موسى وابن مسعود رضي الله عنهما: من سئل عن علم فليقل به ومن لا فليسكت وإلا كتب من المتكلفين ومرق من الدين، ورويناه عن ابن عباس أيضاً وقد كانوا يخافون من دخول التكلف عليهم في كل شيء ويعد بعضهم بالابتداء بالكلام من غير حاجة تدعو إليه أو قبل سؤال عنه من غير أن يرى له موضعاً أو يجد له أهلاً يعدونه من التكلف، وفي وصية ابن عباس لمجاهد: لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه أفضل ولاآمن(1/265)
عليك الخطأ ولا تكلم فيما يعنيك حتى ترى له موضعاً فرب متكلّم فيما يعنيه قد وضعه في غير موضعه فعنت.
وروي في حديث الأنصاري الذي قالت له أمه عند موته: هنيئاً لك الجنة جاهدت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقتلت في سبيل الله تعالى فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وما يدريك أنه في الجنة ولعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويبخل بما لا يغنيه، ومن أظهر علماً من غير أن يسأل عنه ونشره في غير أهله فأنكر عليه سئل عنه وكان عليه فيه مطالبة لأنه قد تكلف إظهاره فإن كان سئل عنه ثم تكلم فيه لم يكن عليه فيه مطالبة فيمن أنكر لأنه خرج جواباً على سؤال، ومن هذا كان السلف المتكلمون في هذا العلم يسكتون حتى يسألوا عنه، وكان أبو محمد يقول: العالم يقعد فيسكت ويرفع قلبه إلى مولاه فيفتقر إليه في حسن توفيقه ويسأله أن يلهمه الصواب فأي شيء سئل عنه تكلم بما فتح له مولاه فجعل العالم في حالة سكوته ونظره إلى سيده محتاجاً إلى التوكل ومنتظراً للوكيل في أي شيء يجريه، وقال بعضهم: إنما العالم الذي إذا سئل عن المسألة كأنما تقلع ضرسه وقال رقبة بن مصقلة وغيره ليس العالم الذي يجمع الناس فيقصّ عليهم إنما العالم الذي إذا سئل عن العلم كأنما يسعط الخردل، وقد روينا أنه قاله الأعمش وقد كان محمد بن سوقة يسأله عن الحديث فيعرض عنه ولا يجيبه فالتفت الأعمش إلى رقبة فقال له هو إذاً أحمق مثلك إن كان يدع فائدته لسوء خلقي فقال محمد بن سوقة: ويحك إنما أجعله بمنزلة الدواء أصبر على مرارته لما أرجو من منفعته، وقد روينا عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما أنه مر برجل يتكلم على الناس فقال هذا يقول اعرفوني، وحدثني بعض علماء خراسان عن شيخ له عن أبي حفص النيسابوري الكبير، وكان هذا هناك نظير الجنيد ههنا أنه قال إنما العالم الذي يسأل عن مسألة في الدين فيغتم حتى لو جرح لم يخرج منه دم من الفزع يخاف أن يسأل في الآخرة عما سئل عنه في الدنيا ويفزع أن لا يتخلص من السؤال إلا أن يرى أنه قد افترض عليه الجواب لفقد العلماء، ومن ههنا كان ابن عمر رضي الله عنهما يسكت عن تسع مسائل ويجيب عن واحدة ويقول: تريدون أن تجعلونا جسراً تعبرون عليه في جهنهم، تقولون أفتانا ابن عمر بهذا، وكان إبراهيم التميمي إذا سئل عن مسألة يبكي ويقول: لم تجد من تسأله غيري أو احتجتم إليّ؟ قال: وجهدنا بإبراهيم النخعي أن نسنده إلى سارية فأبى وكان إذا سئل عن شيء بكى وقال: قد احتاج الناس إليّ وقد كان سفيان بن عيينة تفرد في زمانه بعلوم انفرد بها في وقته وكان مع ذلك يضرب المثل لنفسه ويقول:
خلت الديار فسدت غير مسوّد ... ومن الشقاء تفردي بالسؤدد
وأما أبو العالية الرياحي فكان يتكلم على الاثنين والثلاثة فإذا صاروا أربعة قام، وكذلك كان إبراهيم والثوري وابن أدهم رحمهم الله تعالى يتكلمون على النفر فإذا كثر(1/266)
الناس انصرفوا وكان أبو محمد سهل رحمه الله يجلس إليه خمسة أو ستة إلى العشرة وقال لي بعض الشيوخ: كان الجنيد رحمه الله يتكلم على بضع عشرة، قال وما تم أهل الجلسة عشرون، وقد حدثت عن أبي الحسن بن سالم شيخنا رحمه الله: أن قوماً اجتمعوا في مسجده فأرسلوا إليه بعضهم، إن إخوانك قد حضروا ويحبون لقاءك والسماع منك فإن رأيت أن تخرج إليه فذاك وكان المسجد على باب بيته، ولم يكن يدخل عليه في منزله فقال للرسول بعد أن خرج إليهم: من هم؟ فقال: فلان وفلان وسماهم فقال: ليس هؤلاء من أصحابي هؤلاء أصحاب المجلس ولم يخرج كأنه رآهم عموماً لا يصلحون لتخصيص علمه فلم يذهب وقته لوقتهم وكذلك العالم خلوته تعز عليه فإن وافق خصوص أصحاب آثرهم على خلوته فكان ذلك مزيداً لهم وإن هو لم يوافق لم يؤثر على خلوته غيره فيكون مناخاً للبطالين، وقد كان ابن سالم أبو الحسن يخرج إلى إخوانه ممن يراه موضعاً لعلمه فيجلس إليهم ويذاكرهم وربما أدخلهم إليه نهاراً أو ليلاً ولعمري أن المذاكرة تكون بين النظراء والمحادثة تكون مع الإخوان والجلوس للعلم يكون للأصحاب، والجواب عن السوال نصيب العموم، وكان عند أهل العلم أن علمهم مخصوص لا يصلح إلا للخصوص والخصوص قليل، ولم يكونوا ينطقون به إلا عند أهله ويرون أن ذلك من حقه وأنه واجب عليهم كما وصفهم علي كرم الله وجهه في قوله حتى يودعوه أمثالهم ويزرعوه في قلوب أشكالهم وكذلك جاءت الآثار بذلك عن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن عيسى عليه السلام: لا تضيعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، كونوا كالطبيب الرفيق الذي يضع الدواء في موضع الداء، وفي لفظ آخر: من وضع الحكمة في غيرأهلها جهل ومن منعها أهلها ظلم، إن للحكمة حقاًً وإن له أهلاً وإن لأهلها حقا فأعط كل ذي حق حقه وفي حديث عيسى صلاة الله وسلامه عليه لا تعلقوا الجوهر في أعناق الخنازير فإن الحكمة خير من الجوهر ومن كرهها فهو شر من الخنزير، وكان بعض هذه الطائفة يقول: نصف هذا العلم سكوت ونصفه تدري أين تضعه.
وقد قال بعض العارفين: من كلّم الناس بمبلغ علمه وبمقدار عقله ولم يخاطبهم بقدر حدودهم فقد بخسهم حقهم ولم يقم بحق الله عزّ وجلّ فيهم وكان يحيى بن معاذ يقول: اغرف لكل واحد من نهره واسقه بكأسه ونحن نقول بمعناه كل لكل عبد بمعيار عقله وزن له بميزان علمه حتى تسلم منه وينتفع بك وإلاوقع الإنكار لتفاوت المعيار، وحدثني بعض أشياخنا من هذه الطائفة عن أبي عمران وهو المزين الكبير المكي قال سمعته يقول لأبي بكر الكتابي وكان سمحاً بهذا العلم بذولاً له لجميع الفقراء فجعل أبو عمران يعاتبه وينهاه عن بذله له وكثرة كلامه فيه إلى أن قال: أنا منذ عشرين سنة أسأل(1/267)
الله تعالى أن ينسيني هذا العلم قال: ولم؟ قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام فسمعته يقول إن لكل شيء عن الله تعالى حرمة ومن أعظم الأشياء حرمة الحكمة، فمن وضعها في غير أهلها طالبه الله تعالى بحقها ومن طالبه خصمه وقد كان بعض السلف يقول: إذا استند الرجل إلى سارية أو أحب أن يسأل فلا تجلس إليه ولا ينبغي أن يسأل ولم ير في مجالس أهل هذا العلم فيما سلف ثلاثون رجلاً ولاعشرون إلا نادراً غير لزام ولا دوام إنما كانوا من الأربعة إلى العشرة وبضعة عشر، وقد كان يجتمع في مجالس القصاص والمذكرين والواعظين مئون من عهد الحسن إلى وقتنا هذا فهذا أيضاً من الفرق بينهما أن العلم مخصوص لقليل وأن القصص عام لكثير.
وقال بعض علمائنا: كان في البصرة مائة وعشرون متكلماً في الذكر والوعظ ولم يكن من يتكلم في علم المعرفة واليقين والمقامات والأحوال إلاستة منهم: أبو محمد سهل والصبيحي وعبد الرحيم، وقد قيل من لم ينتفع بسكوت العالم لم ينتفع بكلامه أي ينتغي أن يتأدب بصمته وخشوعه وورعه ويقتدي بيقينه في ذلك كما يتأدب بنطقه ويقتدى بكلامه على أنهم كانوا يقولون علم الظاهر من علم الملك وعلم الباطن من علم الملكوت يعنون أن ذلك من علم الدنيا لأنه يحتاج إليه في أمور الدنيا وهذا من علم الآخرة لأنه من زادها وهذا كما قالوه لأن اللسان ظاهر فهو من الملك وهو خزانة العلم الظاهر والقلب خزانة الملكوت وهو باب العلم الباطن فقد صار فضل العلم الباطن على الظاهر كفضل الملكوت على الملك وهو الملك الباطن الخفي وكفضل القلب على اللسان وهو الظاهر الجلي.
وقد كان بشر بن الحرث رحمه الله يقول: حدثنا وأخبرنا باب من أبواب الدنيا، وقال مرة: الحديث ليس من زاد الآخرة، وحدثنا بعض أشياخنا عن بعض أصحابه قال: دفنا له بضعة عشر ما بين قمطر وقوصرة كتباً لم يحدث منها بشيء إلا ما سمع منه نادراً في الفرد وكان رحمه الله تعالى يقول: إني أشتهي أن أحدث ولو ذهب عني شهوة الحديث لحدثت ثم قال: أنا أجاهد نفسي منذ أربعين سنة، وقال إذا سمعت الرجل يقول حدثنا وأخبرنا فإنما يقول أوسعوا إليّ وكان زاهداً عالماً وقال هو وغيره: إذا اشتهيت أن تحدث فلا تحدث وإذا لم تشته أن تحدث فحدث، وقد كانت رابعة العدوية رحمها الله تعالى قبله تقول للثوري رضي الله عنه: نعم الرجل سفيان لولا أنه يحب الحديث، وكانت تقول: فتنة الحديث أشد من فتنةالمال والولد وقالت مرة: لولا أنه يحب الدنيا يعني اجتماع الناس حوله للحديث،(1/268)
وكان أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى يقول: من تزوّج أو كتب الحديث أو طلب معاشاً فقد ركن إلى الدنيا، وقال بعض هذه الطائفة: كل من أدرك العلوم غير العلم بالله عزّ وجلّ فقد استدرك والذي أدرك العلم بالله فقدتدورك ثم تلاقوله تعالى: (لَوْلا أنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌمِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالعراءِ) القلم: 49، أي تدورك بعلم المعرفة لطرح في بعد الهوى والعرا البعد وعلم المعقول بعد إلى جنب علم اليقين، وقال أيضاً في فهم قوله تعالى: (وَلَوْلا أنْ ثَبَّتْناكَ لقَدْكِدْتَ تَرْكنُ إليْهِمْ) الإسراء: 74 أي ثبتناك بالمعرفة لقد كدت تسكن إلى علوم العقل.
وقال سهل بن عبد الله رحمه الله تعالى في قوله عزّ وجلّ: (واجْعِلْ لي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصيراً) الإسراء: 80 قال لساناً ينطق عنك لاعن سواك وفضل العلم بالله عزّ وجلّ والعلم بالإيمان وعلم اليقين على العلم بالأحكام والقضايا كفضل المشاهدة على الخبر، وقد قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس الخبر كالمعاينة، وفي لفظ آخر: ليس الخبر كالمعاين، وقد روى عياض بن غنم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: في تفسير قوله عزّ وجلّ: (أَلْهاكُمُ التَّكاثُر) (عِلْمَ الْيَقينِ) التكاثر: 1 - 5، كرأي العين، وفي هذا الخبر أن من خيار أمتي قوماً يضحكون جهراً من سعة رحمة ربهم ويبكون سراً من خوف عذابه أقدامهم في الأرض وقلوبهم في السماء أرواحهم في الدنيا وعقولهم في الآخرة يمشون بالسكينة ويتقربون بالوسيلة، فالفتيا هي الأخبار والاستفتاء هو الاستخبار، ومنه قوله تعالى: (فاسْتفتِهِمْ) الصافات: 11 وقوله تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ) النساء: 127 أي يستخبرونك، فعلم الخبر قد يدخله الظن والشك والمشاهدة ترفع الظن وتزيل الشك كما قال تعالى: (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رأى) النجم: 11 فأثبت الرؤية للقلب بالعين فرؤية القلب هو اليقين وذو القلب هو الموقن، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كفى باليقين غنى ففي علم اليقين غنية عن جميع العلوم لأنه حقيقة العلم وخالصه وليس في جميع العلوم غنى عن علم اليقين ولأن الفقر بالشك والحاجة إلى اليقين في علم التوحيد وعلم الإيمان أشد من الفقر بالحاجة إلى علوم الفتيا وغيرها فلذلك صار الغني باليقين أعظم من الاستغناء بسائر العلوم ففي هذا العلم مثل من فاتحة الكتاب إلى سائر القرآن.
كما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاتحة الكتاب تجزي من كل القرآن وليس القرآن كله يجزي من فاتحة الكتاب، فكذلك مثل العلم بالله عزّ وجلّ إلى العلم بما سواه، ففي العلم بالله تعالى عوض من كل العلوم، وليس في سائر العلوم عوض من العلم بالله عزّ وجلّ من حيث كان في الله تعالى عوض به عن كل ما سواه، وكل علم موقوف على معلومه فعلم اليقين معلومه الله تعالى ففضله كفضل الله تعالى على ما سواه، وقد قال بعض الحكماء في معنى ما ذكرناه: من عرف الله تعالى فماذا جهل ومن جهل الله تعالى فماذا عرف؟ فالعلماء بالله تعالى هم ورثة الأنبياء لأنهم ورثوا عنهم الدلالة على الله تعالى فماذا عرف؟ فالعلماء بالله تعالى هم ورثة الأنبياءلأنهم ورثوا عنهم الدلالة على الله تعالى والدعوة إليه(1/269)
والاقتداء بهم في أعمال القلوب، وقد قال الله تعالى: (ومَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّن دَعا إلى الله وَعَمِل صالحِاً) فصلت: 33، وكما قال تعالى: (أُدْعُ إلى سبيلِ رَبِّكَ بالْحِكْمَةِ) النحل: 125، وكما أمره بالدعاء وأشرك معه أتباعه في الدعاء إلى الله تعالى لا في البصيرة فقال تعالى: (قُلْ هذِهِ سبيلي أدْعُوا إلى الله على بصيرةٍ أنا وَمَنِ اتَّبعني) يوسف: 108، ويحشرون يوم القيامة مع الأنبياء كما قال تعالى: (فأُولئكَ مع الَّذينَ أنْعَمَ الله عليْهِمْ مِن النَّبِيّين) النساء: 69، وما قال تعالى: (وَجيء بالَّنبِيّينَ والشُّهداءِ) الزمر: 69، ثم فسره فقال بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء.
وقد روينا معناه عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أقرب الناس من درجة النبوّة أهل العلم وأهل الجهاد، أما أهل العلم فدلوا الناس على ما جاءت به الأنبياء وأما أهل الجهاد فجاهدوا بأسيافهم على ما جاءت به الرسل وعلماء الدنيا يحشرون مع الولاة والسلاطين، وقد قال بعض السلف: العلماء يحشرون في زمرة الأنبياء والقضاة يحشرون في زمرة السلاطين، وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي من علماء أهل الدنيا ومن سادة القضاة وعقلائهم وكان مؤاخياً لأبي الحسن بن أبي الورد، وكان هذا من أهل المعرفة فلما ولّى إسماعيل القضاء هجره ابن أبي الورد ثم إنه اضطر إلى أن دخل عليه في شهادة فضرب بن أبي الورد يده على كتف إسماعيل القاضي وقال: يا إسماعيل علم أجلسك هذا المجلس لقد كان الجهل خيرًا منه، فوضع إسماعيل رداءه على وجهه وجعل يبكي حتى بلّه، وعلماء الظاهر هم زينة الأرض والملك وعلماء الباطن زينة السماء والملكوت وعلماء الظاهر أهل الخبر واللسان وعلماء الباطن أرباب القلوب والعيان.
وقال بعض العلماء: لما خلق الله تعالى اللسان قال هذا معقل خبري إن صدقني نجيته ولما خلق الله تعالى القلب قال هذا موضع نظري إن صفا لي صافيته، وقال بعض الخلف: الجاهل ينجو بالعلم والعالم ينجو بالحجة والعارف ينجو بالجاه، وقال بعض: العارفين: علم الظاهر حكم وعلم الباطن حاكم، والحكم موقوف حتى يجيء الحاكم يحكم فيه، وقد كان علماء الظاهر إذا أشكل عليهم العلم في مسألة لاختلاف الأدلة سألوا أهل العلم بالله لأنهم أقرب إلى التوفيق عندهم وأبعد من الهوى والمعصيةمنهم: الشافعي رحمه الله تعالى كان إذا اشتبهت عليه المسألة لاختلاف أقوال العلماء فيها وتكافؤ الاستدلال عليها رجع إ لى علماء أهل المعرفة فسألهم قال: وكان يجلس بين يدي شيبان الراعي كما يجلس الصبي بين يدي المكتب ويسأله كيف يفعل في كذا وكيف يصنع في كذا فيقال له مثلك يا أبا عبد الله في علمك وفقهك تسأل هذا البدوي فيقول: إن هذا وفق لما علمناه، وكان الشافعي رحمه الله قد اعتلّ علة شديدة وكان يقول: اللهم إن كان في هذا رضاك فزدني منه فكتب إليه المعافري من سواد مصر: يا أبا عبد الله لست وإياك من(1/270)
رجال البلاء فنسأل الرضا الأولى بنا أن نسأل الرفق والعافية، فرجع الشافعي رحمه الله عن قوله هذا، وقال: أشتغفر الله تعالى وأتوب إليه، فكان بعد ذلك رحمه الله يقول: اللهم اجعل خيرتي فيما أحب وقد كان أحمد بن حنبل ويحيى بن معين رضي الله عنهما يختلفان إلى معروف بن فيروز الكرخي رحمهم الله ولم يكن يحسن من العلم والسنن ما يحسناته فكانا يسألانه، وقد روي في الخبر قيل: يا رسول الله كيف نصنع إذا جاءنا أمر لم نجده في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسول الله فقال سلوا الصالحين واجعلوه شورى بينهم ولا تقضوا فيه أمراً دونهم.
وفي حديث معاذ رضي الله عنه: فإن جاءك ما ليس في كتاب الله تعالى ولا سنة رسول الله قال: أقضي فيه بما قضى الصالحون فقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله، وفي بعضها اجتهد رأيي وحدثونا عن الجنيد قال: كنت إذا قمت من عند سري السقطي قال لي: إذا فارقتني من تجالس؟ فقلت: الحارث المحاسبي فقال: نعم خذ من علمه وأدبه ودع عنك تشقيقه للكلام ورده على المتكلمين، قال: فلما وليت سمعته يقول جعلك الله صاحب حديث صوفياً ولا جعلك صوفياً صاحب حديث يعني أنك إذا ابتدأت بعلم الحديث والأثر ومعرفة الأصول والسنن ثم تزهدت وتعبدت تقدمت في علم الصوفية وكنت صوفياً عارفاً وإذا ابتدأت بالتعبد والتقوى والحال شغلت به عن العلم والسنن فخرجت إما شاطحاً أو غالطاً لجهلك بالأصول والسنن فأحسن أحوالك أن ترجع إلى العلم الظاهر، وكتب الحديث لأنه هو الأصل الذي تفرع عليه العبادة والعلم وأنت قد بودئت بالفرع قبل الأصل، وقد قيل: إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول هو كتب الحديث ومعرفة الآثار والسنن فإذا أنمت رددت إلى الأصل فقد انحططت عن مرتبة الناقدين ونزلت من درجة العارفين وفاتك مزيد اليقين والإيمان.
وقال سفيان الثوري رضي الله عنه: كان الناس إذا طلبوا العلم عملوا فإذا عملوا أخلصوا فإذا أخلصوا هربوا وقال آخر: العالم إذا هرب من الناس فاطلبه وإذا طلب الناس فاهرب منه، وقال أبو محمد: سهل العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل، وقال ذو النون: يقول اجلس إلى من تكلمك صفته ولا تجلس إلى من يكلمك لسانه، وقد كان الحسن قبله يقول: جالس من تكلمك أعماله ولا تجالس من يخاطبك مقاله، وقد كان طائفة يصحبون كثيراً من أهل المعرفة للتأدب بهم والنظر إلى هديهم وأخلاقهم إن لم يكونوا علماء لأن التأديب يكون بالأفعال والتعلّم يكون بالمقال، ومن أبلغ ما سمعت منهم في هذا المعنى ما قال بعض الحكماء: وعظ واحد لألف بفعل أنجح فيهم وأوقع من وعظ ألف لواحد بقول، وكان سهل يقول: العلم كله دنيا والآخرة منه العمل به والعمل هباء إلا الإخلاص، وقال مرة: الناس موتى إلا العلماء والعلماء سكارى إلا العاملين،(1/271)
والعاملون مغرورون إلا المخلصين والمخلص على وجل حتى يختم له به ولم يكن العالم عند العلماء من كان عالماً بعلم غيره ولا حافظاً لفقه سواه، هذا كان اسمه راوية وواعياً وحاملاً وناقلاً.
وقد كان أبو حازم الزاهد يقول: ذهب العلماء وبقيت علوم في أوعية سود، وقد كان الزهري يقول: كان فلان وعاء للعلم وحدثني فلان وكان من أوعية العلم ولا يقول كان عالماً، وكذلك جاء الخبر: رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وكانوا يقولون حماد الراوية يعنون أنه كان راوياً ودخول الهاء في الاسم للمبالغة في الوصف كما يقال علاّمة ونسّابة، وإنما كان العالم عندهم الغني بعلمه لا بعلم غيره وكان الفقيه فيهم هو الفقيه بفقه علمه وقلبه لا بحديث سواه، كما جاء في الأثر: أي الناس أغنى؟ قال: العالم الغني بعلمه إن احتيج إليه نفع وإلا اكتفى عن الناس بعلمه لأن كل عالم بعلم غيره فإنما صار عالماً بمجموعه، فمجموعه هم العلماء وكل فاضل بوصف سواه فموصوفه هم الفضلاء، فإذا تركهم وانفرد سكت، فلم يرجع إلى علم لنفسه يختص به فصار في الحقيقة موصوفاً بالجهل واصفاً لطرائق أهل الفضل موسوماً بعلم السمع والنقل فمثل العالم بعلم غيره مثل الواصف لأحوال الصالحين العارف بمقامات الصديقين ولا حال له ولا مقام فليس يعود عليه من وصفه إلا الحجة بالعلم والكلام، وسبق العارفون بالله في الحجة بالأعمال والمقام، فمثله كما قال الله تعالى: (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) الأنبياء: 18، وكقوله عزّ وجلّ: (كُلَّما أضَاءَ لهُمْ مَشَوْا فيهِ وإذا أَظْلمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) البقرة: 20 لا يرجع إلى بصيرة فيه بما اشتبه من ظلمات الشبه عليه مما اختلف العلماء فيه ولا يتحقق بوجد منه فيه يجده عن حال ألبسها بوجده وإنما هو متواجد بوجد غيره فغيره هو الواجد وشاهد على شهادة سواه، فالسوي هو الشاهد، وقد كان الحسن يقول: إن الله تبارك وتعالى لا يعبأ بصاحب رواية إنما يعبأ بذي فهم ودراية، وقال أيضاً: من لم يكن له عقل يسومه لم تنفعه كثرة مروياته للحديث وقد أنشدنا لبعض الحكماء في معنى ذلك:
العلم علمان فمصنوع ومطبوع ... ولا ينفع مجموع إذا لم يك مصنوع
كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع
وكان الجنيد رحمه الله كثيراً ينشد:
علم التصوّف علم ليس يعرفه ... إلا أخو فطنة بالحق معروف
وليس يعرفه من ليس يشهده ... وكيف يشهد ضوء الشمس مكفوف
لأن الكتب والمجموعات محدثة والقول بمقالات الناس والفتيا بمذهب الواحد من الناس وانتحاء قوله والحكاية له في كل شيء والتفقه على مذهبه محدث لم يكن الناس قديماً على ذلك في القرن الأول والثاني، وهذه المصنفات من الكتب حادثة بعد سنة(1/272)
عشرين ومائة من التاريخ وبعد وفاة كل الصحابة وعلية التابعين، يقال إن أوّل كتاب صنّف في الإسلام كتاب ابن جريج في الآثار وحروف من التفاسير عن مجاهد وعطاء وأصحاب ابن عباس بمكة ثم كتاب معمر بن راشد الصنعاني باليمن جمع فيه سنناً منثورة مبوّبة، ثم كتاب الموطأ بالمدينة لمالك بن أنس رضي الله عنه في الفقه ثم جمع ابن عيينة كتاب الجوامع في السنن والأبواب وكتاب التفسير في أحرف من علم القرآن وجامع سفيان الثوري الكبير رضي الله عنه في الفقه والأحاديث، فهذه من أوّل ما صنف ووضع من الكتب بعد وفاة سعيد بن المسيب وخيار التابعين وبعد سنة عشرين أو أكثر ومائة من التاريخ فكان العلماء الذين هم أئمة هؤلاء العلماء من طبقات الصحابة الأربعة ومن بعد موت الطبقة الأولى من خيار التابعين هم الذين انقرضوا قبل تصنيف الكتب وكانوا يكرهون كتب الحديث ووضع الناس الكتب لئلا يشتغل بها عن القرآن وعن الذكر والفكر، وقالوا: احفظوا كما حفظنا ولئلا يشتغل الناس عن الله تعالى برسم ولا وسم كما كره أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعلية الصحابة تصحيف القرآن في مصحف وقالوا: كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وخشوا اشتغال الناس بالصحف واتكالهم على المصاحف فقالوا: نترك القرآن يتلقاه الناس بعضهم من بعض تلقناً بالتلقين والإقراء ليكون هو شغلهم وهمتهم وذكرهم حتى أشار عليه عمر رضي الله عنه وبقية الصحابة أن يجمع القرآن في المصاحف لأنه أحفظ له وليرجع الناس إلى المصحف لما لا يؤمن من الاشتغال بأسباب الدنيا عنه فشرح الله تعالى صدر أبي بكر رضي الله عنه لذلك فجمع القرآن في الصحف المتفرقة في المصحف الواحد، وكذلك كانوا يتلقون العلم بعضهم عن بعض ويحفظونه حفظاً هذا لطهارة القلوب من الريب وفراغها من أسباب الدنيا وصفائها من الهوى وعلوّ الهمة وقوّة العزيمة وحسن النية ثم ظهرت بعد سنة مائتين وبعد تقضي ثلاثة قرون في القرن الرابع المرفوض مصنفات الكلام وكتب المتكلمين بالرأي والمعقول والقياس وذهب علم المتقين وغابت معرفة الموقنين من علم التقوى وإلهام الرشد واليقين فخلف من بعدهم خلف فلم نزل في الخلف إلى هذا الوقت ثم اختلط الأمر بعد هذا التفصيل في زماننا هذا، فصار المتكلمون يدعون علماء والقصاص يسمون عارفين والرواة والنقلة يقال علماء من غير فقه في دين ولا بصيرة في يقين.
وروينا عن ابن أبي عبلة قال: كنا نجلس إلى عطاء الخراساني بعد الصبح فيتكلم علينا فاحتبس ذات غداة فتكلم رجل من المؤذنين لا بأس به بمثل ما كان يتكلم به عطاء فأنكر صوته رجاء بن أبي حيوة فقال: من هذا المتكلم؟ فقال: أنا فلان فقال: اسكت فإنه يكره أن يسمع العلم إلا من أهله، وكذلك كانوا يقولون أبى أهل العلم بالله تعالى أن(1/273)
يسمعوا هذا العلم إلا من أهله الزاهدين في الدنيا وكرهوا أن يسمعوه من أبناء الدنيا وزعموا أنه لا يليق بهم، واعلم أن العبد إذا كان يذكر الله تعالى بالمعرفة وعلم اليقين لم يسعه تقليد أحد من العلماء، وكذلك كان المتقدمون إذا افتتحوا هذا المقام خالفوا من حملوا عنه العلم لمزيد اليقين والإفهام، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد كان تعلم من زيد بن ثابت الفقه وقرأ على أبي بن كعب ثم خالف زيداً في الفقه وأبياً في القرءة.
وقال بعض الفقهاء من السلف: ما جاءنا عن رسول الله قبلناه على الرأس والعين وما جاءنا عن الصحابة فنأخذ به ونترك وما جاءنا عن التابعين فهم رجال ونحن رجال قالوا: ونقول ولأجل ذلك كان الفقهاء يكرهون التقليد ويقولون: لا ينبغي للرجل أن يفتي حتى يعرف اختلاف الفقهاء أي فيختار منها على علمه الأحوط للدين والأقوى باليقين، فلو كانوا يستحبون أن يفتى العالم بمذهب غيره لم يحتج أن يعرف الاختلاف ولكان إذا عرف مذهب صاحبه كفاه، ومن ثم قيل: إن العبد يسأل غداً فيقال ماذا عملت فيما علمت؟ ولا يقال له فيما علم غيرك.
وقد قال الله تعالى: (وقَالَ الَّذينَ أُوتُوا الْعِلْم والإيمانَ) الروم: 56 ففرق بينهما يدل به أن من أوتي إيماناً أوتي علماً كما أن من أوتى علماً نافعاً أوتي إيماناً وهذا أحد الوجوه في معنى قوله سبحانه: (كتبَ في قُلوبِهِمُ الإيمانَ وَأَيَّدهَهُمْ بِروُحٍ مِنْه) المجادلة: 22 أي قواهم بعلم الإيمان، فعلم الإيمان هو روحه وتكون الهاء عائدة إلى الإيمان وكذا العالم الذي هو من أهل الاستنباط والاستدلال من الكتاب والسنّة فإنه أداة الصنعة وآلة الصنع لأنه ذو تمييز وبصيرة ومن أهل التدبر والعبرة، فأما الجاهل والعامي الغافل فله أن يقلد العلماء ولعالم عموم أيضاً أن يقلد عالم خصوص وللعالم بالعلم الظاهر أن يقلد من فوقه ممن جعل على علم باطن من أهل القلوب لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ردّ من علم الألسنة والفتيا إلى علم القلوب ولم يرد أهل القلوب في علمهم الذين يختصون به إلى المفتين لأنهم يأخذون من المفتين فتياهم ثم يجدون في قلوبهم حيكاً وحزازة فيلزمهم فتيا القلب لقوله: استفتِ قلبك بعد قوله وإن أفتاك المفتون مع قوله الإثم حزاز القلوب إلى قوله ما حاك في صدرك فدعه وإن أفتوك وأفتوك ثم درس معرفة هذا فجهل فصار كل من نطق بكلام وصنعه غرب على السامعين لا يعرف حقه من باطله سمي عالماً وكل كلام مستحسن زخرف رونقه لا أصل له يسمّى عالماً لجهل العامة بالعلم أي شيء هو ولقلة معرفة السامع بوصف من سلف من العلماء كيف كانوا فصار كثير من متكلمي الزمان فتنة المفتون وصار كثير من الكلام والرأي والمعقول الذي حقيقته جهل كأنه علم عند الجاهلين فلا يفرقون بين المتكلمين والعلماء ولا يميزون بين العلم والكلام،(1/274)
وقد قلنا: إن خصوص الجهال يشبهون بالعلماء فيشتبهون على مجالسيهم في الحال، فأعلم الناس في زمانك هذا أعرفهم بسيرة المتقدمين وأعلمهم بطرائق السالفين ثم أعلمهم بالعلم أي شيء هو وبالعالم من هو من المتعلم والمتعالم وهذا كالفرض على طالبي العلم أن يعرفوه لأنه لما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طلب العلم فريضة وجب عليهم أن يعرفوا أي شيء هو العلم حتى يطلبوه إذ لا يصح طلب ما لا يعرف ثم وجب عليهم من هذا أن يعرفوا العالم من هو ليطلبوا عنده العلم إذ العلم عرض ولا يقوم إلا بجسم فلا يوجد إلا عند أهله كما قيل لعلي كرم الله وجهه وقيل له إنك خالفت فلاناً في كذا فقال خيرنا أتبعنا لهذا الدين، وكما قيل لسعد أن ابن المسيب يقرأ ما ننسخ من آية أو ننسأها فقال: إن القرآن لم ينزل على ابن المسيب ولا على أبيه ثم قرأ أو ننسها فأعلم الناس في هذا الوقت وأقربهم من التوفيق والرشد أتبعهم لمن سلف وأشبههم بشمائل صالحيّ الخلف، كيف وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سئل من أعلم الناس؟ فقال: أعرفهم بالحق إذا اشتبهت الأمور.
وقال بعض السلف: أعلم الناس أعرفهم باختلاف الناس، وكان الحسن البصري رضي الله عنه يقول: محدثان أحدثا في الإسلام، رجل ذو رأي سوء زعم أن الجنة لمن رأى مثل رأيه، ومترف يعبد الدنيا لها يغضب ولها يرضى وإياها يطلب فارفضوهما إلى النار اعرفوا إنكارهم لربهم بأعمالهم أن رجلاً أصبح في هذه الدنيا بين مترف يدعو إلى دنياه وصاحب هوى يدعو إلى هواه قد عصمه الله تعالى منهما يجيء إلى السف الصالح يسأل عن فعالهم ويقتص آثارهم لتعرض لأجر عظيم فكذلك فكونوا وكما روينا عن ابن مسعود رضي الله عنه وقد جاء مسنداً إنما هما اثنان الكلام والهدى فأحسن الكلام كلام الله تعالى وأحسن الهدى هدى محمد لله ألا وإياكم ومحدثات الأمور فإن شر الأمور محدثاتها إن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ألا لا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم، ألا كل ما هو آت قريب، ألا إن البعيد ما ليس بآت، وفي خطبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي رويناها عن أبان عن أنس: طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وأنفق من مال اكتسبه من غير معصية وخالط أهل الفقه والحكمة وجانب أهل الذل والمعصية، طوبى لمن ذلّ في نفسه وحسنت خليقته وصلحت سريرته وعزل عن الناس شره، طوبى لمن عمل بعلمه وأنفق الفضل ماله وأمسك الفضل من قوله ووسعته السنة ولم يعدها إلى بدعة، وقال بعض الأدباء كلاماً منظوماً في وصف زماننا هذا كأنه شاهده:
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكل أمر منكر
وبقيت في خلف يزكي بعضهم ... بعضاً ليدفع معور عن معور
أبنيّ إن من الرجال بهيمة ... في صورة الرجل السميع المبصر(1/275)
فطناً بكل مصيبة في ماله ... فإذا أصيب بدينه لم يشعر
فسل الفقيه تكن فقيهاً مثله ... من يسعَ في أمر بفقه يظفر
وقد كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: حسن الهدى في آخر الزمان خير من كثير من العمل، وقال في وصف زمانه باليقين وفي وصف زماننا بالشك فقال: إنكم في زمان خيركم في المسارع في الأمور وسيأتي بعدكم زمان يكون خيرهم فيه المتثبت المتوقف يعني لكثرة الشبهات، وقال حذيفة رضي الله عنه: أعجب من هذا قال إن معروفكم هذا منكر زمان قد مضى، وإن منكركم معروف زمان قد يأتي وإنكم لن تزالوا بخير ما عرفتم الحق، وكان العالم فيكم غير مستخف وكان يقول أيضاً: يأتي في آخر الزمان قوم يكون العالم فيهم بمنزلة الحمار الميت لا يلتفتون إليه يستخفي المؤمن فيهم كما يستخفي المنافق فينا اليوم المؤمن فيهم أذل من الأمة، وفي حديث علي كرّم الله وجهه يأتي على الناس زمان ينكر الحق تسعة أعشارهم لا ينجو منهم يومئذ إلا كل مؤمن نومة يعني صموتاً متغافلاً أولئك مصابيح العلم وأئمة الهدى وليسوا بالمذاييع البذر يعني المتكلمين كثيراً المتظاهرين بالكلام افتخاراً، وفي خبر: يأتي على الناس زمان من عرف فيه الحق نجا قيل فأين العمل؟ قال: لا عمل يومئذ لا ينجو فيه إلا من هرب بدينه من شاهق إلى شاهق وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: يأتي على الناس زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا وفي بعضها بعشر ما يعلم، وعن بعض الصحابة أنتم اليوم في زمان من ترك منكم عشر ما يعلم هلك ويأتي عيلكم زمان من علم فيه بعشر ما يعلم نجا، وقال بعض الخلفاء: يأتي عليكم زمان يكون أفضل العلم الصمت وأفضل العمل النوم يعني لكثرة المنافقين بالشبهات فصار الصمت للجاهل علماً ولكثرة العاملين بالشهوات فصار النوم عبادة البطال ولعمري إن الصمت والنوم أدنى أحوال العالم وهما أعلى أحوال الجاهل وكان يونس بن عبيد يقول أصبح اليوم من يعرف السنة غريباً وأغرب منه من يعرفه يعني طريقة السلف، يقول: فمن يعرفه عرف طريق من مضى وهو غريب أيضاً لأنه قد عرف غريباً، وقال حذيفة المرعشي: كتب إلى يوسف بن أسباط ذهب الطاعة ومن يعرفها وكان أيضاً يقول ما بقي من يؤنس به.
وقال: ما ظنك بزمان مذاكرة العلم فيه معصية قيل ولم ذلك؟ قال: لأنه لا يجد أهله وقد كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: إنكم لن تزالوا بخير ما أحببتم خياركم وقيل فيكم الحق فعرف ويل لكم إذا كان العالم فيكم كالشاة النطيح، وقد كان للمتقدمين علوم يجتمعون عليها ويتفاوضونها بينهم قد درست في زماننا وكان للصالحين معان وطرائق يسلكونها ويسألون عنها قد ذهبت في وقتنا وكان لليقين والمعرفة مقامات وأحوال يتذاكرها أهلها ويطلبون أربابها قد عفت آثارها عندنا لقلة(1/276)
الطالبين لها ولعدم الراغبين فيها وفقد العلماء بها وذهاب السالكين في طرقها منها طلب الحلال وعلم الورع في المكاسب والمعاملات وعلم الإخلاص وعلم آفات النفوس وفساد الأعمال وعلم نفاق العلم والعمل والفرق بين نفاق العلم والعمل والفرق بين نفاق القلب ونفاق النفس وبين إظهار النفس شهوتها واخفائها ذلك والفرق بين سكون القلب بالله وسكون النفس بالأسباب والفرق بين خواطر الروح والنفس وبين خاطر الإيمان واليقين والعقل وعلم خلائق الأحوال وأحوال طرائق العمال وتفاوت مشاهدات العارفين وتلوينات الشواهد على المريدين وعلم القبض والبسط والتحقيق بصفات العبودية والتخلق بأخلاق الربوبية وتباين مقامات العلماء إلى غير ذلك ممّا لا نذكره من علم التوحيد ومعرفة معاني الصفات وعلوم المكاشفة بتجلي الذات وإظهار الأفعال الدالة على معاني الصفات الباطنة وظهور المعاني الدالة على النظر والإعراض والتقريب والإبعاد والنقص والمزيد والمثوبة والعقوبة والاختباء والاختيار، وقد ذكرنا من جميع هذه المعاني فصولاً ورسمنا جملاً وأصولاً تنبه على فروعها وندل على أشكالها لمن وفق لتدبرها وأريد بتذكرها وجعل له نصيب منها.
وقال بعض علمائنا: أعرف للمتقدمين سبعين علماً كانوا يتحاورونها ويتعارفونها في هذا العلم لم يبق منها اليوم علم واحد يعرف، قال: وأعرف في زماننا هذا علوماً كثيرة من الأباطيل والدعاوى والغرور، وقد ظهرت وسميت علوماً لم تكن فيما مضى تعرف فهذا كالشراب الذي وصفه الله تعالى فقال: (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حتَّى إذا جاءَهُ لمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) النور: 39، وكان الجنيد رحمه الله تعالى من قبله يقول: علمنا هذا الذي نتكلم فيه قد طوي بساطه منذ عشرين سنة وإنما نتكلم في حواشيه وكان يقول أيضاً قد كنت أجالس قوماً سنين يتحاورون في علوم لا أفهمها ولا أدري ما هي وما بليت بالإنكار قط كنت أتقبلها وأحبها من غير أن أعرفها وكان أيضاً يقول كنا نتجارى مع إخواننا قديماً في علوم كثيرة ما تعرف في وقتنا هذا ولا سألني عنها أحد، وهذا باب قد أغلق وردم، ولما صنف شيخنا أبو سعيد بن الأعرابي كتاب طبقات النساك ووصف أوّل من تكلم في هذا العلم وأظهره ثم من بعده من البصريين والشاميين وأهل خراسان إلى أن كان آخرهم البغداديين، وقال آخر: من تكلم في هذا صاحبنا جنيد القواريري وكانت له بصيرة فيه وحقيقة وحسن عبارة وما بقي بعده إلا من مجالسته غيظ، وقال مرة أخرى: ما بقي بعد جنيد إلا من يستحي من ذكره وقد كان إمامنا أبو محمد سهل رحمه الله يقول بعد سنة ثلاثمائة لا يحل أن يتكلم بعلمنا هذا لأنه يحدث قوم يتصنعون للخلق ويتزينون بالكلام لتكون مواجيدهم لباسهم وحليتهم كلامهم ومعبودهم بطونهم، وقد كان حذيفة رضي الله عنه إذا سئل أي الفتن أشد فقال: إن يعرض عليك الخير والشر فلا تدري أيهما تأخذ لكثرة الشبهات كما كان سهل يقول بعد سنة ثلاثمائة لا يصح لأحد توبة لأنه يفسد(1/277)
خبزهم وهم لا يصبرون عن الخبز يعني أن أول التوبة أكل الحلال وقد روينا في خبر يأتي على الناس زمان يضلون فيه دينهم فلا يعرفونه يصبح الرجل على دين ويمسي على دين يضل أمره على غير يقين وتسلب عقول أكثر أهل ذلك الزمان وأوّل ما يرفع عنهم الخشوع ثم الإجابة ثم الورع ويقال: أوّل ما يرفع من الناس الأُلْفة.
ذكر ما أحدث الناس من القول والفعل فيما بينهم مما لم يكن عليه السلف
كان الناس قديماً إذا التقوا يقول أحدهم: لصاحبه ما خبرك وما حالك؟ يعنون بذلك ما خبر نفسك في مجاهدتها وصبرها وما حال قلبك من مزيد الإيمان وعلم اليقين ويريدون أيضاً ما خبرك في المعاملة لمولاك وما حالك في أمور الدنيا والآخرة هل ازددت أم انتقصت فيتذاكرون أحوال قلوبهم ويصفون أعمال علومهم ويذكرون ما وهب الله تعالى لهم من حسن المعاملة وما فتح لهم من غرائب الفهوم فكان هذا من تعديد نعم الله تعالى عليهم ومن جميل شكرهم ويكون مزيداً لهم في المعرفة والمعاملة، وقد كان بعضهم يقول: أكثر علومنا ومواجيدنا ما يعرفه بعضنا من بعض وما يخبر به أحدنا أخاه إذا التقينا فقد جهل هذا اليوم فترك، فهم إذا تساءلوا عن الخبر والحال إنما يريدون به أمور الدنيا وأسباب الهوى ثم يشكو كل واحد مولاه الجليل سبحانه وتعالى إلى عبده الذليل ويتسخط أحكامه ويتبرأ بقضائه وينسى نفسه وما قدمت يداه فمثله كما قال تعالى: (ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بآيَاتِ رَبِّهِ فَأعْرَضَ عَنْها وَنسِيَ ما قَدَّمَتْ يداهُ) الكهف: 57، وكما قال تعالى: (إنّ الإنسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود) العاديات: 6 قيل كفور بنعمته يعدد المصائب وينسى النعم كل ذلك جهالة بالله تعالى وغفلة عنه، ومنه قولهم: الآن كيف أصبحت وكيف أمسيت؟ هذا محدث، إنما كانوا إذا التقوا قالوا: السلام عليكم ورحمة الله.
وفي الخبر: من بدأكم بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه وإنما حدث هذا في زمان الطاعون الذي كان يدعى طاعون عمواس بالشام من الموت الذريع، كان الرجل يلقى أخاه غدوة فيقول كيف أصبحت من الطاعون ويلقاه عشية فيقول كيف أمسيت منه لأن أحدهم كان إذا أصبح لم يمسِ وإذا أمسى لم يصبح، فبقي هذا إلى اليوم ونسي سببه وكان من عرف حدوثه من المتقدمين يكرهه، حدثونا عن أحمد بن أبي الحواري قال: قال رجل لأبي بكر بن عياش: كيف أصبحت أو كيف أمسيت فلم يكلمه، وقال: دعونا من هذه البدعة قال: وقلت لبعض السلف: كيف أصبحت فأعرض عني وقال ما كيف أصبحت قل بالسلام.
وروى أبو معشر عن الحسن رضي الله عنه إنما كانوا يقولون السلام عليكم سلمت والله القلوب، فأما اليوم كيف أصبحت أصلحك الله كيف أمسيت عافاك الله، فإن أخذنا بقولهم كانت بدعة ألا ولا كرامة فإن شاؤوا غضبوا علينا ومن ذلك ابتداء الرجل في عنوان الكتاب باسم المكتوب إليه وإنما السنة أن يبتدئ بنفسه فيكتب من فلان إلى فلان،(1/278)
قال ابن سيرين رحمه الله تعالى: غبت غيبة فكتبت إلى أبي فابتدأت باسمه فكتبت إليّ يا بني إذا كتبت إليّ فابدأ بأسمك في الكتاب فإن ابتدأت بإسمي قبل اسمك لا قرأت لك كتاباً ولا رددت إليك جواباً، وكتب العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبدأ بنفسه وكتب من العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ويقال أوّل من أحدثه زياد فعابه العلماء عليه وعدّوه من إحداث بن أمية، وقد بقي سنة هذا في كتب الخلفاء والأمراء إلى اليوم على نحو ما مضى فهم يقدمون أسماءهم في كتبهم ومن الأحداث قول الرجل إذا جاء منزل أخيه يا غلام يا جارية فيه مخالفة لأمر الله عزّ وجلّ وأمر رسوله عليه السلام، قال الله عزّ وجلّ: (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيرَ بُيُوتِكُمْ حتّى تَسْتَأنِسُوا وتُسَلِّمُوا على أهْلِها) النور: 27قال أهل التفسير: الاستئناس الدق أو التنحنح أو الحركة حتى يؤذن بذلك أن وراءها إنساناً وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا جاء أحدكم منزل أخيه فليسلم ثلاثاً فإن أذن له فليدخل وإلا فليرجع وكان السلف يقرع أحدهم باب أخيه ثم يسلم ثلاثاً يقف بعد كل تسليمة هنيهة فإن أذن له دخل وقد لا يحب صاحب المنزل أن تدخل عليه في ذلك الوقت لسبب عذر له فيقول: وعليكم السلام ورحمة الله ارجع عافاك الله فإني على شغل فيرجع عنه غير كاره لرجوعه ولا يؤثر ذلك عليه في نفسه، وقد يكون قوله ارجع أحب إليه لأنه أفضل له رجاء الإجابة والتزكية لقوله تعالى: (وإِنْ قيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ) النور: 28، فربما رجع في اليوم مرتين أو ثلاثاً بعد رد صاحبه له وهو يعود لأن ذلك لم يؤثر في قلبه شيئاً وهذا لو فعل ببعض الناس من أهل عصرنا هذا لكرهه، ولعل أن لا يعود يومه ذلك فأمّا العلماء فقد كان بعض الناس لا يستأذن عليهم إلا لمهم لا بدّ منه بل كانوا يقعدون على أبوابهم وفي مساجدهم ينتظرون خروجهم لأوقات الصلاة إجلالاً للعلم وهيبة للعلماء.
وحدثونا عن أبي عبيد قال: ما قرعت على عالم قط بابه كنت أجيء إلى منزله فأقعد على بابه انتظر خروجه من قبل نفسه أتأوّل قول الله عزّ وجلّ: (وَلَوْ أنَّهُمْ صبَرُوا حتّى تََخْرُجَ إليْهِمْ لكانَ خيْراً لَهمْ) الحجرات: 5، وقد روينا مثل هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما في موضعه من العلم والشرف أن المار كان يمرّ به وهو قائم على باب منزل الرجل من الأنصار تسفي عليها الرياح فيقول: ما يجلسك ههنا يا ابن عم رسول الله؟ فيقول: انتظر خروج صاحب المنزل، فيخرج الرجل فيقول ابن عم رسول الله: لو أرسلت إليّ لجئتك فيقول: لا أنا كنت أحق أن آتيك، فيسأله عما يريد من حديث بلغه أنه يرويه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن هو سمعه منه، ومن ذلك استقصاء الرجل في المسألة عن حال أخيه وخبره، وقد كره ذلك، تزوّج سلمان الفارسي رضي الله عنه فلما دخل على أهله خرج إلى الناس من الغد فقال له رجل: كيف أنت يا أبا عبد الله قال بخير أحمد الله تعالى قال:(1/279)
كيف حالك وكيف بت البارحة.
وفي لفظ آخر كيف وجدت أهلك فغضب سلمان وقال: لم يسأل أحدكم فيخفي المسألة وليسأل عما وراء البيوت يكفي أحدكم أن يسأل عن ظاهر الأمر وأما سليمان بن مهران الأعمش فإن رجلاً قال له في منزله: كيف أنت يا أبا محمد؟ قال: بخير قال: كيف حالك؟ قال في عافية، قال: كيف بت البارحة؟ فصاح: يا جارية انزلي بالفراش والمخاد فأنزلت بذلك فقال: افشي واضطجعي حتى أضطجع إلى جنبك لنرى أخانا كيف بت البارحة وكان يقول يلقى أحدهم أخاه فيسأله عن كل شيء حتى عن الدجاج في البيت ولو سأله درهماً ما أعطاه وكان من مضى من السلف إذا لقي أخاه لا يزيد على قولّ: كيف أنتم أو حياكم الله بالسلام، ولو سأله شطر ماله قاسمه، ومن ذلك قول الرجل لأخيه إذا لقيه ذاهباً في الطريق إلى أين تريد أو من أين جئت فقد كره هذا وليس من السنة ولا الأدب وهو داخل في التجسس والتحسس لأن التحسس في الآثار والتجسس في الأخبار وهذا السؤال عن ذلك يجمعهما وقد لا يحب الرجل أن يعلم صاحبه أين يذهب ولا من أين جاء.
وقد كره ذلك مجاهد وعطاء قالا: إذا لقيت أخاك في طريق فلا تسأله من أين جئت ولا أين يذهب فلعله أن يصدقك فتكره ذلك ولعله أن يكذبك فتكون قدحملته عليه وقد كانوا يكرهون بيع المصاحف وشراءها وكان بعضهم لبيعها أكره منه لشرائها، وقد ابتدع الناس علوماً لم تكن تعرف فيما سلف منها: علم الكلام والجدل وعلوم المقايس والنظر والإستدلال على سنن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأدلة الرأي والمعقول ومنها إيثار علم العقل والرأي والقياس على ظواهر القرآن وعلى الأخبار ومنها: إظهار الإشارات بالمواجيد من غير علومها ولا بيان تفصيلها، وفي ذلك تحيير للسامعين وإضلال للعاملين وإنما كان العلماء بهذا العلم يظهرون علوم المواجيد ويخفون الإشارة بالوجد فيظهرون للناس ما ينفع ويخفون ما يضر ولأن المواجيد أحوال قلوبهم فكتمها أفضل وعلومها أنصبة المريدين والعاملين فإظهارها هو البغية لهم فأظهروه وأخفوا وجدهم لأنه سرّ لهم فسلموا من التصنع والدعوى وأعطوا السامعين نصيبهم ومنعوهم ما ليس لهم فعدلوا في الوصفين معاً ففضلوا في الحالين جميعاً فجهل هذا الآن فأظهر ضده وكان إلى الضرر أقرب ومن السلامة أبعد، فمن لم يحسن التفصيل ولم يرزق العبارة فإنه يحسن الصمت فهو واسع إن من لم يتكلم بعلم على سنة فسكوته أقرب له إلى الله تعالى فمثله في ذلك كما قال الله عزّ وجلّ: (ومَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ الله لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إلاّ ما آتاها) الطلاق: 7، ومما ظهر إظهار علوم المعرفة بمعاني الرغبة ليتميزوا عن الفقراء تكبراً منهم فلا يجعلون مجعلهم فليصرف إليهم من الأسباب على قدر أنسهم وأحوالهم، وهذا من أكبر أبواب الدنيا وأضره على مريدي الآخرة وألطفه تمويهاً في الدين ومنها الكلام(1/280)
في التوحيد بمخالفة علم الشرع وأن الحقيقة تخالف العلم والحقيقة هي علم وهي أحد طرقات الشريعة وعلم الشرع عنها فكيف تنافيها وهي التي أوجبته وإنما هي عزيمة وضيقة وعلم الظاهر هو الرخصة والسعة فمن تكلم في علم الباطن على غير قواعد العلم الظاهر وأصوله فذلك من الإلحاد في الشريعة والوليجة بين الكتاب والسنة.
وقد قال بعض العارفين: نظرت إلى هؤلاء الشاطحين فما وجدت إلا جاهلاً مغروراً أو خاسئاً حبوراً أو مستظهراً بلا شيء، ومنها الكلام في الدين بالوساوس والخطرات عن غير ردّ مواجيدها إلى الكتاب والسنّة والواجب معرفة تفصيلها، ونفى ما لم يشهد له الكتاب والسنّة منها، إذ في المواجيد ضلال وغرور وفي المشاهدات باطل وزور، مع دعواهم المحبة وإنكارهم الصفة التي جاءت بها السنّة وعن غير شهادة موصوف وادعائهم المعرفة من غير تعرف معروف وممّا أحدثوا السجع في الدعاء والتغريب فيه ولم يرد الكتاب به ولا نقل عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا الصحابة بل كانوا ينهون عن الاعتداء في الدعاء ويجتنبون محاوزة ما أخبر الله تعالى عن أوليائه من الأدعية الجامعة المختصرة المعروفة.
وروينا عن رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إياكم والسجع في الدعاء، حسب أحدكم أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، وفي الخبر سيأتي قوم يعتدون في الدعاء والطهور، وسمع عبد الله بن مغفل ابنه يدعو بدعاء يغمق فيه فقال: يا بني إياك والحدث والاعتداء في الدعاء، وفي قوله عز وجلّ: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضرُّعاً وخُفْيَةً إنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتدينَ) الأعراف: 55، قيل في الدعاء: فالاعتداء في الدعاء هو ترك ما أخبر الله عزّ وجلّ عن أوليائه الصالحين من الدعاء بالمغفرة والرحمة والتوبة ومعنى ذلك من الدعاء المعروف والقول المشهور إلى التنطع والتعميق والتغريب والتدقيق، ويقال إن العلماء والأبدال لا يزيد أحدهم على سبع كلمات في الدعاء ووجدت تصديق ذلك في الكتاب إن الله تعالى ما أخبر عن عباده في الدعاء في مكان واحد أكثر من سبع دعوات، وهي التي في أخر سورة البقرة، وإلا إنما يخبر عنهم بالدعوتين والثلاث والأربع إلى الخمس في مواضع من الكتاب متفرقة.
ومرّ بعض السلف بقاصّ يدعو يسجع في دعائه ويتعمق فقال له: ويلك على الله تبالغ، أشهد لقد رأيت حبيباً العجمي يدعو وما يزيد على قوله: اللهم اجعلنا جيدين، اللهم لا تفضحنا يوم القيامة، اللهم وفّقنا للخير، قال: والناس يبكون من كل ناحية وكنا نتعرف إجابة دعائه وبركته، وكان أبو يزيد البسطامي يقول: سله بلسان الحاجة لا بلسان الحكمة، وقال الحسن: ادع بلسان الاستكانة والافتقار لا بالفصاحة والانطلاق، ومما أحدثوه أخذ القرآن بالإدارة وتنازع الاثنين الآية أو تلقي الرجلين للآيتين في مكان واحد بمنزلة الاختلاس والنهبة من غير خشوع للقرآن ولا هيبة، وقراءة القرآن تحتاج إلى حزن وسكون(1/281)
وخشوع، ومن ذلك أخذ المقرئ على الاثنين وليته قام بقراءة الواحد لسهو القلب كما قيل لإبراهيم الحربي إن فلاناً يأخذ على الاثنين فقال هاه يحتاج اثنان أن يأخذا على واحد، ومن البدع التلحين في القراءة حتى لا تفهم التلاوة وحتى يجاوز إعراب الكلمة بمدّ المقصور وقصد الممدود وإدغام المظهر وإظهار المدغم ليستوي بذلك التلاحن ولا يبالي باعوجاج الكم وإحالته عن حقيقته فهو بدعة ومكروه استماعه، قال بشر بن الحرث: سألت ابن داود الحربي أمر بالرجل يقرأ فأجلس إليه قال: يقول يطرب قلت: نعم، قال: لا هذا قد أظهر بدعته، ومن ذلك التلحين في الأذان وهو من البغي والاعتداء فيه، قال رجل من المؤذنين لابن عمر رضي الله عنهما: إني لأحبك في الله تعالى فقال له: لكني أبغضك في الله تعالى قال: يا أبا عبد الرحمن لم: قال لأنك تبغي في أذانك وتأخذ عليه أجراً، وكان أبو بكر الآجري رحمه الله يقول: خرجت من بغداد وما يحل لي المقام بها قد ابتدعوا في كل شيء حتى في قراء ةالقرآن وفي الأذان وكان يعني بذلك قراءة الإدارة والتلحين وقدم علينا مكة في سنة ثلاثين ومن جمل ما أحدث الخلف فخالفوا به سنن السلف أنهم شدّدوا في أشياء كان السلف يسهلون فيها وسهّلوا أشياء كان السلف يشدّدون فيها، فمثلهم في ذلك كالخوارج شدّدوا في الصغائر من الذنوب وسهّلوا في الآثار والسنّة وفي ترك مذهب الجماعة حتى فارقوهم فممّا شدّد فيه الخلف مما كان السلف يسهّلونه كتب الأحاديث من أنواع طرقها وتتبع الغرائب من طرقاتها وتحري الألفاظ فيها.
وقد قال ابن عون: أدركت ثلاثة يرخصون في المعاني: إبراهيم، والشعبي، والحسن رحمهم الله تعالى، وعن جماعة من علماء السلف والصحابة التوسعة في معاني الأحاديث وإن لم يؤد ألفاظها ومن ذلك تجريد الحروف وتحرّي المقرئ الواحد في جميع اختياره حتى كأنه فرض عليه، ومن ذلك التدقيق في القياس والنظر والتبحّر في علوم النحو والعربية، كما قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى: أعربنا في الكلام فلم نلحن ولحنّا في الأعمال فيا ليتنا لحنّا في الكلام وأعربنا في الأعمال.
وذكرت العربية عند القاسم بن المخيمرة فقال: أوّلها كبر وآخرها بغي، وقد قال بعض السلف: النحو يذهب الخشوع من القلب، وقال آخر: من أحب أن يزدري الناس كلهم فليتعلّم العربية وشدّدوا في الطهارة بالماء وتنظيف الثياب وكثرة غسلها من عرق الجنب ولبس الحائض ومن أرواث ما يؤكل لحمه وأبواله وغسل اليسير من الدم ونحو ذلك وكان السلف يرخصون في هذا كله ومما سهّلوه مما كان السلف يشددون فيه أمر المكاسب وترك التحرّي فيها والكلام فيما لا يعني والخوض في الباطل والغيبة وا لنميمة(1/282)
والاستماع إليهما والعقد على البلاغات وسوء الظن لأجلها، وهو اشتراك في الغيبة والنميمة، وكل بلاغة تزيد وتنقص إن كان شراً ازددت فيه وإن كان خيراً نقصت منه وسهلوا في النظر إلى الزور واللهو ومجالسة البطالين والمشي في أسباب الهوى والتعصب وشدة الحرص في الدنيا، وهذا كله كان السلف يشدّدون فيه ومما أحدثوا دخول النساء الحمام من غير ضرورة ودخول الرجل بغير مئزر وهو فسق، وسئل إبراهيم الحربي رحمه الله تعالى عمن يشرب النبيذ ولا يسكر أيصلّى خلفه؟ قال: نعم، قيل: فمن دخل الحمام بغير مئزر فقال لا يُصلي خلفه، هذا لأن شرب النبيذ يختلف فيه إذا لم يسكر ودخول الحمام بغير مئزر محرم بإجماع، وكان بعض العلماء يقول: يحتاج داخل الحمام إلى مئزرين مئزر لوجهه ومئزر لعورته وإلا لم يسلم في دخوله، وكان ابن عمر يقول: الحمام من النعيم الذي أحدثوه، ومن المنكر في الحمام تولي القيم لعورة الرجل المسلم في الأطلاء بالنورة، وقد كان من هدي العلماء في قعودهم أن يجتمع أحدهم في جلسته فينصب ركبتيه ومنهم من يقعد على قدميه ويضع مرفقيه على ركبتيه كذلك كان شمائل كل من تكلم في هذا العلم خاصة من عهد أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن زمن الحسن البصري وهو أوّل من أظهر هذا العلم وفتق الألسن به إلى وقت أبي القاسم الجنيد قبل أن تظهر الكراسي، وكذلك روي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقعد القرفصاء ويحتبي بيديه، وفي رواية أخرى: أنه كان يقعد على قدميه ويجعل مرفقيه على ركبتيه وأوّل من قعد على كرسي من أهل هذا العلم: يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى بمصر، وتبعه أبو حمزة ببغداد، فعاب الأشياخ عليهما ذلك، ولم يكن ذلك من سيرة العارفين الذين يتكلمون في علم المعرفة واليقين إنما كان يجلس متربعاً، النحويون واللغويون وأبناء الدنيا من العلماء المفتين وهي جلسة المتكبرين، ومن التواضع الاجتماع في الجلسة.
ذكر تفصيل العلوم
ومعروفها وقديمها ومحدثها ومنكرها
اعلم أن العلوم تسعة: أربعة منها سنّة معروفة من الصحابة والتابعين وخمسة محدثة لم تكن تعرف فيما سلف، فأما الأربعة المعروفة فعلم الإيمان وعلم القرآن وعلم السنن والآثار، وعلم الفتاوى والأحكام، وأما الخمسة المحدثة، فالنحو والعروض، وعلم المقاييس، الجدل وفي الفقه، وعلم المعقول بالنظر، وعلم علل الحديث وتطريق الطرقات فيه وتعليل الضعفاء وتضعيف النقلة للآثار فهذا العلم من المحدث إلا أنه علم لأهله فيسمعه أصحابه منهم، وقد كانوا يرون القصص بدعة وينهون عنه ويكرهون مجالسة القصّاص، وقال بعض العلماء نعم الرجل فلان لولا أنه يقصّ، وقال بعض هذه الطائفة: مثل أصحاب الحكايات في أهل المعرفة مثل القصّاص في الفقهاء، وقال آخر: مثل(1/283)
القصّاص في العلماء مثل أهل السواد في أهل المدن، فأما أكل الدنيا بالدين وأخذها على الصلاح وبيع العلم بالدنيا والتصنع والتزين للعموم فمن قبيح ما أحدث، وهو أظهر من أن يدل على فساده عند من عرف ظاهر العلم، وقد سمّى هؤلاء في زماننا هذا الجاهلون بالعلم علماء وجعلهم الناقصون عن الفضل فضلاء لقلة معرفتهم بطريق المتقدمين وعدم بصيرتهم بحقيقة علم الدين، وأعلم أن الكلام ينقسم عندنا سبعة أقسام: العلم منه قسم واحد، وسائر الستة لغو مطرح يلتقطه من لا يعرفه ولا يفرق بين العلم والجهل، والعرب تقول: لكل ساقطة لاقطة ولكل قائلة ناقلة، فالستة إفك وسفه وخطأ وظنّ وزخرف ووسوسة، فهذه أسماؤها عند العلماء يفصلون ذلك بما فصل الله تعالى لهم من بيانه واستحفظهم من كتابه وجعلهم شهداء على دينه وعباده، فالقسم السابع من الكلام هو ما عدا هذه الستة، ولم يقع عليه اسم منها مذموم، فهو علم وهو نصّ القرآن والسنة أو ما دلاّ عليه، واستنبط منهما أو وجد فيهما اسمه ومعناه من قول وفعل، والتأويل إذا لم يخرج عن الإجماع داخل في العلم والاستنباط إذا كان مستودعاً في الكتاب يشهد له المجمل ولا ينافيه النصّ فهو علم، وقد كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: أنتم اليوم في زمان الهوى فيه تابع للعلم وسيأتي عليكم زمان يكون العلم فيه تابعاً للهوى.
وقد جمع الله تعالى بين رونق العقل ومتعة الدنيا بتسمية الزخرف فقال تعالى: (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَىْها يتّكئون) الزخرف: 34 وزخرفاً وكما قال زخرفاً من القول غروراً فذهاب الجاهل بالاستحسان لزخرف القول من المموّه من غلّ الدنيا كمتعة الجاهل من أبناء الدنيا بزخرف الذهب ذاهباً عن حقيقة الأمر والزخرف ما يموّه على الذهب، فيشبه به يحسبه الجاهل والصبي عين الذهب، كذلك الزخرف من القول: ما يموّه ويشبه على العلم يحسبه المستمع من الجهّال علماً، فكذلك جمع بينهما في التسمية الزخرف، وقد قيل إن الزخرف هو الذهب فعلى هذا شبّه قول الغرور بالذهب الذي يذهب بقاؤه وتقلّ حقيقته عند الربانيين وأهل الحقيقة الزاهدين إذ شبهه الأنبياء والصديقون كالحجر والمدر، وكان الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول: تركوا العلم وأقبلوا على الغراس، ما أقل العلم فيهم والله المستعان، وقال الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه: لم يكن الناس فيما مضى يسألون عن هذه الأمور كما يسأل الناس اليوم ولم يكن العلماء يقولون حرام ولا حلال في أكثر الأمور أدركتهم يقولون مستحب ومكروه، وكان مالك كثير التوقف في الأجوبة إذا سئل ويكثر أن يقول لا أدري سل غيري وقال رجل لعبد الرحمن بن مهدي ألا ترى إلى قول فلان في العلم حلال وحرام وقطعه في الأمور بعلمه يعني رجلاً من أهل الرأي وإلى قول مالك: إذا سئل أحسب، فقال عبد الرحمن: ويلك قول مالك أحسب أحسب أحبّ إليّ من قول(1/284)
فلان: أشهد أشهد، وكان هشام بن عروة يقول: لا تسألوهم اليوم عمّا أحدثوا فإنهم قد أعدوا له جواباً، ولكن اسألوهم عن السنن فإنهم لا يعرفونها، وكان الشعبي رحمه الله تعالى إذا نظر إلى ما أحدث الناس من الرأي والهوى يقول: لقد كان القعود في هذا المسجد أحبّ إليّ مما يعدل به فمذ صار فيه هؤلاء المراؤون فقد بغضوا إلي الجلوس فيه ولأن أقعد على مزبلة أحب إليّ من أن أجلس فيه وكان يقول ما حدثوك عن السنن والآثار فخذ به وما حدثوك عما أحدثوا من رأيهم فامخط عليه، وقد قال مرة: فبل عليه، وقد كان السلف يستحبون العي والبله عن علوم المعقول، وقد جعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الإيمان إذ قرنه بالحياء فقال: الحياء والعي شعبتان من الإيمان والبذاء والبيان شعبتان من النفاق.
وقال عليه السلام: أبغض الخلق إلى الله عزّ وجلّ البليغ الذي يتخلل الكلام بلسانه كما يتخلل الباقر الخلا بلسانها يعني الحشيش الرطب، وقال في حديث آخر: العيّ عن اللسان لا عيّ القلب، وقال: إن الله عزّ وجلّ كره لكم البيان كل البيان فصار الفقه إنما هو فقه القلب عن الرب سبحانه وتعالى وصار فقه اللسان بالبيان إنما هو عيّ القلب عن الشهادة والإيقان وعيّ اللسان وطول الصمت الذي كان يستحبه السلف هو اليوم عيب، ومن المتكلمين من لا يعرف من كلام البدع وعلم المنافقين الذي ذمه القدماء هو اليوم سنّة وأهل النطق به هم العلماء اليوم، ولقد صار المعروف منكراً والمنكر معروفاً وصار السنّة بدعة والبدعة سنّة، وكذلك جاءت به الأخبار في وصف علماء آخر الزمان، وفي الخبر المشهور: إن الله تعالى يبغض الثرثارين المتشدقين، فمن غلب عليه هذا الوصف فكان متشدقاً بليغاً في علم الرأي والمعقول عيي القلب عن مشاهدة اليقين وعلم الإيمان كان إلى النفاق أقرب، ومن حقيقة الإيمان أبعد، وقد كان أبو سليمان الداراني يقول: لا ينبغي لمن ألهم شيئاً من الخيرات أن يعمله حتى يسمع به في الأثر فيحمد الله تعالى إذا وافق ما في نفسه.
وقال بعض العارفين: ما قبلت خاطراً من قلبي حتى يقيم لي شاهدي عدل من كتاب وسنة وكان إمامنا أبو محمد سهل رحمه الله تعالى يقول: لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يكون فيه هذه الأربع: أداء الفرائض بالسنّة، وأكل الحلال بالورع، واجتناب النهي من الظاهر، والباطن والصبر على ذلك حتى الممات، وقد كانوا يعيبون على من تكلم بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس بغير ذكر الله تعالى وكانوا يخرجون المتحدثين من المساجد فلا يبقى فيه إلا مصلٍّ أو ذاكر لله تعالى، وقد كان السلف يستعظمون يسير الحديث في الدين ودقائق البدع في الإسلام لعظم الإيمان والسنّة في قلوبهم ولمعرفتهم بحقيقة المعروف، قال عبد الله بن مغفل لابنه وقد سمعه يقرأ خلف الإمام: يا بني إياك والحدث إياك والحدث، وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لابنه عمر وقد سمعه(1/285)
يسجع في كلامه: هذا الذي يبغضك إليّ لا قضيت حاجتك أبداً، وكان قد جاءه يسأله حاجة له، وقال عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أتي امرؤ شراً من طلاقة في لسانه، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن رواحة حين سجع سمعه فوالى بين ثلاث وقال: إياك والسجع يا ابن رواحة، فكان السجع ما زاد على كلمتين، وكذلك قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرجل الذي أمره بديّة الجنين، لما قال كيف ندي من لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل فمثل هذا بطل، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أسجع كسجع الأعراب.
وروينا أن مروان لما أحدث المنبر في صلاة العيد عند المصلّى قام إليه أبو سعيد الخدري فقال: يا مروان ما هذه البدعة فقال: إنها ليست بدعة هي خير مما تعلم، إن الناس قد كثروا فأردت أن يبلغهم الصوت، قال أبو سعيد رضي الله عنه: ولا تأتون بخير مما أعلم أبداً والله لاصليت وراءك اليوم، فانصرف ولم يصلِّ معه صلاة العيد، فالخطبة على منبر في صلاة العيد وخطبة الاستسقاء بدعة، وكان عليه السلام يخطب فيهما على الأرض متوكئاً على قوس أو عصا، وروي أن عمر رضي الله عنه أخّر صلاة المغرب ليلة حتى طلع نجم فأعتق رقبة، وفعله عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أيضاً فأعتق رقبة استناناً بعمر وهو جده لأمه.
وروينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أخّر صلاة المغرب حتى طلع كوكبان فأعتق رقبتين وفي الخبر: لا تزال أمتي على مسكة من دينها ما لم يؤخروا صلاة المغرب إلى اشتباك النجوم تشبهاً باليهودية ولم يؤخووا صلاة الصبح إلى افتراق النجوم تشبهاً بالنصرانية، وقال سفيان الثوري رحمه الله ويوسف بن أسباط: لا تقّلد دينك من لا دين له، وقال وكيع: لأن أزني أحبّ إليّ من أن أسأل مبتدعاً عن ديني، وكان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى قد أكثر عن عبيد الله بن موسى العبسي ثم بلغه عنه أدنى بدعة قيل إنه كان يقدم علياً على عثمان، وقيل: بل ذكر معاوية بسوء، فانصرف أحمد ومزّق جميع ما حمل عنه ولم يحدث عنه شيئاً، وقيل له مرة: يا أبا عبد الله أوكيع أشبه بالسلف أم عبيد الله فقال: وكيع وإن زنى، وحدثونا عن إبراهيم الحربي قال: كتبت عن علي بن المديني رضي الله عنه جملاً لله تعالى على أن لا أحدث عنه بحرف، قيل: ولم يا أبا إسحاق فذكرصلاته خلف مبتدع وكان رحمه الله تعالى يقول: صحبت الفقهاء وأصحاب الحديث وأهل العربية واللغة سبعين سنة ما سمعت هذه المسائل التي أحدثت في هذا الوقت من أحد منهم قط يعني الاسم والمسّمى ونحو ذلك، وقال: وأخرج على من كان من أهل الكلام والجدل أن يحضر مجلسي أو يسألني عن شيء فإنه لا علم لي بالكلام ولا أنا أحسنه ولا أقول بأهله، ولو عرفت أحداً منهم ما كلمته ولا أجبته عن شيء، وهجر الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى أبا ثور صاحب الشافعي لما سئل عن(1/286)
معنى قول النبي: إن الله تعالى خلق آدم على صورته قال: إن الهاء عائدة على آدم فغضب وقال: ويله وأي صورة كانت لآدم يخلقه عليها؟ ويله يقول إن الله تعالى خلق على مثال فأي شيء يعمل في الحديث المفسر إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن، فبلغ ذلك أبا ثور فجاءه واعتذر وحلف أنه ما قلت عن اعتقاد وإنما هو رأي رأيته والقول ما قلت وهو مذهبي، وهجر أيضاً حارثاً المحاسبي رحمه الله تعالى في رده على المبتدعة وكان من أهل السنة فقال: أين ترد عليهم وقد حكيت قولهم وأيضاً فإنك تحملهم على التفكر والرأي فيما قلت فيكون سبباً لردّ الحق بالباطل، وهجر أيضاً يحيى بن معين في كلمة تكلم بها وهو قوله: لو أعطاني الشيطان شيئاً أخذته، وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: ليس من السنّة أن تجادل عن السنّة ولكن تخبر بها فإن قبل منك وإلا فاسكت، وقيل لعبد الرحمن بن مهدي رضي الله عنه: إن فلاناً يردّ على المبتدعة فقال: بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: لا بل بالمعقول قال بئسما صنع ردّ بدعة ببدعة.
وحدث زيد بن أحزم عن وهب بن جرير قال: سمعت شعبة رحمه الله تعالى يقول: أتيت الحرث العكلي فقلت: ما معنى قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا تبع أحدكم جنازة فلا يجلس حتى توضع قال: أرأيت إن جئنا ولم يحفر له ينبغي لنا أن نقوم قياماً فحيث قال لي: أرأيت تركته وروى محمود بن غيلان أيضاً عن وهب أيضاً عن شعبة قال: أتيت المنهال بن عمرو أسأله عن حديث فسمعت من منزله صوت طنبور فرجعت ولم أسأله ثم ندمت بعد ذلك فقلت: هلاّ سألته فعسى: كان لا يعلم به، ومما أحدثوا البيع والشراء على الطريق وكان الورعون لا يشترون شيئاً ممن قعد يبيعه على طريق وكذلك إخراج الرواشن من البيوت وتقديم العضايد بين يدي الحوانيت إلى الطريق مكروه، ومما كرهه أهل الورع البيع والشراء من الصبيان لأنهم لا يملكون وكلامهم غير مقبول، وحدثت عن أبي بكر المروزي أن شيخاً كان يجالس الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ذا هيبة فكان أحمد يقبل عليه ويكرمه فبلغه عنه أنه طين حائط داره من خارج قال: فأعرض عنه في المجلس فاستنكر الشيخ ذلك فقال: يا أبا عبد الله هل بلغك عني حدث أحدثته؟ قال: نعم طينت حائطك من خارج قال: ولا يجوز قال: لا لأنك قد أخذت من طريق المسلمين أنملة قال: فكيف أصنع؟ قال: إما أن تكشط ما طينته وإما أن تهدم الحائط وتواخره إلى وراء مقدار أصبع ثم تطينه من خارج قال: فهدم الرجل الحائط وأخّره أصبعاً ثم طينه من خارج قال: فأقبل عليه أبو عبد الله كما كان، ومما كرهه السلف طرح السنّور والدابة على المزابل في الطرقات فيتأذى المسلمون بروائح ذلك، وكان شريح وغيره إذا مات لهم سنّور دفنوها في دورهم ومثله إخراج الميازيب وصيها إلى الطرقات، وكان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وأهل الورع(1/287)
يجعلون ميازييهم إلى داخل دورهم، وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: كان أحدهم يكذب مرتين ولا يشعر يقول: لا شيء إلا شيء ليس بشيء يعني قول الناس للشيء اليسير الذي لا يوصف بكثير لا شيء فاستعظم هذا ورآه كذباً مرتين.
وروينا عن عمر رضي الله عنه: إنه قال لعوانه: كنت أرثي لك من العمى فصرت الآن غبطك به قال وكيف؟ قال: صرت لا ترى أبا الصغري بعينيك مبتدع كان بالمدينة، وقيل لقتادة: تود لو أنك بصير؟ فقال: لا على من كنت أفتح عيني بل لو كان في وقت أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كنت أنظر إليهم، وحدثونا عن الفضل بن مهران قال: قلت ليحيى بن معين: أخ لي يقعد إلى القصّاص فقال: انهه فقلت: لا يقبل قال عظه قلت: لا يقبل أأهجره؟ قال: نعم قال: فأتيت الإمام أحمد بن حنبل فذكرت له نحو ذلك فقال: قل له يقرأ في المصحف ويذكر الله تعالى في نفسه ويطلب حديث رسول الله لله قلت: فإن لم يفعل قال: بلى إن شاء الله تعالى فإن هذا الاجتماع محدث قلت: فإن لم يقبل أأهجره؟ فتبسم وسكت، وسأل رجل بشر بن الحارث رحمه الله تعالى عن مسألة من علم القلوب فتوقف ثم أجابه ثم سأله مسألة أخرى من علم المعاملات فسكت ونظر إليه ثم قال: من تجالس من الناس فقال: منصور بن عمار وابن السماك فقال: ألا تستحي تسألنا عن علم القلوب ثم تجالس القصّاص؟ قال: وأعرض عنه حتى قلنا له: يا أبا نصر إنه لا بأس به، إنه من أهل السنّة وقد كانوا يكرهون الصلاة في المقصورة ويرونها أنها أول بدعة أحدثت في المساجد ويكرهون تزويق المساجد وكذا القبلة بالزخرف وتحلية المصاحف وهذا من البدع، وفي الخبر: إذا ما زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدبار عليكم وقد كانوا يكرهون كثرة المساجد في المحلة الواحدة.
روي أن أنس بن مالك رضي الله عنهما لما دخل البصرة جعل كلما خطا خطوتين رأى مسجداً فقال: ما هذه البدعة؟ لما كثرت المساجد قلّ المصلون، أشهد لقد كانت القبيلة بأسرها ليس فيها إلا مسجد واحد، وكان أهل القبائل يتبانون المسجد الواحد في الحي من الأحياء واختلفوا في أيهما يصلّي إذا اتفق مسجدان في محلة، فمنهم من قال في أقدمهما وإليه ذهب أنس بن مالك وغيره من الصحابة، قال: وكانوا يجاوزون المساجد المحدثة إلى المساجد العتق، وكان الحسن يقول: يصلي في أقربهما منه ويقال: أول ما حدث من البدع أربع: الموائد، والمناخل، والأشنان، والشبع، وكانوا يكرهون أن تكون أواني البيت غير الخزف ولا يتوضأ أهل الورع في آنية الصفر والنحاس، قال الجنيد: قال لي سري السقطي: اجتهد أن لا تستعمل من آنية بيتك إلا جنسك يعني من الطين، ويقال: لا حساب عليه، ومما كرهه السلف تشييد البناء بالجص والآخر، يقال: أول من طبخ الطين هامان أمره به فرعون، ويقال: هو بناء الجبابرة،(1/288)
وكرهوا النقوش والتزويق في السقوف والأبواب، وكانوا يغضون من النظر إلى ذلك وغاب الأحنف بن قيس غيبة فرجع وقد خضّروا سقف بيته وصفّروه فلما نظر إليه خرج من منزله وحلف أن لا يدخله حتى يقلعوا ذلك منه ويعيدوه كما كان، وقال يحيى بن معاذ من أصحاب الثوري رحمه الله: كنت أمشي مع الثوري في طريق فمررنا بباب منقوش مزوّق فنظرت إليه فجذبني سفيان حتى جزت فقلت: ما تكره من النظر إلى هذا؟ فقال: إنما بنوه لينظر إليه ولو كان كل من مرّ به لا ينظر إليه ما بنوه، فكأنه خشي أن يكون بنظره إليه معاوناً له على بنائه، ومما أحدث الناس مما كانوا يكرهونه الثياب الرقاق مثل القصب ورقيق بز مصر للنساء والرجال وهو للنساء أكره وأغلظ وكانوا يقولون: الثياب الرقاق لباس الفساق ومن رق ثوبه رق دينه ويقولون أول النسك الزي.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه لا يشبه الزي الزي حتى يشبه القلب القلب، وخطب بشر بن مروان وعليه ثوب رقيق فجعل رافع بن خديج رضي الله عنه يهزأ به ويقول: انظروا إلى أميركم يعظ الناس وعليه ثياب الفسّاق، ولما جاء عبد الله بن عامر بن ربيعة في بزته إلى أبي ذر رضي الله عنه وسأله عن الزهد وأخذ يتكلم فيه فجعل أبو ذر يضرط به في كفه ثم أعرض عنه ولم يكلمه، فغضب ابن عامر وكان قرشياً شريفاً وشكاه إلى ابن عمر رضي الله عنهما فقال له: أنت فعلت نفسك تأني أبا ذر في هذه الثياب وتسأله عن الزهد، وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقد وصف نساء يكن في آخر الزمان فقال: كاسيات عاريات مائلات مميلات على رؤوسهن أمثال أسنمة البقر يعني المعاجر والأكوار لا يجدن رائحة الجنة، كان ابن عباس يفسر التبرّج أنه منه لبس ما رقّ من الثياب وقال في قوله تعالى: (ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجََاهِلِيَّةِ الأُولى) الأحزاب: 33، قال: كانت المرأة تلبس ثياباً قيمتها كذا وكذا لا توارى لها عورة مما لا يجوز فيه الصلاة لأنه يصف أو يشف فمكروه لبسه وإنما كانت ثياب السلف السنبلاني والقطواني وعصب اليمن ومعافري مصر والقباي مثل كسوة الكعبة والثياب السحولية اليمانية والكرابيس الحضرمية، وهذه كلها غلاظ كثيفة، وكانت الأثمان من خمسة دراهم إلى ثلاثين درهماً وما بين ذلك، ثم أحدث الناس الثياب الرقاق من كتان مصر وقطن خراسان، وكان طول مئزر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعة أذرع ونصفاً وثمنه إلى الأربعة والخمسة، وكانت أثمان ثيابهم القمص من الخمسة إلى العشرة فيما بينهما من الثمن، ولكن قد جاء في الخبر: لا تقوم الساعة حتى يصير المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وكان ابن عاس رضي الله عنهما يقول: لا يأتي على الناس عام إلا أماتوا فيه سنّة وأحيوا فيه بدعة حتى تموت السنن وتحيا البدع وإنما قيل منكر لأنه لا يعرف، فإذا خفي الحق فلم يعرف وقع عليه اسم منكر، وكذلك قيل معروف لأنه مشهور مألوف، فإذا فشا الباطل وكثر الجهل حتى ألف وعرف وقع عليه اسم المعروف، وكذلك(1/289)
قيل: يكثر الجور حتى يولد فيه من لا يعرف العدل.
وكان الشعبي رحمه الله يقول: يأتي على الناس زمان يصلون فيه على الحجاج وهذا قد أتى منذ زمان لأن الحجاج قد ابتدع أشياء أنكرها الناس عليه في زمانه هي اليوم سنن معروفة وأعمال مستحسنة يترحم الناس ويغبطن من أحدثها ويحسبون أنه مأجور عليها مشكور له سعيه فيها إلا أنهم لا يعرفون أنه أحدثها فهم وإن لم يفوهوا بالصلاة عليه قولاً فإن استعمالهم لما أحدث واستحسانهم لما ابتدع ترحم منهم عليه، والترحم هو الصلاة، وأيضاً فإنه ابتدع أشياء من الخير وداخله في أبواب الآخرة ثم ظهرت ولاة بعده أحدثوا احداثاً من الجور وابتدعوا بدعاً من الفسوق فصارت سنناً بعدهم فوجب بذلك الصلاة على الحجاج إلى جنب ما أظهر بعده فممّا أحدث هذه المحامل والقباب التي خالف بها هدي السلف بالتنعم والرفاهية وإنما كان الناس يخرجون على الرواحل والزوامل فيضحون للشمس وينصبون في سبيل الله تعالى ويشعثون ويغبرون ويقل أكلهم ونومهم وتكثر رفاهة الإبل وتقل المشقة والحمل عليها فيكون ذلك أثوب لهم وأزكى لحجهم وأدنى إلى السلامة لإبلهم، ويوافقون به سنّة نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخرجهم من جميع ذلك بما أدخلهم فيه من بدعته فصاروا يخرجون في بيوت ظليلة مع الحمل على الإبل ما لا تطيق فيكون سبب تلفها فيشركونه فيه ويشركهم بسنته.
وابتدع أيضاً هذه الأخماس والعواشر ورؤوس الآي وحمر السواد وخضره وصفره فأدخل في المصحف ما ليس فيه من الزخرف وكان السلف يقولون: جرّدوا القرآن كما أنزله الله تعالى ولا تخلطوا به غيره، فأنكر العلماء ذلك عليه حتى قال أبو رزين: يأتي على الناس زمان ينشأ فيه نشء يحسبون أن ما أحدث الحجاج في المصاحف هكذا أنزله الله تعالى يذمه بذلك وحتى نقل الاختلاف وأن بعضهم كان لا يقرأ في مصحف منقوط بحمرة لأن بعضهم كان لا يرى القراءة في مصحف منقوط كما نقل أن بعضهم كان يرى شراء المصحف ويكره بيعه أي: وكذلك إذا لم تنقطه أنت فلا بأس أن تقرأ فيما نقطه غيرك، وقد كانوا يكرهون أخذ الأجر على تنقيط القرآن لأجل أنه مبتدع، وقال أبو بكر الهذلي: سألت الحسن رحمه الله عن تنقيط المصاحف بالأجر قال: وما تنقيطها قلت: يعربون الكلم بالعربية فقال: أما إعراب القرآن فلا بأس به، وقال خالد الحذاء: دخلت على ابن سيرين فرأيته يقرأ في مصحف منقوط وقد كان يكره النقط، وقال فراس بن يحيى: وجدت ورقاً منقوطاً بالنحو في سجن الحجاج فعجبت منه وكان أول نقط رأيته فأتيت به الشعبي فأخبرته فقال لي: اقرأ عليه ولا تنقطه أنت بيدك، ومنها أنه جمع من القراء ثلاثين رجلاً فكانوا يعدون حروف المصحف ويعدون كلمه شهراً، ولو رآهم عمر أو عثمان أو علي يصنعون هذا بالقرآن أي يعدون حروفه وكمله لأوجع رؤوسهم ضرباً وهذا(1/290)
الذي كرهته الصحابة ووصفوا به قراء آخر الزمان أنهم يحفظون حروفه ويضيعون حدوده وكان الحجاج أقرأ القراء وأحفظهم لحروف القرآن كان يختم القرآن في كل ثلاث وكان أضيع الناس لحدوده، ومنها أنه ابتدع إخراج الحصى والرمل من المساجد وفرشها بالبواري، كما روى أن قتادة سجد فدخلت في عينه قصبة وكان ضريراً فقال لعن الله الحجاج ابتدع هذه البواري يؤذي بها المصلين وقد كانوا يستحبون السجود على الأرض والتراب تواضعاً لله تعالى وتخشعاً وذلاً إلى غير ذلك من بدعه التي لم نقصد تعديدها عليه ولا جمعها فهي اليوم سنن معروفة وشرائع مألوفة مع ما أحدث غيره مما يكثر عدده منكر كله عند من عرف المعرو ف من سيرة المتقدمين وشمائل الصالحين.
وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: يظهر المنكر والبدع حتى إذا غيّر منها شيء قيل غيّرت السنّة وقال في آخر حديثه: أكيسهم في ذلك الزمان الذي يروغ بدينه روغان الثعالب، وقد كان أنس بن مالك رضي الله عنه في سنة ثمانين وأيام الحجاج يقول: ما أعرف اليوم شيئاً كان على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا قد غيّر إلا شهادة أن لا إله إلا الله قيل: فالصلاة يا أبا حمزة قال: أوليس قد أحدثوا في الصلاة ما علمتم يعني تأخيرها والتثويب قبلها وتعين السلام حتى أنهم يضاهون به الإقامة فجعلوه كالسنّة، وكان يقول للقراء إذا دخلو عليه مثل يزيد الرقاشي وزيد النميري وفرقد السنجي: ما أشبهكم بأصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيفرحون فيقول نعم رؤسكم ولحاكم فهذا كما قال المجنون:
أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائه
وعن جماعة من الصحابة: لو نشر أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورأوكم لما عرفوا شيئاً مما أنتم عليه الآن إلا الصلاة في جماعة، وفي لفظ آخر: إلا أنكم تصلّون جميعاً، وكان الحسن يقول: صحبت طوائف لو رأيتموهم لقلتم مجانين ولو رأوا خياركم لقالوا ما لهؤلاء من خلاق، وقال أبو حازم: أدركت القرّاء وهم القرّاء حقاً ولو كان حامل القرآن في مائة رجل لعرف بشدة تواضعه وحسن سمته وخشوعه وقد وقره القرآن في سمته وقد خضعه القرآن وأخشعه، فأما هؤلاء فو الله ما هم بالقرّاء ولكنهم الجراء، وقد قال بعضهم: كنا نشهد الجنازة فلا نعرف صاحب المصيبة ولا ندري من نعزي من شدة حزن القوم قال: وكان أحدهم يبقى بعد شهود الجنازة ثلاثاً لا ينتفع به، وكان الفضيل رحمه الله يحذّر من قرّاء زمانه فقال: إياك وصحبة هؤلاء القرّاء فإنك إن خالفتهم في شيء كفروك، وقال سفيان الثوري رحمه الله ما شيء أحبّ إليّ من صحبة فتى ولا شيء أبغض إليّ من صحبة قارئ، وكان كثيراً يقول: من لم يحسن يتغنّى لم يحسن يتقرّى،(1/291)
وكان بشر بن الحارث يقول: لأن أصحب فتى أحبّ إليّ من أن أصحب قارئاً فإياك وصحبة القرّاء فإنهم يذمّون غير مذموم وإن تركت الصلاة معهم في جماعة تشاهدوا عليك، كل ذلك لأنهم يجاوزون الحد في الشيء ويسرعون الإنكار إلى كل شيء لغلبة الجهل عليهم وقلة مجالستهم للعلماء ومعاناتهم للعلم وإنهم موصوفون بدقائق الرياء والتصنع للعامة فينكرون غير منكر ويتعصبون بالبغضة والهجر في الشيء اليسير الذي قد يغتفر مثله وهم غير موصوفين بمحاسن الأخلاق ولا موسومين بالبشاشة والانطلاق إذ فيهم كزازة وتغليظ على الناس ولزازة وحنق على الأغنياء حتى كأنهم يأكلون أرزاقهم وكأنهم يعملون العبادة لهم وفيهم كثرة مقت لأهل البشر والطلاقة، فلذلك قال بعضهم: الشريف إذا تقرّى تواضع والوضيع إن تقرّى تكبر، وقال آخر السفلة: إذا تقرّى أكثر الأمر بالمعروف واعترض على جيرانه في كل شيء يعني أكثر الأمر بالمعروف ليعرف به، فمن أجل ذلك رفضهم العلماء وذمّهم الحكماء لأن العلم يبسط ويوسع وتكون معه الأخلاق الحسنة والآداب والمروءات الواسعة والعالم يضع الأشياء في مواضعها من الناس ولا يجاوز بها ولا بهم المقادير ويستخرج لهم المعاذير، ومن صفة العلماء الانقباض في بسط خلق، وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله الانقباض على الناس مكسبة لعداوتهم فكن بين المنقبض والمنبسط.
وفي الخبر: إنكم لا تسعون الناس بأموالكم فليسعهم منكم وجه طلق وخلق حسن، وفي لفظ آخر: وبشر وبشاشة وهذا كله معدوم من القرّاء ولا يعرفونه، وقد جعل الله تعالى لكل شيء قدراً فمن تعدّى حدّ الشيء فقد أفسده، وقال بعض السلف: قليل التواضع يكفي من كثير العمل وقليل الورع يكفي من كثير العلم، ومن أخلاق السلف مما تهاون به الخلف أنهم كانوا يعدّون من النفاق أن يتكلم الرجل فيمن يكلمه أو يكلم من تكلم فيه لأنهم كانوا إذا كلموا أحداً أو سلّموا عليه سلمت له قلوبهم ولم يتكلّموا فيه وإذا تكلّموا في أحد لبدعته أو ظهور فسقه لم يكلموه وكانوا إذا مدحوا أحداً بقول لم يذمّوه بفعل وإذا ذمّوا واحداً يفعل يمدحوه بقول لأن في ذلك لسانين واختلاف وجهين واختلاف سرّ وعلانيّة وكانوا يقولون معنى سلام عليك إذا لقيته أي سلمت مني أن أغتابك وأذمك فكان اختلاف هذا عندهم من أبواب النفاق.
وروينا عن رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شرّ الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه وفي حديث آخر: من كان ذا لسانين في الدنيا جعل اللّّه له يوم القيامة لسانين من نار، وكان بعضهم يقول: ما ذكر عندي إنسان قط إلا مثلته جالساً فقلت في غيبته بما يجب أن يسمع، وقال آخر: ما ذكر عندي رجل إلا تصوّرت في نفسي مثاله فكل ما أحب أن يقال لي قلته له، وقال بعض السلف: قليل التواضع يكفي عن كثير العمل وقليل الورع يكفي عن كثير العلم، فهذه كانت صفات المسلمين الذي يسلم الناس على أيديهم(1/292)
وقلوبهم، كان أحدهم إذا ذكر عنده غيره بسوء وقف وتفكّر في شأن نفسه فإن كان فيه مثل ذلك السوء قطعه الحياء عن الكلام في أخيه فسكت وإن لم يكن ذلك فيه حمد الله عزّ وجلّ ورحم أخاه فشغله الشكر لمولاه إذ عافاه، فهذه كانت سيرة السلف، ويقال في بعض كتب الله تعالى: عجباً لمن قيل فيه الخير وليس فيه كيف يفرح ولمن قيل فيه الشر وهو فيه كيف يغضب، وأعجب من ذلك من أحبّ نفسه على اليقين وأبغض الناس على الشك، ومن طريقة السلف مما كانوا يشدّدون فيه حب المدح وطلب الحمد حتى قال بعضهم: من أحب المدح وكره الذم فهو منافق، وقال عمر رضي الله عنه لرجل: من سيّد قومك؟ قال: أنا، قال: لو كنت كذلك لم تقل، وكتب محمد بن كعب فانتسب فقال القرظي قيل له: قل الأنصاري قال أكره أن أمنّ على الله عزّ وجلّ بما لم أفعل، وقال الثوري رضي اللّّه عنه: إذا قيل لك بئس الرجل أنت تغضب فأنت بئس الرجل، وقال آخر: لا يزال فيك خير ما لم ترَ أن فيك خيراً، وسئل بعض العلماء: ما علامة النفاق؟ قال: الذي إذا مدح بما ليس فيه ارتاح لذلك قلبه، وكان سفيان رضي اللّّه عنه يقول: إذا رأيت الرجل يحب أن يحبه الناس كلهم ويكره أن يذكره أحد بسوء فاعلم أنه منافق فهذا داخل في وصف الله تعالى المنافقين بقوله تعالى: (سَتَجِدُونَ آخَرينَ يُريدُونَ أنْ يَأمَنُوكُمْ وَيَأمَنُوا قَوْمَهُم) النساء: 91، فينبغي لمن أمن في أهل السنة أن يخاف في أهل البدع وهذا مما دخل على القرّاء الذي ذمّهم العلماء مداخل الليل في النهار ولعل مغروراً جاهلاً يتأوّل الحديث الذي جاء إذا مدح المؤمن ربا الإيمان في قلبه على غير تأويله ويحمله على غير محمله فإنما قال ربا الإيمان ولم يقل ربا المؤمن فربّو الإيمان زيادته وزيادته بالخوف والإشفاق من المكر به والاستدراج وفيه طريق للعارفين بأن يعلو الإيمان العلي إلى المومن الأعلى فيفرح بذلك لمولاه ويضيفه إلى سيده الذي به تولاّه فيردّ الصنعة إلى صانعها ويشهد في الفطرة فاطرها فيكون ذلك مدحاً للصانع ووصفاً للفاطر لا ينظر إلى نفسه لا يعجب بوصفه وهذه طرقات قد درست وانقطع سلاكها إلا من رحم ربك.
باب تفضيل علم الإيمان واليقين
على سائر العلوم والتحذير من الزلل فيه ووبيان ما ذكرناه:
اعلم أن كلّ علم من العلوم قد يتأتى حفظه ونشره لمنافق أو مبتدع أو مشرك إذا رغب فيه وحرص عليه لأنه نتيجة الذهن وثمرة العقل إلا علم الإيمان واليقين فإنه لا يتأتى ظهور مشاهدته والكلام في حقائقه إلا لمؤمن موقن من قبل أن ذلك تقرير مزيد الإيمان وحقيقة العلم والإيمان، فهو آيات الله تعالى وعهده عن مكاشفة قدرته وعظمته(1/293)
وآيات الله تعالى لا تكون للفاسقين وعهده لا ينال الظالمين وعظمته وقدرته لا تكون شهادة للزائغين ولا وجد للمبطلين إذ في ذلك توهين لآيات اللّّه وحججه وانتقاص لبراهينه وقدرته ودخول الشك في اليقين الذي هو محجة المخلصين والذين هم بقية الله من عباده واشتباه الباطل بالحق الذي هو وصف أهل الصدق الذين هم أدلته عليه من أهل وداده وهذا من أدل دليل على فضل علم المعرفة على غيره قال اللّّه عزّ وجلّ: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَني إسْرَائيلَ) الشعراء: 197، وقال تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ في صُدُورِ الَّذين أُوتُوا الْعلِْمَ) العنكبوت: 49، وقال سبحانه وتعالى: (إِنَّ في ذلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمينَ) الحجر: 75، وقال: (قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُون) ، البقرة: 118وقال عزّ وجل: (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ، الأنعام: 105 فهؤلاء العلماء بالله تعالى الناطقون عن اللّّه عزّ وجلّ جعل لهم أنصبة منه ومكاناً عنده، ولا يكون ذلك لمن ليس أهلاً له ولا حقيقاً به لأنهم آيات الله تعالى وبيناته وشهوده وبصائره كاشفو طريقه ومظهرو بيانه إذ يقول تعالى: (ثُمَّ إنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) القيامة: 19، ثم قال تعالى: (خلَقَ الإنسانَ) (عَلَّمَهُ الْبيانَ) الرحمن: 3 - 4 بعد قوله: (وكانَ حقَّاً عَلَيْنا نصْرُ الْمُؤْمنين) الروم: 47، مع قوله تعالى: (وكانُوا أحَقَّ بها وأَهْلها) الفتح: 26 فنصروه بما نصرهم به وتحققوا بما حققهم منه وشهدوا له ما شهد لهم عنه فكانوا للمتقين إماماً وإلى الهداية أعلاماً.
وقال بعض أهل المعرفة: من لم تكن له مشاهدة من هذا العلم لم يعر من شرك أو نفاق لأنه عار من علم اليقين ومن عري من اليقين وجد فيه دقائق الشك، وقال بعض العارفين: من لم يكن له نصيب من هذا العلم أخاف عليه سوء الخاتمة وأدنى النصيب منه التصديق به وتسليمه لأهله وقال آخر من كان فيه خصلتان لم يفتح له من هذا العلم شيء بدعة أو كبر، وقال طائفة من أهله: من كان محباً للدنيا أو مصراً على هوى لم يتحقق به، وقال أبو محمد سهل: أقل عقوبة من أنكر هذا العلم أن لا يرزق منه شيء أبداً، واتفقوا على أنه علم الصديقين وأن من كان له منه نصيب فهو من المقربين وينال درجة أصحاب اليمين، وأعلم أن علم التوحيد ومعرفة الصفات مباين لسائر العلوم، فالاختلاف في سائر العلوم الظاهرة رحمة والاختلاف في علم التوحيد ضلال وبدعة والخطأ في علم الظاهر مغفور وربما كانت حسنة إذا اجتهد والخطأ في علم التوحيد وشهادة اليقين كفر من قبل أن العباد لم يكلفوا حقيقة العلم عند الله تعالى في طلب العلم الظاهر وعليهم واجب طلب موافقة الحقيقة عند الله في التوحيد ومن ابتدع شيئاً ردت عليه بدعته وكان مسؤولاً عنه ولم يكن حجة لله تعالى على عباده ولا غيثاً نافعاً في بلاده بل كان موصوفاً بالدنيا وفيها من الراغبين ولم يكن دليلاً على الله عزّ وجلّ ولا من دعاة الدين ولا إماماً للمتقين، وقد جاء في الخبر: العلماء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا فإذا دخلوا في الدنيا فاحذروهم على دينكم، والخبر المشهور: من أحدث في ديننا ما ليس فيه فهو ردّ.(1/294)
وقد روينا عن عيسى عليه السلام وقيل له: من أشد الناس فتنة فقال: زلة عالم إذا زلّ بزلته عالم، وقد روينا معناه عن نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مما أخاف على أمتي زلة عالم وجدال منافق في القرآن، وكان بعض السلف يقول: مثل العالم إذا زل مثل سفينة إذا غرقت غرق معها خلق كثير ومثل كسوف الشمس يصيح الناس يا غافلون الصلاة وإنها عند العامة آية يفزع منها.
ويروى في خبر غريب: من غشّ أمتي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين قيل: يا رسول وما غشّ أمتك؟ قال: أن يبتدع بدعة في الإسلام يحمل الناس عليها، وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول ويل للعالم من الأتباع وويل للأتباع من العالم يزل العالم بزلة فيتبعه عليها فئام من الناس وتبلغ الآفاق وما أعلم أحداً أعظم جرماً ممن ابتدع في دين الله عزّ وجلّ فنطق في كتاب الله تعالى وفي علم المعرفة بما لم يأذن به الله ثم لم يعبأ بسنن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو حجة الله تعالى على جميع خلقه وطريق مقربيه من عباده فأضل بذلك عباد الله عزّ وجلّ فإن مثل من ابتدع في الدين واتخذ وليجة دون الكتاب والسنّة وبين طريق المؤمنين إلى جنب من يكاثر في أمور الدنيا وارتكب فيها شهوات الأهواء كمثل من اجترح المظالم بين الناس في الأموال والدماء إلى جنب من ظلم نفسه بكسب الذنوب بينه وبين ربه، إن مظالم العباد أعظم وهو الديوان الذي لا يترك، كذلك التمويه في الدين أعظم لأنه مظالم الآخرة وقطع طرقات المؤمنين ومحو شريعة المرسلين، ومثله أيضاً مثل من أذنب وجحد ذنبه واحتج لنفسه إلى من أذنب واعترف بذنبه واعتذر من نفسه فهو أقرب للعفو وأرجى للرحمة من الآخر، كذلك من اعتلّ بالتقصير والتفريط في العمل ولم ينصح لنفسه إلا أنه أظهر حقيقة العلم ونصح لله تعالى ولرسوله ببيان كتابه وذكر سنته أقرب إلى حسن الإخلاص وأولى بالتدارك في العافية ممن شرع في دين الله تعالى وابتدع في الأمة ما يخالف به الكتاب والسنّة، هكذا كأنه قد قلب ملة وبدل شريعة، فهذا يولد النفاق في قلبه حتى يختم له به ومثل من ابتدع في الملة مخالفاً للسّنة إلى من أساء إلى نفسه بالذنوب مثل من عصى الملك في قلب دولته وتظاهر عليه في ملكه بالإزالة إلى جنب من عصى أمره وقصر في حقه من الرعية، وقد قال بعض الحكماء: ثلاث لا يحسن من الملك أن يغفرها، من قلب دولة من رعيته، أو عمل فيما يوهن الملك، أو أفسد حرمة من حرمه.
وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن لله تعالى ملكاً ينادي كل يوم من خالف سنّة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم تنله شفاعته، وقال علي كرّم الله وجهه: الهوى شريك العمى، وقال الله تعالى: (وَمَنْ أصْدَقُ مِنَ الله) النساء: 87 قيلاً ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضلّ الناس بغير علم، ثم قال تعالى: (أوْ قَالَ أُوحِيَ إليَّ وَلمْ يُوحَ إليْهِ شَيْءٌ ومنْ قالَ سأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزلَ الله) الأنعام: 93 فسوّى بين الكذاب في العزية على الله تعالى وبين المتشبه المضاهي للربوبية،(1/295)
وكذلك من أعظم المنكر بعد هذا إنكار الحق من أهله وردّه عليهم بالتكذيب، وقد سوّى تعالى أيضاً بين التكذيب بالحق وبين ابتداء الكذب على الخالق في قوله عزّ وجلّ: (ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى على الله كَذِباً أوْ كَذَّبَ بِالْحقِّ لَمَّا جَاءَهُ) العنكبوت: 68، وقال تعالى في مثله: (فَمَنْ أظْلمُ مِمَّنْ كذبَ على الله وكذَّبَ بِالصدْقِ إذْ جاءَهُ) الزمر: 32 كذلك أيضاً في ضده سوّى كما سوّى عزّ وجل بين الصادق بالصدق والمصدق به فقال تعالى: (والَّذي جاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بهِ أُولئكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) الزمر: 33
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: العالم والمتعلم شريكان في العلم، وقال عيسى عليه السلام بمعناه: المستمع شريك القائل ولكن الله تعالى قد جعل هذه الطائفة من أهل العلم بالله تعالى ترد على جميع الطوائف من الشاطحين والمبتدعين أهل الجهالة بالدين والحيدة عن سبيل المؤمنين بما أراهم الله تعالى من علم اليقين وبما شهد لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعلم والتعديل في قوله: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فالغالون هم الشاطحون لأنهم قد جاوزوا العلم ومحوا الرسم فأسقطوا الحكم، والمبطلون هم المدّعون المبتدعون لأنهم جادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق وافتروا بالدعوى وابتدعوا بالرأي والهوى، والجاهلون هم المنكرون لغرائب العلم المفترون لما عرفوا من ظاهر العقل، كما روينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله عزّ وجلّ، فإذا نطقوا به لم يجهله إلا أهل الإغترار بالله تعالى: ولا تحقروا عالماً آتاه الله تعالى علماً فإن الله عزّ وجلّ لم يحقره إذ أتاه وكل من تأول السنن بالرأي أو المعقول أو نطق بما لم يسبق إليه السلف من القول أو بمعناه فهو متكلف مبطل، فأهل العلم بالله تعالى يردّون علوم المعقول بعلم اليقين وعلم الرأي بعلم السنة يثبتون أهل الآثار ويؤيدون نقلة الأخبار بما يفصلون من أخبارهم ويفسرون من حديثهم مما لم يجعل للنقلة طريق إليه ولم يهتد الرواة إلى كشف منه بما أشهدهم الله عزّ وجلّ واستودعهم ونوّر به قلوبهم ونطقهم فهم ينطقون عن الله سبحانه وتعالى فيما يخبرون عنه، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون.
وقد قال بعض العلماء: ما تكلّم فيه السلف فالسكوت عنه جفاء وما سكت عنه السلف فالكلام فيه تكلف وقال آخر: الحق ثقيل من جاوزه ظلم ومن قصر عنه عجز ومن وقف معه اكتفى وقال علي رضي الله عنه عليكم بالنمط الأوسط الذي يرجع إليه العالي ويرتفع عنه القالي وهكذا سيرة السلف إنه لا يستمع إلى مبتدع لأنه منكر ولا يرد عليه بالجدال والنظر لأنه بدعة، ولكن يخبر بالسنن ويحتج بالأثر فإن قيل فهو أخوك في الله عزّ وجلّ ووجبت عليك موالاته وإن لم يرجع وأنكر نقض بإنكاره وعرف ببدعته وحقّت عداوته وهجر في الله تعالى، وهذا طريق لا يسلكه في وقتنا هذا إلا من عرف(1/296)
فضله وطريقه السلف فيه.
وحدثت عن إبليس لعنه الله أنه بث جنوده في وقت الصحابة فرجعوا إليه محسورين فقال: ما شأنكم؟ قالوا: ما رأينا مثل هؤلاء القوم ما نصيب منهم شيئاً قد أتعبونا فيقول: إنك لا تقدرون عليهم قد صحبوا نبيهم وشهدوا تنزيل ربهم ولكن سيأتي بعدهم قوم تنالون منهم حاجتكم، فلما جاء التابعون بث جنوده فيهم فرجعوا إليه منكسرين منكوسين، فقال: ما شأنكم، قالوا: ما رأينا أعجب من هؤلاء القوم نصيب منهم الشيء بعد الشيء من الخطايا فإذا كان من آخر النهار أخذوا في الاستغفار فتبدل سيئاتهم حسنات فقال: إنكم لن تنالوا من هؤلاء شيئاً لصحة توحيدهم واتباعهم سنّة نبيهم ولكن سيأتي بعد هؤلاء قوم تقرّ أعينكم بهم تلعبون بهم لعباً وتقودونهم بأزمة أهوائهم كيف شئتم إن استغفروا لم يغفر لهم ولا يتوبون فتبدل حسناتهم سيئات قال: فجاء قوم بعد القرن الأول فبعث فيهم الأهواء وزين لهم البدع فاستحلّوها واتخذوها ديناً لا يستغفرون منها ولا يتوبون إلى الله قال فتسلطت عليهم الأعداء وقادتهم أين شاؤوا، وقد قال ابن عباس رضي الله عنه: إن للضلالة حلاوة في قلوب أهلها.
وقد قال الله تعالى: (اتَّخذُوا ديَنَهُمْ لَعِباً وَلهْواً) الأنعام: 70، وقال تعالى: (أفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلهِ فَرَآهُ حَسَناً) فاطر: 8 كما قال تعالى: (أفمنْ كانَ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) هود: 17 فالعلم رحمك الله هو الذي كان عليه السلف الصالح المقتفي آثارهم والخلف التابع المقتدي بهديهم وهم الصحابة أهل السكينة والرضا ثم التابعون لهم بإحسان من أهل الزهد والنهي والعالم هو الذي يدعو الناس إلى مثل حاله حتى يكونوا مثله فإذا نظروا إليه زهدوا في الدنيا لزهده فيها كما كان ذو النون رحمه الله يقول: جالس من يكلمك علمه لا من يكلمك لسانه، وقد قال الحسن رضي الله عنه قبله: عظ الناس بفعلك ولا تعظهم بقولك، وقال سهل رحمه الله: العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل، وقد روينا معنى ذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قيل له: أي جلسائنا خير فقال: من ذكركم بالله تعالى رؤيته وزاد في علمكم منطقه وذكركم بالآخرة عمله، فأمّا الذي يطلب دنياهم حتى يكون مثلهم فإذا رأوه اعتبطوا بحالهم فهذا شر منهم لأنه يدعو إلى نفسه لا إلى مولاه ولأنه طامع فيهم وهم زاهدون فيه، فالعلماء الذين هم ورثة الأنبياء هم الورعون في دين الله عزّ وجلّ، الزاهدون في فضول الدنيا الناطقون بعلم اليقين والقدرة لا علم الرأي والهوى، والصامتون عن الشبهات والآراء لا يختلف هذا إلى يوم القيامة عند العلماء الشهداء على الله تعالى برأي قائل ولا بقول مبطل جاهل.
كما روي عن عبد الله بن عمر وعن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صلح أول هذه الأمة بالزهد واليقين ويهلك آخرها بالبخل والأمل، وقال يوسف بن أسباط: كتب إلى حذيفة المرعشي ما ظنك بمن قد بقي لا يجد أحداً يذكر الله تعالى معه إلا كان آثماً وكانت مذاكرته معصية وذلك(1/297)
أنه لا يجد أهله قلت ليوسف: يا أبا محمد وتعرفهم قال: لا يخفون علينا ويقال: إن الأبدال إنما انقطعوا في أطراف الأرض واستتروا عن أعين الجمهور لأنهم لا يطيقون النظر إلى علماء هذا الوقت ولا يصبرون على الاستماع لكلامهم لأنهم عندهم جهّال بالله تعالى وهم عند أنفسهم وعند الجاهلين علماء، فقد صاروا من أهل الجهل وأهل الجهل بالجهل على الوصف الذي قال سهل رحمه الله: إن من أعظم المعاصي الجهل بالجهل والنظر إلى العامة واستماع كلام أهل الغفلة أيسر عندهم لأنهم لا يعدمون ذلك حيث كانوا من أطراف الأمصار لأن العامة لا يموّهون في الدين ولا يغرون المؤمنين ولا يدّعون أنهم علماء لأنهم يتعلمون وبالجهل معترفون، فهم إلى الرحمة أقرب ومن المقت أبعد.
وكان أبو محمد أيضاً يقول: قسوة القلب بالجهل بالعلم أشد من القسوة بالمعاصي لأن الجاهل بالعلم تارك ومدّع والعاصي بالفعل مقرّ بالعلم، ويقول أيضاً: لأن العلم دواء به تصلح الأدواء فهو يزيل فساد الأعمال بالتدراك، والجهل داء يفسد الأعمال بعد صلاحها فهو يزيل الحسنات فيجعلها سيئات، فكم بين ما يصلح الفاسد وبين ما يفسد الصالحات، وقد قال الله تعالى: (إنَّ الله لا يُصْلِحُ عَملَ الْمُفْسِدينَ) يونس: 81، وقال تعالى: (إنَّا لا نُضيعُ أجْرَ الْمُصْلِحينَ) الأعراف: 170 فهذا من أدل دليل على فضل العالم المقصر على العابد المجتهد، وأعلم أن العبد إذا باين الناس في كل شيء من أحوالهم انفرد عن جمعهم ولم يألف أحداً منهم وإن باينهم في أكثر أحوالهم اعتزل عن الأكثر منهم فإن فارقهم في بعض الأحوال ووافقهم في بعض حاله خالط أهل الخير وفارق أهل الشر.
باب تفضيل الأخبار وبيان طريق الأرشاد وذكر الرخصة والسعة في النقل والرواية
جميع ما ذكرناه في هذا الكتاب من الأخبار عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم عن الصحابة وعن التابعين وتابعيهم رسمناه حفظاً وسقناه على المعنى إلا يسيراً اتفق وجوده في أيدينا وقرب تناوله منا من أخبار فيها طول فإنا نقلناها من مواضعها وما بعد علينا فلم نفقه ولم نشغل همتنا به فما كان فيه من صواب وبيان وتثبت فمن الله تعالى بحسن توفيقه وقوّة تأييده، وما كان فيه من خطأ وعجلة وهوى فمنا بالسهو والغفلة ومن عمل الشيطان بالعجلة والنسيان، كذلك رويناعن ابن مسعود رضي الله عنه في قضيته التي قضاها برأيه وقولنا لرأيه تبع.
وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: البيان والتثبت من الله عزّ وجلّ والعجلة والنسيان من الشيطان يعني بواسطته وبقلة التوفيق، ولم أعتبر ألفاظ الأخبار في أكثره ولم آل عن سياق المعنى في كله إذ ليس تحرير الألفاظ عندي واجباً إذا أتيت بالمعنى بعد أن تكون عالماً بتصريف الكلام وبتفاوت وجوه المعاني مجتنباً لما يكون به تحريف أو إحالة بين اللفظين وقد رخص في سوق الحديث على المعنى دون سياقه على اللفظ جماعة من الصحابة(1/298)
منهم: علي وابن عباس وأنس بن مالك وواثلة بن الأسقع وأبو هريرة ثم جماعة من التابعين يكثر عددهم منهم: إمام الأئمة الحسن البصري ثم الشعبي وعمرو بن دينار وإبراهيم النخعي ومجاهد وعكرمة رضي الله عنهم نقلنا ذلك عنهم في كتب سيرهم بأخبار مختلفة الألفاظ، وقال ابن سيرين: كنت أسمع الحديث من عشرة المعنى واحد والألفاظ مختلفة، ولذلك اختلف الصحابة في رواية الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمنهم من يرويه تاماً ومنهم من يجيء به مختصراً ومنهم من يرويه على المعنى وبعضهم يغاير بين اللفظتين ويراه واسعاً إذا لم يخالف المعنى ولم يحل البغية وكلهم لا يتعمد الكذب وجميعهم يقصد الصدق ومعنى ما سمع ولا يحيل البغية فلذلك وسعهم وكانوا يقولون: إنما الكذب على من تعمّده.
وقد روينا عن عمران بن مسلم قال: قال رجل للحسن: يا أبا سعيد إنك تحدث بالحديث أنت أحسن له سياقاً وأجود تحبيراً وأفصح به لساناً منا إذا حدثتنا به، فقال: إذا أصبت المعنى فلا بأس بذلك، وقد قال النضر بن شميل: كان هشام لحاناً فكسوت لكم حديثه كسوة حسنة يعني بالإعراب وكان النضر نحوياً ونحن قائلون في جميع ما رويناه أو كما قيل ونحوه وشبهه، وبمعناه كذلك قال ابن مسعود في حديثه: وكان سليمان التميمي يقوله في كل ما يحدث به وقد كان سفيان رحمه الله يقول: إذا رأيت الرجل يشدد في ألفاظ الحديث في المجلس فاعلم أنه يقول: اعرفوني قال: وجعل رجل يسأل يحيى بن سعيد القطان عن حرف في الحديث على لفظه فقال له يحيى: يا هذا ليس في أيدينا أجلّ من كتاب الله تعالى، وقد رخص بالقراءة فيه بالكلمة على سبعة أحرف فلا تشدد، وفي بعض ما رويناه مراسيل ومقاطع ومنها ما في سنده مقال وربما كان المقطوع والمرسل أصحّ من بعض المسند إذ رواه الأئمة وجار لنا رسم ذلك لمعان أحدها أنا لسنا على يقين من باطلها والثاني أن معنا حجة بذلك وهو روايتنا له وأنا قد سمعنا فإن أخطأنا الحقيقة عند الله تعالى فذلك ساقط عنا، كما قال الأسباط: وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين في قولهم: إن ابنك سرق فأخطؤوا الحقيقة عند الله تعالى إلا أنهم كانوا معذورين لوجود الدليل وهو شهادتهم للصاع مستخرج من رحل أخيهم والثالث أن الأخبار الضعاف غير مخالفة الكتاب والسنّة لا يلزمنا ردّها بل فيهما ما يدل عليها والرابع أنّا متعبدون بحسن الظن منهيون عن كثير من الظن مذمومون بظن السوء والخامس أنه لا يتوصل إلى حقيقة ذلك إلا من طريق المعاينة ولا سبيل إليها فاضطررنا إلى التقليد والتصديق بحسن الظن بالنقلة مع ما تسكن إليه قلوبنا وتلين له أبشارنا ونرى أنه حق كما جاء في الخبر وأيضاً فإنه ينبغي أن نعتقد في سلفنا المؤمنين أنهم خير منا ثم نحن لا نكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا على التابعين فكيف نظن بهم أن يكذبوا وهم فوقنا على أنه قد جاءت أحاديثاً ضعاف بأسانيد صحاح فكذلك يصلح أن نورد أحاديث صحاحاً بسند ضعيف لاحتمال أن يكون قد روي من وجه صحيح إذ لم نحطّ بجملة العلم أو لأن بعض من يضعفه أهل الحديث يقوّيه بعضهم وبعض من يجرحه ويذمه أحد(1/299)
يعدّ له ويمدحه آخر فصار مختلفاً فيه فلم يرد حديثه بقول واحد دون من فوقه أو مثله أو لأن بعض ما يضعف به رواة الحديث وتعلل به أحاديثهم لا يكون تعليلاً ولا جرحاً عند الفقهاء ولا عند العلماء بالله تعالى مثل أن يكون الراوي مجهولاً لإيثاره الخمول، وقد ندب إليه أو لقلة الأتباع له إذ لم يقم لهم الأثرة عنه أو ينفرد بلفظ أو حديث حفظه أو خصّ به دون غيره من الثقات أو يكون غير سائق للحديث على لفظة أو لا يكون معتنياً بحفظ ودرسه وقد يتكلم بعض الحفاظ بالإقدام والجراءة فيجاوز الحدّ في الجرح ويتعدّى في اللفظ ويكون المتكلم فيه أفضل منه، وعند العلماء بالله تعالى: أعلى درجة فيعود الجرح على الجارح أو يكون رأى عليه لباساً أو سمع منه كلاماً يجرحه عند الفقهاء علّله به بعض القرّاء من الرواة وأن بعض من يضعفه أصحاب الحديث هو من علماء الآخرة ومن أهل المعرفة بالله تعالى وله في الرواية والحديث مذاهب غير طريقة بعض أصحاب الحديث فيعمل في روايته بمذهبه فلا يكون أصحاب الحديث حجة عليه إلا كان هو حجة عليهم إذ ليس هو عند أصحابه من العلماء دون أصحاب الحديث ممن ضعفه إذ رأى غير رأي مذهبه.
وقال بعض العلماء: الحديث وإن كان شهادة فقد وسع فيه بحسن الظن كما جوّز فيه قبول شهادة واحد أي للضرورة كشهادة القابلة ونحوها، وروينا معناه عن الإمام أحمد بن حبنل رضي لله عنه: والحديث إذا لم ينافه كتاب أو سنّة وإن لم يشهدا له إن لم يخرج تأويله عن إجماع الأمة فإنه يوجب القبول والعمل بقولّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف وقد قيل: والحديث الضعيف عندي آثر من الرأي والقياس وهذا مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه، والحديث إذا تداوله عصران أو رواه القرون الثلاثة أو دار في العصر الواحد فلم ينكره علماؤه وكان مشهوراً لا ينكره الطبقة من المسلمين احتمل ووقع به حجة وإن كان في سنده قول إلا ما خالف الكتاب والسنن الصحيحة أو إجماع الأمة أو ظهر كذب ناقليه بشهادة الصادقين من الأئمة، وقال وكيع بن الجراح: ما ينبغي لأحد أن يقول هذا الحديث باطل لأن الحديث أكثر من ذلك، وقال أبو داود: قال أبو زرعة الرازي: قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عشرين ألف عين تطرف، كل واحد قد روى عنه ولو حديثاً ولو كلمة أو رواية فحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر من أن يحصى وذكر رجل عند الزهري حديثاً فقال: ما سمعنا بهذا فقال: أكل حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمعت؟ قال: لا، قال: فثلثاه؟ قال: لا، قال: فنصفه فسكت وقال: عدَّ هذا من النصف الذي لم تسمعه، وقال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: كان يزيد بن هارون يكتب عن الرجل وهو يعلم أنه ضعيف وكان له ذكاء وعلم بالحديث وقال إسحاق بن راهويه: قيل للإمام أحمد بن حنبل: هذه الفوائد التي فيها المناكير ترى أن نكتب الجيد منها، فقال: المنكر أبداً منكر قيل له: فالضعفاء؟ قال: قد يحتاج إليه في وقت كأنه لم يرَ بالكتابة عنهم بأساً.
وقال أبو بكر المروزي عنه: إن الحديث عن الضعفاء قد يحتاج إليه ومما يدلك(1/300)
على مذهبه في التوسعة أنه أخرج حديثه كله في المسند المأثور عنه الذي رويناه عن أشياخنا عن ابنه عبد الله عنه ولم يعتبر الصحيح منه وفيه أحاديث كثيرة يعلم الثقات أنها ضعيفة وهو أعلم بضعفها منهم ثم أدخلها في مسنده لأنه أراد تخريج المسند ولم يقصد تصحيح السند فاستجاز رواياتها كما سمعها وقد كان قطع أن يحدث الناس في سنة ثمان وعشرين وتوفي في سنة إحدى وأربعين فلم يسمع أحد منه في هذه المدة إلا ابنه عبد الله وابن منيع جزءاً واحداً بشفاعة جده أحمد بن منيع، وحدثونا عنه أعني الإمام أحمد قال: كان عبد الرحمن ينكر الحديث ثم يخرج إلينا بعد وقت فيقول: هو صحيح قد وجدته، قال: وأما وكيع فلم ينكر ولكن يقول إذا سئل عنه لا أحفظه، وحدثونا عن ابن أخت عبد الرحمن بن مهدي قال: كان خالي قد خط على أحاديث ثم صحح عليها بعد ذلك وقرأتها عليه فقلت: قد كنت خططت عليها قال: نعم، ثم تفكرت فإذا إني إن ضعفتها أسقطت عدالة ناقليها فإن جاءتني بين يدي الله تعالى وقال: لم أسقطت عدالتي رأيتني سمعت كلامي لم يكن لي حجة، هذا كان مذهب الورعين من السلف، وقد كان بعضهم يقول: كنا نترك مجالسة شعبة لأنه كان يدخلنا في الغيبة وإنما كان كلامه في التضعيف وقال بعضهم في تضعيف الرواة: إن خلصت نيتك يعني أن أردت الله عزّ وجلّ والدين بذلك لم يكن لك ولا عليك فهذه الفصول الذي ذكرناها هي أصول في معرفة الحديث وهو علم لأهله وطريق هم سالكوه ثم حدثت قوم لم يكن لهم علم يختصون به ولا حال من علم يوصفون به ولا شغل من عبادة تقطعهم فجعلوا لنفوسهم علماً تشاغلوا به وشغلوا من استمع إليهم فصنفوا كتباً وأخذوا يتكلمون في نقلة الأخبار بالتعليل وتتبع العثار فطرقوا لأهل البدع إلى ردّ السنن وإيثار الرأي والمعقول عليها لما يرون من طعنهم فيها واغتبطوا بالقياس والنظر لما وجدوا من زهدهم في السنة والخبر سيما في زمانك هذا والأحاديث في الترغيب في الآخرة والتزهيد في الدنيا والترهيب لوعد الله تعالى وفي فضائل الأعمال وتفضيل الأصحاب متقبلة محتملة على كل حال مقاطيعها ومراسيلها لا تعارض ولا ترد، وكذلك في أهوال القيامة ووصف زلازلها وعظائمها لا تنكر بعقل بل تتقبل بالتصديق والتسليم كذلك كان السلف يفعلون لأن العلم قد دلّ على ذلك والأصول قد وردت به، وقد روينا من بلغه عن الله فضيلة أو عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمل به أعطاه الله ثواب ذلك وإن لم يكن ما قيل والخبر الآخر من روى عني حقاً فأنا أقوله وإن لم أكن قلته ومن روى باطلاً فإني لا أقول بالباطل، وفي كل ما رسمنا من هذا الكتاب نقول: الله أعلم وأحكم وعلمه المقدم وعنده حقائق العلوم وإليه ترجع الأمور وما شاء كان والله المستعان ولا حول ولا قوّة إلا بالله، وهذا آخر كتاب العلم وتفصيل العلوم ووصف طريق السلف ونشر ما أحدث بعدهم الخلف.(1/301)
الفصل الثاني والثلاثون
شرح مقامات اليقين وأحوال الموقنين
أصول مقامات اليقين التي ترد إليها فروع أحوال المتقين تسعة، أوّلها التوبة، والصبر، والشكر، والرجاء، والخوف، والزهد، والتوكل، والرضا، والمحبة وهذه محبة الخصوص وهي محبة المحبوب.
ذكر فروض التوبة
وشرح فضائلها ووصف التوابين
قال الله تعالى في البيان الأوّل من خطاب العموم: (وَتُوبُوا إلى الله جميعاً أيُّها الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) النور: 31 معناه: ارجعوا إليه من هوى نفوسكم ومن وقوفكم مع شهواتكم عسى أن تظفروا ببغيتكم في المعاد وكي تبقوا بقاء الله عزّ وجلّ في نعيم لا زوال له ولا نفاد ولكي تفوزوا وتسعدوا بدخول الجنة وتنجوا من النار فهذا هو الفلاح، وقال في البيان الثاني من مخاطبته الخصوص: (يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا تُوبُوا إلى الله تَوْبَةَ نَصُوحاً عسى ربُّكُمْ أنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تجري مِنْ تَحْتِها الأنهارُ) التحريم: 8، فنصوحاً من النصح جاء على وزن فعول للمبالغة في النصح، وقد قرئت نصوحاً بضم النون فتكون حينئذ مصدر نصحت له نصحاً ونصوحاً فمعناه خالصة لله تعالى وقيل اشتقاقه من النصاح وهو الخيط أي مجردة لا تتعلق بشيء ولا يتعلق بها شيء وهو الاستقامة على الطاعة من غير روغان إلى معصية كما تروغ الثعالب وأن لا يحدث نفسه بعود إلى ذنب متى قدر عليه وأن يترك الذنب لأجل الله تعالى خالصاً لوجهه كما ارتكبه لأجل هواه مجمعاً عليه بقلبه وشهوته، فمتى أتى الله عزّ وجلّ بقلب سليم من الهوى وعلم خالص مستقيم على السنّة فقد ختم له بحسن الخاتمة، فحينئذ أدركته الحسنى السابقة وهذا هو التوبة النصوح وهذا العبد هو التوّاب المتطهّر الحبيب وهذا إخبار عمّن سبقت له من الله الحسنى ومن تداركه نعمة من ربه رحمه بها من تلوث السوأى وهو وصف لمن قصده بخطابه إذ يقول في كتابه: ((1/302)
إنَّ الله يُحِبُّ الْتَّوَّابينَ وَيُحِبُّ الْمُتطَهِّرينَ) البقرة: 222، وكما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التائب حبيب الله والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وسئل الحسن عن التوبة النصوح: فقال هي ندم بالقلب واستغفار باللسان وترك بالجوارح وإضمار أن لا يعود إليه.
وقال أبو محمد سهل رحمه الله ليس من الأشياء أوجب على هذا الخلق من التوبة ولا عقوبة أشد عليهم من فقد علم التوبة وقد جهل الناس علم التوبة وقال: من يقول إن التوبة ليست بفرض فهو كاف، ومن رضي بقوله فهو كافر وقال: التائب الذي يتوب من غفلته في الطاعات في كل طرفة ونفس، وقد جعل عليّ كرم الله وجهه ترك التوبة مقاماً في العمى وقرنه باتباع الظن ونسيان الذكر فقال في الحديث الطويل: ومن عمي نسي الذكر واتبع الظن وطلب المغفرة بلا توبة ولا استكانة ففرض التوبة الذي لا بد للتائب منه ولا يكون محقاً صادقاً إلا به الإقرار بالذنب والاعتراف بالظلم ومقت النفس على الهوى وحلّ الإصرار الذي كان عقده على أعمال السيئات وإطابة الغذاء بغية ما يقدر عليه لأن الطعمة أساس الصالحين ثم الندم على ما فات من الجنايات.
وحقيقة الندم إن كان حقاً إذ لكل حق حقيقة أن لا يعاود إلى مثل ما وقع الندم عليه ثم اعتقاد الاستقامة على الأمر ومجانبة النهي وحقيقة الاستقامة أن لا يقابل ما استقبل من عمره بمثل ما وقع الاعوجاج به وأن يتبع سبيل من أناب إلى الله وأن لا يصحب جاهلاً فيرديه ثم الاشتغال بإصلاح ما أفسد في أيام بطالته ليكون من المصلحين الذين تابوا وأصلحوا ما أفسدوا فإن الله عزّ وجلّ لا يصلح عمل المفسدين كما لا يضيّع أجر المحسنين ثم الاستبدال بالصالحات من السيئات والصالحات من الحسنات ليكون ممن تبدل سيئاته حسنات لتحققه بالتوبة وحسن الإنابة لأن التبديل يكون في الدنيا يبدّل بالأعمال السوأى أعمالاً حسنى بدليل قوله تعالى: (إنَّ الله لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) الرعد: 11 فإذا غيّر ما بهم من سيّءٍ حسناً بدّل سيئاتهم حسنات ثم الندم ودوام الحزن وحقيقة الندم والحزن على الفوت أن لا يفرط ولا يني في وقت دركه ولا يرجع ولا ينثني في حيز استبداله فيفوت نفسه وقتاً ثانياً إذ كان يعمل في درك ما فات ولا يفوت ما أدرك في حال تيقظه فتكون يقظته شبيهاً بما مضى من غفلته إذ كان في درك ما فات شبيهاً بما مضى من غفلته إذ لا يدرك الفوت بالفوت ولا ينال النعيم بالنعيم ليكون كما وصف الله تعالى: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا علماً صالحاً وآخر سيئاً) قيل: الاعتراف والندم، وقال أبو سليمان الداراني: لو لم يبك العاقل فيما بقي من عمره إلا على فوت ما مضى منه في غير الطاعة لكان خليقاً أن يحزنه ذلك إلى الممات فكيف بمن يستقبل ما بقي من عمره بمثل ما مضى من جهله.
وقال سهل بن عبد الله: التائب لا يقله شيء يكون قلبه متعلقاً بالعرش حتى يفارق النفس ولا عيش له إلا الضرورة للقوام ويغتمّ على ما مضى والجدّ في الأمر ومباينة النهي(1/303)
فيما بقي ولا يتم له ذلك إلا باستعمال علم اليقين في كل شيء ثم المتابعة بأعمال الصالحات ليكون ممن قال الله تعالى: (وَيَدْرَؤونَ بِالْحسنَةِ السيَّئِّةَ) الرعد: 22 الآية أي يدفعون ما سلف من السيئات بما يعلمون من الحسنات.
وكذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أبي ذر فإذا عملت سيئة فأعمل بعدها حسنة السرّ بالسرّ والعلانية بالعلانية وفي وصية معاذ أتبع السيئة الحسنة تمحها وليدخل في الصالحين كما قال الله تعالى: (والَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ في الصَّالِحينَ) العنكبوت: 9، ثم المسارعة إلى الخيرات إذا قدر عليها ليدرك بها ما ضيع وفات ليكون من الصالحين وفي هذا المقام يصلح لمولاه فيحفظه ويتولاه كما قال الله: (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحينَ) الأعراف: 196، وجمل ما على العبد في التوبة وما تعلق بها عشر خصال، أولها فرض عليه أن لا يعصي الله تعالى، والثانية إن ابتلى بمعصية لا يصرّ عليها، والخصلة الثالثة التوبة إلى الله تعالى منها، والرابعة الندم على ما فرط منه، والخامسة عقد الاستقامة على الطاعة إلى الموت، والسادسة خوف العقوبة، والسابعة رجاء المغفرة، والثامنة الاعتراف بالذنب، والتاسعة اعتقاد أن الله تعالى قدر ذلك عليه وأنه عدل منه، والعاشرة المتابعة بالعمل الصالح ليعمل في الكفارات لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وفي جميع هذه الخصال جمل آثار رويناها عن الصحابة والتابعين يكثر ذكرها، ويقال: إن ملك الموت إذا ظهر للعبد أعلمه أنه قد بقي من عمرك ساعة وأنك لا تستأخر عنها طرفة عين قال: فيبدو للعبد من الأسف والحسرة ما لو كانت له الدنيا من أوّلها إلى آخرها لخرج منها على أن يضم إلى تلك الساعة ساعة أخرى ليستعتب فيها أو يستبدل بها فلا يجد إلى ذلك سبيلاً، وهذا تأويل قوله عزّ وجلّ: (وَحيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) سبأ: 54 قيل: التوبة وقيل: الزيادة في العمر وقيل: حسن الخاتمة حيل بينهم وبين ذلك كما فعل بأشياعهم من قبل أي بنظرائهم وأهل فرقتهم قال: فإذا كل ساعة تمضي على العبد فهي بمنزلة هذه الساعة قيمتها الدنيا كلها إذا عرف قيمة ذلك فلذلك قيل ليس لما بقي من عمر العبد قيمة إذا عرف وجه التقدير من الله تعالى بالتصريف والحكمة
وقيل في معنى قوله تعالى: (مِنْ قَبْلِ أنْ يَأْتِيَ أحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أخَّرتني إلى أَجلٍ قَريبٍ) المنافقون: 10 قال: الوقت القريب أن يقول العبد عند كشف الغطاء: يا ملك الموت أخرني يوماً أعبد فيه ربي وأعتب فيه ذنبي وأتزوّد صالحاً لنفسي فيقول: فنيت الأيام فلا يوم، فيقول: أخرني ساعة فيقول فنيت الساعات فلا ساعة، قال: فتبلغ الروح الحلقوم فيؤخذ بكظمه عند الغرغرة فيغلق باب التوبة ويحجب عنه وتنقطع الأعمال وتذهب الأوقات وتتصاع الأنفاس يشهد فيها المعاينة عند كشف الغطاء فيحتد بصره فإذا كان في آخر نفس زهقت نفسه فيدركه ما سبق له من السعادة فتخرج روحه على(1/304)
التوحيد فذلك حسن الخاتمة أو يدركه ما سبق له من الشقوة فتخرج روحه على الشرك فهذا الذي قال الله عزّ وجلّ: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذين يَعْمَلُونَ السَيِّئاتِ حَتّى إذا حَضَر أحدَهُمُ الْمَوْتُ قال إنّي تُبْتُ الآن) النساء: 18، فهذا سوء الخاتمة نعوذ بالله منه وقيل: هذا هو المنافق ويقال: المدمن على المعاصي المصرّ عليها.
وقد قال الله تعالى: (إِنَّما التَّوْبَةُ على الله للَّذينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ منْ قَريبٍ) النساء: 17، قيل: قبل الموت وقبل ظهور آيات الآخرة وقبل الغرغرة أي تغرغر النفس في الحلقوم لأنه تعالى قد حكم أن التوبة بعد ظهور إعلام الآخرة لا تقبل، ومنه قوله عز وجلّ: (يَوْمَ يأْتي بعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنتْ مَنْ قَبْلُ) الأنعام: 158 يعني من قبل معاينة الآيات أو كسبت في إيمانها خيراً قيل: التوبة هي كسب الإيمان وأصول الخيرات وقيل: الأعمال الصالحة هي مزيد الإيمان وعلامة الإيقان وقد قيل: ثم يتوبون من قريب أي عن قريب عهد بالخطيئة لا يتمادى فيها ولا يتباعد عن التوبة وتوبته من قريب أن يعقب الذنب عملاً صالحاً ولا يردفه ذنباً آخر وأن يخرج من السيئة إلى الحسنة ولا يدخل في سيئة أخرى وقيل: أول من يسأل الرجعة من هذه الأمة من لم يكن أدى زكاة ماله أو لم ييكن حجّ بيت ربه فذلك تأويل قول الله تعالى: (فأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصالِحينَ) المنافقون: 10، وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول: هذه الآية من أشد شيء على أهل التوحيد هذا لقوله تعالى في أوّلها: (يا أيُّها الَّذين آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أمْوالُكُم ولا أوْلادُكُمْ عنْ ذِكْرِ اللهِ) المنافقون: 9، وقد قيل: لا يسأل عبد الرجعة عندا لموت وله عند الله عزّ وجلّ مثقال ذرة من خير.
وروينا بمعناه من كان له في الآخرة مثقال ذرة من خير لو أن له الدنيا بما فيها من أوّلها إلى أخرها لم يحب أن يعود إلى الدنيا، وقال بعض العارفين: إن لله تعالى إلى عبده سرّين يسرهما إليه يوجده ذلك بإلهام يلهمه، أحدهما إذا ولد وخرج من بطن أمه يقول له: عبدي قد أخرجتك إلى الدنيا طاهراً نظيفاً واستودعتك عمرك ائتمنتك عليه فانظر كيف تحفظ الأمانة وأنظر كيف تلقاني كما أخرجتك، وسرّ عند خروج روحه يقول: عبدي ماذا صنعت في أمانتي عندك هل حفظتها حتى تلقاني على العهد والرعاية فألقاك بالوفاء والجزاء أو أضعتها فألقاك بالمطالبة والعقاب؟، فهذا داخل في قوله عزّ وجّل: (والَّذينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) المؤمنون: 8، وفي قوله تعالى: (وأَوْفُوا بِعَهْدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) البقرة: 40 عمر العبد أمانة عنده إن حفظه فقد أدى الأمانة وإن ضيّعه فقد خان الله، إن الله لا يحبّ الخائنين، وفي خبر ابن عباس رضي الله عنه من ضيع فرائض الله عزّ وجلّ خرج من أمانة الله وعند التوبة النصوح تكفير السيئات ودخول الجنات، وكان بعضهم يقول: قد علمت متى يغفر الله لي قيل: ومتى؟ قال: إذا تاب علي، وقال آخر: أنا من أن أحرم التوبة أخوف مني من أن أحرم المغفرة، وقال الله تعالى: (وَمَنْ أصْدقُ مِنَ الله(1/305)
حَديثاً) النساء: 87 فتاب عليكم وعفا عنكم وقال تعالى في مثله: (وَهُو الَّذي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عن السَّيِّئاتِ) الشورى: 25
وقال بعض العلماء: لا تصحّ التوبة لعبد حتى ينسى شهواته ويكون ذاكراً للحزن لا يفارقه قلبه ذاهباً عن الذنب لا يخالج سرّه، وقال بعض علماء الشام: لا يكون المريد تائباً حتى لا يكتب عليه صاحب الشمال معصية عشرين سنة، وقال بعض السلف: من علامة صدق التائب في توبته أن يستبدل بحلاوة الهوى حلاوة الطاعة وبفرح ركوب الذنب الحزن عليه والسرور بحسن الإنابة، وقال بعض العلماء في معناه: لا يكون العبد تائباً حتى يدخل مرارة مخالفة النفس مكان حلاوة موافقتها، وحدثنا في الإسرائيليات: إن الله عزّ وجلّ قال لبعض أنبيائه وقد سأله قبول توبة عبد بعد أن اجتهد سنين في العبادة ولم يرَ قبول توبته فقال له: وعزتي وجلالي لو شفع فيه أهل السموات والأرض ما قبلت توبته وحلاوة ذلك الذنب الذي تاب منه في قلبه ومن بقيت حلاوة المعصية في قلبه أو نظر إليها إذا ذكرها بفكره خيف عليه العود فيها إلا بشدة مجاهدة وكراهة لها ونفي خاطرها عن سره إذا ذكرها بالخوف والإشفاق منها، وقال أبو محمد سهل: أول ما يمر به المبتدئ المريد التوبة وهو تحويل الحركات المذمومة إلى حركات محمودة ويلزم نفسه الخلوة والصمت ولا تصحّ له توبة إلا بأكل الحلال ولا يقدر على الحلال حتى يؤدي حق الله تعالى في الخلق وحق الله تعالى في نفسه ولا يصح له هذا حتى يتبرأ من حركته وسكونه إلا بالله تعالى وحتى لا يأمن الاستدراج بأعمال الصالحات وحقيقة التوبة أن يدع ما له حتى لا يدخل فيما عليه ولا يكون يسوف أبداً إنما يلزم نفسه الحال في الوقت.
وحدثونا عن سري السقطي أنه قال: من شرط التوبة أن ينبغي للتائب المنيب أنه يبدأ بمباينة أهل المعاصي ثم بنفسه التي كان يعصى الله تعالى لها ولا ينيلها إلا ما لا بدّ منه ثم الاعتزام على أن لا يعود في معصية أبداً ويلقى عن الناس مؤونته ويدع كل ما يضطره إلى جريرة ولا يتبع هوى ويتبع من مضى من السلف، وينبغي لأهل التوبة أن يحاسبوا نفوسهم في كل طرفة ويدعوا كل شهوة ويتركوا الفضول وهي ستة أشياء: ترك فضول الكلام، وترك فضول النظر، وترك فضول المشي، وترك فضول الطعام، والشراب، واللباس، قال: ولا يقوى على ترك الشبهات إلا من ترك الشهوات، وسئل يحي بن معاذ رحمه الله كيف يصنع التائب؟ فقال: هو من عمره بين يومين، يوم مضى ويوم بقي، فيصلحهما بثلاث: أما ما مضى فبالندم والاستغفار، وأما ما بقي فبترك التخليط وأهله ولزوم المريدين ومجالسة الذاكرين والثالثة لزوم تصفية الغذاء والدأب على العمل، ومن علامة صدق التوبة رقة القلب وغزارة الدمع، وفي الخبر: جالسوا التوابين فإنهم أرقّ شيء أفئدة ومن التحقق بالتوبة أن يستعظم ذنوبه فإنه يقال إن الذنب(1/306)
كلما استعظمه العبد صغر عند الله تعالى ويقال: إن استصغار الذنب كبيرة، كما جاء في الخبر: المؤمن الذي يرى ذنبه كالجبل فوقه يخاف أن يقع عليه والمنافق الذي يرى ذنبه كذباب مرّ على أنفه فأطاره، وقد روينا في خبر مرسل: ليتقّ أحدكم أن يؤخذ عند أدنى ذنوبه في نفسه.
وقال بعضهم: الذنب الذي لا يغفر قول العبد: ليت كل شيء عملته مثل هذا فهذا كما قال بلال بن سعد: لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت.
وقد حدثنا عن الله تعالى أنه أوحى إلى بعض أوليائه: لا تنظر إلى قلة الهدية وانظر إلى عظمة مهديها ولا تنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى كبرياء من واجهته بها فإنما عظمت الذنوب من تعظيم المواجه بها وكبرت في القلوب لمشاهدة ذي الكبرياء ومخالفة أمره إليها فلم يصغر ذنب عند ذلك وكانت الصغائر عند الخائفين كبائر وهذا أحد الوجهين في قوله تعالى: (ذلك ومَنْ يُعَظّمْ حُرُماتِ الله فَهُو خيْرٌ لَهُ) (وَمَنْ يُعَظِّمْ شعائِرَ الله فإنَّها مِن تَقْوى القُلوُبِ) الحج: 30 - 32 قيل: الحرمات تعظم في قلبه فلا ينتهكها، ومن هذا قول الصحابة للتابعين: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدّها في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الموبقات ليسوا يعنون أن الكبائر التي كانت على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صارت بعده صغائر ولكن كانوا يستعظمون الصغائر لعظمة الله تعالى في قلوبهم لعظيم نور الإيمان، ولم يكن ذلك في قلوب من بعدهم، وأوحى الله تعالى إلى بعض أوليائه: كم من ذنب رأيته منك قد أهلكت بدونه أمة من الأمم.
وقد روينا عن أبان بن إسماعيل عن أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه أهلك الله تعالى أمة من الأمم كانوا يعبثون بذكورهم فأما نسيانه الذنوب وذكرها فقد اختلف قول العارفين في ذلك فقال بعضهم: حقيقة التوبة أن تنصب ذنبك بين عينيك وقال آخر: حقيقة التوبة أن تنسى ذنبك، وهذا طريقان لطائفتين وحالان لأهل مقامين فأما ذكر الذنوب فطريق المريدين وحال الخائفين يستخرج منهم بتذكرها الحزن الدائم والخوف اللازم، وأما نسيان الذنوب شغلاً عنها بالأذكار وما يستقبل من مزيد الأعمال فطريق العارفين وحال المحبين ووجهة هؤلاء شهادة التوحيد وهي مقام في التعريف ووجهة الأولين مشاهدة التوقيف والتحديد وهي مقام في التعريف، ففي أيّ المقامين أقيم عبد قام بشهادة وجهته وعمل بحكم حالته ومقام شهادة التوحيد أفضل عند العارفين من مقام مشاهدة التعريف وإن كانت هذه أوسع وأكثر إلا أنها في أصحاب اليمين وفي عموم المقربين، وشهادة التوحيد أضيق وأقل وأهلها أعلى وأفضل وهي في المقرّبين وخصوص العارفين وقد يعترض المريد بقصة دواد عليه السلام في تذكره ونوحه على خطيئة فإن الأنبياء لا يقاس عليهم لمجاوزتهم حدود من دونهم وقد يقلبون في أحوال المريدين ويسلك بهم سبيل المتعلمين وذلك لأجل الأمة ليكون طريقاً للعالمين،(1/307)
وأعلم أنه لا يؤمن على ضعيف اليقين قوي النفس عند تذكّر الذنوب نظر القلب إليها بشهوة أو ميل نفس معها بحلاوة فيكون ذلك سبب فتنته فيفسد من حيث صلح كما لا يؤمن على معتاد خطيئة بالنظر إلى سببها حركة النفس إليها وإن كان الأفضل الإتفاق معها ما لم يكن الإتفاق معصية لمجاهدة النفس بالصبر عنها إلا أن ذلك غرور وفيه خطر فترك الاجتماع وقطع الأسباب حينئذ أسلم وما كان أسلم للمريد فهو أفضل وفي نسيان الذنوب الذكر لما يستقبل والانكماش على ما يفوت من الوقت خوف فوت الثاني.
وقد كان بعض أهل المعرفة يكره للمريد أن يكون وسواسه الجنة أو نذكر ما فيها من النعيم واللباس والأزواج وقال: واستحب للمريد أن يكون وسواسه ذكر الله تعالى وخواطره وهممه متعلقة بالله تعالى لا سواه قال: لأن المريد حديث عهد بتوبة غير معتاد لطول الاستقامة والعصمة، فإذا تذكر نعيم الجنة لم آمن عليه لضعف قلبه أن يشتهي مثله مما يشاهد في الدنيا من اللباس والطيبات والنكاح لأن هذا عاجل وذاك آجل فتطلب نفسه مثل ما تذكرت من نعيم الآخرة معجلاً في الدنيا قال: فإذا كان همه الله تعالى كان أبعد له من زينة الدنيا وشهواتها ولم يجتر العدو بتمثيل ذلك له من العاجل إلى أن يقوى يقينه وتنتقل عادته وتدوم عصمته، وقد اختلف أهل العلم أيضاً في عبد ترك ذنباً وعمل في الإستقامة ونفسه تنازعه إليه وهو يجاهدها، وفي آخر: ترك الذنب وانكمش في الإصلاح فلم تكن نفسه تطالبه فلا تنازعه إلى الذنب ولم يكن على قلبه منه ثقل ولا مجاهدة، أيّ هذين أفضل فقال بعض علماء أهل الشام: الذي تنازعه نفسه إلى الذنب وهو يجاهدها أفضل لأن عليه منازعة وله فضل مجاهدة، ومال إلى هذا القول أحمد بن أبي الحواري وأصحاب أبي سليمان الداراني.
وقال علماء البصرة: الذي سكنت نفسه عن المنازعة بشاهد من شواهد اليقين والطمأنينة فلم يبق فيه فضل لعود ولا طلب لمعتاد أفضل، ومال إلى هذا رباح بن عمرو القيسي وهو من كبار علماء البصريين، وقال: لو فتر هذا لكان هذا أقرب إلى السلامة ولم يؤمن على الآخر الرجوع وهذا كما قال، وقد اختلف العلماء أيضاً في عبدين سئل أحدهما شيئاً: من بذل ماله في سبيل الله فأبت نفسه عليه وثقل عليها ذلك فجاهدها وأخرج ماله، وسئل آخر، بذل ماله فبذله مع السؤال طوعاً من غير منازعة نفس ولا ثقل عليها ولا مجاهدة منه لها أيهما أفضل؟ فقال: قوم المجاهد لنفسه أفضل لأنه جتمع له الإكراه والمجاهدة فحصل له عملان، وذهب إلى هذا القول ابن عطاء وأصحابه، وقال آخرون: الذي سمحت نفسه بالبذل طوعاًمن غير إكراه ولا اعتراض أفضل قال: لأن مقام هذا في سخاوة النفس والتحقق بالزهد أفضل من جميع أعمال الأول من الإكراه والمجاهدة، ومن بذل ماله على ذلك ولأن الأول وإن غلب نفسه في هذه الكرة(1/308)
لأياً من غلبتها له في كرة ثانية أو ثالثة إذ ليس السخاء من مقامها لأنها كانت محمولة عليه وإلى هذا ذهب الجنيد رحمه الله وهو عندي كما قال اللفظ لنا.
وسئل أبو محمد سهل عن الرجل يتوب من الشيء ويتركه ثم يخطر ذلك الشيء بقلبه أو يراه أو يسمع به فيجد حلاوة فقال: الحلاوة طبع البشرية ولا بدّ من الطبع وليس له حيلة إلا أن يرفع قلبه إلى مولاه بالشكوى وينكره بقلبه ويلزم نفسه الإنكار ولا يفارقه ويدعو الله تعالى أن ينسيه ذكر ذلك ويشغله بغيره من ذكره وطاعته، وقال: فإن هو غفل عن الإنكار طرفة عين أخاف عليه أن لا يسلم وتعمل الحلاوة في قلبه ولكن مع وجدان الحلاوة يلزم قلبه الإنكار والحزن فإنه لا يضره، وهذا عندي هكذا لأن التوبة لا تصحّ مع بقاء الشهوة، ويكون العبد مراداً بالمجاهدة، وهذا حال المريدين ومحو الشهوات من القلب بدوام التولي وصف العارفين وربما تعلق بالذنب ذنوب كثيرة هي أعظم منه مثل الإصرار عليه والاغتباط به وتسويف التوبة بعده ووجد حلاوة الظفر بمثاله أو وجد الحزن والكراهة على فوته والسرور بعمله أو حمل غيره عليه إن كان ذنباً بين اثنين أو إنفاق مال الله سبحانه وتعالى فيه فهو كفر النعمة به، وقد قيل: من أنفق درهماً في حرام فهو مسرف ومن ذلك أن يستصغر الذنب ويحتقره فيكون أعظم من اجتراحه أو يتهاون بستر الله تعالى عليه ويستخف بحلم الله تعالى عنه، فيكون ذلك من الإغترار والأمن أو يجهل نعمة الله تعالى عليه في ستره وإظهار ضده كما قال في الدعاء المأثور الذي يمدح الله سبحانه وتعالى به: يا من أظهر الجميل وستر على القبيح ولم يؤاخذ بالجريرة ولم يهتك الستر ويقال كلّ عاصٍ تحت كنف الرحمن فإذا رفع يديه عنه انهتك ستره
ومن ذلك المجاهرة بالذنب والصول به والتظاهر وهذا من الطغيان، وفي الخبر: كل الناس معافى إلا المجاهرين يبيت أحدهم على الذنب، قد ستره الله تعالى عليه فيصبح فيكشف ستر الله تعالى ويتحدث بذنبه وربما سن العاصي بالذنب سنّة أتبع عليها فتبقى سيئات ذنبه عليه ما دام يعمل به وقد قيل: طوبى لمن إذا مات ماتت ذنوبه معه ولم يؤاخذ بها بعده وطوبى لمن لم يعدد ذنبه غيره، قال بعضهم: لا تذهب فإن كان لا بدّ فلا تحمل غيرك على الذنب فتكسب ذنبين، وقد جعل الله تعالى هذا المعنى وصفاً من أوصاف المنافقين في قوله تعالى: (اَلْمُنَافِقُونَ والْمُنافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنع بَعْضٍ يأْمُروُن بِالْمُنْكرِ وَيَنْهَوْن عَنِ الْمَعْرُوفِ) التوبة67 فمن حمل أخاه على ذنب معه فقد أمر بالمنكر ونهى عن المعروف، وقال بعض السلف: ما انتهك المرء من أخيه حرمة أعظم من أن يساعده على معصيته ثم يهونها عليه وقد يعيش العبد أربعين سنة ثم يموت فتبقى ذنوبه بعده مائة سنة يعاقب عليه في قبره إذا كان قد سنّها سنّاً وأتبع عليها إلى أن تندرس أو يموت من كان يعمل بها ثم تسقط عنه(1/309)
ويستريح منها، ويقال: أعظم الذنوب من ظلم من لا يعرفه ولم يره من المتقدمين مثل أن يتكلم فيمن سلف من أهل الدين وأئمة المتقين، فهذه المعاني كلها تدخل على الذنب الواحد وهي أعظم منه ومن ذلك قوله تعالى: (وَنَكْتُبُ ما قَدَّموا وآثارَهُمْ) يس: 12 قيل: سننهم التي عمل بها بعدهم، وفي الخبر: من سنّ سنّة سيئة فعمل بها من بعده كان عليه مثل وزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئاً، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: ويل للعالم من الأتباع يزل زلة فيرجع عنها ويحتملها الناس فيذهبون بها في الآفاق، وقال بعض أهل الأدب: مثل زلة العالم مثل انكسار السفينة تغرق ويغرق الخلق معها، وفي الخبر الإسرائيلي: إن عالماً كان يضلّ الناس بالبدع ثم أدركته توبة فرجع إلى الله تعالى وعمل في الإصلاح دهراً فأوحى الله تعالى إلى نبيهم: قل له إن ذنبك لو كان فيما بيني وبينك لغفرته لك بالغاً ما بلغ ولكن كيف بمن أضللت من عبادي فأدخلتهم النار، فأما استحلال المعصية أو إحلالها للغير فليس من هذه الأبواب في شيء إنما ذلك خروج عن الملة وتبديل للشريعة وهو الكفر بالله تعالى كما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما آمن بالقرآن من استحلّ محارمه وقد سمّى الله تعالى عملة السوء جهلة فقال تعالى: (أنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجهَالةٍ) الأنعام: 54، وقال تعالى: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) النمل: 55 وقال: (بل أنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُون) الأعراف: 81، ويقال: إن العرش يهتز ويغضب الرب تعالى لثلاثة أعمال: لقتل النفس بغير نفس، وإتيان الذكر الذكر، وركوب الأنثى الأنثى، وفي خبر: لو اغتسل اللوطي بالبحار لم يطهّره إلا التوبة ولو لم يكن في يسير المعصية من الشؤم إلا حرمان الطاعة وفقد حلاوة الخدمة ومقت المولى لكان هذا من أعظم العقوبات، كما قال وهيب بن الورد وقد سئل: هل يجد العاصي حلاوة الطاعة قال: لا ولا من هم بمعصية، ولذلك سمّى الله تعالى يحيى سيداً لأنه لم يهمّ بمعصية فصار علامة السيد بقدر سؤدد من لا يهمّ بالمعاصي فصار من لا يهمّ بالمعاصي سيداً، وفي خبر من لبس ثوب شهرة وفي بعضها: من نظر إلى عطفيه فاختال أعرض الله تعالى عنه وإن كان عنده حبيباً كيف وفي المخالفة وجود البعد والوحشة والانقطاع من المعاملة.
وروينا في خبر: إن آدم عليه السلام لما أكل من الشجرة تطايرت الحلل عن جسده وبدت عورته قال: فاستحيا التاج والإكليل من وجهه أن يرتفعا عنه فجاءه جبريل عليه السلام فأخذ التاج عن رأسه وحل ميكائيل الإكليل عن جبينه ونوديا من فوق العرش: اهبطا من جواري فإنه لا يجاورني من عصاني، فالتفت آدم إلى حوّاء باكياً وقال: هذا أول شؤم المعصية أخرجنا من جوار الحبيب، وروينا أن سليمان نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما عوقب على خطيئته من أجل التمثال الذي عبد في داره أربعين يوماً وقيل: إن المرأة سألته أن يكون الحكم لأبيها على خصمه فقال: نعم(1/310)
ولم يفعل وقيل: بل أحب بقلبه أن يكون الحكم لأبيها على خصمه لمكانها فسلب ملكه أربعين يوماً فهرب تائهاً على وجهه وكان يسأل بكفه فلا يطعم فإذا قال: أطعموني فإني سليمان بن داود شج وضرب، ولقد بلغني أنه استطعم من بيت فطرد وبزقت امرأة في وجهه، وفي رواية قال: فأخرجت إليه عجوز جرة فيها بول فصبته على رأسه إلى أن خرج له الخاتم من بطن الحوت فلبسه بعد انقضاء الأربعين وهي أيام العقوبة قال: فجاءت الطير فعكفت عليه وجاءت الجنّ والشياطين والوحوش فاجتمعت حوله، فلما عرفه الصيادون عقروا بين يديه واعتذروا إليه مما كانوا طردوه وشجوه فقال: لا ألومكم فيما صنعتم قبل ولا أحمدكم فيما تصنعون الآن، هذا أمر من السماء فلا بدّ منه ولقد بلغني أنه كان في مسيره والريح تحمله في جنوده إذ نظر إلى قميصه نظرة وكان عليه قميص جديد فكأنه أعجبه فوضعته الريح بالأرض فقال لها لم فعلت ولم آمرك قال: إنما نطيعك إذا أطعت الله تعالى.
وقد قال بعض العلماء في معنى هذا: من خاف الله تعالى خافه كل شيء، ومن خاف غير الله تعالى أخاف الله تعالى من كل شيء، فكذلك أيضاً: من أطاع الله تعالى سخّر له كل شيء ومن عصاه سخّره لكل شيء أو سلط عليه كل شيء ولو لم يكن في الإصرار على المعصية من الشؤم إلا أن كلّ ما يصيب العبد يكون له عقوبة إن كان سعة عوقب بذلك ولم يأمن بها الاستدراج وإن كان ضيقاً كان عقوبة له، وفي الخبر أن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، وقد قيل: الرزق من الحرام من قلة التوفيق للأعمال الصالحة، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: إني لأحسب أن العبد ينسى العلم بالذنب يصيبه ولو لم يكن من بركة التوبة والعلم والاستقامة على الطاعة إلا أن كل ما يصيب العبد فهو خير له إن: كان سعة فهو رفق من الله تعالى به عليه ولطف له منه وإن كان ضيقاً فهو اختبار من الله تعالى وخيره للعبد ويجد حلاوة ذلك ولذته لأنه في سبيله وقد أصابه وهو مقيم على طاعته ولو لم يكن من شؤم الناس ووجد النقص لمخالطتهم إلا أن المعصية معهم أشد وهي بهم أعظم لتعلق المظالم في أمر الدنيا وشأن الدين وكل من قلّت معارفه قلّت معهم خطاياه، وقال بعض السلف: ليست اللعنة سواداً في الوجه ونقصاً في المال إنما اللعنة أن لا يخرج من ذنب إلا وقع في مثله أو شّر منه وذلك أن اللعنة هي الطرد والبعد فإذا طرد من الطاعة فلم تيسر له بعد عن القربات فلم يوفق لها فقد لعن.
وقد قيل في معنى الخبر الذي رويناه آنفاً: إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه قيل: إن يحرم الحلال ولا يوفق له بوقوعه في المعصية وقيل: يحرم مجالسة العلماء ولا ينشرح قلبه لصحبة أهل الخير وقيل: يمقته الصالحون وأهل العلم بالله تعالى فيعرضون عنه وقيل: يحرم العلم الذي لا صلاح للعمل إلا به لأجل إقامته على الجهل، ولا تنكشف له الشبهات بإقامته على الشهوات بل تلتبس عليه الأمور فيتحير فيها بغير عصمة من الله(1/311)
تعالى ولا يوفق للأصوب والأفضل، وقد كان الفضيل يقول: ما أنكرت من تغير الزمان وجفاء الإخوان فذنوبك أورثتك ذلك ويقال: نسيان القرآن بعد حفظه من أشد العقوبات والمنع من تلاوته وضيق الصدر بقراءته والاشتغال عنه بضده عقوبة الإصرار، وقال بعض صوفية أهل الشام: نظرت إلى غلام نصراني حسن الوجه فوقفت أنظر إليه فمر بي ابن الجلاء الدمشقي فأخذ بيدي فأستحييت منه فقلت: يا أبا عبد الله سبحان الله تعجبت من هذه الصورة الحسنة وهذه الصنعة المحكمة كيف خلقت للنار فغمز يدي وقال: لتجدّن عقوبته بعد حين قال: فعوقبت بعد ثلاثين سنة، وقال بعضهم: إني لأعرف عقوبة ذنبي في سوء خلق حماري، وقال آخر: أعرف العقوبة حتى في نار بيتي.
وحدثونا عن منصور الفقيه قال: رأيت أبا عبد الله السكري في النوم فقلت: ما فعل الله بك قال: أوقفني بين يديه في العرق حتى سقط لحم خدي قلت: ولم ذاك قال: نظرت إلى غلام مقبلاً ومدبراً والعقوبة موضوعها الشدة والمشقة، فعقوبة كل عبد من حيث يشتد عليه، فأهل الدنيا يعاقبون بحرمان رزق الدنيا من تعذر الإكساب وإتلاف الأموال وأهل الآخرة يعاقبون بحرمان رزق الآخرة من قلة التوفيق للأعمال الصالحات وتعذر فتوح العلوم الصادقة ذلك تقدير العزيز العليم، وكان أبو سليمان الداراني يقول: الاحتلام عقوبة: وقال: لا يفوت أحداً صلاة في جماعة إلا بذنب يحدثه فدقائق العقوبات على قدر ترافع الدرجات، وقد جاء في الأخبار ما أنكرتم من زمانكم فبما غيرتم من أعمالكم، وفي الخبر يقول الله عزّ وجلّ: إن أدنى ما أصنع بالعبد إذا آثر شهوته على طاعتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي فهذه عقوبة أهل المعاملات ولو ظهر تغيّر القلب عند المعصية على وجه العاصي لا سودّ وجهه ولكن الله تعالى سلم بحلمه وستره فغطى ذلك في القلب مع تأثيره فيه وحجابه لصاحبه وقسوته عن الذكر وعن طلب الخير والبر والمسارعة إلى الخير وهو من أكير العقوبات ويقال: إن العبد إذا عصى أظلم قلبه ظلمة يثور على القلب منها دخان يشهده الإيمان فهو مكان حزن العبد الذي تسوءه سيئته ويكون ذلك الدخان حجاباً له عن العلم والبيان كما تحجب السحابة للشمس فلا ترى ويكون غلفاً يجده في نفسه للخلق فإذا تاب العبد وأصلح إنكشف الحجاب فيظهر الإيمان فيأمر بالعلم كما تبرز الشمس من تحت الحجاب.
ومن هذا قوله تعالى: (كَلاّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) المطففين: 14 قيل: هو الذنب على الذنب حتى يسود القلب ويصير الإيمان تحت الحجاب فلا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً وعندها ينكس أعلاه أسفله إذا استكمل سواده، فحينئذ مرد على النفاق فأملس فيه واطمأن به وثبت إلى أن ينظر الله تعالى إليه فيعطف بفضله عليه، وقد كان الحسن(1/312)
رضي الله عنه يقول: إن بين العبد وبين ربه عزّ وجلّ حداً من المعاصي معلوماً إذا بلغه العبد طبع على قلبه فلم يوفقه بعدها للخير، وفي حديث ابن عمر: الطابع معلق بقائمة العرش فإذا انتهكت الحرمات واستحلت المحارم أرسل الله تعالى الطابع فطبع على القلوب بما فيها، وفي حديث مجاهد: القلب مثل الكف المفتوحة فكلما أذنب ذنباً انقبضت أصبع حتى تنقبض الأصابع كلها فتشد على القلب فذلك هو القفل، ويقال لكلّ ذنب نبات ينبت على القلب فإذا كثرت الذنوب قام النبات حول القلب مثل الكمّ للثمرة فانضمّ على القلب فذلك هو الغلاف، ويقال: إنه الكنان أحد الأكنة التي ذكر الله تعالى أن القلب لا يسمع معها ولا يفقه، وقد حدثني بعض هذه الطائفة عن أبي عمرو بن علوان في قصة تطول قال فيها: فكنت قائماً أصلّي ذات يوم فخامر قلبي هواء طاولته بفكري حتى تولد منه شهوة الرجل قال: فوقعت إلى الأرض واسودّ جسدي كله فاستترت في البيت ثلاثة أيام فلم أخرج وقد كنت أعالج غسله في الحمام بالصابون والألوان الغاسلة فلا يزداد إلا سواداً قال ثم انكشف عني بعد ثلاث فرجعت إلى لوني البياض قال: فلقيت أبا القاسم الجنيد رحمه الله وكان وجه إلي فأشخصني من الرقة فلما أتيته قال لي: أما أستحيت من الله تعالى كنت قائماً بين يديه فسامرت نفسك شهوة حتى استولت عليك برقة فأخرجتك من بين يدي الله تعالى لولا أني دعوت الله عزّ وجلّ لك وتبت إليه عنك للقيت الله تعالى بذلك اللون قال فعجبت كيف علم بذلك، وهو ببغداد وأنا بالرقة ولم يطلع عليه إلا الله عزّ وجلّ، فذكرت هذه الحكايات لبعض العلماء فقال: كان هذا رفقاً من الله تعالى به وخيرة له إذ لم يسودّ قلبه وظهر السواد على جسده ولو بطن في قلبه لأهلك ثم قال: ما من ذنب يرتكبه العبد يصرّ عليه إلا اسودّ القلب منه مثل سواد الجسم الذي ذكره لا يجلوه إلا التوبة ولكن ليس كل عبد يصنع له صنع ابن علوان ولا يجد من يلطف له به مثل أبي القاسم الجنيد رحمه الله ولكل ّ ذنب عقوبة إلا أن يعفو الله والعقوبة ليست على قدر الذنب ولا من حيث يعلم العبد لكنها على تقدير المشيئة وعن سابق علم الربوبية فربما كانت في قلب وهي من أمراض القلوب وربما كانت في الجسد وقد تكون في الأموال والأهل وتكون في سقوط الجاه والمنزلة من عيون علماء الإسلام والمؤمنين وقد تكون مؤجله في الآخرة وهذه أعظم العقوبات وهي لأهل الكبائر من الموبقات الذين ماتوا عن غير توبة ولأهل الإصرار والعزة والاستكبار لأنها إذا كانت في الدنيا كانت يسيرة على قدر الدنيا وإذا تأخرت كانت عظيمة على قدر الآخرة.
وفي الخبر: إذا أراد الله تعالى بعبد خيراً عجّل له عقوبة ذنبه وإذا أراد به شراً أخره حتى يوافي به الآخرة، وأعلم أن الغم على ما يفوت من الدنيا والهم بالحرص عليها من العقوبات والفرح والسرور بما نال من الدنيا مع ما لا يبالي ما خرج من دينه من(1/313)
العقوبات، وقد يكون دوام العوافي واتساع الغنى من عقوبات الذنوب إذا كانا سببين إلى المعاصي، وقد تكون عقوبة الذنب ذنباً مثله أو أعظم منه كما يكون مثوبة الطاعة طاعة مثلها أو أفضل منها، وفي أحد الوجوه من معنى قوله تعالى: (وَعَصَيْتُمْ مِن بعْدِ ما أراكُمْ ما تُحِبُّونَ) آل عمران: 152، قال: الغنى والعافية كما يكون الفقر والسقم برحمة من الله تعالى إذا كانا سبباً للعصمة وهما أمّهات المعاصي إذا كانا سببين لها ومطرقين إليها، واعلم أن الحلم لا يرفع العقوبة ولكن يؤخرها، ومن شأن الحليم أن لا يعجل بالعقوبة وقد يعاقب بعد حين.
وروينا في معنى قوله تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عليْهِمْ أبْوابَ كُلِّ شيءٍ) الأنعام: 44، أي الرخص والرغد حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة قيل بعد ستين سنة، وفي الخبر: من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهمّ بطلب المعيشة، وفي لفظ آخر: لا يكفرّها إلا الهموم والأحزان والإهتمام بالمباحات من حاجات الدنيا للفقراء كفارات وهو على ما يفوت من قربات الآخرة للمؤمنين درجات وهو على محب الدنيا والجمع منها والحرص عقوبات، وقال بعض السلف: كفى به ذنباً لا يستغفر منه حبّ الدنيا وقال آخر: لو لم يكن للعبد من الذنوب إلا أنه يقيم بمصائب الدنيا بما لا يقيم بما لا يفوته فيها من نصيب الآخرة والتزودّ لها.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها: إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له من الأعمال ما يكفّرها أدخل الله عزّ وجلّ عليه الغموم والهموم فتكون كفّارة لذنوبه ويقال: إن الهمّ الذي يعرض للقلب في وقت لا يعرف العبد سبب ذلك فهو كفّارات الهم بالخطايا ويقال: هو حزن العقل عند تذكره الوقوف والمحاسبة لأجل جنايات الجسد فيلزم العقل ذلك الهمّ فيظهر على العبد منه كأنه لا يعرف سبب غمه، ومن أخبار يعقوب عليه السلام: إن الله تعالى أوحى إليه: لولا ما سبق لك في علمي من عنايتي بك لجعلت نفسي عندك أبخل الباخلين لكثرة تردادك إليّ بطول سؤالك لي وتأخيري إجابتك ولكن من عنايتي بك أن جعلت نفسي في قلبك إني أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين، وقد سبق لك عندي منزلة لم تكن تنالها بشيء من علمك إلا بحزنك على يوسف فأردت أن أبلغك تلك المنزلة، وكذلك ما روينا أن جبريل عليه السلام لما دخل على يوسف عليه السلام في السجن قال له: كيف تركت الشيخ الكئيب؟ قال: قد حزن عليك حزن مائة ثكلى، قال: فماذا له عند الله تعالى؟ قال: أجر مائة شهيد، وفي خبر رويناه عن السلف: ما من عبد يعصى إلا استأذن مكانه من الأرض أن يخسف به واستأذن سقفه من السماء أن يسقط عليه كسفاً فيقول الله عزّ وجلّ للأرض والسماء كفّا عن عبدي وأمهلاه فإنكما لم تخلقاه ولو خلقتماه(1/314)
لرحمتماه لعله يتوب إليّ فأغفر له لعله يستبدل صالحاً فأبدله حسنات فذلك معنى قوله تعالى (إنَّ الله يُمْسِكُ السَّمَواتِ والأرْضَ أن تَزُولاً) فاطر: 41 أي من معاصي العباد: (وَلَئِنْ زالتا إنْ أمْسَكَهُما مِنْ أحِدٍ مَنْ بَعْدِهٍ إنَّهُ كانَ حليماً) فاطر: 41 أي عن معاصيهم غفوراً لمساوئهم وقيل في تفسير ذلك: إن الله عزّ وجلّ إذا نظر إلى معاصي العباد غضب فترجف الأرض وتضطرب السماء فتنزل ملائكة السماء فتمسك أطراف الأرضين وتصعد ملائكة الأرضين فتمسك على أطراف السموات، ولا يزالون يقرؤون: (قُلْ هَوَ اللهُ أحدٌ) الإخلاص: 1، حتى يسكن غضبه سبحانه وتعالى فذلك قوله تعالى: (إنَّ الله يُمْسِكُ السَّمواتِ) فاطر: 41 الآية.
وقال بعض العلماء: إذا ضرب الناقوس في الأرض ودعى بدعوة الجاهلية اشتد غضب الرب سبحانه وتعالى فإذا نظر إلى صبيان المكاتب ورأى عمار المساجد وقيل: إذا نظر إلى المتحابين في الله أو المتزاورين له وسمع أصوات المؤذنين حلم وغفر فذلك قوله تعالى: (إِنَّهُ كانَ حليماً غَفُوراً) فاطر: 41 فإذا أتبع العبد الذنب بالذنب ولم يجعل بين الذنبين توبة خيف عليه الهلكة لأن هذه حال المصرّ ولأنه قد شرد عن مولاه بترك رجوعه إليه ودوام مقامه مع النفس على هواه وهذا مقام المقت في البعد وأفضل ما يعمله العبد قطع شهوات النفس أحلى ما يكون عنده الهوى إذ ليس لشهواتها آخر ينتظر كما ليس لبدايتها أوّل يرتسم فإن لم يقطع ذلك لم يكن له نهاية فإن شغل بما يستأنف من مزيد الطاعة ووجد حلاوة العبادة وإلا أخذ نفسه بالصبر والمجاهدة فهذا طريق الصادقين من المريدين.
وقيل في قوله تعالى: (اسْتَعينوا بالله واصْبِروا) الأعراف: 128 أي استعينوا به على الطاعة واصبروا على المجاهدة في المعصية، وقال علي كرمّ الله وجهه: أعمال البرّ كلّها إلى جنب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كتفلة إلى جنب البحر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى جنب الجهاد في سبيل الله تعالى كتفلة في جنب بحر والجهاد في سبيل الله تعالى إلى مجاهدة النفس عن هواها في اجتناب النهي كتفلة في جنب بحر لجيّ، وعلى هذا معنى الخبر الوارد رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر مجاهدة النفس، وكان سهل بن عبد الله يقول: الصبر تصديق الصدق وأفضل منازل الطاعة صبر على معصية ثم الصبر على الطاعة، وقد روينا في الإسرائيليات: إن رجلاً تزوّج امرأة في بلدة وأرسل عبده يحملها إليه فراودته نفسه وطالبته بها فجاهدها واستعصم بالله قال: فنبأه الله تعالى فكان نبياً في بني إسرائيل.
وفي بعض قصص موسى عليه السلام: إنه قال للخصر عليه السلام: بأيّ شيء أطلعك الله تعالى على علم الغيب؟ فقال: بترك المعاصي لأجل الله تعالى، فالجزاء من الله تعالى يجعله غاية العطاء لا على قدر العمل لكن إذا عمل له عبد شيئاً لأجله أعطاه(1/315)
أجره بغير حساب ثم إنه لا يتخذ التائب عادة من ذنب فيتعذر بها توبته فإن العادة جند من جنود الله تعالى لولاها لكان الناس كلهم تائبين ولولا الابتلاء لكان التائبون مستقيمين ثم إن يعمل في قطع معتاد إن كان ثم ليصبر على مجاهدة النفس في هوى إن بلي به، فهذه الخصال من أفضل أعمال المريدين وأزكاها ومعها تلهم النفس المطمئنة رشدها وتقواها وبها تخرج من وصف الأمّارة بالسوء إلى وصف المطمئنة إلى أخلاق الإيمان وهذا أحد المعاني في الخبر الذي روى: أفضل الأعمال ما أكرهتم عليه النفوس، لأن النفس تكره خلاف الهوى، والهوى هو ضد الحق والله تعالى يحب الحق فصار جبار النفس على خلاف الهوى وعلى وفاق الحق لأن محبة الحق من أفضل الأعمال كما قال تعالى: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) الأعراف: 8 الآية، واستثنى من أهل الخسر الذين تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وهذا أوّل اليقين، وحدثت عن بعض أهل الاعتبار: إنه كان يمشي في الوحل فكان يتقي ويشمر ثيابه عن ساقيه ويمشي في جوانب الطريق إلى أن زلقت رجله في الوحل فأدخل رجليه في وسط الوحل وجعل يمشي في المحجة قال: فبكى فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: هذا مثل العبد لا يزال يتوقى الذنوب ويجانبها حتى يقع في ذنب منها وذنبين فعندها يخوض الذنوب خوضاً وعلى العبد أن يتوب من الغفلة التي هي كائنة فإذا عرف هذا لم تنقطع أبداً توبته وقد جعل الله تعالى أهل الغفلة في الدنيا هم أهل الخسران في العقبى، فقال عز من قائل: (أولئكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) الأعراف: 179، لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ولكن غفلة دون غفلة وخسران دون خسران ولا تستحقرن الغفلة فإنها أوّل المعاصي وهي عند الموقنين أصل الكبائر وقد جعل علي كرم الله وجهه الغفلة إحدى مقامات الكفر وقرنها بالعمى والشك وأمال صاحبها عن الرشد ووصفها بالحسرة فقال في الحديث الذي يروى من طريق أهل البيت: فقام عمار بن ياسر فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الكفر على ما بني؟ فقال: على أربع دعائم: على الجفاد، والعمى، والغفلة، والشك، فمن جفا احتقر الحق وجهر بالباطل ومقت العلماء، ومن عمى نسي الذكر ومن غفل حاد عن الرشد وغرّته الأماني فأخذته الحسرة والندامة وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب، ومن شكّ تاه في الضلالة.
وقال بعض العلماء: من صدق في ترك شهوة وجاهد نفسه لله تعالى سبع مرات لم يبتل بها، وقال آخر: من تاب عن ذنب واستقام سبع سنين لم يرجع إليه أبداً، وقال بعض العلماء: كفارة الذنب المعتاد أن تقدر عليه عدد ما أتيته ثم لا تقع فيه فيكون كل ترك كفارة لفعل وهذا حال الأقوياء من التوّابين وليس هو طريق الضعفاء من المريدين بل حال الضعفاء والهرب والبعد، ومن حدث نفسه بمعصية في عدمها لم يملك نفسه عند وجودها فليعمل المريد في قطع وساوس النفس بالخطايا وإلا وقع فيها لأن الخواطر تقوى فتكون(1/316)
وسوسة، فإذا كثرت الوساوس صارت طرقاًِ للعدوّ بالتزيين والتسويل فأضرّ شيء على التائب تمكينه خاطر السوء من قلبه بالإصغاء إليه فإنه يدب في هلكته وكل سبب يدعو إلى معصية أو يذكر بمعصية فهو معصية وكل سبب يؤول إلى ذنب ويؤدي إليه فهو ذنب وإن كان مباحاً وقطعه طاعة وهذا من دقائق الأعمال وكان يقال: من أتى عليه أربعون وهو العمر وكان مقيماً على الذنب لم يكد يتب منه إلا القليل من المتداركين، وقد روي في الخبر: المؤمن كل مفتن تواب وإن للمؤمن ذنباً قد اعتاده الفيئة بعد الفيئة يعني حيناً بعد حين.
وفي الحديث: كل بني آدم خطاء وخير الخطائين المستغفرون، وفي الخبر الآخر: المؤمن واه راقع فخيرهم من مات على رقعه أي واه بالذنوب راقع بالتوبة والاستغفار، وقد وصف الله تعالى المؤمنين بترك متابعة الذنوب وترادف السيئة بالحسنة في قوله تعالى: (وَيَدْرَؤُون بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) الرعد: 22، وقد جعل هذا من وصف العاملين الذين صبروا فقال تعالى: (أُولئكَ يُؤْتَوْنَ أجْرَهْمُ مرَّتينِ بِما صبرُوا وَيَدْرَؤُون بِالْحسنةِ السَّيّئةَ) القصص: 54 فجعل تعالى لهم صبرين عن الذنب وعلى التوبة فآتاهم به أجرين وقد اشترط الله تعالى على التائبين من المؤمنين ثلاث شرائط وشرط على التائبين من المنافقين أربعة لأنهم اعتلوا بالخلق في الأعمال فأشركوهم بالخالق في الإخلاص فزاد عليهم الشرط تشديد الشدة دخولهم في المقت واعتل غيرهم بوصفه فخفف عنهم شرطين فقال عزّ وجلّ: (إلاّ الَّذين تَابُوا وأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) البقرة: 160 قوله تعالى تابوا أي رجعوا إلى الحق من أهوائهم، وأصلحوا يعني ما أفسدوا بنفوسهم، وبينوا فيها وجهان، أحدهما بينوا ما كانوا كتموا من الحق وأخفوا من حقيقة العلم وهذا لمن عصى بكتم العلم ولبس الحق بالباطل وقيل: بينوا توبتهم حتى تبيّن ذلك فيهم فظهرت أحكام التوبة عليهم، وقال في الشرطين الآخرين: (إنَّ الْمُنافِقينَ في الْدَّرْكِ الأسْفِل مِنَ الْنَّارِ وَلَنْ تجِدَ لَهُمْ نَصيراً) النساء: 145 (إلاَّ الَّذين تَابُوا وَأصْلَحُوا واعْتصمُوا باللهِ وأخْلصُوا دَيْنَهُم للهِ) النساء: 146، لأنهم كانوا يعتصمون بالناس وبالأموال وكانوا يراؤون بالأعمال فلذلك اشترط عليهم الاعتصام بالله والإخلاص لله عزّ وجلّ فينبغي أن تكون توبة كل عبد عن ضد معاصيه قليلاً بقليل أو كثيراً بكثير ويكون التائب على ضد ما كان أفسد ليكون كما قال الله تعالى: (إنا لا نُضيعُ أجْرَ الْمُصْلِحينَ) الأعراف: 170، ولا يكون العبد تائباً حتى يكون مصلحاً ولا يكون مصلحاً حتى يعمل الصالحات ثم يدخل في الصالحين.
وقد قال الله تعالى: (وَهُو يَتَولَىّ الصَّالِحينَ) الأعراف: 196، وهذا وصف للتواب وهو المتحقق بالتوبة والحبيب لله تعالى كما قال تعالى: (إنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابينَ) البقرة: 222 أي يتولى الراجعين إليه من أهوائهم المتطهرين له من المكاره، وكما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التائب حبيب الله، وسئل أبو محمد سهل: متى يكون العبد التائب حبيب الله تعالى؟(1/317)
فقال: حتى يكون كما قال الله تعالى: (التَّائِبُون العابِدُونَ) التوبة: 112 الآية، ثم قال الحبيب: لا يدخل في شيء لا يحبه الحبيب، وقال: لا تصح التوبة حتى يتوب من الحسنات، وقد قال غيره من العارفين: العامة يتوبون من سيئاتهم والصوفية يتوبون من حسناتهم يعني من تقصيرهم في أدائها العظيم ما يشهدون من حق الملك العزيز سبحانه وتعالى المقابل بها ومن نظرهم إليها أو نظرهم إلى نفوسهم بها وهي منة الله تعالي إليهم واصلة، وكان سهل يقول: التوبة من أفضل الأعمال لأن الأعمال لا تصحّ إلا بها ولا تصحّ التوبة إلا بترك كثير من الحلال مخافة أن يخرجهم إلى غيره، والاستغفار قوت التّوابين ومفزع الخطائين، قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: (اسْتَغْفِروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبوا إليهِ) هود: 52، وقال تعالى: (أفلا يَتُوبُون إلى الله ويستْغَفِرُونهُ) المائدة: 74 فابتدئ التوبة بالاستغفار وعقب الاستغفار بالتوبة، فالاستغفار مع الذنب سؤال الستر من الله تعالى ومغفرة الله تعالى لعبده في حال ذنبه ستره عليه وحلمه عنه ويقال: ما من ذنب ستره الله تعالى على عبده في الدنيا إلا غفره له في الآخرة، إن الله تعالى أكرم من أن يكشف ذنباً كان قد ستره وما من ذنب كشفه الله في الدنيا إلا جعل ذلك عقوبة عبده في الآخرة فالله أكرم من أن يثنى عقوبته على عبده.
وروي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما نحو ذلك وقد أسنداه من طريق الاستغفار بعد التوبة وهو سؤال العبد مولاه العفو عن المؤاخذة ومغفرة الله تعالى لعبده بعد التوبة تكفيره لسيئاته وتجاوزه عنها بالعفو الكريم وهو تبديل السيئات حسنات كما جاء في الخبر أن تفسير قول العبد: يا كريم العفو قال: هو إن عفا برحمته عن السيئات ثم بدلها بكرمه حسنات وقد أحكم الله تعالى ذلك بقوله: (فَاسْتَقيمُوا إلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) فصلت: 6 بعد قوله تعالى: (إنَّ الَّذينَ قالوا رَبُّنا الله ثم استقاموا تَتنزَّلُ عَليْهِمُ الْملائكِةُ ألاّ تخافُوا ولا تحْزنُوا) فصلت: 30، أي وحّدوا الله تعالى ثم استقاموا على التوحيد فلم يشركوا وقيل: استقاموا على السنة فلم يحدثوا وقيل: استقاموا على التوبة فلم يروغوا معها أن لا تخافوا عقاب الذنوب فقد كفرها عنكم بالتوحيد ولا تحزنوا على ما فاتكم من الأعمال فقد تداركها الله تعالى لكم بالتوبة وبلغكم منازل المحسنين بالاستقامة، ثم قال تعالى: (وَأبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتي كُنْتُمْ تُوعدُون) فصلت: 30 في السابق (نَحْنُ أوْلِياؤُكُمْ) فصلت: 31 أي نليكم ونقرب منكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة بالتثبيت لكم على الإيمان ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم أي أجسامكم من النعيم المقيم ولكم فيها ما تدّعون أي ما تمنون بقلوبكم من النظر إلى الملك الرحيم، وفي الخبر: التائب من الذنب كمن لا ذنب له والمستغفر من الذنب وهو مصرّ عليه كالمستهزئ بآيات الله تعالى: وكان بعضهم يقول: أستغفر الله من قولي أستغفر الله(1/318)
باللسان عن غير توبة وندم بالقلب، وفي بخبر: الاستغفار باللسان من غير توبة وندم بالقلب توبة الكذابين، وكانت رابعة تقول: استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار فكم من توبة تحتاج إلى توبة في تصحيحها والإخلاص من النظر إليها والسكون والإدلال بها، فمن عقب السيئات بحسنات وخلط الصالحات بالطالحات طمع له في النجاة ورجا له الاستقامة قبل الوفاة، قال الله تعالى: (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وآخرَ سَيِّئاً عسى الله أنْ يَتُوب عَلَيْهِمْ) التوبة: 102 أي يعطف عليهم وينظر إليهم وقيل: خلطوا علملاً صالحاً هو الاعتراف بالذنوب والتوبة المستأنفة وآخر سيّئاً ما سلف من الغفلة والجهالة، وقد كان ابن عباس يقول: غفور لمن تاب رحيم حيث رخص في التوبة، وقد قال الله تعالى (وإنّي لَغفَّارُ لِمَنْ تابَ) طه: 82 أي من الشرك وآمن بالتوحيد وعمل صالحاً؛ أدّى الفرئض واجتنب المحارم ثم اهتدى كان على السنّة وقيل: استقام على التوبة فهذه صفات المؤمنين فلم يرّد الله تعالى المخلصين إلى ما ردّ إليه المنافقين وهو التوبة وكذلك ردّ إليها المشركين إذ لا طريق للكل إلا منها ولا وصول إلى المحبة والرضا إلا بها.
وقال تعالى في وصف المنافقين: (وآخرون مُرْجَوْنَ لأمْرِ الله إمّا يُعَذِّبُهُمْ) التوبة: 106 أي مع الإصرار وإمّا يتوب عليهم أي بالاستغفار وأحكم ذلك وفصله بما شرط له، كما قال في شأن الكافرين: (فإن تابُوا وأقامُوا الصَّلاةَ وآتوا الزَّكاة فخلُّوا سبِيلهُمْ) التوبة: 5 وقد قرن الله تعالى الاستغفار للعبادة ببقاء الرسول لله في الأمة ورفع العذاب عنهم بوجوده فضلاًمنه ونعمة، وقال تعالى: (وما كان الله لِيُعَذِّبَهُمْ وأنت فيهم وما كان الله مُعَذِّبَهُمْ وهمْ يَستغفِرُون) الأنفال: 33، وكان بعض السلف يقول: كان لنا أمانان ذهب أحدهما وبقي الآخر، فإن ذهب الآخر هلكنا يعني الذي ذهب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والذي بقي الاستغفار، وسئل سهل رحمه الله عن الاستغفار الذي يكفر الذنوب فقال: أوّل الاستغفار الاستجابة ثم الإنابة ثم التوبة فالاستجابة أعمال الجوارح والإنابة أعمال القلوب والتوبة إقباله على مولاه وترك الخلق، ثم يستغفر من تقصيره الذي هو فيه ومن الجهل بالنعمة وترك الشكر، فعند ذلك يغفر له ويكون عنده مأواه ثم ينقل إلى الانفراد ثم الثبات ثم البيان ثم القرب ثم المعرفة ثم المناجاة ثم المصافاة ثم الموالاة ثم محادثة السر وهو الخلّة، ولا يستقر هذا في قلب عبد حتى يكون العلم غذاءه والذكر قوامه والرضا زاده والتفويض مراده والتوكل صاحبه، ثم ينظر الله تعالى إليه فيرفعه إلى العرش فيكون مقامه مقام حملة العرش وكان يقول العبد لا بدّ له من مولاه على كل حال، وأحسن حاله أن يرجع إليه في كل شيء إذا عصي يقول: يا رب استر علي فإذا فرغ من المعصية قال: يا ربّ تبْ عليّ فإذا تاب قال يا ربّ ارزقني العصمة فإذا عمل قال: يا ربّ تقبّل مني، ومن أحسن ما يتعقب الذنب من الأعمال بعد التوبة وحلّ الإصرار مما يرجى به كفارة الخطيئة(1/319)
ثمانية أعمال: أربعة من أعمال الجوارح وأربعة من أعمال القلوب، فأعمال الجوارح أن يصلي العبد ركعتين ثم يستغفر سبعين مرة.
ويقول: سبحان الله العظيم وبحمده مائة مرة ثم يتصدق بصدقة ويصوم يوماً، وأعمال القلوب هي اعتقاد التوبة منه وحبّ الإقلاع عنه وخوف العقاب عليه ورجاء المغفرة له، ثم يحتسب على الله تعالى بحسن ظنه وصدق يقينه كفّارة ذنبه، فهذه الأعمال قد وردت بها الآثار، إنها المكفرة للزلل والعثار، وقد يشترط في بعضها فيتوضأ ويسبغ الوضوء ويدخل المسجد فيصلّي ركعتين وفي بعض الأخبار فيصلّي أربع ركعات، قال: ويقال إذا أذنب العبد أمر صاحب اليمين صاحب الشمال وهو أمير عليه أن يرفع القلم عنه ست ساعات فإن تاب واستغفر لم يكتبها عليه وإن لم يستغفر كتبها، ويقال صدقة الليل تكفّر ذنوب النهار وصدقة السرّ تكفّر ذنوب الليل، وفي بعض الأخبار إذا علمت سيئة فأتبعها حينة تكفرها السرّ بالسرّ والعلانية بالعلانية، وفي أخبار متفرقة جمعناها: ما من يوم طلع فجره ولا ليلة غاب شفقها إلا وملكان يتجاوبان بأربعة أصوات يقول أحدهما: يا ليت هذا الخلق لم يخلقوا ويقول الآخر: ويا ليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا فيقول الآخر: ياليتهم إذ علموا لماذا خلقوا عملوا بما علموا، وفي بعضها: تجالسوا فتذاكروا ما علموا فيقول الآخر: ويا ليتهم إذ لم يعملوا بما علموا تابوا مما عملوا، فأول ما يجب لله عزّ وجلّ على عبده أن لا يعصيه بنعمه لئلا تكون معصيته كفراناً لنعمته وجوارح العبد وما له من نعم الله تعالى لأن قوام الإنسان بجوارحه وثبات جوارحه بالحركة ومنافع الحركة بالعافية، فإذا عصاه بالنعمة فقد بدلها كفراً، كما قال تعالى: (بَدَّلُوا نِعْمَتَ الله كُفْراً) إبراهيم: 28 قيل: استعانوا بها على معاصيه ثم توعد على التبديل بالعقاب الشديد فقال: (ومَنْ يُبَدلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتّهُ فإنّ َ الله شديدُ الْعِقابِ) البقرة: 211، على تبديل النعمة بالمعصية معجلاً في الدنيا ويكون مؤجلاً في الآخرة.
وقد يكون العقاب في أسباب الدنيا، وقد يكون في حرمان أسباب الآخرة لأنها مآله ومثواه، وقد يكون فيهما معاً، وقد تكون نفس المعصية بالنعمة عقوبة والجهل بالنعمة وتضييع الشكر عليها واستصغارها والسكون إليها والتطاول والتفاخر والتكابر بها كل هذه الأسباب عقوبات ثم يفترض على العبد إذا عصاه الرجوع إلى مولاه وهو التوبة عقيب وقوفه مع نفسه وهو موافقة الهوى بالخطيئة فتأخيره بالتوبة وإصراره على الذنب ذنبان مضافان إلى الخطيئة، فإذا تاب من ذنبه وأحكم التوبة منه اعتقد الاستقامة على الطاعة ودوام الافتقار إلى الله تعالى في العصمة ثم يتوب أبداً من الصغائر إلى الهمّ والتمني، ومن الخوف والطمع في المخلوق، وهي ذنوب الخصوص إلى الطرفة والنفس والسكون إلى شيء والراحة بشيء وهذه ذنوب المقربين حتى لا يبقى على العبد فيما يعلم(1/320)
مخالفة وحتى يشهد له العلم بالوفاء فتبقى حينئذ ذنوبه من مطالعة علم الله تعالى فيه لما أستأثر به عنه من علم غيبه يكاشفه به ومن معنى نفس العبودية وكون الخلقة عن تسليط الربوبية بوصفها وكبرها فيكون هذا الخوف مثوبة له لما فزع من علم نفسه إلى ما لا يمكن ذكره ولا يعرف نشره من ذنوب المقربين التي هي صالحات أصحاب اليمين لفقد مشاهدتها وللجهل بمعرفة مقاماتها عند العموم فيكون حال هذا المقرب الإشفاق من البعد في كل طرفة ونفس إلى وقت اللقاء والخوف من الإعراض والحجب في كل حركة وهم في هذه الدار إلى دار البقاء.
وقد روينا في خبر غريب: إن الله عزّ وجلّ أوحى إلى يعقوب عليه السلام أتدري لم فرقت بينك وبين يوسف، قال: لا، قال: لقولك لإخوته إني أخاف أن يأكله الذئب لم خفت عليه الذئب ولم ترجني له ولم نظرت إلى غفلة إخوته ولم تنظر إلى حفظي له فهذا معنى قول يوسف للساقي: اذكرني عند ربك، قال الله تعالى: (فأنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكرَ رَبِّهِ فَلبِثَ في السِّجْنِ بَضْعَ سِنينَ) يوسف: 42، فهذا مما يعتب على الخصوص من خفي سكونهم ولمح نظرهم إلى ما سوى الله تعالى وإنما حرم بعض التابعين ذلك المزيد ولم يجدوا حلاوة التوبة لتهاونهم بحال الرعاية وتسامحهم بترك حسن القيام بشاهد المراقبة وذلك يكون من قلة أحكام أمر التوبة ولو قاموا بحكم التوبة من الذنب الواحد وأحكموا حال توّاب من الصادقين في التوبة لم يعدموا من الله تعالى المزيد لأنهم محسنون فهم في تجديد، قال الله تعالى: (سَنَزيدُ الْمُحْسِنينَ) البقرة: 58 فإذا رآك مستقيماً على التوبة عاملاً بالصالحات ولم تجدك على مزيد من مبرّات بوجد حلاوة أو حسن خليقة أو عروض زهد أو خاصية معروفة فارجع إلى باب المرقبة أو موقف الرعاية فتفقدهما وأحكم حالهما فمن قبلهما أتيت، وقال بعض العلماء: من تاب من تسعة وتسعين ذنباً ولم يتب من ذنب واحد لم يكن عندنا من التائبين ولا تغفلن عن التفقد وتجديد التوبة إدبار الصلوات فإنما دخل الخسران على العمال من حيث لا يعلمون من تركهم التفقد ومحاسبة النفس وبمسامحتها مما يعملون، واعلم أن حقيقة كل ذنب عشرة أعمال لا يكون العبد توّاباً يحبه الله تعالى ولا تكون توبته نصوحاً التي شرطها الله تعالى وفسرتها النبوّة إلا أن يحكم العبد عشر توبات من كل ذنب أولها ترك العود إلى فعل الذنب ثم يتوب من القول به ثم يتوب من الاجتماع مع سبب الذنب ثم التوبة من السعي في مثله ثم التوبة من النظر إليه ثم التوبة من الاستماع إلى القائلين به ثم التوبة من الهمة ثم التوبة من التقصير في حق التوبة ثم التوبة من أن لا يكون أراد وجه الله تعالى خالصاً بجميع ما تركه لأجله ثم التوبة من النظر إلى التوبة والسكون إليها والإدلال بها ثم يشهد بعد ذلك تقصيره عن القيام بحق الربوبية لعظيم ما يشهد بالمزيد من الإشراف على التوحيد من كبير جلال الله تعالى وعظم كبريائه فتكون(1/321)
توبته بعد ذلك من تقصيره عن القيام بحقيقة مشاهدته ويكون استغفاره لما ضعف قلبه ونقص همّه عن معاينة مشاهدة لعلوّ مقامه ودوام فريدة وإعلامه ولا نهاية لتوبة العارف ولا لغاية وصفه لما هو عليه عاكف ولا وصف محتمل ذكر دقيق بلائه ولا يكبر عن التوبة نبي فمن دونه ولكل مقام توبة ولكل حال من مقام توبة ولكل مشاهدة ومكاشفة توبة فهذا حال التائب المنيب الذي هو من الله تعالى مقرب وعنده حبيب وهذا مقام مفتن توّاب أي مختبر بالأشياء مبتلى بها توّاب إلى الله تعالى منها لينظر مولاه أينظر بقلبه إليه أو إليها أو يعتكف بهمته عليه أو عليها أو يطمئن إليه بوجودها أو إليها أو يطلب إياه هرباً منها أو إياها فعليه لكل مشاهدة لسواه ذنب وعليه في كل سكون إلى سواه عتب كما له في كل شهادة علم ومن كل إظهار في الكون حكم بذنوبه لا تحصى وتوباته إلى الله تعالى لا تستقصى، فهذه حقيقة التوبة النصوح وصاحبها مسلم وجهه لله تعالى محسن من نفسه مستريح ودينه عند الله تعالى مستقيم ومقامه وحاله من الله تعالى سليم.
وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله يحبّ كل مفتن توّاب، واعلم أن الذنوب على سبعة ضروب بعضها أعظم من بعض، كل ضرب منها مراتب في كل مرتبة من المذنبين طبقة منها معاصٍ يعتلّ بها العبد من معاني صفات الربوبية مثل الكبر والفخر والجبرية وحبّ الحمد والمدح ووصف العزّ والغنى، فهذه مهلكات وفيها من العموم طبقات ومعاصي تكون من معاني أخلاق الشياطين مثل: الحسد والبغي والحيلة والخداع والأمر بالفساد، فهذا موبقة وفيها من أهل الدنيا طبقات ومعاصي تكون من ضد السنّة وهو ما خالفها إلى بدعة والأحداث المبتدعة وهي كبائر منها ما يذهب الإيمان وينبت النفاق، وست من كبائر البدع، وهي تنقل عن الملة: وهي القدرية والمرجئة الرافضية والإباضية والجهمية والشاطحون من المغالطين وهم الذين لا يقولون بخلق ولا رسم ولا حكم في تعدّي الحدود ومجاوزات العلم فهم زنادقة هذه الأمة ومعاصٍ متعلقة بالخلق من طريق المظالم في الدين والإلحاد بهم عن طريق المؤمنين، وهو ما أضلّ به عن الهدى وأزاغ به عن السنن وحرّفه من الكتاب وتأوّله من السنّة ثم أظهر ذلك ودعا إليه فقبل منه وأتبع عليه.
وقد قال بعض العلماء: لا توبة لهذه المعاصي كما قال بعضهم في القاتل: لا توبة له للأخبار بثبوت الوعيد وحقّ القول عليه، والضرب الخامس من المعاصي ما تعلّق بمظالم العباد في أمر الدنيا مثل ضرب الإنسان وشتم الأعراض وأخذ الأموال والكذب والبهتان، فهذه موبقات ولا بد فيها من القصاص للموافقة بين يدي الحاكم العادل والقطع منه بقضاء فاصل إلا أن يقع استحلال أو يستوهبها الله عزّ وجلّ من أربابها في المآل بكرمه ويعوض المظلومين عليها من جنابه بجوده، وقد جاء في الخبر: الدواوين ثلاثة: ديوان يغفر، وديوان لا يغفر، وديوان لا يترك، فأما الديوان الذي يغفر فذنوب العباد بينهم وبين الله تعالى وأما الديوان الذي لا يغفر فالشرك بالله تعالى وأما الديوان الذي لا(1/322)
يترك فمظالم العباد أي لا يترك المطالبة به والمؤاخذه عليه، والضرب السادس من الذنوب ما كان بين العبد وبين مولاه من نفسه إلى نفسه متعلّق بالشهوات والجري في العادات وهذه أخفها وإلى العفو أقربها، وهذه على ضربين كبائر وصغائر، فالكبائر ما نصّ عليه بالوعيد وما وجبت فيه الحدود، والصغائر دون ذلك إلى نطرة وخطرة والتوبة النصوح تأتي على الجميع ذلك بعموم قوله تعالى: (فتاب عليكم وعفا عنكم) وبإخباره عزّ وجلّ عن حكمه إذ يقول: ثم تاب عليهم ليتوبوا، وبظاهر قوله تعالى (إنَّ الَذين فَتَنُوا المُؤْمنينَ والْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) البروج: 10، ومثله: (ثُمَّ إنَّ رَبَّك لِلَّذينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) النحل: 110 إلى قوله: (إنَّ رَبَّك مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحيمٌ) النحل: 110 هكذا قراءة أهل الشام بنصب الفاء والتاء ولأن البغية من التوبة إذا كانت غفران الذنب والزحزحة عن النار ونحن لا نرى أبدية الوعيد على أهل الكبائر بل نجعلهم في مشيئة الله ونجوز تجاوز الله تعالى عنهم في أصحاب الجنة، كما جاء في الخبر في تفسير قوله تعالى: (فَجَزاؤهُ جَهَنَّمُ خالدِاً فِيها) النساء: 93، أي إن جازاه، وكما روينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من وعده الله تعالى على عمل ثواباً فهو منجزه له ومن وعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، وكما قال ابن عباس رضي الله عنه: يغفر لم يشاء الذنب العظيم ويعذّب من يشاء على الذنب الصغير، وقد قال الله تعالى: (إنَّ الله لا يغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلك لمِنْ يشاءُ) النساء: 48، فلم يجد للمغفرة ذنباً غير الشرك وترك المسلمين مع سائر الذنوب في مشيئته فقد يحتج محتج بالخبر المأثور في ترك قبول توبة المبتدع إن الله تعالى احتجر التوبة على كل صاحب بدعة فهذا مخصوص لمن لم يتب ممّن حكم عليه بدرك الشقاء، ألا ترى أنه لم يقل إن الله تعالى احتجر قبول التوبة عمّن تاب إنما أخبر عن حكم الله تعالى فيمن لم يتب بأن الله تعالى حجب التوبة عنه، فهكذا نقول أيضاً: إن القاتل إذا كان قد سبق له سوء الخاتمة بأنه يموت على غير توحيد، وكذلك المبتدع إن جعل اسمه في أصحاب النار ثم كان القتل والبدعة علامة ذلك وسببه أنهما جميعاً ممنوعان من التوبة فإنها محتجرة عنهما، سورة وكذلك القول فيمن حقْت عليه كلمة العذاب بسبق سوء الخاتمة فلو أنه تاب سبعين توبة لم تنقذه من النار وليست توبته بأكثر من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة حتى يقول الناس: إنه من أهلها ولا يبقى بينه وبينها إلا شبر ثم يدركه الشقاء.
وفي لفظ آخر: ثم يسبق عليه الكتاب بعمل أهل النار فيدخلها فقد دخلت التوبات في صالح أعماله الحسنات ثم أحبطها عنه في جملة عمله بسبق الكتاب بالشقاء له، وأما من لم يسبق له سوء الخاتمة ووهب له التوبة النصوح ولم يدركه الشقاء فإنها لم تحتجر(1/323)
عنه وإن الله تعالى يعفو عنه بما وهب له من التوبة كقوله تعالى في المنافقين: (إمَّا يُعَذِّبُهُمّ وإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) التوبة: 106، وليس النفاق دون البدعة ولا كل المنافقين تاب عليهم ولا جميعهم ختم لهم به، ولعموم قوله تعالى: (فَتابَ عَلَيْكُمْ وعفا عنْكمْ) البقرة: 187، فهذا مجمل فيمن تاب والخبر مخصوص فيمن لم يتب، ولقوله تعالى: (ثُمَّ تابَ عليْهِم لِيتُوبُوا) التوبة: 118، ولقوله تعالى: (عسى الله أن يَتُوبَ علَيْهِمْ إنَّ الله غفورٌ رَحيمٌ) التوبة: 102، ثم إن الناس في التوبة على أربعة أقسام، في كل قسم طائفة، لكل طائفة مقام، منهم: تائب من الذنب مستقيم على التوبة والإنابة لا يحدث نفسه بالعود إلى معصية أيام حياته مستبدل بعمل سيئاته صالح حسناته، فهذا هو السابق بالخيرات وهذه هي التوبة النصوح ونفس هذا المطمئنة المرضية، والخبر المروي في مثل هذا سيروا سبق المفردون المستهترون بذكر الله وضع الذكر أوزارهم فوريوا القيامة خفافاً والذي يلي هذا في القرب عبد عقده التوبة ونيّته الإستقامة لا يسعى في ذنب ولا يقصده ولا ينجوه ولا يهتم به وقد يبتلي بدخول الخطايا عليه عن غير قصد منه ويمتحن بالهم واللمم، فهذا من صفات المؤمنين يرجى له الاستقامة لأنه في طريقها وهو ممّن قال الله تعالى: (يَجْتَنِبُونَ كبائِرَ الإثْمِ والْفَواحشِ إلاَّ اللَّممَ إنَّ ربَكَ واسِعُ الْمغفرةِ) النجم: 32 وداخل في وصف المتقين الذين قال الله تعالى فيهم: (والَّذين إذا فَعَلُوا فاحِشةَ أو ظلمُوا أنْفُسَهُمْ) آل عمران: 135 الآية، ونفس هذا هي اللوّامة التي أقسم الله تعالى بها وهو من المقتصدين وهذه الذنوب تدخل على النفوس من معاني صفاتها وغرائز جبلاتها وأوائل أنسابها من نبات الأرض وتركيب الأطوار في الأرحام خلقاً بعد خلق ومن أختلاط الأمشاج بعضها ببعض ولذلك عقبه تعالى بقوله: (هُو أعْلمُ بِكُمْ إذْ أنْشأكُمْ مِنَ الأرضِ وإذ أنْتُمْ أَجِنَّةٌ في بُطُونِ أُمَّهاتِكمُ) النجم: 32 الآية، فلذلك نهى عن تزكية النفس المنشأة من الأرض والمركبة في الأرحام بالأمشاج للاعوجاج فقال تعالى: (فلا تُزكُّوا أنْفُسكُمْ) النجم: 32 أي فهذا وصفها عن بدء إنشائها وكذلك وصف مشيج خليقته بالابتلاء في قوله: (إنَّا خلقْنا الإنسان مِنْ نُطْفَةِ أمشاجٍ نَبْتليهِ فجعلْناهُ سميعاً بصيراً) الإنسان: 2، شوح هذا يطول ويخرج إلى علم تركيبات النفوس ومجبول فطرتها.
وقد ذكرنا أصوله في بعض الأبواب من هذا الكتاب: وفي مثل هذا العبد معنى الخبر الذي جاء المؤمن مفتن توّاب والمؤمن كالسنبلة تفيء أحياناً وتميل أحياناً فإزراء هذا العبد على نفسه ومقته لها عن معرفته بها وترك نظره إليه وسكونه إلى خير إن ظهر عليها يكون من كفارات ذنوبه لأنه من تدبر الخطاب في قوله تعالى: (فلا تُزَكُّوا أنْفُسَكُمْ هُو أعْلمُ بِمَنِ اتَّقى) النجم: 32، والعبد الثالث هو الذي يقرب من هذا الثاني في الحال عبد يذنب ثم يتوب ثم يعود(1/324)
إلى الذنب ثم يحزن عليه بقصد له وسعي فيه وإيثاره إياه على الطاعة، إلا أنه يسوّف بالتوبة ويحدث نفسه بالاستقامة ويحب منازل التوابين ويرتاح قلبه إلى مقامات الصديقين ولم يأن حينه ولا ظهر مقامه لأن الهوى يحركه والعادة تجذبه والغفلة تغمره إلا أنه يتوب خلال الذنوب ويعاود لتقدم المعتاد فتوبة هذا فوت من وقت إلى وقت ومثله ترجى له الاستقامة لمحاسن عمله وتكفيرها لسالف سيئته وقد يخاف عليه الانقلاب لمداومة خطئه ونفس هذا هي المسوّلة وهو ممّن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليه فيستقيم فيلحق بالسابقين فهذا بين حالين، بين أن يغلب عليه وصف النفس فيحق عليه ما سبق من القول وبين أن ينظر إليه مولاه نظرة تجبر له كلّ كسر ويغنى له كل فقر فيتداركه بمنّة سابقة فتلحقه بمنازل المقرّبين لأنه قد سلك طريقهم بفضله ورحمته ونيته الآخرة، والعبد الرابع أسوأ العبيد حالاً وأعظمهم على نفسه وبالاً وأقلهم من الله نوالاً عبد يذنب ثم يتبع الذنب مثله أو أعظم منه ويقيم على الإصرار ويحدث نفسه به متى قدر عليه ولا ينوي توبة ولا يعقد استقامة ولا يرجو وعداً بحسن ظنّه ولا يخاف وعيداً لتمكّن أمنه، فهذا هو حقيقة الإصرار ومقام بين العتو والاستكبار، وفي مثل هذا جاء الخبر: هلك المصرّون قدماً إلى النار ونفس هذا هي الأمّارة وروحه أبداً من الخير فرّارة ويخاف على مثله سوء الخاتمة لأنه في مقدماتها وسالك طريقتها ولا يبعد منه سوء القضاء ودرك الشقاء ولمثل هذا قيل من سوف الله تعالى بالتوبة أكذبه وأن اللعنة خروج من ذنب إلى أعظم منه، وهذه الطائفة في عموم المسلمين، وهم في مشيئة الله من الفاسقين، كما قال تعالى: (مُرْجَوْنَ لأمْرِ الله) التوبة: 106 أي مؤخرون لحكمه إما يعذبهم بالإصرار وإما يتوب عليهم بما سبق من حسن الاختيار نعوذ بالله تعالى من عذابه ونسأله نعيماً من ثوابه، وهذا آخر كتاب التوبة.
شرح مقام الصبر
ووصف الصابرين وهو الثاني من مقامات اليقين
قد جعل الله عزّ وجلّ الصابرين أئمة المتقين وتمّم كلمته الحسنى عليهم في الدين فقال تعالى: (وجَعَلْناهمْ أئِمَةً يَهْدُونَ بأمْرِنا) الأنبياء: 73 لما صبروا، وقال تعالى: (وتَمَّتْ كلمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى على بني إسْرائيل بِما صَبَرُوا) الأعراف: 137، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وقال المسيح عليه السلام: إنكم لا تدركون ما تحبون إلا بصبركم على ما تكرهون، وقال بعض الصحابة: ماذا جعل الله تعالى من الشقاء والفضل في التقى والصبر، وقال ابن مسعود: الصبر نصف الإيمان، وقد جعل علي كرم الله وجهه الصبر ركناً من أركان الإيمان وقرنه بالجهاد والعدل والإيقان فقال: بني الإسلام على أربع دعائم، على اليقين، والصبر، والجهاد، والعدل، وقال عليّ كرم الله وجهه: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد لا جسد لمن لا رأس له ولا إيمان لمن لا صبر له، ورفع رسول الله: الصبر في العلو والفضل إلى مقام اليقين(1/325)
وقرنه به، وكذلك قال تعالى: (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أئِمَّةً يَهْدُونَ بأمْرِنا لِمَّا صبَرُوا وكانُوا بآياتِنا يُوقِنُونَ) السجدة: 24، وأخبر النبي لله: إن من أوتي نصيبه منهما لم يسأل ما فاته، وأخبر عليه السلام: إن الصبر كمال العمل والأجر، فقال في حديث يرويه شهر بن حوشب الأشعري عن أبي أمامة الباهلي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أقلّ ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ومن أعطى حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار ولأن تصبروا على مثل ما أنتم عليه أحبّ إليّ من أن يوافيني كل امرئ منكم بمثل عمل جميعكم، ولكني أخاف أن تفتح عليكم الدنيا بعدي فينكر بعضكم بعضاً وينكركم أهل السماء عند ذلك، فمن صبر واحتسب ظفر بكمال ثوابه،، ثم قرأ ما عندكم ينفد وما عند الله باق وليجزينّ الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون.
وفي حديث ابن المنكدر عن جابر قال: سئل رسول الله عن الإيمان فقال الصبر والسماحة، وقد قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: (أُولئكَ يُؤْتَوْنَ أجْرَهُمّ مرَّتَيْنِ بِما صبَرُوا) القصص: 54، وقال عزّ وجلّ: (إِنَّما يُوفَّى الصَّابِرون أجْرََهُمّ بِغيْرِ حِسابٍ) الزمر: 10 فضاعف أجر الصابرين على كلّ عمل ثم رفع جزاء الصبر فوق كلّ جزاء فجعله بلا نهاية ولا حدّ فدلّ ذلك أنه أفضل المقامات وجمع للصابرين ثلاثاً فرقها على جمل أهل العبادات، الصلاة، والرحمة، والهدى بعد البشارة في الآخرة والعقبى، وكان عمر رضي الله عنه يقول: نعم العدلان ونعمت العلاوة للصابرين، يعني بالعدلين الصلاة والرحمة وبالعلاوة الهدى، والعلاوة ما يعلى به فوق الحملين على البعير فيكون كعدل ثالث، وقد أخبر الله تعالى أنه مع الصابرين، ومن كان الله تعالى معه غلب، كما أن من كان معه علا، فقال تعالى: (واصْبِرُوا إنَّ الله مع الصَّابِرينَ) الأنفال: 46، كما قال الله عزّ وجلّ: (وأنْتُمُ الأعلوْنَ والله معكُمْ) محمد: 35 واشترط الصبر لإمداده بجنده ولنصرة تأييده بقوله تعالى: (بلى إنّ تصْبِرُوا وتتَّقوا ويأْتُونكُمْ منْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسةِ آلافِ من الملائكةِ مُسَوِّمينَ) آل عمران: 125، وكان سهل يقول: الصبر تصديق الصدق وأفضل منازل الطاعة الصبر على المعصية ثم الصبر على الطاعة، وقال في معنى قوله عزّ وجلّ: (اسْتَعِنُوا بِالله وَاصْبِروُا) الأعراف: 128 أي استعينوا بالله على أمر الله، وأصبروا على أدب الله، وقال: لم يمدح الله تعالى أحداً إلا من صبر للبلاء والشدة فبذلك يثني عليه، وكان يقول: الصالحون في المؤمنين قليل، والصادقون في الصالحين قليل، والصابرون في الصادقين قليل، فجعل الصبر خاصيّة الصدق وجعل الصابرين خصوص الصادقين، وكذلك الله تعالى وهو أصدق القائلين، قد رفع الصابرين على الصادقين في ترتيب المقامات، فجعل الصبر مقاماً في الصدق إن كانت الأوصاف المنسوقة نعتاً واحداً للمسلمين، وكانت الواو للمدح وإن كانت مقامات فالواو للترتيب، فقد جعل الله الصابرين فوق الصادقين والقانتين أعني في(1/326)
قوله تعالى: (إنَّ الْمُسْلمِينَ وَالْمُسْلِماتِ والْمُؤمنينَ والْمُؤمِنَاتِ) الأحزاب::35 الآية، وفي حديث عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: ما دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الأنصار قال: أمؤمنون أنتم؟ فسكتوا فقال عمر رضي الله عنه: نعم يا رسول الله قال: وما علامة إيمانكم؟ قال: نشكر في الرخاء ونصبر على البلاء ونرضى القضاء فقال: مؤمنون: ورب الكعبة، والصبر ينقسم على عملين، أحدهما لا صلاح للدين إلا به، والثاني هو أصل فساد الدين، ثم يتنوع الصبر فيكون صابراً على الذي فيه صلاح الدين فيكمل به إيمانه ويكون صابراً عن الذي فيه فساد الدبن فيحسن به يقينه.
روينا في معنى هذا عن عليّ رضي الله عنه: أنه لما دخل البصرة واستاقم له الأمر دخل جامعها فجعل يخرج القصّاص ويقول القصص بدعة، فانتهى إلى حلقة شاب يتكلم على جماعة فأستمع إليه فأعجبه كلامه فقال: يا فتى أسألك عن شيئين فإن خرجت منهما تركتك تتكلم على الناس وإلا أخرجتك كما أخرجت أصحابك، فقال: سل يا أمير المؤمنين فقال: أخبرني ما صلاح الدين وما فساده؟ قال: صلاحه الورع وفساده الطمع قال: صدقت تكلم فمثلك يصلح أن يتكلم على الناس، يقال: إن هذا الشاب هو إمامنا في هذا العلم وهو إمام الأئمة الحسن بن يسار مولى الأنصار البصري، وكان ميمون بن مهران يقول: الإيمان والتصديق والمعرفة والصبر واحد، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: دروة الإيمان الصبر للحكم والرضا بالقدر، وأعلم أن الورع أول الزهد وهو أول باب من أبواب الآخرة والطمع أوّل الرغبة، وهو باب كبير من أبواب الدنيا، وهو استشعار الطمع من حبّ الدنيا، وحبّ الدنيا رأس كل خطيئة، ويقال: أول معصية عصى الله تعالى بها الطمع، وهو أن آدم عليه السلام طمع في الخلود فأكل من الشجرة التي نهى عنها وإبليس طمع في إخراج آدم عليه السلام من الجنة فوسوس إليه فاتفقا في إسم المعصية لربهما تعالى بالطمع، ثم افترقا في المطموع فيه وفي الحكم، فتدورك آدم عليه السلام بحسن سابقته من الله تعالى وهلك إبليس بما سبق عليه من الشقوة ولاطمع هو تصديق الظن، ولذلك وصف الله تعالى به عدوه في قوله تعالى: (ولقد صدَّق عَلَيْهِمْ إبليسُ ظَنَّهُ) سبأ: 20، والظنّ ضد اليقين ولا يغني من الحق شيئاً، وقال الله تعالى في وصف المشركين: (إنْ نَظُنُّ إلا ّظنًّا وما نَحْنُ يِمُسْتَيْقِنين) الجاثية: 32، فمن صبر عن الطمع في الخلق أخرجه الصبر إلى الورع ومن صبر عن الورع في الدين أدخله الصبر في الزهد ومن طمع في تصديق الظنّ الكاذب أدخله الطمع في حبّ الدنيا، ومن استشعر حبّ الدنيا أخرجه حبها من حقيقة الدين.
وقد قال بعض العلماء: ما كنا نعدّ إيمان من لم يؤذ فيحتمل الأذى ويصبر عليه إيماناً وقد فعل الله تعالى ذلك بالمؤمنين اختباراً وأخبر أن ذلك ليس منه عذاباً وإنما هو فتنة لمن أراد فتنته وبلاءه من الناس، فصار ذلك فتنة عليهم وابتلاء لهم وصار رحمة(1/327)
للمؤذي وخيراً في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِالله فإذا أُوذِي في الله جعل فِتْنَةَ النَّاسِ كعذابِ الله) العنكبوت: 10 له، يعني فتنة الناس به كعذاب الله تعالى يعني إياه أي ليس ذلك عذاباً مني إنما هو رحمة باطنة فهو كقوله تعالى: (وَأَمَّا إذا ما ابتْلاهُ فَقدرَ عليْهِ رِزْقَهُ فيقُول ربّي أهانِنِ) (كَلاّ) سورة الفجر: 16 - 17 أي لم أهنك بالفقر كما لم أكرم الآخر بالإكرام والتنعيم وعلى معنى هذا خاطب نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصبر الذي أمره به فقال تعالى: (اصبِر على ما يَقُولونَ واذْكُرْ عَبْدنا داوُد) ص: 17 فسلاه به وفضله عليه.
وقد روينا في خبر: يؤتى بأشكر أهل الأرض فيجزيه الله تعالى جزاء الشاكرين ويؤتى بأصبر أهل الأرض فيقال له: أترضى أن نجزيك كما جزينا هذا الشاكر؟ فيقول: نعم يا رب فيقول الله تعالى: كما أنعمت عليه فشكر وابتليتك فصبرت لأضعفنّ لك الأجر عليه فيعطي أضعاف جزاء الشاكرين، وكتب ابن أبي نجيح يعزي بعض الخلفاء فقال في كتابه: إن أحقّ من عرف حقّ اللهّ فيما أخذ منه من عظم حقّ الله تعالى عنده فيما أبقى، واعلم أن الماضي قبلك هو الباقي لك والباقي بعدك هو المأجور فيك، واعلم أن أجر الصابرين فيما يصابون فيه أعظم من النعمة عليهم فيما يعافون به، وفي الأخبار: ما من عبد إلا يعطى أجره بحساب وحدّ إلا الصابرين فإنهم يجازفون مجازفة بغير ميزان ولا حدّ، وجاء في الخبر أن أبواب الجنة مصراعان يأتي عليها زحام كثير إلا باب الصبر فإنه مصراع واحد لا يدخل منه إلا الصابرون أهل البلاء في الدنيا، واحد بعد واحد.
وقد قال الله تعالى في جزاء المخلصين: (أولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) الصافات: 41، وقال تعالى في جزاء الصابرين (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرون أجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) الزمر: 10، قيل في التفسير: يغرف لهم غرفاً، المعنى في ذلك أن الصبر أشق شيء على النفس وأكرهه وأمرّه على الطبع وأصعبه فيه الألم والكظم عند الذل والحلم ومنه التواضع والكتم وفيه الأدب وحسن الخلق وبه يكون كفّ الأذى عن الخلق واحتمال الأذى من الخلق، وهذه من عزائم الأمور التي يضيق منها أكثر الصدور وفيه إكراه النفوس وحملها على الشدة والبؤس، وقد جاء أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس، ولأجل ذلك اشترط الله تعالى على المّتقين والصادقين الصبر في الشدائد والمكاره وحقق بالصبر صدقهم وتقواهم وأكمل به وصفهم وأعمال برّهم فقال تعالى: (والصّابِرينَ في الْبَأْساءِ والضَّرَّاءِ وحينَ الْباسِ أُولئكَ الَّذين صدقُوا وأُولئكَ هُمُ الْمُتَّقُون) البقرة: 177، فمعنى الصبر حبس النفس عن السعي في هواها وحبسها أيضاً عن مجاهدتها لمرضاة مولاها بمثل ما يوجب المجاهدة على قدر ما يبتلي به العبد لأن المجاهدة على قدر البلاء والحبس عن نحو الشرود وحبسها على دوام الطاعة وصبرها عن شره الطبع الذي يظهر سوء الأدب بين يدي الربّ سبحانه وتعالى وصبرها على حسن الأدب في المعاملة، ثم يتفرع الصبر إلى معانٍ شتى: من الصبر عن تفاوت الأهواء والصبر على الثبات(1/328)
في خدمة المولى فمن ذلك ما توجب المجاهدة صرف الهمة عنه وتطهير القلب منه من خطرات الهوى ونزعات الأعداء وتزيين الدنيا، ومن الآفات ما يوجب الصبر كفّ الجوارح عنها وحبس النفس عن المشي فيها، ومن الصبر حبس النفس على الحقّ وعكوفها عليه بمعاملة اللسان والقلب والجسم، وبذلك؛ وصف الله تعالى المؤمنين الذين يعملون الصالحات واشترط لصلاح أعمالهم الصبر وأخبر أن الناس كلهم في خسران إلا من كان من أهل الحق والصبر وعظم الصبر فأفرده بإعادة التواصي به، ومن الصبر حبس النفس على عبادة الخالق سبحانه وتعالى، وصبرها على القناعة وعلى صنع الرازق، ومن الصبر كفّ الأذى عن الخلق، وهو مقام العادلين يدخل في قوله تعالى: (إنَّ الله يأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحسانِ) النحل: 90، ثم احتمال الأذى عن الخلق وهو مقام المحسنين يدخل في قوله: والإحسان، ومن الصبر الصبر على الإنفاق وإعطاء أهل الحقوق حقوقهم الأقرب فالأقرب وهذا مقام المنفقين يدخل في قوله تعالى: (وإيتاء ذِي الْقُربى وينْهى عَنِ الْفحشاءِ والْمُنْكَرِ والْبغي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون) النحل: 90 ومنه الصبر على الفحشاء وهو الأمر الفاحش في العلم والإيمان والصر عن المنكر وهو ما أنكره العلماد، والصبر عن البغي وهو التطاول والغلوّ ومجاوزة الحدّ بالكبر والإسراف في أمور الدنيا، فهذه الآية كلها جامعة لمعنى الصبر وهي قطب القرآن، ثلاث منها وهي الأول الصبر على العدل والإحسان والإعطاء، وثلاث منها الصبر عن الفحشاء والمنكر والبغي.
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: أجمع آية في كتاب الله عزّ وجلّ لأمر ونهي هذه الاية، وقال الله تعالى: (وَنِعِمْ أَجْرُ الْعامِلينَ) آل عمران: 136 الذين صبروا فما أنعم أجرهم حتى وصفهم بالصبر وما أكرم رزقهم ووصفهم حتى مدحهم بالصبر، والصبر يحتاج إليه قبل العلم، ومعه وبعده، يحتاج في أول العمل أن يصبر على تصحيح النّية وعزم العقود والوفاء بها حتى تصحّ الأعمال لأن النبيّ عليه السلام قال: إنما الأعمال بالنيات ولكلّ امرئ ما نوى، وقال الله تعالى: (وما أُمِرُوا إلاَّ لِيعْبُدوا الله مُخْلِصينَ لهُ الدين) البينة: 5، وحقيقة النيّة الإخلاص ولأن الله تعالى قدّم الصبر على العمل فقال تعالى: (إلاَّ الَّذينَ صبَرُوا وعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وأجرٌ كَبيرٌ) هود: 11، والصبر: التأني في العمل حتى يتم ويعمل لقوله تعالى: (وَنِعَمْ أجْرُ الْعَامِلينَ) آل عمران: 136 الذين صبروا، والصبر بعد العمل هو الصبر على كتمه وترك التظاهر به والنظر إليه ليخلص من السمعة والعجب فيكمل ثوابه كما خلص من الرياء، كما قال الله تعالى: (أطيعُوا الله وأطيعُوا الرَّسُولَ ولا تُبْطِلوا أعمالَكُمْ) محمد: 33
وقال تعالى في مثله: (لا تُبْطِلُوا صدقاتِكُمْ بِالْمَنِّ والأذى) البقرة: 264، وقال بعض السلف لا يتمّ المعروف إلا بثلاث: تعجيله، وتصغيره، وكتمه، ومن الصبر حبس النفس(1/329)
عن المكافأة والصبر على الأذى توكلاً على المولى عزّ وجلّ، ومنه قوله تعالى: (وَلنَصْبِرنَّ على ما آذَيْتُمُونا وعلى الله فلْيَتوكَّل الْمُتَوكِّلُونَ) إبراهيم: 12 وهذا صبر الخصوص ومنه قال بعض أهل المعرفة: لا يثبت للعبد مقام في التوكل حتى يؤذى ويصبر على الأذى، وقد ذكر الله تعالى ذلك في قوله عزّ وجلّ: (وَدَعْ أزَاهُمْ وتوَكَّلْ على الله) الأحزاب: 48، وفي قوله تعالى: (فاتَّخِذْهُ وكيلاً) (وَاصْبرْ على ما يَقُولونَ) المزمل: 9 - 10 وهذا هو أوّل الرضا، والمقام الثاني من الرضا: هو الصبر على الأحكام وهو صبر أهل البلاء الأمثل فالأمثل بالأنبياء لقوله: نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاء ثم الأمثل فالأمثل، ولقوله تعالى في المجمل: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)(1/330)
المدثر: 7، ثم فسرّه في الكلام المفسرّ، وأصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا، ومن الصبر حبس النفس على التقوى، والتقوى اسم جامع لكلّ خير، فالصبر معنى داخل في كل برّ فإذا جمعهما العبد فهو من المحسنين وما على المحسنين من سبيل، ومنه قوله تعالى: (إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ ويَصْبِرْ فإنَّ الله لا يضيعُ أجْرَ الْمُحْسنينَ) يوسف: 90 وقال تعالى: (لَتُبْلوُنَّ في أموالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ ولَتسْمَعُنَّ مِن الَّذين أُوتُوا الكتابَ مِنْ قبلكمْ ومن الَّذين أشرْكوا أذىً كثيراً وإن تَصبِرُوا وتتَّقُوا فإنَّ ذلك مِنْ عَزْم الأُمورِ) آل عمران: 186 أي إن تصبروا على الأذى عن المكافأة وتتقوا عند الابتلاء والمكاره ولا تجاوزوا فإنه أفضل كما قال تعالى: (وإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْل ما عُوقِتْتُمْ بهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خيْرٌ للصّابرينَ) النحل: 126، وقوله تعالى: (ولمنَِ انْتصَر بَعْد ظُلمهُ فأُولئكَ ما عَليْهِمْ من سبيلٍ) الشورى: 41 ثم قال عزّ وجلّ: (وَلَمَنْ صبرَ وغَفرَ إنَّ ذلك لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) الشورى: 43، قال: فالأول أعني المكافأة والانتصار بالحق من العدل والعدل حسن، والثاني أعني العفو والصبر من الفضل وهو الإحسان وهذا مجاز قوله تعالى: (الَّذين يَسْتَمِعُون الْقَول فَيَتَّبِعُونَ أحْسنهُ أُولئكَ الَّذين هداهُمُ الله وأُولئكَ هم أولُوا الألْبَابِ) الزمر: 18، فاستماع القول هو العدل والعدل حسن وهو الانتصار والعفو أحسن وفيه المدح بالهدى والعقل، وهذا هو مقام المخبتين قيل: هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا فالمدح بالوصف لأهل هذا المقام هو الإخبات وهو الخشوع والطمأنينة بحسن الجزاء من الله سبحانه وتعالى في الآخرة لقرب اللقاء وسرعة فناء الدنيا أمدح كما قال تعالى: (وإنَّ السَّاعَة لآتِيَةٌ فاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَميلَ) الحجر: 85، والتقوى والصبر معينان أحدهما منوط بالآخر لا يتم كل واحد منهما إلا بصاحبه فمن كانت التقوى مقامه كان الصبر حاله فصار الصبر أفضل الأحوال من حيث كان التقوى أعلى المقامات إذ الأتقى هو الأكرم عند الله تعالى، والأكرم على الله تعالى هو الأفضل، وقد شرف الله تعالى الصبر بأن أضافه إليه بعد الأمر به فقال: (وَاصْبِرْ وما صَبْرُكَ إلاَّ بِالله) النحل: 127 وقال تعالى: (وَلِربَِّكَ فاصْبِرْ) المدثر: 7 وإن كان كل شيء به وكل عمل صالح له ولا يصف الله تعالى عبداً ولا يثني عليه حتى يبتليه فإن صبر وخرج من البلاء سليماً مدحه ووصفه وإلا بين له كذبه ودعواه، وقيل لسفيان الثوري رضي الله عنه: ما أفضل الأعمال قال الصبر عند الابتلاء.
وقال بعض العلماء: وأي شيء أفضل من الصبر وقد ذكره الله تعالى في كتابه في نيف وتسعين موضعاً ولا نعلم شيئاً ذكره الله تعالى هذا العدد إلا الصبر فلا يطمعنّ طامع في مدح الله له وحسن ثنائه عليه قبل أن يبتليه فيصبر له ولا يطمعنّ أحد في حقيقة الإيمان وحسن اليقين قبل أن يمدحه الله تعالى ويثني عليه، ولو أظهر الله تعالى على جوارحه سائر الأعمال ثم لم يمدحه بوصف ولم يثن عليه بخير لم يؤمن عليه سوء الخاتمة، وذلك أن من أخلاق الله تعالى أنه إذا أحبّ عبداً ورضي عمله مدحه ووصفه، فمن ابتلاه بكراهة ومشقة أو بهوى وشهوة فصبر لذلك أو صبر عن ذلك، فإن الله تعالى يمدحه ويثني عليه بكرمه وجوده فيدخل هذا العبد في أسماء الموصوفين ويصير واحداً من الممدوحين فعندها يثبت قدمه من الزلل ويخت له بما سبق من صالح العمل، ومن الصبر، صبر على العوافي أن لا يجريها في المخالفة والصبر على الغنى أن لا يبذله في الهوى، والصبر على النعمة أن لا يستعين بها على معصية، فحاجة المؤمن إلى الصبر في هذه المعاني ومطالبته بالصبر عليها كحاجته ومطالبته بالصبر على المكاره والفقر وعلى الشدائد والضرّ، ويقال: إن البلاء والفقر يصبر عليهما المؤمن والعوافي لا يصبر فيها إلا صديق، وكان سهل يقول: الصبر على العافية أشدّ من الصبر على البلاء، وكذلك قالت الصحابة رضي الله عنهم: لما فتحت الدنيا فنالوا من العيش واتسعوا ابتلينا بفتنة الضّراء فصبرنا وابتلينا بفتنة السرّاء فلم نصبر فعظموا الاختبار بالسرّاء وهو ما سرّ على الاختبار بالضراء وهو ما ضرّ.
وقد قال تعالى: (الَّذينَ يُنْفِقُونَ في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ) آل عمران: 134 فمدحهم بوصف واحد في الحالين المختلفين لحسن يقينهم وسخاوة نفوسهم وحقيقة زهدهم، ومن هذا المعنى قول الله تعالى: (يا أيُّها الَّذين آمِنوا لا تُلْهِكُمْ أمْوالُكُمْ ولا أوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله) المنافقون: 9 لأن فيهما ما يسرّ ويشغل عن الذكر، ثم قال عزّ وجلّ: (إنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وأَولادِكُمْ عَدْوَّا لَكُمْ فاحْذَرُوهُمْ) التغابن: 14 لأن في الأواج والأولاد ما يفرح به فيوافق فيه الهوى ويخالف بوجودهما المولى فصار اعدوين في العقبى لما يؤول إليه من شأنهما، ومن هذا الخبر الذي روى عن النبي لما نظر إلى ابنه الحسن يتعثر في قميصه فنزل عن المنبر واحتضنه ثم قال صدق الله: (إنَّما أمْوالُكُمْ وأوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) التغابن: 15 أي لما رأيت ابني هذا لم أملك نفسي أن أخذته، ففي هذا عبرة لأولي الأبصار، وروي عنه في الحديث أيضاً: الولد محزنة مبخلة مجبنة، فهذه مصادر الحزن والبخل والجبن أي يحمل حب الأولاد والأموال على ذلك، فمن صبر على السرّاء وهي العوافي والغنى والأولاد وغير ذلك وأخذ الأشياء من حقّها ووضعها في حقّها فهو من الصابرين الشاكرين لا يزيد(1/331)
عليه أهل البلاء والفقر إلا بحقيقة الرضا والشكر، وقد جمع الله تعالى بين ما سرّ وضرّ وجعلهما من وصف المتّقين ومدحهم بالإحسان معهما فقال تعالى: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقينَ) (الَّذين يُنْفِقُونَ في السَّرَّاء والضَّرَّاء والْكاظِمينَ الْغيْظ والْعافينَ عََنِ النّاسِ والله يُحِبُّ الْمُحْسنينَ) آل عمران: 133 - 134، ومن الصبر كتمان المصائب والأوجاع وترك الاستراحة إلى الشكوى بهما فذلك هو الصبر الجميل قيل: هو الذي لا شكوى فيه ولا إظهار.
وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما: الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه: صبر على أداء الفرائض لله تعالى، وصبر عن محارم الله تعالى، وصبر في المصيبة عند الصدمة الأولى، فمن صبر على أداء فرائض الله تعالى فله ثلاثمائة درجة، ومن صبر على محارم الله تعالى فله ستمائة درجة، ومن صبر في المصيبة عند الصدمة الأولى فله تسعمائة درجة، وهذا يحتاج إلى تفسير، ولم يفضل ابن عباس الصبر على المصيبة لأنه أفضل من الصبر عن المحارم وعلى الفرائض بل لأن الصبر على ذينك من أحوال المسلمين والصبر على المصيبة من مقامات اليقين وإنما فضل المقام في اليقين على مقام الإسلام ومن ذلك ما روي من دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أسألك من اليقين ما تهون به علي مصائب الدنيا، فأحسن الناس صبراً عند المصائب أكثرهم يقيناً وأكثر الناس جزعاً وسخطاً في المصائب أقلّهم يقيناً، ومثل هذا الخبر الذي رويناه عن سلمة بن وردان عن أنس بن مالك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من ترك المراء وهو محقّ بني له بيت في أعلى الجنة، ومن ترك المراء وهو مبطل بني له في وسط الجنة، ومن ترك الكذب بني له في ربض الجنة، فقد علمت أن ترك الكذب وترك المراء مبطلاً أفرض وأوجب فينبغي أن يكون أفضل، ولكن المعنى فيه أن الكذب والمراء بالباطل يتركه المسلمون، فأما المراء والعبد محقّ صادق ثم لا يماري زهداً في التظاهر ورغبة في الصمت والسلامة فلا يصبر على هذا إلا الموقنون وهم خصوص المؤمنين، فمقامه من اليقين، والزهد وإيثار الخمول والصمت على الكلام والشهوة به أفضل وهو من اليقين فصار هذا المؤمن بمقامه أفضل من عموم المؤمنين الذين يتركون الكذب والمماراة وإن كانا أفرض وأوجب فهذا بيان ذلك معناه، ومن الصبر إخفاء أعمال البرّ ومنع النفس الفكاهة والتمتع بذكرها وإخفاء المعروف والصدقات فإن كتمه من الأدب مع السلامة في الإعلان وبرء الساحة في الإخبار ولكن إخفاؤه أفضل وأزكى وأحبّ إلى الله تعالى بل هي من كنوز البرّ أعني هذه الثلاثة إخفاء الأوجاع والمصائب والصدقة أي من الذخائر النفيسة عند تبارك وتعالى، ومن الصبر صون الفقر وإخفاؤه، والصبر على بلاء الله تعالى في طوارق الفاقات، وهذا حال الزاهدين الراضين وأفضل الصبر: الصبر على الله تعالى بالمجالسة له والإصغاء إليه وعكوف الهمّ وقوّة الوجد به، وهذا خصوص للمقربين أو حياءً منه أو حبًّا(1/332)
له أو تسليماً أو تفويضاً إليه وهو السكون تحت جريان الأقدار وشهودها من الأنعام، ومن حسن تدبير الأقسام في شهود المسألة والحكمة فيها والقصد بالابتلاء بها وهو داخل في قوله تعالى: (وَلِرَبِّكَ فاصْبِرْ) المدثر: 7، وفي قوله تعالى: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فإنَّكَ بأعْيُنِنا) الطور: 48 وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وغيره من الأئمة: أصبحت وما لي سرور إلا في مواضع القدر، وروي أيضاً إلا انتظار القضاء، ويقال: من علامة اليقين تسليم القضاء بحسن الصبر والرضا، وهو مقام العارفين، وقال سهل في تأويل قول علي رضي الله عنه: إن الله تعالى يحبّ كل عبد نومة قال: هو الساكن تحت جريان الأحكام يعني من غير كراهة، ولا اعتراض، فأما اشتراط الصبر في المصيبة عند الصدمة الأولى في قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما الصبر عند الصدمة الأولى فلأنه يقال: إن كلّ شيء يبدو صغيراً ثم يكبر إلا المصيبة، فإنها تبدو كبيرة ثم تصغر، فاشترط لعظم الثواب لها عند أوّل كبرها قبل صغرها وهي في صدمة القلب أوّل ما يبغته الشيء، فينظر إلى نظر الله تعالى فيستحي فيحسن الصبر كما قال: فإنك بأعيننا وهذا مقام المتوكلين على الله تعالى، والصبر أيضاً عن إظهار الكرامات وعن الإخبار بكشف القدرة والآيات داخل في حسن الأدب من المعاملات، وهو من معنى الحياء من الله تعالى، وهذا طريق المحبين لله تعالى وهو حقيقة الزهد، ومن فضائل الصبر حبس النفس عن حب المدح والحمد والرياسة.
وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً مقطوعاً: الصبر في ثلاث، الصبر في تزكية النفس، والصبر عن شكوى المصيبة، والصبر على الرضا بقضاء الله تعالى على خيره وشرّه، ومن الصبر حبس النفس عن الخمول والتواضع والذلة إيثاراً للآخرة على الدنيا وهرباً إلى الله تعالى وتحققاً بوصف العبودية وترك المنازعة والتشبه بمعاني أوصاف الربوبية تسليماً للإلهية واستسلاماً للأحدية فلا يخرجك قلة الصبرعن ذلك إلى الطلب بشيء منه فتزل قدم بعد ثبوتها نعوذ بالله من ذلك، ومن الصبر صبر على العيال في الكسب لهم والإنفاق عليهم والاحتمال للأذى منهم، فإن في العيال طرقات إلى الله تعالى أدناها الإهتمام بهم، وأعلاها الرضا عن الله تعالى والتوكل عليه فيهم، وأوسطها الإنفاق وحبس الإنفاق وحبس النفس عليهم، واعلم أن أكثر معاصي العباد في شيئين: قلة الصبر عما يحبون، أو قلة الصبر على ما يكرهون، وقد قرن الله تعالى الكراهة بالخير والمحبة بالشر في قوله تعالى: (وعَسى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُو خَيْرٌ لَكٌمْ وعسى أنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُو شَرٌ لَكُمْ) البقرة: 216 وحدّ الصبر وهو أوّله فريضة بمثل أوّل الإخلاص، والصبر أيضاً حيلة من لا حيلة له لأن الأمر إذا كان بيد غيرك لم يكن إلا الصبر عليه ولأن الشيء إذا كان لا يأتيك إلا قليلاً قليلاً وأنت محتاج إليه لم يكن إلا الصبر عليه وإلا انقطع ذلك القليل،(1/333)
وأصل قلة الصبر ضعف اليقين بحسن جزاء من صبرت له لأنه لو قوي يقينه كان الأجل من الوعد عاجلاً إذا كان الواعد صادقاً فيحسن صبره لقوّة الثقة بالعطاء ولا يصبر العبد إلا بأحد معنيين مشاهدة العوض وهو أدناهما، وهذا حال المؤمنين ومقام أصحاب اليمين أو النظر إلى المعوّض وهو حال الموقنين ومقام المقربين، فمن شهد العوض عني بالصبر، ومن نظر إلى المعوّض حمله النظر وقد جعل بعض العارفين الصبر على ثلاثة معان، وإنه في أهل مقامات ثلاث، فقال: أوّله ترك الشكوى قال وهذه درجة التائبين، والثانية الرضا بالمقدور وهذه درجة الزاهدين، والثالثة المحبة لما يصنع به مولاه وهذه درجة الصادقين وقد نوّع القدماء من السلف الصبر على ثلاثة أنواع.
وروينا عن الحسن وغيره: الصبر على ثلاثة معان صبر عن المعصية وهو أفضلها، وصبر على الطاعة، وصبر في المصائب، وهذا داخل في جمل ما فرقناه من معاني الصبر، ومجمل ذلك أن الصبر فرض وفضل يعرف ذلك بمعرفة الأحكام، فما كان أمراً أو إيجاباً فالصبر عليه أو عنه فرض، وما كان حثاً وندباً فالصبر عليه أو عنه فضل والتصبر غير الصبر وهو مجاهدة النفس وحملها على الصبر وترغيبها فيه وهو التعمّل للصبر والتصنّع للصبور بمنزلة التزهد، وهو أن يعمل في أسباب الزهد ليحصل الزهد والصبر، هو التحقق بالوصف وذلك هو المقام، ولا يخرج العبد من الصبر كراهة النفس ولا وجدان المرارة والألم بل يكون مع ذلك صابراً لأن هذا وصف البشرية لما ينافي طبعها، ولكن يكون حاله الكظم عن الشكوى ونفي السخط لحكم المولى لأن عدم ذلك وفقده هو الرضا وحقيقة التوكل، وهذان من أعلى مقامات اليقين، وفقد مراتب اليقين لا يخرج عن حدّ الصبر والذي يخرج عن حد الصبر ضده وهو الجزع ومجاوزة الحدّ من السعلم وإظهار السخط وكثرة الشكوى وظهور الذم والتبرّم، ومن رياضة النفس على التصبّر وهو مقام المتصبرين وحال ضعفاء المريدين أن النفس الأمارة إذا جنحت بك إلى فضول الشهوات أو نازعتك إلى مطالبة متقدم العادات أن تمنعها حاجتها من كل شيء فيشغلها منع الحاجة ووجود الفاقة ممّا لا بدّ منه عن طلب فضول الشهوات فإذا رضتها بالمنع ومنعتها محبوبها بالتصبّر عن الحلال انقادت لك بالصبر عن فضول الشهوات فتكون تاركة لشهوة بعوض عاجل من مباح وتكون صابرة عن فضول شهوة لما منعتها من منال الفاقة وتاركة للهوى طمعاً في نوال الحاجة من الغذاء وهذا من أكبر أبواب الرياضات للنفوس الطامحات وفيه فضل الأقوياء من المتصبرين الذين لم تستجب لهم نفوسهم بالصبر والصلاة ولم تنقد بالجوع والظماء، فأما الضعفاء من أهل الطبقة الثالثة لا من الأوّلين أهل الصوم والصلاة ولا من هؤلاء فإنهم لا يصبرون على تصبر النفس عن الحاجة كما لا تصبر نفوسهم عن الشهوة فرياضة هؤلاء لنفوسهم أن يقطعوها من كل حرام معناه من الحلال ومن كل شهوة مهلكة(1/334)
وصفها من شهوة مقتصدة لتسكن نفوسهم بذلك في حبسها عن المحرّمات وتنقطع شهوتها عمّا وراء ذلك من الموبقات فبهذا تطمئن نفوس الضعفاء، وقد أختلف الناس في الصبر والشكر أيّهما أفضل وليس يمكن الترجيح بين مقامين لأن في كل مقام طبقة متفاوتين، والمحققون من أهل المعرفة يقولون إنه لا يجتمع عبدان في مقام بالسواء بل لا بدّ من أن يكون أحدهما أعلى بعلم أو عمل أو وجد أو مشاهدة وإن كان الصواب والقصد والأصل واحداً وأعلى التفاوت مشاهدات الوجه.
وقد قال الله تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَديثاً) النساء: 87 ولكل وجهة هو موليها، وقال تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ يِمَنْ هُوَ أَهْدى سبيلاً) الإسراء: 84، قيل: أقصد وأقرب طريقاً، وظاهر الكتاب والسنّة يدلان على تفضيل الصبر لقوله تعالى: (يُؤْتَون أْجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) القصص: 54 فالشاكر يؤتى أجره مرة فأشبه مقام الصبر مقام الخوف وأشبه مقام الشكر مقام الرجاء، وقد قال الله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مقامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) الرحمن: 46، وقد اتفق أهل المعرفة على تفضيل الخوف على الرجاء من حيث اتفقوا على فضل العلم على العمل، فالصبر حال من مقام الخوف فقرب حال الصابر في الفضل من مقامه والشكر حال من مقام الرجاء كذلك يقرب حال الشاكر من مقامه ومن السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخبر الذي ذكرناه من قبل: من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ومن أعطي حظه منهما لم يبال ما فاته وذكر الحديث المتقدم فقرن الصبر باليقين الذي لا شيء أعزّ منه ولا أجلّ وارتفاع الأعمال وعلوّ اليقين به، وفي مناجاة أيوب عليه السلام: إن الله سبحانه وتعالى أوحى إليه: يا أيوب إني آليت على نفسي لا نشرت للصابرين ديوان توبيخ ولا نظروا إلى حد الصراط ولا أروعهم نقص الميزان دارهم دار السلام.
بيان آخر من تفضيل الصبر
الصبر: حال البلاء، والشكر: حال النعمة والبلاء أفضل لأنه على النفس أشق لقول الله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) الزمر: 10، فالشاكر يوفي أجره بحساب لأن إنما تحقيق للوصف ونفي ما عداه.
بيان آخر من فضل الصبر
قد رفع علي كرّم الله وجهه الصبر على أربع مقامات اليقين وجعلها دعائمه التي بها يستبين وجعله فيه فوقها فقال في حديثه الطويل الذي وصف فيه شعب الإيمان: والصبر على أربع دعائم: على الشوق، والشفقة، والزهد، والترقب، فمن أشفق من النار رجع عن المحرّمات، ومن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات، فجعل هذه المقامات أركان الصبر لأنها توجد عنه وتحتاج إليه في جميعها وجعل الزهد أحد أركانه، وقد جعل الله تعالى(1/335)
الصبر حال التقوى ورفع للمتقين في الإكرام درجات، فقال عزّ وعلا: (إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) يوسف: 90 وقال تعالى: (إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقاكُمْ) الحجرات: 13، فأكرم وأتقى فوق أن يقال كرامكم المتقون لأن أكرم وأتقى يدل على تفاوت، فمن كان أتقى كان أكرم عند الله سبحانه وتعالى، ومن كان أصبر على ما يوجب التقوى كان أتقى، وأعلم أن الصبر سبب دخول الجنة وسبب النجاة من النار لأنه جاء في الخبر: خفّت الجنة بالمكاره وحفّت النار بالشهوات فيحتاة المؤمن إلى الصبر على المكاره ليدخل الجنة ويحتاج إلى الصبر عن الشهوات لينجو من النار، فأما تفصيل التفضيل فعلى ثلاثة أوجه، أحدها: أن المقامات أعلى من الأحوال، وقد يكون الصبر والشكر حالين، وقد يكونان مقامين، فمن كان مقامه الصبر كان حاله الشكر عليه فهو أفضل لأنه صاحب مقام، ومن كان مقامه الشكر كان حاله الصبر عليه فحاله مزيد لمقامه فقد صار الصبر مزيداً للشاكر في مقامه، الوجه الثاني من التفضيل: المقربون أعلى من أصحاب اليمين فالصابرون من المقربين أفضل من الشاكرين من أصحاب اليمين والشاكرون من المقربين أفضل من الصابرين من أصحاب اليمين فإن قيل: فإن كان الشاكر والصابر من المقربين فيهما أفضل قيل: فقد قلنا إن اثنين لا يتفقان في مقام من كل وجه لانفراد الوجه بمعاني لطائف اللطيف بمثل ما انفردت الوجوه بلطيف الصنعة مع تشابه الصفات واستواء الأدوات، فأفضلهما حينئذ أعرفهما لأنه أحبهما إلى الله تعالى وأقربهما منه وأحسنهما يقيناً لأن اليقين أعزّ ما أنزل الله تعالى.
وجه آخر من بيان التفضيل
نقول: إن الصبر عمّا يوجب الشكر أفضل وإن الشكر على ما يوجب الصبر أفضل، فقد يختلف باختلاف الأحوال تفسيره أن الصبر عن حظ النفس وعن التنعّم والترفّه أفضل إن كان عبداً حاله النعمة فالصبر عن النعيم والغنى مقام في المعرفة وهو أفضل لأن فيه الزهد المجمع على تفضيله، ونقول إن الشكر على الفقر والبلاء والمصائب أفضل إن كان عبداً حاله الجهد والبلاء فالشكر عليه مقام له في المعرفة فهو حينئذ أفضل لأن فيه الرضا المتفق على فضله.
نوع آخر من الاستدلال على فضل الصابر وتفضيل الصبر جملة
الصابر العارف أفضل من الشاكر العارف لأن الصبر حال الفقر والشكر حال الغنى، فمن فضل الشكر على الصبر في المعنى فكأنه قد فضّل الغنى على الفقر، وليس هذا مذهب أحد من القدماء إنما هذه طريقة علماء الدنيا طرقوا لنفوسهم بذلك وطرقوا الخلق إلى نفوسهم من ذلك، فإن من فضّل الغنى على الفقر فقد فضل الرغبة على الزهد والعزّ على الذلّ والكبر على التواضع، وفي هذا تفضيل الراغبين والأغنياء على الزاهدين(1/336)
والفقراء، ويخرج ذلك إلى تفضيل أبناء الدنيا على أبناء الآخرة: وإنما فضلنا الصبر على الشكر في الجملة والمعنى، لأن الصبر حال من مقامه البلاء، وأهل البلاء هم الأمثل فالأمثل بالأنبياء ولأن الصبر أبعد من أهواء النفوس وأقرب إلى الضرّ والبؤس وأشدّ في مكاره النفوس وأنفر لطباعها وأشد مباينة لما يلائمها فإذا سكنت معه وجد عندها كان أعجز لوصفها وأعجب في طمأنينتها فمدحت بالسكون والطمأنينة وكانت راضية مرضية، وأيضاً فإن اللهّ تعالى أمر بالصبر وبالغ فيه بالمصابرة ووكدهما بالمرابطة في قوله تعالى: (يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا اصْبِروُا وَصابِرُوا وَرَابِطُوا) آل عمران: 200، قيل: في أحد الوجوه رابطوا عليهما فهذه ثلاثة أمور في مكان واحد بمعنى الصبر، فهذا يدل على تعظيمه للصبر ومحبته تعالى فمن وجد منه ذلك كان أشد تعظيماً لشعائر الله عزّ وجلّ، ومن عظم شعائر الله فهو أتقى لله تعالى، ومن كان أتقى لله كان أكرم على الله لقوله تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ الله فإِنَّها مِنْ تَقْوى الْقُلُوبِ) الحج: 32، ثم قال تعالى: (إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقاكُمْ) الحجرات: 13، والصبر أيضاً مقام أولي العزم من الرسل الذين أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقدوة بهم وباهى الله تعالى بهم عبده فقال تعالى: (فاصْبِرْ كَما صَبَرَ أولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) الأحقاف: 35 وأيضاً فإن العزائم في الدين أولى من الرخص.
روينا عن سفيان الثوري رضي الله عنه عن حبيب بن أبي ثابت قال: سئل مسلم البطين: أيما أفضل الصبر أم الشكر؟ فقال: الصبر والشكر والعافية أحبّ إلينا، وقد قيل في معنى قوله تعالى: (الَّذينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه) الزمر: 18 قيل: شدائده وعزائمه لأن إباحة حلال الدنيا حسن والزهد فيه أحسن، وقد جعل الله تعالى الصبر من العزائم في قوله: (وإنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فإنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمورِ) آل عمران: 186، وقد شرك الله تعالى عباده في الشكر وأفرد عزّ وجلّ لنفسه تعالى الصبر فينبغي أن يكون المفرد للمفرد أعلى من المشترك بالعبد فقال تعالى: (أن اشْكُرْ لي وَلِوَالِدَيْكَ) لقمان: 14
وقال تعالى على لسان نبيّه: من لم يشكر الناس لم يشكر الله عزّ وجلّ ولم يشرك في الصبر من خلقه أحداً، فقال تعالى: (وَلِربِّكََ فاصْبِرْ) المدثر: 7، وقال: واصبر لحكم ربّك واعلم أن الشكر داخل في الصبر والصبر جامع للشكر، لأن من صبر أن لا يعصي الله بنعمة فقد شكرها ومن أطاع الله فصبر نفسه على طاعته فقد شكر نعمته، وقد سئل الجنيد رحمه الله عن غني شاكر وفقير صابر أيهما أفضل؟ فقال: ليس مدح الغني للوجود ولا مدح الفقير للعدم إنما المدح في الاثنين قيامهما بشروط ما عليهما، فشرط الغني يصحبه فيما عليه أشياء تلائم صفته وتمتعها وتلذّها، والفقير يصحبه فيما عليه أشياء تؤلم صفته وتقبضها وتزعجها، فإذا كان الاثنان قائمين لله تعالى بشروط ما عليهما كان الذي آلم صفته وأزعجها أتم حالاً ممّن متّع صفته ونعّمها، هذا نقل كلام الجنيد رحمه الله(1/337)
تعالى، وكان أبو العباس بن عطاء قد خالفه في ذلك فيقال: إن الجنيد دعا عليه فلحقه ما أصابه من البلاء منه، قتل أولاده، وإتلاف ماله، وزوال عقله أربع عشرة سنة، فكان يقول: دعوة الجنيد أصابتني، ورجع عن قوله في تفضيل الغنى على الفقر، فصار يفضّل الفقر ويشرّفه، وأيضاً فقد روينا في الخبر: أعرفكم بنفسه أعرفكم بما ابتلاه به منها وما ابتلاها به منه فأعظم ما ابتلانا به محبتنا بها وابتلاها بعدواتنا، فمن أفضل ممّن صبر على مجاهدة عدوّه على أنه مع ذلك عدوّ الله تعالى منازع لصفات الربوبية، ومن أشد بلاء ممنّ ابتلي بعداوتك وبتليت بمحبته وأنت في ذلك تترك محبته لمحبة الله تعالى وتصبر على عداوته بدوام مجاهدته لمرضاة الله تعالى، فهذا أعدل العدل وأفضل الفضل ولا سبيل إلى ذلك إلا بفضل أثرة من الله تعالى وحسن عنايته ودوام نظره إذ لا توفيق ولا قوّة ولا صبر إلا به سبحانه وتعالى، فأما المسألة التي سئل عنها بعض القدماء عن عبدين ابتلي أحدهما فصبر وأنعم على الآخر فشكر، فقال: كلاهما سواء قال: لأن الله تعالى أثنى على عبدين أحدهما صابر والآخر شاكر بثناء واحد، فقال تعالى في وصف أيوب عليه السلام: (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) ص: 30
وقال في وصف سليمان عليه السلام: (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابُ) ص: 30، ففي قول هذا رحمه الله غفلة عن لطائف الأفهام وذهاب عن حقيقة تدبّر الكلام إذ عندنا بين ثناء الله عزّ وجلّ على أيوب في الفضل على ثنائه على سليمان عليهما السلام ثلاثة عشر معنى، وشركه سليمان عليه السلام بعد ذلك في وصفين آخرين وإفراد أيوب عليه السلام بفضل ثناء ثلاثة عشر معنى، أول ذلك قوله عزّ وجلّ في أول مدحه: (واذْكُرْ) ص: 41 فهذه كلمة مباهاة باهى بأيوب عند رسوله المصطفى عليه السلام وشرفه وفضله بقوله تعالى: (واذْكُرْ) ص: 41 يا محمد فأمره بذكره والاقتداء به كقوله تعالى: (فاصْبِرْ كما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) الأحقاف: 35، قيل: هم أهل الشداء والبلاء منهم أيوب عليه السلام قرضوا بالمقاريض ونشروا بالمناشير وكانوا سبعين نبياً وقيل: هم إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وهؤلاء آباء الأنبياء وأفاضلهم لقوله تعالى: (وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ ابْرَاهِيَمَ) مريم: 41 ولقوله تعالى: (واذْكُرْ عِبادَنا إبْراهِيمَ وإسْحق وَيعقُوبَ أولي الأيدي والأبْصارِ) ص: 45 يعني أصحاب القوّة والتمكّن وأهل البصائر واليقين، ثم رفع زيوب إلى مقامهم فضمه إليهم وجعله سلوة له ثم ذكره إياه وذكره به، ثم قال تعالى: (عَبْدنا) ص: 41 فأضافه إليه عزّ وجلّ إضافة تخصيص وتقريب ولم يدخل بينه وبينه لام الملك فيقول عبداً لنا فألحقه بنظرائه من أهل البلاء في قوله تعالى: (وَاذْكُرْ عِبادنا إبْراهيمَ وَإِسْحق وَيعْقُوبَ) ص: 45 وهم أهل الابتلاء الذين باهى بهم الأنبياء وجعل من ذرياتهم الأصفياء فأضاف أيوب إليهم في حسن الثناء، وفي لفظ التذكرة به في الثناء ثم قال: (إذْ نادى رَبَّهُ) مريم: 3 فأفرده بنفسه لنفسه وانفرد له في الخطاب بوصفه وقال: ((1/338)
مَسَّنِي الْضُّرُّ وأنْتَ أرْحَمْ الْرَّاحِمين) الأنبياء: 83 فوصفه بمواجهة التملق له ولطيف المناجاة وظهر له بوصفه الرحمة فاستراح إليه به فناداه فشكا إليه واستغاث به فأشبه مقامه، مقام موسى ويونس عليهما السلام في قولهما: سبحانك تبت إليك، وفي قول الآخر: لا إله إلا أنت، سبحانك إني كنت من الظالمين، وهذا خطاب المشاهدة ونظر المواجهة، ثم وصفه بالاستحابة له وأهله لكشف الضرّ عنه وجعل كلامه سبباً لتنفيذ قدرته ومكاناً لمجاري حكمته ومفتاحاً لفتح إجابته، ثم قال بعد ذلك كله: ووهبنا له أهله فزاد على سليمان في الوصف إذ كان بين من وهب لأهله وبين من وهب له أهله فضل في المدح لأنه قال في وصف سليمان: ووهبنا لداود سليمان فأشبه فضل أيوب في ذلك على سليمان كفضل موسى على هارون لأنه قال عزّ وجلّ في مدح موسى عليه السلام وتفضيله على هارون: (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أخاهُ هارُونَ نَبيّاً) مريم: 53، وكذلك قال في مدح داود: (وَوَهَبْنا لِدَاوُدَ سُلَيْمانَ) ص: 30 فوهب لموسى أخاه كما وهب لداود ابنه وأشبه مقام أيوب في المباهاة والتذكرة به مقام داود عليه السلام لأنه قال تعالى في وصف داود لنبيّه عليه السلام: (اصْبِرْعلى ما يَقُولُونَ واذْكُرْ عَبْدنا دَاوُد) ص: 17 وكذلك قال تعالى في نعت أيوب: (واذْكْرْ عَبْدنا أَيُّوبَ إذْ نادى ربَّهُ) ص: 41، فقد شبه أيوب بداود وموسى عليهما السلام في المعنى ورفعه إليهما في المقام، وهما في نفوسنا أفضل من سليمان عليهم السلام، فأشبه أن يكون حال أيوب على من حال سليمان، وعلم الله تعالى المقدم ولكن هكذا ألقى في قلوبنا والله أعلم، ثم قال تعالى بعذ ذلك كلّ (رَحْمَةً مِنَّا) ص: 43 فذكر رنفسه ووصفه عند عبده تشريفاً له وتعظيماً، ثم قال عزّ وجلّ: (وَذِكْرى لأُولي الألْبابِ) ص: 43 فجعله إماماً للعقلاء وقدوة لأهل الصبر والبلاء وتذكرة وسلوة من الكروب للأصفياء، ثم قال تعالى: (إِنَّا وَجَدْناهُ صابرِاً) ص: 44 فذكر نفسه سبحانه وتعالى ذكراً ثانياً لعبده ووصل اسمه باسمه حباً له وقرباً منه، لأن النون والألف في وجدنا اسمه تبارك وتعالى، والهاء اسم عبده أيوبَ، ثم قال صابراً فوصفه بالصبر فأظهر مكانه في القوة وخلقه بخلقه، ثم قال تعالى في آخر أوصافه: (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) ص: 44، فهذان أوّل وصف سليمان وآخره ههنا شركه في الثناء وزاد أيوب بما تقدم من المدح والوصف الذي لا يقوم له شيء
فمن قوله عزّ وجلّ: (وَاذْكُرْ عَبْدنا أَيُّوبَ) ص: 41 إلى قوله: (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) ص: 44 عظيم من الفرقان عند أهل الفهم والتبيان وجعل في أوّل وصف سليمان أنه وهبه لأبيه داود عليهما السلام فصار حسنة من حسنات داود عليه السلام واشتمل قوله تعالى: (نِعْمَ الْعَبْدُ إنَّهُ أَوَّاب) ص: 44 على أوّل وصفه وأوسطه وهو آخر وصف أيوب عليه السلام، وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام(1/339)
وقد روينا في الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آخر الأنبياء دخولا ً الجنة سليمان بن داود عليهما السلام لمكان ملكه، وآخر اصحابي دخولاً الجنة عبد الرحمن بن عوف لمكان غناه، وفي لفظ آخر: يدخل سليمان بن داود الجنة بعد الأنبياء بأربعين خريفاً، وقد جاء في الآثار إن أوّل من يدخل الجنة أهل البلاء إمامهم أيوب وهو إمام أهل البلاء وإن أبواب الجنة كلها مصراعان إلا باب الصبر فإنه مصراع واحد، وأوّل من يدخله أهل البلاء فقد زاد أيوب على سليمان عليهما السلام بعموم هذه الأخبار لأنه سيد أهل البلاء وتذكرة وعبرة لأولي النهي وإمام أهل الصبر والضرّ والابتلاء، ولم نقصد بما ذكرناه التفضيل بين الأنبياء لأنّا قد نهينا عن ذلك فيما روينا عن نبيّنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: لا تفضّلوا بين الأنبياء ولكن الله تعالى قد أخبرنا أن بعضهم مفضل على بعض في قوله: (وَلَقَدْ فَضَّلنا بَعْضَ الْنَّبِيَّين على بَعْضٍ) الإسراء: 55 وإنما أظهرنا فضل الثناء المستودع في الكتاب فاستنبطنا باطن الوصف المكرر في الخطاب في قصة أبوب على قصة سليمان عليهما السلام بما ظهر لنا من فهم فصل الخطاب وتدبر معاني الكلام وعلم الله تعالى المقدم وهو عزّ وجلّ أعلم وأحكم وقد ندبنا إلى الاستنباط في قول الرسول عليه السلام: اقرؤوا القرآن والتمسوا غرائبه ولأن في ذلك عزّ الأهل الصبر والبلاء وتقوية لقلوبهم وتعريفاً لسوابغ نعم الله تعالى عليهم وإظهاراً لبواطن النعم وتنبيهاً على لطائف الكلم وتزهيداً في الدنيا والنفس وترغيباً في الآخرة والصبر وتفضيلاً لطريق أهل البلاء الذين هم الأمثل فالأمثل بالأنبياء، فجاء من ذلك تفضيل المتبلي الصابر على بلائه ورضاه بحكم مولاه وتسليماً لمرضاته على المنعم عليه، الشاكر على نعمائه، إذ النعم ملائمة للطبع موافقة للنفس لا يحتاج معها إلى كدّ النفس بالصبر عليها ولا حملها على المشقة فيها بالرضا بها، والبلاء مباين للطبع نافرة منه النفس يحتاج إلى حمل عليه ومشقة فيه، وما كرهته النفس فهو خير وأفضل ولا سبيل إليه إلا بسكينة من الله تعالى وتصبر عليه بقوة به عزّ وجلّ وعناية منه: (وَاصْبِرْ وما صَبْرُكَ إلاَّ بالله) النحل: 127، وهذا آخر شرح مقامات الصبر.
شرح مقام الشكر
ووصف الشاكرين وهو الثالث من مقامات اليقين
قال الله تعالى: (ما يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إنْ شَكَرْتُمْ وآمَنْتُمْ) النساء: 147 فقرن الشكر بالإيمان ورفع بوجودهما العذاب، وقال تعالى: (وَسَنجْزِي الشَّاكِرينَ) آل عمران: 145، وروي عن النبي لله أنه قال: الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: الشكر نصف الإيمان، وقد أمر الله تعالى بالشكر وقرنه بالذكر في قوله تعالى: (فاذْكُروني أذْكُرْكُمْ واشْكُروا لي ولا تَكْفُرُونِ) البقرة: 152، قد عظم الذكر بقوله: (ولذِكْر الله أَكْبَر) فصار الشكر أكبر لاقترانه به ورضا الله تعالى بالشكر مجازاة من عباده لفرط كرمه لأن قوله تعالى: (فاذْكُروني أذْكُرْكُمْ واشْكُرو لي) البقرة: 152(1/340)
خروج من لفظ المجازاة لتحقيق الأمر وتعظيم الشكر لأن الفاء للشرط ولاجزاء والكاف المتقدمة للتمثيل، فقوله تعالى: فاذكروني متصل بقوله: (كما أَرْسَلْنا فيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) (فاذْكُرُوني) (وَاشْكُرُوا لي) البقرة: 151 - 152، والمعنى كمثل ما أرسلت فيكم رسولاً منكم فاشكروا لي، والعرب تكتفي من مثل بالكاف كما اكتفت من سوف بالسين في قوله تعالى: (سَنُؤْتيهِمْ) (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) الأعراف: 182 وهذا تفضيل للشكر عظيم لا يعلمه إلا العلماء بالله تعالى.
وقد روينا في أخبار أيوب عليه السلام: إن الله تعالى أوحى إليه: إني رضيت بالشكر مكافأة من أوليائي في كلام طويل، وفي أحد الوجوه من قوله عزّ وجلّ: (لأقْعُدَنَّ لَهُم صِراطَكَ الْمُسْتَقيمَ) الأعراف: 16، قال: طريق الشكر، فلولا أن الشكر طريق يوصل إلى الله تعالى لما عوّل العدو على قطعه ولولا أن الشاكر حبيب ربّ العالمين ما نقصه إبليس اللعين في قوله تعالى: (ولا تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شاكِرينَ) الأعراف: 17 وكذلك قال الله تعالى: (وقليلٌ مِنْ عِبادي الشَّكُورُ) سبأ: 13، كما قال تعالى: (ولقدْ صَدَّق عَلَيْهِمْ إبليسُ ظنَّهُ فاتَّبَعُوهُ إلاَّ فريقاً من المؤْمِنينَ) سبأ: 20، وقد قطع الله تعالى بالمزيد مع الشكر ولم يستثن فيه واستثنى في خمسة أشياء: في الإغناء، والإجابة، والرزق، والمغفرة، والتوبة، فقال تعالى: (فَسَوْفَ يُغْنيكُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ إنْ شاءَ) التوبة: 28 وقال تعالى: (فيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إليهِ إنْ شاء) الأنعام: 41، وقال تعالى: (يَرْزُقُ مَنْ يشاءُ) البقرة: 212 (وَيغْفِرُ لِمَنْ يشاءُ) المائدة: 40، وقال عزّ وجلّ: (ثُمّ َ يَتُوبُ الله مِنْ بَعْدِ ذلك على منْ يشاءُ) التوبة: 27، وختم بالمزيد عند الشكر من غير استثناء فقال تعالى: (لئِنْ شَكَرْتُمْ لأزيدِنَّكُمْ) إبراهيم: 7، فالشاكر على مزيد والشكور في نهاية المزيد وهو الذي يكثر شكره على القليل من العطاء ويتكرر منه الشكر والثناء على الشيء الواحد من النعم وهذا خلق من أخلاق الربوبية لأنه سماه باسم من أسمائه والمزيد هو إلى المنعم يجعله ما شاء، فأفضل المزيد حسن اليقين ومشاهدة الأوصاف، وأوّل المزيد شهود النعم، إنها من المنعم بها من غير حول ولا قوّة إلا به عزّ وجلّ، وأوسط المزيد دوام الحال ومتابعة الخدمة والاستعمال، وقد يكون المزيد أخلاقاً وقد يكون علوماً وقد يكون في الآخرة وتثبيتاً عند فراق العاجلة، وقد جعل الله تعالى الشكر مفتاح كلام أهل الجنة وختام تمنّيهم في قوله تعالى: (الْحَمْدُ لله الَّذي صَدَقنا وَعْدََهُ) الزمر: 74، وقال تعالى: (وآخِرُ دَعْواهُمْ أنِ الْحَمْدُ لله ربِّ الْعالمينَ) يونس: 10، فلولا أنه أحب الأعمال إليه ما بقاه عليهم لديه.
وروينا في مناجاة أيوب عليه السلام: إن الله تعالى أوحى إليه في صفة الصابرين دارهم دار السلام إذا دخلوها ألهمتهم الشكر وهو خير الكلام وعند الشكر أستزيدهم(1/341)
وبالنظر إلي أزيدهم وهذا غاية الفضل، فأوّل الشكر معرفة النعم، إنها من المولى وحده لا شريك له فيها، ولا ظهير له عليها، إذ قد نفى ذلك عن نفسه لأنه هو الأوّل في كل شيء، لا شيء معه ولا ظهير له في شيء إذ قد جعل الضرّاء والسرّاء منه وإليه جاريين على عباده فقال تعالى: (وَما لَهُمْ فيهما مِنْ شِركِ وما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظهيرٍ) سبأ: 22، الشرك الخلط والظهير المعين، ثم قال تعالى (وما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله ثُمَّ إذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فإليْهِ تَجْئرَوُنَ) النحل: 53، وقال تعالى: (وإنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فلا كاشِفَ لَهُ إلاّ هُوَ وإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُو على كُلِّ شيء قديرٌ) الأنعام: 17، وقال تعالى في جمل النّعم بعد إضافتها إليه: (وَسخَّر لَكُمْ ما في السَّمَواتِ وما في الأرْضِ جَميعاً مِنْهُ) الجاثية: 13، وقال تعالى: (وأسْبغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وباطِنَةً) لقمان: 20، فالأسباب مع صحتها والأواسط مع ثبوتها إنما هي حكمه وأحكامه، فظروف العطاء وآثار المعطي لا تؤثر في الحكم بها والجعل لها حكماً ولاجعلاً يعني لا تحكم ولا تجعل لأنها محكومات فكيف تحكم ومجعولات فكيف تجعل لا حاكم إلا الله وحده ولا يشرك في حكمه أحداً وهذا الحرف في مقرأ أهل الشام أبلغ وأوكد لأنه يخرج على الأمر لأنهم قرؤوه بالتاء وجزم الكاف ولا تشرك في حكمه أحداً، فالأسباب أحكام حق وأواسط حكمه فمشاهدة المنعم في النعمة وظهور المعطي عند العطاء حتى ترى النعمة منه والعطاء عنه هو شكر القلب لأن الشكر عند الشاكرين معرفة القلب ووصفة لا وصف اللسان، وقد أخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك وأمر باقتناء الشكر وإتخاذه مالاً في الآخرة عوضاًمن إاقتناء الأموال في الدنيا، فقال في حديث ثوبان وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما: حين نزل في الكنوز ما نزل سأله عمر: أيّ المال نتخذ؟ فقال: ليتخذنَّ أحدكم لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً.
وروينا في أخبار موسى عليه السلام وداود عليه السلام: يا ربّ كيف أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك، وفي لفظ آخر: وشكري لك نعمة أخرى منك توجب علي الشكر لك فأوحى الله تعالى إليه إذا عرفت هذا فقد شكرتني، وفي خبر آخر: إذا عرفت أن النعم مني فقد رضيت منك بذلك شكراً وشكر اللسان حسن الثناء على الله تعالى وكثرة الحمد والمدح له وإظهار إنعامه وإكرامه ونشر أياديه وإحسانه وأن لا يشكو لمالك إلى المملوك ولا المعبود الجليل إلى العبد الذليل، وفي الخبر: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لرجل: كيف أصبحت قال: بخير فأعاد عليه النبي السلام السؤال ثانية كيف أنت؟ فقال: بخير فأعاد عليه الثالثة كيف أنت؟ فقال: بخير أحمد الله تعالى وأشكره، فقال: هذا الذي أردت منك يعني إظهار الحمد والشكر والثناء، وإنما كان السلف يتساءلون عن أحوالهم إذا التقوا ليستخرجوا بذلك حمداً لله تعالى وشكره فيكونوا شركاءه في ذلك لأنهم سبب ذكره لله تعالى فمن علمت أنه يشكو مولاه(1/342)
ويتكره عندك قضاءه إذا سألته عن حاله فلا تسأله فتكون أنت سبب شكواه وشريكه في جهله، وما أقبح بالعبد أن يشكو المولى الذي ليس كمثله شيء والذي بيده ملكوت كل شيء إلى عبد مملوك لا يقدر على شيء، ومن الشكر أن يشكر الله تعالى على اليسير لأن القليل من الحبيب كثير ولأن الله تعالى حكيم فمنعه حكمة وقدرة، فإذا عرف وجه الحكمة في المنع مع القدرة على العطاء علم أنه منعه ليعطيه فثم صار المنع عطاء واليسير منه كثيرا، ً ويعلم أن الذل والصبر عند المنع عزّ وشرف، وهو أفضل وأنفس عند العلماء من التعزز بالعبيد والشرف بهم، وأن الطمع والتذلل إليهم والاستشراف إلى عبد مملوك مثلك ذلّ ذليل وحسن الذلّ للعزيز كحسن الذلّ للحبيب وقبح الذلّ للذليل كقبح الذلّ للعدو.
وقد قال الله تعالى: (إنَّ الَّذين تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فابْتغُوا عِنْدَ الله الرِّزْقَ واعْبُدُوهُ) العنكبوت: 17، وقال تعالى في معناه: (إنَّ الَّذين تَدْعُون مِن دُونِ الله عِبادٌ أمْثَالُكُمْ) الأعراف: 194، والعبادة هي الخدمة والطاعة بذلّ ولا يحسن للعبد المقبل أن يظهر فقره وفاقته إ لى غير مولاه الذي يلي تدبيره ويتولاه لأنه عليم خبير بحاله يسمعه ويراه فهو أعلم بما يصلحه منه، وقد قال الله تعالى في معناه: (ولوْ بَسَطَ الله الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا في الأرْضِ) الشورى: 27، فعلى الموقن أن يشكر في القبض والمنع كما يشكر في العطاء والبسط ثم يشهد الشاكر بقلبه شهادة يقين ويعلم أن وصفه وصف العبودية وحكمه أحكام العبيد محكوم عليه بأحكام الربوبية وأنه لا يستحق على الله شيئاً وأن الله عزّ وجلّ يستحقّ عليه كلّ شيء فالعبد خلقه وصنعته والرب صانعه ومالكه، فإذا شهد العبد هذه الشهادة رأى لله عزّ وجلّ عليه كل شيء فرضي منه بأدنى شيء ولم ير له على الله تعالى شيئاً فلم يقنع لله تعالى منه بشيء ولم يطالب مولاه بشيء، فكثرة الذكر وحسن الثناء وجميل النشر للنعماء وتعديد النعم والآلاء هو شكر اللسان لأن معنى الشكر في اللغة هو الكشف والإظهار يقال: كثر وشكر بمعنى إذا كشف عن ثغره فأظهره فيكون إظهار الشكر وكشفه باللسان ما ذكرناه كما جاء في الخبر ليس شيء من الأذكار يضاعف ما يضاعف الحمد.
وفي الحديث: من قال سبحان الله فله عشر حسنات، ومن قال: لا إله إلا الله فله عشرون حسنة، ومن قال: الحمد لله كتبت له ثلاثون حسنة ليس أن الحمد أعلى من التوحيد ولكن لفضل مقام الشاكر ولأن الله تعالى افتتح به كلامه في كتابه، وفي الخبر: الحمد رداء الرحمن عزّ وجل، ّ وفي الخبر أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله رب العالمين، ويكون أيضاً ظهور الشكر وغلبته في القلب شكر القلب، ويكون شكر الله تعالى لعبده كشفه له ما ستره عنه وإظهاره له ما حجبه منه من العلوم والقدر وهو المزيد فيفيده ذلك حسن معرفته به سبحانه وتعالى وعلوّ مشاهدته منه وكله(1/343)
يرجع إلى معنى الكشف والإظهار، وأما شكر الجوارح للمنعم المفضل سبحانه وتعالى فهو أن لا يعصيه بنعمة من نعمه وأن يستعين بنعمته على طاعته ولا يستعين بها على معاصيه فيكون قد كفرها كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ الله كُفْراً) إبراهيم: 28، قيل: استعانوا بنعمه علي معاصيه فالخلق لا يقدرون على تبديل نعمة الله عزّ وجلّ ولكن معناه: بدلوا شكر نعمة الله كفراً وهذا من المضمر معناه لظهور دليله عليه لأنه أمرهم بالطاعة بالنعم فخالفوه فعصوه بها فكان ذلك تبديلهم لما أمروا، ومثله قوله تعالى: (وَتَجْعَلونَ رِزْقَكُمْ أنَّكُمْ تُكذِّبُونَ) الواقعة: 82 المعنى شكر رزقكم تجعلونه تكذيبكم برسل الله تعالى وهذا من المحذوف أيضاً وهي في قراءة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مظهرة مفسّرة.
روينا عنه عليه السلام: أنه قرأ وتجعلون شكركم فهذا ظاهر وبمعناه: ومن يبدّل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب أي يعاقب من كفر بالنعمة فضيّع شكرها بمعصيته بها يعاقبه بزوالها، وكذلك قوله تعالى: (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذابي لَشديدٌ) إبراهيم: 7، قيل: إن كفرتم النعمة فقد يكون العذاب في الدنيا تبديل النعمة عقوبات وتغييرها هوان ومذلاّت، وقد يكون العذاب مؤجلاً كقوله تعالى: (إنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) الفرقان: 65، قال: طالبهم على النعم بالشكر فلم يكن عندهم فأغرمهم ثمن النعمة فحبسهم في جهنم، وقد قال الله تعالى: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعِمَهُ ظاهِرَةً وباطِنَةً) لقمان: 20، ثم قال: (وَذَرُوا ظاهِرَ الإثْمِ وباطِنهُ) الأنعام: 120 ففيه تنبيه لذوي الألباب الذين وصل لهم القول ليتذكروا أن يذروا ظاهر الإثم شكر الظاهر النعم، ويذروا باطن الإثم شكر الباطن النعم وظاهر النعم عوافي الأجساد ووجود الكفايات من الأموال وظاهر الإثم أعمال الجوارح من معاني حظوظ النفس وباطن النعم معافاة القلوب وسلامة العقود، وباطن الإثم أعمال القلوب السيئة مثل الإصرار وسوء الظن ونيّات السوء، وقال مطرف بن عبد الله: لأن أعافى فأشكر أحبّ إلي ّ من أبتلى فأصبر، لأن مقام العوافي أقرب إلى السلامة، فلذلك اختار حال الشكر على الصبر لأن الصبر حال أهل البلاء.
وقد روينا عن الحسن البصري معنى ذلك الخبر الذي لا شرّ فيه العافية مع الشكر والصبر عند المصيبة فكم من منعم عليه غير شاكر وكم من مبتلى غير صابر، وقد روينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معنى هذا في قوله: وعافيتك أحبّ إلي، ّ وقال لعلي رضي الله عنه حين سمعه يثول في مرضه: اللهم إني أسألك الصبر، قال: لقد سألت الله تعالى البلاء فسله العافية، ومن الشكر الأعمال الصالحة، وبالعمل فسرّ الله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشكر للمنعم(1/344)
فقال تعالى: (اعْملُوا آل داوُد شُكْراً) سبأ: 13، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لما عوتب في اجتهاده وقيامه حتى تورمت قدماه: أفلا أكون عبداً شكوراً، فأخبر أن المجاهدة وحسن المعاملة شكر المستعمل وجزاء المنعم، وقد قال بعض العلماء: شكر القلب المعرفة بأن بالنعم من المنعم لا غير وشكر العمل كلما وهب الله عزّ وجلّ لك عملاً أحدثت له عملاً ثانياً شكراً منك للعمل الأوّل، وعلى هذا يتصل الشكر بدوام المعاملة، وأوّل الشكر عند العارفين أن لا تعصيه بنعمة من نعمه فتجعلها في طاعة الهوى، فأما شكر الشاكرين فهو أن تطيعه بكلّ نعمة فتجعلها في سبيل المولى وهذا شكر جملة العبد، وحقيقة الشكر التقوى وهو اسم يستوعب جمل العبادة التي أمر الله تعالى بها عباده في قوله تعالى: (يا أيُّها النَّاسُ أعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلقَكُمْ وَالَّذين من قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة: 21، ثم عبّر حقيقة عن الشكر بتقواه وأخبر سبحانه وتعالى أن التقوى هو الشكر فقال سبحانه وتعالى: (فَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون) آل عمران: 123، وفي الشكر مقامان عن مشاهدتين: أعلاهما مقام شكور وهو الذي يشكر على المكاره والبلاء والشدائد واللأواء، ولا يكون كذلك حتى يشهد ذلك نعماً توجب عليه الشكر بصدق يقينه وحقيقة زهده وهذا مقام في الرضا وحال من المحبة، وبهذا الوصف ذكر الله تعالى نبيّه نوحاً عليه السلام في قوله تعالى: (إنَهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) الإسراء: 3 في التفسير أنه كان يشكر الله تعالى على كل حال من خير أو شر أو نفع أو ضرّ.
وروينا في الخبر: ينادي منادٍ يوم القيامة ليقم الحمادون فيقوم زمرة فينصب لهم لواء فيدخلون الجنة قيل: ومن الحمادون؟ قال: الذين يشكرون الله تعالى على كل حال، وفي لفظ آخر: على السرّاء والضرّاء، وقد قال بعض العلماء في قوله تعالى: (وَأسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنةً) لقمان: 20، قال: ظاهرة العوافي والغنى وباطنه البلوى والفقر فهذه نعم الآخرة، كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا عيش إلا عيش الآخرة، والمقام الثاني من الشكر أن ينظر العبد إلى من هو دونه ممّن فضل هو عليه في أمور الدنيا وأحوال الدين فيعظّم نعمة الله تعالى عليه بسلامة قلبه ودينه وعافيته مما أبتلى الآخر به ويعظّم نعمة الدنيا عليه لما آتاه الله تعالى وكفاه فيما أحوج الآخر وألجأه إليه فيشكر على ذلك ثم ينظر إلى من هو فوقه في الدين ممن فضل عليها بعلم الإيمان وبحسن يقين فيمقت نفسه ويزري عليه وينافس في مثل ما رأى من أحوال من هو فوقه ويرغب فيها، فإذا كان كذلك كان من الشاكرين ودخل تحت اسم الممدوحين.
وقد روينا معنى ذلك في حديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه قال من نظر في الدنيا إلى من هو دونه ونظر في الدين إلى من هو فوقه كتبه الله صابراً شاكراً ومن نظر في الدنيا إلى من هو فوقه ونظر في الدين إلى من هو دونه لم يكتبه الله صابراً ولا شاكرا، ً وقد شرحنا هذا في مقام الرضا، فكرهنا إعادته ههنا، وكل وصف يكون العبد شاكراً به، يكون الشكر(1/345)
مقاماً له فيه، فإن كفر النعمة يلزمه بضده لأن الكفر ضد الشكر، ومن كبائر النعم ثلاث من جهلها أضاع الشكر عليها ومعرفتها شكر العارفين، أولها استتار الله تعالى بقدرته وعزته عن الأبصار ولو ظهر للعباد لكانت معاصيهم كفراً لأنهم لم يكونوا ينقصون من المعاصي المكتوبة عليهم جناح بعوضة ولأنه تبارك وتعالى كان يظهر بوصف لا يمتنعون معه عن المعاصي، ووراء هذا سرائر الغيوب، إلا أنهم كانوا يكفرون بالمواجهة لانتهاك حرمة المشاهدة أيضاً لما كان لهم في الإيمان به من عظيم الدرجات ما لهم الآن لأنهم حينئذ يؤمنون بالشهادة وهم اليوم يؤمنون بالغيب، فرفعت لهم الدرجات بحسن اليقين، ولذلك مدحهم الله تعالى ووصفهم، والنعمة الثانية إخفاء القدر والآيات عن عموم الخلق لأنها من سر الغيب، وصلاح العبيد، واستقامة الدنيا والدين، ولو ظهرت لهم لكانت خطاياهم الصغائر كبائر مع معاينة الآيات، ولما ضوعفت لهم على أعمالهم الحسنات كمضاعفتها الآن للإيمان بالغيب، والنعمة الثالثة تغيّب الآجال عنهم إذ لو علموا بها لما كانوا يزدادون ولا ينقصون من أعمالهم الخير والشرّ ذرّة، فكان مع علمهم بالأجل أشد مطالبة لهم وأوقع للحجة عليهم فأخفى ذلك عنهم معذرة لهم من حيث لا يعلمون، ولطفاً بهم ونظراً لهم من حيث لا يحتسبون، ثم بعد ذلك من لطائف النعم شمول ستره لهم فيحجب بعضهم من بعض، وسترهم عند العلماء والصالحين، ولولا ذلك لما نظروا إليهم، ثم حجب الصالحين والأولياء عنهم، ولو أظهر عليهم آيات يعرفون بها حتى يكون الجاهلون على يقين من ولاية الله تعالى لهم وقربهم منه لبطل ثواب المحسنين إليهم ولحرم قبول عملهم ولحبطت أعمال المسيئين إليهم، ففي حجب ذلك وستره ما علم العاملون لهم في الخير والشرّ على الرجاء وحسن الظن بالغيب من وراء حجاب اليقين، وتأخرت عقوبات المؤذيين لهم عن المعاجلة لما ستر عليهم من عظيم شأنهم عند الله تعالى وجليل قدرهم، ففي ستر هذا نعم عظيمة على الصالحين في نفوسهم من سلامة دينهم وقلة فتنتهم ونعم جليلة عن المنتهكين لحرمتهم، المصغرين لشعائر الله تعالى من أجلهم، إذ كانوا أساءوا إليهم من وراء حجاب، فهذا هو لطف خفيّ من لطف المنعم الوهّاب سبحانه وتعالى، كما جاء في الخبر: يقول الله عزّ وجلّ: من آذى وليّاً من أوليائي فقد بارزني(1/346)
بالمحاربة، ثم أنا الثائر لوليّ لا أكلّ نصرته إلى غيري.
وعن جعفر الصادق رضي الله عنه في معنى هذه النعم التي أوجبنا الشكر في إخفائها قال: إن الله تعالى خبأ ثلاثاً في ثلاث، رضاه في طاعته، فلا تحتقروا منها شيئاً لعلّ رضاه فيه، وخبأ غضبه في معاصيه، فلا تحتقروا منها شيئاً لعلّ غضبه فيه، وخبأ ولايته في عباده المؤمنين، فلا تحتقروا منهم أحداً لعلّه وليّ الله تعالى، ويكون مثل ذلك مثل من آذى نبيّاً وهو لا يعلم بنبوّته وإن الله تعالى نبأه قبل أن يخبره أنه نبيّ الله عزّ وجلّ ورسوه إليه فلا يكون وزره وزر من انتهك حرمة نبي قد أعلمه أنه نبيّ الله تعالى لعظيم حرمة النبوّة، وللشاكرين طريقان: أحدهما أعلى من الآخر أوّلهما شكر الراجين وهو حسن المعاملة لما أملوه ورجوه من ظواهر النعم فعملوا رجاء إتمامها فكان حالهم المسارعة والمسابقة إلى الأعمال الصالحة شكراً لما ابتدأهم به وخصّهم دون سائر خلقه، وأعلاهما شكر الخائفين وهو خوف سوء الخاتمة والإشفاق من درك الشقاء بحكم السابقة نعوذ بالله تعالى منه فكان خوفهم دليلاً على اغتباطهم بموهبة الإيمان، وكان اغتباطهم يدل على عظيم قدر الإسلام في قلوبهم ونفيس مكانه عندهم فعظمت النعمة به عليهم فمعرفتهم بذلك هو شكرهم فصارالخوف والإشفاق طريقاً لهم في الشكر للرازق.
وقد جعل الله تعالى ذلك نعمة وكل نعمة تقتضي شكراً في قوله تبارك وتعالى: (قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذينَ يَخَافُونَ أنْعم اللهُ عَلَيْهِما) المائدة: 23 قال بعض المفسرين: أنعم الله عليهما بالخوف وهذا أحد وجهي الكلام ولو لم يشكر العبد مولاه إلا أنه تبارك وتعالى على هذه الأوصاف والأخلاق التي هي صفاته وأخلاقه من نهاية الكرم والجود الذي لا غاية له ومن غاية التفضّل والحلم الذي لا نهاية له، فلما كان تبارك وتعالى بهذه الأخلاق المرجوّة والصفات الحسنى وجب أن يشكره العبيد لأجله تعالى لا لأجل نعمه وأفعاله؛ وهذا ذكر المحبين إذ لو كان الله تعالى على غير هذه الصفات والأخلاق التي عرفه بها العارفون ولا بدّ لهم منه أي شيء كان يصنع(1/347)
العباد وأي حيلة كانت لهم فله الحمد كله وله الشكر كله كما هو مستحقه وأهله بحمده لنفسه، ولا ينبغي إلا له سبحانه وتعالى، كما ينبغي لكرم وجهه وعزّ جلاله إذ كان ولم يزل على ما هو الآن ولايزال أبداً على ما كان من الأوصاف والنعوت التامات والأسماء الحسنى والأمثال العلى، ومعرفة هذا هو شكر العارفين ومشاهدته هو مقام المقربين فشكر هؤلاء للّّه تعالى لأجل الله تعالى ودعاء هؤلاء التحميد والتقديس وأعمالهم الإجلال والتعظيم للأجل وسؤالهم تجلّي الصفات والنصيب من مشاهدة معاني الذات ووصف هذا لا يوصف وشرحه بالمعقول لا يعرف، وهذا داخل في مشاهدة قوله لمن شهد سر الكلام إذ يقول عزّ وجلّ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ) الشورى: 11 وعن هذه المشاهدة اغتبط موسى عليه السلام بالربوبية وأنس بالتقريب فانبسط بالتمكين فقال لي: ما ليس لك فقال: الله تعالى وما هو، فقال لي: مثلك وليس لك مثل نفسك فقال عزّ وجلّ: صدقت، يعني لي أنت على هذه الأوصاف التي هي غاية الطالبين ولا مزيد عليها للراغبين وليس لك كأنت إذ ليس كمثلك شيء وأن لا إله إلا أنت، فمن غامض النعم الشكر على هذه المعاني ما روي عنك وصرفه من فضول الدنيا فإنه أقل للشغل والإهتمام وأيسر للحساب، ثم ابتلي به غيرك من الدنيا مما شغله به عنه وقطعه دونه، ففي صرف الدنيا عنك وابتلاء غيرك بها نعمتان عليهما شكران وكذلك إذا رأيت مبتلي في دينه بصفات المنافقين أو مبتلي بنفسه بأخلاق المتكبرين أومنهما فيما عليه من أفعال الفاسقين عددت جميع ذلك نعماً من الله تعالى عليك إذ لم يجعلك كذلك لأنك قد كنت أنت ذاك لولا فضل الله عليك ورحمته فتحسب كل ما وجه إلى غيرك من الشرّ أو صرفه عنك من الخيران تعده نعماً عليك بمثل ما وجه إلىك من الخير وصرف عنك من الشرّ لأن النفوس كنفس واحدة في الأمر بالسوء والمشيئة والقدرة واحدة فقد رحمك بما صرف عنك من السوء فذلك من فضل الله تعالى عليك فمعرفته بذلك شكر منك لله تعالى وأكثر عقوبات الخلق من قلة الشكر على النعم وأصل قلة الشكر الجهل بالنعمة، وسبب الجهل بالنعمة قصور العلم بالله تعالى وطول الغفلة عن المنعم وترك التفكر في نعمه والتذكر لآلائه، ومنه سبحانه وتعالى فقد أمر بذلك في قوله تعالى: (فَاذْكُرُوا آلاءَ الله لَعَلَّكُمُ تُفْلِحُونَ) الأعراف: 69 قيل: نعمه.
وقال المفسرون: واذكروا نعمة الله عيكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به وبمعناه قوله تعالى: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكبِّرُوا الله على مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون) البقرة: 185، يعني على نعمة الهداية وتوفيق الطاعة فإذا جهل العبد النعمة لم يعرفها، وإذا لم يعرفها لم يشكر عليها وإذا لم يشكر عليها انقطع مزيده، ومن انقطع عنه المزيد فهو في نقصان ما أدّعى وأيضاً فإن من لم يشكر النعم لجهله بها لم يؤمن عليه(1/348)
كفرها، فإن كفرها أدركه العذاب الشديد للوعيد إلا أن تداركه نعمة من ربه وأصول نعم المرافق للأحراث أربعة؛ أوّلها: النطفة التي أخرجت من خزانة الأرحام جميع البهائم والأنام، ثم الحرث الذي أخرج من خزانة الأرض جميع الثمر، ثم الماء الذي لنا منه شراب ومنه شجر، ثم النار التي فيها ضياء ومصالح الأطعمة وبها لأهل البصائر تذكرة، وهذه النّعم هي التي ذكرها المنعم في آخر سورة الواقعة وأضافها إلى نفسه عزّ وجلّ ولم يجعل فيه شريكاً معه وفتح للعباد العمال أبوابها.
ومن أفضل النّعم وأجلّها نعمة الإيمان به سبحانه وتعالى، ثم نعمة الرسول، ثم نعمة القرآن، ثم أن جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وقبل ذلك أول نعمة عقلناها أن جعلنا موجودين دون سائر المعدومات، ثم جعلنا حيواناً دون سائر الموات، ثم جعلنا بشر دون سائرالحيوان ثم جعلنا ذكوراً دون الإناث، ثم صوّرنا في أحسن تقويم ثم عوافي القلوب من الزيغ عن السنة ومن الميل إلى دواعي النفس الأمّارة، ثم صحة الأجسام ثم كشف الستر، ثم حسن الكفاية لحاجة، ثم صنوف ما أظهر من الأزواج للأقوات، ثم تسخير الصنعة لنا ممّا بين السماء والأرض؛ فهذه أمهات النعم فكلّما كثرت هذه المعاني وحسنت كثر الشكر عليهما فعظيم النّعم بها، (وإنْ تَعدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لاتُحْصُوهَا) إبراهيم: 34 وكان أبو محمد سهل رحمه الله يقول: خصّ بمعرفة النّعم وبمعرفة عظيم حلم الله تعالى وستره الصديقون.
وقد قال الله تعالى أصدق القائلين وأحسن الواصفين: (وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَة الله لا تُحْصُوها إنَّ الله لَغَفُورٌ رَحيمٌ) إبراهيم: 34، فتمّت النعمة بوصفيه اللذين هو لهما أهل من المغفرة والرحمة ثم قال أيضاً في مثله: (إنَّ الإنّسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ) إبراهيم: 34 فكان أعظم للنعمة وأوسع في الكرم والمنّة على وصفي الإنسان اللذين هو أهل لهما من الظلم والكفر، فهو سبحانه وتعالى أهل التقوى وأهل المغفرة والعبد أهل لما وصفه به مولاه عزّ وجلّ إلى أن يجود عليه بقديم ما به تولاه فبنعمته أطاعه العاملون، ومن نعمته جازاهم وبنعمته عصاه الجاهلون، ومن نعمته ستر وحلم عنهم، ومن النعم إظهار الجميل وستر القبيح فلا ندري أي النعمتين أعظم جميل ما أظهر أو قبيح ما ستر، وقد يمدح الله تعالى بالوصفين معاً في الدعاء المأثور: يا من أظهر الجميل وستر القبيح، ومن النعمة الصحة والفراغ هما أوّل نعيم الدنيا وأصول أعمال الآخرة وبهما تكون المغابنات كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ، وقال الفضيل بن عياض: عليكم بمداومة الشكر على النّعم فقلّ نعمة زالت عن قوم فعادت إليهم، وقال بعض السلف: النّعم وحشية فقيدوها بالشكر، وقد روي في خبر: ما عظمت نعمة الله تعالى على عبد إلاّ كثرت حوائج الناس إليه، فمن تهاون بهم عرض تلك النعمة للزوال.(1/349)
وقد قال الله تعالى: (إنَّ الله لا يُغَيّرُ مَا بِقَوْم حتّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهمْ) الرعد: 11 قيل: لا يغير نعمه عليهم حتى يغيّروها بتضييع الشكر فيعاقبهم بالتغيير والوجه الآخر لا يغير ما بهم من عقوبة حتى يغيّروا معاصيهم بالتوبة، فذكر بذلك السبب الأوّل من حكمه ثم ذكر السبب الثاني من حكمته وهو مسبّب الأسباب للحكمة والمشيئة ويقال: إن تحت كل شعرة من جسم العبد نعمة، وبكل عرق في جسده نعمتان في تسكينه وتحريكه، وفي كل عظم أربع نعم، وبكل مفصل سبع نعم، وفي جسم الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلاً، ومثل ذلك من العظام، وفي كل طرفة نعمتان، وبكل نفس نعمتان، وفي كل دقيقة تأتي عليه من عمره نعم لا تحصى، والدقيقة جزء من اثني عشر جزءاً من شعيرة، والشعيرة جزء من اثني عشر جزءاً من ساعة، والأنفاس أربعة وعشرون ألف نفس في اليوم والليلة، وفي أخبار موسى عليه السلام: ياربّ كيف أشكرك ولك في كل شعرة من جسدي نعمتان إن لينت أصلها وإن طمنت رأسها.
وقد روينا في الأثر: من لم يعرف نعم اللّّه تعالى عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قلّ علمه وحضر عذابه؛ هذا مع سوابغ العوافي والكفايات والوقايات، ويقال: إن في باطن الجسم من النّعم سبعة أضعاف النّعم التي في ظاهره، وإن في القلب من النّعم أضعاف ما في الجسم كلّه من النّعم، وإن نعم الإيمان بالله تعالى والعلم واليقين أضعاف نعم الأجسام والقلوب؛ فهذه كلّها نعم مضاعفة على نعم مترادفة لا يحصيها إلا من أنعم بها ولا يعلمها إلا من خلقها، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، سوى نعم المطعم والمشرب والملبس والمنكح من دخول ذلك وخروجه وكثرة تكرره وتزايده بأن أدخل مهناه وأخرج أذاه وبأن طيب مدخله ويسرّ مخرجه وبقى منفعته وما أحال من صورته وغيّر من صفته فللتزهيد والذلة والاعتبار والتذكرة؛ وتلك أيضا نعم، قال: يقال إن الرغيف لا يستدير حتى يعمل فيه ثلاثمائة وستون صنعة من السماء والأرض وما بينهما من الأجسام والأعراض والأفلاك والرياح والليل والنهار وبني آدم وصنائعهم والبهائم ومعادن الأرض، أوّلها ميكائيل الذي يكيل الماء من الخزائن فيفرغه على السحاب ثم السحاب التي تحمله فيرسله ثم الرياح التي تحمل السحاب والرعد والبرق والملكان اللذان يسوقان السحاب وآخرها الخباز فإذا استدار رغيفاً طلب سبعة آلاف صانع كل صانع أصل من أصول الصنائع؛ فهذه كلها نعم في حضور رغيف فكيف بمازاد عليه مما وراءه، فعلى العبد بكلّ نعمة شكران طولب بشكرنعمة واحدة علي حقيقتها هلك إلا أن تغمّده رحمة من ربه فتغمره لتمام النعمة.
وروينا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك تمام النعمة، فقال: هل تدري ماتمام النعمة؟ قال: لا، قال: دخول الجنة وقيل لبعض الحكماء: ما النعيم؟ قال: الغني فإني رأيت الفقير لا عيش له، قيل: زدنا، قال العافية فإني رأيت السقيم لا(1/350)
عيش له قيل: زدنا قال: الأمن فإني رأيت الخائف لا عيش له، قيل: زدنا، قال: الشباب فإني رأيت الهرم لا عيش له، قيل: زدنا، قال: لا أجد مزيداً، وبعض ما ذكره هو أحد الوجوه في قوله تعالى: (أَذْهَبْتُمْ طَيِبَّاتِكُمْ في حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا) الأحقاف: 20 قيل: الشباب وقيل: الفراغ وقيل الأمن والصحة، وفي قوله تعالى: (وَعَصيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ) آل عمران: 152 قيل: العوافي والغنى، وبمعناه في قوله تعالى: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) لقمان: 20 قيل: ظاهرة العوافي وباطنة البلاوي لأنه سبب نعيم الآخرة ومزيدها لقوله تعالى: (وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُس والثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابرينَ) البقرة: 155، وقد جاء في الخبر: من أصبح معافى في بدنه آمناً في سربه وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها وأنشدت في معناه لبعض أهل القناعة:
إذا القوت تأتي لك ... والصحة والأمن
وأصبحت أخا حزن ... فلا فارقك الحزن
وأنشد الآخر:
كن وفلقة خبز ... وكوز ماء وأمن
ألذ من كل عيش ... يحويه سحب وسجن
وحدثونا أن عابداً عبد الله تعالى سبعين عاماً، فأرسل الله تعالى إليه ملكاً يبشّره بدخول الجنة برحمة الله تعالى، فهجس في نفسه بل بعملي فاطلع الله تعالى على ذلك منه فأوحى إلى عرق ساكن من عروقه أن تحرك عليه، قال: فاضطرب لذلك وقلق وانقطعت عبادته وذهبت أعماله شغلاً منه بنفسه وقلق بنفسه، ثم أوحى الله تعالى إلى العرق أن اسكن فسكن، فرجع العبد إلى عبادته فأوحى الله تعالى إليه إنما قيمة عبادتك عرق واحد سكن من عروقك فاعترف.
وروينا معناه عن رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوصف آخر أن رجلاً عبد الله سبعين عاماً قال: فيأمر الله عزّ وجلّ به إلى الجنة برحمته فيقول: بل بعملي فيقول الله عزّ وجلّ: أدخلوا عبدي الجنة بعمله قال: فيمكث في الجنة سبعين عاماً فيأمر الله تعالى به أن يخرج، ويقال له: قد استوفيت ثواب عملك قال: فيسقط في يديه ويندم فينظر أقوى شيء كان في نفسه بينه وبين ربه فإذا هوالرجاء وحسن الظن فيقول: ياربّ اتركني في الجنة برحمتك لا بعملي قال: فيقول اللّّه عزّ وجلّ: دعوا عبدي في جنتي برحمتي، وحدثت عن رجل شكا إلى بعض أهل المدينة فقره وأ ظهر لذلك غمه فقال له الرجل: أيسرك أنك أعمى ولك عشرة آلاف؟ قال: لا، قال: فيسرك أنك أخرس ولك عشرة آلاف قال: لا، قال: فيسرك أنك أقطع اليدين والرجلين ولك عشرة آلاف، قال: لا، قال: فيسرك أنك مجنون ولك عشرة آلاف؟ قال: لا، قال: أفما تستحي أن تشكو مولاك وله عندك عروض بخمسين ألفاً وهذا كما قال لأن في الإنسان قيم هذه الأشياء من الجوارح وزيادة من المال لأنها(1/351)
ديات جوارحه لو قطعت.
وحدثني بعض الشيوخ في معناه أن بعض القراء المقربين اشتد به الفقر حتى أحزنه وضاق به ذرعاً، قال: فرأى في المنام كأن قائلاً يقول له تود أنا أنسيناك سورة الإنعام وأن لك ألف دينار؟ قال: لا، قال: فسورة هود؟ قال: لا، قال: فسورة يوسف، قال: لا، قال: فمعك قيم مائة ألف وأنت تشكو الفقر فأصبح وقد سرى عنه همه، وهكذا جاء في الخبر: تغنوا بالقرآن أي استغنوا به ومن لم يستغن بآيات الله تعالى فلا أغناه الله عزّ وجلّ وإن القرآن هو الغنى الذي لا فقر معه ولا غنى بعده، ومن آتاه الله القرآن فظن أن أحداً أغنى منه فقد استهزأ بآيات الله تعالى، وفي لفظ آخر: فقد استخف بما أنزل الله عزّ وجلّ، وفي الخبر: من لم يتغنَّ بالقرآن فليس منا، وفي الخبر المجمل كفى باليقين غنى والقرآن هو حق اليقين.
وروينا عن بعض السلف يقول الله عزّ وجلّ: إن عبداً أغنيته عن ثلاث فقد أتممت عليه نعمتي عن سلطان يأتيه وطبيب يداويه وعما في يد أخيه.
وروينا في مناجاة أيوب عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى أوحى إليه: ما من عبد لي من الآدميين إلا ومعه ملكان فإذا شكر على نعمائي قال الملكان: اللهم زده نعماً على نعمه، فإنك أهل الشكر والحمد فكن من الشاكرين قريباً وزدهم شكراً وزدهم من النعماء وكفى بالشاكرين ياأيوب علوّ الرتبة عندي وعند ملائكتي، فأنا أشكر شكرهم وملائكتي تدعو لهم والبقاع تحبهم والآثار تبكي عليهم فكن لي ياأيوب شاكراً ولآلائي ذاكراً ولا تذكرني حتى أذكرك ولا تشكرني حتى أشكر أعمالك أنا أوفق أوليائي لصالح الأعمال وأشكرهم على ما وفقتهم وأقتضيهم الشكر ورضيت به مكافأة فرضيت بالقليل عن الكثير وتقبّلت القليل وجازيت عليه بالجزيل وشرّ العبيد عندي من لم يشكرني إلا في وقت حاجته، ولم يتضرّع بين يديَّ إلا في وقت عقوبته وذكر الكلام وقد جعل الله تعالى الشاكرين بوصف الصالحين والمقربين والعالمين؛ وهذه الأوصاف الثلاث من أعالي مقامات الموقنين، فقال عزّ وجلّ: وقليل من عبادي الشكور كما قال الله تعالى: (إلاّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَملوا الصَّالِحَاتِ وَقَليلٌ مَا هُمْ) ص: 24 وكما قال في وصف المقربين: (ثُلَّةٌ مِنَ الأوّلينَ) (وٍَقَليلٌ مِنَ الآخِرينَ) الواقعة: 13 - 14 وكما قال عزّ وجلّ: (مَا يَعْلمُهُمْ إلاّ قليلٌ) الكهف: 22
وفي حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سلوا الله العافية وما أعطى عبد أفضل من العافية إلا اليقين ففضل العافية على كلّ عطاء ورفع اليقين، فوق العافية لأن بالعافية يتمّ نعيم الدنيا واليقين معه وجود نعيم الآخرة؛ فلليقين فضل على العافية كفضل الدوام على الانتقال، والعافية سلامة الأبدان من الأسقام والعلل واليقين سلامة الأديان من الزيغ والأهواء: فهاتان نعمتان تستوعبان عظيم الشكر من(1/352)
العبد كما استوعب القلب والجسم جسيم النّعم من الملك، ومن أقوى المعاني في قوله تعالى: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُون) (إِلاّ منّ أَتى اللّّه بِقَلْبِ سَليمٍ) الشعراء: 88 - 89 قيل: سالم من الشك والشرك والسالم الصحيح المعافى وبوجود عافية اليقين في القلوب عدم الشك والنفاق وهي أمراض القلوب، كما قال تعالى: (في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) البقرة: 10 قيل: شك ونفاق وعافية القلب أيضاً من الكبائر كما قال تعالى: (فَيَطْمَعَ الّذي في قَلْبِهِ مَرَضٌ) الأحزاب: 32 يعني الرياء، ويقال: ما من مصيبة إلا ولله تعالى فيها خمس نعم؛ أوّلها: أنها لم تكن في الدين ويقال كل مصيبة في غير الدين فهي طريق من الدين، والثانية: إنها لم تكن أكبر منها، والثالثة: أنها كانت مكتوبة عليه لا محالة فقد نفدت واستراح منها، والرابعة: إنها عجّلت في الدنيا ولم تؤجل في الآخرة فتعظم على مقدار عذاب الآخرة، والخامسة: أن ثوابها خير منها فإن المصيبة إذا كانت في أمر الدنيا فإنها طريق إلى الآخرة وعندنا في قوله تعالى: (إنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار) إبراهيم: 34 قيل: ظلوم بالتسخط كفّار بالمعاصي وبالنعم، وحدثت أن العباس رضي الله عنه لما توفي قعد ابنه عبد الله رضي الله عنه للتعزية فدخل الناس أفواجاً يعزونه فكان فيمن دخل أعرابي فأنشده:
اصبر نكن بك صابرين فإنما ... صبر الرعية بعد صبر الراس
خير من العباس أجرك بعده ... والله خير منك للعباس
فقال ابن عباس: ماعزّاني أحد تعزية الأعرابي واستحسن ذلك، وفي قوله تعالى: (إنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) العاديات: 6 قيل: هو الذي يشكو المصائب وينسى النعم، ولو علم أن مع كل مصيبة عشر نعم بحذائها وزيادة قلت شكواه وبدّلها شكراً، ثم إن المصائب لا تخلو من ثلاثة أقسام كلها نعم من الله تعالى، إما أن تكون درجة وهذا للمقرّبين والمحسنين، واما أن تكون كفّارة، وهذا لخصوص أصحاب اليمين وللأبرار، أو تكون هذا عقوبة وهذا للكافة من المسلمين، فتعجيل العقوبة في الدنيا رحمة ونعمة ومعرفة هذه النعم طريق الشاكرين، ومن أفضل النعم عند العلماء نعمة الإيمان ثم دوامه، لأن دوام الشيء نعمة ثانية لأنه بحكم ثانٍ عن مشيئة ثانية لأن الإرادة منه تعالى بحكم الإظهار لا توجب دوام المظهر فكان الشيء يظهر بإرادته ثم يتلاشى كأن لم يكن إلا أن يحكم سبحانه وتعالى حكماً ثانياً بنعمة ثانية بالثبات والدوام إذ لو لم يرد دوام السموات والأرض ما داما ولو لم يرد دوام ثبات الجبال ما ثبتت، كذلك لو لم يرد دوام الإيمان وثباته في القلوب بعد الكتب لظهر بالكتب ثم انمحى ورجع القلب إلى الكفر لكنه أنعم نعماً لا تحصى بدوامه وثباته في القلب، ومنه قوله تعالى: (يَمْحُوا الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبتُ) الرعد: 39 أي يمحو ما لايشاء ثبوته ويثبت ما يحبّ ولا يستطيع العبد شكر نعمة الإيمان ومعرفة بداية التفضّل به وقديم(1/353)
الإحسان من غير قدم من العبد ولا استحقاق بل بفضل الله وبرحمته، وهذا أحد الوجوه في قوله تعالى: (كلا لَمَّا يَقضِ مَا أَمَرَهُ) عبس: 23 أي لا يقضي العبد أبداً شكر ما أمره الله تعالى من نعمة الإسلام الي هي أصول النّعم في الدنيا والآخرة وهي سبب النجاة من النار ومفتاح دخول الجنة ولا أوّل للعبد فيها ولاشفيع كان له إلى الله تعالى بها ثم دوام ذلك وثباته مع الطرف والأنفاس بمدد منه نعم مترادفة.
ومن هذا قوله تعالى: (كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإِيمَان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) المجادلة: 22 أي قواهم بمدد يثبته ويقوّيه وهو معنى قوله تعالى: (يُثَبَّتُ الله الَّذين آمَنُوا بالقَوْلِ الثَّابِتِ في الْحيَاةِ الدُّنْيَا وفي الآخِرَةِ) إبراهيم: 27 ومن ذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يامقلب القلوب أي عن الإيمان ومقلبها في الشك والشرك ثبّت قلبي على طاعتك، ومعرفة هذه النعمة اللطيفة العظيمة تستخرج من القلب خوف سوء الخاتمة لمشاهدة سرعة تقليب القلب بالمشيئة وذلك مزيد شكرها وهذا داخل في معنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أحبوا الله تعالى لما أسدى إليكم من نعمه ولما يغذوكم به أيضاً، فمن أفضل ما غذانا به نعمة الإيمان له والمعرفة به وغذاؤه لنا منه دوام ذلك ومدده بروح منه وتثبيتنا عليه في تصريف الأحوال إذ هو أصل الأعمال التي هي مكان النوال، فلو قلب قلوبنا عن التوحيد كما يقلب جوارحنا في الذنوب، ولو قلب قلوبنا في الشك والضلال كما يقلب نيّاتنا في الأعمال أي شيء كنّا نصنع وعلى أي شيء كنّا نعوّل وبأي شيء كنّا نطمئن ونرجو؛ فهذا من كبائر النعم ومعرفته هو من شكر نعمة الإيمان والجهلُ بهذا غفلة عن نعمة الإيمان يوجب العقوبة وادعاء الإيمان أنه عن كسب معقول أو استطاعة بقوّة وحول هو كفر نعمة الإيمان وأخاف على من توهم ذلك أن يسلب الإيمان لأنه بدل شكر نعمة الله كفراً.
وقد جعل الله تعالى الخيرات من كسب الإيمان وليس لنا فيما يكسبنا الخيرات مكان بل الله تعالى منّ علينا أن هدانا للإيمان وجعله سبباً يكسب لنا بإحسانه الإحسان كما قال تعالى: (أَوْ كَسَبَتْ في إيمَانِهَا خَيْرَاً) الأنعام: 158 قيل التوبة، وقيل: الصالحات كلها كسب الإيمان ومن النّعم بعد الإيمان توفيقنا للحسنى وتيسيرنا لليسرى، ثم صرف الكفر وأخلاق الكفرة وأعمالهم ثم تزيين الإيمان وتحبيبه إلينا وتكريه الفسوق والعصيان فضلاً منه ونعمة إلى ما لا يحصى من نعمه فشكر ذلك لايقام به إلا بما وهب أيضاً وأنعم به من المعرفة بذلك والمعونة عليه، والحياء من تتابع النّعم هو من الشكر والمعرفة بالتقصير عن الشكر شكر، والاعتذار من قلة الشكر شكر، والمعرفة بعظيم الحلم وكثيف الستر شكر، والاعتراف بما أعطى من حسن الثناء وجميل النشر أنه من النّعم من غير استحقاق من العبد بل هو مضاف إلى نعمه بل هو من الشكر، وحسن التواضع بالنّعم والتذلّل فيها شكر، وشكر الخلق بالدعاء لهم وحسن الثناء عليهم لأنهم ظروف العطاء وأسباب المعطى تخلّقاً بأخلاق المولى جلّ وعلا هو من الشكر، وقلة الاعتراض وحسن(1/354)
الأدب بين يدي المنعم شكر، وتلقّي النّعم بحسن القبول وتكثير تصغيرها وتعظيم حقيرها من الشكر، لأن طائفة هلكت باستصغار الأشياء واستحقار وجود المنافع بها جهلاً بحكمة الله تعالى واستصغار النعمة فكان ذلك كفراً بالنّعم، ومن الناس من يقول إن الصبر أفضل من الشكر وليس يمكن التفضيل بينهما عند أهل التحصيل من قبل أن الشكر مقام لجملة من المؤمنين والترجيح بين جماعة على جماعة لا يصحّ من قبل تفاوتهم في اليقين في المشاهدات لأن بعض الصابرين أفضل من بعض الشاكرين لفضل معرفته وحسن صبره، وخصوص الشاكرين أفضل من عموم الصابرين لحسن يقينه وعلوّ مشاهدته، ولكن تفضيل ذلك من طريق الأحوال والمقامات أنا نقول: والله أعلم أن الصبر عن النعيم أفضل لأن فيه الزهد والخوف؛ وهما أعلى المقامات وأن الشكر على المكاره أفضل لأن فيه البلاء والرضا، وأن الصبر على الشدائد والضرّاء أفضل من الشكر على النّعم والسرّاء من قبل أنه أشقّ على النفس وأن الصبر مع حال الغنى والمقدرة أن يعصي بذلك أفضل من الشكر على النّعم من قبل أن الصبر عن المعاصي بالنّعم أفضل من الطاعة بها لمن جاهد نفسه فيها، فإذا شكر على ما يصبر عليه فقد صار البلاء عنده نعمة، وهذا أفضل لأنها مشاهدة المقربين، وإذا صبر عمّا يشكر عليه من النّعم كان أفضل لأنها حال المجاهدة.
وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاءً ثم الأمثل فالأمثل يعني الأقرب شبهاً بنا فالأقرب، فرفع أهل البلاء إليه ووصف نفسه به وجعلهم الأمثل فالأمثل منه فمن كان برسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمثل كان هو الأفضل، وقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاكراً على شدة بلائه كذلك الشاكر من الصابرين يكون أفضل لشكره على البلاء إذ هو الأقرب والأمثل بالأنبياء، وكلّ مقام من مقامات المقرّبين يحتاج إلى صبر وشكر، وأحدهما لا يتمّ إلا بالآخر لأن الصبر يحتاج إلى شكر عليه ليكمل، والشكر يحتاج إلى صبر عليه ليستوجب المزيد، وقد قرن الله تعالى بينهما ووصف المؤمنين بهما فقال: (إنَّ فِي ذَلِكَ لأيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) لقمان: 31 فذكرالشكر بلفظ المبالغة في الوصف على وزن فعول، كما ذكرالصبر على وزن فعّال وهو وصف المبالغة أيضاً، ولذلك اقتسما الإيمان نصفين، كما جاء في الخبر: الصبر نصف الإيمان، والشكر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله؛ لأن اليقين أصلهما وهما ثمرتاه عنه يوجدان لأن الشاكر أيقن بالنعمة أنها من المنعم وأيقن بإنجاز ما وعده من المزيد فشكر كما أيقن الصابر بمسّه بالبلاء لأنه هو المبتلي وأيقن بثواب المبلي وحسن ثنائه على الصابرين فصبر فلا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم؛ فهما حالا الموقن إذ لا يخلو في أدنى وقت من أحد اثنين؛ بليّة وتحية، إذ في كل شيء له آية فحاله في البليّة الصبر، وحاله في التحية الشكر، والله يحب الصابرين(1/355)
ويحب الشاكر وهذا آخر شرح مقام الشكر والحمد لله ربّ العالمين.
شرح مقام الرجاء
ووصف الراجين وهو الرابع من مقامات اليقين
قال الله تعالى: (الله لَطيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ) الشورى: 19 وقال: جلت قدرته: (وَكَاَنَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) الأحزاب: 43 وقال تعالى: (يَاعِبَاديَ الَّذينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفسهمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إن الله يَغْفِرُ الّذُنُوبَ جَميعاً) الزمر: 53 وروينا في قراءة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ولا يبالي أنه هو الغفور الرحيم، وفي الأخبار لمشهورة فقبض قبضة فقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي المعنى والله أعلم أن رحمتي وسعت كل شيء فليس يضيق هولاء عنها ولا أبالي بدخولهم فيها، ويكون هؤلاء أيضاً في الجنة، ولا أبالي بأعمالهم السيئة كلها، وقال سبحانه وتعالى في وصف المتقين: (وَالَّذينَ إذا فَعَلُوا فَاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله) آل عمران: 135 فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله، وقال عزّ وجلّ في وصف المتوكلين: (إلا اللَّمَمَ إِنَّ ربَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَة) النجم: 32 وقال تعالى مخبراً عن الملائكة الحافين حول عرشه: (وَالْملائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ ربَّهِمْ وَيَستَغٌفِرون لمَنْ في الأرض) الشورى: 5 وأخبر عزّ وجلّ أن النار أعدها لأعدائه وأنه خوّف بها أولياءه، فقال تعالى: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهمْ ظُلَل مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخوِّفُ الله بهِ عِبَادَهُ) الزمر: 16 ومثله قول عزّ وجلّ: (واتَّقُوا النار الَّتي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرينَ) آل عمران: 131 وقال: (فَأنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) الليل: 14 لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى، وقال تعالى في عفوه عن الظالمين (وَإنَّ رَبَّك لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) الرعد: 6
ورينا أن النبي عليه السلام لم يزل يسأل في أمته حتى قيل له: أما ترضى وقد أنزلت عليك هذه الآية: (وَإنَّ رَبّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ للنَّاس عَلى ظُلْمِهِمْ) آل عمران: 135 وفي تفسير قوله تعالى: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) الضحى: 5 قال: لا يرضى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدخل واحد من أمته النار، وكان أبوجعفر محمد بن علي رضي الله عنه يقول: أنتم أهل العراق تقولون أرجى آية في كتاب اللّّه تعالى قوله تعالى: (يَاعِبَادي الَّذين أَسْرَفُوا على أَنْفُسهِمْ لاتَقْنطُوا مِنْ رَحْمةِ الله) الزمر: 53 الآية، ونحن أهل البيت نقول أرجى آية في كتاب الله تعالى: (وَلَسَوْف يُعْطِيكَ رَبُّك فَتَرْضَى) الضحى: 5 وعده ربه عزّ وجلّ أن يرضيه في أمته، وروينا في حديث أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى: أمتي أمة مرحومة لا عذاب عليها في الآخرة جعل عقابها في الدنيا الزلازل والفتن فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجل من أمتي رجلاً من أهل الكتاب فيقال هذا فداؤك من النار، وروينا في لفظ آخر: يأتي كلّ رجل من هذه الأمة بيهودي أو نصراني إلى جهنم فيقول: هذا فدائي من النار فيلقي فيها، وفي الخبر: إن الحمى من فيح جهنم وهي حظ المؤمنين من النار، وروينا في تفسير قوله تعالى: (يَوْمَ لايُخْزِي اللهُ الْنَّبيَّ والَّذينَ آمَنُوا مَعَهُ) التحريم: 8، إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تريد أن أجعل حساب أمتك إليك؟ فقال: لا ياربّ أنت(1/356)
خير لهم مني، قال: إذاً لا نخزيك فيهم، وقال سفيان الثوري رضي الله عنه: ما أحب أن يجعل حسابي إلى أبوي لأني أعلم أن الله تبارك وتعالى أرحم بي منهما.
وروينا في خبر سلمة بن وردان عن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل ربه تعالى في ذنوب أمته فقال: ياربّ اجعل حسابهم إلي لئلا يطلع على مساوئهم غيري فأوحى الله تعالى إلىه: هم أمتك وهم عبادي وأنا أرحم بهم منك لا أجعل حسابهم إلى غيري كيلا تنظر في مساوئهم أنت ولا غيرك، وقد روينا عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه قال حياتي خير لكم وموتي خيرلكم، أما حياتي فإني أبين لكم السنن وأشرع الشرائع، وأما موتي فأعمالكم تعرض عليّ فما رأيت منها حسناً حمدت الله عزّ وجلّ وما رأيت منها شيئاً استغفرت الله عزّ وجلّ لكم.
وروينا في الأثر: إذا تاب العبد من ذنوبه أنسى الله عزّ وجلّ ملائكته وبقاع الأرض معاصيه وبدلها حسنات حتى يرد القيامة وليس شيء يشهد عليه، وكذلك يقال: إن المؤمن إذا عصاه ستره الله تعالى عن أبصار الملائكة كيلا تراه فتشهد عليه، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم: ياكريم العفو، فقال له جبريل عليه السلام: تدري ما تفسير يا كريم العفو هو أنه عفا عن السيئات برحمته ثم بدلها حسنات بكرمه، وسمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً يقول: اللهم إني أسألك تمام النعمة، فقال: هل تدري ما تمام النعمة؟ قال: لا، قال: دخول الجنة، وقد أخبرنا الله تعالى أنه قد أتمّ نعمته علينا برضاه الإسلام لنا؛ فهذا دليل على دخول الجنة، فقال عزّ وجلّ: (اليْوَمَ أَكمْلتُ لَكُمْ دينَكمُ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضيتُ لَكُمُ الإسلام ديناً) المائدة: 3 وقد اشتركنا في ذلك مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنحن نرجو المغفرة لذنوبنا بفضله، فقال عزّ من قائل: (ليغفرلك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر يتمّ نعمته عليك) ، وفي خبر علي رضي الله عنه: من أذنب ذنباً فستره الله تعالى عليه في الدنيا، فالله تبارك وتعالى أكرم من أن يكشف ستره في الآخرة، ومن أذنب ذنباً فعوقب عليه في الدنيا فالله تعالى أعدل من أن يثني عقوبته على عبده في الآخرة، وفي لفظ آخر: لا يذنب عبد في الدنيا فيستره الله تعالى عليه إلا غفر له في الآخرة.
وعن بعض السلف: كل عاصٍ فإنه يعصي تحت كنف الرحمن، والكنف من الإنسان حضنه ما بين يديه وصدره، قال: فمن ألقى عليه كنفه ستر عورته ومن رفع عنه كنفه افتضح، ويقال: إن من فضح في الدنيا بذنب فهو كفّارته ولا يفضح به في الآخرة.
وفي الخبر: إذا أذنب العبد فاستغفر الله، يقول الله سبحانه وتعالى لملائكته: انظروا إلى عبد أذنب ذنباً فعلم أن له ربَّاً يغفرالذنب فيأخذ بالذنب، أشهدكم أني قد غفرت له، وحدثت عن محمد بن مصعب قال: كتب إلى أسود بن سالم بخطّه: إن العبد إذا كان مسرفاً على نفسه؛ يرفع يديه يدعو يقول: ياربّ فإذا قال ياربّ، حجبت(1/357)
الملائكة صوته، فإذا قال الثانية ياربّ، حجبت الملائكة صوته، فإذا قال الثالثة يا ربّ حجبت الملائكة صوته، فإذا قال الرابعة يقول الله تعالى حتى متى تحجبوا صوت عبدي عني، قد علم عبدي أنه ليس له ربّ يغفر الذنوب غيري، أشهدكم أني قد غفرت له، وفي الحديث إذا أذنب العبد حتى تبلغ ذنوبه عنان السماء غفرتها له ما استغفرني ورجاني.
وفي حديث آخر: لو لقيني عبدي بقراب الأرض ذنوباً، لقيته بقرابها مغفرة ما لم يشرك بي شيئاً، وفي الخبر: إن الملك ليرفع القلم عن العبد إذا أذنب ست ساعات، فإن تاب واستغفر لم يكتبه عليه وإلا كتبها سيئة، وفي لفظ آخر: فإذا كتبها عليه وعمل حسنة، قال صاحب الشمال وهو أمير عليه: ألق هذه السيئة حتى ألقي من حسناته واحدة من تضعيف العشرة وأرفع تسع حسنات فيلقي عنه هذه السيئة ويقال: إن الله تعالى جعل في قلب صاحب اليمين من الرحمة للعبد أضعاف ما جعل في قلب صاحب الشمال مع أنه أمره عليه، فإذا عمل العبد حسنة فرح بها ملك اليمين، ويقال: فرح بها الملائكة فيكتب للعبد بفرحه الحسنات.
وروينا في حديث أنس بن مالك الطويل: إذا أذنب العبد ذنباً كتب عليه، فقال الأعرابي: فإن تاب؟ محي من صحيفته، قال: فإن عاد؟ قال رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكتب عليه، قال الأعرابي: فإن تاب؟ قال محي من صحيفته، قال: إلى متى يارسول الله؟ قال: إلى أن يستغفر: ويتوب إلى الله تعالى، وأن الله لا يملّ من المغفرة حتى يملّ العبد من الاستغفار، فإذا هم العبد بحسنة كتبها صاحب اليمين حسنة قبل أن يعملها فإذا عملها كتبها عشر حسنات ثم ضاعفها الله عزّ وجلّ إلى سبعمائة ضعف، وإذا همّ بخطيئة لم تكتب عليه فإن عملها كتبت خطيئة واحدة وراءها حسن عفوالله تعالى: وجاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله إني لا أصوم إلا الشهر لا أزيد عليه ولاأصلي إلا الخمس لا أزيد عليهنّ وليس للّّه تبارك وتعالى في مالي صدقة ولاحجّ ولا أتطوع أين أنا إذا مت؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: في الجنة، قال: يا رسول الله معك فتبسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال نعم معي إن حفظت قلبك من اثنين الغل والحسد ولسانك من اثنين: الغيبة والكذب، وعينك من اثنين: النظر إلى ما حرم الله تعالى وإن تزدري بهما مسلماً دخلت معي الجنة على راحتي هاتين.
وروينا في الخبر الطويل عن أنس رضي الله عنه: أن الأعرابي قال: يا رسول الله من يلي حساب الخلق؟ قال: الله عزّ وجلّ قال: هو بنفسه؟ قال: نعم، قال: فتبسم الأعرابي فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ممّ ضحكت ياأعرابي؟ فقال: إن الكريم إذا قدر عفا وروي تجاوز، وإذا حاسب سامح، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صدق ألا ولا كريم أكرم من الّه عزّ وجلّ هو أكرم الأكرمين، ثم قال عليه السلام: فقه الأعرابي، وفيه أيضاً: إن الله تبارك وتعالى شرف الكعبة وعظمها، ولو أن عبداً هدمها حجراً حجراً ثم أحرقها ما بلغ جرم من استخف بوليّ من أولياء الله تعالى، قال الأعربي من أولياء الله؟ قال: المؤمنون كلهم أولياء الله تعالى، أما سمعت الله تعالى يقول: (الله وَلِيُّ الَّذين آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ(1/358)
إلى النُّورِ) البقرة: 257، وفي الخبر المفرد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المؤمن أفضل من الكعبة، والمؤمن طيب طاهر والمؤمن أكرم على الله تعالى من الملائكة، وفي الخبر المشهورعن عبد الله بن عمرو وأبي هريرة رضي الله عنهما وكعب الأحبار أنه نظر إلى الكعبة فقال: ما أشرفك وما أعظمك وللمؤمن أعظم حرمة عند الله منك، وقد أمر الله سبحانه وتعالى أنبياءه بتطهير بيته لأوليائه إجلالاِ لهم فشرّف البيت بهم، وفي الخبر عن الله تعالى: من أهان وليّاً فقد بارزني بالمحاربة وأنا الثائر لوليي في الدنيا والآخرة، وفي أخبار يعقوب عليه السلام أن الله تعالى أوحى إلىه: تدري لم فرقت بينك وبين يوسف عليه السلام هذه المدة؟ قال: لا قال: لقولك لإخوته أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون، لم خفت الذئب عليه ولم ترجني له، ولم نظرت إلى غفلة إخوته ولم تنظر إلى حفظي له، ومن سبق عنايتي بك أن جعلت نفسي عندك أرحم الراحمين، فرجوتني ولولا ذلك لكنت أجعل نفسي عندك أبخل الباخلين، فالرجاء هو اسم لقوّة الطمع في الشيء بمنزلة الخوف اسم لقوّة الحذر من الشيء، ولذلك أقام الله تعالى الطمع مقام الرجاء في التسمية وأقام الحذر مقام الخوف فقال: علت كلمته: (يدعون ربهم خوفاً وطمعاً) وقال تعالى: (يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه) وهو وصف من أوصاف المؤمنين وخلق من أخلاق الإيمان لا يصحّ إلا به كما لا يصحّ الإيمان إلا بالخوف، فالرجاء بمنزلة أحد جناحي الطير لايطير إلا بجناحيه، كذلك لا يؤمن من لا يرجو من آمن به ويخافه وهو أيضاً مقام من حسن الظن بالله تعالى وجميل التأميل له، فلذلك أوصى رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: لا يموتن أحدكم إلاوهو حسن الظن بالله تعالى لأنه قال عن الله تعالى: أنا عند ظنّ عبدي بي فليظنّ بي ماشاء، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يحلف بالله تعالى ماأحسن عبد بالله تعالى ظنّه إلا أعطاه الله تعالى ذلك لأن الخير كله بيده أي فإذا أعطاه حسن الظن بالله تعالى فقد أعطاه ما يظنه لأن الذي حسن ظنه به هو الذي أراد أن يحققه له.
وروينا عن يوسف بن أسباط قال: سمعت سفيان الثوري رضي الله عنه يقول في قوله تعالى: (وَأَحْسِنُوا إنَّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنينَ) البقرة: 195 قال: أي أحسنوا بالله تعالى الظنّ، وكذلك دخل رسول الله على الرجل وهو في سياق الموت فقال: كيف تجدك؟ فقال: أجدني أخاف ذنوبي وأرجو رحمة ربي، فقال عليه السلام: ما اجتمعا في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله تعالى ما رجا وأمنه مما يخاف، ولذلك قال عليٌّ كرّم اللهُ وجهه للرجل الذي أطار الخوف عقله حتى أخرجه إلى القنوط فقال له: يا هذا أيأسك من رحمة اللهّّ تعالى أعظم من ذنبك؟ صدق رضي الله عنه لأن الإياس من روح الله تعالي(1/359)
الذي يستريح إليه المكروب من الذنوب والقنوط من رحمة الله تعالى التي يرجوها المبتلي بالذنوب أعظم من ذنوبه وهو أشد من جميع ذنوبه لأنه قطع بهواه على صفات الله تعالى المرجوّة وحكم على كرم وجهه بصفته المذمومة فكان ذلك من أكبر الكبائر وإن كانت ذنوبه كبائر.
وهكذا جاء في التفسير: ولاتلقوا بأيدكم إلى التهلكة قال: هو العبد يذنب الكبائر ويلقى بيده ولا يتوب ويقول: قد هلكت لا ينفعني عمل فنهوا عن ذلك إلا أن الرجاء مقام جليل وحال شريف نبيل لا يصلح إلا للكرماء من أهل العلم، والحياء وهو حال يحول عليهم بعد مقام الخوف، يروحون به من الكرب ويستريحون إلىه من مقارفة الذنب، ومن لم يعرف الخوف لم يعرف الرجاء، ومن لم يقم في مقام الخوف لم يرفع إلى مقامات أهل الرجاء على صحة وصفاء ورجاء، كل عبد من حيث خوفه ومكاشفته عن أخلاق مرجوة من معنى ما كان كوشف به من صفات مخوفة، فإن كان أقيم مقام المخوفات من المخلوقات مثل الذنوب والعبوب والأسباب، رفع من حيث تلك المقامات إلى مقامات الرجاء، بتحقيق الوعد وغفران الذنب وتشويق الجنان وما فيها من الأوصاف الحسان؛ وهذه مواجهات أصحاب اليمين وإن كان أقيم مقام مخاوف الصفات عن مشاهدة معاني الذات مثل سابق العلم وسوء الخاتمة وخفي المكر وباطن الاستدارج وبطش القدرة وحكم الكبر والجبروت، رفع من هذه المقامات إلى مقام المحبة والرضا، فرجا من معاني الأخلاق وأسماء الكرم والإحسان والفضل والعطف واللطف والإمتنان، وليس يصحّ أن نخبر بكل ما نعلم من شهادة أهل الرجاء في مقامات الرجاء من قبل أنه لا يصلح لعموم المؤمنين، وهو يفسد من لم يرزقه أشد الفساد فليس يصلح إلا بخصوصة ولا يجديه ولا يستجيب له ولا يستخرج إلا من المحبة ولا محبة إلا بعد نصح القلب من الخوف، وأكثر النفوس لا يصلح إلاعلى الخوف، كعبيد السوء لا يستقيمون إلا بالسوط والعصا ثم يواجهون بالسيوف صلتاً، ومن علامة صحة الرجاء في العبد كون الخوف باطناً في رجائه لأنه لما تحقق برجاء شيء خاف فوته لعظم المرجوّ في قلبه وشدة اغتباطه به، فهو لا ينفك في حال رجائه من خوف فوت الرجاء؛ والرجاء هو ترويحات الخائفين، ولذلك سمّت العرب الرجاء خوفاً لأنهما وصفان لا ينفك أحدهماعن الآخر، ومن مذهبهم أن الشيء إذا كان لازماً لشيء أو وصفاً له أو سبباً منه، أن يعبّروا عنه به فقالوا: مالك لا ترجو كذا وهم يريدون ما لك لا تخاف؟ وعلى هذه اللغة جاء قول الله تعالى: (مَا لَكُْم لا تَرْجُونَ للهِ وَقَاراً) نوح: 13 أجمعوا على تفسيره: مالكم لا تخافون لله عظمة، وهو أيضاً أحد وجهي تفسير قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ) الكهف: 110 أي يخاف من لقائه ومثل الخوف من الرجاء، مثل اليوم(1/360)
من الليلة لما لم ينفك أحدهما عن الآخر جاز أن يعبر عن المدة بأحدهما فيقال: ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، ومنه قول الله تعالى مخبراً عن قصة واحدة فقال عزّ وجلّ: (آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَال سَويَّاً) مريم: 10
ثم قال تعالى: (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزاً) آل عمران: 41 فلما لم يكن اليوم ينفك عن ليلته والليلة لا تنفك عن يومها أخبر عن أحدهما بالآخر لأن أحدهما يشبه الآخر مندرج فيه، ولا يظهر إلا أحدهما بحكمة الله تعالى وقدرته لتفاوت أحكامه فيهما، وافتراق إنعامه بهما، فإذا ظهر النهار اندرج الليل فيه بقدرته تعالى، وإذا ظهر الليل استتر النهار بحكمه تعالى، وهو حقيقة إيلاجه أحدهما في الآخر، وتحقيق تكويره أحدهما على صاحبه، فكذلك حقيقة الرجاء والخوف في معاني الملكوت إذا ظهر الخوف كان العبد خائفاً، وظهرت عليه أحكام الخوف عن مشاهدة التجلي بوصف مخوف، فسمّي العبد خائفاً لغلبته عليه وبطن الرجاء في خوفه، وإذا ظهر الرجاء كان العبد راجياً وظهرت منه أحكام الرجاء عن مشاهدة تجلّي الربوبية بوصف مرجوّ فوصف العبد به لأنه هو الأغلب عليه وبطن الخوف في رجائه لأنهما وصفان للإيمان كالجناحين للطير، فالمؤمن بين الخوف والرجاء كالطائر بين جناحيه وكلسان الميزان بين كفتيه ومنه قول مطرف: لو وزن خوف المؤمن ورجاءه لاعتدلا فهذا أصل في معرفة حقيقة الرجاء وصدق الطمع في المرجوّ، فالمؤمنين في اعتدال الخوف والرجاء مقامان؛ أعلاهما مقام المقرّبين، وهو ما حال عليهم من مقام مشاهدة الصفات المخوفة والأخلاق المرجوّة، والثاني مقام أصحاب اليمين وهو ماعرفوه من بدائع الأحكام وتفاوت الأقسام، من ذلك أنه أنعم سبحانه وتعالى على الخلق بفضله عن كرمه اختياراً لا إجباراً، فلما أعلمهم ذلك رجو تمام النعمة من حيث ابتداؤها، ومن ههنا طمع السحرة في المغفرة لما ابتدؤا بالإيمان فقالوا: إنّا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا إن كنّا أول المؤمنين، أي من حيث جعلنا أوّل المؤمنين من هذا المكان نرجو أن يغفر لنا بأن جعلنا مؤمنين به فرجوه منه، وقد ذم الله تعالى عبداً أوجده نعمة ثم سلبها فأيس من عودها عليه فقال تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنْسََانَ مِنّا رَحْمَةً ثُم نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ) هود: 9 ثم استثنى عباده الصابرين عليه الصالحين له فقال تعالى: (إِلا الَّذين صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) هود: 11
وروي أن لقمان عليه السلام قال لابنه خف الله تعالى خوفاً لا تأمن فيه مكره، وارجه رجاء أشدّ من خوفك، قال: وكيف أستطيع ذلك وإنما لي قلب واحد؟ قال: أما علمت أن المؤمن كذي قلبين يخاف بأحدهما، ويرجو بالآخر؟ والمعنى أن الخوف والرجاء وصف الإيمان لا يخلو منهما قلب مؤمن، فصار كذي قلبين حينئذ ثم إن الخلق خلقوا على أربع طبقات، في كل طبقة طائفة فمنهم من يعيش مؤمناً ويموت مؤمناً، فمن ههنا رجاؤهم لأنفسهم ولغيرهم من المؤمنين، إذ قد أعطاهم فرجوا أن يتمّ عليهم نعمته(1/361)
وأن لا يسلبهم بفضله ما به بدأهم، ومن الناس من يعيش مؤمناً ويموت كافراً فهذا موضع خوفهم عليهم وعلى غيرهم لمكان علمهم بهذا الحكم ولغيب حكم الله تعالى بعلمه السابق فيهم، ومن الناس من يعيش كافراً ويموت مؤمناً، ومنهم من يعيش كافراً ويموت كافراً؛ فهذان الحكمان أوجبا رجاءهم الثاني للمشترك إذا رأوه فلم يقنطوا بظاهره أيضاً خوف هذا الرجاء خوفاً ثانياً أن يموت على تلك الحال وأن يكون ذلك هو حقيقة عند الله تعالى، فعلم المؤمن بهذه الأحكام الأربعة ورثه الخوف والرجاء معاً، فاعتدل حاله بذلك لاعتدال إيمانه به، وحكم على الخالق بالظاهر، ووكّل إلى علام الغيوب السرائر، ولم يقطع على عبد بظاهره من الشرّ، بل يرجو له ما بطن عند الله تعالى من الخير، ولم يشهد لنفسه ولا لغيره بظاهر الخير، بل يخاف أن يكون قد استسرّ عند الله تعالى باطن شرّ، إلا أن حال التمام أن يخاف العبد على نفسه ويرجو لغيره لأن ذلك هو وجد المؤمنين من قبل أنهم متعبدون بحسن الظن، فهم يحسنون الظنّ بالناس، ويخرجون لهم المعاذير بسلامة الصدور، وتسليم ما غاب إلى من إليه تصير الأمور، ثم هم في ذلك يسيئون الظنّ بنفوسهم لمعرفتهم بصفاتها، ويوقعون الملاوم عليها ولا يحتجون لها لباطن الإشفاق منهم عليهم، ولخوف التزكية منهم لهم، فمن قلب عليه هذان المعنيان فقد مكر به حتى يحسن الظن بنفسه ويسيء ظنّه بغيره، فيكون خائفاً على الناس، راجياً لنفسه، عاذراً لنفسه، محتجاً لها، لائماً للناس، ذامّاً لهم؛ فهذه أخلاق المنافقين، ثم إن للراجي حالاً من مقامه ولحاله علامة من رجائه، فمن علامة الرجاء عن مشاهدة المرحوّ، دوام المعاملة وحسن التقرب إليه وكثرة التقرب بالنوافل لحسن ظنّه به وجميل أمله منه، وأنه يتقبّل صالح ما أمر به تفضّلاً منه من حيث كرمه، لا من حيث الواجب عليه، ولا الاستحقاق منّا وأنه أيضاً يكفر سئ ما عمله إحساناً منه ورحمةً من حيث لطفه بنا وعطفه علينا لأخلاقه السنيّة وألطافه الخفيّة لا من حيث اللزوم له بل من حيث حسن الظنّ به، كما قال سفيان الثوري رضي الله عنه: من أذنب ذنباً، فعلم أن الله تعالى قدره عليه ورجا غفرانه غفر الله عزّ وجلّ له ذنبه، قال: لأن الله تعالى غيّر قوماً فقال تعالى: (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذي ظًنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) فصلت: 23 وقد قال سبحانه وتعالى في مثله: (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) الفتح: 12 أي هلكى، ففي دليل خطابه عزّ وجلّ أنّ من ظنّ حسناً كان من أهل النجاة، وقد جاء في الأثر: إن من أذنب ذنباً فأحزنه ذلك غفر له ذنبه وإن لم سيغفر، ومقام الرجاء كسائر مقامات اليقين منها فرض وفضل، فعلى العبد فرض أن يرجو مولاه وخالقه معبوده ورازقه، من حيث كرمه وفضله، لا من حيث نظره إلى صفات نفسه ولؤمه، وقد كان سهل رحمه الله تعالى يقول: من سأل الله تبارك وتعالى شيئاً فنظر إلى(1/362)
شيء وإلى أعماله لا يرى الإجابة حتى يكون ناظراً إلى الله تبارك وتعالى وحده وإلى لطفه وكرمه، ويكون موقناً بالإجابة، ولعمري أن من سأل الله تعالى ورغب إلىه في شيء، ورجاه ناظراً إلى نفسه وعمله، فإنه غير مخلص في الرجاء له تعالى لشركه في النظر إليه، وإذا لم يكن مخلصاً لم يكن موقناً، ولا يقبل الله تعالى عملاً ولا دعاء إلا من موقن بالإجابة مخلص، فإذا شهد التوحيد ونظر إلى الوحدانية فقد أخلص وأيقن، وهكذا جاء في الخبر: إذا دعوتم فكونوا موقنين بالإجابة، فإن الله تعالى لا يقبل إلا من موقن ومن داع دعاءً بيناً من قلبه، لأن من استعمله الله تعالى بالدعاء له فقد فتح له باباً من العبادة.
وفي الخبر: الدعاء نصف العبادة ولايقبل الله تعالى من الدعاء إلا الناخلة بمعنى المنخول وهو الخالص، فأقل ما يعطيه من دعائه أن يكون ذلك حسنة منه، يضعفه له عشراً إلى سبعمائة ضعف، وأعلاه أن يدخر له في الآخرة ماهو خير له من جيمع الدنيا وما فيها مما لم يخطر على قلبه قطّ، ويكون ذلك حسن نظر من الله تعالى له واختيار، وأوسط ذلك أن يصرف عنه من البلاء الذي هو لو كان علمه كان صرفه أهمّ عليه وأحبّ إليه مما سأل فيه، وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما من داع دعا موقناً بالإجابة في غير معصية ولا قطيعة رحم، إلا إعطاه الله تعالى إحدى ثلاث؛ إما أن يجيب دعوته فيما سأل، أو يصرف عنه من السوء مثله، أو يدخر له في الآخرة ما هو خير له، وفي أخبار موسى عليه السلام: ياربّ أي خلقك أنت عليه أشدّ تسخطاً؟ فقال تعالى: من لم يرض بقضائي، ومن يستخيرني في أمر فإذا قضيت له كره ذلك، وفي الخبر الآخر: إنه قال ياربّ أي الأشياء أحب إليك وأيها أبغض؟ فقال سبحانه وتعالى: أحب الأشياء إليّ الرضا بقضائي وأبغضها إليّ أن تطري نفسك.
وروينا عن نبيّنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه قال للرجل الذي قال: أوصني فقال: لاتتهم الله تعالى في شيء قضاه عليك، وفي الخبر الآخر: أنه نظر إلى السماء وضحك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسئل عن ذلك فقال: عجبت لقضاء الله تعالى للمؤمن في كلّ قضائه له خير، إن قضي له بالسرّاء رضي؛ وكان خيراً له وإن قضي عليه بالضرّاء رضي به وكان خيراً له، ومن حسن الظنّ بالله تعالى لطف التملّق له سبحانه وتعالى، وهو من قوة الطمع فيه، وفي خبر: حسن الظنّ بالله عزّ وجلّ من حسن عبادة الله عزّ وجلّ، كما روينا في تفسير قوله تعالى: (فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ) البقرة: 73 إن الكلمات هي قوله عليه السلام: ياربّ هذا الذنب الذي أصبته كان من قبل نفسي أو من شيء سبق في علمك قبل أن تخلقني قضيته عليّ، فقال: بل شيء سبق في علمي كتبته عليك، قال: ياربّ فكما قضيته عليّ فاغفر لي، قال: فهي الكلمات التي لقاه الله تعالى إياها.
وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقول الله تعالى للعبد يوم القيامة: ما منعك إذ رأيت المنكر(1/363)
أن تنكره؟ قال: فإن لقن الله تعالى العبد حجته قال: ياربّ رجوتك وخفت الناس، قال: لقد غفرت له، وفي الخبرالمشهور: أن رجلاً كان يداين الناس فيسمح لهم ويتجاوز عن المعسر فلقي اللّّ تعالى ولم يعمل خيراً قط، فقال اللّّه تعالى سبحانه وتعالى: نحن أحقّ بذلك منك قال: فغفر له برجائه وظنه، ثم يتفاوت الراجون في فضائل الرجاء، فالمقرّبون منهم رجوا النصيب الأعلى من القرب والمجالسة والتجلّي بمعاني الصفات مما عرفوه؛ وهذا عن علمهم به وأصحاب اليمين من الراجين رجوا النصيب الأوفر من مزيده والفضل الأجزل من عطائه يقيناً بما وعد، ومن الرجاء: انشراح الصدر بأعمال البّر وسرعة السبق والمبادرة بها خوف فوتها ورجاء قبولها، ثم مهاجرة السوء ومجاهدة النفس رجاء انتجاز الموعور وتقرّباً إلى الرحيم الودود، ومنه قول أصدق القائلين: (إنَّ الَّذينَ آمَنُواوالََّذينَ هَاجرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ) البقرة: 218 وفسّر رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المهاجرة والمجاهدة فقال المهاجر: من هجر السوء، والمجاهد: من جاهد نفسه في الله تعالى، وأقام الصلاة التي هي خدمة المعبود، وبذل المال سرّاً وعلانيّةً وقليلاً وكثيراً، وأن لا يشتغل عن ذلك بتجارة الدنيا، كما وصف الله سبحانه وتعالى المحقّقين من الراجين إذ يقول عزّ من قائل: (إنَّ الَّذينَ يَتْلُونَ كِتَابَ الله وأقَامُوا الْصَّلاة وَأنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعلانِيَة يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُور) فاطر: 29
ومن الرجاء القنوت في ساعات الليل؛ وهو طول القيام للتهجّد، والدعاء عند تجافي الجنوب عن المضاجع لما وقر في القلوب من المخاوف، ولذلك وصف الله الراجين بهذا في قوله تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ الَّليْل سَاجِداً وقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَة وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوي الَّذينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذينَ لا يَعْلمُون) الزمر: 9 فسمّى أهل الرجاء والحذر وأهل التهجّد آناء الليل علماء، وحصل من دليل الكلام: أن من لم يخف ولم يرج غير عالم لنفيه المساواة بينهما، وهذا ممّا يحذف خبره اكتفاء بأحد وصفيه إذ في الكلام دليل عليه فالرجاء هو أوّل مقام من اليقين عند المقرّبين وهو ظاهر أوصاف الصدّيقين، ولايكمل في قلب عبد، ولا يتحقّق به صاحبه حتى يجتمع فيه هذه الأوصاف؛ الإيمان بالله تعالى، والمهاجرة إليه سبحانه وتعالى، والمجاهدة فيه وتلاوة القرآن، وإقامة الصلاة، والإنفاق في سبيل الله تعالى، ثم السجود آناء الليل، والقيام والحذر مع ذلك كله؛ فهذه جملة صفات الراجين، وهو أوّل أحوال الموقنين ثم تتزايد الأعمال في ذلك ظاهراً وباطناً بالجوارح والقلوب عن تزايد الأنوار والعلوم ومكاشفات الغيوب بالأوصاف الموجودة وفصل الخطاب، إن الخوف والرجاء طريقان إلى مقامين؛ فالخوف طريق العلماء إلى مقام العلم،(1/364)
والرجاء طريق العمال إلى مقام العاملين، وقد وصف الله عزّ وجلّ الراجين مع الأعمال الصالحة لقوة رجائهم بالخوف، تكملة لصدق الرجاء وتتمة لعظيم الغبطة به، فقال تعالى وتقدّس: (وَالّذينَ يُؤتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) المؤمنون: 60 وقال عزّ وجلّ مخبراً عنهم في حال وفائهم وأعمال برّهم: (إنّا كُنَّا قَبْلُ في أَهْلِنا مُشْفِقينَ) (فَمَنَّ اللّّه عَلَيْنَا) الطور: 26 - 27 وقال عزّ وجلّ: (يُوفُون بِالَّنذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمَاً) الإنسان: 7 من قبل أن الخوف مرتبط بالرجاء، فمن تحقق بالرجاء صارعه الخوف أن يقطع به دون ما رجا، وقال أهل العربية في معنى قوله تعالى: (قُلْ لِلَّذينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذينَ لا يَرْجُونَ أَيَّام الله) (الجاثية: 14 أي للذين لايخافون عقوبات الله تعالى، فإذا كان هذا أمره بالمغفرة لمن لا يرجو فكيف يكون غفره وفضله على من يرجو، وبعضهم يقول في معنى قوله تعالى: (وَيَرْجُونَ مِنَ الله ما لا يَرْجُونَ) النساء: 104 أي تخافون منه ما لا يخافون، فلولا أنهما عند العلماء كشيء واحد ما فسّر أحدهما بالآخر، ومن الرجاء الأنس بالله تعالى في الخلوات، ومن الأنس به الأنس بالعلماء والتقرّب من الأولياء، وارتفاع الوحشة بمجالسة أهل الخير، وسعة الصدر والروح عندهم، ومن الرجاء سقوط ثقل المعاونة على البّر والتقوى، لوجود حلاوة الأعمال والمسارعة إليها، والحثّ لأهلها عليها والحزن على فوتها والفرح بدركها، ومن ذلك الخبر المأثور من سرّته حسنته وساءته سيئته، فهو مؤمن، والخبر المأثور: خيار أمتي الذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساؤوا استغفروا لأن المؤمن على يقين من أمره وبصيرة من دينه، والخوف والرجاء وصف الموقن بالله تعالى فهو إذا عمل حسنة، أيقن بثوابها لصدق الوعد وكرم الموعد، وإذا عمل سيئة أيقن بالكراهة لها، وخاف المقت عليها لخوف الوعيد وعظمة المتوعد من قبل أن دخوله في الطاعة، دخول في محبة الله تعالى ومرضاته لما دلّ العلم عليه؛ فهذا رضا الله سبحانه وتعالى في الدنيا، فكيف لا يسرّه رضاه ومن قبل أن دخوله في المعصية دخول في غضب الله تعالى ومكارهه، بما دلّ العلم عليه فذلك الذي يسوءه لأن مقت الله تعالى اليوم معاصيه وسخطه غداً تعذيبه، ومن هذا قول الله عزّ وجلّ وهو أصدق القائلين: (يُنادَوْنَ لَمَقْتُ الله أَكبَر مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) غافر: 10 قال: لما نظروا إلى أنفسهم بتشويه خلقهم في النار مقتوها فنودوا لمقت الله في الدنيا على معاصيه أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم في العذاب، كما أن رضاه غداً تنعيمهم في جنته كذلك رضاه اليوم عملهم بطاعته ومرضاته؛ وهذا وصف عبد مراد مكاشف بعلم اليقين.
ومن هذا حديث زيد الخيل إذ قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جئتك أسألك عن علامة الله تعالى فيمن يريد وعلامته فيمن لا يريد فقال: كيف أصبحت فقال: أصبحت أحبّ الخير وأهله وإذا قدرت على شيء منه سارعت إليه وأيقنت بثوابه وإذا فاتني شيء منه حزنت عليه(1/365)
وحننت إليه فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذه علامة الله تعالى فيمن يريد ولو أرادك للأخرى هيأك لها، ثم لم يبال في أي أوديتها هلكت، ومن الرجاء التلذذ بدوام حسن الإقبال والتنعّم بمناجاة ذي الجلال وحسن الإصغاء إلى محادثة القريب والتلطّف في التملق للحبيب وحسن الظنّ به في العفو الجميل ومنال الفضل الجزيل، وقال بعض العارفين: للتوحيد نور وللشرك نار، ونور التوحيد أحرق لسيئات المؤمن من نار الشرك لحسنات المشرك، ولما احتضر سليمان التيمي قال لابنه: يابني حدثني بالرخص واذكر لي الرجاء حتى ألقى الله تعالى على حسن الظنّ به، وكذلك لما حضر سفيان الثوري رضي الله عنه الوفاة جعل العلماء حوله يرجونه، وحدثنا عن أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه قال لابنه عند الموت: اذكر لي الأخبار التي فيها الرجاء وحسن الظنّ، فلولا أن الرجاء وحسن الظنّ من فواضل المقامات ما طلبه العلماء في آخر الأوقات عند فراق العمر ولقاء المولى لتكون الخاتمة به وهم يسألون الله حسن الخاتمة طول الحياة، ولذلك قيل: إن الخوف أفضل مادام حيّاً فإذا حضر الموت فالرجاء أفضل، وقد كان يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى يقول في مقامات الرجاء: إذا كان توحيد ساعة يحبط ذنوب خمسين سنة فتوحيد خمسين سنة ماذا سيصنع بالذنوب؟ وقال أبو محمد سهل رضي الله عنه: لا يصبح الخوف إلا لأهل الرجاء، وقال مرّة: العلماء مقطوعون إلا الخائفين، والخائفون مقطوعون إلا الراجين، وكان يجعل الرجاء مقاماً في المحبة وهو عند العلماء أوّل مقامات المحبة، ثم يعلو في الحبّ على قدر ارتفاعه في الرجاء وحسن الظن، وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث في الرجاء لا يصلح ذكرها لعموم الناس ولكن نذكر من ذلك ما ظهر خلق الله تعالى لجهنم من فضل رحمته سوطاً يسوق الله عزّ وجلّ به عباده إلى الجنة، وخبر آخر، يقول الله تعالى: إنما خلقت الخلق ليربحوا عليّ ولم أخلقهم لأربح عليهم، وفي حديث عطاء بن يسارعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ماخلق الله تعالى شيئاً إلا جعل له ما يغلبه وجعل رحمته تغلب غضبه، والخبر المشهور: إن الله تعالى كتب على نفسه قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي تغلب غضبي، والأخبار المشهورة عن معاذ بن جبل وأنس بن مالك رضي الله عنهما: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، ومن كان آخركلامه قول: لا إله إلا الله لم تمسّه النار، ومن لقي الله تعالى لا يشرك به شيئاً حرمت عليه النار ولا يدخل النار من في قلبه وزن ذرة من إيمان، وقد قال في خبر آخر: لو يعلم الكافر سعة رحمة الله تعالى ما أيس من رحمته أحد وقد قال تعالى في حسن عفوه عن أكبر الكبائر بعد ظهور الآيات: (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذلكَ) النساء: 153،(1/366)
وقال في خطاب لطيف لأوليائه يعرفهم نفاذ أحكامه فيهم وجريان مشيئته عليهم: فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البيّنات فاعلموا أن الله عزيز حكيم، عزيز لا يوصل إليه إلا به، حكيم حكم بمشيئته على عباده، ثم يغفر الذنوب جميعاً فلا يبالي كما أجرى على من فضله على العالمين، مقالة الكافرين فلم يضرّهم مع تفضيله لهم إذ قالوا لموسى عليه السلام: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، فقال: أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضّلكم على العالمين؛ وبهذا المعنى عارض عليّ كرّم اللّّه وجهه رأس الجالوت لما قال له: لم تلبثوا بعد نبيكم عليه السلام إلا ثلاثين سنة حتى ضرب بعضكم وجه بعض بالسيف فقال عليّ كرّم الله وجهه: أنتم لم تجفّ أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة.
وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا حدثتم الناس عن ربهم فلا تحدثوهم بمايفزعهم وينفرهم، وقال في حديث آخر: بشّروا ولا تنفروا ويسّروا ولا تعسّروا، ولما وعظهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً الحديث، فهبط جبريل عليه السلام فقال: إن الله تعالى يقول: لم تقنط عبادي؟ فخرج إليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرجاهم وشوّقهم، ولما تلا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآية: (إنَّ زَلْزَلَة السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) الحج: 1 قال: أتدرون أيّ يوم؟ هذا يوم يقال لآدم عليه السلام: قم فابعث نصيب النار من ذرتك، فقال: كم؟ قيل من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحد إلى الجنة، قال: فبكوا يومهم ذلك وتركوا الأشغال والعمل، فخرج عليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1/367)
فقال: ما بالكم أنتم في الأمم مثل شعرة بيضاء في جلد ثور أسود، والخبر المشهور: لو لم تذنبون لخلق الله تعالى خلقاً يذنبون ليغفر لهم، وفي لفظ آخر: لذهب بكم وجاء بقوم يذنبون فيغفر لهم، إنه هو الغفور الرحيم أي أن وصفه سبحانه وتعالى المغفرة والرحمة، فلابدّ أن يخلق مقتضى وصفه حتى يحق وصفه عليه هذا كما يقول في علم المعرفة: إن له سبحانه وتعالى من كلّ اسمٍ وصفاً ومن كل وصف فعل، وفي هذا سرّ المعرفة ومنه معرفة الخصوص، وحكي لنا معناه عن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه قال: خلا لي الطواف ذات ليلة، وكانت ليلة مطيرة مظلمة فوقفت في الملتزم عند الباب فقلت: ياربّ اعصمني حتى لاأعصيك أبداً، فهتف بي هاتف من البيت: ياإبراهيم أنت تسألني العصمة وكل عبادي المؤمنين يطلبون ذلك، فإذا عصمتهم فعلى من أتفضّل ولمن أغفر؟ وكان الحسن البصري رضي اللّّه عنه يقول: لو لم يذنب المؤمن لكان يطير طيراً ولكن الله تعالى قمعه بالذنوب.
وفي الخبر مثله: لوم لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو شرّ من الذنوب، قيل: وما هو؟ قال: العجب، ولعمري أن العجب من صفات النفس المتكبرة، وهو يحبط الأعمال، وهو من كبائر أعمال القلوب والذنوب من أخلاق النفس الشهوانية، ولأن يبتلي العبد الشهوانِي بعشر شهوات من شهوات النفس خير له من أن يبتلي بصفة من صفات النفس مثل الكبر، والعجب، والبغي، والحسد، وحبّ المدح، وطلب الذكر؛ لأن هذه منها؛ معاني صفات الربوبية، ومنها أخلاق الأباسلة، وبها هلك إبليس، وشهوات النفس من وصف الخلقة وبها عصى أدم ربه فاجتباه بعدها وتاب عليه وهدى، وقد قال بشر بن الحرث: سكون النفس إلى المدح أضرّ عليها من العاصي، ورأى يوسف بن الحسين مخنثاً فأعرض عنه إزراء عليه، فالتفت إليه المخنث وقال: وأنت أيضاً يكفيك مابك ففزع من قوله، فقال: وأي شيء تعلم؟ قال: لأن عندك أنك خير مني، فاعترف يوسف بقوله، فتاب واستغفر وكان بعض الراجين من العارفين إذا تلا هذه الآية، آية الدين التي في سورة البقرة، يسرّ بذلك ويستبشر لها ويعظم رجاؤه عندها، فقيل له في ذلك: إنها ليس فيها رجاء ولا ما يوجب الاستبشار فقال: بلى فيها رجاء عظيم، قيل: وكيف ذلك؟ فقال: إن الدنيا كلّها قليل ورزق الإنسان فيها قليل من قليل وهذا الدين من رزقه قليل، ثم إن الله تبارك وتعالى احتاط في ذلك ورفق النظر لي بأن وكد ديني بالشهود والكتاب وأنزل فيه أطول آية في كتابه، ولو فاتني ذلك لم أبال به فكيف يكون فعله بي في الآخرة التي لا عوض لي من نفسي فيها.
وكذلك كان بعض الراجين يفهم من قوله تعالى إذا تلا: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ الله ما لَمْ يَكُونوا يَحْتَسِبُونَ) الزمر: 47 يرجو من ذلك بوادي الجود والإحسان مما لم يحسبه في الدنيا قطّ، وقد كان الجنيد رحمه الله يقول: إن بدت عين من الكرم ألحقت المسيئين(1/368)
بالمحسنين، وعلى ذلك جاء في الخبر: ليغفرنّ الله تعالى يوم القيامة مغفرة ماخطرت قطّ على قلب أحد حتى أن إبليس يتطاول رجاء أن تصيبه، وفي الخبر: إن لله تعالى تسعًا وتسعين رحمة أظهر منها في الدنيا رحمة واحدة بها يتراحم الخلائق فتحنّ الوالدة إلى ولدها وتعطف البهيمة على ولدها، فإذا كان يوم القيامة ضمّ هذه الرحمة إلى تلك التسعة والتسعين، ثم بسطها على جميع خلقه وكل رحمة منها طباق السموات والأرضين، قال: فلا يهلك على الله تعالى إلا هالك، وقد قال بعض العلماء: إن الله تعالى إذا غفر لعبد في موقف القيامة ذنباً غفر ذلك الذنب لكل من عمله، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعملوا وأبشروا واعلموا أن أحدًا لن ينجّيه عمله.
وفي الحديث الآخر: ما منكم من أحد يدخله عمله الجنة ولا ينجّيه من النار، قالوا: ولا أنت يارسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمة وفضل، وروي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، وفي لفظ آخرأترونها للمصفين المتقين بل هي للمخلصين المتلوّثين وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ وأبي موسى رضي اللّّه عنهما، وقد بعثهما واليين على اليمن فأوصاهما فيما أمرهما به فقال يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفّرا، فعلم المؤمنين بكرم الله تعالي وخفيّ لطفه، ولطيف منه لا يقعدهم عن تأميله، ولا يقصر بهم عن رجاءه، ولا حسن ظنّهم به، ولا يقوى الخوف فيخرجهم إلى الأياس من رحمته، لأجل علمهم بجبريته وكبريائه، من قبل أن المهوب هو المحبوب فمحبته تؤنسهم وترجيهم، وهيبته تزعجهم وتخيفهم فخوفهم في المهابة في لذاذة ونعيمهم بالحبّ في مهابة فهم في مقام الخوف والمحبة معتدلون، وبقوّة العلم بهما متمكنون، وفي مشاهدة المخوف والمحبوب مستقيمون، وهذا المقام هو وصف العارفين من الموقنين؛ وهم أهل كمال الإيمان وصفوة خصوص ذوي الإيقان إذ قد عرفوا أن الله تبارك وتعالى كامل في صفاته لا يعتريه نقصان في وصف دون وصف وإنما الرحمة لسعة العلم، كما العلم لسعة القدرة لما شهدوا من وصفه بما سمعوا من كلامه أنه كان عليماً قديرًا.
كذلك قال تعالى: (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلمًا) غافر: 7 وكذلك فهموا من قوله تعالى: (وَرَحْمَتي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) الأعراف: 156 فدخلت جهنم وغيرها في توسعة الرحمة من حيث كنّ شيئاً وقولّه عزّ وجلّ: (فسَأَكْتُبُهَا لِلَذين يَتَّقُونَ) الإسراء: 44 معناه خصوص الرحمة، وصفها لا كنهها، إذ لا نهاية للرحمة، لأنها صفة الراحم الذي لا حدّ له، ولأنه لم يخرج من رحمته شيء كما لم يخرج من حكمته وقدرته شيء، لأن جهنم والنار الكبرى وغيرهما ليس كنه عذابه ولا كلية تعذيبه، فمن ظنّ ذلك به لم يعرفه، ولأنه لما أظهر من عذابه مقدار طاقة الخلق كما أنه أظهر من ملكه ونعمه مقدار مصالح الخلق وما لا يصلح للخلق، ولا يطيقون إظهاره أكثر مما أظهر من النعيم والعذاب، بل لا ينبغي لهم أن يعرفوا فوق ما أبدى لأن نهاية تعذبيه وتنعيمه من نهاية ملكه الذي هو قائم به(1/369)
وملكه عن غاية قدرته وسلطانه، ولانهاية لذلك، ولا يطيق الخلق كلّه إظهار ذلك، وذلك أيضاً عن تعالي صفاته وبهاء أسمائه المتناهيات، ولا سبيل إلى كشف ذلك من الغيوب، فسبحان من لا نهاية لقدرته ولا حدّ لعظمته ولا أمد لسلطانه، وكذلك شهدوا ما سمعوا من قوله عزّ وجلّ: (إِنَّهُ كَانَ حَليماً غَفُورًا) الإسراء: 44، وقال: (وَكَانَ الله عَليمًا حَليمًا) الأحزاب: 51، فعلموا أن المغفرة على سعة الحلم، كما أن الحلم سعة العلم، فلما رأوا عظيم حلمه رجو عظيم مغفرته، ولما شهدوا كثيف ستره أملوا جميل عفوه، وكذلك يقال: إن حملة العرش يتجاوبون بأصوات سبحانك على حلمك بعد علمك، سبحانك على عفوك بعد قدرتك، فللراجين من العارفين فهوم من السمع للكلام نحو علوّ نظرهم عن سموّ علومهم بمعاني الصفات، وكل صاحب مقام يشهد من مقامه ويسمع من حيث شهادته، فأعلاهم شهادة الصديقون، ثم الشهداء ثم الصالحون، ثم خصوص المؤمنين، فبه تبارك وتعالى استدلوا عليه، ومنه إليه نظروا، هم درجات عند الله والله بصير بمايعلمون، وكان سهل رضي الله عنه يقول: المحسن يعيش في سعة الرحمة والمسيء يعيش في سعة الحلم، وصفاته تبارك وتعالى كاملات، فمن شهد ترجيح بعضها على بعض دخل عليه النقص من مشاهدته لقصور علمه عن تمام علم من فوقه من الشهداء، ولأجل مقامه المراد به دون طريق الصدّيقين من الأقوياء، فعاد ذلك على العبد فصار ذلك مقاماً له في القرب والبعد تعالى وصف المشهود عن النقصان والحدّ، ومثل الرجاء من الخوف مثل الرخصة في الدين من العزائم، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله يحبّ أن يؤخذ برخصه كما يحبّ أن يؤخذ بعزائمه، وفي لفظ آخر أبلغ من هذا: وأؤكد أن الله يحب أن يقبل رخصه كما يكره أن يوتى معاصيه.
وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق: ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله تعالى، وخيرالدين أيسره، وقال هلك المتعمّقون، هلك المتنطّعون، وقال عليه الصلاة والسلام: بعثت بالحنيفية السهلة السمحة، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أحبّ أن يعلم أهل الكتاب أن في ديننا سماحة، وقال الله عزّ وجلّ: (وَيضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتّي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) الأعراف: 157، واستجاب للمؤمنين في قولهم: ربّنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، فقال عزّ وجلّ: قد فعلت؛ فهذه العلوم هي أسباب قوّة الرجاء في أولي الألباب كيف وقد جاء ما يغلب حكم الرجاء من غير اغترار ماروي عن الله تعالى أنا إلى الرحمة والعفو أقرب مني إلى العقوبة، وفي الخبر: إذا حدثتم الناس عن ربهم فلا تحدثوهم بما يفزعهم ويشق عليهم، وفي كلام لعلي رضي الله عنه: إنما العالم الذي لا يقنط الناس من رحمة الله تعالى ولا يؤمنهم مكر الله تعالى، وأوحى الله سبحانه وتعالى إلى داود عليه السلام: ما لك وحدانيّاً؟ قال: عاديت(1/370)
الخلق فيك، قال: أما علمت أن محبتي أن تعطف على عبادي وتأخذ عليهم بالفضل هنالك، أكتبك من أوليائي وأحبابي ولا تنظر إلى عبيدي نظرة جفاء ولا قسوة، فإذا أنت قد أبطلت أجرك فاحفظ عني ثلاثًا: خالص حبيبي مخالصة، وخالف أهل الدنيا مخالفة، ودينك فقلدنيه، وعن داود وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: أحبّني وأحبّ من يحبني وحببني إلى خلقي، قال: يا ربّ هذا أحبّك وأحبّ من يحبّك، فكيف أحببك إلى خلقك؟ فقال عزّ وجلّ: اذكرني لحسن الجميل واذكر آلائي وإحساني وذكرهم ذلك فإنهم لايعرفون مني إلا الجميل.
وروي عن يزيد الرقاشي عن أنس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ألا أخبركم عن أقوام ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بمنازلهم من الله تعالى على منابر من نور يعرفون عليها، قالوا: من هم؟ قال: الذين يحببون عباد الله إلى الله تعالى ويحببون الله عزّ وجلّ إلى عباده ويمشون في الأرض نصحاء، فقلنا هذا حببوا الله إلى عباده فكيف يحببون عباد الله إلى الله؟ قال: يأمرونهم بما يحبّ الله وينهونهم عما حرم الله فإذا أطاعوهم أحبهم الله، ورؤي أبان بن عياش في النوم بعد موته، وكان من أكثر الناس حديثاً بالرخص وأبواب الرجاء فقال: أوقفني ربي عزّ وجلّ بين يديه فقال: ما حملك على أن حدثت عني بما حدثت به من الرخص؟ قال: فقلت يا ربّ أردت أن أحبّبك إلى خلقك، قال: قد غفرت لك، وحدثت عن مالك بن دينار: أنه لقي أبانا فقال: إلى كم تحدث للناس بالرخص فقال: يا أبا يحيى إني لأرجو أن ترى من عفو الله تعالى يوم القيامة ما تخرق له كساءك هذا من الفرح.
وفي حديث ربعي بن حراش عن أخيه، وكان من خيار التابعين وهو ممّن تكلم بعد الموت، قال: لما مات أخي سجّي بثوبه وألقيناه على نعشه فكشف الثوب عن وجهه واستوى قاعداً وقال: إن لقيت ربي عزّ وجلّ فحياني بروح وريحان وربّ غير غضبان، وإني رأيت الأمر أيسر مما تظنون ولا تغتروا فإن محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينتظرني وأصحابه حتى أرجع إليهم قال: ثم طرح نفسه فكأنه كانت حصاة وقعت في طست فحملناه فدفناه، وقال بكر بن سليمان: دخلنا على مالك رحمه الله تعالى في العشية التي قبض فيها فقلنا كيف تجدك؟ قال: ما أدري ما أقول لكم إلا أنكم ستعاينون غداً من عفو الله تعالى ما لم يكن لكم في حساب، قال: فما برحنا حتى أغمضناه ودفناه، ورؤي يحيى بن أكثم في النوم فقيل: ما فعل الله تعالى بك: فقال: أوقفني بين يديه وقال: ياشيخ السوء فعلت وفعلت قال: فأخذني من الرعب والفزع ما يعلم الله تعالى، ثم قلت ياربّ ما هكذا حدثت عنك، فقال: وما حدثت عني؟ فقلت: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أنس بن مالك عن نبيّك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنك أنك قلت: تباركت وتعاليت أنا عند ظنّ عبدي بي فليظن بي ما شاء، وقد كنت أظنّ بك أن لا تعذّبني، فقال عزّ وجلّ: صدق نبييّ وصدق(1/371)
أنس صدق الزهري وصدق معمر وصدق عبد الرزاق وصدقت، قال: فغلفت وخلع عليّ وألبست ومشى بين يدي الولدان إلى الجنة فقلت يا لها من فرحة.
وفي الخبر: أن رجلاً من بني إسرائيل كان يشدد على الناس ويقنطهم من رحمة الله تعالى فيقول الله تعالى له يوم القيامة: اليوم أؤيسك من رحمتي كما كنت تقنط عبادي منها، وفي الحديث: أن رجلين تواخيا في الله تعالى من بين إسرائيل فكان أحدهما عابداً والآخر مسرفًا على نفسه، فكان هذا العابد ينهاه ويزجره فيقول له: دعني وربي أبعثت عليّ رقيباً؟ حتى رآه ذات يوم على كبيرة فغضب فقال: لا يغفر الله لك قال: فيقول الله تعالى له يوم القيامة: أتستطيع أن تحظر رحمتي على عبادي اذهب فقد غفرت لك، ثم قال للعابد: وأنت فقد أوجبت لك النار، قال: فوالذي نفسي بيده لقد تكلم بكلمة أهلكت دنياه وآخرته، وروينا في معناه أن لصّاً كان يقطع الطريق أربعين سنة في بني إسرائيل فمرّ عليه عيسى عليه السلام وخلفه عابد من عباد بني اسرائيل من الحواريين فقال للصّ في نفسه: هذا نبي الله يمرّ وإلى جنبه حواريه لو نزلت فكنت معهما ثالثًا، قال: فنزل فجعل يريد أن يدنو من الحواري ويزدري نفسه تعظيماً للحواري ويقول في نفسه: مثلي لا يمشي إلى جنب هذا العابد قال وأحس به الحواري فقال في نفسه: هذا يمشي إلى جانبي قال: فضمّ نفسه وتقدم إلى عيسى عليه السلام فمشى إلى جانبه فبقي اللصّ خلفه، قال: فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: قل لهما يستأنفان العمل فقد أحبطت ما سلف من أعمالهما، أما الحواري فقد أحبطت حسناته لعجبه بنفسه وأما الآخر فقد أحبطت سيئاته بما ازدرى على نفسه قال: فأخبرهما بذلك وضمّ اللص إلىه سياحته وجعله من حواريه.
وروينا عن مسروق بن الأجدع: إن نبيَّا من الأنبياء كان ساجدًا فوطئ بعض العتاة على عنقه حتى الزق الحصى بجبهته قال: فرفع النبي عليه السلام رأسه مغضبًا فقال: اذهب فلن يغفر الله قال: فأوحى الله تعالى إليه تتألى عليّ في عبادي أني قد غفرت له.
قال ابن عباس رضي الله عنه كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقنت يدعو علي لمشركين ويلعنهم في صلاته فنزلت ليقطع طرفًا من الذين كفروا أو يكبتهم إلي قوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذِّبَهُمْ) آل عمران: 128 قال: فترك الدعاء عليهم، قال: فهدى اللّّه تعالى عامة أولئك الإسلام.
والأخبار فيما يوجب الرجاء وحسن الظن أكثر من أن تجمع ولم نقصد جمعها، وإنما دللنا بقليل على كثير، ونبهنا عقول ذوي التبصير، وقد قال الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّها الإنْسَانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ) الانفطار: 6 فنبه العبد مع غرته على كرمه، وذكره مع جهله حسن تسويته إياه بتعديله، يدل على نعمته.(1/372)
وروينا عن الضحاك إن العبد ليدنو من ربه تبارك وتعالى عند العرض فيقول: عبدي أتحصي عملك؟ فيقول: إلهي كيف أحصيه من دونك وأنت الحافظ للأشياء، فيذكره اللّّه تعالى جميع ذنوبه في الدنيا في ساعاتها، فيقول: أنت عبدي فقر بما عرفتك وذكرتك، فيقول نعم سيدي، فيقول اللّّه سبحانه أنا الذي سترتها عليك في الدنيا، فلم أجعل للذنوب رائحة توجد منك، ولم أجعل في وجهك شينها، وأنا أغفرها لك اليوم على ما كان منك، بإيمانك بي وتصديقك المرسلين.
وروينا عن محمد الحنفية عن أبيه علي كرم الله وجهه قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فاصْفَحِ الصَّفْحَ الجَميل) الحجر: 85 قال: يا جبريل وما الصفح الجميل؟ قال: يا محمد إذا عفوت عمن ظلمك فلا تعاتب، ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا جبريل فالله مع كرمه تعالى أولى أن لا يعاتب من عفا عنه، قال فبكى جبريل وبكى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبعث الله عز وجل إليهما ميكائيل فقال: إن ربكما يقرئكما السلام ويقول لكما: كيف أعاتب من عفوت عنه، هذا ما لا يشبه كرمي.
ومن الرجاء شدة الشوق إلى ما شوق إليه الكريم وسرعة التنافس في كلّ نفيس ندب إليه الرحيم، فأما الرجاء الذي هو همة جملة الناس من الإقامة في المعاصي والانهماك في الخطايا وهو يرجو المغفرة وينتظر الكرامة، فليس هذا برجاء عند العلماء، لأن الرجاء مقام من اليقين، وليس هذا وصف الموقنين؛ لأن هذا اسمه هو اغترار بالله تعالى، وغفلة عن اللّّه تعالى، وجهل بأحكام الله تعالى.
وقد تهدد الله تعالى قومًا ظنوا مثل هذا، وأصروا على حب الدنيا والرضا بها، وتمنوا المغفرة على ذلك، فسماهم خلفاً، والخلف: الرديء من الناس، وتوعدهم بشديد البأس في قوله عزّ وجلّ: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتابَ يَأْخُذونَ عَرَضَ هذا الأَدْنَى ويَقولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) الأعراف: 169 والأخبار في حقيقة الرجاء تزيد المغترين اغتراراً وتزيد المستدرجين بالستر والنعيم خساراً، وهي مزيد للتوابين الصادقين، وقرة عين المحبين المخلصين، وسرور لأهل الكرم والحياء، وروح ارتياح لذوي العصمة والوفاء، ينتفع به، ويشتد عنده حياؤه، ويروح به كروبهم، وترتاح إليه عقولهم، فهؤلاء يستخرج منهم الرجاء وحسن الظن من العبادات ما لا يستروحه الخوف، إذ المخاوف تقطع عن أكثر المعاملات، فصار الرجاء طريقاً لأهله وصاروا رائجين به كما قال عمر رضي الله عنه: رحم الله صهيباً لو لم يخف الله تعالى لم يعصه: أي يترك المعاصي للرجاء لا للخوف، فصار الرجاء طريقه، فهؤلاء هم الراجون حقًا وهذه علامتهم، ولمثل هذا ذكرنا الأسباب التي توجب الرجاء، وتولد حسن الظن في قلوب أهل الصفاء.
ومن الرجاء تحسين الأخلاق مع الخلق، وجميل الصبر عليهم، وحسن الصفح، ولطيف المداراة لهم تقرباً إلى الله عزّ وجلّ بذلك، وتخلقاً بأخلاقه رجاء ثوابه، وطمعًا(1/373)
في تنجيز وعده، واتباعًا لسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن الرجاء ترك الأهواء الرديئة، والشهوات المطغية ويحتسب في ذلك على الله نفيس الذخائر العالية.
فقد روينا عن حميد عن أنس قال: مقابل عرش الرحمن غرفة يرسل إليها جبريل عليه السلام، فإذا انتهى إليها خر لله ساجدًا، ثم يقول: يارب لمن خلقت هذه، لأي نبي؟ لأ صديق؟ لأي شهيد؟ قال: فيرد عليه عزّ وجلّ: لمن آثر هواي على هواه.
ومن الرجاء افتعال الطاعات، وحسن الموافقات، ينوي بها، ويسأل مولاه الكريم عظيم الرغائب وجليل المواهب، لما وهب له من حسن الظن به.
كما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا سألتم الله تعالى فأعظموا الرغبة، وسلوه الفردوس الأعلى، فإن الله عزّ وجلّ لا يتعاظمه شيء.
وفي حديث آخر فأكثروا وسلوا الدرجات العلى، فإنما تسألون جوادًا كريمًا، وفي الآثار أن رجلين كانا من العابدين متساويين في العبادة، فإذا دخلا الجنة رفع أحدهما في الدرجات العلى على صاحبه، فيقول الآخر: يارب ما كان هذا في الدنيا بأكثر عبادة لك مني فرفعته علي في عليين، فيقول الله سبحانه وتعالى: إنه كان يسألني في الدنيا الدرجات العلى وكنت أنت تسألني النجاة من النار، فأعطيت كل عبد سؤله.
وروينا في الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن رجلاً يخرج من النار فيوقف بين يدي الله تعالى، فيقول له: كيف وجدت مكانك؟ فيقول: يارب شر مكان، فيقول: ردوه إلى مكانه، قال: فيمشي ويلتفت إلى ورائه، فيقول الله عزّ وجلّ: إلى أي معنى تلفت؟ فيقول له: يارب قد رجوت أن لا تعيدني إليها بعد إذ أخرجتني منها، فيقول تعالى: اذهبوا به إلى الجنة فقد صار الرجاء طريقه إلى الجنة، كما كان الخوف طريق صاحبه في الدنيا إليها.
كما روينا: إن الآخر سعى مبادرًا إلى النار لما قال: ردّوه فقيل له في ذلك، فقال: لقد ذقت من وبال معصيتك في الدنيا ماخفت من عذابه في الآخرة فقيل: اصرفوه إلى الجنة، وقال الله سبحانه في وصف قوم: (أُولئِك الَّذينَ يَدْعُونَ يَبْتغُون إلى رَبِّهِمْ الْوَسيلَةَ أيُّهمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذابهُ) الإسراء: 57 فطرق لأوليائه من القرب والوسيلة الرجاء، كما طرق الخوف منه إليها، وهذا أحد الوجهين في الآية لمن لم يجعله وصفًا للأصنام لأنها قرئت بالتاء تدعون قرأها طلحة بن مصرف، فكذلك ندب المؤمنين إلى طلب القرب منه قي قوله عزّ وجلّ: (يَا أيهُا الذين آمنُوا اتَّقُوا الله وَابْتَغُوا إليْهِ الْوَسيلَةَ) المائدة: 35 فهذه جملة أحكام الرجاء وأوصاف الراجين، فمن تحقّق بجميعها فقد استحق درجات أهل الرجاء، وهو عند الله تعالى من المقرّبين، ومن كان فيه وصف من هذه(1/374)
الأوصاف فله مقام من الرجاء.
واعلم أن مقام اليقين لا يزيل بعضها بعضًا ولكن يندرج بعضها في بعض، فمن غلب عليه حال مشاهدته وصف بما غلب عليه واستمر بما سوى ذلك من المقامات فيه، ومن عمل بشرط مقام منها وقام بحكم الله تعالى فيه نقل إلى ما سواه، وكان المقام الأول له علماً والثاني الذي أقيم فيه له وجدًا، فكتم الوجد لأنه سرّه وعبّر عن العلم لأنه قد جاوزه فصار له علانيّة، ومقام الرجاء هو جند من جنود الله عزّ وجلّ يستخرج من بعض العباد ما لا يستخرج غيره لأن بعض القلوب تلين وتستجيب عن مشاهدة الكرم والإحسان وتقبل وتطمئن بمعاملة النّعم والإحسان ما لا يوجد ذلك منها عند التخويف والترهيب بل قد يقطعها ذلك ويوحشها إذ قد جعل الرجاء طريقها فوجدت فيه قلوبها.
ومثل الرجاء في الأحوال مثل العوافي والغنى في الإنسان من يقبل قلبه ويجتمع همّه عندهما ويوجد نشاطه وتحسن معاملته بهما.
كما روينا عن الله سبحانه وتعالى: إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك ومن عبادي من لا يصلحه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، إني أدبر عبادي بعلمي، إني بهم خبير، فكذلك من عبادي من لا يصلحه إلا الرجاء ولا يستقيم قلبه إلا عليه ولا تحسن معاملته إلا بوجود حسن الظنّ فهو طريقه إليه ومقامه منه ومنه علمه به وعنده يجد قلبه معه، إلا أنه وإن كان طريقًا يخرج إلى الله عزّ وجلّ فإن الخوف أقرب منه، وما كان أقرب فهو أعلى، كما أن الغنى والعوافي طرقان إلى الله تعالى إلا أن الفقر والبلاء عندي أقرب منهما وأعلى والله غالب على أمره.
وقد روينا عن معمر عن الحسن: أنه قال: إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم فأما المؤمن فأحسن بالله الظنّ وأحسن العمل، وأما الكافر والمنافق فأساء بالله الظنّ ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
شرح مقام الخوف
ووصف الخائفين وهو الخامس من مقامات اليقين
قال الله عزّ وجلّ: (ومَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ) العنكبوت: 43 فرفع العلم على العقل وجعله مقامًا فيه وقد قال سبحانه وتعالى: (إنَمَا يَخْشى اللّّه منْ عبَادِهِ الْعُلمَاءُ) فاطر: 28 فجعل الخشية مقامًا في العلم حققه بها، والخشية حال من مقام الخوف، والخوف اسم لحقيقة التقوى، والتقوى معنى جامع للعبادة وهي رحمة الله تعالى للأوّلين والآخرين، ينظم هذين المعنيين قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُم الَّذي خَلَقكُمْ وَالَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تتَّقُونَ) البقرة: 21 وقوله تعالى: (وَلقَدْ وَصَّيَّنْا الَّذين أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أنّ اتََقُوا الله) النساء: 131، وهذه الآية قطب القرآن مداره عليها والتقوى(1/375)
سبب أضافه تعالى إليه تشريفاً له، ومعنى وصله به وأكرم عباده عليه تعظيماً له فقال: (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومَها وَلا دِمَاؤُهَا ولَكِنْ يَنالُهُ التَّقْوَى مِنْكُم) الحج: 37 وقال: (إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ) الحجرات: 13 وفي الخبر: إذا جمع الله الأوّلين والآخرين لميقات يوم معلوم ناداهم بصوت يسمع أقصاهم كما يسمع أدناهم يقول: يا أيها الناس إني قد أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا، فأنصتوا إلي اليوم، فإنما هي أعمالكم ترد عليكم، أيها الناس إني جعلت نسباً وجعلتم نسباً، فوضعتم نسبي ورفعتم نسبكم، قلت: (إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ) الحجرات: 13 وأبيتم إلا فلان بن فلان أغنى من فلان، فاليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي، أين المتقون؟ قال: فينصب للقوم لواء فيتبع القوم لواءهم إلى منازلهم فيدخلهم الجنة بغير حساب.
والخوف حال من مقام العلم، وقد جمع اللّّّه تعالى للخائفين ما فرقه على المؤمنين، وهو الهدى والرحمة والعلم والرضوان، وهذه جمل مقامات أهل الجنان، فقال تعالى: (هُدَى وَرَحْمَةٌ للّذينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُون) الأعراف: 154 وقال: (إنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلمَاءُ) فاطر: 28 وقال جل ذكره: (رَضِيَ اللّّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) البينة: 8
وفي خبر موسى عليه السلام: وأما الخائفون فلهم الرفيق الأعلى، لا يشاركون فيه، فأفردهم من غير مشاركة بالرفيق الأعلى، كا حققهم اليوم بشهادة التصديق، وهذا مقام من النبوة، فهم مع الأنيباء في المزية من قبل أنهم ورثة الأنبياء، لأنهم هم العلماء، قال تعالى: (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَبِييِّنَ والصِّدِّيقِينَ) النساء: 69، ثم قال تعالى في وصف منازلهم: (وحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) النساء: 69 بمعنى رفقًا، عبر عن جماعتهم بالواحد، لأنهم كانوا كأنهم واحد، وقد يكون رفيقاً مقاماً في الجنة من أعلى عليين، لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الموت وقد خير بين البقاء في الدنيا وبين القدوم على الله تعالى فقال: أسألك الرفيق الأعلى.
وفي خبر موسى عليه السلام: فأولئك لهم الرفيق الأعلى، فدل أنهم مع الأنبياء بتفسير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لذلك، وشرف مقامهم فوق كل مقام، لطلب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك.
فالخوف اسم جامع لحقيقة الإيمان، وهو علم الوجود والإيقان، وهو سبب اجتناب كل نهي ومفتاح كل أمر، وليس شيء يحرق شهوات النفوس فيزيل آثار آفاتها إلا مقام الخوف.
وقال أبو محمد سهل رحمه الله تعالى: كمال الإيمان العلم، وكمال العلم الخوف، وقال مرة: العلم كسب الإيمان، والخوف كسب المعرفة.
وقال أبو الفيض المصري: لايسقى المحب كأس المحبة إلا من بعد أن ينضج(1/376)
الخوف قلبه وقال: خوف النار عند خوف الفراق بمنزلة قطرة قطرت في بحر لجيّ، وكل مؤمن بالله تعالى خائف منه، ولكن خوفه على قدر قربه، فخوف الإسلام: اعتقاد العزة والجبرية لله تعالى، وتسليم القدرة والسطوة له، والتصديق لما أخبر به من عذابه وما تهدد به من عقابه.
وقال الفضيل بن عياض: إذا قيل لك تخاف الله فاسكت، لأنك إن قلت لا كفرت، وإن قلت نعم فليس وصفك وصف من يخاف.
وشكا واعظ إلى بعض الحكماء فقال: ألا ترى إلى هؤلاء أعظهم وأذكرهم فلا يرقون؟ فقال: وكيف تنفع الموعظة من لم يكن في قلبه لله تعالى مخافة، وقد قال اللّّه تعالى في تصديق ذلك: (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى) الأعلى: 10 - 11 أي يتجنب التذكرة الشقي، فجعل من عدم الخوف شقياً وحرمه التذكرة فخوف عموم المؤمنين بظاهر القلب عن باطن العلم بالعقد، وخوف خصوصهم وهم الموقنون بباطن القلب عن باطن العلم بالوجد: فأما خوف اليقين فهو للصديقين من شهداء العارفين عن مشاهدة ما آمن به من الصفات المخوفة.
وقد جاء في خبر إذا دخل العبد في قبره لم يبق شيء كان يخافه دون الله عز وجل إلا مثل له يفزعه ويرعبه إلى يوم القيامة فأول خوف اليقين الموصوف الذي هو نعت الموصوفين من المؤمنين، المحاسبة للنفس في كل وقت، والمراقبة للرب في كل حين، والورع عن الإقدام على الشبهات من كل شيء من العلوم بغير يقين بها ومن الأعمال بغير فقه فيها.
وفي خبر موسى عليه السلام: وأما الورعون فإنه لايبقى أحد إلا ناقشته بالحساب وفتشته عما في يديه إلا الورعين، فإني أستحييهم وأجلهم أن أوقفهم للحساب، فالورع حال من الخوف، ثم كف الجوارح عن الشبهات وفضول الحلال من كل شيء، بخشوع قلب، ووجود إخبات.
وقال عليّ كرم الله وجهه: ومن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ثم سجن اللسان وخزن الكلام، لئلا يدخل في دين الله عزّ وجلّ ولا في العلم ما لم يشرعه الله في كتابه أو لم يذكره رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سنته، أو لم ينطق به الأئمة من السلف في سيرهم مما لم يكن أصله موجودًا في الكتاب والسنة، وتسميته واضحة في العلم، فيجتنب ذلك كله، (وَلاتَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) الإسراء: 36 خوفًا من المساءلة، ولا يدخل فيه لدقيق هوى يدخل عليه ولا لعظيم حظ دنيا يدخل فيه وأن ينصح نفسه لله تعالى لأنها أولى الخلق، ثم ينصح الخلق في الله تعالى فيبتدئ بالنصح في أمور الدين والآخرة، ثم يعقبه في أسباب الدنيا لأن أمور الآخرة أهم، والغش في الدين أعظم، والتزود للمنقلب آثر.(1/377)
روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: من غش أمتي فعليه لعنة الله، قيل وما غش أمتك يا رسول اللّّه؟ قال: أن يبتدع لهم بدعة فيتبع عليها، فإذا فعل ذلك فقد غشهم.
وثمرة الخوف العلم بالله عزّ وجلّ والحياء من الله عز وجلّ وهو أعلى سريرات أهل المزيد يستبين أحكام ذلك في معنيين؛ هما جملة العبد إن يحفظ رأسه وما حواه من السمع والبصر واللسان وأن يحفظ بطنه وما وعاه وهو القلب والفرج واليد والرجل: وهذا خوف العموم، وهو أول الحياء.
فأما خوف الخصوص فهو أن لا يجمع ما لا يأكل ولا يبني ما لا يسكن، ولا يكاثر فيما عنه ينتقل ولا يغفل ولا يفرط عمّا إليه يرتحل، وهذا هو الزهد وهو حياء مزيد أهل الحياء من تقوى أصحاب اليمين، وقد روينا معنى ما ذكرناه في حديثين، أحدهما عام والآخر خاص، وكل من لم يستعمل قلبه في بدايته، ويجعل الخوف حشو إرادته لم ينجب في خاتمته، ولم يكن إماماً للمتقين عند علوّ معرفته.
وأعلى الخوف أن يكون قلبه معلقًا بخوف الخاتمة، لا يسكن إلى علم ولا عمل، ولا يقطع على النجاة بشيء من العلوم وإن علت، ولا لسبب من أعماله وإن جلت، لعدم علمه تحقيق الخواتم، فقد قيل: إنما يوزن من الأعمال خواتمها.
وعن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة خمسين سنة حتى يقال إنه من أهل الجنة، وفي خبر: حتى ما يبقى بينه وبين الجنة إلا شبر، ثم يسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار ولا يتأتى في هذا المقدار من الوقت شيء من عمل الجسم بالجوارح، إنما هو من أعمال القلوب بمشاهدة العقول، وهو شرك التوحيد الذي لم يكن متحققًا به، وشكّ في اليقين الذي لم يكن في الحياة الدنيا مشاهدًا له، فظهر له بيان ذلك عند كشف الغطاء، فغلب عليه وصفه وبدت فيه حاله كما يظهر له أعماله السيئة فيستحليها قلبه أو ينطق بها لسانه أو يخامرها وجده، فتكون هي خاتمته التي تخرج عليها روحه، وذلك في سابقته التي سبقت له من الكتاب كما قال تعالى: (أولئكَ يَنَالُهُمْ نَصيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ) الأعراف: 37 تكون عند مفارقة الروح من الجسد (وإنّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيْبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) هود: 109 وقد جاء في خبر حتى لايبقى بينه وبين الجنة إلا فواق ناقة، فيختم له بعمل أهل النار، وهذا يكون عند بلوغ الروح التراقي، وتكون النفس قد خرجت من جميع الجسد، واجتمعت في القلب إلى الحلقوم فهذا هو شبر، وفواق ناقة: هو ما بين الحلبتين، وقيل: هو شوط من عدوها بين سيرين؛ وهذا من تقلّبات القلوب عند حقيقة وجهة التوحيد إلى وجهة الضلال والشرك عندما يبدو له من زوال عقل الدنيا، وذهاب علم المعقول فيبدو له من الله ما لم يكن يحتسب.
وأكثر ما يقع سوء الخاتمة لثلاث طوائف من الناس: أهل البدع والزيغ في الدين،(1/378)
لأن إيمانهم مرتبط بالمعقول، فأول آية تظهر لهم من قدرة الله تعالى أن يطيح عقله عند شهودها فيذهب إيمانه ولا يثبت لمعاينتها، كما تحترق الفتيلة فيسقط المصباح.
والطبقة الثانية أهل الكبر والإنكار لآيات الله عزّ وجلّ وكراماته لأوليائه في الحياة الدنيا، لأنهم لم يكن لهم يقين يحمل القدرة ويمده الإيمان؛ فيعتورهم الشك ويقوى عليهم لفقد اليقين.
والطبقة الثالثة ثلاثة أصناف: متفرقون متفاوتون في سوء الخاتمة، وجميعهم دون تينك الطائفتين في سوء الخاتمة، لأن سوء الختم على مقامات أيضاً كمقامات اليقين والشرك في عمر الحياة، منهم المدعي المتظاهر الذي لم يزل إلى نفسه وعمله ناظراً، والفاسق المعلن، والمصرّ المدمن، يتصل بهم المعاصي إلى آخر العمر، ويدوم تقلبهم فيها إلى كشف الغطاء، فإذا رأوا الآيات تابوا إلى الله تعالى بقلوبهم، وقد انقطعت أعمال الجوارح فليس يتأتى منهم، فلا تقبل توبتهم، ولا تقال عثرتهم، ولاترحم عبرتهم، وهم من أهل هذه الآية، (ولَيْسَتِ التَّوْبَةُ للَّذينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتّى إذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ: إنِّي تُبْتُ الآنَ) النساء: 18 فهم مقصودون بقوله عزّ وجلّ: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) سبأ: 54 وهم معنيون بمعنى قوله تعالى: (فَلَمَّا رَأَوا بَأْسَنا قَالُوا: آَمَنَّا باللهِ وَحْدَهُ) غافر: 84، فنصوص الآية للكفار ومعناها ومقام منها لأهل الكبائر وذوي الإصرارمن الفاسقين الزائغين، من حيث اشتركوا في سوء الخاتمة ثم تفاوتوا في مقامات منها، تظهر لهم شهوات معاصيهم، ويعاد عليهم تذكرها، لخلو قلبهم من الذكر والخوف حتى يختم لهم بشهادتها؛ فهذه الأسباب تجلب الخوف وتقطع قلوب ذوي الألباب.
وقد كان أبو محمد سهل رحمه الله يقول: المريد يخاف أن يبتلي بالمعاصي، والعارف يخاف أن يبتلي بالكفر.
وكذلك قال أبو يزيد رحمه الله تعالى قبله: إذا توجهت إلى المسجد كان في وسطي زنار أخاف أن يذهب بي إلى البيعة وبيت النار حتى أدخل المسجد فيقطع عني الزنار، فهذا لي في كل يوم خمس مرات، هذا لعلمهم بسرعة تقلّب القلوب في قدرة علام الغيوب.
وقد روينا معنى ذلك عن عيسى عليه السلام أنه قال: يا معشر الحواريين أنتم تخافون المعاصي ونحن معشر الأنبياء نخاف الكفر.
وروينا في أخبار الأنبياء: أن نبياً شكا إلى الله تعالى الجوع والقمل والعري سنين فأوحى الله تعالى إليه: أما رضيت أن عصمت قلبك أن تكفر بي حتى تسألني الدنيا، فأخذ التراب فوضعه على رأسه وقال: بلى قد رضيت يارب فاعصمني من الكفر فلم يذكر له نعمته عليه بنبوته وعرضه للكفر، وجوز دخوله عليه بعد النبوة، فاعترف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، ورضي به واستعصم.(1/379)
وقد كان عبد الواحد بن زيد إمام الزاهدين قبلهما يقول: ماصدق خائف قط ظن أنه لا يدخل النار وما ظن أن يدخل النار إلا خاف أن لا يخرج منها أبداً.
وقد قال الحسن البصري رحمه الله تعالى إمام العلماء قبلهم: يخرج من النار رجل بعد ألف عام وياليتني ذلك الرجل، هذا لشدة خوفه من الخلود في الأبدية، قال فبعد أن أخرج منها بوقت لا أبالي.
والعدو يدخل على العارفين من طريق الإلحاد في التوحيد والتشبيه في اليقين والوسوسة في صفات الذات، ويدخل على المريدين من طريق الآفات والشهوات، فلذلك كان خوف العارفين أعظم، ومن قبل أن العدو يدخل على كل عبد من معنى همه فيشككه في اليقين كما يزين له الشهوات، فأرواحهم معلقة بالسابقة ماذا سبق لهم من الكلمة، هناك مشاهدتهم، ومن ثم فزعهم، لايدرون أسبق لهم قدم صدق عند ربهم فيختم لهم بمقعد صدق، فيكونون ممن قال تعالى: (إنَّ الّذيْنَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُون) الأنبياء: 101 ويخافون أن يكونوا قد حقت عليهم الكلمة، فيكونون ممن قال فيهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقول اللّّه سبحانه وتعالى هؤلاء في النار ولا أبالي فلا ينفعهم شفاعة شافع، ولاينقذهم من النار دافع، كما قال مولاهم الحق: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ في النَّارِ) الزمر: 19 وكقوله تعالى: (ولَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ) السجدة: 13 فهذه الآية ومعناها تخويف لأولي الأبصار.
وقال عالمنا رحمه الله في قوله تعالى (وَإيَّايَ فَاتَُّقونِ) البقرة: 41 عموم أي فيما نهيت عنه: وقوله تعالى (وإيَّايَ فَارْهَبُونِ) البقرة: 40 أي في السابقة وهذا خصوص.
وقد نوع بعض العارفين خوف المؤمنين على مقامين فقال: قلوب الأبرار معلقة، بالخاتمة يقولون: ليت شعري ماذا يختم لنا به؟ وقلوب المقربين معلقة بالسابقة يقولون: ليت شعري ماذا سبق لنا به؟ وهذان المقامان عن مشاهدتين: إحداهما أعلى وأنفذ من الأخرى لحالين: أحدهما أتم وأكمل، فهذا كما قيل ذنوب المقربين حسنات الأبرار: أي ما يرغب فيه الأبرار فهو عندهم فضائل، قد زهد فيه المقربون، فهو عندهم حجاب، ومن حقت عليه كلمة العذاب، وسبق له من مولاه الختم بسوء الاكتساب، لم ينفعه شيء، فهو يعمل في بطالة لا أجر له ولا عاقبة قد نظر إليه نظرة بعذ؛ فهو يزداد بأعماله بعداً من قبل أن سوء الخاتمة قد تكون في وسط العمر، فلا ينتظر بها آخره يوافق معصية تكون سببها كعند الخاتمة، إذ هما في سبق العلم سواء، فالخاتمة حينئذ فاتحة، والوقتان واحد.
فإذا انقطعت الآجال وانتهت الأعمال تناهي في الإبعاد فحلّ في دار البعد، وقد روينا في الخبر والله لا يقبل الله تعالى من مبتدع عملاً إنه ردّ على اللّّه تعالى سننه فرد عليه عمله كلما ازداد اجتهادًا ازداد من اللّّه تعالى بعداً، كما قال الحكيم:
من غص داوى بشرب الماء غصته ... فكيف يصنع من قد غص بالماء(1/380)
بل كيف يصنع من أقصاه مالكه ... فليس ينفعه طب الأطباء
وعن مشاهدة هذا المعنى كان خوف الحسن البصري رحمه الله تعالى وحزنه، لعلمه بأنه عزّ وجلّ لايبالي ما فعل، فخاف أن يقع بوصف الجبرية في ترك المبالاة، وأن يجعله نكالاً لأصحابه، وموعظة لأهل طبقته.
ويقال إنه ما ضحك أربعين سنة وكنت إذا رأيته قاعداً كأنه أسير قدم ليضرب عنقه، وإذا تكلم كأنه يعاين الآخرة فيخبر عن مشاهدتها، وإذا سكت كأن النار تسعر بين عينيه، وعوتب في شدة حزنه فقال: ما يؤمنني أن يكون قد اطلع عليَّ في بعض ما يكره فمقتني، فقال اذهب فلا غفرت لك، فأنا أعمل في غير معمل، فنحن أحق بهذا من الحسن رحمه اللّّه، ولكن ليس الخوف يكون لكثرة الذنوب، فلو كان كذلك لكنا أكثر خوفًا منه، إنما يكون لصفاء القلب وشدة التعظيم لله تعالى.
وقد بشر العلاء بن زياد العدوي بالجنة وكان من العباد فغلق عليه بابه سبعاً ولم يذق طعامًا، وجعل يبكي ويقول: أنا في قصة طويلة، حتى دخل عليه الحسن فجعل يعذله في شدة خوفه وكثرة بكائه، فقال يأخي من أهل الجنة إن شاء الله تعالى، أقاتل نفسك؟ فما ظنك برجل يعذله الحسن في الخوف، وقد كان من فوقهم من عليه الصحابة يتمنون أنهم لم يخلقوا بشرًا وقد بشروا بالجنة يقينًا في غير خبر.
من ذلك قول أبي بكر رضي الله عنه: ليتني مثلك ياطير وأني لم أخلق بشرًا، وقول عمر رضي الله عنه: وددت أني كنت كبشاً ذبحني أهلي لضيفهم، وأبوذر رضي الله عنه يقول: وددت أني شجرة تعضد، وطلحة والزبير رضي الله عنهما يقولان: وددنا أنّا لم نخلق، وعثمان رضي الله عنه يقول: وددت أني إذا متّ لا أبعث، وعائشة رضي الله عنها تقول: وددت أني كنت نَسْيًا مَنْسِيًا، وابن مسعود رضي الله عنه يقول: ليتني أني أكون رماداً، وفي رواية عنه: ليتني كنت بعرة، ليتني لم أك شيئًا في طبقة يكثر عدهم ونحن في ارتكاب الكبائر ونحدث نفوسنا بالدرجات العلى والقرب من سدرة المنتهى، ونسينا أن أبانا آدم صلوات الله عليه أخرج من الجنة بعد أن دخلها بذنب واحد ونحن لم نرها بعد فإنما نضرب في حديد بارد.
وروينا في خبر أن رجلاً من أهل الصفة استشهد فقالت أمه هنيئًا فقالت أمه هنيئًا لك عصفور من عصافير الجنة هاجرت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقتلت في سبيل اللّّه تعالى فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وما يدريك فلعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضرّه، وفي حديث آخر بمثل هذه القصة أنه دخل على بعض أصحابه وهو عليل، فسمع أمه تقول هنيئًا لك الجنة، فقال: من هذه المتألية على الله عزّ وجلّ فقال الرجل: هي أمي يا رسول الله فقال: وما يدرك لعل فلانًا كان يتكلم بما لا يعنيه ويبخل بما لا يغنيه.(1/381)
وروينا بمثل معنى هذا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلّى على طفل منفوس، ففي راوية: إنه سمع يقول في دعائه: اللهم قه عذاب القبر وعذاب جهنم وفي رواية ثانية: إنه سمع قائلة تقول: هنيئًا لك عصفور من عصافير الجنة، فغضب وقال: ما يدريك؟ إنه كذلك والله، إني رسول الله وما أدري ما يصنع بي، إن الله عزّ وجلّ خلق الجنة وخلق لها أهلاً وخلق النار وخلق لها أهلاً لا يزاد فيهم ولاينقص منهم، وقد قاله رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جنازة عثمان بن مظعون، وكان من المهاجرين الأول واستشهد لما قالت أم سلمة رضي الله عنها ذلك، وكانت تقول: والله لا أزكي أحدًا بعد عثمان رضي الله عنه، وأعجب من ذلك أنّا روينا عن محمد بن الحنفية رضي الله عنه أنه قال: والله لا أزكي أحدًا غير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أبي الذي ولدني قال: فتكلمت الشيعة، فأخذ يذكر من فضائل عليّ كرّم الله وجهه ومناقبه؛ فهذه المعاني أحرقت قلوب الخائفين ولعل ذكر البعد في الأبعاد الذي شيب الحبيب القريب في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شيّبتني هود وأخواتها وسورة الواقعة وإذا الشمس كوّرت وعمّ يتساءلون لأن في سورة هود ألا بعدًا لثمود (ألا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) هود: 60 ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود، وفي سورة الواقعة: (ليْسَ لِوَقعَتِهَا كَاذِبَةٌ) الواقعة: 2 يعني وقعت السابقة لمن سبقت له وحقّت الحاقة بمن حقّت عليه خافضة رافعة خفضت قومًا في الآخرة كانوا مرفوعين في الدنيا حين ظهرت الحقائق وكشفت عواقب الخلائق، وأما سورة التكوير ففيها خواتم المصير وهي صفة القيامة لمن أيقن وفيها تجلّي معاني الغضب لمن عاين آخر ذلك، وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أُزلفت علمت نفس ما أحضرت هذا فصل الخطاب أي عند تسعير النيران واقتراب الجنان، حينئذ يبتين للنفس ما أحضرت من شرّ يصلح له الجحيم أوخير يصلح له النعيم وتعلم إذ ذاك من أيّ أهل الدارين تكون وفي أيّ منزلين تحلّ، فكم من قلوب قد تقطّعت حسرات على الأبعاد من الجنان بعد اقترابها وكم من نفوس تصاعدت زفرات عن يقينها بمعاينة لنيران أنها تصيبها، وكم من أبصار ذليلة خاشعة لمشاهدة الأهوال، وكم من عقول طائشة لمعاينة الزلزال.
وحدثنا عن أبي سهل رحمه الله تعالى قال: رأيت كأني أدخلت الجنة فلقيت فيها ثلاثمائة نبي، فسألتهم ما أخوف ما كنتم تخافون في الدنيا؟ فقالوا لي: سوء الخاتمة، فالخاتمة هي من مكر الله تعالى الذي لا يوصف، ولا يفطن له ولا عليه يوقف، ولا نهاية لمكره، لأن مشيئته وأحكامه لا غاية لها.
ومن ذلك الخبر المشهور أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجبريل بكيا خوفًا من الله تعالى، فأوحى الله إليهما لم تبكيان وقد أمنتكما؟ فقالا: ومن يأمن مكرك؟ فلولا أنهما علما أن مكره لانهاية له، لأن حكمه لاغاية له، لم يقولا ومن يأمن مكرك مع قوله: قد أمنتكما ولكان قد انتهى مكره بقوله، ولكانا قد وقفا على آخر مكره، ولكن خافا من بقية المكر الذي هو(1/382)
غيب عنهما، وعلما أنهما لا يقفان على غيب الله تعالى، إذ هو علام الغيوب، فلا نهاية للعلام في علم، ولا غاية للغيوب بوصف، فلم يحكم عليهما القول لعنايته بهما وفضل نظره إليهما، ولأنهما على مزيد من معرفة الصفات، إذ المكر عن الوصف وإظهار القول لايقضي على باطن الوصف، فكأنهما خافا أن يكون قوله تعالى: قد أمنتكما مكري مكراً منه أيضًا بالقول على وصف مخصوص عن حكمة قد استأثر بعلمها يختبر بذلك حالهما، وينطر كيف يعملان تعبدًا منه لهما به، إذ الابتلاء وصفه من قبل أن المبتلي اسمه فلا يترك مقتضى وصفه لتحقق اسمه، ولا تبدل سنته التي قد خلت في عباده، كما اختبر خليله عليه السلام لما هوى به المنجنيق في الهواء، فقال حسبي الله ربي فعارضه جبريل عليه السلام فقال ألك حاجة؟ قال لا، وفاء بقوله حسبي الله فصدق القول بالعمل فقال الله تعالى: (وإبْرَاهِيمَ الّذِي وَفَّى) النجم: 37 بقوله حسبي اللهولأن الله تعالى لا يدخل تحت الأحكام؛ ولا يلزمه ما حكم به على الأنام، ولا يختبر صدقه سبحانه وتعالى، ولا يجوز أن يوصف بضد الصدق وأن بدل الكلم هو بتبديل منه، لأن كلامه قائم به، فله أن يبدل به ماشاء، وهو الصادقين في الكلامين، العادل في الحكمين، الحاكم في الحالين، لأنه حاكم عليه ولا حكم يلزمه فيه، لأنه قد جاز العلوم والعقول التي هي أماكن للحدود من الأمر والنهي، وفات الرسوم والمعقول التي هي أواسط الأحكام والأقدار.
وفي مشاهدة ما ذكرناه علم دقيق من علوم التوحيد، ومقام رفيع من أحوال التوحيد وبمثل هذا المعنى وصف صفيه موسى في قوله تعالى (فَأَوْجَسَ في نفسه خيفة موسى) طه: 66 بعد قوله تعالى (لا تخافا إنني معكما) طه: 46 الآية، فلم يأمن موسى أن يكون قد أسر عنه في غيبه، واستثنى في نفسه سبحانه ما لم يظهره له في القول، لمعرفة موسى عليه السلام بخفي المكر وباطن الوصف، ولعلمه أنه لم يعطه الحكم إذ هو محكوم عليه مقهور، فخاف خوفًا ثانياً حتى أمنه أمناً ثانياً بحكم ثان، فقال: (لا تخف إنك أنت الأعلى) طه: 68 فاطمأن إلى القائل ولم يسكن إلى الإظهار الأول، لعلمه بسعة علمه أنه هو علام الغيوب التي لا نهاية لها، ولأن القول أحكام والحاكم لا تحكم عليه الأحكام كما لا تعود عليه الأحكام، وإنما تفصل الأحكام من الحاكم العلام، ثم تعود على المحكومات أبدًا، ولأنه جلت قدرته لا يلزمه مالزم الخلق الذي هم تحت الحكم، ولايدخل تحت معيار العقل والعلم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيرًا، عند من عرفه فأجله وعظمه عن معارف من جهله.
ومن هذا قول عيسى عليه السلام من قوله تعالى: (إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا في نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا في نَفْسِكَ) المائدة: 116 لما قال له: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُوني وَأُمِّيَ إلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّّهِ) المائدة: 116 ومثل هذا قوله في يوم القيامة (إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإنَّهُمْ عِبَادُكَ) المائدة: 118 فجعلهم في مشيئة لعزته وكحمته ولا يصلح أن نكشف حقيقة ما فصلناه في(1/383)
كتاب، ولا ينبغي أن نرسم ما رمزناه من الخطاب خشية الإنكار، وكراهة تفاوت علم أهل المعقول والمعيار إلا أن يسأل عنه من أقيم فيه وأريد به من ذوي القوة والإبصار، فينقل من قلب إلى قلب، فحينئذ يتلوه شاهد منه، أويكشفه علام الغيوب في سرائر القلوب بوحي الإلهام، ويقذفه بنور الهدى للإعلام، والله الموفق لمن شاء من العباد، لما شاء من الحيطة بالعلم وهو الفتاح العليم إذا فتح القلب علمه وإذا نوره بالقين ألهمه.
ومن خوف العارفين علمهم بأن الله تعالى يخوف عباده بمن شاء من عباده الأعلين، يجعلهم نكالاً لأدنين ويخوف العموم من خلقه بالتنكيل ببعض الخصوص من عباده حكمة له وحكمًا منه.
فعند الخائفين في علمهم أن الله تعالى قد أخرج طائفة من الصالحين نكالاً خوف بهم المؤمنين؛ ونكل طائفة من الشهداء خوف بهم الصالحين، وأخرج جماعة من الصديقين خوف بهم الشهداء؛ والله تعالى أعلم بما وراء ذلك.
وقد أخرج جماعة من الملائكة وعظ بهم النبيين، وخوف بهم الملائكة المقربين، فصار من أهل كل مقام عبرة لمن دونهم وموعظة لمن فوقهم، وتخويف وتهديد لأولي الأبصار، وهذا داخل في بعض تفسير قوله عزّ وجلّ: (آَتَيْنَاه آَياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) الأعراف: 175 قال بعض أهل التفسير في أخبار بلعم بن باعوراء: إنه أوتي النبوة، والمشهور أنه أوتي الاسم الأكبر، فكان سبب هلاكه، وهو مقتضى وصف من أوصافه، وهو ترك المبالاة بما أظهر من العلوم والأعمال، فلم يسكن عند ذلك أحد من أهل المقامات في مقام، ولا نظر أحد من أهل الأحوال إلى حال، ولا أمن مكر الله تعالى عالم به في كل حال، كيف وقد سمعوه تبارك وتعالى يقول: (إنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) المعارج: 28 فأجهل الناس من أمن غير مأمون، وأعلمهم من خاف في الأمن حتى يخرج من دار الخوف إلى مقام أمين.
وهذا خوف لايقوم له شيء؛ وكرب لا يوازيه مقام ولا عمل، لولا أن الله تعالى عدله بالرجاء لأخرج إلى القنوط، ولولا أنه روحه بروح الأنس بحسن الظن لأدخل في الإياس، ولكن إذا كان هو المعدل وهو المروح كيف لا يعتدل الخوف والرجاء، ولا يمتزج الكرب بالروح والرضا، حكمة بالغة، وحكم نافذ، لعلم سابق، وقدر جار، ماشاء اللّّه تعالى لا قوّة إلا بالله.
وفي شهود ما ذكرناه علم عن مشاهدة توحيد لمن أشهده، فأقل ما يفيد علم هذا الخائفين ترك النظر إلى أعمالهم ورفع السكون إلى علومهم وصدق الافتقار في كل حال ودوام الانقطاع بكل همّ والإزراد على النفس في كل وصف؛ وهذه مقامات لقوم، فيكون هذا الخوف سبب نجاتهم من هذه الوقائع إذ قد جعل الله تعالى التخويف أمنة من الأخذ بالمفاجأة وسببًا للرأفة والرحمة لمن ألبسه إياه، وهو أحد الوجهين وفي قوله(1/384)
تعالى: (أَفَأمِنَ الَّذين مَكَرُوا السَّيئاتِ أنْ يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرْضَ) النحل: 45 الآية، ثم قال تعالى: (أَوْ يَأْخُذَهُمْ علَى تَخَوُّفٍ فَإنَّ رَبّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحيمٌ) النحل: 47 وليس يصلح أيضًا أن نكشف سرّ المخاوف من الخاتمة والسابقة لأن ذلك يكون عن حقائق معاني الصفات التي ظهرت عن حقيقة الذات فأظهرت بدائع الأفعال وغرائب المآل وأعادت الأحكام على من أظهر بها وجعل لها ممن حقّت عليه الكلمات وجعل نصيبه من معاني هذه السريرة من الصفات فيؤدي ذلك منّا إلى كشف باطن الأوصاف؛ وهذا غير مأمور به ولا مأذون فيه، لأنه لا يجب فلم يؤمر به، ولأنه لم يبح فلم يؤذن فيه، وهو من سرّ القدر وقد نهي عن إفشائه في غير خبر ولو لم يطلع الأولياء عليه لما قيل: فلا تفشوه، فإن أقام الله تعالى عبدًا مقام هذه المشاهدة أغناه بالمعاينة عن الخبر، وآنسه بالمحادثة عن الأثر، وذلك هو العلم النافع الذي يكون العلاّم معلّمه، وذلك هو الأثر اللازم الذي يكون الجاعل مؤثره، (ومَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجَاً وَيَرْزُقْه مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ومَنْ يَتَوَكَّلْ على اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) الطلاق: 3 فالكتب الذي لا يمحي ما كان من نوره والعين التي لا تخفى لأنها بحضوره والنور الذي لا يطفأ لأنه من روحه والروح الذي لا كرب فيه لأنه من ريحانه والمدد الذي لا ينقطع فمن روحه، وقد كتب وأيد وكل كتاب بيد مخلوق فغيرمحفوظ وقد يضيع وكل أيد بغير روحه فمقطوع وما كتبه الصانع بصنعه في قلب حفيظ فمثبت عتيد.
وقد روينا عن زيد بن أسلم في قوله تعالى: (في لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) البروج: 22، قال: قلب المؤمن وقال آخر في قوله: (والبيت المعمور) الطور: 4 قلب العارف، وقال بعض أهل المعرفة: (في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) النور: 36 قلوب المقرّبين رفعت إلى وصف الخالق عن ذكر المخلوقين ويذكر فيها اسمه بالتوحيد على تجريد الوحدانية عن شهادة الأحدية.
وقد كان أبو محمد سهل رحمه الله تعالى يقول: الصدر هو الكرسي والقلب هو العرش والله تبارك وتعالى واضع عليه عظمته وجلاله، وهو مشهود بلطفه وقربه، فصدرالمومن أوّله صمدية وآخره روحانية وأوسطه ربوبية، فهو صمديّ روحانيّ ربانيّ وقلبه أوله قدرة وآخره برّ، وأوسطه لطف، فإذا كان كذلك فهو مشكاة فيها مصباح يرى به الزجاج كأنها كوكب دريّ تشهد به الآلاء، فهو مرآة جسدي يرى فيرى به الوجه ويجده عنده كما يراه به من وراء مرآة مشاهدة من قلب موقن بعين يقين، يشهد الصدر الكرسي والقلب العرش والله تعالى عليه.
ولا يحلّ للعلماء أيضاً كشف علامات سوء الخاتمة فيمن رأوها فيه من العمال لأن لها علامات جليّة عند المكاشفين بها وأدلة خفيّة عند العارفين المشرف بهم عليها، ولكنها من سر المعبود في العبد خبيئة وخبأة في خزائن النفوس لم يطلع عليها إلا الأفراد وقد ستر ذلك وعطاه بسعة رحمته وحلمه وكثيف ستره وفضله وسيخرج ذلك الخباء يوم تبلى(1/385)
السرائر عند غضبه وعظيم سطوته، فما له من قوة، من عمل، ولا ناصر من علم لا قوّة له فينتصر بها، لأن النصرة عزّة وهو ذليل، ولا ناصر، لأن الناصر هو الخاذل والمقوّى هو المضعف، فما أسوأ حال من لا ينصر نفسه، وليست له من مولاه صحبة، ولو صحبه لنصره، ولو نصره لأعزه ولو وليه لهرب منه عدّوه.
قال تعالى: (لا يَسْتَطَيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) الأنبياء: 43 وقال تعالى: (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذي يَعلَمُ السِّرَّ في السَّمواتِ والأَرْضِ) الفرقان: 6 الآية.
فمن حكمته غفره ومن رحمته ستره، وقال تعالى: (يُخْرِجُ الْخَبْءَ في السَّمَواتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخفُونَ وَمَا تُعلِنُونَ) النمل: 25؛ فهذه العلوم التي ذكرناها توجب حقائق المخاوف، وهي من سرّ الملك وخباء الملكوت.
على أن للعبد عند الموت علامات ليس يخفى على العارف بسوء الخاتمة بها لمشاهدته لها وللأحياء علامات عند المكاشفين على الاطلاع يعرفون بها سوء الخاتمة منهم، وهذا علم مخصوص به: من أقيم مقام مقامات المكاشفات عن مشاهدة حقيقة من ذات، وهوسرّ علام الغيوب عند من أطلعه عليه من أهل القلوب، لأن الكشف يتنوّع أنواعاً من المعاني، فمنه كشف معاني الآخرة، ومنه كشف بواطن الدنيا، ومنه الاطلاع على حقائق الأشياء المستورة لظواهر الأحكام، فهذا من سر الملكوت، ومن معاني كشوف الجبروت.
وقد جاء في خبر القدر سر الله فلا تفشوه فهذا خطاب لمن كوشف به، وفي خبر آخر ستر الله فلا تكشفوه فهذا خطاب لمن لم يكاشف به، وهذا نهي عن السؤال عنه، وهو داخل في قوله تعالى (ولاتَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) الإسراء: 36 أي لا تتبع نفسك علم ما لم تكلف، ولا تسأل عما لم يجعل من علمك ولم يوكل إليك، ولأنه إذا علمه لم ينفعه علمه شيئاً، وإنما ينفعه علم الأحكام والأسباب، لأنها طرقات، وبمثل مخاطبة المؤمنين خاطب أنبياءه عليهم السلام في هذا المعنى في قوله تعالى لنوح عليه السلام حين قال: (إنَّ ابني مِنْ أَهْلي وإنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ) هود: 45 لأنه قدكان وعده نجاة أهله فقال سبحانه وتعالى: (إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فلا تَسْأَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) هود: 46 أي دعاءك ومسألتك لي ما لم أجعله من علمك ولم أكله إليك عمل غير صالح، فعندها استغفر ربه واسترحمه.
وإن العبد عند موته في آخر ساعة من عمره يكشف له عند كشف الغطاء عن بصره وجوه كثيرة قد اتخذت آلهة من دون الله أو أشرك بها مع الله تعالى وكلها تزيين وغرور فإن وقف القلب مع أحدها، أو زين له بعضها أوتقلب قلبه في شيئ منها عند آخر أنفاسه ختم له بذلك، فخرجت روحه على الشك أو الشرك، وهذا هو سوء الخاتمة، وهو نصيب العبد من الكتاب في السابقة عند خلق الأرواح، معدومة لها في الأشباح في الآباد(1/386)
والآزال قبل إظهار الأكوار والأدوار، فشهدتها الأرواح هناك غرورًا، ووقفت معها وقد زادت لها زورًا رسوم في القلب في التخطيط قبل خلق الأجسام لها، وقبل حجبها بكشف الهياكل عند ظهورها في الوجود، وقبل إقامتها بشاهد العقل، لكن بشاهد الأولية بدت، وبمعنى القيومية وجدت، وبوصف الجامع جمعت ثم فرقت ههنا، فظهرت الآن عند الفراق، لما كانت شهدت في التلاق، واعترفت في الآخر بما كانت نطقت في الأول وخرجت الروح على ما شهدت، وهذا كان خبر السابقة التي أدركت الأرواح المرافقة لها في الأجسام عند الخاتمة.
ومن ذلك جاء في الأثر: يأخذ ملك الأرحام النطفة في يده فيقول: يارب أذكر أم أنثى؟ أسوى أم معوج، ما رزقه، وما عمله؟ ما أثره ماخلقه؟ قال: ثم يخلق الله تعالى على يده كما قال: فإذا صورة قال: يارب أنفخ فيه بالسعادة أو بالشقاوة فلذلك خرجت الروح بما دخلت به (فَأَمّا إنْ كانَ مِنَ المقَرَّبينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وجَنَّةٌ نَعيمٍ وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمينِ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ اليَمينِ، وأَمّا إنْ كَانَ مِنَ المُكَذِّبينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَميمٍ، وَتَصْلِيَةُ جَحيمٍ) الواقعة: 88 - 94 (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَريقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) الأعراف: 29 (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) الأنبياء: 104 (ولَوْ شِئْنا لآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاها ولكنْ حَقَّ القَوْلَ مِنِّي) السجدة: 13 وقال سبحانه وتعالى: (إنَّ الذينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الحُسْنى) الأنبياء: 101 (إنَّ الّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِم كَلِمَةُ رَبِّكَ) يونس: 96 (ولَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ والإنْسِ) الأعراف: 179 (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلكَ هُمْ لها عَامِلُونَ) المؤمنون: 63 (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) الزمر: 47 (إنَّ في هَذا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدينَ) الأنبياء: 106 فهذه الآي ونظائرها وردت في السوابق الأول والخواتم الآخر، وفيها سرائر الغيوب وغرائب الفهوم، وهي من آي المطلع لأهل الإشراف على شرفات العرش والأعراف.
وقال بعض العارفين: لو علمت أحدًا على التوحيد خمسين سنة ثم حالت بيني وبينه أسطوانة فمات لم أقطع له بالتوحيد، لأني لا أدري ما ظهر من التقليب.
وقد كان أبو محمد سهل رحمه الله يقول: خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل حركة، وكل خطرة وهمة، يخافون البعد من الله تعالى، وهم الذين مدح الله تبارك وتعالى (وقلوبهم وجلة) وقال لا يصح خوفه حتى يخاف من الحسنات كما يخاف من السيئات.
وقال أيضًا: أعلى الخوف أن يخاف سابق علم الله تعالى فيه، ويحذر أن يكون منه حدث خلاف السنة يجره إلى الكفر، وقال: خوف التعظيم ميزان خوف السابقة.
وكان بعض العارفين يقول: لو كانت الشهادة على باب الدار والموت على الإسلام عند باب الحجرة لاخترت الموت على الشهادة، قيل ولم؟ قال: لأني لا أدري ما يعرض(1/387)
بقلبي من المشاهدة فيما بين باب الحجرة وباب الدار فيغير التوحيد.
وروينا عن زهير بن نعيم الباني قال: ما أكبر همي ذنوبي، إنما أخاف ما هو أعظم عليّ من الذنوب وهو أن أسلب التوحيد، وأموت على غيره، وروي ابن المبارك عن أبي لهيعة عن بكر بن سوادة قال: كان رجل يعتزل الناس أينما كان يكون وحده فجاء أبو الدرداء فقال: أنشدك الله تعالى ما يحملك على أن تعتزل الناس؟ قال: إني أخشى أن أسلب ديني وأنا لا أشعر، قال: أترى في الحي مائة يخافون ما تخاف؟ فلم يزل ينقص حتى بلغ عشرة قال: فحدثت بذلك رجلاً من أهل الشام فقال ذلك شرحبيل بن سمط يعني من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد كان أبوالدرداء يحلف بالله تعالى ويقول: ما أحد أمن على إيمانه أن يسلبه عند الموت إلا سلبه، وقد كان بعض علمائنا يقول: من أعطى التوحيد أعطيه بكماله، ومن منعه منعه بكماله إذا كان التوحيد في نفسه لا يتبعض.
ولما احتضر سفيان الثوري رضي الله عنه جعل يبكي ويجزع فقيل له: يا أبا عبد الله عليك بالرجاء فإن عفو الله أعظم من ذنوبك فقال: أو على ذنوبي أبكي؟ لو علمت أني أموت على التوحيد لم أبال أن ألقى الله تعالى بأمثال الجبال من الخطايا، وقال مرة: ذنوبي أهون من هذه ورفع حبة من الأرض إنما أخاف أن أسلب التوحيد في آخر الوقت، وقد كان رحمه الله أحد الخائفين، كان يبول الدم من شدة الخوف، وكان يمرض المرضة من المخافة، وعرض بوله على بعض الكتابيين فقال: هذا بول راهب من الرهبان وكان يلتفت إلى حماد بن سلمة فيقول: يا أبا سلمة ترجو لمثلي العفو أو يغفر لمثلي؟ فيقول له حماد: نعم أرجو له.
وقد كان بعض العلماء يقول: لو أني أيقنت أن يختم لي بالسعادة كان أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس في حياتي أجعله في سبيل الله تعالى.
وحدثني بعض إخواني الصادقين وكان خائفًا أنه أوصى بعض إخوانه فقال: إذا حضرتني الوفاة فاقعد عند رأسي فإذا عاينت فانظر إليّ فإن رأيتني متّ على التوحيد فاعمد إلى جميع ما أملكه فاشتر به لوزًا وسكرًا وانثره على صبيان أهل المدينة وقل: هذا عرس المنفلت، وإن رأيتني متّ على غير التوحيد فأعلم الناس أني قد متّ على غير التوحيد حتى لا يغتروا بشهود جنازتي ليحضر جنازتي من أحبّ على بصيرة لئلا يلحقني الرياء فأكون قد خدعت المسلمين فقلت: ومن أين أعلم أنك قد متّ على التوحيد؟ فذكر له علامة تظهر من بعض الأموات لم نحبّ ذكرها، قال: فكنت عند رأسه أنظر إليه كما أمر، حتى أعاين فرأيت علامة حسن الخاتمة وأمارة الموت على التوحيد قد ظهرت وفاضت روحه، قال: فنفّذت وصيتّه كما أمر ولم أحدّث بذلك إلا خصوص إخواني من العلماء؛ وذلك أن العبد مهما عمل في حياته من سوء أعيد ذكره عليه عند فراق الحياة ووقعت مشاهدته فيه عند آخرساعة من عمره، فإن استحلى ذلك بقلبه أو استهواه بنفسه وقف معه(1/388)
فإذا وقف معه حسب عليه عملاً له وإن قل وكان ذلك خاتمته وكذلك ما عمل من خير أعيد ذكره ومشاهدته عليه فإن عقد عليه بقلبه أو أحبّ وقف معه فحسب عملاً له وكان ذلك حسن خاتمته.
وقال بعض هذه الطائفة في قول الله تعالى: (خَلَقَ المَوْتَ وَالَحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ) الملك: 2 قال: يبلوكم بتقليب القلوب في حال الحياة بخواطر الذنوب وفي حال الموت بإلحاد عن التوحيد، فمن خرجت روحه على التوحيد وجاوزت البلاوي كلها إلى المبلى فهو المؤمن وذلك هوالبلاء الحسن، كما قال الله تعالى: (وَلِىُبْلي المُؤْمِنينَ مِنهُ بَلاءً حَسَناً) الأنفال: 17 فهذه المعاني من العلوم أوجبت خوف الخائفين من علم الله تعالى فيهم فلم ينظروا معها إلى محاسن أعمالهم لحقيقة معرفتهم بربهم؛ وهذا الخوف هو الثواب لعلمهم بما يعلمون، فلما سلموا من مطالبة بما يعملون وصحوا على العلم ظهر لهم خوف علم الله تعالى فيهم نعمة من الله تعالى عليهم، فكان ذلك مقامًا لهم، كما قال الله تعالى: (قَالَ رجُلانِ مِنَ الّذينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا) المائدة: 23 قيل بالخوف.
والمقام الآخر لأصحاب اليمين دون هولاء؛ خوف الجنايات والاكتساب، وخوف الوعيد وسرّ العقاب، وخوف التقصير في الأمر وخوف مجاوزة الحدّ وخوف سلب المزيد، وخوف حجاب اليقظة بالغفلة، وخوف حدوث الفترة بعد الاجتهاد عن المعاملة، وخوف وهن العزم بعد القوّة وخوف نكث العهد بنقض التوبة، وخوف الوقوع في الإبتلاء بالسبب الذي وقعت منه التوبة، وخوف عود الاعوجاج عن الاستقامة، وخوف العادة بالشهوة وخوف الحور بعد الكور؛ وهو الرجوع عن الحجة إلى طريق الهوى وحرث الدنيا وخوف اطلاع الله تعالى عليهم عندما سلف من ذنوبهم ونظره إلىهم على قبيح فعلهم فيعرض عنهم ويمقتهم وهذه كلها مخاوف وطرقات لأهل المعارف وبعضها أعلى من بعض وبعضهم أشد خوفًا من بعض، ويقال: إن العرش جوهرة يتلألأ ملء الكون فلا يكون للعبد وجد في حال من الأحوال إلا طبع مثاله في العرض على الصورة التي يكون عليها العبد فإذا كان يوم القيامة ووقف للمحاسبة أظهرت له صورته من العرش فرأى نفسه على هيئته التي كان في الدنيا فذكر فعله بمشاهدته نفسه فيأخذه من الحياء والرعب ما يجلّ وصفه.
ويقال: إن الله سبحانه إذا أعطى عبدًا معرفة ثم لم يعامله بها لم يسلبه إياها، بل أبقاها عليه ليحاسبه على مقدارها، ولكن يرفع عنه البركة ويقطع عنه المزيد.
وقد ذم الله تعالى عبدًا أوجد له نعمة استعمله بها صالحًا بعد أن كان قد ابتلاه بهواه ففخر الآن بعمله ونسي ما قدمت يداه، ولم يخف أن يعيده فيما قد كان جناه في قوله تبارك وتعالى: (ولَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) هود: 10(1/389)
ومن المخاوف خوف النفاق، وقد كان السلف لصالح من الصحابة رضي الله عنهم وخيار التابعين يخافون ذلك.
كان حذيفة رضي الله عنه يقول: إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصير بها منافقاً حتى يلقى الله تعالى، إني لأسمعها من أحدكم في اليوم عشر مرات.
وكان يقول: تأتي على القلب ساعة يمتلئ بالإيمان حتى لا يكون للنفاق فيه مغرز إبرة، ويأتي عليه ساعة يمتلئ بالنفاق حتى لايكون للإيمان فيه مغرز إبرة.
وكان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولون: إنكم لتعلمون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الكبائر وفي لفظ آخر: من الموبقات.
وقد كان الحسن رحمه الله يقول: لوأني أعلم أني بريء من النفاق كان أحب إلي مما طلعت عليه الشمس.
وقيل: لايعرى من النفاق إلاثلاث طبقات من المؤمنين: الصديقون والشهداء والصالحون، وهؤلاء الذين مدحهم اللّّه تعالى بكمال النعمة عليهم، وألحقهم بمقامات أنبيائه لكمال الإيمان وحقيقة اليقين فيهم، وقيل من أمن من النفاق فهو منافق.
وكان بعضهم يقول: علامة النفاق أن يكره من الناس ما يأتي مثله، وأن يحب على شيء من الجور، وأن يبغض على شيء من الحق، ومن النفاق من إذامدح بما ليس فيه أعجبه ذلك.
وعلامات النفاق أكثر من أن تحصى، يقال هي سبعون علامة، والحديث عن رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أربع هن أصولها تتشعب منها الفروع فقال عليه الصلاة والسلام أربع من كن فيه فهو منافق خالص وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم، وإن كانت فيه خصلة منهن ففيه شعبة من نفاق حتى يدعها: من إذا حدث كذب؛ وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإذا خاصم فجر وفي لفظ آخر إذا عاهد غدر فصارت خمساً.
وقال رجل لابن عمر رضي الله عنهما: إنا ندخل على هؤلاء الأمراء ونصدقهم بما يقولون فإذا خرجنا تكلمنا فيهم، فقال: كنا نعد هذا نفاقًا على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وروينا عنه من طريق آخر أنه سمع رجلاً يذم الحجاج ويقع فيه فقال له: أرأيت لو كان الحجاج حاضرًا أكنت تتكلم بما تكلمت به؟ قال لا، قال: كنا نعد هذا نفاقًا على عهد رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأشد من ذلك أن نفرًا قعدوا على باب حذيفة رضي الله عنه ينتظرونه، فكانوا يتكلمون في شيء من شأنه، فلما خرج عليهم سكتوا حياء منه، فقال: تكلموا فيما كنتم تقولون فسكتوا، فقال: كنا نعد هذا نفاقاً على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأعظم من هذا ما كان الحسن رحمه الله يذهب إليه، كان يقول: إن من النفاق اختلاف السر والعلانية، واختلاف اللسان والقلب، والمدخل والمخرج.(1/390)
فدقائق النفاق وخفايا الشرك عن نقصان التوحيد وضعف اليقين أوجبت المخاوف على المؤمنين خشية مقت الله تعالى، وخوف حبوط الأعمال.
من ذلك كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: إن الرجل ليخرج من منزله ومعه دينه فيرجع إلى منزله وليس معه من دينه شيء، يلقى الرجل فيقول: إنك لذيت وذيت ويلقى الآخر فيقول لأنت وأنت، ولعله لا يخلى منه بشيء، وقد سخط الله تعالى عليه، يعني به التزكية لما لا يعلم، والمدح لمن يستحق الذم، واختلاف قلبه ولسانه، ففي هذا مقت من الله تعالى.
وفوق هذه المخاوف سلب الإيمان الذي هو عندك في خزانة المؤمن، يظهره كيف شاء، ويأخذه متى شاء، لا يدري أهبة وهبه لك فيبقيه عليك لكرمه؟ أو وديعة وعارية أودعك إياه وأعارك هو؟ فيأخذه إذا لا محالة لعدله وحكمته، وقد أخفى عنك حقيقة ذلك، واستأثر بعاقبته.
وقال بعض العارفين: إنما قطع بالقوم عند الوصول مع الخاتمة: وقال آخر: واخطراه كما قال أبو الدرداء وحلف: ما أحد أمن من أن يسلب إيمانه إلا سلبه، أفرأيت الوقت الذي قال حذيفة: يأتي على القلب ساعة فيمتلئ نفاقاً حتى لا يكون فيه للإيمان مغرز إبرة، إن صادف الموت ذلك الوقت وكان هو آخر وقت، أليس تخرج روحه على النفاق، وكذلك تقليبات القلوب في معاني الشرك وتلويحات الشك إن وافق وقت الوفاة كان خاتمته عند لقاء مولاه، وإنما سميت الخاتمة لأنها آخر عمله وآخر ساعة من العمر، وخاتم الشيء آخره ومن ذلك قوله تعالى: (وَخَاتَمَ النَّبِييِّنَ) الأحزاب: 40 أي آخرهم، ومثله: (خِتَامُه مِسْكٌ) المطففين: 26 وخاتمه مسك أي آخر الكأس، بدلاً من الثفل يكون مسكاً.
ومن المخاوف خوف قطع المزيد من علم الإيمان مع بقية المعرفة المبتدأة ليكون مستدرجاً بها كما قال بعض العلماء: إن الله تبارك وتعالى إذا أعطى عبدًا معرفة فلم يعامله بها لم يسلبه تلك المعرفة ولكن بقاؤها فيه حجة عليه ليحاسبه على قدرها وإنما يقطع عنه المزيد وقد يقسى قلبه وتجري عينه وذلك من النقصان الذي لا يعرفه إلا أهل التمام لأنه يمنعه منه ما ينفعه عنده ويعطيه ما يغترّ به ويفتتن عند الخلق لأن عين الوجه من الملك للدنيا وعين القلب من الملكوت للآخرة وقال مالك ابن دينار: قرأت في التوراة: إذا استكمل العبد النفاق ملك عينيه فيبكي متى شاء وقد كانوا يستعيذون بالله عزّ وجلّ من بكاء النفاق وهو أن يفتح للعبد ألوان البكاء ويغلق عنه باب الذل والخشوع.
وقد قال الله عزّ وجلّ: (وَجَاءُوا أَباهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ) يوسف: 16 وكان السلف أيضًا يقولون: استعيذوا بالله من خشوع النفاق قيل: وما هو؟ قال: أن تبكي العين والقلب قاس فلأن يعطي الإنسان رقة القلب في جمود عين خير من أن يعطي دموع عين في قسوة قلب،(1/391)
ورقة القلب عند أهل القلوب هو خشوعه وخوفه وذلّه وانكساره وإخباته، فمن أعطاه هذا في قلبه لم يضرّه ما منعه من بكاء عينه فإن رحج له بفيض العين فهو فضل، ومن أعطاه بكاء العين وحرمه خشوع القلب وذلّه وخضوعه وإخباته فهو مكر به؛ وهذا هو حقيقة المنع وعدم النفع وجملة بكاء العين إنما هو في علم العقل، فأما علم التوحيد بمشاهدة اليقين فلا بكاء فيه لأنه يظهر لشاهد الوحدانية فيحمله على علم القدرة فتفيض الدموع بانتشاق القوّة، وقد وصف الله تعالى الباكين: إن البكاء يزيدهم خشوعاً في قوله تعالى: (يَبْكُونَ وَيَزيدُهمْ خُشُوعًا) الإسراء: 109 فإذا زادنا البكاء كبرًا وفخرًا علمنا بذلك عدم الخشوع في القلب فكان تصنّعاً وعجباً لخفايا آفات النفوس، فأعلى المخاوف خوف السوابق والخواتم كما كان بعض العارفين يقول: ما بكائي وغمّي من ذنوبي وشهواتي لأنها أخلاقي وصفاتي لا يليق بي غيرها إنما حزني وحسرتي كيف كان قسمي منه ونصيبي حين قسم الأقسام وفرق العطاء بين العباد فكيف كان قسمي منه البعد، فهذا الذي ذكرناه هو جمل خوف العلماء الذين هم ورثة الأنبياء وهم أبدال النبيين وأئمة المتقين، أولو القوّة والتمكين، وسئل أبو محمد رحمه الله: هل يعطي الله أحداً من الخوف مثقالاً فقال: من المؤمنين من يعطي من الخوف وزن الجبل قيل: فكيف يكون حالهم يأكلون وينامون وينكحون؟ قال: نعم يفعلون ذلك والمشاهدة لا تفارقهم والمأوى يظلّهم قيل: فأين الخوف قال: يحمله حجاب القدرة بلطيف الحكمة ويستر القلب تحت الحجاب في التصريف بصفات البشرية فيكون مثل هذا العبد مثل المرسلين، وهذا كما قال لأن مشاهدة التوحيد بالتصريف والحكمة تقيمه بالقيام بالأحكام، وذلك أن نور الإيمان في القلب عظيم لو ظهر للقلب لأحرق الجسم وما اتصل به من الملك إلا أنه مستور بالفضل مغطّى بالعلم لإيقاع الأحكام، وإيجاب التصريف فيها والقيام يجري مجرى الغايات من معاني القدر والصفات لأن الأنوار محجوبة بالأسماء والأسماء محجوبة بالأفعال والأفعال محجوبة بالحركات فتظهر الحركة بالقدرة وهي غيب من ورائها، كذلك يظهر التصريف بالحكمة من نور الإيمان وأنوار الإيمان مستورة من ورائه.
وقال بعض العارفين: لو كشف وجه المؤمن للخلق عند الله تعالى لعبدوه من دون الله تعالى ولو ظهر نور قلبه للدنيا لم يثبت له شيء على وجه الأرض، فسبحان من ستر القدرة ومعانيها بالحكمة وأسبابها حلمًا منه ورحمة وتطريقًا للخلق إليه للمنفعة، وفي قراءة أبيّ بن كعب مثل نور المؤمن، فولا أن نوره من نوره ما استجاز إبدال حرف بغير معناه، وقد كان سهل رحمه الله تعالى يقول: الخوف مباينة للنهي والخشية الورع والإشفاق الزهد، وكان يقول: دخول الخوف على الجاهل يدعوه إلى العلم، ودخوله على العالم يدعوه إلى الزهد، ودخوله على العامل يدعوه إلى الإخلاص،(1/392)
وقال أيضًا الإخلاص فريضة لا تنال إلا بالخوف ولا ينال الخوف إلا بالزهد فقد صار الخوف يصلح للكافة إذ دخوله على العامة يخرجهم عن الحرام، ودخوله على الخاصة يدخلهم في الورع والزهد، لأن من خاف ترك، وقال أيضًا: من أحبّ أن يرى خوف الله تعالى في قلبه فلا يأكل إلا حلالاً ولا يصلح علم الرجاء إلا للخائف، وقال: الخوف ذكر والمحبة أنثى، ألا ترى أن أكثر النساء يدعون المحبة يريد بهذا أن فضل الخوف على الرجاء كفضل الذكر على الأنثى؛ وهذا كما قال لأن الخوف حال العلماء، والرجاء حال العمّال، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على الكواكب.
وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضل من علم أحبّ إليّ من فضل من عمل، وخير دينكم الورع واعلم أن الخوف عند العلماء على غير ما يتصوّر في أوهام العامة وخلاف ما يعدّونه من القلق والاحتراق أو الوله والانزعاج لأن هذه خطرات وأحوال ومواجيد للوالهين وليست من حقيقة العلم في شيء، بمنزلة مواجيد بعض الصوفية من العارفين في أحوال المحبة، من احتراقهم وولههم.
والخوف عند العلماء إنما هو اسم لصحيح العلم وصدق المشاهدة، فإذا أعطى عبد حقيقة العلم وصدق اليقين سمي هذا خائفاً، فلذلك كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أخوف الخلق، لأنه كان على حقيقة العلم ومن أشدهم حباً لله تعالى، لأنه كان في نهاية القرب، وقد كان حالة السكينة والوقار في المقامين معاً، والتمكين والتثبيت في الأحوال كلها، ولم يكن وصفه القلق والانزعاج، ولا الوله والاستهتار، وقد أعطي أضعاف عقول الخليقة وعلومهم، ووسع قلبه لهم، وشرح صدره للصبر عليهم.
فكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع الأعرابي كأنه أعرابي، ومع الصبي بمعناه، ومع المرأة في نحوها، يقاربهم في علومهم، ويخاطبهم بعقولهم، ويظهر منه مثل وجدهم، ليعطيهم نصيبهم من الأنس به، ويوفيهم حقوقهم من الدرك منه، ولئلا تعظم هيبته في صدورهم، فينقطعون عن السؤال له والأنس به حكمة منه، لا يفطنون لها ورحمة منه قد جبل عليها، قد ألبس مواجيدهم لبسة، وأدخل ذلك عليه صبغة، بغير تكلف ولا تصنع، تعلم ذلك من الحكيم العليم، فلذلك وصفه عزّ وجلّ بخلقه، وتعجب من وصفه فقال تعالى: (وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظيمٍ) القلم: 4 قيل على أخلاق الربوبية، وقرئت بالإضافة ليكون عظم اسم الله سبحانه لا يظهر من حاله ونصيبه شيئاً لقوة التمكين وفضل العقلاء ولا يبخس من نصيبهم منه شيئاً لحقيقة العدل، ولا يتظاهر بشيء لحقيقة الزهد ونهاية الخشوع والتواضع، ولا يظهر عليه شيء لمكانة القوة ورسوخ العلم والحكمة، وعلى منهاجه وسنته وصف العارفين من أهل البلاء الذين هم الأمثل فالأمثل بالأنبياء.
وقال بعض أهل المعرفة: من طالب الخلق بعلمه وخاطبهم بعقله، فقد بخسهم(1/393)
حقوقهم منه، ولم يقم بحق الله تعالى فيهم.
وقال بعض العلماء: لا يكون إماماً من حدث الناس بكل ما علمه وأظهر لهم نصيبه وكان يحيى بن معاذ يقول: لا تخرج أحداً من طريقه ولا تخاطبه بغير علمه فتتعب، ولكن أغرف له من نهره، واسقه بكأسه.
وسئل بعض العلماء عن العارف، هل يستوحش من الخلق؟ قال: لا يستوحش، ولكن قد يكون نفوراً، قيل: فهل يستوحش منه؟ فقال العارف لا يستوحش منه، ولكن قد يهاب.
ومما يدلك أن الخوف اسم لحقيقة العلم أن في قراءة أبي بن كعب في قوله تعالى: (فَخَشِيْنَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا) الكهف: 80 فخاف ربك أن يرهقهما.
وقال يحيى بن زياد النحوي: ومعناه فعلم ربك، وقال: الخوف من أسماء العلم والله أعلم.
بيان آخر في معنى الخوف
والخوف أيضاً من أسماء المعاني، فوجوده بانتفاء ضده فإذا عدم من القلب الأمن من كل وجه من أحوال الدنيا وأمور الآخرة؛ فلم يأمن مكر الله تعالى في كل الأحوال، في تصريف أحكام الدنيا وتقليب حركات القلوب والنفوس، وجواذب الشهوات، وإثارة طبائع العادات، ولم يسكن إلى عرف ولا اعتياد، ولم يقطع بسلامته وبراءته في شيء كان هذا خوفاً، وسمى العبد بفقد الأمن من جميع ذلك خائفاً، فهذا مستعمل فاش في كلام العرب، ومذهبهم، يقول أحدهم: أخاف من كذا إذا لم يأمنه، أو أخاف أن يكون كذا إذا تحقق علمه.
وقيل لبعض العلماء: ما بال العارف يخاف في كل حال؟ فقال: لعلمه أن الله تعالى قد يأخذ في جميع الأحوال.
ثم إن للخائفين بعد هذا طرقاً ووجهة من قبل الخوف المقلق والإشفاق المزعج، والوجل المحرق، وهي مجاوزات للطرق السابلة التي هي محاج للأئمة المختارة الفاضلة، وفيها متاوه ومهالك، نقلت عنها العلماء السادة، والصفوة المختارة، إلا أنه قد سلك ببعض الزهاد والعباد فيها وأريد بعض العارفين بها ليست بمفضلة كل ذلك عن العلماء، ولا بمتنافس فيها مغبوط عليها عند العارفين، لأنها قد تخرج من طرقات المسالك إلى مفاوز المهالك، وإنما أريد ببعضهم التعريف لها والاطلاع عليها، ومنهم من أريد منه التيه والوله فيها إلا أنها أشهر في أسماع العامة وأعجب وأهول عند العموم.
ذكر تفصيل هذه المخاوف
اعلم أن للخوف سبع مفائض تفيض إليها من القلب، فإلى أي مفيض فاض من(1/394)
القلب إليه أتلف صاحبه به إلا ما يستثنيه.
قد يفيض الخوف من القلب إلى المرارة وهي أرق صفات الأدمة، وهي باطن البشرة فيحرقها فيقتل العبد، وهؤلاء هم الذين يموتون من الغشى والصعق وبداوة الوجه، وهم ضعفاء العمال.
وقد يطير الخوف من القلب إلى الدماغ فيحرق العقل فيتيه العبد فيذهب الحال ويسقط المقام.
وقد يحل الخوف السحر وهو الرئة فينقبها فيذهب الأكل والشرب حتى يسلّ الجسم وينشف الدم، وهذا لأهل الجوع والطي والاصفرار.
وقد يسكن الخوف الكبد، فيورث الكمد اللازم، والحزن الدائم ويحدث الفكر الطويل والسهر الذاهب، وفي هذا المقام يذهب النوم ويدوخ السهر وهذا من أفضلها، وفي هذا الخوف العلم والمشاهدة وهو من خوف العاملين، وقد يقدح الخوف في الفرائص؛ والفريصة هي اللحمة التي تكون على الكتف، يقال للحمتي الكتفين: الفريصتان وجمعها الفرائص، ومنه الخبر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعجبه الفريصتان من اللحم وهو أرقّ لحم الحيوان وأعذبه، فمن هذا الخوف يكون الاضطراب والارتعاش واختلاف الحركة، وقد يبدو الخوف من القلب فيغشى العقل فيمحي سلطانه لقهر سلطان القدرة ومحو الشمس إذا برزت ضوء القمر للبادي الذي يبدو على السر من خزائن الملكوت فيضعف لحمله العقل فيضطرب لضعفه الجسم فلا يتمكّن العبد من القرار لضعف صفته وذلك أن أجزاء الإنسان وإن كانت متفرقة في البنيان للحكمة والإتقان فهي كشيء واحد يجمعها لطيف القدرة بإظهار المشيئة، فأسفل البنية منوط بأعلاها فإذا اضطراب أعلاها مال أسفلها وإذا وصل الداء أو الدواء إلى عضو منها تداعى له سائرها، وهذه الطائفة أشبه بالفضل وأدخل في وصف العلم وقد سلك في هذا الطريق أكابر العماء وأفاضل أهل القلوب وقد كان هؤلاء في التابعين كثير منهم؛ الربيع بن خيثم وأويس القرني، وزرارة بن أوفى، ونظراؤهم من الأخيار رضي الله عنهم، ولم ينكر هذا عليّة الصحابة مثل عمر وابن مسعود رضي الله عنهم.
وقد كان عمر رضي الله عنه يغشى عليه حتى يضطرب مثل البعير ويسقط من قيام، وقد كان ذلك يلحق سعيد بن جذيم، وكان من زهاد أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن أمراء الأجناد بعثه عمر رضي الله عنه واليًا على أهل الشام، وكان يوصف له من زهده وشدة فاقته ما يعاتبه عمر في ذلك ويبعث إليه بالمائة دينار وبأربعمائة دينار ليستنفقها على أهله فيفرق ذلك على الغزاة في قصة طويلة، فكتب إليه أهل الشام يذكرون شأنه، وكان يغشى عليه في مجلسه فخشوا عليه من دخيلة في عقله ولم يعرف ذلك أهل الشام فسأله عمر لما لقيه الذي يصيبه إذا تحدث فأخبره بما يجد من مشاهدته وهو وجد الصوفية من أهل(1/395)
الأحوال، فعرف عمر ذلك وعذره، وما زاده ذلك عنده إلا خيرًا فكان يرمه ويعرف له فضله، وكتب إلى أهل الشام أن لا تعنفوا في أمره ودعوه وقد كان أقوى الأقوياء وهادي الهداة رسول رب العالمين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يغشى عليه عند نزول الوحي إذا لبسه أزال ترتيب العقل منه ورفع مكان الكون عنه ويغط ويتربد وجهه وينحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي، إلا أن هذا كان يصيبه في ضرب من الوحي إذا تغشاه ونزل عليه روح القدس في روحه واستبطن قلبه لأن الوحي على أربعة أضرب؛ ضربان متصلان هذا أحدهما، وضربان منفصلان، ومن كل واحد يلحق العلماء بالله تعالى أهل القلوب الناظرة والشهادة الحاضرة، وشرح هذا يطول وليس يعرفه علم يقين إلا من سلك طريقه ولا يشهده شهادة تحقيق إلا من ذاق حقيقته ومن آمن به تصديق تسليم فله منه نصيب، إلا أن هذا في أهل مقامات ثلاث من المقرّبين؛ مقام المعرفة؛ والمحبة والخوف، وكل ضروب الوحي بعد هذه الأربعة وهي عشرة لأهل هذه المقامات الثلاث منه نصيب خواطر أو وجد أوشهادة أوحال أو مقام؛ وهو وصف التمام إلا نوعين من أنواع الوحي فإنهما ممتنع ومخصوص بهما المرسلون؛ أحدهما ظهور الملك في صورته وسمع كلام الله بصفته ونظر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى جبريل عليه السلام في صورته بالأبطح فصعق.
وروى حمزة عن حمران بن أعين أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ آية في سورة الحاقة فصعق وقال الله تعالى: (وخَرَّ موسى صَعِقًا) الأعراف: 143 وقد يفيض الخوف من القلب إلى النفس فيحرق الشهوات ويمحو العادات ويخمد الطبع ويُطفئ شعل الهوى وهذا أحد المخاوف وأعلاها عند أهل المعارف، وهؤلاء أفضل الخائفين وأرفعهم مقامًا؛ وهو خوف الأنبياء الصدّيقين وخصوص الشهداء، وليس فوق هذا وصف يغبط عليه الخائف ولا يفرح به عارف، فإن جاوز الخوف هذه الأوصاف فقد خرج من حدّه وجاوز قدره لأنه إذا أحرق الشهوات ومحا الأهواء فلم يترك شهوة ولا هوى ثم إن لم يعصم العبد من مجاوزة حدّ الخوف خرج به الخوف إلى أحد ثلاثة معانٍ خيرها أن يسري إلى النفس فيحرقها فيتلف العبد فتكون له شهادة، وليس هذا محمودًا عند علماء الخائفين من أرباب العلوم والمشاهدات، إلا أنه قد قال بعض العلماء ما شهداء بدر بأعظم أجرًا ممن مات وجدًا؛ وهذه أوصاف ضعاف المريدين إذ للعلماء الموقنين بكلّ شهادة من اليقين أجر شهيد وأوسطها أن يعلو إلى الدماغ فيدنيه فتنحلّ عقدة العقل لذويه فتضطرب الطبائع لانحلال عقدة العقل ثم تختلط المزاجات لاضطرابها فتحترق الصفراء فتحول سوداء فيكون من ذلك الوسواس والهذيان والتوه والوله، وذلك أن الدماغ جامد وهو مكان للعقل هو مركب عليه معقود به فإذا اختلطت المزاجات اشتعلت فتلهب شعلها إلى الدماغ فأحرقه وأذابه، فحل محل العقل الذي مكانه مخ الدماغ وسلطانه صقال القلب(1/396)
الظاهر كصقال الرقعة، وهو بمنزلة الشمس الطالعة، محلها الفلك العلوي، وشعاعها على الأرض، كذلك العقل محله المخ، وسلطانه في القلب، وفي هذا المقام الطيش والهيمان، وهذا مكروه عند العلماء؛ وقد أصاب ذلك بعض المحبين في مقام المحبة فانطبق عليهم فولهوا بوجوده، ومنهم من فزع ذلك عن قلوبهم فسرى عنهم فنطقوا بعلمه.
وقد كان أبو محمد رحمه الل تعالى يقول لأهل التقلل الطاوين المتقشفين: احفظوا عقولكم، فإنه لم يكن ولى الله ناقص العقل.
والمعنى الثالث وهو شرها في مجاوزة الخوف، هو أن يعظم ويقوى، فيذهب الرجاء إذا لم يواجه بعلم الأخلاق من الجود والكرم والإحسان التي تعدل المقام، فتروح كروب الحال فيخرجه ذلك إلى القنوط من رحمة الله، والإياس من روح الله تعالى، دخلت عليهم هذه المشاهدة من قبل العدل والإنصاف بمعيار العقل فجاوزت بهم علم وصفه بالكرم، وخفى الألطاف، فتعدت بهم الحدود من قبل قوة نظرهم إلى الاكتساب؛ وتمكن تحكم شهادة الأسباب، ورجوعهم إلى أنفسهم في الحول والاستطاعة، وإثباتهم لتحقيق الوعيد عليهم خاصة لا محالة، والحكم علي الحاكم الراحم بعقولهم وعلومهم، من غير تفويض منهم إلى مشيئته، ولا استلام لقدرته، ولا تأميل لأحد معاني صفاته الحسنى التي تعم جميع صفاتهم السوأى، فظهرت سيئاتهم الثواني أمامهم، فحجبتهم عن المحسن الأول، ولم يعلموا أنهم بإحسانه إليهم أساءوا، وبسبق علمه فيهم تعدوا، وإن قلمه لم يكن بأيديهم إذ جرى بما عليهم، وإن قهر قدرته وسلطان جبره أظهر منهم من خزائنه ما فيهم، يدلك على صحة ما ذكرناه أن أكثر هذه المخاوف كانت في البصريين، وأهل عبادان والعسكريين، فكان مذهبهم القدر، والقول باللطف، وتفويض المشيئة وتقديم الاستطاعة.
منهم العمرية أصحاب عمرو، والعبادية شيعة عباد، والفوطية والعطوية أصحاب هشام الفوطى، وابن عطاء الغزالي.
ومنهم التيمية نفوا نصف القدر، ومنهم المنازلية أصحاب المنزلة بين المنزلتين، والقول بمقدور من قادرين، وفعل من فاعلين، فابتلوا بالاعتماد على الأسباب، وبالنظر إلى أولية الاكتساب فحجبهم ذلك عن المقدر الوهاب، فهرب هؤلاء من الأمن والاغترار، فوقعوا في أعظم منهما من القنوط والإياس، فصاروا في كبائر المعاصي من خوفهم منها.
فمثلهم مثل الخوارج، خرجوا على الأئمة بالسيف لإنكار المنكر، فوقعوا في أنكر المنكر من تكفير الأئمة، وإنكارهم السلطان، وتكفيرهم الأمة بالصغائر، وهذا من أبدع البدع، وهؤلاء كلاب أهل النار.
ومثلهم أيضاً مثل المعتزلة، هربوا من طريق المرجئة أن الموحدين لا يدخلون النار،(1/397)
فحققوا الوعيد على الموحدين، وخلدوا الفاسقين في النار، فجاوزوا حد المرجئة وزادوا عليهم، كما جاوزت المرجئة طريق أهل السنة وقصرت عنهم.
وكان شيخنا أبو محمد رحمه الله تعالى يقول: أهل البدعه كلهم يرون الخروج على السلطان، ويرون السيف على الأمة، ويكفرون الأئمة، فهذا أضر الوجوه في مجاورة الخوف عن قدره، وهو من التعدي لحدود الله تعالى وأمره (قد جعل الله لكل شيء قدرا - ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) الطلاق: 3 فصدق الرجاء واعتدال الخوف به من نحقيقة العلم بالله تعالى، ومجاوزة الشيء كالتقصير عنه، والمؤمن حقا هو المعتدل بين الخوف والرجاء، فالخوف المتلف للنفس بالموت، أو المزيل للعقل بالفوت خير من هذا الوصف الذي هو القنوط، لأن هذا مزيل للعلم؛ ومسقط للمقام، موقع في الكبائر.
على أن هذين المقامين من الخوف، ليس فيهما علم ولا مشاهدة على الكشف، وإنما هو قوة وجد تصطلم مرارته فتوجد إتلاف النفس، ومحو العقل من عبد بمنزلة خوف الكروبيين خاصة من الأملاك أهل الكرب والتمكن، لأنهم لا ينقلون في المقامات التي يعدلون بها كمقربي الروحانيين.
وبلغني أن منهم جيلاً يخرج كل يوم من تحت العرش بعدد البشر، قد أقلقه الشوق وحقره الكرب، يريد النظر إلى وجه العلىّ الأعلى فيحرقهم شعاع سبحات وجهه الكريم سبحانه وتعالى، فيحترقون احتراق الفراش في المصباح، ثم يعود مثلهم من الغد، فهذا دأبهم إلى يوم القيامة، كل ملك لو جمع السموات والأرضين في كفة غابت في قبضته.
ولعمري إن سائر الملائكة لا ينقلون في المقامات كالمؤمنين، بل لكل ملك مقام معلوم لا ينتقل منه إلى غيره، إنما يمدون من ذلك المقام بمدد لا نهاية له إلى يوم القيامة بأكثر ما يزاد جميع البشر، ولكن أولئك يحمل خوفهم قواهم، ويثبت بمشاهدة وصف المخوف خوفهم وصفاتهم، فلا يئودهم ولا يقتلهم، لأنهم يمدون بالقوى، ويعصمون من الموت، بحفظ آجالهم إلى وقتها في الآخر، على أن منهم من يطيش عقله ويتوله قلبه ومنهم من يصبح في تيهه، ومنهم من يتيه فلا يرد وجهه شيء إلى يوم القيامة، ومنهم من يفزع الفزعة فلا يرتد إليه طرفه، ولا يرجع إليه عقله إلى يوم الحشر، ومنهم من يصعق صعقة فلا يزال في صرخة واحدة إلى نفخ الصدور، وكثير منهم يصعقون عند سماع الكلام من الملك الجبار (حتى إذا فزع عن قلوبهم) سبأ: 23 سألوا الروحانيين من المقربين ذوي الحجب القريبة والرتب العلية، منهم جبريل وإسرافيل وميكائيل (ماذا قال ربكم) فهؤلاء الحاضرون من الناظرين والتمكنون من الشاهدين حجبة القدس أولو المحبة والأنس، قالوا: الحق وهو العليّ الكبير، فمثل هؤلاء الخائفني مثل المخلصين من المؤمنين الذين قال الله: (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ(1/398)
مَعْلُومٌ) الصافات: 41 ومثل الأقوياء من العالمين أولي البصائر والتمكين مثل الصابرين الذين يؤتون أجرهم بغير حساب وهعلماء الموقنين ينقلون في مقامات اليقين بمقتضى أحكامها من مقام خوف إلى مقام رجاء مثله، فإذا عملوا في هذه المقامات بما يقتضيهم رفعوا إلى ما فوقها من مقام رجاء إلى مقام رجاء، هو خيرمنه، ومن حال خوف إلى حال خوف أشرف منه، ثم ينتقلون من مقامات الإشفاق إلى حال الإشتياق ومن أحوال الوجل والإحتراق إلى مقام التملّق والطمأنينة، ومن حال الفزع إلى مقام الأنس ومن الإبعاد والوحشة والتهويل إلى الرضا والمحبة والتأميل، فهذا مكن فضلهم على من وقف في مقامه لم يجاوزه من العموم، ومن استتر بحاله وقام في ظلّ فلم يعطعه إلى ظل ممدود فوقه ولم يرفع منه إلى محل رفيع أعلاه ومثل الخائفين من المؤمنين مثل الكروبيين من الملائكة، ومثل الراجين من المحبين؛ كمثل الروحانيين من المقرّبين، وأصل الرجاء وتفضيله أن عند العلماء بالله تعالى من عظيم الرجاء ما يضاهي عظيم الخوف، فيعدل البنية ويحكم بين المقامين بالسوية، فلا يبدو على قلوبهم بادٍ من الخوف عن مشاهدة وصف من الصفات المخوفة تكربهم إلا طلع طالع وراء من عظيم الرجاء أشهد خلقًامن الأخلاق اللطيفة تروحهم ولا يطرأ على قلوبهم طارئ من الخوف، يهربون منه إلا بدا عليهم بادٍ من الرجاء يأنسون به إليه فتعتدل صفاتهم وتستوي مقاماتهم عن معاينة معنى من معاني صفاته لا ستواء كمال ذاته فتكون قلوبهم كلسان الميزان بين الخوف والرجاء، وتكون كالطائر مقوّمًا بين جناحيه عن شهود وصف وخلق اقتضاء ظهور البلاء والنعماء، فيحمل الخوف الرجاء، ويستولي يالرجاء على الخوف ويفيضان معًا في سعة القلب وقوّته، فيغيبان فيه لأنه قوي بقوي ووسع بواسع وقادر بمقتدر، وينفرد الهمّ عن المعنيين فيقف بمشاهدة منفرد فيحكم عليه ما به أفرد، ومن هذا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بك أحول وبك أقول وبك أصول؛ ومن ذلك قوله في علوّ شهادته ونفاذ علمه من كونه بشاهده أعوذ بك منك، ومثله قوله:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
فهذا نطق عن وجد في مقام البقاء بعد، فقد حال الفناء هنالك سمع قول الباقي المغني: (كل من عليها فانٍ ويبقى وجه ربك) الرحمن: 26 - 27 ومن ذلك الأثر المشهور عن الله سبحانه وتعالى: لم تسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن(1/399)
الشاكر اللين الوادع، ولا يصلح تفصيل ما أجملناه ولاشرح ما رمزناه، وقال بعض علماء السف: ما ألبس المؤمن لبسة أحسن من سكينة في خشوع وذلّة في خضوع فهذا حالان من الخوف، وهي لبسة الأنبياء وسيما علماء الأولياء.
وقال لقمان لابنه: يا بني خف الله تعالى خوفًا لا تيأس فيه من رحمته وارجه رجاء لاتأمن فيه مكره، ثم فسّره مجملاً فقال المؤمن: كذي قلبين؛ يخاف بأحدهما ويرجو بالآخر، ومعنى لك أن المؤمن ذو وصفين عن مشاهدتين لأن المؤمن الأوّل والشاهد الأعلى ذو وصف مخوف مثل البطش والسطوة والعزة والنقمة.
فإذا شهد العبد ما آمن به من هذه الصفات خاف إذا عرفه بها وتجلّى له بشاهدها والمعروف أيضًا هو المألوف ذو أخلاق مرجوّة من الكرم والرفق والرحمة واللطف.
فإذا شهد القلب ما آمن به من هذه الأخلاق رجا من شهده بها فصار العبد لوصفيه الرجاء والخوف عن معنى شهادتيه المخوفة والمرجوّة عن وصفي مخوفه ومرجوّة وصار كذي قلبين كأنه يرجو بقلب ويخاف بآخر، وإنما هما شهادتان في قلب واحد لأنهما مقامان لقلب واحد عن شهود مخوف ومرجوّ واحد؛ فهذا تفسير قول لقمان، وهو صفة المؤمن ذي الإيقان، إلا أن الخائف يوصف بما غلب عليه من الحال عما قوي عليه من مشاهدة ويندرج الرجاء في مقامه، ويوصف الراجي بما قوي عليه من الحال عن غلبة شهادته وينطوي الخوف في مقامه ولا كنه للمخوف تعالى وعلا ولا نهاية للمرجوّ عزّ وجلّ سبحانه وتعالى، فأما الشهيد الموقن العالم المقرّب فبالحالين جميعًا يوصف مع اعتدالهما وبالوصفين جميعًا يعرف مع استوائهما، ثم يغلب عليه الوصف التام والحال الكامل.
فإذا عرف به أدرج الوصفان فيه فيقال: صديق لأنه قد تحقق بالصدق فأغنى عن أن يقال مخلص، ثم يقال عارف لأنه قد رسخ في العلم فكفى أن يقال صادق ثم يقال مقرّ ب لأنه قد أشهد القرب فاقترب ولم يحتجّ إلى أن يقال عامل؛ وهذه أسماء الكمال وأحوال التمام لا يفتقر إلى ذكر حال دونها ولايوصف بوصف كوصف خائف أو راجٍ لوجودهما فيه واعتدالهما عنده لأن الخوف والرجاء قد فاضا عليه ثم غاضا فيه فإذا قلت عارف أو مقرب أو صديق، فقد دخل فيه وصف حبّ خائف راجٍ عامل لا محالة كما إذا قلت فلان هاشميّ استغنيت أن تقول قرشيّ أو عربيّ لأن كل هاشمّي يكون عربّيًا قرشيًّا لا محالة ثم تصفه بوصف التمام أيًا فيندرج الوصفات فيه فتقول: فلان حسنيّ أو حسينيّ فاكتفيت أن تقول هاشميّ أو قرشىّ أوعلويّ، وإن كان هاشميّا قرشيًّا علويًّا لأنه قد عرف أن كل حسينيّ فهو هاشميّ قرشىّ علويّ لامحالة، فأما أن تقول: فلان عربيّ أو هاشميّ أو قرشيّ أو علويّ فلا يعرف إلا بما وسمته به لأنه قد يكون علويًّا وهو الغاية في النسب ولا يكون حسينّيًا وقد يكون هاشمياً غير علويّ ويكون قرشيًّا غير هاشميّ ويكون(1/400)
عربياً غير قرشي فيلزمه وصف ما عرفته حسب، فكذلك قولك: عارف أو محبّ أومقرّب أو صديق هي اسم التمام والكمال في المقامات الي تحتوي على جميع الأسباب كقولك: حسنيّ هو اسم التمام وشرف الكمال الذي يفوق على كل الأنساب ولايصح مقام المعرفة إلا بعين اليقين وشاهد التوحيد بعد أن لا يبقى من النفس بقية في مقام اليقين ولا من الخلق رؤية في شاهد التوحيد فيكون روحانيًّا بعد فناء النفس باليقين ربانيهًا عند شهود الخالق سبق منه التوحيد لأن العارف لا يوسم بحال دون حال وقد استغرق الأحوال ولا يوسم بمقام دون مقام إذ قد جاوز المقامات؛ فحقيقة معناه عارف بالمعروف الذي هو بكل نهاية وفضل موصوف وغموض غريبة عند غير أبناء جنسه أن ينكروه فإن تعرف إليهم أوعرفوه فليس بعارف.
وقال بعضهم في وصف العارف: أن يعرف كلّ شيء ولا يتعرّف إلى شيء وقيل: حقيقته أن يعرف ولا يعرف عن مقتضى وصف من أوصاف الربوبية لأنه روحانيّ ربانيّ، وثلاث مقامات لا يقاس عليها ولايتمثّل بها، فمن قاس عليها أخطأ، ومن تمثّل بها ادّعى مقام النبوّة ومقام المعرفة ومقام محبوب، وقد ذكرنا وصفه في شرح مقام المحبة في كتاب المحبين؛ فهذه طرائق الخائفين وجل صفات العارفين لأنهم متفاوتون في القرب والاقتراب متعالون في التقرّب والتقريب مترافعون في التعرّف والتعريف، فالموقنون من الشهداء وهم المقرّبون من الصديقين بشهادتهم قائمون لهم من القرب الاقتراب ومن التقرّب التقريب ومن التعريف التعرّف ومن الإيلاف التأليف لأن مقامهم من القريب العالي الطريق الأقرب والجهة العليا هم السابقون لأهل مقامات اليمين أوّل القرب والتقرب وأوهل الحبّ التحّبب ولهم التألف والتعريف وهؤلاء الأبرار، ومن أفضل طرقات الخائفين ما سرى خوفه إلى النفس قاطعًا شغل الهوى وأخمد نار الشهوات فسقطت له أثقال المجاهدة وخفّت عنده مؤنه المكابدة ووجدت معه حلاوة الطاعة لفقد حلاوة المعصية واجتمع لهم بالحّق عند زوال التشتت بالهوى والخلق وسكنت النفس بالطمأنينة لمعاينة القلب للشهادة وظهر نعيم الزهد والرضا لباطن الصدق والإخلاص ثم سكن الخوف في القلب بعد ذلك ولم يجاوزه فيتعدّى الحدّ إلى بعض المفائض التي ذكرناها بل كان منه الحزن الدائم والهمّ اللازم والخشوع القائم وهذا هو وصف القلب المنكسر وحال العبد المنجبر الذي يوجد عنده الجبار فجبره بعد كسره فصلح له بعد أن عطل من غيره وصار مزيدًا لعالم الخائف من الله تعالى كشوف اليقين وتنقيله لديه في شهادة المقرّبين فكان القريب لدي موجودًا وصار الحبيب عنده مطلوبًا لأنه من المنكسرة قلوبهم من أجله وبأنه صار عنده من أهله، واعلم أن الذي قطع الخلق عن هذه حلاوة الهوي ولا يخرجها إلا أحد كأسين؛ تجرّع مرارة الخوف فيغلب حلاوة الهوى فيخرجه أو غلبة حلاوة المحبة فيستغرق حلاوة(1/401)
الهوى فيغمره، فإن عدم أحد هذين فهو من المذبذبين بن ذلك.
وروينا أن عليّا رضي الله عنه قال لبعض الخائفين، وقد تاه عقله فأخرجه الخوف إلى القنوط: ما أصارك إلى ما أرى؟ فقال: ذنوبي العظيمة، فقال: ويحك إن رحمة الله تعالى أعظم من ذنوبك فقال: إن ذنوبي أعظم من أن يكفّرها شيء فقال: إن قنوطك من رحمة الله تعالى أعظم من ذنوبك والخوف جند من جنود الله تعالى قد يستخرج من قلوب المريدين والعابدين لا يستخرجه الرجاء فتستجيب له القلوب المرادة به بنهايات الزهد وحائق التوبة وشدة المراقبة، وقد يفعل الله تعالى جميع ذلك بأهل الرجاء في المحبة ومقام الرجاء مستخرج منهم الكرم والحياء والخوف اسم جامع لمقامات الخائفين ثم يشتمل على خمس طبقات، في كل طبقة ثلاث مقامات، فالمقام الأوّل من الخوف هو التقوى؛ وفي هذا المقام المتقون والصالحون والعاملون، والمقام الثاني من الخوف هو الحذر؛ وفي هذا المقام الزاهدون والورعون والخاشعون، والمقام الثالث هو الخشية؛ وفي هذا طبقات العالمين والعابدين والمحسنين، والمقام الرابع هو الوجل؛ وهذا للذاكرين والمخبتين والعارفين، والمقام الخامس هو الإشفاق وهو للصديقين وهم الشهداء والمحّبون وخصوص المقرّبين وخوف هؤلاء عن معرفة الصفات لأجل الموصوف لا عن مشاهدة الاكتساب لأجل العقوبات، كما جاء في الخبر: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: يا داود خفني كما تخاف السبع الضاري، فالسبع إنما يخاف لوصفه بالبطش والسطوة ولما ألبس وجهه من الهيبة والكبر لا لأجل ذنب كان من الإنسان إليه، وكذلك لهؤلاء من الرجاء العظيم والنصيب الأوفر على معنى خوفهم ما لا يسع للعموم أن يذكر، فطلبهم برجائهم وحسن ظنهم بما هو لهم لا يصفه إلا هم ولا يعرفه سواهم، جمل ذلك أنصبة القرب ونعيم الأنس وروح اللقاء وسرور التملّق وحلاوة الخدمة وفرح المناجاة وروح الخلوة وارتياح المحاورة فلهم منه تجلّي معاني الصفات وظهور معاني محاسن الأوصاف فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين ولأصحاب اليمين إظهار نعيم الأفعال ومواهب العطاء والأفضال، وقد كان يحيى بن معاذ يقول من عبد الله تعالى بالخوف دون الرجاء غرق في بحار الأذكار، ومن عبده بالرجاء دون الخوف تاه في مفاوز الاغترار، ومن عبده بالخوف والرجاء معًا استقام في محجة الأذكار، وقال مكحول النسفي رحمه الله تعالى في معناه: إلا أنه جاوز فيه الحدّ فقال: من عبد الله تعالى لخوف فهو جروري، ومن عبده(1/402)
بالرجاء فهو مرجئ، ومن عبده بالمحبة فهو زنديق، ومن عبده بالخوف والرجاء والمحبة فهو موحّد والله سبحانه وتعالى أعلم.
شرح مقام الزهد
ووصف أحوال الزاهدين وهو المقام السادس من مقامات اليقين
قد سمّى الله تعالى أهل الزهد علماء بقوله تعالى إذ وصف قارون فخرج على قومه في زينته إلى قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذينَ أُوتفوا الْعِلْمَ وَيْلكُمْ ثَوَابُ الله خَيرٌ لِمَنْ آمَنَ) القصص: 80 قيل: هم الزاهدون في الدنيا، وقال عزّ وجلّ: (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أجْرَهُمُ مَرَّتَيْنِ بِمَا صََبَرَوا) القصص: 54، جاء في التفسير صبروا على الزهد في (الدنيا وقال جلّ وعلا: والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم) الرعد: 23 - 24 قيل على الفقر، ويشهد للصبرعن الدنيا في هاتين الآيتين قوله عزّ وجلّ في وصف العلماء الزاهدين لما قال: (وَقَالَ الَّذين أُوتُوا الْعِلْم وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ لمنْ آمنَ) القصص: 80، قال عقيب ذلك في بقية ثنائه عليهم: (وَلا يُلَقَّاهَا إلا الصَابِرونَ) القصص: 80 أي عن زينة الدنيا، ثم قال في مدحهم بوصف آخر: (يُؤتونَ أجْرَهُمْ مَرَّتيْنِ بِمَا صَبَرُوا) القصص: 54 فقد حصل للزاهدأجران بصبره على الفقر وبوجود زهده، وللفقير المعدم أجر واحد على الغني لوجود فقره وعدم زهده وعلى ذلك تأويل الخبرين عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في أحدهما: يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفًا، وقال في الخبر الآخر يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام لأن الفقير الزاهد يدخل الجنة قبل الغني المصلح بخمسمائة عام، وهؤلاء خصوص الفقراء، وإن الفقير غير الزاهد يدخل الجنة قبل الأغنياء بأربعين خريفًا لأجل فقره فقط؛ وهم عموم الفقراء، فصار الأغنياء مفضولين في الحالين معًا، وإن جملة الفقراء يدخلون الجنة قبلهم لمكان غناهم في الدنيا، وإن عموم الأغنياء من أهل الدنيا وأبنائها موقوفون للحساب ومطالبون بالإنفاق والاكتساب بالخبر الثالث: اطلعت في(1/403)
الجنة فإذا أكثر أهلها الفقراء واطلعت في النار فإذا أكثر أهلها الأغنياء وفي معناه الخبر الآخر فقلت: أين الأغنياء؟ فقال: حبسهم الجد أي الحظ، وقد سمّى الله تعالى الفقراء الزاهدين محسنين ووضع عنهم السبيل فقال تعالى: (وَلا عَلى الَّذين لا يجدُونَ مَا يُنْفِقونَ حرَجٌ) التوبة: 91، ثم قال: (مَا عَلَى المُحْسِنينَ منْ سَبيل) التوبة: 91 ثم نصّ عى ذكر من عليه الحجة والمطالبة فقال جلّ وعلا: (إنَّمَا السَبيلُ عَلَى الَّذينَ يَسْتَأْذِنونك وَهُمْ أغْنيَاءُ رَضُوا بأن يَكُونوا مَعَ الْخَوَالِفِ) التوبة: 93 يعني النساء.
وعلى هذا المعنى جاء تأويل قوله تعالى: (إنَّا جَعَلنا ما عَلَى الأرْضِ زينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أيُّهُمْ أَحْسَن عَمََلاً) الكهف: 7 قيل: أزهد في الدنيا فصار الإحسان مقام الزاهدين؛ وهو وصف اليقين، كذلك فسرّه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سئل ماالإحسان؟ فقال: أن تعبد الله كأنك تراه، يعني على اليقين وهو المشاهدة ولعمري أن الزهد حال الموقن لأن مقتضى يقينه، وقد يحتجّ متوهّم بفضل الأغنياء على الفقراء عنده لقوله تعالى مخبرًا عن الفقراء: (تَوَلّوْا وَأَعْيُنُهمْ تَفيضُ مِنَ الدَّمعِ حَزَنًا ألا يَجدُوا ما يُنْفِقُون) التوبة: 92، يعلم أن هذا عند أهل التدّبر للقرآن مزيدًا للفقراء لتمام حالهم لما كانوا محسنين كما قال سبحانه وتعالى: (وَسَنَزيدُ المُحْسِنينَ) البقرة: 58 فكان مزيدهم الحزن والإشفاق وخوف التقصير لمشاهدة عظم حقّ الربوبية عليهم حتى كأنهم مسيئون حتى بشرهم الله تعالى بأنهم محسنون لما قال عزّ وجلّ: (مَا عَلَى المُحْسِنينَ مِنْ سَبيلٍ) التوبة: 91 لأنه ضمّهم إليهم في الوصف وعطفهم عليهم في المعنى، وأيضًا فلم يكن بكاؤهم على فوت الدنيا ولا على طلب الغنى، والله تعالى يمدحهم بصبرهم عن الدنيا ويذم الدنيا إليهم بل حزنهم على طلب المزيد من الفقر ليجدوا الإنفاق فيخرجوه فيفتقروا منه فيزدادون فقرًا ببذله إلى فقرهم فعلى كثرة الإنفاق وحقيقة الفقر من الدنيا كان حزنهم فهذا فضل ثانٍ للفقراء لا على الجمع والادخار والموضع الأعلى الذي فضل الفقراء من هذه الآية عن أهل الاستنباط والتفكّر وهو مشاركتهم لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حاله، ووصف الله تعالى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمثل حالهم في قوله تعالى: (قُلَت لا أجدُ مَا أحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) التوبة: 92 ثم نعتهم بمثله لأنهم هم الأمثل، فالأمثل به فقال تعالى: (ألا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) التوبة: 92 فمن كان برسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمثل فهو أفضل، كيف وقد روينا عن النبي: تحفة المؤمن في الدنيا الفقر فجعل الفقر تحية له من ذي التحيات المباركات مع الخبر المشهور: الفقر على المؤمن أزين من العذار على خد الفرس الجواد، والفقر اختيار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشعار الأنبياء وطريقة علية الصحابة والأصفياء.(1/404)
وروينا في الخبر: آخر الأنبياء دخولاً الجنة سليمان بن داود لمكان ملكه وآخر أصحابي دخولاً الجنة عبد الرحمن بن عوف لأجل غناه في الدنيا وفي الخبر الآخر رأيته يدخل الجنة زحفًا ولا نعلم في الأمة أفضل من طائفتين؛ المهاجرون وأهل الصفة وجميعًا مدح الله تعالى بالفقر، فقال (للفقراء المهاجرين الذين أحصروا في سبيل الله) البقرة: 372 (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم) الحشر: 8 فقدم وصفهم بالفقر على أعمالهم الهجرة والحصر، والله تعالى لا يمدح من يحبّ إلا بما يحبّ ولا يصفه حتى يحبه.
وروينا في قوله تعالى: (وَجَعَلْناهُمْ أَئمَةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا) الأنبياء: 73 لما صبروا قيل: عن الدنيا، وفي خبر: العلماء أمناء الرسل مالم يدخلوا في الدنيا فإذا دخلوا في الدنيا فاحذروهم على دينكم، وجاء في الأثر لا يزال لا إله إلا اللّّه ترفع عن العباد سخط الله تعالى ما لم ينالوا ما نقص من دنياهم، وفي خبر آخر ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على دينهم، فإذا فعلوا ذلك وقالوا: لا إله إلا الله قال الله عزّ وجلّ: كذبتم لستم بها صادقين.
وقد روينا في خبر عن أهل البيت: إذا أحبّ الله تعالى عبدًا ابتلاه، فإذا أحبه الحبّ البالغ اقتناه، قيل: وما اقتناؤه؟ قال لم يترك له أهلاً ولا مالاً، وفي أخبار أهل الكتب: أوحى الله تعالى إلى بعض أوليائه: احذر إذا مقتك فتسقط من عيني فأصبّ عليك الدنيا صبًّا ويقال: ليس عمل من أعمال البر يجمع الطاعات كلها إلا الزهد في الدنيا، وعن بعض الصحابة رضي الله عنهم: تابعنا الأعمال كلّها فلم نر أبلغ في أمر الآخرة من زهد في الدنيا وقال بعض الصحابة لصدر التابعين: أنتم أكثر أعمالاً واجتهادًا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم كانوا خيرًا منكم، قيل ولم ذلك؟ قال كانوا أزهد منكم في الدنيا، وفي وصية لقمان لابنه: واعلم أن أعون الأشياء على الدين زهادة في الدنيا، ويقال: من زهدفي الدنيا أربعين يومًا أجرى الله تعالى ينابيع الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه، وفي خبر آخر: إذا رأيتم العبد قد أعطى صمتًا وزهدًا في الدنيا فاقتربوا منه فإنه يلقي الحكمة، وقد قال الله تعالى: (مَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فقد أُوتِيَ خَيْرًا كَثيرًا) البقرة: 269
وروينا في الآثار جمل هذه الأخبار: من أصبح وهمه الدنيا شتّت الله تعالى عليه أمره وفرق عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه ولم ينل من الدنيا إلا ما كتب له ومن أصبح وهمه الآخرة جمع الله همه وحفظ عليه ضيعته وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة، وقال الله تعالى في معنى ذلك: (مَنْ كَاَن يُريدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ وَمَنْ(1/405)
كَانَ يُريدُ حرْثَ الدُّنيا نُؤتِه مِنها وَمَا لَهُ في الآخرِةِ منْ نَصيبٍ) الشورى: 20 وقد روينا في خبر قلنا: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: مجموم القلب صدوق اللسان قلنا: يا رسول اللّّه وما مجموم القلب؟ قال التقيّ النقيّ الذي لا غلّ فيه ولا غشّ ولاحسد ولا بغي قيل: يا رسول الله فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا ويحبّ الآخرة والشيء يعرف بضده كما يعرف بمثله وضد الشنئان المحبة وضد الزهد الرغبة، وفي دليل خطابه: إن شرّ الناس الذي يحبه الدنيا وإن الراغب فيها هو المحبّ لها، والإقتناء لها والاستكثار منها علامة الرغبة فيها، كيف وقد جاء أيضًا: إن أردت أن يحبك الله تعالى فازهد في الدنيا فجعل الزهد سبب محبة الله تعالى فصار الزاهد حبيب الله تعالى فينبغي أن يكون الزهد من أفضل الأحوال إذ المحبة أعلى المقامات، وفي دليل الكلام: إن من رغب في الدنيا فقد تعرض لبغض الله تعالى الذي لاشيء أعظم منه وأن المحبّ للدنيا بغيض الله تعالى، وكان أبو محمد رحمه الله تعالى يقول: اجعلوا أعمال البّركلّها في موازين الزهّاد ويكون ثواب زهدهم زيادة لهم، وقال أيضًا: العباد في موازين العلماء والعلماء في موازين الزهاد يوم القيامة فلا يطمعنّ طامع في محبة الله تعالى وهو محبّ للدنيا لأن الله تعالى يمقتها، وفي خبر: ما نظر إليها منذ خلقها، يقول لها: اسكتي يا لاشيء أنت وأهلك إلى النار، وفي الخبر: يقول الله تعالى: يوم القيمة للدنيا ميّزوا ما كان منها لي وألقوا سائرها في النار، وكذلك روينا في الأثر: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه، وفي لفظ آخر: فمثل الدنيا مثل إبليس خلقه الله تعالى للعبد واللعنة ليبتليه ويبتلي به، ويهلكه ويهلك به، وقد شهد ذلك بعض المكاشفين فقال: رأيت الدنيا في صورة جيفة ورأيت إبليس في صورة كلب وهوجاثم عليها، ومنادٍ ينادي من فوق: أنت كلب من كلابي، وهذه جيفة من خلقي وقد جعلتها نصيبك مني، فمن نازعك شيئاً منها فقد سلطتك عليه فجاء من هذا أنها مكانه فمن تمكّن في شيء منها تسلّط العدو بالمكانة منه بقدر ما أصاب منها وقد كوشف بها بعض الأولياء في صورة امرأة ورأى أكفّ الخلق ممدودة إليها هي تجعل في أيديهم شيئًا، قال: فقلت له ما هو قال قال شيء يلتذ وطائفة تمرّ عليها مكتوفي الأيد تعطيهم شيئاً وكوشف بها مورق العجلي في صورة عجوز شمطاء دندانية مسمجة عليها ألوان المصبغات وأنواع الزينة قال: فقلت أعوذ باللّّه منك فقالت: إن أردت أن يعيذك الله(1/406)
تعالى مني فابغض الدرهم، وكذلك جاء في الخبر: الدنيا موقوفة منذ خلقها الله تعالى بين السماء والأرض لا ينظر إليها فتقول يوم القيامة: ياربّ اجعلني لأدنى أوليائك نصيبًا اليوم فيقول: اسكتي يا لا شيء أنا لم أرضك لهم في الدنيا أرضاك لهم اليوم وقال بعض السلف الدنيا دنيئة وأدنى منها قلب من يحبّها.
وروي عن عليّ كرّم الله وجهه: الدنيا جيفة، فمن أرادها فليصبر على مزاحمة الكلاب، وفي أخبار موسى عليه السلام: إن لم تلق الفقير بمثل ما تلقى به الغني فاجعل كل علم علمتك تحت التراب وإذا رأيت الفقر مقبلاً فقل: مرحبًا بشعار الصالحين وإذا رأيت الغنى مقبلاً فقل: ذنب عجلت عقوبته، وقال إمامنا أبومحمد رحمه الله تعالى وروينا عن بعض علمائنا في أخبار داود عليه السلام: إني خلقت محمدًا لأجلي وخلقت آدم لأجل محمد وخلقت ما خلقت لأجل ولد آدم، فمن اشتغل منهم بما خلقته لأجله حجبته عني ومن اشتغل منهم بي سقت إليه ما خلقته لأجله، وكان يقول: الصديقون في بداياتهم طلبوا الدنيا من الله تعالى فمنعهم فلما تمكّنوا من أحوالهم عرضها عليهم فامتنعوا منها، وكان عيسى عليه السلام يقول للدنيا: إليك عني ياخنزيرة، وقد روينا هذا القول عن يزيد بن ميسرة، وكان من علماء الشام قال: كان أشياخنا يسمّون الدنيا خنزيرة ولو وجدوا لها اسّماً شرَّا من هذا سموها به قال: وكانت إذا أقبلت على أحدهم الدنيا قال لها: إليك عنّا يا خنزيرة، لا حاجة لنا بك إنّا قد عرفنا إلهنا عزّ وجلّ معناه قد عرفناه بلا ابتلاء بك لينظر كيف نعمل في الزهد فيك والأثرة له سبحانه وتعالى، وعرفناه أيًضا بالمقت لك فوافقناه في ذلك وعرفناه أيضًا فتألهت قلوبنا إليه أعرضنا عمّا سواه، وكذلك كان الحسن رحمه الله تعالى يصف أشياخه كان أحدهم يعرض عليه المال الحلال فيقال: خذه فاستغن به فيقول لا حاجة لي فيه أخاف أن يفسد على قلبي فهذا كان له قلب صالح راعاه فخاف تغيّره كذلك.
روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه مرّ بجدي ميت أجرب فقال: أترون هذا هان على أهله قلنا: يا رسول الله من هو؟ إنه ألقوه فقال للدنيا أهون على الله تعالى من هذا على أهله، وفي لفظ آخر: أنه قال: أيكم يحبّ أن هذا له بدرهم قلنا: لا أينا وأي شيء يساوي هذا؟ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدنيا أهون على الله تعالى من هذا عليكم، وكذلك أخبر بالغاية في قلتها وعدم قيمتها بقوله: ولو كانت الدنيا تزن عند الله تعالى جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء، وضرب المثل في نتنها وانقلابها على أهلها بقوله للأعرابي: أرأيت ما تأكلون وتشربون ألستم تتغوطون وتبولون؟ قال: بلى، قال: فإلى أي شيء يصير؟ قال: إلى ما علمت يا رسول الله قال أليس يقعد أحدكم خلف بيته فيجعل يده على أنفه من نتن ريحه، قال: نعم قال: فإن الله تعالى جعل الدنيا مثلاً لما يخرج من ابن آدم،(1/407)
وكذلك روينا في تأويل قوله تعالى: (وَفي أَنْفُسِكُمُ أَفَلا تُبْصِرُونَ) الذاريات: 21 قيل: مواضع الغائط والبول، وقال سبحانه وتعالى: (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا في الآخِرَة إلا مَتَاعٌ) الرعد: 26 قال بعض أهل اللغة: متاع أي جيفة، سمعت عن الأصمعي، قال بعض العرب يقول متع اللحم إذا تغير وأنتن، وقد كان الحسن رحمه الله تعالى يقول لما هبط آدم عليه السلام إلى الدنيا كان أوّل شيء عمل فيها أنه أحدث.
وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنه نظر إلىما خرج منه فآذاه ريحه فاغتمّ لذلك فقال له جبريل: هذه رائحة خطيئتك فشهد العقلاء عن الله تعالى الدنيا في صورة كنيف فلم يدخلوا فيها إلا ضرورة فكلما استغنيت عن دخولك الكنيف كان أفضل وشهدها بعضهم جيفة فلم ينالوا منها إلا بلغة فكلما تقللت من الجيفة كان خيرًا، وقال وهب بن منبه: قرأت في بعض الكتب: يا بابن آدم إن تردني أترك الدنيا وإن ترد الدنيا طال عناك، وفي بعض كتب الله تعالى: يا ابن آدم أنا بدك اللازم فلا تؤثر على ما منه بد، وقال بعض المخبرين عن الله سبحانه وتعالى: إنه أوحى إلى الدنيا: اخدمي من خدمني واتعبي من خدمك، وقال آخر: وقد روينا مسندًا أن الله تعالى أوحى إلى الدنيا: تمرري لأوليائي حتى تكون رغبتهم فيما عندي واحلولي لأعدائي حتى يكرهوا لقائي، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: من أحب ّ لقاء الله تعالى أحبّ الله لقاءه، ومن كره لقاء الله تعالى كره الله لقاءه؛ فهذه الآثار كلها، قاصمة لظهر زبناء الدنيا، مسخنة لعين محّبيها ووأضدادها من الأخبار الحسنى في فضل الزهد وشرف الفقر، رافعة لرؤوس الفقراء الصادقين، وقرّة عين الصالحين لله عزّ وجلّ الزاهدين؛ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرهة أعين جزاء بما كانوا يعملون، وأصل الرغبة في الدنيا من ضعف اليقين لأن العبد لو قوي يقينه نظر بنوره إلى الآجل فغاب في نظره العاجل فزهد فيما غاب وأحبّ الحاضر فآثر ما هو أعود عليه وأبقى وأنفع له ولمولاه، أرضى وقدم ما يفنى وينقطع إلى ما يدوم ويتصل؛ وهذا هو صورة الزهد وشهادة الموقن وإن الحاضرلا يحبّ ما غاب وانتقل: ألم تر إلى وصفه عزّ وجلّ لإبراهيم وليكون من الموقنين قال: لا أحبّ الآفلين، والموقن مأمور باتباع ملّة إبراهيم بقوله تعالى: (مِلَّةَ أَبيكُمْ إبْراهيمَ) الحج: 78 أي عليكم ملّة أبيكم إبراهيم واتبعوا ملّته وليس يشهد الوعد والوعيد الآجل بنور العقل إنما يشهد بنور اليقين على أنّا نقول: إن الأنوار أربعة والقلب موجه جهات أربعة إلى الملك والملكوت وإلى العزّ والجبروت؛ فبنور العقل يشهد الملك، وبنورالإيمان يشهد الملكوت وهو الآخرة، وبنور اليقين يشهد العزة وهي الصفات، وبنور المعرفة يشهد الجبروت وهو الوحدانية، والجبار تعالى فوق القلب محيط به يكاشفه بما شاء فيغلب عليه وجد ما أشهده، وضعف اليقين قد يدخل(1/408)
في كلّ شيء، وقوة اليقين تحتاج إليه في كلّ عمل وإلا فهو دنيا يهتدي إلىه بنور العقل، فمن لم يعط نور اليقين لم يرَ الملك الكبير فاستهواه الملك الصغير فأحبّ لا شيء فلم تكن همّته في العلوّ ولا عنده الأعلى شيئًا.
ذكر ماهية الزهد
أيّ شيء هو ليس يمكن عبد أن يعرف الزهد حتى يعرف الدنيا أيّ شيء هي، فقد قال الناس في الزهد أشياء كثيرة ونحن غير محتاجين إلى ذكر أقوالهم بما بيّن الله تعالى وأغنى بكتابه الذي جعل فيه الشفاء والغنى، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هو الحبل المتين والصراط المستقيم من طلب الهدى في غيره أضلّه الله وقال سبحانه تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فيهِ مِنْ شيء فحُكْمُهُ إلى الله) الشورى: 10 وقال عزّ وعلاّ: (فَهَدى الله الّذينَ آمَنُوا لِمَا اختَلَفُوا فيهِ مِنَ الْحَقِّ بإذْنِه) البقرة: 213 فقد ذكر الله جلّ اسمه في كتابه: إن الدنيا سبعة أشياء وهو قوله تعالى: (زُيَِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهَوَاتِ مِنَ النِّساء والْبَنينَ والْقنَاطير المُقَنطرةِ من الذَّهبِ والْفَضَّةِ وَالْخيْلِ المُسَوَّمَةِ والأنْعامِ وَالْحرْثِ) آل عمران: 14
ثم قال تعالى في آخرها: (ذلِك مَتَاعُ الْحَياةِ الدُّنيا) آل عمران: 14 ووصف حبّ الشهوات بالتزيّن ثم نسق الأوصاف السبعة على الحبّ لها ثم أشار لها، بقوله تعالى ذلك فذا إشارة إلى الكاف والكاف كناية عن المذكورالمتقدّم المنسوق واللام بين ذا والكاف للتمكين والتوكيد فحصل من تدبر الخطاب أن هذه السبعة جملة الدنيا وأن هذه الدنيا هذه الأوصاف السبعة، وما تفرع من الشهوات ردّ إلى أصل من هذه الجمل، فمن أحبّ جميعها فقد أحبّ جملة الدنيا نهاية الحبّ ومن أحبّ أصلاً منها أو فرعًا من أصل فقد أحبّ بعض الدنيا فعلمنا بنص الكلام أن الشهوة دنيا وفهمنا من دليله أن الحاجات ليست بدنيا لأنه تقع ضرورات فإذا لم تكن الحاجة دنيا دلّ أنه لا تسمّى شهوة، وإن كانت قد تشتهى لأن الشهوة دنيا، ولتفرقة الأسماء لإيقاع الأحكام عليها، واستند ذلك إلى خبر رويناه عن الله سبحانه وتعالى في الإسرائيليات: إن إبراهيم صلوات الله عليه أصابته حاجة فذهب إلى صديق يستقرض منه شيئاً فلم يقرضه فرجع مغمومًاً فأوحى الله تعالى إلىّه: لو سألت خليلك لأعطاك فقال: يا ربّ عرفت مقتك للدنيا فخشيت أن أسألك منها فتمقتني فأوحى الله تعالى إلىه: ليس الحاجة من الدنيا ثم سمعناه تعالى وجلّ قد ردّ هذه السبعة الأوصاف في مكان آخر إلى خمسة معانٍ فقال جلّ من قائل: (اعملوا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر) فهذه الخمسة هي وصف من أحبّ تلك السبعة، ثم اختصر الخمسة في معنيين منها(1/409)
هما جامعان للسبعة فقال: إنما الحياة الدنيا لعب ولهو، ثم ردّ الإثنين إلى وصف واحد وعبّر عنه بمعنيين فصارت الدنيا ترجع إلى شيئين جامعين مختصرين يصلح أن يكون كلّ واحد منهما هو الدنيا، فالوصف الواحد الذي ردّ الاثنين إليه اللذان هما اللعب واللهو هو الهوى اندرجت السبعة فيه.
فقال عزّ وجلّ: (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فإن الجنة هي المأوى) النازعات: 40 - 14 فصارت الدنيا طاعة النفس للهوى بدليل قوله تعالى: (فَأمَّا مَنْ طَغى) (وَآثَرَ الْحيَاةَ الدُّنْيَا) (فإن الْجَحيمَ هِيَ الْمَأْوى) النازعات: 37 - 38 - 39، فلما كانت الجنة ضد الجحيم كان الهوى هو الدنيا لأن النهي عنه صدّ الإيثار له، فمن نهى نفسه عن الهوى فإنه لم يؤثر الدنيا وإذا لم يؤثر الدنيا فهذا هو الزهد، كانت له الجنة التي هي ضد الجحيم التي هي لم ينه نفسه عن الهوى بإيثاره الدنيا فصارت الدنيا هي طاعة الهوى وإيثاره في كل شيء فينبغي أن يكون الزهد مخالفة الهوى من كلّ شيء، وأما المعنى الآخر الذي عبّر به عن هذا الوصف الذي هو الهوى فجعله دنيا أيضًا فهو حبّ البقاء لمتعة النفس، استنبطنا ذلك من قوله تعالى: (وَقَالُوا رَبَّنَا لمَ كَتبْتَ عَلَيْنَا القِْتَال لَولا أَخَّرْتَنَا إلى أَجِلٍ قَريبٍ) النساء: 77، فالقتال هو فراق الحياة الدنيا لأنه المشي بالسيف إلى السيف والفناء بين السيفين فقالوا: هلا أبقيتنا إلى وقت آخر وهو أجلنا بالموت لا بالقتل وهذا هو حبّ البقاء ففسر حبِ البقاء بأنه هو الدنيا، فقال تعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَليلٌ والآخرَةُ خَيْرٌ لِمَن اتَّقى) النساء: 77 فانكشف الناس وافتضح المنافقون وابتلى المؤمنون عند فرض القتال وظهر المحبون الذي يقاتلون في سبيله صفًّا كأنهم بنيان مرصوص وعندها ربح الذين هم لأنفسهم وأموالهم بائعون وخسر الذين هم للحياة الدنيا بالآخرة مشترون لما قال الله تعالى: (إنّ الله اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنينَ أنُْفسهم وَأمْوَالَهُمْ بأنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) التوبة: 111 فلما اشتراها باعوها وقال في المشترين الخاسرين: (اشترُوا الْحَياة الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ) البقرة: 86 يعني رغبوا في البقاء الأدنى لما اشتروه ببيع البقاء الآخرة إذ باعوه، فمن اشترى ثلاثين سنة وأربعين سنة بألف ألف وبأبد الأبد فما ربحت تجارته ولا هدى سبيله؛ فهذه تجارة من رغب في حياة دنياه فاشتراها ببقاء الأبد فقد صار بائعًا للحياة العالية بما استبدل به من اشتراء ضدها فهذا تدبر قوله تعالى: (اشترَوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) البقرة: 86 أي باعوا الحياة العليا وذلك الأوّل تجارة من باع حياة نفسه وفرّق مجموع ماله فاشتراه الله تعالى منه وعوضه داره وأسكنه عنده جواره فقد ربحت تجارته واهتدى سبيله؛ لما باع حياة عشرين سنة وثلاثين سنة بحياة أبدالأبد؛ فهذا ربح تجار الآخرة الزاهدين في الدنيا وذلك خسر تجارالدنيا الراغبين في الهوى، فشتان بين التجارتين،(1/410)
فما أعظم حسرة الفوت على من خسر ما ربحه الزاهدون بعد الموت، وقد كان الناس مستورين بإظهار الزهد في البقاء ومظنونًا بهم حبِّ الباقي الأعلى حتى نزلت: (ألَمْ تَرَ إلى الَّذينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أيْديَكُمْ وَأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إذَا فَريقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ الله أوْ أشَدَّ خَشْيَةً) النساء: 77 الآية، وحتى نزل: (يا أيُّهَا الَّذينَ آمنوا لِمَ تَقُولُونَ مَالا تَفْعَلُونَ) الصف: 2، كانوا قالوا: إنّا نحبّ ربنا ولو علمنا في أيّ شيء محبّته لفعلناه، فلذلك قال تعالى: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ الله أنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (إنَّ الله يُحِبُّ الَّذين يُقَاتِلُونَ في سَبيلِهِ صَفّا) الصف: 3 - 4 ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما كنت أحسب أن فينا أحدًا يريد الدنيا حتى نزلت (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) آل عمران: 251، وكذلك قاله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حين نزلت (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم) النساء: 66
قال ابن مسعود قال لي رسول الله عليه السلام: قيل لي: أنت منهم؛ أي من القليل الذي كان يفعل ذلك، فإذا كان حبّ البقاء هو الدنيا فينبغي أن يكون حبّ بقاء الباقي هو الزهد فصار الزهد في الدنيا هو الزهد في البقاء، فمن زهد في الحياة الفانية وفي ماله المجموع بالجهاد للنفس والإنفاق في سبيل الله فقد زهد في الدنيا، ومن زهد في الدنيا أحبّه الله تعالى كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ولذلك صار الجهاد أفضل الأعمال لأنه حقيقة الزهد في الدنيا ولأن الله تعالى يحبّ من زهد في الدنيا ثم كان مخالفة الهوى أفضل الجهاد لأنه هو حقيقة الرغبة في الدنيا، وقد عبّر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الزهد في الدنيا إذ قال في الحديث الأول: ازهد في الدنيا يحبّك الله تعالى، ثم قال في الخبر الثاني بمعناه: اجتنب المحارم يحبك الله تعالى، واجتنابهم زهد في الدنيا، فالزاهد في الدنيا حبيب ربه تعالى، والراغب في حبّ البقاء لنفسه منافق في دين ربّه تعالى، ومنه الخبر الذي جاء: من مات ولم يغزُ ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من نفاق، وبه كشف الله تعالى الكاذبين ووصفهم بمرض القلوب.
فقال سبحانه وتعالى: (فَرذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فيهَا الْقِيَالُ رَأيْتَ الَّذينَ في قُلُوبِهِم مَرَضٌ) يعني نفاقًا (ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت، فأولى لهم) محمد: 20 تهدد ووعيد أي ولهم العذاب وقرب منهم ثم قال: (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْروفٌ فَإذا عَزَمَ الأمْر) محمد: 21 وحقّت الحقائق كذبوا ونكثوا، فلو صدقوا الله أي في الوفاء لكان خيًرا لهم، وهذا من الكلام المضمر، فلذلك أشكل والبقاء والحياة اسمان لمعنى، ولذلك جعل الله تعالى الدنيا وصفًا للحياة فتكون الدنيا هي الحياة ونعتها بالدنيا نعت مؤنث لدخول الهاء في الإسم الي هي إحدى علامات التأنيث، فصارت الحياة هي الدنيا وصار قوله الدنيا نعتها بالدناءة، ولو كان الإسم مذكرًا مثل البقاء نعته بمذكر فقال: الأدنى، وقد(1/411)
قال في مثله: (يَأخُذُونَ عَرَض هذا الأدْنى) الأعراف: 169 فالأدنى تذكير الدنيا، والدنيا تأنيث أدنى كالأعين والأقنى والأشعث؛ تذكير عيناء وقنواء وشعثاء، والعرض اسم لما يعرض ويقل بقاؤه فمن أحبّ ذلك فقد أحبّ الدنيا بحبه الأدنى، وهذا يرجع إلى حبّ حياة الأصل لأنه إنما يريد العرض الأدنى لأجل الحياة فصار حبّ البقاء الذي لأجله يريد عرض الأدنى هو الدنيا وصار حبّ العرض لأجل البقاء من الدنيا فجاء من هذا الذي ذكرناه أن حقيقة الدنيا حبّ البقاء لطاعة الهوى وموافقة الهوى في حبّ العرض لأجل البقاء، فدخل أحد هذين في الآخر لأن حبّ البقاء لأجل المتعة، هو من الهوى الذي هو صفة النفس الأمّارة بالسوء وطاعة الهوى الذي هو عيش النفس إنما يكون لحبّ البقاء، لأن العبد لو أيقن بالموت ساعته لآثر الحقّ على الهوى ولو أيس من البقاء لما رغب في العرض الأدنى، فصار حبّ البقاء من الهوى وصار إيثار الهوى إنما هو لحبّ البقاء، فكان ذلك حقيقة الدنيا، وكان أقصر الناس أملا للبقاء أزهدهم في الدنيا حتى لا يدّخر شيئاً لغد لأنه عنده غير باق إلى غد وصار أرغب الناس في الدنيا أطولهم أملاً لأن رغبته اشتدت فيها وحرصه كثر عليها الإمتداد أمله للحياة فيها إذ ولو قصر أمله لغد لاختار الفقر حينئذ واختيار الفقر هو الزهد.
بيان آخر الزهد
أي شيء هو؟ قال الله سبحانه وتعالى: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخسٍ دَرَاِهمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فيهِ مِنَ الزَّاهِدينَ) يوسف: 20 فهذه تسمية لهم بالزهد لتحقّقهم بالمعنى نحتاج أن نكشفه ليكون من يتحقق بمعنى ذلك زاهدًا قوله تعالى: وشروه باعوه، العرب تقول: شريت بمعنى بعت لأنهم يقولون: ابتعت بمعنى اشتريت، فلما باعوه وخرج من أيديهم صاروا زاهدين، كذلك العبد إذا باع نفسه وماله من الله تعالى وخرج من هواه إلى سبيل مولاه فهو من الزاهدين، وكذلك قال المولى عزّ وعلا: (إنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤمِنِنَ أنْفُسَهُمْ وَأمْوَالَهُمْ بِأنَّ لَهمُ الْجَنَّة) التوبة: 111 كما قال عزّ من قائل: (وَنَهى النَّفْس عَنِ الْهَوَى) (فإنَّ الْجَنَة هِيَ المأوَى) النازعات: 40 - 41 فإذا كان العوض واحدًا وهو الجنة ذكر في المعنيين كان بيع النفس والمال وإخراجهما لله تعالى بمعنى النهي عن الهوى فيهما الذي هوالحياة الدنيا وهو اقتناؤه النفس وحبس النفس عليه أعني المال، فاستبدال ذلك بضدّه من إخراج الهوى من النفس وإدخال الفقر على المال هو الزهد في الدنيا، وليس ذلك من أمر النفس الأمّارة بالسوء لأن هذا نهاية الخير فصار نهيًا لها من الهوى الذي هو اقتناء المال للجمع والمنع، وهذا هو الدنيا بوصف النفس الأمّارة بالسوء لأن هذا حينئذ سوء كلّه، فمن كان بهذا الوصف فنفسه غير مرحومة لأمرها بالسوء، وإذا لم تكن مرحومة لم يكن صاحبها بائعها وإذا لم يبعها لم تكن مشتراة فلا يكون صاحب هذه النفس إلا جامعًا للمال ما نعاً له راغباً في الدنيا محبَّاً لها وليس هذا من صفة المؤمن والله أعلم.(1/412)
وصف آخر من البيان والتفصيل
لما حقق الله تعالى الزهد بغنى النفس وإخراج المال في ذكر المبيع والمشترى في قوله تعالى: (يُقَاتِلُونَ في سَبيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيقْتَلُونَ) التوبة: 111 وكان الزهد هو ترك طاعة الهوى وبيع النفس بنهيها عنه من المولى، وكان العوض من ذلك الجنة، كان الزاهد هو الخائف مقام ربه البائع نفسه طوعًا قبل أن يخرج نفسه إليه كرهًا، وكان الله تبارك وتعالى هو المحبوب له القريب منه فصار العبد محبّاً له، فجعله من المقرّبين عنده تعالى، وإذا كانت الدنيا هي طاعة الهوى وحبّ الحياة الدنيّة لمتعة النفس الشهوانية كان الراغب في ذلك آمنًا لمكر الله تعالى مشتريًا للحياة الدنيا بائعاً بذلك الحياة العليا فلم يكن محبَّاً له، وكان من المبعدين عنه بسوء اختياره وحقّ عليه الخسران والجحيم في الآخرة لأنه ضد الزاهد المقرّب الظافر بدار القرب في جوارالحبيب القريب.
ذكر بيان حقيقة الزهد وتفصيل أحكامه ووصف الزاهد
اعلم أن الزهد يكون بمعنيين؛ إن كان الشيء موجودًا فالزهد فيه إخراجه وخروج القلب منه ولا يصحّ الزهد فيه مع تبقيته للنفس لأن ذلك دليل الرغبة فيه؛ وهذا زهد الأغنياء، وإن لم يكن موجودًا وكان العدم هوالحال فالزهد هو الغبطة به والرضا بالفقد؛ وهذا هو زهد الفقراء، وكذلك القول في الزهد في ترك الهوى لا يصحّ إلا بعد الابتلاء به والقدرة عليه، ألم ترَ أن إخوة يوسف عليهم السلام هموا بالزهد فيه بقولهم: ليوسف وأخوه أحبّ إلى أبينا منا لم يسمّهم الله تعالى زاهدين وتكلّموا بالزهد فيه بقولهم: اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضًا يخلُ لكم وجه أبيكم ولم يسموا زاهدين، وأرادوا الزهد فيه بقولهم: أرسله معنا غدًا يرتع ويلعب، ولم يتحققوا بالزهد فيه وعزموا على الزهد فيه وأجمعوا عليه ولم يسمّهم الله تعالى زاهدين مع قوله تعالى مخبرًا عنهم: (فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ وَأجْمَعُوا أنْ يَجْعَلُوهُ في غَيَابَتِ الْجُبِّ) يوسف: 15 لأن هذا كلّه من أسباب الزهد ومقدّماته قد يلتبس ويشكل على من لا يعرف حقيقة الزهد فيظنه زهدًا وليس هو زهدًا لأنه في أيديهم فلما خرج من أيديهم واعتاضوا منه سواه حقّ زهدهم فيه فقال تعالى مخبرًا عن حقيقتهم وشروه أي باعوه: (وَكَانُوا فيهِ مِنَ الزَّاهِدينَ) يوسف: 20 وكذلك الثوب تهمّ ببيعه وتريد بيعه ويغلب عليك بيعه ولا تكون زاهدًا ولكن تكون موصوفًا بالإرادة للزهد حتى تبيعه وتعتاض منه فحينئذ حقّ زهدك فيه، ففي تدبر الخطاب من قوله: وكانوا فيه من الزاهدين أن من أخرج الشيء من يده طوعًا ونفسه تتبعه فله مقام في الزهد بالمجاهدة، ومن أمسك الشيء وأظهرت نفسه الزهد فيه بالإرادة والهمّة فلا مقام له في الزهد لأن الإمساك علامة الرغبة، والرغبة ضدّ الزهد فكيف يوصف بالشيء وضدّه في حال قائمة،(1/413)
فالممسك للشيء المتوّهم للزهد فيه بإظهار نفسه ذلك بأحد وصفين؛ إما أن لا يعرفه الزهد أو لا يعرف خفي شهوة النفس؛ هذا إن لم يموّه على الراغبين والمخرج لقلبه عنه هو المتحقق بالزهد فيه، وهذا هوالذي وصف الله تعالى به إخوة يوسف، والممسك للشيء المغتبط به الذي همّه فيه وقلبه عاكف عليه هو المتحقق بالرغبة فيه؛ وهذا وصف عزيز مصرفي يوسف لما اشتراه فحققه الله تبارك وتعالى بالرغبة فيه لا قتنائه له فقال مخبرًا عنه بعدما اشتراه: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا، وكذلك وصف امرأة فرعون في رغبتها في موسى عليه السلام بقولها قرّة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا، فكذلك كل من أمل شيئًا ادخره لنفسه لا يكون زاهداً فيه حتى يخرجه عن يده وقلبه إذ لم يكن ذلك وصف إخوة يوسف الزاهدين فيه إلا بعد أن أخرجوه استصغاراً له وتعوّضوا منه.
بيان آخرمستنبط من الكتاب
اعلم أن زهد إخوة يوسف عليهم السلام في أخيهم قد كان يقارب زهدهم في يوسف عليه السلام لأنه كان نظيره عند أبيه وقد كانوا همّوا بالزهد فيه أيضًا ليخلو لهم وجه أبيهم منهما، ألم تسمع إلى قولهم: ليوسف وأخوه أحبّ إلى أبينا منّا، وكذلك جاء في الخبر: إنهم أرادوا أن يلقوا أخاه معه في الجب حتى ألقى نفسه عليه يهوذا فشِفع فيه فرحمه ومنعهم منه وكان شديداً منهم منيعاً مهيباً فيهم، وقد قيل إنه استوهبه منهم وقال: دعوه يكون فيه سلوة للشيخ الكبير لا تفجعوه بهما ولا تفقدوه إياهما معاً فوهبوه له ثم إنّ الله تعالى لم يقل مع إرادتهم لذلك وهمّهم به وكانوا فيهما من الزاهدين من قبل أنهم لم يتحققوا بالزهد فيه كالزهد في أخيه لأنه كان في أيديهم لم يخرجوه فكذلك أنت إذا كان الشيء موجوداً عندك وأنت ممسكه لنفسك ثم توهمت أنك زاهد فيه لخواطر الإرادة أو لإرادة الزهد فقد كذبت علي نفسك بتمسكك إياها زاهدًا وكذبتك نفسك بوجودها جهلاً منها بالعلم زهدًا أو كذب وجدك على العلم جهلاً منك بربك عزّ وجلّ أو موّهت على نفس غيرك ممن لا يعرف الزهد؛ وهذا زهد منك في الزهد ورغبة منك أيضًا في الدنيا حتى يخرج الشيء الذي تظنّ أنك زهدت فيه وتعتاض منه محبة الله تعالى وطلب مرضاته تبارك وتعالى أو ما عنده من ثوابه، فحينئذ يصحّ زهدك فيه على العلم، وعند العلماء فتكون صادقًا، فهناك وصفك الزاهد بالزهد وسمّاك الزاهدون زاهدًا، فأما إذا لم يكن الشيء موجودًا لك فإن زهدك فيما لا تملك لا يصحّ والزهد في معدوم باطل من قبل أن تصرفك لا يصحّ فيما لا تملك، فكذلك لايصحّ زهدك فيه، ولعلّه لو كان موجودًا تغير قلبك به وتقلّب فيه إذ ليس الخبر كالمعاينة لأن الخبر قد يشتبه ويوهم والمعاينة تكشف الحقيقة وتحكم على الخلقة ولأن النفس ذات بدوات لما طبعت عليه من(1/414)
حب المتعة بالرفاهية فكذلك لا يجعل ظنَّاً معدومًا كيقين موجود إذ لو كان كيف كان الأمر ولكن قد يكون لك مقام من الزهد في المعدوم بقيامك بشرطه وهو أن لا تحب وجود الشيء ولا تأسى على فقده أو تكون مغتبطًا بعدمك مسروًرا بفقرك يعلم الله تعالى ذلك من غيبك ويطلع على سرّك أنك لا تفرح بوجوده لو وجدته وتخرجه إن دخل عليك وإن قلبك قانع بالله سبحانه وتعالى راضٍ عن الله تعالى بحالك التي هي العدم من الدنيا غير محبّ للاستبدال بها من الغنى بصدق يقينك بفضيلة الزهد، فإذا كنت بهذا الوصف حسب لك جميع ذلك زهداً وكان لك بأحد هذه المعاني ثواب الزاهدين وإن لم تكن للدنيا واجدًا وهذا زهد الفقراء الصادقين وهو التحقق بالفقر.
وقد قال بعضهم: حقيقة الفقير أن يكون مغبتطاً بفقره خائفًا أن يسلب الفقر كما يكون الغني مغتبطًا بغناه يخاف الفقر، وقد كان مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: إذا قيل له إنك زاهد قال: إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز جاءته الدنيا وملكها فزهد فيها، فأما أنا ففي أي شيء زهدت؟ وقد يصحّ الزهد للعارف في الشيء مع وجحّه عنده إذا لم يقتنيه لمتعة نفسه ولم يتملكه ويسكن إلىه بل كان موقوفًا في خزانة الله سبحانه وتعالى، التي هي يده منتظرًا حكم الله تعالى فيه ومحنة ذلك استواء وجوده وعدمه والمسارعة إذا رأى حكم الله تعالى إلى تنفيذه فيكون في ذلك كأنه لغيره من عيلته أو إخوانه أوسبيل من سبيل الله تعالى، وهذا المقام زائد على الزهد فكذلك لم يخرج منه بل كان مخصوصًا فيه بخصوص وهو أيضًا مقام من التوكل وبيان آخر مستنبط من السنّة في ماهية الزهد أي شيء هو الزهد أيضًا تقليل الدنيا وتقريبها واحتقارها بالقلب واستصغارها، من ذلك الخبر الذي جاء في ساعة يوم الجمعة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: هي في آخر ساعة قال: وجعل يزهدها يقللها أي يقرب وقتها ويدينه من الغروب، والمعنى الآخر في الخبر الثاني من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعليّ رضي الله عنه لما نزلت آية الأمر بالصدقة لمناجاة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: كم ترى أن نجعل عليهم من الصدقة مقدمة للمناجاة فقال شعيرة من ذهب قال إنك لزهيد أي مقلّل مصغر للدنيا ولكن نجعل عليهم دينارًا وزهيدكأنه معدول من زاهد للمبالغة في الوصف بالزهد كما عدل شهيد من شاهد ومجيد من ماجد وكما عدل عليم وقدير ورحيم من عالم وقادر وراحم للمبالغة في العلم والقدرة والرحمة.
ذكر وصف الزاهد وفضل الزهد
قوت الزهد الذي لابدّ منه وبه تظهر صفة الزاهد وينفصل به عن الراغب هو أن لا يفرح بعاجل موجود من حظّ النفس ولا يحزن على مفقود من ذلك وأن يأخذ الحاجة من كلّ شيء عند الحاجة إلى الشيء ولا يتناول عند الحاجة إلا سدّ الفاقة ولا يطلب الشيء قبل الحاجة، وأوّل الزهد دخول غمّ الآخرة في القلب ثم وجود حلاوة المعاملة لله(1/415)
تعالى ولا يدخل غمّ الآخرة حتى يخرج همّ الدنيا ولا تدخل حلاوة المعاملة حتى تخرج حلاوة الهوى، وكلّ من تاب من ذنب ولم يجد حلاوة الطاعة لم يؤمن عليه الرجوع فيه وكلّ من ترك الدنيا ولم يذق حلاوة الزهد رجع في الدنيا ولا يدخل حلاوة المعاملة حتى يخرج حلاوة الهوى وخالص الزهد إخراج الموجود من القلب، ثم إخراج ما خرج من القلب عن اليد وهو عدم الموجود على الاستصغار له والاحتقار والتقالل لهوان الدنيا عنده وصغرها في عينه فبهذا يتم الزهد، ثم ينسى زهده في زهده فيكون حينئذ زاهداً في زهده لرغبته في مزهده، وبهذا يكمل الزهد؛ وهذا لبّه وحقيقته؛ وهو أعزّ الأحوال في مقامات اليقين، وهوالزهد في النفس لا الزهد لأجل النفس ولا للرغبة في الزهد للزهد؛ وهذه مشاهدة الصديقين، وزهد المقربين عند وجد عين اليقين، ودون هذا مقامات إخراج المرغوب فيه عن اليد مع نظره إليه وعلى مجاهدة النفس فيه؛ وهو زهد المؤمنين، وذلك العمل بالزهد عقد وعمل إذ كان الزهد عن الإيمان، والإيمان قول وعمل، وكذلك الزهد عقد وعمل، فعقده خروج حبّ الدنيا من القلب بدخول حبّ الآخرة في القلب، والعمل بالزهد إخراج المحبوب من اليد في سبيل الله تعالى معتاضًا منه ما عنده سبحانه وتعالى من وجهه الكريم جلّ وتعالى أو قرب جواره في داره وإن لم تكن الدنيا موجودة فإن ترك الأسف عليها وقلة الحرص فيها، وترك الطلب والتمنّي لها، وسكون القلب مع العدم ورضاه بيسير القسم بحسب للعبد زهدًا لأن ذلك حال الفقير، فإذا قام بحكمه لم يجب عليه أكثر من القيام به، والورع هو من الزهد كما الزهد من الإيمان والحياء والإيمان في قرن واحد، كما جاء في الخبر إذا نزع أحدهما تبعه الآخر.
وروينا في ذلك حديثًا من طرق أهل البيت: الزهد والورع يجولان في القلب كل ليلة، فإن صادفًا قلبًا فيه الإيمان والحياء أقاما فيه وإلا ارتحلا، والقناعة باب من الزهد أيضا، والرضا باليسير من الأشياء حال من الزهد والتقلّل في الأشياء مفتاح الزهد، وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: قد حجبت قلوبنا بثلاثة أعطية فلن يكشف للعبد اليقين حتى ترفع هذه الحجب الفرح بالموجود والحزن على المفقود والسرور بالمدح، فإذا فرحت بالموجود فأنت حريص والحريص محروم، وإذا حزنت على المفقود فأنت ساخط والساخط معذب، وإذا سررت بالمدح فأنت معجب والعجب يحبط العمل، وقال الله تعالى: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتاكُمْ) الحديد: 23 أي منها وهذان الوصفان هما أتمّ حال في الزهد من أعطي أحدهما تبعه الآخرة لأن الذي لايأسى على ما فاته من الدنيا، هو الذي لا يفرح بما أتاه منها لأنه مثله والذي لا يفرح بما أتاه منها هو الذي لا يحزن على ما فاته، وهذا وصف عبد غير متملك لملك وسيما(1/416)
عبد قائم بحكم ربّ ونعت عبد موقن محبّ قد شغلته مشاهدة الآخرة عن التفرّغ لمتعة الدنيا وقد فرغته معاينة الآخرة من الاشتغال بما يغني، وفي أحد الوجوه من قوله تعالى: (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنَى) النجم: 48 قيل: أغنى أهل الآخرة بالله سبحانه وتعالى وأغناهم عن الدنيا بالآخرة وأقنى أهل الدنيا من الدنيا أيّ جعل لهم قنية ومدّخراً وعدة كما وصف من ذمه من قوله تعالى: (جَمَعَ مَالاً وَعَدّدَهُ) الهمزة: 2 أي قال هذا عدّة لكذا وهذه عدّة لكذا فهدّده بالويل فحصل من ذلك أن الزاهد في المال عدّته الله تعالى في كل الأحوال وكنزه وذخره وطوبى له وحسن مآب.
وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه قال: كفى باليقين غنى وكفى بالعبادة شغلاً وكفى بالموت واعظاً؛ وهذا جملة وصف الزاهد الموقن، الذي هو للموت مرتقب مع الخبر المشهور، ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس، وقد جعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزهد في الدنيا علمًا لحقيقة الإيمان وقربه بمشاهدة الإيقان في قوله عليه الصلاة والسلام لحارثة: عرفت فالزم عبد نوّر الله قلبه لما قال أنا مؤمن حقًّا قال: وما حقيقة إيمانك، فابتدأ بالزهد فقال: عزفت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي حجرها وذهبها وكأني بالجنة والنار وكأني بعرش ربيّ بارزًا، وأشدّ من هذا الخبر الآخر الذي جعل النبي الزهد من علامة شرح الصدر بالنور، وهو نور التصديق الذي هو عموم وصف المؤمنين لأنه هو في التحقيق الإسلام، ففسّر قوله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ الله أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلام) الأنعام: 521 قيل: يا رسول الله ما هذا الشرح؟ قال: إن النو إذا دخل القلب انشرح له الصدر وانفتح، قيل يا رسول الله هل لذلك من علامة؟ قال: نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله؛ فهذا هو الزهد جعله شرطًا لحقيقة الإسلام.
وأشد من هذين الخبرين الخبر الثالث الذي فسرّ الحياء من الله تعالى بالزهد في الدنيا فقال: استحيوا من الله تعالى حقّ الحياء قلنا: إنّا لنستحي قال: تبنون ما لا(1/417)
تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون، وبمعنى هذا تمّم إيمان الوفد الذي سألهم ما أنتم؟ فقالوا: مؤمنون، قال: وما علامة إيمانكم؟ فذكروا الصبر على البلاء والشكر عند الرخاء والرضا بمواقع القضاء وترك الشماتة بالمصيبة إذا نزلت بالأعداء فقال عليه الصلاة والسلام: إن كنتم كذلك فلا تجمعوا ما لا تأكلون ولا تبنوا ما لا تسكنون ولا تنافسوا فيما عنه ترحلون؛ فهذا هو الزهدجعله تكملة إيمانهم وعلوّ مقامهم وتمامًا على إحسانهم وأعظم من هذه كلّها الخبر الرابع الذي جعل فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزهد من شرط إخلاص التوحيد في حديث رويناه عن ابن المنكدر عن جابر قال: خطبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: من جاء بلا إله إلا الله لا يخلط معها غيرها وجبت له الجنة، فقام إليه عليّ كرّم الله وجهه فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما لا يخلط بها غيرها صفه لنا فسّر هـ لنا فقال: حبّ الدنيا وطلبًا لها واتباعاً لها وقوم يقولون قول الأنبياء، ويعملون أعمال الجبابرة، فمن جاء بلا إله إلا الله ليس شيء فيها من هذا وجبت له الجنة، فلذلك كان علي رضي الله عنه يجعل الزهد مقاماً في الصبر، ويجعل الصبر عمدة الإيمان في حديثين رويناهما عنه؛ أوّلهما قوله في الحديث الطويل الذي رواه عكرمة وعتبة بن حميد والحرث الأعور وقبيصة بن جابر الأسدي في مباني الإيمان أنه قال: الإيمان على أربع دعائم، على الصبر، واليقين، والعدل، والجهاد، ثم قال فيه: والصبر منها على أربع شعب؛ على الشوق، والشفق، والزهادة، والترقب، فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرّمات ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومن ترقّب الموت سارع في الخيرات.
والخبر الآخر في الصبر الذي جعله عمود الإيمان ينهدم الإيمان بهدمه هو قوله: والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، لا جسد لمن لا رأس له، ولا إيمان لمن لا صبر له، وروينا في خبر مقطوع: السخاء من اليقين ولا يدخل النار موقن، والبخل من الشك ولا يدخل الجنة من شك، فكان هذا الحديث مفسّرًا للخبر المجمل السخيّ، قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، قريب من النار، فسرّ في ذلك الخبر بأيّ معنى يكون السخيّ قريباً من الله تعالى، قريباً من الجنة لأن السخاء من اليقين وبأيّ معنى يكون البخيل بعيدًا من الله تعالى، قريبًا من النار لأن البخل من الشك، فالسخاء وصف الزاهد ولا يكون الزاهد إلا سخيّاً، والبخل وصف الراغب، ولا يكون الحريص إلا بخيلاً ولايكون البخيل زاهدًا لأن(1/418)
الزهد يدعو إلى إخراج الشيء، والبخل يدعو إلى إمساكه، فنفس السخاء زهد، فلذلك ذمّ البخل لأنه رغبة في الدنيا، ثم إن الحرص علامة البخل لأنه دليل الرغبة، والقناعة علامة السخاء لأنها باب الزهد، فلذلك قيل: سخاء النفس عمّا في أيدي النفس أفضل من سخاء البذل، ثم يفترقان في الحكم بعد اجتماعهما في الإسم، فمن جاد بملكه لله تعالى كان زاهداً فيه لله تعالى ووقع أجره على الله، ومن جاد بما له لأجل الناس كان أيضاً زاهدًا في ذلك موصوفاً بالسخاء، ولكن ذلك لنفسه ولأجل هواه ولا أجر له عند الله تعالى إذ لم يكن من عمّال الله تعالى فبطل أجره لأنه عمل لنفسه وحصل شكره وذكره في الدنيا لأنه عمل لأجل الناس.
كما قال ابن المبارك رحمه الله: ما رأيت بين الفتوة والقراءة فرقاً إلا في شيء واحد ماحظرت القراءة شيئاً إلا قبحته الفتوة وإنما يفترقان في أن القراءة يراد بها وجه الله تعالى، والفتوة يراد بها وجوه الناس ومدحهم وقد كان أستاذه سفيان الثوري رحمه الله يقول: من لم يحسن يتفتى لم يحسن يقترّى أيّ من لم يعرف أحكام التفتي فيقوم بها حتى يستحق وصف فتى لم يحكم أوصاف التقري حتى يوصف بأنه قارئ، ثم إن العبد قد يجاهد نفسه على الزهد كما يجاهدها على مخالفة الهوى وكما يجاهدها بالصبر على الحقّ بأن يهرج المرغوب وينفق المحبوب على كراهة من النفس وجمل بالزهدعليها فيكون له مقام في الزهد ينال البرّ ويستوجب مدحًا من البرّ، والمتزهد غير الزاهد، وهو الذي يتصنْع للزهد ويعمل في أسبابه من التقلّل ورثاثة الحال في كل شيء، فمثله مثل المتصّبرين من الصابر الذي يجهل على نفسه بالصبر ويصابرها على العلم، فيكون له مقام من الصبر، وصفوة الزهد انتظارالموت وقصر الأمل لأن فيهما ترك الادخار وتحسين الأعمال.
وقال ابن عيينة: حدّ الزهد أن يكون شاكراً عند الرخاء صابراً عند البلاء.
وقال بشر بن الحارث رحمه الله: الزهد في الدنيا هو الزهد في الناس، من زهد فيهم فقد زهد في الدنيا، وكذلك قال بعض الحكماء: إذا طلب الزاهد الناس فاهرب منه، وإذا هرب من الناس فاطلبه، وقيل ليحيى بن معاذ رحمه الله: متى يكون الرجل زاهدًا؟ فقال: إذا بلغ حرصه في ترك الدنيا حرص الطالب لها كان زاهدًا، وقال قاسم الجوعي: الزهد في الدنيا هو الزهد في الجوف بقدر ما تملك من بطنك، كذلك تملك من الزهد فكانت الدنيا عنده الشبع وأكل الشهوات، وقال فضيل بن عياض رحمه الله: الزهد هو القناعة فكانت الدنيا عنده هو الحرص والشره، وقال الثوري: الزهد هو قصر الأمل فكانت الدنيا عنده طول الأمل، وكان أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى يقول: الدنيا كلّ ما يشغلك عن الله تعالى(1/419)
فكان الزهد عنده التفرغ لله تعالى، وقد قال: إنما الزاهد من تخلى عن الدنيا واشتغل بالعبادة والاجتهاد، فأما من تركها وتبطل فإنما طلب الراحة لنفسه، وكان داود الطائي رحمه الله تعالى يقول: كلّ ما شغلك عن الله تعالى من أهل أو مال فهوعليك شؤم.
وقال أبو سليمان: من تزوّج أو كتب الحديث أو طلب معاشًا فقد ركن إلى الدنيا وقرأ قوله تعالى: (إلامَنْ أَتى الله بَقَلْبٍ سليمٍ) الشعراء: 89 قال: هو القلب الذي ليس فيه غير اللّّه تعالى، وقال: إنما زهدوا في الدنيا لتفرّغ قلوبهم من همومها للآخرة، وقد قال أويس القرني رحمه الله تعالى: إذا خرج يطلب ذهب الزهد وكان إمامنا وشيخ شيخنا أبومحمد سهل بن عبد الله رحمه الله يقول: أوّل الزهد التوكّل وأوسطه إظهار القدرة وقال: لا يزهدالعبد زهدًا حقيقيًا لا رجعة بعده إلابعد مشاهدة قدرة، فإن أوّل القدرة عندي أن يشهد ما سمع من كلام القادر المزهد إذ يقول تبارك وتعالى: (ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله) الرعد: 71، فالحلية الذهب والفضة؛ وهما قيم الأشياء اللذان ملكا النفوس ونكسا الرؤوس فالمتاع ما سواهما من معادن الأرض، فإذا شهد العبد الذهب الذي هو سبب الدنيا ولأجله أشرك من أشرك وبحبائله ارتبك من ارتبك ولوقوع حلاوته في القلب وقع من وقع، فإذا شهد جوهر الذهب والفضة زبداً طافيًا على وجه الماء لا نفع فيه ولا غنية به ولا قيمة له زهد فيه حينئذ زهدا صادقًا فكان زهده معاينة لا خبرًا وكان من المؤمنين حقًّا الذين وصفهم الحقّ بالحقّ في قوله تعالى: (اِذا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوُبُهُمْ وَإذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًاَ) الأنفال: 2 فالزهد مزيد الإيمان ثم قال: وعلى ربّهم يتوكّلون، فالزهد يدخل في التوكّل ثم قال: فاتخذه وكيلاً واصبر على ما يقولون، فالتوكل يوقف على الصبر، وكان هذا قد سمع من كلام الله تعالى ففعله فأبلغه الله تعالى مأمنه في المقام الأمين في جنات وعيون، واستحق وصف الله تعالى بالإيمان إذا تلا القرآن بحقيقة الإيقان فقال عزّ وجلّ: (الّذينَ آتَيْنَاهمُ الكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تلاوَته أولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) البقرة: 121 وذلك أن هذا الزبد تشبيه من الله تعالى لمثل ضربه للحّق والباطل، فالمثل هو الماء والزبد فمثل الحقّ في نفعه وبقائه بالماء، ومثل الباطل في ذهابه وقلة نفعه بالزبد، ثم شبّه الذهب لذهابه عن الحقيقة بالزبد تشبيه مماثلة لا تشبيه مجاز لقوله: زبد مثله، والمماثلة مستقصاة، ثم قال: كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم الحسنى أي الجنة والبقاء.
وقال تعالى: (لِلَّذين لايُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السّوْء) النحل: 06 هم المريدون للحياة الدنيا وزينتها، الراضون المطمئنون بها، ليس لهم في الآخرة إلا النار، فسبحان من نفد بصره الأبصار وسبحان مقلب الليل والنهار، وسبحان من كلّ شيء عنده بمقدار، يبصر ما لا نبصر، كما يقدر على ما لا نقدر، خصّ المشاهدين بمعنى مشاهدته كما خصّهم(1/420)
بالإحاطة بشيء من علمه فأحاط عليهم بما شاء، لما أحاط لهم ما شاء فكان الذهب والفضة زبداً طافياً تفرّقه الرياح فيكون فوق الماء متجافياً؛ وهما من معادن الجبال فكانت الجبال عندهم أمواجاً ثابتة بإثبات وساكنة بتسكين تحسبها جامدة، وهي تمر مرّ السحاب صنع الله الذي أتقن كلّ شيء وصارت الأرض بحراً عجاجاً يضرب بالأمواج فيظهر بينهما من المدن والقفار للاستواء والاعوجاج وصار الأنام يسبحون في الأسراب يدبون بين المناكب والأحداب، أظهر فيهما من كل شيء موزون بمقدار، كتنفس النهار في اللّيل وكالغشاء على السيل، ذلك لظهور حكمته وخفيّ قدرته ولطيف صنعه ودقيق صنعته ذلك لشهود نعمته من القيام بشكره وجعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وهم من كلّ حدب ينسلون، إن ربّي لطيف لما يشاء فاجتمع الفرق وارتتق الفتق وغاب كل متفرّق ونطق وكان عرشه على الماء ليبلوكم، فهذه مشاهدة أبناء الآخرة هي أعلى من زهدهم في الدنيا، وافترق الجمع وافتتق الرتق وظهر من الماء كلّ شيء حيّ ظاهر واتسع الفضاء واستتر الغطاء ووجد التفصيل وحكم الحسبان بالتحصيل، كانتا رتقًا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حيّ، أفلايؤمنون هذه مشاهدة أبناء الدنيا هي أعظم عليهم إذا تيقظوا من غيبهم وجاءت سكرة الموت بالحقّ، ذلك ماكنت منه تحيد لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك عطاءك فبصرك اليوم حديد، والنازعات غرقًا والناشطات نشطًا والسابحات سبحاً؛ هذه مشاهدة العموم عند الموت فيعظمه عليهم بالحسرة والفوت، وقد فرغ الخصوص من نصيبهم لمشاهدته فهم ناظرون إلى مستقبل المزيد مشغولون به عن العبيد قائمون بشاهد الحق لهم متصرفون بإشهاده إياهم ظاهرًا وباطنًا ولطيفاً ومستتراً ومعروفًا ومنكراً واللّّه غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون فما غلب عليه لا يظهر وما غلبه عليهم إيامهم قهر، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصدق كلمة قالها الشاعر:
ألا كل شيء ماخلا الله باطل
وقال: فالحقّ والحقّ أقول: خلق سبع سموات ومن الأرض مثهنّ يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله علي كلّ شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكلّ شيء علماً، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: لو فسّرت لكم هذه لآية لكفرتم قيل: وكيف؟ قال: كنتم تنكرونها وإنكاركم له كفر بها، وفي لفظ آخر: لو فسّرت الآية التي في سورة النساء القصري لرجمتموني بالحجارة معناه لكفرتموني لأنهم لا يقتلون إلا كافرًا عندهم، وروينا عنه قي قوله تعالى جميعاً منه قال: في كل شيء اسم حرف من أسمائه، فاسم كل شيء من اسمه فإنما أنت بين أسمائه وصفاته وأفعاله ناطقاً بقدرته وظاهراً بحكمته وبمعناه، كان أبو محمد رحمه الله تعالى يتأوّل قوله: ما نزل من السماء أعزّ من اليقين فغابت السبع سبعاً في السبع العلي والسبع السفلي لما طوى نفس الهوى وغابت(1/421)
العليا والسفلى في ملكوت العرش والثرى لما طوي طيّ النفس وغاب العرض والثرى في جبروت الأعلى لما محي طيّ الطي وحضر الأزلي الأول إذا غاب الحدثان الثاني وظهرالباطن الآخير حين بطن الظاهر الساتر فصار العبد شهيداً لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا كل شيء ماخلا الله باطل، وأراه الآيات في الأفاق فتبين الحقّ بقول الحقّ سبحانه وتعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أنفسِهمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُ الحَقُّ أَوََلمْ ىَكْفِ بِرَبِّك أنَّهُ عَلَى كُلِّ شيءٍ شَهيدٌ) فصلت: 53، (ألا إنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاء رَبِّهِمْ ألا إنَّهُ بِكُلِّ شَيْءِ مُحيطٌ) فصلت: 54
وكذلك قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرجل الذي قال: اللهم أرني الدنيا كما تراها فقال: لا تقل هكذا فإن الله تعالى لايرى الدنيا كما تراها ولكن قل أرني الدنيا كما يراها الصالح من عبادك؛ وهذه شهادة أهل الله تعالى، وغابت فيه الشهادة الأولى كما غيبت تلك الأولى مشاهدة أهل الدنيا فكشف هذا المقام وإظهار هذه الشهادة لا تحلّ إلا لشهيد ذي مقام في الصديقين عتيد، وقال الحكيم: لقد عزّت معانيه فغابت عن الأبصار: إلا الشهيد وهم أولو المطلع في القرآن الذين سلموا من هول المطلع في العيان، وإفشاء سرّ الربوبية معصية وإعلان سر السر كفر ولكن يحتاج هذا الزاهد أن يشهد المزهود بمنزلة الزبد إن لم يبلغ نظره شهادة المزهد الأحد ليكون من أهل السمع والشهادة فينسى بذكر قلبه معارفه والعادة يكون عند الله شهيدًا له أجره ونوره كما قال الشاهد الأعلى والشهداء عند ربّهم لهم أجرهم ونورهم فكيف يكون شهيداً من لم يشهد بشهادته بل كيف يشهد وصف الأولية بغير نورها أم كيف يقوم بشهادته من لم يشهد قيوميته بل كيف يرى قيوميته بغير نور وحدانيته؟ فإن لم يقرب في هذا المكان فكما قال أو ألقى السمع وهو شهيد فيسمع من مكان هو إلى جنب القرب بعيد ويكون من أهل البيان والفكر كقول الحقّ المبين: (كذلك يبّين لكم الآيات لعلكم تتفكّرون في الدنيا والآخرة) البقرة 219 - 220 أيّ تتفكّرون في فناء الدنيا وزوالها وبقاء الآخرة ودوامها فتؤثرون الباقي الدائم وترغبون فيه على الزائل الفاني وتزهدون فيه لأن ما يكون آخره فناء يشبه آخره أوّل أمره وأوّله لم يكن ومايكون آخره بفاء فكأنه لم يزل فأشبه أوّله آخره في البقاء، وكذلك قال العليم الحكيم: (والآخِرَةُ خَيْرٌ وَأبْقى) الأعلى: 17 فوصفها لبقائها في المآل بوصفين من صفاته.
كما قال تعالى: (وَالله خَيْرٌ وَأبْقى) طه: 73، ولأنه قال تعالى: (مَا عِنْدَكمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ الله بَاقٍ) النحل: 96 فنسب الدنيا إلينا ليذلنا بها لأنّا أهل الغناء وليزهدنا فيها، وأضاف الآخرة إليه ليعزها به لأنه أهل البقاء وليرغبنا فيها، فإذا شهد العبد بعين قلبه ويقين إيمانه ما صدّق به مما عقله الذي هو فهم سمعه وإدراك خبره ما يفنى آخره كأنه لم يكن وما يبقى آخره كأنه لم يزل كان من المتفكّرين في هذه الآية المشاهدين لها، وممن تلاها حقّ(1/422)
تلاوتها فآمن حقيقة الإيمان وزهد في الدنيا حقيقة الزهد ورغب في الآخرة حق الرغبة وكان من أولي الأيدي والأبصار أي من ذويّ القوى في الدين والبصائر في اليقين، فلما أبصر بقواه عبر الدنيا إلى اللّّه تعالى وكان زاده تقواه، كما قال تعالى: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) الذاريات: 49 أي تذكرون الفرد ففرّوا إلى الله أي من الأشكال والأضداد، وكما قال: فاعتبروا يا أولي الأبصار فعبر لما أبصر معه عندها كان ممن أخذ الكتاب بقوّة قيل: بعمل فيه وقيل: بيقين فيه ويقال: بجدّ واجتهاد، فكان من المحسنين الذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة وتلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الذين يذكرون الله قياماً وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكّرون في خلق السموات والأرض) آل عمران: 191 الآية، وقال: ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها ويل لمن تلاها ومسبّح بها سبلنه وذلك أن السموات والأرض عبّر بهما عما وراءهما من درجات الجنات ودركات النيران، وهو الملكوت إلى الملك الباطن والملك الكبير فكشف هذان عمّا علا وسفل وأحاط بهما من العرش والثرى لمن تفكّر فيهما ثم كشف ذلك له ورآه من العزة وجاوز الأفكار الملكوت لما شرحت القلوب بأنوار اليقين إلى الأفق الأعلى والجبروت فنفذت أبصار المتفكرين بقواها إلى مشاهدة ذلك وبقيت أنوار يقنيهم معاينة ما أحاط بذلك وهو ما قدمنا ذكره آنفاً مما لم يظهر كشفه كنحوما نبّه الله تعالى العباد بما يشهدون إلى ما وراءه ممّا به أيقنوا وللمؤمنين مشاهدة للدنيا قريبة دون هذه من طريق العقول يشهدون أنها عقوبة كما قيل: ما فتحت الدنيا على عبد إلا مكرًا به ولا زويت عنه إلا نظرًا له.
وسمعنا في أخبار داود عليه السلام: أن الله تعالى أوحى إليه: تدري لم ابتليت آدم بأكل الشجرة لأني جعلت معصيته سبباً لعمارة الدنيا فينبغي في دليل لخطاب أن تكون الطاعة سبب خرابها وهو الزهد فيها، فصحّ بذلك الخبر المشهور: حبّ الدنيا رأس كلّ خطئة لأنه كان أساسها ولكن لايسع ذلك العامة لأنهم مرادون بالعمارة وصلح لنفرمن الخاصة لأن نقصان عددهم من الكافة لا ينقص عمارة الدنيا إذ المراد عمارتها بأهلها، ويقال عن آدم عليه السلام: لما أكل الشجرة تحرّكت معدته لخروج الثفل ولم يكن ذلك مجعولاً في شيء من أطعمة الجنة إلا في هذه الشجرة، فلذلك نهيا عن أكلها قال: فجعل يدور في الجنة فأمر الله تعالى ملكاً يخاطبه فقال له: أيّ شيء تريد؟ فقال آدم عليه السلام: أريد أن أضع ما في بطني من أذى فقيل للملك: قل له في أيّ مكان تضعه علي الفرش أم على السرر أم على الأنهار أم تحت ظلال الأشجار هل ترى ههنا موضعاً يصلح لذلك ولكن اهبط إلى الدنيا، قال: وتلطف الله تعالى له بهذا المعنى فأهبطه إلى الأرض وقد نغص اللّّه تعالى فاكهة الدنيا وغيرها بحشو العجم والثفل ليزهد فيها وأخبر أنها مقطوعة ممنوعة ليرغب في الدائم الموهوب.
وكان بعض العلماء يقول: ما سطع لي زينة من زخرف الدنيا إلا كشف لي باطنه(1/423)
فظهر لي عزوف عنه فهذه عناية من الله تعالى بمن وليه من أوليائه المقرّبين منه، فمن شهد الدنيا بأوّل وصفها لم يغتّر بآخره، ومن عرفها بباطن حقيقتها لم يعجب بظاهرها، ومن كوشف بعاقتبها لم يستهوه زخرفها، وكان عيسى عليه السلام يقول: ويلكم علماء السوء مثلكم مثل قناة حش ظاهرها جص وباطنها نتن، وقال مالك بن دينار رحمه الله: اتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء يعني الدنيا، فمن حرص على الدنيا بالباطل فقد قتل نفسه، فإن قوى حرصه عليها واشتد عشقه لها قتل غيره، قال الله تعالى: (لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالْبَاطِل وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) النساء: 29 وقال في قتل غيره بصده إياه عن سبيل الله: (إن كثيرًا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدّون عن سبيل الله) التوبة: 43 وروينا في أخبار عيسى عليه السلام: إنه مرّ في سياحته ومعه طائفة من الحواريين بذهب مصبوب في الأرض فوقف عليه ثم قال: هذا القاتول فاحذروه، ثم عبروا أصحابه فتخلف ثلاثة لأجل الذهب فأقام اثنان ودفعا إلى واحد شيئاً منه يشتري لهم من الطيّبات من أقرب الأمصار إليهم فوسوس إليهما العدوّ: ترضيان أن يكون هذا المال بينكم أثلاثاً اقتلوا هذا فيكون المال بينكم نصفين، فأجمعا على قتله إذارجع إليهما، قال: وجاء الشيطان إلى الثالث فوسوس إليه أرضيت لنفسك أن تأخذ ثلث المال اقتلهما فيكون المال كلّه لك قال: فاشترى سمّاً فجعله في الطعام فلما جاءهما به وثبا عليه فقتلاه ثم قعدا يأكلان الطعام فلما فرغا ماتا، فرجع عيسى عليه السلام من سياحته فنظر إليهم حول الذهب صرعى والذهب بحاله فعجب أصحابه وقالوا: ما شأن هؤلاء فأخبرهم بهذه القصة، وقيل لابن المبارك: من الناس؟ قال: العلماء؟ قيل: فمن الملوك؟ قال: الزاهدون، وروينا عن ابن المسيب عن أبي ذر قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من زهد في الدنيا أدخل الله تبارك وتعالى الحكمة قلبه وأنطق بها لسلانه وبصره داء الدنيا ودواِءها وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام.
وروينا في الخبر: الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له، وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى يقول: رأيت سبعين بدريًا كانوا والله فيما أحلّ تعالى لهم أزهد منكم فيماحرّم اللّّه تعالى عليكم، وفي حديث آخر: كانوا بالبلاء والشدة تصيبهم أشد فرحاً منكم بالخصب والرخاء لو رأيتموهم قلتم مجانين، ولو رأوا خياركم قالوا: ما لهؤلاء من خلاق ولو رأوا أشراركم قالوا ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب قال: وكان أحدهم يعرض له المال الحلال فلا يأخذه ويقول: أخاف أن يفسد على قلبي، فمن كان له قلب حفظه من فساده وخاف من تغيرّه وإبعاده وعمل في صلاحه وإرشاده، ومن لم يكن له قلب فهو يتقلّب في ظلمات الهوى فربما انقلب على وجهه خسر(1/424)
الدنيا والآخرة، أو يكون من أهل الرضا بالدنيا وأهل الغفلة عن آيات الله تعالى فيكون قد رضي بلاشيء وآثره على من ليس كمثله شيء كوصف من أخبر الله تعالى عنه قي قوله تعالى: (ورَضُوا بالحَياة الدُّنْيَا وَاطمَأَنُّوا بِها وَالْذينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنا غَافِلُونَ) يونس: 7 فيستحق الإعراض من الحبيب ويستوجب المقت من القريب كمثل من أمر الله تعالى بالإعراض عنهم وترك القبول منهم إذ يقول عزّ من قائل: (فَأعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلا الْحَيَاة الدُنْيا) (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) النجم: 29 - 30 وقال عزّ وجلّ: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلَبهُ عِنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبِع هَواهُ وَكانَ أْمرُهُ فرُطًا) الكهف: 28 أي مجاوزاً لما نهي عنه مقصرا عمّا أمر به وقيل: مقدماً إلى الهلاك، وقد نهى الله تعالى رسوله أن يوسع نظره إلى أهل الدنيا مقتاً لهم وأخبر أن ما أظهره من زهرة الدنيا فتنة لهم وأعلمه أن القناعة والزهد خير وأبقى، تنتظم هذه المعاني في قوله تعالى: (وَلاتُمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتَنهُمْ فيهِ وَرِزْقُ رَبََّكَ خَيْرٌ وأبْقى) طه: 131، قيل: القناعة وقيل: فوت يوم بيوم ويقال: الزهد في الدنيا وهذا الوجه أشبه بكتاب الله تعالى بدليل قوله تعالى: (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأبْقى) الأعلى: 17 وكذلك قوله تعالى: (وَرِزْقُ رَبِّكَ خىْرٌ وَأبْقى) طه: 131 يعني الزهد في الدنيا، وقال أيضًا في مثله: (بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لكُمُ) هود: 86 يعني القناعة وقيل: الحلال، وفي خبر: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر في أصحابه بعشار من النوق حفل وهي الحوامل وكانت من أحبّ أموالهم إليهم وأنفسه عندهم لأنها تجمع الظهر واللحم واللبن والولد والوبر؛ وهي الرواحل من الإبل التي ضرب النبي عليه السلام بها مثل خيار الناس فقال عليه السلام الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة أي الإبل كثيرة والراحلة التي تجمع هذه الأوصاف الخمسة من الإبل قليل وهي العشار التي ذكر الله تعالى في قوله: (وَإذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ) التكوير: 4 أي تركها أهلها وهربوا لهول قيام الساعة شغلاً بنفوسهم عنها قال: فأعرض عنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغض بصره فقيل له: يا رسول الله هذه أنفس أموالنا لما تنظر إليها؟ فقال: قد نهاني الله تعالى عن ذلك، ثم تلا هذه الاية: (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك) الحجر: 88، وفي حديث عمر رضي الله عنه: لما نزلت هذه الآية: (والَّذينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والْفِضَّةَ) االتوبة: 43، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تباً للدينار والدرهم قال: فقلنا نهانا الله تعالى عن كنز الذهب والفضة فأي شيء ندخر فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليتخذ أحدكم لسانًا ذاكراً وقلباً شاكراً وزوجة صالحة تعينه على أمر الآخرة وفي حديث حذيفة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من آثر الدنيا على الآخرة ابتلاه الله تعالى بثلاث همّاً لا يفارق قلبه أبداً وفقراً لا يستغنى أبداً وحرصاً لا يشبع أبداً.
وروينا حديثًا مرسلاً عن علي بن معبد عن علي بن أبي طلحة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يستكمل العبد الإيمان حتى يكون أن لا يعرف أحبّ إليه من أن يعرف، وحتى(1/425)
يكون قلة الشيء أحبّ إليه من كثرة الشيء، وروينا عن عيسى عليه السلام: الدنيا قنطرة خلقت يعبر عليها إلى الآخرة فاعبروها ولا تعمروها، وقال له رجل: احملني معك في ساحتك فقال: أخرج مالك والحقني قال: لا أستطيع فقال عيسى عليه السلام بشدة: يدخل الغني الجنة أو قال بعجب: وقالوا له: لو أمرتنا يا نبي الله أن نبني بيتًا نعبد الله فيه فقال: اذهبوا فابنوا بيتًا على الماء قالوا: كيف يستقيم بنيان على الماء قال: فكيف تستقيم عبادة على حبّ الدنيا وقال: لا يبلغ أحدكم حقيقة الإيمان حتى لا يحبّ أن يحمد بعبادة اللّّّه تعالى ولايبالي من أكل الدنيا، وكان بشر بن الحارث يقول: لا تحسن التقوى إلا بزهد وقال مرة: العبادة لا تليق بالأغنياء مثل العبادة على الغني مثل روضة على المزبلة، ومثل العبادة على الفقير مثل عقد الجوهر في جيد الحسناء، وقد استنبطنا ذلك من كتاب الله تعالى فمعنى وصف الفقراء في العبادة في قوله سبحانه وتعالى: (للِْفُقَرَاء الَّذينَ أُحْصِرُوا في سَبيلِ الله) البقرة: 273 ثم قال: (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا) الفتح: 29 فحسنت لبسة العبادة عليهم لحسن سيماهم بالفقر، وروينا في وصية لقمان لابنه وهو يحذّره مداخل العدو قال: وإذا جاءك من قبل الفقر فأخبره أن الغني من أطاع اللّّه تعالى والفقير من انتهك معصيته وإذا شهى إليك الغني فأخبره أنه لا يحسن جمع الغنى والقراءة، وقال بعض السلف: أبي أهل العلم بالله تعالى أن يسمعوا الحكمة والوعظ إلا من الزاهدين في الدنيا وقالوا: ليس أهل الدنيا لذلك أهلاً ولا يليق بهم.
وروينا عن عيسى عليه السلام فيما أوحى الله تعالى إليه: يا ابن آدم ابك أيام الحياة بكاء من ودّع الدنيا وارتفعت رغبته إلى ما عند الله تعالى، اكتف بالبلغة من الدنيا ليكفك منها الجشب والخشن بحقّ أقول لك ما أنت إلا بيومك وساعتك مكتوب عليك ما أخذت الدنيا وفيما أنفقته فاعمل على حسب هذا، فإنك مسوؤل عنه، لو رأيت ما وعدت الصالحين لزهقت نفسك، فكان عيسى عليه السلام يقول: حلاوة الدنيا مرارة الآخرة وجودة الثياب خيلاء القلب يعني إعجابه وكبره وملء البطن جمام النفس يعني قوتها واجتماعها، بحقّ أقول لكم: لكما لا يلذ المريض بطيب الطعام كذلك لا يجد حلاوة العبادة من أحبّ الدنيا، ومن الزهد في الدنيا ترك الملبس الناعم والمنظور إلىه المرتفع واجتناب النزهات من لطائف الطعام والتفتق في الشهوات التي يرغب فيها المتنعمون(1/426)
وترك الزينة والمفاخر من الآلة والأثاث الذي يستأنس فيه المترفون، ومن الزهد أن يكون الشيء الواحد يستعمل في أشياء كثيرة، كذلك كان سيرة السلف في الأثاث وهو التقلّل، كما أن أبناء الدنيا يستعملون للشيء الواحد أشياء كثيرة؛ وهو وصف من التكاثر وذلك من أبواب الدنيا، وقال بعض السلف: أول النسك الزي، وقال بعض العلماء: من رقّ ثوبه رقّ دينه، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لا يشبه الزيّ الزيّ حتى يشبه القلب القلب.
وفي الخبر المشهور: البذاذة من الإيمان قيل: هو التقارب في اللباس، والحديث المفسر من ترك ثوب جمال وهو يقدر عليه تواضعًا لله تعالى خيّره الله تعالى من حلل الإيمان أيها شاء، وفي لفظ آخر: من ترك زينة لله تعالى ووضع ثيابًا حسنة تواضعًا لله تعالى وابتغاء وجهه كان حقًا على اللّّه تعالى أن يدّّخر له من عبقريّ الجنة في تخات الياقوت، ولما أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل قباء أتوه بشربة من لبن مشوبة بعسل، فوضع القدح من يده قال أما أني لست أحرمه ولكني أتركه تواضعاً لله تعالى وأتى عمر رضي اللّّه عنه بشربة من ماء بارد وعسل في يوم صائف فقال: اعزلوا عني حسابها، وأوحى الله تعالى إلى نبّي من أنبيائه: قل لأوليائي: لا تلبسوا ملابس أعدائي ولا تدخلوا مداخل أعدائي فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي، ولما خطب بشر بن مروان على منبر الكوفة قال بعض الصحابة: انظروا إلى أميركم يعظ الناس وعليه ثياب لفساق قلت: وما كان عليه، ثياب رقاق، وجاء عامر بن عبد الله بن ربيعة إلى أبي ذر رضي الله عنه في بزتّه فجعل يتكلم في الزهد فوضع أبو ذر راحته على فيه وجعل يضرط به فغضب عامر فأتى ابن عمر رضي الله عنهما فقال: ألم ترَ ما لقيت من أخيك أبي ذر قال وما ذاك؟ قال: جعلت أقول في الزهد فأخذ يهزأ بي فقال ابن عمر: أنت صنعت بنفسك تأتي أبا ذر في هذه البزة وتتكلم في الزهد.
وقال عليّ كرّم الله وجهه: إن الله تعالى أخذ على أئمة الهدى أن يكونوا في مثل أدنى أحوال الناس ليقتدي بهم الغنيّ ولا يزري بالفقير فقره، وقد عوتب عمر رضي الله في لباسه وكان يلبس الخشن من القطن قيمة قميصه ثلاثة دراهم وخمسة دراهم ويقطع ما فضل عن أطراف أصابعه وقال هذا أدنى إلى التواضع وأجدر أن يقتدي بي المسلم، وأتت برود من اليمن إلى عمر رضي الله عنه فقسمها على أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بردًا بردًا، ثم صعد المنير بوم الجمعة فخطب الناس في حلّة منها والحلّة عند العرب ثوبان من جنس واحد، وكان ذلك من أحسن زيّهم فقال: ألا اسمعوا ألا اسمعوا، ثم(1/427)
وعظ فقام سلمان فقال: والله لا نسمع والله لا نسمع قال: وما ذاك؟ قال: لأنك قد أعطيتنا ثوبًا ثوبًا ورحت في حلّة فقد تفضّلت علينا بالدنيا، فتبسم ثم قال: عجلت يا أبا عبد الله رحمك الله إني كنت غسلت ثوبي الحلق فاستعرت برد عبد الله بن عمر فلبسته مع بردي: فقال سلمان: قل الآن حتى نسمع ونهى وسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التنعّم وقال: إن عباد الله تعالى ليسوا بالمتنعمين ورؤي فضالة بن عبي وهو والي مصر أشعث حافيًا فقيل له: أنت الأمير وأنت هكذا فقال: نهانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الأرفاه وأمرنا أن نحتفي أحيانًا.
وروينا أن عمر رضي الله عنه خطب الناس فقال: أنشد الله رجلاً علم فيّ عيباً لا أخبرني به، فقام شابّ فقال: فيك عيبان اثنان قال: وما هما رحمك اللّّه؟ قال: تذيل بين البردين وتجمع بين الأدمين قال: فما أذال بين البردين وما جمع بين الأدمين حتى لقي الله تعالى، هكذا حدثنا به قال الشيخ: بإسناده يذيل بالذال فمعناه تجمع بين ذيليهما فيتفق ذيل الأعلى على ذيل الأسفل من طول البرد الأعلى وأنا أحسب أن معناه تديل بالدال أي تبدّل أحدهما بآخر دولة ذا ودولة ذا ويصلح أن يكون بالذال من الإذالة أي الوضع يقال: أشل هذا وأذل هذا مثل قول الناس من إذالة العلم أن يجيب العالم عن كلّ ما يسأل عنه كأنه: أراد تضعهما عندك معًا وهو راجع إلى معنى تديل من الدولة، وقال علي لعمر رضي الله تعالى عنهما: إن أردت أن تلحق بصاحبيك فارقع القميص ونكس الأزرار واخصف النعل وكل دون الشبع، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول: اخلولقوا واخشوشنوا وتمعددوا وإياكم وزيّ العجم كسرى وقيصر، وقال علي رضي الله تعالى عنه: من تزيّا بزيّ قوم فهو منهم.
وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أشدّ من هذا أن من شرار أمتي الذي غذوا بالنعيم الذين يطلبون ألوان الطعام وألوان الثياب ويتشدقون في الكلام، ولما قدم عمير بن سعد أمير حمص على عمر رضي الله عنه قال له: ما معك من الدنيا يا عمير؟ قال: معي عصاي أتوكأ عليها وأقتل بها حية إن لقيتها ومعي جرابي أحمل فيه طعامي ومعي قصعتي آكل فيها وأعسل فيها رأسي وثوبي ومعي مطهرتي أحمل فيها شرابي ووضوئي للصلاة يعني السطيحة، فما كان بعد هذا من الدنيا فهو تبع لما معي فقال له عمر صدقت(1/428)
رحمك اللّّه وكان عمر رضي الله عنه قد كتب إلى أهل حمص أن عدوا لي فقراءكم فسمّوا له في الكتاب نفراً وذكروا فيهم سعيد بن جذيم ويقال: بل عمير بن سعد فقال عمر: من سعيد بن جذيم؟ فقالوا أميرنا يا أمير المؤمنين، قال: أو فقير هو؟ قالوا: نعم ما فينا أفقر منه، قال: فما فعل عطاؤه قالوا: يخرجه كلّه لا يترك لنفسه ولا لأهله شيئاً منه، فوجه إليه عمر رضي الله عنه بأربعمائة دينار وسأله أن ينفقها على نفسه وأهله، فلما وصلت إليه دخل على زوجته وهو يبكي فقالت له ما شأنك؟ مات أمير المؤمنين؟ قال: أعظم من ذلك قالت: فتق فتق في المسلمين؟ قال: أشدّ من ذلك، قالت: فما هو؟ قال: أتتني الدنيا قد كنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم تفتح الدنيا عليّ وكنت في أيام أبي بكر رضي الله عنه فلم تفتح الدنيا عليّ وخلفت إلى أيام عمر رضي الله عنه ألا وشّر أيامي أيام عمر، ثم حدثها فقالت: نفسي فداؤك فاصنع بها ما بدا لك فقال: أو تساعديني على ما أريد؟ قال: نعم، قال: أعطيني خلق ذلك البرد قال: فجعل يمزقه ويصرها فيه صررًا ما بين العشرة والخمسة والثلاثة حتى أفناها ثم جعلها في مخلاة وتأبطها وخرج فاعترض جيشًا من المسلمين يريدون الغزو فجعل يدفع إليهم صرّة صرّة على نحو ما يرى من حالهم ثم رجع ولم يترك لأهله منها ديناراً؛ فهذه كانت شمائل جملة أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتابعين لهم بإحسان رضي الله تعالى عنهم.
وروينا في حديث عياض بن غنم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصف الأخيار: إن من خيار أمتي فيما أنبأني الملأ الأعلى قوم يضحكون جهراً من سعة رحمة ربهم ويبكون سرّاً من خوف عذابه مؤنتهم على الناس خفيفة وعلى أنفسهم ثقيلة يلبسون الخلقان ويتبعون الرهبان، أجسامهم في الأرض وأفئدتهم عند العرش، وفي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه لما وصف الأبدال قال: فقلت له: فكيف لي أن أكون بهذا الوصف وأنّى لي أن أكون مثلهم؟ فقال: يا ابن أخي ما بينك وبين أن تكون في أوّل ذلك وأوسطه إلا أن تزهد في الدنيا فتعاين الآخرة بقلبك فتعمل لها.
وروينا في الخبر: أن الله تعالى يحبّ المبتذل الذي لا يبالي ما لبس، وقال الثوري وفضيل رحمهما الله تعالى: جعل الشر كلّه في بيت وجعل مفتاحه الرغبة في الدنيا، وجعل الخيركله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا، وسئل يوسف بن أسباط وسفيان الثوري رحمهما الله تعالى: أي الأعمال أفضل؟ فقالا: الزهد في الدنيا وهذا موجود في ظاهر الخبر المنقول عن عيسى عليه السلام، ورويناه عن نبيّنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حبّ الدنيا رأس كل خطيئة ففي تدبرّه أن بعضها رأس كل طاعة، كذلك كان بعض السلف يقول:(1/429)
كفى به ذنبًا لا يستغفر منه حبّ الدنيا، وأشدّ من ذلك ما رواه سفيان عن يحيي بن سليم الطائفي رفعه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو أن عبدًا عبد الله تعالى عبادة أهل السموات والأرض ولقيه محبًّا للدنيا لأقامه الله تعالى في الموقف مقاماً شهره فيه بين الخلائٍق، ألا أن فلان بن فلان قد أحبّ ما أبغض الله تعالى، وقال يحيى بن جابر الطائي: قال عمرو بن الأسود العنسي: لا ألبس مشهوراً أبداً ولا أنام بليل على دثار أبدًا ولا أركب على مابور أبدًا ولا أملأ جوفي من طعام أبدًا.
فقال عمر رضي الله عنه: من سرّه أن ينظر إلى هدى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلينظر إلى عمرو ابن الأسود، وجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سفر فدخل على فاطمة رضي الله تعالى عنها فرأى على بابها سترًا وفي يديها قلبين من فضة فرجع، فدخل عليها أبو رافع وهي تبكي، فأخبرته برجوع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله فقال: من أجل الستر والسوارين، فهتكت الستر ونزعت السوارين فأرسلت بهما بلالاً إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: قد تصدّقت به فضعه حيث ترى فقال: اذهب فبعه وادفعه إلى أهل الصفة فباع القلبين بدرهمين ونصف وتصدّق به عليهم فدخل عليها وقال: بأبي أنت قد أحسنت، وفي الخبر ما من عبد لبس ثوب شهرة إلا أعرض الله تعالى عنه حتى ينزعه وإن كان عنده حبيبًا، وقال سفيان الثوري وغيره: البس من الثياب ما لم يشهرك عند العلماء ولايحقرك عند الجهال وكان يقول: إن الفقير ليمرّ بي وأنا أصلّي فأدعه يجوز ويمرّ، بعض هؤلاء من أبناء الدنيا وعليه هذه البزة فأمقته فلا أدعه يجوز، قال بعضهم: ما رأيت الغنيّ في مجلس قطّ أذلّ منه في مجلس الثوري رحمه الله تعالى ولا رأيت الفقير أعز منه في مجلس الثوري، وقال آخر: كنا إذا جلسنا إلي سفيان تمينا أنّا كنا فقراء لما نرى من إقباله عليهم وإعظامه لهم وقال بعضهم: إنما العالم هو الذي يقوم الفقير من عنده غنيِّاً والغنيّ من عنده فقيرًا، وقال بعضهم قومت ثوبي سفيان ونعليه بدرهم وأربعة دوانيق، وقال ابن شبرمة: خير الثياب ما خدمني وشرّها ما خدمته.
وقال بعض السلف: أحبّ الثياب إليّ ما لا يستخدمني وأحبّ الطعام إليّ ما لا أغسل يديّ منه، وقال بعض العلماء: البس من الثياب ما يخلطك بالسوقة ولا تلبس منها ما يشهرك فينظر إليك قال: وعددنا في قميص عمر رضي الله عنه أربعة عشر رقعة بعضها من أدم، وكان بعض العلماء يقول: كثرة الثياب على ظهر ابن آدم عقوبة من الله تعالى له وكان الخواص رحمه الله تعالى لا يلبس أكثر من قطعتين؛ إزارين أو قميص ومئزر تحته ويعطف ذيل قميصه على رأسه ويحلّه في وسطه فيغطي به رأسه، وكذلك استحب للفقير وهو حدّ اللباس، وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: الثياب ثلاثة، ثوب لله تعالى، وثوب للنفس، وثوب للناس، فالذي لله تعالى ما ستر العورة وأديت فيه الفريضة، والذي للنفس ما طلبت لينه ونقاءه، والذي للناس ما طلبت جوهره وحسنه، ثم قال: وقد(1/430)
يكون الثوب الواحد للّّه تعالى وللنفس.
وقد كان بعض العلماء يكره أن يكون على الرجل من الثياب ما يجاوز قيمة أربعين درهمًا وبعضهم يقول: إلى المائة ويعدّ سرفًا فيما جاوزها، وكان جمهور العلماء وخيار التابعين قيمة ثيابهم ما بين العشرين إلى الثلاثين، وكان المتقدّمون من الصحابة أثمان إزارهم اثنا عشر درهمًا، فكانوا يلبسون ثوبين قيمة نيف وعشرين درهماً، واشترى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثوباً بأربعة دراهم وكان قيمة ثوبيه عشرة إلى دينار، وكان طول إزاره أربعة أذرع ونصف، واشترى سراويل بثلاثة دراهم وكان يلبس شملتين بيضاوين من صوف وكانت تسمّى حلّة لأنها ثوبان من جنس واحد وربما لبس ثوبين من جنس واحد وربما لبس بردتين يمانيين أو سحوليين من هذه الغلاظ، وفي الخبر: كان قميص رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأنه قميص زيات وقد لبس عليه السلام يوماً واحداً ثوب سيراء من سندس قيمته مائتا درهم فكان أصحابه يلمسون ويقولون: أنزل عليك هذا من الجنة تعجّباً منه وكان قد أهداه إليه المقوقس ملك الإسكندرية فأراد أن يكرمه بقبول هديته ويلبسه ثم نزعه، وأرسل به إلى رجل من المشركين وصله به ثم حرم لبس الحرير والديباج، وقد يكون لبسه إياه توكيدًا للتحريم بعده كما لبس خاتمًا من ذهب يوماً واحداً، ثم نزعه فحرم لبسه على الرجال، وكما قال لعائشة رضي الله عنها في شأن بريرة: اشترطي لأهلها الولاء، فلما اشترطته صعد المنبر فحرمه فهذا يكون مؤكدًا للتحريم، وكما أباح المتعة ثلاثًا ثم حرمها لتوكيد أمر النكاح، وقد يحتج بمثل هذا علماء الدنيا ويطرقون به لنفوسهم ويدعون الناس منه إليهم ويظهرون الدعوة إلى الله تعالى تأولاً بمتشابه الحديث كما تأوّل أهل الزيغ متشابه القرآن على أهوائهم ابتغاء الفتنة وطلبًا للدنيا لأن حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على معاني كلام اللّّه تعالى فيه: ناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه وخاصّ وعام، وعدل علماء الدنيا وأهل الأهواء عن المحكم السائر من فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله إلى ما ذكرناه وقد صلّى رسو ل الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خميصة لها علم، فلما سلم قال: شغلني النظر إلى هذه اذهبوا بها إلى أبي جهم وأتوني بانبجانيته يعني كساءه فاختار لبس الكساء على الثوب الناعم.
ورأى على باب عائشة رضي الله عنها ستراً فهتكه وقال: كلما رأيته ذكرت الدنيا: أرسلي به إلى آل فلان، وفرشت له عائشة رضي الله عنها ذات ليلة فراشًا جديدًا وكان ينام على عباءة مثنية، فما زال يتقلّب ليلته فلما أصبح قال: أعيدي العباءة الخلقة ونحّي هذا الفراش عني قد أسهرني الليلة، وكذلك أتته دنانير خمسة أو ستة عشاء فبيتها فسهر ليلته حتى آخرجها من آخر الليل، قالت عائشة: فنام حينئذ حتى سمعت غطيطه ثم قال: ما ظنّ محمد بربه لو لقي الله تعالى وهذه عنده، وكان شراك نعله العربيّ قد أخلق فأبدل بسير جديد، فصلّى فيه فلما سلم قال: أعيدوا الشراك الخلق وانزعوا هذا الجديد فإني نظرت(1/431)
إليه في الصلاة ولبس خاتماً فنظر إليه وهو على المنبر بنظرة فرمى به وقال: شغلني هذا عنكم نظرة إليه ونظرة إليكم، وقد قال تعالى: (قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَِّبعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ) آل عمران: 31 وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أحبني فليستن بسنتي، وقال في الخبر المشهور: عليكم بسنتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وقد كان أبو محمد سهل رحمه الله يقول: من علامة حبّ الله تعالى حبّ النبي عليه السلام، ومن علامة حبّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبّ السنّة ومن علامة حبّ السنّة بغض الدنيا، وعلامة بغضها أن لا يأخذ منها إلا زاداً وبلغة
وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة رضي الله عنها: إن أردت اللحوق بي فإياك ومجالسة الأغنياء ولا تنزعي ثوبًا حتى ترقعيه، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد احتذى نعلين جديدتين فأعجبه حسنهما فخرّ ساجدًا وقال: أعجبني حسنهما فتواضعت لربي خشية أن يمقتني، ثم خرج بهم فدفعهما إلى أول مسكين رآه وأمر عليًّا رضي الله عنه فاحتذى له نعلين سنديتين قال: فرأيته وقد لبسهما يعني جرداوين أي معطوفتين وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أقرب الناس مني مجلساً يوم القيامة من كان على مثل ما أنا عليه من الدنيا، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا، وقال عليه السلام: لا يعذّب الله عبدًا جعل رزقه في الدنيا قوت يوم بيوم، وقال عليه السلام: طوبى لمن هدي إلى الإسلام وكان رزقه في الدنيا قوتًا وقنع به، وفي لفظ آخر: وصبر عليه، وقال عليه السلام: أحد غنيّ ولا فقير إلا ودّ يوم القيامة أن رزقه كان في الدنيا قوتًا.
وروينا عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم من أحبّني وأجاب دعوتي فأقلّل ماله وولده، من أبغضني ولم يجب دعوتي فأكثر ما له وولده وأوطئ عقبيه كثرة الأتباع، وكانت هذه دعوة الصحابة على من مقتوه، وروينا في الخبر: نقصان الدنيا زيادة الآخرة وزيادة الدنيا نقصان الآخرة وفي الأثر: ما من أحد أعطي من الدنيا شيئاً إلا نقص من درجته وإن كان على الله تعالى كريماً. وقال إبراهيم بن أحمد الخواص رحمه الله في وصف المدّعين: وقوم ادّعوا الزهد ولبسوا الفاخر من الثياب يموّهون بذلك على الناس ليهدوا إليهم مثل لباسهم ولئلا ينظر إليهم بالعين التي ينظر بها إلى الفقراء فيحتقرون فيعطون كما يعطى المساكين ويحتجون لنفوسهم باتساع العلم وإنهم على السنّة وإن الأشياء داخلة عليهم وهم خارجون(1/432)
منها، وإنما يأخذون بعلّة غيرهم، هذا إذا طولبوا بالحقائق وألجئوا إلى المضايق، وكل هؤلاء أكلة الدنيا بالدين لم يعنوا بتصفية أسرارهم ولا بتهذيب أخلاق نفوسهم فظهرت عليهم صفاتهم فغلبتهم فادّعوا حالاً لهم مائلون إلى الدنيا متبعون الهوى، وكان الخواص رحمه الله تعالى لا يلبس أكثر من قطعتين إزارين وقميص ومئزر تحته، ويعطف ذيل قميصه على رأسه ويغطّي به رأسه، وكذلك استحبّ للفقير هذا اللباس والأخبار في فضائل الفقر وفضل الفقراء وفي ذمّ الدنيا ونقص الأغنياء أكثرمن أن تذكر ولم نقصد جمعها ولا كثرة الاستدلال بها، ومن الزهد ترك فضول للبنيان وأن لايبنى عاليًا ولا مشيدًا ولا من الطين إلا ما يحتاج إليه وقيل: أوّل بدعة حدثت بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المناخل والموائد، وأوّل شيء ظهر من طول الأمل التدريز والتشييد يعني دروز الثياب وإنما كانت تشلّ شلاً والبنيان الجص والآجر وهو التشييد، وإنما كانوا يبنون بالسعف والجريد.
وقد جاء في الأثر: يأتي على الناس زمان يوشّون بينانهم كما توشّى البرود اليمانية، ونظر عمر رضي الله عنه في طريق الشام إلى صرح قد بني بجصّ وآجر فكبر وقال: ما كنت أظنّ أن في هذه الأمة من يبني بنيان هامان لفرعون يعني قول فرعون فأوقد لي يا هامان على الطين يعني به الآجر، يقال: أوّل من بنى بالجصّ والآجر فرعون وأوّل من عمله هامان ثم تبعهما الجبابرة، فهذا هو الزخرف، وذكر بعض السلف جامعًا في بعض الأمصار فقال: أدركت هذا المسجد مبنيّاً من الجريد والسعف ثم رأيته مبنيّاً من رهوص ثم رأيته الآن مبنيّاً باللّبن، فكان أصحاب السعف خيرًا من أصحاب الرهوص، وكان أصحاب الرهوص خيرًا من أصحاب اللبن، وقد كان في السلف من يبني داره مراراً في مدة عمره لضعف بنائه وقصر أمله ولزهده في إتقان البنيان وكان منهم من إذا حجّ أو غزا نزع بيته أو وهبه لجيرانه فإذا رجع أعاده، وكانت بيوتهم من الحشيش والثمام والجلود وعلى ذلك العرب ببلاد اليمن إلى اليوم، وأمر رسول اللهّّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العباس رضي الله عنه أن يهدم علية كان قد علا بها، ومرّ عليه السلام بجنبذة معلاة فقال: لمن هذه؟ قالوا: لفلان، فلما جاءه الرجل أعرض عنه فلم يكن يقبل عليه كما كان فسأل الرجل أصحابه عن تغيّر وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبروه فرجع فهدمها، فمرّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالموضع فلم يرها فسأل عنها فأخبر أنه هدمها فدعا له بخير، وكان سمك بناء السلف قامة بسطة وقال الحسن: كنت إذا دخلت بيوت أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضربت بيدي إلى السقف، وقال عمرو بن دينار: إذا أعلى العبد البناء فوق ستة أذرع ناداه ملك إلى أين يا فاسق الفاسقين؟ وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من بنى فوق ما يكفيه كلّف أن يحمله يوم القيامة ومرّ عمر رضي اللّّه عنه ببيت عال فقال: أبت الدراهم إلا أن تخرج رؤوسها ومرّ بعامل له فرآه قد علي وشيد فقال لي: على كل خائن أمينان الماء والطين ثم شاطره ماله فجعله في بيت المال، وفي الخبر: كل نفقة يؤجر عليها العبد إلا ما(1/433)
أنفعه على الماء والطين.
وقد روينا عن بعض السلف: إذا مقت الله تعالى مال عبد سلّط عليه الماء والطين، وقال يحيى بن يمان رحمه اللّّه: كنت أمشي مع الثوري رحمه الله في طريق فنظرت إلى باب مشيّد قال: لا تنظر إليه فقلت يا أبا عبد الله ما تكره من النظر قال إذا نظرت إليه كنت عوناً له على بنائه لأنه إنمّا بناه لينظر إليه ولو كان كلّ من مرّ به لم ينظر إليه ما عمله وقد قال بعض السلف قبله: ولا تنظر إلى بنيانهم فإنهم إنما زخرفوه لأجلكم وفي قول الله تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذينَ لا يُريدُونَ عُلُوًَّا في الأرض وَلا فَسَادًَا) القصص: 83 قيل: حبّ الكثرة والرياسة والتطاول في البنيان، وكذلك قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كلّ بناء وبال على صاحبه يوم القيامة إلا ما أكن من حرّ أو برد، وقال للرجل الذي شكا إليه ضيق منزله اتسع في السماء أي في الجنة وهذا أحد التأويلين، والثاني اتسع في المعرفة ولا تطلب اتساع المكان واعلم أن الزهد لا ينقص من الرزق ولكنه يزيد في الصبر ويديم الجوع والفقر فيكون هذا رزقاً للزاهد من الآخرة على هذا الوصف من حرمان نصيبه من الدنيا وحمايته عن التكثر منها والتوسّع فيها ويكون الزهد سببه فيكون ما صرفه عنه ومنعه من الغني والتوسع رزقه من الآخرة والدجات العلى بحسن اختيار من الله تعالى وحيطة نظركما.
حدثنا عن بعض العلماء: أن بقّالاً جاءه فقال: إني كنت أبيع في محلة لا بقّال فيها غيري، فكنت أبيع الكثير ثم قد فتح عليّ بقّال آخر فهل ينقص ذلك من رزقي شيئاً فقال: لا ولكن يزيد في بطالتك عن البيع، فلعله بطّالاً لاعباً يحتجّ لتوسّعه وهواه ويموّه على أبناء الدنيا ممن يتولاه فيقول بأن الزهد في الدنيا لما لم ينقص من رزقي شيئاً قد صح مقاماً لي مع التوسّع والاستكثار وعلى التنعّم والرفاهية والاستئثار لأنّي إنما آكل رزقي وآخذ قسمي فلي في الزهد مقام ومن الرضا والتوكل حال أو يقول: إن الزهد قد يصبح مع التكاثر والزينة يزخرف بقوله على من لا يعرف الزهد ويغرّ بمقالته من لايعرف طريق الزاهدين ولعلّه ممن يأكل الدنيا بالدين أو يزخرف القول ويشبه العلم على الغافلين، فمثله كما قال علي رضي الله عنه للخوارج حين قالوا: لا حكم إلا الله فقال: كلمة حقّ أريد بها باطل وصدق رضوان الله عليه لأنهم أرادوا بذلك إسقاط حكم الأئمة وترك الطاعة للإمام العادل.
كما أراد القائل: إنما آكل رزقي وآخذ من الأشياء قسمي، الاحتجاج لنفسه بهواه والاعتذار عند الجاهلين خيفة لومهم إياه ولا يعلم المغرور بداء الغرور أنه وإن كان يأكل رزقه من الدنيا ويأخذ قسمه من العطاء فبحكم النقص والبعد وبوصف الرغبة والحرص لأن السارق والغاصب أيضًا يأكل رزقه ويأخذ قسمه ولكن بحكم المقت وسوء الاختيار إذا كان الله سبحانه وتعالى يرزق الحرام للظالمين كما يرزق الحلال للمتقين(1/434)
وإنما بينهما سوء القضاء ودرك الشقاء للأعداء وحسن التوفيق والاختيار بالسعادة للأولياء من المولى الكريم فقد حرم المدعي لذلك رزقه من الزهد وبخس نصيبه الأوفر من حبّ الفقر ونقص حظّه الأفضل من الآخرة إذ كانت الدنيا ضدّها وجعل ما صرف فيه وما صرف إليه سبباً لنقصان مرتبته من طرائق الزاهدين، وأنه قد اختبر بالدنيا وبما فتح عليه من السرّاء ليظهر صدقه من كذبه فوقع في الفتنة ولم يفطن للابتلاء وصارت مشاهدته هذه إذا كان صادقاً فيها غير كاذب على وجده حجابًا له عن علوم العارفين المعصومين، واستدرج بعلمه هذا لأنه علم من علوم الدنيا يفنى بفنائها لا ثمرة له في الباقية مكر به فيه وعدل به إليه عن علوم الخائفين ومشاهدة الورعين الزاهدين الذين نظروا من الحلال في الدقيق وصدقوا القول في ترك الرغبة بالعمل بالزهد للتحقيق وإن كان كاذباً في مشاهدته ظالماً لنفسه بما ادّعاه من وجده فهو من أولياء الشياطين ومن أئمة المضلين قيض للاعبين وسيق إليهم فتنة لهم ليس إماماً للمتقين بل من الأئمة المضلّين المحرومين أبناء الدنيا الغافلين رغبة في الدنيا وزهداً في طرائق السلف لوجود الطمع وعدم اليقين فقد مكر بهذا المعدول به عن علوم الموقنين وحقائق مشاهدتهم على هذا الوصف الذي أريد به بالذي تقلّب فيه وهولا يشعر بالمكر ولا يعرف الاستدراج بالنِّعم وأنَّى له بعلم ذلك والله تبارك وتعالى يقول: (سنستدرجهم من حيث لا يعملون) الأعراف: 182
قال تعالى: (ومكروا مكراً ومكرنا مكرًا وهم لا يشعرون) النمل: 50 فهيهات هيهات أن يفطن الممكور لما مكر به أو يعلم المستدرج ما درج فيه لأن الماكر ألطف الماكرين والمدرج أحكم الحاكمين نعوذ بالله تعالى من الاغترار بعلم الإظهار ونسأله الصلاة على نبّيه محمد وآله أجمعين وحسن التوفيق لمشاهدة علم التحقيق، وبمثل ما قلناه جاءت الآثار وكثرت الأخبار إن مثل الدنيا والآخرة كضرتين رضا إحداهما في سخط الأخرى وأنهما بمنزلة المشرق والمغرب من استقبل أحدهما استدبر الآخر، وأنهما بمنزلة كفتّي الميزان رجحان إحداهما بنقصان الأخرى وكان عمر رضي الله عنه يقول: والله إن هما إلا بمنزلة قد حين لك ملئ أحدهما فما هو إلا أن تفرغ أحدهما في الآخر يعني أنك إن امتلأت من الدنيا تفرّغت من الآخرة وإن امتلأت من الآخرة تفرّغت من الدنيا، وإن كان لك ثلث قدح الآخرة أدركت ثلثي قدح الدنيا وإن كان لك ثلثا قدح الآخرة يكون لك ثلث قدح الدنيا، وهذا تمثيل حسن إلا أن فيه شدّة وتدقيقاً، وقال بعض السلف: مثل من زهدفي الدنيا مع التنعم فيها كمثل من يغسل يديه من الغمر بسمك، وقال آخر: مثل من زهد وهو يطلب الدنيا مثل يطفئ النار بالحلفاء، وكان بعض الزاهدين من أهل الشام يتكلم عليهم؛ فكان رجاء بن حيوة فقيه أهل الشام(1/435)
يحضر مجلسه، فاحتبس يومًا عنهم وقد اجتمعوا فتكلم عليهم مؤذن الجامع فأنكر صوته رجاء بن حيوة فقال: من هذا؟ فقال: أنا فلان فقال: اسكت عافاك الله إنّا نكره أن نسمع الزهد إلا من أهله، وفي لفظ آخر: إنّا نكره أن نسمع الوعظ إلا من أهل الزهد، وقال عيسى عليه السلام: لا تنظروا إلى أموال أهل الدنيا فإن بريق أموالهم يذهب بنور إيمانكم وقال بعض العلماء: تقليب الأموال يمصّ حلاوة الإيمان.
وروينا في الخبر: لكلّ أمة عجل، وعجل هذه الأمة الدينار والدرهم؛ وكان أصل العجل من الحلية، وقال عزّ وجلّ: (ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) الرعد: 17 فكان فهم هذه السنّة عن سمع هذه الآية يقال: مامن يوم ذي شارقة إلا وأربعة أملاك ينادون في الآفاق بأربعة أصوات؛ ملكان بالمشرق وملكان بالمغرب، يقول أحدهما من المشرق: يا باغي الخير هلمّ ويا باغي الشرّ أقصر، ويقول الآخر: اللهم أعط منفعاً خلفاً واعط ممسكاً تلفاً، ويقول أحد اللذين في المغرب: لدوا للموت وابنوا للخراب، ويقول الآخر: كلوا وتمتعوا لطول الحساب، وقال بعض العلماء: إن الله تعالى وسم الدنيا بالوحشة ليجعل أنس المطيعين به وبلغنا أن من دعاء أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه: اللهم إني أسألك الذلّ عند النصف من نفسي والزهد فيما جاوز الكفاف.
وقال بعض العارفين: ما من شيء إلا وهومطروح في الخزائن إلا الفقر مع المعرفة فإنه مخزوم مختوم عليه لا يعطاه إلا من طبع بطابع الشهداء، وقد يحتجّ بعض علماء الدنيا لأنفسهم بتفضيل الغنى على الفقر بتأويل الخبر من قوله تعالى: (ذلِكَ فَضْلُ الله يُوْتيِه مَنْ يَشَاءُ) الجمعة: 4 وهذا عند أولي الألباب في تدبّر الخطاب معنيّ به الفقراء لأنه قيل لهم في أوّل الكلام: إن فعلتم كذا لم يسبقكم أحد قبلكم ولم يدرككم أحد بعدكم فثبت هذا القول من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصحّ لأنه معصوم في قوله كما هو معصوم في فعله، فلا ينبغي أن ينقض أول الكلام آخره، فما جاء بعده محمول عليه ولم يصلح أن ينقلب لأنه إخبارعن شيء فلا يجوز الرجوع عنه، ولما فعل الأغنياء ما أمر به الفقراء وقف الفقراء في نظر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمنظرهم إلى مزيد الأغنياء عليهم بالقول فرجعوا إليه يستفتون منه ما أخبر به قال: لاتعلجوا فإن الذي قلت لكم كما قلت هو فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء وأنتم ممن شاء أن يؤتيه فضله، فصحّ تأويلنا هذا وبطل تأويلهم بدليل قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأوّل، فكان قوله الثاني بالآخر مواطئاً لقوله الأوّل ولم يناقض الأوّل بالآخر، كيف وقد جاء دليل ما قلنا مكشوفاً في الحديث المفسّر الذي رويناه عن زيد بن أسلم عن أنس رضي الله عنه قال: بعث الفقراء إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً فقال: إن رسول الفقراء إليك فقال: مرحبًا بك وبمن جئت من عندهم من عند قوم أحبّهم قال: قالوا: يا رسول الله إن الأغنياء ذهبوا بالجنة يحجّون ولا نقدر عليه ويعتمرون ولانقدر عليه وإذا مرضوا بعثوا بفضل أموالهم ذخيرة لهم فقال رسول(1/436)
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أبلغ عني الفقراء أن لمن صبر واحتسب منكم ثلاث خصال ليست للأغنياء، أما خصلة واحدة فإن في الجنة غرفًا ينظر إلها أهل الجنة كما ينظر أهل الأرض إلى نجوم السماء لا يدخلها إلا نبي فقير أو شهيد فقير أو مؤمن فقير، والثانية يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة عام، والثالثة إذا قال الغني: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وقال الفقير مثل ذلك لم يلحق الغني الفقير، وإن أنفق فيها عشرة آلاف درهم وكذلك أعمال البرّ كلها فرجع إليهم فقالوا: رضينا فهذا يدل على صحة تأويلنا.
وقد روينا معنى هذا مجملاً في الخبر الذي رويناه عن إسماعيل بن عياش عن عبد الله ابن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأصحابه: أي الناس خير؟ قالوا: موسر من المال يعطي حقّ الله في نفسه وماله فقال: نعم الرجل هذا وليس به قالوا: فمن خير الناس؟ مؤمن فقير يعطي جهده، فذهب القوم إلى علم العقل فردّهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى علم اليقين فكذلك من فضل حال الغنى على حال الفقر فإنه ينظر في العلم بعين العقل وإنما يشهد الآخرة والحقيقة بعين اليقين وهذا نصّ في تفضيل حال الفقر، فمن فضّل الغنى بعده فقد عاند السنّة إن كان عالماً فأحسن حاله الجهل بالآثار وإن كان جاهلاً فمقامه في الجهل أضرّ عليه من نطقه بالعلم بهوى، وفي الخبر الآخر: خير هذه الأمة فقراؤها وأسرعها تضجّعاً في الجنة ضعفاؤها، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبلال: إلق الله تعالى فقيرًا ولا تلقه غنيّاً قال: وكيف لي بذلك؟ قال: إذا سئلت فلا تمنع وإذا أعطيت فلا تخبأ أفتراه كان يأمر بلالاً بأدنى الحالين فكيف وهو من أعلى الصحابة فأشبه الفقر في الأحوال اليقين في الإيمان، كما قال لابن عمر: اعمل لله بالرضا واليقين فإن لم يكن فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً فرفعه إلى اليقين لفضله كما رفع بلالاً إلى الفقر لشرفه في الأحوال فلم يكن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرضى لبلال إلا ما يرضاه لنفسه فصار الفقر حال الموقن لأنه يكشف الآخرة، وصار الشكر في الغنى حال المؤمن لأنه يوجد الدنيا ففضل الفقير الزاهد على الغني الشاكر كفضل الموقن الشاهد على الموقن المجاهد.
وكذلك روينا في حديث عطاء عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: اللهم توفّني فقيرًا ولا توفّني غنيّاً ولم يكن ليأمر بلالاً بأدنى الحالين فيقول: إلق الله تعالى فقيرًا كما لم يندب ابن عمر إلى أخفض المقامين لقوله: اعمل لله تعالى بالرضا في اليقين، وكذلك جاء في الخبر المشهور الذي دعا فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنفسه أن يحييه الله تعالى مسكيناً ويتوفّاه مسكيناً ويحشره في زمرة المساكين، كلّ ذلك لتفضيل الفقر وتشريف الفقراء مع قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم يعني خمسمائة عام، وروينا عن عيسى عليه السلام أنه قال: إني لأحبّ المسكنة وأبغض المال للغني وإن في المال داء كثيرًا قيل: ياروح الله وإن كان يكتسبه من حلال قال يشغله كسبه عن ذكر(1/437)
الله تعالى قال وهب بن منبه لابن عباس: إنّا نجد في التوراة أن الفقير المصلح خير من الغني المصلح، قال ابن عباس: أما علمت أنه لا شيء أحبّ إلى الله تعالى من الفقير إذا كان صالحًا وقيل: كان أحبّ الأسماء إلى عيسى عليه السلام أن يدعى به أن يقال له يا مسكين وكان يقول: من شرّ الغنى أن العبد يعصي ليستغني ولا يعصي ليفتقر، وقد قال بعض حكمائنا في كلام منظوم:
يا عائباً للفقر تبغي الغنى ... عيب الغنى أعظم لو تعتبر
إنك تعصي لتنال الغنى ... ولست تعصي الله كي تفتقر
وروينا في حديث عطاء عن أبي سعيد الخدري: يا أيها الناس لا تحملنّكم العسرة والفاقة على أن تطلبوا الرزق من غير حلّه فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: اللهم توفّني فقيرًا ولا توفّني غنيّاً واحشرني في زمرة المساكين، وقال لقمان لابنه: يا بني إن من أعون الأخلاق على صلاح الدين زهداً في الدنيا، من يزهد في الدنيا يرغب فيما عند الله تعالى، ومن يرغب فيما عند الله تعالى يعمل لله تعالى، ومن يعمل الله تعالى يأجره الله تعالى، وقال الحواريون: يا روح الله نحن نصلّي كما تصلي ونصوم كما تصوم ونذكر الله تعالى كما أمرتنا ولا نقدر نمشي على الماء كما تمشي أنت، فقال: أخبروني كيف حبّكم للدنيا قالوا: إنّا لنحبها فقال: إن حبّها يفسد الدين لكنها عندي بمنزلة الحجر والمدر، وفي خبر آخر: إنه رفع حجراً فقال: أيهما أحبّ إليكم هذا أو الدنيار والدرهم؟ قالوا الدنيار، قال: فإنهما عندي سواء ويقال إن من صحّ زهده في الدنيا حتى يستوي عنده الذهب والحجر مشى على الماء وقد اشتهر ذلك في العامة حتى قال الشاعر:
لو كان زهدك في الدنيا كزهدك في ... وصلي مشيت بلا شكّ على الماء
وروينا أن عيسى عليه السلام مرّ في سياحته برجل نائم ملتفّ في عباءة فأيقظه وقال: قم يا نائم فاذكر الله تعالى فقال: ما تريد مني؟ إني قد تركت الدنيا لأهلها فقال له عيسى عليه السلام: نم حبيبي إذًا نم، وروينا عن موسى عليه السلام أنه مرّ برجل نائم على التراب وتحت رأسه لبنة ووجهه ولحيته في التراب وهو متّزر بشمل عباءة فقال: يا ربّ عبدك هذا في الدنيا ضائع، فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى أما علمت أني إذا نظرت إلى عبدي بوجهي كله زويت عنه الدنيا كلّها، وأوحى الله سبحانه وتعالى إلى نبيّه إسماعيل عليه السلام: اطلبني عند المنكسرة قلوبهم قال يا ربّ ومن هم قال الفقراء الصادقون، فهذا كأنه مفسّر لخبر موسى عليه السلام في وقوله أين أجدك قال: عند المنكسرة قلوبهم(1/438)
وقد كان أحمد بن عطاء وهو من المتأخرين يفضّل حال الغنى على الفقر لشبهة دخلت عليه، وهو أن بعض الشيوخ سأله عن الوصفين أيهما أفضل؟ قال: الغني لأنه صفة الحقّ فقال له الشيخ: فالله غني بالإعراض والأسباب فانقطع ولم ينطق بحرف، وهذا كما قال الشيخ لأن الله تعالى غني بوصفه، فالفقير أحقّ بهذا المعنى لأنه غنيّ بوصفه بالإيمان لا بالأسباب لانفرادها عنه، فهو الأفضل فأما الغنيّ فإنه مشتّت مجتمع بالأسباب فهو مفضول بالارتياب وقد خالفه الخوّاص فوفق للصواب وكان فوقه في المعرفة فقال في كتاب شرف الفقر والفقر صفة الحقّ أي صفة منه يصف به الفقراء فوافقنا في التأويل يعني أنه تعالى متخلٍّ عن الأشياء منفرد عنها، ووجه آخر من الغلط الذي دخل عليه من جهة الغنى الذي ذكره لأنه إن كان فضل الغنى على الفقر لأنه صفة الحقّ فينبغي أن يفضّل المتكّبر الجبّار ومن أحبّ المدح والعزّ والحمد لأن ذلك كله صفة الحقّ فما أجمع أهل القبلة على ذم من كان هذا وصفه كان من وصفه الغنى في معناه لأن وصف الغنى صفة الحقّ مقترن بالعزّ والكبر، وينبغي أن يسلّم صفات الحقّ للحقّ ولا ينازع إياها ولا يشارك فيها، فبطل قول ابن عطاء لصحة قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقول الله تعالى العز إزاري والكبرياء ردائي من نازعني أحدهما قصمته في النار، وقد خالفه أيضًا ووافقنا من لا يشك الخاص والعام في فضل معرفته عليه أبو محمد سهل بن عبد الله فقال: من أحبّ الغنى والبقاء والعزّ فقد نازع الله تعالى صفاته وهذه صفات الربوبية يخاف عليه الهلكة فإذا ثبت ذلك كان الفقر أفضل لأنه وصف العبودية، فمن جعله وصفه فقد تحقق بالعبودية وأوصاف العبودية هي أخلاق الإيمان وهي التي أحبّها اللّّه تعالى من المؤمنين مثل الخوف والذلّ والتواضع والفقر مضاف إليها وأوصاف الربوبية ابتلى به قلوب أعدائه الجبارين والمتكبرين مثل العزّ والكبر والبقاء والغنى مضموم إليها.
وكان الحسن رحمه الله يقول: مارأيت الله تعالى جعل البقاء إلا لأبغض خلقه إليه وهو إبليس، وكذلك كان العلماء يقولون: لا ترغبوا في البقاء في هذه الدنيا فإن شرار الخلق أطولهم بقاء وهم الشياطين، والغنى إنما يراد للبقاء ويقال: إن الجنيد رحمه الله تعالى باهل بن عطاء في هذه المسألة ودعا عليه لأنه أنكر قوله أشد الإنكار وكان يقول: الفقير الصابر أفضل من الغنيّ الشاكر وإن تساويا في القيام بحكم حالهما لأن الغنيّ التقيّ يمتّع نفسه وينعم صفته والفقير الصابر قد أدخل على صفته الآلام والمكاره فقد زاد عليه بذلك، وهذا كما قال وكذلك كان أحمد بن حنبل يقول: ما أعدل بالفقر شيئاً وكان يفضّل حال الفقر يعظم شأن الفقير الصابر وقال المروزي وذكر بعض الفقراء فجعل يمجّده ويكثر السؤال عنه قال: فقلت له(1/439)
يحتاج إلى علم فقال ويحك اسكت صبره على الفقر ومقاساته للضرّ فيه خير من كثير من العلم ثم قال هؤلاء خير منا بكثير وأقول إن من فضل حال الغنى على الفقر فإنه لم يذق مرارة الفقر ولا حلاوته فهو غرّ بشدته فاقد لحلاوته لأنه لو ذاق مرارته من الضرّ والهمّ لفضله ولوأذيق حلاوته من الزهد والرضا لما فضل عليه.
وقد روينا في الخبر: يقول إبليس لم ينج الغني مني من إحدى ثلاث خصال؛ أن أحبب إليه المال فيكتسبه من غير حقّه أو يضعه في غير حقّه أو يمنعه من حقّه، فلولم يعلم العدو أن الفقر من أفضل الأحوال ما قعد على طرقه وقد قال لأقعدن لهم صراطك المستقيم فأخبر الخبر عنه فقال: الشيطان يعدكم الفقر أي يخوفكم به، فجاء الفقير الصادق فسلك الطريق المستقيم إلى الآخرة واطرح تخويف العدّو بحول الله وقوّته وقيل: الأغنياء المغتبطون بغناهم تخويف العدوّ فجاء بنو الفقر فحلق بهم مثل السوء، من ذلك قوله: (إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافون) آل عمران: 175 فقبلوا تخويف الشيطان وخالفوا ندب الرحمن فكانوا كمن قيل فيهم: (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه) الحج: 11، الآية فلو لم يكن من فضل الزاهدين إلا أنهم توسطوا الطريق الذي هرب الناس منه وأمنوا بالتوكّل على الله والرضا عنه ماخافه أبناء الدنيا لكفاهم.
ذكر ماهية الدنيا
وكيفية الزهد فيها وتفاوت الزهاد في مقاماتهم،
ثم إن الدنيا هي نصيب كل عبد من الهوى وما دنا من قلبه من الشهوات، فمن زهد في نصيبه وملكه من هواه المذموم فهذا هو الزهد المفترض، ومن زهد في نصيبه من المباح وهو فضول الحاجة من كّل شيء، فهذا هو الزهد المفضل يرجع ذلك إلى حظوظ جوارحه التي هي أبواب الدنيا منه وطرقها إليه، فالزهد في محرّماتها هو زهد المسلمين به يحسن إسلامهم، والزهد في شبهاتها هو زهد الورعين به يكمل إيمانهم، والزهد في حلالها من فضل حاجات النفس هو زهد الزاهدين به يصفو يقنيهم، وروينا في حديث عمرو بن ميمون عن الزبير بن العوّام أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: يازبير اجهد نفسك عند نزول الشهوات والشبهات بالورع الصادق عن محارم الله عزّ وجلّ تدخل الجنة بغير حساب، وكان سهل يقول في فضائل الزهد وأعلى مقاماته: لا يتمّ زهد عبد حتى يزهد في هذه الثلاث؛ في الدرهم الذي يريد أن ينفقه في أبواب البّر يتقرب بذلك إلى الله تعالى، ويزهد في الثياب التي تستر بدنه في الطاعات، ويزهد في قوته الذي يستعين به على العبادة، وإنما قال هذا لأن عنده حقيقة الزهد من أفضل المقامات كلاً لأنه كان يقول: يعطى الزاهد جميع ثواب العلماء والعباد، ثم يقسم على المؤمنين ثواب أعماله، وقال: لا يوافي القيامة أحد أفضل من ذي زهد وعلم ورع، وقال أيضاً: لا ينال الزهد إلا بالخوف لأن من خاف ترك فجعل الزهد مقاماً في الخوف رفعه مزيداً لهم عليه.
وقد روى مسروق عن ابن مسعود: ركعتان من زاهد قلبه خير له وأحبّ إلى اللّّه(1/440)
تعالى من عبادة المتعبدين المجتهدين إلى آخر الدهر أبدِاً سرمداً ولانهاية للزهد عند طائفة من العارفين لأنه يقع عن نهاية معارفهم بدقائق أبواب لدنيا وخفايا لوائح الهوى، وقال بعضهم: نهاية الزهد أن تزهد في كل شيء وتتورع عن كلّ شيء للنفس فيه متعة وبه راحة فهذا كما روى عن عيسى عليه السلام أنه وضع تحت رأسه حجرًا فكأنه لما ارتفع رأسه عن الأرض استراح بذلك فعارضه إبليس فقال: يا ابن مريم ألست تزعم أنك قد زهدت في الدنيا قال: نعم، قال: فهذا الذي وطأته تحت رأسك من أي شيء هو؟ قال: فرمى عيسى عليه السلام بالحجر، وقال: هذا لك مع ما تركت ومثله.
روينا عن يحيى بن زكريا عليهما السلام أنه لبس المسوح حتى نقب جلده فسألته أمه أن ينزع مدرعته الشعر ويلبس مكانها جبة من صوف ففعل فأوحى الله تعالى إليه: يا يحىى آثرت عليّ الدنيا قال: فبكى ونزع الصوف ورد مدرعته الشعر على جسده، وكان الحسن يقول: أدركت سبعين من الأخيار ما لأحدهم إلا ثوبه وما وضع أحدهم بينه وبين الأرض ثوبًا قطّ، كان إذا أراد النوم باشر الأرض بجسمه وجعل ثوبه فوقه واعلم أنّي رأيت جمل النعم ثلاثًا وتمامها بالزهد، وذلك أن أصل النّعم كلّها الإسلام، لأن من ورائه مقامات كثيرة أخطأوا فيها حقيقة التوحيد، ثم النعمة الثانية السنّة، إذ من ورائها بدع كثيرة كلّهم أخطأوا حقيقة السنة، والنعمة الثالثة العلم بالله تعالى لأن من ورائه جهلاً كثيراً بعظمة الله تعالى وقدرته، ثم الزهد في الدنيا فمن أعطيه مع الثلاث تمّت عليه النّعم فكان مع الذين أنعم الله تعالى عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، أي تمّت نعمة الله عليهم لأن من ورائه حرصًا كثيرًا على الشبهات ورغبة عظيمة في الشهوات.
وقد كان سهل رحمه الله تعالى يجعل الزهد من شرط السنّة والاتباع لقوله تعالى: (قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتِبِعُوني) آل عمران: 31 قال: فمن السنّة اتّباع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان زاهداً ثم تفاوت الزاهدون لأيّ شيء زهدوا مقامات على نحو علوّ المشاهدات، فمنهم من زهد إجلالاً لله تعالى، ومنهم من زهد حياءً من اللّّه تعالى، ومنهم من زهد خوفاً من الله تعالى ومنهم من زهد رجاء موعود الله تعالى ومنهم من زهد مسارعة منه لأمر الله تعالى ومنهم من زهد حبّاً لله تعالى وهو أعلاهم وأدناهم من زهد مخافة طول الوقوف ومناقشة الحساب كما قيل: ذو الدرهمين أشدّ حسابًا يوم القيامة من ذي الدرهم ولأن طريق المتقين لا يسلكه من ملك في الدنيا زوجين من شيء، ما أحد يعطي من الدنيا شيئًا إلا قيل: خذه على ثلاثة أثلاث؛ ثلث همّ، وثلث شغل، وثلث حساب، وأن الرجل من الأغنياء ليوقف للحساب ما لو ورد مائة بعير عطاش على عرقه لصدرن رواء وإنه ليرى منازله من الجنة فلما وقر هذا في قلوب الورعين أشفقوا من طول الحساب فزهدوا في الجمع والمنع وفارقوا فضول الآمال طلبًا لخفة السؤال وسرعة(1/441)
الوقوف في الأهوال، ومن الزهد في الدنيا حبّ الفقر وأهله ومجالسة المساكين في أوطانهم والتذلّل لهم كما كان مطرف رحمه الله تعالى يجالس المساكين في بزّته يتقرّب بذلك إلى ربه، وكان محمد بن يوسف الأصفهاني عالماً زاهدًا ومن الناس من كان يفضّله على الثوري رحمها الله تعالى، إلا أنه كان يؤثر الخمول فلم يكن يعرفه إلا العلماء، وكان من حسن رهعايته وشدة يقظته يعمل في كلّ وقت أفضل ما يقدر عليه في ذلك الوقت، فلما طلبه ابن المبارك بالمصيصة قال له بعض من يعرف حاله: إن ذاك لا يكون في المصر إلا في أفضل موضع فيه قال: فهو إذا في الجامع فطلبه فقيل له: إنه لا يقعد إلا في أفضل مكان قال: فطلبه عند الفقراء فإذا هو دسّ رأسه وأخمل نفسه مع المساكين فكان عنده أن أفضل وطن في المصر الجامع لأنه يقال: إن الصلاة فيه بخمسين صلاة وإن أفضل الأماكن موضع الفقراء من الجامع وإن أفضل الأحوال الخمول، فلذلك أخمل نفسه فيما بين الفقراء في الجامع ليحوز فواضل الأعمال، ومن الزهد أن يكون بفقره مغتبطاً مشاهداً لعظيم نعمة الله تعالى عليه به يخاف أن يسلب فقره ويحول عن زهده، كما يكون الغني مغتبطاً بغناه يخاف الفقر ثم وجودحلاوة الزهد حتى يعلم الله تعالى من قلبه أن القلّة أحبّ إليه من الكثرة وأن الذلّ أحبّ إليه من العزّ وأن الوحدة آثر عنده من الجماعة وأن الخمول أعجب إليه من الاشتهار فهذا من إخلاصه في زهده.
وروينا عن عيسى عليه السلام وعن نبيّنا عليه السلام: أربع لا يدركن إلا بعجب الصمت، وهو أوّل العبادة والتواضع وكثرة الذكر وقلة الشيء، وقال الثوري رحمه الله تعالى: لا يكون الرجل عالماً حتى يعد البلاء نعمة والرخاء عقوبة، وقال بعض السلف: لا يفقه العبد كل الفقه حتى يكون الفقر أحبّ إليه من الغنى والذل آثر عنده من العزّ، وقد روينا خبراً مقطوعاً: لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يكون أن لا يعرف أحبّ إليه من أن يعرف وحتى يكون قلّة الشيء أحبّ إليه من كثرته، وكان السلف الصالح يقولون: نعمة الله علينا فيما صرف عنّا من الدنيا أعظم من نعمته فيما صرف إلينا، وكان الثوري رحمه الله تعالى يقول الدنيا دار التواء لا دار استواء ودار ترح لا منزل فرح، من عرفها لم يفرح برخاء ولم يحزن على شقاء، وكان سهل بن عبد الله رحمه الله يقول: لا يصحّ التعبّد لأحد ولايخلص له عمل حتى لا يجزع ولا يفرّ من أربعة أشياء: الجوع، والعرى، والفقر، والذل.
كما روينا أن إبراهيم التميمي رحمه الله تعالى دفع إليه خمسون ألف درهم فردّها فقيل له: لم رددتها فقال: أكره أن أمحو اسمي من ديوان الفقراء بخمسين ألفاً، ومن الزهد عند الزاهدين ترك فضول العلوم التي معلوماتها تؤول إلى الدنيا وتدعو إلى الجاه(1/442)
والمنزلة عند أبنائها وفيما لا نفع فيه في الآخرة ولا قربة به عند الله تعالى وقد تشغل عن عبادة الله تعالى وتفرق الهمّ عن اجتماعه بين يدي الله تعالى وتقسي القلب عن ذكر الله تعالى وتحجب عن التفكّر في آلائه وعظمته، وقد أحدثت علوم كثيرة لم تكن تعرف فيما سلف اتخذها الغافلون علماً وجعلها البطالون شغلاً انقطعوا بها عن الله تعالى وحجبوا بها عن مشاهدة علم الحقيقة لا نستطيع ذكرها لكثرة أهلها إلا أن نسأل عن شيء منها أعلم هو أم كلام أم حقّ أو تشبيه أو صدق وحكمة أو زخرف وغرور أم سنّة، هو عتيق أو محدث وتشديق، فحينئذ نخبر بصواب ذلك، ومن أفضل الزهد: الزهد في الرياسة على الناس، وفي المنزلة والجاه عندهم، والزهد في حبّ الثناء والمدح منهم لأن هذه المعاني هي من أكثر أبواب الدنيا عند العلماء، فالزهد فيها هو زهد العلماء، كان الثوري رحمه الله تعالى يقول: الزهد في الرياسة ومدح الخلق أشدّ من الزهد في الدنيار والدرهم قال: لأن الدنيار والدرهم قد يبذلان في طلب ذلك وكان يقول: هذا باب غامض لا يبصره إلا سماسرة العلماء.
وقال الفضيل رحمه الله تعالى: نقل الصخور من الجبال أيسر من إزالة رياسة قد ثبتت في قلب جاهل، وذهب أويس القرني رحمه الله تعالى إلى أن الزهد هو ترك الطلب للمضمون، قال هرم بن حبان: لقيته على شاطئ الفرات يغسل كسراً وخرقاً قد التقطها من المنبوذ وكان ذلك أكله ولباسه قال: فسألته عن الزهد أيّ شيء هو؟ فقال: في أيّ شيء خرجت قلت: أطلب المعاش فقال: إذا وقع الطلب ذهب الزهد وكان أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول: لا زهد إلا زهد أويس بلغ به العري حتى قعد في قوصرة، وكان أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى يقول: الزهد في النساء أن تختار المرأة الدون أو اليتيمة على المرأة الجميلة والمرأة الشريفة، وذهب إلى هذا مالك بن دينار، وقال سهل بن عبد الله رحمه الله تعالى: لا يصحّ الزهد في النساء لأنهن قد حبّبن إلى سيد الزاهدين ووافقه ابن عيينة فقال: ليس في كثرة النساء ذنب لأن أزهد الصحابة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وكان له أربع نسوة وبضعة عشر سرية، وكان الجنيد يقول: أحبّ للمريد المبتدي أن لا يشغل قلبه بهذه الثلاث وإلا تغيّر حاله التكسب وطلب الحديث والتزوّج، وقال: أحبّ للصوفيّ أن لا يقرأ ولا يكتب لأنه أجمع لهمّه، وفي الخبر: إنما الزهد أن تكون بما في يد الله سبحانه وتعالى أوثق منك بما في يديك، فهذا مقام التوكّل، وذهب قوم إلى أن الزهد ترك الادخار وكانت الدنيا عندهم هو الجمع.
وقال بعضهم: الدنيا هو ما شغل القلب واهتم به فجعلوا الزهد ترك الاهتمام وطرح النفس تحت تصريف الأحكام، وهذا هو التفويض والرضا، وقال أحمد بن أبي الحواري: قلت لأبي سليمان الداراني: إن مالك بن دينار قال للمغيرة: اذهب إلى البيت فخذ الركوة التي كنت أهديتها لي فإن العدوّ يوسوس إلي أن اللّص قد أخذها، فقال أبو سليمان: هذا(1/443)