وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99)
{ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ } أي شياطينُه الذين كانوا يُغوونهم ويُوسوسون إليهم ويسوِّلون لهم ما هم عليه من عبادةِ الأصنام وسائر فنون الكُفر والمعاصي ليجتمعُوا في العذاب حسبما كانُوا مجتمعين فيما يُوجبه وقيل : متبعوه من عصاة الثَّقلينِ والأوَّلُ هو الوجهُ { أَجْمَعُونَ } تأكيدٌ للضَّميرِ ما عُطف عليه وقوله تعالى :
{ قَالُواْ } الخ استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال نشأَ من حكاية حالِهم كأنَّه قيل ماذا قالوا حينَ فُعل بهم ما فُعل فقيل قال العَبَدةُ { وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ } أي قالوا معترفين بخطئِهم في انهماكِهم في الضَّلالةِ متحسَّرين معيِّرين لأنفسهم والحال أنَّهم في الجحيم بصددِ الاختصام مع من معهم من المذكورينَ مخاطبين لمعبودِيهم على أنَّ الله تعالى يجعلُ الأصنامَ صالحةً للاختصام بأنْ يُعطيها القدرةَ على الفهم والنُّطقِ .
{ تالله إِن كُنَّا لَفِى ضلال مُّبِينٍ } إنْ مخفَّفةٌ من الثَّقيلةِ قد حُذف اسمها الذي هو ضمير الشَّأنِ واللام فارقةٌ بينهما وبين النَّافيةِ أي إنَّ الشَّأنَ كُنَّا في ضلال واضح لا خفاءَ فيه ووصفهم له بالوضوح للإشباع في إظهار ندمهم وتحسُّرهم وبيان عِظَمِ خطئهم في رأيهم مع وضوح الحقِّ كما ينبىءُ عنه تصديرُ قَسَمهم بحرف التَّاءِ المُشعرةِ بالتَّعجُّبِ .
وقوله تعالى : { إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ العالمين } ظرفٌ لكونهم في ضلالٍ مبين وقيل لما دل عليه الكلام أي ضللنا وقيل للضَّلال المذكورِ وإن كان فيه ضعفٌ صناعيٌّ من حيث إنَّ المصدرَ الموصوفَ لا يعمل بعد الوصف ، وقيل : ظرفٌ لمبين . وصيغةُ المضارعِ لاستحضار الصُّورةِ الماضية أي تالله لقد كُنَّا في غاية الضَّلالِ الفاحش وقت تسويتنا إيَّاكُم أيُّها الأصنامُ في استحقاقِ العبادة بربِّ العالمين الذي أنتمُ أدنى مخلوقاتِه وأذلُّهم وأعجزُهم .
وقولهم { وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ المجرمون } بيتمٌ لسبب ضلالهم بعد اعترافِهم بصدوره عنهم لكن لا على معنى قصرِ الإضلال على المُجرمين دونَ منَ عداهم بل على مَعنى قصر ضلالِهم على كونه بسببِ إضلالِم من غير أنْ يستقلُّوا في تحقُّقهِ أو يكون بسبب إضلال الغيرِ كأنَّه قيل : وما صدرَ عنَّا ذلك الضَّلالُ الفاحش إلا بسبب إضلالِهم . والمرادُ بالمجرمين الذين أضلُّوهم رُؤساؤُهم وكُبراؤُهم ، كما في قولِه تعالى : { رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا } وعن السُّدِّيِّ رحمه الله : الأَوَّلُون الذين اقتدَوا بهم . وأيَّا ما كان ففيه أوفرُ نصيب من التَّعريضِ للذين قالُوا بل وجدنا آباءَنا كذلك يفعلون وعن ابنِ جُريجٍ : إبليسُ وابنُ آدمَ القاتلُ لأنَّه أوَّلُ من سَنَّ القتلَ وأنواعَ المعاصِي .(5/148)
فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103)
{ فَمَا لَنَا مِن شافعين } كما للمؤمنينَ من الملائكةِ والأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ .
{ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } كما نرى لهم أصدقاءَ أو فما لنا من شافعين ولا صديقٍ حميمٍ من الذين كنَّا نعدُّهم شفعاءَ وأصدقاءَ على أنَّ عدمَهما كنايةٌ عن عداوتِهما كما أنَّ عدمَ المحبَّةِ في مثل قوله تعالى : { والله لاَ يُحِبُّ الفساد } كنايةٌ عن البُغضِ حسبما ينبىءُ عنه قوله تعالى : { الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } أو وقعنا في مهلكة لا يخلِّصتا منها شافعٌ ولا صديقٌ على أنَّ المرادَ بعدمهما عدمُ أثرهِما . وجمعُ الشَّافعِ لكثرة الشُّفعاءِ عادةً كما أنَّ إفرادَ الصَّديقِ لقلَّتهِ أو لصحَّةِ إطلاقِه على الجمعِ كالعدوِّ تشبيهاً لهما بالمصادرِ كالحنينِ والقَبولِ وكلمةُ لو في قوله تعالى : { فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً } للتَّمنِّي كليتَ لما أنَّ بينَ معنييهما تلاقياً في معنى الفرضِ والتَّقديرِ كأنَّه قيل فليتَ لنا كرَّةً أي رجعةً إلى الدُّنيا وقيل : هي علي أصلِها من الشَّرطِ وجوابُه محذوفٌ كأنَّه قيل فلو أنَّ لنا كرةً لفعلنا من الخيراتِ كيتَ وكيتَ ويأَّباهُ قوله تعالى : { فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } لتحتُّم كونِه جواباً للتَّمنِّي مُفيداً لترتُّبِ إيمانهم على وقوعِ الكَرَّةِ البتةَ بلا تخلفٍ كم هو مقتضى حالِهم ، وعطفه على كرَّةً على طريقة
للُبسُ عباءةٍ وتقرَّ عينِي ... كما يستدعيه كون لو على أصلها إنَّما يفيد تحقُّقَ مضمون الجوابِ على تقدير تحقُّقِ كرَّتِهم وإيمانهم معاً من غير دلالة على استلزامِ الكرَّة للإيمانِ أصلاً مع أنَّه المقصودُ حتماً .
{ إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي فيما ذُكر من نبأ إبراهيمَ عليه السَّلامُ المشتملِ على بيان بُطلانِ ما كان عليه أهلُ مكَّةَ من عبادةِ الأصنامِ ، وتفصيلِ ما يؤول إليه أمرُ عَبَدتها يومَ القيامةِ من اعترافِهم بخطئِهم الفاحشِ وندمِهم وتحسُّرهم على ما فاتهم من الإيمان وتمنِّيهم الرَّجعةَ إلى الدُّنيا ليكونُوا من المؤمنين عند مشاهدتِهم لما أزلفت لهم جنَّاتُ النَّعيمِ وبُرِّزتْ لأنفسهم الجحيم وغشيهم ما غشيهم من ألوانِ العذابِ وأنواعِ العقابِ { لآيَةً } أي آية عظيمة لا يُقادرُ قَدرُها موجبةً على عبدة الأصنامِ كافَّةً لا سيَّما على أهلِ مكَّةَ الذين يدَّعُون أنَّهم على ملَّةِ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يجتنبُوا كلَّ الاجتنابِ ما كانُوا عليه من عبادتها خوفاً أنْ يحيقَ بهم مثلُ العذابِ بحكم الاشتراكِ فيما يُوجبه أو أن في ذكر نبئةِ وتلاوته عليهم على ما هُو عليه من غير أنْ تسمعه من أحدٍ لآيةً عظيمة دالَّة على أنَّ ما تتلوه عليهم وحيٌ صادقٌ نازلٌ من جهةِ الله تعالى موجبة للإيمان به قطعاً { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ } أكثرُ هؤلاء الذين تتلُو عليهم النبأَ مؤمنين بل هم مُصرُّون على ما كانُوا عليه من الكُفرِ والضَّلالِ ، وأمَّا أنَّ ضمير أكثرُهم لقومِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ كما توهَّمُوا فمما لا سبيل إليه أصلاً لظهور أنَّهم ما ازدادوا بما سمعُوا منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلا طُغياناً وكفراً حتَّى اجترأوا على تلك العظيمةِ التي فعلُوها به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فكيف يعبَّر عنهم بعدم إيمان أكثرِهم وإنما آمنَ له لوطٌ فنجَّاهُما الله عزَّ وجلَّ إلى الشَّامِ وقد مرَّ بقيَّةُ الكلام في آخرِ قصَّةِ موُسى عليه السَّلامُ .(5/149)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)
{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } أي هو القادرُ على تعجيلِ العُقوبةِ لقومِك ولكنَّه يُمهلهم بحكمِ رحمتهِ الواسعةِ ليؤمن بعضٌ منهم أو من ذريَّاتِهم .
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين } القوم مؤَّنثٌ ولذلك يُصغَّر على قُويمةٍ ، وقيل القومُ بمعنى الأُمَّةِ وتكذيبهم للمرسلين إما باعتبارِ إجماع الكلِّ على التَّوحيد وأصولِ الشَّرائعِ التي لا تختلفُ باختلاف الأزمنةِ والأعصارِ ، وإمَّا لأنَّ المرادَ بالجمعِ الواحدُ كما يقال فلانٌ يركب الدَّوابَّ ويلبس البُرود وما له إلا دَبَّةٌ وبرودة وإذ في قوله تعالى { إِذْ قَالَ لَهُمْ } ظرفٌ للتَّكذيبِ على أنَّه عبارةٌ عن زمانٍ مديدٍ وقعَ فيه ما وقعَ من الجانبينِ إلى تمام الأمر كما أنَّ تكذيبَهم عبارةٌ عمَّا صدرَ عنهم من حينِ ابتداءِ دعوتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى انتهائها { أَخُوهُمْ } أي نسيبُهم { نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } الله حيث تعبدُون غيرهَ .
{ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ } من جهته تعالى { أَمِينٌ } مشهور بالأمانةِ فيما بينكم .
{ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } فيما آمركُم به من التَّوحيدِ والطَّاعةِ لله تعالى .
{ وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ } أي على ما أنا متصدَ له من الدُّعاءِ والنُّصحِ { مِنْ أَجْرٍ } أصلاً { إِنْ أَجْرِىَ } فيما أتولاَّهُ { إِلاَّ على رَبّ العالمين } والفاء في قوله تعالى : { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } لترتيب ما بعدَها على ما قبلَها من تنرُّهه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن الطَّمعِ كما أن نظيرتَها السَّابقةَ لترتيب ما بعدها على أمانتِه والتَّكريرُ للَّتأكيدِ والتَّنبيهِ على أن كلاًّ منهما مستقلٌّ في إيجاب التَّقوى والطَّاعةِ فكيف إذا اجتمَعا . وقُرىء إن أَجْرِيْ بسكون الياء .
{ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } أي الأقلُّون جاهاً ومالاً جمع الأرذلِ على الصِّحَّةِ فإنَّه بالغلبة صار جارياً مجرى الاسمِ كالأكبرِ والأكابرِ وقيل : جمع أرذُل جمعُ رَذْلٍ كأكالبَ وأَكلُبٍ وكَلْبٍ وقُرىء وأتباعُك وهو جمع تابعٍ كشاهدٍ وأشهادٍ أو جمع تَبَع كبطلٍ وأبطالٍ يعنُون أنَّه لا عبرةَ باتِّباعِهم لك إذْ ليس لهم رزانةُ عقلٍ ولا إصابةَ رأيٍ وقد كان ذلك منهم في بادىءٍ الرَّأي كما ذُكر في موضعٍ آخرَ ، وهذا من كمال سخافةِ عقولِهم وقصرهم أنظارَهم على حُطامِ الدُّنيا وكونِ الأشرف عندهم مَن هو أكثرُ منها حظَّاً ، والأرذلُ مَن حُرمها ، وجهلِهم بأنَّها لا تزَنُ عند الله تعالى جناحَ بعوضةٍ وأنَّ النعيم هو نعيمُ الآخرةِ والأشرفَ من فازَ به والأرذلَ من حُرمه .(5/150)
قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118)
{ قَالَ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } جواب عَّما أُشير إليه من قولهم إنَّهم لم يُؤمنوا عن نظرٍ وبصيرةٍ أي وما وظيفتي إلاَّ اعتبارُ الظَّواهرِ وبناءُ الأحكامِ عليها دون التَّفتيشِ عن بواطنهم والشَّقِّ عن قلوبهم .
{ إِنْ حِسَابُهُمْ } أي ما محاسبةُ أعمالِهم والتَّنقيرُ عن كيفَّياتِها البارزةِ والكامنةِ . { إِلاَّ على رَبّى } فإنَّه المُطَّلعُ على السَّرائرِ والضَّمائرِ { لَوْ تَشْعُرُونَ } أي بشيءٍ من الأشياءِ أو لو كنتُم من أهلِ الشُّعور لعلمتم ذلك ولكنَّكم لستُم كذلك فتقولون ما تقولُون .
{ وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين } جواب عمَّا أوهمُه كلامُهم من استدعاءِ طردِهم وتعليقِ إيمانِهم بذلك حيثُ جعلوا اتِّباعَهم مانعاً عنه .
وقوله : { إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } كالعلَّةِ أي ما أنَا رسولٌ مبعوثٌ لإنذار المكلَّفين وزجرهِم عن الكفر والمعاصي سواءً كانُوا من الأعزَّاء أو الأذِلاَّء فكيف يتسنَّى لي طرد الفُقراء لاستتباع الأغنياءِ ، أو ما عليَّ إلاَّ إنذارُكم بالبرهان الواضحِ وقد فعلتُه وما عليَّ استرضاءُ بعضِكم بطردِ الآخرين .
{ قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يانوح } عمَّا تقول { لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين } من المشتُومين أو المرميين بالحجارةِ قالوه قاتلهم الله تعالى في أواخرِ الأمرِ .
ومعنى قوله تعالى : { قَالَ رَبّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ } تمُّوا على تكديبي وأصرُّوا على ذلك بعد ما دعوتُهم هذه الأزمنةَ المُتطاولة ولم يزدهم دعائي إلا فراراً كما يُعرب عنه دُعاؤْه بقولِه { فافتح بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً } أي أحكُم بيننا بما يستحقُّه كلُّ واحدٍ منَّا وهذه حكايةٌ إجماليةٌ لدعائِه المفصَّل في سورة نوحٍ عليه السَّلامُ { وَنَجّنِى وَمَن مَّعِى مِنَ المؤمنين } أي من قصدِهم أو من شؤمِ أعمالِهم .(5/151)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)
{ فأنجيناه وَمَن مَّعَهُ } حسب دعائِه { فِى الفلك المشحون } أي المملوءِ بهم وبما لا بُدَّ لهم منه .
{ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ } أي بعد إنجائِهم { الباقين } أي من قومِه .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } الكلامُ فيه كالذي مرَّ خلا أنَّ حمل : ( أكثرهم ) على قومِ نوحٍ أبعدُ من السَّدادِ وأبعدُ .
{ كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين } أُنِّثَ عادٌ باعتبار القبيلةِ وهو اسمُ أبيهم الأقصى .
{ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } الكلام في أنَّ المرادَ بتكذبيهم وبما وقعَ فيه من الزَّمانِ ماذا كما مرَّ في صدر قصَّة نوحٍ عليه السَّلامُ أي لا تتقون الله تعالى فتفعلون ما تفعلونَ .
{ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين } الكلام فيه كالذي مرَّ ، وتَصديرُ القصص به للتنبيه على أنَّ مبنى البعثةِ هو الدُّعاءِ إلى معرفةِ الحقِّ والطَّاعةِ فيما يُقرب المدعوَّ إلى الثَّوابِ ويُبعده من العقابِ وأنَّ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ مُجمعون على ذلك وإن اختلفُوا في بعض فروع الشَّرائعِ المختلفة باختلاف الأزمنةِ والأعصارِ وأنَّهم متنزِّهون عن المطامعِ الدنيةِ والأعراضِ الدُّنيويةِ بالكُلِّية .
{ أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ } أي مكانٍ مرتفعٍ ومنه رِيعُ الأرض لارتفاعِها { ءايَةً } عَلَماً للمارة { تَعْبَثُونَ } أي ببنائها إذْ كانُوا يهتدون بالنُّجومِ في أسفارِهم فلا يحتاجُون إليها أو بروج الحمام أو بُنياناً يجتمعون إليه ليعبثُوا بمن مرَّ عليهم أو قُصوراً عاليةً يفتخرونَ بها .(5/152)
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
{ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ } أي مآخذَ الماءِ وقيل : قُصوراً مشيَّدة وحصوناً { لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } أي راجين أنْ تُخلدوا في الدُّنيا أي عاملين عملَ مَنْ يرجُو ذلك فلذلك تحكمُون بنيانها .
{ وَإِذْا بَطَشْتُمْ } بسوطٍ أو سيفٍ { بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } متسلِّطين غاشمينَ بلا رأفةٍ ولا قصدِ تأديبٍ ولا نظرٍ في العاقبةِ .
{ فاتقوا الله } واتركُوا هذه الأفعالَ { وَأَطِيعُونِ } فميا أدعُوكم إليه فإنَّه أنفعُ لكم .
{ واتقوا الذى أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ } من أنواع النَّعماء وأصنافِ الآلاءِ ، أجملَها أوَّلاً ثم فصَّلها بقوله { أَمَدَّكُمْ بأنعام وَبَنِينَ } بإعادة الفعل لزيادةِ التَّقريرِ فإنَّ التَّفصيلَ بعد الإجمال والتَّفسيرَ إثر الإبهامِ أدخلُ في ذلك .
{ وجنات وَعُيُونٍ * إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ } إنْ لم تقوموا بشكرِ هذهِ النِّعم { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } في الدُّنيا والآخرةِ فإنَّ كُفران النِّعمةِ مستتبعٌ للعذاب كما أنَّ شكرَها مستلزمٌ لزيادتِها قال تعالى : { لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ . } { قَالُواْ سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ الواعظين } فإنَّا لنْ نرعويَ عمَّا نحن عليه ، وتغييرُ الشِّقِّ الثِّاني عن مقابله للمبالغة في بيان قلَّةِ اعتدادِهم بوعظه كأنَّهم قالُوا أم لم تكُن من أهلِ الوعظ ومباشريهِ أصلاً .
{ إِنَّ هَذَا } ما هذا الذي جئتنا به { إِلاَّ خُلُقُ الأولين } أي عاداتُهم كانوا يلفِّقون مثلَه ويسطرونَه أو ما هذا الذي نحنُ عليه من الدِّين إلَّا خُلُق الأولين وعادتهم ونحن بهم مقتدون أو ما هذا الذي نحن عليه من الموتِ والحياةِ إلا عادةٌ قديمةٌ لم يزل النَّاسُ عليها . وقُرىء خَلْق الأوَّلين بفتح الخاء أي اختلافُ الأولَّينَ كما قالوا أساطيرُ الأوَّلينَ أو ما خلقُنا هذا إلا خلقُهم نحيا كما حيُوا ونموت كما ماتُوا ولا بعثَ ولا حسابَ .(5/153)
وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)
{ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } على ما نحنُ عليه من الأعمالِ .
{ فَكَذَّبُوهُ } أي أصرُّوا على ذلك { فأهلكناهم } بسببه بريحٍ صرصرٍ { إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } .
{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالح أَلا تَتَّقُونَ } الله تعالى { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين * أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَآ آمِنِينَ } إنكارٌ ونفيٌ لأن يتركوا فيما هُم فيه من النِّعمة أو تذكير للنِّعمة في تخليته تعالى إيَّاهم وأسباب تنعمِهم آمنين وقوله تعالى : { فِى جنات وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ } تفسير لما قبلَه من المُبهم ، والهضيمُ اللَّطيفُ الليِّنُ للطف الثمر أو لأنَّ النخلَ أُنثى وطلع الإناث ألطفُ وهو ما يطلع منها كنصل السَّيفِ في جوفه شماريخُ القنوِ أو متدلَ متكسرٌ من كثرةِ الحملِ ، وإفرادُ النَّخل لفصله على سائر أشجارِ الجنَّاتِ أو لأن المرادَ بها غيرُها من الأشجارِ .
{ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فارهين } بطرينَ أو حاذقينَ من الفراهةِ وهي النَّشاطُ فإنَّ الحاذقَ يعملُ بنشاطٍ وطيبِ قلبٍ . وقُرىء فَرِهين وهو أبلغ .(5/154)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
{ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ * وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ المسرفين } استعير الطَّاعة التي هي انقيادُ الأمرِ لامتثالِ الأمر وارتسامِه أو نُسب حكم الأمر إلى أمرِه مجازاً .
{ الذين يُفْسِدُونَ فِى الأرض } وصف موضِّحٌ لإسرافهم ولذلك عطف { وَلاَ يُصْلِحُونَ } على يُفسدون لبيان خلوصِ إفسادِهم عن مخالطةِ الإصلاحِ .
{ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين } أي الذين سُحروا حتَّى غُلب على عقولِهم أو من ذوي السَّحْر أي الرِّئةِ أي من الإنسِ فيكون قولُه تعالى : { مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } تأكيداً له { فَأْتِ بِئَايَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصادقين } أي في دعواكَ .
{ قَالَ هذه نَاقَةٌ } أي بعدما أخرجَها الله تعالى من الصَّخرةِ بدعائه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حسبما مرَّ تفصيلُه في سورةِ الأعرافِ وسورة هودٍ { لَّهَا شِرْبٌ } أي نصيبٌ من الماء كالسِّقيِ والقِيت للحظِّ من السِّقيِ والقُوت وقُرىء بالضَّمِّ { وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } فاقتنعُوا بشربكم ولا تزاحمُوا على شِربها .
{ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء } كضرب وعقر { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ } وصف اليوم بالعظمِ لعظم ما يحلُّ فيه وهو أبلغُ من تعظيم العذابِ .
{ فَعَقَرُوهَا } أسند العقرَ إلى كلِّهم لما أنَّ عاقَرها عقرَها برأيهم ولذلك عمَّهم العذابُ { فَأَصْبَحُواْ نادمين } خوفاً من حُلول العذابِ لا توبةً أو عند معاينتهم لمباديه ولذلكَ لَمُ ينفعْهم النَّدمُ وإن كان بطريق التَّوبةِ .
{ فَأَخَذَهُمُ العذاب } أي العذابُ الموعودُ { إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } قيل : في نفيِ الإيمانِ عن أكثرِهم في هذا المعرض إيماءً إلى أنَّه لو آمن أكثرُهم أو شطرُهم لما أُخذوا بالعذابِ وأنَّ قُريشاً إنَّما عُصموا من مثلِه ببركةِ مَن آمنَ منهم وأنتَ خبيرٌ بأن قُريشاً هم المشهورونَ بعدمِ إيمانِ أكثرِهم .(5/155)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المرسلين * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين * أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين } ي أتأتون من بينِ منَ عداكم من العالمين الذاكرانَ لا يشارككم فيه غيرُكم أو أتأتون الذكران من أولادِ آدمَ مع كثرتِهم وغلبة النَّساءِ فيهم مع كونهنَّ أليقَ بالاستمتاعِ . فالمرادُ بالعالمين على الأوَّل كلُّ ما يُنكح من الحيوانِ وعلى الثَّاني الناسُ { وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ } لأجل استمتاعِكم ، وكلمة مِن في قوله تعالى : { مّنْ أزواجكم } للبيان إنْ أُريد بها جنسُ الإناثِ وهو الظَّاهرُ وللتبعيضِ إنْ أُريد بها العُضو المباحُ منهنَّ تعريضاً بأنَّهم كانُوا يفعلون ذلك بنسائِهم أيضاً { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } متعدُّون متجاوزونَ الحدَّ في جميعِ المعاصي وهذا من جُملتها وقيل متجاوزونَ عن حدِّ الشَّهوةِ حيث زادُوا على سائرِ النَّاسِ بل الحيواناتِ .
{ قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط } أي عن تقبيح أمرِنا أو نهينا عنه أو عن دَعْوى النُّبوة التي من جُملةِ أحكامِها التَّعرضُ لنا { لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين } أي من المنفيينَ من قريتنا وكأنَّهم كانوا يخرجون منَ أخرجوه من بينهم على عنفٍ وسوءِ حالٍ .
{ قَالَ إِنّى لِعَمَلِكُمْ مّنَ القالين } أي من المُبغضين غايةَ البغضِ كأنه يقْلى الفؤادَ والكبدَ لشدَّتِه وهو أبلغُ من أنْ يُقال إنِّي لعملِكم قالٍ لدلالتِه على أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من زُمرةِ الرَّاسخين في بغضِه المشهورينَ في قِلاه ، ولعلَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أراد إظهارَ الكراهة في مُساكنتِهم والرَّغبةِ في الخلاصِ من سوءِ جوارهم ولذلك أعرضَ عن محاورتِهم وتوجَّه إلى الله تعالى قائلاً { رَبّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ } أي من شؤمِ عملهم وغائلتِه .(5/156)
فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177)
{ فنجيناه وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ } أي أهلَ بيتهِ ومَن اتبعه في الدِّين بإخراجِهم من بينهم عند مشارفةِ حُلولِ العذابِ بهم .
{ إِلاَّ عَجُوزاً } هي امرأةُ لوطٍ استُثنيث من أهله فلا يضرُّه كونُها كافرةً لأنَّ لها شركةً في الأهلية بحقِّ الزَّواجِ { فِى الغابرين } أي مقدَّر كونُها من الباقين في العذابِ لأنَّها كانت مائلةً إلى القوم راضيةً بفعلهم وقد أصابها الحجرُ في الطَّريقِ فأهلكها كما مرَّ في سُورة الحجرِ وسُورة هودٍ ، وقيل : كانت فيمن بقيَ في القريةِ ولم تخرجْ مع لوطٍ عليه السلام .
{ ثُمَّ دَمَّرْنَا الاخرين } أهلكناهم أشدَّ إهلاكٍ وأفظَعه .
{ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا } أي مطراً غيرَ معهودٍ قيل : أمطر الله تعالى على شُذّاذ القوم حجارةً فأهلكتهم { فَسَاء مَطَرُ المنذرين } اللام فيه للجنسِ وبه يتسنَّى وقوعُ المضاف إليه فاعلَ ساءَ والمخصوص بالذمِّ محذوفٌ وهو مطرهم . { إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } .
{ كَذَّبَ أصحاب لْئَيْكَةِ المرسلين } الأيكةُ الغَيضةُ التي تُنبتُ ناعمَ الشَّجر وهي غَيضةٌ بقرب مَدْيَن يسكنها طائفة وكانُوا ممَّن بُعثَ إليهم شعيب عليه السَّلامُ وكان أجنبيَّاً منهم ولِذلك قيل : { إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } ولم يقُل أخُوهم ، وقيل : الأيكةُ الشَّجرُ الملتفُّ وكان شجرُهم الدَّومَ وهو المَقْلُ . وقُرىء بحذف الهمزةِ وإلقاءِ حركتِها على اللامِ وقُرئت كذلك مفتوحةً على أنَّها لَيْكةُ وهي اسمُ بلدهم وإنَّما كُتبت ههنا وفي ص بغيرِ ألفٍ إتباعاً للفظِ اللافظ .(5/157)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187)
{ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين * أَوْفُواْ الكيل } أي أتمُّوه { وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين } أي حقوقَ النَّاس بالتّطفيف .
{ وَزِنُواْ } أي الموزوناتِ { بالقسطاس المستقيم } بالميزانِ السَّويِّ وهو إن كانَ عربيَّاً فإنْ كان من القسطِ ففِعلاسٌ بتكرير العينِ وإلا ففعلالٌ وقُرىء بضمِّ القاف .
{ وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ } أي لا تُنقصوا شيئاً من حقوقِهم أي حقَ كان وهذا تعميمٌ بعد تخصيص بعضِ الموادِّ بالذكر لغاية انهماكِهم فيها { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ } بالقتل والغارة وقطعِ الطَّريقِ .
{ واتقوا الذى خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين } أي وذوي الجُبْلَّةِ الأوَّلينَ وهم مَن تقدمهم من الخلائقِ . وقُرىء بضمِّ الجيمِ والباءِ وبكسرِ الجيمِ وسكون الباءِ كالخِلْقة .
{ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين * وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } إدخالُ الواو بين الجملتينِ للدِّلالة على أنَّ كلاًّ من التَّسحيرِ والبشريةِ منافٍ للرِّسالةِ مبالغةً في التَّكذيبِ { وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين } أي فيما تدَّعيه من النُّبوة .
{ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ السماء } أي قِطعاً . وقُرىء بسكون السِّينِ وهو أيضاً جمعُ كِسفةٍ وقيل : الكِسفُ والكِسفةُ كالرِّيعِ والرِّيعةِ وهي القطعةُ . والمرادُ بالسَّماءِ إمَّا السَّحابُ أو المظلة ، ولعلَّه جوابٌ لما أشعر به الأمرُ بالتَّقوى من التَّهديد { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } في دعواكَ ولم يكُن طلبُهم ذلك إلا لتصميمهم على الجُحود والتَّكذيبِ وإلاَّ لمَا أخطرُوه ببالهم فضلاً أنْ يطلبُوه .(5/158)
قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)
{ قَالَ رَبّى أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } من الكُفر والمعاصي وبما تستحقُّون بسببه من العذابِ فسينزله عليكم في وقته المقدَّرِ له لا محالة .
{ فَكَذَّبُوهُ } أي فتمُّوا على تكذيبه وأصرُّوا عليه { فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة } حسبما اقترحُوا . أمَّا إن أرادُوا بالسَّماءِ السَّحابُ فظاهرٌ وأما إنْ أرادُوا الظلة فلأنَّ نزولَ العذابِ من جهتها ، وفي إضافة العذابِ إلى يومِ الظُّلَةِ دون نفسها إيذانٌ بأنَّ لهم يومئذٍ عذاباً آخرَ غيرَ عذاب الظُّلة وذلك بأنْ سلَّط الله عليهم الحرَّ سبعةَ أيام ولياليَها فأخذَ بأنفُسِهم لا ينفعهم طلٌّ ولا ماءٌ ولا سَرَبٌ فاضطرُّوا إلى أنْ خرجُوا إلى البريَّةِ فأظلتُهم سحابةٌ وجدوا لها بَرْداً و نَسيماً فاجتمعُوا تحتها فأمطرتْ عليهم ناراً فاحترقُوا جميعاً . رُوي أنَّ شُعيباً عليه السَّلامُ بُعث إلى أمَّتينِ أصحابِ مَدْينَ وأصحابِ الأَيكةِ فأُهلكتْ مَدْينُ بالصَّيحةِ والرَّجفةِ وأصحابُ الأيكةِ بعذابِ يوم الظُّلَّةِ { إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي في الشِّدَّةِ والهَوْلِ وفظاعةِ ما وقع فيه من الطَّامةِ والدَّاهيةِ التَّامةِ .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } هذا آخرُ القِصصِ السَّبعِ التي أُوحيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لصرفِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن الحرصِ على إسلام قومِه وقطعِ رجائه عنه ودفع تحسُّره على فواتِه تحقيقاً لمضمونِ ما مرَّ في مطلع السُّورةِ الكريمةِ من قوله تعالى : { وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرحمن مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ } الآيةَ فإنَّ كلَّ واحدةٍ من هذه القصص ذكرٌ مستقلُّ متجدِّد النُّزولِ قد أتاهم من جهتِه تعالى بموجب رحمتِه الواسعة وما كان أكثرُهم مؤمنين بعد ما سمعُوها على التَّفصيلِ قصَّةً بعد قصَّةٍ لا بأنْ يتدَّبروا فيها ويعتبروا بما في كلِّ واحدة منها من الدَّواعي إلى الإيمان والزَّواجرِ عن الكفر والطُّغيان ولا بأنْ يتأمَّلوا في شأن الآياتِ الكريمةِ النَّاطقة بتلك القصص على ما هي عليه مع علمِهم بأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم يسمعْ شيئاً منها من أحدٍ أصلاً واستمرُّوا على ما كانُوا عليه من الكفرِ والضَّلالِ كأنْ لم يسمعوا شيئاً يزجرهم عن ذلكَ قطعاً كما حُقِّقَ في خاتمة قصَّةِ موسى عليه السلام .
{ وَأَنَّهُ } أي ما ذُكر من الآيات الكريمة النَّاطقةِ بالقصص المحكيَّة أو القُرآن الذي هي مِن جُملته { لَتَنزِيلُ رَبّ العالمين } أي منزَّل من جهتِه تعالى سمِّي به مبالغةً ووصفه تعالى بربوبيَّةِ العالمين للإيذانِ بأنَّ تنزيلَه من أحكامِ تربيتهِ تعالى ورأفتِه للكُلِّ كقوله تعالى : { وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين }(5/159)
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)
{ نَزَلَ بِهِ } أي أنزلَه { الروح الأمين } أي جبريلُ عليه السَّلامُ فإنَّه أمينُ وحيهِ تعالى وموصِلُه إلى أنبيائِه عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ . وقُرىء بتشديدِ الزَّايِ ونصبِ الرُّوحِ والأمينِ ، أي جعل الله تعالى الرُّوحَ الأمينَ نازلاً به .
{ على قَلْبِكَ } أي رُوحك وإن أُريد به العُضو فتخصيصه به لأنَّ المعانَيَ الرُّوحانيَّةَ تنزل أولاً على الرُّوحِ ثمَّ تنتقلُ منه إلى القلبِ لما بينَهما من التَّعلُّق ثم تتصعدُ إلى الدِّماغِ فينتقش بها لوحُ المتخيلةِ { لِتَكُونَ مِنَ المنذرين } متعلِّق بنزلَ به أي أنزله لتنذرَهم بما في تضاعيفِه من العقوباتِ الهائلةِ وإيثارُ ما عليه النَّظمُ الكريمُ للِّدلالة على انتظامهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في سلكِ أولئك المنذرينَ المشهورينَ في حقِّيةِ الرِّسالةِ وتقرُّرِ وقوعِ العذابِ المُنذَر .
{ بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ } واضحِ المعنى ظاهرِ المدلولِ لئلاَّ يبقى لهم عذرٌ ما وهُو أيضاً متعلِّق بنزل به ، وتأخيره للاعتناءِ بأمر الإنذارِ وللإيماء إلى أنَّ مدارَ كونِه من جُملة المنذرين المذكورينَ عليهم السَّلامُ مجرَّدُ إنزالهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لا إنزالُه باللِّسان العربيِّ . وجعلُه متعلِّقاً بالمنذرين كما جَوَّزه الجمهورُ يؤدِّي إلى أنَّ غاية الإنزال كونُه عليه الصَّلاة والسَّلامُ من جملة المنذرينَ باللغة العربية فقط من هود وصالحٍ وشعيب عليهم السلام ولا يخفى فسادُه ، كيف لا والطَّامةُ الكُبرى في باب الإنذارِ ما أنذره نوح وموسى عليهما الصَّلاة والسَّلامُ وأشدُّ الزَّواجرِ تأثيراً في قلوب المشركينَ ما أنذَره إبراهيمُ عليه السلام لانتمائِهم وادِّعائِهم أنهم على ملَّته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .
{ وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الأولين } أي وإنَّ ذكره أو معناه لفي الكتبِ المتقدِّمةِ فإن أحكامه التي لا تحتملُ النَّسخَ والتَّبديلَ بحسب تبدُّلِ الأعصار من التَّوحيد وسائر ما يتعلَّق بالذَّات والصِّفاتِ مسطورة فيها وكذا ما في تضاعيفه من المواعظ والقصصِ ، وقيل : الضَّميرُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بواضحٍ .
{ أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءايَةً } الهمزة للإنكارِ والنَّفيِ ، والواو للعطف على مقدَّرٍ يقتضيه المقامُ كأنَّه قيل : أغفلوا عن ذلك ولم يكن لهم آيةٌ دالَّةٌ على أنَّه تنزيلٌ من ربِّ العالمينَ وأنه في زُبُر الأوَّلينَ على أن لهم متعلق بالكون قُدِّم على اسمه وخبرهِ للإهتمام به أو بمحذوف هو حالٌ من آيةً قُدِّمت عليها لكونها نكرةً وآية خبر للكون قُدِّم على اسمهِ الذي هو قوله تعالى { أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِى إسراءيل } لما مرَّ مراراً من الاعتناءِ والتَّشويقِ إلى المؤخِّرِ أي أن يعرفوه بنعوتِه المذكورة في كُتبهم ويعرفُوا من أنزل عليه . وقرىء تكن بالتَّأنيثِ وجعلت آيةٌ اسماً وأن يعلمه خبراً وفيه ضعفٌ حيث وقع النَّكرةُ اسماً والمعرفة خبراً وقد قيل : في تكن ضمير القصَّةِ وآية أنْ يعلمَه جملة واقعة موقعَ الخبرِ ويجوزُ أن يكون لهم آيةٌ هي جملة الشَّأنِ وأن يعلمه بدلاً من آية ويجوز مع نصبِ آية تأنيث تكُن كما في قوله تعالى : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } وقُرىء تعلمُه بالتَّاءِ .(5/160)
وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)
{ وَلَوْ نزلناه } كما هو بنظمه الرَّائقِ المعجز { على بَعْضِ الأعجمين } الذين لا يقدرُون على التَّكلُّمِ بالعربيةِ وهو جمع أعجمِي على التَّخفيفِ ولذلك جُمع جمعَ السَّلامةِ وقُرىء الأعجميينَ وفي لفظ البعضِ إشارةٌ إلى كونِ ذلك واحداً من عرض تلك الطَّائفةِ كائناً من كان .
{ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم } قراءةً صحيحة خارقة للعادات { مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ } مع انضمامِ إِعجازَ القراءة إلى إعجازِ المقروءِ لفرطِ عنادِهم وشدَّةِ شكيمتهم في المكابرةِ . وقيل : المعنى ولو نزَّلناه على بعض الأعجمين بلغة العجمِ فقرأَهُ عليهم ما كانُوا به مؤمنين لعدم فهمِهم واستنكافِهم من اتِّباع العجمِ وليس بذاكَ فإنَّه بمعزل من المناسبة لمقام بيان تمادِيهم في المكابرةِ والعنادِ .
{ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ } أي مثل ذلك السَّلكِ البديعِ المذكورِ سلكناهُ أي أدخلنا القرآنَ { فِى قُلُوبِ المجرمين } ففهمُوا معانيه وعرَفوا فصاحتَه وأنه خارجٌ عن القُوى البشرَّية من حيث النَّظمُ المُعجزُ ومن حيثُ الإخبازُ عن الغيبِ وقد انضمَّ إليه اتِّفاقُ علماء أهل الكتبِ المنزلة قبله على تضمنها للبشارةِ بإنزالِه وبعثةِ مَن أنزل عليه بأوصافِه فقوله تعالى { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } جملةٌ مستأنفة مسوقة لبيانِ أنَّهم لا يتأثَّرون بأمثال تلك الأمورِ الدَّاعية إلى الإيمانِ به بل يستمرُّون على ما هم عليه { حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } الملجىءَ إلى الإيمانِ به حين لا ينفعُهم الإيمانُ .
{ فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً } أي فجأةً في الدَّنيا والآخرةِ { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } بإتيانِه { فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ } تحسُّراً على ما فاتَ من الإيمانِ وتمنيَّاً للإمهالِ لتلاِفي ما فرَّطُوه وقيل : معنى كذلك سلكناهُ مثل تلك الحالِ وتلك الصِّفةِ من الكفرِ به والتَّكذيبِ له وضعناه في قلوبِهم . وقوله تعالى : { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } في موقعِ الإيضاحِ والتَّلخيص له أو في موقعِ الحال أي سلكناهُ فيها غير مؤمنٍ به والأول هو الأنسبُ بمقام بيان غايةِ عنادِهم ومكابرتِهم مع تعاضدِ أدلَّة الإيمانِ وتآخذِ مبادىء الهدايةِ والإرشادِ وانقطاعِ أعذارِهم بالكلِّية وقيل ضمير سلكناهُ للكُفر المدلولِ عليه بما قبله من قوله تعالى : { مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ } ونُقل عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما والحسنِ ومجاهدٍ رحمهما الله تعالى أدخلنَا الشِّركَ والتَّكذيبَ في قلوب المجرمين .(5/161)
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)
{ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } بقولهم : { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وقولهم : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } ونحوهِما وحالهم عند نزولِ العذابِ كما وصف . من طلبِ الإنذارِ فالفاءُ للعطفِ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقامُ أي أيكونُ حالُهم كما ذُكر من الاستنظارِ عند نزول العذابِ الأليمِ فيستعجلون بعذابِنا وبينهما من التَّنافي ما لا يَخفْى على أحدٍ أو أيغفلون عن ذلك مع تحقُّقِه وتقرُّرهِ فيستعجلونَ الخ . وإنَّما قُدمِّ الجارُّ والمجرورُ للإيذانِ بأنَّ مصبَّ الإنكارِ والتَّوبيخِ كونُ السمتعجلِ به عذابَه تعالى مع ما فيهِ من رعايةِ الفواصلِ .
{ أَفَرَأَيْتَ } لمَّا كانت الرُّؤيةُ من أقوى أسبابِ الإخبارِ بالشَّيء وأَشهرِها شاعَ استعمالُ أرأيتَ في معنى أخبرني والخطابُ لكلِّ من يصلح له كائناً من كانَ والفاء لترتيب الاستخبار على قولهم هل نحن منظورون وما بينَهما اعتراض للتَّوبيخِ والتَّبكيتِ وهي متقدِّمةٌ في المعنى على الهمزةِ ، وتأخيرها عنها صورةً لاقتضاءِ الهمزةِ الصَّدارةَ كما هو رأي الجمهور أي فاخبرنِي { إِن متعناهم سِنِينَ } متطاولةً بطول الأعمار وطيبِ المعايشِ .
{ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ } من العذابِ { مَا أغنى عَنْهُمْ } أيُّ شيءٍ أو أيُّ إغناء أغنى عنهم { مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ } أي كونُهم ممتَّعينَ ذلك التمتيعَ المديدَ على أن ما مصدريةٌ أو ما كانُوا يمتَّعون به من متاعِ الحياة الدُّنيا على أنَّها موصولةٌ حذف عائدها ، وأيَّاً ما كان فالاستفهامُ للإنكارِ والنَّفي . وقيل : ما نافيةٌ أي لم يُغن عنهم تمتعهم المتطاولُ في دفعِ العذابِ وتخفيفِه والأول هو الأَولى لكونِه أوفقَ لصورة الاستخبارِ وأدلَّ على انتفاءِ الإغناءِ على أبلغِ وجهٍ وآكدهِ كأن كلَّ مَن مِن شأنِه الخطابُ قد كلِّف أنْ يخبر بأنَّ تمتيعهم ماذا أفادَهم وأي شيء أغنى عنُهم فلم يقدرْ أحدٌ على أنْ يخبر بشيءٍ من ذلك أصلاً . وقُرىء يمتعون من الإمتاعِ .
{ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ } من القُرى المهلكة { إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } قد أنذروا أهلَها إلزاماً للحجَّةِ .
{ ذِكْرِى } أي تذكرةً ومحلُّها النصب على العلَّةِ أو المصدر لأنَّها في معنى الإنذارِ كأنَّه قيل مذكرون ذكرى أو على أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعل هو صفةٌ لمنذرون أي إلا لها منذرون يذكرونهم ذكرى أو الرَّفع على أنَّها صفةُ منذرون بإضمار ذوو أو بجعلِهم ذكرى لإمعانِهم في التَّذكرةِ أو خبر مبتدأ محذوفٍ والجملةُ اعتراضيةٌ وضميرُ لها للقُرى المدلولِ عليها بمفردِها الواقع في حيِّز النَّفي على أنَّ معنى أن الكل منذرين أعمُّ من أن يكونَ لكلِّ قريةٍ منها منذر واحد أو أكثر { وَمَا كُنَّا ظالمين } فنهلك غيرَ الظَّالمينَ وقيل : الإنذارُ والتَّعبيرُ عن ذلك بنفي الظَّالميةِ مع أنَّ إهلاكَهم قبل الإنذارِ ليس بظلمٍ أصلاً على ما تقرَّر من قاعدةِ أهلِ السُنَّةِ لبيانِ كمال نزاهتِه تعالى عن ذلك بتصويرِه بصورةِ ما يستحيلُ صدورُه عنه تعالى من الظلم وقد مرَّ في سورةِ آلِ عمرانَ عند قوله تعالى : { وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ }(5/162)
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)
{ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين } ردٌّ لما زعمه الكفرةُ في حقِّ القرآنِ الكريمِ من أنه من قبيلِ ما يُلقيه الشَّيطانُ على الكَهنةِ بعد تحقيقِ الحقِّ ببيان أنه نزل به الرُّوحُ الأمينُ .
{ وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ } أي وما يصحُّ وما يستقيمُ لهم ذلك { وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } ذلك أصلاً .
{ إِنَّهُمْ عَنِ السمع } لكلامِ الملائكةِ { لَمَعْزُولُونَ } لاتنفاءِ المشاركةِ بينهم وبين الملائكةِ في صفاء الذَّواتِ والاستعداد لقبولِ فيضان أنوار الحقِّ والانتقاش بصور العلومِ الرَّبانيةِ والمعارف النُّورانيةِ ، كيف لا ونفوسُهم خبيثةٌ ظلمانية شريرةٌ بالذَّاتِ غير مستعدة إلا لقبولِ ما لا خيرَ فيه أصلاً من فنُون الشُّرورِ فمن أين لهم أنْ يحومُوا حولَ القرآن الكريم المنطوي على الحقائقِ الرَّائقةِ الغيبَّيةِ التي لا يمكن تلقِّيها إلا من الملائكةِ عليهم الصَّلاة والسَّلام .
{ فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المعذبين } خُوطب به النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تهييجاً وحثاً على ازديادِ الإخلاصِ ولطفاً لسائرِ المكلَّفين ببيانِ أنَّ الإشراكَ من القُبح والسُّوء بحيث يُنهى عنه مَن لا يمكن صدورُه عنه فكيفَ بمن عداهُ .
{ وَأَنذِرِ } العذابَ الذي يستتبعهُ الشِّركُ والمُعاصي { عَشِيرَتَكَ الأقربين } الأقربَ منهم فالأقربَ فإنَّ الإهتمامَ بشأنِهم أهمُّ .
رُوي أنَّه لمَّا نزلتْ صعدَ الصَّفا وناداهم فَخِذاً فَخِذاً حتى اجتمعُوا إليه فقال : « لو أخبرتُكم أنَّ بسفح هذا الجبلِ خيلاً أكنتُم مُصدِّقِيّ » قالوا : نعمَ ، قال : « فإنيِّ نذيرٌ لكم بين يَديَّ عذابٍ شديدٍ » ورُوي أنَّه قال : « يابني عبدِ المطَّلبِ يا بني هاشمِ يا بني عبدِ منافٍ افتدُوا أنفسَكم من النَّارِ فإنِّي لا أُغني عنكم شيئاً » ثم قالَ : « يا عائشةُ بنت أبي بكرٍ ويا حفصةُ بنتَ عمرَ ويا فاطمةُ بنتَ محمَّدٍ ويا صفيَّةُ عمَّة محمَّدٍ اشترينَ أنفسكنًّ من النَّارِ فإنِّي لا أُغني عنكُنَّ شيئاً » . { واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } أي ليِّن جانَبك لهم . مستعارٌ من حال الطَّائرِ فإنَّه إذا أرادَ أنْ ينحطَّ خفضَ جناحَه ، ومن للتَّبيين لأنَّ من اتبَّع أعمّ ممَّن اتبع لدينِ أو غيره أو للتَّبعيض على أن المراد بالمؤمنينَ المشارفون للإيمانِ أو المصدِّقون باللَّسانِ فحسب .(5/163)
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
{ فَإِنْ عَصَوْكَ } ولم يتَّبعوك { فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ } أي ممَّا تعملُون أو من أعمالكم .
{ وَتَوكَّلْ عَلَى العزيز الرحيم } الذي يقدرُ على قهرِ أعدائِه ونصرِ أوليائِه يكفِك شرَّ من يصيبك منهُم ومن غيرهم وقرىء فتوكل على أنَّه بدلٌ من جواب الشَّرطِ .
{ الذى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } أي إلى التَّهجد { وَتَقَلُّبَكَ فِى الساجدين } وتردُّدك في تصفُّحِ أحوالِ المتهجديَن كما ( روي أنه لما نسخ فرضُ قيام اللَّيلِ طاف عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تلك الليلةَ ببيوت أصحابِه لينظرَ ما يصنعون حرصاً على كثرةِ طاعتِهم فوجدها كبيوتِ الزَّنابيرِ لمَا سمع منها من دندنِتهم بذكر الله تعالى والتِّلاوةِ ) أو تصرّفَك فيما بين المصلِّين بالقيامِ والرُّكوعِ والسُّجودِ والقُعودِ إذا أممتهم . وإنَّما وصفَ الله تعالى ذاتَه بعلمِه بحالِه عليه الصلاة والسلام التي بها يستأهلُ ولايتَه بعد أنْ عبَّر عنه بما يُنبىء عن قهرِ أعدائِه ونصرِ أوليائِه من وصفي العزيزِ الرَّحيمِ تحقيقاً للتَّوكلِ وتوطيناً لقلبه عليه .
{ إِنَّهُ هُوَ السميع } لما تقولُ : { العليم } بمَا تنويِه وتعمله .
{ هَلْ أُنَبّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين } أي تتنزلُ بحذف إحدى التَّاءينِ وهو استئناف مسوق لبيان استحالةِ تنزُّلِ الشيَّاطينِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بيانِ امتناع تنزُّلهم بالقرآنِ . ودخولُ حرفِ الجرِّ على مَن الاستفهاميةِ لما أنَّها ليستْ موضوعةً للاستفهامِ بل الأصلُ أمن فحذف حرفُ الاستفهامِ واستمر الاستعمالُ على حذفِه كما حُذف من هَلْ والأصل أهَلْ .
وقوله تعالى : { تَنَزَّلُ على كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } قصرٌ لتنزُّلهم على كل من اتَّصف بالإفكِ الكثيرِ والإثمِ الكبيرِ من الكهنةِ والمتنبّئة وتخصيصٌ له بهم بحيثُ لا يتخطَّاهم إلى غيرِهم وحيثُ كانت ساحةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم منزَّهةً عن أنْ يحومَ حولَها شائبةُ شيءٍ من تلك الأوصافِ اتَّضح استحالةُ تنزلهم عليه عليه الصَّلاة والسَّلام .
{ يُلْقُون } أي الأفَّاكون { السمع } إلى الشَّياطينِ فيتلَّقَون منهم أوهاماً وأماراتٍ لنقصان علمهم فيضمُّون إليها بحسبِ تخيلاتِهم الباطلةِ خرافاتٍ لا يُطابق أكثرُها الواقعَ وذلك قوله تعالى : { وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون } أي فيما قالُوه من الأقاويلِ وقد ورد في الحديثِ « الكلمة يخطفُها الجنيُّ فيقرُّها في أذنِ وليَّهِ فيزيد فيها أكثرَ من مائةِ كذبةٍ » أو يلقون السَّمعَ أي المسموعَ من الشَّياطينِ إلى النَّاسِ وأكثرُهم كاذبون يفترُون على الشَّياطينِ ما لم يوحوا إليهم وإلا ظهر أنَّ الأكثريةَ باعتبار أقوالهم على معنى أنَّ هؤلاء قلَّما يصدُقون فيما يحكون عن الجنيِّ ، وأما في أكثره فهم كاذبونَ ومآلُه وأكثرُ أقوالِهم كاذبةٌ لا باعتبار ذواتِهم حتى يلزمَ من نسبة الكذبِ إلى أكثرهم كونُ أقلِّهم صادقينَ على الإطلاقِ وليس معنى الأفَّاكِ من لا ينطقُ إلا بالإفكَ حتَّى يمتنعَ منه الصِّدقُ بل من يكثُر الإفكَ فلا ينافيه أن يصدقَ نادراً في بعض الأحايين وقيل : الضَّميرُ للشَّياطينِ أي يلقون السَّمعَ أي المسموعَ من الملأ الأعلى أنْ رجموا من بعضِ المغيبات إلى أوليائِهم وأكثرُهم كاذبونَ فيما يُوحون به إليهم إذ لا يسمعُونهم على نحو ما تكلَّمت به الملائكةُ لشرارتِهم أو لقصورِ فهمهم أو ضبطهم أو إفهامِهم ولا سبيلَ إلى حملِ إلقاء السَّمعِ على تسمُّعهم وإنصاتِهم إلى الملأ الأعلى قبل الرَّجمِ كما جَوَّزه الجمهورُ لما أن يلقون كما صرَّحوا به إما حالٌ من ضمير تنزل مفيدة لمقارنة التنزل للإلقاءِ أو استئناف مبيِّنٌ للغرض من التَّنزلِ مبنيٌّ على السَّؤالِ عنه ، ولا ريبَ في أن إلقاء السَّمعِ إلى الملأ الأعلى بمعزلٍ من احتمال أنْ يقارن التَّنزل أو يكون غرضاً منه لتقدُّمهِ عليه قطعاً ، وإنَّما المحتملُ لهما الإلقاء بالمعنى الأول فالمعنى على تقدير كونِه حالاً تنزل الشَّياطينِ على الأفَّاكين ملقين إليهم ما سمعُوه من الملأ الأعلى ، وعلى تقديرِ كونِه جواباً على سؤالِ من قال لِمَ تنزلُ عليهم وماذا يفعلون بهم : يُلقون إليهم ما سمعُوه وحمله على استئناف الأخبارِ كما فعله بعضهم غيرُ سديدٍ لأنَّ ذكرَ حالِهم السَّابقةِ على تنُّزلهم المذكورِ قبله غيرُ خليقٍ بَجزَالةِ التَّنزيل وأمَّا على تقديرِ كونِ ضميرِ يُلقون للأفَّاكين فهو صفةٌ لكلِّ أفَّاكٍ لأنَّه في معنى الجمعِ سواء أُريد بإلقاء السَّمعِ الإصغاءُ إلى الشَّياطينِ أو إلقاء المسموعِ إلى النَّاس ويجوزُ أنْ يكونَ استئنافُ إخبارٍ بحالِهم على كِلا التَّقديرينِ لما أنَّ كُلاًّ من تلقيهم من الشَّياطينِ وإلقائِهم إلى الناسِ يكون بعد التَّنزيلِ وأنْ يكونَ استئنافاً مبنيَّاً على السُّؤالِ على التَّقديرِ الأوَّلِ فقط كأنَّه قيل : ما يفعلونَ عند تنزلِ الشَّياطينِ عليهم فقيل يُلقون إليهم أَسماعَهم ليحفظُوا ما يُوحون به إليهم .(5/164)
وقولُه تعالى : وأكثرُهم كاذبونَ على التَّقدير الأوَّلِ استئنافٌ فقط وعلى الثَّاني يحتملُ الحاليَّةُ من ضميرِ يُلقون أي يُلقون ما سمِعُوه من الشَّياطين إلى النَّاس ، والحالُ أنهم في أكثرِ أقوالِهم كاذبونَ فتدبَّرْ .(5/165)
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)
{ والشعراء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون } استئنافٌ مسوقٌ لإبطال ما قالُوا في حقِّ القُرآنِ العظيمِ منْ أنَّه من قبيلِ الشِّعرِ ، وأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من الشعراء ببيان حال الشعراء المنافية لحاله عليه الصلاة والسلام بعد إبطالِ ما قالُوا إنَّه من قبيلِ ما يلقي الشَّياطينُ على الكهنةِ من الأباطيلِ بما مرَّ من بيانِ أحوالِهم المضادة لأحوالِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والمعنى أنَّ الشُّعراءَ يتَّبعُهم أي يُجاريهم ويسلكُ مسلكَهم ويكونُ من جُملتهم الغاوون الضَّالُّون عن السَّنَنِ الحائرون فيما يأتُون وما يَذَرُون لا يستمرُّون على وَتيرةٍ واحدةٍ في الأفعالِ والأقوالِ والأحوالِ لا غيرُهم من أهلِ الرُّشدِ المهتدينَ إلى طريقِ الحقِّ الثَّابتينِ عليهِ .(5/166)
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
وقولُه تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ } استشهادٌ على أنَّ الشُّعراء إنَّما يتبعُهم الغَاوُون وتقريرٌ له والخطابُ لكلِّ من تتأتَّي منه الرُّؤيةُ للقصدِ إلى أنَّ حالَهم من الجَلاءِ والظُّهورِ بحيثُ لا تختصُّ برؤيةِ راءٍ دوُنَ راءٍ ، أي ألم تَر أنَّ الشُّعراءَ في كلِّ وادٍ من أوديةِ القيلِ والقالِ وفي كلِّ شِعبٍ من شِعابِ الوهمِ والخيالِ وفي كلِّ مسَلكٍ من مسالك الغَيِّ والضَّلالِ يهيمونَ على وجوهِهم لا يهتدون إلى سبيلٍ مُعيَّنٍ من السُّبلِ بل يتحيرَّون في فيافي الغَوايةِ والسَّفاهةِ ويتيهُون في تيه المجُون والوقاحِة دينُهم تمزيقُ الأعراضِ المحميَّةِ والقَدحُ في الأنسابِ الطَّاهرةِ السَّنيَّةِ والنَّسيبُ بالحرامِ والغَزلُ والإبتهارُ والتَّرددُ بين طَرَفَيْ الإفراطِ والتَّفريطِ في المدحِ والهجاءِ .
{ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ } من الأفاعيلِ غيرَ مُبالين بما يستتبعُه من اللوائمِ فكيف يُتوهَّم أنْ يتبعَهم في مسلكِهم ذلكَ ويلتحقَ بهم وينتظمَ في سلكهم مَن تنزَّهت ساحتُه عن أنْ يحومَ حولها شائبةُ الإتصافِ بشيءٍ من الأمورِ المذكُورةِ واتَّصف بمحاسنِ الصِّفاتِ الجليلةِ وتخلَّق بمكارمِ الأخلاقِ الجميلةِ وحازَ جميعَ الكمالاتِ القدسيَّةِ وفاز بجُملة الملكاتِ الأنسيَّةِ مُستقراً على المنهاجِ القويمِ مستمرَّاً على الصِّراطِ المستقيمِ ناطقاً بكلِّ أمرٍ رشيدٍ دَاعياً إلى صراطِ العزيزِ الحميدِ مؤيَّداً بمعجزاتٍ قاهرةٍ وآياتٍ ظاهرةٍ مشحونةٍ بفنونِ الحكمِ الباهرةِ وصنوفِ المعارفِ الزَّاهرةِ مستقلَّةٍ بنظمٍ رائقٍ أعجزَ كلَّ منطقٍ ماهرٍ وبكَّت كلَّ مُفلقٍ ساحرٍ . هذا وقد قيل : في تنزيهِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن أن يكونَ من الشُّعراءِ أنَّ أتباعَ الشُّعراء الغَاوون وأتباعَ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ليسُوا كذلك ولا ريبَ في أنَّ تعليلَ عدمِ كونِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ منهم بكون أتباعِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ غيرَ غَاوين بما لا يليقُ بشأنِه العالِي وقيل : الغَاوُون الراوُون وقيل : الشَّياطينُ وقيل : هم شُعراء قُريشٍ : عبدُ الله بنُ الزِّبَعرْىَ ، وهُبيرةُ بنُ أبي وَهْبٍ المَخزوميُّ ، ومسافعُ بنُ عبدِ منافٍ ، وأبُو عَّزةَ الجُمَحيُّ ومن ثقيفٍ أميَّةُ بنُ أبي الصَّلتِ قالوا نحنُ نقولُ مثلَ قولِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم . وقُرىء والشُّعراءَ بالنَّصبِ على إضمارِ فعلٍ يُفسِّره الظَّاهرُ . وقُرىء يتْبَعُهم على التَّخفيفِ ويتبعْهم بسكونِ العينِ تشبيهاً لتبع بعضُد .
{ إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } استثناءٌ للشُّعراء المؤمنينَ الصَّالحينَ الذينُ يكثرون ذكرَ الله عزَّ وجلَّ ويكونُ أكثرُ أشعارهِم في التَّوحيدِ والثَّناءِ على الله تعالى والحثِّ على طاعتِه والحكمةِ والموعظةِ والزُّهُدِ في الدُّنيا والتَّرغيبِ عن الركونِ إليها والزَّجرِ عن الاغترارِ بزخارفِها والافتتانِ بملاذِّها القلبيةِ ولو وقع منهم في بعضِ الأوقات هجوٌ وقع ذلك منهم بطريقِ الانتصارِ ممَّن هجاهُم وقيل : المرادُ بالمستثنَينَ عبدُ اللَّه بنُ رَوَاحةَ ، وحسَّانُ بنُ ثابتٍ ، وكعبُ بنُ مالكٍ ، وكعبُ بنُ زُهيرِ بنِ أبي سُلْمى ، والذين كانُوا يُنافحون عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ويكافحون هُجاةَ قُريشٍ .(5/167)
وعن كعبِ بنِ مالكٍ رضي الله تعالى عنْهُ أنَّ رسوَل الله صلى الله عليه وسلم قال له : « اهجُهم ، فوالذي نفسِي بيدِه لهُو أشدُّ عليهم من النَّبلِ » وكان يقولُ لحسَّانَ : « قُل ورُوحُ القُدُسِ مَعَك » { وَسَيَعْلَمْ الذين ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } تهديدٌ شديدٌ ووعيدٌ أكيدٌ لما في سيعلمُ من تهويلٍ متعلَّقةِ وفي الذين ظلموا من الإطلاقِ والتعميم وفي أيَّ منقلبٍ ينقلبون من الإبهامِ والتهويلِ وقد قاله أبُو بكرٍ لعمرَ رضي الله عنهما حينَ عَهِدَ إليه . وقُرىء أي مُنفلتٍ ينفلتونَ من الانفلاتِ بمعنى النجاةِ والمعنى أنَّ الظَّالمين يطمعُون أنْ ينفلتُوا من عذابِ الله تعالى وسيعلمُون أنْ ليس لهم وجهٌ من وجوهِ الانفلاتِ .
عن النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ « مَن قرأَ سورةَ الشُّعراءِ كان له من الأجرِ عشرُ حسناتٍ بعددِ مَن صدَّقَ بنوحٍ وكذَّبَ به وهودٍ وصالحٍ وشُعيبٍ وإبراهيمَ وبعددِ من كذَّب بعيسى وصدَّق بمحمَّدٍ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ » .(5/168)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)
{ طس } بالتَّفخيمِ وقُرىءَ بالإمالةِ . والكلامُ فيهِ كالذي مرَّ في نظائرِه من الفواتحِ الشريفةِ . ومحلَّه على تقديرِ كونِه اسماً للسورةِ وهو الأظهرُ والأشهرُ الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي هذا طس أي مسمَّى بهِ . والإشارةُ إليهِ قبلَ ذكرِه قد مرَّ وجهُها في فاتحةِ سورةِ يونسَ وغيرِها . ورفعُه بالابتداءِ على أنَّ ما بعده خبرٌ ضعيفٌ لما ذُكر هناك . { تِلْكَ } إشارةٌ إلى نفسِ السُّورةِ لأنَّها التي نوَّهتْ بذكرِ اسمِها لا إلى آياتِها لعدمِ ذكرِها صريحاً لأنَّ إضافتَها إليها تأبى إضافتَها إلى القُرآنِ كما سيأتي . وما في اسمِ الإشارةِ من مَعْنى البُعدِ مع قربِ العهدِ بالمشارِ إليهِ للإيذانِ ببعدِ منزلتِه في الفضلِ والشرفِ . ومحله الرفعُ على الابتداءِ خبرُه { ءَايَاتِ القرءان } والجملةُ مستأنفةٌ مقررةٌ لما أفادَه التسميةُ من نباهةِ شأنِ المسمَّى . والقرآنُ عبارةٌ عن الكلِّ أو عن الجميعِ المنزلِ عند نزولِ السُّورةِ حسبَما ذُكر في فاتحةِ الكتابِ أي تلك السورةُ آياتُ القرآنِ المعروفِ بعلوِّ الشأنِ ، أي بعضٌ منه مترجمٌ مستقلٌّ باسمٍ خاصَ { وكتاب } أي كتابٌ عظيمُ الشأنِ { مُّبِينٌ } مظهرٌ لما في تضاعيفهِ من الحكمِ والأحكامِ وأحوالِ الآخرةِ التي من جُملتِها الثوابُ والعقابُ أو لسبيلِ الرُّشدِ والغيِّ ، أو فارقٌ بين الحقِّ والباطلِ والحلالِ والحرامِ أو ظاهرُ الإعجازِ على أنَّه منْ أبانَ بمعنى بانَ ولقد فخَّم شأَنه الجليلَ بما جَمع فيه من وصفِ القرآنيةِ المنبئةِ عن كونِه بديعاً في بابهِ ممتازاً عن غيرِه بالنظمِ المعجزِ كما يُعربُ عنه قولُه تعالى : { قُرْءاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ } ووصفُ الكتابيةِ المعربةِ عن اشتمالِه على صفاتِ كمالِ الكتبِ الإلهيةِ فكأنه كلَّها . وقدَّم الوصفَ الأولَ ههنا نظراً إلى تقدمِ حالِ القرآنيةِ على حالِ الكتابيةِ وعكسَ في سورةِ الحجرِ نظراً إلى ما ذُكر هناك من الوجهِ وما قيلَ من أنَّ الكتابَ هو اللوحُ المحفوظُ وإبانته أنَّه خطَّ فيهِ ما هو كائنٌ فهو يبينه للناظرينَ فيه لا يساعدُه إضافةُ الآياتِ إذ لا عهدَ باشتمالِه على الآياتِ ولا وصفِه بالهدايةِ والبشارةِ إذ هُما باعتبارِ إبانتِه فلا بُدَّ من اعتبارِها بالنسبةِ إلى النَّاسِ الذين من جُملتهم المؤمنونَ لا إلى الناظرينَ فيهِ وقُرىءَ وكتابُ ، بالرفعِ على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مقامَه أي وآياتُ كتابٍ مبينٍ .(5/169)
هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
{ هُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ } في حيزِ النصبِ على الحاليةِ من الآياتِ على أنَّهما مصدرانِ أُقيما مُقامَ الفاعلِ للمبالغةِ كأنَّهما نفسُ الهُدَى والبشارةِ ، والعاملُ معنى الإشارة أي هاديةً ومبشِّرةً أ الرَّفعُ على أنَّهما بدلانِ من الآياتِ أو خبرانِ آخرانِ لتلك أو لمبتدأٍ محذوفٍ . ومعنى هدايتها لهم وهمُ مهتدون أنَّها تزيدُهم هُدى . قالَ تعالى : { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ } وأمَّا معنى تبشيرِها إيَّاهُم فظاهرٌ لأنَّها تبشِّرهم برحمةٍ من الله ورضوان وجنَّاتٍ لهم فيها نعيمٌ مقيمٌ .
وقولُه تعالى : { الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكواة } صفةٌ مادحةٌ لهم وتخصيصُهما بالذكرِ لأنَّهما قرينَتا الإيمانِ وقُطرا العباداتِ البدنيَّةِ والماليَّةِ مستتبعانِ لسائرِ الأعمالِ الصَّالحةِ . وقولُه تعالى : { وَهُم بالأخرة هُمْ يُوقِنُونَ } جملةٌ اعتراضيةٌ كأنَّه قيلَ وهؤلاء الذينَ يُؤمنون ويعملُون الصَّالحاتِ هم الموقنون بالآخرة حقَّ الإيقانِ لا مَن عداهُم لأنَّ تحمُّلَ مشاقِّ العباداتِ لخوفِ العقابِ ورجاءِ الثَّوابِ أو هُو مِن تتمةِ الصِّلةِ . والواوُ حالَّيةٌ أو عاطفةٌ له على الصِّلةِ الأُولى وتغييرُ نظمِه للدِّلالةَ على قوَّةِ يقينهم وثباتِه وأنَّهم أوحديُّون فيه .
{ إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة } بيانٌ لأحوالِ الكَفَرة بعدَ بيانِ أحوالِ المُؤمنينَ أي لا يُؤمنون بها وبما فيها من الثَّوابِ على الأعمالِ الصَّالحةِ والعقابِ على السَّيِّئاتِ حسبما ينطقُ به القرآنُ { زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم } القبيحةَ حيثُ جعلناها مشتهاةً للطَّبعِ محبوبةً للنَّفسِ كما يُنبيءُ عنه قولُه عليه الصَّلاة والسَّلام : « حُفَّتِ النَّارُ بالشَّهواتِ » أو الأعمالَ الحسنةَ ببيانِ حُسنها في أنفسِها حالاً واستتباعِها لفنونِ المنافعِ مآلاً . وإضافتُها إليها باعتبارِ أمرِهم بها وإيجابِها عليهم { فَهُمْ يَعْمَهُونَ } يتحيرون ويتردَّدون على التَّجددِ والاستمرارِ في الاشتغالِ بها والانهماكِ فيها من غيرِ ملاحظةٍ لما يتبعها من نفع وضرَ أو في الضَّلالِ والإعراض عنها . والفاء على الأول لترتيبِ المسبَّبِ على السَّببِ وعلى الثَّاني لترتيبِ ضدِّ المُسبَّبِ على السَّببِ كما في قولك وعظتُه فلم يتَّعظ وفيه إيذانٌ بكمالِ عتوِّهم ومكابرتِهم وتعكيسهم في الأمور { أولئك } إشارةٌ إلى المذكورينَ وهو مبتدأ خبره الموصولُ بعده أي أولئك الموصُوفون بالكُفر والعمهِ { الذين لَهُمْ سُوء العذاب } أي في الدَّنيا كالقتلِ والأسرِ يومَ بدرٍ { وَهُمْ فِى الأخرة هُمُ الأخسرون } أي أشدُّ النَّاس خُسراناً لفواتِ الثَّوابِ واستحقاقِ العقابِ .(5/170)
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)
{ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان } كلام مستأنفٌ قد سيق بعد بيانِ بعضِ شؤونِ القرآن الكريمِ تمهيداً لما يعقبُه من الأقاصيصِ ، وتصديرُه بحرفَيْ التَّأكيدِ لإبراز كمال العنايةِ بمضمونِه أي لتؤتاه بطريق التَّلقيةِ والتَّلقينِ { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } أيْ أيِّ حكيمٍ وأيِّ عليمٍ وفي تفخيمهما تفخيمٌ لشأن القرآن وتنصيصٌ على علوِّ طبقتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في معرفتِه والإحاطة بما فيه من الجلائلِ والدقائقِ فإنَّ من تلقى العلومَ والحكمَ من مثل ذلك الحكيمِ العليمِ يكون عَلَماً في رصانةِ العلمِ والحكمةِ والجمع بينهما مع دخولِ العلم في الحكمةِ لعموم العلمِ ودلالة الحكمة على إتقانِ الفعلِ وللإشعارِ بأنَّ ما في القرآن من العلومِ منها ما هو حكمةٌ كالعقائدِ والشَّرائعِ ومنها ما ليسَ كذلك كالقصصِ والأخبارِ الغيبَّية .
وقوله تعالى : { إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ } منصوبٌ على المفعولية بمضمرٍ خُوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأُمر بتلاوةِ بعضٍ من القرآن الذي يُلقاه عليه الصَّلاةُ والسلام من لَدْنه عزَّ وجلَّ تقريراً لما قبله وتحقيقاً له أي أذكُر لهم وقت قوله عليه الصَّلاة والسَّلامُ لأهلِه في وادي طوى وقد غشيتُهم ظلمةُ اللَّيلِ وقدَح فأصلَدَ زنده فبدا له من جانب الطور ناراً { إِنّى آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } أي عن حال الطَّريقِ وقد كانوا ضلُّوه ، والسِّينُ للدِّلالةِ على نوعِ بُعدٍ في المسافةِ وتأكيد الوعد والجمع إن صحَّ أنَّه لم يكُن معه عليه الصلاة والسلام إلا امرأتُه لما كنى عنها بالأهلِ أو للتَّعظيمِ مبالغةً في التَّسليةِ { أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ } بتنوينهما على أن الثَّاني بدل من الأَوَّلِ أو صفة له لأنَّه بمعنى مقبوسٍ أي بشعلة نارٍ مقبوسةٍ أي مأخودة من أصلها . وقُرىء بالإضافةِ وعلى التَّقديرينِ فالمرادُ تعيينُ المقصودِ الذي هو القَبس الجامعُ لمنفعتي الضِّياءِ والاصطلاءِ لأنَّ من النَّار ما ليس بقبسٍ كالجمرِ وكلتا العُدَّتينِ منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بطريق الظنِّ كما يفصحُ عن ذلك ما في سورةِ طه من صيغة التَّرجى ، والتَّرديدُ للإيذانِ بأنَّه إن لم يظفرْ بهما لم يعدم أحدهما بناءً على ظاهرِ الأمرِ وثقةً بسُنَّةِ الله تعالى فإنَّه تعالى لا يكادُ يجمع على عبده حرمانينِ { لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } رجاءَ أنْ تستدفئوا بها والصِّلاءُ النَّارُ العظيمةُ .
{ فَلَمَّا جَاءهَا نُودِىَ } من جانب الطُّورِ { أَن بُورِكَ } معناه أي بُورك على أن أنْ مفسِّرةٌ لما في النِّداءِ من معنى القولِ أو بأنْ بورك على أنَّها مصدرية حُذف عنها الجارُّ جرياً على القاعدة المستمرَّةِ ، وقيل : مخفَّفةٌ من الثَّقيلة ، ولا ضير في فقدان التَّعويضِ بلا أو قد أو السِّينِ أو سوفَ لما أنَّ الدُّعاء يخالفُ غيرَه في كثير من الأحكامِ { مَن فِى النار وَمَنْ حَوْلَهَا } أي من في مكانِ النَّارِ وهي البقعةُ المباركةُ المذكورةُ في قوله سبحانه نُودي من شاطيءِ الوادي الأيمنِ في البقعة المباركة ومن حولَ مكانها وقُرىء تباركتِ الأرضُ ومَن حولَها والظَّاهرُ عمومُه لكلِّ مَن في ذلك الوادِي وحواليه من أرض الشَّامِ الموسومةِ بالبركات لكونها مبعثَ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلام وكفاتهم أحياءً وأمواتاً ولا سيَّما تلك البقعةُ التي كلَّم الله تعالى فيها مُوسى .(5/171)
وقيل : المرادُ موسى والملائكةُ الحاضرونَ ، ، وتصديرُ الخطابِ بذلك بشارةٌ بأنَّه قد قضى له أمر عظيمٌ دينيٌّ تنتشر بركاتُه في أقطارِ الشَّامِ وهو تكليمُه تعالى إيَّاه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ واستنباؤه له وإظهار المعجزات على يدِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ { وسبحان الله رَبّ العالمين } تعجيبٌ لموسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من ذلك وإيذانٌ بأنَّ ذلك مريدُه ومكونُه ربُّ العالمينَ تنبيهاً على أنَّ الكائنَ من جلائلِ الأمورِ وعظائمِ الشُّؤونِ ومن أحكامِ تربيته تعالى للعالمين .(5/172)
يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)
{ ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله } استئنافٌ مسوقٌ لبيان آثارِ البركةِ المذكورةِ . والضَّمير إمَّا للشَّامِ وأنا اللَّهُ جملة مفسِّرةٌ له وإمَّا راجعٌ إلى المتكلِّمِ وأنا خبرُه والله بيان له وقوله تعالى : { العزيز الحكيم } صفتانِ لله تعالى ممهدتانِ لما أريد إظهارُه على يدِه من المعجزاتِ أي أنا القويُّ القادرُ على ما لا تناله الأوهامُ من الأمورِ العظامِ التي من جُملتها أمرُ العصا واليدُ ، والفاعلُ كلَّ ما أفعله بحكمةٍ بالغة وتدبير رصين .
{ وَأَلْقِ } عطف على بُورك منتظم معه في سلك تفسير النِّداءِ أي نُودي أنْ بُورك وأن ألقِ { عَصَاكَ } حسبما نطقَ به قولُه تعالى : وأنْ ألقِ عصاك بتكريرِ حرفِ التَّفسير كما تقول كتبتُ إليه أنْ حُجَّ وأنِ اعتمرْ وإن شئتَ أن حجَّ واعتمرْ والفاء في قوله تعالى : { فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ } فصيحةٌ تفصحُ عن جملةٍ قد حُذفت ثقةً بظهورها ودلالةً على سرعةِ وقوع مضمونِها كما في قوله تعالى : { اخرج عَلَيْهِنَّ } كأنَّه قيل : فألقاهَا فانقلبت حيةً تسعى فأبصرَها فلَّما أبصرها متحركةً بسرعة واضطراب . وقوله تعالى : { كَأَنَّهَا جَانٌّ } أي حيَّةٌ خفيفة سريعة الحركة جملة حالية إما من مفعولِ رأى مثل يهتزُّ كما أُشير إليه أو من ضميرِ تهتز على طريقة التَّداخلِ وقرىء جأن على لغةِ من جدَّ في الهربِ من التقاءِ السَّاكنينِ { ولى مُدْبِراً } من الخوفِ { وَلَمْ يُعَقّبْ } أي لم يرجعْ على عقبةِ ، مِن عقّب المقاتلُ إذا كرَّ بعد الفرِّ وإنما اعتراهُ الرُّعب لظنِّه أن ذلك الأمرَ أُريد به كما يُنبىء عنه قوله تعالى : { خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ } أي من غيري ثقةً بي أو مطلقاً لقوله تعالى : { إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ المرسلون } فإنَّه يدلُّ على نفيِ الخوفِ عنهم مُطلقاً لكن لا في جميعِ الأوقاتِ بل حين يُوحى إليهم كوقتِ الخطابِ فإنَّهم حينئذٍ مستغرقُون في مطالعةِ شؤونِ الله عزَّ وجلَّ لا يخطرُ ببالِهم خوفٌ من أحدٍ أصلاً وأما في سائرِ الأحيانِ فهم أخوفُ النَّاسِ منه سبحانَه أو لا يكون لهم عندي سوءُ عاقبة ليخافُوا منه .(5/173)
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
{ إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوء فَإِنّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ } استثناءٌ منقطع استدرك به ما عسى يختلجُ في الخلد من نفي الخوفِ عن كلِّهم مع أنَّ منهم من فرطتْ منه صعيرةٌ مما يجوز صدورُه عن الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام فإنَّهم وإنْ صدرَ عنهم شيءٌ من ذلك فقد فعلوا عقيبه ما يبطلُه ويستحقُّون به من الله تعالى مغفرةً ورحمةً وقد قصد به التَّعريض بما وقعَ من موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من وكزهِ القبطيَّ والاستغفارِ ، وتسميتُها ظُلماً لقوله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « ربِّ إنِّي ظلمتُ نفسي فاغفرْ لي فغفرَ له » { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ } لأنَّه كان مدرعةَ صوفٍ لا كم لها وقيل : الجيبُ القميصُ لأنَّه يُجاب أي يُقطع { تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء } أي آفة كبَرَصٍ ونحوه { فِى تِسْعِ ءَايَاتٍ } في جُملتها أو معها على أنَّ التِّسعَ هي الفَلْقُ والطُّوفان والجرادُ والقُمَّلُ والضَّفادعُ والدَّمُ والطَّمسةُ والجَدبُ في بواديهم والنُّقصان في مزارعِهم ولمن عدَّ العصَا واليدَ من التسعِ أن يعدَّ الأخيرين واحداً ولا يعدُّ الفَلْق منها لأنه لم يُبعث به إلى فرعونَ أو اذهب في تسع آيات على أنه استئنافٌ بالإرسالِ فيتعلَّق به { إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ } وعلى الأولين يتعلَّق بنحو مبعوثاً أو مرسلاً { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين } تعليل للإرسالِ أي خارجين عن الحدود في الكفرِ والعُدوان .
{ فَلَمَّا جَاءتْهُمْ ءاياتنا } وظهرتْ على يدِ مُوسى { مُبْصِرَةً } بينة اسم فاعلِ أطلق على المفعول إشعاراً بأنَّها لفرطِ وضوحِها وإنارتِها كأنَّها تُبصر نفسَها لو كانت ممَّا يبُصر أو ذاتُ تبصُّرٍ من حيث أنها تهدي والعمي لا تهتدي فضلاً عن الهدايةِ أو مبصرة كلَّ مَن ينظر إليها ويتأمَّلُ فيها وقرىء مَبْصرة أي مكاناً يكثُر فيه التَّبصرُ .
{ قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ } واضحٌ سحريته .
{ وَجَحَدُواْ بِهَا } أي كذَّبوا بها { واستيقنتها أَنفُسُهُمْ } الواو للحالِ أي وقد استيقنتها أي علمتها أنفسُهم علماً يقينياً { ظُلْماً } أي للآياتِ كقوله تعالى : { بِمَا كَانُواْ بآياتنا يَظْلِمُونَ } ولقد ظلُموا بها أيَّ ظلم حيث حطُّوها عن رتُبتها العاليةِ وسمَّوها سحراً وقيل ظُلماً لأنفسِهم وليس بذاك { وَعُلُوّاً } أي استكباراً عن الإيمان بها كقوله تعالى : { والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا واستكبروا عَنْهَا } واتنصابهُما إما على العلَّةِ من جحدُوا بها أي على الحاليةِ من فاعله أي جحدُوا بها ظالمين لها مستكبرين عنها { فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين } من الإغراقِ على الوجهِ الهائل الذي هو عبرةٌ للعالمين ، وإنَّما لم يذكر تنبيهاً على أنَّه عرضة لكلِّ ناظرٍ مشهور فيها بين كل بادٍ وحاضرٍ .(5/174)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ وسليمان عِلْماً } كلامٌ مستأنف مسوقٌ لتقرير ما سبقَ من أنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يُلَقَّى القرآنَ من لدن حكيمٍ عليمٍ فإنَّ قصَّتهمَا عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ من جملة القرآنِ الكريمِ لُقّيه عليه الصلاة والسلام من لدنه تعالى كقصَّةِ موسى عليه الصلاة والسلام ، وتصديرُه بالقسمِ لإظهارِ كمالِ الاعتناءِ بتحقيق مضمونِه أي آتينا كل واحد منهما طائفةً من العلم لائقةً به من علمِ الشرَّائعِ والأحكامِ وغير ذلك مما يختصُّ بكلَ منهما كصنعةِ لبوسٍ ومنطقِ الطَّيرِ أو علماً سنياً عزيزاً { وَقَالاَ } أي قال كلُّ واحد منهما شُكراً لما أوتيه من العلمِ { الحمد لِلَّهِ الذى فَضَّلَنَا } بما آتانَا من العلمِ { على كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ المؤمنين } على أنَّ عبارةَ كلَ منهما فضَّلني إلا أنَّه عبَّر عنهما عند الحكايةِ بصيغة المتكلِّم مع الغير إيجازاً فإن حكايةَ الأقوالِ المتعدِّدة سواء كانتْ صادرةً عن المتكلِّم أو عن غيره بعبارةٍ جامعة للكُلِّ مما ليس بعزيزٍ ، ومن الأوَّلِ قوله تعالى : { يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا } وقد مرَّ في سورة قد أفلح المؤمنون وبهذا ظهر حسنُ موقع العطفِ بالواو إذ المتبادر من العطفِ بالفاء ترتبُ حمدِ كلَ منهما على إيتاءِ ما أوتي كلٌّ منهما لا على إيتاءِ ما أوتي نفسه فقط وقيل : في العطفِ بالواوِ إشعارٌ بأنَّ ما قالاهُ بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلمِ وشيء من مواجبه فأضمر ذلك ثم عطف عليه التَّحميد كأنَّه قيل : ولقد آتيناهُما علماً فعمِلا به وعلماه وعرفا حقِّ النِّعمةِ فيه ، وقالا الحمدُ لله الآية فتأمَّل والكثيرُ المفضل عليه من لم يُؤت مثل علمهما وقيل من لم يُؤت علماً ويأباه تبيينُ الكثير بالمؤمنين فإنَّ خلوهم من العلم بِالمرةِ مما لا يمكن ، وفي تخصيصِهما الأكثرَ بالذِّكر رمزٌ إلى أنَّ البعضَ مفضَّلون عليهما وفيه أوضحُ دليلٍ على فضل العلمِ وشرفِ أهلهِ حيثُ شكرا على العلمِ وجعلاه أساسَ الفضلِ ولم يعبترا دونَه ما أُوتيا من الملكِ الذي لم يُؤته غيرهما وتحريضٌ للعلماءِ على أن يحمدُوا الله تعالى على ما آتاهُم من فضلِه ويتواضعوا ويعتقدُوا أنَّهم وإنْ فُضِّلوا على كثيرِ فقد فُضِّل عليهم كثيرٌ وفوقَ كلَّ ذي علمٍ عليم ونِعمّا قال أميرُ المؤمنينَ عمر رضي الله عنه : ( كلُّ النَّاس أفقهُ من عمرَ ) .
{ وَوَرِثَ سليمان دَاوُودُ } أي النُّبوةَ والعلمَ أو الملكَ بأنْ قامَ مقامَهُ في ذلكَ دونَ سائرِ بنيهِ وكانُوا تسعةَ عشَر { وَقَالَ } تشهيراً لنعمةِ الله تعالى وتنويهاً بها ودعاءً للنَّاسِ إلى التصديقِ بذكرِ المُعجزاتِ الباهرةِ التي أُوتيها { ياأيها الناس عُلّمْنَا مَنطِقَ الطير وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَىْء } المنطقُ في المتعارَفِ كلُّ لفظٍ يُعبَّر بهِ عمَّا في الضميرِ مُفرداً كانَ أو مُركباً وقد يُطلق على كلِّ ما يُصوَّتُ بهِ من المفرد والمؤلَّفِ المفيدِ وغيرِ المفيدِ يقالُ نطقت الحمامةُ .(5/175)
وكلُّ صنفٍ من أصنافِ الطيرِ يتفاهُم أصواتُه والذي عُلِّمه سليمانُ عليه السَّلامُ من منطقِ الطيرِ هو ما يُفهم بعضُه من بعضٍ من معانيهِ وأغراضِه . ويُحكَى أنَّه مرَّ على بُلبلٍ في شجرةٍ يُحرِّكُ رأسَهُ ويُميلُ ذنبَهُ فقالَ لأصحابِه أتدرونَ ما يقولُ ، قالوُا الله ونبيُّه أعلمُ . قالَ يقولُ : إذا أكلتُ نصفُ تمرةٍ فعلى الدُّنيا العَفاءُ . وصاحتْ فاختةٌ فأَخبرَ أنَّها تقولُ : ليتَ الخلقَ لم يُخلقوا . وصاحَ طاووسٌ فقالَ يقول : كَمَا تَدينُ تُدانُ . وصاحَ هُدهدٌ فقالَ : يقول : استغفرُوا الله يا مُذنبينَ . وصاحَ طَيْطَوى ، فقال : يقول : كُلُّ حيَ ميتٌ ، وكلُّ جديدٍ بالٍ . وصاحَ خُطَّافٌ فقالَ : يقولُ : قَدِّمُوا خيراً تجدوه . وصاحَ قَمْريٌّ فأَخبرَ أنَّه يقولُ : سُبحانَ ربِّي الأَعْلَى . وصاحت رخمةٌ فقال تقول : سبحان ربي الأعلى ملءَ سمائِه وأرضِه . وقالَ الحِدَأةُ تقولُ : كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا الله ، والقطاةُ تقولُ : منْ سكتَ سلَمْ . والببغاءُ تقولُ : ويلٌ لمنْ الدٌّنيا همُّه ، والديكُ يقولُ : اذكرُوا الله يا غافلينَ ، والنَّسرُ يقولُ : يا ابنَ آدمَ عِشْ مَا شئتَ آخرُكَ الموتُ ، والعُقابُ تقولُ : في البعدِ عن النَّاسِ أُنسٌ والضِّفدِعُ يقولُ : سبُحانَ رَبِّي القُدُّوسِ . وأرادَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بقولِه : عُلِّمنا وأُوتينَا بالنُّونِ التي يُقال لها نونُ الواحدِ المُطاع بيانَ حالِه وصفتِه من كونِه ملكاً مطاعاً لكنْ لا تجبُّراً وتكبُّراً بل تمهيداً لما أرادَ منهم من حُسنِ الطاعةِ والانقيادِ له في أوامرِه ونواهيِه حيثُ كان على عزيمةِ المسيرِ . وبقولِه : من كلِّ شيءٍ كثرةَ ما أُوتيه كما يُقال فلانٌ يقصده كلُّ أحدٍ ويعلمُ كلَّ شيءٍ ويُرادُ بهِ كثرةَ قُصَّادِه وغزارةَ علمهِ . ومثلُه قولُه تعالى : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء } وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا : كلُّ ما يهمُّه من أمرِ الدُّنيا والآخرةِ . وقال مقاتلٌ : يعني النُّبوةَ والملكَ وتسخيرَ الجنِّ والإنسِ والشياطينِ والريحِ .
{ إِنَّ هَذَا } إشارةٌ إلى ما ذُكرَ من التعليمِ والإيتاء { لَهُوَ الفضل } والإحسانُ من الله تعالَى { المبين } الواضحُ الذي لا يخفى على أحدٍ أو إنَّ هَذا الفضلَ الذي أُوتيهِ لهو الفضلُ المبينُ على أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قاله على سيبل الشكرِ والمحمدةِ كما قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : « أنَا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخرَ » أي أقولُ هذا القولَ شُكراً لا فخراً ولعلَّه عليه الصَّلاة والسَّلام رتَّب على كلامه ذلك دعوةَ النَّاسِ إلى الغزوِ فإنَّ إخبارَهم بإيتاءِ كلِّ شيءٍ من الأشياءِ التي من جُملتها آلاتُ الحربِ وأسبابُ الغزوِ ممَّا ينبىءُ عن ذلك .(5/176)
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
وقولِه تعالى { وَحُشِرَ لسليمان جُنُودُهُ } جُمع له عساكرُه { مِنَ الجن والإنس والطير } بمباشرة مخاطبيِه فإنَّهم كانوا رؤساءَ مملكتِه وعظماءَ دولتهِ من الثَّقلينِ وغيرِهم ، بتعميم النَّاس للكلِّ تغليباً . وتقديمُ الجنِّ على الإنسِ في البيانِ للمسارعةِ إلى الإيذانِ بكمالِ قوَّة مُلكِه وعزَّةِ سُلطانِه من أول الأمرِ لما أنَّ الجنَّ طائفةٌ عاتيةٌ وقبيلةٌ طاغيةٌ ماردةٌ بعيدةٌ من الحشرِ والتسخيرِ . { فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي يُحبس أوائلُهم على أواخِرهم أي يُوقف سُلافُ العسكرِ حتى يلحقَهم التَّوالي فيكونُوا مجتمعينَ لا يختلفُ منهم أحدٌ وذلك للكثرة العظيمةِ . ويجوزُ أن يكونَ ذلك لترتيب الصُّفوفِ كما هم المُعتاد في العساكرِ ، وفيه إشعارٌ بكمال مسارعتِهم إلى السَّير . وتخصيصُ حسبِ أوائلِهم بالذكر دون سوقِ أواخرهم مع أنَّ التلاحقَ يحصلُ بذلكَ أيضاً لما أنَّ أواخرَهم غيرُ قادرينَ على ما يقدرُ عليه أوائلُهم من السيرِ السريعِ ، وهذا إذَا لم يكُن سيرُهم بتسييرِ الرِّيح في الجوِّ . رُوي أنَّ معسكرَه عليهِ الصَّلاة والسَّلام كان مائةَ فرسخٍ في مائةٍ ، خمسةٌ وعشرونَ للجنِّ وخمسةٌ وعشرونَ للإنس وخمسةٌ وعشروَن للطيرِ وخمسةٌ وعشرونَ للوحشِ . وكان له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ألف بيتٍ من قواريرَ على الخشبِ ثلاثمائةُ منكوحةٍ وسبعمائةُ سريةٍ ، وقد نسجتْ له الجنُّ بساطاً من ذهبٍ وإِبْرِيْسَمَ فرسخاً في فرسخٍ وكان يُوضعُ منبرُه في وسطِه وهو من ذهبٍ فيقعدُ عليه وحوله ستمائة ألفِ كرسيَ من ذهبٍ وفضةٍ فيقعدُ الأنبياءُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ على كَرَاسي الذهبِ والعلماءُ على كَرَاسي الفضَّةِ وحولَهم النَّاسُ وحول النَّاسِ الجنُّ والشياطينُ وتظله الطيرُ بأجنحتِها حتَّى لا تقعَ عليه الشمسُ وترفع ريحُ الصَّبا البساطَ فتسيرُ به مسيرةَ شهرٍ . ويُروى أنَّه كان يأمُر الريحَ العاصفَ تحملُه ويأمُر الرُّخاء تسيره فأَوحى الله تعالى إليهِ وهو يسيرُ بين السماءِ والأرضِ إنَّي قد زدتُ في ملككَ لا يتكلم أحدٌ بشيءٍ إلا ألقته الريحُ في سمعِك فيُحكى أنه مرَّ بحرَّاثٍ فقال : لقد أُوتيَ آلُ داودَ ملكاً عظيماً فألقته الريحُ في أذنِه فنزلَ ومشى إلى الحرَّاثِ وقال : إنَّما مشيتُ إليكَ لئلاَّ تتمنَّى ما لا تقدرُ عليه ، ثمَّ قال لتسبيحةٌ واحدةٌ يقبلها الله تعالى خيرٌ مما أُوتي آلُ داودَ .(5/177)
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)
{ حتى إِذَا أَتَوْا على وَادِى النمل } حتَّى هي التي يُيتدأُ بها الكلامُ ومع ذلك هي غايةٌ لما قبلها كالتي في قولِه تعالى : { حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل } الآيةَ وهي ههنا غايةٌ لما يُنبىء عنه قولُه تعالى فهُم يُوزعونَ من السير كأنَّه قيلَ : فسارُوا حتَّى إذا أتَوا الخ ووادي النَّمل وادٍ بالشامِ كثيرُ النَّمل على ما قالَه مقاتلٌ رضي الله عنه ، وبالطَّائفِ على ما قالَه كعبٌ رضي الله عنه ، وقيلَ هو وادٍ تسكنُه الجنُّ والنملُ مراكبُهم . وتعديةُ الفعلِ إليه بكلمةِ عَلى إمَّا لأنَّ إتيانَهم كان من فوق ، وإمَّا لأنَّ المرادَ بالإتيانِ عليه قطعُه ، من قولِهم أتَى على الشيءِ إذا أنفَدَه وبلغَ آخرَهُ ، ولعلَّهم أرادُوا أنْ ينزلُوا عند مُنتهى الوادي إذْ حينئذٍ يخافُهم ما في الأرضِ لا عند سيرِهم في الهواءِ . وقولُه تعالى { قَالَتْ نَمْلَةٌ } جوابُ إذا كأنَّها لما رأتهُم متوجهينَ إلى الوادي فرَّتْ منهم فصاحتْ صيحةً تنبهتْ بها ما بحضرتِها من النملِ لمرادِها فتبعها في الفرارِ فُشبِّه ذلك بمخاطبةِ العُقلاءِ ومناصحتِهم فأُجروا مُجراهم ، جُعلتْ هي قائلةً وما عداها من النملِ مقولٌ لهم حيثُ قيل : { نَمْلَةٌ يأَيُّهَا النمل ادخلوا مساكنكم } مع أنَّه لا يمتنعُ أنْ يخلقَ الله تعالى فيها النُّطقَ وفيما عداها العقلَ والفهمَ . وقُرىء نَمُلة يا أيُّها النَّمُل بضمِّ الميمِ ، وهو الأصلُ كالرجُل ، وتسكينُ الميمِ تخفيفٌ منه كالسَّبْعِ في السبُع . وقُرىء بضمِّ النونِ والميمِ . قيل : كانتْ نملةً عرجاءَ تمشي وهي تتكاوسُ فنادتْ بما قالتْ فسمعَ سليمانُ عليه السَّلام كلامَها من ثلاثةِ أميالٍ وقيل : كان اسمُها طاخيةً . وقُرىء مسكنَكم . وقولُه تعالى : { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سليمان وَجُنُودُهُ } نهيٌ في الحقيقيةِ للنَّملِ عن التأخرِ في دخولِ مساكنِهم وإنْ كانَ بحسبِ الظَّاهر نهياً له عليه الصَّلاة والسَّلام ولجنودِه عن الحطْمِ كقولِهم : لا أرينَّك هَهُنا . فهُو استئنافٌ أو بدلٌ من الأمرِ ، كقولِ مَنْ قالَ
فقلتُ له ارحلْ لا تُقيمنّ عندنا ... لا جوابَ له فإنَّ النُّون لا تدخلُه في السَّعة . وقُرىء لا يَحَطَمنكم بفتحِ الحاءِ وكسرِها ، وأصلُه لا يحتطمنَّكم . وقولُه تعالى : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } حالٌ من فاعلِ يحطمنَّكم مفيدةٌ لتقييدِ الحطمِ بحالِ عدمِ شعورِهم بمكانِهم حتَّى لو شعروا بذلك لم يحطَّمُوا ، وأرادتْ بذلكَ الإيذانَ بأنَّها عارفةٌ بشؤونِ سليمانَ وسائرِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام من عصمتِهم عن الظُّلم والإيذاءِ ، وقيل : هو استئنافٌ أي فهمَ سليمانُ ما قالتْهُ والقومُ لا يشعرونَ بذلكَ .(5/178)
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
{ فَتَبَسَّمَ ضاحكا مّن قَوْلِهَا } تعجباً من حذرها واهتدائِها إلى تدبير مصالحِها ومصالحِ بني نوعِها وسروراً بشهرة حالِه وحالِ جنودِه في بابِ التَّقوى و الشَّفقةِ فيما بين أَصنافِ المخلوقاتِ التي هي أبعدُها من إدراك أمثالِ هذه الأمورِ وابتهاجاً بما خصَّه الله تعالى به من إدراك همسِها وفهمِ مُرادِها . رُوي أنَّها أحسَّتْ بصوتِ الجنودِ ولا تعلمُ أنَّهم في الهواءِ فأمرَ سليمانُ عليه السَّلام الريحَ فوقفتْ لئلاَّ يذعَرنَ حتَّى دخلن مساكنهنَّ . { وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ } أي اجعلني أزعُ شكرَ نعمتكَ عندي واكفَّه وأرتبطُه بحيثُ لا ينفلتُ عنِّي حتَّى لا أنفكُّ عن شكرِك أصلاً . وقُرىء بفتحِ ياءِ أَوزعني . { التى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ } أدرك فيه ذكرهما تكثيراً للنعمة فإنَّ الإنعامَ عليهما إنعامٌ عليه مستوجبٌ للشُّكرِ . { وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه } إتماماً للشُّكرِ واستدامةً للنِّعمةِ { وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين } في جُملتهم الجنَّةَ التي هي دارُ الصالحينَ .
{ وَتَفَقَّدَ الطير } أي تعرَّف أحوالَ الطيرِ فلم يرَ الهُدهدَ فيما بينها . { فَقَالَ مَالِىَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغائبين } كأنَّه قالَ أولاً : ما ليَ لا أراه لساترٍ سترَه أو لسببٍ آخرَ ثمَّ بدا له أنَّه غائبٌ فأضربَ عنْه فأخذَ يقولُ أهو غائبٌ { لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً } قيلَ : كان تعذيبُه للطيرِ بنتفِ ريشِه وتشميسِه ، وقيلَ : بجعلِه مع ضدِّه في قفضٍ ، وقيل : بالتفريق بينه وبين إلفِه . { أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ } ليعتبرَ به أبناءُ جنسهِ { أَوْ لَيَأْتِيَنّى بسلطان مُّبِينٍ } بحجَّةٍ تبينُ عذرَهُ . والحَلِفُ في الحقيقةِ على أحدِ الأَولينِ على تقديرِ عدمِ الثَّالث . وقُرىء ليأتينَّنِي بنونينِ أولاهُما مفتوحةٌ مشددةٌ . قيلَ : إنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لما أتمَّ بيتَ المقدسِ تجهَّز للحجِّ بحشرهِ فَوَافى الحرِمَ وأقامَ به ما شاء ، وكان يقرِّب كلَّ يومٍ طولَ مقامِه خمسةَ آلافِ ناقةٍ وخمسةَ آلافِ بقرةٍ وعشرينَ ألفَ شاةٍ ثم عزمَ على السير إلى اليمنِ فخرج من مكةَ صباحاً يؤمُّ سُهَيلاً فوافى صنعاءَ وقتَ الزَّوالِ وذلكَ مسيرةَ شهرٍ فرأى أرضاً حسناءَ أعجبتْهُ خضرتُها فنزل ليتغدَّى ويصلِّي فلم يجد الماءَ وكان الهدهدُ قناقه وكان يَرَى الماءَ من تحتِ الأرضِ كما يَرَى الماءَ في الزُّجاجةِ فيجيءُ الشياطينُ فيسلخونَها كما يُسلخُ الأهابُ ويستخرجون الماءَ فتفقَّده لذلك وقد كانَ حين نزلَ سلميانُ عليه السلام حلَّق الهدهُد فرأى هدهداً واقعاً فانحطَّ إليه فوصفَ له ملكَ سليمانَ عليه السَّلام وما سُخَّر له عن كلِّ شيءٍ وذكر له صاحبُه ملكَ بلقيسَ وأنَّ تحت يدِها اثني عشرَ ألفَ قائدٍ تحت يد كلِّ قائدٍ مائةُ ألفٍ . وذهبَ معه لينظرَ فما رجع إلا بعدَ العصرِ .(5/179)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
وقولُه تعالى : { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ } أي زماناً غيرَ مديدٍ . وقُرىء بضمِّ الكافِ . وذُكر أنَّه وقعتْ نفحةٌ من الشمس على رأسِ سليمانَ عليه السَّلام فنظر فإذا موضعُ الهدهدِ خالٍ فدعا عرِّيفَ الطيرِ وهو النَّسر فسألَه عنه فلم يجدْ عنده علمَه ثم قال لسيدِ الطيرِ وهو العُقابُ عليَّ به فارتفعتْ فنظرتْ فإذا هو مقبلٌ فقصدتْهُ فناشدها الله وقال بحقِّ الله الذي قوَّاكِ وأقدركِ عليَّ إلاَّ رحِمتنِي فتركتْهُ . وقالتْ : ثكلتكَ أمُّك . إنَّ نبيَّ الله قد حلفَ ليعذبنَّك . قال : وما استثنَى . قالتْ : بَلَى ، قَالَ : أو ليأتينِّي بعذرٍ مبينٍ ، فلمَّا قرُب من سليمانَ عليه السَّلامِ أَرْخى ذنبَه وجناحيِه يجرُّها على الأرضِ تواضعاً له فلما دنا منه أخذ عليه السَّلام برأسه فمدَّه إليه ، فقال : يا نبيَّ الله اذكرُ وقوفكَ بين يَدَي الله تعالى ، فارتعدَ سليمانُ عليه السَّلام وعفا عنه ثم سألَه { فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } أي علماً ومعرفةً وحفظتُه من جميعِ جهاتِه . وقُرىء أحطتُ بادغامِ الطَّاءِ في التَّاءِ بإطباقٍ وبغيرِ إطباقٍ . ولاخفاءَ في أنَّه لم يُرد بما ادَّعى الإحاطةَ به ما هو من حقائق العلومِ ودقائقِ المعارفِ التي تكونُ معرفتُها والإحاطةُ بها من وظائف أربابِ العلمِ والحكمةِ لتوقفها على علمٍ رصينٍ وفضلٍ مبينٍ حتَّى يكونَ إثباتُها لنفسه بين يدي نبيِّ الله سليمانَ عليه السَّلام تعدِّياً عن طورهِ وتجاوزاً عن دائرة قدرهِ ، ونفيُها عنه عليه الصَّلاة والسَّلام جنايةً على جنايةٍ ، فيُحتاجَ إلى الاعتذار عنه بأنَّ ذلك كان منه بطريق الإلهامِ فكافَحه عليه الصَّلاة والسَّلام بذلك مع ما أُوتي عليه الصَّلاة والسَّلام من فضل النُّبوة والحكمةِ والعلومِ الجمَّة والإحاطةِ بالمعلوماتِ الكثيرةِ ابتلاءً له عليه الصَّلاة والسَّلام في علمِه ، وتنبيهاً على أنَّ في أدنى خلقِه تعالى وأضعفِهم من أحاطَ علماً بما لم يُحط به لتتحاقر إليه نفسُه ويتصاغر إليه علمُه ويكون لطفاً له في تركِ الاعجاب الذي هو فتنةُ العلماء بل أرادَ به ما هو من الأمورِ المحسوسةِ التي لا تُعد الإحاطةُ بها فضليةً ولا الغفلةُ عنها نقيصةً لعدم توقف إدراكِها إلا على مجردِ إحساسٍ يستوى فيه العقلاءُ وغيرُهم . وقد علم أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم يشاهدْهُ ولم يسمعْ خبره من غيرِه قطعاً فعبَّر عنه بما ذُكر لترويج كلامِه عنده عليه الصَّلاة والسَّلام وترغيبهِ في الإصغاء إلى اعتذاره واستمالةِ قلبهِ نحو قبولِه فإنَّ النفسَ للإعتذارِ المُنبىءِ عن أمرٍ بديعٍ أقبلُ وإلى تلقِّي ما لا تعلمُه أميلُ ثم أيَّده بقولِه . { وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } حيثُ فسَّر إبهامَه نوعَ تفسيرٍ وأراه عليه الصَّلاة والسَّلام أنَّه كان بصدد إقامةِ خدمةٍ مهمةٍ له حيثُ عبَّر عمَّا جاء به بالنبأِ الذي هو الخبرُ الخطيرُ والشَّأنُ الكبيرُ ووصفَهُ بما وصفَهُ وإلاَّ فماذا صدَر عنهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع ما حُكي عنه ما حُكي من الحمد والشُّكرِ واستدعاءِ الإيزاعِ حتَّى يليقَ بالحكمة الإلهيةِ تنبيهُه عليه الصَّلاة والسَّلام على تركِه .(5/180)
وسبأٌ منصرفٌ على أنَّه اسمٌ لحيَ سُمُّوا باسم أبيهم الأكبرِ وهو سبأُ بنُ يشجبَ بنِ يعرُبَ بنِ قَحطانَ . قالُوا اسمُه عبدُ شمسٍ لُقِّب به لكونه أوَّلَ مَنْ سَبَى . وقُرىء بفتحِ الهمزةِ غيرَ مُنصرفٍ على أنَّه اسمٌ للقبيلةِ ثمَّ سُميت مدينةُ مأربَ بسبأٍ وبينها وبينَ صنعاءَ مسيرةُ ثلاثٍ . وعلى هذه القراءةِ يجوزُ أنْ يرادَ به القبيلةُ والمدينةُ ، وأمَّا على القراءةِ الأُولى فالمرادُ هو الحيُّ لا غيرُ . وعدمُ وقوفِ سليمانَ عليه السَّلامُ على نبئِهم قبلَ إنباءِ الهُدهدِ ليس بأمرٍ بديعٍ لا بدَّ له من حكمةٍ داعيةٍ إليه البتةَ وإنِ استحال خلوُّ إفعالِه تعالى من الحكمِ والمصالحِ لما أنَّ المسافةَ بين محطِّه عليه الصَّلاة والسَّلام وبين مأربَ وإن كانتْ قصيرةً لكن مدةُ ما بين نزولِه عليه الصَّلاة والسَّلام هناك وبين مجيءِ الهدهدِ بالخبرِ أيضاً قصيرةٌ . نعم اختصاصُ الهدهدِ بذلك مع كون الجنِّ أقوى منه مبنيٌّ على حِكَمٍ بالغةٍ يستأثرُ بها علاَّمُ الغُيوبِ .(5/181)
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)
وقولُه تعالى : { إِنّى وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ } استئنافٌ ببيان ما جاء به من النبأ وتفصيلٌ له إثرَ الإجمالِ وهي بلقيسُ بنتُ شراحيلَ بنِ مالكِ بنِ ريَّانَ . وكان أبُوها ملكَ أرضِ اليمنِ كلِّها ورثَ المُلكَ من أربعين أباً ولم يكُن له ولدٌ غيرُها فغلبتْ بعدَه على المُلكِ ودانتْ لها الأمَّة . وكانتْ هي وقومُها مجوساً يعبدونَ الشمسَ . وإيثارُ وجدتُ على رأيتُ لما أُشير إليه من الإيذانِ بكونِه عند غيبته بصددِ خدمتِه عليه الصَّلاة والسَّلامِ بإبراز نفسه في معرضِ من يتفقدُ أحوالَها ويتعرَّفها كأنَّها طِلبتُه وضالَّتُه ليعرضَها على سليمانَ عليه السَّلامُ . وضميرُ تملكُهم لسبأٍ على أنَّه اسمُ الحيِّ أو لأهلها المدلولِ عليهم بذكرِ مدينتِهم على أنَّه اسمٌ لها . { وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء } أي من الأشياءِ التي يحتاجُ إليها الملوكُ { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } قيل كان ثلاثينَ ذراعاً في ثلاثين عَرضاً وسَمكاً وقيل : ثمانينَ في ثمانينَ من ذهبٍ وفضةَ مُكللاً بالجواهرِ ، وكانتْ قوائمُه من ياقوتٍ أحمرَ وأخضرَ ودُرَ وزمردٍ ، وعليه سبعةُ أبياتٍ على كلِّ بيتٍ بابٌ مغلقٌ . واستعظامُ الهدهدِ لعرشِها مع ما كان يشاهدُه من ملكِ سليمانَ عليه السَّلام إمَّا بالنسبة إلى حالِها أو إلى عروشَ أمثالِها من الملوكِ . وقد جُوِّز أنْ لا يكونَ لسليمانَ عليه السَّلامَ مثلُه . وأيَّا ما كانَ فوصفُه بذلكَ بينَ يديهِ عليه الصَّلاة والسَّلام لما مرَّ من ترغيبِه عليه الصَّلاة والسَّلام في الإصغاءِ إلى حديثِه وتوجيهِ عزيمتِه عليه الصَّلاة والسَّلام نحو تسخيرِها ، ولذلكَ عقَّبه بما يُوجبُ عزوَها من كُفرِها وكُفر قومِها حيثُ قال : { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله } أي يعبدونَها متجاوزينَ عبادةَ الله تعالى { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم } التي هي عبادةُ الشمسِ ونظائِرها منْ أصنافِ الكفرِ والمَعَاصي . { فَصَدَّهُمْ } بسببِ ذلكَ { عَنِ السبيل } أي سبيلِ الحقِّ والصوابِ فإنَّ تزيينَ أعمالِهم لا يتصورُ بدون تقويمِ طرقِ كفرِهم وضلالِهم ، ومن ضرورته نسبةُ طريقِ الحقِّ إلى العوجِ . { فَهُمُ } بسبب ذلكَ { لاَ يَهْتَدُونَ } إليهِ .
وقولُه تعالى { أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ } مفعولٌ له إمَّا للصدِّ أو للتزيينِ على حذفِ اللامِ منه أي فصدَّهم لأنْ لا يسجدوا له تعالى أو زيَّن لهم أعمالَهم لأنْ لا يسجدوا أو بدلٌ على حالِه من أعمالَهم ، وما بينهما اعتراضٌ أي زيَّن لهم أنْ لا يسجدوا وقيل : هو في موقع المفعولِ ليهتدون بإسقاطِ الخافضِ ، ولا مزيدةٌ كما في قولِه تعالى : { لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } والمعنى فهم لا يهتدون إلى أنْ يسجدوا له تعالى . وقرىء أَلاَ يَا اسجدُوا ، على التنبيهِ والنداءِ ، والمُنادى محذوفٌ ، أيْ أَلاَ يا قومُ اسجدُوا كما في قولِه
أَلاَ يا اسلَمي يا دارَ مَي عَلَى البِلَى ...(5/182)
ونظائِره . وعلى هذا يحتملُ أنُ يكونَ استئنافاً من جهة الله عزَّ وجلَّ أو من سليمانَ عليه السَّلام ويُوقف على لا يهتدونَ ويكون أمراً بالسجودِ ، على الوجوهِ المتقدمةِ ذمَّاً على تركِه وأيَّا ما كان فالسجودُ واجبٌ . وقُرىء هَلاّ وهَلاَ بقلبِ الهمزتينِ هاءً . وقُرىء هَلاَّ تسجدون بمعنى ألا تسجدونَ على الخطاب .
{ الذى يُخْرِجُ الخبء فِى السموات والأرض } أيْ يظهرُ ما هو مخبوءٌ مخفيٌّ فيهما كائناً ما كان ، وتخصيصُ هذا الوصفِ بالذكرِ بصددِ بيانِ تفرُّده تعالى باستحقاق السُّجودِ له من بين سائرِ أوصافِه الموجبةِ لذلك لما أنَّه أرسخُ في معرفتِه والإحاطةِ بأحكامه بمشاهدة آثارهِ التي من جُملتها ما أودعَه الله تعالى في نفسه من مقدرةٍ على معرفةِ الماءِ تحتَ الأرضِ . وأشارَ بعطفِ قولِه { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } على يخرجُ إلى أنَّه تعالى يخرجُ ما في العالمِ الإنسانيِّ من الخَفَايَا كما يخرجُ ما في العالم الكبير من الخَبَايَا لِما أنَّ المرادَ يظهرُ ما تُخفونَهُ من الأحوال فيجازيكُم بها ، وذكرُ ما تُعلنون لتوسيع دائرةِ العلمِ وللتنبيهِ على تساويهما بالنسبة إلى العلمِ الإلهيِّ . وقُرِىءَ ما يُخفون وما يُعلنون على صيغةِ الغَيبةِ بلا التفاتٍ . وإخراجُ الخبءِ يعمُّ إشراقَ الكواكبِ وإظهارَها من آفاقِها بعد استنارتِها وراءها وإنزالَ الأمطارِ وإنباتَ النباتِ . بل الإنشاءَ الذي هو إخراجُ ما في الشيء بالقوَّةِ إلى الفعلِ والإبداعَ الذي هو إخراجُ ما في الإمكان والعدمِ إلى الوجود وغيرَ ذلك من غيوبِه عزَّ وجلَّ . وقُرىء الخَبَ بتخفيف الهمزةِ بالحذفِ . وقُرىء الخَبَا بتخفيفها بالقلبِ . وقُرىء : { ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ويعلم سركم وما تعلنون } .(5/183)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)
{ الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم } الذي هو أولُ الأجرامِ وأعظمُها . وقُرىء العظيمُ بالرَّفعِ على أنَّه صفةُ الربِّ . واعلمْ أن ما حُكي من الهُدهدِ من قولِه الذي يُخرج الخبءَ إلى هُنا ليس داخلاً تحت قولِه أحطتُ بما لم تُحط به وإنَّما هُو من العلومِ والمعارفِ التي اقتبسها من سليمانَ عليه السَّلام أوردَهُ بياناً لما هو عليهِ وإظهاراً لتصلُّبهِ في الدِّينِ ، وكلُّ ذلكَ لتوجيهِ قلبِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ نحوَ قبولِ كلامِه وصرفِ عَنَانِ عزيمتِه عليه السَّلامُ إلى غزوِها وتسخيرِ ولايتِها .
{ قَالَ } استئنافٌ وقعَ جواباً عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ كلامِ الهُدهدِ كأنَّه قيلَ فماذا فعلَ سليمانُ عليه السَّلام عند ذلكَ فقيل قال { سَنَنظُرُ } أي فيما ذكرتَه من النَّظر بمعنى التَّأملِ ، والسِّينُ للتأكيدِ أي سنتعرفُ بالتجربةِ البتةَ { أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين } كان مُقتضى الظَّاهرِ أم كذبتَ وإيثارُ ما عليهِ النَّظمُ الكريمُ للإيذانِ بأنَّ كذبَهُ في هذه المادةِ يستلزمُ انتظامَهُ في سلكِ الموسومينَ بالكذبِ الراسخينَ فيه فإنَّ مساقَ هذه الأقاويلِ الملفَّقةِ على ترتيبٍ أنيقِ يستميلُ قلوبَ السامعينَ نحوَ قَبُولِها من غيرِ أنُ يكونَ لها مصداقٌ أصلاً لا سيما بين يَدَي نبيَ عظيم الشأنِ لا يكادُ يصدرُ إلا عمَّن له قدم راسخٌ في الكذب والإفكِ .
وقولُه تعالى { اذهب بّكِتَابِى هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ } استئنافٌ مبيِّنٌ لكيفيةِ النَّظر الذي وعدَه عليه الصَّلاة والسَّلام ، وقد قاله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعدما كتبَ كتابَه في ذلكَ المجلسِ أو بعدَهُ . وتخصيصُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إيَّاه بالرِّسالةِ دونَ سائرِ ما تحتَ مُلكِه من أمناءِ الجنِّ الأقوياءِ على التصرف والتعرُّفِ لما عاينَ فيه من مخايل العلمِ والحكمةِ وصحَّةِ الفراسةِ ولئلاَّ يبقى له عذرٌ أصلاً { ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ } أي تنحَّ إلى مكانٍ قريبٍ تَتَوارى فيه { فانظر } أي تأمَّلَ وتعرَّفْ { مَاذَا يَرْجِعُونَ } أي ماذا يرجعُ بعضُهم إلى بعضٍ من القول . وجمعُ الضمائرِ لما أنَّ مضمونَ الكتابِ الكريمِ دعوةُ الكُلِّ إلى الإسلام .(5/184)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
{ قَالَتْ } أي بعدَ ما ذهبَ الهدهدُ بالكتابِ فألقاهُ إليهم وتنحَّى عنهم حسبما أُمر به ، وإنَّما طُوي ذكرُه إيذاناً بكمالِ مسارعتِه إلى إقامةِ ما أُمر به من الخدمة وإشعاراً باستغنائه عن التَّصريحِ به لغايةِ ظهورِه . روُي أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام كتب كتابَه وطبعه بالمسكِ وختَمه بخاتمِه ودفعَه إلى الهدهدِ فوجدَها الهدهدُ راقدةً في قصرِها بمأربَ وكانتْ إذا رقدتْ غلَّقتِ الأبوابِ ووضعتِ المفاتيحَ تحتَ رأسِها فدخلَ من كُوَّةٍ وطرحَ الكتابَ على نحرِها وهي مستلقيةٌ وقيل : نقرَها فانتبهتْ فَزِعةً وقيل أتاها والقادةُ والجنودُ حواليَها فرفرفَ ساعةً والنَّاسُ ينظرونَ حتَّى رفعتْ رأسَها فألقى الكتابَ في حجرِها وكانت قارئةً كاتبةً عربيةً من نسلٍ تُبَّع الحميريِّ كَما مَرَّ فلما رأتِ الخاتمَ ارتعدتْ وخضعتْ ، فعندَ ذلكَ قالتْ لأشرافِ قومِها { قَالَتْ ياأيها الملا إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } وصفتْه بالكرمِ لكرمِ مضمونِه أو لكونِه من عندَ ملكٍ كريمٍ أو لكونِه مختوماً أو لغرابةِ شأنِه ووصولِه إليها على منهاجٍ غيرِ معتادٍ .
{ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ } استئنافٌ وقعَ جواباً لسؤالٍ مقدرٍ كأنَّه قيل ممن هُو وماذا مضمونُه فقالتْ إنَّه منْ سُليمان { وَأَنَّهُ } أي مضمونُه أو المكتوبُ فيه { بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم } وفيه إشارةٌ إلى سببِ وصفِها ايَّاه بالكرمِ . وقُرىء أنَّه وأنَّه بالفتحِ على حذفِ اللامِ كأنها عللتْ كرمَه بكونِه من سليمانَ وبكونِه مُصدَّراً باسمِ الله تعالى ، وقيل : على أنَّه بدلٌ من كتابٌ . وقُرىء أنْ من سُليمان وأنْ بسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ ، على أنَّ أنْ المفسرةُ .
{ أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ } أنْ مفسرةٌ ولا ناهيةٌ أي لا تتكبروا كما يفعلُ جبابرةُ الملوكِ ، وقيل : مصدريةٌ ناصبةٌ للفعلِ ولا نافيةٌ محلُّها الرَّفعُ على أنَّها بدلٌ من كتابٌ ، أو خبرٌ لمبتدأٍ مضمرٍ يليقُ بالمقام ، أي مضمونُه أنْ لا تعلُوا ، أو النَّصبُ بإسقاطِ الخافضِ أي بأنْ لا تعلُوا عليَّ . وقُرىء ألا تغلُوا بالغينِ المعجمةِ أي لا تجاوزُوا حدَّكم . { وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ } أي مؤمنينَ وقيل : منقادينَ والأولُ هو الأليقُ بشأنِ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على أنَّ الإيمانَ مستتبعٌ للانقياد حتماً . روي أنَّ نسخةَ الكتابِ «من عبدِ اللَّهِ سلميانَ بنِ داودَ إلى بلقيسَ ملكةِ سبأً السَّلامُ على من اتبعَ الهُدَى أمَّا بعدُ فلا تعلُوا عليَّ واثتوني مسلمينَ» وليسَ الأمرُ فيه بالإسلامِ قبل إقامةِ الحجَّة على رسالتِه حتَّى يُتوهم كونُه استدعاءاً للتقليدِ فإنَّ إلقاء الكتابِ إليها على تلك الحالةِ معجزةٌ باهرةٌ دالَّةٌ على رسالةِ مُرسِلها دلالةً بينةً .(5/185)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
{ قَالَتْ } كُررتْ حكايةُ قولِها للإيذانِ بغايةِ اعتنائِها بما في حيزه من قولِها { ياأيها الملا أَفْتُونِى فِى أَمْرِى } أي أجيبونِي في أمرِي الذي حَزَبني وذكرتُ لكم خُلاصتَه ، وعبرتْ عن الجوابِ بالفَتوى التي هي الجواب في الحوادث المشكلة غالباً تهويلاً للأمر ورفعاً لمحلهم بالإشعار بأنهم قادرونَ على حلِّ المشكلاتِ المُلمَّةِ . وقولُها { مَا كُنتُ قاطعة أَمْراً } أي من الأمورِ المتعلقةِ بالملكِ { حتى تَشْهَدُونِ } أي إلا بمحضرِكم وبموجبِ آرائِكم استعطافاً لهم واسمالةً لقلوبِهم لئلاَّ يخالفُوها في الرَّأي والتدبير .
{ قَالُواْ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأَ من حكايةِ قولِها كأنَّه قيل : فمَاذا قالُوا في جوابِها فقيلَ قالُوا { نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ } في الأجسادِ والآلاتِ والعُددِ { وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي نجدةٍ وشجاعةٍ مفرطةٍ وبلاءٍ في الحربِ { والأمر إِلَيْكِ } أي هو موكولٌ إليكِ { فانظرى مَاذَا تَأْمُرِينَ } ونحنُ مطيعونَ لكِ فمُرينا بأمرِك نمتثلْ به ونتبعْ رأيكِ أو أرادوا نحنُ من أبناءِ الحربِ لا من أبناءِ الرأي والمشورةِ وإليكِ الرَّأي والتَّدبيرِ فانظرِي ماذا ترينَ نكنْ في الخدمةِ فلَّما أحسَّتْ منهم الميلَ إلى الحرابِ والعدولَ عن سَنَنِ الصَّوابِ شرعتْ في تزييف مقالتِهم المبنيةِ على الغفلةِ عن شأنِ سليمانَ عليه السَّلامُ .
وذلك قولُه تعالى : { قَالَتْ إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً } من القُرى على منهاجِ المقاتلةِ والحرابِ { أَفْسَدُوهَا } بتخريبِ عماراتِها وإتلافِ ما فيها من الأموالِ { وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً } بالقتلِ والأسرِ والإجلاءِ وغيرِ ذلك من فُنونِ الإهانةِ والإذلالِ { وكذلك يَفْعَلُونَ } تأكيدٌ لما وصفتْ من حالِهم بطريقِ الاعتراضِ التذييليِّ وتقريرٌ له بأنَّ ذلك عادتُهم المستمرةُ . وقيل تصديقٌ لها من جهةِ الله تعالى على طريقةِ قولِه تعالى : { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } إثرَ قولِه : { لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى } { وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ } تقريرٌ لرأيها بعدَ ما زيفتْ آراءَهم وأتتْ بالجملةِ الاسميةِ الدالَّةِ على الثباتِ المصدرةِ بحرفِ التحقيق للإيذانِ بأنَّها مزمعةٌ على رأيها لا يَلْويها عنه صارفٌ ولا يَثْنيها عاطفٌ أيْ وإنِّي مرسلةٌ إليهم رُسُلاً بهديةٍ عظيمة { فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون } حتَّى أعملَ بما يقتضيهِ الحالُ . رُوي أنَّها بعثت خمسمائةِ غلامٍ عليهم ثيابُ الجَوَاري وحليُّهن الأساورُ والأطواقُ والقِرَطةُ راكبى خيلٍ مغشَّاةٍ بالديباجِ محلاَّةِ اللُّجمِ والسُّروجِ بالذهبِ المُرَّصعِ بالجواهرِ وخمسمائةِ جاريةٍ على رِماك في زيِّ الغلمانِ وألفَ لبنةٍ من ذهبٍ وفضةٍ وتاجاً مكللاً بالدرِّ والياقوتِ المرتفعِ والمسكِ والعنبرِ وحُقَّاً فيه درةٌ عذراءُ وجزعة معوجة الثقبِ وبعثتْ رجلاً من أشرافِ قومِها المنذرَ بنَ عمروٍ وآخرَ ذَا رأيٍ وعقلٍ . وقالتْ : إنْ كانَ نبياً ميَّز بين الغلمانِ والجوارِي وثقبَ الدرةَ ثقباً مستوياً وسلك في الخرزةِ خيطاً ، ثمَّ قالتْ للمنذرِ إنْ نظرَ إليكَ نظرَ غضبانَ فهو ملكٌ فلا يَهُولنَّك ، وإنْ رأيتَه بشَّاً لطيفاً فهو نبيٌّ .(5/186)
فأقبلَ الهدهدُ فأخبرَ سليمانَ عليه السَّلامُ بذلك فأمرَ الجنَّ فضربُوا لِبنَ الذهبِ والفضَّةِ وفرشُوه في ميدانٍ بين يديِه طولُه سبعةُ فراسخ وجعلُوا حولَ الميدانِ حائطاً شرفاتُه من الذَّهبِ والفِضَّةِ وأمرَ بأحسنِ الدَّوابِّ في البرِّ والبحرِ فربطُوها عن يمينِ الميدانِ ويسارِه على اللبن وأمرَ بأولادِ الجنِّ وهم خلقٌ كثيرٌ فأُقيمُوا على اليمينِ واليسارِ ثم قعدَ على سريرِه والكراسيُّ من جانبيِه واصطفتِ الشياطينُ صفوفاً فراسخَ ، والإنسُ صفوفاً فراسخَ ، والوحشُ والسباعُ والطيورُ والهوامُّ كذلك فلما دنا القومُ ونظرُوا بُهتوا ورَأوا الدوابَّ تروثُ على اللبنِ فتقاصرتْ إليهم نفوسُهم ورمَوا بما معهم ولما وقفُوا بين يديِه نظَر إليهم بوجهٍ طَلْقٍ وقال : ما وراءكم وقال : أينَ الحُقُّ وأخبرَهُ جبريلُ عليهما السَّلامُ بما فيه فقالَ لهم إنَّ فيه كذا وكذا ثم أمرَ بالأَرَضةِ فأخذتْ شعرةً ونفذتْ في الدُّرة فجعلَ رزقَها في الشَّجرةِ وأخذتْ دودةٌ بيضاءُ الخيطَ بفيها ونفذتْ في الجَزَعةِ فجعلَ رزقَها في الفواكِه ودعا بالماءِ فكانتِ الجاريةُ تأخذُ الماء بيدِها فتجعلُه في الأُخرى ثم تضربُ به وجهَها والغلامُ كما يأخذُه يضربُ به وجهه ثمَّ ردَّ الهدية .(5/187)
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
وقوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ } أي الرَّسولُ { قَالَ } أي مخاطباً للرَّسولِ والمُرْسِلِ ، تغليباً للحاضرِ على الغائبِ ، وقيل : للرَّسولِ ومن مَعه ويؤيدُه أنَّه قُرىء فلمَّا جاءُوا والأولُ أَولى لما فيِه من تشديدِ الإنكارِ والتَّوبيخِ وتعميمهُما لبلقيسَ وقومِها ويؤيدُه الإفرادُ في قولِه تعالى ارجعْ إليهم : { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ } وهو إنكارٌ لإمدادِهم إيَّاه عليه الصَّلاة والسَّلام بالمالِ مع عُلوِّ شأنِه وسعَةِ سُلطانِه ، وتوبيخٌ لهم بذلكَ ، وتنكيرُ مالٍ للتحقيرِ . وقولُه تعالى : { فَمَا ءاتانى الله } أيْ ممَّا رأيتُم آثارَه منَ النُّبوةِ والمُلكِ الذي لا غايةَ وراءَهُ { خَيْرٌ مّمَّا ءاتاكم } أي منَ المالِ الذي مِنْ جُملتِه ما جئتُم به فلا حاجةَ لي إلى هديَّتِكم ولا وقعَ لها عندي تعليلاً للإنكارِ ، ولعلَّه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إنَّما قال لهم هذه المقالةَ إلى آخرِها بعد ما جَرى بينَهُ وبينهم ما حكي من قصة الحُقِّ وغيرها كما أشير إليه لا أنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ خاطبَهم بها أولَ ما جاءوه كما يُفهم من ظاهرِ قولِه تعالى فلمَّا جاءَ الخ وقُرىء أتُمدُّونِّي بالإدغامِ وبنونٍ واحدةٍ وبنونين وحذفِ الياءِ . وقولُه تعالى : { بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } إضرابٌ عمَّا ذكر من إنكارِ الإمدادِ بالمالِ إلى التَّوبيخِ بفرحِهم بهديتهم التي أهدَوها إليه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فرحَ افتخارٍ وامتنانٍ واعتدادٍ بها كما ينبىء عنه ما ذُكر من حديثِ الحقِّ والجَزَعةِ وتغييرِ زيِّ الغِلمانِ والجواري وغيرِ ذلك . وفائدةُ الإضرابِ التَّنبيهُ على أنَّ إمدادَهُ عليه الصَّلاة والسَّلام بالمالِ منكرٌ قبيجٌ ، وعدُّ ذلكَ مع أنَّه لا قدرَ له عنده عليه الصَّلاةُ والسَّلام مما يتنافسُ فيه المتنافسون أقبحُ والتَّوبيخُ به أدخلُ . وقيلَ المضافُ إليهِ المُهدى إليهِ والمعنى بل أنتمُ بما يهدى إليكم تفرحونَ حُبَّاً لزيادةِ المالِ لما أنَّكم لا تعلمون إلا ظاهراً من الحياةِ الدُّنيا .
{ اْرجِعِ } أفردَ الضميرَ هَهُنا بعد جمعِ الضمائر الخمسةِ فيما سبقَ لاختصاصِ الرجوعِ بالرَّسولِ ، وعموم الإمدادِ ونحوِه للكلِّ أي ارجعْ أَيُّها الرَّسُولُ { إِلَيْهِمُ } أي إلى بلقيسَ وقومِها { فَلَنَأْتِيَنَّهُم } أي فوالله لنأتينَّهم { بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا } أي لا طاقةَ لَهمُ بمقاومتِها ولا قدرةَ لهم على مقابلتِها . وقُرىء بهم { وَلَنُخْرِجَنَّهُم } عطفٌ على جوابِ القسمِ { مِنْهَا } من سبأٍ { أَذِلَّةٍ } أي حالَ كونِهم أذلةً بعد ما كانُوا فيه من العزِّ والتمكينِ . وفي جمعِ القِلَّةِ تأكيدٌ لذِلَّتِهم . وقولُه تعالى : { وَهُمْ صاغرون } أي أُسارَى مُهَانون ، حالٌ أخرى مفيدةٌ لكونِ إخراجِهم بطريقِ الأسرِ لا بطريقِ الإجلاءِ . وعدمُ وقوعِ جوابِ القسمِ لأنَّه كانَ معلَّقاً بشرطٍ قد حُذفَ عندَ الحكايةِ ثقةً بدلالةِ الحالِ عليه كأنَّه قيلَ ارجعْ إليهم فليأتُوا مسلمينَ وإلا فلنأتينَّهم الخ .(5/188)
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
{ قَالَ يَاأَيُّهَا الملا أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا } قالَه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لما دَنا مجيءُ بلقيسَ إليه عليه الصَّلاة والسَّلام . يُروى أنَّه لمَّا رجعتْ رسلُها إليها بما حُكي من خبرِ سُليمانَ عليه السَّلام ، قالتْ قد علمتُ والله ما هذا بملكٍ ولا لنا به من طاقةٌ ، وبعثتْ إلى سُليمانَ عليه السَّلام إنِّي قادمةٌ إليكَ بملوكِ قَوْمي حتى أنظرَ ما أمرُك وما تدعُو إليهِ من دينِك ثمَّ آذنتْ بالرَّحيلِ إلى سُليمانَ عليه السَّلامُ فشخصتْ إليه في اثني عشرَ ألفاً قيل : تحتَ كلِّ قَيْلٍ ألوفٌ ويُروى أنَّها أمرتْ فجُعِلَ عرشُها في آخرِ سبعةِ أبياتٍ بعضُها في بعضٍ في آخرِ قصرٍ من قصورٍ سبعةٍ لها وغلَّقتِ الأبوابَ ووكَّلتْ به حَرَساً يحفظونَهُ ولعَلَّه أُوحيَ إلى سُليمانَ عليه السَّلامُ باستيثاقِها من عرشِها فأرادَ أنْ يُريها بعضَ ما خصَّه الله عزَّ سلطانُه به من إجراءِ التعاجيبِ على يدهِ مع إطلاعِها على عظيمِ قدرتِه تعالى وصحَّةِ نبُّوتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ويختبرَ عقلَها بأنْ يُنكِّرَ عرشَها فينظرَ أتعرفُه أم لا . وتقييدُ الإتيانِ به بقولِه تعالى : { قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ } لمَا أنَّ ذلكَ أبدعُ وأغربُ وأبعدُ من الوقوعِ عادةً وأدلُّ على عظمِ قُدرةِ الله تعالى وصحَّةِ نبُّوتِه عليه الصَّلاة والسَّلام وليكونَ اختبارُها وإطلاعُها على بدائعِ المعجزاتِ في أولِ مجيئِها . وقيلَ : لأنَّها إذَا أتتْ مُسلمةً لم يحلَّ له أخذُ مالِها بغيرِ رِضَاها .
{ قَالَ عِفْرِيتٌ } أي ماردٌ خبيثٌ { مّن الجن } بيانٌ له إذْ يقالُ للرجلِ الخبيثِ المنكرِ المعفرِ لأقرانِه وكان اسمُه ذكوانَ أو صخراً { أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ } أي بعرشِها { قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ } أي من مجلِسك للحكومةِ وكان يجلسُ إلى نصفِ النَّهار . وآتيكَ إمَّا صيغةُ المضارعِ أو الفاعلِ وهو الأنسبُ لمقامِ ادِّعاءِ الإتيانِ به لا محالةَ وأوفقُ لما عُطفَ عليه من الجملةِ الاسميةِ أي أنا آتٍ به في تلك المُدَّةِ البتةَ { وَإِنّى عَلَيْهِ } أي على الإتيانِ به { لَقَوِىٌّ } لا يثقلُ عليَّ حملُه { أَمِينٌ } لا أختزلُ منه شيئاً ولا أُبدِّلُه .
{ قَالَ الذى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب } فُصلَ عمَّا قبلَه للإيذانِ بما بينَ القائلينِ ، ومقاليهما وكيفيّتي قدرتِهما على الإتيانِ من كمال التباينِ ، أو لإسقاطِ الأولِ عن درجةِ الاعتبارِ . قيلَ هو آصِفُ بنُ بَرَخياً وزيرُ سليمانَ عليه السَّلام ، وقيل رجلٌ كان عنده اسمُ الله الأعظمُ الذي إذا سُئل به أجابَ وقيل الخَضِرُ أو جبريلُ أو مَلَكٌ أيَّده الله عزَّ وجلَّ به عليهم السَّلام ، وقيل هو سُليمانُ نفسُه عليه السَّلام وفيه بُعدٌ لا يَخْفى والمرادُ بالكتابِ الجنسُ المنتظمُ لجميعِ الكتبِ المنزلِة أو اللوحُ ، وتنكيرُ عِلْمٌ للتفخيمِ والرمزِ إلى أنَّه علمٌ غيرُ معهودٍ ومِن ابتدائيةٌ { أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } الطَّرفُ تحريكُ الأجفانِ وفتحُها للنَّظرِ إلى شيءٍ وارتدادُه انضمامُهما ولكونِه أمراً طبيعياً غيرَ منوطٍ بالقصدِ أُوثر الارتدادُ على الردِّ ولمَّا لم يكُنْ بينَ هذا الوعدِ وإنجازه مدةٌ كما في وعدِ العفريتِ استغنى عن التأكيدِ وطُوي عند الحكاية ذكرُ الإتيانِ به للإيذانِ بأنَّه أمرٌ متحققٌ غنيٌّ عن الإخبارِ به وجيءَ بالفاءِ الفصيحةِ لا داخلة على جملةٍ معطوفةِ على جملةٍ مقدرةٍ دالةٍ على تحققِه فقط كما في قولِه عزَّ وجلَّ :(5/189)
{ أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق } ونظائِره بل داخلة على الشرطيةِ حيثُ قيل :
{ فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } أيْ رأى العرشَ حاضراً لديهِ كما في قولِه عزَّ وجلَّ : { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } للدلالةِ على كمالِ ظهورِ ما ذُكر مِن تحققةِ واستغنائِه عن الإخبارِ به ببيان ظهورِ ما يترتبُ عليه من رؤيةِ سُليمان عليه السَّلامُ إيَّاهُ واستغنائِه أيضاً عن التصريح به إذِ التَّقديرُ فأتاه به فَرآهُ فلمَّا رآه الخ فحذفَ ما حُذف لما ذُكر وللإيذانِ بكمالِ سرعةِ الإتيانِ به كأنَّه لم يقعْ بينَ الوعدِ به وبين رؤيتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إيَّاه شيءٌ ما أصلاً ، وفي تقييدِ رؤيتِه باستقرارِه عندَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ تأكيدٌ لهذا المَعْنى لإيهامهِ أنَّه لم يتوسط بينَهما ابتداء الإتيانِ أيضاً كأنَّه لم يزلْ موجُوداً عندَهُ معَ ما فيِه من الدِّلالةِ على دوامِ قرارِه عنده مُنتظماً في سلكِ مُلكه { قَالَ } أيْ سليمانُ عليه السَّلامُ تلقياً للنعمةِ بالشُّكرِ جرياً على سَنَن أبناءِ جنسِه من أنبياِ الله تعالى عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وخلَّصِ عبادِه { هذا } أي حضورُ العرشِ بين يديِه في هذهِ المُدَّة القصيرةِ أو التمكنُ من إحضارِه بالواسطةِ أو بالذاتِ كما قيلَ : { مِن فَضْلِ رَبّى } أي تفضله عليَّ من غيرِ استحقاقٍ له من قِبلَي : { لِيَبْلُوَنِى ءَأَشْكُرُ } بأنْ أراهُ محضَ فضلِه تعالى من غيرِ حولٍ من جهتي ولا قوةٍ وأقومَ بحقِّه { أَمْ أَكْفُرُ } بأنْ أجدَ لنفسي مدخلاً في البينِ أو أقصِّر في إقامةِ مواجبِه كما هو شأنُ سائرِ النعمِ الفائضةِ على العبادِ { وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } لأنَّه يرتبطُ به عتيدُها ويُستجلبُ به مزيدُها ويحطُّ بهِ عن ذمَّته عبءَ الواجبِ ويتخلصُ عن وصمةِ الكُفرانِ { وَمَن كَفَرَ } أيْ لم يشكُرْ { فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ } عن شُكرهِ { كَرِيمٌ } بتركِ تعجيلِ العقوبةِ والإنعامِ مع عدمِ الشكرِ أيضاً .(5/190)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)
{ قَالَ } أي سليمانُ عليهِ السَّلام ، كُررتِ الحكايةُ مع كونِ المحكيِّ سابقاً ولاحقاً من كلامِه عليه الصَّلاة والسَّلام تنبيهاً على ما بين السَّابقِ واللاحقِ من المخالفةِ لما أنَّ الأولَ من بابِ الشكرِ رِ تعالى والثَّاني أمرٌ لخدمِه { نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا } أي غيِّروا هيئتَه بوجهٍ من الوجوهِ { نَنظُرْ } الجزمُ على أنَّه جوابُ الأمرِ . وقُرىءَ بالرَّفعِ على الاستئنافِ { أَتَهْتَدِى } إلى معرفتِه أو إلى الجوابِ اللائقِ بالمقام ، وقيل : إلى الإيمانِ بالله تعالى ورسولِه عند رؤيتِها لتقدمِ عرشِها من مسافةٍ طويلةٍ في مدةٍ قليلةٍ وقد خلَّفته مغلقةً عليه الأبوابَ موكلةً عليه الحَّراسَ والحجَّابَ ويأباهُ تعليقُ النظرِ المتعلقِ بالاهتداءِ بالتنكيرِ فإنَّ ذلكَ ممَّا لا دخلَ فيه للتنكيرِ { أَمْ تَكُونُ } أي بالنسبةِ إلى علمنا { مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ } أي إلى ما ذُكر من معرفةِ عرشِها أو الجوابِ الصَّوابِ فإنَّ كونَها في نفسِ الأمرِ منهم وإنْ كانَ أمراً مستوراً لكن كونُها منهم عند سليمانَ عليهِ السَّلامُ وقومِه أمرٌ حادثٌ يظهرُ بالاختبارِ .(5/191)
فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)
{ فَلَمَّا جَاءتْ } شروعٌ في حكايةِ التَّجربةِ التي قصدَها سليمانُ عليه السَّلام أَي فلمَّا جاءتْ بلقيسُ سليمانَ عليه السَّلام وقد كانَ العرشُ بين يديِه { قِيلَ } أي من جهةِ سُليمانَ عليه السَّلامُ بالذاتِ أو بالواسطةِ { أَهَكَذَا عَرْشُكِ } لم يقُل أهذا عرشُكِ لئلاَّ يكونَ تلقيناً لها فيفوتَ ما هو المقصودُ من الأمرِ بالتَّنكيرِ من إبرازِ العرشِ في مَعْرضِ الإشكالِ والاشتباهِ حتَّى يتبينَ حالها وقد ذكرت عنده عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بسخافةِ العقلِ { قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ } فأنبأتْ عن كمالِ رجاحةِ عقلِها حيثُ لم تقُلْ هُو هُو مع علمِها بحقيقةِ الحالِ تلويحاً بما اعتراهُ بالتَّنكير من نوعِ مغايرةٍ في الصِّفاتِ مع اتحادِ الذاتِ ومراعاةً لحسنِ الأدبِ في محاورتِه عليه الصَّلاة والسَّلامُ { وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } من تتمةِ كلامِها كأنَّها ظنَّت أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أرادَ بذلك اختبارَ عقِلها وإظهارَ معجزةٍ لها فقالتْ أُوتينا العلمَ بكمالِ قدرةِ الله تعالى وصحَّةِ نبوتِك من قبلِ هذه المعجزةِ التي شاهدنَاها بما سمعناهُ من المنذرِ من الآياتِ الدالَّةِ على ذلكَ وكُنَّا مسلمينَ من ذلكَ الوقتِ ، وفيهِ من الدِّلالةِ على كمالِ رزانةِ رأيها ورصانةِ فكرِها ما لا يخفى .
وقولُه تعالىَ :
{ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله } بيانٌ من جهتِه تعالَى لمَّا كانَ يمنعُها من إظهارِ ما ادَّعتْهُ من الإسلامِ إلى الآنَ أي صدَّها عن ذلكَ عبادتُها القديمةُ للشمسِ ، وقولُه تعالى : { إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كافرين } تعليلٌ لسببيةِ عبادتِها المذكورةِ للصدِّ أيْ أنَّها كانتْ من قومٍ راسخينَ في الكفرِ ولذلكَ لم تكُنْ قادرةً على إظهارِ إسلامِها وهي بينَ ظهرانيهم إلى أنْ دخلتْ تحتَ مُلكةِ سليمانَ عليهِ والسَّلامُ . وقُرىءَ أنَّها بالفتحِ على البدليةِ من فاعلِ صدَّ أو على التَّعليلِ بحذفِ اللامِ . هذا وأمَّا ما قيلَ من أنَّ قولَه تعالى : { وَأُوتِينَا العلم } إلى قولِه تعالى : { مِن قَوْمٍ كافرين } من كلامِ سليمانَ عليه السَّلامُ وملئِه كأنَّهم لما سمعُوا قولهَا كأنَّه هُو تفطنُوا لإسلامِها فقالُوا استحساناً لشأنِها أصابتْ في الجوابِ وعلمت قدرةَ الله تعالى وصحَّةَ النُّبوةِ بما سمعتْ من المنذرِ من الآياتِ المتقدمةِ وبما عاينِتْ من هذهِ الآيةِ الباهرةِ من أمرِ عرشِها ورُزقتِ الإسلامَ فعطفُوا عَلى ذلك قولَهم وأُوتينَا العلمَ الخ أي وأُوتينا نحنُ العلمَ بالله تعالى وبقدرتِه وبصحَّةِ ما جاءَ من عنده قبلَ علمِها ولم نزلْ على دينِ الإسلامِ شُكراً لله تعالَى على فضلِهم عليها وسبقِهم إلى العلمِ بالله تعالَى والإسلام قبلها وصدَّها عن التقدمِ إلى الإسلامِ عبادةُ الشمسِ ونشؤُها بين ظهراني الكفرةِ فممَّا لا يَخْفى ما فيهِ من البُعدِ والتعسفِ .(5/192)
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)
{ قِيلَ لَهَا ادخلى الصرح } الصَّرحُ القصرُ وقيل : صحنُ الدَّارِ . رُوي أنَّ سليمان عليهِ السَّلامُ أمرَ قبلَ قدومِها فبنَى له على طريقِها قصراً من زجاجٍ أبيضَ وأُجري منْ تحته الماءُ وأُلقَي فيه من دوابَ البحرِ السَّمك وغيرُه ووضعَ سريرُه في صدرِه فجلسَ عليهِ وعكفَ عليه الطيرُ والجنُّ والإنسُ وإنَّما فعلَ ذلك ليزيدَها استعظاماً لأمرِه وتحققاً لنبوتِه وثباتاً على الدِّينِ ، وزعمُوا أنَّ الجنَّ كرهوا أنْ يتزوجَها فتفضيَ إليه بأسرارِهم لأنَّها كانتْ بنتَ جنيةٍ وقيل : خافُوا أنْ يولَد له منْهَا ولدٌ يجتمعُ له فطنةُ الجنِّ والإنسِ فيخرجونَ من مُلكِ سلِيمانَ عليه السَّلامُ إلى مُلكٍ هو أشدُّ وأفظعُ فقالُوا إنَّ في عقلِها شيئاً وهي شَعراءُ الساقينِ ورجلُها كحافِر الحمارِ فاختبرَ عقلَها بتنكيرِ العرشِ واتخذَ الصَّرحَ ليتعرَّفَ ساقَها ورجلَها { فَلَمَّا رَأَتْهُ } وهو حاضرٌ بينَ يديها كما يَعربُ عنه الأمرُ بدخولِها وأحاطتْ بتفاصيلِ أحوالِه خبراً { حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا } وتشمرتْ لئلاَّ تبتلَّ أذيالُها فإذَا هي أحسنُ النَّاسِ ساقاً وقدماً خلا أنَّها شعْراءُ . قيلَ : هيَ السببُ في اتخاذِ النورةِ أمرَ بها الشياطينَ فاتخذوهَا واستنكحَها عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأمرَ الجنَّ فبنَوا لها سيلحينَ وغمدانَ وكان يزورُها في الشهرِ مرةً ويقيمُ عندها ثلاثةَ أيامٍ وقيل بل زوَّجها ذا تُبَّعٍ ملكِ هَمْدانَ وسلَّطه علي اليمنِ وأمر زوبعةَ أميرَ جنِّ اليمنِ أنْ يطيعَه فبنى له المصانعَ . وقُرىء ساقها حملا للمفردِ على الجمعِ في سُؤْقٍ وأَسْؤُقٍ { قَالَ } عليه الصَّلاة السَّلام حين رأَى ما اعتراها من الدَّهشةِ والرُّعبِ { أَنَّهُ } أي ما توهمْتُه ماءً { صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ } أي مملسٌ { مّن قَوارِيرَ } من الزجاجِ { قَالَتْ } حينَ عاينتْ تلكَ المعجزَة أيضاً { رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى } بما كنتُ عليهِ إلى الآنَ من عبادةِ الشَّمسِ وقيل : بظنِّي بسليمانَ حيثُ ظنَّتْ أنَّه يريدُ إغراقَها في اللُّجةِ وهو بعيدٌ { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سليمان } تابعةً له مقتديةً به ، وما في قولِه تعالى : { للَّهِ رَبّ العالمين } من الالتفاتِ إلى الاسمِ الجليلِ ، ووصفُه بربوبيةِ العالمينَ لإظهارِ معرفتِها بألوهيتِه تعالَى وتفرُّده باستحقاقِ العبادِة وربوبيتِه لجميعِ الموجُوداتِ التي منْ جُملتها ما كانتْ تعبدُه قبلَ ذلكَ من الشَّمسِ .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلنَا } عطفٌ على قولِه تعالى : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ وسليمان عِلْماً } مسوقٌ لما سيقَ هُو له من تقريرِ أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام يُلَقَّى القرآنَ من لدنٍ حكيمٍ فإنَّ هذه القصةَ من جُملةِ القرآنِ الكريمِ الذي لقيَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ . واللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ وبالله لقد أرسلنَا { إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا } وأنْ في قوله تعالى : { أَنِ اعبدوا الله } مفسرةٌ لما في الإرسالِ من معنى القولِ أو مصدريةٌ حُذف عنها الباءُ .(5/193)
وقُرىء بضمِّ النُّونِ إتباعاً لها للباءِ { فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ } ففاجؤا التفرق والاختصامَ فآمنَ فريقٌ وكفرَ فريقٌ . والواوُ مجموعُ الفريقينِ .
{ قَالَ } عليه الصَّلاة والسَّلام للفريقِ الكافرِ منهم بعدَ ما شاهدَ منهم ما شاهدَ من نهايةِ العتوِّ والعنادِ حتَّى بلغُوا من المُكابرةِ إلى أنْ قالُوا له عليه الصَّلاة والسَّلام يا صالحُ ائتِنا بما تعدُنا إنْ كنتَ من الصادقينَ { قَالَ ياقوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة } أي بالعقوبةِ السيئةِ { قَبْلَ الحسنة } أي التوبةِ فتؤخرونَها إلى حينِ نزولِها حيثُ كانُوا من جهلِهم وغوايتِهم يقولونَ : إنْ وقعَ إيعادُه تُبنَا حينئذٍ وإلاَّ فنحنُ على ما كُنَّا عليه . { لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله } هلاَّ تستغفرونَه تعالَى قبل نزولِها { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } بقبولها إذ لا إمكانَ للقبولِ عندَ النُّزولِ .(5/194)
قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)
{ قَالُواْ اطيرنا } أصلُه تطَّيرنَا والتَّطيرُ التشاؤمُ عُبِّر عنه بذلك لما أنَّهم كانُوا إذا خرجُوا مسافرينَ فيمرّون بطائرٍ يزجرونَه فإنْ مرَّ سانحاً تيمَّنوا وإنْ مرَّ بارحاً تشاءمُوا فلما نسبُوا الخيرَ والشرَّ إلى الطائرِ استُعير لما كانَ سبباً لهما من قدرِ الله تعالى وقسمتِه أو من عمل العبدِ أي تشاءمنا . { بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ } في دينِك حيثُ تتعابعت علينا الشدائدُ وقد كانُوا قحطوا أو لم نزل في اختلافٍ وافتراقٍ مُذ اخترعتُم دينَكُم { قَالَ طَائِرُكُمْ } أي سببُكم الذي منْهُ ينالُكم ما ينالُكم من الشرِّ { عَندَ الله } وهو قدرُه أو عملُكم المكتوبُ عندَهُ . وقولُه تعالى : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } أي تُختبرون بتعاقبِ السرَّاءِ والضرَّاءِ أو تعذَّبون أو يفتنكُم الشيطانُ بوسوستِه إليكم الطيرةَ إضرابٌ من بيانِ طائرِهم الذي هو مبدأُ ما يحيقُ بهم إلى ذكِر ما هو الدَّاعي إليهِ .
{ وَكَانَ فِى المدينة } وهي الحِجْرُ { تِسْعَةُ رَهْطٍ } أي أشخاصٍ وبهذا الاعتبارِ وقعَ تمييزاً للتسعةِ لا باعتبارِ لفظِه . والفرقُ بينه وبينَ النَّفرِ أنَّه من الثلاثةِ أو من السبعةِ إلى العشرةِ والنَّفرُ من الثلاثةِ إلى التسعةِ وأسماؤهم حسبَما نُقل عن وهبٍ : الهذيلُ بنُ عبدِ ربَ وغُنم بنُ غنمٍ ورئابُ بنُ مهرجٍ ومصدعُ بنُ مهرجٍ وعميرُ بنُ كردبةَ وعاصمُ بنُ مخرمةَ وسبيطُ بنُ صدقةَ وشمعانُ بنُ صفي وقُدارُ بن سالف وهم الذين سَعَوا في عَقْرِ النَّاقةِ وكانُوا عتاةَ قومِ صالحٍ ، وكانُوا من أبناءِ أشرافِهم . { يُفْسِدُونَ فِى الأرض } لا في المدينةِ فقط إفساداً بحتاً لا يُخالطُه شيءٌ ما من الإصلاحِ كما ينطقُ به قولُه تعالى : { وَلاَ يُصْلِحُونَ } أي لا يفعلونَ شيئاً من الإصلاحِ أو لا يصلحون شيئاً من الأشياءِ .
{ قَالُواْ } استئنافٌ ببيانِ بعضِ ما فعلُوا من الفسادِ أي قالَ بعضُهم لبعضٍ في أثناءِ المُشاورةِ في أمرِ صالحٍ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وكانَ ذلَك غِبَّ ما أنذرَهُمْ بالعذاب وقولِه تمتعُوا في دارِكم ثلاثةَ أيامٍ الخ { تَقَاسَمُواْ بالله } إمَّا أمرٌ مقولٌ لقالُوا أو ماضٍ وقعَ بدلاً منه أو حالاً من فاعلهِ بإضمارِ قد . وقولُه تعالى : { لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ } أي لنباغتنَّ صالحاً وأهلَه ليلاً ونقتلنَّهم . وقُرىء بالتَّاءِ على خطابِ بعضِهم لبعضٍ . وقُرىء بياءِ الغَيبةِ وضمِّ التَّاءِ على أنَّ تقاسمُوا فعلٌ ماضٍ { ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيّهِ } أي لوليِّ صالحٍ . وقُرىء بالتَّاءِ والياءِ كما قبلَه . { مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ } أي ما حضرنَا هلاكَهم أو مكانَ هلاكِهم فضلاً أنْ نتولَّى إهلاكَهم . وقُرِىءَ مهلَك بفتحِ اللامِ فيكونَ مصدراً { وِإِنَّا لصادقون } من تمامِ القولِ أو حالٌ أي نقولُ ما نقولُ والحالُ إنَّا لصادقونَ في ذلكَ لأنَّ الشاهدَ للشيءِ غيرُ المباشرِ له عُرفاً أو لأنَّا ما شاهدنا مهلكَهم وحدَه بل مهلِكه ومهلكَهم جميعاً كقولِك ما رأيتُ ثمةَ رجلاً بل رجلين .(5/195)
وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)
{ وَمَكَرُواْ مَكْراً } بهذهِ المواضعةِ { وَمَكَرْنَا مَكْراً } أي أهلكَناهم إهلاكاً غيرَ معهودٍ { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أو جازيناهم مكَرهم من حيثُ لا يحتسبونَ .
{ فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة مَكْرِهِمْ } شروعٌ في بيانِ ما ترتَّبَ على ما باشرُوه من المكرِ ، وكيفَ معلقةٌ لفعلِ النظرِ . ومحلُّ الجملةِ النصبُ بنزعِ الخافضِ أي فتفكر في أنَّه كيفَ كانَ عاقبةُ مكرِهم . وقولُه تعالى : { أَنَّا دمرناهم } . إما بدلٌ من عاقبةُ مكرِهم على أنَّه فاعلُ كان وهي تامَّة وكيفَ حالٌ أي فانظُرْ كيفَ حصلَ أي على أيِّ وجهٍ حدثَ تدميرُنا إيَّاهُم . وإمَّا خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ . والجملةُ مبنيةٌ لما في عاقبةُ مكرِهم من الإبهامِ أي هي تدميرُنا إيَّاهم { وَقَوْمَهُمْ } الذين لم يكونُوا معُهم في مباشرةِ التبييتِ . { أَجْمَعِينَ } بحيثُ لم يشذَّ منُهم شاذٌّ . وإما تعليلٌ لما ينبىءُ عنه الأمرُ بالنَّظرِ في كيفيةِ عاقبةِ مكرِهم من غايةِ الهولِ والفظاعةِ بحذفِ الجارِّ أي لأنَّا دمَّرناهم الخ وقيلَ كانَ ناقصةٌ اسمُها عاقبةُ مكرِهم خبرُها كيفَ كانَ فالأوجُه حينئذٍ أنْ يكونَ قولُه تعالى : أنَّا دمَّرناهم الخ تعليلاً لما ذكِر . وقُرىء إنَّا دمَّرناهم الخ بالكسرِ على الاستئنافِ .
رُوي أنَّه كانَ لصالحٍ عليه السَّلام مسجدٌ في الحجر في شعبٍ يصلِّي فيهِ ، فقالُوا زعمَ صالحٌ أنَّه يفرغُ منَّا إلى ثلاثٍ فنحنُ نفرغُ منه ومن أهلهِ قبل الثَّلاثِ فخرجُوا إلى الشِّعبِ ، وقالُوا إذَا جاءَ يُصَلِّي قتلناهُ ثمَّ رجعنَا إلى أهلِه فقتلناهُم فبعثَ الله تعالى صخرةً من الهضبِ حيالَهم فبادرُوا فطبقتِ الصَّخرةُ عليهم فم الشِّعبِ فلم يدرِ قومُهم أينَ هُم ولم يدروا ما فُعل بقومِهم وعذَّب الله تعالى كلاً منهم في مكانِه ونجَّى صالحاً ومَن معه . وقيلَ جاءُوا بالليلِ شاهرِي سيوفِهم وقد أرسلَ الله تعالى الملائكةَ ملءَ دارِ صالحِ فدمغُوهم بالحجارةِ يرون الحجارةَ ولا يَرون رامياً .
{ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ } جملةً مقررةٌ لما قبلها . وقولُه تعالى : { خَاوِيَةٍ } أي خاليةً أو ساقطةً متهدمةً { بِمَا ظَلَمُواْ } أي بسببِ ظلمِهم المذكورِ ، حالٌ من بيوتُهم والعاملُ معنى الإشارةِ . وقُرىء خاويةٌ بالرَّفعِ على أنَّه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ { إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي فيَما ذُكر من التَّدميرِ العجيبِ بظلِمهم { لآيَةً } لعبرةً عظيمةً { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي ما من شأنِه أنْ يُعلم من الأشياءِ أو لقومٍ يتصفونَ بالعلم { وَأَنجَيْنَا الذين ءامَنُواْ } صالحاً ومَن معه من المؤمنينَ .
{ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } أي الكفَر والمعاصي اتقاءً مستمراً فلذلك خُصُّوا بالنَّجاةِ .
{ وَلُوطاً } منصوبٌ بمضمرٍ معطوفٍ على أرسلنا في صدرِ قصَّة صالحٍ داخلٌ معه في حيِّز القسمِ أي وأرسلنا لوطاً . وقوله تعالى : { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } ظرفٌ للإرسالِ على أنَّ المرادَ به أمرٌ ممتدٌ وقعَ فيه الإرسالُ وما جرى بينَه وبينَ قومِه من الأقوالِ والأحوالِ . وقيل : انتصابُ لوطاً بإضمارِ اذكُر ، وإذْ بدلٌ منه ، وقيل : بالعطفِ على الذين آمنُوا أي وأنجينا لوطاً وهو بعيدٌ { أَتَأْتُونَ الفاحشة } أي الفعلةَ المتناهيةَ في القبحِ والسَّماجةِ . وقولُه تعالى : { وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } جملةٌ حاليةٌ من فاعلِ تأتُون مفيدةٌ لتأكيدِ الإنكارِ وتشديدِ التَّوبيخِ ، فإنَّ تعاطيَ القبيحِ من العِالمِ بقُبحه أقبحُ وأشنعُ . وتُبصرون من بصرِ القلبِ أي أتفعلونَها والحال أنَّكم تعلمون علماً يقينياً بكونِها كذلك وقيل : يبصرُها بعضُكم من بعضٍ لما كانُوا يُعلنون بَها .(5/196)
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
{ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً } تثنيةٌ للإنكارِ وتكريرٌ للتوبيخِ وبيانٌ لما يأتونَهُ من الفاحشةِ بطريق التَّصريحِ ، وتحليةُ الجملةِ بحرفي التأكيدِ للإيذانِ بأنَّ مضمونَها مما لا يُصدِّق وقوعَه أحدٌ لكمالِ بُعدِه من العقولِ . وإيرادُ المفعولِ بعُنوانِ الرُّجوليةِ لتربيةِ التقبيحِ وتحقيقِ المباينةِ بينها وبين الشهوةِ التي عُلل بها الإتيانُ { مّن دُونِ النساء } متجاوزينَ النساءَ اللاتي هُنَّ محالُّ الشهوةِ { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } تفعلونَ فعلَ الجاهلينَ بقبحِه أو تجهلون العاقبةَ أو الجهلُ بمعنى السَّفاهة والمجُون أي بل أنتُم قومٌ سفهاءُ ماجنونَ . والتَّاءُ فيه مع كونِه صفةً لقومٍ لكونِهم في حيِّزِ الخطابِ .
{ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءالَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } يتنزهونَ عن أفعالِنا أو عن الأقذارِ ويعدّون فعلَنا قذراً . وعن ابنِ عبَّاسٍ رضَي الله تعالَى عنُهمَا أنَّه استهزاءٌ وقد مرَّ في سورةِ الأعرافِ أنَّ هذا الجوابَ هو الذي صدرَ عنُهم في المرَّةِ الأخيرةِ من مراتِ مواعِظِ لوطٍ عليهِ السَّلامُ بالأمرِ والنَّهي لا أنَّه لم يصدْر عنهم كلامُ آخرُ غيرُه .
{ فأنجيناه وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته قدرناها } أي قدرنَا أنَّها { مِنَ الغابرين } أي الباقينَ في العذابِ .
{ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا } غيرَ معهودٍ { فَسَاء مَطَرُ المنذرين } قد مرَّ بيانُ كيفيةِ ما جَرى عليهم من العذابِ غيرَ مرَّةٍ .
{ قُلِ الحمد لِلَّهِ وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى } إثرَ ما قصَّ الله تعالى على رسولِه عليه الصَّلاة والسَّلام قصصَ الأنبياءِ المذكورينَ عليهم الصَّلاة والسَّلام وأخبارَهم الناطقةَ بكمالِ قُدرته تعالى وعظمِ شأنِه وبما خصَّهم به من الآياتِ القاهرةِ والمعجزاتِ الباهرةِ الدالَّةِ على جلالةِ أقدارِهم وصحَّةِ أخبارِهم وبيَّن على ألسنتهم حقِّيةَ الإسلامِ والتَّوحيدِ وبطلانَ الكفرِ والإشراكِ وأنَّ من اقتَدى بهم فقد اهتدَى ومن أعرضَ عنهم فقد تردَّى في مَهاوي الرَّدى وشرح صدَره عليهِ الصَّلاة والسَّلام بما في تضاعيفِ تلكِ القصص من فنونِ المعارفِ الرَّبانية ونوَّر قلبَه بأنوارِ الملكاتِ السُّبحانية الفائضةِ من عالمِ القدسِ وقرَّر بذلكَ فحوى ما نطقَ به قولُه عزَّ وجلَّ : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } أمرهَ عليه الصَّلاة والسَّلام بأنْ يحمدَه تعالى على ما أفاضَ عليه من تلك النِّعمِ التي لا مطمعَ وراءَها لطامعٍ ولا مطمحَ من دونِها لطامحٍ ويسلِّم على كافَّةِ الأنبياءِ الذين من جُمْلتهم الذين قصَّت عليه أخبارُهم التي هي من جُملة المعارفِ التي أوحيتْ إليهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أداءً لحقِّ تقدمِهم واجتهادِهم في الدِّين . وقيلَ هو أمرٌ للوطٍ عليه السَّلامُ بأنْ يحمدَه تعالى على إهلاكِ كَفَرة قومِه ويسلِّم على من اصطفَاه بالعصمةِ عن الفواحشِ والنَّجاةِ عن الهلاكِ ولا يخفى بعدُه .
{ الله خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } أي أللَّهُ الذي ذُكرتْ شؤونَه العظيمةُ خيرٌ أمْ مَا يشركونَه به تعالى من الأصنامِ .(5/197)
ومرجعُ الترديدِ إلى التَّعريضِ بتبكيتِ الكفرةِ من جهتِه تعالى وتسفيِه آرائِهم الركيكةِ والتهكمِ بهم إذْ من البيِّن أنْ ليسَ فيما أشركُوه به تعالى شائبةُ خيرٍ ما حتَّى يمكن أنْ يوازنَ بينَهُ وبينَ مَنْ لا خيرَ إلا خيرُه ولا إلَه غيرُه . وقُرىء تشركونَ بالتَّاءِ الفوقانيَّةِ بطريقِ تلوينِ الخطابِ وتوجيهِه إلى الكفرةِ وهو الأليقُ بما بعدَهُ من سياقِ النَّظمِ الكريمِ المبنيِّ على خطابِهم ، وجعلُه من جملةِ القولِ المأمورِ به يأباهُ قولُه تعالى فأنبتْنا الخ فإنَّه صريحٌ في أنَّ التبكيتَ من قبله عزَّ وجلَّ بالذاتِ ، وحملُه على أنَّه حكايةٌ منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لما أمر به بعبارته كما في قولِه تعالى : { قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } تعسفٌ ظاهر من غيرِ داعٍ إليهِ وأمْ في قولِه تعالى : { أَم مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض } منقطعةٌ وما فيها من كلمةِ بَلْ على القراءةِ الأولى للاضرابِ والانتقالِ من التبكيت تعريضاً إلى التَّصريحِ به خطاباً على وجهٍ أظهرَ منه لمزيد التأكيد والتشديدِ وأمَّا على القراءةِ الثَّانية فلتثنية التبكيتِ وتكريرِ الإلزامِ كنظائرِها الآتيةِ . والهمزةُ لتقريرِهم أي حملِهم على الإقرارِ بالحقِّ على وجهِ الاضطرارِ فإنَّه لا يتمالك أحدٌ ممن له أدنى تمييزٍ ولا يقدرُ على أنْ لا يعترفَ بخيريةِ مَن خلقَ جميعَ المخلوقاتِ وأفاضَ على كلَ منها ما يليقُ به من منافعِه من أخسِّ تلك المخلوقاتِ وأدناها بل بأنْ لا خيريةَ فيه بوجهٍ من الوجوهِ قطعاً . ومَن مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ مع أمِ المُعادِلةِ للهمزةِ تعويلاً على ما سبقَ في الاستفهامِ الأولِ خلا أنَّ تُشركون ههنا بتاءِ الخطابِ على القراءتينِ معاً وهكذا في المواضعِ الأربعةِ الآتية . والمعنى بلْ أمَّن خلقَ قُطري العالمِ الجسمانيِّ ومبدأي منافع ما بينهما { وَأَنزَلَ لَكُمْ } التفاتٌ إلى خطابِ الكَفَرةِ على القِراءةِ الأُولَى لتشديدِ التبكيتِ والإلزامِ أي أَنزل لأجلِكم ومنفعتِكم { مِنَ السماء مَاء } أي نوعاً منه هو المطرُ .
{ فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ } أي بساتينَ محدقةً ومحاطةً بالحوائطِ { ذَاتَ بَهْجَةٍ } أي ذاتَ حُسنٍ ورَوْنقٍ يبتهجُ به النُّظَّارُ . { مَّا كَانَ لَكُمْ } أي ما صحَّ وما أمكنَ لكُم { أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } فضلاً عن ثمرها وسائرِ صفاتِها البديعةِ خيرٌ أَمْ ما تُشركون . وقُرىء أَمَنْ بالتَّخفيفِ على أنَّه بدلٌ من الله . وتقديمُ صِلَتى الإنزالِ على مفعولِه لما مرَّ مراراً من التَّشويقِ إلى المؤخَّرِ ، والالتفاتُ إلى التكلمِ في قوله تعالى : { فَأَنبَتْنَا } لتأكيدِ اختصاصِ الفعلِ بذاتِه تعالى والإيذانِ بأنَّ إنباتَ تلك الحدائقِ المختلفةِ الأصنافِ والأوصافِ والألوانِ والطُّعومِ والرَّوائحِ والأشكالِ مع ما لها من الحُسنِ البارعِ والبهاءِ الرَّائعِ بماءٍ واحدٍ ممَّا لا يكادُ يقدرُ عليه إلا هو وحدَهُ حسبما ينبىءُ عنه تقييدُها بقولِه تعالى : { مَّا كَانَ لَكُمْ } الخ سواء كانت صفةً لها أو حالاً .(5/198)
وتوحيدُ وصفها الأولِ أعني ذاتَ بهجةٍ لما أنَّ المَعنى جماعةُ حدائقَ ذاتُ بهجةٍ على نهجِ قولِهم النِّساءُ ذهبتْ وكذا الحالُ في ضميرِ شجِرها . { أءلاه مَّعَ الله } أي أإلهٌ آخرُ كائنٌ مع الله الذي ذُكرَ بعضُ أفعالِه التي لا يكادُ يقدرُ عليها غيرُه حتَّى يتوهَّم جعلَه شريكاً له تعالَى في العبادةِ وهذا تبكيتٌ لهم بنفي الألوهيةِ عمَّا يُشركونه به تعالى في ضمنِ النَّفي الكليِّ على الطريقةِ البُرهانيةِ بعد تبكيتِهم بنفي الخيريةِ عنْهُ بما ذكرَ من التَّرديدِ ، فإنَّ أحداً ممَّن له تمييزٌ في الجُملةِ كما لا يقدرُ على إنكارِ انتفاءِ الخيريةِ عنه بالمرةِ لا يكادُ يقدرُ على إنكارِ انتفاءِ الألوهيةِ عنه رأساً لا سيَّما بعد ملاحظةِ انتفاءِ أحكامِها عمَّا سواهُ تعالى وهكذا الحالُ في المواقعِ الأربعةِ الآتيةِ وقيل : المرادُ نفَي أنْ يكونَ معه تعالى إلهٌ آخرُ فيما ذكرَ من الخلقِ وما عطف عليه لكن لا على أنَّ التبكيتَ بنفس ذلك النفي فقط كيفَ لا وهم لا يُنكرونَه حسبما ينطقُ به قولُه تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَّيَقُولَنَّ الله } بل بإشراكِهم به تعالى في العبادةِ ما يعترفون بعدمِ مشاركتِه له تعالى فيما ذكرَ من لوازمِ الألوهيَّةِ كأنَّه قيلَ أإلهٌ آخرُ مع الله في خواصِّ الأُلوهيةِ حتَّى يجعلَ شريكاً له تعالى في العبادةِ وقيل المعنى أغيرُه يُقرن به ويجعلُ له شريكاً في العبادةِ مع تفرُّده تعالى بالخلقِ والتَّكوينِ فالإنكارُ للتوبيخِ والتبكيتِ مع تحقيقِ المنكرِ دون النفي كما في الوجهينِ السابقينِ والأولُ هو الأظهرُ الموافقُ لقولِه تعالى : { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إله } والأوفى بحقِّ المقامِ لإفادتِه نفي وجودِ إلهٍ آخرَ معه تعالى رأساً لا نفيَ معيَّته في الخلقِ وفروعِه فقط . وقُرىء آإلهٌ بتوسيطِ مدةٍ بينَ الهمزتينِ وبإخراجِ الثَّانيةِ بينَ بينَ . وقُرىء أإلهاً بإضماء فعلٍ يناسبُ المقامَ ، مثل أتدعونَ أو أتشركونَ .
{ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } إضرابٌ وانتقالٌ من تبكيتِهم بطريقِ الخطابِ إلى بيانِ سوءٍ حالِهم وحكايتِه لغيرِهم أي بل هُم قومٌ عادتُهم العُدولُ عن طريقِ الحقِّ بالكليةِ والإنحرافُ عن الاستقامةِ في كلِّ أمرٍ من الأمورِ فلذلك يفعلونَ ما يفعلونَ من العُدول عن الحقِّ الواضحِ الذي هو التَّوحيدُ والعُكوفُ على الباطلِ البيِّن الذي هو الإشراكُ ، وقيل : يعدلونَ به تعالَى غيرَهُ وهو بعيدٌ خالٍ عن الإفادةِ .(5/199)
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
{ أَم مَّنْ جَعَلَ الأرض قَرَاراً } قيلَ : هو بدلٌ من أمْ مَنْ خلقَ السمواتِ الخ وكذا ما بعدَه من الجُملِ الثَّلاثِ ، وحكم الكلِّ واحدٌ والأظهرُ أنَّ كلَّ واحدةٍ منها إضرابٌ وانتقالٌ من التبكيتِ بما قبلها إلى التبكيتِ بوجهٍ آخرَ أدخلُ في الإلزامِ بجهةٍ من الجهاتِ أي جعلها بحيثُ بستقرُّ عليها الإنسانُ والدوابُّ بإبداءِ بعضِها من الماءِ ودخولها وتسويتِها حسبما تدورُ عليه منافعهُم { وَجَعَلَ خِلاَلَهَا } أوساطَها { أَنْهَاراً } جاريةً ينتفعونَ بها { وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ } أي جبالاً ثوابتَ تمنعها أنْ تميدَ بأهلها ويتكونُ فيها المعادنُ وينبعُ في حضيضِها الينابيعُ ويتعلقُ بها من المصالح ما لا يُحصى { وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين } أي العذابِ والمالحِ أو خليجيْ فارسَ والرومِ { حَاجِزاً } برزخاً مانعاً من الممازجةِ وقد مرَّ في سورةِ الفرقانِ ، والجعلُ في المواقعِ الثلاثةِ الأخيرةِ إبداعيٌّ وتأخيرُ مفعولِه عن الظرفِ لما مرَّ مراراً من التَّشويقِ { أءلاه مَّعَ الله } في الوجودِ أو في إبداعِ هذه البدائعِ على ما مرَّ . { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي شيئاً من الأشياءِ ولذلك لا يفهمونَ بطلانَ ما هُم عليهِ من الشركِ مع كمالِ ظهورِه .(5/200)
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
{ أَم مَّنْ يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ } وهو الذي أحوجتْه شدةٌ من الشَّدائدِ وألجأته إى اللجَأِ والضَّراعةِ إلى الله عزَّ وجلَّ ، اسم مفعولٍ من الاضطرارِ الذي هو افتعالٌ من الضِّرورةِ . وعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما هو المجهودُ وعن السُّدِّيِّ رحمه الله تعالى مَن لا حولَ له ولا قوةَ ، وقيل : المذنبُ إذا استغفرَ . واللامُ للجِنسِ لا للاستغراقِ حتَّى يلزمَ إجابة كلِّ مضطرٍ . { وَيَكْشِفُ السوء } وهُو الذي يعترِي الإنسانَ مما يسوؤُه { وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء الأرض } أي خلفاءَ فيها بأنْ ورَّثكم سُكناها والتَّصرفَ فيها ممَّن قبلكم من الأممِ وقيل المرادُ بالخلافةِ الملكُ والتَّسلطُ . { أءلاه مَّعَ الله } الذي يُفيض على كافةِ الأنامِ هذه النعمَ الجسامَ { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } أي تذكراً قليلاً أو زماناً قليلاً تتذكرونَ ، وما مزيدةٌ لتأكيدِ معنى القلَّةِ التي أريدَ بها العدمُ أو ما يجري مجراه في الحقارةِ وعدمِ الجدوى . وفي تذيبلِ الكلامِ بنفي التذكرِ عنهم إيذانٌ بأنَّ مضمونَهُ مركوزٌ في ذهنِ كلِّ ذكيَ وغبيَ وأنَّه من الوضوحِ بحيثُ لا يتوقفُ إلا على التوجِه إليه وتذكره . وقُرىء تتذكرونَ على الأصلِ وتذّكرون يذّكرونَ بالتاءِ والياءِ مع الإدغامِ .
{ أَم مَّنْ يَهْدِيكُمْ فِى ظلمات البر والبحر } أي في ظلماتِ الليالي فيهما على أنَّ الإضافةَ للملابسةِ أو في مشتبهاتِ الطرقِ يقالُ طريقةٌ ظلماءُ وعمياءُ للتي لا منارَ بها { وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ } وهي المطرُ ، ولئن صحَّ أن السببَ الأكثريَّ في تكونِ الريحِ معاودةُ الأدخنةِ الصاعدةِ من الطبقةِ الباردةِ لانكسارِ حرِّها وتمويجِها للهواءِ فلا ريبَ في أنَّ الأسبابَ الفاعليةَ والقابليةَ لذلك كلِّه من خلقِ الله عزَّ وجلَّ ، والفاعلُ للسببِ فاعلٌ للمسبَّب قطعاً { أءلاه مَّعَ الله } نفيٌ لأنْ يكونَ معه إلهٌ آخرُ . وقولُه تعالى : { تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } تقريرٌ وتحقيقٌ له ، وإظهار الاسمِ الجليلِ في موضعِ الإضمارِ للإشعارِ بعلَّةِ الحُكمِ أي تعالَى وتنزه بذاتِه المنفردةِ بالألُوهيةِ المستتبعةِ لجميعِ صفاتِ الكمالِ ونعوتِ الجمالِ والجلالِ المقتضيةِ لكونِ كلِّ المخلوقاتِ مقهُوراً تحتَ قُدرتِه عمَّا يُشركون أي عنْ وجودِ ما يُشركونَه به تعالَى لا مُطلقاً فإنَّ وجودَه مما لا مردَّ لهُ بلْ عن وجودِه بعُنوانِ كونِه إلهاً وشريكاً له تعالَى أو عن إشراكهم .(5/201)
أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
{ أَم مَّنْ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } أي بلْ أمن يبدأُ الخلقَ ثمَّ يُعيده بعد الموتِ بالبعثِ { وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض } أي بأسبابٍ سماويةٍ وأرضيةٍ قد رتبَّها على ترتيبٍ بديعٍ تقتضيهِ الحكمةُ التي عليها بُني أمرُ التكوينِ خيرٌ أمْ ما تشركونَه به في العبادةِ من جمادٍ لا يتوهم قدرتُه على شيءٍ ما أصلاً .
{ أءلاه } آخرُ موجودٌ { مَعَ الله } حتَّى يجُعلَ شريكاً له في العبادةِ وقولُه تعالَى : { قُلْ هَاتُواْ برهانكم } أمرٌ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بتبكيتِهم إثرَ تبكيتٍ أي هاتُوا بُرهاناً عقلياً أو نقلياً يدلُّ على أنَّ معه تعالى إلهاً لا على أنَّ غيرَه تعالى يقدُر على شيءٍ ممَّا ذُكر من أفعالِه تعالى كما قيلَ فإنَّهم لا يدعونَهُ صريحاً ولا يلتزمونَ كونَه من لوازمِ الألوهيةِ وإن كان منها في الحقيقةِ فمطالبتُهم بالبرهانِ عليه لا على صريحِ دعواهم ممَّا لا وجَه له وفي إضافةِ البرُهان إلى ضميرهم تهكمٌ بهم لما فيَها من إيهامٍ أنَّ لهم برهاناً وأنَّى لهُم ذلكَ { إِن كُنتُمْ صادقين } أي في تلك الدَّعوى .
{ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السموات والأرض الغيب إِلاَّ الله } بعد ما حقق تفرده تعالى بالأُلوهيةِ ببيانِ اختصاصِه بعلمِ الغيبِ تكميلاً لما قبله وتمهيداً لما بعدَه من أمرِ البعثِ . والاستثناءُ منقطعٌ ورفعُ المستثنى على اللُّغةِ التميمية للدِّلالةِ على استحالةِ علمِ الغيبِ من أهلِ السَّمواتِ والأرضِ بتعليقِه بكونِه سُبحانه وتعالَى منُهم كأنَّه قيلَ : إنْ كانَ الله تعالَى ممن فيهما ففيهم مَن يعلمُ الغيبَ ، أو متصلٌ على أنَّ المرادَ بمن في السَّمواتِ والأَرضِ مَن تعلقَ علمُه بهما واطَّلع عليهما اطِّلاعَ الحاضرِ فيهما فإنَّ ذلكَ معنى مجازيٌّ عامٌّ له تعالَى ولأوُلي العلمِ من خلقِه ، ومَن موصولةٌ أو موصوفةٌ { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } أي مَتَى يُنشرون من القبورِ مع كونِه ممَّا لا بُدَّ لهم منْهُ ومن أهم الأُمورِ عندهم . وأيَّان مركبةٌ مِنْ أيّ وآن . وقُرىء بكسرِ الهمزةِ . والضَّميرُ للكفرةِ وإنْ كانَ عدمُ الشُّعورِ بما ذُكر عامَّاً لئلاَّ يلزمَ التفكيكُ بينَه وبينَ ما سيأتي من الضَّمائِر الخاصَّةِ بهم قطعاً . وقيلَ الكُلُّ لمن ، وإسنادُ خواصِّ الكفرةِ إلى الجميعِ من قبيلِ قولِهم بنُو فُلانٍ فعلُوا كَذَا والفاعلُ بعضٌ منُهم .
{ بَلِ ادرك عِلْمُهُمْ فِى الأخرة } لمَّا نفَى عنهم علمَ الغيبِ وأكَّد ذلكَ بنفِي شعورِهم بوقت ما هو مصيرُهم لا محالةَ بُولغَ في تأكيدِه وتقريرِه بأنْ أضربَ عنْهُ وبيَّن أنَّهم في جهلٍ أفحشَ من جهلهِم بوقت بعثِهم حيثُ لا يعلمونَ أحوالَ الآخرةِ مُطلقاً معَ تعاضدِ أسبابِ معرفِتها على أنَّ معنى ادَّارك علمُهم في الآخرةِ تداركَ وتتابعَ علمُهم في شأنِ الآخرةِ التي ما ذُكر من البعثِ حالٌ مِن أحوالِها حتَّى انقطعَ ولم يبقَ لهم علمٌ بشيءٍ ممَّا سيكونُ فيها قطعاً لكن لا عَلى معنى أنَّه كانَ لهم علمٌ بذلكَ على الحقيقةِ ثمَّ انتفَى شيئاً فشيئاً بلْ على طريقةِ المجازِ بتنزيلِ أسبابِ العلمِ ومباديِه من الدَّلائلِ العقليةِ والسَّمعيةِ منزلةَ نفسِه وإجراءِ تساقطِها عن درجةِ اعتبارِهم كلَّما لاحظُوها مُجرى تتابعِها إلى الانقطاعِ ثمَّ أضربَ وانتقلَ عن بيانِ عدمِ علمِهم بها إلى بيانِ ما هُو أَسوأُ منه وهو حيرتُهم في ذلكَ حيثُ قيلَ : { بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا } أي في شكَ مُريبٍ من نفسِ الآخرةِ وتحققها كَمن تحيَّر في أمرٍ لا يجدُ عليه دليلاً فضلاً عن الأمورِ التي ستقعُ فيها ثمَّ أضربَ عن ذلكَ إلى بيانِ أنَّ ما هُم فيه أشدُّ وأفظعُ من الشكِّ حيثُ قيلَ : { بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ } بحيثُ لا يكادونَ يُدركون دلائلَها لاختلالِ بصائرِهم بالكُليَّة .(5/202)
وقُرىءَ بل أدّرك علمُهم بمعنى انتهى وفَنِيَ ، وقد فسَّره الحسنُ البصريُّ باضمحلَّ علمُهم ، وقيلَ : كلتَا الصِّيغتينِ على معناهُما الظاهرِ أي تكاملَ واستحكَم أو تمَّ أسبابُ علمِهم بأنها كائنةٌ لا محالةَ من آيات القيامةِ القاطعةِ والحُججِ السَّاطعةِ وتمكَّنُوا من المعرفِة فضلَ تمكنٍ وهم جاهلُون في ذلكَ وقولُه تعالَى : { بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا } إضرابٌ وانتقالٌ من وصفهم بمطلقِ الجهلِ إلى وصفِهم بالشكِّ . وقولُه تعالَى : { بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ } إضرابٌ من وصفِهم بالشكِّ إلى وصفِهم بَما هُو أشدُّ منْهُ وأفظعُ من العَمَى ، وأنتَ خبيرٌ بأنَّ تنزيلَ أسبابِ العلمِ منزلةَ العلمِ سَننٌ مسلوكٌ لكنْ دلالةُ النَّظمِ الكريمِ على جهلِهم حينئذٍ ليستْ بواضحةٍ . وقيلَ : المرادُ بوصفِهم باستحكامِ العلمِ وتكاملِه التَّهكمُ بهم فيكونَ وصفاً لهُم بالجهل مُبالَغةً والإضرابانِ على ما ذُكر وأصلُ ادَّاركَ تَدَارك وبه قرأَ أُبَيٌّ ، فأُبدلتِ التَّاءُ دالاً وسُكِّنتْ فتعذَّرَ الابتداءُ فاجتُلِبتْ همزةُ الوصلِ فصارَ أدَّارك . وقُرىء بلِ ادَّرك وأصلُه افتعلَ ، وبلْ أَأَدَّرك بهمزتينِ ، وبلْ آأدْرَك بألفٍ بينَهما ، وبلْ دَرَك بالتَّخفيفِ والنَّقلِ ، وبَلَ ادَّرك بفتحِ اللامِ وتشديدِ الدَّالِ ، وأصلُه بلْ أدّركَ على الاستفهامِ ، وبَلَى ادّركَ ، ، وبَلَى أَأَدْرك ، وأمْ تَدَارك ، وأمِ ادَّرك . فهذهِ ثِنْتا عشرةَ قراءةً فما فيهِ استفهامٌ صريحٌ أو مضمَّنٌ من ذلكَ فهُو إنكارٌ ونفيٌ وما فيهِ بَلَى فإثباتٌ لشعورِهم وتفسيرٌ له بالإدراكِ على وجهِ التَّهكمِ الذي هو أبلغُ وجوهِ النَّفي والإنْكارِ ، وما بعدَهُ إضرابٌ عن التَّفسيرِ مبالغةً في النَّفي ودلالةً على أنَّ شعورَهم بها أنَّهم شاكُّون فيها بلْ إنَّهم منها عَمُون أو ردٌّ وإنْكارٌ لشعورِهم .(5/203)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67)
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ } بيانٌ لجهلِهم بالآخرةِ وعَمَهِهم منها بحكايةِ إنكارِهم للبعثِ ، ووضعُ الموصولِ موضَع ضميرِهم لذمِّهم بما في حيِّز صلته والإشعارِ بعلَّة حُكمهم الباطلِ في قولِهم { أَءذَا كُنَّا تُرَاباً وَءابَاؤُنَا أَءنَّا لَمُخْرَجُونَ } أي أنخرجُ من القبورِ إذا كنَّا تُراباً كما ينبىءُ عنه مخرجونَ ولا مساغَ لأنْ يكونَ هو العاملَ في إذا لاجتماعِ موانعَ لو تفرَّدَ واحدٌ منها لكَفَى في المنعِ ، وتقييدُ الإخراجِ بوقتِ كونِهم تُراباً ليس لتخصيصِ الإنكارِ بالإخراجِ حينئذٍ فقط فإنَّهم مُنكرون للإحياءِ بعدَ الموتِ مُطلقاً وإنْ كانَ البدنُ على حالِه بل لتقويةِ الإنكارِ بتوجيههِ إلى الإخراجِ في حالةٍ منافيةٍ له . وقولُه تعالَى وآباؤُنا عطفٌ على اسمِ كانَ ، وقامَ الفصلُ مع الخبرِ مقامَ الفصلِ بالتأكيدِ ، وتكريرُ الهمزةِ في أئنا للمبالغةِ والتَّشديدِ في الإنكارِ . وتحليةُ الجُملةِ بأنَّ واللامِ لتأكيدِ الإنكارِ لا لإنكار التَّاكيدِ كما يُوهمه ظاهرُ النَّظمِ فإنَّ تقديمَ الهمزةِ لاقتضائِها الصدارةَ كَما في قولِه تعالى : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ونظائِره عَلَى رَأي الجُمهورِ فإنَّ المَعْنى عندَهُم تعقيبُ الإنْكارِ لا إنكارُ التَّعقيبِ كما هو المشهورُ . وقُرىءَ إذَا كنَّا بهمزةٍ واحدةٍ مكسورةٍ ، وقُرىء إنَّا لمخرجُون على الخبرِ .(5/204)
لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73)
{ لَقَدْ وُعِدْنَا هذا } أي الإخراجَ { نَحْنُ وَءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ } أي من قبلِ وعدِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ، وتقديمُ الموعودِ على نحنُ لأنَّه المقصودُ بالذكرِ وحيثُ أُخّرَ قُصد به المبعوثَ والجملةُ استئنافٌ مسوقٌ لتقريرِ الإنكارِ . وتصديرُها بالقسمِ لمزيدِ التأكيدِ . وقولُه تعالى : { إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين } تقريرُ إثرَ تقريرٍ .
{ قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين } بسببِ تكذيبِهم للرُّسلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ فيما دَعَوهم إليهِ من الإيمانِ بالله عزَّ وجلَّ وحَدهُ وباليومِ الآخرِ الذي تُنكرونَهُ فإنَّ في مشاهدةِ عاقبتِهم ما فيهِ كفايةٌ لأُولي الأبصارِ وفي التعبيرِ عن المُكذبينَ بالمجرمينَ لُطفٌ بالمؤمنينَ في تَرْكِ الجرائم .
{ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } لإصرارِهم على الكُفْرِ والتَّكذيبِ { وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ } في حَرَجِ صدرٍ { مّمَّا يَمْكُرُونَ } من مكرِهم فإنَّ الله تعالى يَعصِمُك من النَّاسِ . وقُرىءَ بكسرِ الضَّادِ وهُو أيضاً مصدرٌ ويجوزُ أنْ يكونَ المفتوحُ مخفَّفاً من ضيّقٍ . وقد قُرىءَ كذلكَ أي لا تكُن في أمرٍ ضيِّقٍ .
{ وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد } أي العذابُ العاجلُ الموعودُ { إِن كُنتُمْ صادقين } في إخبارِكم بإتيانِه . والجمعُ باعتبارِ شركةِ المُؤمنينَ في الإخبارِ بذلَك .
{ قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم } أي تبعكُم ولحقكُم والَّلامُ مزيدةٌ للتأكيدِ كالباءِ في قولهِ تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } أو الفعلُ مضمَّنٌ معنى فعلٍ يُعدَّى باللَّامِ . وقُرىءَ بفتحِ الدَّالِ وهي لغةٌ فيه { بَعْضُ الذى تَسْتَعْجِلُونَ } وهو عذابُ يومِ بدرٍ . وعسَى ولعلَّ وسوف في مواعيد الملوك بمنزلة الجزم بها وإنما يطلقونها إظهاراً للوقار وإشعاراً بأنَّ الرَّمزَ من أمثالِهم كالتَّصريحِ ممَّن عداهُم وعلى ذلك مَجرى وعدِ الله تعالى ووعيدهِ . وإيثارُ ما عليه النَّظمُ الكريمُ على أنْ يُقالَ عَسى أنْ يردفَكم الخ لكونِه أدلَّ على تحققِ الوعدِ .
{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } أي لذُو إفضالٍ وإنعامٍ على كافَّة النَّاسِ . ومن جُملةِ إنعاماتِه تأخيرُ عقوبةِ هؤلاءِ على ما يرتكبونَهُ من المَعَاصي التي من جُملتِها استعجالُ العذابِ { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } لا يعرفون حقَّ النعمةِ فيه فلا يشكرونَهُ بل يستعجلونَ بجهلِهم وقوعَهُ كدأبِ هؤلاءِ .(5/205)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)
{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ } أي ما تُخفيه . وقُرىءَ بفتحِ التَّاءِ من كننتُ الشيءَ إذا سترتُه { وَمَا يُعْلِنُونَ } من الأفعالِ والأقوالِ التي مِن جُملتِها ما حُكي عنهم من استعجالِ العذابِ وفيه إيذانٌ بأنَّ لهم قبائحَ غيرَ ما يُظهرونَهُ وأنَّه تعالَى يُجازيهم على الكلِّ . وتقديمُ السرِّ على العَلَن قد مرَّ سرُّه في سُورةِ البقرةِ عند قولِه تعالى : { أَوْ لاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } { وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِى السماء والأرض } أي من خافيةٍ فيهما وهُما من الصِّفاتِ الغالبةِ . والتَّاءُ للمبالغة كَما في الرِّوايةِ أو اسمانِ لما يغيبُ ويَخْفى والتَّاءُ للنقلِ إلى الاسميَّةِ { إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ } أيْ بيِّنٍ أو مُبينٍ لما فيهِ لَمنْ يُطالعه وهو اللَّوحُ المحفوظُ ، وقيلَ هُو القضاءُ العدلُ بطريقِ الاستعارةِ .
{ إِنَّ هذا القرءان يَقُصُّ على بَنِى إسراءيل أَكْثَرَ الذى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } منْ جُملتِه ما اختلفُوا في شأنِ المسيحِ وتحزَّبُوا فيهِ أحزاباً وركبُوا متنَ العُتوِّ والغُلوِّ في الإفراطِ والتَّفريطِ والتَّشبيهِ والتَّنزيهِ ووقعَ بينُهم التَّناكُدُ في أشياءَ حتَّى بلغَ المُشاقَّة إلى حيثُ لعنَ بعضُهم بعضاً وقد نزلَ القرآنُ الكريمُ ببيانِ كُنْهِ الأمرِ لو كانُوا في حيِّز الإنصافِ .
{ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤمِنِينَ } على الإطلاقِ فيدخلُ فيهم مَن آمنَ مِن بني إسرائيلَ دُخولاً أَوَّلِياً .
{ إِن رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم } أي بينَ بني إسرائيلَ { بِحُكْمِهِ } بما يحكمُ بهِ وهو الحقُّ أو بحكمتِه ويؤيدُه أنَّه قُرىء بحُكمه { وَهُوَ العزيز } فلا يردُّ حكمُه وقضاؤُه { العليم } بجميعِ الأشياءِ التي مِنْ جُملتها ما يقضى بهِ والفاءُ في قولِه تعالى : { فَتَوَكَّلْ عَلَى الله } لترتيبِ الأمرِ على ما ذُكر من شؤونِه عزَّ وجلَّ فإنَّها موجبةٌ للتوكلِ عليهِ وداعيةٌ إلى الأمرِ بهِ أي فتوكَّل عَلى الله الذي هَذا شأنُه فإنَّه موجبٌ على كلِّ أحدٍ أنْ يتوكلَ عليهِ ويفوض جميعَ أمورِه إليهِ وقولُه تعالى :
{ إِنَّكَ عَلَى الحق المبين } تعليلٌ صريحٌ للتَّوكلِ عليه تعالَى بكونِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ على الحقِّ البيِّنِ أو الفاصلِ بينَهُ وبينَ الباطلِ أو بينَ المُحقِّ والمُبطلِ فإنَّ كونَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كذلكَ ممَّا يُوجبُ الوثوقَ بحفظِه تعالى ونُصرتِه وتأييدِه لا محالةَ .
وقولُه تعالى : { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } الخ تعليلٌ آخرُ للتَّوكلِ الذي هُو عبارةٌ عن التَّبتلِ إلى الله تعالى وتفويضِ الأمرِ إليهِ والإعراضِ عن التشبثِ بما سِواه وقد عُلِّل أولاً بما يُوجبه من جهتِه تعالى أعني قضاءَهُ بالحقِّ وعزَّتِه وعلمهِ تعالى وثانياً بما يُوجبه من جهتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على أحدِ الوجهينِ أعنِي كونَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على الحقِّ ومن جهتِه تعالى على الوجهِ الآخرِ أعني إعانتَه تعالى وتأييدَه للحقِّ .(5/206)
ثم عُلِّل ثالثاً بما يُوجبه لكنْ لا بالذَّاتِ بل بواسطةِ إيجابِه للإعراضِ عن التَّشبثِ بما سِواه تعالى فإنَّ كونَهم كالمَوتى والصُمِّ والعُمْي موجبٌ لقطعِ الطمعِ عن مشايعتِهم ومعاضدتِهم رأساً وداعٍ إلى تخصيصِ الاعتضادِ به تعالى وهو المعنى بالتَّوكل عليه تعالى وإنَّما شُبِّهوا بالموتى لعدمِ تأثرِهم بما يُتلى عليهم من القوارعِ . وإطلاقُ الإِسماعِ عن المفعولِ لبيانِ عدمِ سماعهم لشيءٍ من المسموعاتِ ولعلَّ المرادَ تشبيهُ قلوبِهم بالمَوتى فيما ذُكر من عدمِ الشُّعور فإنَّ القلبَ مَشعرٌ من المشاعرِ أشُير إلى بطلانِه بالمرةِ ثم بُيِّن بطلانُ مشعري الأذنِ والعينِ كما في قولِه تعالى : { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا } وإلا فبعد تشبيهِ أنفسِهم بالمَوتى لا يظهر لتشبيهِهم بالصُّمِّ والعُمي مزيدُ مزيةٍ . { لاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء } أي الدَّعوةَ إلى أمرٍ من الأمُور ، وتقييدُ النفيِّ بقولِه تعالى { إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ } لتكميلِ التشبيهِ وتأكيدِ النفيِّ فإنَّهم مع صَمَمِهم عن الدُّعاء إلى الحقِّ معُرضونَ عن الدَّاعي مولُّون على أدبارِهم ، ولا ريبَ في أنَّ الأصمَّ لا يسمعُ الدُّعاءَ مع كونِ الدَّاعِي بمقابلةِ صُماخه قريباً فكيفَ إذا كانَ خلفَهُ بعيداً منه . وقُرىء ولا يَسمعُ الصمُّ الدعاءَ .(5/207)
وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
{ وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى عَن ضلالتهم } هدايةً موصِّلةً إلى المطلوبِ كما في قولِه تعالى : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ } فإنَّ الاهتداءَ منوطٌ بالبصرِ ، وعن متعلِّقِةٍ بالهدايةِ باعتبارِ تضمنِه معنى الصَّرفِ وقيل : بالعمى عن كذا وفيهِ بعدٌ . وإيرادُ الجُملةِ الاسميةِ للمُبالغةِ في نَفي الهِداية . وقُرىء وما أنت تَهدي العُميَ { إِن تُسْمِعُ } أي ما تُسمع سماعاً يُجدي السامعَ نفعاً { إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بئاياتنا } أي مَن مِن شأنِهم الإيمانُ بها . وإيرادُ الإسماعِ في النفيِّ والإثباتِ دونَ الهدايةِ مع قُربها بأنْ يقالَ إنْ تُهدي إلا مَن يُؤمن الخ لِما أنَّ طريقَ الهدايةِ هو إسماعُ الآياتِ التنزيليَّةِ { فَهُم مُّسْلِمُونَ } تعليلٌ لإيمانِهم بَها كأنَّه قيلَ فإنَّهم مُنقادونَ للحقَّ . وقيلَ : مُخلصون لله تعالى من قولِه تعالى : { بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } { وَإِذْا وَقَعَ القول عَلَيْهِم } بيانٌ لما أُشير إليه بقولِه تعالى : { بَعْضُ الذى تَسْتَعْجِلُونَ } من بقيةِ ما يستعجلونَهُ من السَّاعةِ ومباديها ، والمُرادُ بالقولِ ما نطقَ من الآياتِ الكريمةِ بمجيءِ السَّاعةِ وما فيها مِنْ فُنونِ الأَهوالِ التي كانُوا يستعجلُونها وبوقوعِه قيامُها وحصولُها عبَّر عن ذلكَ به للإيذان بشدَّةِ وقعِها وتأثيرِها . وإسنادُه إلى القولِ لِما أنَّ المرادُ بيانُ وقوعِها منْ حيثُ إنَّها مصداقٌ للقولِ النَّاطقِ بمجيئها وقد أُريدَ بالوقوعِ دُنوُّه واقترابُه كما في قولِه تعالى : { أتى أَمْرُ الله } أي إذا دَنَا وقوعُ مدلولِ القولِ المذكورِ الذي لا يكادُون يسمعونَهُ ومصداقُه { أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مّنَ الأرض } وهي الجسَّاسةُ وفي التَّعبيرِ عنها باسمِ الجنسِ وتأكيدُ إبهامِه بالتَّنوينِ التفخيميِّ من الدِّلالةِ على غَرَابةِ شأنِها وخروجِ أوصافِها عن طور البيانِ ما لا يخفى . وقد وردَ في الحديثِ أنَّ طولها ستُّون ذراعاً لا يدركها طالبٌ ولا يفوتها هارب . وروي أن لها أربعَ قوائمَ ولها زَعَبٌ وريشٌ وجناحانِ . وعن ابن جُريجٍ في وصفِها رأسُ ثورٍ وعينُ خنزيرٍ وأُذنُ فيل وقرنُ أيلُ وعنقُ نعامةٍ وصدرُ أسدٍ ولونُ نمرٍ وخاصرةُ هرةٍ وذَنَبُ كبشِ وخُفُّ بعيرٍ وما بين المفصلينِ اثنا عشرَ ذراعاً بذراعِ آدمَ عليهِ السَّلامُ . وقال وهبٌ : وجهُها وجه الرَّجلِ وباقي خَلقِها خَلْقُ الطَّيرِ . ورُوي عن عليَ رضي الله عنه أنَّه قال : ليس بدابةٍ لها ذنبٌ ولكنْ لها لحيةٌ كأنَّه رجلٌ . والمشهورُ أنَّها دابَّةٌ . وروي لا تخرجُ إلا رأسُها ورأسُها يبلغُ عنانَ السَّماءِ أو يبلغُ السَّحابَ . وعن أبي هُريرةَ رضي الله عنْهُ فيها كلُّ لونٍ ما بينَ قَرنيها فرسخٌ للرَّاكبِ . وعن الحَسَنِ رضي الله عنه لا يتمُّ خروجُها إلا بعدَ ثلاثةِ أيَّام . وعنْ عليَ رضي الله عنه أنَّها تخرجُ ثلاثَة أيَّامٍ والنَّاسُ ينظرونَ فلا يخرجُ كلَّ يومٍ إلا ثلثُها . وعن النبيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنه سُئل من أين تخرجُ الدَّابةُ فقال :(5/208)
« من أعظمِ المساجدِ حرمةً على الله تعالى » يعني المسجدَ الحرامَ ورُوي أنَّها تخرجُ ثلاثَ خرجاتٍ تخرجُ بأقصى اليمنِ ثم تخرجُ بالباديةِ ثم تنكمنُ دهراً طويلاً فبينا النَّاسُ في أعظمِ المساجدِ حرمةً على الله تعالى وأكرمِها فما يهولُهم إلا خروجُها من بينِ الركنِ حذاءً دار بني مخزومِ عن يمين الخارجِ من المسجد فقومٌ يهربون وقومٌ يقفون نظارةً ، وقيل : تخرجُ من الصَّفا . ورُوي بينَا عيسى عليه السَّلامُ يطوفُ بالبيتِ ومعه المُسلمون إذْ تضطربُ الأرضُ تحتهم تحرُّكَ القنديلِ وينشقُّ الصَّفا مَّما يلِي المَسْعى فتخرجُ الدَّابةُ من الصَّفا ومعها عصا مُوسى وخاتمُ سليمانَ عليهما السَّلام فتضربُ المؤمنَ في مسجدِه بالعصَا فتنكتُ نُكتةً بيضاءَ فتفشُو حتَّى يضيءَ لها وجهُه وتكتبُ بين عينيهِ مؤمنٌ ، وتنكتُ الكافرَ بالخاتمِ في أنفهِ فتفشُو النكتةُ حتَّى يسودَّ لها وجهُه وتكتبُ بين عينبهِ كافرٌ ثم تقولُ لهم أنتَ يا فلانُ من أهل الجنَّة وأنتَ يا فلانُ من أهلِ النَّارِ . ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهُمَا أنَّه قرعَ الصَّفا بعصاه وهو مُحرمٌ وقال إنَّ الدَّابةَ لتسمعُ قرعَ عصايَ هذه . ورَوَى أبُو هُريرةَ عن النبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام أنَّه قال بئسَ الشّعبُ شِعبُ أجيادٍ مرتينِ أو ثلاثاً قيلَ : ولم ذاكَ يا رسولَ الله قال تخرجُ منه الدَّابةُ فتصرخُ ثلاثَ صرخاتٍ يسمعُها مَن بين الخافقينِ فتتكلمُ بالعربيةِ بلسانٍ ذلقٍ وذلك قولُه تعالى : { تُكَلّمُهُمْ أَنَّ الناس كَانُوا بئاياتنا لاَ يُوقِنُونَ } أي تُكلمهم بأنَّهم كانُوا لا يُوقنون بأياتِ الله تعالى النَّاطقةِ بمجيء السَّاعة ومباديها أو بجميع آياتِه التي من جُملتِها تلك الآياتُ وقيل : بآياته التي من جُملتها خروجُها بينَ يدي السَّاعةِ والأولُ هو الحقُّ كما سُتحيط به علماً . وقُرىء بأنَّ النَّاس الآيةَ وإضافةُ الآياتِ إلى نُونِ العظمةِ لأنَّها حكايةٌ منه تعالى لمعنى قولِها لا لعينِ عبارتِها وقيل : لأنَّها حكايةٌ منها لقولِ الله عزَّ وجَلَّ وقيل : لاختصاصِها به تعالى وأثرتِها عنده كما يقولُ بعضُ خواصِّ الملكِ خيلُنا وبلادُنا وإنَّما الخيلُ والبلادُ لمولاهُ وقيل : هناك مضافٌ محذوفٌ أي بآياتِ ربِّنا . ووصفُهم بعدمِ الإيقانِ بها معَ أنَّهم كانُوا جاحدينَ بها للإيذانِ بأنَّه كانَ من حقِّهم أنْ يُوقنوا بها ويقطعُوا بصحتها وقد اتَّصفُوا بنقيضِه . وقُرىء إنَّ النَّاس بالكسرِ على إضمارِ القولِ أو إجراءِ الكلامِ مَجراهُ . والكلامُ في الإضافةِ كالذي سبقَ وقيل : هو استئنافٌ مَسُوقٌ من جهتِه تعالى لتعليلِ إخراجِها أو تكليمِها ويردُّه الجمعُ بينَ صيغتي المَاضِي والمستقبلِ فإنَّه صريحٌ في كونِه حكايةً لعدمِ إيقانِهم السابقِ في الدُّنيا . والمرادُ بالنَّاسِ إمَّا الكَفَرةُ على الإطلاقِ أو مُشركو مكَّةَ . وقد رُوي عن وهب أنَّها تخبرُ كل مَن تراهُ أنَّ أهلَ مكَّةَ كانُوا بمحمدٍ والقرآنِ لا يوُقنون . وقُرىء تُكلِّمهم مِن الكَلْمِ الذي هو الجُرْحُ . والمُرادُ به ما نُقلِ من الوسمِ بالعَصَا والخاتمِ وقد جُوِّزَ كونُ القراءةِ المشهورةِ أيضاً منه لمعنى التَّكثيرِ ولا يخفى بعدُه .(5/209)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمَّةٍ فَوْجاً } بيانٌ إجماليٌّ لحال المُكذِّبينَ عند قيامِ السَّاعةِ بعد بيانِ بعضِ مَبَاديها . ويومَ منصوبٌ بمضمرٍ خُوطب به النبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام . والمرادُ بهذا الحشرِ هو الحشرُ للعذابِ بعدَ الحشرِ الكُليِّ الشَّاملِ لكافَّةِ الخَلْق . وتوجيهُ الأمرِ بالذكرِ إلى الوقتِ مع أنَّ المقصودَ تذكيرُ ما وقعَ فيه من الحوادثِ قد مرَّ بيانُ سرِّه مراراً أي واذكرُ لهم وقتَ حشرنا أي جمعِنا من كلِّ أمةٍ من أممِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام أو من أهلِ كلِّ قَرن من القُرون جماعةً كثيرةً فمن تبعيضيةٌ لأنَّ كلَّ أمةٍ منقسمةٌ إلى مصدَّقٍ ومكذِّبٍ ، وقولُه تعالى : { مّمَّن يُكَذّبُ بئاياتنا } بيانُ للفوجِ أي فوجاً مكذبين بها { فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي يُحبس أوَّلُهم على أخرِهم حتىَّ يتلاحقُوا ويجتمعُوا في موقفِ التَّوبيخِ والمُناقشةِ وفيهِ من الدِّلالةِ على كثرةِ عددِهم وتباعُدِ أطرافِهم ما لاَ يخفي . وعن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما : أبوُ جهلٍ والوليدُ بن المُغيرة وشَيُبةُ بنُ ربيعةَ يُساقون بين يَدَي أهلِ مكَّةَ وهكذا يُحشر قادةُ سائرِ الأُمم بينَ أيديهم إلى النَّارِ .
{ حتى إِذَا جَاءوا } إلى موقفِ السُّؤالِ والجَوَاب والمُناقشةِ والحسابِ { قَالَ } أي الله عزَّ وجلَّ موبَّخاً لهم على التَّكذيبِ والالتفاتِ لتربيةِ المهابةِ { أَكَذَّبْتُم بئاياتى } النَّاطقةِ بلقاءِ يومِكم هذا . وقولُه تعالى { وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً } جملةٌ حاليَّةٌ مفيدةٌ لزيادةِ شَنَاعة التَّكذيبِ وغايةِ قُبْحهِ ومؤكدةٌ للإنكارِ والتَّوبيخِ أي أكذَّبتُم بها بادىءَ الرَّأي غيرَ ناظرينَ فيها نظراً يُؤدِّي إلى العلمِ بكُنهِها وأنَّها حقيقةٌ بالتَّصديقِ حَتماً ، وهذا نصٌ في أنَّ المرادَ بالآياتِ فيما في الموضعينِ هي الآياتُ القُرآنيةُ لأنَّها هيَ المُنطويةُ على دَلائلِ الصِّحةِ وشواهدِ الصِّدقِ التي لم يُحيطوا بها علماً مع وجُوبِ أنْ يتأمَّلوا ويتدبَّروا فيها لا نفسُ السَّاعة وما فيها . وقيلَ : هو معطوف على كذَّبتم أي أجمعتُم بين التكذيب وعدم التَّدبرِ فيها { أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي أمْ أيُّ شيءٍ كنتُم تعملون بها وأمُ أيُّ شيءٍ كنتمُ تعملون غيرَ ذلكَ بمعنى أنَّه لم يكُن لهم عملٌ غيرُ ذلكَ كأنَّهم لم يُخلقوا إلا للكفر والمَعَاصي مع أنَّهم ما خُلقوا إلا للإيمانِ والطَّاعةِ يخُاطيون بذلك تبكيتاً ثم يُكبُّون في النَّار .
وذلك قولُه تعالى : { وَوَقَعَ القول عَلَيْهِم } أي حلَّ بهم العذابُ الذي هو مدلولُ القولِ النَّاطقِ بحلولِه ونزولِه { بِمَا ظَلَمُواْ } بسببِ ظُلمِهم الذي هو تكذيبُهم بآياتِ الله { فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ } لانقطاعِهم عن الجوابِ بالكُلِّية وابتلائِهم بشغلٍ شاغلٍ من العذابِ الأليمِ .(5/210)
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)
{ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا اليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ } الرؤيةٌ قلبية لا بصريةٌ لأنَّ نفسَ الليلِ والنَّهارِ وإنْ كانَا من المُبصرات لكن جعلُهما كما ذُكر من قبيلِ المعقولاتِ أي ألم يعلموا أنَّا جعلنا الليل بما فيهِ من الإظلامِ ليستريحُوا فيه بالنَّومِ والقرارِ . { والنهار مُبْصِراً } أي ليبُصروا بما فيهِ من الإضاءةِ طرقَ التقلبِ في أمورِ المعاش فبُولغَ فيه حيثُ جُعل الإبصارُ الذي هو حالُ النَّاسِ حالاً له ووصفاً من أوصافِه التي جُعل عليها بحيثُ لا ينفكُّ عنها ولم يسلك في الليلِ هذا المسلكَ لما أنَّ تأثيرَ ظلامِ الليَّلِ في السُّكونِ ليس بمثابةِ تأثيرِ ضَوْء النَّهارِ في الأبصارِ { إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي في جعلِهما كما وُصفا ، وما في اسمِ الإشارةِ من مَعْنى البُعدِ للإشعارِ ببُعدِ درجتِه في الفضلِ . { لأَيَاتٍ } أي عظيمةً كثيرةً { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } دالةٌ على صحَّةِ البعثِ وصدقِ الآياتِ النَّاطقةِ به دلالةً واضحةً كيف لا وإنَّ مَن تأمَّلَ في تعاقُبِ اللَّيل والنهارِ واختلافِهما على وجوه بديعةٍ مبنيةٍ على حِكَمٍ رائعةٍ تحارُ في فهمِها العقولُ ولا يُحيطُ بها إلا الله عزَّ وجلَّ وشاهدَ في الآفاقِ تبدلَ ظُلمةِ الليلِ المحاكيةِ للموتِ بضياءِ النَّهارِ المُضاهي للحياةِ وعاينَ في نفسِه تبدلَ النَّومِ الذي هو أخوُ الموتِ بالانتباه الذي هو مثلُ الحَيَاةِ قَضَى بأنَّ السَّاعةَ آتية لا ريبَ فيها وأنَّ الله يبعثُ مَن في القبورِ قضاءً متقناً وجزمَ بأنَّه تعالى قد جعلَ هذا أُنموذجاً له ودليلاً يستدلُّ به على تحققِه وأنَّ الآياتِ الناطقةَ به وبكونِ حالِ اللَّيل والنهار بُرهاناً عليهِ وسائرَ الآياتِ كلِّها حقٌّ نازلٌ من عندِ الله تعالى .
{ وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور } إمَّا معطوفٌ على يومَ نحشرُ منصوبٌ بناصبِه أو بمضمرٍ معطوفٍ عليه . والصُّور هو القَرْنُ الذي ينفخُ فيه إسرافيلُ عليه السَّلامُ عنْ أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : « لمَّا فرغَ الله تعالى مِن خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ خلقَ الصُّور فأعطاهُ إسرافيلَ فهو واضُعه على فيهِ شاخصٌ بصرُه إلى العرشِ متى يُؤمر » قال قلتُ : يا رسولَ الله ما الصُّور؟ قال : « القَرنُ » قال قلتُ : كيف هُو؟ قال : « عظيمٌ والذي نفسي بيدِه إنَّ عظَم دارةٍ فيه كعرضِ السماءِ والأرضِ فيُؤمر بالنَّفخِ فيه فينفُخ نفخةً لا يبقى عندها في الحياةِ أحدٌ غيرُ مَن شاء الله تعالى وذلك قولُه تعالى : { وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فِى السموات وَمَن فِى الأرض إِلاَّ مَن شَاء الله } ثم يُؤمر بأُخرى فينفخُ نفخَّة لا يبقي معها ميتٌ إلا بُعث وقامَ وذلك قولُه تعالى : { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } »(5/211)
والذي يستدعيِه سباقُ النَّظمِ الكريمِ وسياقُه أنَّ المرادَ بالنَّفخ هَهُنا هي النفخة الثانية وبالفزعِ في قولِه تعالى { فَفَزِعَ مَن فِى السموات وَمَن فِى الأرض } ما يعتري الكلَّ عند البعثِ والنِّشورِ بمشاهدةِ الأمورِ الهائلةِ الخارقةِ للعاداتِ في الأنفس والآفاق من الرُّعبِ والتَّهيبِ الضرورريينِ الجبليينِ . وإيرادُ صيغةِ الماصي مع كونِ المعطوفِ عليه أعني ينفخُ مضارعاً للدِّلالةِ على تحقق وقوعِه إثرَ النَّفخِ ، ولعلَّ تأخيرَ بيانِ الأحوالِ الواقعةِ عند ابتداءِ النَّفخةِ عن بيانِ ما يقعُ بعدها من حشرِ المكذبينَ من كلِّ أُمَّة لتثنيةِ التَّهويل بتكريرِ التَّذكيرِ إيذاناً بأنَّ كلَّ واحدٍ منهما طَّامةٌ كُبرى وداهيةٌ دهياء حقيقة بالتَّذكيرِ على حيالِها ، ولو رُوعيَ التَّرتيبُ الوقوعيُّ لربما تُوهم أنَّ الكلَّ داهيةٌ واحدةٌ قد أُمر بذكرِها كما مرَّ في قصَّةِ البقرةِ { إِلاَّ مَن شَاء الله } أي أنْ لا يفزعَ قيلَ : هُم جبريلُ وميكائيلُ وإسرافيلُ وعزرائيلُ عليهم السَّلام ، وقيلَ : الحُورُ والخَرَنةُ وحَمَلةُ العَرْشِ { وَكُلٌّ } أي كلُّ واحدٍ من المبعوثينَ عند النَّفخةِ { أَتَوْهُ } حضُروا الموقف بين يدي ربَّ العِزَّة جلَّ جلالُه للسؤالِ والجَوَابِ والمُناقشةِ والحسَابِ . وقُرىء أَتَاهُ باعتبارِ لفظِ الكلِّ كَما أنَّ القراءةَ الأُولى باعتبارِ معناهُ . وقُرىءَ آتُوه أي حاضِرُوه { داخرين } أي صاغِرينَ . وقُرىء دَخِرينَ .(5/212)
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
وقولُه تعالى :
{ وَتَرَى الجبال } عطفٌ على يُنفخ داخلٌ في حكمِ التَّذكيرِ . وقولُه عزَّ وجلَّ { تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } أي ثابتةً في أماكنِها إمَّا بدلٌ منه أو حالٌ من ضميرِ تَرَى أو من مفعولِه . وقولُه تعالى : { وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب } حالٌ من ضميرِ الجبالِ في تحسبُها أو في جامدةً أي تَرَاها رأيَ العينِ ساكنةً والحالُ أنَّها تمرُّ مرَّ السَّحابِ التي تسيرها الرِّياح سيراً حثيثاً ، وذلكَ أنَّ الأجرامَ العظامَ إذا تحركتْ نحوَ سمتٍ لا تكادُ تتبينُ حركتُها وعليهِ قولُ مَن قالَ
بأرعنَ مثلِ الطَّودِ تَحْسَبُ أنَّهم ... وقوفٌ لحاجٍ والرِّكابُ تُهَمْلِجُ
وقد أُدمج في هذا التشبيهِ تشبيهُ حالِ الجبالِ بحالِ السَّحابِ في تخلخل الأجزاءِ وانتفاشِها كما في قولِه تعالى : { وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش } وهذا أيضاً ممَّا يقعُ بعد النَّفخةِ الثَّانيةِ عند حشرِ الخلقِ يُبدِّلُ الله عزَّ وجلَّ الأرضَ غيرَ الأرضِ يُغير هيآتِها ويُسيِّر الجبالَ عن مقارّها على ما ذُكر من الهيئةِ الهائلةِ ليُشاهدَها أهلُ المحشرِ وهيَ وإنِ اندكتْ وتصدعتْ عند النَّفخةِ الأولى لكنْ تسييرُها وتسويِةُ الأرضِ إنَّما يكونانِ بعد النَّفخةِ الثانية كما نطقَ به قولُه تعالى : { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى } وقولُه تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ } فإنَّ اتباع الدَّاعِي الذي هُو إسرافيلُ عليه السَّلام وبروز الخلقِ لله تعالى لا يكونُ إلا بعدَ النَّفخةِ الثَّانيةِ وقد قالُوا في تفسيرِ قولِه تعالى : { وَيَوْمَ نُسَيّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً وحشرناهم } إنَّ صيغةَ الماضِي في المعطوفِ عليه مُستقبلاً للدِّلالةِ على تقدمِ الحشرِ على التسييرِ والرؤيةِ كأنَّه قيلَ وحشرناهُم قبلَ ذلك هذا وقد قيلَ إنَّ المرادَ هي النَّفخةُ الأُولى والفزعُ هو الذي يستتبعُ الموتَ لغايةِ شدَّةِ الهولِ كما في قولِه تعالى : { فَصَعِقَ مَن فِى السموات وَمَن فِى الأرض } الآيةَ فيختصُّ أثرُها بمنَ كان حيَّا عندَ وقوعِها دُونَ مَن ماتَ قبلَ ذلك من الأُمم . وجُوِّز أنَّ يرادَ بالإتيانِ داخرينَ رجوعُهم إلى أمرِه تعالى وانقيادُهم له ولا ريبَ في أنَّ ذلك ممَّا ينبغي أنْ تنزه ساحةُ التَّنزيل عن أمثالِه . وأبعدُ مِن هذا ما قِيل إنَّ المرادَ بهذه النَّفخةِ نفخةُ الفزعِ التي تكونُ قبل نفخةِ الصَّعقِ وهي التي أريدتْ بقولِه تعالى : { مَا يَنظُرُونَ هَؤُلآء إِلاَّ صَيْحَةً واحدة مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } فيسيِّرُ الله تعالى عندها الجبالَ فتمرُّ مرَّ السَّحابِ فتكون سراباً وتُرجُّ الأرضُ بأهلِها رجَّاً فتكون كالسَّفينةِ الموثقة في البحرِ أو كالقنديلِ المعلَّق ترججه الأرواحُ فإنَّه ممَّا لا ارتباطَ له بالمقامِ قطعاً ، والحقُّ الذي لا محيدَ عنه ماقدمناه ومَّما هُو نصٌّ في البابِ ما سيأتي من قولِه تعالى : { وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ } { صُنْعَ الله } مصدرٌ لمضمونِ ما قبله أي صنعَ الله ذلك صُنعاً على أنَّه عبارةٌ عمَّا ذُكر من النَّفخِ في الصُّورِ وما ترتَّب عليهِ جميعاً قُصد به التنبيهُ على عظَمِ شأنِ تلك الأفاعيلِ وتهويلِ أمرِها والإيذانُ بأنَّها ليستْ بطريقِ إخلالِ نظامِ العالمِ وإفسادِ أحوالِ الكائناتِ بالكُلِّية من غيرِ أنْ يدعوَ إليها داعيةٌ أو يكونَ لها عاقبةٌ بل هي من قبيلِ بدائعِ صُنعِ الله تعالى المبنية على أساسِ الحكمةِ المستتبعةِ للغاياتِ الجميلةِ التي لأجلِها رُتبت مقدماتُ الخلقِ ومبادىءُ الإبداعِ على الوجهِ المتينِ والنَّهجِ الرَّصينِ كما يُعرب عنه قولُه تعالى : { الذى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء } أي أحكَم خلقَهُ وسوَّاهُ على ما تقتضيِه الحكمةُ .(5/213)
وقولُه تعالى : { إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } تعليلٌ لكون ما ذُكر صُنعاً مُحكماً له تعالى ببيانِ أنَّ عِلمَهُ تعالى بظواهرِ أفعالِ المُكلفينَ وبواطنِها مَّما يدعُو إلى إظهارِها وبيانِ كيفيَّاتِها على ما هِيَ عليه من الحُسنِ والسُّوء وترتيب أجزيتها عليها بعد بعثهم وحشرِهم ، وجعلُ السَّمواتِ والأرضِ والجبالِ على وُفقِ ما نطقَ به التَّنزيلُ ليتحققُوا بمشاهدةِ ذلك أنَّ وعدَ الله حقٌّ لا ريبَ فيه . وقُرىء خبيرٌ بما يفعلونَ .(5/214)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
وقولُه تعالى :
{ مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا } بيانٌ لما أُشير إليه بإحاطةِ علمِه تعالى بأفعالِهم من ترتيبِ أجزيتِها عليها أي مَن جاءَ منكُم أو من أولئكَ الذين أتَوه تعالى بالحسنة فله من الجزاءِ ما هو خيرٌ منها إمَّا باعتبارِ أنَّه أضعافُها وإمَّا باعتبارِ دوامِه وانقضائِها . وقيلَ فلُه خيرٌ حاصلٌ من جهتِها وهو الجنَّةُ . وعن ابنِ عَّباسٍ رضي الله عنهما : الحسنةُ كلمةُ الشَّهادةِ { وَهُمْ } أي الذينَ جاءوا بالحسناتِ { مّن فَزَعٍ } أي عظيمٍ هائلٍ لا يُقادر قَدرُه وهو الفزعُ الحاصِلُ من مشاهدة العذابِ بعد تمامِ المُحاسبةِ وظهورِ الحَسَنات والسيئاتِ وهُو الذي في قولِه تعالى : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } وعن الحَسَنِ رحَمهُ الله تعالى حينَ يُؤمر بالعبدِ إلى النَّارِ . وقالَ ابنُ جريجٍ : حينَ يذُبح الموتُ ويُنادِي المنادي : يا أهلَ الحنَّةِ خلودٌ فلا موتَ ويا أهلَ النَّارِ خلودٌ فلا موتَ .
{ يَوْمَئِذٍ } أي يومِ إذْ يُنفخ في الصُّور { ءامِنُونَ } لا يعتريهم ذلكَ الفزعُ الهائلُ ولا يلحقهم ضررُه أصلاً ، وأما الفزعُ الذي يعتري كلَّ مَن في السَّمواتِ ومَن في الأرضِ غيرَ مَنِ استثناه الله تعالى فإنَّما هو التَّهيبُ والرُّعبُ الحاصلُ في ابتداءِ النَّفخةِ من معاينةِ فنونِ الدَّواهي والأهوالِ ، ولا يكادُ يخلُو منه أحدٌ بحكم الجبلَّةِ وإنْ كان آمِناً من لُحوق الضَّررِ . والأمنُ يُستعمل بالجارِّ وبدونِه كما في قولِه تعالى : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله } وقُرىء من فزعِ يومئذٍ يالإضافةِ مع كسر الميم وفتحِها أيضاً والمرادُ هو الفزعُ المذكورُ في القراءةِ الأُولى لا جميعُ الأفزاعِ الحاصلةِ يومئذٍ . ومدارُ الإضافةِ كونُه أعظمَ الأفزاعِ وأكبرُها كأنَّ ما عداهْ ليس بفزعٍ بالنسبةِ إليهِ .
{ وَمَن جَاء بالسيئة } قيل هو الشركُ { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النار } أي كُبُّوا فيها على وجوهِهم منكوسين أو كُبَّت فيها أنفسُهم على طريقةِ { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى } { النار هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } على الالتفاتِ للتَّشديدِ أو على إضمارِ القولِ أي مقولاً لهم ذلك .(5/215)
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)
{ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ البلدة الذى حَرَّمَهَا } أُمر عليه الصَّلاة والسَّلام أنْ يقولَ لهم ذلك بعد ما بيَّن لهم أحوالَ المبدأِ والمعادِ وشرحَ أحوالَ القيامةِ تنبيهاً لهم على أنَّه قد أتمَّ أمرَ الدَّعوةِ بما لا مزيدَ عليه ولم يبقَ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعد ذلك شأنٌ سوى الاشتغالِ بعبادةِ الله عزَّ وجلَّ . والاستغراقِ في مُراقبتهِ غيرَ مُبالٍ بهم ضلُّوا أمْ رشدُوا صلحُوا أو فسدُوا ليحملَهم ذلك على أنْ يهتمُّوا بأمورِ أنفسِهم ولا يتوهَّمُوا من شدَّةِ اعتنائِه عليه الصَّلاة والسَّلام بأمرِ دعوتِهم أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام يُظهر لهم ما يُلجئهم إلى الإيمانِ لا محالةَ ويشتغلوا بتداركِ أحوالِهم ويتوجَّهُوا نحوَ التَّدبرِ فيما شاهدُوه من الآياتِ الباهرةِ . والبلدةُ هي مكَّةُ المعظمةُ وتخصيصُها بالإضافةِ لتفخيمِ شأنِها وإجلال مكانِها ، والتعرض لتحريمهِ تعالى إيَّاها تشريفٌ لها بعد تشريفٍ وتعظيمٌ إثرَ تعظيمٍ مع ما فيه من الإشعارِ بعلَّةِ الأمرِ وموجبِ الامتثالِ به كَما في قولِه تعالى : { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت * الذى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ } ومن الرَّمزِ إلى غايةِ شَنَاعةِ ما فعلُوا فيها ألا يَرَى أنَّهم مع كونِها محرَّمةً من أنْ تنتهكَ حرمتُها باختلاءِ خلاها وعضْدِ شجرِها وتنفيرِ صيدِها وإرادةِ الإلحادِ فيها بوجهٍ من الوجوهِ قد استمرُّوا فيها على تعاطِي أفجرِ أفرادِ الفُجور وأشنعِ آحادِ الإلحادِ حيثُ تركُوا عبادةَ ربَّها ونصبُوا فيها الأوثانَ وعكفُوا على عبادتِها قاتلَهم الله أنَّى يؤفكون . وقُرىء حَرَمَها بالتَّخفيفِ . وقولُه تعالى { وَلَهُ كُلُّ شَىء } أي خلقاً وملكاً وتصرُّفاً من غيرِ أنْ يشارَكه شيءٌ في شيءٍ من ذلكَ تحقيقٌ للحقِّ وتنبيهٌ على أنَّ إفرادَ مكَّةَ بالإضافةِ لما ذُكر من التَّفخيمِ والتَّشريفِ مع عُمومِ الرُّبوبيةِ لجميعِ الموجُوداتِ . { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } أي أثبت على ما كنتُ عليهِ من كونِي من جُملةِ الثَّابتين على ملَّة الإسلامِ والتَّوحيدِ أي الذين أسلمُوا وجوهَهم لله خالصةً من قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } { وَأَنْ أَتْلُوَ القرءان } أي أواظبَ على تلاوتِه لتنكشفَ لي حقائقُه الرائعةُ المخزونةُ في تضاعيفهِ شيئاً فشيئاً أو على تلاوتِه على النَّاسِ بطريقِ تكريرِ الدَّعوةِ وتثنيةِ الإرشادِ فيكونَ ذلك تنبيهاً على كفايتهِ في الهدايةِ والإرشادِ من غيرِ حاجةٍ إلى إظهارِ مُعجزةٍ أُخرى . فمعنى قولِه تعالى { فَمَنُ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ } حينئذٍ فمنِ اهتدى بالإيمانِ به والعملِ بما فيهِ من الشَّرائعِ والأحكامِ . وعلى الأولِ فمنِ اهتدَى باتَّباعِه إيَّاي فيما ذُكر من العبادةِ والإسلامِ وتلاوةِ القُرآن فإنَّما منافعُ اهتدائهِ عائدةٌ إليهِ لا إليَّ . { وَمَن ضَلَّ } بالكفرِ به والإعراضِ عن العملِ بما فيه أو بمُخالِفتي فيما ذُكر { فَقُلْ } في حقَّه { إِنَّمَا أَنَاْ مِنَ المنذرين } وقد خرجتُ عن عُهدة الإنذارِ فليسَ عليَّ وبالِ ضلالِه شيءٌ وإنَّما هُو عليه فَقَطْ .(5/216)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
{ وَقُلِ الحمد لِلَّهِ } أي علَى ما أفاضَ عليَّ من نعمائِه التي أجلُّها نعمةُ النُّبوةِ المستتبعةِ لفنونِ النِّعمِ الدِّينيةِ والدُّنيويةِ ووفَّقنِي لتحمل أعبائِها وتبليغِ أحكامِها إلى كافَّة الوَرَى بالآياتِ البينةِ والبراهينِ النيرةِ . وقولُه تعالى : { سَيُرِيكُمْ ءاياته } من جُملةِ الكلامِ المأمورِ به أي سيُريكم البتةَ في الدُّنيا آياتِه الباهرةَ التي نطقَ بها القرآنُ كخروجِ الدابةِ وسائرِ الأشراطِ وقد عُدَّ منها وقعةُ بدرٍ ويأباهُ قولُه تعالى : { فَتَعْرِفُونَهَا } أي فتعرفونَ أنَّها آياتُ الله تعالى حينَ لا تنفعُكم المعرفةُ لأنَّهم لا يعترفونَ بكونِ وقعةِ بدرٍ كذلك ، وقيل : سيُريكم في الآخرةِ . وقولُه تعالى : { وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } كلامٌ مسوقٌ من جهتِه تعالى بطريقِ التَّذييلِ مقررٌ لما قبلَه متضمنٌ للوعدِ والوعيدِ كما يُنبىء عنه إضافةُ الربِّ إلى ضميرِ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وتخصيصُ الخطابِ أولاً به عليه الصَّلاة والسَّلام وتعميمُه ثانياً للكَفَرةِ تغليباً ، أيْ وما ربُّك بغافلٍ عمَّا تعملُ أنتَ من الحسناتِ وما تعملونَ أنتُم أيُّها الكفرةُ من السيئاتِ فيُجازي كُلاًّ منكم بعملِه لا محالةَ . وقُرىء عمَّا يعملُون على الغَيبةِ فهُو وعيدٌ محضٌ والمعنى : وما ربُّك بغافلٍ عن أعمالِهم فسيعذبُهم البتةَ فلا يحسبُوا أنَّ تأخيرَ عذابِهم لغفلتِه تعالى عن أعمالِهم الموجبةِ له والله تعالى أعلمُ .
عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : « مَن قرأَ سورةَ طس كانَ لهُ من الأجرِ عشرُ حسناتٍ بعددِ مَنْ صدَّق بسليمانَ وهودٍ وصالحٍ وإبراهيمَ وشُعيبٍ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ ومن كذَّب بهم ويخرجُ من قبرِه وهو يُنادِي لا إله إلا الله » .(5/217)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)
( سورة القصص )
{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم } { طسم تِلْكَ ءايَاتُ الكتاب المبين } قد مرَّ ما يتعلقُ به من الكلام بالإجمال والتَّفصيلِ في أشباهه { نتلواُ عَلَيْكَ } أي نقرأُ بواسطة جبريلَ عليهِ السَّلامُ ، ويجوزُ أن تكونَ التِّلاوةُ مجازاً من التَّنزيلِ { مِن نَّبَإِ موسى وَفِرْعَوْنَ } مفعولُ نتلُو أي بعضَ نبئِهما { بالحق } متعلِّقٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من فاعل نتلُو أو من مفعوله أو صفةٌ لمصدرِه أي نتلُو عليكَ بعضَ نبئِهما مُلتبسينَ أو ملتبساً بالحقِّ أو تلاوةً ملتبسةً بالحقِّ { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } متعلقٌ بنتلو ، وتخصيصُهم بذلكَ مع عُموم الدَّعوةِ والبيانِ للكلِّ لأنَّهم المنتفعونَ بِه .
{ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الارض } استئنافٌ جارٍ مجرى التَّفسيرِ للمُجمل الموعودِ ، وتصديرُه بحرف التَّأكيدِ للاعتناء بتحقيقِ مضمُونِ ما بعدَهُ أي أنَّه تجبَّر وطغا في أرضِ مصرَ وجاوزَ الحدودَ المعهودةَ في الظُّلم والعُدوانِ { وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً } أي فِرقاً يشيِّعونه في كلِّ ما يُريده من الشرِّ والفسادِ ، أو يشيِّعُ بعضُهم بعضاً في طاعته ، أو أصنافاً في استخدامه ، يستعملُ كلَّ صنفٍ في عملٍ ويُسخِّرُه فيهِ من بناءٍ وحرثٍ وحفرٍ وغيرِ ذلكَ من الأعمالِ الشَّاقةِ ومَن لم يستعملْه ضربَ عليه الجزيةَ ، أو فرقاً مختلفةً قد أغرى بينهم العداوةَ والبغضاءَ لئلاَّ تتفقَ كلمتُهم { يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ } وهم بنُو إسرائيلَ . والجملةُ إمَّا حالٌ من فاعلِ جعلَ ، أو صفةٌ لشيعاً ، أو استئنافٌ . وقولُه تعالى : { يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ } بدلٌ منها . وكان ذلكَ لِما أنَّ كاهناً قال له : يُولد في بني إسرائيلَ مولودٌ يذهبُ ملكُك على يدِه وما ذاك إلا لغايةِ حُمقِه إذْ لو صدقَ فما فائدةُ القتلِ وإن كذبَ فما وجهُه { إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين } أي الرَّاسخينَ في الإفسادِ ولذلكَ اجترأَ على مثل تلك العظيمةِ من قتلِ المعصومينَ من أولادِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام . { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ } أي نتفضلُ { عَلَى الذين استضعفوا فِى الارض } على الوجهِ المذكورِ بإنجائِهم من بأسِه . وصيغةُ المضارعِ في نُريد حكايةُ حالٍ ماضيةٍ وهو معطوفٌ على إنَّ فرعونَ علا الخ لتناسبُهما في الوقوعِ في حيِّزِ التَّفسيرِ للنبأ ، أو حالٌ من يستضعفُ بتقدير المبتدأ أي يستضعفُهم فرعونُ ونحنُ نريدُ أنْ نمنَّ عليهم وليس من ضرورةِ مقارنةِ الإرادةِ للاستضعاف مقارنةُ المرادِ له لما أنَّ تعلُّقَ الإرادةِ للمنِّ تعلُّقٌ استقباليٌّ على أنَّ مِنَّةَ الله تعالى عليهم بالخلاص لمَّا كانتْ في شرفِ الوقوعِ جازَ إجراؤُها مُجرى الواقعِ المقارنِ له . ووضعُ الموصولِ موضعَ الضميرِ لإبانةِ قدرِ النِّعمةِ في المنَّة بذكر حالتِهم السَّابقةِ المُباينةِ لها { وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً } يُقتدى بهم في أمور الدِّينِ بعد أنْ كانُوا أتباعاً مسخَّرين لآخرين { وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين } لجميع ما كان منتظماً في سلك مُلك فرعونَ وقومِه وراثةً معهودةً فيما بينهم كما يُنبىء عنه تعريفُ الوارثينَ . وتأخيرُ ذكرِ وراثتِهم له عن ذكرِ جعلِهم أئمةً مع تقدمِها عليه زماناً لانحطاطِ رُتبتها عن الإمامةِ ولئلاَّ ينفصلَ عنه ما بعده مع كونِه من روادفِه ، أعني قولَه تعالى :(5/218)
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)
{ وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِى الارض } الخ أي نُسلطهم على مصرَ والشامِ يتصرفون فيهما كيفما يشاءون ، وأصلُ التمكينِ أنْ تجعلَ للشيءِ مكاناً يتمكَّنُ فيه { وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ } أي من أولئكَ المُستضعَفين { مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ } ويجتهدونَ في دفعه من ذهاب مُلكِهم وهُلْكِهم على يدِ مولودٍ منهم . وقُرىء يرى بالياءِ ورفعِ ما بعده على الفاعليةِ .
{ وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى } بإلهامٍ أو رُؤيا { أَنْ أَرْضِعِيهِ } ما أمكنك إخفاؤُه { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } بأنْ يحسَّ به الجيرانُ عند بكائِه وينمُّوا عليه { فَأَلْقِيهِ فِى اليم } في البحرِ وهو النِّيلُ { وَلاَ تَخَافِى } عليهِ ضيعةً بالغرقِ ولا شدَّةً { وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ } عن قريبٍ بحيثُ تأمنينَ عليهِ { وجاعلوه مِنَ المرسلين } والجملةُ تعليلٌ للنَّهي عن الخوف والحزنِ . وإيثارُ الجملةِ الاسميةِ وتصديرُها بحرفِ التَّحقيقِ للاعتناء بتحقيق مضمونِها أي إنَّا فاعلونَ لردِّه وجعلِه من المُرسلينَ لا محالةَ . رُوي أنَّ بعضَ القَوَابلِ المُوكلاتِ من قبلِ فرعونَ بحَبالَى بني إسرائيلَ كانتْ مصافيةً لأمِّ موسى عليه السَّلامُ فقالتْ لها : لينفعني حبُّكِ اليومَ فعالجتْهَا فلمَّا وقعَ إلى الأرضِ هالها نورٌ بين عينيهِ وارتعشَ كلُّ مفصلٍ منها ودخل حبُّه في قلبِها ثم قالتْ : ما جئتكِ إلا لأقبلَ مولودكِ وأُخبر فرعونَ ولكنِّي وجدتُ لابنكِ في قلبي محبَّةً ما وجدتُ مثلَها لأحدٍ فاحفظيهِ فلمَّا خرجتْ جاء عيونُ فرعونَ فلفَّته في خرقةٍ فألقتْهُ في تنُّورٍ مسجورٍ لم تعلمْ ما تصنعُ لما طاشَ من عقلِها فطلبُوا فلم يلْقَوا شيئاً فخرجُوا وهي لا تدري مكانَه فسمعتْ بكاءه من التنُّور فانطلقتْ إليه وقد جعل الله تعالى النَّار عليه بَرداً وسلاماً فلما ألحَّ فرعونُ في طلب الولدانِ أَوْحى الله تعالى إليها ما أَوْحى . وقد رُوي أنَّها أرضعتْهُ ثلاثةَ أشهرٍ في تابوتٍ من بَرْديَ مطليَ بالقارِ من داخلِه . والفاءُ في قولِه تعالى :(5/219)
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
{ فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ } فصيحةٌ مفصحةٌ عن عطفِه على جملةٍ مترتبةٍ على ما قبلها من الأمرِ بالإلقاءِ قد حُذفتْ تعويلاً على دلالة الحالِ وإيذاناً بكمال سرعةِ الامتثالِ أي فألقتْهُ في اليمِّ بعد ما جعلتْهُ في التَّابوتِ حسبما أُمرت به فالتقطه آلُ فرعونَ أي أخذوه أخذَ اعتناءٍ به وصيانةٍ له عن الضَّياعِ . قال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما وغيره : كانَ لفرعونَ يومئذٍ بنتٌ لم يكُن له ولدٌ غيرُها وكانتْ من أكرمِ النَّاسِ إليه وكان بها بَرَصٌ شديدٌ عجزتِ الأطِّباءُ عن علاجِه فقالُوا : لا تبرأُ إلا من قبل البحرِ يُؤخذ منه شِبهُ الإنسِ يومَ كذا وساعةَ كذا من شهرِ كذا حين تُشرق الشَّمسُ فيؤخذُ من ريقِه فيلطخ به برصُها فتبرأْ فلمَّا كان ذلك اليومُ غدا فرعونُ في مجلسٍ له على شفيرِ النِّيلِ ومعه امرأتُه آسيةُ بنتُ مزاحمِ بنِ عُبيدِ بنِ الرَّيَّانِ بنِ الوليدِ الذي كان فرعونَ مصرَ في زمنِ يوسفَ الصِّدِّيقِ عليه السَّلامُ . وقيل : كانتْ من بني إسرائيلَ من سبطِ مُوسى عليه الصَّلاة والسَّلام وقيل : كانتْ عمَّته حكاه السُّهيليُّ . وأقبلتْ بنتُ فرعونَ في جَواريها حتَّى جلستْ على شاطىءِ النِّيلِ فإذا بتابوتٍ في النِّيلِ تضربُه الأمواجُ فتعلَّق بشجرةٍ فقالَ فرعونُ : ائتونِي به فابتدرُوا بالسُّفنِ فأحضرُوه بين يديهِ فعالجُوا فتحَهُ فلم يقدرُوا عليهِ وقصدُوا كسرَه فأعياهم فنظرتْ آسيةٌ فرأتْ نُوراً في جوفِ التَّابوتِ لم يرَهُ غيرُها فعالجتْهُ ففتحتْهُ فإذا هيَ بصبيَ صغيرٍ في مهدِه وإذا نورٌ بين عينيهِ وهو يمصُّ إبهامَه لبناً فألقى الله تعالى محبَّتَه في قلوبِ القومِ وعمدتْ ابنةُ فرعونَ إلى ريقِه فلطَّختْ به برصَها فبرأتْ من ساعتِه وقيل : لما نظرتْ إلى وجهِه برأتْ فقالتِ الغُواة من قومِ فرعونَ : إنَّا نظنُّ أنَّ هذا هو الذي نحذرُ منه رُميَ في البحرِ فَرَقاً منك فاقتلْه فهمَّ فرعونُ بقتلِه فاستوهبتْهُ آسيةُ فتركَه كما سيأتِي . واللامُ في قولِه تعالى : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } لامُ العاقبةِ أُبرز مدخولُها في معرضِ العلَّةِ لالتقاطِهم تشبيهاً له في الترتيبِ عليه بالغرضِ الحاملِ عليه . وقُرىء حُزْناً ، وهما لغتانِ كالسَّقَمِ والسُّقْمِ . جُعل عليه الصَّلاة والسَّلام نفسَ الحزنِ إيذاناً بقوَّةِ سببيتِه لحزنِهم . { إِنَّ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خاطئين } أي في كلِّ ما يأتُون وما يذرون فلا غَرو في أنْ قتلُوا لأجلِه أُلوفاً ثم أخذُوه يربُّونَه ليكبرَ ويفعلَ بهم ما كانُوا يحذرون . رُوي أنَّه ذُبح في طلبِه عليه الصَّلاة والسَّلام تسعون ألفَ وليدٍ أو كانُوا مذنبينَ فعاقبهم الله تعالى بأنْ ربَّى عدوَّهم على أيديهم فالجُملة اعتراضيةٌ لتأكيد خُطَّتِهم أو لبيان المُوجب لما ابتلُوا به . وقُرىء خَاطين على أنَّه تخفيفُ خاطئينَ أو على أنَّه بمعنى مُتعدِّين الصَّوابَ إلى الخطأ .(5/220)
{ وَقَالَتِ امرأت فِرْعَوْنَ } أي لفرعونَ حينَ أخرجتْهُ من التَّابوتِ { قُرَّةُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ } أي هو قرَّةُ عينٍ لنا لِما أنَّهما لمّا رأياهُ أحبَّاهُ أو لما ذُكر من بُرءِ ابنتِه من البَرَصِ بريقِه . وفي الحديثِ أنَّه قالَ : «لكِ لا لي» ولو قال : لي كما هُو لكِ لهداهُ الله تعالى كما هداها { لاَ تَقْتُلُوهُ } خاطبتْهُ بلفظِ الجمعِ تعظيماً ليساعدَها فيما تريدُه { عسى أَن يَنفَعَنَا } فإنَّ فيه مخايلَ اليُمنِ ودلائلَ النَّجابةِ وذلك لِمَا رأتْ فيهِ من العلاماتِ المذكورةِ { أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } أي نتبنَّاهُ فإنَّه خليقٌ بذلكَ { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } حالٌ من آلِ فرعونَ والتَّقديرُ فالتقطَه آلُ فرعونَ ليكونَ لهم عدُواً وحَزناً ، وقالتِ امرأتُه له كيتَ وكيتَ وهُم لا يشعرون بأنَّهم على خطأ عظيمٍ فيما صنعُوا من الالتقاط ورجاءِ النَّفعِ منه والتَّبني له . وقولُه تعالى : { إِنَّ فِرْعَوْنَ } الآيةَ ، اعتراضٌ وقعَ بين المعطوفينِ لتأكيدِ خطئِهم ، وقيل : حالٌ من أحدِ ضميريّ نتخذُه على أنَّ الضَّميرَ للنَّاسِ أيْ وهُم لا يعلمونَ أنَّه لغيرِنا وقد تبنيناهُ .(5/221)
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)
{ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ موسى فَارِغاً } صفراً من العقلِ لِمَا دهمَها من الخوفِ والحيرةِ حين سمعتْ بوقوعِه في يدِ فرعونَ لقولِه تعالى : { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء } أي خلاءُ لا عقولَ فيها ويعضدُه أنَّه قُرىء فَرغاً من قولِهم : دماؤهم بينهم فرغٌ أي هَدرٌ وقيل : فارغاً من الهمِّ والحُزن لغايةِ وثوقِها بوعدِ الله تعالى أو لسماعِها أنَّ فرعونَ عطفَ عليه وتبنَّاهُ وقُرىء مُؤْسى بالهمزِ إجراءً للضَّمة في جارة الواوِ مجرى ضمَّتِها فهمزت كما في وجوهٍ { إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ } أي إنَّها كادتْ لتظهرُ بموسى أي بأمرِه وقصَّتِه من فرطِ الحيرةِ والدَّهشةِ أو الفرحِ بتبنيهِ { لَوْلا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا } بالصَّبرِ والثَّباتِ { لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين } أي المُصدِّقين بوعدِ الله تعالى أو من الواثقينَ بحفظِه لا بتبنِّي فرعونَ وتعطفِه وهو علَّةُ الرَّبطِ وجوابُ لولا محذوفٌ لدلالةِ ما قبله عليهِ .
{ وَقَالَتْ لاخْتِهِ } مريمَ والتَّعبيرُ عنها بأخوَّتِه عليه الصَّلاة والسَّلام دونَ أنْ يقال لبنتِها للتَّصريحِ بمدار المحبَّةِ الموجبةِ للامتثالِ بالأمرِ { قُصّيهِ } أي اتبعِي أثرَه وتتبَّعي خبرَه { فَبَصُرَتْ بِهِ } أي أبصرتْهُ { عَن جُنُبٍ } عن بُعدٍ . وقُرىء بسكونِ النُّونِ ، وعن جانبٍ . والكلُّ بمعنى { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أنَّها تقُصُّه وتتعرفُ حالَه وأنَّها أختُه { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع } أي منعناه أنْ يرتضعَ من المرضعاتِ . والمَرَاضعُ جمعُ مرضعٍ وهي المرأةُ التي تُرضع أو مُرضع وهو الرَّضاعُ أو موضعُه أعني الثَّديَ { مِن قَبْلُ } أي من قبلِ قصِّها أثرَه { فَقَالَتْ } عند رؤيتِها لعدمِ قَبُولِه الثَّديَ واعتناءَ فرعونَ بأمرِه وطلبَهم من يقبلُ ثديَها { هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ } أي لأجلِكم { وَهُمْ لَهُ ناصحون } لا يُقصِّرون في إرضاعِه وتربيتِه . رُوي أنَّ هامان لمَّا سمعَه منها قال : إنَّها لتعرفُه وأهلَه فخذُوها حتَّى تخبرَ بحالِه فقالتْ : إنَّما أردتُ وهم للملكِ ناصحُون فأمرَها فرعونُ بأنْ تأتيَ بمَن يكفلُه فأتتْ بأمِّه ومُوسى على يدِ فرعونَ يبكِي وهو يُعلله فدفعَه إليها فلمَّا وجدَ ريحَها استأنسَ والتقمَ ثديها فقالَ : مَن أنتِ منه فقد أبَى كلَّ ثديٍ إلا ثديكِ فقالتْ : إنِّي امرأةٌ طيبةُ الريح طيبة اللبنِ لا أُوتى بصبيَ إلا قبِلني فقرَّره في يدِها وأجرى عليها فرجعتْ إلى بيتِها من يومِها وذلكَ قولُه تعالى :(5/222)
فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
{ فرددناه إلى أُمّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا } بوصولِ ولدِها إليها { وَلاَ تَحْزَنْ } بفراقِه { وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله } أي جميعَ ما وعدَهُ من ردِّه وجعلِه من المُرسلينَ { حَقّ } لا خُلفَ فيه بمشاهدةِ بعضِه وقياسِ بعضِه عليه { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أنَّ الأمرَ كذلكَ فيرتابونَ فيهِ أو أنَّ الغرضَ الأصليَّ من الردِّ علمُها بذلك وما سواه تبعٌ ، وفيه تعريضٌ بما فَرَط منها حين سمعتْ بوقوعِه في يدِ فرعونَ .
{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } أي المبلغَ الذي لا يزيدُ عليه نشؤُه وذلك من ثلاثينَ إلى أربعينَ سنة فإنَّ العقلَ يكملُ حينئذٍ . ورُوي أنَّه لم يُبعثْ نبيٌّ إلا على رأسِ الأربعينَ { واستوى } أي اعتدلَ قدُّه أو عقلُه { اتَيْنَاهُ حُكْمًا } أي نبوَّةً { وَعِلْماً } بالدِّينِ أو علمَ الحُكماءِ والعُلماءِ وسمتَهم قبل استنبائِه فلا يقولُ ولا يفعلُ ما يُستجهلُ فيهِ وهو أوفقُ لنظْمِ القصَّةِ لأنَّه تعالى استنبأهُ بعد الهجرةِ في المُراجعةِ { وكذلك } ومثلَ ذلكَ الذي فعلنَا بمُوسى وأمِّه { نَجْزِى المحسنين } على إحسانِهم . { وَدَخَلَ المدينة } أي مصرَ من قصرِ فرعونَ وقيل : منفُ أو حابينُ أو عينُ شمسٍ من نواحِيها { على حِينِ غَفْلَةٍ مّنْ أَهْلِهَا } في وقتٍ لا يُعتادُ دخولُها أو لا يتوقعونَه فيه قيل : كان وقتَ القيلولةِ وقيل : بينَ العشاءينِ { فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذا مِن شِيعَتِهِ } أي ممَّن شايعُه على دينِه وهم بنو إسرائيلَ { وهذا مِنْ عَدُوّهِ } أي من مخالفيهِ ديناً وهم القِبطُ . والإشارةُ على الحكايةِ { فاستغاثه الذى مِن شِيعَتِهِ } أي سألَه أنْ يغيثَه بالإعانة كما ينبىءُ عنه تعديتُه بعَلَى . وقُرىء استعانَه { عَلَى الذى مِنْ عَدُوّهِ فَوَكَزَهُ موسى } أي ضرب القبطيَّ بجُمعِ كفِّه . وقُرىء فلكزَه أي فضربَ به صدرَهُ { فقضى عَلَيْهِ } فقتلَه وأصلُه أنهى حياتَه من قولِه تعالى : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الامر } { قَالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان } لأنَّه لم يكُن مأموراً بقتلِ الكفَّار أو لأنَّه كان مأموناً فيما بينهم فلم يكُن له اغتيالُهم . ولا يقدحُ ذلك في عصمتِه لكونِه خطأً وإنما عدَّه من عملِ الشَّيطانِ وسمَّاه ظُلماً واستغفرَ منه جرياً على سُنَنِ المقرَّبينَ في استعظامِ ما فرطَ منهم ولو كانَ من مُحقِّراتِ الصَّغائرِ { إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ } ظاهرُ العداوةِ والإضلالِ .
{ قَالَ } توسيطُه بين كلاميهِ عليه الصَّلاة والسَّلام لإبانةِ ما بينهما من المخالفةِ من حيثُ إنَّه مناجاةٌ ودعاءٌ بخلافِ الأولِ { رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى } أي بقتلِه { فاغفر لِى } ذَنبي { فَغَفَرَ لَهُ } ذلك { إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } أي المبالغُ في مغفرةِ ذنوبِ عبادِه ورحمتِهم(5/223)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
{ قَالَ رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَىَّ } إمَّا قسمٌ محذوفُ الجوابِ أي أقسمُ بإنعامِك عليَّ بالمغفرةِ لأتوبنَّ { فَلَنْ أَكُونَ } بعدَ هذا أبداً { ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ } وإمَّا استعطافٌ أي بحقِّ إنعامِكَ عليَّ اعصمنِي فلنْ أكونَ معيناً لمن تؤدي معاونتُه إلى الجُرمِ . وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم يستئنِ فابتُليَ به مرَّةً أُخرى ، وهذا يؤيدُ الأولَ ، وقيل : معناهُ بما أنعمتَ عليَّ من القوَّةِ أعينُ أولياءكَ فلن استعملَها في مُظاهرةِ أعدائِكَ { فَأَصْبَحَ فِى المدينة خَائِفاً يَتَرَقَّبُ } يترصَّدُ الاستفادةَ أو الأجنادَ { فَإِذَا الذى استنصره بالامس يَسْتَصْرِخُهُ } أي يستغيثُه برفعِ الصَّوتِ من الصُّراخ { قَالَ لَهُ موسى إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ } أي بيِّنُ الغوايةِ تسببتَ لقتلِ رجلٍ وتُقاتلُ آخرَ { فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ } مُوسى { أَن يَبْطِشَ بالذى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا } أي لموسى وللإسرائيليِّ إذ لم يكن على دينِهما ولأنَّ القِبطَ كانُوا أعداءً لبني إسرائيلَ على الإطلاقِ . وقُرىء يبطُش بضمِّ الطَّاءِ { قَالَ } أي الإسرائيليِّ ظانّاً أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام يبطشُ به حسبما يُوهمه تسميتُه إيَّاه غويّاً { قَالَ ياموسى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالامس } قالُوا : لما سمعَ القبطيُّ قولَ الإسرائيليُّ علمَ أنَّ موسى هو الذي قتلَ ذلك الفرعونيَّ فانطلق إلى فرعونَ فأخبرَهُ بذلك وأمرَ فرعونُ بقتلِ مُوسى عليه السَّلامُ وقيل : قاله القبطيُّ { إِن تُرِيدُ } أي ما تريدُ { إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الارض } وهو الذي يفعلُ كلَّ ما يريدُه من الضربِ والقتلِ ولا ينظرُ في العواقبِ وقيل : المتعظِّمُ الذي لا يتواضعُ لأمرِ الله تعالى { وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين } بينَ النَّاسِ بالقولِ والفعلِ . { وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى المدينة } أي كائنٌ من آخِرها أو جاءَ من آخِرها { يسعى } أي يسرعُ ، صفةٌ لرجلٌ أو حالٌ منه على أنَّ الجارَّ والمجرورَ صفةٌ له لا متعلَّق بجاء فإن تخصصه يلحقه بالمعارفِ قيل : هو مؤمنُ آلِ فرعونَ واسمُه حِزْقيلُ وقيل : شَمعُون وقيل : شَمعانُ { قَالَ يَا موسى إنِ الملا يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } أي يتشاورُون بسببكَ فإنَّ كلاًّ من المتشاورينَ يأمرُ الآخرينَ ويأتمرُ { فاخرج } أي من المدينةِ { إِنّى لَكَ مِنَ الناصحين } اللامُ لبيانِ لما أنَّ معمولَ الصِّلةِ لا يتقدمُها(5/224)
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
{ فَخَرَجَ مِنْهَا } أي من المدينةِ { خَائِفاً يَتَرَقَّبُ } لحوقَ الطَّالبينَ { قَالَ رَبّ نَجّنِى مِنَ القوم الظالمين } خلِّصنِي منهم واحفظنِي من لُحوقِهم .
{ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ } أي نحوَ مدينَ وهي قريةُ شُعيبٍ عليه السَّلامُ سميت باسمِ مدينَ بنِ إبراهيمَ ولم تكُن تحتَ سلطانِ فرعونَ وكان بينها وبين مصرَ مسيرةُ ثمانيةِ أيَّامٍ { قَالَ عسى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السبيل } توكلاً على الله تعالى وثقةً بحُسنِ توفيقِه وكان لا يعرفُ الطرقَ فعنَّ له ثلاثُ طرائقَ فأخذَ في الوسطى وجاء الطلابُ فشرعُوا في الأُخريين وقيل : خرجَ حافياً لا يعيشُ إلا بورقِ الشَّجرِ فما وصلَ حتَّى سقطَ خفُّ قدمِه وقيل : جاء مَلَكٌ على فرسٍ وبيدِه عنزَةٌ فانطلقَ به إلى مدينَ .
{ وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ } أي وصلَ إليهِ وهو بئرٌ كانُوا يسقُون منها { وَجَدَ عَلَيْهِ } أي فوقَ شفيرِها { أُمَّةً } جماعةً كثيفةً { مّنَ الناس يَسْقُونَ } أي مواشيَهم { وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ } أي في موضعٍ أسفلَ منهم { امرأتين تَذُودَانِ } أي تمنعانِ ما معهما من الأغنامِ عن التقدمِ إلى البئرِ كيلا تختلطَ بأغنامِهم مع عدمِ الفائدة في التَّقدمِ { قَالَ } عليه السَّلام لهما حينَ رآهُما على ما هُما عليهِ من التَّأخرِ والذودِ { مَا خَطْبُكُمَا } ما شأنُكما فيما أنتُما عليه من التَّأخرِ والذَّودِ ولم لا تباشرانِ السقيَ كدأبِ هؤلاءِ { قَالَتَا لاَ نَسْقِى حتى يُصْدِرَ الرعاء } أي عادتُنا أن لا نسقيَ حتَّى يصرفَ الرُّعاةُ مواشيَهم بعد ريّها عن الماءِ عجزاً عن مساجلتِهم وحذراً عن مخالطةِ الرجالِ لا أنا لا نسقي اليومَ إلى تلك الغايةِ ، وحذفُ مفعولِ السَّقيِ والذَّودِ والإصدارِ لمَا أنَّ الغرضَ هو بيانُ تلك الأفعالِ أنفسِها إذْ هي التي دعتْ مُوسى عليه السَّلامُ إلى ما صنعَ في حقِّهما من المعروفِ فإنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام إنَّما رحمَهما لكونِهما على الذيادِ للعجزِ والعفَّةِ وكونِهم على السقيِ غيرَ مُبالين بهما وما رحمهما لكونِ مذودِهما غنماً ومسقيهم إبلاً مثلاً . وقُرىء لا نُسقي من الإسقاءِ ويَصدُر من الصُّدورِ والرُّعاء بضمِّ الرَّاءِ وهو اسمُ جمعٍ كالرُّحالِ وأما الرِّعاءِ فجمعٌ قياسيٌّ كصِيامٍ وقِيامٍ . وقولُه تعالى : { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } إبلاءٌ منهما للعُذرِ إليه عليه السَّلامُ في تولِّيهما للسَّقيِ بأنفسِهما كأنَّهما قالتَا : إنَّا امرأتانِ ضعيفتانِ مستورتانِ لا نقدرُ على مُساجلةِ الرِّجالِ ومزاحمتِهم وما لنا رجلٌ يقومُ بذلكَ وأبُونا شيخٌ كبيرُ السنِّ قد أضعفَه الكبرُ فلا بدَّ لنا من تأخيرِ السَّقيِ إلى أنْ يقضي النَّاسُ أوطارَهم من الماءِ { فسقى لَهُمَا } رحمةً عليهما والكلامُ في حذفِ مفعولِه كما مرَّ آنِفاً . رُوي أنَّ الرُّعاةَ كانُوا يضعونَ على رأسِ البئرِ حَجَراً لا يُقلُّه إلا سبعةُ رجالٍ وقيل : عشرةُ وقيل : أربعون وقيل : مائةٌ فأقلَّه وحدَهُ مع ما كان به من الوصبِ والجراحةِ والجوعِ ولعلَّه عليه الصَّلاة والسَّلام زاحمَهم في السَّقيِ لهما فوضعُوا الحجرَ على البئرِ لتعجيزِه عليه الصَّلاة والسَّلام عن ذلكَ فإنَّ الظاهرَ أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام غبَّ ما شاهدَ حالَهما سارعَ إلى السَّقيِ لهُما وقد رُوي أنَّه دفعهم عن الماءِ إلى أنْ سقى لهُما وقيل : كانت هناك بئرٌ أُخرى عليها الصَّخرةُ المذكورةُ .(5/225)
ورُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ سألَهم دَلْواً من ماءٍ فأعطَوه دلوهُم وقالُوا : استقِ بها وكان لا ينزعُها إلا أربعون فاستقَى بها وصبَّها في الحوضِ ودعا بالبركةِ ، ورَوى غنمَهما وأصدرَهما { ثُمَّ تولى إِلَى الظل } الذي كانَ هُناك { فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ } أيْ أيَّ شيءٍ أنزلتَهُ إليَّ { مّنْ خَيْرٍ } جلَّ أو قلَّ وحملَه الأكثرونَ على الطعامِ بمعونةِ المقامِ { فَقِيرٌ } أي محتاجٌ ولتضمُّنِه معنى السُّؤالِ والطَّلبِ جيءَ بلامِ الدعامةِ لتقويةِ العملِ ، وقيل المَعنى لما أنزلتَ إليَّ من خيرٍ عظيمٍ هو خيرُ الدارينِ صرتُ فقيراً في الدُّنيا لأنَّه كانَ في سَعَةٍ من العيشِ عندَ فرعونَ قاله عليه الصَّلاة والسَّلام إظهاراً للتبجحِ والشُّكرِ على ذلك(5/226)
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
{ فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا } قيل هي كُبراهما واسُمها صفُوراءُ أو صفراءُ وقيل : صُغراهما واسمُها صُفيراءُ أي جاءتْهُ عقيبَ ما رَجَعتا إلى أبيهما . رُوي أنَّهما لما رجعتَا إلى أبيهما قبلَ النَّاسِ وأغنامُهما حُفلٌ بطانٌ قال لُهما ما أعجلَكُما قالتَا وجدنَا رجلاً صالحاً رحمنَا فسقَىَ لنا فقالَ لإحداهُما اذهبي فادعيِه لي . وقولُه تعالى : { تَمْشِى } حالٌ من فاعل جاءتْ . وقوله تعالى : { عَلَى استحياء } متعلقٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من ضميرِ تمشي أي جاءتْه تمشِي كائنةً على استحياءٍ فمعَناهُ أنَّها كانتْ على حالتي المَشي والمجيءِ معاً لا عندَ المجيءِ فقط . وتنكيرُ استحياءٍ للتفخيمِ ، قيل جاءتْه متخفرةً أي شديدةَ الحياءِ وقيل قد استترتْ بكُمِّ دِرعِها { قَالَتْ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأَ من حكايةِ مجيئِها إيَّاه عليه الصَّلاة والسَّلام كأنَّه قيلَ فماذا قالتْ له عليه الصَّلاة والسَّلام فقيلَ قالتْ { إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } أي جزاءَ سقيكَ لنا أسندتِ الدَّعوةَ إلى أبيها وعلَّلتها بالجزاءِ لئلاَّ يُوهمَ كلامُها ريبةً . وفيهِ من الدِّلالةِ على كمالِ العقلِ والحياءِ والعفَّةِ ما لا يخَفْى . رُوي أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام أجابَها فانطلَقا وهي أمامه فألزقتِ الرِّيحُ ثوبَها بحسدِها فوصفتْهُ فقال لها أمشِي خلفي وانعَتي لي الطريقَ ففعلتْ حتَّى أتيا دارَ شُعيب عليهما السَّلامُ { فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص } أي ما جَرى عليهِ من الخبرِ المقصُوصِ فإنَّه مصدرٌ سُمِّيَ به المفعولُ كالعللِ .
{ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين } الذي يلوحُ من ظاهرِ النَّظْمِ الكريمِ أنَّ موسى عليه السَّلام إنَّما أجابَ المستدعيةَ من غيرِ تلعثُمٍ ليتبرَّكَ برؤيةِ شعيبٍ عليه السَّلام ويستظهرَ برأيهِ لا يأخذَ بمعروفِه أجراً حسبَما صرَّحتْ به . ألا يُرى إلى ما رُوي أنَّ شُعيباً لما قدَّمَ إليه طعاماً قال إنَّا أهلُ بيتٍ لا نبيع ديننا بطِلاعِ الأرضِ ذهباً ولا نأخذُ على المعروفِ ثمناً ولم يتناولْ حتَّى قال شُعيبٌ عليه السَّلام : هذهِ عادتُنا مع كلِّ مَن ينزلُ بنا فتناولَ بعد ذلكَ على سبيلِ التقبلِ لمعروفٍ مُبتدأٍ كيف لا وقد قصَّ عليه قصصَهُ وعرَّفَهُ أنَّه من بيتِ النُّبوةِ من أولادِ يعقوبَ عليه السَّلامِ ومثله حَقيقٌ بأنْ يُضيَّفَ ويكرَّمَ لا سيَّما في دارِ نبيَ من أنبياءِ الله تعالى عليهم الصَّلاة والسَّلام وقيل ليس بمستنكرٍ منه عليه الصَّلاة والسَّلام أن يقبلَ الأجرَ لاضطرارِ الفقرِ والفاقةِ . وقد رُوي عن عطاءِ بن السَّائبِ أنَّه عليهِ السَّلامُ رفعَ صوتَهُ بدعائِه ليُسمَعها ولذلك قيلَ له ليجزَيك الخ ولعلَّه عليه السَّلام إنَّما فعلَه ليكونَ ذريعة إلى استدعائِه لاستيفاء الأجرِ .(5/227)
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
{ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا } وهي التي استدعتْهُ إلى أبيها وهي التي زوَّجها مِن موسى عليهما السَّلام { إِحْدَاهُمَا ياأبت استجره } أيْ لرعي الغنمِ والقيامِ بأمرِها { إِنَّ خَيْرَ مَنِ استجرت القوى الامين } تعليلٌ جارٍ مجرى الدِّليلِ على أنَّه حقيقٌ بالاستئجارِ ، وللمبالغةِ في ذلكَ جُعل خيرَ اسماً لأنَّ ، وذُكر الفعلُ على صيغةِ الماضي للدِّلالةِ على أنَّه أمينٌ مجرَّبٌ رُوي أنَّ شُعيباً عليهِ السَّلامُ قال لهَا وما أعلمكِ بقوَّتِه وأمانتِه فذكرتْ ما شاهدتْ منه عليه السَّلام من إقلالِ الحجر ونزعِ الدَّلِو وأنَّه صوَّبَ رأسه حتَّى بلَّغتْهُ رسالتَه وأمَرها بالمشي خلفَهُ { قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتى هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِى } أي تكونَ أجيراً لي أو تثيبني من أجرتُ كذا إذا أثبتُه إيَّاه ، فقولُه تعالى : { ثَمَانِىَ حِجَجٍ } على الأولِ ظرفٌ وعلى الثَّاني مفعولٌ به على تقديرِ مُضافٍ أي رِعيةَ ثماني حججٍ . ونُقل عن المبرِّدِ أنَّه يُقال أجرتُ داري ومملوكي غيرَ ممدودٍ وآجرتُ ممدوداً . والأولُ أكثرُ ، فَعلَى هذا يكون المفعولُ الثَّاني محذوفاً والمعنى على أنْ تأجرنِي نفسَك ، وقولُه تعالى ثماني حججٍ ظرفٌ كالوجِه الأولِ : { فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً } في الخدمةِ والعملِ { فَمِنْ عِندِكَ } أي فهوُ مِن عندك بطريقِ التَّفضلِ لا من عندِي بطريقِ الإلزامِ عليك . وهذا من شُعيبٍ عرضٌ لرأيه على مُوسى عليهما السَّلام واستدعاءٌ منه للعقدِ لا إنشاءٌ وتحقيقٌ له بالفعل . { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ } بالزامِ إتمامِ العشرِ أو المُناقشةِ في مُراعاةِ الأوقاتِ واستيفاءِ الأعمالِ . واشتقاقُ المشقةِ من الشقِّ فإنَّ ما يصعبُ عليك يشقُّ عليك اعتقادُك في إطاقته ويوزعُ رأُيك في مزاولتِه . { سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصالحين } في حُسنِ المعاملةِ ولينِ الجانبِ والوفاءِ بالعهدِ . ومراده عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالاستثناءِ التبرُّكُ بهِ وتفويضُ أمرِه إلى توفيقِه تعالى لا تعليقُ صلاحِه بمشيئتِه تعالى .
{ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ } مبتدأُ وخبرٌ أي ذلكَ الذي قلتَهُ وعاهدتِني فيه وشارطتِني عليه قائمٌ وثابتٌ بينَنا جميعاً لا يخرجُ عنه واحدٌ منَّا لا أنَا عمَّا شرطتُ علي ولا أنتَ عمَّا شرطتَ على نفسِك . وقولُه تعالى : { أَيَّمَا الاجلين } أي أكثرَهما أو أقصرَهما { قُضِيَتُ } أي وفيتكَهُ بأداءِ الخدمةِ فيه { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَىَّ } تصريحٌ بالمرادِ وتقريرٌ لأمرِ الخيرةِ أي لا عُدوانَ عليَّ بطلبِ الزيادةِ على ما قضيتُه من الأجلينِ . وتعميمُ انتفاءِ العُدوانِ لكلا الأجلين بصددِ المُشارطةِ مع عدمِ تحققِ العُدوانِ في أكثرِهما رأساً للقصدِ إلى التَّسويةِ بينهما في الانتفاءِ أي كما لا أطالبُ بالزيادةِ على العشرِ لا أطالبُ بالزيادةِ على الثمانِ أو أيَّما الأجلينِ قضيتُ فلا إثمَ عليَّ يعني كما لاَ إثمَ عليَّ في قضاءِ الأكثرِ لا إثمَ عليَّ في قضاءِ الأقصرِ فقطْ . وقُرىء أيَّ الأجلينِ ما قضيتُ فمَا مزيدةٌ لتأكيدِ القضاءِ كما أنَّها في القراءةِ الأُولى مزيدةٌ لتأكيدِ إبهامِ أيَ وشياعِها .(5/228)
وقُرىء أيْما بسكونِ الياءِ كقولِ مَن قال
تنظَّرتُ نصراً والسماكينِ أيْهما ... عليَّ من الغيثِ استهلتْ مواطرُه
{ والله على مَا نَقُولُ } من الشُّروطِ الجاريةِ بيننا { وَكِيلٌ } شاهدٌ وحفيظٌ فلا سبيلَ لأحدٍ منَّا إلى الخروجِ عنه أصلاً وليس ما حُكي عنهما عليهما الصَّلاة والسَّلام تمامَ ما جرى بينهما من الكلامِ في إنشاءِ عقدِ النِّكاحِ وعقدِ الإجارةِ وإيقاعِهما بل هُو بيانٌ لما عزما عليه واتفقا على إيقاعه حسبما يتوقفُ عليه مساقُ القصَّةِ إجمالاً من غيرِ تعرضٍ لبيانِ مواجبِ العقدينِ في تلك الشريعةِ تفصيلاً . رُوي أنَّهما لمَّا أتمَّا العقدَ قال شعيبٌ لموسى عليهما السَّلام ادخُلْ ذلكَ البيتَ فخُذ عصاً من تلكَ العصيِّ وكانت عنده عِصِيُّ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام فأخذَ عصا هبطَ بها آدمُ عليه الصَّلاة والسَّلام من الجنَّةِ ولم يزلِ الأنبياءُ يتوارثونَها حتَّى وقعتْ إلى شُعيبٍ عليه السَّلام فمسَّها وكان مكفوفاً فضنَّ بها فقال خُذ غيرَها فما وقعَ في يده إلا هي سبعَ مرَّاتٍ فعلم أنَّ له شأناً وقيل : أخذَها جبريلُ عليه السَّلام بعد موتِ آدمَ عليه السَّلام فكانتْ معه حتَّى لقَي بها مُوسى عليه السَّلام ليلاً . وقيل : أودعها شعيباً ملَكٌ في صورةِ رجلٍ فأمرَ بنتَه أنْ تأتيَه بعصا فأتتْهُ بها فردَّها سبعَ مرَّاتٍ فلم يقعْ في يدها غيرُها فدفعَها إليه ثم ندِمَ لأنَّها وديعةٌ فتبعَه فاختصَما فيها ورضيا إنْ يحكمَ بينهما أولُ طالعٍ فأتاهُما المَلكُ فقالَ ألقياها فمَن رفعَها فهَي له فعالَجها الشَّيخُ فلم يُطِقْها ورفعَها مُوسى عليه السَّلام . وعن الحسنِ رضي الله عنه : ما كانتْ إلا عصاً من الشَّجرِ اعترضها اعتراضاً . وعن الكلبيِّ رحمه الله : الشَّجرةُ التي منها نُوديَ شجرةُ العَوسجِ ومنها كانت عصاهُ . ولمَّا أصبحَ قال له شُعِيبٌ صلواتُ الله وسلامُه عليهما إذا بلغتَ مفرقَ الطَّريقِ فلا تأخذْ على يمينكَ فإنَّ الكلأَ وإنْ كانَ بها أكثرَ إلاَّ أنَّ فيها تِنِّيناً أخشاهُ عليكَ وعلى الغنم فأخذتِ الغنمُ ذاتَ اليمينِ فلم يقدرْ على كفِّها ومشَى على أثرِها فإذا عشبٌ وريف لم يرَ مثلَه فنامَ فإذا بالتنِّينِ قد أقبل فحاربتْهُ العَصا حتَّى قتلتْهُ وعادتْ إلى جنبِ مُوسى عليه السَّلامُ داميةً فلما أبصرَها داميةً والتنِّينَ مقتولاً ارتاحَ لذلك ولما رجعَ إلى شُعيبٍ عليهما السَّلامُ مسَّ الغنمَ فوجدَها ملأى البُطونِ غزيرةَ اللبنِ فأخبرَه مُوسى عليه السَّلام بالشَّأنِ ففرحَ وعلَم أنَّ لموسى والعصا شأناً وقال له : إنِّي وهبتُ لك من نتاجِ غنمي هذا العامِ كلَّ أدرعَ . ودرعاءَ فأُوحي إليه في المنام أن اضربْ بعصاك مُستقى الغنمِ ففعلَ ، ثم سقَى فما أخطأتْ واحدةٌ إلا وضعت أَدرعَ ودرعاءَ فوفَّى له بشرطِه .
والفاءُ في قولِه تعالى :(5/229)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
{ فَلَمَّا قضى مُوسَى الاجل } فصيحةٌ ، أي فعقدا العقدينِ وباشر موسى ما التزمه فلما أتمَّ الأجلَ { وَسَارَ بِأَهْلِهِ } نحوَ مصرَ بإذنٍ من شُعيبٍ عليهما السَّلامُ . رُوي أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام قضَى أبعدَ الأجلينِ ومكثَ عنَدُه بعد ذلك عشرَ شنينَ ثمَّ عزمَ على العودِ إلى مصرَ فاستأذنَه في ذلكَ فأذنَ له فخرجَ بأهلِه { آنَسَ مِن جَانِبِ الطور } أي أبصرَ من الجهةِ التي تلي الطُّورَ { نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إِنّى ءانَسْتُ نَاراً لَّعَلِى ءاتِيكُمْ مّنْهَا بِخَبَرٍ } أي بخبرِ الطِّريقِ وقد كانُوا ضلُّوه { أَوْ جَذْوَةٍ } أي عُودٍ غليظٍ سواء كانتْ في رأسِه نارٌ أو لا ، قال قائلُهم :
باتتْ حواطبُ لَيْلَى يلتمسنَ لها ... جزلَ الجَذَى غيرَ خوَّارٍ ولا دعِرِ
وقال :
وألقى على قبْسٍ من النَّار جذوة ... شديداً عليها حرُّها والتهابُها
ولذلك بيَّن بقولِه تعالى { مِنَ النار } وقُرىء بكسرِ الجيمِ وبضمِّها ، وكلَّها لغاتٌ { لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } أي تستدفئونَ .(5/230)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
{ فَلَمَّا أتاها } أي النَّارَ التي آنسَها { نُودِىَ مِن شَاطِىء الوادى الأيمن } أي أتاهُ النِّداءُ من الشاطيءِ الأيمنِ بالنسبةِ إلى مُوسى عليهِ السَّلامُ { فِى البقعة المباركة } متصلٌ بالشَّاطيء أو صلةٌ لنُوديَ { مِنَ الشجرة } بدلُ اشتمالٍ من شاطيءٍ لأنَّها كانتْ نابتةً على الشَّاطيءِ { أَن ياموسى إِنّى أَنَا الله رَبُّ العالمين } وهذا وإنْ خالفَ لفظاً لما في طه والنَّملِ لكنَّه موافقٌ له في المَعنى المرادِ { وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } عطفٌ على أنْ يا مُوسى وكلاهما مفسرٌ لنودَي والفاءُ في قولِه تعالى : { فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ } فصحيةٌ مفصحةٌ عن جُمَلٍ قد حُذفتْ تعويلاً على دلالةِ الحالِ عليها وإشعاراً بغايةِ سرعةِ تحققِ مدلولاتِها أي فألقاهَا فصارتْ ثُعباناً فاهتزتْ فلمَّا رَآها تهتزُّ { كَأَنَّهَا جَانٌّ } أي في سُرعةِ الحركةِ مع غايةِ عظمِ جُثَّتِها { ولى مُدْبِراً } أي مُنهزماً من الخوفِ { وَلَمْ يُعَقّبْ } أيْ لم يرجعْ { يَا موسى } أي قيلَ يا مُوسى : { أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الامنين } من المخاوفِ فإنَّه لا يخافُ لديَّ المُرسلون { اسلك يَدَكَ فِى جَيْبِكَ } أي أَدخلْها فيهِ { تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء } أي عيبٍ { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } أي يديك المبسوطتينِ لتتَّقي بهما الحيَّةَ كالخائفِ الفزعِ بإدخالِ اليمنى تحتَ العضد الأيسرِ واليسرى تحتَ الأيمنِ أو بإدخالِهما في الجيبِ فيكون تكريراً لغرضٍ آخرَ هو أنْ يكونَ ذلك في وجهِ العدوِّ إظهارَ جراءةٍ ومبدأ لظهورٍ معجزةٍ ، ويجوزُ أنْ يرادَ بالضمِّ التَّجلدُ والثباتُ عند انقلابِ العَصَا ثعباناً استعارةٌ من حالِ الطَّائرِ فإنَّه إذَا خافَ نشَر جناحيِه وإذا أمنَ واطمأنَّ ضمَّهما إليهِ { مِنَ الرهب } أي من أجلِ الرَّهبِ أي إذا عراكَ الخوفُ فافعلْ ذلك تجلُّداً وضبطاً لنفسكَ . وقُرىء بضمِّ الراءِ وسكونِ الهاءِ وبضمِّهما ، والكلُّ الغاتٌ { فَذَانِكَ } إشارةٌ إلى العَصَا واليدِ . وقُرىء بتشديدِ النُّونِ فالمخففُ مُثنَّى ذاكَ والمشدَّدُ مثنَّى ذلكَ { برهانان } حجَّتانِ نيِّرتانِ . وبُرهان فُعلان لقولِهم أبرَه الرَّجلُ إذا جاءَ بالبُرهانِ من قولِهم برهَ الرَّجلُ إذا ابيضَّ ويُقال للمرأةِ البيضاءِ برهاءُ وبَرَهْرَهةٌ ، ونظيرُه تسميةِ الحجَّةِ سُلطاناً من السَّليطِ وهو الزَّيتُ لإنارتِها . وقيل : هو فُعلال لقولِهم برهنَ . ومِن في قوله تعالى : { مِن رَبّكَ } متعلقةٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لبرهانانِ أي كائنانِ منْهُ تعالى : { إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } واصلانِ ومنتهيانِ إليهم { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين } خارجينَ عن حُدود الظُّلمِ والعُدوان فكانُوا أحِقَّاءَ بأنْ نُرسلَك إليهم بهاتينِ المُعجزتينِ الباهرتينِ .(5/231)
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
{ قَالَ رَبّ إِنّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } بمقابلتِها { وَأَخِى هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِىَ رِدْءاً } أي مُعيناً وهو في الأصلِ اسمُ ما يُعان به كالدِّفءِ ، وقُرىء ( رِدَاً ) بالتخفيف { يُصَدّقُنِى } بتلخيصِ الحقِّ وتقريرِ الحجَّةِ بتوضيحِها وتزييفِ الشُّبهةِ { إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ } ولسانِي لا يُطاوعني عند المُحاجةِ . وقيل المرادُ تصديقُ القومِ لتقريرِه وتوضيحِه لكنَّه أسندَ إليه إسناد الفعلِ إلى السببِ . وقُرىء يصدقْني بالجزمِ على أنَّه جوابُ الأمرِ { قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } أي سنقويكَ به فإنَّ قوَّةَ الشَّخصِ بشدة اليدِ على مُزاولةِ الأمورِ ولذلكَ يعبّرُ عنه باليدِ وشدَّتِها بشدَّة العضدِ { وَنَجْعَلُ لَكُمَا سلطانا } أي تسلطاً وغلبةً وقيل حجَّةً وليس بذاكَ { فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا } باستيلاءٍ أو محاجة { بئاياتنا } متعلقٌ بمحذوفٍ قد صُرِّح به في مواضعَ أُخَر أي اذهَبا بآياتِنا ، أو بنجعل أي تسلطكما بآياتِنا أو بمعنى لا يصَلون أي تمتنعونَ منهم بها ، وقيل هو قسمٌ وجوابُه لا يصلونَ وقيلَ هو بيانٌ للغالبونَ في قولِه تعالى : { أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون } بمعنى أنَّه صلةٌ لِمَا يبينُه أو صلةٌ له على أنَّ اللامَ للتعريفِ لا بمعنى الذي { فَلَمَّا جَاءهُم موسى بئاياتنا بينات } أي واضحات الدِّلالةِ على صحَّةِ رسالةِ مُوسى عليه السَّلام منه تعالى ، والمرادُ بها العَصَا واليدُ إذ هُما اللتانِ أظهرَهُما مُوسى عليه السَّلام إذْ ذاكَ ، والتَّعبيرُ عنْهمَا بصيغةِ الجمعِ قد مرَّ سرُّه في سورةِ طه . { قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى } أي سحرٌ مختلقٌ لم يُفعل قبلَ هذا مثلُه أو سحرٌ تعمله ثم تفتريهِ على الله تعالى أو سحرٌ موصوفٌ بالافتراءِ كسائرِ أصنافِ السِّحِر { وَمَا سَمِعْنَا بهذا } أي السِّحرِ أو ادعاءِ النُّبوةِ { في آبائنا الأولين } أي واقعاً في أيَّامِهم .
{ وَقَالَ موسى رَبّى أَعْلَمُ بِمَن جَاء بالهدى مِنْ عِندِهِ } يريدُ به نفسَه . وقُرىء قالَ بغيرِ واوٍ لأنَّه جوابٌ عن مقالِهم . ووجهُ العطفِ أنَّ المرادَ حكايةُ القولينِ ليوازنَ السَّامعُ بينهما فيميِّز صحيحَهما من الفاسدِ { وَمَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار } أي العاقبةُ المحمودُة في الدَّارِ وهي الدُّنيا ، وعاقبتُها الأصليةُ هي الجَّنة لأنَّها خُلقتْ مجازاً إلى الآخرةِ ومزرعة لها والمقصودُ بالذاتِ منها الثَّوابُ ، وأمَّا العقابُ فمن نتائجِ أعمالِ العُصاةِ وسيئاتِ الغُواة . وقُرىء يكونُ بالياءِ التحتانيَّةِ { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } أي لا يفوزونَ بمطلوبٍ ولا ينجون عن محذُورٍ .(5/232)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأيهالملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى } قاله اللعينُ بعدَ ما جمعَ السَّحرةَ وتصدَّى للمُعارضةِ فكانَ من أمِرهم ما كانَ { فَأَوْقِدْ لِى ياهامان ياهامان عَلَى الطين } أي أصنعْ آجرَّاً { فاجعل لّى } منه { صَرْحاً } أي قصراً رفيعاً { لَّعَلّى أَطَّلِعُ إلى إله موسى } كأنَّه توهَّم أنَّه لو كان لكان جسماً في السَّماءِ يمكن الرُّقيُّ إليه ثم قال : { وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ الكاذبين } أو أرادَ أنْ يبنيَ له رَصَداً يترصَّدُ منه أوضاعَ الكواكبِ فيرى هل فيها ما يدلُّ على بعثةِ رسولٍ وتبدلِ دولتِه . وقيل : المرادُ بنفي العلمِ في المعلومِ كما في قولِه تعالى : { قُلْ أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السموات وَلاَ فِى الارض } فإنَّ معناهُ بما ليس فيهنَّ وهذا من خواصِّ العلومِ الفعليةِ فإنَّها لازمةٌ لتحققِ معلوماتِها فيلزم من انتفائِها انتفاءُ معلوماتِها ولا كذلكَ العلومُ الانفعاليةُ ، قيل أولُ من اتَّخذَ الآجرَّ فرعونُ ولذلك أُمرِ باتخاذِه على وجهٍ يتضمَّنُ تعليمَ الصَّنعةِ مع ما فيهِ من تعظمٍ ، ولذلك نادى هامانَ باسمهِ بيا في وسطِ الكلامِ { واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الارض } أرضِ مصرَ { بِغَيْرِ الحق } بغيرِ استحقاقٍ { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ } بالبعثِ للجزاءِ . وقُرىء بفتحِ الياءِ وكسرِ الجيمِ من رجعَ رجُوعاً والأولُ من رجع رجعاً وهو الأنسبُ بالمقامِ .
{ فأخذناه وَجُنُودَهُ } عقيبَ ما بلغُوا من الكفرِ والعتُوِّ أقصى الغاياتِ { فنبذناهم فِى اليم } قد مرَّ تفصيلُه وفيه من تفخيمِ شأنِ الأخذِ وتهويلِه واستحقارِ المأخوذينَ المنبوُذينَ ما لا يخفى كأنَّه تعالى أخذَهم مع كثرتِهم في كفَ وطرحَهم في البحرِ ، ونظيُره قولُه تعالى : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والارض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ } { فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين } وبيَّنها للنَّاسِ ليعتبرُوا بها { وجعلناهم } أي صيَّرناهم في عهدِهم { أَئِمَّةً يَدْعُونَ } النَّاسَ { إِلَى النار } إلى ما يُؤدِّي إليها من الكفرِ والمَعَاصي أي قدوةً يَقتِدي بهم أَهلُ الضَّلالِ لمَّا صرفُوا اختيارَهم إلى تحصيلِ تلك الحالةِ وقيل سمَّيناهم أئمةً دعاةً إلى النَّار كما في قولِه تعالى : { وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا } فالأنسبُ حينئذٍ أن يكونَ الجعلُ بعدهم فيما بين الأممِ وتكونَ الدَّعوة إلى نفسِ النَّارِ وقيل : معنى الجعلِ منعُ الألطافِ الصَّارفةِ عن ذلك { وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ } بدفعِ العذابِ عنُهم بوجهٍ من الوجوهِ .(5/233)
وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)
{ وأتبعناهم فِى هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً } طرداً وإبعاداً من الرَّحمةِ ولعناً من اللاعنينَ حيثُ لا يزالُ يلعنُهم الملائكةُ عليهم الصَّلاة والسَّلام والمؤمنون خَلَفاً عن سَلَفٍ { وَيَوْمَ القيامة هُمْ مّنَ المقبوحين } من المطرُودينِ المُبعدينَ وقيل من الموسُومين بعلامةٍ منكرةٍ كزرقةِ العُيون وسوادِ الوجهِ قالَه ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما . يُقال قبَّحه الله وقبَحه إذا جعلَه قبيحاً وقال أبوُ عُبيدةَ : من المقبُوحين من المُهلكينَ ويومَ القيامةِ إمَّا متعلقٌ بالمقبوحينَ على أنَّ اللامَ للتعريفِ لا بمعنى الذي أو بمحذوفٍ يُفسره ذلك كأنَّه قيل : وقُبحوا يومَ القيامةِ نحو { لعملِكم من القالينَ } { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب } أي التوراةَ { مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الاولى } هم أقوامُ نوحٍ وهودٍ وصالحٍ ولوطٍ عليهم السَّلام ، والتَّعرض لبيانِ كونِ إيتائها بعدَ إهلاكِهم للإشعارِ بمساس الحاجةِ الدَّاعيةِ إليه تمهيداً لما يعقبُه من بيانِ الحاجةِ الدَّاعية إلى إنزالِ القُرآن الكريمِ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فإنَّ إهلاكَ القُرون الأُولى من موجباتِ اندراسِ معالمِ الشَّرائعِ وانطماسِ آثارِها وأحكامِها المؤديينِ إلى اختلالِ نظامِ العالمِ وفسادِ أحوالِ الأُمم المستدعيينَ للتشريعِ الجديدِ بقريرِ الأُصولِ الباقيةِ على مرِّ الدُّهورِ وترتيب الفروعِ المتبدلة بتبدلِ العُصور وتذكير أحوالِ الأُممِ الخاليةِ الموجبةِ للاعتبارِ كأنَّه قيلَ ولقد آتينَا مُوسى التوراةَ على حين حاجةٍ إلى إيتائِها { بَصَائِرَ لِلنَّاسِ } أي أنواراً لقلوبِهم تبصرُ الحقائقَ وتميزُ بين الحقِّ والباطلِ حيثُ كانتْ عُمياً عن الفهمِ والإداركِ بالكُلِّية فإنَّ البصيرةَ نورُ القلبِ الذي به يستبصرُ كما أنَّ البصرَ نورُ العينِ الذي به تبصرُ { وهدى } أي هدايةً إلى الشَّرائعِ والاحكامِ التي هي سُبلُ الله تعالى { وَرَحْمَةً } حيثُ ينالُ من عملَ به رحمةَ الله تعالى . وانتصابُ الكلِّ على الحاليَّةِ من الكتابِ على أنَّه نفسُ البصائرِ والهُدى والرَّحمة أو على حذفِ المضافِ أي ذَا بصائرَ الخ وقيل على العلَّة أي آتيناهُ الكتابَ للبصائرِ والهُدى والرَّحمةِ { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } ليكونُوا على حالٍ يُرجى منه التَّذكرُ وقد مرَّ تحقيقُ القولِ في ذلك عند قولِه تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } من سُورةِ البقرةِ الآية 21 وقولُه تعالى :
{ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى } شروعٌ في بيانِ أنَّ إنزالَ القرآنِ الكريمِ أيضاً واقعٌ في زمانِ شدَّة مساسِ الحاجةِ إليه واقتضاءِ الحكمةِ له البتةَ وقد صدرَ بتحقيقِ كونِه وحياً صادقاً من عندِ الله عزَّ وجلَّ ببيانِ أنَّ الوقوفَ على ما فُصِّل من الأحوال لا يتسنَّى إلا بالمشاهدةِ أو التعلُّمِ ممَّن شاهدَها وحيثُ انتفى كلاهُما تبينَ أنَّه بوحيٍ من علاَّمِ الغُيُوبِ لا محالةَ على طريقةِ قولِه تعالى : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أقلامهم أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } الآيةَ أيْ وما كنتَ بجانبِ الجبلِ الغربِّي أو المكانِ الغربيِّ الذي وقعَ فيه الميقاتُ على حذفِ الموصوفِ وإقامةِ الصِّفةِ مُقامَهُ أو الجانبِ الغربِّي على إضافةِ الموصُوفِ إلى الصِّفةِ كمسجدِ الجامعِ . { إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الامر } أي عهدنَا إليهِ وأحكمَنا أمرَ نبوَّتِه بالوحي وإتياءِ التَّوراةِ { وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين } أي من جُملة الشاهدينَ للوحي وهم السبعونَ المختارون للميقاتِ حتَّى تشاهدَ ما جرى من أمرِ مُوسى في ميقاتِه وكتبةِ التَّوراةِ له في الألواحِ فتخبَره للنَّاسِ .(5/234)
وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
{ وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً } أي ولكنَّا خلقنا بين زمانِك وزمانِ مُوسى قُروناً كثيرةً { فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر } وتمادَى الأمدُ فتغيرتِ الشَّرائعُ والأحكامُ وعَميتْ عليهم الأنباءُ لا سيَّما على آخرِهم فاقتضَى الحالُ التَّشريعَ الجديدَ فأوحينَا إليكَ فحذفَ المستدرَكَ اكتفاءً بذكِر ما يُوجبه ويدلُّ عليهِ . وقولُه تعالى : { وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ } نفيٌ لاحتمالِ كونِ معرفتِه عليه الصَّلاة والسَّلام للقصَّةِ بالسَّماعِ ممَّن شاهدَها أي وما كنتَ مُقيماً في أهلِ مدينَ من شُعيبٍ والمؤمنينَ به . وقولُه تعالى : { تَتْلُو عَلَيْهِمْ } أي تقرأُ على أهلِ مدينَ بطريقِ التعلمِ منهم { ءاياتنا } الناطقةَ بالقصَّةِ إمَّا حالٌ من المُستكنِّ في ثاوياً أو خبرٌ ثانٍ لكنتَ { وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } إيَّاك ومُوحين إليكَ تلك الآياتِ ونظائرَها { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا } أي وقتَ ندائِنا مُوسى حح { إِنّى أَنَا الله رَبُّ العالمين } واستنبائنا إيَّاه وإرسالِنا له فرعونَ { ولكن رَّحْمَةً مّن رَّبِكَ } أي ولكنْ أرسلناكَ بالقُرآنِ النَّاطقِ بما ذُكر وبغيرِه لرحمةٍ عظيمةٍ كائنةٍ منَّا لك وللنَّاسِ . وقيل : علمناكَ وقيل : عرَّفناك ذلك وليس بذاكَ كما ستعرفُه . والالتفاتُ إلى اسمِ الربِّ للإشعارِ بعلَّةِ الرَّحمةِ وتشريفِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالإضافةِ وقد اكتُفي عن ذكرِ المستدركِ هُهنا بذكر ما يُوجبه من جهتِه تعالى كما اكتفى عنْهُ في الأولِ بذكرِ ما يُوجبه من جهةِ النَّاسِ وصرَّح به فيما بينُهما تنصيصاً على ما هُود المقصودُ وإشعاراً بأنَّه المرادُ فيهما أيضاً ووِ درُّ شأنِ التَّنزيلِ . وقولُه تعالى : { لِتُنذِرَ قَوْماً } متعلقٌ بالفعلِ المعلَّلِ بالرَّحمةِ فُهو ما ذكرنا من إرسالِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالقُرآنِ حتماً لما أنَّه المعللُ بالإنذارِ لا تعليمُ ما ذُكر . وقُرىء رحمةٌ بالرَّفعِ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ وقولُه تعالى : { مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ } صفةٌ لقوماً أي لم يأتهم نذيرٌ لوقوعِهم في فترةٍ بينك وبينَ عيسى وهي خمسمائةٌ وخمسونَ سنةً أو بينك وبين إسماعيلَ بناء على أنَّ عوةَ مُوسى وعيسى عليهما السَّلامُ كانتْ مختصَّةً ببني اسرائيلَ { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أيْ يتعظونَ بإنذارِك . وتغييرُ التَّرتيبِ الوقوعيِّ بين قضاءِ الأمرِ والثّراء في أهلِ مدينَ والنِّداءِ للتنبيهِ على أنَّ كلاًّ من ذلك برهانٌ مستقلُّ على أنَّ حكايتَه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ للقصَّةِ بطريقِ الوحِى الإلهيِّ ولو ذُكر أولاً نفيُ ثوائِه عليه الصَّلاة والسَّلام في أهلِ مدينَ ثمَّ نفيَ حضورُه عليه الصَّلاة والسَّلام عندَ النِّداءِ ثم نُفي حضورُه عند قضاءِ الأمرِ كما هو الموافقُ للترتيبِ الوقوعيِّ لربَّما تُوهم أنَّ الكلَّ دليلٌ واحدٌ على ما ذُكر كما في سورة البقرةِ .(5/235)
وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49)
{ وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ } أي عقوبةٌ { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي بما اقترفُوا من الكفرِ والمعَاصي { فَيَقُولُواْ } عطفٌ على تُصيبَهم داخلٌ في حيِّزِ لولا الامتناعيَّةِ على أنَّ مدارَ انتفاءِ ما يُجاب به هو امتناعُه لا امتناعُ المعطُوفِ عليه وإنما ذكرَه في حيِّزِها للإيذانِ بأنَّه السببُ الملجىءُ لهم إلى قولِهم : { رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً } أي هلاَّ أرسلتَ إلينا رسولاً مؤيداً مِن عندك بالآياتِ { فَنَتَّبِعَ ءاياتك } الظَّاهرةَ على يدِه وهو جوابُ لولا الثَّانيةِ { وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } بهَا وجوابُ لولا الأُولى محذوفٌ ثقةً بدلالةِ الحالِ عليهِ والمَعْنى لولا قولُهم هذا عندَ إصابةِ عقوبةِ جناياتِهم التي قدَّمُوها ما أرسلناكَ لكن لمَّا كانَ قولُهم ذلكَ محقَّقاً لا محيدَ عنه أرسلناك قطعاً لمعاذيرِهم بالكُلِّيةِ { فَلَمَّا جَاءهُمُ } أي أهلَ مكَّةَ { الحق مِنْ عِندِنَا } وهو القرآنُ المنزلُ عليهِ عليهِ الصَّلاة والسَّلام { قَالُواْ } تعنُّتاً واقتراحاً { لَوْلا أُوتِىَ } يعنونَه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ { مِثْلَ مَا أُوتِىَ موسى } من الكتابِ المنزَّلِ جملةً وأمَّا اليدُ والعَصَا فلا تعلُّق لهما بالمقامِ كسائرِ معجزاتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ . قولُه تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِىَ موسى مِن قَبْلُ } ردٌّ عليهم وإظهارٌ لكونِ ما قالُوه تعنُّتاً محضاً لا طلباً لما يُرشدهم إلى الحقِّ أي ألم يكفُروا من قبلِ هذا القولِ بما أُوتيَ موسى من الكتابِ كما كفرُوا بهذا الحقِّ . وقولُه تعالى : { قَالُواْ } استئنافٌ مَسُوقٌ لتقريرِ كُفرِهم المستفادِ من الإنكارِ السَّابقِ وبيانِ كيفيَّتِه . وقولُه تعالى : { سِحْرَانِ } خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي هُما يعنونَ ما أُوتي محمدٌ وما أُوتي مُوسى عليهما السَّلام سحرانِ { تَظَاهَرَا } أي تعاوَنا بتصديقِ كلِّ واحدٍ منهُما الآخرَ وذلك أنَّهم بَعثوا رهطاً منهم إلى رؤساءِ اليَّهودِ في عيدٍ لهم فسألُوهم عن شأنِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فقالُوا : إنَّا نجدُه في التَّوارةِ بنعتِه وصفتِه فلمَّا رجعَ الرَّهطُ وأخبرُوهم بما قالتِ اليَّهودُ قالُوا ذلكَ . وقولُه تعالى : { وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلّ } أي بكلِّ واحدٍ من الكتابينِ { كافرون } تصريحٌ بكفرِهم بهما وتأكيدٌ لكفرِهم المفهومِ من تسميتهما سحراً وذلك لغايةِ عُتوهم وتمادِيهم في الكفرِ والطُّغيانِ . وقُرىء ساحرانِ تظاهَرا يعنون مُوسى ومحمَّداً صلَّى الله عليهما وسلم . هذا هُو الذي تستدعيهِ جَزالةُ النَّظمِ الجليلِ فتأمَّلْ ودَعْ عنكَ ما قيلَ وقيلَ . ألا ترى إلى قولِه تعالى : { قُلْ فَأْتُواْ بكتاب مّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَا } ممَّا أُوتياه من التَّوراةِ والقُرآنِ وسمَّيتُموهما سحرينِ فإنَّه نصٌّ فيما ذُكر . وقوله تعالى : { أَتَّبِعْهُ } جوابٌ للأمرِ أي إنْ تأتُوا به أتَّبعْهُ ومثلُ هذا الشَّرطِ ممَّا يأتِي من يدلُّ بوضوحِ حُجَّتِه وسُنوحِ محجَّتِه لأنَّ الإتيانَ بما هو أهدى من الكتابينِ أمرٌ بيِّنُ الاستحالةِ فيوسع دائرةَ الكلامِ للتَّبكيتِ والإفحامِ { إِن كُنتُمْ صادقين } أي في أنَّهما سحرانِ مختلقانِ ، وفي إيراد كلمةِ إنْ مع امتناعِ صدقِهم نوعُ تهكُّمٍ بهم .(5/236)
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)
{ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ } أي فإنْ لم يفعلُوا ما كلَّفتهم من الإتيانِ بكتابٍ أهدى منهما كقولِه تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } وإنَّما عبَّر عنه بالاستجابةِ إيذاناً بأنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام على كمالِ أمنٍ من أمرِه كأنَّ أمرَه عليه الصَّلاة والسَّلام لهم بالإتيانِ بما ذُكر دعاءٌ لهم إلى أمرٍ يريدُ وقوعَه . والاستجابةُ تتعدَّى إلى الدُّعاءِ بنفسِه وإلى الدَّاعِي باللامِ فيحذف الدُّعاء عندَ ذلكَ غالباً ، ولا يكادُ يقال : استجابَ الله له دعاءَه { فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ } الزَّائغةَ من غيرِ أنْ يكونَ لهم متمسَّكٌ ما أصلاً إذ لو كان لهم ذلكَ لأَتَوا به { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتبع هَوَاهُ } استفهامٌ إنكاريٌّ للنَّفيِ أيْ لا أضلَّ ممَّن اتَّبع هواهُ { بِغَيْرِ هُدًى مّنَ الله } أي هو أضلُّ من كلِّ ضالَ وإنْ كانَ ظاهرُ السَّبكِ لنفيِ الأصلِ لا لنفيِ المُساوي كما هُو في نظائرِه مراراً . وتقييدُ اتِّباعِ الهَوَى بعدمِ الهُدى من الله تعالى لزيادةِ التَّقريعِ والإشباعِ في التَّشنيعِ والتَّضليلِ وإلا فمقارنتُه لهدايتِه تعالى بينةُ الاستحالةِ { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } الذين ظلمُوا أنفسَهم بالانهماكِ في اتباعِ الهَوَى والإعراضِ عن الآياتِ الهاديةِ إلى الحقِّ المُبينِ .
{ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول } وقُرىء بالتَّخفيف أي أنزلنا القرآنَ عليهم متواصلاً بعضَه إثرَ بعضٍ حسبما تقتضيه الحكمةُ والمصلحةُ أو متتابعاً وعداً ووعيداً قصصاً وعبراً ومواعظَ ونصائحَ { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } فيؤمنون بما فيه { الذين ءاتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ } أي من قبلِ إيتاءِ القُرآنِ { هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ } وهم مُؤمنو أهلِ الكتابِ وقيل : أربعون من أهلِ الإنجيلِ اثنانِ وثلاثون جاءوا مع جعفرٍ من الحبشةِ وثمانيةٌ من الشامِ { وَإِذَا يتلى } أي القرآنُ { عَلَيْهِمْ قَالُواْ ءامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبّنَا } أي الحقُّ الذي كنَّا نعرفُ حقِّيتِه وهو استنئافٌ لبيانِ ما أوجب إيمانَهم . وقوله تعالى : { إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ } أي مِن قبلِ نزولِه { مُسْلِمِينَ } بيانٌ لكونِ إيمانِهم به أمراً متقادمَ العهدِ لما شاهدوا ذكرَه في الكتبِ المتقدمةِ وأنَّهم على دينِ الإسلام قبل نزولِ القرآنِ { أولئك } الموصوفون بما ذُكر من المنعوتِ { يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } مرةً على إيمانِهم بكتابِهم ومرةً على إيمانِهم بالقرآنِ { بِمَا صَبَرُواْ } بصبرِهم وثباتِهم على الإيمانينِ أو على الإيمان بالقرآنِ قبل النزول وبعده أو على أذى من هاجرَهم من أهلِ دينِهم ومن المشركين { وَيَدْرَءونَ بالحسنة السيئة } أي يدفعونَ بالطَّاعةِ المعصيةَ لقولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « وأتبعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُها » { وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } في سبيلِ الخيرِ .(5/237)
وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
{ وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو } من اللاغينَ { أَعْرَضُواْ عَنْهُ } عن اللَّغو تكرماً كقولِه تعالى : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً } { وَقَالُواْ } لهم { لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم سلام عَلَيْكُمْ } بطريقِ المُتاركةِ والتَّوديعِ { لاَ نَبْتَغِى الجاهلين } لا نطلبُ صحبتَهم ولا نريدُ مخالطتَهم .
إِنَّكَ لاَ تَهْدِى } هدايةً موصِّلةً إلى البُغيةِ لا محالةَ { مَنْ أَحْبَبْتَ } من النَّاسِ ولا تقدرُ على أنْ تدخلَه في الإسلامِ وإنْ بذلت فيه غايةَ المجهودِ وجاوزتَ في السعيِ كلَّ حدَ معهودٍ { ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء } أنْ يهديَه فيدخلَه في الإسلامِ { وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } بالمستعدِّينَ لذلك ، والجمهورُ على أنَّها نزلتْ في أبي طالبٍ فإنَّه لما احتُضر جاءه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقالَ له : « يا عمِّ قُل لا إله إلا الله كلمةً أحاجُّ بها لك عندَ الله » قال له : يا ابنَ أخِي قد علمتُ إنَّك لصادقٌ ولكنِّي أكرَه أنْ يقال خرعَ عند الموتِ ولولا أنْ يكونَ عليك وعلى بني أبيكَ غضاضةٌ بعدي لقُلتها ولأقررتُ بها عينَك عندَ الفراقِ لما أَرَى من شدَّة وَجْدِك ونصيحتِك ولكنِّي سوفَ أموتُ على ملَّةِ الأشياخِ عبدِ المطَّلبِ وهاشمٍ وعبدِ منافٍ { وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا } نزلتْ في الحارث بنِ عثمانَ بنِ نوفلِ بنِ عبدِ منافٍ حيثُ أتَى النبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام فقال : نحنُ نعلم أنَّك على الحقِّ ولكنَّا نخافُ إنِ اتَّبعناك وخالفنَا العربَ وإنما نحنُ أكلةُ رأسٍ أنْ يتخطَّفونا من أرضِنا فردَّ عليهم بقولِه تعالى : { أو لم نمكن لهم حرما آمناً } أي ألم نعصمْهم ولم نجعلْ مكانَهم حرماً ذا أمنٍ لحرمةِ البيتِ الحرامِ الذي تتناحرُ العربُ حولَه وهم آمنونَ { يجبى إِلَيْهِ } وقُرىء تُجبى أي يُجمع ويُحمل إليه { ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء } من كلِّ أوبٍ . والجملةُ صفةٌ أخرى لحَرماً دافعةٌ لمَا عَسَى يُتوهَّم من تضررِهم بانقطاعِ الميرةِ { رّزْقاً مّن لَّدُنَّا } فإذا كان حالُهم ما ذُكر وهم عبدةُ أصنامٍ فكيف يخافونَ التخطفَ إذا ضمُّوا إلى حُرمةِ البيتِ حُرمةَ التَّوحيدِ { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي جهلةٌ لا يتفطَّنون له ولا يتفكَّرون ليعلمُوا ذلك وقيل : هو متعلقٌ بقولِه تعالى : { مّن لَّدُنَّا } أي قليلٌ منهم يتدبَّرون فيعلمونَ أنَّ ذلك رزقٌ من عندِ الله تعالى إذ لو علمُوا لما خافُوا غيرَه ، وانتصابُ رزقاً على أنَّه مصدرٌ مؤكدٌ لمعنى تُجبى أو حالٌ من ثمراتُ على أنَّه بمعنى مرزوقٍ لتخصصها بالإضافةِ ثم بيَّن أنَّ الأمرَ بالعكسِ وأنَّهم أحقَّاءُ بأنْ يخافوا بأسَ الله تعالى بقوله :(5/238)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } أي وكثيرٌ من أهلِ قريةٍ كانت حالُهم كحالِ هؤلاءِ في الأمنِ وخفضِ العيشِ والدَّعةِ حتَّى أشِرُوا فدمَّرنا عليهم وخرَّبنا ديارَهم { فَتِلْكَ مساكنهم } خاويةٌ بما ظلمُوا { لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ } من بعدِ تدميرِهم { إِلاَّ قَلِيلاً } أي إلا زماناً قليلاً إذْ لا يسكنُها إلا المارَّةُ يوماً أو بعضَ يومٍ أو لم يبقَ من يسكنُها إلا قليلاً من شؤمِ معاصيِهم { وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين } منهم إذ لم يخلفهم أحدٌ يتصرَّفُ تصرَّفَهم في ديارِهم وسائرِ ذاتِ أيديهم . وانتصابُ معيشتَها بنزعِ الخافضِ أو بجعلِها ظرفاً بنفسِها كقولِك : زيدٌ ظنِّي مقيمٌ أو بإضمارِ زمانٍ مضافٍ إليه أو بجعلِه مفعولاً لبطرتْ بتضمينِ معنى كفرتْ { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى } بيانٌ للعنايةِ الربَّانيةِ إثرَ بيانِ إهلاكِ القُرى المذكورةِ أي وما صحَّ وما استقامَ بل استحال في سنَّته المبنيةِ على الحكمِ البالغةِ أو ما كان في حكمِه الماضِي وقضائِه السَّابق أنْ يُهلكَ قبلَ الإنذارِ بل كانتْ عادتُه أنْ لا يهلكَها { حتى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا } أي في أصلِها وقُصبتِها التي هي أعمالُها وتوابعُها لكون أهلِها أفطنَ وأنبلَ { رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياتنا } الناطقةَ بالحقِّ ويدعُوهم إليه بالتَّرغيبِ والتَّرهيبِ وذلك لإلزام الحجَّة وقطع المعذرةِ بأنْ يقولوا : لولا أرسلتَ إلينا رسولاً فنتبعَ آياتِك . والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لتربيةِ المهابةِ وإدخالِ الرَّوعةِ . وقولُه تعالى : { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى القرى } عطفٌ على ما كانَ ربُّك . وقولُه تعالى : { إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظالمون } استثناءٌ مفرَّغٌ من أعمِّ الأحوالِ أي وما كنَّا مهلكينَ لأهلِ القُرى بعد ما بعثنا في أمِّها رسولاً يدعُوهم إلى الحقِّ ويُرشدهم إليه في حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ كونِهم ظالمينَ بتكذيبِ رسولِنا والكفرِ بآياتِنا فالبعثُ غايةٌ لعدمِ صحَّة الإهلاكِ بموجبِ السنَّة الإلهية لا لعدمِ وقوعِه حتَّى يلزمَ تحققُ الإهلاكِ عقيبَ البعثِ وقد مرَّ تحقيقُه في سورةِ بني إسرائيلَ .
{ وَمَا أُوتِيتُم مّن شَىْء } من أمور الدُّنيا { فمتاع الحياة الدنيا وَزِينَتُهَا } أي فهو شيءٌ شأنه أنْ يتمتَّعَ ويتزينَ به أياماً قلائل { وَمَا عِندَ الله } وهو الثَّوابُ { خَيْرٌ } في نفسِه من ذلك لأنَّه لذَّةٌ خالصةٌ عن شوائبِ الألم وبهجةٌ كاملة عارية عن سِمةِ الهمِّ { وأبقى } لأنَّه أبديّ { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ألا تتفكرونَ فلا تعقلون هذا الأمرَ الواضحَ فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ . وقُرىء بالياءِ على الالتفات المبنيِّ على اقتضاء سوء صنيعهم الإعراضَ عن مخاطبتِهم .(5/239)
أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)
{ أَفَمَن وعدناه وَعْداً حَسَناً } أي وَعداً بالجنَّة فإنَّ حسنَ الوعدِ بحسن الموعودِ { فَهُوَ لاَقِيهِ } أي مدركُه لا محالةَ لاستحالةِ الخُلفِ في وعدِه تعالى ولذلك جِيء بالجملة الاسميةِ المفيدة لتحققِه البتةَ وعُطفت بالفاء المنبئةِ عن معنى السببيةِ { كَمَن مَّتَّعْنَاهُ متاع الحياة الدنيا } الذي هو مشوبٌ بالآلامِ منغصٌ بالأكدارِ مستتبع للتَّحسرِ على الانقطاعِ . ومعنى الفاءِ الأُولى ترتيبُ إنكارِ التَّشابهِ بين أهلِ الدُّنيا وأهلِ الآخرةِ على ما قبلها من ظهورِ التَّفاوتِ بين متاعِ الحياة الدُّنيا وبين ما عندَ الله تعالى ، أي أبعدَ هذا التَّفاوت الظاهرِ يسوَّى بين الفريقينِ . وقولُه تعالى : { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين } عطفٌ على متَّعناه داخلٌ معه في حيِّز الصِّلةِ مؤكدٌ لإنكارِ التَّشابهِ مقررٌ له كأنَّه قيل : كمن متَّعناه متاعَ الحياةِ الدُّنيا ثم نحضرُه أو أحضرنَاه يومَ القيامةِ النَّارَ أو العذابَ . وإيثارُ الجملة الاسميَّةِ للدلالةِ على التحققِ حتماً ، وفي جعله من جُملة المحضرينَ من التَّهويلِ ما لا يخفى . وثمَّ للتَّراخي في الزَّمانِ أو في الرُّتبةِ . وقُرىء ثم هْو بسكونِ الهاءِ تشبيهاً للمنفصلِ بالمتَّصلِ .
{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ } منصوبٌ بالعطفِ على يومَ القيامةِ لاختلافهما عُنواناً وإنِ اتَّحدا ذاتاً أو بإضمارِ اذكُر { فَيَقُولُ } تفسيرٌ للنِّداءِ { أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } أي الذينَ كنتُم تزعمونَهم شركائي ، فحُذف المفعولانِ معاً ثقةً بدلالةِ الكلامِ عليهما { قَالَ } استئنافٌ مبنيٌّ على حكايةِ السُّؤالِ كأنَّه قيل : فماذا صدرَ عنهُم حينئذٍ؟ فقيل : قالَ : { الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول } وهو شركاؤهم مِن الشَّياطينِ أو رؤساؤهم الذين اتَّخذوهم أرباباً من دونِ الله تعالى بأنْ أطاعوهم في كلِّ ما أمروهم به ونهَوا عنه ، ومعنى حقَّ عليهم القول أنه ثبتَ مُقتضاه وتحقَّق مؤدَّاه وهو قوله تعالى : { لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } وغيره من آياتِ الوعيد . وتخصيصُهم بهذا الحكم مع شمولِه للأتباع أيضاً لأصالتِهم في الكفرِ واستحقاقِ العذابِ حسبما يشعرُ به قولُه تعالى : { لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } ومسارعتُهم إلى الجوابِ مع كون السؤال للعَبَدة إما لتفطُّنهم أنَّ السؤال عنهم لاستحضارِهم وتوبيخهم بالإضلال وجزمهم بأنَّ العَبَدةَ سيقولون : هؤلاءِ أضلُّونا وإمَّا لأنَّ العبَدَة قد قالوه اعتذاراً وهؤلاء إنَّما قالوا ما قالوا ردّاً لقولِهم إلا أنَّه لم يُحكَ قولُ العَبَدة إيجازاً لظهوره { رَبَّنَا هَؤُلاء الذين أَغْوَيْنَا } أي هم الذين أغويناهُم فحذف الرَّاجع إلى الموصولِ ومرادُهم بالإشارة بيانُ أنَّهم يقولون ما يقولون بمحضرٍ منهم وأنَّهم غيرُ قادرينَ على إنكارِه وردِّه وقوله تعالى : { أغويناهم كَمَا غَوَيْنَا } هو الجوابُ حقيقةً وما قبله تمهيدٌ له أي ما أكرهناهم على الغيِّ وإنما أغويناهم بطريقِ الوسوسةِ والتَّسويل لا بالقسر والإلجاء فغَووا باختيارِهم غيّاً مثل غيِّنا باختيارِنا ويجوز أن يكون الذين صفةً لاسم الإشارة وأغويناهم الخبرَ { تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ } ومنهم وممَّا اختارُوه من الكفرِ والمَعَاصي هو منهم وهو تقريرٌ لما قبله ولذلك لم يعطف عليهِ وكذا قولُه تعالى : { مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } أي ما كانُوا يعبدوننا وإنَّما كانوا يعبدون أهواءَهم ، وقيل : ما مصدريةٌ متَّصلة بقوله تعالى : { تَبَرَّأْنَا } أي تبرأنا من عبادتِهم إيَّانا .(5/240)
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)
{ وَقِيلَ ادعوا شُرَكَاءكُمْ } إما تهكُّماً أو تبكيتاً لهم { فَدَعَوْهُمْ } لفرطِ الحيرةِ { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } ضرورةَ عدمِ قُدرتهم على الاستجابةِ والنُّصرة { وَرَأَوُاْ العذاب } قد غشيهم { لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } لوجهٍ من وجوهِ الحيلِ يدفعون به العذابَ أو إلى الحقِّ لما لقُوا ما لقُوا وقيل : «لو» للتَّمنِّي أي تمنَّوا لو أنَّهم كانُوا مهتدين .
{ وَيَوْمَ يناديهم فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المرسلين } عطفٌ على ما قبله سُئلوا أولاً عن إشراكِهم وثانياً عن جوابِهم للرُّسلِ الذين نَهَوهم عن ذلك { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الانباء يَوْمَئِذٍ } أي صارتْ كالعَمَى عنهم لا تهتدي إليهم وأصله فعَمُوا عن الأنباءِ وقد عكس للمبالغةِ والتنبيهِ على أنَّ ما يحضر الذهن يفيضُ عليه ويصل إليه من خارجٍ فإذا أخطأ لم يكُن له حيلةٌ إلى استحضارِه . وتعديةُ الفعلِ بعلى لتضمنه معنى الخفاءِ والاشتباهِ ، والمرادُ بالأنباءِ إمَّا ما طلب منهم ممَّا أجابُوا به الرُّسلَ أو جميعُ الأنباءِ وهي داخلةٌ فيه دخولاً أولياً وإذا كانتِ الرُّسل عليهم الصَّلاة والسَّلام يفوِّضون العلمَ في ذلك المقامِ الهائلِ إلى علاَّم الغُيوب مع نزاهتِهم عن غائلةِ المسؤول فما ظنُّك بأولئكَ الضُّلاَّل من الأممِ { فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ } لا يسألُ بعضُهم بعضاً عن الجوابِ لفرطِ الدَّهشة أو العلمِ بأنَّ الكلَّ سواءٌ في الجهل { فَأَمَّا مَن تَابَ } من الشركِ { وَامَنَ وَعَمِلَ صالحا } أي جمعَ بين الإيمانِ والعملِ الصَّالح { فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين } أي الفائزينَ بالمطلوبِ عنده تعالى النَّاجينَ عن المهروبِ ، وعسى للتَّحقيقِ على عادةِ الكرامِ أو للترجِّي من قبلِ التَّائبِ بمعنى فليتوقعِ الإفلاحَ .
{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء } أنْ يخلقَه { وَيَخْتَارُ } ما يشاءُ اختيارَه من غيرِ إيجابٍ عليه ولا منعٍ له أصلاً { مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة } أي التَّخيُّرُ كالطِّيرةِ بمعنى التَّطيرِ ، والمرادُ نفيُ الاختيارِ المؤثرِ عنهم وذلك ممَّا لا ريبَ فيه . وقيل : المرادُ أنَّه ليس لأحدٍ من خلقِه أنْ يختارَ عليه ولذلك خَلا عن العاطفِ ويؤيدُه ما رُوي أنَّه نزل في قولِ الوليدِ بنِ المُغيرةِ { لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ } والمعنى لا يبعثُ الله تعالى الرُّسلَ باختيارِ المرسَلِ إليهم وقيل : معناه ويختار الذي كان لهم فيه الخيرُ والصَّلاحُ { سبحان الله } أي تنزَّه بذاتِه تنزُّهاً خاصّاً به من أنْ ينازعَه أحدٌ أو يزاحم اختيارَه اختيارٌ { وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } عن إشراكِهم أو عن مشاركةِ ما يشركونَه به .(5/241)
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
{ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ } كعداوة رسولِ للها صلى الله عليه وسلم وحقدِه { وَمَا يُعْلِنُونَ } كالطَّعنِ فيه { وَهُوَ الله } أي المستحقُّ للعبادة { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } لا أحدَ يستحقُّها إلا هو { لَهُ الحمد فِى الاولى والاخرة } لأنَّه المولى للنِّعم كلِّها عاجلِها وآجلِها على الخلق كافةً يحمَده المؤمنون في الآخرةِ كما حمِدُوه في الدُّنيا بقولِهم : الحمدُ لله الذي أذهبَ عنَّا الحزنَ الحمدُ لله الذي صدقنا وعدَه ابتهاجاً بفضلِه والتذاذاً بحمدِه { وَلَهُ الحكم } أي القضاءُ النَّافذُ في كلِّ شيءٍ من غيرِ مشاركةٍ فيه لغيرِه { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } بالبعثِ لا إلى غيرِه .
{ قُلْ } تقريراً لما ذُكر { أَرَءيْتُمْ } أي أخبرونِي { إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً } دائماً من السَّرد وهو المتابعةُ والاطِّرادِ والميمُ مزيدةٌ كما في دلامص من الدِّلاص يقال : درع دلاصٌ أي ملساءُ لينةٌ { إلى يَوْمِ القيامة } بإسكانِ الشَّمس تحت الأرضِ أو تحريكها حول الأُفقِ الغائر { مَّنْ إله غَيْرُ الله } صفةٌ لإله { يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء } صفةٌ أخرى لها عليها يدورُ أمرُ التبكيتِ والإلزامِ كما في قوله تعالى : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض } وقوله تعالى : { فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ } ونظائرِهما خلا أنَّه قُصدَ بيانُ انتفاءِ الموصوفِ بانتفاءِ الصِّفة ولم يُقَل : هل إله الخ لإيرادِ التَّبكيت والإلزامِ على زعمِهم . وقُرىء بضئاءٍ بهمزتينِ { أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } هذا الكلامَ الحقَّ سماعَ تدبُّرٍ واستبصارٍ حتَّى تُذعنوا له وتعملوا بموجبِه . { قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة } بإسكانِها في وسطِ السَّماء أو بتحريكِها على مدارٍ فوقَ الأُفق { مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ } استراحةً من متاعبِ الأشغالِ ، ولعلَّ تجريدَ الضَّياءِ عن ذكرِ منافعِه لكونِه مقصوداً بذاتِه ظاهرَ الاستتباعِ لِما نيطَ به من المنافعِ { أَفلاَ تُبْصِرُونَ } هذه المنفعةَ الظَّاهرةَ التي لا تَخْفى على مَن له بصرٌ .
{ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } أي في الليلِ { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } في النَّهارِ بأنواعِ المكاسبِ { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ولكي تشكرُوا نعمتَه تعالى فعلَ ما فعلَ أو لكي تعرفُوا نعمتَه تعالى وتشكروه عليها .(5/242)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ } منصوبٌ باذكُر { فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } تقريعٌ إثرَ تقريعٍ للإشعارِ بأنَّه لا شيء أجلبُ لغضبِ الله عزَّ وجلَّ من الإشراكِ كما لا شيءَ أدخلُ في مرضاتِه من توحيدِه سبحانَه . وقولُه تعالى : { وَنَزَعْنَا } عطفٌ على يُناديهم . وصيغةُ الماضي للدِّلالةِ على التَّحققِ أو حالٌ من فاعله بإضمارِ قد . والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بشأنِ النَّزعِ وتهويلِه أي أخرجنَا { مِن كُلّ أمَّةٍ } من الأممِ { شَهِيداً } نبياً يشهدُ عليهم بما كانُوا عليه كقولِه تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } { فَقُلْنَا } لكلِّ أمَّةٍ من تلك الأُمم { هَاتُواْ برهانكم } على صحَّة ما كنتُم تدينون به { فَعَلِمُواْ } يومئذٍ { أَنَّ الحق لِلَّهِ } في الإلهية لا يشاركه فيها أحدٌ { وَضَلَّ عَنْهُم } أي غابَ عنهم غيبةَ الضَّائعِ { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } في الدُّنيا من الباطلِ .
{ إِنَّ قارون كَانَ مِن قَوْمِ موسى } كان ابنَ عمِّه يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب عليه السَّلام وموسى عليه السَّلام ابن عمران بن قاهث وقيل : كان موسى عليه السلام ابنَ أخيهِ وكان يسمَّى المنوَّر لحسنِ صورتِه وقيل : كان أقرأَ بني إسرائيلَ للتَّوراة ولكنَّه نافق كما نافقَ السَّامريُّ وقال : إذا كانت النُّبوة لموسى والمذبحُ والقربانُ لهارونَ فما لي . ورُوي أنَّه لما جاوز بهم مُوسى عليه السَّلام البحرَ وصارتِ الرِّسالةُ والحُبورةُ والقُربان لهارونَ وجد قارونُ في نفسِه وحسدَهُما فقال لموسى : الأمرُ لكما ولستُ على شيءٍ إلى متى أصبرُ؟ قال موسى عليه السَّلام : هذا صُنعُ الله تعالى . قال : لا أُصدِّقك حتَّى تأتيَ بآيةٍ ، فأمر رؤساءَ بني إسرائيلَ أنْ يجيءَ كلُّ واحدٍ بعصاةٍ فحزمها وألقاها في القبَّة التي كان الوحيُ ينزلُ إليه فيها فكانوا يحرسون عصيَّهم بالليل فأصبحُوا فإذا بعصا هارونَ تهتزُّ ولها ورقٌ أخضرُ فقال قارون : ما هو بأعجبَ ممَّا تصنعُ من السِّحرِ وذلك قولُه تعالى : { فبغى عَلَيْهِمْ } فطلبَ الفضلَ عليهم وأنْ يكونُوا تحتَ أمرِه أو ظلمَهم ، قيل : وذلكَ حينَ ملَّكه فرعونُ على بني إسرائيلَ وقيل : حسدَهم وذلك ما ذُكر منه في حقِّ موسى وهارونَ عليهما السَّلامُ { وآتيناه من الكنوز } أي الأموالِ المُدَّخرةِ { مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ } أي مفاتحَ صناديقِه وهو جمعُ مِفتح بالكسر وهو ما يُفتح به وقيل : خزانته وقياسُ واحدِها المَفتح بالفتحِ { لتنوء بالعصبة أولى القوة } خبر إن والجملةُ صلةُ ما وهُو ثاني مفعُولَيْ آتَى . وناءَ به الحملُ إذا أثقلَه حتَّى أمالَه والعُصبة والعُصابةُ الجماعةُ الكثيرةُ . وقُرىء لينوءُ بالياءِ على إعطاءِ المضافِ حكمَ المضافِ إليهِ كما مرَّ في قولِه تعالى : { إن رحمة الله قريب من المحسنين } { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ } منصوبٌ بتنوءُ وقيل : ببغى ورُدَّ بأنَّ البغيَ ليس مقيَّداً بذلك الوقتِ وقيل : بآتيناهُ ورُدَّ بأنَّ الإيتاءَ أيضاً غيرُ مقيَّدٍ به وقيل : بمضمرٍ فقيل : هو اذكُر وقيل : هو أظهرَ الفرحَ ويجوزُ أنْ يكونَ منصُوباً بما بعدَهُ من قولِه تعالى : { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ } وتكون الجملةُ مقررةً لبغيه { لاَ تَفْرَحْ } أي لا تبطرْ والفرحُ في الدُّنيا مذمومٌ مُطلقاً لأنَّه نتيجةُ حبِّها والرِّضا بها والذهولِ عن ذهابِها فإنَّ العلمَ بأن ما فيها من اللذةِ مفارقةٌ لا محالةَ يوجبُ التَّرحَ حتماً ولذلكَ قالَ تعالى : { وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتاكم } وعُلِّل النهيُ هاهنا بكونِه مانعاً من محبَّتِه عزَّ وعلاَ فقيلَ : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين } أي بزخارفِ الدُّنيا .(5/243)
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
{ وابتغ } وقُرىء واتَّبع { فِيمَا ءاتَاكَ الله } من الغِنى { الدار الاخرة } أي ثوابَ الله تعالى فيها يصرفه إلى ما يكونُ وسيلةً إليه { وَلاَ تَنسَ } أي لا تتركْ تركَ المنسيِّ { نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا } وهو أنْ تحصلَ بها آخرتك وتأخذَ منها ما يكفيك { وَأَحْسَنُ } أي إلى عبادِ الله تعالى { كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ } فيما أنعمَ به عليك وقيل : أحسنْ بالشكرِ والطَّاعةِ كما أحسنَ الله إليكَ بالإنعامِ { وَلاَ تَبْغِ الفساد فِى الارض } نهيٌ عمَّا كان عليه من الظُّلمِ والبغيِ { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين } لسوء أفعالِهم { قَالَ } مُجيباً لناصحيهِ { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عِندِى } كأنَّه يريدُ به الردَّ على قولِهم : كما أحسنَ الله إليك لإنبائِه عن أنَّه تعالى أنعم عليه بتلكَ الأموالِ والذخائرِ من غير سببٍ واستحقاقٍ مِن قِبَلِه أي فُضلت به على النَّاسِ واستوجبتَ به التفوقَ عليهم بالمالِ والجاهِ ، وعلى علمٍ في موقعِ الحالِ وهو علمُ التَّوراةِ وكانَ أعلمَهم بها وقيل : علمُ الكيمياءِ وقيل : علم النجارة والدَّهقنةِ وسائرِ المكاسبِ وقيل : علمُ الكنوزِ والدَّفائنِ ، وعندي صفةٌ له أو متعلقٌ بأوتيتُه كقولِك : جازَ هذا عندي أو في ظنِّي ورأيي { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً } توبيخٌ له من جهةِ الله تعالى على اغترارِه بقوَّتِه وكثرةِ مالِه مع علمِه بذلك قراءةً في التَّوراةِ وتلقياً مِن موسى عليه السَّلام وسماعاً من حُفَّاظِ التَّواريخِ وتعجبٌ منه ، فالمعنى ألمْ يقرأِ التَّوراةَ ولم يعلمْ ما فعلَ الله تعالى بأضرابِه من أهلِ القُرونِ السَّابقةِ حتَّى لا يغترَّ بما اغترُّوا به ، أو ردٌّ لادِّعائِه العلمَ وتعظمه به بنفيِ هذا العلمِ منه فالمعنى أعَلِم ما ادَّعاه ولم يعلم هذا حتى يقيَ به نفسَه مصارعَ الهالكينَ { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون } سؤالُ استعلامٍ بل يُعذَّبون بها بغتةً كأنَّ قارونَ لما هُدِّد بذكرِ إهلاكِ من قبله ممَّن كان أقوى منه وأغنى أكَّد ذلك بأنْ بيَّن أنَّ ذلك لم يكن مما يخصُّ أولئك المُهلَكين ، بل الله تعالى مطلعٌ على ذنوبِ كافَّة المجرمين يعاقبهم عليها لا محالةَ .(5/244)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)
{ فَخَرَجَ على قَوْمِهِ } عطفٌ على قال وما بينهما اعتراضٌ . وقولُه تعالى : { فِى زِينَتِهِ } إمَّا متعلقٌ بخرجَ أو بمحذوفٍ هو حالٌ من فاعلِه أي فخرجَ عليه كائناً في زينتِه . قيل خرجَ على بغلةٍ شهباء عليه الأرُجوانُ وعليها سرجٌ من ذهبٍ ومعه أربعةُ آلافٍ على زيِّه . وقيلَ : عليهم وعلى خيولِهم الدِّيباجُ الأحمرُ وعن يمينهِ ثلاثمائةُ غلامً وعن يسارِه ثلاثمائةُ جاريةٍ بيضٍ عليهنَّ الحليُّ والدِّيباجُ وقيل : في تسعينَ ألفاً عليهن المُعصفراتُ وهو أولُ يومٍ رُئيَ فيه المُعصفرُ . { قَالَ الذين يُرِيدُونَ الحياة الدنيا } من المؤمنين جرياً على سَنَنِ الجبلَّةِ البشريةِ من الرغبةِ في السَّعةِ واليسارِ . { ياليت لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قارون } وعن قَتَادةَ أنَّهم تمنَّوه ليتقربُوا به إلى الله تعالى وينفقُوه في سُبُلِ الخيرِ وقيل : كان المتمنَّون قوماً كفَّاراً { إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ } تعليلٌ لتمنيَّهم وتأكيدٌ له . { وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم } أي بأحوالِ الدُّنيا والآخرةِ كَما ينبغي وإنَّما لم يُوصفوا بإرادةِ ثوابِ الآخرةِ تنبيهاً على أنَّ العلَمِ بأحوال النَّشأتينِ يقتضِي الإعراضَ عنِ الأُولى والإقبالَ على الثَّانيةِ حتماً وأنَّ تمنِّي المتمنين ليس إلا لعدمِ علمِهم بهما كما ينبغِي { وَيْلَكُمْ } دعاءٌ بالهلاكِ شاعَ استعمالُه في الزَّجرِ عمَّا لا يُرتضَى { ثَوَابُ الله } في الآخرةِ { خَيْرٌ } ممَّا تتمنَّونه { لّمَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صالحا } فلا يليقُ بكم أنْ تتمنَّوه غيرَ مكتفين بثوابِه تعالى { وَلاَ يُلَقَّاهَا } أي هذه الكلمةَ التي تكلَّم بها العلماءُ أو الثَّوابَ فإنَّه بمعنى المثْوبةِ أو الجنَّةِ أو الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ ، فإنَّهما في معنى السِّيرةِ والطَّريقةِ { إِلاَّ الصابرون } أي على الطَّاعاتِ وعن الشَّهواتِ .
{ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الارض } رُوي أنَّه كان يُؤذي مُوسى عليه السَّلام كلَّ وقتٍ وهو يداريهِ لقرابتِه حتَّى نزلتِ الزَّكاةُ فصالحَه عن كلِّ ألفٍ على واحدٍ فحسبه فاسكتثرَه فعَمدَ إلى أنْ يفضحَ موسى عليه السَّلام بين بني إسرائيلَ فجعل لبغيَ من بَغَايا بني إسرائيلَ ألفَ دينارٍ وقيل : طَشتاً من ذهبٍ مملوءةٍ ذهباً فلما كان يومُ عيدٍ قام مُوسى عليه السَّلام خطيباً فقال من سرق قطعناهُ ومن زنَى غيرَ محصنٍ جلدناهُ ومن زنَى محصناً رجمناهُ فقال قارونُ ولو كنتَ قال ولو كنتُ قال إنَّ بني إسرائيلَ يزعمُون أنَّك فجرت بفلانةٍ فأحضرت فناشدها عليه السَّلام أنُ تصدقَ فقالت : جعل لي قارونُ جُعْلاً على أنْ أرميك بنفسي فخرَّ مُوسى ساجداً لربِّه يبكي ويقول يا ربُّ إنْ كنتُ رسولَك فاغضبْ لي فأُوحي إليه أنْ مرِ الأرضَ بما شئت فإنَّها مطيعةٌ لك فقال يا بني إسرائيلَ إنَّ الله بعثني إلى قارونَ كما بعثني إلى فرعونَ فمن كان معه فليلزم مكانَه ومن كان معي فليعتزلْ عنه فاعتزلُوا جميعاً غيرَ رجلينِ ثم قال يا أرضُ خُذيهم فأخذتهُم إلى الرُّكبِ ثم قال خُذيهم فأخذتُهم إلى الأوساطِ ثم قال خُذيهم فأخذتْهُم إلى الأعناقِ وهم يُناشدونَهُ عليه الصَّلاة والسَّلام بالله تعالى وبالرَّحِم وهو لا يلتفتُ إليهم لشدَّةِ غيظِه ثم قال خُذيهم فانطبقتْ عليهم فأصبحتْ بنُو إسرائيلَ يتناجَون فيما بينهم إنَّما دعا عليه موسى عليه الصَّلاة والسَّلام ليستبدَّ بدارِه وكنوزِه فدعا الله تعالى حتى خُسفَ بدارِه وأموالِه { فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ } جماعةٍ مشفقةٍ { يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله } بدفع العذابَ عنه { وَمَا كَانَ مِنَ المنتصرين } أي الممتنعين منه بوجهٍ من الوجوهِ يقال نصره من عدِّوه فانتصَر أي منعه فامنتَع .(5/245)
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
{ وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ } منزلتَه { بالأمس } منذ زمانٍ قريبٍ { يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ } أي يفعلُ كلَّ واحدٍ من البسطِ والقدرِ بمحضِ مشيئتهِ لا لكرامةٍ تُوجب البسطَ ولا لهوانٍ يقتضِي القبضَ . ويكأنّ عند البصريينَ مركبٌ من وَيْ للتَّعجبِ وكأنَّ للتشبيهِ والمعنى ما أشبَه الأمرَ أنَّ الله يبسط الخ . وعند الكوفيينَ من وَيْكَ بمعنى ويلك وأنَّ وتقديرُه وَيكَ أعلَم أنَّ الله وإنَّما يستعملُ عند التنبهِ على الخطأِ والتندُّم والمعنى أنَّهم قد تنبَّهوا على خطئِهم من تمنِّيهم وتندَّموا على ذلك { لَوْلا أَن مَّنَّ الله عَلَيْنَا } بعدم إعطائِه إيانَّا ما تمنيناهُ وإعطائنا مثلَ ما أعطاه إيَّاه . وقُرىء لولا مَنَّ الله علينا { لَخَسَفَ بِنَا } كما خسفَ بهِ . وقُرىء لخُسِف بنا على النباءِ للمفعولِ وبنا هو القائمُ مقامَ الفاعلِ . وقُرىء لا تْخسفَ بنا كقولِك أنقطعَ بهِ ، وقرُىء لتُخْسف بنا { وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون } لنعمةِ الله تعالى أو المكذَّبون برسلِه وبما وعدُوا من ثوابِ الآخرةِ .
{ تِلْكَ الدار الاخرة } إشارةُ تعظيمٍ وتفخيمٍ كأنَّه قيل تلك التي سمعتَ خبَرها وبلغَك وصفُها { نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الارض } أي غلبةً وتسلطاً { وَلاَ فَسَاداً } أي ظُلماً وعدُواناً على العبادِ كدأبِ فرعونَ وقارونَ وفي تعليق الموعد بترك إرادتهما لا بتركِ أنفسهما مزيدُ تحذير منهما . وعن عليَ رضي الله عنه أنَّ الرَّجلَ ليعجبه أنْ يكونَ شِراكُ نعلِه أجودَ من شراكَ نعلِ صاحبِه فيدخلُ تحتَها { والعاقبة } الحميدة { لّلْمُتَّقِينَ } أي الذين يتَّقون ما لا يرضاهُ الله من الأفعالِ والأقوالِ { مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ } بمقابلتِها { خَيْرٌ مّنْهَا } ذاتاً ووصفاً وقدراً { وَمَن جَاء بالسيئة فَلاَ يُجْزَى الذين عَلِمُواْ السيئات } وُضع فيه الموصولُ والظَّاهرُ موضعَ الضَّميرِ لتهجينِ حالِهم بتكريرِ إسنادِ السَّيئةِ إليهم { إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي إلا مثل ما كانُوا يعملون فحُذفَ المثلُ وأُقيم مقامَه ما كانُوا يعملون مبالغةً في المُماثلةِ .(5/246)
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
{ إِنَّ الذى فَرَضَ عَلَيْكَ القرءان } أوجبَ عليك تلاوتَه وتبليغَه والعملَ به { لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ } أي معادٍ تمتدُّ إليه أعناقُ الهممِ وترنُو إليه أحداقُ الأممِ وهو المقامُ المحمودُ الذي وعدك أنْ يبعثك فيه ، وقيل هو مكَّةُ المعظَّمةُ على أنَّه تعالى قد وعدَه وهو بمكَّةَ في أذيَّةِ وشدَّة من أهلها أنَّه يُهاجرُ به منها ثم يعيدُه إليها بعزَ ظاهرٍ وسلطانٍ قاهرٍ ، وقيل : نزلتْ عليه حينَ بلغ الجُحْفةَ في مهاجرهِ وقد اشتاق إلى مولده ، ومولدِ آبائِه وحرمِ إبراهيمَ عليه السَّلام فنزلَ جبريلُ عليه السَّلامُ فقال له أتشتاقُ إلى مكَّةَ قال نعمَ فأَوحاها إليهِ { قُل رَّبّى أَعْلَمُ مَن جَاء بالهدى } وما يستحقُّه من الثَّوابِ والنَّصرِ . ومَن منتصبٌ بفعلٍ يدلُّ عليهِ أعلمُ أي يعلُم وقيل : بأعلُم على أنَّه بمعنى عالمٍ . { وَمَنْ هُوَ فِى ضلال مُّبِينٍ } وما استحقَّه من العذابِ والإذلالِ يعني بذلك نفسَه والمشركينَ وهو تقريرٌ للوعيدِ السَّابقِ وكذا قولُه تعالى : { وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب } أي سيردُّك إلى معادِك كما ألقى ألبيك الكتابَ وما كنتَ ترجُوه { إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } ولكن ألقاه إليك رحمةً منه ويجوزُ أنْ يكون استثناءً محمُولاً على المعنى كأنَّه قيل : وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمةً أي لأجلِ التَّرحُّمِ { فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين } بمدارتِهم والتحملِ عنهم والإجابةِ إلى طلبتِهم { وَلاَ يَصُدُّنَّكَ } أي الكافرون { عَنْ ءايات الله } أي عن قراءتِها والعملِ بها { بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ } وفُرضت عليكَ وقُرىء يُصِدُّنك من أَصَدَ المنقُولِ من صَدَّ اللازمِ { وادع } النَّاسَ { إلى رَبّكَ } إلى عبادتِه وتوحيدِه { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } بمساعدتِهم في الأمورِ { وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءاخَرَ } هذا وما قبلَهُ للتَّهييجِ والألهابِ وقطعِ أطماعِ المُشركينَ عن مساعدتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لهم وإظهارِ أنَّ المنهيَّ عنه في القُبحِ والشريَّةِ بحيثُ يُنهى عنْهُ من لا يمكن صدورُه عنه أصلاً { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } وحدَهُ { كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } إلا ذاتَه فإنَّ ما عداهُ كائناً ما كان ممكنٌ في حدِّ ذاتِه عرضةٌ للهلاكِ والعدمِ { لَهُ الحكم } أي القضاءُ النافذُ في الخلقِ { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } عندَ البعثِ للجزاءِ بالحقِّ والعدلِ .
عن النبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام : « مَنْ قرأَ طسم القصصَ كانَ له من الأجرِ بعددِ مَن صدَّق مُوسى وكذَّب ولم يبقَ مَلَكٌ في السَّمواتِ والأرضِ إلا شهدَ له يومَ القيامةِ أنَّه كانَ صادقاً »(5/247)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)
( سورة العنكبوت )
{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم } { الم } الكلامُ فيه كالذي مرَّ مراراً في نظائرِه من الفواتحِ الكريمةِ خلا أنَّ ما بعده لا يحتملُ أنُ يتعلَّق به تعلُّقاً إعرابياً { أَحَسِبَ الناس } الحسبانُ ونظائره لا يتعلَّق بمعاني المُفرداتِ بل بمضامينِ الجملِ المفيدةِ لثبوت شيءٍ أو انتفاءِ شيءٍ عن شيءٍ بحيثُ يتحصّلُ منها مفعولاه إمَّا بالفعلِ كما في عامَّة المواقع وإما بنوع تصرُّفٍ فيها كما في الجُملِ المصدَّرةِ بأن الواقعةِ صلةً للموصولِ الاسميِّ أو الحرفيِّ فإنَّ كلاًّ منها صالحةٌ لأنْ يُسبكَ منها مفعولاه لأنَّ قولَه تعالى أحِسب الناسُ { أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُون } في قوَّةِ أنْ يقالَ أحسبُوا أنفسَهم متروكين بلا فتنةٍ بمجرَّدِ أنْ يقولوا آمنَّا أو أنْ يقالَ أحسبوا تركَهم غيرَ مفتونينَ بقولِهم آمنَّا حاصلاً متحقِّقاً ، والمَعْنى إنكارُ الحُسبانِ المذكور واستبعادُه وتحقيقُ أنَّه تعالى يمتحنُهم بمشاقِّ التَّكاليفِ كالمهاجرةِ والمجاهدة ورفضِ ما تشتهيةِ النَّفسُ ، ووظائفِ الطَّاعاتِ وفنونِ المصائبِ في الأنفسِ والأموالِ ليتميَّز المخلصُ من المنافقِ والرَّاسخُ في الدِّينِ من المتزلزلِ فيه ويجازيَهم بحسبِ مراتبِ أعمالِهم فإنَّ مجرَّدَ الإيمانِ وإنْ كانَ عن خُلوصٍ لا يقتضِي غيرَ الخلاصِ من الخُلودِ في النَّارِ . رُوي أنَّها نزلتْ في ناسٍ من الصَّحابةِ رضوانُ الله تعالى عليهم أجمعينَ جزعُوا من أذيَّةِ المشركينَ ، وقيل : في عمَّارٍ قد عُذِّب في الله ، وقيل : في مهجعٍ مَولى عمرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنهُما رماهُ عامرُ بنُ الحضرميِّ بسهم يومَ بدرٍ فقتلَه فجزعَ عليه أبُوه وامرأتُه وهو أولُ منِ استُشهدَ يومئذٍ من المسلمينَ فقال رسولُ صلى الله عليه وسلم : سيِّدُ الشُّهداءِ مهجعٌ وهو أولُ من يُدعى إلى بابِ الجنَّةِ من هذه الأمَّةِ .
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ } متَّصلٌ بقوله تعالى { أحسِب } أو بقولِه تعالى { لا يُفتنون } والمعنى أنَّ ذلك سنَّة قديمةٌ مبنية على الحكمِ البالغةِ جاريةٌ فيما بين الأممِ كلَّها فلا ينبغي أنْ يُتوقَّع خلافُها والمعنى أنّ الأممَ الماضيةَ قد أصابَهم من ضروبِ الفتنِ والمحنِ ما هو أشدُّ ممَّا أصاب هؤلاءِ فصبروا كما يُعرِبُ عنه قولُه تعالى : { وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا } الآياتِ وعن النبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام : « قد كان منَ قبلكم يُؤخذ فيوضع المنشارُ على رأسه فيُقرق فرقتينِ ما يصرفُه ذلك عن دينِه ويمشَّط بأمشاطِ الحديدِ ما دون عظمِه من لحمٍ وعصبٍ ما يصرفه ذلكَ عن دينه » { فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ } أي في قولِهم آمنا { وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين } في ذلك . لترتيبِ ما بعدها على ما يُفصح عنه ما قبلَها من وقوع الامتحانِ ، واللامُ جوابُ القَسَمِ ، والالتفاتُ إلى الإسمِ الجليلِ لإدخال الرَّوعةِ وتربية المهابة . وتكريرُ الجواب لزيادة التَّأكيدِ والتقرير ، أي فوالله ليتعلقن علمُه بالامتحان تعلُّقاً حالياً يتميزُ به الذين صدقُوا في الإيمان الذي أظهروه والذين هم كاذبونَ فيه مستمرَون على الكذب ويترتبُ عليه أجزيتُهم من الثَّواب والعقابِ ، ولذلك قيل : المعنى ليميزن أو ليجازين . وقُرىء وليُعلمنَّ من الإعلامِ أي وليعرِّفنَّهم النَّاسَ أو ليسمنّهم بسِمة يُعرفون بها يومَ القيامة كبياضِ الوجوه وسوادِها .(5/248)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)
{ أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات أَن يَسْبِقُونَا } أي يفوتُونا فلا نقدرَ على مجازاتِهم بمساوىء أعمالِهم وهو سادٌّ مسدَّ مفعولَيْ حسِب لاشتمالِه على مُسندٍ ومُسندٍ إليهِ . وأمْ منقطعةٌ وما فيها من مَعنى بل للإضرابِ والانتقالِ عن التَّوبيخ بإنكارِ حُسبانِهم متروكينَ غبرَ مفتُونين إلى التَّوبيخ بإنكارِ ما هو أبطلُ من الحُسبانِ الأل وهو حسبانُهم أنْ لا يجازُوا بسيئاتهم وهم وإنْ لم يحسبوا أنَّهم يفوتونَهُ تعالى ولم يحدِّثوا نفوسَهم بذلك كلنَّهم حيثُ أصرُّوا على المعاصي ولم يتفكَّروا في العاقبةِ نزلُوا منزلَه مَن طمِع في ذلك كما في قولِه تعالى : { يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ } { سَاء مَا يَحْكُمُونَ } أي بئسَ الذي يحكمونَهُ حكمُهم ذلك أو بئس حُكماٍ يحكونَه حكمُهم ذلك .
{ مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء الله } أي يتوقَّعُ مُلاقاةَ جزائِه ئواباً أو عِقاباً أو مُلاقاةُ حُكمِه يومَ القيامةِ وقيل : يرجُو لقاء الله عزَّ وجلَّ في الجنَّة وقيل : يرجُو ثوابَه وقيل : يخافُ عقابَه وقيل : لقاؤه تعالى عبارةٌ عن الوصول إلى العاقبةِ من تلقِّي مَلَكِ الموتِ والبعثِ والحسابِ والجزاءِ على تمثيلِ تلك الحالِ بحالِ عبدٍ قدِم على سيِّده بعد عهدٍ طويلٍ ، وقد عَلِم مولاهُ بجميعِ ما كان يأتِي ويذرُ فإمَّا أنْ يلقاه ببشرٍ وكرامةٍ لمَا رضي من أفعالِه أو بضدِّه لما سخَطَه { فَإِنَّ أَجَلَ الله } الأجل عبارةٌ عن غايةِ زمانٍ متمدَ عينت لأمرٍ من الأمورِ وقد يُطلق على كلِّ ذلكَ الزَّمانَ والأولُ هو الأشهرُ في الاستعمالِ أي فإنَّ الوقتَ الذي عيَّنه تعالى لذلكَ { لأَتٍ } لا محالةَ من غيرِ صارفٍ يلويهِ ولا عاطفٍ يثنيه لأنَّ أجزاءَ الزَّمانِ على التقضِّي والتَّصرُّم دائماً فلا بدَّ من إتيان ذلك الجزاءِ أيضاً البتةَ ، وإتيانُ وقتِه موجبٌ لإتيانِ اللِّقاءِ حتماً والجوابُ محذوفٌ أي فليخترْ من الأعمالِ ما يؤدي إلى حُسنِ الثَّوابِ وليحذرْ ما يسوقُه إلى سوءِ العذابِ كما في قوله تعالى : { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالحا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا } وفيه من الوعدِ والوعيدِ ما لا يَخْفى ، وقيل : فليبادرْ ما يحقق أملَه ويصدِّق رجاءَهُ أو ما يُوجبُ القُربةَ والزُّلفى { وَهُوَ السميع } لأقوالِ العبادِ { العليم } بأحوالِهم من الأعمالِ الظَّاهرةِ والعقائدِ . { وَمَن جَاهَدَ } في طاعةِ الله عزَّ وجلَّ { فَإِنَّمَا يجاهد لِنَفْسِهِ } لعود منفعتِها إليها { إِنَّ الله لَغَنِىٌّ عَنِ العالمين } فلا حاجةٍ له إلى طاعتِهم وإنَّما أمرهم بها تعريضاً لهم للثَّوابِ بموجب رحمتِه .(5/249)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
{ والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ } الكفرَ بالإيمانِ والمعاصيَ بما يتبعُها من الطَّاعاتِ { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي أحسنَ جزاءِ أعمالِهم لا جزاءَ أحسنِ أعمالِهم فقط .
{ وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } أي بإتياء والديهِ وإيلائهما فعلاً ذا حُسنٍ أو ما هو في حدِّ ذاته حسنٌ لفرطِ حُسنِه كقولِه تعالى : { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا } ووصَّى يجري مجرى أمرَ معنى وتصرُّفاً غيرَ أنَّه يُستعمل فيما كان في المأمورِ به نفعٌ عائدٌ إلى المأمورِ أو غيرِه . وقيل هُو بمعنى قال فالمعنى وقلنا أحسِنْ بوالديك حُسنا . وقيل : انتصابُ حُسنا بمضمرٍ على تقدير قولٍ مفسِّرٍ للتَّوصيةِ أي وقُلنا أوْلِهما أو افعلْ بهما حُسنا وهو أوفق لما بعدَه وعليه يحسنُ الوقفُ على بوالديهِ وقرىء حسناً وإحساناً . { وَإِن جاهداك لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أي بالهيئةِ عبَّر عن نفيها بنفيِ العلمِ بها للإيذان بأنَّ ما لا يعلم صحته لا يجوزُ اتِّباعُه وإنْ لم يُعلم بطلانُه فكيف بما عُلم بطلانُه { فَلاَ تُطِعْهُمَا } في ذلك فإنَّه لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالقِ ولا بُدَّ من إضمارِ القولِ إن لم يُضمر فيما قبل . وفي تعليقِ النَّهي عن طاعتِهما بمجاهدتِهما في التَّكليف إشعارٌ بأنَّ موجبَ النَّهي فيما دونها من التَّكليفِ ثابت بطريقِ الأولويَّةِ . { إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } أي مرجعُ مَن آمن منكُم ومَن أشركَ ومن برَّ بوالديِه ومن عقَّ { فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } بأنْ أجازيَ كلاَّ منكم بعملِه إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شرَّا فشرٌّ . والآيةُ نزلتْ في سعدٍ بن أبي وقَّاص رضي الله تعالى عنه عند إسلامِه حيثُ حلفت أمُّه حمنهُ بنتُ أبي سفيانَ بنِ أُميَّة أن لا تنتقلَ من الضحِّ إلى الظلِّ ولا تَطعمُ ولا تشربُ حتَّى يرتدَّ فلبثتْ ثلاثةَ أيامٍ كذلك ، وكذا التي في سُورة لقمانَ وسورةِ الأحقافِ . وقيل : نزلتْ في عيَّاش بن أبي ربيعة المخزُومي وذلك أنه هاجر مع عمرَ بن الخطَّاب رضي الله عنه حتَّى نزلا المدينةَ فخرجَ أبوُ جهلٍ والحارث أخواه لأمِّه أسماء فنزلا بعيَّاش وقالا له إن من دين محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم صلةَ الأرحامِ وبرَّ الوالدينِ وقد تركتَ أمَّك لا تطعمُ ولا تشربُ ولا تأوي بيتاً حتَّى تراك فاخرجْ معنا وفتلا منه في الذِّروة والغاربِ واستشار عمرَ رضي الله عنه فقال هُما يخدعانِك ولك على أنْ أقسمَ مالي بيني وبينك فما زالا به حتَّى أطاعهما وعصى عمرَ رضي الله عنه فقال عمرُ رضي الله عنه : أمَّا إذا عصيتني فخُذْ ناقتي فليس في الدُّنيا بعيرٌ بلحقها فإنْ رابك منهما ريبٌ فارجع فلمَّا انتهَوا إلى البيداءِ قال أبوُ جهل إنُّ ناقتي كلَّت فاحملني معك فنزل ليوطىءَ لنفسِه وله فأخذاه فشدَّاه وثاقاً وجلده كلُّ واحدٍ مائةَ جلدةٍ وذهبا به إلى أمِّه فقالت لا تزالُ في عذاب حتَّى ترجعَ عن دينِ محمَّدٍ .
{ والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصالحين } أي في زُمرةِ الرَّاسخينَ في الصَّلاحَ . والكمالُ في الصَّلاحِ مِنتهى درجاتِ المؤمنينَ وغايةُ مأمولِ أنبياءِ الله المُرسلين . قال الله تعالى حكايةً عن سُليمانَ عليه السَّلام : { وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين } وقال في حقِّ إبراهيمَ عليه السَّلام : { وَإِنَّهُ فِى الاخرة لَمِنَ الصالحين } أو في مدخلِ الصَّالحين وهو الجنَّة .(5/250)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)
{ وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ ءامَنَّا بالله فَإِذَا أُوذِىَ فِى الله } أي في شأنِه تعالى بأنْ عذَّبهم الكفرةُ على الإيمان { جَعَلَ فِتْنَةَ الناس } أي ما يصيبُه من أذيتَّهم { كَعَذَابِ الله } في الشدَّة والهولِ فيرتدَّ عن الدِّين مع أنَّه لا قدرَ لها عند نفحةٍ من عذابِ تعالى أصلاً . { وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ } أي فتحٌ وغنيمةٌ { لَّيَقُولَنَّ } بضمِّ اللامِ نظراً إلى معنى مَن كما أنَّ الإفراد فيما سبق بالنَّظرِ إلى لفظها . وقُرىء بالفتحِ { إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } أي مشايعينَ لكم في الدِّينِ فاشركونا في المغنمِ وهم ناسٌ من ضَعَفةِ المُسلمين كانُوا إذا مسَّهم أذى من الكفَّارِ وافقُوهم وكانُوا يكتمونَهُ من المسلمينَ فردَّ عليهم ذلك بقولِه تعالى : { أَوَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ العالمين } أي بأعلم منهم بما في صدورهم من الإخلاصِ والنِّفاقِ حتَّى يفعلون من الارتدادِ والاخفاءِ عن المسلمين وإدِّعاءِ كونِهم منهم لنيلِ الغنيمةِ . وهذا هو الأوفقُ لما سبقَ ولما لحقَ من قوله تعالى : { وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين ءامَنُواْ } أي بالإخلاصِ { وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين } سواء كان كفرُهم بإذية الكفرة أوْ لاَ أي ليجزينَّهم بما لهم من الإيمان والنِّفاقِ { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } بيانٌ لحملهم للمؤمنين على الكفرِ بالاستمالةِ بعد حملِهم لهم عليه بالأذيَّةِ والوعيدِ . ووصفُهم بالكفرِ هَهُنا دونَ ما سبق لما أنَّ مساقَ الكلامِ لبيان جنايتِهم وفيما سبق لبيانِ جنايةِ من أضلُّوه . واللامُ للتَّبليغِ أي قالُوا مخاطبينَ لهم { اتبعوا سَبِيلَنَا } أي اسلكُوا طريقنَا التي نسلكُها في الدِّينِ ، عبَّر عن ذلكَ بالاتباعِ الذي هو المشيُ خلفَ ماشٍ آخرَ تنزيلاً للمسلك منزلةَ السَّالكِ فيه أو اتبعونا في طريقتنا في { وَلْنَحْمِلْ خطاياكم } أي إنْ ذلك خطيئةً يُؤاخذ عليها بالبعثِ كما تقُولونَ وإنَّما أَمروا أنفسَهم بالحمل عاطفين له على أمرِهم بالأتَّباعِ للمبالغة في تعليق الحملِ بالاتِّباع والوعدِ بتخفيفِ الأوزار عنهم إن كان ثمَةَ وزرٌ فردَّ عليهم بقولِه تعالى { وَمَا هُمْ بحاملين مِنْ خطاياهم مّن شَىْء } وقُرىء من خطيآتِهم أي وما هم بحاملين شيئاً مِن خطاياهم التي التزمُوا أنْ يحملُوا كلَّها على أن مِن الأُولي للتبيين والثانية مزيدةٌ للاستغراق . والجملةُ اعتراضٌ أو حالٌ . { إِنَّهُمْ لكاذبون } حيث أخبروا في ضمنِ وعدِهم بالحمل بأنَّهم قادرون على إنحازِ ما وعدوا فإنَّ الكذبَ كما يتطَّرقُ إلى الكلامِ باعتبار منطوقِه يتطرَّقُ إليه باعتبارِ ما يلزمُ مدلوله كما مرَّ في قوله تعالى : { أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صادقين }(5/251)
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16)
{ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ } بيانٌ لما يستتبعه قولُهم ذلك في الآخرةِ من المضرة لأنفسِهم بعد بيانِ عدم منفعتِه لمخاطبيهم أصلاً ، والتَّعبيرُ عن الخطايا بالأثقالِ للإيذانِ بغابة ثقلِها وكونِها فادحةً . واللامُ جوابّ قَسَمٍ مضمرٍ ، أي وبالله ليحملنَّ أثقالَ أنفسِهم كاملةً { وَأَثْقَالاً } أُخرَ { مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } لمَّا تسببُوا بالاضلالِ ، والحملُ على الكفرِ والمَعاصي من غيرِ أنْ ينتقص من أثقالِ من أضلُّوه شيءٌ ما أصلاً { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً } سؤالَ تقريعٍ وتبكيتٍ { عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي يختلقونَه في الدُّنيا من الأكاذيبِ والأباطيلِ التي من جملتها كذبُهم هذا .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } شروعٌ في بيان افتتانِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام بأذية أممهم إثرَ بيانِ افتتانِ المؤمنين بأذيةِ الكفَّارِ تأكيداً للإنكارِ على الذين يحسبُون أنْ يُتركوا بمجرَّدِ الإيمان بلا ابتلاءٍ وحثًّا لهم على الصَّبرِ فإنَّ الأنبياءَ عليهم الصَّلاة والسَّلام حيث ابتُلوا بما أصابَهم من جهةِ أُممهم من فنونِ المكارِه وصبرُوا عليها فَلأن يصبرَ هؤلاءِ أولى وأحرى . قالُوا كان عمرُ نوحٍ عليه السَّلام ألفاً وخمسين عاماً بعث على رأس أربعين سنةٍ ودعا قومَه تسعمائة وخمسين سنة وعائ بعد الطُّوفانِ ستين سنة ، وعن وهبٍ أنَّه عاشَ ألفاً وأربعمائة سنة ولعلَّ ما عليه النَّظمُ الكريمُ للدِّلالةِ على كمال العددِ فإن تسعمائة وخمسين قد بُطلق على ما يقرُب منه . ولَما في ذكرِ الألفِ من تخييلِ طولِ المدَّةِ فإنَّ المقصودَ من القصة تسليةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتثبيته على ما كان عليه من مُكابدةِ ما يناله من الكفرةِ . وإظهارُ ركاكةِ رأي الذين يحسبونَ أنَّهم يُتركون بلا ابتلاءٍ واختلافُ المميزِ لما في التَّكريرِ من نوع بشاعةٍ . { فَأَخَذَهُمُ الطوفان } أي عقيبِ تمامِ المَّدةِ المذكورةِ . والطُّوفان يطلقُ على كلِّ ما يطوفُ بالشيء على كثرةٍ وشدَّةٍ من السَّيلِ والرَّيحِ والظَّلامِ وقد غلب على طُوفانِ الماءِ { وَهُمْ ظالمون } أي والحالُ أنَّهم مستمرُّون على الظُّلمِ لم يتأثَّروا بما سمعُوا من نوحٍ عليه السَّلام من الآياتِ ولم يَرعُووا أعماهُم عليه من الكفر والمعاصي هذه المدَّة المتماديةِ .
{ فأنجيناه } أي نوحاً عليه السَّلام { وأصحاب السفينة } أي ومَن ركب فيها معه من أولادِه وأتباعِه وكانُوا ثمانين وقيل : ثمانيةً وسبعين وقيل : عشرةً وقيل ثمانيةً نصفُهم ذكورٌ ونصفُهم إناثٌ { وجعلناها } أيِ السَّفينةَ أو الحادثةَ والقصَّةَ { آيَةً للعالمين } يتَّعظِون بها . { { وإبراهيم } نُصب بالعطفِ على نوحاً ، وقيل : بإضمارِ أذكُر . وقُرىء بالرَّفع على تقديرِ ومن المرسلينَ إبراهيمُ { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } على الأولِ ظرفٌ للإرسالِ أي أرسلناه حينَ تكامل عقلُه وقدر على النَّظرِ والاستدلال وترقى من رُتبة الكمال إلى درجة التَّكميلِ حيث تصدَّى لإرشادِ الخلقِ إلى طريق الحقِّ . وعلى الثَّاني بدلُ اشتمالٍ من إبراهيمَ { اعبدوا الله } أي وحدَه { واتقوه } أن تُشركُوا به شيئاً { ذلكم } أي ما ذُكر من العبادةِ والتَّقوى { خَيْرٌ لَّكُمْ } أي ممَّا أنتُم عليه . ومعنى التَّفضيل مع أنَّه لا خيريةَ فيه قطعاً باعتبارِ زعمِهم الباطلِ { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي الخيرَ والشرَّ وتُميزون أحدَهما من الآخرِ أو إنْ كنتُم تعلمون شيئاً من الأشياءِ بوجهٍ من الوجوهِ فإنَّ ذلك كافٍ في الحكمِ بخيريةِ ما ذُكر من العبادةِ والتَّقوى .(5/252)
إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)
{ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أوثانا } بيانٌ لبطلانِ دينِهم وشرِّيته في نفسِه بعد بيانِ شرِّيته بالنَّسبةِ إلى الدِّينِ الحقِّ أي إنَّما تعبدونَ من دُونه تعالى أوثاناً هي في نفسِها تماثيلُ مصنوعةٌ لكم ليس فيها وصفٌ غير ذلك { وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } أي وتكذبون كذباً حيثُ تسمُّونها آلهةً وتدَّعون أنَّها شفعاؤكم عندَ الله تعالى أو تعملونَها وتنحتونَها للإفكِ . وقُرىء تخلقُون بالتَّشديدِ للتكثيرِ في الخلقِ بمعنى الكذبِ والافتراءِ وتخلقُون بحذفِ إحدى التَّاءينِ من تخلَّق بمعنى تكذَّبَ وتخرَّص . وقُرىء أَفِكاً على أنَّه مصدرٌ كالكذِب واللَّعِب . أو نعتٌ بمعنى خلقاً ذا إفكٍ { إِنَّ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } بيانٌ لشرِّيةِ ما يعبدونَه من حيثُ إنَّه لا يكادُ يجُديهم نفعاً { لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً } أي لا يقدرونَ على أنْ يرزقوكَم شيئاً من الرِّزقِ { فابتغوا عِندَ الله الرزق } كلَّه فإنَّه هو الرزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المتينِ { واعبدوه } وحدَهُ { واشكروا لَهُ } على نعمائِه متوسِّلين إلى مطالبِكم بعبادتِه مقيدين بالشُّكرِ للعتيدِ ومستجلبينَ للمزيدِ . { إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } بالموتِ ثمَّ بالبعثِ لا إلى غيرِه فافعلُوا ما أمرتُكم به . وقرىء تَرجعون من رَجَع رُجوعاً . { وَإِن تُكَذّبُواْ } أي تكذِّبُوني فيما أخبرتُكم به من أنَّكم إليه تُرجعون بالبعثِ { فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مّن قَبْلِكُمْ } تعليلٌ للجوابِ أي فلا تضرونني بتكذيبكم فإنَّ من قبلكم من الأممِ قد كذَّبوا من قبلى من الرُّسلِ وهم شيثُ وإدريُس ونوحٌ عليهم السَّلام فلم يضرَّهم تكذيبهم شيئاً وإنمَّا ضرَّ أنفسَهم حيثُ تسبَّب لما حلَّ بهم من العذاب فكذا تكذيُبكم { وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين } أي التَّبليغُ الذي لا يبقى معه شكٌّ وما عليه أنْ يُصدِّقَه قومُه البتةَ وقد خرجتُ عن عُهدةِ التَّبليغِ بما لا مزيدَ عليه فلا يضرُّني تكذيُبكم بعد ذلك أصلاً .
{ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِىء الله الخلق } كلامٌ مُستأنفٌ مسوقٌ من جهتِه للإنكارِ على تكذيبهم بالبعث معَ وضوحِ دليلِه وسنوحِ سبيلِه . والهمزةُ لإنكارِ عدمِ رؤيتهم الموجبِ لتقريرها والواوُ للعطفِ على مقدَّرٍ أي ألم ينظروا ولم يعلموا علماً جارياً مجرى الرؤيةِ في الجلاءِ والظُّهور كيفيةَ خلقِ الله تعالى الخلقَ ابتداءً من مادَّةٍ ومن غير مادَّةٍ أي قد علموا ذلك . وقُرىء بصيغةِ الخطابِ لتشديدِ الإنكارِ وتأكيدِه . وقُرىء يبدأُ وقوله تعالى : { ثُمَّ يُعِيدُهُ } عطفٌ على أو لم يَروا لا على يُبدىء لعدمِ وقوعِ الرُّؤية عليه فهو إخبارٌ بأنَّه تعالى يعيد الخلقَ قياساً على الإبداءِ ، وقد جُوِّز العطفُ على يُبدىء بتأويلها الإعادةِ بإنشائِه تعالى كل سنة مثلَ ما أنشأه في السَّنةِ السَّابقةِ من النبات والثمار وغيرِهما فإنَّ ذلك ممَّا يُستدلُّ به على صِحَّة البعثِ ووقوعه من غير رَيبٍ { إِنَّ ذلك } أي ما ذُكر من الإعادة { عَلَى الله يَسِيرٌ } إذ لا يفتقر فعلُه إلى شيءٍ أصلاً .(5/253)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)
{ قُلْ سِيرُواْ فِى الارض } أمرٌ لإبراهيمَ عليه السَّلام أنْ يقولَ لهم ذلك أي سِيروا فيها { فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق } أي كيف خلقَهم ابتداءً على أطوارٍ مختلفةٍ وطبائعَ متغايرةٍ وأخلاقٍ شتَّى فإنَّ ترتيبَ النَّظر على السَّيرِ في الأرضِ مؤذنٌ بتتبعِ أحوالِ أصنافِ الخلق القاطنينَ في أقطارِها { ثُمَّ الله يُنشِىء النشأة الاخرة } بعدَ النَّشأةِ الأُولى التي شاهدتُموها . والتَّعبيرُ عن الإعادةِ التي هي محلُّ النزاعِ بالنَّشأةِ الآخرةِ المشعرةِ بكون البدِء نشأةً أولى للتَّنبيهِ على أنَّهما شأنٌ واحدٌ من شؤونِ الله تعالى حقيقةً وإسماً من حيثُ إنَّ كلاًّ منهما اختراعٌ وإخراجٌ من العدمِ إلى الوجودِ ولا فرقَ بينَهما إلا بالأوليةِ والآخريةِ . وقُرىء النَّشاءَة بالمدِّ وهما لُغتانِ كالرَّأفةِ والرَّآفةِ ومحلها النَّصبُ على أنَّها مصدرٌ مؤكِّدٌ ليُنشىء بحذف الزَّوائد والأصلُ الإنشاءةِ أو بحذف العاملِ أي ينشىء فيشأون النَّشأةَ الآخرةَ كما في قوله تعالى : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } والجملةُ معطوفةٌ على جُملةِ سيروا في الارض داخلةٌ معها في حيِّز القول . وإظهارُ الاسمِ الجليلِ وإيقاعُه مبتدأً مع إضمارِه في بدأ لإبرازِ مزيدِ الاعتناءِ ببيانِ تحقُّق الإعادةِ بالإشارة إلى عِلَّة الحُكم وتكريرِ الإسنادِ . وقولُه تعالى : { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } تعليلٌ لما قبله بطريقِ التَّحقيق فإنَّ من علِم قدرتَهُ تعالى على جميعِ الأشياءِ التي من جُملتِها الإعادةُ لا يتصوَّر أنْ يترددَ في قدرتِه عليها ولا في وقوعِها بعد ما أخبر به { يُعَذّبُ } أي بعد النَّشأةِ الآخرةِ { مَن يَشَآء } أن يعذبه وهم المنكرون لها حَتماً { وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء } أنْ يرحمَه وهم المصدِّقُون بها والجملةُ تكملة لما قبلها . وتقديمُ التَّعذيبِ لما أنَّ التَّرهيبَ أنسبُ بالمقام من الترَّغيبِ { وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ } عند ذلك لا إلى غيرهِ فيفعلُ بكم ما يشاءُ من التَّعديبِ والرَّحمةِ { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } له تعالى عن إجراءِ حُكمه وقَضائه عليكم { فِي الارض وَلاَ فِى السماء } أي بالتَّواري في الأرضِ أو الهبوطِ في مَهَاويها ولا بالتَّحصُّنِ في السَّماءِ التي هي أفسحُ منها لو استطعتُم الرُّقيَّ فيها كما في قولِه تعالى : { إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أقطار السموات والارض فانفذوا } أو القلاعِ الذَّاهبةِ فيها وقيل في السَّماء صفةٌ لمحذوفٍ معطوفٍ على أنتُم أي ولا من في السَّماءِ { وَمَا لَكُم مّن دُونِ الله مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ } يحرسكم ممَّا يُصيبكم من بلاءٍ يظهرُ من الأرضِ أو ينزلُ من السَّماءِ ويدفعُه عنكم .(5/254)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
{ والذين كَفَرُواْ بئايات الله } أي بدلائلِه التَّكوينيةِ والتَّنزيليةِ الدَّالَّةِ على ذاتِه وصفاتِه وأفعالِه فيدخلُ فيها النَّشأةُ الأُولى الدَّالَّة على تحقُّق البعثِ والآياتُ النَّاطقةُ به دُخولاً أولياً . وتخصيصُها بدلائلَ وحدانيتِه تعالى لا يناسبُ المقامَ { وَلِقَائِهِ } الذي تنطقُ به تلك الآياتُ { أولئك } الموصُوفون بما ذُكر مِن الكفر بآياتِه تعالى ولقائِه { يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى } أي ييأسون منها يومَ القيامةِ . وصيغةُ الماضي للدِّلالة على تحقُّقِه أو يئسوا منها في الدُّنيا لإنكارِهم البعثَ والجزاءَ { وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وفي تكرير اسمِ الإشارة وتكريرِ الإسناد وتنكيرِ العذابِ ووصفهِ بالأليمِ من الدِّلالةِ على كمالِ فظاعةِ حالِهم ما لا يخفى ، أي أولئك الموصُوفون بالكفر بآياتِ الله تعالى ولقائِه وباليأس من رحمتِه الممتازون بذلك عن سائر الكَفَرة لهم بسبب تلك الأوصافِ القبيحةِ عذابٌ لا يُقَادر قَدرُه في الشِّدَّةِ والإيلامِ { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } بالنَّصبِ على أنَّه خبرُ كان واسمُها قولُه تعالى : { إِلاَّ أَن قَالُواْ اقتلوه أَوْ حَرّقُوهُ } وقُرىء بالرَّفعِ على العكسِ . وقد مرَّ ما فيهِ في نظائِره ، وليس المرادُ أنَّه لم يصدر عنُهم بصددِ الجوابِ عن حُججِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ إلا هذه المقالةُ الشَّنيعةُ كما هو المتبادَرُ من ظاهر النَّظْمِ الكريمِ بل إنَّ ذلك هو الذي استقرَّ عليه جوابُهم بعد اللَّتيا والِّتي في المرَّةِ الأخيرةِ وإلا فقد صدرَ عنُهم من الخُرافاتِ والأباطيلِ ما لا يُحصى { فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار } الفاءُ فصيحةٌ أي فألقَوه في النَّار فأنجاهُ الله تعالى منها بأنْ جعلَها عليه الصَّلاة والسَّلام بَرداً وسلاماً حسبما بُيِّن في مواضعَ أُخَرَ ، وقد مرَّ في سورة الأنبياءِ بيانُ كيفَّيةِ إلقائِه عليه الصَّلاة والسَّلام فيها وإنجائِه بدعائه تعالى إيَّاه تفصيلاً . قيل لم ينتفعْ يومئذٍ بالنَّارِ في موضعٍ أصلاً { إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي في إنجائِه منها { لآيَاتٍ } بينةً عجيبةً هي حفظُه تعالى إيَّاه من حرِّها وإخمادِها في زمانٍ يسيرٍ وإنشاءُ رَوْضٍ في مكانِها { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } وأما مَن عداهُم فهم عن اجتلائِها غافلون ومن الفوزِ بمغانمِ آثارِها محرومون .
{ وَقَالَ } أي إبراهيُم عليهِ السَّلامُ مُخاطباً لهم { إِنَّمَا اتخذتم مّن دُونِ الله أوثانا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِى الحياة الدُّنْيَا } أي لتتوادُّوا بينكم وتتواصلُوا لاجتماعِكم على عبادتِها وائتلافِكم ، وثَاني مفعولَيْ اتخذتُم محذوفٌ أي أوثاناً آلهةً ويجوزُ أن يكونَ مودَّةَ هو المفعولَ بتقديرِ المُضافِ أو بتأويلِها بالمودودةِ أو بجعلها نفسَ المودَّةِ مُبالغةً أي اتخذتُم أوثاناً سببَ المودَّة بينكم أو مودودةً أو نفسَ المودَّة . وقُرىء مودةً منونةً منصوبةً ناصبةَ الظَّرفِ وقُرئت بالرَّفعِ والإضافةِ على أنَّها خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي هي مودودةٌ أو نفسُ المودةِ أو سببُ مودةِ بينكم . والجملةُ صفةٌ أوثاناً أو خبرُ إنَّ على أنَّ ما مصدريةٌ أو موصولهٌ قد حُذف عائدُها وهو المفعولُ الأولُ وقُرئت مرفوعةً منوَّنةً ومضافةً بفتحِ بينَكم كما قُرىء ( لقد تقطَّع بينكم ) على أحدِ الوجهينِ وقُرىء إنمَّا مودةُ بينكم والمعنى أنَّ اتخاذكم إيَّاها مودةَ بينكم ليس إلاَّ في الحياة وقد أجريتم أحكامه حيث فعلتُم بي ما فعلتُم لأجلِ مودَّتِكم لها انتصاراً منِّي كما يُنبىءُ عنه قولُه تعالى وانصُروا آلهتكم .(5/255)
{ ثُمَّ يَوْمَ القيامة } تنْقلَبُ الأمورُ ويتبدَّلُ التوادُّ تباغُضاً والتَّلاطف تلاعُناً حيث { يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ } وهو العَبَدةُ { بِبَعْضِ } وهم الأوثانُ { وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } أي يلعنُ كلُّ فريقٍ منكم ومن الأوثانِ حيث يُنطقها الله تعالى الفريقَ الآخرَ { وَمَأْوَاكُمُ النار } أي هي لُكم الذي تأوون إليه ولا ترجعونَ منه أبداً { وَمَا لَكُمْ مّن ناصرين } يُخلِّصونكُم منها كما خلَّصني ربِّي من النَّارِ التي ألقيتُموني فيها . وجمعَ النَّاصرَ لوقوعِه في مُقابلة الجمعِ أي ما لأحدٍ منكُم من ناصرٍ أصلاً .(5/256)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28)
{ فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ } أي صدَّقه في جميع مقالاتِه لا في نُبُّوتِه وما دعا إليه من التَّوحيدِ فقط فإنَّه كان منزَّهاً عن الكُفر . وما قيل إنَّه آمنَ له حين رَأى النَّارَ لم تحرقْهُ ينبغي أنْ يُحملَ على ذكرنا أو على أنْ يُرادَ بالإيمانِ الرُّتبةَ العاليةَ منه وهي التي لا يرتقِي إليها إلاَّ همم الأفرادِ الكُمَّل . ولوطُ هو ابنُ أخيهِ عليهما السَّلامُ . { وَقَالَ إِنّى مُهَاجِرٌ } أي من قومِي { إلى رَبّى } إلى حيثُ أمرني ربِّي { إِنَّهُ هُوَ العزيز } الغالبُ على أمرِه فيمنعني من أعدائِي { الحكيم } الذي لا يفعلُ فعلاً إلاَّ وفيه حكمةٌ ومصلحةٌ فلا يأمرني إلا بما فيه خلاصي . رُوي أنَّه هاجر من كُوثَى سوادِ الكُوفةِ مع لوطَ وسارَّة ابنة عمِّه إلى حرَّانَ ثمَّ منها إلى الشأمِ فنزلَ فلسطينَ ونزل لوطُ سَدُومَ { وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ } ولداً ونافلةً حين أيسَ من عجوزٍ عاقرٍ { وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النبوة } فكثُر منهم الأنبياءُ { والكتاب } أي جنسَ الكتابِ المتناولِ للكتبِ الأربعةِ { وآتيناه أجره } بمقابلة هجرتِه إلينا { فِى الدنيا } بإعطاءِ الولد والذُّرية الطيبةِ واستمرار النُّبوة فهيم وانتماءِ أهل المللِ إليه والثناء والصَّلاة عليه إلى آخرِ الدَّهر { وَإِنَّهُ فِى الاخرة لَمِنَ الصالحين } أي الكاملينَ في الصَّلاح { وَلُوطاً } منصوبٌ إمَّا بالعطفِ على نوحاً أو على إبراهيمَ والكلامُ في قوله تعالى : { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } كالذي مرَّ في قصَّة إبراهيمَ عليه السَّلام { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة } أي الفعلةَ المُتناهيةَ في القُبح . وقُرىء أَئِنَّكم { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن العالمين } استئنافٌ مقررٌ لكمالِ قُبحها ، فإنَّ إجماعَ جميع أفرادِ العالمينَ على التَّحاشي عنها ليس إلا لكونِها مما تشمئزُّ منه الطِّباع وتنفرُ منه النُّفوسُ .(5/257)
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)
{ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال وَتَقْطَعُونَ السبيل } وتتعرَّضُون للسَّابلةِ أي بالفاحشةِ ، حيثُ رُوي أنَّهم كانُوا كثيراً ما يفعلونَها بالغُرباء وقيل تقطعون سبيلَ النِّساءِ بالإعراضِ عن الحَرثِ وإتيانِ ما ليس بحرثٍ وقيل : تقطعونَ السَّبيلَ بالقتلِ وأخذِ المالِ { وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ } أي تفعلون في مجلسِكم الجامعِ لأصحابكم { المنكر } كالجماعِ والضُّراطِ وحلِّ الإزارِ وغيرِها مما لا خيرَ فيه من الأفاعيل المنكرةِ . وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما هو الحَذفُ بالحَصَى والرَّميُّ بالبناد والفرقعةُ ومضغُ العلكِ والسِّواكِ بينَ النَّاس وحلُ الإزارِ والسِّبابُ والفُحشُ في المِزاحِ ، وقيل : السُّخريةُ بمن مرَّ بهم ، وقيل المجاهرةُ في ناديهم بذلكَ العملِ . { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } أي فما كان جواباً من جهتِهم شيءٌ من الأشياءِ إلا هذه الكمةُ الشَّنيعةُ أي لم يصدر عنهم في هذه المرَّةِ من مرَّاتِ مواعظ لوطٍ عليه السَّلام وقد كان أوعدهم فيها بالعذابِ وأمَّا ما في سُورة الأعراف من قولِه تعالى : { وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ } الآيةَ وما في سورة النَّمل من قولِه تعالى : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءالَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ } الآيةَ فهو الذي صَدر عنهم بعده هذه المرةُ وهي المرَّةُ الأخيرةُ من مرَّات المُقاولاتِ الجاريةِ بينهم وبينه عليه الصَّلاة والسَّلام وقد مرَّ تحقيقُه في سورةِ الأعرافِ .
{ قَالَ رَبّ انصرنى } أي بإنزالِ العذابِ الموعودِ { عَلَى القوم المفسدين } بابتداعِ الفاحشةِ وسنِّها فيمن بعدَهُم والإصرارِ عليها واستعجالِ العذابِ بطريقِ الاستهزاءِ وإنما وصفَهم بذلك مبالغةً في استنزالِ العذابِ عليهم { وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إبراهيم بالبشرى } أي بالبشارةِ بالولدِ والنافلة { قَالُواْ } أي لإبراهيمَ عليه السَّلامُ في تضاعيفِ الكلامِ حسبما فُصِّل في سورة هود وسورة الحجرِ { إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هذه القرية } أي قريةِ سَدُومَ . والإضافةُ لفظيةٌ لأنَّ المَعنى على الاستقبالِ { إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظالمين } تعليلٌ للإهلاكِ بإصرارِهم على الظُّلم وتمادِيهم في فُنون الفسادِ وأنواعِ المَعَاصي { قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً } فكيف تُهلكونها { قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ } أرادُوا أنَّهم غيرُ غافلينَ عن مكانِ لوطٍ عليه السَّلام فيها بل عمَّن لم يتعرض له إبراهيمُ عليه السَّلامُ من أتباعِه المؤمنينَ وأنَّهم معتنُون بشأنهم أتَّم اعتناءٍ حسبما يُنبيء عنه تصديرُ الوعد بالتَّنجيةِ بالقسمِ أيْ والله لننجينَّه وأهلَه { إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين } أي الباقينَ في العذابِ أو القريةِ .(5/258)
وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)
{ وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا } المذكورينَ بعد مفارقتِهم لإبراهيمَ عليه السَّلامُ { لُوطاً سِىء بِهِمْ } اعتراهُ المساءةُ بسببهم مخافةَ أنْ يتعرَّض لهم قومُه بسوءٍ . وكلمةُ أنْ صلةٌ لتأكيدِ ما بين الفعلينِ من الاتِّصالِ { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا } أي ضاقَ بشأنِهم وتدبير أمِرهم ذرعُه أي طاقتُه كقولِهم ضاقتْ يدُه وبإزائِه رَحُبَ ذَرْعُه بكذا إذا كان مُطبقاً به قادراً عليه وذلك أنَّ طويلَ الذِّراعِ ينالُ ما لا يناله قصير الذِّراع .
{ وَقَالُواْ } ريثما شاهدوا فيه مخايلَ التَّضجرِ من جهتهم وعاينُوا أنَّه قد عجزَ عن مُدافعةِ قومِه بعد اللَّتيا والتِّي حتى آلتْ به الحالُ إلى أنْ قالَ : ( لو أنَّ لي بكم قوةً أو آوي إلى رُكنٍ شديدٍ ) { لاَ تَخَفْ } أي من قومِك علينا { وَلاَ تَحْزَنْ } أي على شيءٍ وقيل بإهلاكِنا إيَّاهم { إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ } ممَّا يُصيبهم من العذابِ { إِلاَّ امرأتك كَانَتْ مِنَ الغابرين } وقُرىء لننجينَّك ومنجُّوك من الإنجاءِ ، وإيَّا ما كان فمحلُّ الكافِ الجرُّ على المختارِ ونصب أهلكَ بإضمار فعلٍ أو بالعطفِ على محلِّها باعتبارِ الأصلِ { إِنَّا مُنزِلُونَ على أَهْلِ هذه القرية رِجْزاً مّنَ السماء } استئنافٌ مسُوقٌ لبيانِ ما أشير إليه بوعدِ التَّنجيةِ من نزول العذابِ عليهم . والرِّجزُ العذابُ الذي يُقلقُ المعذَّبَ أي يُزعجُه من قولِهم ارتجزَ إذا ارتجسَ واضطربَ . وقُرىء مُنزِّلون بالتَّشديدِ . { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } بسببِ فسقِهم المستمرِّ { وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا } أي من القريةِ { آيَةً بَيّنَةً } هي قصَّتُها العجيبةُ آثارُ ديارها الخربةِ وقيل : الحجارةُ المطمُورة فإنَّها كانتْ باقيةً بعدها وقيل : الماءُ الأسودُ على وجهِ الأرضِ { لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } يستعملون عقولَهم في الاستبصارِ والاعتبارِ وهو متعلقٌ إما بتركنَا أو ببينةً { وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً } متعلق بمضمن معطوفٍ على أرسلنا في قصَّة نوحٍ عليه السَّلام أي وأرسلنا إلى مدينَ شُعيباً { فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله } وحدَه { وارجوا اليوم الاخر } أي توقَّعوه وما سيقعُ فيه من فُنون الأهوالِ وافعلُوا اليوم من الأعمالِ ما تأمنون غائلتَهُ وقيل : وارجُوا ثوابَه بطريقِ إقامةِ المسبَّبِ مقامَ السَّببِ وقيل : الرَّجاءُ بمعنى الخوفِ { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الارض مُفْسِدِينَ *** } { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } أي الزَّلزلةُ الشَّديدةُ وفي سورة هود وأخذتِ الذين ظلمُوا الصَّيحةُ أي صحيةُ جبريلَ عليه السَّلام فإنَّها المُوجِبة للرَّجفة بسبب تمويجِها للهواءِ وما يُجاورها من الأرض { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ } أي بلدِهم أو منازِلهم والإفرادُ لأمنِ اللَّبسِ { جاثمين } باركينَ على الرُّكبِ ميِّتينَ .(5/259)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
{ وَعَاداً وَثَمُودَ } منصوبانِ بإضمارِ فعلٍ يُنبىء عنه ما قبلَه أي أهلكَنا . وقُرىء ثموداً بتأويلِ الحيِّ { وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مّن مساكنهم } أي وقد ظهرَ لكم إهلاكُنا إيَّاهم من جهةِ مساكنِهم بالنَّظر إليها عند اجتيازِكم بها ذهاباً إلى الشَّامِ وإياباً منه { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم } من فُنون الكفرِ والمَعاصي { فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل } السَّويِّ الموصِّلِ إلى الحقِّ { وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ } ممكِّنين من النَّظرِ والاستدلالِ ولكِنَّهم لم يفعلُوا ذلك أو متبينين أنَّ العذابَ لاحقٌ بهم بإخبارِ الرُّسلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ لهم ولكنَّهم لجُّوا حتَّى لقُوا ما لقُوا { وقارون وَفِرْعَوْنَ وهامان } معطوفٌ على عاداً . قيل : تقديمُ قارونَ لشرفِ نسبِه { وَلَقَدْ جَاءهُمْ موسى بالبينات فاستكبروا فِى الارض وَمَا كَانُواْ سابقين } مفلتينَ فائتينَ من قولِهم سبقَ طالبَه إذا فاتَه ولم يُدركه ولقد أدركَهم أمرُ الله عزَّ أيَّ إدراكٍ فتداركُوا نحوَ الدَّمارِ والهَلاَكِ { فَكُلاًّ } تفسيرٌ لما يُنبىء عنه عدمُ سبِقهم بطريقِ الإبهامِ أي فكلُّ واحدٍ من المذكورينَ { أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } أي عاقبناهُ بجنايتِه لا بعضِه دُون بعضٍ كما يُشعر به تقديمُ المفعولِ { فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً } تفصيلاً للأخذِ أي ريحاً عاصفاً فيها حصباءُ وقيل مَلَكاً رماهم بها وهم قومُ لوطٍ { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة } كمدينَ وثمود { وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الارض } كقارون { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا } كقومِ نوحٍ وفرعونَ وقومِه { وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ } بما فعل بهم فإنَّ ذلك محالٌ من جهتِه تعالى { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بالاستمرارِ على مُباشرةِ ما يُوجبُ ذلك من أنواعِ الكفرِ والمَعاصي .
{ مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء } أي فيما اتَّخذوه معتمداً ومتَّكلاً { كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً } فيما نسجتْهُ في الوهنِ والخورِ بل ذلك أوهنُ من هذا لأنَّ له حقيقةً وانتفاعاً في الجُملة أو مَثَلُهم بالإضافةِ إلى المُوحَّدِ كمثله بالإضافة إلى رجلٍ بنى بيتاً من حجرٍ وجِصَ . والعنكبوتُ يقعُ على الواحدِ والجمعِ والمذكَّرِ والمؤنَّثِ ، والغالبُ في الاستعمالِ التَّانيثُ وتاؤُه كتاءِ طاغوت ويُجمع على عناكبَ وعنكبوتاتٍ وأمَّا العِكَابُ والعُكُبُ والأَعْكُبُ فأسماءُ الجموعِ { وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت } حيثُ لا يُرى شيءٌ يدانيِه في الوَهَنِ والوَهَى { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أي شيئاً من الأشياءِ لجزمُوا أنَّ هذا مثلُهم وأنَّ دينَهم أَوْهى من ذلكَ ويجوزُ أنْ يجعلَ بيتُ العنكبوتِ عبارةً عن دينِهم تحقيقاً للتَّمثيلِ فالمعنى وإنَّ أوهنَ ما يُعتمد به في الدِّين دينُهم .(5/260)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
{ إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَىْء } على إضمارِ القولِ أي قُل للكَفَرةِ إنَّ الله الخ وما استفهامَّيةٌ منصوبةٌ بيدعونَ معلقةٌ ليعلم ومِن للتَّبيينِ أو نافيةٌ ، ومِنْ مزيدةٌ وشيءٍ مفعولُ يدعون أو مصدريةٌ وشيءٍ عبارةٌ عن المصدرِ أو موصولةٌ مفعولٌ ليعلمُ ومفعولُ يدعون عائدُه المحذوفُ . وقُرىء تَدعُون بالتَّاءِ والكلامُ على الأولين تجهيلٌ لهم وتأكيدٌ وعلى الآخرينَ وعيدٌ لهم { وَهُوَ العزيز الحكيم } تعليلٌ على المعنيينِ فإنَّ إشراكَ ما لا يُعدُّ شيئاً بمن هَذا شأنُه من فرطِ الغباوةِ وإنَّ الجمادَ النسبةِ إلى القادرِ القاهرِ على كلِّ شيءٍ البالغِ في العلم وإتقانِ الفعلِ الغايةَ القاصيةَ كالمعدومِ البحت وأنَّ منَ هذه صفاتُه قادرٌ على مجازاتِهم . { وَتِلْكَ الامثال } أي هذا المثلُ وأمثاله { نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ } تقريباً لما بعُد من أفهامِهم { وَمَا يَعْقِلُهَا } على ما هي عليه من الحُسنِ واستتباع الفوائدِ { إِلاَّ العالمون } الرَّاسخون في العلمِ المتدبِّرون في الأشياءِ على ما ينبغِي وعنه عليهِ الصَّلاة والسَّلامُ أنَّه تَلاَ هذه فقال : " العالمُ من عقلَ عنِ الله تعالى وعمِل بطاعتِه واجتنبَ سَخَطَه " { خَلَقَ الله السموات والارض بالحق } أي مُحقَّاً مُراعياً للحكمِ والمَصَالح على أنَّه حالٌ من فاعلِ خلقَ أو ملتبسةً بالحقِّ الذي لا محيدَ عنه مستتبعةً للمنافعِ الدِّينيةِ والدُّنيويةِ على أنَّه حالٌ من مفعولِه فإنَّها مع اشتمالِها على جميعِ ما يتعلَّقُ به معاشُهم شواهدُ دالَّةٌ على شؤونِه تعالى المتعلقةِ بذاتِه وصفاتِه كما يُفصحُ عنه قولُه تعالى : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } دالَّة لهم ما ذُكر من شؤونِه سبحانه وتخصيصُ المؤمنينَ بالذكر مع عمومِ الهدايةِ والإرشادِ في خلقهِما للكلِّ لأنَّهم المُنتفعون بذلكَ .
&
{ 1649;تْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب } تقرُّباً إلى الله تعالى بقراءتِه وتذكُّراً لما في تضاعيفهِ من المعاني وتذكيراً للنَّاس وحملاً لهم على العملِ بما فيه من الأحكامِ ومحاسنِ الآدابِ ومكارمِ الأخلاقِ { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ } أي داوِمْ على إقامتِها وحيثُ كانتِ الصَّلاةُ منتظمةً للصَّلواتِ المكتوبةِ المؤدَّاةِ بالجماعةِ وكان أمرُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بإقامتِها متضمناً لأمرِ الأمَّة بها علِّل بقوله تعالى : { إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ والْمُنكَر } كأنّه قيل : وصلِّ بهم إنّ الصَّلاة ثنهاهم عن الفحشاء والمنكر ، ومعنى نهيها عنهُما أنَّها سببٌ للانتهاءِ عنُهما لأنَّها مناجاةٌ ةِ تعالى فلا بدَّ أنْ تكونَ مع إقبالٍ تامَ على طاعتِه وإعراضِ كليَ عن معاصيِه قال ابنُ مسعودٍ وابنُ عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما : «في الصَّلاةِ مُنتهى ومُزدجرٌ عن مَعَاصي الله تعالى فمَن لم تأمْره صلاتُه بالمعروفِ ولم تنهَه عن المنكرِ لم يزددْ بصلاتِه من الله تعالى إلا بُعداً» وقال الحسنُ : وقَتادةُ من لم تنهَه صلاتُه عن الفحشاءِ والمنكر فصلاتُه وبالٌ عليه . ورَوَى أنسٌ رضيَ الله عنه «إنَّ فتى من الأنصارِ كانَ يصلِّي مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ لا يدع شيئاً من الفواحِش إلا ركبَهُ فوُصفَ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حاله فقال : إنَّ صلاتَه ستنهاهُ» فلم يلبثْ أن تابَ وحسُنَ حالُه .(5/261)
{ وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } أي وللصَّلاةُ أكبرُ من سائرِ الطَّاعاتِ وإنَّما عبرَّ عنها بهِ كما في قوله تعالى : { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } للإيذانِ بأنَّ ما فيها من ذكرِ الله تعالى هو العمدةُ في كونِها مفضَّلةً على الحسناتِ ناهيةً عن السيئاتِ وقيل ولذكرُ الله تعالى عندَ الفحشاءِ والمُنكر وذكرُ نهيهِ عنهُما ووعيدِه عليهما أكبرُ في الزَّجرِ عنهما وقيل : ولذكرُ الله إيَّاكم برحمتِه أكبرُ من ذكِركم إيَّاه بطاعتِه . { والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } منه ومن سائرِ الطَّاعات فيحازيكم بها أحسنَ المُجازاةِ .(5/262)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)
{ لاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب } من اليَّهودِ والنَّصارَى { إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ } أي بالخصلة التي هي أحسنُ كمقابلةِ الخشونةِ باللِّينِ والغضبِ بالكظمِ والمشاغبةِ بالنُّصحِ والسَّورةِ بالأَناة على وجهٍ لا يدلُّ على الضَّعفِ ولا يُؤدِّي إلى إعطاءِ الدَّنيةِ وقيل : منسوخٌ بآيةِ السَّيفِ { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } بالإفراطِ في الاعتداءِ والعنادِ أو بإثباتِ الولدِ وقولِهم : يدُ الله مغلولةٌ ونحوِ ذلك فإنَّه يجبُ حينئذٍ المُدَافعةُ بما يليقُ بحالِهم { وَقُولُواْ ءامَنَّا بالذى أُنزِلَ إِلَيْنَا } من القُرآنِ { وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } أي وبالذي أُنزل إليكُم من التَّوراةِ والإنجيلِ وقد مرَّ تحقيقُ كيفيَّةِ الإيمانِ بهما في خاتمةِ سورةِ البقرةِ . وعن النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « لا تُصدِّقوا أهلَ الكتابِ ولا تكذِّبُوهم وقولُوا آمنَّا بالله وبكتبِه ورسلِه فإنْ قالُوا باطِلاً لم تصدِّقوهم وإنْ قالُوا حقّاً لم تكذِّبُوهم » { وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ } لا شريكَ له في الأُلوهيَّةِ { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } مُطيعونَ خاصَّة وفيه تعريضٌ بحالِ الفريقينِ حيثُ اتَّخذوا أحبارَهم ورهبانَهم أرباباً من دُونِ الله { وكذلك } تجريدٌ للخطابِ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وذلكَ إشارةٌ إلى مصدرِ الفعلِ الذي بعدَهُ ، وما فيهِ مِن مَعْنى البُعدِ للإيذانِ ببُعدِ منزلةِ المُشارِ إليه في الفضلِ أي مثلَ ذلكَ الإنزالِ البديعِ الموافقِ لإنزالِ سائرِ الكتبِ { أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب } أي القُرآنَ الذي من جُملتِه هذهِ الآيةُ النَّاطقةُ بما ذُكر من المُجادلةِ بالحُسْنَى { فالذين ءاتيناهم الكتاب } من الطَّائفتينِ { يُؤْمِنُونَ بِهِ } أُريد بهم عبدُ اللَّهِ بنُ سَلاَم وأضرابُه من أهلِ الكتابين خاصَّة كأنَّ من عداهُم لم يُؤتَوا الكتابَ حيثُ لم يعملوا بما فيهِ أو مَنْ تقدم عهدَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم منهم حيثُ كانُوا مصدِّقين بنزولِه حسبما شاهدُوا في كتابيهما ، وتخصيصُهم بإيتاءِ الكتابِ للإيذانِ بأنَّ مَن بعدهم من مُعاصري رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قد نُزع عنهم الكتابُ بالنَّسخِ فلم يُؤتَوه . والفاءُ لترتيبِ ما بعدها على ما قبلها فإنَّ إيمانَهم به مترتِّبٌ على إنزالِه على الوجهِ المذكُورِ { وَمِنْ هَؤُلاء } أي ومِن العربِ أو أهلِ مكَّةَ على الأولِ أو ممَّن في عصرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على الثَّانِي { مَن يُؤْمِنُ بِهِ } أي بالقُرآنِ { وَمَا يَجْحَدُ بئاياتنا } عبَّر عن الكتابِ بالآياتِ للتنبيهِ على ظهورِ دلالتِها على معانيها وعلى كونِها من عندِ الله تعالى ، وأضيفتْ إلى نونِ العظمةِ لمزيدِ تفخيمِها وغايةِ تشنيعِ مَنْ يجحدُ بها { إِلاَّ الكافرون } المتوغِّلون في الكُفر المصمِّمون عليهِ فإنَّ ذلكَ يصدُّهم عن التَّأملِ فيما يُؤدِّيهم إلى معرفةِ حقّيتها وقيل : هم كعبُ بنُ الأشرفِ وأصحابِه .(5/263)
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)
{ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ } أي ما كنتَ قبل إنزالِنا إليك الكتابَ تقدرُ على أنْ تتلوَ شيئاً من كتابٍ { وَلاَ تَخُطُّهُ } أي ولا تقدرُ على أنْ تخطَّه { بِيَمِينِكَ } حسبَما هُو المعتادُ أو ما كانت عادَتُك أنْ تتلوَه ولا أنْ تخطَّه { إِذاً لارتاب المبطلون } أي لو كنتَ ممَّن يقدرُ على التِّلاوةِ والخطِّ أو ممَّن يعتادُهما لارتابُوا وقالُوا : لعلَّه التقطَه من كتبِ الأوائلِ ، وحيثُ لم تكن كذلكَ لم يبقَ في شأنِك منشأُ ريبٍ أصلاً ، وتسميتُهم مُبطلينَ في ارتيابِهم على التَّقديرِ المفروضِ لكونِهم مُبطلينَ في اتِّباعِهم للاحتمالِ المذكورِ مع ظهورِ نزاهتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن ذلكَ { بَلْ هُوَ } أي القرآنُ { آيَاتٌ بَيّنَاتٌ } واضحاتٌ ثابتةٌ راسِخةٌ { فِى صُدُورِ الذين أُوتُواْ العلم } من غيرِ أنْ يُلتقطَ من كتابٍ يحفظونَهُ بحيثُ لا يقدرُ أحدٌ على تحريفِه { وَمَا يَجْحَدُ بئاياتنا } مع كونِها كما ذُكر { إِلاَّ الظالمون } المُتجاوزونَ للحدودِ في الشرِّ والمكابرةِ والفسادِ { وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايات مّن رَّبّهِ } مثلُ ناقةِ صالحٍ وعَصَا مُوسى ومائدةُ عيسَى عليهم السَّلامُ . وقُرىء آيةٌ { قُلْ إِنَّمَا الايات عِندَ الله } يُنزِّلها حسبَما يشاءُ من غيرِ دخلٍ لأحدٍ في ذلكَ قطعاً { وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } ليسَ من شأنِي إلا الإنذارُ بما أُوتيتُ من الآياتِ { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ } كلامٌ مستأنفٌ واردٌ من جهتِه تعالى ردّاً على اقتراحِهم وبياناً لبُطلانِه والهمزةُ للإنكارِ والنَّفيِ والواوُ للعطفِ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقامُ أي أقصُر ولم يكفِهم آيةٌ مغنيةٌ عن سائرِ الآياتِ { أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب } الناطقَ بالحقِّ المصدِّقَ لما بين يديهِ من الكتبِ السَّماويَّةِ وأنتَ بمعزلٍ عن مدارستِها وممارستِها { يتلى عَلَيْهِمْ } في كلِّ زمانٍ ومكانٍ فلا يزالُ معهم آيةٌ ثابتةٌ لا تزولُ ولا تضمحلُّ كما تزولُ كلُّ آيةٍ بعدَ كونِها وتكونُ في مكانٍ دُونَ مكانٍ أو يُتلى على اليَّهودِ بتحقيقِ ما في أيديهم من نعتِك ونعتِ دينِكَ { إِنَّ فِى ذَلِكَ } الكتابِ العظيمِ الشَّأنِ الباقِي على مرِّ الدُّهورِ { لَرَحْمَةً } أي نعمةً عظيمةً { وذكرى } أي تذكرةً { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي لقوم همُّهم الإيمانُ لا التعنُّتُ كأولئك المُقترحينَ ، وقيل : إنَّ ناساً من المؤمنينَ أَتَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بكتبٍ فيها بعضُ ما يقولُه اليَّهودُ فقال : « كَفَى بها ضلالةَ قومٍ أنْ يرغبُوا عمَّا جاءَ به نبيُّهم إلى ما جاءَ به غيرُ نبيِّهم » فنزلتْ(5/264)
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54)
{ قُلْ كفى بالله بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً } بمَا صدرَ عنِّي وعنكُم { يَعْلَمُ مَا فِى السموات والارض } أي من الأُمورِ التي من جُمْلتِها شأنِي وشأنُكم فهو تقريرٌ لما قبلَه من كفايتِه تعالى شَهيداً { والذين ءامَنُواْ بالباطل } وهو ما يُعبد من دُونِ الله تعالَى { وَكَفَرُواْ بالله } مع تعاضُد موجباتِ الإيمانِ به { أولئك هُمُ الخاسرون } المغبُونون في صفقتِهم حيثُ اشترَوا الكفرَ بالإيمانِ بأنْ ضيَّعوا الفطرةَ الأصليَّةَ والأدلَّةَ السمعيَّةَ الموجبةَ للإيمانِ ، والآيةُ من قبيلِ المُجادلةِ بالتي هي أحسنُ حيثُ لم يُصرِّحْ بنسبةِ الإيمانِ بالباطلِ والكفرِ بالله والخسرانِ إليهم بل ذُكر على منهاجِ الإبهامِ كما في قولِه تعالى : { وَأَنَا أَو إياكم لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ . } { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب } على طريقةِ الاستهزاءِ بقولِهم : { متى هذا الوعد } وقولِهم : { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ } ونحوِ ذلكَ { وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى } قد ضربَهُ الله تعالى لعذابِهم وبيَّنه في اللَّوحِ { لَّجَاءهُمُ العذاب } المعيَّنُ لهم حسبَما استعجلُوا له . قيل : المرادُ بالأجلِ يومُ القيامةِ لما رُوي أنَّه تعالى وعدَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنْ لا يُعذِّبَ قومَه بعذابِ الاستئصال وأنْ يؤخِّر عذابَهم إلى يومِ القيامةِ ، وقيل : يومُ بدرٍ وقيل : وقتُ فنائِهم بآجالِهم وفيه بُعدٌ ظاهرٌ لِمَا أنَّهم ما كانُوا يُوعدون بفنائِهم الطبيعيِّ ولا كانُوا يستعجلونَ به { وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ } جملةٌ مستأنفةٌ مبنيَّنةٌ لما أُشير إليهِ في الجُملةِ السَّابقةِ من مجيءِ العذابِ عند محلِّ الأجلِ أي وبالله ليأتينَّهم العذابُ الذي عُيِّن لهم عند حُلولِ الأجلِ { بَغْتَةً } أي فجأةً { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي بإتيانِه ، ولعلَّ المرادَ بإتيانِه كذلك أنَّه لا يؤتيهم بطريقِ التَّعجيلِ عند استعجالِهم والإجابةِ إلى مسؤولِهم فإنَّ ذلك إتيانٌ برأيهم وشعورِهم لا أنَّه يأتيهم وهم غارُّون آمِنُون لا يخطرونَه بالبالِ كدأبِ بعضِ العُقوباتِ النازلةِ على بعضِ الأممِ بياتاً وهم نائمونَ أو ضُحى وهم يلعبُون لما أنَّ إتيانَ عذابِ الآخرةِ وعذابِ يومِ بدرٍ ليس من هذا القبيلِ .
{ يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } استئنافٌ مسوقٌ لغايةِ تجهيلِهم ورَكَاكةِ رأيِهم ، وفيه دلالةٌ على أنَّ ما استعجلوه عذابُ الآخرةِ أي يستعجلونك بالعذابِ والحال أنَّ محلَّ العذابِ الذي لا عذابَ فوقَه محيطٌ بهم كأنَّه قيل : يستعجلونك بالعذابِ وإنَّ العذابَ لمحيطٌ بهم ، وإنَّما جيء بالجملةِ الاسميةِ دلالةً على تحقُّقِ الإحاطةِ واستمرارِها أو تنزيلاً لحالِ السَّببِ منزلةَ حالِ المسبَّبِ فإنَّ الكفرَ والمعاصيَ الموجبةَ لدخولِ جهنَّم محيطةٌ بهم ، وقيل : إنَّ الكفرَ والمعاصيَ هي النَّار في الحقيقةِ لكنَّها ظهرتْ في هذهِ النَّشأةِ بهذه الصُّورةِ وقد مرَّ تفصيلُه في سورةِ الأعرافِ الآية 8 عند قولِه تعالى : { والوزن يَوْمَئِذٍ الحق } ولامُ الكافرينَ إمَّا للعهدِ ووضعُ الظَّاهرِ موضعَ المضمرِ للإشعارِ بعلةِ الحُكمِ ، أو للجنسِ وهم داخلون فيه دُخولاً أولياً .(5/265)
يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58)
{ يَوْمَ يغشاهم العذاب } ظرفٌ لمضمرٍ قد طُوي ذكرُه إيذاناً بغايةِ كثرتِه وفظاعتِه كأنَّه قيلَ : يومَ يغشاهُم العذابُ الذي أشير إليه بإحاطةِ جهنَّم بهم يكونُ من الأحوالِ والأهوالِ ما لا يفي به المقالُ ، وقيل : ظرفٌ للإحاطةِ { مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } أي من جميعِ جهاتِهم { وَيَقُولُ } أي الله عزَّ وجلَّ ويعضدُه القِراءةُ بنونِ العظمةِ ، أو بعضُ ملائكتِه بأمرِه { ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي جزاءَ ما كنتُم تعملونه في الدُّنيا على الاستمرارِ من السيئاتِ التي من جُملتها الاستعجالُ بالعذابِ .
{ يَا عِبَادِى الذين آمَنُواْ } خطابُ تشريفٍ لبعضِ المؤمنينَ الذين لا يتمكَّنُون من إقامةِ أمورِ الدِّين كما ينبغِي لممانعةٍ من جهةِ الكَفَرةِ وإرشادٌ لهم إلى الطَّريقِ الأسلمِ { إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فاعبدون } أي إذا لم يتسهَّل لكُم العبادةُ في بلدٍ ولم يتيسَّر لكُم إظهارُ دينِكم فهاجِرُوا إلى حيثُ يتسنَّى لكم ذلكَ ، وعنه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : « من فرَّ بدينِه من أرضٍ إلى أرضٍ ولو كان شبراً استوجبَ الجنَّة وكان رفيقَ إبراهيمَ ومحمَّدٍ عليهما السَّلامُ » . والفاءُ جوابُ شرطٍ محذوفٍ إذِ المعنى إنَّ أرضي واسعةٌ إنْ لم تُخلصوا العبادةَ لي في أرضٍ فأخلِصُوها في غيرِها ثم حُذفَ الشَّرطُ وعُوِّض عنه تقديمُ المفعولِ مع إفادةِ تقديمِه معنى الاختصاصِ والإخلاصِ .
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } جملةٌ مستأنفةٌ جِيءَ بها حثاً على المُسارعة في الامتثالِ بالأمرِ أي كلُّ نفسٍ من النُّفوسِ واجدةٌ مرارةَ الموتِ وكربَه فراجعةٌ إلى حُكمِنا وجَزَائِنا بحسبِ أعمالِها ، فمَنْ كانت هَذه عاقبتَهُ فليس له بدٌّ من التَّزودِ والاستعدادِ لها . وقُرىء يَرجعون { والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُبَوّئَنَّهُمْ } لننزلنَّهم { مّنَ الجنة غُرَفَاً } أي عَلاليَ وهو مفعولٌ ثانٍ للتَّبوئةِ . وقُرىء لنُثوينَّهم من الثُّواء بمعنى الإقامةِ فانتصابُ غُرفاً حينئذٍ إمَّا بإجرائِه مُجرى لنُنزلنَّهم أو بنزعِ الخافضِ أو بتشبيهِ الظَّرفِ الموَّقتِ بالمُبهم كما في قولِه تعالى : { لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم } { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار } صفةٌ لغرفاً { خالدين فِيهَا } أي في الغُرَفِ أو في الجنَّة { نِعْمَ أَجْرُ العاملين } أي الأعمالُ الصَّالحةُ والمخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ ثقةً بدلالةِ ما قبله عليهِ . وقُرىء فنعَم .(5/266)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
{ الذين صَبَرُواْ } إمَّا صفةٌ للعاملينَ أو نُصبَ على المدحِ أي صبرُوا على أذيَّةِ المشركينَ وشدائدِ المهاجرةِ وغيرِ ذلكَ من المحنِ والمشاقِّ { وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي ولم يتوكَّلوا فيما يأتُون ويذرونَ إلا عَلى الله تعالى .
{ وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا } رُوي أنَّ النبيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لمَّا أمرَ المُؤمنينَ الذين كانُوا بمكَّةَ بالمهاجرةِ إلى المدينةِ قالُوا : كيفَ نقدُم بلدةً ليس لنا فيها معيشةٌ فنزلتْ أي وكم من دابةٍ لا تطيقُ حملَ رزقِها لضعفِها أو لا ندخرُه وإنَّما تُصبح ولا معيشةَ عندها { الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } ثمَّ إنَّها مع ضعفِها وتوكُّلِها وإيَّاكم مع قوَّتِكم واجتهادِكم سواء في أنَّه لا يرزقُها وإيَّاكم إلا الله تعالى لأنَّ رزقَ الكلِّ بأسبابٍ هو المسبِّبُ لها وحدَهُ فلا تخافُوا الفقرَ بالمُهاجرةِ { وَهُوَ السميع } المبالغُ في السَّمعِ فيسمعُ قولَكم هذا { العليم } المبالغُ في العلمِ فيعلمُ ضمائرَكم . { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ } أي أهلَ مكَّةَ { مِنْ خلاق السموات والارض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله } إذ لا سبيلَ لهم إلى إنكارِه ولا إلى التَّردُدِ فيه { فأنى يُؤْفَكُونَ } إنكارٌ واستبعادٌ من جهتِه تعالى لتركِهم العملَ بموجبِه أي فكيفَ يُصرفون عن الإقرارِ بتفرُّدِه تعالى في الإلهية مع إقرارِهم بتفرُّدِه تعالى فيما ذُكر من الخلقِ والتَّسخيرِ .
{ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاء } أنْ يبسطَه له { مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ } أي يقدرُ لمن يشاءُ أنْ يقدرَ له منهم كائناً مَن كانَ على أنَّ الضَّميرَ مبهمٌ حسبَ إبهامِ مرجعِه ، أو يقدرُ لمن يبسطه له على التَّعاقبِ { أَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } قيعلم مَن يليقُ ببسطِ الرِّزقِ فيبسطُه له ومن يليقُ بقدْرِه له فيقدرُه له أو فيعلم أنَّ كلاًّ من البسطِ والقدرِ في أيِّ وقتٍ يُوافق الحكممةَ والمصلحةَ فيفعلُ كلاًّ منهما في وقتِه { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السماء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الارض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله } معترفينَ بأنَّه الموجدُ للممكناتِ بأسرِها أصولِها وفروعِها ثمَّ إنَّهم يُشركون به بعضَ مخلوقاتِه الذي لا يكادُ يُتوهَّمُ منه القدرةُ على شيءٍ أصلاً { قُلِ الحمد لِلَّهِ } على أنْ جعلَ الحقَّ بحيثُ لا يجترىءُ المبطلون على جُحودِه وأنَّه أظهرَ حجَّتَك عليهم وقيل : على أنْ عصَمَك من هذهِ الضَّلالاتِ ولا يخفى بعدُه { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } أي شيئاً من الأشياءِ فلذلك لا يعملونَ بمُقتضى قولِهم هذا فيُشركون به سبحانَه أخسَّ مخلوقاتِه وقيل : لا يعقلونَ ما تُريد بتحميدِك عند مقالِهم ذلك .(5/267)
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68)
{ وَمَا هذه الحياة الدنيا } إشارةُ تحقيرٍ وازدراءٍ للدُّنيا وكيفَ لا وقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : « لو كانتِ الدُّنيا تزنُ عندَ الله جناحَ بَعُوضةٍ ما سَقَى الكافرَ منها شَرْبةَ ماءٍ » { إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ } أي إلا كما يُلهى ويلعبُ به الصبيانُ يجتمعون عليهِ ويبتهجون به ساعةً ثم يتفرَّقُون عنه { وَإِنَّ الدار الاخرة لَهِىَ الحيوان } أي لهيَ دارُ الحياةِ الحقيقية لامتناعِ طريانِ الموتِ والفناءِ عليها أو هي في ذاتِها حياةٌ للمبالغةِ . والحيوانُ مصدرُ حَيِيَ سُمِّيَ بهِ ذُو الحياة وأصلُه حَيَيانُ فقُلبتْ الياءُ الثَّانيةُ واواً لما في بناءِ فَعَلان من مَعْنى الحَرَكةِ والاضطرابِ اللازم للحَيَوان ولذلك اختِير على الحياةِ في هذا المقامِ المُقتضي للمبالغةِ { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أي لما آثرُوا عليها الحياةَ الدُّنيا التي أصلُها عدمُ الحياةِ ثمَّ ما يحدثُ فيها من الحَيَاةِ عارضةٌ سريعةُ الزَّوالِ وشيكةُ الاضمحلالِ { فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك } متَّصلٌ بما دلَّ عليه شرحُ حالِهم ، والرُّكوب هو الاستعلاءُ على الشيءِ المتحرِّكِ وهو متعدَ بنفسِه كما في قولِه تعالى : { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا } واستعمالُه هاهنا وفي أمثالِه بكلمة في للإيذانِ بأنَّ المركوبَ في نفسِه من قبيلِ الأمكنةِ ، وحركتُه قسريةٌ غيرُ إراديةٍ كما مرَّ في سورةِ هُودٍ والمعنى أنَّهم على ما وُصفوا من الإشراكِ فإذا ركبُوا في البحرِ ولقُوا شدَّةً { دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } أي كائنينَ على صورةِ المُخلصين لدينِهم من المؤمنينَ حيثُ لا يدعُون غيرَ الله تعالى لعلمِهم بأنَّه لا يكشفُ الشَّدائدَ عنهم إلا هُو { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } أي فاجؤا المعاودةَ إلى الشِّركِ { لِيَكْفُرُواْ بِمَا ءاتيناهم وَلِيَتَمَتَّعُواْ } أي يفاجئونَ الإشراكَ ليكونُوا كافرينَ بما آتيناهُم من نعمةِ الإنجاءِ التي حقُّها أنْ يشكرُوها { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } أي عاقبةَ ذلكَ وغائلتَه حينَ يَرَون العذابَ { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } أي ألم ينظرُوا ولم يشاهدُوا { إِنَّا جَعَلْنَا } أي بلدَهم { حَرَماً ءامِناً } مصُوناً من النَّهبِ والتَّعدِّي سالماً أهلُه من كلِّ سوءٍ { وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } أي والحالُ أنَّهم يُختلسون من حولِهم قتلاً وسبياً إذ كانتِ العربُ حولَه في تغاورٍ وتناهُبٍ { أفبالباطل يُؤْمِنُونَ } أي أبعد ظهورِ الحقِّ الذي لا ريبَ فيه بالباطلِ خاصَّة يُؤمنون دُون الحقِّ { وَبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرُونَ } وهي المستوجبةُ للشُّكرِ حيثُ يُشركون به غيرَهُ . وتقديمُ الصِّلةِ في الموضعينِ لإظهارِ كمالِ شناعةِ ما فعلُوا { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } بأنْ زعمَ أنَّ له شريكاً أي هو أظلمُ من كلِّ ظالمٍ وإنْ كانَ سبكُ النَّظمِ دالاًّ على نفيِ الأظلمِ من غيرِ تعرضٍ لنفيِ المُساوي وقد مرَّ مراراً { أَوْ كَذَّبَ بالحق لَمَّا جَاءهُ } أي بالرَّسولِ أو بالقُرآنِ وفي لمَّا تسفيهٌ لهم بأنْ لم يتوقفُوا ولم يتأمَّلوا حينَ جاءَهم بل سارعُوا إلى التَّكذيبِ آثر ذي أثيرٍ { أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين } تقريرٌ لثُوائِهم فيها كقولِ من قالَ :
ألستُم خيرَ من رَكبَ المَطَايا ... أي أَلاَ يستوجبونَ الثَّواء فيها وقد فعلُوا ما فعلُوا من الافتراءِ على الله تعالى والتَّكذيبِ بالحقِّ الصَّريحِ أو إنكارٌ واستبعادٌ لاجترائِهم على ما ذُكر من الافتراءِ والتَّكذيبِ مع علمِهم بحالِ الكَفَرةِ أي ألم يعلمُوا أن في جهنَّم مثوى للكافرين حتَّى اجترؤا هذه الجرأةَ .(5/268)
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
{ والذين جاهدوا فِينَا } أي في شأنِنا ولوجهِها خالصاً . أطلقَ المُجاهدةَ ليعمَّ جهادَ الأعادِي الظاهرةِ والباطنةِ { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } سُبُلَ السَّيرِ إلينا والوصولِ إلى جنابِنا أو لنزيدنَّهم هدايةً إلى سُبُلِ الخيرِ وتوفيقاً لسلُوكها كقولِه تعالى : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى } وفي الحديثِ : « من عَمِل بما عَلِم ورَّثه الله علمَ ما لم يعلَم » { وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين } معيةَ النَّصرِ والمعُونة .
عنه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : « مَن قرأَ سورةَ العنكبوتِ كانَ له من الأجرِ عشرُ حسناتٍ بعددِ كلِّ المؤمنينَ والمُنافقينَ »(5/269)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
( سورة الروم )
مكية إلا قوله { فسبحان الله } الآية . وهى ستون آية .
{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم } { الم } الكلامُ فيه كالذي مرَّ في أمثالِه من الفواتحِ الكريمةِ { غُلِبَتِ الروم * فِى أَدْنَى الارض } أي أدنى أرضِ العربِ منهم إذ هيَ الأرضُ المعهودةُ عندهم وهي أطراف الشَّامِ أو في أدنى أرضِهم من العربِ على أنَّ اللامَ عوضٌ عن المضافِ إليهِ . قال مجاهدٌ : هي أرضُ الجزيرةِ وهي أدْنى أرضِ الرُّومِ إلى فارسَ . وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : الأردنُّ وفلسطينُ . وقُرىء أدانِي الأرضِ { وَهُمْ } أي الرُّوم { مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ } أي بعد مغلوبيَّتهم . وقُرىء بسكونِ اللامِ وهي لغةٌ كالجَلَب والجَلْب { سَيَغْلِبُونَ } أي سيَغلِبون فارسَ { فِى بِضْعِ سِنِينَ } رُوي أنَّ فارسَ غَزَوا الرُّومَ فوافَوهم بأَذْرِعَاتٍ وبُصرَى وقيل : بالجزيرةِ كما مرَّ فغلبوا عليهم ، وبلغ الخبرُ مكَّة ففرح المشركون وشمِتُوا بالمسلمينَ وقالُوا : أنتُم والنَّصارى أهلُ كتابٍ ونحن وفارسُ أميُّون وقد ظهر إخوانُنا على إخوانِكم فلنظهرنَّ عليكم ، فقال أبُو بكرٍ رضي الله عنه : لا يقْرِرِ الله أعينَكم فوالله ليظهرنَّ الرومُ على فارسَ بعد بضعِ سنين ، فقال له أُبيُّ بنُ خَلَف اللَّعينُ : كذبتَ اجعل بيننا أجلاً أناحِبُك عليه فناحبَه على عشرِ قلائصَ من كلَ منهُما وجعلا الأجلَ ثلاثَ سنينَ فأخبر به أبُو بكرٍ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ : « البضعُ ما بين الثَّلاثِ إلى التِّسعِ فزيدُوه في الخطرِ ومادِّه في الأجلِ » فجعلاها مائةَ قلوصٍ إلى تسعِ سنينَ ومات أبيُّ من جرحِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وظهرتِ الرُّوم على فارسَ عند رأسِ سبعِ سنينَ وذلك يومَ الحديبيةِ ، وقيل : كانَ النَّصرُ للفريقينِ يومَ بدرٍ فأخذَ أبُو بكر الخَطَر من ذريَّةِ أبيَ فجاء به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ : « تصدَّق به » . وكانَ ذلك قبلَ تحريمِ القِمارِ . وهذه الآياتُ من البيِّناتِ الباهرةِ الشَّاهدةِ بصحَّةِ النُّبوةِ وكونِ القُرآنِ من عندِ الله عزَّ وجلَّ حيثُ أخبرتْ عن الغيبِ الذي لا يعلمُه إلا العليمُ الخبيرُ . وقُرىء غَلَبت على البناءِ للفاعلِ وسيُغلبون على البناءِ للمفعولِ والمعنى أنَّ الرُّوم غلبتْ على ريفِ الشامِ وسيغلبُهم المسلمونَ وقد غَزَاهُم المسلمون في السَّنةِ التَّاسعةِ من نزولِها ففتحُوا بعضَ بلادِهم ، فإضافةُ الغَلَب حينئذٍ إلى الفاعلِ .
{ لِلَّهِ الامر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } أي في أولِ الوقتينِ وفي آخرِهما حين غُلبوا وحين يغلِبون ، كأنَّه قيل : من قبلِ كونِهم غالبينَ وهو وقتُ كونِهم مغلوبينَ ومن بعدِ كونِهم مغلوبينَ وهو وقتُ كونِهم غالبينَ والمعنى أنَّ كلاًّ من كونِهم مغلوبينَ أولاً وغالبين آخراً ليس إلا بأمرِ الله تعالى وقضائِه { وَتِلْكَ الايام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } وقُرىء من قبلِ ومن بعدِ بالجرِّ من غيرِ تقديرِ مُضافٍ إليهِ واقتطاعِه كأنَّه قيل : قبلاً وبَعْداً ، بمعنى أولاً وآخِراً { وَيَوْمَئِذٍ } أي يومَ إذْ يغلبُ الرُّومُ على فارسَ ويحلُّ ما وعدَه الله تعالى من غلبتِهم { يَفْرَحُ المؤمنون } .(5/270)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
{ بِنَصْرِ الله } وتغليبِه من له كتابٌ على من لا كتابَ له وغيظِ من شمِت بهم من كفَّار مكَّةَ وكونِ ذلك من دلائلِ غلبةِ المؤمنينَ على الكفَّار ، وقيل : نصرُ الله إظهارُ صدقِ المؤمنينَ فيما أخبرُوا به المشركينَ من غَلَبة الرُّومِ على فارسَ ، وقيل : نصرُه تعالى أنَّه ولَّى بعضَ الظَّالمين بعضاً وفرَّق بين كلمتِهم حتَّى تناقصُوا وتفانوا وفلَّ كلٌّ منهما شوكةَ الآخرِ وفي ذلك قوَّةٌ . وعن أبي سعيدٍ الخُدري رضي الله عنه أنه وافقَ ذلك يومَ بدرٍ . وفيهِ من نصرِ الله العزيزِ للمؤمنينَ وفرحِهم بذلك ما لا يَخْفى ، والأولُ هو الأنسبُ لقولِه تعالى : { يَنصُرُ مَن يَشَاء } أنْ ينصرَهُ من عبادِه على عدوِّه ويُغلِّبه عليهِ فإنَّه استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ قولِه تعالى : { لِلَّهِ الامر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } { وَهُوَ العزيز } المبالغُ في العزَّةِ والغَلَبةِ فلا يُعجزه مَن يشاءُ أنْ ينصرَ عليهِ كائناً مَن كان { الرحيم } المبالغ في الرَّحمةِ فينصرُ من يشاءُ أنْ ينصرَه أيَّ فريقٍ كان ، والمرادُ بالرَّحمةِ هي الدُّنيوية ، أمَّا على القراءةِ المشهُورة فظاهرٌ لما أنَّ كِلا الفريقينِ لا يستحقُّ الرَّحمةَ الأُخرويَّةَ . وأمَّا على القراءةِ الأخيرةِ فلأنَّ المُسلمينَ وإنْ كانُوا مستحقِّين لها لكنْ المرادُ هاهنا نصرُهم الذي هُو من آثارِ الرَّحمةِ الدُّنيويةِ ، وتقديمُ وصفِ العزَّةِ لتقدمِه في الاعتبارِ { وَعَدَ الله } مصدرٌ مؤكِّدٌ لنفسِه لأنَّ ما قبله في مَعنى الوعدِ كأنَّه قيلَ : وَعَدَ الله وَعْداً { لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ } أيَّ وعدٍ كانَ ممَّا يتعلَّقُ بالدُّنيا والآخرةِ لاستحالةِ الكذبِ عليهِ سبحانَه . وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقعِ الإضمارِ لتعليلِ الحُكمِ وتفخيمِه . والجملةُ استئنافٌ مقررٌ لمعنى المصدرِ وقد جُوِّز أنْ تكونَ حالاً منه فيكونَ كالمصدرِ الموصوفِ ، كأنَّه قيل : وَعَدَ الله وَعْداً غيرَ مُخلفٍ { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أيْ ما سبقَ من شؤونِه تعالى .
{ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا } وهو ما يُشاهدونَهُ من زخارِفها وملاذِّها وسائرِ أحوالِها الموافقةِ لشهواتِهم الملائمةِ لأهوائِهم المستدعيةِ لانهماكِهم فيها وعكوفِهم عليها لا تمتعهم بزخارِفها وتنعمهم بملاذِّها كما قيلَ فإنَّهما ليسا ممَّا علمُوه منها بل من أفعالِهم المترتبةِ على علومِهم ، وتنكيرُ ظاهراً للتَّحقيرِ والتخَّسيسِ دونَ الوحدةِ كما تُوهِّم أي يعلمون ظاهراً حقيراً خسيساً من الدُّنيا { وَهُمْ عَنِ الاخرة } التي هي الغايةُ القُصوى والمطلبُ الأسنَى { هُمْ غافلون } لا يُخطرونَها بالبالِ ولا يُدركون من الدُّنيا ما يؤدي إلى معرفتِها من أحوالِها ولا يتفكَّرون فيها كما سيأتي . والجملةُ معطُوفةٌ على يعلمونَ وإيرادُها إسمية للدلالةِ على استمرارِ غفلتِهم ودوامِها وهُم الثَّانية تكريرٌ للأولى أو مبتدأٌ وغافلون خبرُه والجملةُ خبرٌ للأولى وهو عَلَى الوجهينِ منادٍ على تمكُّنِ غفلتِهم عن الآخرةِ المحققِّةِ لمقتضَى الجملةِ المتقدمةِ تقريراً لجهالتِهم وتشبيهاً لهم بالبهائمِ المقصورِ إدراكاتُها من الدُّنيا على ظواهِرها الخسيسةِ دونَ أحوالِها التي هي مَبَادي العلمِ بأمورِ الآخرةِ وإشعاراً بأنَّ العلمَ المذكورَ وعدمَ العلمِ رأساً سِيَّانِ .(5/271)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)
{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ } إنكارٌ واستقباحٌ لِقصَرِ نظرِهم على ما ذُكر من ظاهرِ الحياةِ الدُّنيا مع الغفلةِ عن الآخرةِ . والواوُ للعطفِ على مقدَّرٍ يقتضيِه المقامُ . وقولُه تعالى : { فِى أَنفُسِهِمْ } ظرفٌ للتفكُّرِ وذكرُه مع ظهورِ استحالةِ كونِه في غيرِها لتحقيق أمرهِ وتصويرِ حالِ المتفكِّرينِ . وقولُه تعالى : { مَّا خَلَقَ الله السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا } الخ متعلقٌ إمَّا بالعلمِ الذي يؤدِّي إليه التَّفكُّر ويدلُّ عليهِ أو بالقولِ الذي بترتَّبُ عليه كما في قولِه تعالى : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السموات والارض رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا } أي أعلمُوا ظاهرَ الحياةِ الدُّنيا فقط أو أقصَروا النَّظرَ عليه ولم يُحدِثُوا التفكُّرَ في قلوبِهم فيعلمُوا أنَّه تعالى ما خلقَهما وما بينهما من المخلُوقاتِ التي هُم من جُملتها ملتبسةً بشيءٍ من الأشياءِ { إِلا } ملتبسةً { بالحق } أي يقولُوا هذا القولَ مُعترفين بمضمونِه إثرَ ما علمُوه . والمرادُ بالحقِّ هوالثابتُ الذي يحقُّ أنْ يثبتَ لا محالةَ لا بتنائِه على الحكمةِ البالغةِ والغرضِ الصَّحيحِ الذي هو استشهادُ المكلَّفين بذواتِها وصفاتِها وأحوالِها المتغيرةِ على وجودِ صانعِها عزَّ وجلَّ ووحدتِه وعلمِه وقدرتِه وحكمتِه واختصاصِه بالمعبُوديَّةِ وصحَّةِ أخبارِه التي مِن جُملتِها إحياؤهم بعد الفناءِ بالحياةِ الأبديَّةِ ومجازاتِهم بحسبِ أعمالِهم غبَّ ما تبيَّن المحسنُ من المسيء وامتازتْ درجاتُ أفرادِ كلَ من الفريقينِ حسبَ امتيازِ طبقاتِ علومِهم واعتقاداتِهم المترتبةِ على أنظارِهم فيما نُصبَ في المصنُوعاتِ من الآياتِ والدَّلائلِ والأماراتِ والمخائلِ كما نطقَ به قولُه تعالى : { وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والارض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } فإنَّ العملَ غيرُ مختصَ بعملِ الجوارحِ ولذلك فسَّره عليه الصَّلاة والسَّلام بقولِه : « أيكم أحسنُ عقلاً وأورعُ عن محارمِ الله وأسرعُ في طاعةِ الله » وقد مرَّ تحقيقُه في أوائلِ سورةِ هُودٍ عليه السَّلام . وقولُه تعالى : { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } عطفٌ على الحقِّ أي وبأجلٍ معينٍ قدرَه الله تعالى لبقائِها لا بدَّ لها مِن أنْ تنتهيَ إليه لا محالةَ وهو وقتُ قيامِ السَّاعةِ . هذا وقد جُوِّز أنْ يكونَ قولُه تعالى : في أنفسِهم صلةً للتفكُّرِ على معنى أَوَلَم يتفكرُوا في أنفسِهم التي هي أقربُ المخلوقاتِ إليهم وهُم أعلمُ بشؤونِها وأخبرُ بأحوالِها منهم بأحوالِ ما عداها فيتدبَّروا ما أودَعها الله تعالى ظاهراً وباطناً من غرائبِ الحكمِ الدَّالَّةِ على التَّدبيرِ دونَ الإهمالِ وأنَّه لا بدَّ لها من انتهاءٍ إلى وقتٍ يُجازيها فيه الحكيم الذي دبَّر أمرَها على الإحسانِ إحساناً وعلى الإساءةِ مثلَها حتَّى يعلموا عند ذلك أنَّ سائرَ الخلائقِ كذلك أمرُها جارٍ على الحكمةِ والتَّدبيرِ وأنَّه لا بدَّ لها من الانتهاءِ إلى ذلك الوقتِ . وأنتَ خبيرٌ بأنَّ أمرَ معادِ الإنسانِ ومُجازاتِه بما عملَ من الإساءةِ والإحسانِ هو المقصودُ بالذَّاتِ والمحتاجُ إلى الإثباتِ فجعلُه ذريعةً إلى إثباتِ معادِ ما عَداهُ مع كونِه بمعزلٍ من الجزاءِ تعكيسٌ للأمة فتدبَّر . وقولُه تعالى : { وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الناس بِلِقَاء رَبّهِمْ لكافرون } تذييلٌ مقررٌ لما قبله ببيانِ أن أكثرَهم غيرُ مقتصرين على ما ذُكر من الغفلةِ عن أحوالِ الآخرةِ والإعراضِ عن التَّفكُّرِ فيما يُرشدهم إلى معرفتِها من خلقِ السَّمواتِ والأرضِ وما بينهما من المصنُوعاتِ بل هم مُنكرون جاحدون بلقاءِ حسابِه تعالى وجزائِه بالبعثِ .(5/272)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
{ أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ } توبيخٌ لهم بعدَ اتِّعاظِهم بمشاهدةِ أحوالِ أمثالِهم الدَّالَّةِ على عاقبتِهم ومآلِهم . والهمزةُ لتقريرِ المنفيِّ ، والواوُ للعطفِ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقامُ أي أقعدُوا في أماكنِهم ولم يسيرُوا { فِى الارض } وقولُه تعالى : { فَيَنظُرُواْ } عطفٌ على يسيروا داخلٌ في حكمِ التَّقريرِ والتَّوبيخِ ، والمعنى أنَّهم قد سارُوا في أقطارِ الأرضِ وشاهدُوا { كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ } من الأممِ المهلكةِ كعادٍ وثمودَ ، وقوله تعالى : { كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } الخ بيانُ لمبدأِ أحوالِهم ومآلِها يعني أنَّههم كانُوا أقدرَ منهم على التَّمتع بالحياةِ الدُّنيا حيثُ كانُوا أشدَّ منهم قوَّةً { وَأَثَارُواْ الارض } أي قلبُوها للزراعةِ والحرثِ وقيل لاستنباطِ المياه واستخراجِ المعادنِ وغيرِ ذلك { وَعَمَرُوهَا } أي عمَّرَها أولئك بفنونِ العماراتِ من الزِّراعةِ والغرسِ والبناءِ وغيرها ممَّا يُعدُّ عمارةً لها . { أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا } أي عمارةً أكثرَ كمَّا وكيفاً وزماناً من عمارةِ هؤلاءِ إيَّاها ، كيف لا وهُم أهلُ وادٍ غيرِ ذي زرعٍ لا تبسُّط لهم في غيرهِ وفيه تهكُّم بهم حيثُ كانوا مغترِّين بالدُّنيا مفتخرينَ بمتاعِها مع ضعفِ حالِهم وضيقِ عطنِهم إذْ مدارُ أمرِها على التبسطِ في البلادِ والتسلطِ على العبادِ والتقلبِ في أكنافِ الأرضِ بأصنافِ التَّصرفاتِ وهُم ضَعَفهٌ ملجأون إلى وادٍ لا نفعَ فيه يخافُون أنْ يتخطَّفَهم النَّاسُ { وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } بالمعجزات أو الآياتِ الواضحاتِ { فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ } أي فكذَّبوهم فأهلَكهم فما كانَ الله ليهلَكهم من غير جُرمٍ يستدعيِه من قبلهم ، والتَّعبيرُ عن ذلك بالظَّلمِ مع أنَّ إهلاكَه إيَّاهم بلا جُرمٍ ليس من الظُّلمِ في شيءٍ على تقرَّرَ من قاعدةِ أهلِ السنةِ لإظهارِ كمالِ نزاهتِه تعالى عن ذلك بإبرازهِ في معرضِ ما يستحيلُ صدورُه عنه تعالى وقد مرَّ في سورةِ الأنفالِ وسورةِ آلِ عمرانَ { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بأن اجترأوا على اقترافِ ما يُوجبه من المعاصِي العظيمةِ .
{ ثُمَّ كَانَ عاقبة الذين أَسَآءُوا } أي عملُوا السيئاتِ ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهم للتَّسجيلِ عليهم بالإساءةِ والإشعارِ بعلَّةِ الحكمِ { السَّوأى } أي العقوبةِ التي هي أسوأُ العقوباتِ وأفظعُها التي هي العقوبةُ بالنارِ فإنَّها تأنيثُ الأسوأِ كالحُسنى تأنيثُ الأحسنِ أو مصدرٌ كالبُشرى وُصفَ به العقوبةُ مبالغةً كأنَّها نفسُ السوآ ، وهي مرفوعةٌ على أنَّها اسمُ كانَ وخبرُها عاقبةَ . وقُرىء عَلى العكسِ وهو أدخلُ في الجَزَالةِ . وقولُه تعالى : { أَنْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله } علَّةٌ لما أُشير إليه من تعذيبِهم الدُّنيويِّ والأُخرويِّ أي لأنْ كذَّبُوا أو بأنْ كذَّبُوا بآياتِ الله المنزَّلةِ على رُسُلهِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ ومعجزاتِه الظَّاهرةِ على أيديهم . وقولُه تعالى : { وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُون } عطفٌ على كذَّبوا داخلٌ معه في حُكمِ العِلِّيةِ ، وإيرادُ الاستهزاءِ بصيغةِ المضارعِ للدِّلالةِ على استمرارِه وتجدُّدِه هذا هو اللائقُ بجزَالةِ النَّظمِ الجليلِ وقَدْ قيلَ وقيلَ .(5/273)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
{ قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق } أي يُنشئهم { ثُمَّ يُعِيدُهُ } بعد الموتِ بالبعثِ { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } إلى موقفِ الحسابِ والجزاءِ . والالتفاتُ للمُبالغةِ في التَّرهيبِ وقُرىء بالياءِ { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة } التي هي وقتُ إعادة الخلق ورجعهم إليه ، { يُبْلِسُ المجرمون } أي يسكُتون مُتحيِّرينَ لا ينبِسُون ، يقال ناظرتُه فأبلسَ إذا سكتَ وأيسَ من أنْ يحتجَّ . وقُرىء بفتحِ اللامِ ، من أبلسَه إذا أفحمَه وأسكتَه { وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء } يجيرونَهم من عذابِ الله تعالى كما كانُوا يزعمونَه . وصيغةُ الجمعِ لوقوعِها في مقابلةِ الجمعِ أي لم يكُن لواحدٍ منهم شفيعٌ أصلاً { وَكَانُواْ بِشُرَكَائِهِمْ كافرين } أي بإلهايتهم وشركتِهم مِ سبحانه حيثُ وقفُوا على كُنهِ أمرِهم . وصيغةُ الماضِي للدِّلالةِ على تحقُّقِه وقيلَ كانُوا في الدُّنيا كافرين بسببِهم وليسَ بذاكَ إذْ ليسَ في الإخبارِ به فائدةٌ يعتدُّ بها . { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة } أُعيدَ لتهويلِه وتفظيعِ ما يقعُ فيه . وقولُه تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } تهويلٌ له إثرَ تهويلٍ ، وفيه رمزٌ إلى أنَّ التَّفرقَ يقعُ في بعضٍ منه . وضميرُ يتفرَّقُون لجميعِ الخلقِ المدلولِ عليهم بما تقدَّمَ من بدئِهم وإعادتِهم ورجعِهم لا المجرمون خاصَّة . وليسَ المرادُ بتفرُّقِهم افتراقَ كلِّ فردٍ منهم عن الآخرِ بل تفرُّقَهم إلى فريقَيْ المؤمنينَ والكافرينَ كما في قولِه تعالى : { فَرِيقٌ فِى الجنة وَفَرِيقٌ فِى السعير } وذلك بعد تمامِ الحسابِ . وقولُه تعالى : { فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ } تفصيلٌ وبيانٌ لأحوالِ ذينكَ الفريقينِ . والرَّوضةُ كلُّ أرضٍ ذاتِ نباتٍ وماءٍ ورَوْنقٍ ونَضارةٍ . وتنكيرُها للتَّفخيم . والمرادُ بها الجَّنةُ ، والحُبورُ السُّرورُ يقال حبرَهُ إذا سرَّهُ سُروراً تهلَّل له وجهُه ، وقيل : الحَبرةُ كلُّ نغمةٍ حسنةٍ والتَّحبيرُ التَّحسينُ . واختلفتْ فيه الأقاويلُ لاحتمالِه وجوهَ جميعِ المسارِّ . فعنِ ابنِ عبَّاسٍ ومُجاهدٍ : يُكرمون . وعن قَتادةَ يُنعَّمون . وعن ابن كيسانَ يُحلَّون وعن بكر بن عيَّاشِ : التِّيحانُ على رؤوسِهم . وعن وكيعٍ : السَّماعُ في الجَّنةِ . وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم ، أنَّه ذكَر الجنَّةَ وما فيها من النعيمِ وفي آخرِ القومِ أعرابيُّ فقالَ : يا رسولَ الله هَلْ في الجَّنةِ من سماعٍ قال عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : « يا أعرابيُّ إنَّ في الجنَّةِ لنهراً حافَّتاه الأبكارُ من كلِّ بيضاءَ خُوصانيةِ يتغنَّين بأصواتٍ لم يسمعِ الخلائقُ بمثلِها قَطّ فذلكَ أفضلُ نعيمِ الجنَّةِ » قال الرَّاوي فسألتُ أبا الدرداءِ رضي الله عنه بمَ يتغنَّين قال بالتَّسبيحِ . ورُوي إنَّ في الجنَّةِ لأشجاراً عليها أجراسٌ من فضَّةٍ فإذا أرادَ أهلُ الجَّنةِ السَّماعَ بعثَ الله تعالى ريحاً من تحتِ العرشِ فتقعُ في تلكَ الأشجارِ فتحركُ تلك الأجراسَ بأصواتٍ لو سمعها أهلُ الدُّنيا لماتُوا طرباً .(5/274)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)
{ وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا } التي من جُملتها هذه الآياتُ النَّاطقةُ بما فُصِّل { وَلِقَاء الاخرة } صرَّح بذلك مع اندراجِه في تكذيبِ الآياتِ للاعتناءِ بأمرِه . وقولُه تعالى : { فَأُوْلَئِكَ } إشارةٌ إلى الموصولِ باعتبارِ اتِّصافِه بما في حيِّز الصِّلةِ من الكُفرِ والتَّكذيبِ بآياتِه تعالى وبلقاءِ الآخرةِ للإيذانِ بكمالِ تميُّزِهم بذلكَ عن غيرِهم وانتظامِهم في سلكِ المُشاهداتِ ، وما فيهِ من مَعْنى البُعدِ مع قُرب العهدِ بالمشارِ إليهِ للإشعارِ ببُعد منزلتِهم في الشرِّ أي أولئكَ الموصوفونَ بما فُصِّل من القبائحِ . { فِى العذاب مُحْضَرُونَ } على الدّوام لا يغيبونَ عنه أبداً .
{ فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الحمد فِى السموات والارض وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ } إثرَ ما بُيِّن حالُ فريَقْي المؤمنينَ العاملينَ للصالحاتِ والكافرينَ المكذِّبينَ بالآياتِ وما لهُما من الثَّوابِ والعذابِ أُمروا بما يُنجِّي من الثَّاني ويُفضِي إلى الأول من تنزيهِ الله عزَّ وجلَّ عن كلِّ مَا لا يليقُ بشأنِه سبحانَهُ ومن حمدِه تعالى على نعمِه العظامِ ، وتقديمُ الأولِ على الثَّاني لما أنَّ التَّخليةَ متقدِّمةٌ على التَّحليةِ . والفاء لترتيبِ ما بعدَها على ما قبلَها أي إذا علمتُم ذلك فسبِّحوا الله تعالى أي نزِّهُوه عمَّا ذكر سبحانَهُ أي تسبيحَه اللائقَ به في هذه الأوقاتِ واحمدُوه فإنَّ الإخبارَ بثبوتِ الحمدِ له تعالى ووجوبِه على المميِّزينَ من أهلِ السَّمواتِ والأرضِ في معنى الأمرِ به على أبلغِ وجهٍ وآكدِه ، وتوسيطُه بينَ أوقاتِ التَّسبيحِ للاعتناءِ بشأنِه والإشعارِ بأنَّ حقَّهما أنْ يُجمعَ بينَهما كما ينبيءُ عنه قولُه تعالى : { وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ } وقولُه تعالى : { فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ } وقولُه صلى الله عليه وسلم : « من قالَ حينَ يُصبحُ وحينَ يُمسي سبحانَ الله وبحمدِه مائةَ مرَّةٍ حُطَّت خطاياهُ وإنْ كانتْ مثلَ زَبَدِ البحرِ » . وقولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « مَنْ قالَ حينَ يُصبحُ وحينَ يُمسي سبُحانَ الله وبحمدِه مائةَ مرَّةٍ لم يأتِ أحدٌ يومَ القِيامةِ بأفضلَ ممَّا جاءَ بهِ إلا أحدٌ قالَ مثلَ ما قالَ أو زادَ عليهِ » . وقولُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : « كلمتانِ خفيفتانِ على اللَّسانِ ثقيلتانِ في الميزانِ سبحانَ الله وبحمدِه سبحانَ الله العظيمِ » وغيرُ ذلكَ ممَّا لا يُحصى من الآياتِ والأحاديثِ ، وتخصيصُهما بتلكَ الأوقاتِ للدِّلالةِ على أنَّ ما يحدثُ فيها من آياتِ قدُرتِه وأحكامِ رحمتِه ونعمتِه شواهدُ ناطقةٌ بتنزهِه تعالى واستحقاقِه الحمدَ وموجبةٌ لتسبيحِه وتحميدِه حتماً . وقولُه تعالى : { وعشيَّاً } عطفٌ على { حينَ تُمسون } وتقديمُه على حينَ تُظهرون لمُراعاةِ الفواصلِ وتغييرُ الأسلوبِ لِمَا أنَّه لا يجيءُ منه الفعلُ بمعنى الدُّخولِ في العشيِّ كالماء والصباحِ والظَّهيرة ، ولعلَّ السرَّ في ذلك أنَّه ليس من الأوقاتِ التي تختلفُ فيها أحوالُ النَّاس وتتغيرُ تغيراً ظاهراً مصحِّحاً لوصفِهم بالخروجِ عمَّا قبلها والدُّخولِ فيها كالأوقاتِ المذكورةِ فإنَّ كلاًّ منها وقتٌ تتغير فيه الأحوالُ تغيراً ظاهراً أمَّا في المساء والصَّباح فظاهرٌ وأمَّا في الظَّهيرة فلأنَّها وقتٌ يعتاد فيه التَّجرُّدُ عن الثيابِ للقيلولةِ كما مرَّ في سورة النُّور .(5/275)
وقيل المرادُ بالتَّسبيح والحمد الصَّلاة لاشتمالِها عليهما . وقد رُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما ( أن الآية جامعةٌ للصلوات الخمس تُمسون صلاتا المغربِ والعشاءِ وتُصبحون صلاةُ الفجرِ وعشياً صلاةُ العصرِ وتُظهرون صلاةُ الظُّهرِ ) . ولذلك ذهبَ الحسنُ إلى أنَّها مدنيةٌ إذ كان يقول إن الواجبَ بمكَّةَ ركعتانِ ، في أي وقتٍ اتفقتا وإنما فرضت الخمسُ بالمدينة والجمهورُ على أنها فُرضت بمكَّةَ وهو الحقُّ لحديث المعراج وفي آخره هنَّ خمسُ صلواتٍ كل يوم وليلة . عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم " مَنْ سرَّه أنْ يُكالَ له بالقفيزِ الأَوفى فليقُل : «فسبحانَ الله حينَ تُمسون وحينَ تُصبحون» الآيةَ " وعنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ " من قال حين يُصبح «فسبحانَ الله حينَ تُمسون وحينَ تُصبحون» . إلى قولِه تعالى : «وكذلك تُخرجونَ» أدرك ما فاتَه في يومِه ومن قالَها حينَ يُمسي أدركَ ما فاتَه في ليلتِه " وقُرىء حينا تُمسون وحينا تُصبحون أي تُمسون فيه وتُصبحون فيه .(5/276)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
{ يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت } كالإنسان من النطفة والطير من البيضة . { وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى } النُّطفةَ والبيضةَ من الحيوانِ { ويُحْيِى الارض } بالنباتَ { بَعْدَ مَوْتِهَا } يُبسها { وكذلك } ومثلَ ذلك الإخراجُ { تُخْرَجُونَ } من قبورِكم . وقُرىء تَخرُجون بفتح التَّاءِ وضمِّ الرَّاءِ . وهذا نوعُ تفصيلٍ لقوله تعالى { الله يبدأُُ الخلقَ ثم يُعيده } { وَمِنْ ءاياته } الباهرةِ الدَّالَّةِ على أنَّكم تُبعثون دلالةً أوضحَ ممَّا سبق فإنَّ دلالةَ بدءِ خلقِهم على إعادتِهم أظهرُ من دلالةِ إخراجِ الحيِّ من الميتِ وإخراجِ الميتِ من الحيِّ ومن دلالة إحياءِ الأرضِ بعد موتِها عليها { أَنْ خَلَقَكُمْ } أي في ضمن خلقِ آدمَ عليه السَّلامُ لما مرَّ مراراً من أنَّ خلقَه عليه الصَّلاة والسَّلام منطوٍ على خلق ذرياتِه انطواءً إجمالياً { مّن تُرَابٍ } لم يشَمَّ رائحةَ الحياة قطّ ولا مناسبة بينه وبين ما أنتُم عليه في ذاتِكم وصفاتِكم { ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } أي فاجأتُم بعد ذلك وقت كونِكم بشراً تنتشرون في الأرضِ ، وهذا مجمل ما فُصِّل في قوله تعالى : { ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ البعث فَإِنَّا خلقناكم مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } الآية { وَمِنْ ءاياته } الدَّالَّةِ على ما ذُكر من البعث وما بعده من الجزاءِ { أَنْ خَلَقَ لَكُم } أي لأجلِكم { مّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا } فإنَّ خلق أصلِ أزواجكم حواءَ من ضِلَع آدمَ عليه السَّلام متضمن لخلقهنَّ من أنفسكم على ما عرفته من التَّحقيقِ أو من جنسكم لا من جنسٍ آخرَ وهو الأوفقُ لقولِه تعالى : { لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا } أي لتألفُوها وتميلُوا إليها وتطمئنُّوا بها فإنَّ المُجانسةَ من دَوَاعي التَّضامِّ والتَعارفِ كما أنَّ المخالفةَ من أسبابِ التفرُّقِ والتَّنافرِ { وَجَعَلَ بَيْنَكُم } أي بين الأزواجِ إنَّا على تغليب الرِّجالِ على النِّساءِ في الخطاب أو على حذفِ ظرفٍ معطوفٍ على الظَّرفِ المذكُورِ أي جعل بينكم وبينهنَّ كما مرَّ في قولِه تعالى : { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ } وقيل : أو بين أفرادِ الجنسِ أي بينَ الرِّجالِ والنِّساءِ ويأباهُ قولُه تعالى : { مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } فإنَّ المرادَ بهما ما كان منهما بعصمةِ الزَّواج قطعاً أي جعلَ بينكم بالزَّواج الذي شرعَه لكم توادَّاً وتراحُماً من غير أنْ يكونَ بينكم سابقةُ معرفةٍ ولا رابطةٌ مصحِّحةٌ للتَّعاطفِ من قرابةٍ أو رحمٍ قيل المودَّةُ والرَّحمةُ من قبلِ الله تعالى ، والفَرْك من الشَّيطانِ . وَعَنِ الحَسَنِ رَحِمَهُ الله : المَودَّةُ كِنايةٌ عنِ الجِمَاعِ ، وَالرَّحمةُ عَنِ الولدِ كما قال تعالى ورحمةً منا { إِنَّ فِى ذَلِكَ } أيْ فيما ذُكر من خلقِهم من تُرابٍ وخلقِ أزواجِهم من أنفسِهم وإلقاءِ المودَّةِ والرَّحمةِ بينهم . وما فيهِ من مَعنْى البُعد مع قربِ العهدِ بالمشارِ إليه للإشعارِ ببُعد منزلتِه { لاَيَاتٍ } عظيمةً لا يُكْتَنَهُ كُنْهُها كثيرةً لا يُقَادر قَدْرُها { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } في تضاعيفِ تلك الأفاعيلِ المبنيةِ على الحكمِ البالغةِ . والجُملة تذييلٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله مع التنبيهِ على أنَّ ما ذُكر ليس بآيةٍ فذَّةٍ كما يُنبىء عنه قولُه تعالى : ومن آياتِه بل هي مشتملةٌ على آياتٍ شتَّى .(5/277)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)
{ وَمِنْ ءاياته } الدَّالَّةِ على ما ذُكر من أمر البعثِ وما يتلُوه من الجزاءِ { خُلِقَ السموات والارض } إما من حيثُ إنَّ القادرَ على خلقِهما بما فيهما من المخلوقات بلا مادَّة مستعدةِ لها أظهرُ قدرة على إعادِة ما كان حيَّاً قبل ذلك وإمَّا منْ حيثُ إنَّ خلقهما وما فيهما ليس إلا لمعاشِ البشرِ ومعادِه كما يُفصح عنه قولُه تعالى : { هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً } وقولُه تعالى : { وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والارض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } { واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ } أي لغاتِكم بأنْ علَّم كلَّ صنفٍ لغتَهُ وألهمه وضعَها وأقدرَه عليها ، أو أجناسِ نُطفكم وأشكالِه فإنَّك لا تكادُ تسمعُ منطقينِ متساويينِ في الكيفيَّةِ من كلِّ وجهٍ { وألوانكم } ببياضِ الجلدِ وسوادِه وتوسطِه فيما بينهما أو تخطيطاتِ الأعضاءِ وهيئاتِها وألوانِها وحُلاها بحيثُ وقعَ بها التمايزُ بين الأشخاسِ حتَّى إنَّ التَّوأمينِ مع توافقِ موادِّهما وأسبابِهما والأمورِ المتلاقيةِ لهما في التَّخليقِ يختلفانِ في شيءٍ من ذلك لا محالَة وإنْ كانا في غايةِ التَّشابِه وإنَّما نُظِمَ هذا في سلكِ الآياتِ الآفاقيةِ من خلقِ السَّمواتِ والأرضِ مع كونِه من الآياتِ الأنفسيةِ الحقيقية بالانتظامِ في سلكِ ما سبق من خلقِ أنفسِهم وأزواجِهم للإيذانِ باستقلالِه والاحترازِ عن توهُّمِ كونِه من تتمَّاتِ خلقِهم { إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي فيما ذُكر من خلقِ السَّمواتِ والأرضِ واختلافِ الألسنةِ والألوانِ { لاَيَاتٍ } عظيمةً في أنفسِها كثيرةً في عددِها { للعالمين } أي المتَّصفين بالعلمِ كما في قولِه تعالى : { وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العالمون } وقُرىء بفتحِ اللامِ وفيه دلالةٌ على كمالِ وضوحِ الآياتِ وعدمِ خفائِها على أحدٍ من الخلقِ كافَّة .
{ وَمِنْ ءاياته مَنَامُكُم باليل والنهار } لاستراحةِ القوى النَّفسانيةِ وتقوِّي القُوى الطَّبيعيةِ .(5/278)
وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
{ وابتغاؤكم مّن فَضْلِهِ } فيهما فإنَّ كُلاًّ من المنامِ وابتغاءِ الفضلِ يقعُ في المَلَوينِ وإنْ كان الأغلبُ وقوعَ الأول في الأولِ والثَّاني في الثَّانِي أو منامُكم بالليلِ وابتغاؤُكم بالنَّهارِ كما هو المعتادُ والموافقُ لسائرِ الآياتِ الورادةِ في ذلك خَلاَ أنَّه فصَل بين القرينينِ الأولينِ بالقرينينِ الآخيرينِ لأنَّهما زمان ، والزَّمانُ مع ما وقعَ فيه كشيءٍ واحدٍ مع إعانةِ اللفِّ على الاتحادِ { إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي شأنُهم أنْ يسمعُوا الكلامَ سماعَ تفهمٍ واستبصارٍ حيثُ يتأمَّلون في تضاعيفِ هذا البيانِ ويستدلُّون بذلك على شؤونِه تعالى : { وَمِنْ ءاياته يُرِيكُمُ البرق } الفعلُ إمَّا مقدَّرٌ بأنْ كما في قولِ مَن قال :
أَلاَ أيُّهذا الزَّاجِري أحضُرَ الوَغَى ... أي أنْ أحضُرَ أو منزَّلٌ منزلَة المصدرِ وبه فُسِّر المثلُ المشهُورُ « تسمعُ بالمُعَيديِّ خيرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ » أو هو على حالِه صفةٌ لمحذوفٍ أي آيةٌ يريكم بها البرق كقولِ مَن قال :
وَمَا الدَّهرُ إلاَّ نَارَتانِ فمنهُمَا ... أموتُ وأُخرى أَبتغِي العيشَ أَكْدَحُ
أي فمنهما تارةً أموتُ فيها وأُخرى أبتغِي فيها أو ومن آياتِه شيءٌ أو سحابٌ يُريكم البرقَ { خَوْفًا } من الصَّاعقةِ أو للمسافرِ { وَطَمَعًا } في الغيثِ أو للمقيمِ ونصبُهما على العِلَّةِ لفعلٍ يستلزمُه المذكورُ فإنَّ إراءتهم البرقَ مستلزمةٌ لرؤيتِهم إيَّاه أو للمذكورِ نفسِه على تقديرِ مضافٍ نحو إراءةِ خوفٍ وطمعٍ أو على تأويلِ الخوفِ والطمعِ بالإخافةِ والإطماعِ كقولِك فعلتُه رغماً للشَّيطانِ أو على الحالِ نحو كلَّمتُه شِفاهاً . { وَيُنَزّلُ مِنَ السماء مَاءً } . وقُرىء بالتَّخفيفِ { فَيُحْيِى بِهِ الأرض } بالنباتِ { بَعْدَ مَوْتِهَا } يُبسها { إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } فإنَّها من الظُّهورِ بحيث يكفي في إدراكِها مجرَّدُ العقل عند استعمالِه في استنباطِ أسبابِها وكيفيَّةِ تكوُّنِها . { وَمِنْ ءاياته أَن تَقُومَ السماء والارض بِأَمْرِهِ } أي بإرادتِه تعالى لقيامهِما ، والتَّعبيرُ عنها بالأمر للدِّلالةِ على كمال القدرة والغنى عن المبادىء والأسبابِ وليس المرادُ بإقامتهما إنشاءهما لأنَّه قد بُيِّن حاله بقولِه تعالى : { وَمِنْ ءاياته خَلْقُ * السموات والارض } ولا إقامتهما بغير مقيم محسوسٍ كما قيل فإن ذلك من تتماتِ إنشائِهما وإنْ لم يصرح به تعويلاً على ما ذُكر في غير موضعٍ من قوله تعالى : { خُلِقَ * السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } الآية بل قيامَهما واستمرارَهما على ما هُما عليه إلى أجلهما الذي نطقَ به قولُه تعالى فيما قيل : { مَّا خَلَقَ الله * السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } وحيث كانتْ هذه الآيةُ متأخرةً عن سائرِ الآياتِ المعدودةِ متَّصلةً بالبعثِ في الوجودِ أُخرت عنهنَّ وجُعلت متَّصلةً به في الذِّكرِ أيضاً فقيلَ { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مّنَ الارض إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } فإنه كلامٌ مسوق للاخبار بوقوعِ البعثِ ووجودِه بعد انقضاء أجل قيامِهما مترتِّب على تعداد آياتِه الدَّالَّةِ عليه غير منتظمٍ في سلكِها كما قيل : كأنَّه قيل : ومن آياتِه قيامُ السَّمواتِ والأرضِ على هيئاتِهما بأمرِه تعالى إلى أجل مسمَّى قدَّره الله تعالى لقيامِهما ثمَّ إذا دعاكم أي بعد انقضاءِ الأجلِ من الأرض وأنتُم في قبورِكم دعوة واحدة بأنْ قال أيُّها الموتى اخرجُوا فاجأتم الخروجَ منها وذلك قولُه تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى } ومن الأرضِ متعلق بدعاكُم إذ يكفي في ذلك كون المدعوِّ فيها يقال دعوته من أسفلِ الوادِي فطلع إليَّ لا بتخرجون لأنَّ ما بعد إذا لا يعملُ فيما قبلها .(5/279)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
{ وَلَهُ } خاصة { مَن فِى السموات والارض } من الملائكةِ والثَّقلين خَلقاً ومُلكاً وتصرُّفاً ليس لغيرِه شركةٌ في ذلك بوجهٍ من الوجوه { كُلٌّ لَّهُ قانتون } أي منقادُون لفعله لا يمتنعون عليه في شأنٍ من شؤونِه تعالى { وَهُوَ الذى يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } بعد موتِهم ، وتكريرُه لزيادةِ التَّقريرِ والتَّمهيدِ لما بعده من قولِه تعالى : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } أي بالإضافةِ إلى قُدَرِكم والقياس على أصولِكم وإلا فُهما عليه سواءٌ وقيل أهونُ بمعنى هَيِّنٌ ، وتذكير الضمير مع رجوعِه إلى الإعادة لما أنَّها مؤَّولةٌ بأنْ يُعيد وقيل : هو راجعٌ إلى الخلقِ وليس بذاك ، وأما ما قيل من أنَّ الإنشاء بطريقِ التَّفضل الذي يتخيَّر فيه الفاعلُ بين الفعل والتَّرك ، والإعادةُ من قبيلِ الواجبِ الذي لا بدَّ من فعله حتماً فكان أقربَ إلى الحصولِ من الإنشاءِ المترددِ بين الحصولِ وعدمِه فبمعزلٍ من التَّحصيل إذ ليس المرادُ بأهونيةِ الفعل أقربيَّتَه إلى الوجود باعتبار كثرةِ الأمورِ الدَّاعية للفاعل إلى إيجادِه وقوَّة اقتضائها لتعلق قدرته به بل أسهلية تأتَّيه وصدوره عنه بعد تعلق قدرته بوجوده وكونِه واجباً بالغيرِ ولا تفاوتَ في ذلك بين أنْ يكون ذلك التعلق بطريق الإيجابِ أو بطريقِ الاختيارِ . { وَلَهُ المثل الاعلى } أي الوصفُ الأعلى العجيبُ الشأنِ من القدرة العامَّةِ والحكمة التَّامةِ وسائر صفاتِ الكمال التي ليس لغيرِه ما يُدانيها فضلاً عمَّا يُساويها ، ومن فسَّره بقوله لا إله إلا الله أرادَ به الوصفَ بالوحدانيةِ { فِي السموات والارض } متعلق بمضمونِ الجملة المتقدِّمةِ على معنى أنَّه تعالى قد وُصف به وعُرف فيهما على ألسنةِ الخلائقِ وألسنةِ الدَّلائلِ ، وقيل : متعلق بالأعلى وقيل بمحذوفٍ هو حالٌ منه أو من المثل أو من ضميره في الأعلى { وَهُوَ العزيز } القادر الذي لا يعجزُ عن بدءِ ممكنٍ وإعادتِه { الحكيم } الذي يجري الأفعالَ على سَنَنِ الحكمة والمصلحةِ .(5/280)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
{ ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً } يتبيَّن به بطلانُ الشِّركِ { مّنْ أَنفُسِكُمْ } أي مُنتزعاً من أحوالِها التي هي أقربُ الأمورِ إليكم وأعرفُها عندكم وأظهرُها دلالةً على ما ذُكر من بطلان الشِّرك لكونها بطريقِ الأولوية . وقولُه تعالى { هَلْ لَّكُمْ } الخ تصوير للمثلِ أي هل لكم { مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم } من العبيدِ والإماءِ { مّن شُرَكَاء فِيمَا رزقناكم } من الأموالِ وما يجري مجراها مَّما تتصرَّفون فيها . فمِن الأُولى ابتدائيةٌ ، والثَّانيةُ تبعيضيةٌ ، والثَّالثةُ مزيدةٌ لتأكيدِ النَّفيِ المُستفادِ من الاستفهامِ . فقوله تعالى : { فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء } تحقيقٌ لمعنى الشركة وبيانٌ لكونِهم وشركانِهم متساوين في التَّصرف فيما ذُكر من غير مزيَّةِ لهم عليها على أنَّ هناك محذوفاً معطوفاً على أنتُم لا أنَّه عامٌّ للفريقين بطريق التَّغليب أي هل ترضَون لأنفسكم والحالُ أنَّ عبيدَكم أمثالُكم في البشريةِ وأحكامِها أنْ يشاركوكم فيما رزقناكم وهو مستعارٌ لكم فأنتم وهم فيه سواءٌ يتصرَّفون فيه كتصرُّفكم من غير فرقٍ بينكم وبينهم .
{ تَخَافُونَهُمْ } خبرٌ آخرُ لأنتم أو حالٌ من ضميرِ الفاعل في سواءٌ أي تهابون أنْ تستبدُّوا بالتَّصرُّف فيه بدون رأيهم { كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } أي خيفةً كائنةً مثلَ خيفتِكم من الأحرارِ المساهيمنَ لكم فيما ذُكر والمعنى نفيُ مضمونٍ ما فصَّل من الجملةِ الاستفهامَّيةِ أي لا ترضَون بأنْ يشاركَكم فيما هو معارٌ لكم مماليكُكم وهم أمثالُكم في البشريةِ غيرُ مخلوقين لكُم بل لله تعالى فكيف تُشركون به سبحانه في المعبوديةِ التي هي من خصائصِه الذاتيةِ مخلوقَه بل مصنوعَ مخلوقِه حيثُ تصنعونَه بأيديكم ثم تعبدونَه .
{ كذلك } أي مثلَ ذلك التَّفصيلِ الواضح { نُفَصّلُ الآيات } أي نبيِّنها ونوضِّحها لا تفصيلاً أدنى منه فإنَّ التَّمثيل تصويرٌ للمعاني المعقولة بصورةِ المحسوس وإبراز لأوابدِ المُدركاتِ على هيئة المأنوسِ فيكون في غايةِ الإيضاحِ والبيان { لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي يستعملون عقولَهم في تدبُّرِ الأمور ، وتخصيصُهم بالذِّكرِ مع عموم تفصيلِ الآياتِ للكلِّ لأنَّهم المتنفعون بها { بَلِ اتبع الذين ظَلَمُواْ } إعراضٌ عن مخاطبتهم ومحاولةُ إرشادِهم إلى الحقِّ بضربِ المثلِ وتفصيلِ الآياتِ واستعمالِ المقدِّماتِ الحقَّةِ المعقولةِ وبيانٌ لاستحالةِ تبعيتهم للحقِّ كأنَّه قيل لم يعقلوا شيئاً من الأياتِ المُفصَّلةِ با اتَّبعوا { أَهْوَاءهُمْ } الزائغةَ . ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهم للتَّسجيلِ عليهم بأنَّهم في ذلك الاتباعِ ظالمون واضعون للشيءِ في غيرِ موضعهِ أو ظالمون لأنفسِهم بتعريضِها للعذابِ الخالدِ { بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي جاهلين ببطلانِ ما أتَوَا مكبِّين عليه لا يلويهم عنه صارفٌ حسبما يصرِّف العالم إذا اتبع الباطل علمه ببطلانه { فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ الله } أي خلقَ فيه الضَّلالَ بصرفِ اختيارِه إلى كسبِه أي لا يقدرُ على هدايتِه أحدٌ { وَمَا لَهُمْ } أي لمن أضلَّه الله تعالى والجمعُ باعتبارِ المعنى { مّن ناصرين } يُخلَّصونهم من الضَّلالِ ويحفظونهم من تبعاته وآفاتِه على معنى ليس لواحدٍ منهم ناصرٌ واحدٌ على ما هو قاعدةُ مقابلةِ الجمعِ بالجمعِ .(5/281)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ } تمثيلٌ لإقباله على الدِّين واستقامتهِ وثباتِه عليه واهتمامِه بترتيبِ أسبابِه فإنَّ من اهتمَّ بشيءٍ محسوسٍ بالبصر عقدَ عليه طرفَه وسدَّد إليه نظرَهُ وقوَّم له وحهَه مُقبلاً به عليه أي فقوِّم وجهَك له وعُدْ له غيرَ ملتفتٍ يميناً وشمالاً . وقولُه تعالى { حَنِيفاً } حالٌ من المأمورِ أو من الدِّين { فِطْرَةَ الله } الفطرةُ الخلِقةُ . وانتصابُها على الإغراءِ أي الزمُوا أو عليكم فطرةَ الله فإنَّ الخطابَ لكلِّ كما يُفصح عنه قولُه تعالى منيبين ، والإفراد في أقِم لما أنَّ الرَّسولَ عليه الصَّلاة والسَّلام إمامُ الأمَّةِ فأمره عليه السَّلامُ مستتبع لأمرِهم ، والمرادُ بلزومِها الجريانُ على موجبِها وعدمُ الإخلالِ به باتباعِ الهَوَى وتسويلِ الشَّياطينِ ، وقيل على المصدرِ أي فطرَ الله فطرةً . وقولُه تعالى : { التى فَطَرَ الناس عَلَيْهَا } صفةٌ لفطرةَ الله مؤكدةٌ لوجوبِ الامتثالِ بالأمرِ فإنَّ خلقَ الله النَّاسَ على فطرتِه التي هي عبارةٌ عن قبولِهم للحقَّ وتمكُّنُهم من إدراكِه أو عن ملَّة الإسلامِ من موجباتِ لزومِها والتمسُّك بها قطعاً فإنَّهم لو خُلُّوا وما خُلقوا عليه أدَّى بهم إليها وما اختاروا عليها ديناً آخر ومن غَوى منهم فبإغواءِ شياطين الإنسِ والجنِّ ومنه قولُه عليها الصَّلاة والسَّلام حكايةٌ عن ربَّ العِزَّةِ : « كلَّ عبادِي خلقتُ حنفاءَ فاجتالتْهُم الشياطينُ عن ديِنهم وأمرُوهم أنْ يُشركوا بي غيري » وقولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « كلُّ مولودٍ يُولد على الفطرةِ حتَّى يكونَ أَبَواه هُما اللذانِ يهوِّدانه ويُنصِّرانِه » وقولُه تعالى : { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } تعليلٌ للأمرِ بلزومِ فطرتِه تعالى أو لوجوبِ الامتثالِ به أي لا صَّحةَ ولا استقامةَ لتبديلةِ بالإخلالِ بموجبِه وعدمِ ترتيبِ مقتضاهُ عليه باتِّباعِ الهَوَى وقبولِ وسوسةِ الشَّيطانِ وقيل لا يقدرُ أحدٌ على أنْ يُغيره فلا بدَّ حينئذٍ من حملِ التَّبديلِ على تبديلِ نفسِ الفطرةِ بإزالتِها رأساً ووضعِ فطرةٍ أُخرى مكانَها غيرِ مصححةٍ لقبولِ الحقِّ والتمكنِ من إدراكِه ضرورةَ أنَّ التبديل بالمعنى الأول مقدور بل واقع قطعاً فالتعليل حينئذ من جهة أنَّ سلامة الفطرةِ متحققةٌ في كلِّ أحدٍ فلا بدَّ من لزومِها بترتيبِ مُقتضاها عليها وعدمُ الإخلالِ به بما ذُكر من اتِّباعِ الهوى وخطواتِ الشَّيطانِ { ذلك } إشارةٌ إلى الدِّين المأمورِ بإقامةِ الوجهِ له أو إلى لزومِ فطرةِ الله المستفادِ من الاغراءِ أو إلى الفطرةِ إنْ فسِّرت بالملَّة . والتَّذكيرُ بتأويلِ المذكورِ أو باعتبارِ الخبرِ { الدين القيم } المُستوِي الذي لا عِوَجَ فيه { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } ذلكَ فيصدُّون عنه صُدوداً { ءاوى إِلَيْهِ } حالٌ من الضَّميرِ في النَّاصبِ المقدَّرِ لفطره الله أو في أقِم لعمومِه للأمَّةِ حسبما أُشير إليه وما بينَهما اعتراضٌ أي راجعين إليه من أنابَ إذَا رجعَ مرَّةً بعدَ أُخرى . وقولُه تعالى { واتقوه } أي من مخالفةِ أمرهِ .(5/282)
عطفٌ على المقدَّرِ المذكورِ . وكذا قولُه تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصلاة وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين } المبدِّلين لفطرةِ الله تعالى تبديلاً { مِنَ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } بدلٌ من المشركينَ بإعادةِ الجارِّ . وتفريقُهم لدينهم اختلافُهم فيما يعبدونَه على اختلافِ أهوائِهم . وفائدةُ الإبدالِ التَّحذيرُ عن الانتماءِ إلى حزبٍ من أحزابِ المشركينَ ببيان أنَّ الكلَّ على الضَّلالِ المبينِ وقُرىء فارقُوا أي تركُوا دينَهم الذي أُمروا به { وَكَانُواْ شِيَعاً } أي فِرقاً تشايعُ كلٌّ منها إمامَها الذي أضلَّها { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ } من الدينِ المعوجِ المؤسَّس على الرَّأيِ الزَّائغِ والزَّعمِ الباطلِ { فَرِحُونَ } مسرورون ظنَّاً منهم أنَّه حقٌّ وأَنَّى له ذلك . فالجملةُ اعتراضٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله من تفريقِ دينِهم وكونِهم شيعاً وقد جُوِّز أنْ أن يكونَ فرحون صفةً لكلُّ على أنَّ الخبرَ هو الظرفُ المقدَّمُ أعني من الذين فرَّقُوا ولا يخفى بعدُه .(5/283)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
{ وَإِذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ } أي شدَّةٌ { دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ } راجعينَ إليه من دعاءِ غيرِه { ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً } خلاصاً من تلك الشدَّة { إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ بِرَبّهِمْ } الذي كانُوا دَعَوه منيبين إليه { يُشْرِكُونَ } أي فاجأ فريقٌ منهم الإشراكَ وتخصيصُ هذا الفعلِ ببعضِهم لما أنَّ بعضَهم ليسُوا كذلك كما في قولِه تعالى : { فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } أي مقيمٌ على الطَّريقِ القصدِ أو متوسطٌ في الكفرِ لانزجارهِ في الجُملة { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم } اللامُ فيه للعاقبةِ وقيل للأمرِ التَّهديديِّ كقولِه تعالى : { فَتَمَتَّعُواْ } غيرَ أنَّه التفتَ فيه للمبالغةِ وقرىء وليتمتَّعوا { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } عاقبةَ تمتُّعِكم . وقُرىء بالياءِ ، على أنَّ تمتَّعوا ماضٍ والالتفاتُ إلى الغَيبةِ في قوله تعالى : { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ } للإيذان بالإعراضِ عنهم وتعديدِ جناياتِهم لغيرِهم بطريقِ المُباثّةِ { سلطانا } أي حجَّةً واضحةً وقيل : ذا سلطانٍ أي مَلَكاً معه برهانٌ { فَهُوَ يَتَكَلَّمُ } تكلُّمَ دلالةٍ كما في قولِه تعالى : { هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق } أو تكلُّمَ نطقٍ { بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ } بإشراكهم به تعالى أو بالأمر الذي بسببه يُشركون . { وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً } أي نعمة من صَّحةٍ وسَعَةٍ { فَرِحُواْ بِهَا } بَطَراً وأشَراً لا حَمْداً وشُكْراً { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ } شدَّةٌ { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } بشؤمِ معاصِيهم { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } فاجؤوا القُنوطَ من رحمتهِ تعالى وقُرىء بكسرِ النُّونِ .
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ } أي ألم ينظرُوا ولم يشاهدُوا { أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ } فما لهم لم يشكرُوا ولم يحتسبُوا في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ كالمؤمنينَ { إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فيستدلُّون بها على كمالِ القدرةِ والحكمةِ .(5/284)
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
{ فَئَاتِ ذَا القربى حَقَّهُ } من الصلةِ والصدقةِ وسائرِ المَبَرَّاتِ { والمساكين وابن السبيل } ما يستحقَّانِه والخطابُ للنبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام أو لمن بُسط له كما تُؤذن به الفاءُ { ذَلِكَ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله } ذاتَه أو جهتَه ويقصدون بمعروفهم إيَّاه تعالى خالصاً أو جهةَ التقربِ إليه لا جهةً أُخرى { وأولئك هُمُ المفلحون } حيث حصَّلْوا بما بُسط لهم النَّعيمَ المُقيمَ { وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن رِباً } زيادةٌ خاليةٌ عن العوضِ عند المعاملةِ وقُرىء أتيتُم بالقصرِ أي غشيتمُوه أو رهقتمُوه من إعطاءِ رباً { لّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ الناس } ليزيدَ ويزكو في أموالِهم { فَلاَ يَرْبُواْ عَندَ الله } أي لا يُبارك فيه وقُرىء لتربُوا أي لتزيدُوا أو لتصيرُوا ذوي رِبا { وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله } أي تبتغُون به وجهَه تعالى خالِصاً { فَأُوْلَئِكَ هُمُ المضعفون } أي ذُوو الأضعافِ من الثَّوابِ ونظيرُ المُضْعف المُقْوى والموسر لذي القوة واليسارِ أو الذين ضعّفوا ثوابَهم وأموالَهم بالبركةِ . وقُرىء بفتحِ العينِ ، وفي تغييرِ النَّظمِ الكريمِ والالتفاتِ من الجَزَالةِ ما لا يَخْفى .
{ الله الذى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء } أثبت له تعالى لوازمَ الأُلوهيَّةِ وخواصَّها ونفاها رأساً عَّما اتخذوه شركاء له تعالى من الأصنامِ وغيرِها مؤكِّداً بالإنكارِ على ما دلَّ عليه البرهانُ والعيانُ ووقع عليه الوفاقُ ثم استنتج منه تنزهه عن الشُّركاءِ بقولِه تعالى { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } وقد جُوِّز أن يكونَ الموصولُ صفةً والخبرُ هل من شركائِكم والرابطُ قولُه تعالى مِن ذلِكم لأنه بمعنى من أفعاله ومن الأولى والثانية تفيدانِ شيوعَ الحُكمِ في جنسِ الشُّركاءِ والأفعالِ والثَّالثة مزيدةٌ لتعميمِ المنفيِّ وكل منها مستقلة بالتأكيدِ وقُرىء تُشرِكون بصيغةِ الخطابِ { ظَهَرَ الفساد فِى البر والبحر } كالجدبِ والمَوَتانِ وكثرةِ الحَرَقِ والغَرَقِ وإخفاقِ الغاصةِ ومحقِ البركاتِ وكثرةِ المضارِّ أو الضَّلالةِ والظُّلمِ ، وقيل المرادُ بالبحرِ قُرى السَّواحلِ وقُرى البحورِ { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى الناس } بشؤمِ مَعَاصيهم أو بكسبِهم إيَّاها . وقيل ظهر الفسادُ في البرَّ بقتلِ قابيلَ أخاهُ هابيلَ وفي البحرِ بأنَّ جَلَندى كانَ يأخذُ كلَّ سفينةٍ غَصْباً { لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذى عَمِلُواْ } أي بعضَ جزائِه فإنَّ تمامَه في الآخرةِ واللامُ للعلَّةِ أو للعاقبةِ وقُرىء لنُذيقهم بالنَّونِ . { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عمَّا كانُوا عليه .(5/285)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
{ قُلْ سِيرُواْ فِى الارض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلُ } ليشاهدُوا آثارَهم { كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ } استئنافٌ للدَّلالة على أنَّ ما أصابَهم لفشوِّ الشركِ فيما بينَهم أو كان الشركُ في أكثرِهم وما دونه من المَعاصي في قليلٍ منهم { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ القيم } أي البليغِ الاستقامة { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ } لا يقدرُ أحدٌ على ردِّه { مِنَ الله } متعلق بيأتِى أو بمردِّ لأنه مصدرٌ والمعنى لا يردُّه الله تعالى لتعلُّقِ إرادتِه القديمةِ بمجيئِه { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } أصله يتصدَّعون أي يتفرَّقُون فريقٌ في الجَّنةِ وفريقٌ في السَّعيرِ .
{ مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } أي وبالُ كفرِه وهو النَّارُ المؤبَّدة { وَمَنْ عَمِلَ صالحا فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } أي يسوون منزلاً في الجنَّة وتقديمُ الظَّرفِ في الموضعينِ للدِّلالة على الاختصاصِ { لِيَجْزِىَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِن فَضْلِهِ } متلق بيصدَّعُون وقيل : بيمهدون أي يتفرَّقون بتفريقِ الله تعالى فريقينِ ليُجزي كلاً منهما بحسبِ أعمالِهم ، وحيث كان جزاءُ المؤمنين هو المقصودَ بالذَّاتِ أُبرز ذلك في معرضِ الغايةِ وعبر عنه بالفضلِ لما أَنَّ الإثابةَ بطريق التفضيل لا الوجوبِ وأُشير إلى جزاءِ الفريقِ الآخرِ بقولِه تعالى { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين } فإنَّ عدمَ محبتهِ تعالى كنايةٌ عن بُغضهِ الموجبِ لغضبهِ المستتبعِ للعقوبةِ لا محالةَ { وَمِنْ ءاياته أَن يُرْسِلَ الرياح } أي الشَّمالَ والصَّبَا والجَنوبَ فإنَّها رياحُ الرَّحمةِ وأما الدَّبُورُ فريحُ العذابِ ومنه قولُه عليه الصَّلاة والسَّلام : « اللهمَّ اجعلْهَا رياحاً ولا تجعلْها ريحاً » وقُرىء الرِّيحَ على إرادةِ الجنسِ { مبشرات } بالمطرِ { وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ } وهي المنافعُ التَّابعةُ لها وقيل : الخصبُ التَّابعُ لنزولِ المطرِ المسبَّبِ عنها أو الرَّوح الذي هو مع هبُوبِها . واللامُ متعلقةٌ بيرسل والجملةُ معطوفةٌ على مبشِّراتٍ على المعنى كأنَّه قيل ليبشركم بها وليذيقَكم أو بمحذوفٍ يُفهم من ذكرِ الإرسالِ تقديرُه وليذيقكم وليكون كذا وكذا يُرسلها لا لأمرٍ آخرَ لا تعلق له بمنافعِكم { وَلِتَجْرِىَ الفلك } بسوقِها { بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } بتجارةِ البحرِ { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ولتشكروا نعمةَ الله فيما ذُكر من الغاياتِ الجليلةِ .(5/286)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ } كما أرسلناك إلى قومِك { فَجَاؤُهُم بالبينات } أي جاء كلُّ رسول قومَه بما يخصُّه من البيِّنات كما جئتَ قومَك ببيِّناتك . والفاءُ في قولِه تعالى : { فانتقمنا مِنَ الذين أَجْرَمُواْ } فصيحةٌ ، أي فكذَّبُوهم فانتقمنَا منهم وإنَّما وضعَ موضعَ ضميرِهم الموصولُ للتنبيه على مكانِ المحذوفِ والإشعارِ بكونِه علَّةً للانتقامِ وفي قوله تعالى : { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين } مزيدُ تشريفٍ وتكرمةٍ للمؤمنينَ حيثُ جُعلوا مستحقِّين على الله تعالى أنْ ينصرَهم ، وإشعارٌ بأنَّ الانتقامَ من الكفرةِ لأجلهِ وقد يُوقف على حقَّاً على أنَّه متعلق بالانتقامِ ، ولعلَّ توسيط الآيةِ الكريمةِ بطريقِ الاعتراضِ بين ما سبقَ وما لحقَ من أحوالِ الرِّياحِ وأحكامِها لإنذارِ الكَفَرةِ وتحذيرِهم عن الإخلالِ بمواجبِ الشُّكرِ المطلوبِ بقولِه تعالى لعلَّكم تشكرُون بمقابلةِ النعمِ المعدودةِ المنوطةِ بإرسالِها كيلا يحلَّ بهم مثلُ ما حلَّ بأولئك الأممِ من الانتقامِ .
{ الله الذى يُرْسِلُ الرياح } استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ ما أُجمل فيما سبقَ من أحوالِ الرِّياحِ { فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ } متصلاً تارةً { فِى السماء } في جوِّها { كَيْفَ يَشَاء } سائراً وواقفاً مُطبقاً وغيرَ مطبقٍ من جانبٍ دون جانبٍ إلى غيرِ ذلك . { وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً } تارةً أُخرى أي قِطعاً . وقُرىء بسكونِ السِّينِ على أنَّه مخففٌ ، جمعُ كِسْفة أو مصدرٌ وصفَ به { فَتَرَى الودق } المطرَ { يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } في التارتين . { فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } أي بلادَهم وأراضيَهم { إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } فاجؤا الاستبشارَ بمجيء الخِصْبِ { وَإِن كَانُواْ } إنْ مخففة من إنَّ وضميرُ الشَّأنِ الذي هُو اسمُها محذوفٌ أي وإنَّ الشَّأنَ كانَوا { مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ } أي المطرُ { مِن قَبْلِهِ } تكريرٌ للتَّأكيدِ والإيذانِ بطولِ عهدِهم بالمطرِ واستحكامِ يأسِهم منه ، وقيل الضَّميرُ للمطرِ أو السَّحابِ أو الإرسالِ وقيل : للكسف على القراءةِ بالسكون وليس بواضحٍ وأقربُ من ذلك أنْ يكونَ الضَّميرُ للاستبشارِ ، ومن متعلقة بينزل لتفيد سرعةَ تقَلبِ قلوبِهم من اليأسِ إلى الاستبشار بالإشارةِ إلى غايةِ تقاربِ زمانيهما ببيانِ اتصالِ اليأسِ بالتنزيلِ المتصلِ بالاستبشارِ وبشهادةِ إذا الفجائية { لَمُبْلِسِينَ } خبرُ كانُوا ، واللامُ فارقةٌ ، أي آيسينَ { فانظر إلى ءاثار رَحْمَةِ الله } المترتبةِ على تنزيلِ المطرِ من النباتِ والأشجارِ وأنواعِ الثمارِ . والفاءُ للدِّلالةِ على سرعةِ ترتبها عليهِ . وقُرىء أثرِ بالتوَّحيدِ . وقولُه تعالى : { كَيْفَ يُحْىِ } أي الله تعالى { الارض بَعْدَ مَوْتِهَا } في حيِّزِ النِّصبِ بنزعِ الخافضِ . وكيفَ معلِّقٌ لانظرْ أي فانظُرْ إلى إحيائِه البديعِ للأرضِ بعد موتِها وقيلَ : على الحاليَّةِ بالتَّأويلِ وأيَّاً ما كان فالمُرادُ بالأمرِ بالنَّظرِ التنبيهُ عَلَى عظمِ قُدرتِه تعالى وسَعَةِ رحمتِه مع ما فيه من التَّمهيدِ لما يعقبُه مِنْ أمرِ البعثِ ، وقُرىء تُحيي بالتَّأنيثِ على الإسنادِ إلى ضميرِ الرَّحمةِ { إِنَّ ذلك } العظيمَ الشَّأنِ الذي ذُكر بعضُ شؤونه { لَمُحْيِى الموتى } لقادرٌ على إحيائِهم فإنَّه إحداثٌ لمثلِ ما كانَ في موادِّ أبدانِهم من القُوى الحَيَوانيَّةِ كما أنَّ إحياءَ الأرضِ إحداثٌ لمثلِ ما كانَ فيها منَ القُوى النباتيَّةِ أو لمحييهم البتةَ . وقولُه تعالى { وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } تذييلٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبلَه أي مبالغٌ في القُدرةِ على جميعِ الأشياءِ التي من جملتها إحياؤُهم لما أنَّ نسبةَ قُدرتِه إلى الكُلِّ سواءٌ .(5/287)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
{ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ } أي الأثرَ المدلُولَ عليه بالآثارِ فإنَّه اسمُ جنسٍ يعمُّ القليلَ والكثيرَ { مُصْفَرّاً } بعد خُضرتِه وقد جُوِّز أنْ يكونَ الضَّميرُ للسَّحابِ لأنَّه إذا كان مُصفرَّاً لم يُمطر ولا يخفى بعدُه . واللامُ في لئن موطِّئةٌ للقسمِ دخلتْ على حرفِ الشَّرطِ والفاءُ في فَرأَوه فصيحة واللامُ في قولِه تعالى : { لَّظَلُّواْ } لامُ جوابِ القسمِ السادِّ مسدَّ الجوابينِ أي وبالله لئنْ أرسلنا ريحاً حارةً أو باردةً فضربتْ زرْعَهُم بالصَّفارِ فرأَوَه مُصفرَّاً ليظلنَّ { مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ } من غيرِ تلعثُمٍ وفيه منْ ذمِّهم بعد تثبيتِهم وسرعةِ تزلزلِهم بين طَرَفيْ الإفراطِ والتَّفريطِ ما لا يخفى حيثُ كان الواجبُ عليهم أن يتوكلوا على الله تعالى في كل حال ويلجؤوا إليه بالاستغفار إذا احتبسَ عنهم القطرُ ولا ييأسوا من رَوحِ الله تعالى ويبادرُوا إلى الشُّكرِ بالطَّاعةِ إذا أصابَهم برحمتِه ولا يفرِّطوا في الاستبشارِ وأنْ يصبرُوا على بلائِه إذا اعترى زرعَهم آفةٌ ولا يكفرُوا بنعمائِه فعكسُوا الأمرَ وأبَوا ما يُجديهم وأَتَوا بما يُرديهم { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } لما أنَّهم مثلُهم لا نسدادِ مشاعرِهم عن الحقِّ { وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ } تقييدُ الحكم بما ذُكر لبيانِ كمالِ سُوء حالِ الكفرةِ والتنبيه على أنَّهم جامعُون لخصلتي السُّوءِ نبوِّ أسماعِهم عن الحقَّ وإعراضِهم عن الإصغاءِ إليهِ ولو كانَ فيهم إحداهُما لكفاهُم ذلك فكيفَ وقد جمعُوهما فإنَّ الأصمَّ المقبلَ إلى المتكلِّمِ ربَّما يفطَنُ من أوضاعِه وحركاتِه لشىءٍ من كلامِه وإنْ لم يسمعْهُ أصلاً وأمَّا إذا كانَ مُعرضاً عنه فلا يكادُ يفهمُ منه شيئاً . وقُرىء بالياءِ المفتوحةِ ورفعِ الصُّمِّ { وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى عَن ضلالتهم } سمُّوا عُمياً إما لفقدِهم المقصودِ الحقيقيِّ من الإبصارِ أو لعَمَى قلوبِهم . وقُرىء تهدِي العميَ { إِن تُسْمِعُ } أي ما تُسمِعُ { إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا } فإنَّ إيمانَهم يدعُوهم إلى التَّدبرِ فيها وتلقِّيها بالقَبُولِ إو إلاَّ من يُشارفُ الإيمانَ بها ويُقبل عليها إقبالاً لائقاً { فَهُم مُّسْلِمُونَ } مُنقادُون لما تأمرُهم به من الحقِّ .(5/288)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
{ الله الذى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ } مبتدأٌ وخبرٌ أي ابتدأكُم ضعفاءَ وجعلَ الضَّعفَ أساسَ أمرِكم كقولِه تعالى : { وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } أي خلقكُم من أصلٍ ضعيفٍ هو النُّطفة . { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً } وذلك عند بلوغِكم الحُلُمَ أو تعلقِ الرُّوح بأبدانِكم { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً } إذا أخذَ منكم السنُّ . وقُرىء بضمِّ الضَّادِ في الكلِّ وهو أَقوى لقولِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما : قرأتها على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأقرأنِي من ضُعفٍ . وهُما لغُتانِ كالفَقْرِ والفُقْرِ . والتَّنكيرُ معَ التَّكريرِ لأنَّ المتقدِّمَ غيرُ المتأخرِ . { يَخْلُقُ مَا يَشَاء } من الأشياءَ التي من جُملتِها ما ذُكر من الضَّعفِ والقُوَّةِ والشَّيبةِ { وَهُوَ العليم القدير } المبالغُ في العلمِ والقدرةِ فإنَّ التَّرديدَ فيما ذُكر من الأطوارِ المختلفةِ من أوضحِ دلائلِ العلمِ والقدرةِ { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة } أي القيامةُ سُمِّيتْ بها لأنَّها تقومُ من آخرِ ساعةٍ من ساعاتِ الدُّنيا أو لأنَّها تقعُ بغثةً وصارتْ عَلَماً لها كالنَّجمِ للثُّريَّا والكوكَبِ للزُّهْرةِ . { يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ } أي في القبُورِ أو في الدُّنيا . والأولُ هُو الأظهرُ لأنَّ لبثَهم مُغيَّا بيومِ البعثِ كما سيأتي وليسَ لبثُهم في الدُّنيا كذلكَ وقيلَ : فيما بين فناءِ الدُّنيا والبعثِ وانقطاع عذابِهم . وفي الحديثِ : « ما بينَ فناءِ الدُّنيا وَالبَعثِ أربعونَ » وهُو محتملٌ للسَّاعاتِ والأيَّامِ والأعوامِ وقيلَ : لا يعلم أهي أربعونَ سنة أو أربعونَ ألفِ سنة { غَيْرَ سَاعَةٍ } استقلُّوا مدَّة لبثهم نسياناً أو كذباً أو تخميناً { كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ } مثلَ ذلكَ الصَّرفِ كانوا يُصرفون في الدُّنيا عن الحقِّ والصِّدقِ .
{ وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان } في الدُّنيا من الملائكةِ والإنسِ { لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كتاب الله } في علمهِ أو قضائهِ أو ما كتبَه وعيَّنه أو في اللَّوحِ أو القرآنِ وهو قوله تعالى : { وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ } { إلى يَوْمِ البعث } ردُّوا بذلك ما قالُوه وأيَّدوه باليمين كأنَّهم من فرطِ حَيرتِهم لم يدرُوا أنَّ ذلك هو البعثُ الموعودُ الذي كانُوا ينكرونَه وكانُوا يسمعون أنَّه يكونُ بعد فناءِ الخلقِ كافَّة ويقدرون لذلك زماناً مديداً وإنْ لم يعتقدُوا تحقُّقه فردَّ العالِمونَ مقالتَهم ونبَّهوهم على أنَّهم لبثُوا إلى غايةٍ بعيدةٍ كانُوا يسمعونَها وينكرونَها وبكَّتوهم بالإخبارِ بوقوعِها حيثُ قالُوا { فهذا يَوْمُ البعث } الذي كنتُم تُوعدون في الدُّنيا { ولكنكم كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ } أنَّه حقٌّ فتستعجلون به استهزاءً والفاءُ جوابُ شرطٍ محذوفٍ كما في قول مَن قالَ :
قالُوا خراسانُ أقْصَى ما يُرادُ بنا ... ثمَّ القُفولُ ، فقد جِئنا خُراساناً
{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الذين ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ } أي عذرُهم . وقُرىء تنفعُ بالتاء محافظةً على ظاهرِ اللفظِ وإنْ توسط بينهما فاصلٌ { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } لا يُدعون إلى ما يقتضِي إعتابَهم أي إزالةَ عَتْبِهم من التَّوبة والطَّاعةِ كما دُعوا إليه في الدُّنيا من قولِهم استعتبني فلانٌ فاعتبتُه أي استرضانِي فأرضيته .(5/289)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
{ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هذا القرءان مِن كُلّ مَثَلٍ } أي وبالله لقد بينَّا لهم كلَّ حالٍ ووصفنا لهم كلَّ صفةٍ كأنَّها في غرابتها مَثَلٌ وقصصنا عليهم كلَّ قصَّةٍ عجيبةِ الشَّأنِ كصفةِ المبعوثينَ يومَ القيامةِ وقصتهم وما يقولُونَ وما يُقال لهم ويفعلُ بهم من ردِّ اعتذارِهم { وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِئَايَةٍ } من آياتِ القُرآنِ النَّاطقةِ بأمثالِ ذلك { لَّيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ } لفرطِ عتوِّهم وعنادِهم وقساوةِ قلوبِهم مخاطبينَ للنبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والمؤمنين { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ } أي مزوِّرون { كذلك } مثلَ ذلك الطَّبعِ الفظيعِ { يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الذين لاَّ يَعْلَمُونَ } لا يطلبونَ العلمَ ولا يتحرَّون الحقَّ بل يُصرُّون على خرافاتٍ اعتقدوها وتُرَّهاتٍ ابتدعُوها فإن الجهلَ المركَّبَ يمنعُ إدراكُ الحقِّ ويوجبُ تكذيبَ المُحقِّ .
{ فاصبر } على ما تُشاهد منهم من الأقوالِ الباطلةِ والأفعالِ السئيةِ { إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } وقد وعدك بالنُّصرةِ وإظهارِ الدِّينِ وإعلاءِ كلمةِ الحقِّ ولا بُدَّ من إنجازِه والوفاءِ به لا محالةَ { وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ } لا يحملنَّك على الخفَّةِ والقلقِ { الذين لاَ يُوقِنُونَ } بما تتلُو عليهم من الآياتِ البيِّنةِ بتكذيبِهم إيَّاها وإيذائِهم لك بأباطِيلِهم التي مِنْ جُملتها قولُهم إنْ أنتُم إلا مُبطلون فإنَّهم شاكُّون ضالُّون ولا يُستبعد منهم أمثالُ ذلك . وقُرىء بالنُّون المخففةِ وقُرىء ولا يستحقنَّك من الاستحقاقِ أي لا يفتُننَّك فيملكوكَ ويكونُوا أحقَّ بك من المؤمنينَ . وأياً ما كان فظاهرُ النَّظمِ الكريمِ وإنْ كانِ نهياً للكَفَرةِ عن استخفافِه عليه السَّلامُ عن التَّاثرِ من استخفافِهم والافتنانِ بفتنتِهم على طريقِ الكنايةِ كما في قوله تعالى : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَن لا تَعْدِلُواْ } عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قرأَ سورةَ الرُّوم كانَ له مِن الأجرِ عشرُ حسناتٍ بعددِ كلِّ مَلَكٍ يُسبِّحُ الله تعالى بينَ السَّماءِ والأرضِ وأدركَ ما ضيَّع في يومِه وليلتهِ »(5/290)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)
( سورة لقمان )
( مكية وقيل { إلا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة } فإن وجوبهما في المدينة وهو ضعيف لأنه ينافى شرعيتهما بمكة وقيل إلا ثلاثاً من قوله { ولو أن ما فى الأرض من شجرة أقلام } وهى أربع وثلاثون آية )
{ الم تِلْكَ ءايات الكتاب } سلفَ بيانُه في نظائرِه { الحكيم } أي ذي الحكمةِ لاشتماله عليها أو هو وصفٌ له بنعته تعالى أو أصلُه الحكيمُ منزلُه أو قائلُه فخُذفَ المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليهِ مُقامَه فانقلبَ مرفُوعاً فاستكنَّ في الصِّفةِ المُشبَّهةِ . وقيل الحكيمُ فعيلٌ بمعنى مُفْعَلٍ كما قالُوا أعقدتُ اللَّبنَ فهو عَقِيدٌ أي مُعْقَدٌ وهو قليلٌ وقيلَ بمعنى فاعلٍ { هُدًى وَرَحْمَةً } بالنَّصبِ على الحاليَّةِ من الآياتٍ والعاملُ فيهما معنى الإشارةِ . وقُرئا بالرَّفعِ على أنَّهما خبرانِ آخرانِ لاسمِ الإشارة أو لمبتدأ محذوف { لّلْمُحْسِنِينَ } أي العاملين للحسنات فإن أريد بها مشاهيرُها المعهودةُ في الدِّينِ فقولُه تعالى : { الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكواة وَهُم بالاخرة هُمْ يُوقِنُونَ } بيانٌ لما عملوها من الحسناتِ على طريقةِ قولِه :
الأَلْمعيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ الظَّن ... كَأَنْ قَد رَأَى وقَدْ سَمِعا
وإنْ أُريد بها جميعُ الحسناتِ فهو تخصيصٌ لهذه الثلاثِ بالذكرِ من بين سائر شُعبِها لإظهارِ فضلِها وإنافتِها على غيرِها ، وتخصيصُ الوجهِ الأولِ بصورةِ كونِ الموصولِ صفةً للمحسنين والوجهِ الآخيرِ بصورةِ كونِه مبتدأً مما لا وجَه له . { أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون } الفائزون بكلِّ مطلوبٍ والنَّاجُون من كلِّ مهروبٍ لحيازتِهم قُطريْ العلمِ والعملِ وقد مرَّ فيه من المقالِ في مطلع سورةِ البقرةِ بما لا مزيدَ عليهِ . { وَمِنَ الناس } محله الرَّفعُ على الابتداءِ باعتبارِ مضمونِه أو بتقديرِ الموصوفِ . ومَن في قولِه تعالى : { مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الحديث } موصولةٌ أو موصوفةٌ محلُّها الرَّفعُ على الخبرَّيةِ والمعنى وبعضُ النَّاسِ ، أو وبعضٌ مِن النَّاسِ الذي يشترِي أو فريقٌ يشتِري على أنَّ مناطَ الإفادةِ والمقصودَ بالأصالةِ هو اتِّصافُهم بما في حِّيزِ الصِّلةِ أو الصِّفةِ لا كونُهم ذواتَ أولئك المذكورينَ كما مرَّ في قولِه تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله وباليوم الأخر } الآياتِ ولهوُ الحديثِ ما يُلهى عمَّا يُعنى من المهمَّاتِ كالأحاديثِ التي لا أصلَ لها والأساطير التي لا اعتدادَ بها والمضاحكِ وسائرِ ما لا خيرَ فيه من فضُولِ الكلامِ . والإضافةُ بمعنى من التبيينيةِ إنْ أُريد بالحديثِ المنكرُ وبمعنى التبعيضيةِ إن أُريد به الأعمُّ مِن ذلكَ . وقيلَ نزلتِ الآيةُ في النَّضرِ بنِ الحارث اشترى كتبَ الأعاجمِ وكان يُحدِّثُ بها قُريشاً ويقولُ إنْ كان محمدٌ عليه الصَّلاة والسَّلام يُحدِّثكم بحديثِ عادٍ وثمودٍ فأَنا أُحدِّثكم بحديثِ رُسْتُمَ واسفِنْدِيارَ والأكاسرةِ . وقيلَ كان يشترِي القيانَ ويحملهنَّ على مُعاشرةِ مَن أرادَ الإسلامَ ومنعِه عنْهُ { لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله } أي دينِه الحقِّ الموصِّلِ إليهِ تعالى أو عن قراءةِ كتابِه الهادِي إليه تعالى .(5/291)
وقُرىء ليَضلَّ بفتح الياء أي ليثبُتَ ويستمرَّ على ضلالِه أو ليزدادَ فيه { بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي بحالِ ما يشتريِه أو بالتِّجارةِ حيثُ استبدلَ الشرَّ البَحتَ بالخيرِ المحضِ . { وَيَتَّخِذَهَا } بالنَّصبِ عطفاً على يُضلَّ . والضَّميرُ للسَّبيلِ فإنَّه ممَّا يُذكِّرُ ويُؤنَّثُ وهو دينُ الإسلامِ أو القُرآنِ أي ويتخذَها { هُزُواً } مَهزُواً بهِ . وقُرىء ويتخذُها بالرَّفعِ عطفاً على يشترِي . وقولُه تعالى :
{ أولئك } إشارةٌ إلى مَن . والجمعُ باعتبارِ معناها كما أنَّ الإفرادَ في الفعلينِ باعتبارِ لفظِها ، وما فيه منْ مَعنْى البُعد مع قُربِ العهدِ بذكرِ المُشارِ إليهِ للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهم في الشَّرارةِ أي أولئكَ الموصُوفون بما ذُكر من الاشتراءِ للإضلالِ { لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } لما اتَّصفُوا به من إهانتِهم الحقِّ بإيثارِ الباطلِ عليهِ وترغيبِ النَّاس فيه .(5/292)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8)
{ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ } أي على المُشتري ، أُفرد الضَّميرُ فيه وفيما بعدَه كالضَّمائرِ الثلاثةِ الأولِ باعتبارِ لفظةِ مَن بعدَ ما جُمع فيما بينهما باعتبارِ معناها . { ءاياتنا } التي هي آياتُ الكتابِ الحكيمِ وهدى ورحمةٌ للمحسنين { وَلَّى } أعرض عنها غيرَ معتدَ بها { مُسْتَكْبِراً } مبالغاً في التَّكَبُّر { كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } حالٌ من ضمير ولَّى أو من ضميرٍ مستكبراً . والأصلُ كأنَّه فحذف ضميرُ الشَّأنِ وخُفِّفتْ المُثقَّلةُ أي مشبهاً حاله حالَ مَن لم يسمعها وهو سامعٌ وفيه رمزٌ إلى أنَّ مَن سمعها لا يُتصوَّرُ منه التَّوليةُ والاستكبارُ لما فيها من الأمورِ الموجبةِ للإقبالِ عليها والخضوعِ لها على طريقةِ قولِ مَن قال :
كأنَّك لم تَجْزَعْ على ابنِ طَرِيْفِ ... { كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً } حال من ضميرِ لم يسمعْها أي مُشبِهاً حالُه حالَ من في أذينه ثقَلٌ مانع من السَّماعِ ويجوز أنْ يكونا استئنافين . وقُرىء في أُذْنيهِ بسكونِ الذَّالِ . { فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي فأعلمه بأنَّ العذابَ المفرط في الإيلام لاحقٌ به لا محالة ، وذكرُ البشارةِ للتَّهكمِ { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } بيانٌ لحالِ المُؤمنين بآياتِه تعالى إثرَ بيانِ حالِ الكافرينَ بها أي الذين آمنُوا بآياتِه تعالى وعملُوا بموجبِها { لَهُمْ } بمقابلة ما ذُكر من إيمانِهم وأعمالِم { جنات النعيم } أي نعيمُ جنَّاتٍ فعكسَ للمُبالغةِ والجملة خبرُ أنَّ والأحسن أنْ يجعلَ لَهمُ هو الخبرَ لأنَّ وجنَّاتُ النَّعيمِ مرتفعاً به على الفاعليَّةِ .(5/293)
خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
وقولُه تعالى : { خالدين فِيهَا } حال من الضَّميرِ في لهم أو مِن جنَّاتِ النَّعيمِ لاشتماله على ضميريهِما والعاملُ ما تعلَّق به اللامُ { وَعْدَ الله حَقّا } مصدرانِ مؤكِّدانِ ، والأول لنفسه والثَّاني لغيرهِ لأنَّ قولَه تعالى لهم جنَّاتُ النَّعيمِ في معنى وعَدَهم الله جنَّاتِ النَّعيمِ . { وَهُوَ العزيز } الذي لا يغلبه ليمنعه من إنجازِ وعدِه أو تحقيقِ وعيدِه { الحكيم } الذي لا يفعلُ إلا ما تقتضيهِ الحكمةُ والمصلحةُ .
{ خَلَقَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ } الخ استئنافٌ مسوقٌ للاستشهادِ بما فُصِّل فيه على عزَّتِه تعالى التي هي كمالُ القدرةِ وحكمتِه التي هي كمالُ العلمِ وتمهيدُ قاعدةِ التوحيد وتقريرُه وإبطالُ أمرِ الإشراكِ وتبكيتُ أهلِه . والعَمَدُ جمعُ عمادٍ كأَهبٍ جمعُ إهابٍ وهو ما يُعمَّدُ به أي يُسندُ . يُقال عمَّدتُ الحائطَ إذا دعَّمتُه أي بغيرِ دعائم ، على أنَّ الجمعَ لتعددِ السَّمواتِ . وقولُه تعالى : { تَرَوْنَهَا } استئنافٌ جِيءَ بهِ للاستشهادِ على ما ذُكر من خلقِه تعالى لها غيرَ معمودةٍ بمُشاهدتِهم لها كذلك ، أو صفةٌ لعَمَدٍ أي خلقَها بغيرِ عمدٍ مرئيَّةٍ على أنَّ التَّقييدَ للرَّمزِ إلى أنَّه تعالى عمَّدها بعَمدٍ لا تَرَونها هي عَمَدُ القُدرةِ { وألقى فِى الارض رَوَاسِىَ } بيانٌ لصُنعه البديعِ في قرارِ الأرض إثرَ بيانِ صُنعه الحكيمِ في قرارٍ السَّمواتِ والأرضِ أي ألقى فيها جبالاً ثوابتَ . وقد مرَّ ما فيه من الكلامِ في سُورة الرَّعدِ { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } كراهةَ أنْ تميلَ بكم فإنَّ بساطةَ أجزائِها تقتضِي تبدُّلَ أحيازِها وأوضاعِها لامتناعِ اختصاصِ كلَ منها لذاتِه أو لشيءٍ من لوازمِه بحيِّزٍ معيَّنٍ ووضعٍ مخصوصٍ { وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ } من كلِّ نوعٍ من أنواعِها { وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً } هو المطرُ { فَأَنبَتْنَا فِيهَا } بسببٍ ذلك الماءِ { مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } من كلِّ صنفٍ كثيرِ المنافعِ . والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ في الفعلينِ لإبرازِ مزيدِ الاعتناءِ بأمرِها { هذا } أي ما ذُكر من السَّمواتِ والأرضِ وما تعلَّق بهما من الأمورِ المعدودةِ { خَلَقَ الله } أي مخلوقُه { فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ } ممَّا اتخذتُموهم شركاءً له سبحانه في العبادةِ حتَّى استحقُّوا به المعبوديَّةَ . وماذا نُصب بخَلْقُ ، أو مَا مرتفعٌ بالابتداءِ وخبرُه ذَا بصلتِه ، وأرُوني متعلِّقٌ به . وقولُه تعالى : { بَلِ الظالمون فِى ضلال مُّبِينٍ } إضرابٌ عن تبكيتِهم بما ذُكر إلى التَّسجيلِ عليهم بالضَّلالِ البيِّنِ المُستدعي للإعراضِ عن مخاطبتِهم بالمقدِّماتِ المعقولةِ الحقَّةِ لاستحالة أنْ يفهمُوا منها شيئاً فيهتدوا به إلى العلمِ ببطلانِ ما هُم عليه أو يتأثَّروا من الإلزامِ والتَّبكيتِ فينزجُروا عنه . ووضعُ الظَّاهرِ موضعَ ضميرِهم للدِّلالةِ على أنَّهم بإشراكِهم واضعون للشَّيءِ في غيرِ موضعِه ومتعدُّون عن الحدودِ وظالمون لأنفسِهم بتعريضِها للعذابِ الخالدِ .(5/294)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة } كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ بطلانِ الشِّركِ وهو لقمانُ بنُ باعُوراء من أولادِ آزرَ بنِ أختِ أيُّوبَ عليه السَّلامُ أو خالتِه وعاشَ حتَّى أدركَ داودَ عليه السَّلامُ وأخذ عنْهُ العلمَ وكان يُفتي قبل مبعثِه وقيل : كان قاضياً في بني إسرائيلَ . والجمهورُ على أنَّه كانَ حكيماً ولم يكُنْ نبيِّاً ، والحكمةٌ في عُرفِ العُلماءِ : استكمالُ النَّفسِ الإنسانيَّةِ باقتباسِ العُلوم النَّطريةِ واكتسابِ المَلَكة التَّامةِ على الأفعالِ الفاضلةِ على قدرِ طاقتِها . ومن حكمتِه أنَّه صحبَ داودَ عليه السَّلام شُهوراً وكان يسرد الدِّرعَ فلم يسألْه عنها فلمَّا أتمَّها لبسها وقال نعمَ لبوسُ الحربِ أنتِ فقال : ( الصَّمتُ حكمةٌ وقليلٌ فاعلُه ) فقال له داودُ عليه السَّلامُ : بحقَ ما سُمِّيت حكيماً وأنَّ داودَ قال له يوماً كيفَ أصبحتَ فقال أصبحتُ في يَدَيْ غيرِي فتفكَّر داودُ فيه فصعِق صعقةً . وأنَّه أمرَه مولاهُ بأنْ يذبحَ شاةً ويأتي بأطيبِ مُضغتينِ منها فأتى باللِّسانِ والقلبِ ، ثمَّ بعد أيَّامٍ أمره بأنْ يأتيَ بأخبثِ مُضغتينِ منها فأتى بِهما أيضاً فسأله عن ذلك فقالَ : هُما أطيبُ شيءٍ إذا طَابَا وأخبثُ شيءٍ إدا خُبثا . ومعنى { أَنِ اشكر للهِ } أي اشكُر له تعالى على أنَّ أنْ مفسِّرةٌ فإنَّ إيتاءَ الحكمةِ في معنى القَولِ وقوله تعالى : { وَمَن يَشْكُرْ } الخ استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله موجبٌ للامتثالِ بالأمر أي ومَن يشكُرْ له تعالى { فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } لأنَّ منفعتَهُ التي هي ارتباطُ العتيدِ واستجلابُ المزيدِ مقصورةٌ عليها { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ } عن كلِّ شيءٍ فلا يحتاجُ إلى الشُّكرِ ليتضررَ بكفرِ مَن كفَرَ { حَمِيدٌ } حقيقٌ بالحمد وإنْ لم يحمدْهُ أحدٌ أو محمودٌ بالفعل ينطقُ بحمدِه جميعُ المخلوقاتِ بلسانِ الحالِ . وعدمُ التَّعرضِ لكونِه تعالى مشكُوراً لما أنَّ الحمدَ متضمنٌ للشكرِ بل هو رأسُه ، كما قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « الحمدُ رأسُ الشُّكرِ لم يشكرِ الله عبدٌ لم يحمدْهُ » فإثباتُه له تعالى إثباتٌ للشكرِ له قطعاً .
{ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ } أنعمَ وقيل أشكمَ وقيل ماثانَ { وَهُوَ يَعِظُهُ يابنى } تصغيرُ إشفاقٍ . وقُرىء يا بنيْ بإسكانِ الياءِ وبكسرِها { لاَ تُشْرِكْ بالله } قيل : كانَ ابنُه كافراً فلم يزلْ به حتَّى أسلم ومن وقفَ على لا تُشركْ جعلَ بالله قسماً { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } تعليلٌ للنَّهي أو للانتهاءِ عن الشِّركِ { وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه } الخ كلامُ مستأنفٌ اعترض به على نهجِ الاستطرادِ في أثناءِ وصيَّةِ لقمانَ تأكيداً لما فيها من النَّهيِ عن الشِّركِ . وقولُه تعالى : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ } إلى قولِه في عامينِ اعتراضٌ بين المفسَّر والمفسِّر . وقولُه تعالى : { وَهْناً } حالٌ من أمِّه أي ذاتَ وهنٍ أو مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعلِ هو الحالُ أي تهِنُ وَهْناً . وقولُه تعالى : { على وَهْنٍ } صفة للمصدرِ أي كائناً على وَهنٍ أي تضعُف ضعفاً فوقَ ضعفٍ فإنَّها لا تزالُ يتضاعفُ ضعفُها .(5/295)
وقُرىء وَهَنا على وَهَن بالتَّحريك يقالُ وَهِن يَهِنُ وَهَنا ووَهَن يَوْهِنُ وَهْناً { وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ } أي فطامُه في تمامِ عامينِ وهي مدَّةُ الرَّضاعِ عند الشَّافعيِّ وعند أبي حنيفةَ رحمهما الله تعالى هي ثلاثُون شهراً . وقد بُيِّن وجهُه في موضعِه . وقُرىء وفَصْلُه . { أَنِ اشكر لِى ولوالديك } تفسيرٌ لوصَّينا وما بينهما اعتراضٌ مؤكِّدٌ للوصيِّةِ في حقِّها خاصَّة ولذلك ( قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لمن قالَ له مَن أبرُّ؟ « أمَّك ثمَّ أمَّك ثمَّ أمَّك ثمَّ قالَ بعدَ ذلكَ ثمَّ أباكَ » { إِلَىَّ المصير } تعليلٌ لوجوبِ الامتثالِ أي إليَّ الرُّجوع لا إلى غيرِي فأجازيك على ما صَدَر عنْك من الشُّكرِ والكُفرِ .(5/296)
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
{ وَإِن جاهداك على أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ } أي بشركتِه له تعالى في استحقاقِ العبادةِ { عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا } في ذلك { وصاحبهما فِى الدنيا مَعْرُوفاً } أي صحاباً معروفاً يرتضيِه الشَّرعُ وتقتضيه المروءةُ . { واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ } بالتَّوحيدِ والإخلاصِ في الطَّاعةِ { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } أي مرجعُك ومرجعُهما ومرجعُ من أناب إليَّ { فَأُنَبِئُكُم } عند رجوعِكم { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } بأنْ أجازيَ كُلاًّ منكم بما صدَر عنه من الخيرِ والشرِّ . وقولُه تعالى { يَا بَنِى } الخ شروعٌ في حكايةِ بقيةِ وصايا لقمانَ إثرَ تقريرِ ما في مطلعِها من النَّهيِ عن الشِّركِ وتأكيدهِ بالاعتراضِ { إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ } أي إنَّ الخصلةَ من الإساءةِ أو الإحسانِ إنْ تكُ مثلاً في الصِّغرِ كحَّبةِ الخردلِ ، وقُرىء برفعِ مثقال على أنَّ الضَّميرَ للقصَّةِ وكانَ تامَّةٌ . والتَّانيثُ لإضافةِ المثقالِ إلى الحبَّةِ كما في قولِ مَن قالَ :
كَما شرِقتْ صدرُ القناةِ من الدَّمِ ... أو لأنَّ المرادَ به الحسنةُ أو السيِّئةُ { فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السموات أَوْ فِى الارض } أي فتكُن مع كونِها في أقصى غاياتِ الصِّغرِ والقَماءةِ في أخفى مكانٍ وأحرزه كجوفِ الصَّخرةِ أو حيثُ كانتْ في العالمِ العُلويِّ أو السُّفليِّ { يَأْتِ بِهَا الله } أي يُحضرها ويُحاسبُ عليها { إِنَّ الله لَطِيفٌ } يصلُ علمُه إلى كلِّ حفيَ { خَبِيرٌ } بكُنهِه وبَعْدَ ما أمرَهُ بالتَّوحيدِ الذي هُو أولُ ما يجبُ على الإنسانِ في ضمنِ النَّهي عن الشِّركِ ونبَّهه على كمالِ علمِ الله تعالى وقدرتِه أمرَه بالصَّلاة التي هي أكملُ العباداتِ تكميلاً له من حيثُ العملُ بعد تكميلِه من حيثُ الاعتقادُ فقال مستميلاً له { يَا بَنِىَّ أَقِمِ الصلاة } تكميلاً لنفسِك { وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر } تكميلاً لغيرِك { واصبر على مَا أَصَابَكَ } من الشَّدائدِ والمحنِ لا سيَّما فيما أُمرت به { إِنَّ ذلك } إشارةٌ إلى كلِّ ما ذُكر ، وما فيهِ من معنى البُعد مع قُرب العهدِ بالمشارِ إليه لما مرَّ مراراً من الإشعارِ ببُعدِ منزلتِه في الفضل { مِنْ عَزْمِ الامور } أي ممَّا عزمَهُ الله تعالى وقطَعه على عبادِه من الأمورِ لمزيدِ مزيَّتِها ، مصدرٌ أُطلق على المفعولِ ، وقد جُوِّز أنْ يكونَ بمعنى الفاعلِ من قوله تعالى : { فَإِذَا عَزَمَ الامر } أي جدَّ والجملةُ تعليلٌ لوجوبِ الامتثالِ بما سبقَ من الأمرِ والنَّهي وإيذانٌ بأنَّ ما بعدها ليس بمثابتِه .(5/297)
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
{ وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } أي تُمِله ولا تُولِّهم صفحة وجهِك كما هو ديدنُ المتكبرينَ . من الصَّعرِ وهو الصَّيَدُ وهو داءٌ يصيبُ البعيرَ فيلوى منه عنقَهُ . وقُرىء ولا تُصاعرْ . وقُرىء ولا تَصْعِرْ من الإفعالِ والكلُّ بمعنى مثل عَلاَهُ وعَالاَهُ وأعَلاَهُ { وَلاَ تَمْشِ فِى الارض مَرَحًا } أي فَرَحاً مصدرٌ وقعَ موقعَ الحالِ أو مصدرُ مؤكِّدٌ لفعلِ هو الحالُ أي تمرحُ مَرَحاً أو لأجلِ المرحِ والبَطَرِ . { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } تعليلٌ للنَّهي أو موجبِه ، وتأخيرُ الفخورِ مع كونِه بمقابلةِ المصعِّرِ خدَّه عن المختالِ وهو بمقابلةِ الماشِي مَرَحا رعايةً للفواصلِ . { واقصد فِى مَشْيِكَ } بعد الاجتنابِ عن المَرَح فيه أي توسَّطْ بين الدبيبِ والإسراعِ وعنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « سرعةُ المشيِ تُذهُب بهاءَ المُؤمنِ » وقولُ عائشةَ في عمرَ رضي الله عنهما : ( كانَ إذا مشَى أسرعَ ) فالمرادُ به ما فوقَ دبيبِ المتماوتِ . وقُرىء بقطعِ الهمزةِ من أقصَدَ الرَّامِي إذا سدَّدَ سهمَه نحوَ الرَّميةِ . { واغضض مِن صَوْتِكَ } وانقُص منه واقصُر { إِنَّ أَنكَرَ الاصوات } أي أوحشَها { لَصَوْتُ الحمير } تعليلٌ للأمرِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه مبنيٌّ على تشبيهِ الرَّافعينَ أصواتَهم بالحميرِ ، وتمثيلِ أصواتِهم بالنُّهاقِ وإفراطٌ في التَّحذيرِ عن رفعِ الصَّوتِ والتَّنفيرِ عنه ، وإفرادُ الصَّوتِ مع إضافتِه إلى الجمعِ لما أنَّ المرادَ ليس بيانَ حالِ صوتِ كلِّ واحدٍ من آحادِ هذا الجنسِ حتى يُجمعَ بل بيانَ حالِ صوتِ هذا الجنسِ من بينِ أصواتِ سائرِ الأجناسِ .
وقولُه تعالى : { أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السموات وَمَا فِي الارض } رجوعٌ ما سلفَ قبل قصَّةِ لقمانَ من خطابِ المشركينَ وتوبيخٌ لهم على إصرارِهم على ما هُم عليه مع مشاهدتِهم لدلائلِ التَّوحيدِ ، والمرادُ بالتَّسخير إمَّا جعلُ المسخَّرِ بحيثُ ينفعُ المسخَّرَ له أعمًّ من أنْ يكونَ مُنقاداً له يتصرَّفُ فيه كيفَ يشاءُ ويستعملُه حسبما يريدُ كعامَّة ما في الأرضِ من الأشياءِ المسخَّرة للإنسانِ المستعملةِ له من الجمادِ والحيوانِ أو لا يكونُ كذلك بل يكونُ سبباً لحصولِ مرادِه من غيرِ أن يكونَ له دخلٌ في استعمالِه كجميعِ ما في السَّمواتِ من الأشياءِ التي نِيطتْ بها مصالحُ العبادِ معاشاً أو مَعَاداً ، وإما جعلُه منقاداً للأمرِ مذللاً على أنَّ معنى لكُم لأجلِكم فإنَّ جميعَ ما في السَّمواتِ والأرضِ من الكائناتِ مسخرةٌ لله تعالى مستتبعةٌ لمنافعِ الخلقِ ، وما يستعملُه الإنسانُ حسبما يشاءُ وإن كان مسخَّراً له بحسبِ الظَّاهرِ فهو في الحقيقةِ مسخَّرٌ لله تعالى { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرة وَبَاطِنَةً } محسوسةً ومعقولةً معروفةً لكم وغيرَ معروفةٍ وقد مرَّ شرحُ النِّعمةِ وتفصيلُها في الفاتحةِ . وقُرىء أصبغَ بالصَّادِ وهو جارٍ في كلِّ سينٍ قارنت الغينَ أو الخاءَ أو القافَ كما تقولُ في سَلَخ صَلَخ وفي سَقَر صَقَر وفي سَالِغ صالغ وقُرىء نعمةً { وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله } في توحيدِه وصفاتِه { بِغَيْرِ عِلْمٍ } مستفادٍ من دليلٍ { وَلاَ هُدًى } من جهةِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ { وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ } أنزلَه الله سبحانُه بل بمجرَّدِ التَّقليدِ .(5/298)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } أي لمن يجادلُ ، والجمعُ باعتبار المعنى { اتبعوا مَا أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا } يُريدون به عبادةَ الأصنامِ { أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ } أي آباءَهم لا أنفسَهم كما قيل : فإنَّ مدارَ إنكارِ الاتباعِ واستبعادِه كونُ المتبوعينَ تابعينَ للشَّيطانِ لا كونُ أنفسِهم كذلك ، أي أيتبعونَهم ولو كان الشَّيطانُ يدعُوهم فيما هم عليه من الشِّرك { إلى عَذَابِ السعير } فهُم متوجهون إليه حسبَ دعوتِه ، والجملةُ في حيِّز النَّصبِ على الحاليَّةِ وقد مرَّ تحقيقُه في قولِه تعالى : { أَوْ لَّوْ كَانَ آبَاؤُهم لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ } من سُورة البقرةِ بما لا مزيدَ عليهِ { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله } بأنْ فوَّض إليه مجامعَ أمورِه وأقبلَ عليه بكلّيته ، وحيثُ عُدِّي باللامِ قصد معنى الاختصاصِ . وقُرىء بالتَّشديدِ . { وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي في أعمالِه آتٍ بها جامعةً بين الحُسنِ الذاتِيِّ والوصفيِّ وقد مرَّ في آخرِ سورةِ النَّحلِ { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } أي تعلَّق بأوثقِ ما يتعلَّق به من الأسبابِ وهو تمثيلٌ لحالِ المتوكلِ المشتغلِ بالطَّاعةِ بحالِ من أراد أنْ يترقَّى إلى شاهقِ جبلٍ فتمسَّك بأوثقِ عُرى الحبلِ المُتدلِّي منه { وإلى الله } لا إلى أحدٍ غيرِه { عاقبة الامور } فيجازيه أحسنَ الجزاء . { وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ } فإنَّه لا يضُّرك في الدُّنيا ولا في الآخرةِ . وقُرىء فلا يُحزِنك من أحزَن المنقولِ من حَزِن بكسرِ الزَّاي وليس بمستفيضٍ { إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } لا إلى غيرِنا { فَنُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ } في الدُّنيا من الكفرِ والمَعَاصي بالعذابِ والعقابِ . والجمعُ في الضَّمائرِ الثَّلاثةِ باعتبارِ معنى مَن كما أنَّ الإفرادَ في الأولِ باعتبارِ لفظِها { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } تعليلٌ للتنبئةِ المعبَّرِ بها عن التَّعذيبِ { نُمَتّعُهُمْ قَلِيلاً } تمتيعاً أو زماناً قليلاً فإنَّ ما يزول وإنْ كانَ بعد أمدٍ طويلٍ بالنسبةِ إلى ما يدومُ قليلٌ { ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ } يثقُل عليهم ثقلَ الأجرامِ الغلاظِ أو يضمُّ إلى الإحراقِ الضَّغطَ والتضييق .(5/299)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والارض لَيَقُولُنَّ الله } لغايةِ وضوحِ الأمرِ بحيث اضطروا إلى الاعترافِ به { قُلِ الحمد لِلَّهِ } على أنْ جعلَ دلائلَ التَّوحيدِ بحيثُ لا يكادُ ينكرها المكابرون أيضاً { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } شيئاً من الأشياءِ فلذلك لا يعملون بمقتضى اعترافِهم وقيل : لا يعلمون أنَّ ذلك يلزمُهم { للَّهِ مَا فِى *** السموات والارض } فلا يستحقُّ العبادةَ فيهما غيرُه . { إِنَّ الله هُوَ الغنى } عن العالمينَ { الحميد } المستحقُّ للحمدِ وإنْ لم يحمدْهُ أحدٌ أوالمحمودُ بالفعلِ يحمدُه كلُّ مخلوقٍ بلسانِ الحالِ { وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الارض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ } أي لو أن الأشجارَ أقلامٌ وتوحيدُ الشَّجرةِ لما أنَّ المراد تفصيلُ الآحادِ { والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ } أي من بعدِ نفاده { سَبْعَةُ أَبْحُرٍ } أي والحالُ أنَّ البحرَ المحيطَ بسعته يمدُّه الأبحرُ السبعةُ مدَّاً لا ينقطعُ أبداً وكتبتْ بتلك الأقلامِ وبذلك المدادِ كلماتُ الله { مَا نَفِدَتْ كلمات الله } ونفدِتْ تلك الأقلامُ والمدادُ كما في قوله تعالى : { لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى } وقُرىء يُمدُّه من الإمدادِ بالياء والتاءِ . وإسنادُ المدِّ إلى الأبحرِ السَّبعةِ دونَ البحرِ المحيطِ مع كونِه أعظمَ منها وأطمَّ لأنَّها هي المجاورةُ للجبالِ و منابعِ المياه الجاريةِ وإليها تنصبُّ الأنهارُ العظامُ أولاً ومنها ينصبُّ إلى البحرِ المحيطِ ثانياً . وإيثارُ جمعِ القلَّةِ في الكلماتِ للإيذانِ بأنَّ ما ذُكر لا يَفي بالقليلِ منها فكيفَ بالكثيرِ { أَنَّ الله عَزِيزٌ } لا يُعجزه شيءٌ { حَكِيمٌ } لا يخرجُ عن علمِه وحكمتِه أمرٌ فلا تنفذُ كلماتُه المؤسسةُ عليهما { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة } أي إلا كخلقِها وبعِثها في سهولةِ التَّأنِّي إذ لا يشغلُه شأنٌّ عن شأنٍ لأن مناطَ وجودِ الكلِّ تعلقُ إرادتِه الواجبةِ مع قدرتِه الذاتيَّةِ حسبما يفصحُ عنه قولُه تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } { إِنَّ الله سَمِيعٌ } يسمعُ كلَّ مسموعٍ { بَصِيرٌ } يبصرُ كلَّ مبصَرٍ لا يشغلُه علمُ بعضِها عن علمِ بعضٍ فكذلك الخلقُ والبعثُ .
{ أَلَمْ تَرَ } قيل : الخطابُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وقيل : عامٌّ لكلِّ أحدٍ ممّن يصلحُ للخطابِ وهو الأوفقُ لما سبقَ وما لحقَ أي ألم تعلم علماً قويَّاً جارياً مجرى الرؤيةِ { أَنَّ الله يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى الليل } أي يُدخل كلَّ واحدٍ منهما في الآخرِ ويضيفه إليه فيتفاوتُ بذلك حالُه زيادةً ونقصاناً { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } عطفٌ على يُولج والاختلافُ بينهما صيغة لما أنُّ إيلاجَ أحد المَلَوين في الآخرِ متجددٌ في كلِّ حينٍ ، وأما تسخيرُ النَّيِّرينِ فأمرٌ لا تعددَ فيه ولا تجددَ وإنَّما التعدُّدُ والتجدّد في آثارِه وقد أُشير إلى ذلك حيثُ قيل { كُلٌّ يَجْرِى } أي يحسبِ حركتِه الخاصَّة وحركتِه القسريةِ على المداراتِ اليوميةِ المتخالفةِ المتعددةِ حسب تعددِ الأيَّامِ جريا مستمراً { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } قدَّره الله تعالى لجريهما وهو يوم القيامةِ كما رُوي عن الحسنِ رحمه الله : فإنَّه لا ينقطعُ جريُهما إلا حينئذٍ والجملةُ على تقدير عمومِ الخطاب اعتراضٌ بين المعطوفينِ لبيانِ الواقعِ بطرقِ الاستطرادِ ، وعلى تقديرِ اختصاصِه به عليه الصَّلاة والسَّلام يجوزُ أن يكونَ حالاً من الشَّمسِ والقمرِ فإنَّ جريانَهما إلى يومِ القيامةِ من جُملةِ ما في حيِّز رؤيتِه عليه الصَّلاة والسَّلامُ هذا وقد جُعل جريانُهما عبارةً عن حركتِهما الخاصَّة بهما في فلكِهما والأجلُ المسمَّى عن منتهى دورتِهما وجُعل مَّدةُ الجريانِ للشمسِ سنة وللقمرِ شهراً فالجملةُ حينئذٍ بيان لحكمِ تسخيرِهما وتنبيهٌ على كيفيَّةِ إيلاجٍ أحدٍ المَلَوين في الآخرِ وكونِ ذلك بحسبِ اختلافٍ جَرَيانِ الشَّمسِ على مَدَاراتِها اليوميَّةِ فكُلما كان جريانُها متوجهاً إلى سمتِ الرَّأسِ تزدادُ القوسُ التي هي فوق الأرضِ كبراً فيزدادُ النَّهارُ طُولاً بإنضمامِ بعضِ أجزاءِ الليلِ إليهِ إلى أنْ يبلغَ المدارَ الذي هو أقربُ المداراتِ إلى سمتِ الرَّأسِ وذلك عند بلوغِها رأسِ السَّرطانِ ثم ترجعُ متوجهةً إلى التباعدِ عن سمتِ الرَّأسِ قلا تزال القِسيُّ التي هي فوقَ الأرضِ تزدادُ صغراً فيزدادُ النَّهارُ قِصراً بانضمامِ بعضِ أجزائِه إلى اللَّيلِ إلى أنْ يبلغَ المدارَ الذي هو أبعدُ المداراتِ اليوميةِ عن سمتِ الرأسِ وذلك عندَ بلوغِها برجَ الجَدي .(5/300)
وقولُه تعالى { وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } عطفٌ على أنَّ الله يُولج الخ داخلٌ معه في حيِّز الرؤيةِ على تقديري خصوصِ الخطابِ وعمومه فإنَّ مَن شاهدَ مثلَ ذلك الصُّنعِ الرَّائقِ والتَّدبيرِ الفائقَ لا يكادُ يغفلُ عن كونِ صانعِه عزَّ وجلَّ محيطاً بجلائلِ أعمالِه ودقائقِها(5/301)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
{ ذلك } إشارةٌ إلى ما تُلي من الآياتِ الكريمةِ ، وما فيهِ من مَعْنى البعدِ للإيذانِ ببُعد منزلتِها في الفضلِ وهُو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى { بِأَنَّ الله هُوَ الحق } أي بسببِ بيانِ أنَّه تعالى هو الحقُّ إلهيَّته فقط ولأجلِه لكونِها ناطقةً بحقيةِ التَّوحيدِ { وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل } أي ولأجلِ بيانِ بطلانِ آلهيّةِ ما يدعونَه من دونِه تعالى لكونِه شاهدةً بذلك شهادةً بينةً لا ريبَ فيها . وقُرىء بالتَّاءِ والتَّصريحُ بذلك مع أنَّ الدِّلالةَ على اختصاصِ حقَّيةِ الإلهيةِ به تعالى مستتبعةٌ للدِّلالةِ على بُطلانِ إلهيّةٍ ما عداهُ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بأمرِ التَّوحيدِ وللإيذانِ بأنَّ الدِّلالةَ على بُطلانِ ما ذُكر ليستْ بطريقِ الاستتباعِ فقط بلْ بطريقِ الاستقلالِ أيضاً . { وَأَنَّ الله هُوَ العلى الكبير } أي وبيانُ أنَّه تعالى هو المترفعُ عن كلِّ شيءٍ المتسلطُ عليه فإنَّ ما في تضاعيفِ الآياتِ الكريمةِ مبيِّنٌ لاختصاصِ العلوِّ والكبرياءِ به تعالى أيّ بيانٍ . هذا وقيل : ذلك أيْ ما ذُكر من سَعةِ العلمِ وشمولِ القُدرةِ وعجائبِ الصُّنعِ تعالى واختصاصِ البارِي تعالى بِه بسببِ أنَّه الثَّابتُ في ذاتِه الواجبُ من جميَعِ جهاتِه أَو الثابتُ إلهيّتُه ، وأنتَ خبيرٌ بأنَّ حقَّيته تعالى وعلوَّه وكبرياءَهُ وإنْ كانتْ صالحةً لمناطيةِ ما ذُكر من الأحكامِ المعدودةِ لكنّ بطلانَ إلهية الأصنامِ لا دخلَ له في المناطيَّةِ قطعاً فلا مساغَ لنظمِه في سلكِ الأسبابِ بل هو تعكيسٌ للأمرِ ضرورةَ أنَّ الأحكامَ المذكورةَ هي المقتضيةُ لبطلانِها لا أنَّ بطلانَها يقتضيها .(5/302)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِى فِى البحر بِنِعْمَتِ الله } بإحسانِه في تهيئةِ أسبابِه وهو استشهادٌ آخرُ على باهرِ قُدرتِه وغايةِ حكمتِه وشمولِ إنعامِه . والباءُ إمَّا متعلقةٌ بتجرِي أو بمقدَّرٍ هو حالٌ من فاعلِه أي ملتبسةٌ بنعمتِه تعالى . وقُرىء الفُلُك بضمِّ اللامِ وبنعماتِ الله وعينُ فَعَلات يجوزُ فيه الكسرُ والفتحُ والسكونُ { لِيُرِيَكُمْ مّنْ ءاياته } أي بعضَ دلائلِ وحدتِه وعلمهِ وقدُرتِه . وقولُه تعالى : { إِنَّ فِى ذلك لآيات لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } تعليلٌ لما قبله أيْ إنَّ فيما ذُكر لآياتٍ عظيمةً في ذاتِها كثيرةً في عددِها لكلِّ مَن يُبالغ في الصَّبرِ على المشاقِّ فيتعبُ نفسَه في التفكرِ في الأنفسِ والآفاقِ ويبالغُ في الشُّكرِ على نعمائِه وهما صِفتا المُؤمنِ فكأنَّه قيلَ لكلَّ مؤمنٍ { وَإِذَا غَشِيَهُمْ } أي علاهُم وأحاطَ بهم { مَّوْجٌ كالظلل } كما يظل من جبلٍ أو سحابٍ أو غيرِهما . وقُرىء كالظِّلالِ جمْعِ ظُّلةٍ كقُلَّةٍ وقِلالٍ . { دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } لزوالِ ما ينازعُ الفطرةَ من الهَوَى والتَّقليدِ بما دهاهم من الدَّواهي والشَّدائدِ { فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } أي مقيمٌ على القصدِ السويِّ الذي هو التَّوحيدُ أو متوسطٌ في الكُفر لانزجارِه في الجُملةِ { وَمَا يَجْحَدُ بئاياتنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ } غدَّارٍ فإنَّه نقصٌ للعهدِ الفطريَّ أو رفضٌ لما كان في البحرِ . والخترُ أشدُّ الغدرِ وأقبحُه . { كَفُورٍ } مبالغٌ في كفرانِ نعمِ الله تعالى .
{ ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ } أي لا يقضي عنه وقُرىء لا يُجزى من أجزأَ إذا أغنَى والعائدُ إلى الموصوفِ محذوفٌ أي لا يجزى فيهِ { وَلاَ مَوْلُودٌ } عطفٌ على والدٌ ، أو هُو مبتدأٌ خبرُه { هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } وتغييرُ النَّظمِ للدِّلالةِ على أنَّ المولودَ أولى بأن لا يجزِي وقطعِ طَمَعِ مِنَ توقَّع من المؤمنينَ أنْ ينفع أباهُ الكافرَ في الأخرة . { إِنَّ وَعْدَ الله } بالثَّوابِ والعقابِ { حَقّ } لا يمكن إخلافُه أصلاً { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور } أي الشَّيطانُ المبالغُ في الغرورِ بأنْ يحملَكم على المعاصِي بتزيينها لكمُ ويرجِّيكُم التوبةَ والمغفرةَ .(5/303)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
{ إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } علمُ وقتِ قيامِها لما رُوي أنَّ الحارثَ بنَ عمروٍ أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال مَتَى السَّاعةُ وإنيِّ قد ألقيتُ حَبَّاتي في الأرضِ فمتى السماءُ تُمطر؟ وحَمْلُ امرأتِي ذكرٌ أَمْ أُنثى وما أعملُ غداً ، وأينَ أموتُ فنزلتْ . وعنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « مفاتحُ الغيبِ خمسٌ وتلا هذه الآية » { وَيُنَزّلُ الغيث } في إبَّانهِ الذي قدَّره وإلى محلِّهِ الذي عيَّنه في علمِه ، وقُرىء يُنزل من الإنزالِ ، { وَيَعْلَمُ مَا فِى الارحام } من ذكرٍ أو أنثى تامَ أو ناقصٍ { وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ } من النُّفوسِ { مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً } من خيرٍ أو شرَ وربما تعزمُ على شيءٍ منهما فتفعلُ خلافَه { وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ } كما لا تدرِي في أيِّ وقتٍ تموتُ . رُوي : « أنَّ ملكَ الموتِ مرَّ على سُليمانَ عليه السَّلامُ فجعلَ ينظرُ إلى رجلٍ من جلسائِه . يُديمُ النَّظرَ إليهِ فقال الرَّجُل مَن هذا قالَ مَلَكُ الموتِ فقال كأنه يُريدني فمرِ الرَّيحَ أن تحملَني وتلقيني ببلادِ الهندِ ففعلَ ثم قال المَلَكُ لسليمانَ عليهما السَّلامُ كان دوامُ نظري إليه تعجُّباً منه حيثُ كنت أُمرتُ بأنْ أقبضَ روحَهُ بالهندِ وهو عندَك » . ونسبةُ العلمِ إلى الله تعالى والدراية إلى العبدِ للإيذانِ بأنَّه إنْ أعملَ حِيلَه وبذلَ في التَّعرفِ وسعَه لم يعرفْ ما هُو لاحقٌ به من كسبهِ وعاقبتِه فكيف بغيرِه مما لم ينُصبْ له دليلٌ عليه . وقُرىء بأيَّةِ أرضٍ . وشبَّه سيبويهِ تأنيثَها بتأنيثِ كلَ في كلتهنَّ . { إِنَّ الله عَلِيمٌ } مبالغٌ في العلمِ فلا يعزبُ عن علمِه شيءٌ من الأشياءِ التي من جُملتِها ما ذُكر . { خَبِيرٌ } يعلمُ بواطنَها كما يعلمُ ظواهرَها .
عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : « منَ قرأَ سورةَ لقمانَ كان له لقمانُ رفيقاً يومَ القيامةِ وأُعطَي من الحسناتِ عشراً بعددِ من عملَ بالمعروفِ ونهى عن المُنكر »(5/304)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
( سورة السجدة مكية وهى ثلاثون آية وقيل تسع وعشرون )
{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم } { الم } إمَّا اسمٌ للسورة فمحلّه الرَّفعُ على أنَّه خبر لمبتدأ محذوفٍ أي هذا مسمَّى بألمِ والإشارةُ إليها قبل جريانِ ذكرِها قد عرفتَ سرَّها ، وإمَّا مسرودٌ على نمطِ التَّعديدِ فلا محلَّ له من الإعرابِ ، وقوله تعالى { تَنزِيلُ الكتاب } على الأول خبرٌ بعدَ خبرٍ على أنَّه مصدرٌ أُطلق على المفعولِ مبالغةً وعلى الثَّاني خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي المؤلَّفُ من جنسِ ما ذُكر تنزيلُ الكتابِ وقيل خبرٌ لألم أي المسمَّى تنزيلُ الكتابِ وقد مرَّ مراراً أن ما يُجعل عنواناً للموضوعِ حقُّه أنْ يكونَ قبل ذلك معلومَ الانتسابِ إليه وإذ لا عهدَ بالتَّسميةِ قبلُ فحقُّها الإخبارُ بها ، وقوله تعالى { لاَ رَيْبَ فِيهِ } خبرٌ ثالثٌ على الوجهِ الأولِ وثانٍ على الأخيرينِ وقيل : خبرٌ لتنزيلُ الكتابِ فقولُه تعالى { مِن رَّبّ العالمين } متعلقٌ بمضمرٍ هو حالٌ من الضَّميرِ المجرورِ أي كائناً منه تعالى ، لا بتنزيلُ لأنَّ المصدرَ لا يعملُ فيما بعد الخبرِ والأوجهُ حينئذٍ أنَّه الخبرُ ، ولا ريبَ فيهِ حالٌ من الكتابِ أو اعتراضٌ والضَّميرُ في فيهِ راجعٌ إلى مضمونِ الجملةِ كأنَّه قيل لا ريبَ في ذلك أي في كونِه منزَّلاً من ربِّ العالمين . ويُؤيده قولُه تعالى { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } فإنَّ قولَهم هذا إنكارٌ منهم لكونه من ربَّ العالمين فلا بدَّ أنْ يكونَ موردُه حكماً مقصودَ الإفادةِ لا قيداً للحكم بنفيِ الرَّيب عنه وقد رُدَّ عليهم ذلك وأُبطل حيث جِيء بأم المنقطعةِ إنكاراً له وتعجيباً منه لغاية ظهورٍ بُطلانِه واستحالةِ كونِه مفترى ثم أُضرب عنه إلي بيانِ حقِّيةِ ما أنكروه حيثُ قيل : { بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبّكَ } بإضافة اسم الربِّ إلى ضميره عليه الصَّلاة والسَّلام بعد إضافته فيما سبق إلى العالمين تشريفاً له عليه الصَّلاة والسَّلام ثم أيَّد ذلك ببيان غايته حيثُ قيل : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } فإنَّ بيان غايةِ الشيءِ وحكمته لا سيَّما عند كونها غاية حميدةً مستتبعة لمنافعَ جليلةٍ في وقت شدَّةِ الحاجة إليها ممَّا يُقرر وجودَ الشيءِ ويؤكِّده لا محالة ولقد كانت قريشٌ أضلَّ النَّاسِ وأحوجَهم إلى الهدايةِ بإرسال الرَّسول وتنزيل الكتاب حيثُ لم يبعث إليهم من رسولٍ قبله عليه الصَّلاة والسَّلام أي ما أتاهم من نذير من قبل إنذارِك أو من قبل زمانِك ، والتَّرجِّي معتبرٌ من جهته عليه الصَّلاة والسَّلام أي لتندرَهم راجياً لاهتدائهم أو لرجاء اهتدائهم ، واعلم أنَّ ما ذُكر من التَّأييدِ ، إنَّما يتسنَّى على ما ذُكر من كون تنزيلُ الكتابِ مبتدأً وأما على سائرِ الوجوهِ فلا تأييدَ أصلاً لأنَّ قولَه تعالى من ربِّ العالمين خبرٌ رابعٌ على الوجهِ الأولِ وخبرٌ ثالثٌ على الوجهين الأخيرينِ وأيّاً ما كان فكونُه من ربِّ العالمين حكمٌ مقصودُ الإفادةِ لا قيدٌ لحكمٍ آخرَ . فتدبَّر .(5/305)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
{ الله الذى خَلَقَ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش } مرِّ بيانُه فيما سلفَ { مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ } أي ما لكُم إذا جاوزتُم رضاه تعالى أحدٌ ينصُركم ويشفعُ لكم ويجيركم من بأسهِ أي ما لكُم سواه وليٌّ ولا شفيعٌ بل هو الذي يتولَّى مصالحَكم وينصُركم في مواطنِ النَّصرِ على أنَّ الشَّفيعَ عبارةٌ عن النَّاصرِ مجازاً فإذا خذلكم لم يبقَ لكُم وليٌّ ولا نصير { أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } أي ألا تسمعُون هذه المواعظَ فلا تتذكرون بها أو أتسمعونها فلا تتذكرون بها فالإنكارُ على الأول متوجه إلى عدمِ السَّماعِ وعدم التَّذكر معاً وعلى الثاني على عدمِ التَّذكرِ مع تحققِ مايُوجبه من السَّماعِ { يُدَبّرُ الامر مِنَ السماء إِلَى الارض } قيل يدبِّرُ أمر الدُّنيا بأسبابٍ سماويةٍ من الملائكةِ وغيرها نازلةٍ آثارُها وأحكامُها إلى الأرضِ { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } أي يثبت في علمِه موجوداً بالفعل { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ } أي في بُرهةٍ من الزَّمان متطاولةٍ والمرادُ بيانُ طول امتدادِ ما بين تدبيرِ الحوادث وحدوثِها من الزَّمان وقيل : يدبر أمرَ الحوادثِ اليوميَّةِ بإثباتها في اللَّوحِ المحفوظِ فينزل بها الملائكةُ ثم تعرجُ إليه في زمانٍ هو كألف سنة مَّما تعدُّون فإنَّ ما بين السَّماء والأرض مسيرةُ خمسمائةِ عامٍ وقيل : يقضي قضاءَ ألفِ سنةٍ فينزل به المَلَكُ ثم يعرج بعد الألفِ لألفٍ أُخرَ ، وقيل يدبر أمرَ الدُّنيا جميعاً إلى قيامِ السَّاعةِ ثم يعرج إليه الأمرُ كلُّه عند قيامها وقيل يدبِّرُ المأمور به من الطَّاعاتِ منزلاً من السَّماءِ إلى الأرض بالوحي ثم لا يعرجُ إليه خالصاً إلا في مدَّةٍ متطاولة لقلَّةِ المخلصين والأعمال الخلَّص . وأنت خبيرٌ بأنَّ قلَّةَ الأعمال الخالصةِ لا تقتضي بطءَ عروجِها إلى السَّماءِ بل قِلَّتَه . وقُرىء يعدُّون بالياء { ذلك } إشارةٌ إلى الله عزَّ وجلَّ باعتبارِ اتصافِه بما ذُكر من خلقِ السَّمواتِ والأرضِ والاستواءِ على العرشِ وانحصارِ الولايةِ والنُّصرةِ فيه وتدبيرِ أمرِ الكائناتِ على ما ذُكر من الوجهِ البديعِ وهو مبتدأٌ خبرُه ما بعْدَه أي ذلك العظيمُ الشَّأنِ { عالم الغيب والشهادة } فيدبِّر أمرَهما حسبما تقتضيه الحكمةُ { العزيز } الغالبُ على أمرهِ { الرحيم } على عبادِه وهُما خبرانِ آخرانِ وفيه إيماءٌ إلى أنَّه تعالى متفضِّلٌ في جميعِ ما ذُكر فاعلٌ بالإحسانِ .(5/306)
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
{ الذى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْء خَلَقَهُ } خبرٌ آخرُ أو نصب على المدحِ أي حسّن كلَّ مخلوقٍ خلقَه إذ ما من مخلوقٍ خلقَه إلا وهو مرتبٌ على ما تقتضيهِ الحكمةُ وأوجبته المصلحة فجيمعُ المخلوقاتِ حسنةٌ وإن تفاوتت إلى حسنٍ وأحسنَ كما قال تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } وقيل : علم كيفَ يخلقُه من قوله قيمةُ المرءِ ما يُحسِن ، أي يُحسن معرفَته أي يعرفِه معرفةً حسنةً بتحقيقٍ وإيقانٍ . وقُرىء خلْقَه على أنه بدلُ اشتمالٍ من كلِّ شيءٍ والضَّميرُ للمبدَل منه أي حسّن خلقَ كلِّ شيءٍ وقيل : بدلُ الكلِّ على أن الضَّميرَ للَّهِ تعالى والخلقُ بمعنى المخلوقِ أي حسّن كلَّ مخلوقاتِه وقيل : هو مفعولٌ ثانٍ لأحسنَ على تضمُّنهِ معنى أعطَى أي أعطَى كلَّ شيءٍ خلقَه اللائقَ به بطريقِ الإحسانِ والتَّفضل وقيل هو مفعولُه الأولُ وكلّ شيءٍ مفعولُه الثاني والخلقُ بمعنى المخلوقِ وضميرُه لله سبحانَه على تضمينِ الإحسانِ معنى الإلهام والتَّعريفِ والمَعنى ألهم خلقَه كلَّ شيءٍ ممَّا يحتاجون إليهِ وقال أبو البقاءِ عرَّفَ مخلوقاتِه كلَّ شيءٍ يحتاجُون إليهِ فيؤول إلى مَعنى قوله تعالى : { الذى أعطى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } { وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان } من بينِ جميعِ المخلوقاتِ { مِن طِينٍ } على وجهٍ بديعٍ تحارُ العقولُ في فهمِه حيثُ برَأ آدمَ عليه السَّلامُ على فطرةٍ عجببةٍ منطويةٍ على فطرةِ سائرِ أفرادِ الجنسِ انطواءً إجمالياً مستتبعاً كلَّ فردٍ منها من القوةِ إلى الفعلِ بحسبِ استعداداتها المتفاوتةِ قُرباً وبُعداً كما يُنبىء عنه قولُه تعالى : { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ } إلخ أي ذُريَّتَه سُميتْ بذلك لأنَّها تنسلُ وتنفصلُ منه { مِن سُلاَلَةٍ مّن مَّاء مَّهِينٍ } هو المنيُّ المُمتهنُ { ثُمَّ سَوَّاهُ } أي عدَّله بتكميلِ أعضائِه في الرَّحمِ وتصويرِها على ما ينبغِي { وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } أضافَه إليه تعالى تَشريفاً له وإيذاناً بأنَّه خلقٌ عجيبٌ وصنعٌ بديعٌ وأنَّ له شأناً له مناسبةٌ إلى حضرةِ الرُّبوبيةِ وأنَّ أقصى ما تنتهي إليه العقولُ البشريةُ من معرفتِه هذا القدرُ الذي يُعبر عنه تارةً بالإضافةِ إليه تعالى وأُخرى بالنسبةِ إلى أمرهِ تعالى كما في قولِه تعالى : { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى } { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والابصار والافئدة } الجعلُ إبداعيٌّ واللامُ متعلقة به والتقديمُ على المفعولِ الصَّريحِ لما مرَّ مراتٍ من الاهتمامِ بالمقدَّمِ والتَّشويقِ إلى المؤخَّرِ مع ما فيهِ من نوعِ طولٍ يخل تقديُه بجزالةِ النَّظمِ الكريمِ ، أي خلق لمنفعتِكم تلك المشاعرَ لتعرفُوا أنها مع كونِها في أنفسِها نعماً جليلةً لا يُقادر قدرُها وسائلُ إلى التَّمتعِ بسائرِ النِّعمِ الدِّينية والدُّنيويةِ الفائضةِ عليكم وتشكروها بأنْ تصرفُوا كلاًّ منها إلى ما خُلق هو له فتُدركوا بسمعِكم الآياتِ التنزيليةَ الناطقةَ بالتَّوحيدِ والبعثِ وبأبصارِكم الآياتِ التكوينيةَ الشاهدةَ بهما وتستدلُّوا بأفئدتِكم على حقِّيَّتهِما . وقولُه تعالى : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } بيانٌ لكفرِهم بتلك النِّعمِ بطريقِ الاعتراضِ التَّذييليِّ على أنَّ القِلَّةَ بمعنى النَّفيِ كما يُنبىء عنه ما بعده أيُ شكراً قليلاً أو زماناً قليلاً تشكرون . وفي حكايةِ أحوالِ الإنسانِ من مبدأِ فطرتِه إلى نفخِ الرُّوح فيه بطريقِ الغَيبةِ وحكايةِ أحوالِه بعد ذلك بطريقِ الخطابِ المنبىءِ عن استعدادِه للفهمِ وصلاحيتِه له من الجَزَالةِ ما لا غايةَ وراءَهُ .(5/307)
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)
{ وَقَالُواْ } كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ أباطيلِهم بطريق الالتفاتِ وإيذاناً بأنَّ ما ذُكر من عدمِ شكرِهم بتلك النِّعمِ موجبٌ للإعراضِ عنهم وتعديدِ جناياتِهم لغيرِهم بطريقِ المباثةِ { أَءذَا ضَلَلْنَا فِى الارض } أي صِرنا ترُاباً مخلوطاً بترابِها بحيثُ لا نتميَّز منه أو غبنا فيها بالدَّفنِ . وقُرىء ضلِلنا بكسرِ اللامِ من بابِ عَلِمَ وصلِلنا بالصاد المهلمةِ من صلَّ اللحمُ إذا أنتنَ وقيل : من الصِّلةِ وهي الأرضُ أي صرنا من جنسِ الصِّلَّةِ قيل : القائلُ أبيُّ ابنُ خَلَفٍ ، ولرضاهم بقولِه أُسند القولُ إلى الكلِّ . والعاملُ في إذا ما يدلُّ عليه قولُه تعالى { أءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ } وهو نبعثُ أو يُجدد خلقَنا ، والهمزةُ لتذكيرِ الإنكارِ السَّابقِ وتأكيدِه . وقُرىء إنَّا على الخبرِ ، وأيّاً ما كان فالمَعنى على تأكيدِ الإنكارِ لا إنكارٍ التَّأكيد كما هو المُتبادر من تقدمِ الهمزةِ على إنَّ فإنها مؤخَّرةٌ عنها في الاعتبارِ وإنَّما تقديُمها عليها لاقتضائِها الصَّدارةَ { بَلْ هُم بِلَقَاء رَبّهِمْ كافرون } إضرابٌ وانتقالٌ من بيانِ كفرِهم بالبعثِ إلى بيانِ ما هُو أبلغُ وأشنعُ منه وهو كفرُهم بالوصولِ إلى العاقبةِ وما يلقَونه فيها من الأحوالِ والأهوالِ جميعاً .
{ قُلْ } بياناً للحقِّ وردَّا على زعمِهم الباطلِ { يتوفاكم مَّلَكُ الموت } لا كما تزعمون أنَّ الموتَ من الأحوالِ الطَّبيعيةِ العارضةِ للحيوانِ بموجبِ الجبلَّةِ أي يقبضُ أرواحَكم بحيثُ لا يدعُ فيكم شيئاً أو لا يتركُ منكم أحداً على أشدِّ ما يكونُ من الوجوهِ وأفظعِها من ضربِ وجوهِكم وأدبارِكم { الذى وُكّلَ بِكُمْ } أي بقيضِ أرواحِكم وإحصاءِ آجالِكم { ثُمَّ إلى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ } بالبعث للحسابِ والجزاءِ { وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون } وهم القائلون أئذا ضللنا في الآيةِ أو جنس المجرمينَ وهم من جُملتهم { نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبّهِمْ } من الحياءِ والخزيِ عند ظهورِ قبائحهم التي اقترفُوها في الدُّنيا { رَبَّنَا } أي يقولون ربَّنا { أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } أي صرنا ممَّن يُبصرُ ويسمعُ وحصل لنا الاستعدادُ لإدراك الآياتِ المُبصَرةِ والآياتِ المسمُوعةِ وكنَّا من قبلُ عُميا وصُمَّا لا ندركُ شيئاً { فارجعنا } إلى الدُّنيا { نَعْمَلْ } عملاً { صالحا } حسبما تقتضيهِ تلك الآياتُ وقولُه تعالى { إِنَّا مُوقِنُونَ } إدِّعاءٌ منهم لصحَّةِ الأفئدةِ والاقتدارِ على فهم معانِي الآياتِ والعملِ بموجبِها كما أنَّ ما قبله ادِّعاءٌ لصحَّةِ مشعري البصرِ والسَّمعِ كأنَّهم قالُوا وأيقنا وكنَّا من قبل لا نعقلُ شئاً أصلاً وإنما عدلُوا إلى الجملة الإسميةِ المؤكدةِ إظهاراً لثباتِهم على الإيقانِ وكمالِ رغبتهم فيه ، وكلُّ ذلك للجدِّ في الاستدعاءِ طمعاً في الإجابةِ إلى ما سألُوه من الرَّجعةِ وأنَّى لهم ذلك ويجوز أنْ يقدَّر لكلَ من الفعلينِ مفعولٌ مناسبٌ له مَّما يُبصرونه ويسمعونَه فإنَّهم حينئذٍ يشاهدون الكفرَ والمعاصيَ على صورٍ منكرةٍ هائلةٍ ويخبرهم الملائكةُ بأنَّ مصيرَهم إلى النَّار لا محالَة فالمعنى أبصرْنا قبحَ أعمالِنا وكنَّا نَراها في الدُّنيا حَسنةً وسمعنا أنَّ مردَّنا إلى النَّارِ وهو الأنسبُ لما بعده من الوعدِ بالعملِ الصَّالحِ ، هذا وقد قيل المعنى وسمعنَا منك تصديقَ رُسلِك .(5/308)
وأنت خبيرٌ بأنَّ تصديقَه تعالى لهم حينئذٍ يكون بإظهارِ مدلولِ ما أُخبروا به من الوعدِ والوعيدِ لا بالإخبارِ بأنَّهم صادقون حتَّى يسمعوه وقيل : وسمعنا قولَ الرُّسلِ أي سمعناه سمعَ طاعةٍ وإذعانٍ .
ولا يقدر لترى مفعولٌ إذ المعنى لو تكون منك رؤيةٌ في ذلك الوقتِ أو يقدر ما ينبىءُ عنه صلة إذ والمضيُّ فيها وفي لو باعتبارِ أنَّ الثَّابتَ في علمِ الله تعالى بمنزلةِ الواقعِ . وجوابُ لو محذوفٌ أي لرأيتَ أمراً فظيعاً لا يُقادر قدرُه . والخطابُ لكلِّ أحدٍ ممَّن يصلحُ له كائناً من كانَ إذِ المرادُ بيانُ كمالِ سوءِ حالِهم وبلوغِها من الفظاعةِ إلى حيثُ لا يختصُّ استغرابُها واستفظاعُها براءٍ دونَ راءٍ ممَّن اعتادَ مشاهدةَ الأمورِ البديعةِ والدَّواهيِ الفظيعةِ بل كلُّ من يتأتّى منه الرؤيةُ يتعجَّبُ من هولِها وفظاعتِها .
هذا ومَنْ علّل عمومِ الخطابِ بالقصدِ إلى بيانِ أنَّ حالَهم قد بلغتْ من الظُّهورِ إلى حيثُ يُمنع خفاؤها البتةَ فلا تختصُّ رؤيةُ راءٍ دون راءٍ بل كلُّ من يتأتَّى منه الرُّؤيةُ فله مدخلٌ في هذا الخطابِ فقد نأى عن تحقيقِ الحقِّ لأنَّ المقصودَ بيانُ كمالِ فظاعةِ حالِهم كما يفصحُ عنه الجوابُ المحذوفُ لا بيانُ كمالِ ظهورِها فإنَّه مسوقٌ مساقَ المسلَّمات فتدبَّر .(5/309)
وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)
{ وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } مقدر بقولٍ معطوفٍ على ما قُدِّر قبل قولِه تعالى : { رَبَّنَا أَبْصَرْنَا } الخ ، أي ونقولُ : لو شئنا أي لو تعلقتْ مشيئتُنا تعلقاً فعلياً بأنْ نُعطي كلَّ نفسٍ من النُّفوسِ البرَّةِ والفاجرةِ ما تهتدي به إلى الإيمانِ والعملِ الصالحِ لأعطيناها إيَّاه في الدُّنيا التي هي دارُ الكسبِ وما أخَّرناه إلى دارِ الجزاءِ { ولكن حَقَّ القول مِنْى } أي سبقت كلمتي حيثُ قلتُ لإبليسَ عند قوله : { لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين فالحق والحق أَقُولُ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } وهو المعنيُّ بقولِه تعالى { لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } كما يلوحُ به تقديم الجِنَّة على النَّاسِ فبموجبِ ذلكَ القولِ لم نشأْ إعطاءَ الهُدى على العمومِ بل معناهُ من أتباعِ إبليسَ الذين أنتُم من جُملتِهم حيثُ صَرفتُم اختيارَكم إلى الغيِّ بإغوائِه ، ومشيئتُنا لأفعال العباد منوطةٌ باختيارِهم إيَّاها فلمَّا لم تختارُوا الهُدى واخترتُم الضَّلالةَ لم نشأْ إعطاءَه لكم وإنَّما أعطيناه الذين اختارُوه من النُّفوسِ البرَّةِ وهم المعنيّون بما سيأتي من قوله تعالى : { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بئاياتنا } الآيةَ ، فيكونُ مناطُ عدمِ مشيئتِه إعطاءَ الهُدى في الحقيقةِ سوءَ اختيارِهم لا تحققَ القولِ وإنَّما قيدنا المشيئةَ بما مرَّ من التعلُّقِ الفعليِّ بأفعالِ العبادِ عند حدوثِها لأنَّ المشيئةَ الأزليةَ من حيثُ تعلُّقها بما سيكونُ من أفعالِهم إجمالاً متقدِّمةٌ على تحققِ كلمةِ العذابِ فلا يكونُ عدمُها منوطاً بتحققِها وإنَّما مناطُه علمُه تعالى أزلاً بصرفِ اختيارِهم فيما سيأتي إلى الغيِّ وإيثارِهم له على الهدى ، فلو أُريدت هي من تلك الحيثيةِ لاستدرك بعدمِها ونيطَ ذلك بما ذُكر من المناطِ على منهاجِ قولِه تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ } فمن توهَّم أنَّ المَعنى ولو شئنا لأعطينا كلَّ نفسٍ ما عندنا من اللُّطفِ الذي لو كان منهم اختيارُه لاهتدَوا ولكن لم نُعطهم لمّا علمنا منهم اختيارَ الكفر وإيثارَه فقد اشتبه عليه الشؤونُ ،(5/310)
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
والفاء في قوله تعالى { فَذُوقُواْ } لترتيبِ الأمرِ بالذَّوق على ما يُعرب عنه ما قبله من نفيِ الرَّجعِ إلى الدُّنيا أو على الوعيدِ المحكيِّ والباء في قوله تعالى : { بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا } للإيذانِ بأنَّ تعذيبَهم ليس لمجردِ سبقِ الوعيدِ به فقط بل هو وسبقُ الوعيدِ أيضاً بسببٍ موجبٍ له من قِبَلهم ، كأنَّه قيل : لا رجعَ لكم إلى الدُّنيا أو حقَّ وعيدي فذوقُوا بسببِ نسيانِكم لقاءَ هذا اليومِ الهائلِ وتركِكم التفكُّرَ فيهِ والاستعدادَ له بالكُلِّيةِ { إِنَّا نسيناكم } أي تركناكُم في العذابِ تركَ المنسيِّ بالمرَّةِ وقولُه تعالى : { وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } تكريرٌ للتَّأكيدِ والتَّشديدِ وتعيينُ المفعولِ المطويِّ للذوقِ والإشعارِ بأنَّ سببَه ليس مجرَّد ما ذُكر من النِّسيانِ بل له أسبابٌ أخرُ من فنونِ الكفرِ والمَعاصي التي كانُوا مستمرِّين عليها في الدُّنيا ، وعدمُ نظمِ الكلِّ في سلكٍ واحدٍ للتنبيهِ على استقلالِ كلَ منها في استيجابِ العذابِ . وفي إبهامِ المذوقِ أولاً وبيانِه ثانياً بتكريرِ الأمرِ وتوسيطِ الاستئنافِ المنبىءِ عن كمالِ السُّخطِ بينهما من الدِّلالةِ على غاية التَّشديدِ في الانتقامِ منهم ما لا يَخْفى وقوله تعالى : { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بئاياتنا } استئنافٌ مسوقٌ لتقريرِ عدمِ استحقاقِهم لإيتاءِ الهُدى والإشعارِ بعدمِ إيمانِهم لو أُوتوه بتعيينِ مَن يستحقُّه بطريقِ القصرِ كأنَّه قيل : إنَّكم لا تُؤمنون بآياتِنا ولا تعملون بموجبِها عملاً صالحاً ولو رَجَعناكم إلى الدُّنيا كما تدَّعون حسبما ينطقُ به قولُه تعالى : { وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } وإنَّما يُؤمن بها { الذين إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا } أي وُعِظوا { خَرُّواْ سُجَّداً } آثر ذي أثيرٍ من غيرِ تردُّدٍ ولا تلعثمٍ فضلاً عن التَّسويفِ إلى معاينةِ ما نطقتْ به من الوعدِ والوعيدِ أي سقطُوا على وجوهِهم { وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبّهِمْ } أي ونزَّهُوه عند ذلك عن كلِّ ما لا يليقُ به من الأمورِ التي من جُملتها العجزُ عن البعثِ ملتبسين بحمدِه تعالى على نعمائِه التي أجلُّها الهدايةُ بإيتاءِ الآياتِ والتَّوفيقِ للاهتداءِ بها ، والتعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيةِ بطريقِ الالتفاتِ مع الإضافةِ إلى ضميرِهم للإشعارِ بعلَّةِ التَّسبيحِ والتَّحميدِ وبأنَّهم يفعلونهما بملاحظةِ ربوبيتِه تعالى لهم { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } أي والحالُ أنَّهم خاضعون له تعالى لا يستكبرون عمَّا فعلُوا من الخُرور والتَّسبيحِ والتَّحميدِ { تتجافى جُنُوبُهُمْ } أي تنبُو وتنْحَى { عَنِ المضاجع } أي الفُرشِ ومواضعِ المنامِ . والجملةُ مستأنفةٌ لبيانِ بقيةِ محاسنِهم وهم المُتهجِّدونَ بالليلِ . قال أنسٌ رضي الله عنه : نزلتْ فينا معاشرَ الأنصارِ كنَّا نصلِّي المغربَ فلا نرجعُ إلى رحالِنا حتى نصلِّي العشاءَ مع النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ . وعن أنسٍ أيضاً رضي الله عنه أنَّه قال : نزلتْ في أناسٍ من أصحابِ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كانوا يصلُّون من صلاةِ المغربِ إلى صلاةِ العشاءِ وهي صلاةُ الأوَّابينَ وهو قولُ أبي حازمٍ ومحمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ ، وهو مرويٌّ عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما .(5/311)
وقال عطاءٌ : هم الذين لا ينامُون حتَّى يصلُّوا العشاءَ الآخرةَ والفجرَ في جماعةٍ . والمشهورُ أنَّ المرادَ منه صلاةُ اللَّيلِ وهو قولُ الحسنِ ومجاهدٍ ومالكٍ والأوزاعيِّ وجماعةٍ ، لقولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « أفضلُ الصِّيامِ بعد شهرِ رمضانَ شهرُ الله المحرَّمُ وأفضلُ الصَّلاةِ بعد الفريضةِ صلاةُ اللَّيلِ » وعن النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في تفسيرِها : « قيامُ العبدِ من الليلِ » وعنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « إذا جمعَ الله الأوَّلينَ والآخرينَ جاء منادٍ ينادي بصوتٍ يُسمع الخلائقَ كلَّهم سيعلم أهلُ الجمعِ اليَّومَ من أولى بالكرمِ ثم يرجعُ فيُنادي ليقُم الذين كانتْ تتجَافى جنوبُهم عن المضاجعِ فيقومونَ وهُم قليلٌ ثم يرجعُ فيُنادي ليقُم الذين كانُوا يحمدون الله في السرَّاءِ والضَّراءِ فيقومون وهُم قليلٌ فيسرَّحُون جميعاً إلى الجنَّةِ ، ثم يُحاسَب سائرُ النَّاسِ » . وقولُه تعالى : { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } حالٌ من ضميرِ جنوبُهم أي داعينَ له تعالى على الاستمرارِ { خَوْفًا } من سخطِه وعذابِه وعدمِ قبولِ عبادتِه { وَطَمَعًا } في رحمتِه { وَمِمَّا رزقناهم } من المالِ { يُنفِقُونَ } في وجوهِ البرِّ والحسناتِ .(5/312)
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19)
{ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ } من النُّفوسِ لا مَلَكٌ مقرَّبٌ ولا نبيٌّ مرسلٌ فضلاً عمَّن عداهم { مَّا أُخْفِىَ لَهُم } أي لأولئكَ الذين عُدِّدت نعوتُهم الجليلةُ { مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } مما تقرُّ به أعينُهم وعنْهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « يقولُ الله عزَّ وجلَّ : أعددتُ لعبادي الصَّالحينَ ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطَر على قلبِ بشرٍ ، بَلْهَ ما اطلعتُم عليهِ اقرؤا إنْ شئتُم ، فلا تعلم نفسٌ ما أُخفي لهم من قرَّةِ أعينٍ » . وقُرىء ما أُخفي لهم وما نُخفي لهم وما أَخفيتُ لهم على صيغة المتكلِّمِ وما أخفى لهم على البناءِ للفاعلِ وهو الله سبحانه . وقُرىء قُرَّاتِ أعينٍ لاختلافِ أنواعِها . والعِلمُ بمعنى المعرفةِ وما موصولةٌ أو استفهاميةٌ عُلِّق عنها الفعلُ { جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي جُزوا جَزاءاً أو أُخفي لهم للجزاءِ بما كانُوا يعملونَه في الدُّنيا من الأعمالِ الصَّالحةِ . قيل : هؤلاءِ القومُ أخفَوا أعمالَهم فأخفَى الله تعالى ثوابَهم { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً } أي أبعدَ ظهورِ ما بينهُما من التَّباينِ البيِّنِ يُتوهَّمُ كونُ المؤمنِ الذي حُكيت أوصافُه الفاضلةُ كالفاسقِ الذي ذُكرت أحوالُه { لاَّ يَسْتَوُونَ } التَّصريح به مع إفادةِ الإنكارِ لنفيِ المشابهةِ بالمرَّة على أبلغِ وجهٍ وآكدِه لبناء التَّفصيل الآتِي عليه والجمعُ باعتبارِ معنى مَن كما أنَّ الإفرادَ فيما سبق باعتبارِ لفظِها . وقولُه تعالى : { أَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ جنات المأوى } تفصيلٌ لمراتبِ الفريقينِ في الآخرةِ بعد ذكرِ أحوالِهما في الدُّنيا وأضيفتْ الجنَّةُ إلى المَأْوى لأنَّها المأوى الحقيقيُّ وإنَّما الدُّنيا منزلٌ مرتحلٌ عنه لا محالةَ وقيل : المَأْوى جنَّةٌ من الجنَّاتِ ، وأياً ما كان فلا يبعُد أنْ يكونَ فيه رمزٌ إلى ما ذُكر من تجافِيهم عن مضاجعِهم التي هي مأواهم في الدُّنيا { نُزُلاً } أي ثواباً وهو في الأصلِ ما يعدُّ للنَّازلِ من الطَّعامِ والشَّرابِ وانتصابُه على الحاليَّةِ { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } في الدُّنيا من الأعمالِ الصَّالحةِ أو بأعمالِهم .(5/313)
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)
{ وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ } أي خرجُوا عن الطَّاعةِ { فَمَأْوَاهُمُ } أي ملجأهُم ومنزلُهم { النار } مكانَ جنَّاتِ المأوى للمؤمنينَ { كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا } استئنافٌ لبيانِ كيفيةِ كونِ النَّارِ مأواهم . يُروى أنَّه يضربُهم لهَبُ النَّارِ فيرتفعونَ إلى طبقاتِها حتَّى إذا قربُوا من بابِها وأرادُوا أنْ يخرجُوا منها يضربُهم اللَّهبُ فيهوون إلى قعرِها وهكذا يُفعل بهم أبداً وكلمةُ فِي للدِّلالةِ على أنَّهم مستقرُّون فيها وإنَّما الإعادةُ من بعضِ طبقاتِها إلى بعضٍ { وَقِيلَ لَهُمْ } تشديداً عليهم وزيادةً في غيظِهم { ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ } أي بعذابِ النَّارِ { تُكَذّبُونَ } على الاستمرارِ في الدُّنيا { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ العذاب الادنى } أي عذابِ الدُّنيا وهو ما مُحِنُوا به من السَّنةِ سبعَ سنينَ والقتلِ والأسرِ { دُونَ العذاب الاكبر } الذي هو عذابُ الآخرةِ { لَعَلَّهُمْ } لعلَّ الذين يُشاهدونه وهُم في الحياةِ { يَرْجِعُونَ } يتوبُون عن الكفرِ . رُوي أن الوليدَ بنَ عُقبةَ فاخرَ عليًّا رضيَ الله عنه يومَ بدرٍ فنزلتْ هذه الآياتُ { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بئايات رَبّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا } بيانٌ إجماليٌّ لحالِ من قابلَ آياتِ الله تعالى بالإعراضِ بعد بيانِ حالِ مَن قابلها بالسُّجودِ والتَّسبيحِ والتَّحميدِ . وكلمةُ ثمَّ لاستبعادِ الإعراضِ عنها عقلاً مع غايةِ وضوحِها وإرشادِهم إلى سعادةِ الدَّارينِ كما في بيتِ الحماسةِ
وَلاَ يَكْشِفُ الغَمَّاءَ إِلاَّ ابْنُ حُرَّة ... يَرَى غَمَراتِ المَوْتِ ثُمَّ يزُورُها
أي هو أظلمُ مِن كلِّ ظالمٍ وإن كان سبكُ التَّركيبِ على نفيِ الأظلمِ من غيرِ تعرُّضٍ لنفيِ المُساوي . وقد مرَّ مراراً { إِنَّا مِنَ المجرمين } أي من كلِّ منِ اتَّصف بالإجرامِ وإنْ هانتْ جريمتُه { مُنتَقِمُونَ } فكيفَ ممَّن هو أظلمُ من كلِّ ظالمٍ وأشدُّ جُرماً من كلِّ مجرم .
{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب } أي التَّوراةَ عبَّر عنها باسمِ الجنسِ لتحقيقِ المجانسةِ بينها وبينَ الفُرقانِ والتنبيهِ على أنَّ إيتاءَه لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم كإيتائِها لمُوسى عليهِ السَّلامُ { فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَةٍ مّن لّقَائِهِ } من لقاءِ الكتابِ الذي هو الفُرقان كقوله : وإنك لتلقَّى القرآنَ والمعنى إنَّا آتينا مُوسى مثلَ ما آتيناك من الكتابِ ولقَّيناه من الوحيِ مثلَ ما لقَّيناك من الوحيِ فلا تكُن في شكَ من أنَّك لقيتَ مثلَه ونظيرَه وقيل : من لقاءِ مُوسى الكتاب أو من لقائِك مُوسى وعنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « رأيتُ ليلة أُسري بي مُوسى رجلاً آدَمَ طُوالاً جَعْداً كأنَّه من رجالِ شنوءة » { وجعلناه } أي الكتابَ الذي آتيناهُ مُوسى { هُدًى لّبَنِى إسراءيل } قيل : لم يُتعبدْ بما في التَّوراةِ ولدُ إسماعيلَ .(5/314)
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ } بقيتهم بما في تضاعيفِ الكتابِ من الحُكم والأحكامِ إلى طريقِ الحقِّ أو يهدونَهم إلى ما فيهِ من دينِ الله وشرائعِه { بِأَمْرِنَا } إيَّاهم بذلك أو بتوفيقِنا له { لَمَّا صَبَرُواْ } هي لما التي فيها مَعنى الجزاءِ نحو أحسنتُ إليك لمَّا جئتنِي . والضَّميرُ للأئمةِ تقديرُه لمَّا صبرُوا جعلناهُم أئمةً أو هي ظرفٌ بمعنى الحينِ أي جعلناهُم أئمةً حين صبرُوا والمرادُ صبرُهم على مشاقِّ الطَّاعاتِ ومقاساة الشَّدائدِ في نُصرةِ الدِّينِ أو صبرُهم عن الدُّنيا . وقُرىء لِمَا صبرُوا أي لصبرِهم { وَكَانُواْ بئاياتنا } التي في تضاعيفِ الكتابِ { يُوقِنُونَ } لإمعانِهم فيها النَّظرَ والمعنى كذلك لنجعلنَّ الكتابَ الذي آتيناكَه هُدى لأمَّتِك ولنجعلنَّ منهم أئمَّةً يهدون مثلَ تلك الهدايةِ { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ } أي يقضِي { بَيْنَهُمْ } قيل : بينَ الأنبياءِ وأممِهم وقيل : بين المؤمنينَ والمشركينَ { يَوْمُ القيامة } فيميِّزُ بين المُحقِّ والمُبطلِ { فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } من أمورِ الدِّينِ { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } الهمزةُ للإنكارِ والواوُ للعطفِ على منويَ يقتضيهِ المقامُ من فعل الهداية . إما من قولهم : فلانٌ يعطي في أنَّ المرادَ إيقاعُ نفسِ الفعلِ بلا ملاحظةِ المفعولِ وإمَّا بمعنى التَّبيينِ والمفعولُ محذوفٌ والفاعلُ ما دلَّ عليهِ قوله تعالى : { كَمْ أَهْلَكْنَا } أي أغفلُوا ولم يفعلِ الهدايةَ لهم أو ولم يبيِّن لهم مآل أمرِهم كثرةُ إهلاكِنا { مِن قَبْلِهِمْ مّنَ القرون } مثلُ عادٍ وثمودٍ وقومِ لوطٍ . وقُرىء نهدِ لهم بنونِ العظمةِ وقد جُوِّز أن يكونَ الفاعلُ على القراءةِ الأولى أيضاً ضميرُه تعالى فيكون قوله تعالى : { كَمْ أَهْلَكْنَا } الخ ، استئنافاً مبيِّناً لكيفيَّةِ هدايتِه تعالى { يَمْشُونَ فِى مساكنهم } أي يمرُّون في متاجرِهم على ديارِهم وبلادِهم ويشاهدُون آثارَ هلاكِهم . والجملةُ حالٌ من ضميرِ لَهُم . وقُرىء يمشُون للتَّكثيرِ { إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي فيما ذُكر من كثرةِ إهلاكِنا للأممِ الخاليةِ العاتيةِ أو في مساكنِهم { لآيَاتٍ } عظيمةً في أنفسِها كثيرةً في عددِها { أَفَلاَ يَسْمَعُونَ } هذه الآياتِ سماعَ تدبرٍ واتِّعاظٍ { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الماء إِلَى الارض الجرز } أي التي جَرزَ نباتُها أي قُطع وأُزيل بالمرَّةِ وقيل : هو اسمُ موضعٍ باليمنِ { فَنُخْرِجُ بِهِ } من تلك الأرضِ { زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ } أي من ذلك الزَّرعِ { أنعامهم } كالتِّبنِ والقصيلِ والورقِ وبعضِ الحبوبِ المخصوصةِ بها . وقُرىء يأكلُ بالياءِ { وَأَنفُسِهِمْ } كالحبوبِ التي يقتاتُها الإنسانُ والثمارِ { أَفَلاَ يُبْصِرُونَ } أي ألا ينظرون فلا يُبصرون ذلك ليستدلُّوا به على كمال قدرتِه تعالى وفضله .(5/315)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
{ وَيَقُولُونَ } كان المسلمونَ يقولون : إنَّ الله سيفتحُ لنا على المشركين أو يفصلُ بيننا وبينهم كان أهلُ مكَّةَ إذا سمعُوه يقولون بطريقِ الاستعجالِ تكذيباً واستهزاءً : { متى هذا الفتح } أي النَّصرُ أو الفصلُ بالحكومةِ { إِن كُنتُمْ صادقين } في أنَّ الله تعالى ينصرُكم أو يفصلُ بيننا وبينكم { قُلْ } تبكيتاً لهم وتحقيقاً للحقِّ { يَوْمَ الفتح لاَ يَنفَعُ الذين كَفَرُواْ إيمانهم وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } يومُ الفتح يومُ القيامةِ وهو يومُ الفصلِ بين المؤمنين وأعدائِهم ويومُ نصرِهم عليهم وقيل : هو يومُ بدرٍ . وعن مجاهدٍ والحسنِ : يومُ فتحِ مكَّةَ . والعدولُ عن تطبيقِ الجوابِ على ظاهرِ سؤالِهم للتَّنبيهِ على أنَّه ليس ممَّا ينبغِي أنْ يسألَ عنه لكونِه أمراً بيِّناً غنياً عن الإخبارِ به وكذا إيمانُهم واستنظارُهم يومئذٍ وإنَّما المحتاجُ إلى البيانِ عدمُ نفعِ ذلك الإيمانِ وعدمُ الإنظارِ كأنَّه قيل : لا تستعجلُوا فكأنِّي بكم قد آمنتُم فلم ينفعْكم واستنظرتُم فلم تُنظروا ، وهذا على الوجهِ الأولِ ظاهرٌ وأمَّا على الأخيرينِ فالموصولُ عبارةٌ عن المقتولينَ يومئذٍ لا عن كافَّة الكَفَرةِ كما في الوجهِ الأول كيف لا وقد نفعَ الإيمانُ الطُّلقاءَ يومَ الفتحِ وناساً أمنُوا يومَ بدرٍ { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } ولا تُبالِ بتكذيبِهم { وانتظر } النُّصرةَ عليهم وهلاكَهم { إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ } قيل : أيِ الغلبةَ عليكم كقولِه تعالى : { فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ } والأظهرُ أنْ يقالَ : إنَّهم منتظرون هلاكَهم كما في قوله تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام } الآيةَ ، ويقرُبُ منه ما قيلَ وانتظرْ عذابَنا إنَّهم مُنتظروه فإنَّ استعجالَهم المذكورَ وعكوفَهم على ما هُم عليه من الكُفر والمَعاصي في حُكم انتظارِهم العذابَ المترتِّبَ عليه لا محالةَ . وقُرىء على صيغةِ المفعولِ على مَعْنى أنَّهم أحقَّاءُ بأنْ يُنتظرَ هلاكُهم أو فإنَّ الملائكةَ ينتظرونَهُ .
عن النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « مَن قرأَ ألم تنزيلُ وتباركَ الذي بيدِه الملكُ أُعطيَ من الأجرِ كأنَّما أُوحي ليلةَ القدرِ » . وعنه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : « مَن قرأَ ألم تنزيلُ في بيتِه لم يدخُلْه الشَّيطانُ ثلاثةَ أيَّامٍ »(5/316)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2)
( سورة الأحزاب مدنية وهى ثلاث وسبعون آية )
{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم } { ياأيها النبى اتق الله } في ندائِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعنوانِ النُّبوةِ تنويهٌ بشأنِه وتنبيهٌ على سموِّ مكانِه ، والمرادُ بالتَّقوى المأمورِ به الثباتُ عليهِ والازديادُ منه فإنَّ له باباً واسعاً وعرضاً عريضاً لا يُنال مداهُ { وَلاَ تُطِعِ الكافرين } أي المجاهرينَ بالكُفر { والمنافقين } المُضمرين له أي فيما يعودُ بوهنٍ في الدِّينِ وإعطاء دنيَّةٍ فيما بين المسلمينَ . ( رُوي أنَّ أبا سفيانَ بنَ حربٍ وعكرمةَ بنَ أبي جهلٍ وأبا الأعورِ السُّلَمي قدِمُوا عليهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في الموادعةِ التي كانتْ بينه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وبينهم ، وقامَ معهم عبدُ اللَّهِ بن أبيَ ومعتب بن قُشير والجدُّ بنُ قيسٍ فقالُوا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم : أرفضْ ذكرَ آلهتِنا ، وقل : إنَّها تشفعُ وتنفعُ وندعك وربَّك فشقَّ ذلك على النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والمؤمنين وهمُّوا بقتلِهم فنزلتْ ) أي اتقِ الله في نقضِ العهدِ ونبذِ الموادعةِ ولا تساعدِ الكافرينَ من أهلِ مكةَ والمنافقينَ من أهلِ المدينةِ فيما طلبُوا إليكَ { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } مُبالغاً في العلمِ والحكمةِ فيعلم جميعَ الأشياءِ من المصالحِ والمفاسدِ فلا يأمرُك إلا بما فيه مصلحةٌ ولا ينهاك إلا عمَّا فيه مفسدةٌ ولا يحكم إلا بما تقتضيهِ الحكمةُ البالغةُ فالجملةُ تعليلٌ للأمرِ والنَّهي مؤكدٌ لوجوبِ الامتثالِ بهما { واتبع } أي في كلِّ ما تأتِي وتذر من أمورِ الدِّينِ { مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبّكَ } من الآياتِ التي من جُملتها هذه الآيةُ الآمرةُ بتقوى الله الناهيةُ عن مساعدةِ الكَفَرةِ والمنافقينَ . والتَّعرضُ لعُنوانِ الرُّبوبيةِ لتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ بالأمرِ { إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } قيل : الخطابُ للرسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والجمعُ للتَّعظيمِ وقيل : له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وللمؤمنينَ وقيلَ : للغائبينَ بطريقِ الالتفاتِ ولا يخفى بعدُه نعم يجوزُ أنْ يكونَ للكلِّ على ضربٍ من التَّغليبِ ، وأياً ما كانَ فالجملةُ تعليلٌ للأمرِ وتأكيدٌ لموجبه ، أمَّا على الوجهينِ الأولينِ فبطريقِ الرغيبِ والتَّرهيبِ كأنَّه قيل : إنَّ الله خبيرٌ بما تعملونَه من الامتثالِ وتركه فيرتب على كلَ منهما جزاءَه ثواباً وعقاباً وأمَّا على الوجهِ الأخيرِ فبطريقِ الترغيب فقط كأنَّه قيل : إنَّ الله خبيرٌ بما يعملُه كلا الفريقينِ فيرشدك إلى ما فيهِ صلاحُ حالِك وانتظامُ أمرِك ويُطلعك على ما يعملونَه من المكايدِ والمفاسدِ ويأمُرك بما ينبغِي لك أنْ تعملَه في دفعِها وردِّها فلا بُدَّ من اتباعِ الوحيِ والعملِ بمقتضاه حتماً .(5/317)
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
{ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } أي فوِّض جميعَ أمرِك إليه { وكفى بالله وَكِيلاً } حافظاً موكُولاً إليه كلُّ الأمورِ .
{ مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ } شروعٌ في إلقاءِ الوحيِ الذي أُمر عليه الصَّلاة والسَّلام اتباعِه وهذا مَثَلٌ ضربه الله تعالى تمهيداً لما يعقبُه من قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ أزواجكم اللائى تظاهرون مِنْهُنَّ أمهاتكم وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ } وتنبيهاً على أنَّ كون المُظاهَرِ منها أُمّاً وكون الدَّاعي ابناً أي بمنزلة الأمِّ والابنِ في الآثارِ والأحكامِ المعهودة فيما بينهم في الاستحالةِ بمنزلة اجتماعِ قلبينِ في جوفٍ واحدٍ وقيل : هو ردٌّ لما كانتِ العربُ تزعمُ من أنَّ اللَّبيبَ الأريبَ له قلبانِ ولذلك قيلَ لأبي معمرٍ أو لجميلِ بن أسيدٍ الفهريِّ ذُو القلبينِ أي ما جمعَ الله تعالى قلبينِ في رجلٍ . وذِكرُ الجوفِ لزيادةِ التَّقريرِ كما في قولِه تعالى : { ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور } ولا زوجيَّةَ ولا أمومةَ في امرأةٍ ولا دعوةَ وبنوَّةَ في شخصٍ لكن لا بمعنى نفيِ الجمعِ بين حقيقةِ الزوجيةِ والأمومةِ ونفيِ الجمعِ بين حقيقةِ الدَّعوةِ والبنوّةِ كما في القلبِ ولا بمعنى نفيِ الجمعِ بين أحكامِ الزوجيةِ وأحكامِ الأُمومةِ ونفيِ الجمعِ بين أحكامِ الدَّعوةِ وأحكامِ البنوَّة على الإطلاقِ ، بل بمعنى نفيِ الجمعِ بين حقيقةِ الزَّوجيَّةِ وأحكامِ الأُمومةِ ونفيِ الجمعِ بين حقيقةِ الدَّعوةِ وأحكامِ البنوةِ لإبطالِ ما كانُوا عليهِ من إجراءِ أحكامِ الأُمومةِ على المظاهرِ منها وإجراءِ أحكامِ البنوَّةِ على الدَّعيِّ ، ومعنى الظِّهارِ أنْ يقولَ لزوجتِه : أنتِ عليَّ كظهرِ أمِّي مأخوذٌ من الظَّهر باعتبارِ اللَّفظ كالتَّلبيةِ من لبيكَ وتعديته بمن لتضمنِه معنى التجنبِ لأنَّه كان طلاقاً في الجاهليةِ وهو في الإسلامِ يقتضِي الطَّلاقَ أو الحُرمةَ إلى أداءِ الكفَّارةِ كما عُدِّي آلَى بها وهو بمعنى حلفَ . وذُكر الظِّهارُ للكنايةِ عن البطنِ الذي هو عمودُه فإنَّ ذِكرَه قريبٌ من ذكرِ الفرجِ أو للتغليظِ في التَّحريمِ فإنَّهم كانُوا يُحرِّمون إتيانَ الزَّوجةِ وظهرُها إلى السَّماءِ . وقُرىء اللاءِ وقُرىء تظاهرونَ بحذفِ إحدى التَّاءينِ من تتَظَاهرون وتَظّاهرون بإدغامِ التَّاءِ الثَّانيةِ في الظَّاءِ ، وتُظْهرون من أظهرَ بمعنى تظَهَّر وتَظْهَرون من ظَهَر بمعنى ظاهَر كعقدَ بمعنى عاقَد ، وتَظْهُرون من ظَهر ظُهوراً . وأدعياءُ جمع دَعيَ وهو الذي يُدعى ولداً على الشُّذوذِ لاختصاصِ أَفعِلاء بفعيلٍ بمعنى فاعلٍ كتقيَ وأتقياء كأنَّه شُبِّه به في اللَّفظِ فجُمع جمعَه كقُتلاء وأُسراء .
{ ذلكم } إشارةٌ إلى ما يُفهم ممَّا ذُكر من الظِّهارِ والادّعاءِ أو إلى الأخيرِ الذي هو المقصودُ من مساقِ الكلامِ أي دعاءُكم بقولِكم هذا ابني { قَوْلُكُم بأفواهكم } فقط من غيرِ أن يكونَ له مصداقٌ وحقيقةٌ في الأعيانِ فإذن هُو بمعزلٍ من استتباعِ أحكامِ البنوَّةِ كما زعمتُم { والله يَقُولُ الحق } المطابقَ للواقعِ { وَهُوَ يَهْدِى السبيل } أي سبيلَ الحقِّ لا غيرَ فدعُوا أقوالَكم وخُذوا بقوله عزَّ وجلَّ : { ادعوهم لآبَائِهِمْ } أي أنسبُوهم إليهم وخُصُّوهم بهم .(5/318)
وقولُه تعالى : { هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله } تعليلٌ له والضَّميرُ لمصدرِ ادعُوا كما في قولِه تعالى : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } وأقسطُ أفعلُ تفضيلٍ قُصد به الزيادةَ مطلقاً من القسطِ بمعنى العدلِ أي الدُّعاء لآبائِهم بالغٌ في العدلِ والصِّدقِ في حُكمِ الله تعالى وقضائِه { فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُم } فتنسبُوهم إليهم { فَإِخوَانُكُمْ } فهم إخوانُكم { فِى الدين ومواليكم } وأولياؤكم فيه أي فادعُوهم بالأخوَّةِ الدِّينيةِ والمولوية { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أي إثمٌ { فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ } أي فيما فعلتمُوه من ذلك مخطئينَ بالسَّهوِ أو النِّسيانِ أو سبقِ اللِّسانِ { ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } أي ولكن الجناحُ فيما تعمَّدت قلوبُكم بعد النَّهي أو ما تعمَّدت قلوبُكم فيه الجناحَ { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } لعفوهِ عن المخطيءِ وحكمُ التبنِّي بقولِه هو ابني إذا كان عبداً لقائلِ العتقِ على كلِّ حالٍ ولا يثبُت نسبُه منه إلاَّ إذا كان مجهولَ النَّسبِ وكان بحيثُ يُولد مثلُه لمثلِ المتبنِّي ولم يُقرَّ قبله بنسبِه من غيرهِ .(5/319)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)
{ النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أي في كلِّ أمرٍ من أمورِ الدِّينِ والدُّنيا كما يشهدُ به الإطلاقُ فيجبُ عليهم أنْ يكونَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أحبَّ إليهم من أنفسِهم وحكمُه أنفذَ عليهم من حكمِها وحقُّه آثرَ لديهم من حقوقِها وشفقتُهم عليه أقدمَ من شفقتِهم عليها . رُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أراد غزوةَ تبوكَ فأمرَ الناس بالخُروجِ فقال أنسٌ نستأذنُ آباءَنا وأُمَّهاتِنا فنزلتْ . وقُرىء وهو أبٌ لهم أي في الدِّينِ فإنَّ كلَّ نبيَ أبٌ لأمَتهِ من حيثُ إنَّه أصلٌ فيما به الحياة الأبدية ولذلك صار المؤمنون إخوةً { وأزواجه أمهاتهم } أي منزلات منزلَة الأمَّهاتِ في التَّحريمِ واستحقاقِ التَّعظيمِ ، وأما فيما عَدا ذلك فهنَّ كالأجنبياتِ ، ولذلك قالتْ عائشةُ رضي الله عنها : لسنا أُمَّهاتِ النِّساءِ { وَأُوْلُو الارحام } أي ذُوو القراباتِ { بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } في التَّوارث وهو نسخٌ لما كان في صدرِ الإسلامِ من التَّوراث بالهجرةِ والمُوالاة في الدِّينِ { فِى كتاب الله } في اللَّوح أو فيما أنزلَه وهو هذه الآيةُ أو آيةُ المواريثِ أو فيما فرضَ الله تعالى { مِنَ المؤمنين والمهاجرين } بيانٌ لأولي الأرحامِ أو صلةٌ لأُولي أو أولُو الأرحامِ بحقِّ القرابةِ أَولى بالميراثِ من المؤمنينَ بحقِّ الدِّينِ ومن المهاجرينَ بحقِّ الهجرةِ { إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إلى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً } استئناءٌ من أعمِّ ما تُقدَّرُ الأولويَّةُ فيهِ من النَّفعِ . والمرادُ بفعلِ المعروفِ التَّوصيةُ أو منقطع { كَانَ ذلك فِى الكتاب مَسْطُورًا } أي كان ما ذُكر من الآيتينِ ثابتاً في اللَّوحِ أو القُرآنِ . وقيل في التَّوراةِ . { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ } أي اذكُر وقتَ أخذنا من النبيينَ كافَّةَ عهودِهم بتبليغِ الرِّسالةِ والدُّعاءِ إلى الدِّينِ الحقِّ { وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وإبراهيم وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ } وتخصيصُهم بالذِّكرِ مع اندراجِهم في النبيِّينَ اندراجاً بيناً للإيذانِ بمزيدِ مزيَّتِهم وفضلِهم وكونِهم من مشاهيرِ أربابِ الشَّرائعِ وأساطينِ أولي العزمِ من الرُّسلِ . وتقديمُ نبيِّنا عليهم الصَّلاة والسَّلام لإبانةِ خطرهِ الجليلِ { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ميثاقا غَلِيظاً } أي عهداً عظيمَ الشَّأنِ أو مُؤكَّداً باليمينِ ، وهذا هو الميثاقُ الأولُ بعينِه وأخذُه هو أخذُه . والعطفُ مبنيٌّ على تنزيلِ التغايرِ العنوانيِّ منزلَة التغايرِ الذَّاتيِّ تفخيماً لشأنِه كما في قوله تعالى : { وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } إثرَ قولِه تعالى : { وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا }(5/320)
لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)
وقولُه تعالى : { لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ } متعلقٌ بمضمرٍ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ ما هو داعٍ إلى ما ذُكر من أخذِ الميثاقِ وغاية له لا بأخذنا فإنَّ المقصودَ تذكيرُ نفسِ الميثاقِ ثمَّ بيانُ الغرضِ منه بياناً قصديَّاً كما ينبىءُ عنه تغييرُ الأسلوبِ بالالتفات إلى الغَيبةِ أي فعل الله ذلك ليسألَ يومَ القيامةِ الأنبياءَ ، ووضعَ الصَّادقينَ موضعَ ضميرِهم للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأنَّهم صادقون فيما سُئلوا عنه وإنَّما السُّؤالُ لحكمةٍ تقتضِيه أي ليسألَ الأنبياءَ الذين صدقُوا عهودَهم عمَّا قالُوه لقومِهم أو عن تصديقِهم إيَّاهم تبكيتاً لهم كما في قولِه تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } أو المصدِّقين لهم عن تصديقِهم فإنَّ مصدِّقَ الصَّادقِ صادقٌ وتصديقَه صدقٌ وأما ما قيل : من أنَّ المعنى ليسأل المؤمنينَ الذين صدقُوا عهدَهم حين أشهدَهم على أنفسِهم عن صدقِهم عهدَهم فيأباهُ مقامُ تذكيرِ ميثاقِ النبيينَ . وقولُه تعالى : { وَأَعَدَّ للكافرين عَذَاباً أَلِيماً } عطفٌ على ما ذُكر من المضمرِ لا على أخذَنا كما قيلَ . والتَّوجيه بأنَّ بعثةَ الرُّسلِ وأخذَ الميثاقِ منهم لإثابةِ المؤمنينَ أو بأنَّ المعنى أنَّ الله تعالى أكَّد على الأنبياءِ الدَّعوةَ إلى دينِه لأجلِ إثابةِ المُؤمنينَ تعسُّفٌ ظاهرٌ مع أنَّه مفضٍ إلى كونِ بيانِ إعدادِ العذابِ الأليمِ للكافرينَ غيرُ مقصودٍ بالذَّاتِ نعم يجوزُ عطفُه على ما دلَّ عليه قولُه تعالى : ليسألَ الصَّادقينَ كأنَّه قيل : فأثابَ المؤمنينَ وأعدَّ للكافرينَ الآيةَ .
{ يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } إنْ جُعل النِّعمةَ مصدرَاً ، فالجارُّ متعلِّقٌ بها وإلا فهو متعلِّق بمحذوفٍ هو حالٌ منها أي كائنةً عليكُم { إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ } ظرفٌ لنفسِ النِّعمةِ أو لثبوتِها لهم ، وقيل : منصوبٌ باذكروا على أنَّه بدلُ اشتمالٍ من نعمةِ الله ، والمرادُ بالجنودِ الأحزابُ وهُم قريشٌ وغَطَفانُ ويهودُ قريظةَ والنَّضيرِ وكانُوا زُهاءَ اثني عشرَ ألفاً فلمَّا سمعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بإقبالِهم ضربَ الخندقَ على المدينةِ بإشارةِ سلمانَ الفارسيِّ ثمَّ خرجَ في ثلاثةِ آلافٍ من المُسلمينَ فضربَ معسكَرهُ والخندقُ بينَهُ وبينَ القومِ وأمرَ بالذَّرارىِ والنِّساءِ فَرفعوا في الآطامِ واشتدَّ الخوفُ وظنَّ المؤمنونَ كلَّ ظنَ ونجمَ النِّفاقُ في المنافقينَ حتَّى قال معتِّبُ بنُ قُشيرٍ : كان محمدٌ يَعِدنا كنوزَ كسرى وقيصرَ ولا نقدرُ أنْ نذهبَ إلى الغائطِ ومضَى على الفريقينِ قريبٌ من شهرٍ لا حربَ بينهم إلا أنَّ فوارسَ من قريشٍ منهم عمروُ بنُ عبدِوُدِّ وعكرمةُ بنُ أبي جهلٍ وهُبيرةُ بن أبي وهبٍ ونوفلُ بنُ عبدِ اللَّه وضرارُ بنُ الخطَّابِ ومرداسُ أخُو بني محاربٍ قد ركبُوا خيولَهم وتيَّممُوا من الخندقِ مكاناً مضيقاً فضربُوا خيولَهم فاقتحمُوا فجالتْ بهم في السَّبخة بين الخندقِ وسلعٍ فخرج عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه في نفرٍ من المسلمين حتَّى أخذَ عليهم الثَّغرة التي اقتحمُوا منها فأقبلتِ الفرسانُ نحوَهم وكان عمروٌ معلماً ليُرى مكانُه فقال له عليٌّ رضي الله عنه : يا عمرُو إنِّي أدعُوك إلى الله ورسولِه والإسلامِ قال : لا حاجةَ لي إليهِ قال : فإنيِّ أدعُوك إلى النِّزالِ قال : يا ابنَ أخي والله إنِّي لا أحبُّ أنْ أقتلَك قال عليٌّ لكنِّي والله أحبُّ أنْ أقتلَك فحمي عمروٌ عند ذلكَ وكان غيُوراً مشهُوراً بالشَّجاعةِ واقتحمَ عن فرسِه فعقَره أو ضربَ وجهَه ثم أقبلَ عَلَى عليَ فتناولاَ وتجاولاَ فضرَبه عليٌّ رضي الله عنه ضربةً ذهبتْ فيها نفسُه فلما قتلَه انهزمتْ خيلُه حتى اقتحمتْ من الخندقِ هاربةً وقتل مع عمروٍ رجلانِ منبِّه بنُ عثمانَ بنِ عبدِ الدَّار ونوفلُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ المُغيرةِ المخزومِّي قتلَه أيضاً عليٌّ رضي الله عنه وقيل : لم يكُن بينهم إلا التَّرامي بالنَّبلِ والحجارةِ .(5/321)
حتَّى أنزل الله تعالى النَّصرَ وذلكَ قولُه تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً } عطفٌ على جاءتْكُم مسوقٌ لبيانِ النِّعمةِ إجمالاً وسيأتي بقيَّتُها في آخرِ القصَّة { وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } وهم الملائكةُ عليهم السَّلامُ ، وكانُوا ألفاً بعثَ الله عليهم صَباً باردةً في ليلةٍ شاتيةٍ فأخصرتْهمُ وسفتِ التُّرابَ في وجوهِهم وأمرَ الملائكةَ فقلعت الأوتادَ وقطَّعتِ الأطنابَ وأطفأتِ النِّيرانَ وأكفأتِ القُدورَ وماجتِ الخيلُ بعضُها في بعضٍ وقُذفَ في قلوبِهم الرُّعبُ وكبَّرتِ الملائكةُ في جوانبِ عسكرِهم فقال طليحةُ بنُ خوُيلدِ الأسديُّ : أما محمدٌ فقد بدأكم بالسِّحرِ فالنَّجاءَ النَّجاءَ فانهزمُوا من غيرِ قتالٍ { وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ } من حفرِ الخندقِ وترتيبِ مبادىءِ الحربِ وقيل : من التجائِكم إليه ورجائِكم من فضلِه . وقُرىء بالياءِ أي بما يعملُه الكفَّارُ أي من التَّحرزِ والمحاربةِ أو من الكفرِ والمعاصِي . { بَصِيراً } ولذلكَ فعلَ ما فعلَ من نصرِكم عليهم ، والجملةُ اعتراضٌ مقررٌ لما قبله .(5/322)
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
{ إِذْ جَاءُوكُم } بدلٌ من إذْ جاءتْكُم { مّن فَوْقِكُمْ } من أعلى الوادِي من جهةِ المشرقِ وهم بنُو غطَفَان ومَن تابعَهم من أهلِ نحدٍ قائدُهم عيينةُ بن حِصْنٍ وعامرُ بنُ الطُّفيلِ في هوازنَ وضامتهم اليهودُ من قريظةَ والنَّضيرِ { وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } أي من أسفلِ الوادِي من قبلِ المغربِ وهم قُريشٌ ومن شايعهم من الأحابيشِ وبني كِنانةَ وأهل تِهامةَ وقائدُهم أبوُ سفيانَ وكانُوا عشرةَ آلافٍ . { وَإِذْ زَاغَتِ الابصار } عطفٌ على ما قبلَه داخلٌ معه في حُكمِ التَّذكيرِ أي حين مالتْ عن سَننِها وانحرفتْ عن مُستوى نظرِها حيرةً وشُخوصاً وقيل : عدلتْ عن كلِّ شيءٍ فلم تلتفتْ إلاَّ إلى عدوِّها لشدَّةِ الرَّوعِ { وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } لأنَّ الرئةَ تنتفخ من شدَّةِ الفزعِ فيرتفعُ القلبُ بارتفاعِها إلى رأسِ الحنجرةِ وهي مُنتهى الحُلقومِ وقيل : هو مثلٌ في اضطرابِ القلوب ووجيبِها وإنْ لم تبلغْ الحناجرَ حقيقة والخطابُ في قوله تعالى : { وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } لمن يُظهر الإيمانَ على الإطلاقِ أي تظنُّون بالله تعالى أنواعَ الظُّنونِ المختلفةِ حيثُ ظنَّ المُخلصون الثُّبتُ القلوبِ أنَّ الله تعالى يُنجز وعدَهُ في إعلاءٍ دينِه كما يُعرب عنه ما سيُحكى عنهم من قولِهم : { هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ } الآيةَ أو يمتحنهم فخافُوا الزَّللَ وضعفَ الاحتمالِ . والضِّعافُ القلوبِ والمنافقون ما حُكي عنهم ممَّا لا خيرَ فيهِ والجملُة معطوفةٌ على زاغتِ وصيغةُ المضارعِ لاستحضارِ الصُّورةِ والدِّلالة على الاستمرارِ . وقُرى الظُّنونَ بغيرِ ألفٍ وهو القياسُ وزيادتُها لمراعاةِ الفواصلِ كما تُزاد في القوافِي .(5/323)
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)
{ هُنَالِكَ } ظرفُ زمانٍ أو ظرفُ مكانٍ لما بعدَه أي في ذلك الزِّمانِ الهائلِ أو المكانِ الدَّحضِ . { ابتلى المؤمنون } أي عُوملوا معاملةَ مَن يُختبر فظهرَ المُخلِص من المنافقِ والرَّاسخُ من المتزلزلِ . { وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } من الهَولِ والفزعِ وقُرىء بفتحِ الزَّاي { وَإِذْ يَقُولُ المنافقون } عطفٌ على إذْ زاغتِ . وصيغةُ المضارعِ لما مرَّ من الدِّلالةِ على استمرارِ القولِ واستحضارِ صورتِه { والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي ضعفُ اعتقادٍ { مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ } من إعلاءِ الدِّينِ والظَّفرِ { إِلاَّ غُرُوراً } أي وعدَ غرورٍ وقيل : قولاً باطلاً والقائلُ مُعتبُ بنُ قُشيرٍ وأضرابُه راضون به قال يَعِدنا محمدٌ بفتحِ كنوزِ كِسرى وقيصرَ وأحدُنا لا يقدرُ أنْ يتبرزَ فَرَقاً ما هذا إلا وعدُ غرورٍ .
{ وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ } هم أوسُ بنُ قَيظى وأتباعُه وقيل عبدُ اللَّه بنُ أُبيّ وأشياعُه { ياأهل . يَثْرِبَ } هو اسمُ المدينةِ المُطهَّرةِ وقيل : اسمُ بقعةٍ وقعتِ المدينةُ في ناحيةٍ منها وقد نهى النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ تُسمَّى بها كراهةً لها وقال « هي طَيبةُ » أو « طَابةُ » كأنَّهم ذكروها بذلك الاسمِ مخالفةً له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ونداؤُهم إيَّاهم بعنوانِ أهليَّتِهم لها ترشيحٌ لما بعدَه من الأمرِ بالرُّجوعِ إليها { لاَ مُقَامَ لَكُمْ } لا موضعَ إقامةٍ لكُم أو لا إقامةَ لكُم ههنا يُريدون المعسكرَ . وقُرىء بفتحِ الميمِ أي لا قيامَ أو لا موضعَ قيامٍ لكم { فارجعوا } أي إلى منازلِكم بالمدينةِ مرادُهم الأمرُ بالفرارِ لكنَّهم عبَّروا عنه بالرُّجوعِ ترويجاً لمقالِهم وإيذاناً بأنَّه ليس من قبيلِ الفرارِ المذمومِ وقيل : المَعنى لا قيامَ لكم في دين محمد عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فارجعُوا إلى ما كنتُم عليه من الشِّركِ أو فارجعُوا عمَّا بايعتُموه عليه وأسلمُوه إلى أعدائِه أو لا مقامَ لكُم في يثربَ فارجعُوا كفَّاراً ليتسنَّى لكُم المقامُ بها والأولُ هو الأنسبُ لما بعدَه فإنَّ قولَه تعالى : { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النبى } معطوفٌ على قالتْ . وصيغةُ المضارعِ لما مرَّ من استحضارِ الصُّورةِ وهم بنُو حارثةَ وبنُو سلمةَ استأذنُوه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في الرُّجوعِ ممتثلينَ بأمرِهم . وقولُه تعالى : { يَقُولُونَ } بدلٌ مِن يستأذنُ أو حالٌ من فاعلِه أو استئنافٌ مبنيُّ على السُّؤالِ عن كيفيَّةِ الاستئذانِ { إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } أي غيرُ حصينةٍ معرِّضةٌ للعدوِّ والسُّرَّاقِ فأذنْ لنا حتَّى نُحصنها ثم نرجع إلى العسكرِ . والعورةُ في الأصلِ الخللُ أُطلقت على المُختلِّ مبالغةً وقد جُوِّز أنْ تكونَ تخفيفَ عوّرةٍ من عوَّرتِ الدَّارُ إذا اختلَّتْ وقد قُرىء بَها والأولُ هو الأنسبُ بمقامِ الاعتذارِ كما يُفصح عنه تصديرُ مقالِهم بحرفِ التَّحقيقِ { وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ } والحالُ أنَّها ليستْ كذلكَ { إِن يُرِيدُونَ } ما يُريدون بالاستئذانِ { إِلاَّ فِرَاراً } من القتالِ .(5/324)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)
{ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ } أُسند الدُّخولُ إلى بيوتِهم وأُوقع عليهم لما أنَّ المرادَ فرضُ دخولِها مطلقاً كما هو المفهومُ لو لم يذكر الجارُّ والمجرورُ ولا فرضُ الدُّخولِ عليهم مطلقاً كما هو المفهومُ لو أُسند إلى الجارُّ والمجرورُ { مّنْ أَقْطَارِهَا } أي من جميعِ جوانبِها لا من بعضها دُون بعضٍ فالمعنى لو كانتْ بيوتُهم مختَّلةً بالكُلِّيةِ ودخلَها كلُّ مَن أرادَ من أهلِ الدَّعارةِ والفسادِ { ثُمَّ سُئِلُواْ } من جهةِ طائفةٍ أُخرى عند تلكَ النازلةِ والرَّجفةِ الهائلةِ { الفتنة } أي الردَّةَ والرَّجعةَ إلى الكفرِ مكانَ ما سُئلوا الآنَ من الإيمانِ والطَّاعةِ { لأَتَوْهَا } لأعطَوها غيرَ مُبالين بما دَهَاهم من الدَّاهيةِ الدَّهياءِ والغارةِ الشَّعواءِ . وقُرىء لأتَوَها بالقصرِ أي لفعلُوها وجَاؤها { وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا } بالفتنةِ أي ما ألبثُوها وما أخرُّوها { إِلاَّ يَسِيراً } ريثما يسعُ السُّؤالُ والجوابُ من الزَّمانِ فضلاً عن التعلل باختلال البيوتِ مع سلامتِها كما فعلُوا الآنَ وقيل : ما لبثُوا بالمدينةِ بعد الارتدادِ إلا يسيراً والأولُ هو اللائقُ بالمقامِ . هذا وأما تخصيصُ فرضِ الدُّخولِ بتلك العساكرِ المتحزبةِ فمع منافاتِه للعمومِ المستفادِ من تجريدِ الدُّخولِ عن الفاعلِ ففيه ضربٌ من فسادِ الوضعِ لما عَرَفت من أنَّ مساقَ النَّظم الكريمِ لبيانِ أنَّهم إذا دُعوا إلى الحقِّ تعللُوا بشيءٍ يسيرٍ وإنْ دُعوا إلى الباطلِ سارعُوا إليه آثرَ ذي أثيرٍ من غير صارفٍ يلويهم ولا عاطفٍ يثنيهم ففرضُ الدُّخولِ عليهم من جهةِ العساكرِ المذكورةِ وإسنادِ سؤالِ الفتنةِ والدَّعوةِ إلى الكفرِ إلى طائفةٍ أُخرى من مَعَ أنَّ العساكرَ هم المعرُوفون بعداوةٍ الدِّينِ المُباشرون لقتالِ المؤمنين المُصرُّون على الإعراضِ عن الحقِّ المُجدُّون في الدُّعاءِ إلى الكُفر والضَّلالِ بمعزلٍ من التَّقريبَ .
{ وَلَقَدْ كَانُواْ عاهدوا الله مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الادبار } فإنَّ بني حارثةَ عاهدُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يومَ أُحدٍ حينَ فشلُوا أنْ لا يعودُوا لمثلِه وقيل : هم قُومٌ غابُوا عن وقعةِ بدرٍ ورَأَوا ما أَعطى الله أهَل بدرٍ من الكرامةِ والفضيلةِ فقالُوا لئن أشهدَنا الله قتالاً لنقاتلنَّ { وَكَانَ عَهْدُ الله * مَسْؤُولاً } مطلوباً مقتضى حتَّى يوفَّى به وقيل : مسؤولاً عن الوفاءِ به ومجازي عليهِ { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الموت أَوِ القتل } فإنَّه لا بدَّ لكلِّ شخصٍ من حتفِ أنفٍ أو قيلِ سيفٍ في وقتٍ معيَّنٍ سبقَ به القضاءُ وجرى عليه القلمُ { وَإِذّن لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي وإنْ نفعكم الفرارُ مثلاً فمُتعتم بالتَّأخيرِ لم يكُن ذلك التَّمتيعُ إلاَّ تمتيعاً قليلاً أو زماناً قليلاً { قُلْ مَن ذَا الذى يَعْصِمُكُمْ مّنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } أي أو يصيبكم بسوءٍ إنْ أرادَ بكُم رحمةً فاختُصر الكلامُ أو حُمل الثَّاني على الأولِ لما في العصمةِ من مَعنى المنعِ { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ الله وَلِيّاً } ينفعُهم { وَلاَ نَصِيراً } يدفعُ عنهم الضَّررَ .(5/325)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
{ قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ } أي المُثبطين للنَّاسِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهُم المنافقونَ { والقائلين لإخوانهم } من منافِقي المدينةِ { هَلُمَّ إِلَيْنَا } وهو صوتٌ سُمي به فعلٌ متعدَ نحو احضرْ أو قرِّب ويستوي فيه الواحدُ والجماعةُ على لغةِ أهلِ الحجازِ وأما بنُو تميمٍ فيقولون هُلمَّ يا رجلُ وهلمُّوا يا رجالُ أي قرِّبوا أنفسَكم إلينا وهذا يدلُّ على أنَّهم عند هذا القولِ خارجون من المعسكرِ متوجِّهون نحوَ المدينةِ { وَلاَ يَأْتُونَ البأس } أي الحرابَ والقتالَ { إِلاَّ قَلِيلاً } أي إتياناً أو زماناً أو بأساً قليلاً فإنَّهم يعتذرون ويُثبطون ما أمكنَ لهم ويخرجون مع المؤمنينَ يُوهمونهم أنَّه معهم ولا تراهُم يبارزون ويُقاتلون إلا شيئاً قليلاً إذا اضطروا إليه كقولِه تعالى : { مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً } وقيل إنَّه من تتمةِ كلامِهم معناه ولا يأتي أصحابُ محمدٍ حربَ الأحزابِ ولا يُقاومونهم إلا قليلاً { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } أي بخلاءُ عليكم بالمعاونةِ أو النَّفقةِ في سبيلِ الله أو الظَّفرِ والغنيمةِ جمع شحيحٍ ونصبُه على الحاليةِ من فاعلِ يأتُون من المعوقينَ أو على الذمِّ { فَإِذَا جَاء الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ } في أحداقِهم { كالذى يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت } صفةٌ لمصدرِ ينظرون أو حالٌ من فاعله أو لمصدرِ تدورُ أو حالٌ من أعينُهم أي ينظرون نظراً كائناً كنظرِ المغشيِّ عليه من معالجةِ سكراتِ الموتِ حَذَراً وخَوَراً ولَوذاً بك أو ينظرون كائنين كالذي الخ أو تدورُ أعينُهم دوراناً كائناً كدورانِ عينِه أو تدورُ أعينُهم كائنةً كعينهِ { فَإِذَا ذَهَبَ الخوف } وحِيزت الغنائمُ { سَلَقُوكُم } ضربُوكم { بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } وقالُوا وفروا قسمَتنا فإنَّا قد شاهدناكم وقاتلنا معكُم وبمكاننا غلبتُم عدوَّكم وبنا نُصرتم عليه والسَّلْق البسطُ بقهرٍ باليدِ أو باللِّسانِ . وقُرىء صَلَقوُكم { أَشِحَّةً عَلَى الخير } نُصب على الحاليَّةِ أو الذمِّ ويُؤيده القراءةُ بالرَّفعِ { أولئك } الموصوفون بما ذُكر من صفاتِ السُّوء { لَمْ يُؤْمِنُواْ } بالإخلاصِ { فَأَحْبَطَ الله أعمالهم } أي أظهرَ بطلانَها إذ لم يثبُت لهم أعمالٌ فتبطل أو أبطل تصنعهم ونفاقَهم فلم يبقَ مستتبعاً لمنعفةٍ دنيويةٍ أصلاً { وَكَانَ ذلك } الإحباطُ { عَلَى الله يَسِيراً } هيناً وتخصيصُ يُسره بالذكرِ مع أنَّ كلَّ شيءٍ عليه تعالى يسيرٌ لبيانِ أنَّ أعمالَهم حقيقةٌ بأنْ يظهر حبُوطها لكمالِ تعاضدِ الدَّواعِي وعدمِ الصَّوارفِ بالكُلِّيةِ { يَحْسَبُونَ الاحزاب لَمْ يَذْهَبُواْ } أي هؤلاءِ لجبنِهم يظنُّون أنَّ الأحزابَ لم ينهزمُوا ففرُّوا إلى داخلِ المدينةِ { وَإِن يَأْتِ الاحزاب } كرَّةً ثانيةً { يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى الاعراب } تمنَّوا أنَّهم خارجون إلى البدوِ حاصلون بين الأعرابِ وقُرىء بُدَّى جمع بادٍ كغازٍ وغُزَّى { يُسْئَلُونَ } كلَّ قادمٍ من جانبِ المدينةِ وقُرىء يُساءلون أي يتساءلُون ومعناه يقولُ بعضُهم لبعضٍ ماذا سمعتَ ماذا بلغكَ أو يتساءلُون الأعرابَ كما يقال رأيتُ الهلالَ وتراءيناهُ فإنَّ صيغةَ التَّفاعلِ قد تُجرَّدُ عن معنى كونِ ما أُسندت إليه فاعلاً من وجهٍ ومفعولاً من وجهٍ ويكتفي بتعدُّدِ الفاعلِ كما في المثالِ المذكورِ ونظائرِه { عَنْ أَنبَائِكُمْ } عمَّا جَرَى عليكم { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ } هذه الكرَّة ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال { مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً } رياءً وخوفاً من التَّعييرِ .(5/326)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)
{ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } خَصلةٌ حسنةٌ حقُّها أنْ يُؤتسى بها كالثَّباتِ في الحربِ ومقاساةِ الشَّدائدِ أو هو في نفسه قدوة يحق التأسّي به كقولك في البيضة عشرون منّاً حديداً أي هي في نفسِها هذا القدُر من الحديدِ وقُرىء بكسرِ الهمزةِ وهي لُغةٌ فيها { لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر } أي ثوابَ الله أو لقاءَهُ أو أيَّامَ الله واليَّومَ الآخرَ خُصوصاً وقيل : هو مثلُ قولِك أرجُو زيداً وفضَله فإنَّ اليومَ الآخرَ من أيامِ الله تعالى ولمن كان صلة لحسنة أو صفة لها وقيل بدلٌ من لكُم والأكثرونَ على أنَّ ضميرَ المخاطبِ لا يُبدلُّ منه { وَذَكَرَ الله } أي وقَرن بالرَّجاءِ ذكَر الله { كَثِيراً } أي ذكراً كَثيراً أو زماناً كَثيراً فإنَّ المُثابرةَ على ذكرِه تعالى تُؤدِّي إلى مُلازمةِ الطَّاعةِ وبها يتحقَّقُ الانتساءُ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم .
{ وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الاحزاب } بيانٌ لما صدَر عن خُلَّصِ المؤمنينَ عند اشتباهِ الشؤونِ واختلافِ الظُّنونِ بعد حكايةِ ما صدرَ عن غيرِهم أي لمَّا شاهدُوهم حسبما وصفُوا لهم { قَالُواْ هذا } مُشيرين إلى ما شاهدُوه من حيثُ هو غيرِ أنْ يخطرَ ببالِهم لفظٌ يدلُّ عليه فضلاً عن تذكيرِه وتأنيثِه فإنَّهما من أحكامِ اللَّفظِ كما مرَّ في قولِه تعالى : { فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةًً قَالَ هذا رَبّى } وجعله إشارةً إلى الخطبِ أو البلاءِ من نتائجِ النَّظرِ الجليلِ فتدبَّر . نَعم يجوزُ التَّذكيرُ باعتبارِ الخبرِ الذي هُو { مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ } فإنَّ ذلكَ العُنوان أولُ ما يخطُر ببالِهم عند المُشاهدةِ ومرادُهم بذلك ما وعدُوه بقولِه تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأساء والضراء } إلى قولِه تعالى : { أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } وقولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « سيشتدُّ الأمرُ باجتماعِ الأحزابِ عليكم والعاقبةُ لكم عليهم » وقوله عليه الصَّلاةُ والسَّلام : « إنَّ الأحزابَ سائرونَ إليكُم بعدَ تسعِ ليالٍ أو عشرٍ » . وقُرىء بكسرِ الرَّاءِ وفتح الهمزةِ { وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ } أي ظهَر صدقُ خبرِ الله تعالى ورسولِه أو صَدَقا في النُّصرة والثَّوابِ كما صَدَقا في البلاءِ وإظهارِ الاسمِ للتَّعظيم { وَمَا زَادَهُمْ } أي ما رَأَوه { إِلاَّ إِيمَانًا } بالله تعالى وبمواعيدهِ { وَتَسْلِيماً } لأوامرِه ومقاديرِه .(5/327)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)
{ مِنَ المؤمنين } أي المؤمنينَ بالإخلاصِ مُطلقاً لا الذينَ حُكيتْ محاسنُهم خاصَّة { رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ } من الثَّباتِ مع الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والمقاتلةِ لأعداءِ الدِّينِ وهُم رجالٌ من الصَّحابةِ رضي الله عنهُم نذرُوا أنَّهم إذا لقُوا حرباً مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثبتُوا وقاتلُوا حتَّى يستشهدوا وهُم عثمانُ بنُ عفَّان وطلحةُ بنُ عُبيدِ اللَّهِ وسعيدُ بنُ زيدِ بنِ عمروِ بن نفيلٍ وحمزةُ ومصعبُ بنُ عُميرٍ وأنسُ بنُ النَّضرِ وغيرُهم رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ومعنى صَدَقُوا أَتَوا بالصِّدقِ من صَدَقني إذا قال لك الصِّدقَ . ومحل ما عاهدُوا النَّصبُ إمَّا بطرحِ الخافضِ عنه وإيصالِ الفعلِ إليه كما في قولِهم : صَدَقني سنّ بكرِه أي في سنِّهِ وإما بجعلِ المُعاهد عليهِ مصدُوقاً على المجازِ كأنَّهم خاطبُوه خطابَ من قال لكرمائِه
نحرتني الأعداءُ إنْ لَم تنحرِي ... وقالوا له : سنفي بك وحيث وفوا به فقد صدقُوه ولو كانُوا نكثُوه لكذبُوه ولكان مكذُوباً { فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ } تفصيلٌ لحالِ الصَّادقينَ وتقسيمٌ لهم إلى قسمينِ . والنَّحبُ النَّذرُ وهو أنْ يلتزمَ الإنسانُ شيئاً من أعمالِه ويُوجبه على نفسِه ، وقضاؤُه الفراغُ منه والوفاءُ به ومحلُّ الجارِّ والمجرورِ الرَّفعُ على الابتداءِ على أحدِ الوجهينِ المذكورينِ في قولِه تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله } الآيةَ ، أي فبعضُهم أو فبعضٌ منهُم مَن خرجَ عن العُهدةِ كحمزةَ ومصعبِ بنِ عميرٍ وأنسِ بنِ النَّضرِ عمِّ أنسِ بنِ مالكٍ وغيرِهم رضوان الله عليهم أجمعين فإنَّهم قد قضَوا نذورَهم سواء كانَ النَّذرُ على حقيقتِه بأنْ يكونَ ما نذرُوه أفعالَهم الاختياريةَ التي هي المقاتلةُ المغيَّاةُ بما ليسَ منها ولا يدخلُ تحتَ النَّذرِ وهو الموتُ شَهيداً أو كان مُستعاراً لالتزامِه على ما سيأتي .
{ وَمِنْهُمُ } أي وبعضُهم أو بعضٌ منهم { مَّن يَنتَظِرُ } أي قضاءَ نحبِه لكونِه موقناً كعثمانَ وطلحةَ وغيرِهما ممَّن استُشهد بعد ذلك رضوانُ الله تعالى عليهم أجمعين فإنَّهم مستمرُّون على نذورِهم قد قضَوا بعضَها وهو الثَّباتُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والقتالُ إلى حينِ نزولِ الآيةِ الكريمةِ ومنتظرونَ لقضاءِ بعضِها الباقِي وهو القتالُ إلى الموتِ شهيداً . هذا ويجوزُ أنْ يكونَ النَّحبُ مُستعاراً لالتزامِ الموتِ شهيداً إمَّا بتنزيلِ التزامِ أسبابِه التي هي أفعالٌ اختياريَّةٌ للنَّاذرِ منزلةَ التزامِ نفسِه وإمَّا بتنزيلِ نفسِه منزلةَ أسبابِه وإيرادِ الالتزامِ عليه وهو الأنسبُ بمقامِ المدحِ ، وأياً ما كان ففي وصفِهم بالانتظارِ المُنبىءِ عن الرَّغبةِ في المنتظرِ شهادةٌ حقَّةٌ بكمالِ اشتياقِهم إلى الشَّهادةِ ، وأمَّا ما قيلَ من أنَّ النَّحبَ استُعير للموتِ لأنَّه كنذرٍ لازمٍ في رقبةِ كلِّ حيوانٍ فمسخٌ للاستعارةِ وذهابٌ برونقِها وإخراجٌ للنَّظمِ الكريمِ عن مُقتضى المقامِ بالكلِّيةِ { وَمَا بَدَّلُواْ } عطفٌ على صدَقُوا وفاعلُه فاعلُه أي وما بدَّلُوا عهدَهم وما غيَّروه { تَبْدِيلاً } أي تبديلاً ما لا أصلاً ولا وصفاً بل ثبتُوا عليهِ راغبينَ فيه مُراعين لحقوقِه على أحسنِ ما يكونُ ، أمَّا الذينَ قضَوا فظاهرٌ وأما الباقُون فيشهدُ به انتظارُهم أصدقَ شهادةٍ وتعميمُ عدمِ التَّبديلِ للفريقِ الأول مع ظُهورِ حالِهم للإيذانِ بمساواةِ الفريقِ الثَّاني لهُم في الحُكمِ ويجوزُ أنْ يكونَ ضميرُ بدَّلُوا للمنتظرينَ خاصَّة بناءً على أنَّ المحتاجَ إلى البيانِ حالُهم وقد رُوي أنَّ طلحةَ رضي الله عنه ثبتَ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يومَ أحدٍ حتَّى أُصيبتْ يدُه فقال عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ :(5/328)
« أوجبَ طلحةُ الجنَّة » وفي رواية : « أوجبَ طلحةُ » وعنه عليهِ الصَّلاة والسَّلامُ في رواية جابرٍ رضي الله عنه : « مَن سرَّه أنْ ينظرَ إلى شهيدٍ يمشِي على الأرضِ فلينظُر إلى طلحةَ بنِ عُبيدِ اللَّهِ » وفي روايةِ عائشةَ رضي الله عنها : « مَنْ سرَّه أنْ ينظرَ إلى شهيدٍ يمشي على الأرضِ وقد قضَى نحبَه فلينظُر إلى طلحةَ » وهذا يشيرُ إلى أنَّه من الأولينَ حُكماً .(5/329)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)
{ لّيَجْزِىَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ } متعلقٌ بمضمرٍ مستأنفٍ مسوقٌ بطريقِ الفذلكةِ لبيانِ ما هُو داعٍ إلى وقوعِ ما حُكي من الأحوالِ والأقوالِ على التَّفصيلِ وغاية له كما مرَّ في قولِه تعالى : { لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ } كأنَّه قيلَ : وقعَ جميعُ ما وقعَ ليجزيَ الله الصَّادقين بما صدرَ عنهُم من الصِّدقِ والوفاءِ قولاً وفعلاً { وَيُعَذّبَ المنافقين } بما صدرَ عنهُم من الأعمالِ والأقوالِ المحكيَّةِ { إِن شَاء } تعذيبَهم { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } إنْ تابُوا وقيل : متعلِّقٌ بما قبلَه من نفيِ التَّبديلِ المنطوقِ وإثباته المعرضَ به كأنَّ المُنافقين قصدُوا بالتَّبديلِ عاقبةَ السُّوءِ كما قصدَ المُخلصون بالثباتِ والوفاءِ العاقبةَ الحُسنى ، وقيلَ : تعليلٌ لصدقُوا ، وقيل : لما يُفهم من قولِه تعالى : { وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيماً } وقيل : لما يُستفاد من قولِه تعالى : { وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الاحزاب } كأنَّه قيل : ابتلاهُم الله تعالى برؤيةِ ذلك الخطبِ ليجزيَ الآيةَ فتأمَّل وبالله التَّوفيق . { إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } أي لمن تابَ وهُو اعتراضٌ فيه بعثٌ إلى التَّوبةِ . وقولُه تعالى : { وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ } رجوعٌ إلى حكايةِ بقيةِ القصَّةِ وتفصيلُ تتمةِ النِّعمةِ المشارِ إليها إجمالاً بقولِه تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } معطوفٌ إمَّا على المضمرِ المقدَّرِ قبل قولِه تعالى : { لّيَجْزِىَ الله } كأنَّه قيل إثرَ حكايةِ الأمورِ المذكورةِ : وقعَ ما وقعَ من الحوادثِ وردَّ الله الخ ، وإمَّا على أرسلنَا وقد وسِّط بينهما بيانُ كونِ ما نزَل بهم واقعةً طامَّة تحيَّرتْ بها العقولُ والأفهامُ وداهيةً تامَّةً تحاكت منها الرُّكبُ وزلَّتِ الأقدامُ . وتفصيلُ ما صدَر عن فريقَيْ أهلِ الإيمانِ وأهلِ الكفرِ والنفاقِ من الأحوالِ والأقوالِ لإظهارِ عظمِ النِّعمةِ وإبانةِ خطرِها الجليلِ ببيانِ وصولِها إليهم عند غايةِ احتياجِهم إليها أي فأرسلنا عليهم ريحاً وجُنوداً لم ترَوها ورددنا بذلك الذين كفرُوا ، والالتفاتُ إلى الاسمِ الجليلِ لتربيةِ المهابةِ وإدخالِ الرَّوعةِ . وقولُه تعالى : { بِغَيْظِهِمْ } حالٌ من الموصولِ أي مُلتبسين بهِ وكذا قولُه تعالى : { لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } بتداخلٍ أو تعاقبٍ أي غيرَ ظافرينَ بخير أو الثَّانية بيانٌ للأُولى أو استئنافٌ .
{ وَكَفَى الله المؤمنين القتال } بما ذُكر من إرسالِ الرِّيحِ والجُنودِ { وَكَانَ الله قَوِيّاً } على إحداثِ كلِّ ما يُريد { عَزِيزاً } غالباً على كلِّ شيءٍ .(5/330)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28)
{ وَأَنزَلَ الذين ظاهروهم } أي عاونُوا الأحزابَ المردودةَ { مّنْ أَهْلِ الكتاب } وهُم بنُو قريظةَ { مِن صَيَاصِيهِمْ } من حصُونِهم ، جمعُ صِيصِيَة وهي ما يُتحصَّن به ، ولذلكَ يقالُ لقرنِ الثَّورِ والظَّبيِ وشوكةِ الدِّيكِ { وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب } الخوفَ الشَّديدَ بحيثُ أسلمُوا أنفسَهم للقتلِ وأهليهم وأولادَهم للأسرِ حسبَما ينطقُ به قولُه تعالى : { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } من غيرِ أنْ يكونَه من جهتِهم حَراكٌ فضلاً عن المُخالفةِ والاستعصاءِ . رُوي أنَّ جبريلَ عليه السَّلامُ أتَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم صبيحةَ اللَّيلةِ التي انهزمَ فيها الأحزابُ ورجعَ المُسلمون إلى المدينةِ ووضعُوا السِّلاحَ فقال : أتنزعْ لأمَتك والملائكةُ ما وضعُوا السِّلاحَ ، إنَّ الله يأمُرك أن تسيرَ إلى بني قُريظةَ وأنا عامدٌ إليهم . فأذَّن في النَّاسِ أنْ لا يصلُّوا العصرَ إلا ببني قُريظةَ فحاصرُوهم إحدى وعشرينَ أو خَمساً وعشرين ليلةً حتَّى جهدَهم الحصارُ فقال لهم : « تنزلُون على حُكمي » فأبَوا فقالَ : « عَلى حُكم سعدِ بن معاذٍ » فرضُوا به فحكم سعدٌ بقتلِ مقاتلِيهم وسبيِ ذرارِيهم ونسائِهم ، فكبَّر النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقالَ : « لقد حكمتَ بحُكم الله من فوقِ سبعةِ أرقعةٍ » . فقُتلَ منهم ستمائةُ مقاتلٍ وقيل : من ثمانمائةُ إلى تسعمائةُ وأُسر سبعمائةٌ . وقُرىء تأسُرونَ بضمِّ السِّينِ ، كما قُرىء الرُّعبُ بضمِّ العينِ ، ولعلَّ تأخيرَ المفعولِ في الجُملةِ الثَّانيةِ مع أنَّ مساقَ الكلامِ لتفصيلِه وتقسيمِه كما في قولِه تعالى : { فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } وقوله تعالى : { فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } لمراعاةِ الفواصلِ .
{ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وديارهم } أي حصونَهم { وأموالهم } نقودَهم وأثاثَهم ومواشيهم . رُوي أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جعلَ عقارَهم للمهاجرينَ دونَ الأنصارِ فقالتِ الأنصارُ في ذلكَ فقالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « إنَّكم في منازلِكم » فقال عمرُ رضي الله عنه : أَمَا تُخمس كما خمَّستَ يومَ بدرٍ؟ فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « لا . إنَّما جُعلتْ هذه لي طعمةً دونَ النَّاسِ » قالُوا : رضينَا بما صنعَ الله ورسولُه { وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } أي أورثَكم في علمِه وتقديرِه أرضاً لم تقبضُوها بعدَ كفارسَ والرُّومِ وقيل : كلُّ أرضٍ تُفتح إلى يومِ القيامةِ وقيل : خيبرُ { وَكَانَ الله على كُلّ شَىْءٍ قَدِيراً } فقد شاهدتُم بعضَ مقدوراتِه في إيراثِ الأراضِي التي تسلَّمتموها فقيسُوا عليها ما عَدَاها .
{ ياأيها النبى قُل لازواجك إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا } أي السَّعةَ والتَّنعمَ فيها { وَزِينَتَهَا } وزخارفَها { فَتَعَالَيْنَ } أي أقبلنَ بإرادتِكن واختيارِكن لإحدى الخصلتينِ كما يُقال : أقبل يُخاصمني وذهبَ يُكلِّمني وقامَ يُهددني { أُمَتّعْكُنَّ } بالجزمِ جواباً للأمرِ وكذا { وَأُسَرّحْكُنَّ } أي أعطيكنَّ المتعةَ وأطلقنَّ { سَرَاحاً جَمِيلاً } طلاقاً من غيرِ ضرارٍ . وقُرىء بالرَّفعِ على الاستئنافِ . رُوي أنهنَّ سألنَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ثيابَ الزِّينةِ وزيادةَ النَّفقةِ فنزلتْ فبدأَ بعائشةَ فخيَّرها فاختارتْ الله ورسولَه والدَّارَ الآخرةَ ثمَّ اختارتِ الباقياتُ اختيارَها فشكرَ لهنَّ الله ذلكَ فنزلَ :(5/331)
{ لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ } واختُلف في أنَّ هذا التخييرَ هل كان تفويض الطَّلاقِ إليهنَّ حتَّى يقعَ الطَّلاقُ بنفسِ الاختيارِ أو لا . فذهبَ الحسنُ وقَتَادةُ وأكثرُ أهلِ العلمِ إلى أنَّه لم يكُن تفويضَ الطَّلاقِ وإنَّما كانَ تخييراً لهنَّ بينَ الإرادتينِ على أنهنَّ إنْ أردنَ الدُّنيا فارقهنَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كما يُنبىء عنه قولُه تعالى : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ } وذهبَ آخرون إلى أنَّه كانَ تفويضاً للطَّلاقِ إليهنَّ حتَّى لو أنهنَّ اخترنَ أنفسهنَّ كان ذلك طلاقاً وكذا اختُلف في حكمِ التَّخييرِ فقال ابنُ عمرَ وابنُ مسعودٍ وابنُ عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهم : إذَا خيَّر رجلٌ امرأتَه فاختارتْ زوجَها لا يقعُ شيءٌ أصلاً ولو اختارتْ نفسَها وقعتْ طلقةً بائنةً عندنا ورجعيَّةً عند الشَّافعيِّ ، وهو قولُ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ وابنِ أبي لَيْلَى وسفيانَ ، ورُوي عن زيدِ بنِ ثابتٍ أنَّها إنِ اختارتْ زوجَها يقعُ طلقةً واحدةً وإنِ اختارتْ نفسَها يقعُ ثلاثَ طَلَقاتٍ وهو قولُ الحسنِ وروايةٌ عن مالكٍ . ورُوي عن عليَ رضي الله عنه أنَّها إنِ اختارتْ نفسَها فواحدةٌ بائنةٌ ورُوي عنه أيضاً أنها إنِ اختارتْ زوجَها لا يقعُ شيءٌ أصلاً ، وعليه إجماعُ فقهاءِ الأمصارِ . وقد رُوي عن عائشةَ رضي الله عنها : « خيَّرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاخترنَاهُ ولم يعدَّه طلاقاً » . وتقديمُ التَّمتيعِ على التَّسريحِ من بابِ الكرمِ وفيه قطعٌ لمعاذيرهنَّ من أولِ الأمرِ . والمتعةُ في المطلقةِ التي لم يُدخل بها ولم يُفرض لها صَداقٌ عند العقدِ واجبةٌ عندَنا وفيما عداهنَّ مستحبَّةٌ وهي دِرعٌ وخمارٌ وملحفةٌ بحسبِ السَّعةِ والإقتارِ إلا أنْ يكونَ نصفُ مهرِها أقلَّ من ذلكَ فحينئذٍ يجبُ لها الأقلُّ منهُما ولا ينقصُ عن خمسةِ دراهمٍ .(5/332)
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
{ وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ } أي تردنَ رسولَه وذِكرُ الله عزَّ وجلَّ للإيذانِ بجلالةِ محلِّه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عندَه تعالى { والدار الاخرة } أي نعيمَها الذي لا قدرَ عندَه للدُّنيا وما فيها جميعاً { فَإِنَّ الله أَعَدَّ للمحسنات مِنكُنَّ } بمقابلةِ إحسانِهن { أَجْراً عَظِيماً } لا يُقادر قَدرُه ولا يُبلغ غايتُه . ومِن للتَّبيينِ لأنَّ كلَّهن محسناتٌ وتجريدُ الشَّرطيةِ الأُولى عن الوعيدِ للمبالغةِ في تحقيقِ معنى التَّخييرِ والاحترازِ عن شائبةِ الإكراهِ وهو السرُّ فيما ذُكر من تقديمِ التَّمتيعِ على التَّسريحِ وفي وصفِ السَّراح بالجميلِ .
{ يانساء النبى } تلوينٌ للخطابِ وتوجيهٌ له إليهنَّ لإظهارِ الاعتناءِ بنُصحهنَّ ، ونداؤهن ههنا وفيما بعدَه بالإضافةِ إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لأنَّها التي يدورُ عليها ما يردُ عليهنَّ من الأحكامِ { مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة } بكبيرةٍ { مُّبَيّنَةٍ } ظاهرةِ القُبحِ من بين بمعنى تبين وقُرىء بفتحِ الياءِ والمرادُ بها كلُّ ما اقترفنَ من الكبائرِ وقيل : هي عصيانُهنَّ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم ونشوزهنَّ وطلبهنَّ منه ما يشقُّ عليه أو ما يضيق به ذرعُه ويغتمُّ لأجلِه . وقُرىء تأتِ بالفوقانيَّةِ { يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ } أي يعذبنَّ ضعفي عذابِ غيرهنَّ أي مثليهِ لأنَّ الذنبَ منهنَّ أقبحُ فإنَّ زيادةَ قُبحه تابعةٌ لزيادةِ فضلِ المذنبِ والنِّعمةِ عليهِ ولذلك جُعل حدُّ الحرِّ ضعفَ حدِّ الرَّقيقِ وعُوتب الأنبياءُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ بما لا يُعاتب به الأممُ . وقُرىء يُضعَّف على البناءِ للمفعولِ ويُضاعف ونُضعِّف بنونِ العظمةِ على البناءِ للفاعلِ ونَصبِ العذابِ { وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً } لا يمنعُه من التَّضعيفِ كونُهنَّ نساءَ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بل يدعُوه إليهِ لمراعاةِ حقِّهِ .(5/333)
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
{ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ } وقُرىء بالتَّاءِ أي ومن يدُم على الطَّاعةِ { للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالحا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } مرةً على الطَّاعةِ والتَّقوى وأُخرى على طلبهن رضَا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالقناعةِ وحُسنِ المعاشرةِ . وقُرىء يَعملْ بالياءِ حملاً على لفظِ مَنْ ويُؤتها على أنَّ فيه ضميرَ اسمِ الله تعالى { وَأَعْتَدْنَا لَهَا } في الجنَّةِ زيادةً على أجرِها المضاعفِ { رِزْقاً كَرِيماً } مرضيًّا .
{ يانساء النبى لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النساء } أصلُ أحدٍ وَحَد بمعنى الواحدِ ثم وُضع في النَّفيِ مستوياً فيه المذكَّرُ والمؤنَّثُ والواحدُ والكثيرُ . والمعنى لستنَّ كجماعةٍ واحدةٍ من جماعاتِ النِّساءِ في الفضلِ والشَّرفِ { إِنِ اتقيتن } مخالفةَ حكمِ الله تعالى ورضا رسولِه أو إنِ اتصفتنَّ بالتَّقوى كما هُو اللائقُ بحالِكنَّ { فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول } عند مخاطبةِ النَّاسِ أي لا تُجبْن بقولِكن خاضعاً ليِّناً على سَننِ قولِ المريبات والمُومساتِ { فَيَطْمَعَ الذى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ } أي فجورٌ ورِيبةٌ . وقُرىء بالجزمِ عطفاً على محلِّ فعل النَّهي على أنَّه نهيٌ لمريضِ القلبِ عن الطمعِ عقيب نهيهنَّ عن الإطماعِ بالقولِ الخاضعِ كأنَّه قيل : فلا تخضعْنَ بالقولِ فلا يطمعَ مريضُ القلبِ { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } بعيداً عن الرِّيبةِ والإطماعِ بجدَ وخشُونةٍ من غيرِ تخنيثٍ أو قولاً حسناً مع كونِه خَشِناً { وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ } أمرٌ من قرَّ يقَرُّ من بابِ علَم وأصله اقرَرْنَ فحُذفتْ الرَّاءُ الأولى وألقيتْ فتحتُها على ما قبلَها كما في قولِك : ظلْن ، أو من قارَّ يقارُّ إذا اجتمعَ ، وقُرىء بكسرِ القافِ من وَقِر يَقِر وَقَاراً إذا ثبتَ واستقرَّ وأصلُه أوقرنَ ففعل به ما فُعل بعِدن من وَعد أو من قرَّ يقرُّ حذفت إحدى راءي اقررن ونُقلت كسرتُها إلى القافِ كما تقول : ظلن { وَلاَ تَبَرَّجْنَ } أي لا تتبخترْن في مشيكنَّ { تَبَرُّجَ الجاهلية الاولى } أي تبرجاً مثلَ تبرجِ النساءِ في الجاهليةِ القديمةِ وهي ما بينَ آدمَ ونوحٍ وقيل : إدريس ونوحٍ عليهما السَّلامُ وقيل : الزَّمانُ الذي وُلد فيه إبراهيمُ عليه السَّلامُ كانتِ المرأةُ تلبسُ دِرْعاً من اللُّؤلؤِ فتمشِي وسطَ الطَّريقِ تعرض نفسَها على الرِّجالِ وقيل : زمنُ داودَ وسليمانَ عليهما السَّلامُ . والجاهليَّةُ الأُخرَى ما بينَ عيسَى ومحمَّدٍ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيل : الجاهليةُ الأولى الكفرُ والجاهليَّةُ الأُخرى الفسوقُ في الإسلامِ ويُؤيِّدُه قولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لأبي الدَّرداءِ : « إنَّ فيكَ جاهليةَ كفرٍ أو جاهليةَ إسلامٍ » قال : بل جاهليةُ كفرٍ { وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ } أُمرن بهما لإنافتِهما على غيرِهما وكونِهما أصلَ الطَّاعاتِ البدنيةِ والماليةِ { وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ } أي في كلِّ ما تأتن وما تذرنَّ لا سيَّما فيما أُمرتن به ونُهيتنَّ عنه { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس } أي الذَّنبَ المدنس لعرضِكم وهو تعليلٌ لأمرهنَّ ونهيهنَّ على الاستئنافِ ولذلك عمَّم الحكمَ بتعميمِ الخطابِ لغيرهنَّ وصرَّحَ بالمقصودِ حيثُ قيل بطريقِ النِّداءِ أو المدحِ : { أَهْلَ البيت } مُراداً بهم من حَواهم بيتُ النُّبوة { وَيُطَهّرَكُمْ } من أوضارِ الأوزارِ والمَعاصي { تَطْهِيراً } بليغاً .(5/334)
واستعارةُ الرِّجسِ للمعصيةِ ، والتَّرشيحُ بالتَّطهيرِ لمزيدِ التَّنفيرِ عنها ، وهذهِ كما ترى آيةٌ بينةٌ وحجَّةٌ نيرةٌ على كونِ نساءِ النبيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ من أهلِ بيتِه قاضيةً ببُطلان رأيِ الشِّيعةِ في تخصيصِهم أهليةَ البيتِ بفاطمةَ وعليَ وابنيهما رضوانُ الله عليهم . وأمَّا ما تمسَّكُوا به من أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم " خرجَ ذاتَ غُدوةٍ وعليه مِرطٌ مرحَّلٌ من شَعَرٍ أسودَ ، وجلسَ فأتتْ فاطمةُ فأدخلَها فيهِ ثم جاءَ عليٌّ فأدخلَه فيه ، ثم جاء الحسنُ والحسينُ فأدخلَهما فيهِ ثمَّ قال : «إنَّما يُريد الله ليُذهبَ عنكم الرِّجسَ أهلَ البيتِ» " فإنَّما يدلُّ على كونِهم من أهلِ البيتِ لا على أنَّ من عداهم ليسُوا كذلك ولو فُرضت دلالتُه على ذلك لما اعتدَّ بها لكونِها في مُقابلةِ النَّصِّ .(5/335)
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
{ واذكرن مَا يتلى فِى بُيُوتِكُنَّ } أي اذكُرن للنَّاس بطريقِ العظةِ والتَّذكيرِ ما يُتلى في بيوتكنَّ { مِنْ ءايات الله والحكمة } من الكتابِ الجامعِ بين كونِه آياتِ الله البينةِ الدَّالَّةِ على صدقِ النُّبوةِ بنظمِه المُعجزِ وكونِه حكمةً منطويةً على فُنونِ العلومِ والشَّرائعِ وهو تذكيرٌ بما أنعم عليهنَّ حيثُ جعلهنَّ أهلَ بيتِ النُّبوةِ ومهبطَ الوحيِ وما شاهدْن من بُرَحاءِ الوحيِ ممَّا يُوجب قوةَ الإيمانِ والحرصَ على الطَّاعةِ حثًّا على الانتهاءِ والائتمارِ فيما كُلّفنه ، والتعرضُ للتِّلاوةِ في البيوتِ وإن كان النزول فيها مع أنَّه الأنسبُ لكونِها مهبطَ الوحيِ لعمومِها لجميعِ الآياتِ ووقوعِها في كلِّ البيوتِ وتكرُّرِها الموجبِ لتمكنهنَّ من الذِّكرِ والتَّذكيرِ بخلافِ النزولِ ، وعدمُ تعيينِ التَّالي لتعمَّ تلاوةَ جبريلَ وتلاوةَ النبيِّ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ وتلاوتهنَّ وتلاوةَ غيرهنَّ تعليماً وتعلُّماً { إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } يعلمُ ويدبِّرُ ما يصلحُ في الدِّينِ ولذلك فعلَ ما فعلَ من الأمرِ والنَّهيِ أو يعلمُ مَن يصلُح للنُّبوةِ ومن يستأهلُ أنْ يكونَ من أهلِ بيتِه .
{ إِنَّ المسلمين والمسلمات } أي الدَّاخلينَ في السِّلمِ المُنقادينَ لحكمِ الله تعالى من الذُّكورِ والإناثِ { والمؤمنين والمؤمنات } المصدِّقينَ بما يجبُ أنْ يصدَّقَ بهِ من الفريقينِ { والقانتين والقانتات } المداومينَ على الطَّاعاتِ القائمينَ بها { والصادقين والصادقات } في القولِ والعملِ { والصابرين والصابرات } على الطَّاعاتِ وعَنِ المَعَاصي { والخاشعين والخاشعات } المتواضعينَ لله بقلوبِهم وجوارحِهم { والمتصدقين والمتصدقات } بما وجبَ في مالِهم { والصائمين والصائمات } الصَّومَ المفروضَ { والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات } عن الحرامِ { والذكرين الله كَثِيراً والذكرات } بقلوبِهم وألسنتِهم { أَعَدَّ الله لَهُمْ } بسببِ مما عملُوا من الحسناتِ المذكورةِ { مَغْفِرَةً } لما اقترفُوا من الصَّغائرِ لأنهنَّ مكفراتٌ بما عملُوا من الأعمالِ الصَّالحةِ { وَأَجْراً عَظِيماً } على ما صدرَ عنهم من الطَّاعاتِ والآياتِ وعدَّ لهنَّ ولأمثالِهنَّ على الطَّاعةِ والتَّدرعِ بهذهِ الخصالِ الحميدةِ . ( رُوي أنَّ أزواجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ورضي عنهنَّ قلنَ : يا رسولَ الله ، ذَكَر الله الرِّجالَ في القرآنِ بخيرٍ فما فينا خيرٌ نذكرُ به إنَّا نخافُ أنْ لا يقبلَ منَّا طاعةٌ فنزلتْ ) . وقيلَ : السَّائلةُ أمُّ سلمةَ . ( ورُوي أنَّه لمَّا نزلَ في نساءِ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما نزلَ قالَ نساءُ المؤمنينَ : فما نزلَ فينا شيءٌ فنزلتْ ) . وعطفُ الإناثِ على الذُّكورِ لاختلافِ الجنسينِ وهو ضروريٌّ . وأمَّا عطفُ الزَّوجينِ على الزَّوجينِ فلتغايرِ الوصفينِ فلا يكونُ ضرورياً ولذلكَ تُرك في قولِه تعالى : { مسلمات مؤمنات } وفائدتُه الدِّلالةُ على أنَّ مدارَ إعدادِ ما أُعدَّ لهُم جمعُهم بين هذهِ النُّعوتِ الجميلةِ .(5/336)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ } أي ما صحَّ وما استقامَ لرجلٍ ولا امرأةٍ من المؤمنينَ والمؤمناتِ { إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً } أيْ إذا قضَى رسولُ الله ، وذكرُ الله تعالى لتعظيمِ أمرِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أو للإشعارِ بأنَّ قضاءَهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قضاءُ الله عزَّ وجلَّ لأنَّه ( نزلَ في زينبَ بنتِ جحشٍ بنتِ عمَّتِه أميمةَ بنتِ عبدِ المُطَّلبِ خطبَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لزيدِ بنِ حارثةَ فأبتْ هيَ وأخُوها عبدُ اللَّه ) . ( وقيلَ : في أمِّ كُلثوم بنتِ عقبةَ بنِ أبي معيطٍ وهبتْ نفسَها للنبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فزوَّجها من زيدٍ فسخطتْ هي وأخُوها وقالا : إنَّما أردنا رسولَ الله فزوَّجنا عبدَه ) { أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ } أنْ يختارُوا من أمرِهم ما شاءوا بل يجبُ عليهم أنْ يجعلُوا رأيَهم تبعاً لرأيِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ واختيارَهم تلواً لاختيارِه . وجمعُ الضَّميرينِ لعمومِ مؤمنٍ ومؤمنةٍ لوقوعِهما في سياقِ النَّفيِ . وقيل : الضَّميرُ الثَّانِي للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والجمعُ للتَّعظيمِ . وقُرىء تكونَ بالتَّاءِ { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ } في أمرٍ من الأمورِ ويعملْ فيهِ برأيِه { فَقَدْ ضَلَّ } طريقَ الحقِّ { ضلالا مُّبِيناً } أي بيِّنَ الانحرافِ عن سَنَنِ الصَّوابِ .
{ وَإِذْ تَقُولُ } أي واذكُر وقتَ قولِك { لِلَّذِى أَنعَمَ الله عَلَيْهِ } بتوفيقِه للإسلامِ وتوفيقِك لحسنِ تربيتِه ومراعاتِه { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } بالعملِ بما وفَّقك الله له من فنونِ الإحسانِ التي من جُملتها تحريرُه وهو زيد بنُ حارثةَ وإيرادُه بالعنوانِ المذكورِ لبيانِ منافاةِ حالِه لما صدرَ عنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من إظهارِ خلافِ ما في ضميرِه إذ هُو إنَّما يقعُ عند الاستحياءِ أو الاحتشامِ وكلاهما ممَّا لا يُتصور في حقِّ زيدٍ { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } أي زينبَ ( وذلك أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أبصرَها بعد ما أنكحَها إيَّاه فوقعتْ في نفسِه حالةٌ جبلِّيةٌ لا يكادُ يسلمُ منها البشرُ فقالَ : « سبحانَ الله مقلبِ القلوبِ » وسمعتْ زينبُ بالتَّسبيحةِ فذكرتْها لزيدٍ ففطِن لذلكَ ، ووقعَ في نفسِه كراهةُ صُحبتِها فأتَى النبيَّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وقال : أريدُ أنْ أفارقَ صاحبتِي ، فقالَ : « ما لَك أرابَك منها شيءٌ؟ » قال : لا والله ما رأيتُ منها إلا خيراً ولكنَّها لشرفِها تتعظمُ عليَّ ، فقال له : « أمسكْ عليكَ زوجَك » { واتق الله } في أمرِها فلا تُطلقها إضراراً وتعللاً بتكبّرها { وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ } وهو نكاحُها إنْ طلَّقها أو إرادةُ طلاقِها { وَتَخْشَى الناس } تعييرَهم إيَّاك به { والله أَحَقُّ أَن تخشاه } إنْ كانَ فيه ما يُخشى والواوُ للحالِ ، وليستْ المعاتبةُ على الإخفاءِ وحدَه بل على الإخفاءِ مخافةَ قالةِ النَّاسِ وإظهارِ ما يُنافي إضمارَه فإنَّ الأَولى في أمثالِ ذلك أنْ يصمتَ أو يُفوِّضَ الأمرَ إلى ربِّه { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً } بحيثُ لم يبقَ له فيها حاجةٌ وطلَّقها وانقضتِ عدَّتُها وقيل : قضاءُ الوَطَرِ كنايةٌ عن الطَّلاقِ مثلُ لا حاجةَ لي فيكِ { زوجناكها } وقُرىء زوَّجتكها والمرادُ الأمرُ بتزويجِها منه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيل : جعَلَها زوجتَه بلا واسطةِ عقدٍ ، ويُؤيده أنَّها كانتْ تقولُ لسائرِ نساءِ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ :(5/337)
« إنَّ الله تعالى تولَّى نكاحي وأنتنَّ زوجكنَّ أولياؤكنَّ » . وقيل : كان زيدٌ السَّفيرَ في خطبتِها وذلك ابتلاءٌ عظيمٌ وشاهدُ عدلٍ بقوَّةِ إيمانِه { لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ } ضيقٌ ومشقَّةٌ { فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ } أي في حقِّ تزوجهن { إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً } فإنَّ لهم في رسولِ الله أسوةً حسنةً وفيه دلالةٌ على أنَّ حكمَه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وحكمَ الأمَّة سواءٌ إلا ما خصَّه الدَّليلُ { وَكَانَ أَمْرُ الله } أي ما يريدُ تكوينَه من الأمورِ أو مأمورُه الحاصلُ بكُنْ { مَفْعُولاً } مكوناً لا محالةَ اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ لما قبلَه .(5/338)
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)
{ مَّا كَانَ عَلَى النبى مِنْ حَرَجٍ } أي ما صحَّ وما استقامَ في الحكمةِ أن يكونَ له ضيقٌ { فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ } أي قسمَ له وقدَّر ، من قولِهم فرضَ له في الدِّيوانِ كذا ومنه فروضُ العساكرِ لأعطياتِهم { سُنَّةَ الله } اسمٌ موضوعٌ موضعَ المصدرِ كقولِهم تُرباً وجنَدْلاَ مؤكد لما قبلَه من نفيِ الحرجِ أي سنَّ الله ذلك سُنَّةً { فِى الذين خَلَوْاْ } مضَوا { مِن قَبْلُ } من الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ السَّلامُ حيثُ وسَّع عليهم في بابِ النِّكاحِ وغيره ولقد كانتْ لداودَ عليه السَّلامُ مائة امرأة وثلاثمائة سرّية ولسليمان عليه السلام ثلاثمائة امرأةٍ وسبعمائةِ سُرِّيةٍ وقولُه تعالَى { وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً } أي قضاءً مقضيَّا وحُكما مبتوتاً . اعتراضٌ وُسِّط بين الموصولينِ الجاريينِ مجرى الواحدِ للمسارعةِ إلى تقريرِ نفيِ الحَرجِ وتحقيقِه .(5/339)
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)
{ الذين يُبَلّغُونَ رسالات الله } صفةٌ للذين خَلَوا أو مدحٌ لهم . بالنَّصبِ أو بالرَّفعِ . وقُرىء رسالةَ الله { وَيَخْشَوْنَهُ } في كلِّ ما يأتُون ويذرُون لا سيِّما في أمرِ تبليغِ الرِّسالةِ حيثُ لا يخرمُون منها حرَفاً ولا تأخذُهم في ذلكَ لومةُ لائمٍ { وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله } في وصفِهم بقصرِهم الخشيةَ على الله تعالى تعريض بما صدَرَ عنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من الاحترازِ عن لائمةِ الخلقِ بعد التَّصريحِ في قولِه تعالى : { وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تخشاه } { وكفى بالله حَسِيباً } كافياً للمخاوفِ فينبغي أنْ لا يُخشى غيرُه ، أو محاسباً على الصَّغيرةِ والكبيرةِ فيجبُ أنْ يكونَ حقُّ الخشيةِ منْهُ تعالى .
{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ } أي على الحقيقةِ حيثُ يثبتُ بينَهُ وبينَهُ ما يثبتُ بينِ الوالدِ وولدِه من حُرمةِ المُصاهرة وغيرِها ولا ينتقضُ عمومُه بكونهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أباً للطَّاهرِ والقاسمِ وإبراهيمَ لأنهم لم يبلغوا الحُلُمَ ولو بلغُوا لكانُوا رجالاً له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لا لَهمُ { ولكن رَّسُولَ الله } أي كانَ رسولاً لله وكلُّ رسولٍ أبُو أمَّتهِ لكنْ لا حقيقةً بل بمعنى أنَّه شفيقٌ ناصحٌ لهم وسببٌ لحياتِهم الأيديةِ وما زيدٌ إلا واحدٌ من رجالِكم الذين لا ولادَ بينُهم وبينَهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فحكمه حكمُهم وليس للتبنِّي والادِّعاءِ حكمٌ سوى التَّقريبِ والاختصاصِ { وَخَاتَمَ النبيين } أي كان آخرَهم الذين خُتموا به . وقُرىء بكسر التَّاءِ أي كان خاتمِهم ويُؤيِّده قراءةُ ابن مسعودٍ ولكنْ نبياً ختَم النبيِّينَ ، وأيّاً ما كانَ فلو كانَ له ابنٌ بالغٌ لكان نبيّاً ولم يكنُ هو عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ خاتمَ النبيِّينَ كما يُروى أنَّه قالَ في إبراهيمَ حينَ تُوفِّي « لو عاشَ لكانَ نبيّاً » ولا يقدحُ فيه نزولُ عيسىَ بعدَهُ عليهما السَّلامُ لانَّ معنى كونِه خاتمَ النبيِّينَ أنَّه لا يُنبَّأُ بعدَهُ أحدٌ وعيسى ممَّن نُبِّىء قبلَه وحينَ ينزلُ إنَّما ينزلُ عاملاً على شريعةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُصلِّياً إلى قبلتِه كأنَّه بعضُ أمَّتهِ { وَكَانَ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيماً } ومن جُملتهِ هذهِ الأحكامُ والحِكمُ التي بيَّنها لكُم وكنتمُ منها في شكَ مريبٍ .
{ عَلِيماً ياأيها الذين ءامَنُواْ اذكروا الله } بما هُو أهلُه من التَّهليلِ والتحميد والتَّمجيدِ والتقديس { ذِكْراً كَثِيراً } يعمُّ الأوقاتِ والأحوالَ { وَسَبّحُوهُ } ونزِّهوه عمَّا لا يليقُ به { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي أوَّلَ النَّهارِ وآخرَه على أنَّ تخصيصَهُما بالذِّكرِ ليسَ لقصرِ التَّسبيحِ عليهما دُونَ سائرِ الأوقاتِ بل لإبانةِ فضلِهما على سائرِ الأوقاتِ لكونِهما مشهُودينِ كأفرادِ التَّسبيحِ من بينِ الأذكارِ مع اندراجهِ فيها لكونِه العُمدةَ فيها وقيل : كِلا الفعلينِ متوجهٌ إليهما كقولِك صُمْ وصَلِّ يومَ الجمعةِ وقيلَ : المرادُ بالتَّسبيحِ الصَّلاةُ .(5/340)
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45)
{ هُوَ الذى يُصَلّى عَلَيْكُمْ } الخ استئنافٌ جارٍ مجرى التَّعليلِ لما قبلَه من الأمرينِ فإنَّ صلاتَهُ تعالى عليهم مع عدمِ استحقاقِهم لها وغناهُ عن العالمينَ ممَّا يُوجبُ عليهم المُداومةَ علَى ما يستوجبُه تعالى علهم من ذكرِه تعالى وتسبيحِه تعالى : { وملائكته } عطفٌ على المستكنِّ في يصلِّي لمكانِ الفصلِ المغنيِّ عن التَّأكيدِ بالمنفصلِ لكنْ لا على أنْ يُرادَ بالصَّلاةِ الرَّحمةُ أوَّلاً والاستغفارُ ثانياً فإنَّ استعمالَ اللَّفظِ الواحدِ في معنيينِ مُتغايرينِ ممَّا لا مساغَ له بل عَلى أنْ يُرادَ بهما معنى مجازيٌّ عامٌّ يكون كلا المعنيينِ فرداً حقيقياً له وهو الاعتناءُ بما فيهِ خيرُهم وصلاحُ أمرِهم فإنَّ كُلاًّ منَ الرَّحمةِ والاستغفارِ فردٌ حقيقيٌّ له أو التَّرحُّمُ والانعطافُ المعنويُّ المأخوذُ من الصَّلاةِ المُشتملةِ على الانعطافِ الصُّوري الذي هو الرُّكوعُ والسُّجودُ . ولا ريبَ في أنَّ استغفارَ الملائكةِ ودعاءَهم للمؤمنينَ تَرحُّمٌ عليهم ، وأمَّا أنَّ ذلك سببٌ للرَّحمةِ لكونِهم مُجابي الدَّعوةِ كما قيلَ فاعتبارُه ينزعُ إلى الجمعِ بينَ المعنيينِ المُتغايرينِ فتدبَّرْ { لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظلمات إِلَى النور } متعلق بيصلِّي أي يعتني بأمورِكم هو وملائكتُه ليخرجَكم بذلك من ظلماتِ المعصيةِ إلى نُور الطَّاعةِ . وقولُه تعالى : { وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً } اعتراضٌ مُقرر لمضمونِ ما قبله أي كانَ بكافَّة المُؤمنينَ الذين أنتُم مِن زُمرتِهم رحيماً ولذلك يفعلُ بكم ما يفعلُ من الاعتناءِ بإصلاحِكم بالذَّاتِ وبالواسطةِ ويهديكم إلى الإيمانِ والطَّاعةِ أو كانَ بكُم رحيماً على أنَّ المُؤمنين مُظهرٌ وُضعَ موضعَ المضمر مَدْحاً وإشعاراً بعلَّة الرَّحمةِ . وقولُه تعالى : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلام } بيانٌ للأحكامِ الآجلةِ لرحمةِ الله تعالى بهم بعدَ بيانِ آثارها العاجلةِ التي هي الاعتناءُ بأمرِهم وهدايتُهم إلى الطَّاعةِ أي ما يُحيَّون به على أنَّه مصدرٌ أُضيفَ إلى مفعولِه يومَ لقائِه عند الموتِ أو عندَ البعثِ منَ القُبورِ أو عندَ دخولٍ الجنَّةِ تسليم عليهم منَ الله عزَّ وجَلَّ تعظيماٍ لهُم أو منَ الملائكةِ بشارةً لهم بالجنَّةِ أو تكرمة لهُم كما في قولِه تعالى : { والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ * سلام عَلَيْكُمُ } أو إخبارٌ بالسَّلامةِ عن كلِّ مكروهٍ وآفةٍ . وقولُه تعالى { وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً } بيانٌ لأثارِ رحمتِه الفائضةِ عليهم بعدَ دُخولِ الجنَّةِ عقيبَ بيانِ آثارِ رحمتِه الواصلةِ إليهم قبلَ ذلكَ . ولعلَّ إيثارَ الجملةِ الفعليةِ على الإسمية المناسبة لما قبلها بأن يقال مثلاً : وأجرهم أجر كريم أو ولهم أجر كريم للمبالغة في التَّرغيبِ والتَّشويقِ إلى الموعُودِ ببيانِ أنَّ الأجرَ الذي هُو المقصدُ الأقصى مِنْ بينِ سائرِ آثارِ الرَّحمةِ موجودٌ بالفعلِ مهيئاً لهم معَ ما فيهِ من مُراعاةِ الفَواصلِ .
{ ياأيها النبى إِنَّا أرسلناك شَاهِداً } على مَن بُعثتَ إليهم تُراقبُ أحوالهم وتُشاهدُ أعمالَهم وتتحمَّلُ منهم الشَّهادةَ بما صدر عنهُم من التَّصديقِ والتَّكذيبِ وسائرِ ما هُم عليهِ من الهدى والضَّلالِ وتُؤدِّيها يومَ القيامةِ أداءً مقبُولاً فيما لهُم وما عليهم وهو حالٌ مقَّدرةٌ { وَمُبَشّراً وَنَذِيراً } تُبشر المؤُمنينَ بالجنَّةِ وتُنذرُ الكافرينَ بالنَّارِ .(5/341)
وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
{ وَدَاعِياً إِلَى الله } أي إلى الإقرارِ به وبوحدانيَّتِه وبسائرِ ما يجبُ الإيمانُ به من صفاتِه وأفعالِه { بِإِذْنِهِ } أي بتيسيرِه . أُطلق عليه مجازاً لمَا أنَّه من أسبابِه ، وقُيِّدَ به الدَّعوةُ إيذاناً بأنَّها أمرٌ صعبُ المنالِ وخَطبٌ في غايةِ الإعضالِ لا يتأتَّى إلا بإمدادٍ من جنابِ قُدسِه كيفَ لا وهُو صرفٌ للوجوهِ عن القُبلِ المعبودةِ وإدخالٌ للأعناقِ في قلادةٍ غيرِ معهودةٍ { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } يُستضاءُ به في ظلماتِ الجهلِ والغَوايةِ ويُهتدى بأنوارِه إلى مناهجِ الرُّشدِ والهدايةِ { وَبَشّرِ المؤمنين } عطفٌ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقامُ ويستدعيهِ النِّظامُ كأنَّه قيل : فراقبْ أحوالَ النَّاسِ وبشِّرِ المؤمنين منهُم { بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً } أي على مُؤمني سائرِ الأممِ في الرُّتبةِ والشَّرفِ أو زيادةً على أجورِ أعمالِهم بطريقِ التَّفضلِ والإحسانِ .
{ وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين } نهيٌ عن مداراتِهم في أمرِ الدَّعوةِ ، واستعمالِ لينِ الجانبِ في التبليغِ والمسامحةِ في الإنذارِ كُني عن ذلكَ بالنَّهيِ عن طاعتِهم مبالغةً في الزَّجرِ والتَّنفيرِ عن المَنهيِّ عنه بنطمِه في سلكِها وتصويرِه بصورتِها . ومَن حملَ النَّهيَ عن التَّهييجِ والإلهابِ فقَدْ أبعدَ عنِ التَّحقيقِ بمراحلَ . { وَدَعْ أَذَاهُمْ } أي لا تُبالِ بأذيَّتِهم لك بسببِ تصلبكَ في الدَّعوةِ والإنذارِ . { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } في ما تأتِي وما تذرُ من الشؤون التي مِن جُملتها هذا الشَّأنُ فإنَّه تعالى يكفيكهُم { وكفى بالله وَكِيلاً } موكُولاً إليهِ الأمورُ في كلِّ الأحوالِ . وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضعِ الإضمارِ لتعليلِ الحكمِ وتأكيدِ استقلالِ الاعتراضِ التذييليِّ . ولمَّا وُصف عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بنعوتٍ خمسةٍ قُوبل كلٌّ منها بخطابٍ يُناسبه خلاَ أنَّه لم يذكُر مقابلَ الشَّاهدِ صَريحاً وهُو الأمرُ بالمراقبةِ ثقةً بظهورِ دلالةِ مقابلِ المبشَّر عليهِ وهو الأمرُ بالتَّبشيرِ حسبما ذُكر آنِفاً وقُوبلَ النَّذيرُ بالنَّهيِ عن مُداراةِ الكُفَّارِ والمُنافقين والمُسامحةِ في إنذارِهم كما تحققَتُه ، وقُوبل الدَّاعِي إلى الله بإذنِه بالأمرِ وبالتَّوكلِ عليهِ منْ حيثُ إنَّه عبارةٌ عن الاستمدادِ منه تعالى والاستعانةِ به ، وقُوبل السِّراجُ المنيرُ بالاكتفاءِ به تعالى فإنَّ من أيَّده الله تعالىَ بالقُوَّة القُدسيةِ ورشَّحه للنُّبوةِ وجعلَه بُرهاناً نيِّراً يهدي الخلقَ من ظلماتِ الغَيِّ إلى نورِ الرِّشادِ حقيقٌ بأنْ يَكتفي بهِ عن كلِّ ما سواهُ .
{ وَكِيلاً ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } أي تجامعوهنَّ وقُرىء تُماسوهنَّ بضمِّ التَّاءِ { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ } بأيامٍ يتربصنَّ فيها بأنفسهنَّ { تَعْتَدُّونَهَا } تستوفونَ عددَها من عددتُ الدَّراهمَ فاعتدَّها ، وحقيقتُه عدُّها لنفسِه وكذلك كِلتُه فاكتَالَهُ والإسنادُ إلى الرَّجالِ للدَّلالةِ على أنَّ العِدَّةَ حقُّ الأزواجِ كما أشعرَ به قولُه تعالى فما لَكُم وقُرىء تَعْتَدُونها على إبدالِ إحدى الدَّالينِ بالتَّاءِ أو على أنَّه من الاعتداءِ بمعنى تعتدُون فيها والخلوةُ الصَّحيحةُ في حكمِ المسِّ ، وتخصيصُ المؤمناتِ مع عمومِ الحُكمِ للكتابياتِ للتنبيِه أنَّ المؤمنَ من شأنِه أنْ يتخَّيرَ لنطفتةِ ولا ينكحُ إلاَّ مؤمنةً وفائدةُ ثمَّ إزاحةُ ما عسى يُتوهَّم أنَّ تراخِيَ الطَّلاقِ ريثما تمكنُ الإصابةُ يؤثر في العِدَّةِ كما يُؤثر في النَّسبِ { فَمَتّعُوهُنَّ } أي إنْ لم يكُن مفروضاً لها في العقدِ فإن الواجبَ للمفروضِ لها نصفُ المفروض دُونَ المُتعةِ فإنها مستحبَّةٌ عندنَا في روايةٍ وفي أُخرى غيرُ مستحبَّةٍ { وَسَرّحُوهُنَّ } أخرجُوهنَّ من منازلِكم إذْ ليسَ لكُم عليهنَّ عَّدةٌ { سَرَاحاً جَمِيلاً } من غيرِ ضرارٍ ولا منعِ حقَ ولا مساغَ لتفسيرِه بالطَّلاقِ السُّنيِّ لأنَّه إنَّما يتسنَّى في المدخُولِ بهنَّ .(5/342)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
{ ياأيها النبى إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك اللاتى ءاتَيْتَ أُجُورَهُنّ } أي مهورهِنَّ فإنَّها أجورُ الأبضاعِ ، وإيتاؤها إمَّا إعطاؤُها معجَّلةً أو تسميتُها في العقدِ ، وأيّاً ما كانَ فتقييدُ الإحلالِ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ به ليسَ لتوقفِ الحلِّ عليه ضرورةَ أنَّه يصحُّ العقدُ بلا تسميةٍ ويجبُ مهرُ المثلِ أو المتعةُ على تقديرَيْ الدُّخولِ وعدمِه بل لإيثارِ الأفضلِ والأولى له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كتقييدِ إحلالِ المملوكةِ بكونِها مسْبيةً في قولِه تعالى { وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْكَ } فإنَّ المُشتراةَ لا يتحققُ بدءُ أمرِها وما جَرى عليها ، وكتقييد القرائبِ بكونهنَّ مهاجراتٍ معه في قولِه تعالى : { وَبَنَاتِ عَمّكَ وَبَنَاتِ عماتك وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خالاتك اللاتى هاجرن مَعَكَ } ويحتملُ تقييدَ الحلِّ بذلكَ في حقِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ خاصَّة « ويعضدُه قولُ أمِّ هانىءٍ بنتِ أبي طالبٍ خطبني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرتُ إليه فعذرَني » ثم أنزلَ الله هذه الآيةَ فلم أحِلَّ له لأنِّي لم أُهاجر معه كنتُ من الطُّلقاءِ { وامرأة مُّؤْمِنَةً } بالنَّصبِ عطفاً على مفعولِ أحللنَا إذْ ليسَ معناهُ إنشاءَ الإحلالِ النَّاجزِ بل إعلامَ مطلقِ الاحلالِ المنتظمِ لما سبقَ ولحقَ . وقرىء بالرَّفعِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ أي أحللناهَا لكَ أيضاً { إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىّ } أي مَّلكتْه بُضعَها بأيِّ عبارةٍ كانتْ بلا مهٍر إنْ اتفقَ ذلك كما يُنبىء عنه تنكيرُها لكنْ لا مطلقاً بل عندَ إرادتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ استنكاحَها كما نطقَ به قولُه عزَّ وجلَّ { إِنْ أَرَادَ النبى أَن يَسْتَنكِحَهَا } أي أنْ يتملَّكَ بُضعَها كذلكَ أي بلا مهرٍ فإنَّ ذلكَ جارٍ منه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مَجرى القبولِ وحيثُ لم يكنُ هذا نصَّاً في كونِ تمليِكها بلفظِ الهبةِ لَم يصلُحْ أنّ يكونَ مَنَاطاً للخلافِ في انعقادِ النِّكاحِ بلفظِ الهبةِ إيحاباً أو سلباً واختُلف في اتفاقِ هذا العقدِ فعنِ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنُهما لم يكُن عندَه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أحدٌ منهنَّ بالهبةِ وقيل : الموهوبات أربعٌ : ميمونةُ بنتُ الحارثِ وزينب بنتُ خُزيمةَ الأنصاريَّة وأمُّ شريكِ بنتُ جابر وخَوْلةُ بنتُ حكيم . وإبرادُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في الموضعينِ بعُنوان النُّبوةِ بطريقِ الالتفاتِ للتكرمةِ والإيذانِ بأنَّها المناطُ لثبوتِ الحُكمِ فيختصُّ به عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حسب اختصاصها به كما بنطقُ به قولُه تعالى : { خَالِصَةً لَّكَ } أي خلصَ لك إحلالُها خالصةً أي خُلوصاً فإنَّ الفاعلةَ في المصادرِ غيرُ عزيزٍ كالعافيةِ والكاذبةِ أو خلصَ لك إحلالُ ما أحللنَا لكَ من المذكُوراتِ على القُيودِ المذكورةِ خالصةً . ومَعنى قولِه تعالى { مِن دُونِ المؤمنين } على الأولِ أنَّ الإحلالَ المذكورَ في المادَّةِ المعهُودةِ غيرُ متحقِّقٍ في حقَّهم ، وإنَّما المتحقِّقُ هناك الإحلالُ بمهرِ المثلِ وعلى النَّاني أنَّ إحلالَ الجميعِ على القُيودِ المذكورةِ غير متحقِّقٍ في حقِّهم ، بل المتحقِّقُ فيه إحلالُ البعضِ المعدودِ على الوجهِ المعهودِ وقُرىء خالصةٌ بالرَّفعِ على أنَّه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي ذلك خلوصٌ لك وخصوصٌ أو هيَ أيْ تلك المرأةُ أو الهبةُ خالصةٌ لك لا تتجاوزُ المؤمنينَ حيثُ لاتحلُّ لهم بغيرِ مهرٍ ولا تصحُّ الهبةُ بل يجبُ مهر المثلِ .(5/343)
وقولُه تعالى : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ } أي على المؤمنين { فِى أزواجهم } أي في حقِّهنَّ اعتراضٌ مقررٌ لما قبلَه من خلوصِ الإحلالِ المذكورِ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وعدم تجاوزِه للمؤمنينَ ببيانِ أنَّه قد فُرض عليهم منْ شرائطِ العقدِ وحقوقِه ما لم يُفرضْ عليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تكرمةً له وتوسعةً عليهِ أي قد علمنَا ما ينبغِي أنْ يُفرض عليهم في حقِّ أزواجِهم { وَمَا مَلَكَتْ أيمانهم } وعلى أيِّ حدَ وأيِّ صفةٍ يحقُّ أن يُفرضَ عليهم ففرضنا ما فرضنا على ذلك الوجه وخصصناك ببعضِ الخصائصِ { لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } أي ضيقٌ ، واللامُ متعلقةٌ بخالصةٍ باعتبار ما فيها من معَنى ثبوتِ الإحلالِ وحصوله له عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لا باعتبارِ اختصاصه به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لأنَّ مدارَ انتفاءِ الحرجِ هو الأوَّلُ لا الثَّانِي الذي هُو عبارةٌ عن عدمُ ثبوتِه لغيرِه { وَكَانَ الله غَفُوراً } لما يعسرُ التَّحرزُ عنه { رَّحِيماً } ولذلكَ وسَّع الأمرَ في مواقعِ الحَرَجِ .(5/344)
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
{ تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ } أيْ تُؤخِّرها وتتركُ مضاجعتَها { وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاء } وتضمُّ إليكَ مَن تشاءُ منهنَّ وتُضاجعها أو تطلِّق مَن تشاءُ منهنّ وتُمسك مَن تشاءُ . وقُرىء تُرجىء بالهمزةِ والمعنى واحدٌ . { وَمَنِ ابتغيت } أي طلبتَ { مِمَّنْ عَزَلْتَ } طلَّقتَ بالرَّجعةِ { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } في شيءٍ مَّما ذُكر وهذه قسمةٌ جامعةٌ لما هو الغرضُ ، لأنَّه إمَّا أنْ يطلِّقَ أو يمسكَ فإذا أمسكَ ضاجعَ أو تركَ وقسمَ أو لم يقسم ، وإذا طلِّق فإمَّا أنْ يخلِّيَ المعزولةَ أو يبتغيَها . ورُوي أنَّه أَرْجى منهنَّ سَوْدةَ وجُويريةَ وصفيَّةَ وميمُونةَ وأمَّ حبيبةٍ فكانَ يقسمُ لهنَّ ما شاءَ كما شاءَ وكانتْ ممَّا آوى إليهِ عائشةُ وحفصةُ وأمُّ سلمةٍ وزينبُ . وأرجَى خمْساً وآوى أربعاً ، ورُوي أنَّه كان يُسوِّي بينهنَّ مع ما أُطلق له وخُيِّر ، إلا سودَة فإنَّها وهبتْ ليلتَها لعائشةَ رضي الله عنهنَّ وقالتْ : لا تُطلِّقْني حَتَّى أُحشرَ في زُمرةِ نسائكِ { ذلك } أي ما ذُكر من تفويضِ الأمرِ إلى مشيئتِك { أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمِآ ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } أي أقربُ إلى قُرَّةِ عُيونهنَّ ورضاهنَّ جميعاً لأنَّه حكمٌ كلُّهنَّ فيهِ سواءٌ ثمَّ إنْ سَوَّيتَ بينهنَّ وجدنَ ذلكَ تفضُّلاً منكَ وإنْ رجَّحت بعضهنَّ علمنَ أنَّه بحكمِ الله فتطمئنَّ به نفوسُهنَّ وقُرىء تُقِرَّ بضمِّ التَّاءِ ونصب أعينهنَّ وتُقَرُّ على البناءِ للفعمولِ وكلهنَّ تأكيدٌ لنونِ يرضينَ . وقُرىء بالنَّصبِ على أنَّه تأكيدٌ لهنَّ { والله يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ } من الضَّمائرِ والخواطرِ فاجتهدُوا في إحسانِها { وَكَانَ الله عَلِيماً } مُبالغاً في العلمِ فيعلمُ كلَّ ما تُبدونَهُ وتُخفونَهُ { حَلِيماً } لا يُعاجلُ بالعقوبةِ فلا تغترُّوا بتأخيرِها فإنَّه إمهالٌ لا إهمالٌ .(5/345)
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
{ لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء } بالياءِ لأنَّ تأنيثَ الجمعِ غيرُ حقيقيَ ولوجودِ الفصلِ . وقُرىء بالتاء { مِن بَعْدُ } أي من بعدِ التِّسعِ وهو في حقِّه كالأربعِ في حقِّنا . وقالَ ابنُ عبَّاسٍ وقَتَادةُ : من بعدِ هؤلاء التَّسعِ اللاتِي خيرتهنَّ فاخترنَك وقيلَ من بعد اختيارِهنَّ الله ورسولَه ورضاهنَّ بما تؤتيهنَّ من الوصلِ والهُجرانِ .
{ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ } أي تتبدلَ بحذفِ إحدى التَّاءينِ { بِهِنَّ } أي بهؤلاءِ التِّسعِ { مِنْ أَزْوَاجٍ } بأنْ تُطلقَ واحدةً منهنَّ وتنكحَ مكانَها أُخرى . ومنْ مزيدةٌ لتأكيدِ الاستغراقِ أرادَ الله تعالى لهنَّ كرامةً وجزاءً على ما اخترنَ ورضينَ فقصرَ رسولَه عليهنَّ وهنَّ التِّسعُ اللاتِي تُوفَّي عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عنهنَّ وهُنَّ : عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ ، وحفصةُ بنتُ عمرَ ، وأمُّ حبيبةٍ بنتُ أبي سُفياتَ ، وسَوْدةُ بنتُ زَمْعَه ، وأمُّ سلمةَ بنتُ أبي أُميَّة ، وصفَّيةُ بنتُ حُيَى بنِ أخطبَ الخَيْبريَّةُ ، وميمونةُ بنتُ الحارثِ الهلاليَّةُ ، زينب بنتُ حجشٍ الأسديَّةُ ، وجُريريةُ بنتُ الحارثِ المصطلِقيةُ . وقالَ عكرمةُ : المعنى لا يحلُّ لك النِّساءُ من بعدِ الاجناسِ الأربعةِ اللاتِي أحللناهنَّ لكَ بالصِّفةِ التي تقدَّم ذكرُها من الأعرابياتِ والغرائبِ أو من الكتابياتِ أو من الإماءِ بالنِّكاحِ ويأباهُ قولُه تعالى : { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ } فإنَّ معنَى إحلالِ الأجناسِ المذكورةِ إحلالُ نكاحهنَّ فلا بدَّ أنْ يكونَ معنى التبدلِ بهنَّ إحلالَ نكاحِ غيرِهنَّ بدلَ إحلالِ نكاحهنَّ وذلكَ إنَّما يُتصوَّرُ بالنَّسخِ الذي ليسَ من الوظائفِ البشريَّةِ { وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } أي حسنُ الأزواجِ المستبدلةِ وهو حالٌ من فاعلِ تبدلَ لا من مفعولِه وهو من أزواج لتوغله في التنكيرِ قيل تقديرُه مفروضاً إعجابُك بهنَّ وقد مرَّ تحقيقُه في قولِه تعالى : { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } وقيل : هي أسماءُ بنتُ عُميسٍ الخَثعميَّةُ امرأةُ جعفرِ بنِ أبي طالبٍ أي هي ممَّن أعجبَه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حسنُهنَّ . واختُلف في أنَّ الآيةَ محكمةٌ أو منسوخةٌ قيل : بقولِه تعالى : { تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاء } وقيل : بقولِه تعالى إنَّا أحللنَا لكَ . وترتيبُ النُّزولِ ليس على ترتيبِ المُصحفِ وقيل بالسنَّة وعن عائشةَ رضي الله عنها ما ماتَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتَّى أحلَّ له النِّساءُ . وقالَ أنسٌ رضي الله عنه : ماتَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ على التَّحريم . { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } استثناءٌ من النِّساءِ ، لأنَّه يتناولُ الأزواجَ والإماء وقيل : منقطعٌ { وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء رَّقِيباً } حافظاً مُهيمناً فاحذرُوا مجاوزةَ حدودِه وتخطِّي حلالِه إلى حرامِه .(5/346)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبى } شروعٌ في بيانِ ما يجبُ مراعاتُه على النَّاسِ من حُقوقِ نساءِ النبيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إثرَ بيانِ ما يجبُ مُراعاتُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ منَ الحقوقِ المُتعلقةِ بهنَّ . وقولُه تعالى { إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ } استثناءٌ مفرَّغٌ من أعمِّ الأحوالِ أي لا تدخلُوها في حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ كونِكم مأذوناً لكم ، وقيل : من أعمِّ الأوقاتِ أي لا تدخلُوها في وقتٍ من الأوقاتِ إلا وقتَ أنْ يُؤذنَ لكُم وردَّ عليهِ بأنَّ النُّحاةَ نصُّو على أنَّ الوقوعَ موقعَ الظَّرفِ مختصٌّ بالمصدرِ الصَّريحِ دُونَ المؤولِ لا يُقال آتيكَ أنْ يصيحَ الدِّيكُ وإنَّما يقالُ آتيكَ صياحَ الدِّيكِ . وقولُه تعالى { إلى طَعَامٍ } متعلَّقٌ بيؤذنُ بتضمينِ معنى الدُّعاءِ للإشعارِ بأنَّه لا ينبغِي أنْ يدخلُوا على الطَّعامِ بغيرِ دعوةٍ وإنْ تحققَ الإذنُ كما يُشعر بهِ قولُه تعالى { غَيْرَ ناظرين إناه } أي غيرَ منتظرينَ وقتَهُ أو إدراكَه وهو حالٌ من فاعلِ لا تدخلوُا على أنَّ الاستثناءَ واقعٌ على الوقتِ والحالِ معاً عندَ مَنْ يُجوزه أو من المجرورِ في لكُم . وقُرىء بالجرِّ صفةً لطعامٍ فيكون جارياً على غيرِ مَن هُو له بلا إبرازِ الضِّميرِ ولا مساغٍ له عند البصريينَ . وقُرىء بالإمالةِ لأنَّه مصدرٌ أنَى الطعامَ أي أدركَ . { وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا } استدراكٌ من النَّهيِ عن الدُّخولِ بغيرِ إذنٍ وفيهِ دلالةٌ بيِّنةٌ على أنَّ المرادَ بالإذنِ إلى الطَّعامِ هو الدَّعوةُ إليهِ { فَإِذَا طَعِمْتُم فانتشروا } فتفرقُوا ولا تلبثُوا لأنَّه خطابٌ لقومٍ كانوا يتحيَّنون طعامَ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فيدخُلون ويقعدُون منتظرين لإدراكِه مخصوصةً بهم وبأمثالِهم وإلاَّ لمَا جازَ لأحدٍ أنْ يدخلَ بيوتَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بإذنٍ لغيرِ الطَّعامِ ولا اللبثِ بعد الطعامِ لأمرٍ مُهمَ { وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } أي لحديثِ بعضِكم بَعضاً أو لحديثِ أهلِ البيتِ بالتَّسمعِ له . عطفٌ على ناظرينَ أو مقدَّرٌ بفعلٍ أي ولا تدخلُوا ولا تمكثُوا مستأنسين الخ .
{ إِنَّ ذَلِكُمْ } أي الاستئناسُ الذي كنتُم تفعلونَهُ من قبل { كَانَ يُؤْذِى النبى } لتضييقِ المنزَّلِ عليهِ وعلى أهلِه وإيجابِه للاشتغالِ بما لا يَعنيه وصدِّه عن الاشتغالِ بما يعنيهِ { فَيَسْتَحِى مّنكُمْ } أي من إخراجِكم لقولِه تعالى { والله لاَ يَسْتَحْىِ * مِنَ الحق } فإنَّه يستدعِي أنْ يكونَ المستحى منه أمراً حقَّاً متعلِّقاً بهم لا أنفسَهم ، وما ذلك إلا إخراجهم فينبغي أنْ لا يُترك حياءً ولذلك لم يتركْه تعالى وأمرَكم بالخروجِ . والتَّعبيرُ عنه بعدم الاستحياءِ للمشاكلةِ . وقُرىء لا يستحِي بحذفِ الياءِ الأُولى وإلقاءِ حركتِها إلى ما قبلَها . { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ } الضَّميرُ لنساءِ النبيِّ المدلولِ عليهنَّ بذكرِ بيوتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ { متاعا } أي شيئاً يُتمتَّعُ بهِ من الماعونِ وغيرِه { فاسئلوهن } أي المتاعَ { مِن وَرَاء حِجَابٍ } أي سترٍ .(5/347)
روُي أنَّ عمرَ رضي الله عنه قالَ يا رسولَ الله يدخلُ عليكَ البرُّ والفاجرُ فلو أمرتَ أمَّهاتِ المؤمنينَ بالحجابِ فنزلتْ . وقيلَ : إنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان يَطعمُ ومعه بعضُ أصحابِه فأصابتْ يدُ رجلٍ منهُم يدَ عائشةَ رضي الله عنها فكرِه النبيُّ ذلكَ فنزلتْ { ذلكم } أي ما ذُكر من عدمِ الدُّخولِ بغير إذنٍ وعدم الاستئناسِ للحديثِ عند الدُّخولِ وسؤالِ المتاعِ من وراءِ حجابٍ { أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } أي أكثرُ تطهيراً من الخواطرِ الشَّيطانيَّةِ .
{ وَمَا كَانَ لَكُمْ } أي وما صحَّ وما استقامَ لكُم { أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله } أي أنْ تفعلُوا في حياتِه فعلاً يكرهه ويتأذَّى به { وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً } أي بعدَ وفاتِه أو فراقِه { إِنَّ ذَلِكُمْ } إشارةٌ إلى ما ذُكر منْ إيذائِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ونكاحِ أزواجهِ من بعده وما فيهِ من مَعْنى البُعدِ للإيذانِ ببُعدِ منزلتِه في الشرِّ والفسادِ { كَانَ عِندَ الله عَظِيماً } أي أمراً عظيماً وخطباً هائلاً لا يُقادر قدرُه . وفيهِ من تعظيمِه تعالى لشأنِ رسولِه صلى الله عليه وسلم وإيجابِ حُرمتِه حيَّاً وميِّتاً ما لا يخفى ولذلكَ بالغَ تعالى في الوعيدِ حيثُ قال :(5/348)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
{ إِن تُبْدُواْ شَيْئاً } ممَّا لا خيرَ فيه كنكاحهنَّ على ألسنتِكم { أَوْ تُخْفُوهْ } في صدورِكم { فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً } فيجازيكم بما صدرَ عنكُم من المعاصِي الباديةِ والخافيةِ لا محالَة ، وفي هذا التعميمِ مع البُرهانِ على المقصودِ مزيدُ تهويلٍ وتشديدٍ ومبالغةٍ في الوعيدِ .
{ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءابَائِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إخوانهن وَلاَ أَبْنَاء إخوانهن وَلاَ أَبْنَاء أخواتهن } استئنافٌ لبيانِ مَن لا يجبُ الاحتجابُ عنهم رُوي أنَّه لمَّا نزلتْ آيةُ الحجابِ قالَ الآباءُ والأبناءُ والأقاربُ يا رسولَ الله أوَ نكلمهن أيضاً من وراءِ الحجابِ فنزلتْ وإنَّما لم يُذكر العمُّ والخالُ لأنَّهما بمنزلةِ الوالدينِ ولذلك سُمِّي العمُّ أباً في قولِه تعالى : { وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } أو لأنَّه اكتُفي عن ذكرِهما بذكرِ أبناءِ الإخوةِ وأبناءِ الأخواتِ ، فإنَّ مناطَ عدمِ لزومِ الاحتجابِ بينهنَّ وبينَ الفريقينِ عينُ ما بينهنَّ وبينَ العمِّ والخالِ من العمومةِ والخؤولةِ لما أنهنَّ عمَّاتٌ لأبناءِ الإخوةِ وخالاتٌ لأبناءِ الأخوات ، وقيل : لأنَّه كره تركَ الاحتجابِ منُهما مخافةَ أنْ يصِفاهنَّ لأبنائِهما { وَلاَ نِسَائِهِنَّ } أي نساءِ المُؤمناتِ { وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } من العبيدِ والإماءِ ، وقيلَ : من الإماءِ خاصَّة وقد مرَّ في سورةِ النُّورِ { واتقين الله } في كلِّ ما تأُتنّ وما تذرْنَ لا سيَّما فيما أُمرتُنَّ بهِ ونُهيتنَّ عنْهُ { إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَىْء شَهِيداً } لا تَخفى عليهِ خافيةٌ ولا تتفاوتُ في علمهِ الأحوالُ . { إِنَّ الله وملائكته } وقُرىء وملائكتُه بالرَّفعِ عطفاً على محلِّ إنَّ واسمِها عند الكوفيينَ وحملاً على حذفِ الخبرِ ثقةً بدلالةِ ما بعدَه عليهِ على رَأي البصريينَ . { يُصَلُّونَ عَلَى النبى } قيل : الصَّلاةُ من الله تعالى الرَّحمةُ ومن الملائكةِ الاستغفارُ . وقالَ ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنُهمَا : أرادَ أنَّ الله يرحمُه والملائكةَ يدعُون له . وعنْهُ أيضاً يصلُّون يبرِّكُون . وقالَ أبوُ العاليةِ : صلاةُ الله تعالى عليهِ ثناؤُه عليهِ عندَ الملائكةِ وصلاتُهم دعاؤُهم له فينبغي أنْ يُرادَ بها في يصلُّون معنى مجازيٌّ عامٌّ يكونُ كلُّ واحدٍ من المَعَاني المذكورةِ فَرْداً حقيقياً له أي يعتنون بما فيهِ خيرُه وصلاحُ أمرهِ ويهتمُّون بإظهارِ شرفِه وتعظيمِ شأنِه ، وذلكَ منَ الله سبحانَهُ بالرَّحمةِ ومن الملائكةِ بالدُّعاءِ والاستغفارِ .
{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ } اعتنُوا أنتُم أيضاً بذلكَ فإنَّكُم أولى بهِ . { وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً } قائلينَ اللهمُّ صلِّ على محمدٍ وسلِّم أو نحوَ ذلكَ ، وقيلَ : المرادُ بالتسليمِ انقيادُ أمرهِ . والآيةُ دليلٌ على وجوبِ الصَّلاةِ والسَّلامِ عليهِ مُطلقاً من غيرِ تعرضٍ لوجوبِ التَّكرارِ وعدمِه ، وقيل : يجبُ ذلكَ كلَّما جَرى ذكرُه لقولِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : « رغمَ أنفُ رجلٍ ذُكرتُ عندَهُ فلمْ يصلِّ عليَّ » وقولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « مَن ذُكرتُ عندَهُ فلم يصلِّ عليَّ فدخلَ النَّارَ فأبعدَهُ الله » .(5/349)
ويُروى أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ : « وكَّل الله تعالى بي ملكينِ فلا أُذكر عندَ مسلمٍ فيصلِّي عليَّ إلاَّ قالَ ذانِك الملكانِ : غفرَ الله لكَ ، وقالَ الله تعالى وملائكتُه جواباً لذينكَ الملكينِ : آمينَ ، ولا أُذكر عندَ مسلمٍ فلا يصلِّي عليَّ إلاَّ قال ذلكَ الملكانِ : لا غفرَ الله لكَ ، وقالَ الله تعالى وملائكتُه جواباً لذينكَ الملكينِ آمينَ » . ومنُهم مَن قالَ يجبُ في كلِّ مجلسٍ مرَّةً وإنْ تكررَ ذكُره عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كما قِيل في آيةٍ السَّجدةِ وتشميتِ العاطسِ وكذلك في كلِّ دعاءٍ في أوَّلهِ وآخرِه . ومنهُم مَن قال بالوجوبِ في العُمر مرَّةً وكذا قالَ في إظهارِ الشَّهادتينِ ، والذي يقتضيهِ الاحتياطُ ويتسدعيهِ معرفةُ عُلوِّ شأنِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يُصلَّى عليهِ كلَّما جَرَى ذكُره الرَّفيعُ . وأمَّا الصَّلاةُ عليهِ في الصَّلاةُ بأن يُقالَ : ( اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ كما صلَّيتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنَّك حميدٌ مجيدٌ ) فليستْ بشرطٍ في جوازِ الصَّلاةِ عندَنا . وعن إبراهيمَ النَّخعيَّ رحمَهُ الله أنَّ الصَّحابةَ كانُوا يكتفُون عن ذلكَ بما في التَّشهدِ وهو السَّلامُ عليكَ أيُّها النبيُّ . وأمَّا الشَّافعيُّ رحَمهُ الله فقد جعلَها شرطاً ، وأمَّا الصَّلاةُ على غيرِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ فتجوزُ تبعاً وتُكره استقلالاً لأنَّه في العُرفِ شعارُ ذكرِ الرُّسلِ ولذلكَ كُره أنْ يُقالَ محمدٌ عزَّ وجلَّ مع كونِه عزيزاً جليلاً .(5/350)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
{ إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ } أُريد بالإيذاء إمَّا فعلُ ما يكرهانِه من الكُفرِ والمعَاصي مجازاً لاستحالةِ حقيقةِ التَّأذِي في حقِّه تعالى ، وقيلَ : في إيذائِه تعالى هو قولُه اليَّهودِ والنَّصارَى والمُشركين يدُ الله مغلولةٌ وثالثُ ثَلاثَة والمسيحُ ابنُ الله والملائكةُ بناتُ الله والأصنامُ شُركاؤه ، تعالَى الله عن ذلكَ عُلواً كبيراً . وقيلَ قولُ الذينَ يُلحدون في آياتِه وفي إيذاءِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هو قولُهم شاعرٌ ساحرٌ كاهنٌ مجنونٌ وقيل هو كسرُ رَباعيتِه وشجُّ وجههِ الكريمِ يومَ أُحد وقيلَ : طعنُهم في نكاحِ صفيَّةَ ، والحقُّ هو العمومُ فيهما وأمَّا إيذاؤُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ خاصَّة بطريقِ الحقيقةِ وذكرُ الله عزَّ وجلَّ لتعظيمِه والإيذانِ بجلالةِ مقدارهِ عندَه تعالى وأنَّ إيذاءه عليه الصَّلاة والسَّلامُ إيذاءٌ له سبحانَه { لَّعَنَهُمُ الله } طردَهم وأبعدَهُم من رحمتِه { فِى الدنيا والاخرة } بحيثُ لا يكادُون ينالُون فيهما شَيئاً منها { وَأَعَدَّ لَهُمْ } معَ ذلكَ { عَذَاباً مُّهِيناً } يصيبهم في الآخرةِ خاصَّة . { والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات } يفعلونَ بهم ما يتأذون به من قولٍ أو فعلٍ . وتقييدُه بقولِه تعالى : { بِغَيْرِ مَا اكتسبوا } أي بغيرِ جنايةٍ يستحقُّون بها الأذيةَ بعد إطلاقِه فيما قبلَه للإيذانِ بأنَّ أذى الله ورسولِه لا يكونُ إلا غيرَ حقَ وأما أَذَى هؤلاءِ فَمنُه ومنه { فَقَدِ احتملوا بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً } أي ظَاهراً بيّناً قيل : إنَّها نزلتْ في مُنافقينَ كانُوا يؤُذون علياً رضيَ الله عنْهُ ويُسمعونَهُ ما لا خيرَ فيه ، وقيلَ : في أهلِ الإفكِ ، وقال الضحَّاكُ والكلبيُّ : في زُناةٍ يتَّبعونَ النِّساءَ إذَا برزنَ بالليَّلِ لقضاءِ حوائجهنَّ . وكانُوا لا يتعرَّضُون إلاَّ للإماءِ ولكنْ رُبَّما كانَ يقعُ منهم التَّعرُّضُ للحرائرِ أيضاً جَهْلاً أو تجاهُلاً لاتحادِ الكلِّ في الزيِّ واللِّباسِ . والظاهرُ عمومُه لكلِّ ما ذُكر ولمَا سيأتِي من أراجيفِ المُرجفينَ .(5/351)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)
{ ياأيها النبى } بعدَ ما بيَّن سوءَ حالِ المُؤذين زَجْراً لهم عن الإيذاءِ أمرَ النبيَّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بأنْ يأمرَ بعضَ المتأذِّين منهُم بما يدفعُ إيذاءَهم في الجُملةِ من السترِ والتميزِ عن مواقعِ الإيذاءِ فقيلَ : { قُل لأزواجك وبناتك وَنِسَاء المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن } الجلباب ثوبٌ أوسعُ من الخمارِ ودُونَ الرِّداء تلويهِ المرأةُ على رأسِها وتُبقي منه ما تُرسله على صدرِها وقيل : هي الملْحفةُ وكل ما يُتسترُ به ، أي يغطينَّ بها وجوههنَّ وأبدانهنَّ إذَا برزن لداعيةٍ من الدَّواعِي ، ومِنْ للتبعيضِ لما مرَّ منْ أنَّ المعهودَ التَّلفعُ ببعضِها وإرخاءُ بعضِها . وعن السُّدِّيِّ : تُغطيِّ إحدَى عينيها وجبهتَها والشقَّ الآخرَ إلا العينَ { ذلك } أي ما ذُكر من التَّغطِّي { أدنى } أقربُ { أَن يُعْرَفْنَ } ويُميزنَّ عن الإماءِ والقيناتِ اللاتِي هنَّ مواقعُ تعرُّضِهم وإيذائِهم { فَلاَ يُؤْذَيْنَ } من جهةِ أهلِ الرِّبيةِ بالتعرضِ لهنَّ { وَكَانَ الله غَفُوراً } لما سلفَ منهنَّ منَ التَّفريطِ { رَّحِيماً } بعبادِه حيثُ يُراعي من مصالحهم أمثالَ هاتيكَ الجُزئياتِ .
{ لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون } عمَّا هُم عليهِ من النِّفاقِ وأحكامِه الموجبةِ للإيذاءِ { والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } عمَّا هُم عليهِ من التزلزلِ وما يستتبعُه ممَّا لا خيرَ فيهِ { والمرجفون فِى المدينة } من الفريقينِ عمَّا هُم عليهِ من نشرِ أخبارِ السُّوءِ عن سَرَايا المُسلمينَ وغيرِ ذلكَ من الأراجيفِ الملَّفقةِ المُستتبعةِ للأذَّيةِ . وأصلُ الإرجافِ التَّحريكُ من الرَّجفةِ التي هي الزَّلزلةُ وُصفت به الأخبارُ الكاذبةُ لكونِها متزلزلةً غيرَ ثابتةٍ { لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } لنأمرنَّك بقتالِهم وإجلائِهم أو بما يضطرهم إلى الجلاءِ ولنحرضنَّك على ذلكَ { ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ } عطفٌ على جوابِ القسمِ وثمَّ للدَّلالةِ على أنَّ الجلأَ ومفارقةَ جوارِ الرَّسولِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أعظمُ ما يُصيبهم { فِيهَا } أي في المدينةِ { إِلاَّ قَلِيلاً } زَمَاناً أو جواراً قليلاً ريثما يتبينُ حالُهم من الانتهاءِ وعدمِه { مَّلْعُونِينَ } نُصب على الشَّتمِ أو الحالِ على أنَّ الاستثناءَ واردٌ عليهِ أيضاً على رَأْي مَن يجوزُه كما مرَّ في قولِه تعالى غيرَ ناظرينَ إناه ، ولا سبيلَ إلى انتصابِه عن قولِه تعالى : { أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً } لأنَّ ما بعد كلمةِ الشَّرطِ لا يعملُ فيما قبلَها .(5/352)
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67)
{ سُنَّةَ الله فِى الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } أي سنَّ الله ذلكَ في الأممِ الماضيةِ سُنَّةً وهي أنْ يُقتل الذي نافقُوا الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وسعَوا في توهينِ أمرِهم بالإرجافِ ونحوهِ أَينما ثُقفوا { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً } أصلاً لابتنائِها على أساسِ الحكمةِ التي عليها يدورُ فلكُ التَّشريع .
{ يَسْئَلُكَ الناس عَنِ الساعة } أي عن وقتِ قيامِها كانَ المُشركون يسألونَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عن ذلكَ استعجالاً بطريقِ الاستهزاءِ واليهودُ امتحاناً لما أنَّ الله تعالى عَمَّى وقتَها في التَّوراةِ وسائرِ الكتبِ . { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله } لا يُطلعُ عليهِ ملكاً مقرَّباً ولا نبَّياً مُرسلاً . وقولُه تعالى : { وَمَا يُدْرِيكَ } خطابٌ مستقلٌّ له عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ غيرُ داخلٍ تحتَ الأمرِ مسوقٌ لبيانِ أنَّها معَ كونِها غيرَ معلومةٍ للخلقِ مرجوَّة المجيءِ عن قريبٍ أيْ أيُّ شيءٍ يُعلمك بوقتِ قيامِها أي لا يُعلمك به شيءٌ أَصْلاً { لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً } أي شَيْئاً قَريباً أو تكونُ السَّاعةُ في وقتٍ قريبٍ . وانتصابُه على الظَّرفيَّةِ ويجوزُ أنْ يكونَ التَّذكيرُ باعتبارِ أنَّ السَّاعةَ في مَعنْى اليَّوم أو الوقتِ . وفيهِ تهديدٌ للمُستعجلينَ وتبكيتٌ للمتعنتينَ . والإظهارُ في حيِّزِ الإضمارِ للتَّويلِ وزيادةِ التَّقريرِ وتأكيدِ استقلالِ الجُملة كما أُشير إليهِ { إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين } على الإطلاقِ أي طردَهُم وأبعدَهُم من رحمتِه العاجلةِ والآجلةِ { وَأَعَدَّ لَهُمْ } مع ذلكَ { سَعِيراً } ناراً شديدةَ الاتقادِ يقاسُونها في الآخرةِ { خالدين فِيهَا أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً } يحفظُهم { وَلاَ نَصِيراً } يُخلِّصهم منها { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النار } ظرفٌ لعدمِ الوجدانِ ، وقيل : لخالدينَ ، وقيل : لنصيراً ، وقيل : مفعولٌ لاذكُر أي يومَ تُصرَّفُ وجوهُهم فيها من جهةٍ إلى جهةٍ كلحمٍ يُشوى في النَّارِ أو يُطبخُ في القِدرِ فيدورُ به الغليانُ من جهةٍ إلى جهةٍ أو من حالٍ إلى حالٍ أو يُطرحُون فيها مقلوبينَ منكوسين . وقُرىء تقلَّب بحذفِ إحدى التَّاءينِ من تتقلَّبُ ونُقلِّب بإسنادِ الفعلِ إلى نونِ العظمةِ . ونصْبِ وجوهِهم وتُقلِّب بإسنادِه إلى السَّعيرِ ، وتخصيصُ الوجوهِ بالذكرِ لِما أنَّها أكرمُ الأعضاءِ ففيهِ مزيدُ تفظيعٍ للأمرِ وتهويلٌ للخطبِ ، ويجوزُ أنْ تكونَ عبارةً عن كلِّ الجسدِ . فقولُه تعالى : { يَقُولُونَ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأَ من حكايةِ حالِهم الفظيعةِ كأنَّه قيل فماذا يصنعُون عندَ ذلكَ فقيلَ يقولُون مُتحسِّرين على ما فاتَهم . { ياليتنا أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا } فلا نُبتلى بهذا العذابِ ، أو حالٌ من ضميرِ وجوهُهم أو من نفسها أو هو العاملُ في يومَ { وَقَالُواْ } عطفٌ على يقولُون ، والعُدول إلى صيغةِ المَاضي للإشعارِ بأنَّ قولَهم هذا ليس مستمرَّاً كقولِهم السَّابقِ بل هو ضربُ اعتذارِ أرادُوا به ضرباً من التَّشفي بمضاعفةِ عذابِ الذين ألقَوهم في تلك الورطةِ وإنَّ علمُوا عدَم قبولِه في حقِّ خلاصِهم منها { رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا } يعنُون قادتَهم الذين لقَّنوهم الكفرَ . وقُرىء ساداتِنا للدِّلالةِ على الكثرة والتَّعبيرُ عنهم بعُنوانِ السِّيادة والكبر لتقوية الاعتذار وإلاَّ فهم في مقام التحقير والإهانة . { فَأَضَلُّونَا السبيلا } بما زيَّنوا لنا من الأباطيلِ ، والألفُ للإطلافِ كما في وأطعَنا الرَّسُولا .(5/353)
رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
{ رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب } أي مِثْلَي العذاب الذي آتيتناهُ لأنَّهم ضلُّوا وأضلُّوا { والعنهم لَعْناً كَبِيراً } أي شديداً عظيماً . وقُرىء كثيراً ، وتصديرُ الدُّعاءِ بالنِّداءِ مكرَّراً للمبالغةِ في الجؤارِ واستدعاءِ الإجابةِ .
{ كَبِيراً ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين ءاذَوْاْ موسى } قيل نزلتْ في شأنِ زيدٍ وزينبَ وما سُمع فيه من قالة النَّاسِ { فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ } أي فأظهرَ براءتَه عليه الصلاة السَّلامُ ممَّا قالُوا في حقِّه أي من مضمونِه ومؤدَاه الذي هُو الأمرُ المعيبُ ، وذلكَ أنَّ قارونَ أغرَى مومسةً على قذفِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بنفسِها بأنْ دفعَ إليها مالاً عظيماً فأظهرَ الله تعالى نزاهتَهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن ذلكَ بأنْ أقرتِ المومسةُ بالمُصانعةِ الجاريةِ بينها وبينَ قارونَ ، وفُعلَ بقارونَ ما فُعلَ كما فُصِّل في سُورةِ القصصِ ، وقيل أتَّهمه ناسٌ بقتلِ هارونَ عند خروجِه معه إلى الطُّورِ فماتَ هُناك فحملتْهُ الملائكةُ ومرُّوا به حتَّى رأَوه غيرَ مقتولٍ وقيل أحياهُ الله تعالى فأخبرَهم ببراءتِه وقيل : قذفُوه بعيبٍ في بدنِه من برصٍ أو أُدْرةٍ لفرطِ تسترِه حياءِّ فأطلعهم الله تعالى على براءتِه بأنْ فرَّ الحجرُ بثوبِه حينَ وضعَه عليه عند اغتسالِه والقصَّةُ مشهورةٌ { وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً } ذَا قُربةٍ ووجاهةٍ . وقُرىء وكانَ عبدُ اللَّهِ وجيهاً { ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله } أي في كلِّ ما تأتُون وما تذرُون لا سيَّما في ارتكابِ ما يكرُهه فضلاً عمَّا يُؤذى رسولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ { وَقُولُواْ } في كلِّ شأنٍ من الشُّؤونِ { قَوْلاً سَدِيداً } قاصِداً إلى الحقِّ من سَدَّ يَسِدُّ سَداداً يقال سَدَّدَ السَّهمَ نحوَ الرَّميةِ إذا لم يعدلْ به عن سمتِها والمرادُ نهيُهم عمَّا خاضُوا فيه من حديثِ زينبَ الجائرِ عن العدلِ والقصدِ { يُصْلِحْ لَكُمْ أعمالكم } يُوفقكم للأعمالِ الصَّالحةِ أو يُصلحها بالقَبُولِ والإثابةِ عليها { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } ويجعلُها مكفرةً باستقامتِكم في القولِ والعملِ . { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } في الأوامرِ والنَّواهِي التي مِن جُملتِها هذه التكليفاتُ { فَقَدْ فَازَ } في الدَّارينِ { فَوْزاً عَظِيماً } لا يُقادرُ قَدرُه ولا يُبلغ غايتُه .(5/354)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
{ إِنَّا عَرَضْنَا الامانة عَلَى السموات والارض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } لمَّا بيَّن عِظَم شأنِ طاعةِ الله ورسولِه ببيانِ مآلِ الخارجين عنْها من العذابِ الأليمِ ومنال المُراعين لها من الفوزِ العظيمِ عقَّب ذلكَ ببيانِ عظمِ شأنِ ما يُوجبها من التَّكاليفِ الشَّرعيةِ وصعوبة أمرِها بطريقِ التَّمثيلِ مع الإيذانِ بأنَّ ما صدرَ عنُهم من الطَّاعةِ وتركِها صدرَ عنُهم بعد القَبُولِ والالتزامِ ، وعبر عنها بالأمانةِ تنبيهاً على أنَّها حقوقٌ مرعيةٌ أودعَها الله تعالى المكلَّفين وائتمنَهم عليها وأوجبَ عليهم تلقِّيَها بحسنِ الطَّاعةِ والانقيادِ وأمرَهُم بمراعاتِها والمحافظةِ عليها وأدائِها من غيرِ إخلالٍ بشيءٍ من حقوقِها وعبرَّ عن اعتبارِها بالنسبةِ إلى استعدادِ ما ذُكر من السَّمواتِ وغيرِها بالعرضِ عليهنَّ لإظهارِ مزيدِ الاعتناءِ بأمرِها والرَّغبةِ في قبولهنَّ لها وعن عدمِ استعدادهنَّ لقبولِها بالإباءِ والإشفاقِ منها لتهويلِ أمرِها وتربيةِ فخامتِها وعن قبولِها بالحملِ لتحقيقِ معنى الصُّعوبة المُعتبرةِ فيها بجعلِها من قبيلٍ الأجسامِ الثَّقيلةِ التي يستعمل فيها القُوى الجسمانَّيةٌ التي أشدُّها وأعظمُها ما فيهنَّ من القُوَّةِ والشدَّةِ . والمَعنى أنَّ تلك الأمانةَ في عظمِ الشَّأنِ بحيثُ لو كُلِّفت هاتيكَ الأجرامُ العظامُ التي هي مَثَلٌ في القُوَّةِ والشِّدَّةِ مراعاتَها وكانتْ ذاتَ شُعورٍ وإدراكٍ لأَبيْن قبولَها وأشفقنَ منها ولكنْ صرفُ الكلامِ عن سَنَنِه بتصويرِ المفروضِ بصورةِ المحققِ رَوْماً لزيادةِ تحقيقِ المعنى المقصودِ بالتَّمثيلِ وتوضيحِه { وَحَمَلَهَا الإنسان } أي عند عرضِها عليه إمَّا باعتبارِها بالإضافةِ إلى استعدادِه أو بتكليفةِ إيَّاها يومَ الميثاقِ أي تكلّفها والتزمَها مع ما فيهِ من ضعفِ البنيةِ ورخاوةِ القُوَّةِ ، وهُو إمَّا عبارةٌ عن قبولِه لها بموجبِ استعدادِه الفطريِّ أو عن اعترافِه بقولِه بَلَى . وقولُه تعالى : { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } اعتراضٌ وسط بين الحملِ وغايتِه للإيذانِ من أولِ الأمرِ بعدمِ وفائِه بما عهدَهُ وتحملّه أي إنَّه كانَ مفرِطاً في الظُّلمِ مبالِغاً في الجهلِ أي بحسبِ غالبِ أفرادِه الذينَ لم يعملُوا بموجبِ فطرتِهم السَّليمةِ أو اعترافهم السَّابقِ دُونَ مَنْ عداهُم من الذينَ لم يبدلُوا فطرةَ الله تبديلاً وإلى الفريقِ الأولِ أُشير بقولِه عزَّ وجلَّ : { لّيُعَذّبَ الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } أي حملَها الإنسانُ ليعذبَ الله بعضَ أفرادِه الذينَ لم يُراعوها ولم يقابلُوها بالطَّاعةِ على أنَّ اللاَم للعاقبةِ فإنَّ التَّعذيبَ وإنْ لم يكُن غرضَاً له من الحملِ لكن لما ترتَّبَ عليهِ بالنسبةِ إلى بعضِ أفرادِه ترتُّبَ الأغراضِ على الأفعالِ المُعلَّلةِ بها أبرز في معرضِ الغرضِ أي كان عاقبةُ حملِ الإنسانِ لها أنْ يعذبَ الله تعالى هؤلاءِ من أفرادِه لخيانتِهم الأمانةَ وخروجِهم عن الطَّاعةِ بالكُلِّية وإلى الفريقِ الثَّاني أُشير بقولِه تعالى : { وَيَتُوبَ الله عَلَى المؤمنين والمؤمنات } أي كان عاقبةُ حملِه لها أنْ يتوبَ الله تعالى على هؤلاءِ من أفراده أي يقبلُ توبتَهم لعدمِ خلعِهم رِبقةَ الطَّاعةِ عن رقابِهم بالمرَّةِ وتلافيهم لما فَرَطَ منهم من فَرَطاتٍ قلَّما يخلُو عنها الإنسانُ بحكمِ جبلّتهِ وتداركهم لها بالتَّوبةِ والإنابةِ ، والالتفاتُ إلى الاسمِ الجليلِ أوَّلاً لتهويلِ الخطبِ وتربيةِ المهابةِ .(5/355)
والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ ثانياً لإبرازِ مزيدِ الاعتناءِ بأمرِ المُؤمنينَ توفيةً لكُلَ مِنْ مَقَامَي الوعيدِ والوعدِ حقَّه والله تعالى أعلمُ . وجعلُ الأمانةِ التي من شأنِها أنْ تكونَ من جهتِه تعالى عبارةً عن الطَّاعةِ التي هي من أفعالِ المكلَّفين التابعةِ للتَّكليفِ بمعزلٍ من التَّقريبِ ، وحملُ الكلامِ على تقريرِ الوعدِ الكريمِ الذي يُنبىء عنْهُ قولُه تعالى : { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } يجعلُ تعظيمَ شأنِ الطَّاعةِ ذريعةً إلى ذلكَ بأنَّ مَن قامَ بحقوقِ مثلِ هذا الأمرِ العظيمِ الشَّأنِ وراعَاها فهو جديرٌ بأنْ يفوزَ بخيرِ الدَّارينِ يأباه وصفه بالظَّلمِ والجهلِ أولاً وتعليلُ الحملِ بتعذيبِ فريقٍ والتَّوبةِ على فريقٍ ثانياً . وقيل : المرادُ بالأمانةِ مطلقُ الانقيادِ الشَّاملِ الطَّبيعيِّ والاختياريِّ وبعرضِها استدعاؤُها الذي يعمُّ طلبَ الفعلِ من المختارِ وإرادةَ صدورِه من غيرِه وبحملِها الخيانةُ فيها والامتناعُ عن ادائِها فيكونُ الإباءُ امتناعاً عن الخيانةِ وإتياناً بالمرادِ فالمَعنى أنَّ هذهِ الأجرامَ مع عِظَمِها وقُوَّتِها أبينَ الخيانةَ لأمانتِها وأتينَ بما أمرناهنَّ به كقولِه تعالى أتينا طائعين وخانَها الإنسانُ حيثُ لم يأتِ بما أمرنَاهُ به إنَّه كان ظلُوماً جهُولاً وقيل : إنَّه تعالى لمَّا خلقَ هذه الأجرامَ خلقَ فيها فهماً وقال لها إني فرضتُ فريضةً وخلقتُ جنَّةً لمن أطاعنِي فيها وناراً لمنْ عَصَاني فقلنَ نحنُ مسخرَّاتٌ لِما خلقتنا لا نحتملُ فريضةً ولا نبغي ثواباً ولا عقاباً ولمَّا خُلق آدمُ عليهِ السَّلامُ عُرض عليه مثلُ ذلك فحملَه وكانَ ظلُوماً لنفسِه بتحمُّلهِ ما يشقُّ عليها جَهُولاً بوخامةِ عاقبتِه ، وقيلَ المرادُ بالأمانةِ العقلُ أو التَّكليفُ وبعرضِها عليهنَّ اعتبارُها بالإضافةِ إلى استعدادهنَّ وبإبائهنَّ الإباءُ الطبيعيُّ الذي هو عدمُ اللياقةِ والاستعدادِ لها بحملِ الإنسانِ قابليَّتُه واستعدادُه لها وكونِه ظلوماً جَهولاً لما غلبَ عليه من القُوَّةِ الغضبيَّةِ والشهويَّةِ هذا قريبٌ من التَّحقيقِ فتأمَّل والله الموفقُ . وقُرىء ويتوبُ الله على الاستئنافِ { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } مُبالغاً في المغفرةِ والرَّحمةِ حيثُ تابَ عليهم وغفرَ لهمُ فرَطاتِهم وأثابَ بالفوزِ على طاعاتِهم ، قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : « مَن قرأَ سورةَ الأحزابِ وعلَّمها أهلَه وما ملكتْ يمينُه أُعطَي الأمانَ من عذابِ القبرِ » والله أعلمُ .(5/356)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
( سورة سبأ مكية وقيل إلا { ويرى الذينَ أُوتُوا الْعِلْم } الآية وهى أربع وخمسون آية
{ الحمد للَّهِ الذى لَهُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض } أي له تعالى خَلقاً ومُلكاً وتصرُّفاً بالإيجادِ والإعدامِ والإحياءِ والإماتةِ جميعُ ما وُجد فيهما داخلاً في حقيقتِهما أو خارجاً عنهما مُتمكِّناً فيهما فكأنَّه قيل : له جميعُ المخلوقاتِ كما مرَّ في آية الكُرسيِّ ، ووصفُه تعالى بذلك لتقرير ما أفاده تعليقُ الحمدِ المُعرَّف بلام الحقيقة بالاسم الجليلِ من اختصاصِ جميعِ أفراده به تعالى على ما بُيِّنَ في فاتحة الكتاب ببيان تفرُّدِه تعالى واستقلاله بما يُوجب ذلك وكونِ كلِّ ما سواه من الموجودات التي من جُملتها الإنسان تحت ملكوتِه تعالى ليس لها في حدِّ ذاتها اسحقاقُ الوجود فضلاً عمَّا عداه من صفاتها بل كلُّ ذلك نعمٌ فائضة عليها من جهته عزَّ وجلَّ فما هذا شأنُه فهو بمعزلٍ من استحقاقِ الحمد الذي مداره الجميل الصَّادرُ عن القادر باختيار فظهر اختصاصُ جميعِ أرادِه به تعالى . وقولُه تعالى : { وَلَهُ الحمد فِى الاخرة } بيانٌ لاختصاص الحمد الأُخرويِّ به تعالى إثرَ بيانِ اختصاص الدُّنيويِّ به على أنَّ الجارَّ متعلِّق إمَّا بنفس الحمد أو بما تعلَّق به الخبرُ من الاستقرارِ ، وإطلاقُه عن ذكرِ ما يُشعر بالمحمودِ عليه ليس للاكتفاءِ بذكر كونه في الآخرةِ عن التعيين كما اكتفي فيما سبق بذكر كون المحمود عليه في الدُّنيا عن ذكر كونِ الحمد أيضاً فيها بل ليعمَّ النِّعمَ الأُخرويَّةَ كما في قوله تعالى : { الحمد للَّهِ الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الارض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة } وقوله تعالى : { الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ } الآيةَ ، وما يكون ذريعةً إلى نيلِها من النِّعمِ الدُّنيويَّةِ كما في قوله تعالى : { الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا } أي لِما جزاؤه هذا من الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ ، والفرق بين الحمدينِ مع كون نعمتَيْ الدُّنيا والآخرةِ بطريق التَّفضلِ أنَّ الأوَّلَ على نهج العبادة والثَّانِي على وجه التَّلذذِ والاغتباطِ . وقد ورد في الخبرِ أنَّهم يُلهمون التَّسبيحَ كما يُلهمون النَّفسَ { وَهُوَ الحكيم } الذي أحكم أمورَ الدُّنيا ودبَّرها حسبما تقتضيه الحكمةُ { الخبير } ببواطن الأشياءِ ومكنوناتِها وقوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى الارض } الخ ، تفصيلٌ لبعض ما يحيط به علمُه من الأمور التي نِيطتْ بها مصالحهم الدُّنيويةُ والدِّينيةُ أي يعلم ما يدخل فيها من الغيثِ والكُنوزِ والدَّفائنِ والأموات ونحوها { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } كالحيوان والنبات وماء العيون ونحوها { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء } كالملائكةِ والكتبِ والمقاديرِ ونحوِها . وقُرىء وما نُنزِّل بالتَّشديدِ ونونِ العظمةِ { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } كالملائكةِ وأعمالِ العبادِ والأبخرةِ والأَدْخنةِ { وَهُوَ الرحيم } للحامدينَ على ما ذُكر من نِعَمِه { الغفور } للمفرِّطين في ذلك بلُطفِه وكرمِه .(5/357)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة } أرادوا بضمير المُتكلِّمِ جنسَ البشر قاطبةً لا أنفسَهم أو معاصريهم فقط كما أرادُوا بنفيِ إتيانها نفيَ وجودِها بالكُلِّيةِ لا عدمَ حضورِها مع تحقُّقها في نفس الأمر وإنما عبَّروا عنه بذلك لأنَّهم كانوا يُوعدون بإتيانها ولأنَّ وجود الأمور الزَّمانيةِ المُستقبلةِ لا سيَّما أجزاءُ الزَّمانِ لا يكون إلا بالإتيانِ والحضورِ ، وقيل : هو استبطاءٌ لإتيانها الموعودِ بطريق الهُزءِ والسُّخريةِ كقولهم : متى هذا الوعدُ { قُلْ بلى } ردٌّ لكلامِهم وإثباتٌ لِما نفَوه على معنى ليسَ الأمرُ إلاَّ إتيانَها . وقولُه تعالى : { وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ } تأكيدٌ له على أتمِّ الوجوهِ وأكملِها . وقُرىء ليأتينَّكم على تأويل السَّاعةِ باليَّومِ أو الوقتِ وقوله تعالى : { عالم الغيب } الخ ، إمداد للتَّأكيدِ وتسديدٌ له إثرَ تسديدٍ وكسر لسَورةِ نكيرِهم واستبعادهم فإنَّ تعقيب القسم بجلائل نُعوت المُقسَمِ بهِ على الإطلاق يُؤذنُ بفخامة شأنِ المُقْسَمِ عليه وقوَّةِ ثباته وصحَّتِه لما أنَّ ذلك في حكمِ الاستشهادِ على الأمرِ ولا ريب في أن المستشهدَ به كلَّما كان أجلَّ وأعلى كانتِ الشَّهادةُ آكدَ وأقوى والمستشهدُ عليه أحقَّ بالثُّبوتِ وأولى لا سيَّما إذا خُصَّ بالذِّكرِ من النُّعوتِ ما له تعلُّقٌ خاصٌّ بالمُقسَمِ عليه كما نحنُ فيهِ فإنَّ وصفَه بعلم الغيب الذي أشهرُ أفرادِه وأدخلُها في الخفاء هو المقسمُ عليهِ تنبيه لهم على علَّةِ الحكم وكونه ممَّا لا يحومُ حوله شائبةُ ريبٍ ما ، وفائدة الأمر بهذه المرتبة من اليمين أنْ لا يبقى للمعاندينَ عذرٌ ما أصلاً فإنَّهم كانوا يعرفون أمانتَه ونزاهتَه عن وصمةِ الكذب فضلاً عن اليمين الفاجرةِ وإنَّما لم يُصدِّقُوه مكابرةً . وقُرىء علاَّمُ الغيبِ وعالمُ الغيبِ وعالمُ الغُيوبِ بالرَّفعِ على المدحِ { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ } أي لا يبعدُ . وقُرىء بكسرِ الزَّايِ { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } مقدارُ أصغرِ نملةٍ { فِي السموات وَلاَ فِى الارض } أي كائنةٌ فيهما { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك } أي من مثقالِ ذرَّةٍ { وَلا أَكْبَرَ } أي منه . ورفعُهما على الابتداءِ والخبرُ قوله تعالى : { إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ } هو اللَّوحُ المحفوظُ . والجملةُ مؤكِّدةٌ لنفيِ العُزوبِ . وقُرىء ولا أصغرَ ولا أكبرَ بفتحِ الرَّاءِ على نفيِ الجنسِ ولا يجوزُ أن يُعطفَ المرفوعُ على مثقالُ ولا المفتوحُ على ذَرَّةٍ بأنَّه فتح في خبر الجرِّ لامتناع الصَّرفِ لما أنَّ الاستثناءَ يمنعه إلا أنْ يُجعلَ الضَّميرُ في عنه للغيب ويُجعلَ المثبتُ في اللَّوحِ خارجاً عنه لبروزه للمطالعينَ له فيكون المعنى لا ينفصلُ عن الغيب شيءٌ إلى مسطوراً في اللَّوحِ .
{ ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات } علَّةٌ لقوله تعالى : { لَتَأْتِيَنَّكُمْ } وبيان لما يقتضي إتيانها { أولئك } إشارةٌ إلى الموصولِ من حيثُ اتِّصافُه بما في حيِّزِ الصِّلةِ ، وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهم في الفضلِ والشَّرفِ أي أولئك الموصوفون بالصِّفاتِ الجليلةِ { لَهُمْ } بسبب ذلك { مَغْفِرَةٌ } لما فَرَطَ منهم من بعض فَرَطاتٍ قلَّما يخلُو عنها البشرُ { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } لا تعبَ فيه ولا منَّ عليه .(5/358)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)
{ والذين سَعَوْاْ فِى ءاياتنا } بالقدحِ فيها وصدِّ النَّاسِ عن التَّصديقِ بها { معاجزين } أي مسابقين كي يفوتونَا وقُرىء مُعجزين أي مُثبِّطينَ عن الإيمانِ مَن أراده { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ } الكلام فيه كالذي مرَّ آنِفاً ومِن في قوله تعالى : { مّن رّجْزٍ } للبيانِ قال قَتَادةُ رضي الله عنه : الرِّجزُ سوءُ العذابِ وقولُه تعالى : { أَلِيمٌ } بالرَّفعِ صفة عذاب أي أولئك السَّاعُون لهم عذابٌ من جنس سوء العذاب شديدُ الإيلامِ . وقُرىء أليمٍ بالجرِّ صفة لرجزٍ { وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم } أي يعلم أولُو العلمِ من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ومَن شايعهم من عُلماءِ الأمَّةِ أو مَن آمنَ من علماء أهلِ الكتابِ كعبدِ اللَّهِ بنِ سَلاَم وكعبٍ وأضرابِهما رضي الله عنهم { الذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ } أي القرآنَ { هُوَ الحق } بالنَّصبِ على أنَّه مفعول ثانٍ ليَرى ، والمفعولُ الأوَّلُ هو الموصول الثَّانِي . وهو ضميرُ الفصلِ . وقُرىء بالرَّفعِ على الابتداءِ والخبرِ ، والجملةُ هو المفعولُ الثَّاني ليَرى . وقولُه تعالى : { وَيَرَى } الخ ، مستأنفٌ مسوقٌ للاستشهادِ بأولي العلم على الجَهَلةِ السَّاعينَ في الآياتِ . وقيل : منصوبٌ عطفاً على يجزيَ أي وليعلمَ أولو العلم عند مجيءِ السَّاعةِ مُعاينةً أنَّه الحقُّ حسبما علمُوه الآنَ بُرهاناً ويحتجُّوا به على المكذِّبين . وقد جُوِّز أنْ يُرادَ بأولي العلم مَن لم يؤمنْ من الأحبار أي ليعلمُوا يومئذٍ أنَّه هو الحقُّ فيزدادوا حسرةً وغمًّا { وَيَهْدِى } عطف على الحقَّ عطف الفعل على الاسم لأنَّه في تأويله كما في قوله تعالى : { صافات وَيَقْبِضْنَ } أي وقابضاتٍ كأنَّه قيل : ويرى الذين أُوتوا العلم الذي أُنزل إليك الحقَّ وهادياً { إلى صِرَاطِ العزيز الحميد } الذي هو التَّوحيدُ والتَّدرعُ بلباس التَّقوى . وقيل : مستأنف وقيل : حالٌ من الذي أُنزل على إضمارِ مبتدأ أي وهو يهدي كما في قول من قال :
نجوت وأرهنهم مالكاً ... { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ } هم كفَّارُ قُريشٍ قالوا مخاطباً بعضُهم لبعضٍ : { هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ } يعنون به النَّبيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وإنَّما قصدُوا بالتَّنكيرِ الطَّنزَ والسُّخريةَ قاتلهم الله تعالى { يُنَبّئُكُمْ } أي يُحدِّثكم بعجبٍ عُجابٍ . وقُرىء ينبئكم من الإنباءِ { إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي إذا متُم ومُزِّقتْ أجسادُكم كلَّ تمزيقٍ وفُرِّقت كلَّ تفريقٍ بحيث صرتُم تُراباً ورُفاتاً { إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ } أي مستقرُّون فيه عدل إليه عن الجملة الفعليَّةِ الدَّالَّةِ على الحدوث مثل تبعثون أو تخلقون خلقاً جديداً للإشباعِ في الاستبعادِ والتَّعجيبِ وكذلك تقديم الظَّرفِ والعامل فيه ما دلَّ عليه المذكورُ لا نفسه لما أنَّ ما بعد إنَّ لا يعمل فيما قبلَها . وجديدٍ فعيلٌ بمعنى فاعلٍ من جَدَّ فهو جديدٌ وقلَّ فهو قليلٌ وقيل : بمعنى مفعولٍ من جدَّ النَّسَّاجُ الثوبَ إذا قطعه ثمَّ شاع .(5/359)
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
{ افترى عَلَى الله كَذِبًا } فيما قاله { أَم بِهِ جِنَّةٌ } أي جنونٌ يوهمه ذلك ويُلقيه على لسانِه . والاستدلالُ بهذا التَّرديدِ على أنَّ بين الصِّدقِ والكذب واسطةً هو ما لا يكون من الإخبار عن بصيرةٍ بين الفساد لظهور كون الافتراء أخصَّ من الكذبِ { بَلِ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة فِى العذاب والضلال البعيد } جوابٌ من جهة الله تعالى عن ترديدِهم الوارد على طريقةِ الاستفهامِ بالإضرابِ عن شقَّيهِ وإبطالِهما وإثباتِ قسمٍ ثالثٍ كاشفٍ عن حقيقةِ الحال ناعٍ عليهم سوءَ حالهم وابتلاءهم بما قالُوا في حقِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كأنَّه قيل : ليس الأمرُ كما زعمُوا بل هم في كمال اختلال العقل وغاية الضَّلالِ عن الفهم والإدراك الذي هو الجنون حقيقةً وفيما يؤدِّي إليه ذلك من العذابِ ولذلك يقولون ما يقولون . وتقديمُ العذاب على ما يُوجبه ويستتبعه للمسارعةِ إلى بيانِ ما يسوؤُهم ويفتُّ في أعضادِهم والإشعارِ بغاية سُرعة ترتُّبِه عليه كأنَّه يُسابقه فيسبقه . ووصفُ الضَّلالِ بالبُعد الذي هو وصف الضَّالِ للمبالغة . ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهم للتَّنبيهِ بما في حيِّزِ الصِّلةِ على أنَّ علَّةَ ما ارتكبُوه واجترؤا عليه من الشَّناعةِ الفظيعةِ كفرُهم بالآخرة وما فيها من فنون العقاب ، ولولاه لما فعلُوا ذلك خوفاً من غائلتِه وقوله تعالى { أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السماء والارض } استئنافٌ مسوق لتهويلِ ما اجترؤا عليه من تكذيبِ آياتِ الله تعالى واستعظامِ ما قالُوا في حقِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأنَّه من العظائمِ الموجبة لنزول أشدِّ العقاب وحلول أفظع العذاب من غير ريثٍ وتأخير . والفاءُ للعطفِ على مقدَّرٍ يقتضيه المقامُ وقوله تعالى { إِن نَّشَأْ } الخ ، بيانٌ لما يُنبىءُ عنه ذكرُ إحاطتِهما بهم من المحذورِ المتوقَّعِ من جهتهما وفيه تنبيهٌ على أنَّه لم يبقَ من أسباب وقوعِه إلا تعلُّقُ المشيئةِ به أي فعلُوا ما فعلُوا من المنكر الهائلِ المستتبع للعُقوبة فلم ينظروا إلى ما أحاطَ بهم من جميع جوانبهم بحيثُ لا مفرَّ لهم عنه ولا محيصَ إنْ نَشَأْ جرياً على موجب جناياتِهم { نَخْسِفْ بِهِمُ الارض } كما خسفناها بقارونَ { أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً } أي قِطعاً { مّنَ السماء } كما أسقطناها على أصحابِ الأَيْكةِ لاستيجابهم ذلك بما ارتكبُوه من الجرائم . وقيل : هو تذكيرٌ بما يُعاينونَهُ ممَّا يدلُّ على كمال قُدرتِه وما يحتمل فيه إزاحة لاستحالتِهم البعث حتى جعلُوه افتراء وهُزؤاً وتهديداً عليها ، والمعنى أعمُوا فلم ينظروا إلى ما أحاطَ بجوانبهم من السَّماءِ والأرضِ ولم يتفكَّروا أهمْ أشدُّ خلقاً أم هي وإنْ نَشَأْ نخسف بهم الأرض أو نُسقط عليهم كِسفاً لتكذيبِهم بالآياتِ بعد ظهورِ البيِّنات فتأمَّلْ وكن على الحقِّ المُبين . وقُرىء يَخسف ويَسقط بالياء لقوله تعالى : { افترى عَلَى الله } وكِسْفاً بسكون السِّينِ { إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي فيما ذُكر من السَّماء والأرضِ من حيث إحاطتُهما بالنَّاظرِ من جميع الجوانب أو فيما تُلي من الوحيِ النَّاطقِ بما ذُكر { لآيَةً } واضحةً { لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } شأنُه الإنابةُ إلى ربِّه فإنه إذا تأمَّلَ فيهما أو في الوحيِ المذكورِ ينزجرُ عن تعاطي القبائحِ وينيبُ إليه تعالى وفيه حثٌّ بليغٌ على التَّوبةِ والإنابة وقد أكدَّ ذلك بقولِه تعالى :(5/360)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً } أي آتيناه لحسن إنابتِه وصحَّةِ توبته فضلاً على سائر الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ أي نوعاً من الفضل وهو ما ذُكر بعد فإنَّه معجزةٌ خاصة به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أو على سائر النَّاسِ فيندرج فيه النُّبوةُ والكتاب والمُلك والصَّوتُ الحسن فتنكيره للتَّفخيمِ ومنَّا لتأكيدِ فخامتِه الذَّاتيةِ بفخامته الإضافيَّةِ كما في قوله تعالى : { وَآتَيْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا } وتقديمُه على المفعولِ الصَّريحِ للاهتمام بالمقدَّمِ والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ فإنَّ ما حقُّه التَّقديمُ إذا أُخِّرَ تبقى النَّفسُ مترقبةً له فإذا وردها يتمكَّن عندها فضلَ تمكُّنٍ { فَضْلاً ياجبال أَوّبِى مَعَهُ } من التَّأويبِ أي رجِّعي معه التَّسبيحَ أو النَّوحةَ على الذَّنبِ وذلك إمَّا بأنْ يخلقَ الله تعالى فيها صوتاً مثلَ صوتِه كما خلق الكلام في الشَّجرةِ أو بأنْ يتمثَّلَ له ذلك . وقُرىء أُوبي من الأَوْبِ أي ارْجِعي معه في التَّسبيحِ كلما رجعَ فيه وكان كلَّما سبَّح عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يُسمع من الجبال ما يُسمع من المسبِّحِ معجزةً له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيل : كان ينوحُ على ذنبه بترجيعٍ وتحزينٍ وكانتِ الجبالُ تُسْعِدُه على نَوحِه بأصدائها والطَّيرُ بأصواتِها . وهو بدل من آتينا بإضمار قلنا أو من فضلاً بإضمار قولنا { والطير } بالنَّصبِ عطفاً على فضلاً بمعنى وسخَّرنا له الطَّيرَ لأنَّ إيتاءَها إيَّاهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تسخيرها له فلا حاجة إلى إضمارِه كما نُقل عن الكِسائيِّ ولا إلى تقدير مضافٍ أي تسبيح الطَّيرِ كما نُقل عنه في رواية . وقيل : عطفاً على محلِّ الجبالِ وفيه من التَّكلُّفِ لفظاً ومعنى ما لا يخفى . وقُرىء بالرَّفعِ عطفاً على لفظها تشبيهاً للحركة البنائيَّةِ العارضة بالحركةِ الإعرابيَّةِ . وقد جُوِّزَ انتصابُه على أنَّه مفعول معه ، والأول هو الوجهُ . وفي تنزيل الجبال والطَّيرِ منزلةَ العُقلاءِ المُطيعين لأمره تعالى المُذعنينَ لحكمه المشعر بأنَّه ما من حيوانٍ وجمادٍ وصامتٍ وناطقٍ إلا وهو منقادٌ لمشيئته غير ممتنعٍ على إرادته من الفخامة المُعربةِ عن غاية عظمةِ شأنِه تعالى وكمال كبرياءِ سلطانِه ما لا يخفى على أولي الألباب .
{ وَأَلَنَّا لَهُ الحديد } أي جعلناه ليِّناً في نفسه كالشَّمعِ يُصرِّفه في يده كيف يشاءُ من غير إحماءٍ بنارٍ ولا ضربٍ بمطرقةٍ أو جعلناه بالنِّسبةِ إلى قوَّتِه التي آتيناها إيَّاهُ ليِّناً كالشَّمعِ بالنسبة إلى سائرِ القُوى البشريَّةِ { أَنِ اعمل } أمرناه أنِ اعمل على أنَّ «أنْ» مصدريةٌ حُذف عنها الباءُ وفي حملها على المفسِّرةِ تكلُّفٌ لا يخفى { سابغات } واسعاتٍ . وقُرىء صابغاتٍ وهي الدُّروعُ الواسعة الضَّافيةُ وهو عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أوَّلُ من اتَّخذها وكانت قبلُ صفائحَ قالوا : كان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حين ملكَ على بني إسرائيلَ يخرجُ مُتنكِّراً فيسألُ النَّاسَ : ما تقولون في داودَ؟ فيُثنون عليه فقيَّضَ الله تعالى له مَلَكاً في صورةِ آدميَ فسأله على عادتِه فقال : نِعْمَ الرَّجلُ لولا خَصلةٌ فيه ، فريع داودُ فسألَه عنها فقالَ : لولا أنَّه يُطعم عيالَه من بيتِ المالِ فعند ذلك سألَ ربَّه أنْ يُسبِّب له ما يستغني به عن بيتِ المال فعلَّمه تعالى صنعةَ الدُّروعِ وقيل : كان يبيعُ الدِّرعَ بأربعةِ آلافٍ فينفقُ منها على نفسِه وعيالِه ويتصدَّقُ على الفقراء { وَقَدّرْ فِى السرد } السَّردُ نسجُ الدُّروعِ أي اقتصد في نسجِها بحيث تتناسب حِلَقُها .(5/361)
وقيل : قدِّرْ في مساميرِها فلا تعملها دِقاقاً ولا غِلاظاً ، ورُدَّ بأنَّ دروعَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم تكُن مسمَّرة كما يُنبىء عنه إلانةُ الحديدِ . وقيل : معنى قَدِّرْ في السَّردِ لا تصرفْ جميعَ أوقاتِك إليه بل مقدارَ ما يحصلُ به القوتُ وأمَّا الباقي فاصرِفْه إلى العبادة وهو الأنسبُ بقوله تعالى : { واعملوا صالحا } عمَّم الخطابَ حسب عموم التَّكليفِ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ولأهلِه { إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } تعليلٌ للأمرِ أو لوجوبِ الامتثالِ به .(5/362)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
{ ولسليمان الريح } أي وسخَّرنا له الرِّيحَ . وقُرىء برفع الرِّيحِ أي ولسليمان الرِّيحُ مسخَّرةٌ ، وقُرىء الرِّياحَ { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } أي جريها بالغَداةِ مسيرةُ شهرٍ وجريها بالعَشيِّ كذلك . والجملةُ إما مستأنفةٌ أو حالٌ من الرِّيحِ . وقُرىء غُدوتُها ورَوحتُها . وعن الحسنِ رحمه الله : كان يغدُو أي من دمشقَ فيقيلُ باصطَّخَر ثمَّ يروح فيكون رَوَاحه بكابُلَ وقيل : كان يتغذَّى بالرَّيِّ ويتعشَّى بسمرقندَ . ويُحكى أنَّ بعضَهم رأى مكتوباً في منزلٍ بناحيةِ دِجْلَة كتبه بعضُ أصحابِ سليمانَ عليه السَّلامُ : نحنُ نزلنَاهُ وما بنيناهُ ومبنيًّا وجدناهُ غدونَا من اصطَّخَر فقلناهُ ونحن رائحون منه فبايتونَ بالشَّامِ إنْ شاءَ الله تعالى .
{ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر } أي النُّحاسَ المُذابَ أسالَه من معدنِه كما آلانَ الحديدَ لدَّاودَ عليهما السَّلامُ فنبع منه نبوعَ الماء من الينبوعِ ولذلك سُمِّي عيناً وكان ذلك باليمنِ وقيل : كان يسيلُ في الشَّهرِ ثلاثةَ أيَّامٍ . وقوله تعالى : { وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ } إمَّا جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ أو مَن يعملُ عطفٌ على الرِّيحَ ومن الجنِّ حالٌ متقدِّمةٌ { بِإِذْنِ رَبّهِ } بأمرِه تعالى كما يُنبىءُ عنه قولُه تعالى : { وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا } أي ومَن يعدلْ منهم عمَّا أمرناهُ به من طاعةِ سليمانَ . وقُرىء يُزغ على البناءِ للمفعولِ من أزاغَه { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير } أي عذابِ النَّارِ في الآخرةِ . رُوي عن السُّدِّيِّ رحمه الله كان معه مَلكٌ بيده سَوطٌ من نارٍ كلُّ منِ استعصى عليه ضربَه من حيثُ لا يراه الجنيُّ { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء } تفصيلٌ لما ذُكر من عملِهم وقوله تعالى : { مِن محاريب } الخ ، بيانٌ لمَا يشاءُ أي من قصورٍ حصينةٍ ومساكنَ شريفةٍ سُمِّيتْ بذلك لأنَّها يُذبُّ عنها ويُحاربُ عليها وقيل : هي المساجدُ { وتماثيل } وصور الملائكةِ والأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ على ما اعتادُوه فإنَّها كانتْ تعمل حينئذٍ في المساجدِ ليراها النَّاسُ ويعبدوا مثلَ عباداتِهم . وحرمةُ التَّصاويرِ شرعٌ جديدٌ . ورُوي أنَّهم عملوا أسدينِ في أسفل كرسِّيهِ ونِسرين فوقه فإذا أراد أن يصعدَ بسط الأسدانِ ذراعيهما وإذا قعدَ أضلَّه النَّسرانِ بأجنحتِهما { وَجِفَانٍ } جمع جَفْنةٍ وهي الصَّحفةُ { كالجواب } كالحياضِ الكبارِ جمع جابيةٍ من الجباية لاجتماعِ الماء فيها وهي من الصِّفاتِ الغالبةِ كالدَّابة . وقُرىء بإثبات الياءِ قيل كان يقعدُ على الجفنةِ ألفُ رجلٍ { وَقُدُورٍ رسيات } ثابتاتٍ على الأَثَافي لا تنزل عنها لعظمِها { اعملوا ءالَ * دَاوُودُ شاكرا } حكاية لما قيل لهم وشُكراً نصبٌ على أنَّه مفعولٌ له أو مصدرٌ لاعملُوا لأنَّ العمل للمنعمِ شكرٌ له أو لفعله المحذوفِ أي اشكرُوا شكراً أو حالٌ أي شاكرين أو مفعولٌ به أي اعملُوا شُكراً { وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور } أي المتوفِّرُ على أداءِ الشُّكرِ بقلبه ولسانِه وجوارحِه أكثر أوقاتِه ومع ذلك لا يوفِّي حقَّه لأنَّ التَّوفيقَ للشكرِ نعمةٍ تستدعِي شكراً آخرَ لا إلى نهايةٍ ولذلك قيل : الشَّكورُ من يرى عجزَه عن الشُّكرِ . ورُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ جزَّأَ ساعاتِ اللَّيلِ والنَّهارِ على أهله فلم تكنُ تأتِي ساعةٌ من السَّاعاتِ إلا وإنسانٌ من آلِ داودَ قائمٌ يُصلِّي .(5/363)
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت } أي على سليمانَ عليه السَّلامُ { مَا دَلَّهُمْ } أي الجنَّ أو آلَه { على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الاْرْضِ } أي الأَرَضةُ أضيفتْ إلى فعلها . وقُرىء بفتحِ الرَّاءِ ، وهو تأثُّرُ الخشبةِ من فعلِها ، يقالُ أَرَضتَ الأَرَضةُ الخشبةَ أرضاً فأرضتْ أرضْاً مثل أكلتِ القوادحُ أسنانَه أَكْلاً فأكلتْ أَكلاَ { تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } أي عصاهُ من نسأتُ البعيرَ إذا طردَته لأنَّها يُطرد بها ما يُطرد وقُرىء مِنُساتَه بألفٍ ساكنةٍ بدلاً من الهمزة وبهمزةِ ساكنةٍ وبإخراجها بينَ بينَ عند الوقفِ ومنساءتَه على مفعالةٍ كميضاءَةٍ في ميضأَةٍ ومن سأتِه من أي طرفِ عصاهُ من سأةِ القوسِ وفيه لغتانِ كما في قِحَةٍ بالكسرِ والفتحِ وقُرىء أكلتْ مِنْساتَهُ .
{ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن } من تبيَّنت الشيءَ إذا علمته بعد التباسه عليك أي علمت الجنّ علماً بيِّنا بعد التباسِ الأمر عليهم { أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ فِى العذاب المهين } أي أنَّهم لو كانوا يعلمون الغيبَ كما يزعمون لعلمُوا موتَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حينما وقع فلم يلبثُوا بعده حولاً في تسخيرِه إلى أن خرَّ أو من تبيَّن الشيءُ إذا ظهرَ وتجلَّي أي ظهرتِ الجنُّ وأنْ مع ما في حيِّزِها بدلُ اشتمالٍ من الجنُّ أي ظهر أنَّ الجنَّ لو كانوا يعلمون الغيبَ الخ وقُرىء تبيَّنت الجنُّ على البناءِ للمفعولِ على أنْ المتبيَّن في الحقيقة هو أن مع ما في حيِّزِها لأنه بدلٌ وقُرىء تبيَّنت الإنسُ والضَّميرُ في كانُوا للجنِّ في قوله تعالى : { وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ } وفي قراءةِ ابن مسعودٍ رضي الله عنه تبينتِ الأنسُ أنَّ الجنَّ لو كانوا يعلمون الغيب . رُوي أنَّ داودَ عليه السَّلامُ أسَّس بنيان بيت المقدس في موضعِ فُسطاطِ مُوسى فتوفِّي قبل تمامه فوصَّى به إلى سليمانَ عليهما السَّلامُ فاستعمل فيه الجنَّ والشَّياطينَ فباشروه حتىَّ إذا حانَ أجلُه وعلم به سألَ ربَّه أنْ يُعمِّي عليهم موتَه حتَّى يفرغُوا منه ولتبطلَ دعواهم علمَ الغيبِ فدعاهم فبنَوا عليه صَرحاً من قواريرَ ليس له بابٌ فقام يُصلِّي متكئاً على عصاهُ فقُبض روحُه وهو متكىءٌ عليها فبقي كذلك وهم فيما أُمروا به من الأعمالِ حتَّى أكلتِ الأَرَضةُ عصاهُ فخرَّ ميِّتاً وكانت السَّياطينُ تجتمعُ حول محرابِه أينما صلَّى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فلم يكن ينظر إليه شيطانٌ في صلاتِه إلاَّ احترقَ فمرَّ به يوماً شيطانٌ فنظر فإذا سليمانُ عليه السَّلامُ قد خرَّ ميتاً ففتحُوا عنه فإذا عصاهُ قد أكلتها الأرَضةُ فأرادوا أن يعرفُوا وقتَ موتِه فوضعُوا الأَرضةَ على العصا فأكلتْ منها في يومٍ وليلةٍ مقداراً فحسبُوا على ذلك فوجدُوه قد مات منذُ سنةٍ وكان عمرُه ثلاثاً وخمسين سنة ، ملك وهو ابن ثلاثَ عشرةَ سنة وبقي في ملكه أربعينَ سنةً وابتدأ بناءَ بيتِ المقدسِ لأربعٍ مضين من مُلكِه .(5/364)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ } بيان لإخبار بعض الكافرين بنعم الله تعالى إثرَ بيانِ أحوال الشَّاكرينَ لها أي لأولاد سبأِ بن يشجبَ بنِ يعربَ بنِ قحطان وقُرىء بمنع الصَّرفِ على أنه اسمُ القبيلةِ . وقُرىء بقلب الهمزةِ ألفاً ولعله إخراجٌ لها بينَ بينَ { فِى مَسْكَنِهِمْ } وقُرىء بكسرِ الكافِ كالمسجِدِ ، وقُرىء بلفظ الجمعِ أي مواضع سُكناهم وهي باليمنِ يقال لها مَأْرِبُ بينها وبين صنعاءَ مسيرةُ ثلاثِ ليالٍ { ءايَةً } دالَّة بملاحظه أحوالِها السَّابقةِ واللاَّحقةِ على وجود الصَّانعِ المُختار القادر على كلِّ ما يشاءُ من الأمور البديعة المُجازي للمحسنِ والمسيءِ معاضدةً للبرهان السَّابقِ كما في قصتي داودَ وسليمانَ عليهما السَّلامُ . { جَنَّتَانِ } بدل من آيةً أو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي هي جنتان وفيه معنى المدح ويُؤيِّدُه قراءةُ النَّصبِ على المدح والمرادُ بهما جماعتانِ من البساتين . { عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } جماعةٌ عن يمينِ بلدِهم وجماعةٌ عن شمالِه كلُّ واحدةٍ من تَيْنكَ الجماعتينِ في تقاربِهما وتضامِّهما كأنَّهما جنَّةٌ واحدةٌ أو بستاناً كلُّ رجلٍ منهم عن يمين مسكنِه وعن شمالِه { كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ واشكروا لَهُ } حكاية لما قيل لهم على لسان نبيِّهم تكميلاً للنِّعمةِ وتذكيراً لحقوقِها أو لما نطق به لسانُ الحالِ أو بيان لكونهم أحقَّاءَ بأنْ يقالَ لهم ذلك { بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } استئنافٌ مبيِّن لما يوجب الشُّكرَ المأمور به أي بلدتُكم بلدةٌ طيبةٌ وربُّكم الذي زرقكم ما فيها من الطَّيباتِ وطلب منكم الشُّكرَ ربٌّ غفورٌ لفرطات مَن يشكره . وقُرىء الكلُّ بالنَّصبِ على المدح قيل : كان أطيبَ البلاد هواء وأخصبها وكانتِ المرأةُ تخرج وعلى رأسها المِكْتلُ فتعمل بيديها وتسير فيما بين الأشجار فيمتلىءُ المِكْتَلُ مما يتساقطُ فيه من الثِّمارِ ولم يكن فيه من مؤذياتِ الهُوامِّ شيء { فَأَعْرِضُواْ } عن الشُّكر بعد إبانة الآيات الدَّاعيةِ لهم إليه قيل : أرسل الله إليهم ثلاثةَ عشرَ نبَّياً فدَعوهم إلى الله تعالى وذكَّروهم بنعمه وأنذروهم عقابه فكذَّبوهم .
{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم } أي سيلَ الأمر العرم أي الصَّعبِ من عَرِمَ الرَّجلُ فهو عارمٌ وعَرِمٌ إذا شرس خلقُه وصعب أو المطر الشَّديدُ وقيل : العرم جمعُ عُرمةٍ وهي الحجارة المركومة وقيل : هو السكر الذي يحبس الماء وقيل : هو اسمٌ للبناءِ يُجعلُ سدَّاً وقيل هو البناء الرَّصينُ الذي بنته الملكةُ بلقيسُ بين الجبلينِ بالصَّخرِ والقارِ وحقنت به ماء العُيون والأمطاء وتركت فيه خُرُوقاً على ما يحتاجون إليه في سقيهم . وقيل العرمُ الجُرَذُ الذي نَقَبَ عليهم ذلك السدَّ وهو الفأرُ الأعمى الذي يقال له الخُلْدُ سلَّطه الله تعالى على سدِّهم فنقَبه فغرَّق بلادَهم ، وقيل : العَرِمُ اسم الوادي . وقُرىء العَرْم بسكون الرَّاءِ قالوا كان ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى والنَّبيِّ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ { وبدلناهم بجناتهم } أي أذهبنا جنَّتيهم وآتيناهم بدلهما { جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ } أي ثمرٍ بشعٍ فإنَّ الخَمْطَ كل نبت أخذ طعماً من مرارة حتَّى لا يمكن أكلُه وقيل : هو الحامضُ والمرُّ من كلِّ شيء .(5/365)
وقيل : هو ثمرةُ شجرةٍ يقال لها فَسْوةُ الضبع على صورة الخَشْخَاشِ لا يُنتفع بها . وقيل هو الأَرَاكُ أو كلُّ شجرٍ ذي شوكٍ . والتَّقديرُ أُكُلٍ أُكُلِ خمطٍ فخُذف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مقامَه . وقُرىء أُكْلِ خمطٍ بالإضافة بتخفيفِ أكل . { وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } معطوفان على أُكلٍ لا على خَمْطٍ فإن الأَثْلَ هو الطَّرفاءُ وقيل شجرٌ يُشبهه أعظم منه لا ثمرَ له وقُرىء وأَثْلاً وشيئاً عطفاً على جنَّتين . قيل : وصف السِّدْرُ بالقلَّةِ لما أنَّ جناهُ وهو النَّبقُ مَّما يطيبُ أكلُه ولذلك يغرس في البساتينِ والصَّحيح أنَّ السِّدْرِ صنفانِ صنفٌ يُؤكلُ من ثمره ويُنتفع بورقه لغسلِ اليد وصنف له ثمرة عَفْصةٌ لا تُؤكل أصلاً ولا يُنتفع بورقهِ وهو الضَّالُ والمرادُ ههنا هو الثَّاني حتماً . وقال قَتادةُ : كان شجرُهم خيرَ الشَّجرِ فصيَّرُه الله تعالى من شرِّ الشَّجرِ بأعمالِهم . وتسميةُ البدلِ جنَّتين للمشاكلةِ والتَّهكُّمِ .(5/366)
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)
{ ذلك } إشارة إلى مصدر قوله تعالى : { جزيناهم } أو إلى ما ذُكر من التَّبديلِ . وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ ببُعد رُتبتهِ في الفظاعة . ومحلُّه على الأوَّلِ النَّصبُ على أنَّه مصدرٌ مؤكدِّ للفعل المذكور وعلى الثَّاني النَّصبُ على أنَّه مفعولٌ ثانٍ له أي ذلك الجزاءَ الفظيعَ جزيناهم لا جزاءً آخرَ أو ذلك التَّبديلَ جزيناهم لا غيرَه { بِمَا كَفَرُواْ } بسبب كفرانهم النِّعمة حيثُ نزعناها منهم ووضعنا مكانها ضدَّها أو بسبب كفرهم بالرُّسلِ { وَهَلْ نُجَازِى إِلاَّ الكفور } أي وما نُجازي هذا الجزاءَ إلا المُبالغَ في الكُفرانِ أو الكفر . وقُرىء يُجازِي على البناء للفاعل وهو الله عزَّ وجلَّ . وهل يُجازَى على البناء للمفعول ورفعِ الكفورَ ، وهل يُجزى على البناء للمفعولِ أيضاً . وهذا بيانُ ما أُوتوا من النَّعم الحاضرة في مساكنهم وما فعَلُوا بها من الكُفرانِ وما فُعلَ بهم من الجزاء . وقوله تعالى { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التى بَارَكْنَا فِيهَا } حكاية لما أُوتوا من النَّعمِ البادية في مسايرهم ومتاجرهم وما فَعلُوا بها من الكُفرانِ وما حاق به بسبب ذلك تكملةً لقصتهم وبياناً لعاقبتهم وإنما لم يذكر الكلَّ معاً لما في التَّثنيةِ والتَّكريرِ من زيادة تنبيه وتذكير وهو عطف على كان لسبأٍ لا على ما بعده من الجمل النِّاطقةِ بأفعالهم أو بأجزيتها أي وجعلنا مع ما آتيناهم في مساكنهم من فُنون النِّعمِ بينهم أي بين بلادهم وبين القُرى الشَّاميةِ التي باركنا فيها للعالمين { قُرًى ظاهرة } متواصلة يُرى بعضُها من بعضٍ لتقاربها فهي ظاهرة لأعينُ أهلها أو راكبة متنَ الطريق ظاهرة للسَّابلةِ غير بعيدة عن مسالكهم حتَّى تخفى عليهم { وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير } أي جعلناها في نسبة بعضها إلى بعضٍ على مقدار معيَّنٍ يليقُ بحال أبناء السَّبيلِ قيل : كان الغادي من قرية يقيلُ في أخرى والرَّائحُ منها يبيت في أُخرى إلى أنْ يبلغً الشَّامَ . كلُّ ذلك كان تكميلاً لما أُوتوا من أنواع النَّعماءِ وتوفيراً لها في الحضر والسَّفرِ { سِيرُواْ فِيهَا } على إرادة القول أي وقُلنا لهم سيروا في تلك القُرى { لَيَالِىَ وَأَيَّاماً } أي متى شئتُم من الليالي والأيَّامِ { ءامِنِينَ } من كلِّ ما تكرهونه لا يختلف الأمنُ فيها باختلاف الأوقاتِ أو سيروا فيها آمنينَ وإن تطاولتْ مُدَّةُ سفرِكم وامتدتْ لياليَ وأيَّاماً كثيرة أو سيروا فيها لياليَ أعمارِكم وأيَّامَها لا تلقَون فيها إلا الأمنَ ، لكن لا على الحقيقة بل على تنزيل تمكينهم من السَّيرِ المذكور وتسوية مباديه وأسبابه على الوجه المذكور منزلة أمرهم بذلك .(5/367)
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
{ فَقَالُواْ رَبَّنَا باعد بَيْنَ أَسْفَارِنَا } وقُرىء يا ربَّنا . بطروا النِّعمةَ وسئِمُوا أطيبَ العيشِ وملُّوا العافية فطلبوا الكدَّ والتَّعبَ كما طلب بنو إسرائيلَ الثوم والبصل مكان المنِّ والسَّلوى وقالوا لو كان جنَى جنّاتِنا أبعدَ لكان أجدرَ أن نشتهيَه وسألوا أنْ يجعل الله تعالى بينهم وبين الشأمِ مفاوزَ وقفاراً ليركبُوا فيها الرَّواحل ويتزوَّدوا الأزواد ويتطاولُوا فيها على الفقراء فعجَّل الله تعالى لهم الإجابةَ بتخريب تلك القُرى المتوسطة وجعلها بَلْقَعاً لا يُسمع فيها داعٍ ولا مجيبٌ . وقرىء ربنا بعِّدْ بين أسفارنا وبعُدَ بينُ أسفارنا على النداء وإسناد الفعل إلى بين ورفعه به ، كما يقال سير فرسخان وبُوعد بين أسفارِنا وقرىء ربنا باعد بين أسفارنا وبين سفرِنا وبعَّد برفع ربنا على الابتداء والمعنى على خلاف الأول وهو استبعادُ مسايرهم مع قِصرها أو دنوِّها وسهولة سلوكها لفرطِ تنعُّمهم وغاية ترفههم وعدم اعتدادهم بنعم الله تعالى كأنَّهم يتشاجَون على الله تعالى ويتحازنون عليه { وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } حيث عرَّضُوها للسَّخطِ والعذاب حين بطروا النِّعمةَ أو غمطُوها { فجعلناهم أَحَادِيثَ } أي جلعناهم بحيث يتحدثُ النَّاسُ بهم متعجِّبين من أحوالَهم ومعتبرين بعاقبتهم ومآلِهم { ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي فرَّقناهم كلَّ تفريقٍ على أنَّ المُمزَّقَ مصدرٌ ، أو كلَّ مطرحِ ومكانِ تفريقٍ ، على أنه اسم مكان ، وفي عبارة التَّمزيقِ الخاص بتفريق المتَّصل وخرقه من تهويل الأمرِ والدِّلالةِ على شدَّةِ التَّأثيرِ والإيلامِ ما لا يخفى أي مزَّقناهم تمزيقاً لا غاية وراءه بحيث يُضرب به الأمثال في كلِّ فُرقة ليس بعدها وصالٌ حتى لحق غسَّانُ بالشَّأمِ وأنمارٌ بيثربَ وجُذامُ بتهامةَ والأزدُ بُعمانَ . وأصلُ قصَّتهم على ما رواه الكلبيُّ عن أبي صالحٍ أنَّ عمروَ بن عامرِ من أولاد سبأٍ وبينهما اثنا عشر أباً وهو الذي يُقال له مُزَيْقِيا بنُ ماءِ السَّماءِ أَخبرتْهُ طريفةُ الكاهنةُ بخراب سدِّ مأربَ وتفريق سيل العرم الجنَّتين . وعن أبي زيد الأنصاريِّ أنَّ عَمراً رأى جُرَذاً يحفرُ السَّدَّ فعلم أنَّه لا بقاءَ له بعدُ ، وقيل : إنَّه كان كاهناً وقد عَلمه بكهانتِه فباع أملاكَه وسار بقومه وهم ألوفٌ من بلد إلى بلد حتى انتهى إلى مكَّة المعظَّمة وأهلها جُرهمٌ وكانوا قهروا النَّاسَ وحازوا ولايةَ البيت على بني إسماعيلَ عليه السَّلامُ وغيرهم فأرسل إليهم ثعلبةَ بن عمرو بن عامر يسألُهم المقام معهم إلى أنْ يرجع إليه رُوَّادُه الذين أرسلهم إلى أصقاع البلاد يطلبون له موضعاً يسَعه ومَن معه من قومه فأبَوا فاقتتلُوا ثلاثةَ أيَّامٍ فانهزمت جُرهمٌ ولم يفلت منهم إلا الشَّريدُ وأقام ثعلبةُ بمكَّةَ وما حولها في قومِه وعساكرِه حولاً فأصابْتُهم الحُمَّى فاضطرُوا إلى الخروج وقد رجع إليه رُوَّادُه فافترقوا فرقتينُ فرقةٌ توجَّهت نحو عُمانَ وهم الأُزد وكندة وحِمْيرُ ومَن يتلوهم وسار ثعلبةُ نحو الشَّامِ فنزل الأوسُ والخزرجُ ابنا حارثةَ بنِ ثعلبةَ بالمدينةِ وهم الأنصارُ ومضت غسَّانُ فنزلوا بالشَّأمِ وانخزعتْ خزاعة بمكَّةَ فأقام بها ربيعةُ بن حارثةَ بنِ عمروِ بنِ عامرٍ وهو لحيُّ فولِي أمرَ مكَّةَ وحجابةَ البيتِ ثم جاءهم أولادُ إسماعيل عليه السَّلامُ فسألوهم السُّكنى معهم وحولهم فأذِنُوا لهم في ذلك .(5/368)
ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ فروةَ بن مُسيكٍ الغطيفي سأل النبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام عن سبأٍ فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هو رجلٌ كان له عشرةُ أولاد ستَّةٌ منهم سكنُوا اليمنَ وهم مَذْحِجُ وكِنْدةُ والأَزدُ والأشعريُّون وحِمْيَرُ وأَنمارٌ منهم بَجِيلةُ وخَثْعَمُ وأربعةٌ منهم سكنُوا الشّأَمَ وهم لَخْمٌ وجُذَامٌ وعَامِلةُ وغَسَّانُ لما هلكتْ أموالُهم وخربتْ بلادُهم تفرَّقُوا أَيْدِي سَباً شَذَرَ مَذَرَ فنزلتْ طوائفُ منهم بالحجاز فمنهم خُزَاعةُ نزلزوا بظاهر مكَّةَ ونزلتِ الأوسُ والخزرجُ بيثربَ فكانوا أوَّلَ مَن سكنها ثم نزل عندهم ثلاثُ قبائلَ من اليهَّودِ بنُو قَينُقاعَ وبنُو قُريظَة والنَّضيرِ فحالفوا الأوسَ والخزرجَ وأقاموا عندهم ونزلتْ طوائفُ أُخر منهم بالشأمِ وهم الذين تنصَّروا فيما بعد وهم غسَّانُ وعَاملةُ ولَخْمٌ وجُذَامٌ وتَنْوخُ وتَغْلِبُ وغيرُهم ، وسَبَأٌ تجمعُ هذه القبائلَ كلَّها والجمهورُ على أنَّ جميعَ العرب قسمانِ قحطانيّةُ ، وعدنانيَّةُ ، والقحطانيَّةُ شعبانِ سبأٌ وحَضْرمَوْتَ والعدنانَّيةُ شعبانِ رَبيعةُ ومُضَرُ وأما قُضَاعةُ فمختلفٌ فيها فبعضهم ينسبونَها إلى قَحْطانَ وبعضُهم إلى عدنانَ والله تعالى أعلم .
{ إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي فيما ذُكر من قصَّتهم { لآيَاتٍ } عظيمةً { لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي شأنه الصَّبرُ عن الشَّهواتِ ودواعي الهَوَى وعلى مشاقِّ الطَّاعاتِ والشُّكرُ على النِّعمِ . وتخصيصُ هؤلاء بذلك لأنهم المُنتفعون بها .(5/369)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
{ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } أي حقَّق عليهم ظنَّه أو وجده صادقاً . وقُرىء بالتَّخفيف أي صدَق في ظنِّه أو صدَقَ بظنَ ظنُّه ويجوز تعدية الفعل إليه بنفسه لأنَّه نوع من القول وقُرىء بنصب إبليسَ ورفعِ الظَّنِّ مع التَّشديدِ بمعنى وجدَه ظنُّه صادقاً ومع التَّخفيف بمعنى قال له الصِّدقُ حين خيَّل له إغواءَهم وبرفعهما والتحفيف على الإبدال . وذلك إما ظنّه بسيأ حين رأى انهماكهم في الشَّهواتِ أو ببني آدمَ حين شاهدَ آدمَ عليه السَّلامُ قد أصغى إلى وسوسته قال إنَّ ذُريَّتَه أضعفُ منه عزماً وقيل ظنَّ ذلك عند إخبار الله تعالى الملائكةَ أنَّه يجعلُ فيها مَن يفسد فيهاويسفكُ الدِّماءَ وقال لأضلنَّهم ولأغوينَّهم { فاتبعوه } أي أهلُ سبأٍ أو النَّاسُ { إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين } إلا فريقاً هم المؤمنون لم يتَّبعوه على أنَّ مِن بيانيةٌ . وتقليلُهم بالإضافة إلى الكُفَّارِ أو إلا فريقاً من فِرقِ المؤمنين لم يتَّبعوه وهم المُخلَصون { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سلطان } أي تسلُّطٌ واستيلاءٌ بالوسوسةِ والاستغواءِ وقولُه تعالى { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالاخرة مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكّ } استثناء مفرَّغٌ من أعمِّ العللِ ومَن موصولةٌ أي وما كان تسلُّطُه عليهم إلا ليتعلَّقَ علمُنا بمَنْ يُؤمن بالآخرةِ متميِّزاً ممَّن هو في شكَ منها تعلُّقاً حالياً يترتَّب عليه الجزاءُ أو إلا ليتمَّيزَ المؤمنُ من الشَّاكِّ أو إلا ليؤمنَ من قُدِّر إيمانُه ويشكُّ من قُدِّر ضلالُه والمراد من حصول العلم حصول متعلَّقه مبالغةً { وَرَبُّكَ عَلَى كُلّ شَىْء حَفُيظٌ } أي محافظ عليه فإنَّ فَعيلاً ومُفاعِلاً صيغتانِ متآخيتانِ .(5/370)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
{ قُلْ } أي للمشركين إظهاراً لبُطلان ما هُم عليه وتَبكيتاً لهم { ادعوا الذين زَعَمْتُمْ } أي عمتمُوهم آلهةً وهما مفعولا زعمَ ثم حُذف الأوَّلُ تخفيفاً لطول الموصول بصلتِه والثَّاني لقيام صفتِه أعني قوله تعالى { مِن دُونِ الله } مقامه ولا سبيل إلى جعله مفعولاً ثانياً لأنَّه لا يلتئمُ مع الضَّميرِ كلاماً وكذا لا يملكُون لأنَّهم لا يزعمونه والمعنى ادعوهم فيما يهمُّكم من جَلْبِ نفعٍ أو دفعِ ضُرَ لعلَّهم يستجيبون لكُم إنْ صح دعواكم ثم أجاب عنهم إشعاراً بتعيُّن الجوابِ وأنَّه لا يقبلُ المكابرةَ فقال { لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ } من خير وشرَ ونفع وضرَ { فِي السموات وَلاَ فِى الارض } أي في أمرٍ ما من الأمور . وذكرُهما للتَّعميمِ عُرفاً ، أو لأنَّ آلهتَهم بعضُها سماويةٌ كالملائكةِ والكواكبِ وبعضُها أرضية كالأصنامِ أو لأنَّ الأسباب القريبة للخيرِ والشرِّ سماويةٌ وأرضيةٌ والجملة استئنافٌ لبيانِ حالِهم . { وَمَا لَهُمْ } أي لآلهتِهم { فِيهِمَا مِن شِرْكٍ } أي شَركةٍ لا خلقاً ولا مُلكاً ولا تصرُّفاً { وَمَا لَهُ } أي لله تعالى { مِنْهُمْ } من آلهتِهم { مّن ظَهِيرٍ } يُعينه في تدبير أمرِهما .
{ وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ } أي لا توُجد رأساً كما في قوله :
وَلاَ تَرَى الضَّبَّ بها ينجحِرُ ... لقوله تعالى : { مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } وإنَّما علَّق النَّفيَ بنفعها لا بوقوعِها تصريحاً بنفي ما هو غرضُهم من وقوعها وقوله تعالى { إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } استئناءٌ مفرَّعٌ من أعمِّ الأحوال أي لا تقع الشَّفاعةُ في حال من الأحوالِ إلا كائنةً لمن أذنَ له في الشَّفاعةِ من النبيِّين والملائكةِ ونحوِهم من المستأهلين لمقام الشَّفاعةِ فتبيَّن حرمانُ الكَفرَة منها بالكُلِّية ، أما من جهةِ أصنامِهم فلظهور انتفاء الإذن لها ضرورةَ استحالةِ الإذنِ في الشفاعة لجمادٍ لا يعقلُ ولا ينطق وأمَّا من جهةِ مَن يعبدونَهُ من الملائكةِ فلأنَّ إذنَهم مقصورٌ على الشَّفاعةِ للمستحقِّين لها لقوله تعالى : { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً } ومن البيِّن أنَّ الشَّفاعةَ للكفرةِ بمعزل من الصَّوابِ أو لا تنفع الشَّفاعةُ من الشُّفعاءِ المستأهلين لها في حالً من الأحوال إلا كائنةً لمن إذِن له أي لأجلهِ وفي شأنِه من المستحقِّين للشَّفَّاعة وأمَّا مَن عداهم من غيرِ المستحقِّين لها فلا تنفعُهم أصلاً وإنْ فُرض وقوعُها وصدورُها عن الشُّفعاءِ إذ لم يؤذَن لهم في شفاعتهم بل شفاعة غيرِهم ، فعلى هذا يثبتُ حرمانُهم من شفاعة هؤلاء بعبارة النَّصِّ ومن شفاعة الأصنام بدلالته إذ حيثُ حُرموها من جهةِ القادرين على شفاعة بعض المحتاحين إليها فلأنْ يُحرموها من جهة العَجَزةِ عنها أولى . وقُرىء أُذِنَ له مبنيّاً للمفعولِ .
{ حتى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } أي قلوب الشُّفعاءِ والمشفوعِ لهم من المؤمنين وأمَّا الكَفَرةُ فهم من موقف الاستشفاع بمعزلٍ وعن التَّفزيعِ عن قلوبهم بألفِ منزلٍ والتفزيع إزالةُ الفزعِ ثمَّ ترك ذكر الفزع وأسند الفعل إلى الجارِّ والجرور وحتَّى غاية لما ينبىء عنه ما قبلها من الإشعار بوقوع الإذنِ لمن أذن له فإنَّه مسبوق بالاستئذان المستدعِي للتَّرقبِ والانتظارِ للجواب كأنَّه سُئل كيف يُؤذن لهم فقيل يتربَّصون في موقف الاستئذانِ والاستدعاءِ ويتوقَّفون على وَجَلٍ وفَزَعٍ مليّاً حتَّى إذا أُزيلَ الفزعُ عن قلوبهم بعد اللَّتيا والَّتي وظهرتْ لهم تباشيرُ الإجابةِ { قَالُواْ } أي المشفوعُ لهم إذْ هم المحتاجون إلى الإذنِ والمهتمُّون بأمره { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ } أي في شأنِ الإذنِ { قَالُواْ } أي الشُّفعاءُ لأنَّهم المُباشرون للاستئذان بالذَّاتِ المتوسِّطُون بينهم وبينه عزَّ وجلَّ بالشَّفاعةِ { الحق } أي قال ربُّنا القول الحقَّ وهو الإذن في الشفاعةِ للمستحقَّين لها وقُرىء الحقُّ مرفوعاً أي ما قاله الحقُّ { وَهُوَ العلى الكبير } من تمام كلام الشُّفعاء قالوه اعترافاً بغاية عظمة جناب العزَّةِ عزَّ وجلَّ وقصور شأنِ كلِّ مَن سواه أي هو المتفرِّدُ بالعلوِّ والكبرياءِ ليس لأحدٍ من أشراف الخلائقِ أنْ يتكلَّم إلا بإذنه .(5/371)
وقُرىء فُزع مخفَّفاً بمعنى فزع وقرىء فَزِع على البناء للفاعل وهو الله وحدَه وقرىء فَرغَ بالراء المهلمة والغين المعجمة أي نفي الوجلٍ عنها وأفنى ، من فرغَ الزَّادُ إذا لم يبقَ منه شيءٌ وهو من الإسنادِ المجازيِّ لأنَّ الفراغَ وهو الخلوُّ حال ظرفه عند نفادِه فأُسند إليه على عكسِ قولِهم جَرَى النَّهر وعن الحسن تخفيفُ الرَّاءِ وأصله فَرغ الوجلُ عنها أي انتفى عنها وفني ثم حُذف وأُسند إلى الجارِّ والمجرور وبه يُعرف حال التَّفريغِ . وقُرىء ارتفعَ عن قلوبِهم بمعنى انكشفَ عنها .(5/372)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السموات والارض } أمرَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بتبكيتِ المشركين بحملهم على الإقرارِ بأنَّ آلهتَهم لا يملكونَ مثقالَ ذَرَّةِ فيهما وأنَّ الرَّازقَ هو الله تعالى فإنَّهم لا ينكرونه كما ينطقُ به قوله تعالى : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض أَمَّن يَمْلِكُ السمع والابصار وَمَن يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى وَمَن يُدَبّرُ الامر فَسَيَقُولُونَ الله } وحيث كانُوا يتلعثمُون أحياناً في الجواب مخافةَ الإلزامِ قيل له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ { قُلِ الله } إذ لا جوابَ سواهُ عندهم أيضاً { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ } أي وإنَّ أحدَ الفريقينِ من الذين يوحِّدون المتوحِّدَ بالرِّزقِ والقُدرة الذَّاتيةِ ويخصونه بالعبادة والذين يُشركون به في العبادةِ الجمادَ النَّازلَ في أدنى المراتبِ الإمكانية لعلى أحدِ الأمرينِ من الهُدى والضَّلالِ المُبين وهذا بعد ما سبق من التَّقرير البليغ النَّاطقِ بتعيين من هُو على الهدى ومن هو في الضَّلالِ أبلغ من التَّصريحِ بذلك لجريانه على سَننِ الإنصاف المُسكتِ للخَصمِ الألدِّ . وقُرىء وأنَا أو إيَّاكم إما على هُدى أو في ضلال مبين ، واختلافُ الجارِين للإيذان بأنَّ الهاديَ كمن استعلى مناراً ينظرُ الأشياءَ ويتطلَّع عليها والضَّالُّ كأنَّه منغمسٌ في ظلامٍ لا يَرى شيئاً أو محبوسٌ في مطمورةٍ لا يستطيعُ الخروجَ منها .(5/373)
قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
{ قُل لاَّ تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } وهذا أبلغُ في الإنصافِ وأبعدُ من الجَدَلِ والاعتسافِ حيثُ أسند فيه الإجرامُ وإنْ أُريد به الزَّلَّةُ وتركُ الأولى إلى أنفسهم ، ومطلقُ العمل إلى المخاطبين مع أنَّ أعمالهم أكبرُ الكبائرِ { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا } يومَ القيامةِ عند الحشرِ والحسابِ { ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق } أي يحكمُ بيننا ويفصلُ بعد ظهورِ حالِ كلَ منّا ومنكم بأن يدخل المحقِّين الجنة والمبطلين النار . { وَهُوَ الفتاح } الحاكم الفيصلُ في القضايا المتعلِّقةِ { العليم } بما ينبغي أنْ يُقضى به { قُلْ أَرُونِىَ الذين أَلْحَقْتُمْ } أي ألحقتمُوهم { بِهِ شُرَكَاء } أُريد بأمرهم بإراءةِ الأصنامِ مع كونها بمرأى منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إظهار خطئِهم العظيمِ وإطلاعهم على بُطلانِ رأيهم أي أَرُونيها لأنظرَ بأيِّ صفةٍ ألحقتُموها بالله الذي ليسَ كمثلِه شيءٌ في استحقاقِ العبادةِ ، وفيه مزيدُ تبكيتٍ لهم بعد إلزامِ الحجَّةِ عليهم { كَلاَّ } ردعٌ لهم عن المشاركةِ بعد إبطالِ المقايسةِ { بَلْ هُوَ الله العزيز الحكيم } أي الموصوفُ بالغلبةِ القاهرةِ والحكمةِ الباهرةِ فأينَ شركاؤكم التي هي أخسُّ الأشياءِ وأذلُّها من هذه الرُّتبةِ العاليةِ ، والضَّميرُ إمَّا لله عزَّ وعَلاَ أو للشَّأنِ كما في { قُلْ هُو الله أحدٌ } { وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ } أي إلا إرسالةً عامَّةً لهم فإنَّها إذا عمَّتهم فقد كفتْهمِ أنْ يخرجَ منها أحدٌ منهم أو إلا جامعاً لهم في الإبلاغِ فهو حالٌ من الكافِ والتَّاءِ للمُبالغةِ ولا سبيلَ إلى جعلِها حالاً من النَّاسِ لاستحالةِ تقدُّمِ الحالِ على صاحبها المجرورِ { بَشِيراً وَنَذِيراً ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } ذلك فيحملُهم جهلُهم على ما هُم عليهِ من الغيِّ والضَّلالِ { وَيَقُولُونَ } من فرطِ جهلِهم وغايةِ غيِّهم { متى هذا الوعد } بطريقِ الاستهزاءِ يعنون به المبشَّر به والمنذَر عنه أو الموعود بقوله تعالى : { يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا } { إِن كُنتُمْ صادقين } مخاطِبين لرَّسولِ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به { قُل لَّكُم مّيعَادُ يَوْمٍ } أي وعدُ يومٍ أو زمانٍ وعدٍ والإضافة للتبيِّينِ وقُرىء ميعادٌ يومٌ منَّونينِ على البدل ويوماً بإضمارِ أعني للتَّعظيم { لاَّ تَسْتَئَخِرُونَ عَنْهُ } عند مفاجأتِه { سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ } صفةً لميعادُ وفي هذا الجواب من المبالغةِ في التَّهديدِ ما لا يخفى حيثُ جعل الاستئخارَ في الاستحالةِ كالاستقدامِ الممتنعِ عقلاً وقد مرَّ بيانُه مراراً ويجوزُ أنْ يكونَ نفيُ الاستئخار والاستقدامِ غيرَ مقيَّدٍ بالمُفاجأة فيكون وصفُ الميعادِ بذلك لتحقيقِه وتقريرِه .(5/374)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرءان وَلاَ بالذى بَيْنَ يَدَيْهِ } أي من الكتبِ القديمةِ الدَّالَّةِ على البعث وقيل : إنَّ كُفَّار مكَّةَ سألُوا أهلَ الكتابِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأخبرُوهم أنَّهم يجدون نعتَهُ في كتبهم فغضبُوا فقالُوا ذلكَ وقيل : الذي بين يديه القيامة { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظالمون } المنكرون للبعث { مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ } أي في موقفِ المحاسبة { يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول } أي يتحاورونَ ويتراجعون القولَ { يَقُولُ الذين استضعفوا } بدل من يرجع الخ أي يقول الأتباع { لِلَّذِينَ استكبروا } في الدُّنيا واستتبعوهم في الغيِّ والضَّلالِ { لَوْلاَ أَنتُمْ } أي لولا إضلالُكم وصدُّكم لنا عن الإيمانِ { لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } باتباع الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ { قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا } استئنافٌ مبنيٌّ على السُّؤال كأنَّه قيل : فماذا قال الذين استكبرُوا في الجواب فقيل قالُوا : { أَنَحْنُ صددناكم عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ } مُنكرين لكونهم هم الصَّادِّين لهم عن الإيمانِ مُثبتين أنَّهم هم الصَّادُّون بأنفسهم بسبب كونِهم راسخين في الإجرام { وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا } إضراباً على إضرابِهم وإبطالاً له { بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } أي بل صدَّنا مكرُكم بنا باللَّيلِ والنَّهارِ فحُذف المضافُ إليه وأقيم مقامَه الظَّرفُ اتَّساعاً أو جُعل ليلُهم ونهارُهم ماكريْنِ على الإسناد المجازي . وقُرىء بل مكرٌ اللَّيلَ والنَّهارَ بالتَّنوينِ ونصب الظَّرفينِ أي بل صدَّنا مكرُكم في اللَّيلِ والنَّهارِ على أنَّ التَّنوينَ عوضٌ عن المُضافِ إليه أو مكرٌ عظيمٌ على أنَّه للتَّفخيمِ . وقُرىء بل مكرٌ اللَّيلِ والنَّهارِ بالرَّفعِ والنَّصبِ أي تمكرون الاغواء مكراً دائباً لا تفترون عنه فالرفع على الفاعلية أي بل صدَّنا مكركم الإغواء في اللَّيل والنَّهارِ على ما سبق من الاتِّساع في الظَّرفِ بإقامتِه مقامَ المضافِ إليه والنَّصبِ على المصدرية أي بل تمكرون الإغواءِ مكرَ اللَّيلِ والنَّهارِ أي مكراً دائماً قولُه تعالى { إِذْ تَأْمُرُونَنَا } ظرفٌ للمكرِ أي بل مكرُكم الدَّائمُ وقتَ أمرِكم لنا { أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً } على أنَّ المرادَ بمكرِهم إمَّا نفسُ أمرِهم بما ذُكر كما في قولِه تعالى : { لِقَوْمِهِ ياقوم اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } فإنَّ الجعلينِ المذكورينِ نعمةٌ من الله تعالى وأيُّ نعمةٍ ، وإما أمورٌ أُخَرُ مقارنة لأمرهم داعية إلى الامتثال به من التَّرغيب والتَّرهيبِ وغير ذلك { وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب } أي أضمرَ الفريقانِ الندامة على ما فَعَلا من الضَّلالِ والإضلالِ وأخفاها كلٌّ منهما عن الآخرِ مخافةَ التَّعييرِ أو أظهرُوها فإنَّه من الأضدادِ وهو المناسب لحالِهم { وَجَعَلْنَا الاغلال فِى أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ } أي في أعناقِهم . والإظهارُ في موضعِ الإضمارِ للتَّنويهِ بذمِّهم والتنَّبيهِ على موجب أغلالِهم { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي لا يُجزون إلاَّ جزاءَ ما كانُوا يعملون أو إلاَّ بما كانُوا يعملونه على نزعِ الجارِّ .(5/375)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)
{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ } من القُرى { مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون } تسليةً لرَّسولِ الله صلى الله عليه وسلم ممَّا مُنِّيَ به من قومِه من التَّكذيبِ والكُفرِ بما جاء به والمنافسة بكثرةِ الأموالِ والأولادِ والمفاخرةِ بحظوظِ الدُّنيا وزخارفِها والتَّكبرِ بذلك على المُؤمنين والاستهانةِ بهم من أجلِه وقولهم : ( أي الفريقين خيرٌ مقاماً وأحسنُ نَديَّاً ) بأنَّه لم يُرسلْ قط إلى أهل قريةٍ من نذيرٍ إلاَّ قال مُترفوهم مثلَ ما قال مُترفو أهلِ مكَّةَ في حقِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وكادُوا به نحوَ ما كادُوا به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقاسوا أمورَ الآخرةِ الموهومةِ والمفروضةِ عندهم على أمورِ الدُّنيا وزعموا أنَّهم لو لم يَكْرُموا على الله تعالى لمَا رَزَقهم طييِّاتِ الدُّنيا ولولا أنَّ المؤمنينَ هانُوا عليهِ تعالى لمَا حرُمهموها وعلى ذلك الرأيِّ الرَّكيكِ بنَوَا أحكامَهم .
{ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أموالا وأولادا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } إمَّا بناءً على انتفاءِ العذابِ الأُخرويِّ رأساً أو على اعتقادِ أنَّه تعالى أكرمَهم في الدُّنيا فلا يُهينهم في الآخرةِ على تقديرِ وقوعِها { قُلْ } رَدَّاً عليهم وحسماً لمادَّةِ طمعِهم الفارغِ وتحقيقاً للحقِّ الذي عليه يدورُ أمرُ التَّكوين { إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء } أنْ يبسطَه له { وَيَقْدِرُ } على مَن يشاءُ أنْ يقدرَه عليه من غيرِ أنْ يكونَ لأحدِ الفريقينِ داعٍ إلى ما فُعل به من البسطِ والقَدْرِ فربُّما يُوسِّعُ على العاصِي ويُضيِّقُ على المطيعِ وربَّما يُعكس الأمرُ ورُبَّما يُوسِّع عليهما معاً وقد يُضيَّق عليهما وقد يُوسِّع على شخصٍ تارةً ويُضيِّق عليه أخرى يفعلُ كُلاًّ من ذلك حسبما تقتضيهِ مشيئته المبنيّة على الحِكَمِ البالغةِ فلا يُقاس على ذلك أمرُ الثَّوابِ والعذابِ اللَّذينِ مناطُهما الطَّاعةُ وعدمُها وقُرىء ويُقدِّر بالتَّشديدِ { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } ذلك فيزعمون أنَّ مدارَ البسطِ هو الشَّرفُ والكرامةُ ومدارَ القَدْرِ هو الهوانُ ولا يدرون أنَّ الأوَّلَ كثيراً ما يكونُ بطريقِ الاستدراجِ والثَّاني بطريقِ الابتلاءِ ورفعِ الدَّرجاتِ { وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى } كلام مستأنفٌ من جهته عزَّ وعلا خُوطب به النَّاسُ بطريقِ التَّلوينِ والالتفاتِ مبالغةً في تحقيقِ الحقِّ وتقريرِ ما سبق أي وما جماعةُ أموالِكم وأولادِكم بالجماعةِ التي تُقربكم عندنا قُربةً فإنَّ الجمعَ المكسَّر عقلاؤُه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث أو بالخصلة التي تقرِّبكم . وقُرىء بالذَّي أيْ بالشِّيءِ الذَّي { إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } استثناءٌ من مفعول تقربكم أي وما الأموالُ والأولادُ تقرِّبُ أحداً إلا المؤمنَ الصَّالحَ الذي أنفقَ أموالَه في سبيلِ الله تعالى وعلَّم أولادَه الخيرَ ورَبَّاهم على الصَّلاح ورشَّحهم للطَّاعةِ وقيل : من أموالِكم وأولادِكم على حذفِ المضافِ أي إلاَّ أموالَ من الخ { فَأُوْلَئِكَ } إشارةٌ إلى مَن والجمعُ باعتبارِ معناها كما أنَّ الإفرادَ في الفعلينِ باعتبارِ لفظِها ، وما فيه من معنى البُعد مع قُرب العهد بالمشارِ إليه للإيذانِ بعلوِّ رتبتِهم وبُعد منزلتِهم في الفضلِ أي فأولئكَ المنعوتُون بالإيمانِ والعملِ الصَّالحِ { لَهُمْ جَزَاء الضعف } أي ثابتٌ لهم ذلك على أنَّ الجارَّ والمجرورَ خبرٌ لما بعده والجملةَ خبرٌ لأولئك وفيه تأكيدٌ لتكررِ الإسنادِ أو يثبت لهم ذلك على أنَّ الجارَّ والمجرورَ خبرٌ لأولئك وما بعدَهُ مرتفعٌ على الفاعليةِ وإضافة الجزاءِ إلى الضِّعفِ من إضافة المصدرِ إلى المفعولِ أصله فأولئك لهم أنْ يجازوا الضِّعفَ ثم جزاءَ الضِّعفِ ثمَّ جزاءَ الضِّعفِ ومعناه أنَّ تضاعفَ لهم حسناتُهم الواحدةُ عشراً فما فوقَها وقُرىء جزاءً الضِّعفُ أي فأولئك لهم الضِّعفُ جزاءً وجزاءٌ الضِّعفَ على أنْ يجازوا الضِّعفَ وجزاءٌ الضِّعفُ بالرفع على أنَّ الضِّعفُ بدلٌ من جزاءٌ { بِمَا عَمِلُواْ } من الصَّالحاتِ { وَهُمْ فِى الغرفات } أي غرفات الجنَّة { ءامِنُونَ } من جميع المكارِه .(5/376)
وقُرىء بفتح الرَّاءِ وسكونِها . وقُرىء في الغُرفةِ على إرادةِ الجنسِ .(5/377)
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40)
{ والذين يَسْعَوْنَ فِى ءاياتنا } بالردِّ والطَّعنِ فيها { معاجزين } سابقينَ لأنبيائِنا أو زاعمينَ أنَّهم يفوتُوننا { أُوْلَئِكَ فِى العذاب مُحْضَرُونَ } لا يجديهم ما عوَّلوا عليه نَفْعاً .
{ قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } أي يُوسعه عليهَ تارةً { وَيَقْدِرُ لَهُ } أي يضيقُه عليه تارةً أُخرى فلا تخشَوا الفقرَ وأنفقُوا في سبيلِ الله وتعرَّضُوا لنفحاتِه تعالى : { وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ } عِوضاً إمَّا عاجلاً وإمَّا آجلاً { وَهُوَ خَيْرُ الرزقين } فإنَّ غيرَه واسطة في إيصالِ رزقِه لا حقيقة لرازقيتِه { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } أي المستكبرينَ والمستضعفينَ وما كانُوا يعبدونَ من دون الله . ويومَ ظرفٌ لمضمرٍ متأخِّر سيأتي تقديرُه أو مفعولٌ لمضمرٍ مقدَّمٍ نحو اذكُر { ثُمَّ يَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } تقريعاً للمشركينَ وتبكيتاً لهم على نهجِ قوله تعالى : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين } الخ وإقناطاً لهم عمَّا علَّقوا به أطماعَهم الفارغةَ من شفاعتِهم ، وتخصيص الملائكة لأنَّهم أشرفُ شركائِهم والصَّالحونَ للخطابِ منهم ولأنَّ عبادتَهم مبدأُ الشِّركِ فبظهور قصورِهم عن رتبة المعبودَّيةِ وتنزههم عن عبادتِهم يظهر حالُ سائرِ شركائِهم بطريقِ الأولويةِ وقُرىء الفعلانِ بالنُّونِ .(5/378)
قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43)
{ قَالُواْ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأ من حكايةِ سؤالِ الملائكةِ حينئذٍ فقيل يقولون متنزِّهين عن ذلك { سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ } والعدولُ إلى صيغة الماضي للدِّلالةِ على التَّحقُّقِ ، أي أنت الذي نواليهِ من دونهم لا موالاة بيننا وبينهم كأنَّهم بيَّنوا بذلك براءتَهم من الرِّضا بعبادتهم ثم أضربُوا عن ذلكَ ونفَوا أنَّهم عبدُوهم حقيقةً بقولهم : { بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن } أي الشَّياطينَ حيثُ أطاعُوهم في عبادِة غيرِ الله سبحانه وتعالى وقيل كانُوا يتمثَّلون لهم ويخيِّلون لهم أنَّهم الملائكةُ فيعبدونهم وقيل : يدخلونَ أجوافَ الأصنامِ إذا عُبدت فيعبدون بعبادتِها { أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } الضَّميرُ الأوَّلُ للإنسِ أو للمشركينَ والأكثرُ بمعنى الكلِّ والثَّاني للجنِّ .
{ فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً } من جملةِ ما يقال للملائكةِ عند جوابهم بالتَّنزه والتَّبرؤِ عمَّا نَسب إليهم الكفرةُ يخُاطبون بذلك على رؤوسِ الأشهادِ إظهاراً لعجزهِم وقصورِهم عند عَبَدتهم وتنصيصاً على ما يُوجب خيبةَ رجائِهم بالكلِّية . والفاءُ ليستْ لترتيبِ ما بعدها من الحكمِ على جوابِ الملائكةِ فإنَّه محقَّقٌ أجابُوا بذلك أم لا بل لترتيبِ الإخبار به عليه ونسبة عدمِ النَّفعِ والضُّرِّ إلى البعضِ المبهمِ للمبالغةِ فيما هو المقصودُ الذي هو بيانُ عدمِ نفعِ الملائكةِ للعبدةِ بنظمه في سلكِ عدم نفعِ العَبَدةِ لهم كأنَّ نفعَ الملائكةِ لعبدتِهم في الاستحالةِ والانتفاء كنفعِ العبدةِ لهم ، والتعرضِ لعدم الضُّرِّ مع أنَّه لا بحث عنه أصلاً إمَّا لتعميمِ العجزِ أو لحملِ عدمِ النَّفعِ على تقديرِ العبادةِ وعدمِ الضُّرِّ على تقديرِ تركِها أو لأنَّ المرادَ دفعُ الضُّرِّ على حذفِ المضاف ، وتقييد هذا الحكمِ بذلك اليومِ مع ثبوتِه على الإطلاقِ لانعقادِ رجائِهم على تحقُّقِ النَّفعِ يومئذٍ . وقولُه عزَّ وجلَّ : { وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } عطفٌ على نقول للملائكةِ لا على لا يملكُ كما قيل فإنَّه ممَّا يقالُ يوم القيامةِ خطاباً للملائكةِ مترتباً على جوابِهم المحكيِّ وهذا حكاية لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم لما سيقالُ للعبدةِ يومئذٍ إثر حكايةِ ما سيقالُ للملائكةِ أي يومَ نحشرُهم جميعاً ثم نقولُ للملائكةِ كذا وكذا ويقولون كذا وكذا ونقولُ للمشركينَ { ذُوقُواْ عَذَابَ النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ } يكون من الأهوالِ والأحوالِ ما لا يحيطُ به نطاقُ المقالِ وقوله تعالى :
{ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ } بيان لبعضٍ آخرَ من كفرانِهم أي إذا تُتلى عليهم بلسانِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ آياتُنا النَّاطقةُ بحقِّيةِ التَّوحيدِ وبُطلان الشِّركِ { قَالُواْ مَا هذا } يعنون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ } فيستتبعكم بما يستدعيِه من غيرِ أنْ يكونَ هناك دينٌ إلهيٌّ ، وإضافة الآباءِ إلى المخاطَبين لا إلى أنفسِهم لتحريكِ عرقِ العصبيةِ منهم مبالغةً في تقريرِهم على الشِّركِ وتنفيرِهم عن التَّوحيد { وَقَالُواْ مَا هذا } يعنون القرآنَ الكريمَ { إِلاَّ إِفْكٌ } أي كلام مصروفٌ عن وجهه لا مصداق له في الواقع { مُّفْتَرًى } بإسنادِه إلى الله تعالى { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقّ } أي لأمرِ النبوَّةِ أو الإسلامِ أو القرآن على أنَّ العطفَ لاختلافِ العُنوان بأنْ يُراد بالأولِ معناهُ وبالثَّاني نظمَه المعجزَ { لَمَّا جَاءهُمْ } من غيرِ تدبُّرٍ ولا تأمُّلٍ فيه { إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } ظاهرٌ سحريّتُه وفي تكرير الفعلِ والتَّصريحِ بذكر الكفرةِ وما في الَّلامينِ من الإشارةِ إلى القائلينَ والمقولِ فيهِ وما في لمّا من المسارعةِ إلى البتِّ بهذا القولِ الباطلِ إنكارٌ عظيمٌ له وتعجيبٌ بليغٌ منه .(5/379)
وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
{ وَمَا ءاتيناهم مّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا } فيها دليلٌ على صحَّةِ الإشراكِ كما في قولِه تعالى : { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ } وقولِه تعالى : { أَمْ ءاتيناهم كتابا مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } وقُرىء يدرسُونها ويدَّرسونها بتشديدِ الدَّالِ يفتعلون من الدَّرسِ .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نَّذِيرٍ } يدعُوهم إليه وينذرُهم بالعقابِ إن لم يُشركوا وقد بان من قبلُ أنْ لا وجهَ له بوجهٍ من الوجوهِ فمن أينَ ذهبُوا هذا المذهبَ الزَّائغَ ، وهذا غايةُ تجهيلٍ لهم وتسفيهٍ لرأيهم ثمَّ هدَّدهم بقولِه تعالى : { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ } من الأممِ المتقدِّمة والقُرون الخاليةِ كما كذَّبوا . { وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتيناهم } أي ما بلغَ هؤلاءِ عشرَ ما آتينا أولئكَ من القوَّة وطولِ العمر وكثرةِ المالِ أو ما بلغ أولئك عشرَ ما آتينا هؤلاءِ من البيِّناتِ والهُدى { فَكَذَّبُواْ رُسُلِى } عطف على كذَّب الذينَ الخ بطريقِ التَّفصيلِ والتَّفسيرِ كقولِه تعالى : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } الخ { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي إنكارِي لهم بالتَّدميرِ فليحذَرْ هؤلاء من مثلِ ذلك { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بواحدة } أي ما أُرشدكم وأنصح لكم إلا بخصلة واحدة هي ما دل عليه قوله تعالى : { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ } على أنَّه بدلٌ منها أو بيانٌ لها أو خبر مبتدأ محذوفٍ أي هي أن تقومُوا من مجلس رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو تنتصبُوا للأمرِ خالصاً لوجهِ الله تعالى معرضاً عن المُماراةِ والتَّقليدِ { مثنى وفرادى } أي متفرِّقين اثنينِ اثنين وواحداً واحداً فإنَّ الازدحامَ يُشوش الأفهامَ ويخلطُ الأفكار بالأوهامِ وفي تقديمِ مَثْنى إيذانٌ بأنَّه أوثقُ وأقربُ إلى الاطمئنانِ { ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ } في أمرِه عليه الصلاة والسلام وما جاء به لتعلمُوا حقيقتَه وحقِّيتَه وقوله تعالى : { مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ } استئنافٌ مسوقٌ من جهتِه تعالى للتَّنبيه على طريقةِ النَّظر والتَّأملِ بأنَّ مثلَ هذا الأمرِ العظيمِ الذي تحتَه ملك الدُّنيا والآخرةِ لا يتصدَّى لادِّعائِه إلا مجنونٌ لا يُبالي بافتضاحِه عند مطالبته بالبُرهان وظهور عجزهِ ، أو مؤيَّدٌ من عندِ الله مرشَّح للنُّبوةِ واثق بحجَّتهِ وبرهانه وإذ قد علمتُم أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أرجحُ العالمين عقلاً وأصدقُهم قولاً وأنزههم نفساً وأفضلُهم علماً وأحسنُهم عملاً وأجمعُهم للكمالاتِ البشريَّةِ وجبَ أنْ تصدِّقُوه في دعواهُ فكيف وقد انضمَّ إلى ذلك معجزاتٌ تخرُّ لها صمُّ الجبالِ . ويجوزُ أن يتعلَّق بما قبلَه على معنى ثم تتفكَّروا فتعلموا ما بصاحِبكم من جنَّةٍ وقد جُوِّز أن تكون ما استفهاميةً على معنى ثم تتفكَّروا أي شيء به من آثارِ الجنونِ { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } هو عذابُ الآخرةِ فإنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مبعوثٌ في نَسَمِ السَّاعةِ .(5/380)
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
{ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ } أي أيُّ شيءٍ سألتُكم من أجرٍ على الرِّسالة { فَهُوَ لَكُمْ } والمرادُ نفيُ السُّؤالِ رأساً كقولِ مَن قال لمن لم يُعطه شيئاً إنْ أعطيتني شيئاً فخُذه وقيل مَا موصولةٌ أُريد بها ما سألهم بقوله تعالى : { مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إلى رَبّهِ سَبِيلاً } وقولِه تعالى : { لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِى القربى } واتخاذ السَّبيلِ إليه تعالى منفعتهم الكُبرى وقُرباه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قرباهم { إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله وَهُوَ على كُلّ شَىْء شَهِيدٍ } مطَّلع يعلمُ صدقي وخلوصَ نيتَّي وقُرىء إن أجريْ بسكونِ الياءِ { قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق } أي يُلقيه ويُنزله على من يجتبيهِ من عبادِه أو يرمي به الباطلَ فيدمغُه أو يرمي به في أقطارِ الآفاقِ فيكون وعداً بإظهارِ الإسلامِ وإعلاءِ كلمةِ الحقِّ { علام الغيوب } صفةٌ محمولةٌ على محلِّ إنَّ واسمِها أو بدلٌ من المستكنِّ في يقذفُ أو خبرٌ ثانٍ لأنَّ أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ . وقُرىء بالنَّصبِ صفة لربِّي أو مقدَّراً بأعنِي وقُرىء بكسرِ الغَين وبالفتحِ كصبور مبالغةُ غائب { قُلْ جَاء الحق } أي الإسلامُ والتَّوحيدُ { وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ } أي زهقَ الشِّركُ بحيث لم يبقَ أثرُه أصلاً مأخوذُ من هلاكِ الحيِّ فإنَّه إذا هلكَ لم يبقَ له إبداءٌ ولا إعادةٌ فجُعل مَثَلاً في الهلاكِ بالمرَّة ومنْهُ قولُ عُبيْدٍ :
أَقْفرَ مِن أَهْلِه عُبيد ... فليسَ يُبدي وَلاَ يُعيدُ
وقيل الباطلُ إبليسُ أو الصَّنُم والمعنى لا يُنشىء خلقاً ولا يُعيد أو لا يُبدىء خيراً لأهلِه ولا يُعيد وقيل ما استفهاميِّةٌ منصوبةٌ بما بعدَها { قُلْ إِن ضَلَلْتُ } عن الطَّريقِ الحقِّ { فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى } فإنَّ وبالَ ضلالِي عليها لأنَّه بسببها إذ هىَ الجاهلةُ بالذَّاتِ والأمَّارةُ بالسُّوءِ وبهذا الاعتبارِ قُوبل الشَّرطيةُ بقولِه تعالى : { وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبّى } لأنَّ الاهتداءَ بهدايتِه وتوفيقِه . وقُرىء ربِّيَ بفتح الياء { إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } يعلم قولَ كلَ من المُهتدي والضَّالِّ وفعلَه وإنْ بالغَ في إخفائِهما .(5/381)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
{ وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ } عند الموتِ أو البعثِ أو يومَ بدرٍ وعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ ثمانين ألفاً يغزُون الكعبةَ ليخرِّبوها فإذا دخلُوا البيداءَ خُسف بهم ، وجوابُ لو محذوفٌ أي لرأيتَ أمراً هائلاً { فَلاَ فَوْتَ } فلا يفوتُون الله عزَّ وجلَّ بهربٍ أو تحصُّنٍ . { وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } من ظهرِ الأرضِ أو من الموقفِ إلى النَّارِ أو من صحراء بدرٍ إلى قَليبها أو من تحت أقدامهم إذا خُسف بهم والجملةُ معطوفة على فَزِعوا وقيل على لا فوتَ على معنى إذْ فَزعُوا فلم يفوتُوا وأُخذوا ويؤيده أنه قرىء وأُخذ بالعطف على محلِّه أي فلا فوت هنا وهناك أخذٌ . { وَقَالُواْ ءامَنَّا بِهِ } أي بمحمَّدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام وقد مرَّ ذكرُه في قوله تعالى ما بصاحِبكم . { وأنى لَهُمُ التناوش } التَّناوشُ التَّناولُ السَّهلُ أي ومِن أينَ لهم أنْ يتناولُوا الإيمانَ تناولاً سهلاً { مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ } فإنَّه في حيِّزِ التكليف وهُم منه بمعزلٍ بعيدٍ وهو تمثيلُ حالِهم في الاستخلاصِ بالإيمانِ بعد ما فاتَ عنهم وبعُد بحالِ مَنْ يُريدُ أنْ يتناولَ الشَّيءَ من غَلْوةٍ تناوله من ذراعٍ في الاستحالة . وقُرىء بالهمزِ على قلبِ الواوِ لضمِّها وهو من نأشتُ الشَّيءَ إذا طلبتُه ، وعن أبي عمرو : التَّناؤشُ بالهمزِ التَّناولُ من بُعدٍ من قولِهم نأشتُ إذا أبطأتَ وتأخَّرتَ ومنه قولُ مَن قالَ
تمنَّى نَئيشا أنْ يكون أطاعنِي ... وقد حدثتْ بعدَ الأمرِ أمورُ
{ وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ } أي بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أو بالعذابِ الشَّديدِ الذي أنذرهم إياه { مِن قَبْلُ } أي من قبلِ ذلك في أوانِ التَّكليفِ { وَيَقْذِفُونَ بالغيب } ويَرجمون بالظَّنِّ ويتكلَّمون بما لم يظهر لهم في حقِّ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من المطاعنِ أو في العذاب المذكورِ من بت القول بنفيه { مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ } من جهةٍ بعيدةٍ من حاله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حيث ينسبونَه صلى الله عليه وسلم إلى الشِّعرِ والسِّحرِ والكذب وأنَّ أبعدَ شيءٍ ممَّا جاءَ به الشِّعرُ والسِّحرُ وأبعدُ شيءٍ من عادته المعروفة فيما بين الدَّاني والقاصِي الكذبُ ، ولعله تمثيلٌ لحالِهم في ذلك بحالِ مَن يرمي شيئاً لا يراهُ من مكانٍ بعيدٍ لا مجالَ للوهم في لحوقِه . وقُرىء ويُقذفون على أنَّ الشَّيطانَ يلقي إليهم ويلقِّنهم ذلك وهو معطوفٌ على قد كفروا به على حكاية الحال الماضيةِ أو على قالُوا فيكون تمثيلاً لحالِهم بحال القاذفِ في تحصيل ما ضيِّعُوه من الإيمان في الدُّنيا { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } مع نفعِ الإيمانِ والنَّجاة من النَّارِ . وقُرىء بإشمامِ الضَّمِّ للحاء { كَمَا فُعِلَ بأشياعهم مّن قَبْلُ } أي بأشباهِهم من كفرةِ الأُمم الدَّارجة { إِنَّهُمْ كَانُواْ فِى شَكّ مُّرِيبِ } أي مُوقع في الرِّيبةِ أو ذي ربيةٍ . والأوَّلُ منقولٌ ممَّن يصحُّ أن يكونَ مُريباً من الأعيانِ إلى المعنى والثاني من صاحبِ الشَّكِّ إلى الشَّكِّ كما يُقال شعرٌ شاعرٌ والله أعلم .
عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قرأَ سورةَ سبأٍ لم يبقَ رسولٌ ولا نبيٌّ إلاَّ كان له يومَ القيامة رفيقاً ومُصافحاً »(5/382)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
( سورة فاطر مكية وهى خمس وأربعون آية )
{ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم } { الحمد للَّهِ فَاطِرِ السموات والارض } مبدِعهما من غير مثالٍ يحتذيِه ولا قانونٍ ينتحيهِ . من الفَطرِ وهو الشَّقُّ وقيل الشَّقُّ طولاً كأنَّه شقَّ العدمَ بإخراجِهما منه وإضافته محضة لأنَّه بمعنى الماضي فهو نعتٌ للاسمِ الجليلِ ومن جعلها غيرَ محضةٍ جعله بدلاً منه وهو قليلٌ في المشتقِّ . { جَاعِلِ الملائكة } الكلامُ في إضافتِه وكونِه نعتاً أو بدلاً كما قبلَه وقوله تعالى : { رُسُلاً } منصوبٌ به على الوجهِ الثَّانِي من الإضافة بالاتِّفاقِ وأمَّا على الوجهِ الأوَّلِ فكذلك عند الكِسائِّي وأمَّا عند البصريينَ فبمضمرٍ يدلُّ هو عليه لأنَّ اسمَ الفاعلِ إذا كان بمعنى الماضي لا يعملُ عندهم إلا معرَّفاً باللام وقال أبو سعيدٍ السِّيرافيُّ : اسم الفاعلِ المتعدِّي إلى اثنينِ يعملُ في الثَّانِي لإنَّ بإضافتَه إلى الأوَّلِ تعذرتْ إضافتُه إلى الثَّانِي فتعيِّن نصبُه له وعلل بعضُهم ذلك بأنَّه بالإضافة أشبه المعرَّفِ باللامِ فعمِل عملَه . وقُرىء جاعلُ بالرَّفعِ على المدح وقُرىء الذى فَطَرَ السموات والارض وَجَعَلَ الملائكة أي جاعلهم وسائطَ بينه تعالى وبين أنبيائه والصَّالحينَ من عبادِه يبلِّغون إليهم رسالاتِه بالوحيِ والإلهامِ والرُّؤيا الصَّادقةِ أو بينه تعالى وبين خلقِه أيضاً حيثُ يوصِّلون إليهم آثارَ قدرتِه وصنعِه هذا على تقديرِ كونِ الجعلِ تصييريَّاً أمَّا على تقديرِ كونِه إبداعيَّاً فرُسلاً نُصب على الحاليَّةِ وقُرىء رُسْلاً بسكونِ السِّينِ { أُوْلِى أَجْنِحَةٍ } صفةً لرُسلاً وأولو اسمُ جمعٍ لذُو كما أنَّ أُولاء اسمُ جمعٍ لذا . ونظيرُهما في الأسماءِ المتمكِّنة المخاضُ والخلفةُ وقوله تعالى :
{ مثنى وثلاث وَرُبَاعَ } صفاتٌ لأجنحة أي ذَوي أجنجةٍ متعدِّدةٍ مُتفاوتةٍ في العدد حسب تفاوتِ ما لَهُم من المراتب ينزلون بها ويعرجُون أو يسرعون بها والمعنى أنَّ من الملائكة خَلْقاً لكلِّ واحد منهم جناحانِ وخَلْقاً لكلِّ واحد منهم ثلاثة وخَلْقاً آخر لكلِّ منهم أربعة أجنحة . ويُروى أنَّ صنفاً من الملائكة لهم ستة أجنحة بجناحين منها يُلقون أجسادَهم وبآخرينِ منها يطيرون فيما أُمروا به من جهتِه تعالى وجناحانِ منها مرخيَّانِ على وجوههم حياءً من الله عزَّ وجلَّ ( وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه رأى جبريلَ عليه السَّلامُ ليلةَ المعراجِ وله ستمائةُ جناح ) ورُوي أنَّه سألَه عليهما السَّلامُ أنْ يترآى له في صورتِه فقال إنَّك لن تطيقَ ذلك قال إنِّي أحبُّ أنْ تفعلَ فخرج عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في ليلةٍ مُقمرةٍ فأتاهُ جبريلُ عليهما السَّلامُ في صورتِه فغُشي عليهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ثمَّ أفاقَ وجيريلُ مسندُهُ وإحدى يديِه على صدرِه والأخرى بين كتفيِه فقال : سبحانَ الله ما كنتُ أرى أنَّ شيئاً من الخلقِ هكذا فقال جبريل عليه السَّلامُ فكيف لو رأيتَ إسرافيلَ له اثنا عشرَ جناحاً جناحٌ منها بالمشرقِ وجناحٌ منها بالمغربِ وإنَّ العرشَ على كاهلِه وإنَّه ليتضاءلُ الأحايينَ لعظمةِ الله عزَّ وجلَّ حتَّى يعودَ مثلَ الوَصَعِ وهو العصفورُ الصَّغيرُ ) .(5/383)
{ يَزِيدُ فِى الخلق مَا يَشَاء } استئنافٌ مقررٌ لما قبله من تفاوتِ أحوالِ الملائكةِ في عددِ الأجنحةِ ومؤذنٌ بأنَّ ذلك من أحكام مشيئتِه تعالى لا لأمرٍ راجعٍ إلى ذَواتهم ببيان حكم كلِّي ناطق بأنَّه تعالى يزيدُ في أيِّ خلقٍ كان كلِّ ما يشاءُ أنْ يزيدَه بموجبِ مشيئتِه ومُقتضى حكمتِه من الأمورِ التي لا يحيطُ بها الوصفُ وما رُوي عن النبي عليه الصَّلاةُ والسلامُ من تخصيص بعض المعاني بالذِّكرِ من الوجهِ الحسنِ والصَّوتِ الحسنِ والشَّعرِ الحسنِ فبيانٌ لبعضِ الموادِّ المعهودةِ بطريقِ التَّمثيلِ لا بطريقِ الحصرِ فيها . وقولُه تعالى : { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } تعليلٌ بطريقِ التَّحقيق للحُكمِ المذكورِ فإنَّ شمولَ قُدرته تعالى لجميعِ الأشياءِ ممَّا يوجبُ قدرتَه تعالى على أنَّ يزيدَ كلَّ ما يشاؤه إيجاباً بيِّناً .(5/384)
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
{ مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } عبَّر عن إرسالِها بالفتحَ إيذاناً بأنَّها أنفسُ الخزائنِ التي يتنافسُ فيها المتنافسون وأعزُّها منالاً . وتنكيرُها للإشاعةِ والإبهام أيْ أيَّ شيءٍ يفتحُ اللَّهُ من خزائنِ رحمتِه أيَّة رحمةٍ كانتْ من نعمةٍ وصحَّةٍ وأمنٍ وعلمٍ وحكمةٍ إلى غيرِ ذلكَ ممَّا لا يُحاط به { فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } أي لا أحدَ يقدرُ على إمساكِها { وَمَا يُمْسِكْ } أيْ أيَّ شيءَ يُمسك { فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ } أي لا أحدَ يقدرُ على إرسالِه واختلافُ الضَّميرينِ لما أنَّ مرجعَ الأوَّلِ مفسَّرٌ بالرَّحمةِ ومرجعَ الثَّانِي مطلقٌ يتناولُها وغيرَها كائناً ما كان وفيه إشعارٌ بأنَّ رحمتَه سبقتْ غَضبه { مِن بَعْدِهِ } أي من بعدِ إمساكِه { وَهُوَ العزيز } الغالبُ على كلِّ ما يشاءُ من الأمورِ التي من جُملتها الفتحُ والإمساك { الحكيم } الذي يفعلُ كلَّ ما يفعل حسبما تقتضيِه الحكمةُ والمصلحة والجملُة تذييلٌ مقررٌ لما قبلها ومعربٌ عن كونِ كلَ من الفتحِ والإمساكِ بموجبِ الحكمةِ التي عليها يدورُ أمرُ التَّكوينِ وبعد ما بيَّن سبحانَه أنَّه الموجدُ للملك والملكوتِ والمتصرِّفُ فيهما بالقبضِ والبسطِ من غيرِ أنْ يكونَ لأحدٍ في ذلك دخلٌ ما بوجهٍ من الوجوهِ أمرَ النَّاس قاطبةً أو أهلَ مكَّةَ خاصَّةً بشكرِ نِعَمِه فقال :
{ يأَيُّهَا الناس اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } أي إنعامَه عليكم إنْ جُعلت النِّعمةُ مصدراً أو كائنةً عليكم إنْ جُعلت اسماً . أي راعُوها واحفظُوها بمعرفةِ حقِّها والاعترافِ بها ، وتخصيصِ العبادةِ والطَّاعةِ بموليها ولمَّا كانتْ نعمُ الله تعالى مع تشعُّبِ فنونِها منحصرةً في نعمةِ الإيجادِ ونعمةِ الإبقاءِ نَفَى أنْ يكونَ في الوجودِ شيءٌ غيرُه تعالى يصدرُ عنه إحدى النِّعمتينِ بطريقِ الاستفهامِ الإنكاريِّ المُنادِي باستحالةِ أنْ يُجاب عنه بنعَم فقال : { هَلْ مِنْ خالق غَيْرُ الله } أي هَلْ خالقٌ مغايرٌ له تعالى موجودٌ على أنَّ خالقٍ مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ زيدتْ عليه كلمة مِن لتأكيدِ العُمومِ . وغيرِ الله نعتٌ له باعتبارِ محلِّه كما أنَّه نعتٌ له في قراءةِ الجرِّ باعتبار لفظِه وقُرىء بالنَّصبِ على الاستثناءِ . وقوله تعالى : { يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض } أي بالمطرِ والنَّباتِ كلامٌ مبتدأٌ على التَّقاديرِ لا محلَّ له من الإعرابِ داخلٌ في حيِّز النَّفي والإنكار ولا مساغَ لما قيل : من أنَّه صفةٌ أخرى لخالق مرفوعةُ المحلِّ أو مجرورتُه لأنَّ معناه نفي وجودِ خالقٍ موصوفٍ بوصفَيْ المغايرةِ والرَّازقيَّةِ معاً من غير تعرُّضٍ لنفيِ وجودِ ما اتَّصف بالمغايرةِ فَقَطْ ، ولا لما قيل : من أنَّه الخبرُ للمبتدأِ ولا لما قيل من أنَّه مفسِّر لمضمرٍ ارتفع به قولُه تعالى من خالقٍ على الفاعلية عليّه أي هل يرزقكم من خالق الخ . لما أنَّ معناهما نفي رازقيَّة خالقٍ مغايرٍ له تعالى من غيرِ تعرُّضٍ لنفيِ وجودِه رأساً مع أنَّه المرادُ حتماً ألا يرى إلى قولِه تعالى : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } فإنَّه استئنافٌ مسوقٌ لتقرير النَّفيِ المستفادِ منه قصداً وجارٍ مجرى الجوابِ عمَّا يوهمه الاستفهامُ صورةً فحيث كان هذا ناطقاً بنفيِ الوجودِ تعيَّن أنْ يكونَ ذلك أيضاً كذلك قطعاً . والفاءُ في قوله تعالى : { فأنى تُؤْفَكُونَ } لترتيبِ إنكارِ عدولهم عن التَّوحيدِ إلى الإشراكِ على ما قبلها كأنَّه قيل : وإذا تبيَّن تفرُّده تعالى بالأُلوهيةِ والخالقيَّةِ والرازفيَّةِ فمنْ أيِّ وجهٍ تُصرفون عن التَّوحيدِ إلى الشِّركِ .(5/385)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)
{ وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ } تلوينٌ للخطابِ وتوجيهٌ له إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بين خطابي النَّاسِ مسارعةً إلى تسليتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعمومِ البليَّةِ أولاً والإشارةِ إلى الوعدِ والوعيدِ ثانياً أيْ وإن استمرُّوا على أنْ يكذِّبوك فيما بلَّغتَ إليهم من الحقِّ المُبين بعد ما أقمتَ عليهم الحجَّةَ وألقمتَهم الحجرَ فتأسَّ بأولئك الرُّسلِ في المُصابرةَ على ما أصابَهم من قبل قومِهم فوضعَ موضعهَ ما ذُكر اكتفاءً بذكرِ السَّببِ عن ذكرِ المسبَّبِ . وتنكيرُ الرُّسل للتَّفخيمِ الموجبِ لمزيدِ التَّسليةِ والتَّوجهِ إلى المُصابرةِ أي رُسلٌ أولو شأنٍ خطيرٍ وذَوُو عددٍ كثيرٍ { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } لا إلى غيرِه فيُجازِي كَّلاً منك ومنُهم بما أنتُم عليهِ من الأحوالِ التي من جملتها صبرُك وتكذيبُهم ، وفي الاقتصارِ على ذكرِ اختصاصِ المرجعِ بالله تعالى مع إبهامِ الجزاءِ ثواباً وعقاباً من المبالغةِ في الوعدِ والوعيدِ ما لا يَخْفى . وقُرىء تَرْجعُ بفتحِ التَّاءِ من الرُّجوعِ والأوَّلُ أدخلُ في التَّهويلِ .
{ ياأيها الناس } رجوعٌ إلى خطابِهم وتكريرُ النِّداءِ لتأكيدِ العظةِ والتَّذكير { إِنَّ وَعْدَ الله } المشارَ إليه برجعِ الأمورِ إليه تعالى من البعث والجزاء { حَقّ } ثابتٌ لا محالةَ من غيرِ خُلفٍ { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا } بأنْ يُذهلكم التَّمتع بمتاعِها ويُلهيكم التَّلهي بزخارِفها عن تداركِ ما يهمكم يومَ حلولِ الميعادِ . والمرادُ نهيُهم عن الاغترار بها وإنْ توجَّه النَّهيُ صورةً إليها كما في قوله تعالى : { لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى } { وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله } وعفوِه وكرمه تعالى { الغرور } أي المبالغُ في الغُرور وهو الشَّيطانُ بأنْ يمنيكم المغفرةَ مع الإصرارِ على المعاصِي قائلاً اعملوا ما شئتُم إنَّ الله غفورٌ يغفرُ الذُّنوبَ جميعاً ، فإنَّ ذلكَ وإنْ أمكنَ لكنْ تعاطي الذّنوبِ بهذا التَّوقعِ من قبيلِ تناولِ السُّمِّ تعويلاً على دفعِ الطَّبيعةِ . وتكريرُ فعلِ النَّهي للمبالغةِ فيه ولاختلافِ الغرورينِ في الكيفيَّةِ . وقُرىء الغُرور بالضَّمِّ على أنَّه مصدرٌ أو جمعُ غَارٍ كقُعودٍ جمعُ قاعدٍ .(5/386)
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
{ إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ } عداوةً قديمةً لا تكاد تزولُ . وتقديمُ لكم للاهتمامِ به { فاتخذوه عَدُوّاً } بمخالفتِكم له في عقِائدِكم وأفعالِكم وكونِكم على حَذَرٍ منه في مجامعِ أحوالِكم . وقولُه تعالى : { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أصحاب السعير } تقريرٌ لعداوتِه وتحذيرٌ من طاعتِه بالتَّنبيهِ على أنَّ غرضَه في دعوةِ شيعتِه إلى اتِّباعِ الهَوَى والركونِ إلى ملاذِّ الدُّنيا ليس تحصيلَ مطالبِهم ومنافِعهم الدُّنيويَّةِ كما هو مقصد المُتحابِّين في الدُّنيا عند سعي بعضِهم في حاجةِ بعضٍ بل هو توريطُهم وإلقاؤُهم في العذابِ المُخلَّد من حيثُ لا يحتسبون { الذين كَفَرُواْ لَهُمْ } بسببِ كفرِهم وإجابتِهم لدعوةِ الشَّيطانِ واتِّباعِهم لخطواتِه { عَذَابٌ شَدِيدٌ } لا يُقَادر قَدُره مديدٌ لا يُبلغ مداهُ { والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم } بسببِ ما ذُكر من الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ الذي من جُملتِه عداوةُ الشِّيطانِ { مَغْفِرَةٌ } عظيمةٌ { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } لا غايةَ لهما .
{ أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً } إمَّا تقريرٌ لما سبقَ من التَّبايُنِ البيِّنِ بين عاقبتيْ الفريقينِ ببيان تباينِ حالهما المُؤدِّيينِ إلى تَينكِ العاقبتينِ . والفاءُ لإنكارِ ترتيبِ ما بعدها على ماقبلها أي أبعدَ كونِ حاليهما كما ذُكر يكون من زُيِّن له الكفرُ من جهةِ الشَّيطانِ فانهمك فيه كمنْ استقبحَه واجتنَبه واختارَ الإيمانَ والعملَ الصَّالحَ حتَّى لا تكونُ عاقبتُهما كما ذُكر فَحذْفُ ما حُذف لدلالةِ ما سبق عليه وقوله تعالى : { فَإِنَّ الله يُضِلُّ } الخ تقريرٌ له وتحقيقٌ للحقِّ ببيانِ أنَّ الكُل بمشيئتِه تعالى أيْ فإنَّه تعالىَ يُضلُّ { مَن يَشَآء } أنْ يضلَّه لا ستحسانِه واستحبابِه الضَّلالَ وصرفِ اختيارِه إليه فيردَّه أسفلَ سافلينَ { وَيَهْدِى مَن يَشَاء } أنْ يهديَه بصرفِ اختيارِه إلى الهُدى فيرفعه إلى أعلى عليين وإمَّا تمهيدٌ لما يعقبه من نهيهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن التَّحسرِ والتَّحزنِ عليهم لعدمِ إسلامِهم ببيانِ أنَّهم ليُسوا بأهلٍ لذلَك بلْ لأنْ يُضربَ عنهم صَفْحاً ولا يُبالي بهم قطعاً ، أي أبعدَ كونِ حالِهم كما ذُكر تتحسَّر عليهم فحُذف لما دلَّ عليه قولُه تعالى : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات } دلالة بيِّنةٌ . وإمَّا تمهيدٌ لصرفِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عمَّا كانَ عليه من الحرصِ الشَّديدِ على إسلامِهم والمبالغةِ في دعوتِهم إليه ببيانِ استحالةِ تحويلِهم عن الكفرِ لكونِه في غايةِ الحسنِ عندهم أي أبعدَ ما ذُكر من زُيِّن له الكفرُ من قبل الشَّيطانِ فرآه حسناً فانهمك فيه يقبلُ الهدايةَ حتَّى تطمعَ في إسلامِه وتُتعبَ نفسَك في دعوتِه فحُذف ما حُذف لدلالةِ ما مرَّ من قولِه تعالى فإنَّ الله يُضلُّ مَن يشاء الخ على أنَّه ممن شاء الله تعالى أنْ يضلَّه فمن يهدي مَن أضلَّ الله وما لهم مِن ناصرين . وقُرىء فلا تُذهب نفسك وقولُه تعالى : حسراتِ . إمَّا مفعول له أي فلا تهلك نفسك للحسرات والجمعُ للدِّلالةِ على تضاعفِ اغتمامِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على أحوالِهم أو على كثرةِ قبائحِ أعمالِهم الموجبةِ للتَّأسُّفِ والتَّحسرِ وعليهم . صلةُ تذهب كما يقال هَلك عليه حيَّاً ومات عليه حُزناً أو هو بيانٌ للمتحسَّر عليهِ ولا يجوزُ أنْ يتعلَّق بحسراتٍ لأنَّ المصدرَ لا تتقدَّمُ عليه صلتُه وإمَّا حالٌ كأن كلها صارت حسرات وقوله تعالى { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } أي من القبائحِ تعليلٌ لما قبله على الوجوهِ الثلاثةِ مع ما فيه من الوعيد . عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : أنَّها نزلتْ في أبي جهلٍ ومُشركِي مكَّةَ .(5/387)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
{ والله الذى أَرْسَلَ الرياح } مبتدأٌ وخبرٌ . وقُرىء الرِّيحَ وصيغتُه المضارعِ في قوله تعالى : { فَتُثِيرُ سحابا } لحكايةِ الحالِ الماضيةِ استحضاراً لتلكَ الصُّورةِ البديعةِ الدَّالَّةِ على كمال القدرةِ والحكمةِ ولأنَّ المرادَ بيانُ إحداثِها لتلك الخاصَّيةِ ولذلك أُسند إليها أو للدِّلالةِ على استمرارِ الإثارةِ { فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيّتٍ } وقُرىء بالتَّخفيفِ { فَأَحْيَيْنَا بِهِ الارض } أي بالمطرِ النَّازلِ منه المدلولِ عليه بالسَّحابِ فإنَّ بينهما تلازماً في الذِّهنِ كما في الخارجِ أو بالسَّحابِ فإنَّه سببُ السَّببِ { بَعْدَ مَوْتِهَا } أي يُبسها . وإيرادُ الفعلينِ على صيغةِ الماضِي للدِّلالةِ على التَّحقيقِ . وإسنادُها إلى نونِ العظمةِ المنبيءِ عن اختصاصِهما به تعالى لما فيهما من مزيدِ الصُّنعِ ولتكميل المُماثلةِ بين إحياءِ الأرضِ وبين البعثِ الذي شُبِّه به بقوله تعالى : { كَذَلِكَ النشور } في كمال الاختصاصِ بالقُدرةِ الرَّبانيةِ . والكافُ في حيِّزِ الرَّفعِ على الخبرية أي مثلَ ذلك الإحياءِ الذي تشاهدونَه إحياءٌ الأمواتِ في صحَّة المقدوريَّةِ وسهولةِ التأتِّي من غيرِ تفاوتٍ بينهما أصلاً سوى الألفِ في الأوَّلِ دُونَ الثَّانِي وقيل في كيفيَّةِ الإحياءِ يُرسل الله تعالى من تحت العرشِ ماءً فينبتُ منه أجسادُ الخلقِ { مَن كَانَ يُرِيدُ العزة } هم المشركونَ الذينَ كانُوا يتعزَّزون بعبادةِ الأصنامِ كقولِه تعالى : { واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً } والذين كانوا يتعزَّزون بهم من الذينَ آمنُوا بألسنتِهم كما في قوله تعالى : { الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة } والجمعُ بين كانَ ويريدُ للدِّلالةِ على دَوام الإرادةِ واستمرارِها .
{ فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً } أي له تعالى وحَدهُ لا لغيرِه عزَّةُ الدُّنيا وعزَّةُ الآخرةِ أي فليطلبها منْهُ لا من غيرِه فاستُغني عن ذكرِه بذكرِ دليلِه إيذاناً بأنَّ اختصاصَ العزَّةِ تعالى موجبٌ لتخصيصِ طلبها به تعالى . وقوله تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } بيان لما يُطلب به العزَّةُ وهو التَّوحيدُ والعملُ الصَّالحُ . وصعودُهما إليه مجازٌ عن قبولِه تعالى إيَّاهُما أو صعودُ الكَتَبةِ بصحيفتهما . وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ عبارةٌ عن كمالِ الاعتدادِ به كقولِه تعالى : { وَهُوَ الذى يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات } أي إليه يصلُ الكلمُ الطَّيبُ الذي به يُطلب العزَّةَ لا إلى الملائكةِ الموكَّلين بأعمال العبادِ فَقطَ وهو يعزُّ صاحَبهُ ويُعطي طِلْبتَه بالذَّاتِ . والمستكّنُّ في يرفعه للكلم فإنَّ مدارَ قبولِ العملِ هو التَّوحيدُ ويُؤيده القراءةُ بنصبِ العملِ أو للعملِ فإنَّه يحققُ الإيمانَ ويقويه ولا يُنال الدَّرجاتُ العاليةُ إلا به . وقُرىء يُصعد من الإصعادِ على البناءين والمُصعدُ هو الله سبحانَه أو المتكلِّم به أو الملكُ وقيل الكلمُ الطَّيبُ يتناول الذِّكرَ والدُّعاءَ والاستغفارَ وقراءةَ القُرآن . وعنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّه سبحانَ الله والحمدُ لله ولا إلَه إلا الله والله أكبرُ إذَا قالَها العبدُ عرجَ بها الملكُ إلى السَّماءِ فحيا بها وجَه الرحمن فإذا لم يكُن عملٌ صالحٌ لم تُقبل ، وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه(5/388)
« ما من عبدٍ مسلمٍ يقولُ حمسَ كلماتٍ سبحان الله والحمدُ لله ولا إلَه إلاَّ الله والله أكبرُ وتبارك الله إلا أخذهنَّ ملكٌ فجعلهنَّ تحتَ جناحِه ثم صعدَ بهنَّ فما يمرُّ بهنَّ على جمعٍ من الملائكةِ إلا استغفرُوا لقائلهنَّ حتَّى يحيى بهنَّ وجَه ربِّ العالمين »
ومصداقُه قوله عزَّ وجلَّ { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب } الخ .
{ والذين يَمْكُرُونَ السيئات } بيانٌ لحال الكَلِمِ الخَبيثِ والعملِ السَّيِّىء وأهلِهما بعد بيانِ حالِ الكَلمِ الطَّيبِ والعملِ الصَّالحِ . وانتِّصابُ السَّيئاتِ على أنَّها صفةٌ للمصدرِ المحذوفِ أي يمكرون المكَرَاتِ السَّيئاتِ وهي مكَراتُ قُريشٍ بالنبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في دارِ النَّدوةِ وتداورِهم الرَّأيِ في إحدى الثَّلاثِ التي هي الإثباتُ والقتلُ والإخراجُ { لَهُمْ } بسببَ مكراتِهم { عَذَابٌ شَدِيدٌ } لا يُقادرُ قَدرُه ولا يُؤبه عندَهُ لمَا يمكرونَ { وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ } وضعَ اسمُ الإشارةِ موضعَ ضميرِهم للإيذانِ بكمالِ تميُّزهم بما هُم فيه من الشَّرِّ والفسادِ عن سائرِ المُفسدينَ واشتهارِهم بذلك . وما فيه من معنى البُعد للتنبيه على تَرامي أمرهِم في الطُّغيانِ وبُعد منزلِتهم في العُدوانِ . أي ومكرُ أولئكَ المُفسدين الذينَ أرادُوا أنْ يمكرُوا به عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ { هُوَ يَبُورُ } أي هو يهلكُ ويفسدُ خاصَّةً لا مَن مكرُوا بهِ ولقد أبارَهُم الله تعالى بعد إبارةِ مكراتِهم حيثُ أخرجَهم من مكَّةَ وقتلَهم وأثبتَهم في قَليبِ بدرٍ فجمعَ عليهم مكراتِهم الثَّلاثَ التي اكتفَوا في حقِّه عليه الصَّلاةُ والصَّلامُ بواحدةٍ منهن .(5/389)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
{ والله خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ } دليلٌ آخرُ على صحَّةِ البعثِ والنُّشورِ أي خلقكم ابتداءً منه في ضمنِ خلقِ آدمَ عليه السَّلامُ خلقاً إجماليَّاً كما مرَّ تحقيقُه مراراً { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } أي ثم خلقكَم منها خلقاً تفصيلياً { ثُمَّ جَعَلَكُمْ أزواجا } أي أصنافاً أو ذُكراناً وإناثاً . وعن قَتادةَ جعل بعضَكم زَوْجاً لبعضٍ { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } إلا ملتبسةً بعلمِه تابعةً لمشيئتِه { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ } أي من أحدٍ وإنما سُمِّي معمَّراً باعتبارِ مصيرِه أي وما يُمدُّ في عمرِ أحدٍ { وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } أي من عمرِ أحدٍ على طريقةِ قولِهم لا يُثيب الله عبداً ولا يُعاقبه إلا بحقَ لكنْ لا عَلى معنى لا يُنقص عمره بعد كونِه زائداً على معنى لا يُجعل من الابتداءِ ناقصاً . وقيل الزِّيادةُ والنَّقصُ في عمرٍ واحدٍ باعتبارِ أسبابِ مختلفةٍ أُثبتتْ في اللَّوحِ مثلِ أنْ يكتبَ فيه إنْ حجَّ فلانٌ فعمرُه ستُّونَ وإلا فأربعونَ وإليه أشارَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بقولِه : « الصَّدقة والصِّلةُ تُعمِّرانِ الدِّيارَ وتزيدانِ في الأعمارِ » وقيلَ : المرادُ بالنَّقصِ ما يمرُّ من عمرِه وينقصُ فإنَّه يكتب في الصَّحيفةِ عمرُه كذا وكذا سنة ثم يُكتب تحتَ ذلك ذهبَ يومٌ ذهبَ يومانِ وهكذا حتَّى يأتي على آخرِه ، وقُرىء ولا يَنقْصُ على البناءِ للفاعلِ ومن عُمْره بسكونِ الميمِ { إِلاَّ فِى كتاب } عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهُما أنَّه اللَّوحُ وقيل : عِلمُ الله عزَّ وجلَّ . وقيل : صحيفةُ كلِّ إنسانٍ { إِنَّ ذلك } أي ما ذُكر من الخلقِ وما بعدَهُ مع كونِه محاراً للعقولِ والأفهامِ { عَلَى الله يَسِيرٌ } لاستغنائِه عن الأسبابِ فكذلك البعثُ .(5/390)
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)
{ وَمَا يَسْتَوِى البحران هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ } مَثلٌ ضُرب للمؤمنِ والكافرِ . والفُراتُ : للذي يكسرُ العطشَ والسَّائغُ الذي يَسهلُ انحدارُه لعذوبتِه . والأُجاج الذي يحرقُ بملوحتِه . وقُرىء سيِّغ كَسيِّد وسَيْغٌ بالتَّخفيفِ . ومَلِح ككَتِفٍ . وقوله تعالى : { وَمِن كُلّ } أي من كلِّ واحدٍ منهما { تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ } أي من المالحِ خاصَّةً { حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } إمَّا استطرادٌ في صفةِ البحرينِ وما فيهما من النِّعمِ والمنافعِ ، وإمَّا تكملةٌ للتَّمثيلِ . والمعنى كما أنَّهما وإن اشتركا في بعضِ الفوائدِ لا يتساويانِ من حيثُ أنَّهما متفاوتانِ فيما هو المقصودُ بالذَّاتِ من الماءِ لمَّا خالطَ أحدهما ما أفسدَه وغيَّره عن كمال فطرته لا يساوي الكافرُ المؤمنَ وإنْ شاركه في بعض الصِّفاتِ كالشَّجاعةِ والسَّخاوةِ ونحوهما لتباينهما فيما هو الخاصيَّةُ العُظمى لبقاء أحدهما على فطرته الأصليَّةِ وحيازتِه لكماله اللائقِ دون الآخر أو تفضيلٌ للأُجاجِ على الكافرِ من حيثُ أنَّه يشارك العذبَ في منافعَ كثيرةٍ والكافرُ خِلْوٌ من المنافعِ بالكُلِّية على طريقةِ قوله تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذلك فَهِىَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخرُجُ مِنْهُ الماء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله } والمرادُ بالحلية اللؤلؤُ والمرجانُ { وَتَرَى الفلك فِيهِ } أي في كلَ منهما . وإفرادُ ضميرِ الخطابِ مع جمعِه فيما سبقَ وما لحقَ لأنَّ الخطابَ لكُلِّ أحدٍ تتأتَّى منه الرُّؤيةُ دونَ المنتفعينَ بالبحرينِ فَقَطْ { مَوَاخِرَ } شواقَّ للماءِ بجريها مقبلةً ومدبرةً بريحٍ واحدةٍ { لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } من فضلِ الله تعالى بالنقلة فيها واللام متعلِّقة بمواخرَ وقد جُوِّز تعلُّقها بما يدلُّ عليه الأفعالُ المذكورةُ أي فعلَ ذلك لتبتغُوا من فضلِه { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي ولتشكُروا على ذلك . وحرفُ التَّرجِّي للإيذانِ بكونِه مرضياً عند الله تعالى . { يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى اليل } بزيادةِ أحدِهما ونقصِ الآخرِ بإضافةِ بعضِ أجزاءِ كلَ منهما إلى الآخرِ { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } عطفٌ على يُولج . واختلافُهما صيغةً لما أنَّ إيلاجَ أحدِ المَلَوينِ في الآخر متجددٌ حيناً فحيناً ، وأمَّا تسخِّيرُ النيرِّينِ فأمرٌ لا تعدُّدَ فيه وإنَّما المتعددُ والمتجددُ آثارُه . وقد أُشير إليهِ بقولِه تعالى : { كُلٌّ يَجْرِى } أي بحسبِ حركتِه الخاصَّةِ وحركتِه القسريةِ على المداراتِ اليوميَّةِ المُتعدِّدةِ حسب تعدُّدِ أيَّام السَّنةِ جَرياناً مستمرَّاً { لاِجَلٍ مُّسَمًّى } قدَّره الله تعالى لجريانهما وهو يومُ القيامةِ كما رُوي عن الحسنِ رحمه الله وقيل : جريانُهما عبارةٌ عن حركتيهما الخاصَّتينِ بهما في فلكيهما ، والأجلُ المُسمَّى هو منتهى دورتيهما ، ومدَّةُ الجريانِ للشَّمسِ سنةٌ وللقمرِ شهرٌ وقد مرَّ تفصيلُه في سُورة لقمانُ { ذلكم } إشارةٌ إلى فاعلِ الأفاعيلِ المذكورةِ ، وما فيهِ من معنى البُعدِ للإيذانِ بغايةِ العظمةِ وهو مبتدأٌ وما بعدَه أخبارٌ مترادفةٌ أي ذلكُم العظيُم الشَّأنِ الذي أبدعَ هذه الصَّنائعَ البديعةَ { الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك } وفيه من الدِّلالةِ على أنَّ إبداعَه تعالى لتلك البدائعِ ممَّا يُوجبُ ثبوتَ تلك الأخبارِ له ما لا يخفى ، ويجوزُ أنْ يكونَ الأخيرُ كلاماً مُبتدأً في مقابلةِ قوله تعالى : { والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } للدِّلالةِ على تفرُّدِه تعالى بالأُلوهيَّةِ والرُّبوبيَّةِ . وقُرىء يَدعُون بالياءِ التحتانيةِ . والقطميرُ لفافةُ النَّواةِ وهو مَثَلٌ في القلَّةِ والحقارةِ .(5/391)
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)
{ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ } استئنافٌ مقرر لمضمون ما قبله كاشفٌ عن جليةِ حالِ ما يدعونَه بأنَّه جمادٌ ليس من شأنِه السَّماعُ { وَلَوْ سَمِعُواْ } على الفرضِ والتَّقديرِ { مَا استجابوا لَكُمْ } لعجزِهم عن الأفعالِ بالمرَّةِ لا لما قيلَ من أنَّهم متبرِّئون منكم وممَّا تدعُون لهم فإنَّ ذلك ممَّا لا يُتصور منهم في الدُّنيا { وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } أي يجحدونَ بإشراكِكم لهم وعبادتِكم إيَّاهم بقولِهم ما كنتُم إيَّانا تعبدونَ { وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } أي لا يخبرك بالأمرِ مخبرٌ مثلُ خبيرٍ أخبرَك به وهو الحقُّ سبحانَه فإنَّه الخبيرُ بكُنهِ الأمورِ دُون سَائرِ المخبرين . والمرادُ تحقيقُ ما أخبر به من حالِ آلهتِهم ونفيُ ما يدَّعُون لهم من الإلهيةِ .
{ ياأيها الناس أَنتُمُ الفقراء إِلَى الله } في أنفسِكم وفيما يعنُّ لكم من أمرٍ مهمَ أو خطبٍ ملمَ . وتعريفُ الفقراءِ للمبالغةِ في فقرِهم كأنَّهم لكثرةِ افتقارِهم وشدَّةِ احتياجِهم هم الفقراءُ فحسب وأنَّ افتقارَ سائرِ الخلائقِ بالنسبةِ إلى فقرِهم يمنزلةِ العدمِ ولذلك قال تعالى : { وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } { والله هُوَ الغنى الْحَمِيدُ } أي المستغنِي على الإطلاقِ المنعمُ على سائرِ الموجوداتِ المستوجبُ للحمدِ { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } ليسُوا على صفتِكم بل مستمرُّون على الطَّاعةِ أو بعالمٍ آخرَ غيرِ ما تعرفونَهُ { وَمَا ذلك } أي ما ذُكر من الإذهابِ بهم والإتيانِ بآخرينَ { عَلَى الله بِعَزِيزٍ } بمتعذرٍ ولا متعسرٍ .(5/392)
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)
{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ } أي لا تحملٌ نفسٌ آثمةٌ { وِزْرَ أخرى } إثمَ نفسٍ أُخرى بل إنَّما تحملُ كلُّ منهما وزرَها . وأمَّا ما في قولِه تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } من حملِ المضلِّين أثقالاً غيرَ أثقالِهم فهو حملُ أثقالِ إضلالِهم مع أثقالِ ضلالِهم وكلاهما أوزارُهم ليس فيها من أوزارِ غيرِهم شيء { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ } أي نفسٌ أثقلَها الأوزارُ { إلى حِمْلِهَا } لحملِ بعضِ أوزارِها { لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْء } لم تُجبَ بحملِ شيءٍ منه { وَلَوْ كَانَ } أي المدعُو المفهوم من الدَّعوةِ { ذَا قربى } ذا قرابةٍ من الدَّاعي . وقُرىء ذُو قُربى . وهذا نفيٌ للحملِ اختياراً والأوَّلُ نفيٌ له إجباراً { إِنَّمَا تُنذِرُ } استئنافٌ مسوق لبيان من يتَّعظُ بما ذُكر أي إنَّما تنذر بهذه الإنذاراتِ { الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب } أي يخشَونَه تعالى غائبينَ عن عذابِه أو عن النَّاسِ في خلواتِهم أو يخشَون عذابَه وهو غائبٌ عنهم { وَأَقَامُوا الصلاة } أي راعَوها كما ينبغي وجعلوها مَنَاراً منصوباً وعَلَماً مرفُوعاً أي إنما ينفعُ إنذارُك وتحذيرُك هؤلاءِ من قومِك دُون مَن عداهُم من أهل التَّمرد والعنادِ { وَمَن تزكى } أي تطهرَ من أوضار الأوزارِ والمعاصِي بالتَّاثرِ من هذهِ الإنذاراتِ { فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ } لاقتصارِ نفعِه عليها كما أنَّ مَن تدنَّس بها لا يتدنَّس إلا عليها . وقُرىء من ازكَّى فإنَّما يزكَّى ، وهو اعتراضٌ مقررٌ لخشيتهم وإقامِتهم الصَّلاةَ لأنَّها من معظمِ مبادِي التزكِّي { وإلى الله المصير } لا إلى أحدٍ غيرهِ استقلالاً أو اشتراكاً فيجازيهم على تزكِّيهم أحسنَ الجزاء .
{ وَمَا يَسْتَوِى الاعمى والبصير } أي الكافرُ والمؤمنُ { وَلاَ الظلمات وَلاَ النور } أي ولا الباطلُ ولا الحقُّ وجمع الظلمات مع أفرادِ النُّورِ لتعدُّدِ فنونِ الباطلِ واتِّحاد الحقِّ { وَلاَ الظل وَلاَ الحرور } أي ولا الثَّوابُ ولا العقابُ . وإدخالُ لا على المتقابلينِ لتذكيرِ نفيِ الاستواءِ وتوسيطُها بينهُما للتَّأكيدِ . والحرَرورُ فَعولٌ من الحرِّ غلب على السَّمومِ وقيل : السَّمومُ ما يهبُّ نهاراً والحَرورُ ما يهبُّ ليلاً { وَمَا يَسْتَوِى الاحياء وَلاَ الاموات } تمثيلٌ آخرُ للمؤمنينَ والكافرينَ أبلغُ من الأوَّلِ ولذلك كُرِّر الفعلُ وأُوثر صيغةُ الجمعِ في الطَّرفينِ تحقيقاً للتَّباينَ بين أفرادِ الفريقينِ وقيل : تمثيلٌ للعُلماءِ والجَهَلةِ { إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَاء } أنْ يُسمَعه ويوفِّقه لفهم آياتِه والاتَّعاظِ بعظاتِه { وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى القبور } ترشيحٌ لتمثيل المصرِّينَ على الكُفرِ بالأمواتِ وإشباعٌ في إقناطِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من إيمانِهم .(5/393)
إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)
{ إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ } ما عليكَ إلا الإنذارُ وأمَّا الإسماعُ البتةَ فليس من وظائِفك ولا حليةَ لك إليه في المطبوعِ على قلوبهم { إِنَّا أرسلناك بالحق } أي محقَّين أو محقّاً أنتَ أو إرسالاً مصحُوباً بالحقِّ ويجوزُ أنْ بتعلَّق بقوله { بَشِيراً وَنَذِيراً } أي بشيراً بالوعدِ الحقِّ ونذيراً بالوعيدِ الحقِّ { وَإِن مّنْ أُمَّةٍ } أي ما من أمةٍ من الأممِ الدَّارجةِ في الأزمنةِ الماضيةِ { إِلاَّ خَلاَ } أي مَضَى { فِيهَا نَذِيرٌ } من نبيَ أو عالمٍ يُنذرهم . والاكتفاءُ بذكرهِ للعلمِ بأنَّ النَّذارةَ قرينةُ البشارةِ لا سيِّما وقد اقترنا آنِفاً ولأنَّ الإنذارَ هو الأنسبُ بالمقَامِ { وَإِن يُكَذّبُوكَ } أي تموا على تكذيبكَ فلا تُبالِ بهم وبتكذيِبهم { فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } من الأممِ العاتيةِ { جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } أي المعجزاتِ الظَّاهرةِ الدَّالةِ على نُبوُّتهم { وبالزبر } كصُحفِ إبراهيمَ { وبالكتاب المنير } كالتَّوارةِ والإنجيلِ والزَّبورِ على إرادةِ التَّفصيلِ دُون الجمعِ وبجوزُ أنْ يُرادَ بهما واحدٌ والعطفُ لتغايرِ العُنوانينِ { ثُمَّ أَخَذْتُ الذين كَفَرُواْ } وضعَ الموصولَ موضعَ ضميرِهم لذمِّهم بما في حيِّزِ الصَّلةِ والإشعارِ بعلَّةِ الأخذِ { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي إنكارِي بالعقوبة وفيه مزيدُ تشديدٍ وتهويلٍ لها .
{ أَلَمْ تَرَ } استئنافٌ مسوق لتقريرِ ما قبله من اختلافِ أحوالِ النَّاسِ ببيان أنَّ الاختلافَ والتَّفاوتَ أمرٌ مطَّردٌ في جميعِ المخلوقات من النَّباتِ والجمادِ والحيوانِ . والرُّؤيةُ قلبية أي ألم تعلمَ { أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ } بذلك الماءِ . والالتفات لإظهارِ كمال الاعتناءِ بالفعلِ لما فيه من الصُّنعِ البديعِ المنبىءِ عن كمالِ القُدرةِ والحكمةِ { ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } أي أجناسُها أو أصنافُها على أنَّ كلاًّ منها ذُو أصنافٍ مختلفةٍ . أو هيئاتُها وأشكالُها أو ألوانُها من الصُّفرةِ والخُصرةِ والحُمرةِ وغيرِها وهو الأوفقُ لما في قوله تعالى : { مّنَ الجبال جُدَدٌ } أي ذو جديد أي خططٍ وطرائقَ ويقالُ جدة الحمارِ للخطةِ السَّوداءِ على ظهره وقُرىء جُدُد بالضَّمِّ جمع جديدةٍ بمعنى الجدة وجَدَد بفتحتينِ وهو الطَّريقُ الواضحُ { بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ ألوانها } بالشِّدةِ والضَّعفِ { وَغَرَابِيبُ سُودٌ } عطفٌ على بيضٌ أو على جدُد كأنَّه قيل : ومن الجبالِ مُخطَّطٌ ذو جُددٍ ومنها ما هو على لونٍ واحدٍ غرابيبَ وهو تأكيد لمضمر يفسِّره ما بعدِه فإنَّ الغربيبَ . تأكيدٌ للأسودِ كالفاقعِ للأصفرِ والقانِي للأحمرِ ومن حقِّ التَّأكيدِ أنْ يتبعَ المؤكَّدَ ، ونظيرُه في الصِّفةِ قولُ النَّابغةِ :
والمؤمنِ العائذاتِ الطَّيرَ يمسحُها ... وفي مثلهِ مزيدٌ تأكيدٍ لما فيه التَّكرارِ باعتبار الإضمارِ والإظهارِ .(5/394)
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)
{ وَمِنَ الناس والدواب والانعام مُخْتَلِفٌ ألوانه } أي ومنهم بعضٌ مختلفٌ ألوانُه أو وبعضُهم مختلفٌ ألوانُه على ما مرَّ في قوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله } وإيراد الجملتينِ اسميتين مع مشاركتِهما لما قبلَهُما من الجملةِ الفعليةِ في الاستشهادِ بمضمونِهما على تباينِ النَّاسِ في الأحوالِ الباطنةِ لما أنَّ اختلافَ الجبالِ والنَّاسِ والدَّوابِّ والأنعامِ فيما ذُكر من الألوانِ أمرٌ مستمرٌ فعبَّر عنه بما يدلُّ على الاستمرارِ . وأمَّا إخراجُ الثَّمراتِ المختلفةِ فحيثُ كان أمراً حادثاً عبَّر عنه بما يدلُّ على الحدوثِ ثم لما كان فيه نوعُ خفاءً علَّق به الرُّؤية بطريقِ الاستفهامِ التقريريِّ المُنبىءِ عن الحمل عليها والتَّرغيبِ فيها بخلافِ أحوالِ الجبالِ والنَّاسِ وغيرِهما فإنَّها مُشاهدَة غنيَّةٌ عن التأمُّلِ فلذلك جُرِّدتْ عن التَّعليقِ بالرُّؤيةِ فتدبَّرْ . وقولُه { كذلك } مصدرٌ تشبيهيٌّ لقوله تعالى مختلفٌ أي صفة لمصدره المؤكِّد تقديرُه مختلفٌ اختلافاً كائناً كذلك أي كاختلافِ الثِّمارِ والجبال وقرىء ألواناً وقُرىء والدَّوابَ بالتَّخفيفِ مبالغةً في الهربِ من التقاءِ السَّاكنينِ وقوله تعالى { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } تكملة لقوله تعالى : { إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب } بتعيين من يخشاه عزَّ وجلَّ من النَّاس بعد بيانِ اختلافِ طبقاتِهم وتباينِ مراتبِهم ، أمَّا في الأوصافِ المعنويَّةِ فبطريقِ التَّمثيلِ وأما في الأوصافِ الصُّوريةِ فبطريقِ التَّصريحِ توفية لكلَّ واحدةٍ منهما حقَّها اللائقَ بها من البيانِ أي إنَّما يخشاه تعالى بالغيب العالمون به عزَّ وجلَّ وبما يليق به من صفاتِه الجليلةِ وأفعالِه الجميلةِ لما أنَّ مدارَ الخشية معرفةُ المخشيِّ والعلمُ بشؤونه فمن كان أعلم به تعالى كانَ أخشى منه عزَّ وجلَّ كما قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « أنا أخشاكُم لله وأتقاكُم له » ولذلك عقَّب بذكرِ أفعالِه الدَّالَّةِ على كمالِ قُدرتِه وحيث كان الكَفَرةُ بمعزلٍ من هذه المعرفةِ امتنع إنذارُهم بالكلِّية . وتقديمُ المفعولِ لأن المقصودَ حصرُ الفاعليَّةِ ولو أُخِّر انعكسَ الأمرُ وقُرىء برفعِ الاسمِ الجليلِ ونصبِ العلماءِ على أنَّ الخشية مستعارةٌ للتَّعظيمِ فإنَّ المعظَّم يكونُ مهيباً { إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ } تعليل لوجوبِ الخشيةِ لدلالتهِ على أنَّه معاقبٌ للمصرِّ على طغيانِه غفورٌ للتائب عن عصيانِه .
{ إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله } أي يداومُون على قراءته أو متابعةِ ما فيه حتَّى صارتْ سمةً لهم وعُنواناً . والمرادُ بكتابِ الله تعالى القُرآنُ . وقيلَ : جنسُ كتبِ الله فيكون ثناءً على المصدِّقين من الأممِ بعد اقتصاصِ حالِ المكذِّبين منهم وليسَ بذاك فإنَّ صيغةَ المضارعِ مناديةٌ باستمرارِ مشروعيةِ تلاوتِه والعملِ بما فيه واستتباعِهما لما سيأتي من توفيةِ الأجورِ وزيادةِ الفضلِ . وحملُها على حكايةِ الحالِ الماضيةِ مع كونِه تعسُّفاً ظاهراً ممَّا لا سيبلَ إليه كيفَ لا والمقصودُ التَّرغيبُ في دينِ الإسلامِ والعملُ بالقُرآن النَّاسخِ لما بين يديهِ من الكتبِ فالتَّعرضُ لبيانِ حقِّيتها قبل انتساخِها والإشباعُ في ذكرِ استتباعها لما ذُكر من الفوائدِ العظيمةِ مَّما يُورث الرَّغبةَ في تلاوتِها والإقبالِ على العملِ بها .(5/395)
وتخصيصُ التِّلاوةِ بما لم ينسخ منها باطلٌ قطعاً لما أنَّ الباقي مشروعاً ليس إلا حكمها لكنْ لا من حيثُ أنَّه حكَّمها بل من حيثُ حكّم القرآنَ وأما تلاوتُها فبمعزلٍ من المشروعيَّةِ واستتباع الأجر بالمرَّة فتدبر { وَأَقَامُواْ الصلاة وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيةً } كيفما اتَّفق من غيرِ قصدٍ إليهما وقيل : السِّرُّ في المسنونةِ والعلانيةُ في المفروضةِ { يَرْجُونَ تجارة } تحصيلَ ثوابٍ بالطَّاعةِ وهو خبرُ إنَّ . وقوله تعالى { لَّن تَبُورَ } أي لن تكسدَ ولن تهلكَ بالخسرانِ أصلاً صفةٌ لتجارةَ جيء بها للدِّلالةِ على أنَّها ليستْ كسائرِ التِّجاراتِ الدَّائرةِ بين الرِّبحِ والخُسرانِ لأنَّه اشتراءُ باقٍ بفانٍ . والإخبارُ برجائِهم من أكرمِ الأكرمينَ عِدَةٌ قطعيةٌ بحصولِ مرجوِّهم .(5/396)
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
وقولُه تعالى : { لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ } متعلقٌ بلَنْ تبورَ على معنى أنَّه ينتفي عنها الكسادُ وتنفُق عند الله تعالى ليوفيَهم أجورَ أعمالِهم { وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } على ذلك من خزائنِ رحمتِه ما يشاءُ وقيل : بمضمرٍ دلَّ عليه ما عُدَّ من أفعالهم المرضيَّةِ أي فعلُوا ذلك ليوفيَهم إلخ وقيل بيرجُون على أنَّ اللام للعاقبةِ { إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } تعليلٌ لما قبلَه من التَّوفيةِ والزِّيادةِ أي غفورٌ لفرطاتِهم شكورٌ لطاعاتِهم أي مجازيهم عليها ، وقيل : هُو خبرُ إنَّ الذينَ ويرجُون حالٌ من واوِ أنفقُوا .
{ والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكتاب } وهو القرآنُ ومِن للتَّبيين أو الجنسِ ومن للتَّبعيضِ وقيل : اللَّوحَ ومِن للابتداءِ { هُوَ الحق مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي أحقه مصدِّقاً لما تقدَّمه من الكتبِ السَّماويةِ حالٌ مؤكِّدة ، لأنَّ حقِّيتَه تستلزمُ موافقتَه إيَّاهُ في العقائدِ وأصولِ الأحكامِ { إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } محيطٌ ببواطنِ أمورِهم وظواهرِها فلو كانَ في أحوالِك ما ينافي النُّبوة لم يُوحِ إليك مثلُ هذا الحقَّ المعجزِ الذي هو عيارٌ على سائرِ الكتبِ . وتقديمُ الخبيرِ للتَّنبيه على أنَّ العمدةَ هي الأمورُ الرُّوحانيَّةُ { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب } أي قضينا بتوريثةِ منك أو نورِّثه . والتَّعبيرُ عنه بالماضِي لتقرره وتحققه وقيل : أورثناهُ من الأممِ السَّالفةِ أي أخَّرناه عنهم وأعطيناهُ { الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } وهم علماءُ الأمةِ من الصَّحابةِ ومن بعدهم ممَّن يسيرُ سيرتَهم أو الأمة بأسرِهم فإنَّ الله تَعال اصطفاهم على سائرِ الأممِ وجعلهم أمةً وسطاً ليكونُوا شهداءَ على النَّاسِ واختصَّهم بكرامةِ الانتماءِ إلى أفضلِ رسلِه عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وليس من ضرورةِ وراثةِ الكتابِ مراعاتُه حقَّ رعايتِه لقوله تعالى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب } الآيةَ { فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ } بالتَّقصيرِ في العلمِ به وهو المرجأُ لأمرِ الله { وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } يعملُ به في أغلبِ الأوقاتِ ولا يخلُو من خلط السَّيءِ { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله } قيل هم السّابقونَ الأوَّلُون من المهاجرينَ والأنصارِ وقيل : هم المُداومون على إقامةِ مواجبهِ علماً وعملاً وتعليماً وفي قوله تعالى بإذنِ الله أي بتيسيره وتوفيقِه تنبيةٌ على عزَّةِ منالِ هذه الرُّتيةِ وصعوبةِ مأخذِها وقيل : الظَّالمُ الجاهلُ والمقتصدُ المتعلِّم والسَّابقُ العالمُ وقيل الظالمُ المجرمُ والمقتصدُ الذي خلطَ الصَّالحَ بالسَّيءِ والسَّابقُ الذي ترَّجحتْ حسناته بحيثُ صارتْ سيِّئاتُه مكفَّرةً . وهو معنى قوله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « وَأَمَّا الذين سَبَقُواْ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَأَمَّا المقتصد فأولئك يحاسبون حساباً يسيراً وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون فى طول المحشر ثم يتلقاهم الله تعالى برحمته » وقد رُوي أنَّ عمرَ رضي الله عنه قال وهو على المنبرِ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : « سابقُنا سابقٌ ومقتصدُنا ناجٍ وظالمُنا مغفورٌ له » { ذلك } إشارةٌ إلى السَّبقِ بالخيراتِ وما فيه من معنى البُعدِ مع قُربِ العهد بالمشارِ إليه للإشعارِ بعلوِّ رتبتِه وبُعد منزلتِه في الشَّرفِ { هُوَ الفضل الكبير } من الله عزَّ وجلَّ لا يُنال إلا بتوفيقِه تعالى(5/397)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)
{ جنات عَدْنٍ } إمَّا بدلٌ من الفضلُ الكبيرُ بتنزيلِ السَّببِ منزلةَ المسَّببِ أو مبتدأٌ خبرُه { يَدْخُلُونَهَا } وعلى الأوَّلِ هو مستأنفٌ وجمعُ الضَّميرِ لأنَّ المرادَ بالسَّابقِ الجنسُ وتخصيصُ حالِ السَّابقينَ ومآلِهم بالذِّكرِ والسُّكوتُ عن الفريقينِ الآخرينِ وإنْ لم يدلَّ على حرمانِهما من دخولِ الجنةِ مُطلقاً لكنَّ فيه تحذيراً لهما من التَّقصيرِ وتحريضاً على السَّعيِ في إدراكِ شأوِ السَّابقينَ . وقُرىء جنَّاتِ عدنٍ وجَّنةَ عدنٍ على النَّصبِ بفعلٍ يفسِّره الظَّاهرُ . وقُرىء يُدخَلُونها على البناءِ للمفعولِ { يُحَلَّوْنَ فِيهَا } خبرٌ ثانٍ ، أو حالٌ مقدرةٌ . وقُرىء يحلُون من حَلِيتْ المرأةُ فهي حاليةٌ { مِنْ أَسَاوِرَ } هيَ جمعُ أسورةٍ جمع سوارٍ { مّن ذَهَبٍ } مِن الأُولى تبعيضيَّةٌ ، والثَّانيةُ بيانيَّةٌ أي يُحلَّون بعضَ أساورَ من ذهبٍ كأنَّه أفضلُ من سائرِ أفرادِها { وَلُؤْلُؤاً } بالنَّصبِ عطفاً على محلِّ من أساورَ وقُرىء بالجرِّ عطفاً على ذهبٍ أي من ذهبٍ مرصعٍ باللُّؤلؤِ أو من ذهبٍ في صفاءِ اللُّؤلؤِ { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } وتغييرُ الأسلوبِ قدمرَّ سرُّه في سورةِ الحجِّ .
{ وَقَالُواْ } أي يقولون وصيغةَ الماضي للدِّلالةِ على التَّحقُّقِ { الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن } وهو ما أهمَّهم من خوفِ سوءِ العاقبةِ وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : حَزَنُ الأعراضِ والآفاتُ ، وعنه حَزَنُ الموتِ وعن الضَّحَّاكِ : حَزَنُ وسوسةِ إبليسَ . وقيل : همُّ المعاشِ ، وقيل : حَزَنُ زوالِ النِّعمِ . والظَّاهرُ أنَّه الجنسُ المنتظمُ لجميعِ أحزانِ الدِّينِ والدُّنيا . وقُرىء الحُزْنَ وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : « ليسَ على أهلِ لا إله إلا الله وحشةٌ في قبورِهم ولا في محشرِهم ، ولا في مسيرِهم وكأنِّي بأهل لا إله إلا الله يخرجُون من قبورِهم ينفضُون التُّرابَ عن وجوهِهم ويقولُون الحمدُ لله الذي أذهبَ عنَّا الحَزَنَ » { إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ } أي للمذنبينَ { شَكُورٌ } للمطيعينَ .(5/398)
الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
{ الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة } أي دارَ الإقامةِ التي لا انتقالَ عنها أبداً { مِن فَضْلِهِ } من إنعامِه وتفضُّلِه من غيرِ أنْ يوجبَه شيءٌ من قبلنا { لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ } تعب { وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } كلالٌ والفرقُ بينهما أنَّ النَّصبَ المشقَّة والكُلفة واللُّغوب ما بحدثُ منه من الفتورِ ، والتَّصريحُ بنفي الثَّاني مع استلزامِ نفي الأوَّلِ له وتكريرُ الفعلِ المنفي للمبالغةِ في بيانِ انتفاءِ كلَ منهما { والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ } لا يُحكم عليهم بموتٍ ثانٍ { فَيَمُوتُواْ } ويستريحُوا . ونصبُه بإضمارِ أنْ وقُرىء فيموتونَ عطفاً على يقضي كقوله تعالى : { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } { وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا } بل كلَّما خبتْ زيد إسعارُها { كذلك } أي مثلَ ذلكَ الجزاءِ الفظيعِ { نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ } مبالغٍ في الكفرِ أو الكفرانِ لا جزاء أخف وأدنى منه . وقُرىء يُجزى على البناءِ للمفعولِ وإسناده إلى الكلِّ وقرىء يجازى .
{ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا } يستغيثُون . والاصطراخُ افتعالٌ من الصُّراخِ استُعمل في الاستغاثةِ لجهد المستغيثِ صوتَه { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ } بإضمارِ القولِ وتقييدِ العملِ الصَّالحِ بالوصفِ المذكورِ للتَّحسرِ على ما عملوه من غيرِ الصَّالحِ والاعترافِ به والإشعارِ بأنَّ استخراجَهم لتلافيهِ وأنَّهم كانُوا يحسبونه صالحاً والآنَ تبيَّن خلافُه . وقولُه تعالى { أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } جوابٌ من جهتِه تعالى وتوبيخٌ لهم . والهمزةُ للإنكارِ والنَّفيِ والواوُ للعطفِ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقامُ . ومَا نكرةٌ موصوفةٌ أي ألم نمهلْكُم أو ألم نؤخرْكُم ولم نعمْركُم عمراً يتذكَّرُ فيه من تذكَّر أي يتمكَّنُ فيه المتذكرُ من التَّذكُّرِ والتَّفكُّرِ . قيل هو أربعون سنةً وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما ستُّون سنة ورُوي ذلك عن : عليَ رضي الله عنه وهو العُمر الذي أعذرَ الله فيه إلى ابنِ آدَم قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « أعذرَ الله إلى امرىءٍ أخَّر أجلَه حتَّى بلغَ ستِّين سنة » . وقولُه تعالى : { وَجَاءكُمُ النذير } عطفٌ على الجملةِ الاستفهاميةِ لأنَّها في معنى قد عمَّرناكم كما في قوله تعالى : { ألم نشرحْ لك صدرَك . ووضعنا } الخ لأنَّه في معنى قد شرحنا الخ والمرادُ بالنَّذيرِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أو ما معه من القُرآن وقيل : العقلُ وقيل : الشَّيبُ وقيل : موتُ الأقاربِ . والاقتصارُ على ذكرِ النَّذيرِ لأنَّه الذي يقتضيهِ المقامُ . والفاءُ في قوله تعالى : { فذوقُوا } لترتيبِ الأمرِ بالذَّوقِ على ما قبلها التَّعميرِ ومجيءِ النَّذيرِ . وفي قولِه تعالى : { فَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ } للتَّعليلِ .(5/399)
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)
{ إِنَّ الله عالم غَيْبِ السموات والارض } بالإضافةِ . وقُرىء بالتَّنوينِ ونصبِ غيبَ على المفعوليةِ أي لا يخفى عليه خافيةٌ فيهما فلا تخفى عليه أحوالُهم { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } قيل : إنَّه تعليلٌ لما قبله لأنَّه إذا علمَ مضمراتِ الصُّدورِ وهي أخفى ما يكونُ كان أعلمَ بغيرِها .
{ هُوَ الذى جَعَلَكُمْ خلائف فِى الارض } يقال للمستخلَفِ خليفة وخليفٌ والأول يُجمع خلائفَ والثَّانِي خلفاءَ والمعنى أنَّه تعالى جعلكم خلفاءَه في إرضه وألقى إليكم مقاليدَ التَّصرفِ فيها وسلَّطكم على ما فيها وأباحَ لكم منافعها أو جعلكم خلفاءَ ممَّن قلبكم من الأممِ وأورثكَم ما بأيديهم من متاعِ الدُّنيا لتشكُروه بالتَّوحيدِ والطَّاعةِ { فَمَن كَفَرَ } منكُم مثلَ هذه النِّعمةِ السَّنيةِ وغمطَها { فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } أي وبالُ كفرِه لا يتعداهُ إلى غيرِه . وقولُه تعالى { وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً } بيانٌ لوبالِ الكفرِ وغائلتِه وهو مقتُ الله تعالى إيَّاهم أي بغضه الشَّديد الذي ليسَ وراءَهُ خزيٌّ وصغارٌ وخسارُ الأخرةِ الذي ما بعدَهُ شرٌّ وخسارٌ ، والتَّكريرُ لزيادةِ التَّقريرِ والتَّنبيهِ على أن اقتضاءِ الكُفر لكلِّ واحدٍ من الأمرين الهائلينِ القبيحينِ بطريقِ الاستقلالِ والأصالةِ .
{ قُلْ } تبكيتاً لهم { أَرَءيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } أي آلَهتكم والإضافةُ إليهم لأنَّهم جعلوهم شركاءَ لله تعالى من غيرِ أنْ يكونَ له أصلٌ ما أصلاً وقيل : جعلُوهم شركاءَ لأنفسِهم فيما يملكونَهُ ويأباه سباقُ النَّظمِ الكريمِ وسياقُه { أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الارض } بدلُ اشتمالِ من أرأيتُم كأنَّه قيل أخبرُوني عن شركائِكم أرُوني أيَّ جزءٍ خلقُوا من الأرضِ { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السموات } أي أمْ لهم شركةٌ مع الله سبحانه في خلقِ السَّمواتِ ليستحقُّوا بذلك شركةً في الألوهَّيةِ ذاتيَّةً { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً } ينطقُ بأنَّا اتخذَّناهُم شركاءَ { فَهُمْ على بَيّنَةٍ مّنْهُ } أي حجَّةٍ ظاهرةٍ من ذلكَ الكتابِ بأنَّ لهم شركةً جعليةً ويجوزُ أنْ يكونَ ضميرُ آتيناهُم للمشركينَ كما في قولِه تعالى : { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا } الخ وقُرىء على بيِّناتٍ وفيه إيماءٌ إلى أنَّ الشِّركَ أمرٌ خطيرٌ لا بُدَّ في إثباتهِ من تعاضدِ الدَّلائلِ { بَلْ إِن يَعِدُ الظالمون بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً } لمَّا نَفَى أنواعَ الحُججِ في ذلك أضربَ عنه بذكرِ ما حملَهم عليه وهو تغريرٌ الأسلافِ للأخلافِ وإضلالُ الرُّؤساءِ للأتباعِ بأنَّهم شفعاءُ عند الله يشفعُون لهم بالتَّقريبِ إليه .(5/400)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)
{ إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والارض أَن تَزُولاَ } استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ غايةِ قُبحِ الشِّركِ وهو له أنْ يمسكهما كراهةَ زوالِهما أو يمنعهما أنْ تزولا لأنَّ الإمساك منع { وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا } أي مَا أمسكهما { مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ } من بعدِ إمساكِه تعالى أو من بعدِ الزَّوالِ . والجملةُ سادَّةٌ مسدَّ الجوابينِ ومِن الأوُلى مزيدةٌ لتأكيدِ العُمومِ والثَّانيةُ للابتداءِ { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } غيرَ معاجلٍ بالعقوبةِ التي تستوجبُها جناياتُهم حيثُ أمسكَهما وكانتا جديرتينِ بأنْ تهدّا هداً حسبما قال تعالى : { تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الارض } وقُرىء ولو زَالَتا .
{ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الامم } بلغ قُريشاً قبل مبعثِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ أهلَ الكتابِ كذَّبوا رسلَهم فقالُوا لعنَ الله اليَّهودَ والنَّصارَى أتتُهم الرُّسلُ فكذَّبُوهم فوالله لئن أتانا رسولٌ لنكونَّن أهدى من إِحدى الأممِ اليَّهودِ والنَّصارَى وغيرِهم أو من الأمَّةِ التي يُقال لها إِحدى الأممِ تفضيلاً لها على غيرِها في الهُدَى والاستقامةِ . { فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ } وأيُّ نذير أشرفُ الرُّسُلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ { مَّا زَادَهُمْ } أي النَّذيرُ أو مجيئةُ { إِلاَّ نُفُورًا } تُباعداً عن الحقِّ { استكبارا فِى الارض } بدلٌ من نُفوراً أي مفعولٌ له { وَمَكْرَ السيىء } أصلُه وإنْ مكرُوا السَّيءَ أيَّ المكرَ السَّىءَ ثم ومكراً السَّيءَ ثم ومكرَ السيء وقرىء بسكونِ الهمزةِ في الوصلِ ولعلَّه اختلاسٌ ظُنَّ سُكوتاً أو وقفةٌ خفيفةٌ وقرىء مكراً سيِّئاً { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ } أي ما ينتظرونَ { إِلاَّ سُنَّةَ آلاْوَّلِينَ } أي سُنَّة الله فيهم بتعذيبِ مكذِّبيهم { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً } بأنْ يضع موضعَ العذابِ غيرَ العذابِ { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلاً } بأنْ ينقله من المكذِّبين إلى غيرِهم . والفاءُ لتعليلِ ما يُفيدُه الحكمُ بانتظارِهم العذابَ من مجيئهِ ونفيُ وجدانِ التَّبديلِ والتَّحويلِ عبارةٌ عن نفيِ وجودِها بالطَّريقِ البُرهانِّي وتخصيصُ كلَ منُهما بنفيٍ مستقلَ لتأكيدِ انتفائِهما .
{ أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِى الارض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ } استشهاد على ما قبلَه من جريانِ سُنَّتِه تعالى على تعذيبِ المُكذِّبينَ بما يشاهدوَنُه في مسايرِهم إلى الشَّامِ واليمنِ والعراقِ من آثار دمار الأممِ الماضيةِ العاتيةِ والهمزةُ للإنكارِ والنَّفيِ . والواوُ للعطفِ على مقدَّرٍ يليقُ بالمقامِ أي أقعدُوا في مساكنِهم ولم يسيرُوا في الأرضِ فينظُروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلِهم { وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } وأطولَ أعماراً فما نفعُهم طولُ المَدَى وما أغنَى عنهم شدَّةُ القُوى . ومحلُّ الجملةِ النَّصبُ على الحاليَّةِ . وقولُه تعالى { وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَىْء } أي ليسبقَه وبفوتَه { فِي السموات وَلاَ فِى الارض } اعتراضٌ مقررٌ لما يُفهم مَّما قبله من استئصالِ الأممِ السَّالفةِ . وقولُه تعالىَ { إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً } أي مُبالغاً في العلمِ والقُدرةِ ولذلك علمَ بجميعِ أعمالِهم السَّيئةِ فعاقبَهم بموجبِها تعليل لذلك .(5/401)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس } جميعاً { بِمَا كَسَبُواْ } من السَّيئاتِ كما فُعل بأولئكَ { مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا } أي على ظهرِ الأرضِ { مِن دَابَّةٍ } من نسمةٍ تدُبُّ عليها من بني آدمَ وقيل : ومن غيرِهم أيضاً من شؤمِ معاصِيهم . وهو المرويُّ عن ابن مسعودٍ وأنس رضي الله عنهما . ويُعضدُ الأوَّلِ قولُه تعالى { ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى } وهو يومُ القيامةِ { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } فيجازيهم عندَ ذلك بأعمالِهم إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شرَّاً فشرٌّ .
عن النبيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامِ : « مَن قرأَ سورةَ الملائكةِ دعتْهُ ثمانيةُ أبوابِ الجنَّةِ أنِ ادخلْ من أيِّ بابٍ شئتَ » والله تعالَى أعلمُ .(5/402)
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)
( سورة يس مكية . وعنه صلى الله عليه وسلم تدعى المعمة تعم صاحبها خير الدارين والدافعة والقاضية تدفع عنه كل سوء وتقضى له كل حاجة وآياتها ثلاث وثمانون )
{ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم } { يس } إمَّا مسرودٌ على نمطِ التَعديدِ فلا حظَّ له من الإعرابِ أو اسمٌ للسُّورةِ كما نصَّ عليه الخليلُ وسيبويةِ وعليه الأكثرُ فمحلُّه الرَّفعُ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ ، أو النَّصبُ على أنَّه مفعولٌ لفعلِ مضمرٍ . وعليهما مدارُ قراءةِ يسن بالرَّفع والنَّصبِ أي هَذه يسن أو اقرأْ يسن . ولا مساغَ للنَّصب بإضمارِ فعلِ القسمِ لأنَّ ما بعدَهُ مُقسمٌ بِه وقد أَبَوا الجمعَ بين قَسَمين على شيءٍ واحدٍ قبل انقضاءِ الأوَّلِ ولا مجالَ للعطفِ لاختلافِهما إعراباً . وقيل هو مجرورٌ بإضمارِ باءِ القسمِ مفتوحٌ لكونِه غيرَ منصرفٍ كما سلف في فاتحةِ سُورة البقرةِ من أنَّ ما كانتْ من هذه الفواتحِ مفردة مثلَ صاد وقاف ونون أو كانت موازنةً لمفردٍ نحوِ طس ويسن وحم الموازنةِ لقابيلَ وهابيلَ يتأتَّى فيها الإعرابُ اللَّفظيُّ ذكَره سبيويِه في بابِ أسماءِ السُّورِ من كتابِه . وقيل : هُما حركتا بناءٍ كما في حيثُ وأينَ حسَبما يشهدُ بذلك قراءةُ يسن بالكسر كجَيْرِ وقيل : الفتحُ والكسرُ تحريكٌ للجِدِّ في الهربِ من التقاءِ السَّاكنينِ . وعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهُما أنَّ معناه يا إنسانُ في لغةِ طَيءٍ قالُوا المرادُ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم . ولعلَّ أصلَه يا أُنيسين فاقتُصر على شطرِه كما قيل مَنُ الله في أيمَن الله { والقرءان } بالجرِّ على أنَّه مقسمٌ به ابتداءً وقد جُوِّز أنْ يكونَ عطفاً على يسن على تقديرِ كونِه مجروراً بإضمارِ باءِ القسمِ { الحكيم } أي المتضمِّنِ للحكمةِ أو النَّاطقِ بها بطريقِ الاستعارةِ أو المتَّصفِ بها على الإسنادِ المجازيِّ ، وقد جُوِّز أنْ يكونَ الأصلُ الحكيمُ قائلُه فحذُف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مقامَه فبانقلابِه مرفوعاً بعد الجرِّ استكنَّ في الصِّفةِ المُشبَّهةِ كما مرَّ في صدرِ سُورة لُقمانَ { إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } جوابٌ للقسم . والجملةُ لردِّ إنكار الكَفَرةِ بقولِهم في حقِّه عليه يالصَّلاةُ والسَّلامُ لستَ مُرسَلاً . وهذه الشَّهادةُ منه عزَّ وجلَّ من جملة ما أُشير إليه بقوله تعالى في جوابهم : { قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } وفي تخصيص القُرآن بالإقسامِ به أَوَّلاً بوصفه بالحكيمِ ثانياً تنويهٌ بشأنه وتنبيهٌ على أنه كما يشهدُ برسالته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من حيث نظمُه المعجزُ المُنطوي على بدائعِ الحكم يشهدُ بها من هذه الحيثيَّةِ أيضاً لما أنَّ الإقسامَ بالشَّيءِ استشهاد به على تحقُّقِ مضمون الجملة القسميةِ وتقوية لثبوتِه فيكون شاهداً به ودليلاً عليه قَطْعاً(5/403)
عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)
وقوله تعالى : { على صراط مُّسْتَقِيمٍ } خبرٌ آخرُ لأنَّ أو حالٌ من المستكنِّ في الجارِّ والمجرور على أنَّه عبارة عن الشَّريعةِ الشَّريفةِ بكمالها لا عن التَّوحيدِ فقط وفائدتُه بيانُ أنَّ شريعتَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أقوى الشَّرائعِ وأعدلُها كما يُعرب عنه التَّنكيرُ التَّفخيميُّ والوصفُ إثرَ بيانِ أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من جملة المرسلين بالشَّرائعِ .
{ تَنزِيلَ العزيز الرحيم } نصب على المدحِ . وقُرىء بالرَّفعِ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ وبالجرِّ على أنه بدلٌ من القرآن وأيّاً ما كان فهو مصدرٌ بمعنى المفعولِ عبَّر به عن القرآنُ بياناً لكمال عراقتِه في كونه منزَّلاً من عند الله عزَّ وجلَّ كأنَّه نفس التَّنزيلِ وإظهار لفخامتِه الإضافية بعد بيان فخامتِه الذَّاتيَّةِ بوصفه بالحكمة وفي تخصيص الاسمينِ الكريمينِ المُعربينِ عن الغلبةِ التَّامةِ والرَّأفةِ العامَّةِ حثٌّ على الإيمانِ به ترهيباً وترغيباً وإشعارٌ بأنَّ تنزيلَه ناشيءٌ عن غايةِ الرَّحمةِ حسبما نطقَ به قولُه تعالى : { وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين } وقيل : النَّصبُ على أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعله المضمرِ أي نزل تنزيل العزيزِ الرَّحيمِ على أنَّه استئنافٌ مسوقٌ لبيان ما ذُكر من فخامةِ شأنِ القُرآن وعلى كلِّ تقديرٍ ففيهِ فضلُ تأكيدٍ لمضمونِ الجملة القسميةِ { لّتُنذِرَ } متعلِّقٌ بتنزيل على الوجوهِ الأُولِ وبعامله المضمرِ على الوجهِ الآخيرِ أي لتنذَر به كما في صدرِ الأعرافِ وقيل : هو متعلِّقٌ بما يدلُّ عليه لمن المرسلين أي إنَّك مرسلٌ لتنذرَ { قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ } أي لم يُنذْر آباؤُهم الأقربون لتطاولِ مدَّة الفترةِ على أنَّ ما نافيةً فتكون صفةً مبيِّنةً لغاية احتياجهم إلى الإنذارِ أو الذي أنذره أو شيئاً أُنذره آباؤهم الأبعدون على أنَّها موصولةٌ أو موصوفة فيكون مفعولاً ثانياً لتنذرَ أو إنذار آبائِهم الأقدمين على أنَّها مصدريةٌ فيكون نعتاً لمصدرٍ مؤكَّدٍ أي لتنذرَ إنذاراً كائناً مثلَ إنذارِهم { فَهُمْ غافلون } على الوجهِ الأولِ متعلِّق بنفي الإنذارِ مترتِّب عليه والضَّميرُ للفريقينِ أي لم تُنذرْ آباؤهم جميعاً لأجلِه غافلون وعلى الوجوهِ الباقيةِ متعلِّقٌ بقوله تعالى : { لّتُنذِرَ } أو بما يفيده إنَّك لمن المُرسلين واردٌ لتعليل إنذارِه عليه السَّلامُ أو إرساله بغفلتهم المحوجةِ إليهما على أنَّ الضَّميرَ للقوم خاصَّةً فالمعنى فهم غافلُون عنه أي عمَّا أُنذر آباؤهم الأقدمونَ لامتدادِ المُدَّة . واللاَّمُ في قولِه تعالى :
{ لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ } جوابُ القسمِ أي والله لقد ثبت وتحقَّقَ عليهم البتةَ لكن لا بطريق الجَبْرِ من غير أنْ يكون من قبلهم ما يقتضيِه بل بسبب إصرارِهم الاختياريِّ على الكُفر والإنكار وعدم تأثُّرهم من التَّذكيرِ والإنذار وغلوِّهم في العُتوِّ والطُّغيانِ وتماديهم في اتِّباعِ خُطُوات الشَّيطانِ بحيثُ لا يلويهم صارفٌ ولا يثنيهم عاطفٌ كيف لا والمرادُ بما حقَّ من القولِ قولُه تعالى لإبليسَ عند قوله لأغوينَّهم أجمعين . { لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } وهو المَعنيُّ بقوله تعالى : { لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } كما يُلوحُ به تقديمُ الجِنَّةِ على النَّاسِ فإنَّه كما ترى قد أوقع فيه الحكم بإدخال جهنَّم على مَن تبعَ إبليسَ وذلك تعليلٌ له بتبعيته قطعاً وثبوت القولِ على هؤلاء الذين عبَّر عنهم بأكثرِهم إنَّما هو لكونِهم من جملة أولئك المصرِّين على تبعيَّةِ إبليسَ أبداً وإذ قد تبيَّن أنَّ مناطَ ثبوتِ القول وتحقُّقهِ عليهم إصرارُهم على الكُفرِ إلى الموتِ ظهر أنَّ قوله تعالى : { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } متفرِّعٌ في الحقيقةِ على ذلك لا على ثُبوت القول(5/404)
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
وقوله تعالى :
{ إِنَّا جَعَلْنَا فِى أعناقهم أغلالا } تقريرٌ لتصميمهم على الكُفرِ وعدم ارعوائِهم عنه بتمثيلِ حالِهم بحال الذين غُلَّتْ أعناقُهم { فَهِىَ إِلَى الاذقان } أي فالأغلالُ منتهيةٌ إلى أذقانِهم فلا تدعُهم يلتفتونَ إلى الحقِّ ولاَ يَعطفونَ أعناقَهم نحوَه ولا يُطأطئونَ رؤوسَهم له { فَهُم مُّقْمَحُونَ } رافعونَ رؤوسَهم غاضُّون أبصارَهم بحيثُ لا يكادُون يَروَن الحقَّ أو ينظرُون إلى جهتِه { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فأغشيناهم فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } إمَّا تتَّمةٌ للتَّمثيل وتكميلٌ له أي تكميلٍ أي وجعلنا مع ما ذُكر من أمامهم سَدَّاً عظيماً ومن ورائهم سَدَّاً كذلك فغطَّينا بهما أبصارهم فهم بسبب ذلك لا يقدرونَ على إبصارِ شيءٍ ما أصلاً وإمَّا تمثيلٌ مستقلٌّ فإنَّ ما ذُكر من جعلهم محصورينَ بين سَدَّينِ هائلين قد غطَّيا أبصارَهم بحيث لا يُبصرون شيئاً قطعاً كافٍ في الكشف عن كمال فظاعةِ حالِهم وكونِهم محبوسين في مطمورةِ الغيِّ والجهالاتِ محرومين عن النَّظرِ في الأدلَّةِ والآياتِ وقُرىء سُدَّاً بالضمِّ وهي لغةٌ فيه ، وقيل ما كان من عمل النَّاسِ فهو بالفتحِ وما كان من خلقِ الله فبالضمِّ . وقُرىء فأعشينَاهم من العَشَا . وقيل الآيتانِ في بني مخزومٍ وذلك أنَّ أبا جهلٍ حلف لئِن رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي ليرضخنَّ رأسَه فأتاه وهو عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يُصلِّي ومعه حجرٌ ليدمغَه فلَّما رفع يدَه انثنتْ يدُه إلى عنقِه ولزق الحجرُ بيده حتَّى فكُّوه عنها بجهدٍ فرجع إلى قومه فأخبرَهم بذلك فقال مخزوميٌّ آخرُ أنا أقتلُه بهذا الحجرِ فذهب فأَعمى الله تعالى بصرَهُ .
{ وَسَوَآء عَلَيْهِمْ أَءنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } بيانٌ لشأنِهم بطريق التَّصريحِ إثرَ بيانِه بطريق التَّميلِ أي مستوٍ عندهم إنذارُك إيَّاهم وعدمُه حسبما مرَّ تحقيقُه في سورةِ البقرةِ وقوله تعالى : { لاَ يُؤْمِنُونَ } استئنافٌ مؤكِّدٌ لما قبله مبيِّنٌ لما فيه من إجمالِ ما فيه الاستواءُ أو حالٌ مؤكِّدةٌ له أو بدلٌ منه ولما بُيِّن كونَ الإنذارِ عندهم كعدمِه عقب ببيانِ من يتأثَّر منه فقيل { إِنَّمَا تُنذِرُ } أي إنذاراً مستتبعاً للأثر { مَنِ اتبع الذكر } أي القُرآنَ بالتَّامُّلِ فيه أو الوعظِ ولم يصرَّ على اتِّباعِ خُطُوات الشَّيطانِ { وَخشِىَ الرحمن بالغيب } أي خافَ عقابَه وهو غائبٌ عنه على أنَّه حالٌ من الفاعلِ أو المفعولِ أو خافَه في سريرتِه ولم يغترَّ برحمتِه فإنَّه منتقمٌ قهَّار كما أنَّه رحيمٌ غَفَّار كما نطق به قولُه تعالى : { نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ العذاب الاليم } { فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ } عظيمةٍ { وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } لا يُقادر قدرُه . والفاء لترتيب البشارةِ أو الأمرِ بها على ما قبلها من اتِّباعِ الذِّكرِ والخشيةِ .(5/405)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
{ إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الموتى } بيانٌ لشأنٍ عظيمٍ بنطوي على الإنذارِ والتَّبشيرِ انطواءً إجماليَّاً أي نبعثُهم بعد مماتِهم . وعن الحسنِ إحياؤهم إخراجُهم من الشِّركِ إلى الإيمانِ فهو حينئذٍ عدةٌ كريمةٌ بتحقيق المُبشَّر به { وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ } أي ما أسلفُوا من الأعمالِ الصَّالحةِ وغيرِها { وَءاثَارَهُمْ } التي أبقوها من الحسناتِ كعلمٍ علمُوه أو كتابٍ ألَّفُوه أو حبيسٍ وقفُوه أو بناءٍ بنوَه من المساجدِ والرِّباطاتِ والقناطرِ وغيرِ ذلك من وجوهِ البرِّ ومن السَّيئاتِ كتأسيسِ قوانينِ الظُّلمِ والعُدوانِ وترتيبِ مبادِىء الشَّرِّ والفسادِ فيما بين العبادِ وغيره ذلكَ من فُنون الشُّرور التي أحدثُوها وسنُّوها لمن بعدهم من المُفسدين . وقيل هي آثارُ إلى المشَّائينَ إلى المساجدِ ولعلَّ المرادَ أنَّها من جُملةِ الآثارِ . وقُرىء ويُكتب على البناء للمفعولِ ورفعِ آثارَهم .
{ وَكُلَّ شىْء } من الأشياءِ كائناً ما كانَ { أحصيناه فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ } أصلٍ عظيمِ الشَّأنِ مظهر لجميعِ الأشياءِ ممَّا كان وما سيكونُ وهو اللَّوحُ المحفوظُ . وقُرىء كلُّ شيءٍ بالرَّفعِ . { واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أصحاب القرية } ضربُ المَثَلِ يُستعملُ تارةً في تطبيقِ حالةٍ غريبةٍ بحالةٍ أُخرى مثلِها كما في قوله تعالى : { ضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ } وأخرى في ذكر حالةٍ غريبةٍ وبيانِها للنَّاس من غير قصدٍ إلى تطبيقِها بنظيرةِ لها كما في قوله تعالى : { وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامثال } على أحدِ الوجهينِ أي بيَّنا لكم أحوالاً بديعةً هي في الغرابةِ كالأمثالِ فالمَعْنى على الأوّلِ اجعلْ أصحابَ القريةِ مثلاً لهؤلاء في الغُلوِّ في الكفرِ والإصرارِ على تكذيبِ الرُّسلِ أي طبِّق حالَهم بحالهم على أنَّ مثلاً مفعولٌ ثانٍ لاضربْ وأصحابَ القريةِ مفعولُه الأوَّلَ أُخِّر عنه ليتَّصل به ما هو شرحُه وبيانُه وعلى الثَّاني اذكُر وبيِّن لهم قصَّةً هي في الغرابةِ كالمَثَل وقوله تعالى أصحابَ القريةِ بدلٌ منه بتقديرِ المضافِ أو بيانٌ له والقريةُ أنطاكيِّةُ { إِذْ جَاءهَا المرسلون } بدلُ اشتمالٍ من أصحابَ القريةِ وهم رُسلُ عيسى عليه السَّلامُ إلى أهلِها ونسبةُ إرسالِهم إليهِ تعالى في قولِه :
{ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثنين } بناء على أنَّه كان بأمره تعالى لتكميلِ التَّمثيلِ وتتميم التَّسليةِ وهما يحيى وبُولس ، وقيل غيرُهما { فَكَذَّبُوهُمَا } أي فأتياهم فدعواهم إلى الحقِّ فكذَّبوهما في الرِّسالةِ { فَعَزَّزْنَا } أي قوَّينا يقال عزَّز المطرُ الأرضَ إذا لبَّدها . وقُرىء بالتَّخفيفِ من عزَّه إذا غلبَه وقهرَه . وحُذف المفعولُ لدلالة ما قبله عليه ولأنَّ المقصدَ ذكر المعزَّزِ به { بِثَالِثٍ } هو شَمعُون { فَقَالُواْ } أي جميعاً { إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } مُؤكِّدين كلامَهم لسبق الإنكارِ لما أنَّ تكذيبَهما تكذيبٌ للثَّالثِ لاتِّحادِ كلمتهم ، وذلك أنَّهم كانوا عَبَدَة أصنام فأَرسل إليهم عيسى عليه السلام اثنينِ فلما قَرُبا من المدينة رأياً شيخاً يَرعى غُنيماتٍ له وهو حبيبٌ النَّجارُ صاحبُ يسن فسألهما فأخبراهُ قال أمعكما آيةٌ فقالا نشفي المريضَ ونُبرىء الأكْمَه والأبرصَ وكان له ولدٌ مريضٌ منذ سنتينِ فمسحاهُ فقام فآمن حبيبٌ وفشا الخبرُ وشُفي على أيديهما خلقٌ وبلغ حديثُهما إلى الملكِ وقال لهما ألنا إلهٌ سوى آلهتِنا قالا نعم من أوجدَك وآلهتَك فقال حتَّى أنظرَ في أمرِكما فتبعهما النَّاسُ ، وقيل : ضربُوهما ، وقيل : حُبسا .(5/406)
ثمَّ بعث عيسى عليه السَّلامُ شَمعُون فدخلَ مُتنكِّرا وعاشر حاشيةَ الملك حتَّى استأنُسوا به ورفعوا خبرَه إلى الملكِ فأنسَ به فقالَ له يَوْماً بلغني أنَّك حبستَ رجلينِ فهل سمعتَ ما يقولانِه قال لاَ حال الغضبُ بيني وبينَ ذلكَ فدعاهُما فقال شَمعُون : مَن أرسلكُما قالا الله الذي خَلَق كلَّ شيءٍ وليسَ له شريكٌ فقال : صفاهُ وأَوْجِزا . قالاَ يفعلُ مَا يشاءُ ويحكمُ ما يريدُ قال وما آيتكُما قالا ما يتمنَّى الملكُ فَدَعا بغلامٍ مطمُوسِ العينينِ فدعَوَا الله تعالى حتَّى انشقَّ له بصرٌ فأخذا بُندقتينِ فوضعاهما في حدقتيهِ فصارتا مُقلتينِ ينظرُ بهما فقال له شَمعُون أرأيتَ لَو سألتَ إلهَك حتَّى يصنعَ مثلَ هذا فيكونَ لك وله الشَّرفُ قال ليس لي عنك سرٌّ إن إلهنَا لا يُبصر ولا يسمعُ ولا يضرُّ ولا ينفعُ . وكان شمعُون يدخلُ معهم على الصَّنمِ فيصلِّي ويتضرَّعُ وهم يحسبون أنَّه منهم ثم قال : إنْ قدر إلهُكما على إحياءِ ميِّتٍ آمنَّا به فدعَوا بغلامٍ ماتَ من سبعةِ أيامٍ فقامَ وقال إنِّي أُدخلت في سبعةِ أوديةٍ من النَّارِ وإنِّي أُحذركم ما أنتُم فيه فآمِنُوا وقال فُتحت أبوابُ السَّماء فرأيتُ شَاباً حسنَ الوجهِ يشفعُ لهولاءِ الثَّلاثةِ قال الملكُ من هُم قال شمعُونُ وهذانِ . فتعجَّبَ الملكُ فلمَّا رأى شمعُون أنَّ قولَه قد أثر فيه نصحَه فآمنَ وآمنَ قومٌ ومَن لم يُؤمن صاحَ عليهم جبريلُ عليه السَّلامُ فهلكُوا . هكذا قالُوا ، ولكن لا يُساعده سياقُ النَّظمِ الكريمِ حيثُ اقُتصر فيه على حكايةِ تمادِيهم في العنادِ واللَّجاجِ وركوبِهم متنَ المُكابرةِ في الحِجاجِ ولم يُذكرْ فيه ممَّن يؤمن أحدٌ سوى حبيبٍ ولو أنَّ الملكَ وقوماً من حواشيه آمنُوا لكان الظَّاهرُ أنْ يُظاهروا الرُّسلَ ويساعدوهم قُبلوا في ذلك أو قُتلوا كدأب النَّجار الشهيد ولكان لهم فيه ذكرٌ ما بوجه من الوجوه ، اللَّهم إلاَّ أن يكونَ إيمانُ الملكِ بطريق الخُفيةِ على خوفٍ من عُتاةِ ملئِه فيعتزلُ عنهم مُعتذراً بعذرٍ من الأعذارِ .(5/407)
قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)
{ قَالُواْ } أي أهلُ أنطاكيَّةَ الذينَ لَم يُؤمنوا مُخاطبينَ للثَّلاثةِ { مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } مِنْ غَيْرِ مزيةٍ لكُم عَلينا مُوجبةٍ لاختصاصكم بما تدعونَه . ورفعُ بشرٌ لانتقاضِ النَّفيِ المُقتضي لإعمالِ ما بإلاَّ . { وَمَا أَنَزلَ الرحمن مِن شَىْء } ممَّا تدعُونه من الوحي والرِّسالةِ { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ } في دَعْوى رسالتِه { قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } اشتشهَدوا بعلمِ الله تعالى وهو يَجْري مجرى القسمِ مع ما فيه من تحذيرِهم معارضةَ علم الله تعالى وزادُوا الَّلامَ المؤكِّدةَ لِما شاهدُوا منُهم من شدَّةِ الإنكارِ { وَمَا عَلَيْنَا } أي من جهةِ ربِّنا { إِلاَّ البلاغ المبين } أي إلاَّ تبليغُ رسالتِه تبليغاً ظَاهِراً بيِّناً بالآياتِ الشَّاهدةِ بالصِّحَّةِ وقد خرجنا عن عُهدته فلا مؤاخذةَ لنا بعد ذلك من جهة ربِّنا أو ما علينا شيءٌ نُطالب به من جهتِكم إلا تبليغُ الرِّسالةِ على الوجهِ المذكورِ وقد فعلناه فأيُّ شيءٍ تطلبون منَّا حتَّى تُصدِّقوُنا بذلك .(5/408)
قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)
{ قَالُواْ } لمَّا ضاقتْ عليهم الحِيلُ وعيتْ بهم العللُ { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } تشاءمنا بكم جرياً على دَيْدنِ الجَهَلةِ حيث كانُوا يتيَّمنون بكلِّ ما يُوافق شهواتِهم وإن كان مستجلباً لكلِّ شرَ ووبال ويتشاءُمون بما لا يُوافقها وإنْ كان مستتبعاً لسعادةِ الدَّارينِ أو بناء على أنَّ الدَّعوةَ لا تخلُو عن الوعيدِ بما يكرهونَه من إصابة ضُرَ ومتعلِّقٍ بأنفسهم وأهليهم وأموالِهم إنْ لم يُؤمنوا فكانوا ينفرون عنه . وقد رُوي أنَّه حُبس عنهم القطرُ فقالوه : { لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ } أي عن مقالتِكم هذه { لَنَرْجُمَنَّكُمْ } بالحجارةِ { وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } لا يُقادرُ قَدرُه { قَالُواْ طائركم } أي سببُ شُؤمكم { مَّعَكُمْ } لا مِن قِبلنا وهو سوءُ عقيدتِكم وقبحُ أعمالكم . وقُرىء طَيركُم { أَءن ذُكّرْتُم } أي وُعظتُم بما فيه سعادتُكم . وجوابُ الشَّرط محذوفٌ ثقةً بدلالة ما قبله عليه أي تطيرتُم وتوعدتُم بالرَّجمِ والتَّعذيبِ . وقُرىء بألفٍ بين الهمزتينِ وبفتحِ أنْ بمعنى أتطيرتُم لأنْ ذُكِّرتم وأنْ ذكِّرتم وإنْ ذُكِّرتم بغيرِ استفهام وأينَ ذُكِّرتم بمعنى طائركم معكم حيثُ جرى ذكركُم وهو أبلغُ { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } إضرابٌ عمَّا تقتضيه الشَّرطيَّةُ من كونِ التَّذكيرِ سبباً للشُّؤمِ أو مصحِّحاً للتوعد أي ليس الأمرُ كذلك بل أنتُم قومٌ عادتُكم الإسرافُ في العصيان فلذلك أتاكُم الشُّؤمُ أو في الظُّلمِ والعُدوانِ ولذلك تَوعدتُم وتَشاءمتُم بمن يجبُ إكرامُه والتَّبركُ به .
{ وَجَاء مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى } هو حبيبٌ النَّجارُ وكان ينحتُ أصنامَهم وهو ممَّن آمنَ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم وبينهما ستمائةُ سنةٍ كما آمنَ به تُبَّعُ الأكبرُ وورقةُ بنُ نوفلٍ وغيرُهما ، ولم يُؤمِن بنبيَ غيرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أحدٌ قبل مبعثِه . وقيل كان في غارٍ يعبدُ الله تعالى فلمَّا بلغه خبرُ الرُّسلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ أظهرَ دينَه .
{ قَالَ } استئنافٌ وفع جواباً عن سُؤالٍ نشأ من حكايةِ مجيئهِ ساعياً كأنَّه قيل : فماذا قال عند مجيئِه فقيل قال : { قَالَ ياقوم اتبعوا المرسلين } تعرض لعُنوانِ رسالتهم حثَّاً لهم على اتِّباعِهم كما أنَّ خطابَهم بياقوم لتأليفِ قلوبِهم واستمالتِها نحو قبولِ نصيحتِه . وقوله تعالى : { اتبعوا مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } تكريرٌ للتأكيد وللتَّوسُّلِ به إلى وصفهم بما يرغِّبُهم في اتِّباعهم من التَّنزهِ عن الغرض الدُّنيويِّ والاهتداء إلى خير الدُّنيا والدِّينِ { وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الذى فَطَرَنِى } تلطُّفٌ في الإرشادِ بإيراده في معرض المُناصحةِ لنفسِه وإمحاض النُّصحِ حيثُ أراهم أنَّه اختارَ لهم ما يختارُ لنفسه . والمرادُ تقريعُهم على ترك عبادةِ خالقِهم إلى عبادةِ غيرِه كما يُنبىء عنه قوله : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } مبالغةً في التَّهديدِ ثمَّ عاد إلى المساقِ الأوَّلِ فقال :(5/409)
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
{ أَءتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءالِهَةً } إنكارٌ ونفيٌ لاتِّخاذِ الآلهة على الإطلاقِ . وقوله : { إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرّ لاَّ تُغْنِ عَنّى شفاعتهم شَيْئاً } أي لا تنفعني شيئاً من النَّفعِ . { وَلاَ يُنقِذُونَ } من ذلك الضُّرِّ بالنُّصرةِ والمظاهرةِ ، استئنافٌ سبقَ لتعليلٍ النَّفي المذكور . وجعلُه صفةً لآلهةً كما ذهب إليه بعضُهم رُبَّما يُوهم أنَّ هناك آلهةً ليستْ كذلكَ . وقُرىء إنْ يَردن بفتح الياءِ على معنى إنْ يُوردني ضراً أي يجعلنِي مورداً للضُّرِّ { إِنّى إِذاً } أي إذا اتخذتُ من دونه آلهةً { لَفِى ضلال مُّبِينٍ } فإنَّ إشراكَ ما ليس من شأنِه النَّفعُ ولا دفعُ الضُّرِّ بالخالق المقتدرِ الذي لا قادرَ غيرُه ولا خيرَ إلا خيرُه ضلال بيِّن لا يَخْفى على أحدٍ ممَّن له تمييزٌ في الجملةِ { إِنّى ءامَنتُ بِرَبّكُمْ } خطاب منه للرُّسلِ بطريق التَّلوينِ قيل : لمَّا نصحَ قومَه بما ذُكر همُّوا برجمِه فأسرع نحوَ الرُّسلِ قبل أن يقتلُوه فقال ذلك ، وإنَّما أكَّده لإظهارِ صدوره عنه بكمال الرَّغبةِ والنَّشاطِ وأصناف الربَّ إلى ضميرِهم رَوْماً لزيادة التَّقريرِ وإظهاراً للاختصاصِ والافتداءِ بهم كأنَّه قالَ بربِّكم الذي أرسلَكم أو الذي تدعُوننا إلى الإيمانِ به { فاسمعون } أي اسمعُوا إيمانيَ واشهدُوا لي به عند الله تعالى ، وقيل : الخطابُ للكفرةِ شافههَم بذلك إظهاراً للتَّصلُّبِ في الدِّينِ وعدم المبالاة بالقتلِ ، وإضافةُ الرَّبِّ إلى ضميرهم لتحقيقِ الحقِّ والتَّنبيهِ على بُطلان ما هم عليه من اتِّخاذِ الأصنامِ أرباباً وقيل للنَّاس جميعاً : { قِيلَ ادخل الجنة } قيل له ذلك لمَّا قتلُوه إكراماً له بدخولِها حينئذٍ كسائر الشُّهداءِ وقيل : لما همُّوا بقتله رفعَه الله تعالى إلى الجنَّةِ قاله الحسنُ . وعن قَتادةَ أدخلَه الله الجنَّةَ وهو فيها حيٌّ يُرزقُ . وقيل معناه البُشرى بدخولِ الجنَّةِ وأنَّه من أهلِها وإنَّما لم يُقل له لأنَّ الغرضَ بيانُ المقولِ لا القولِ له لظهوره وللمبالغةِ في المسارعةِ إلى بيانِه . والجملةُ استئنافٌ وقع جواباً عن سؤالٍ نشأ من حكايةِ حالِه ومقالهِ كأنَّه قيل : كان لقاءُ ربِّه بعد ذلك التصلُّب في دينه والتَّسخِّي بروجِه لوجهه تعالى فقيل قيل : ادخل الجنَّة . وكذلك قوله تعالى : { قَالَ ياليت قَوْمِى يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى وَجَعَلَنِى مِنَ المكرمين } فإنَّه جوابِ عن سؤالِ نشأ من حكايةِ حالهِ كأنَّه قيل : فماذا قال عند نيلِه تلك الكرامةَ السَّنيةَ فقيل قال : الخ وإنما تمنَّى علَم قومه بحاله ليحملَهم ذلك عن اكتسابِ مثله بالتَّوبةِ عن الكُفرِ والدخول في الإيمانِ والطَّاعةِ جرياً على سَننِ الأولياء في كظمِ الغيطِ . والتَّرحمِ على الأعداءِ أو ليعلموا أنهم كانُوا على خطأٍ عظيمٍ في أمره وأنَّه كان على الحقِّ وأنَّ عداوتَهم لم تكسبه إلاَّ سعادةً . وقُرىء من المكرمين . وما موصولةً أو مصدريةٌ والياءُ صلةُ يعلمون أو استفهاميةٌ وردتْ على الأصل والياءُ متعلِّقةٌ بغفرَ أي بأي شيءٍ غفرَ لي ربِّي يريدُ به تفخيمَ شأنِ المهاجرةِ عن ملَّتِهم والمصابرةِ . على أذيَّتِهم .(5/410)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31)
{ وَمَا أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ } من بعد قتلِه أو رفعِه { مِن جُندٍ مّنَ السماء } لإهلاكِهم والانتقامِ منهم كما فعلناه يومَ بدرٍ والخندقِ كفينا أمرَهم بصيحةِ مَلَكٍ وفيه استحقارٌ لهم ولإهلاكهم وإيماء إلى تفخيمِ شأن الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } وما صحَّ في حكمتِنا أنْ ننزلَ لإهلاكِ قومِه جُنداً من السَّماءِ لما أنَّا قَدَّرنا لكلِّ شيءٍ سَبَباً حيثُ أهلكنا بعضَ مَن أهلكنا من الأُمم بالحاصبِ وبعضَهم بالصيحة وبعضَهم بالخسفِ وبعضَهم بالإغراقِ وجعلنا إنزالَ الجندِ من خصائصِك في الانتصارِ من قومك . وقيل : ما موصولةٌ معطوفةٌ على جندٍ أي وما كنَّا مُنزلين على مَن قبلهم من حجارةٍ وريحٍ وأمطارٍ شديدةٍ وغيرِها { إِن كَانَتْ } أي ما كانتْ الأخذةُ أو العقوبةُ { إِلاَّ صَيْحَةً واحدة } صاحَ بها جبريلُ عليه السَّلامُ . وقُرىء إلاَّ صيحةٌ بالرَّفعِ على أنَّ كانَ تامَّةٌ . وقُرىء إلا زَقيةً واحدةً من زَقَا الطَّائرُ إذا صاحَ { فَإِذَا هُمْ خامدون } ميِّتُون شُبِّهوا بالنَّارِ الخامدةِ رَمْزاً إلا أنَّ الحيَّ كالنَّارِ السَّاطعةِ في الحَرَكةِ والالتهابِ والميِّتُ كالرَّمادِ قال لَبيدٌ
وَمَا المرءُ إلاَّ كالشَّهاب وضوئِه ... يحورُ رَمَاداً بعدَ إذْ هُو ساطعُ
{ ياحسرة عَلَى العباد } تعالى فهذه من الأحوالِ التي حقُّها أنْ تحضرِي فيها ، وهي ما دلُّ عليه قولُه تعالى { مَا يَأْتِيهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } فإنَّ المستهزئينَ بالنَّاصحينَ الذين نيطت بنصائِحهم سعادةُ الدَّارينِ أحقَّاءُ بأنْ يتحسَّروا ويتحسَّرُ عليهم المتحسِّرون . أو قد تلهَّفَ على حالهم الملائكةُ والمؤمنون من الثَّقلينِ . وقد جُوِّز أنْ يكون تحسُّراً عليهم من جهةِ الله تعالى بطريق الاستعارةِ لتعظيم ما جنَّدوه على أنفسِهم . ويؤيِّده قراءةُ يَا حسرتَا لأنَّ المعنى يا حسرتِي ونصبُها لطولِها بما تعلَّق بها من الجارِّ وقيل : بإضمارِ فعلِها ، والمنادى محذوفٌ وقُرىء يا حسرةَ العبادِ بالإضافةِ إلى الفاعلِ أو المفعولِ وياحسرة على العبادِ بإجراءِ الوصلِ مجرى الوقفِ .
{ أَلَمْ يَرَوْاْ } أي ألم يعلمُوا وهو معلَّقٌ عن العمل في قوله تعالى { كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون } لأنَّ كم لا يعملُ فيها ما قبلها وإنْ كانتْ خبريَّةً لأنَّ أصلَها الاستفهامُ خلا أنَّ معناه نافذٌ في الجُملةِ كما نفذَ في قولك ألم تَرَ إنَّ زيداً لمنطلقٌ وإن لم يعملْ في لفظه { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } بدلٌ من كم أهلكنا على المعنى أيْ ألم يروا كثرةَ إهلاكِنا من قبلهم من المذكُورين آنِفاً ومن غيرهم كونهم غير راجعين إليهم . وقُرىء بالكسرِ على الاستئنافِ . وقُرىء ألم يَرَوا من أهلكنا والبدلُ حينئذٍ بدلُ اشتمالٍ .(5/411)
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35)
{ وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } بيانٌ لرجوع الكلِّ إلى المحشرِ بعد بيان عدم الرُّجوعِ إلى الدُّنيا وأنْ نافية وتنوينُ كلٌّ عِوضٌ عن المضافِ إليهِ ولمَّا بمعنى إلاَّ ، وجميعُ فعيلٌ بمعنى مفعولٍ ، ولدينا ظرفٌ له أو لما بعده . والمعنى ما كلُّهم إلاَّ مجموعون لدينا مُحضرون للحسابِ والجزاءِ وقيل : محضرُون معذَّبون فكل ذلك عبارةٌ عن الكَفَرة . وقُرىء لما بالتَّخفيفِ على أنَّ إنْ مخَّففةٌ من الثقيلة واللاَّمُ فارقةٌ وما مزيدةٌ للتأكيد والمعنى أنَّ كلهم مجموعون الخ .
{ وَءايَةٌ لَّهُمُ الارض الميتة } يالتَّخفيفِ وقُرىء بالتَّشديدِ . وقوله تعالى آيةٌ خبرٌ مقدَّمٌ للاهتمامِ به وتنكيرُها للتفخيم ولهم إمَّا متعلِّقةٌ بها لأنَّها بمعنى العلامةِ أو بمضمرٍ هو صفة لها والأرضُ مبتدأٌ والميتةُ صفتُها . وقوله تعالى { أحييناها } استئنافٌ مبيّن لكيفَّيةِ كونها آيةً وقيل آيةٌ مبتدأٌ ولهم خبرٌ والأرضُ الميتةُ مبتدأ موصوف وأحييناها خبره ، والجملة مفسِّرة لآية . وقيل : الإرض مبتدأ وأحييناها خبرُه والجملةُ خبرٌ لآيةٌ وقيل : الخبرُ لها هو الأرضُ وأحييناها صفتُها لأنَّ المرادَ بها الجنسُ لا المعيِّنة والأوَّلُ هو الأَولى لأنَّ مصبَّ الفائدةِ هو كونُ الأرضِ آيةً لهم لا كونُ الآيةِ هي الأرضُ . { وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً } جنس الحبِّ { فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } تقديم الصِّلةِ للدِّلالةِ على أنَّ الحبَّ معظم ما يُؤكل ويُعاش به .
{ وَجَعَلْنَا فِيهَا جنات مّن نَّخِيلٍ وأعناب } أي من أنواعِ النَّخلِ والعنبِ ولذلك جُمعا دون الحبِّ فإنَّ الدّالّ على الجنسِ مشعرٌ بالاختلافِ ولا كذلك الدَّالُّ على الأنواعِ . وذكرُ النَّخيلِ دُون التُّمور ليطابقَ الحبَّ والأعنابَ لاختصاص شجرها بمزيدِ النَّفعِ وآثار الصُّنعِ { وَفَجَّرْنَا فِيهَا } وقُرىء بالتَّخفيفِ والفجرُ والتَّفجيرُ كالفتح والتفتيح لفظاً ومعنى { مِنَ العيون } أي بعضاً من العُيون فحذف الموصوفُ وأقيمتِ الصِّفةُ مقامَه أو العيون ومن مزيدةٌ على رأي الأخَفْشِ .
{ لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرَهِ } متعلِّقٌ بجعلنا وتأخيرُه عن تفجير العُيُون لأنَّه من مبادىءِ الأثمارِ أي وجعلنا فيها جنَّاتٍ من نخيلٍ ورتبنا مبادىء أثمارِها ليأكُلوا من ثمرِ ما ذُكر من الجنَّاتِ والنَّخيلِ بإجراء الضَّميرِ مجرى اسمِ الإشارةِ وقيل : الضَّميرُ لله تعالى بطريقِ الالتفاتِ إلى الغَيبةِ . والإضافةُ لأنَّ الثَّمرَ يخلقُه تعالى . وقُرىء بضمَّتينِ وهي لغةٌ فيه أو جمع ثمارٍ وبضمَّةٍ وسكونٍ { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } عطفٌ على ثمرِه وهو ما يُتَّخذُ منه من العصير والدِّبس ونحوهما ، وقيل : ما نافيةٌ والمعنى أن التمر بخلق الله تعالى لا بفعلهم ومحلُّ الجملة النَّصبُ على الحاليةِ ويؤكد الأوَّلَ قراءةُ عملتُ بلا هاءٍ فإنَّ حذفَ العائدِ من الصِّلةِ أحسنُ من الحذفِ من غيرِها { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } إنكارٌ واستقباحٌ لعدم شكرِهم للنِّعم المعدودةِ والفاء للعطفِ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقامُ أي أيرون هذه النِّعمَ أو أيتنعمون بها فلا يشكرونَها .(5/412)
سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)
{ سُبْحَانَ الذي خَلَق الازواج كُلَّهَا } استئنافٌ مسوقٌ لتنزيهه تعالى عمّا فعلوه من ترك شكره على آلائه المذكورة واستعظام ما ذُكر في حيِّزِ الصِّلةِ من بدائعِ آثارِ قُدرتِه وأسرارِ حكمتِه وروائعِ نعمائِه الموجبةِ للشُّكرِ وتخصيصِ العبادةِ به والتَّعجيب من إخلالِهم بذلك والحالةُ هذه وسبحانَ علمٌ للتَّسبيحِ الذي هو التَّبعيدُ عن السُّوءِ اعتقاداً وقولاً أي اعتقادَ البُعد عنه والحكم به من سَبَح في الأرضِ والماءِ إذا أبعد فيهما وأمعنَ ومنه فرسٌ سبوحٌ أي واسعُ الجري . وانتصابُه على المصدريّةِ ولا يكاد يذكر ناصبُه أي أسبِّح سبحانَه أي أنزهه عمَّا لا يليقُ به عقْداً وعملاً تنزيهاً خاصَّا به حقيقاً بشأنِه وفيه مبالغةٌ من جهةِ الاشتقاقِ من السَّبحِ ومن جهة النَّقلِ إلى التَّفعيلِ ومن جهة العدولِ عن المصدرِ الدَّالِ على الجنسِ إلى الاسمِ الموضوع له خاصَّة لا سيِّما العلمُ المشيرُ إلى الحقيقةِ الحاضرةِ في الذِّهنِ ومن جهة إقامتهِ مقامَ المصدرِ مع الفعلِ وقيل : هو مصدرٌ كغفرانِ أُريد به التَّنزه التَّام والتَّباعد الكُلِّيُ عن السُّوءِ ففيه مبالغةٌ من جهةِ إسنادِ التَّنزه إلى الذَّاتِ المُقدَّسةِ فالمعنى تنزه بذاتِه عن كلِّ ما لا يليقُ به تنزُّهاً خاصَّا به فالجملةُ على هذا إخبارٌ من الله تعالى بتنزهِه وبراءتِه عن كلَّ ما لا يليقُ به مَّما فعلُوه وما تركُوه وعلى الأوَّلِ حكم منه عزَّ وجلَّ بذلك وتلقين للمؤمنين أنْ يفعلُوه ويعتقدُوا مضمونَه ولا يُخلُّوا به ولا يغفلُوا عنه . والمرادُ بالأزواجِ الأصنافُ والأنواعُ { مِمَّا تُنبِتُ الارض } بيانٌ لها والمرادُ به كلُّ ما ينبتُ فيها من الأشياءِ المذكورةِ وغيرها { وَمِنْ أَنفُسِهِمْ } أي خلقَ الأزواجَ من أنفسِهم أي الذَّكرَ والأُنثى { وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } أي والأزواجَ مما لم يُطلعهم الله تعالى على خُصوصيَّاتهِ لعدمِ قُدرتِهم على الاحاطةِ بها ولمَّا لم يتعلَّق بذلك شيءٌ من مصالحِهم الدِّينيةِ والدُّنيويةِ وإنما أطلعَهم على ذلك بطريقِ الإجمالِ على منهاجِ قوله تعالى : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ( لمَا نيطَ به وقوفُهم على عظمِ قدرتِه وسعةِ مُلكهِ وسلطانِه .
{ وَءايَةٌ لَّهُمُ اليل } جملة من خبرٍ مقَّدمٍ ومبتدأٍ مؤخَّرٍ كما مرَّ وقوله تعالى { نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } جملةٌ مبيِّنة لكيفيَّةِ كونِه آيةً أي نُزيله ونكشفُه عن مكانِه مستعارٌ من السَّلخِ وهو إزالةُ ما بين الحيوانِ وجلدِه من الاتِّصالِ . والأغلبُ في الاستعمالِ تعليقُه بالجلدِ يقال سلختُ الإهابَ من الشَّاةِ وقد يُعكس ومنه الشَّاةُ المسلوخةُ { فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } أي داخلونَ في الظَّلامِ مفاجأةً وفيه رمزٌ إلى أنَّ الأصلَ هو الظَّلامُ والنُّورُ عارضٌ . { والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا } لحدَ مُعين ينتهي إليهِ دورُها فشبه بمستقرِّ المسافرِ إذ قطع مسيرَه أو لكبد السَّماءِ فإنَّ حركتَها فيه توجد أبطأ بحيثُ يظنُّ أنَّ لها هناك وقفةً قال :(5/413)
والشَّمسُ حَيْرى لها بالجوِّ تدويمُ ... أو لا استقرارَ لها على نهجٍ مخصوصٍ أو لمنتهى مقدَّر لكلِّ يومٍ من المشارقِ والمغاربِ فإنَّ لها في دورِها ثلاثمائة وستِّين مشرقاً ومغرباً تطلع كلَّ يومٍ من مطلعِ وتغربُ من مغربٍ ثمَّ لا تعودُ إليهما إلى العامِ القابلِ أو لمنقطعِ جريها عند خرابِ العالمِ . وقُرىء إلى مستقرَ لها . وقُرىء لا مستقرَّ لها أي ، لا سكونَ لها فإنَّها متحرِّكةٌ دائماً وقُرىء لا مستقرَّ لها على أنَّ لا بمعنى ليسَ .
{ ذلك } إشارةٌ إلى جريها وما فيهِ من معنى البُعد مع قُرب العهدِ بالمُشارِ إليه للإيذانِ بعلوِّ رُتبتهِ وبُعد منزلتِه أي ذلك الجريُ البديعُ المنطوي على الحِكَمِ الرَّائعةِ التي تحارُ في فهمها العقولُ والأفهامُ { تَقْدِيرُ العزيز } الغالبِ بقُدرته علَى كلِّ مقدورٍ { العليم } المحيطِ علمُه بكلِّ معلومٍ .(5/414)
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)
{ والقمر قدرناه } بالنَّصبِ بإضمار فعلٍ يفسِّره الظَّاهرُ . وقُرىء بالرَّفعِ على الابتداءِ أي قدَّرنا له { مَنَازِلَ } وقيل : قدرنا مسيرَه منازلَ وقيل : قدرنَاهُ ذا منازلَ وهي ثمانيةٌ وعشرون السرطانِ البَطينُ الثُّريَّا الدَّبرانِ الهقعة الهَنْعَةُ الذِّراعُ النَّثرةُ الطِّرفُ الجَبهةُ الزَّبرةُ الصِّرفةُ العَوَا السِّماكُ الغفر الزباني الإكليلُ القَلبُ الشَّولةُ النَّعائمُ البلدةُ سعدُ الذَّابحُ سعدُ بَلْع سَعدُ السُّعود سَعدُ الأخبيةِ فرغ الدَّلو المقدَّم فرغ الدَّلوِ المؤخرَّ الرَّشا وهو بطنُ الحوتِ ينزل كلَّ ليلةٍ في واحدٍ منها لا يتخطَّاها ولا يتقاصرُ عنها فإذا كان في آخرِ منازلِه وهو الذي يكون قبيلَ الاجتماع دقَّ واستقوسَ { حتى عَادَ كالعرجون } كالشِّمراخِ المُعوجِ فعلون من الانعراجِ وهو الاعوجاجُ وقُرىء كالعَرجونَ وهما لغتانِ كالبُزيَون والبِزيونِ . { القديم } العَتيقِ وقيل : وهو ما مرَّ عليه حولٌ فصاعداً { لاَ الشمس يَنبَغِى لَهَا } أي يصحُّ ويتسهَّلُ { أَن تدْرِكَ القمر } في سرعةِ السَّيرِ فإنَّ ذلكَ يخلُّ بتكون النَّباتِ وتعيُّشِ الحيوانِ أو في الآثارِ والمنافعِ أو في المكانِ بأن تنزلَ في منزلِه أو في سلطانه فتطمس نورَه . وإيلاءُ حرفِ النَّفي الشَّمسَ للدِّلالةِ على أنَّها مسخَّرةٌ لا بتيسر لها إلا ما قُدرِّ لها { وَلاَ اليل سَابِقُ النهار } أي يسبقُه فيفوتُه ولكنْ يعاقُبه وقيل : المرادُ بهما آيتاهُما النيِّرانِ وبالسبقِ سبقُ القمرِ إلى سُلطانِ الشَّمسِ فيكون عكساً للأوَّلِ ، وإيراد السَّبقِ كان الإدراك لأنَّه الملائمُ لسرعةِ سيرهِ { وَكُلٌّ } أي وكلُّهم على أنَّ التَّنوينَ عوضٌ عن المضافِ إليه الذي هو الضَّميرُ العائدُ إلى الشَّمسِ والقمرِ . والجمعُ باعتبارِ التَّكاثرِ العارضِ لهما بتكاثرِ مطالعهما فإنَّ اختلافَ الأحوالِ يُوجب تَعدداً ما في الذَّاتِ أو إلى الكواكبِ فإنَّ ذكرَهما مشعرٌ بها { فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } يسيرُون بانبساطٍ وسهولةٍ .
{ وَءايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ } أولادَهم الذين يبعثُونهم إلى تجاراتِهم أو صبيانَهم ونساءَهم الذين يستصحبونهم ، فإنَّ الذُّريةَ تطلقُ عليهن لا سيَّما مع الاختلاطِ ، وتخصيصُهم بالذِّكرِ لما أنَّ استقرارَهم في السُّفنِ أشقُّ واستمساكهم فيها أبدعُ { فِى الفلك المشحون } أي المملوءِ وقيل : هو فُلك نوحٍ عليه السَّلامُ وحملُ ذريَّاتِهم فيها حملُ آبائِهم الأقدمين وفي أصلابِهم هؤلاء وذرياتُهم ، وتخصيصُ أعقابِهم بالذَّكرِ دُونَهم لأنه أبلغَ في الامتنانِ وأدخلُ في التَّعجيبِ الذي عليه يدورُ كونُه آيةً .(5/415)
وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)
{ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ } ممَّا يماثلُ الفُلكَ { مَا يَرْكَبُونَ } من الإبل فإنها سفائنُ البرِّ أو ممَّا يُماثل ذلك الفُلكَ من السُّفنِ والزَّوارقِ وجعلها مخلوقةً لله تعالى مع كونِها من مصنوعاتِ العبادِ ليس لمجرَّدِ كون صُنعِهم بأقدارِ الله تعالى وإلهامِه بل لمزيدِ اختصاصِ أصلِها بقُدرته تعالى وحكمته حسبما يُعرب عنه قولُه عزَّ وجلَّ : { واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } والتَّعبيرُ عن مُلابستهم بهذه السُّفنِ بالرُّكوبِ لأنَّها باختيارهم كما أنَّ التَّعبيرَ عن مُلابسة ذُرِّيَّتهم بفُلكِ نوحٍ عليه السَّلامُ بالحَملِ لكونِها بغير شعورٍ منهم واختيارٍ . { وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ } الخ من تمامِ الآيةِ فإنَّهم معترفون بمضمونِه كما ينطقُ به قولُه تعالى : { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } وقُرىء نُغرِّقهم بالتَّشديدِ وفي تعليق الإغراقِ بمحض المشيئةِ إشعار بأنَّه قد تكامل ما يُوجب إهلاكَهم من معاصيهم ولم يبقَ آلاَّ تعلُّقُ مشيئته تعالى به أي إنْ نشأْ نغرقهم في اليمِّ مع ما حملناهم فيه من الفُلك فحديثُ خَلْقِ الإبل حينئذٍ كلامٌ جيء به في خلالِ الآيةِ بطريق الاستطرادِ لكمالِ التَّماثلَ بين الإبلِ والفُلكِ فكأنَّها نوعٌ منه أو مع ما يركبون من السُّفنِ والزَّوارقِ { فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ } أي فلا مُغيثَ لهم يخرجهم من الغَرَق ويدفعه عنهم قبل وقوعِه وقيل : فلا استغاثةَ لهم من قولِهم أتاهم الصَّريخُ { وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ } أي ينجُّون منه بعد وقوعِه وقوله تعالى { إِلاَّ رَحْمَةً مّنَّا وَمَتَاعاً } استثناء مفرَّغٌ من أعمِّ العللِ الشَّاملةِ للباعث المتقدِّمِ والغاية المتأخِّرةِ أي لا يُغاثون ولا يُنقذون لشيءٍ من الأشياءِ إلا لرحمةٍ عظيمةٍ من قبلنا داعيةٍ إلى الإغاثةِ والانقاذِ وتمتيع بالحياة مترتِّب عليهما ويجوزُ أنْ يُرادَ بالرَّحمةِ ما يُقارن التَّمتيعَ من الرَّحمةِ الدُّنيويَّةِ فيكون كلاهما غايةً للإغاثةِ والانقاذِ أي لنوعٍ من الرَّحمةِ وتمتع { إلى حِينٍ } أي إلى زمانٍ قُدِّر فيه آجالُهم كما قيل
ولم أسلمْ لكي أبقَى ولكن ... سَلِمتُ من الحِمامِ إلى الحِمامِ
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا } بيانٌ لإعراضِهم عن الآياتِ التَّنزيليةِ بعد بيانِ إعراضِهم عن الآياتِ الآفاقيةِ التي كانُوا يشاهدونَها وعدم تأمُّلِهم فيها أيْ إذَا قيل لهم بطريقِ الإنذارِ بما نزل من الآيات أو بغيره اتَّقوا { مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ } من الآفاتِ والنَّوازلِ فإنَّها محيطة بكم أو ما يصيبكم من المكاره مِن حيثُ تحتسبون ومن حيثُ لا تحتسبون أو من الوقائع النَّازلةِ على الأُمم الخالية قبلكم والعذاب المعدِّ لكم في الآخرة أو من نوازل السَّماءِ ونوائب الأرض أو من عذاب الدُّنيا وعذاب الآخرةِ أو ما تقدَّم من الذُّنوبِ وما تأخَّر . { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } إمَّا حال من واوِ واتَّقوا أو غايةٌ له أي راجين أنْ تُرحموا أو كي تُرحموا فتنجُوا من ذلك لما عرفتُم أنَّ مناط النَّجاةِ ليس إلاَّ رحمةَ الله تعالى . وجوابُ إذا محذوف ثقةً بانفهامِه من قوله تعالى :(5/416)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)
{ وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايات رَبّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } انفهاماً بيِّناً أمَّا إذا كان الإنذارُ بالآيةِ الكريمة فبعبارةِ النَّصِّ وأمَّا إذا كان بغيرها فبدلالته لأنَّهم حين أعرضوا عن آياتِ ربِّهم فلأنْ يُعرضوا عن غيرِها بطريق الأولويَّةِ كأنَّه قيل : وإذا قيل لهم اتَّقوا العذاب أعرضُوا حسبما اعتادُوه . وما نافيةٌ وصيغةُ المضارع للدِّلالة على الاستمرارِ التَّجدُّدِي ومن الأولى مزيدة لتأكيد العموم ، والثَّانيةُ تبعيضية واقعة مع مجرورِها صفةً لآيةٍ . وإضافة الآيات إلى اسم الرَّبِّ المضاف إلى ضميرِم لتفخيم شأنها المستتبع لتهويل ما اجترُءوا عليه في حقِّها ، والمراد بها إمَّا الآيات التَّنزيليةُ فإتيانها نزولُها والمعنى ما يُنزَّل إليهم آيةٌ من الآيات القرآنيةِ التي من جُملتها هذه الآياتُ النَّاطقةُ بما فُصِّل من بدائع صنعِ الله تعالى وسوابغ آلائِه الموجبة للإقبال عليها والإيمانِ بها إلاَّ كانُوا عنها مُعرضين على وجه التَّكذيبِ والاستهزاء ، وإمَّا ما يعمُّها وغيرها من الآيات التَّكوينيَّةِ الشَّاملةِ للمعجزات وغيرها من تعاجيبِ المصنوعاتِ التي من جُملتها الآياتُ الثَّلاثُ المعدودة آنِفاً فالمرادُ بإتيانها ما يعمُّ نزول الوحيِ وظهور تلك الأمورِ لهم . والمعنى ما يظهر لهم آيةٌ من الآيات التي من جُملتها ما ذُكر من شؤونه الشَّاهدةِ بوحدانيَّتِه تعالى وتفرُّدهِ بالألُوهَّيةِ إلاَّ كانُوا عنها مُعرضين تاركين للنظر الصَّحيحِ فيها المؤدِّي إلى الإيمان به تعالى . وإيثارُه على أنْ يُقال إلاَّ أعرضُوا عنها كما وقع مثلُه في قوله تعالى : { وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } للدِّلالةِ على استمرارهم على الإعراضِ حسب استمرار إتيانِ الآياتِ ، وعن مُتعلِّقةٌ بمعرضين قُدِّمتْ عليه مراعاةً للفواصل . والجملةُ في حيِّزِ النَّصبِ على أنَّها حالٌ من مفعولِ تأتي أو من فاعلِه المتخصصِ بالوصف لاشتمالِها على ضمير كلَ منهُما ، والاستثناءُ مفرَّغٌ من أعمِّ الأحوالِ أي ما تأتيُهم من آيةٍ من آيات ربِّهم في حالٍ من أحوالِهم إلا حالَ إعراضِهم عنها أو ما تأتيهم آيةٌ منها في حالٍ من أحوالِها إلا حالَ إعراضِهم عنها . { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله } أي أعطاكُم بطريق التَّفضلِ والإنعام من أنواع الأموالِ عبَّر عنها بذلك تحقيقاً للحقِّ وترغيباً في الإنفاق على منهاج قولِه تعالى : { وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ } وتنبيهاً على عِظَمِ جنايتهم في تركِ الامتثالِ بالأمر ، وكذلك من التبعيضية أي إذا قيل لهم بطريق النصيحة أنفقُوا بعض ما أعطاكم الله تعالى من فضله على المحتاجين فإنَّ ذلك ممَّا يردُّ البلأَ ويدفعُ المكاره { قَالَ الذين كَفَرُواْ } بالصَّانعِ عزَّ وجلَّ وهم زنادقةٌ كانُوا بمكَّةَ { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } تهكُّماً بهم وبما كانُوا عليه من تعليق الأمورِ بمشيئةِ الله تعالى { أَنُطْعِمُ } حسبما تعظوننا به { مَن لَّوْ يَشَاء الله أَطْعَمَهُ } أي على زعمِكم . وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهُمَا : كان بمكَّةَ زنادقُة إذا أُمروا بالصَّدقةِ على المساكين قالوا لا والله أيُفقره الله ونُطعمه نحنُ . وقيل قالَه مُشركو قُريشٍ حين استطعمهم فقراءُ المؤمنين من أموالهم التي زعمُوا أنَّهم جعلُوها لله تعالى من الحارث والأنعامِ يُوهمون أنَّه تعالى لما لم يشأْ إطعامَهم وهو قادرٌ عليه فنحن أحقُّ بذلك ، وما هو إلا لفرطِ جهالتِهم فإنَّ الله تعالى يُطعم عبادَه بأسبابٍ من جُملتها حثُّ الأغنياءِ على إطعامِ الفُقراء وتوفيقُهم لذلك . { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال مُّبِينٍ } حيثُ تأمروننا بما يُخالف مشيئةَ الله تعالى . وقد جُوِّزَ أنْ يكونَ جواباً لهم من جهتِه تعالى أو حكايةً لجواب المُؤمنين لهم .(5/417)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
{ وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين } أي فيما تعدوننا بهِ من قيام السَّاعةِ مخُاطبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لمَا أنَّهم أيضاً كانُوا يتلون عليهم آياتِ الوعيدِ بقيامها . ومعنى القُرْبِ في هذا إمَّا بطريق الاستهزاءِ وإمَّا باعتبارِ قُربِ العهدِ بالوعدِ . { مَا يَنظُرُونَ } جوابٌ من جهته تعالى أي ما ينتظرونَ { إِلاَّ صَيْحَةً واحدة } هي النَّفخةُ الأولى { تَأُخُذُهُمْ } مفاجأةً { وَهُمْ يَخِصّمُونَ } أي يتخاصمُون في متاجرِهم ومعاملاتِهم لا يخطر ببالِهم شيءٌ من مخايلها كقولِه تعالى : { فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } فلا يغترُّوا بعدم ظهور علائِمها ولا يزعمُوا أنَّها لا تأتيهم . وأصلُ يخصِّمون يَخْتَصِمُون فُسكِّنت التَّاءُ وأُدغمتْ في الصَّادِ ثمَّ كُسرتْ الخاءلالتقاءِ السَّاكنينِ . وقُرىء بكسر الياءِ للاتباعِ ، وبفتح الخاءِ على إلقاءِ حركةِ التَّاءِ عليه . وقُرىء على الاختلاسِ ، وبالإسكانِ على تجويزِ الجمعِ بين السَّاكنينِ إذا كان الثَّاني مُدغَماً وإنْ لم يكُن الأوَّلُ حرفَ مدَ . وقُرىء يَخْصِمُون من خَصَمَه إذا جَادَله . { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً } في شيءٍ من أمورِهم إنْ كانُوا فيما بين أهليهم { وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } إنْ كانُوا في خارج أبوابِهم بل تبغتهم الصَّيحةُ فيموتون حيثُما كانُوا . { وَنُفِخَ فِى الصور } هي النَّفخةُ الثَّانيةُ بينها وبين الأوُلى أربعون سنةً أي يُنفخ فيهِ . وصيغةُ الماضي للدلالةِ على تحقُّقِ الوقوعِ { فَإِذَا هُم مّنَ الاجداث } أي القبورِ جمع جَدَثٍ وقرىء بالفاءِ { إلى رَبّهِمْ } مالكِ أمرِهم على الإطلاقِ { يَنسِلُونَ } يُسرعون بطريقِ الإجبارِ دُونَ الأختيارِ لقولِه تعالى لدينا مُحضَرُون . وقُرىء بضمِّ السِّينِ .
{ قَالُواْ } أي في ابتداء بعثهم من القُبور { ياويلنا } احضُرْ فهذا أوانُك . وقُرىء يا ويلتَنَا . { مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } وقُرىء مَن أهبّنا من هبَّ من نومه إذا انتبه . وقُرىء من هَبّنا بمعنى أهبنا . وقيل : أصلُه هبَّ بنا فحُذف الجارُّ وأُوصل الفعلُ إلى الضَّميرِ ، قيل فيه ترشيحٌ ورمزٌ وإشعادرٌ بأنَّهم لاختلاطِ عقولِهم يظنُّون أنَّهم كانوا نياماً . وعن مجاهدٍ أنَّ للكفَّار هجعةً يجدون فيها طعمَ النَّومِ فإذا صِيح بأهل القُبور يقولون ذلك . وعن ابن عبَّاسٍ وأُبيِّ بنِ كعبٍ وقَتَادةَ رحمهم الله تعالى : أنَّ الله تعالى يرفعُ عنهم العذابَ بينَ النَّفختينِ فيرقدُون فإذا بُعثوا بالنَّفخةِ الثَّانيةِ وشاهدُوا من أهوال القيامةِ ما شاهدُوا دَعَوا بالويلِ ، وقالوا ذلك . وقيل : إذا عاينُوا جهنَّم وما فيها من أنواع العذابِ يصير عذابُ القبر في جنبِها مثلَ النَّومِ فيقولون ذلك ، وقُرىء ( مِن بَعْثنا ) ومِن هَبّنا بمن الجارَّةِ والمصدرِ . والمرقدُ إمَّا مصدرٌ أي من رُقادِنا أو اسمُ مكانٍ أُريد به الجنسُ فينتظم مراقدَ الكلِّ { هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون } جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ . وما موصولةٌ محذوفةٌ العائدِ أو مصدريةٌ وهو جواب من قبل الملائكةِ أو المؤمنينَ عُدل به عن سَننِ سؤالِهم تذكيراً لكُفرهم وتقريعاً لهم عليه وتنبيهاً على أنَّ الذي يهُمهم هو السُّؤالُ عن نفسِ البعثِ ماذا هو دون السُّؤال عن الباعثِ كأنَّهم قالُوا بعثكم الرحمن الذي وعدكُم ذلك في كتبِه وأرسلَ إليكم الرُّسلَ فصدقُوكم فيه وليسَ الأمرُ كما تتوهمونَه حتَّى تسألُوا عن الباعثِ وقيل : هو من كلامِ الكافرينَ حيثُ يتذكّرون ماسمعُوه من الرُّسلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ فيجيبونَ به أنفسَهم أو بعضَهم بعضاً وقيل هذا صفةٌ لمرقدنا وما وعدَ الخ خبرُ مبتدأ محذوفٍ أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ أي ما وعد الرَّحمنُ وصدقَ المرسلونَ حقٌّ .(5/418)
إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)
{ إِن كَانَتْ } أي ما كانَتْ النَّفخةُ التي حكيتُ آنفاً { إِلاَّ صَيْحَةً واحدة } حصلتْ من نفخ إسرافيلَ عليه السَّلامُ في الصُّور { فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ } أي مجموعٌ { لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } من غيرِ لبثٍ ما طرفهَ عينٍ وفيه من تهوينِ أمرِ البعثِ والحشرِ والإيذانِ باستغنائِهما عن الأسبابِ ما لا يَخْفى .
{ فاليوم لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ } من النُّفوسِ برةً كانتْ أو فاجرةً { شَيْئاً } من الظُّلم { وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي الإجزاءُ ما كنتُم تعملونَه في الدُّنيا على الاستمرار من الفكرِ والمعاصي على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مقامَه للتَّنبيه على قُوَّةِ التَّلازمِ والارتباطِ كأنَّهما شيءٌ واحدٌ أو إلاَّ بما كنتُم تعملونَه أي بمقابلتِه أو بسببهِ . وتعميمُ الخطابِ للمؤمنين يردُّه أنَّه تعالى يُوفِّيهم أجورهم ويزيدَهم من فضلِه أضعافاً مضاعفةً وهذه حكايةٌ لما سيُقال لهم حين يرَون العذابَ المعدَّ لهم تحقيقاً للحقِّ وتقريعاً لهم . وقوله تعالى { إِنَّ أصحاب الجنة اليوم فِى شُغُلٍ فاكهون } من جُملة ما سيُقال لهم يؤمئذٍ زيادةً لحسرتِهم وندامتِهم فإنَّ الأخبارَ بحسن حالِ أعدائِهم إثرَ بيان سُوء حالِهم مَّما يزيدُهم مساءةً على مساءةٍ . وفي هذه الحكايةِ مزجرةٍ لهؤلاءِ الكَفرةِ عمَّا هم عليه ومدعاةٌ إلى الاقتداء بسيرةِ المُؤمنين . والشُّغُل هو الشَّأنُ الذي يصدُّ المرءَ ويشغلُه عمَّا سواهُ من شؤونه لكونِه أهمَّ عنده من الكُلِّ إمَّا لإيجابهِ كمالَ المسرَّةِ والبهجةِ أو كمالِ المساءةِ والغمِّ . والمرادُ ههنا هو الأولُ وما فيه من التَّنكيره والإبهامِ للإيذان بارتفاعِه عن رتبةِ البيانِ والمراد به ما هم فيه من فنون الملاذّ التي تلهيهم عمَّا عداهَا بالكلية ، وإمَّا أنَّ المرادَ به افتضاضُ الأبكارِ أو السَّماءُ وضربُ الأوتار أو التّزاور أو ضيافةُ الله تعالى أو شغلُهم عمَّا فيه أهلُ النَّارِ على الإطلاقِ أو شغلُهم عن أهاليهم في النَّارِ لا يهمهم أمرُهم ولا يُبالون بهم كيلا يُدخلَ عليهم تنغيصٌ في نعيمهم كما رَوى كلُّ واحدٍ منها عن واحدٍ من أكابرِ السَّلفِ فليس مرادُهم بذلك حصرَ شغلِهم فيما ذُكرُوه فقطُ بل بيانَ أنَّه من جُملةِ اشتغالِهم . وتخصيصُ كلَ منهم كلاًّ من تلكَ الأمورِ بالذكرِ محمولٌ على إقضاءِ مقامِ البيانِ إياَّه وهو مع جارِه خبرٌ لأنَّ وفاكهون خبر آخرُ لها أي أنهم مستقرُّون في شغل وأي شغلٍ في شغل عظيمِ الشَّأنِ متنعمون بنعيمٍ مقيم فائزون بملك كبيرٍ . والتَّعبيرُ عن حالِهم هذه بالجملةِ الاسميةِ قبل تحقُّقها بتنزيل المرتقب المتوقَّعِ منزلة الواقع للإيذان بغايةِ سرعةِ تحقُّقها ووقوعِها ولزيادةِ مساءة المخاطَبين بذلك قرىء في شُغْل بسكون العينِ وفي شَغَل بفتحتين وبفتحةٍ وسكون والكلُّ لغاتٌ وقُرىء فكهون للمبالغةِ وفَكُهون بضمِّ الكاف وهي لغةٌ كنطُس وفاكهينَ وفكهِين على الحالِ من المستكنِّ في الظَّرف .(5/419)
هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57)
وقوله تعالى : { هُمْ وأزواجهم فِى ظلال عَلَى الارائك مُتَّكِئُونَ } استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ كيفيَّةِ شغلِهم وتفكّههم وتكميلهما بما يزيدهُم بهجة وسروراً من شركة أزواجِهم لهم فيما هُم فيه من الشُّغل والفكاهةِ على أنَّ هم مبتدأ وأزواجهم عطفٌ عليه ومتكئون خبر والجارَّانِ صلتانِ له قدمتا عليه لمراعاة الفواصلِ أو هو والجارانِ بما تعلّقا به من الاستقرارِ أخبارٌ مترتبة وقيل : الخبر هو الظَّرفُ الأولُ والثَّاني مستأنفٌ على أنَّه متعلق بمتكئون وهو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ وقيل : على أنَّه خبرٌ مقَّدمٌ ومتكئون مبتدأٌ مؤخَّرٌ . وقُرىء متكين بلا همزةٍ نصباً على الحالِ من المستكنَّ في الظَّرفينِ أو أحدِهما وقيل : هم تأكيدٌ للمستكنِّ في خبرانِ ومتكئون خبرٌ آخرُ لها وعلى الأرائكِ متعلَّقٌ به وكذا في ظلال أو هذا بمضمرٍ هو حالٌ من المعطوفين والظِّلالُ جمع ظلَ كشعابٍ جمع شعبٍ أو جمع ظُلَّةٍ كقِباب جمعِ قُبَّةٍ ويؤيده في ظُللٍ والأرائك جمعُ أريكةٍ وهي السَّريرُ المزين بالثيابِ والسُّتورِ قال ثعلبٌ : لا تكون أريكةٌ حتى تكونَ عليها حجلةٌ وقوله تعالى : { لَهُمْ فِيهَا فاكهة } الخ بيانٌ لما يتمتعون به في الجنةِ من المآكلِ والمشاربِ وما يتلذَّذون به من الملاذِّ الجسمانيةِ والرُّوحانيةِ بعد بيانِ ما لهُم فيها من مجالسِ الأنسِ ومحافلِ القدسِ تكميلاً لبيانِ كيفيةِ ما هُم فيه من الشغلِ والبهجةِ أي لهم فيها فاكهةٌ كثيرةٌ من كلِّ نوعٍ من أنواعِ الفواكِه وما في قولِه تعالى : { وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } موصولةٌ أو موصوفةٌ عبَّر بها عن مدعوَ عظيمِ الشَّأنِ معيَّنٍ أو مبهمٍ إيذاناً بأنَّه الحقيقُ بالدُّعاءِ دونَ ما عداهُم ثم صرَّح به رَوْماً لزيادةِ التَّقريرِ بالتَّحقيقِ بعد التَّشويقِ كما ستعرفه أو هي باقيةٌ على عمومها قصد بها التَّعميمِ بعد تخصيصِ بعضِ الموادِّ المعتادةِ بالذكر ، وإيّاً ما كانَ فهو مبتدأ ولهم خبرُه والجملةُ معطوفةٌ على الجملةِ السَّابقةِ وعدمُ الاكتفاءِ بعطفِ ما يدَّعون على فاكهة لئلاَّ يتوهم كون ما عبارةً عن توابعِ الفاكهةِ وتتماتها والمَعْنى ولهم ما يدَّعون به لأنفسِهم من مدعوَ عظيمِ الشَّأنِ أو كل ما يدَّعُون به كائناً ما كانَ من أسبابِ البهجةِ وموجباتِ السرُّورِ ، وأيّاً ما كان ففيهِ دلالةٌ على أنَّهم في أقصى غايةِ البهجةِ والغبطةِ ويدّعون يفتعلونَ من الدُّعاءِ كما أُشير إليه مثل اشتوى واجتمَل إذا شوَى وجمل لنفسهِ وقيل : بمعنى يتداعون كالارتماءِ بمعنى التَّرامي وقيل بمعنى يتمَّنون من قولِهم ادعُ على ما شئتَ بمعنى تمنَّه علي وقال الزَّجَّاجُ هو من الدُّعاءِ أي ما يدعُو به أهلُ الجنَّةِ يأتيهم فيكون الافتعالِ بمعنى الفعلِ كالاحتمالِ بمعنى الحملِ والارتحالِ بمعنى الرِّحلةِ ويعضدُه القراءةُ بالتَّخفيفِ كما ذكره الكواشيُّ .(5/420)
سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
وقوله تعالى : { سلام } على التَّقديرِ الأوَّلِ بدلٌ من ما يدَّعُون . أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ . وقوله تعالى { قَوْلاً } مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعلٍ هو صفةٌ لسلامٌ وما بعده من الجارِّ متعلِّقٌ بمضمر هو صفةٌ له كأنَّه قيل ولهم سلامٌ أو ما يدَّعُون سلامٌ يُقال لهم قَولاً كائناً { مِنْ } جهةِ { رَّبّ رَّحِيمٍ } أي يُسلَّم عليهم من جهتِه تعالى بواسطة المَلَكِ أو بدونِها مبالغةً في تعظيمهم . قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : والملائكةُ يدخلُون عليهم بالتَّحيةِ من ربِّ العالمين . وأمَّا على التَّقديرِ الثَّاني فقد قيل إنَّه خبرٌ لمَا يدَّعُون ولهم لبيان الجهةِ كما يُقال لزيدٍ الشَّرفُ متوفِّرٌ . على أنَّ الشَّرفَ مبتدأٌ ومتوفِّرٌ خبرُه والجارُّ والمجرورُ لبيانِ مَن له ذلك أي ما يدَّعُون سالمٌ لهم خالصٌ لا شوبَ فيه . وقولاً حينئذٍ مصدرٌ مؤكَّدٌ لمضمون الجملةِ أي عدةٌ من ربَ رحيمٍ . والأوجَهُ أنْ ينتصبَ على الاختصاصِ . وقيل هو مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ ، أي لهم سلامٌ أي تسليمٌ قولاً من ربَ رحيمٍ . أو سلامةٌ من الآفاتِ فيكون قولاً مصدراً مؤكداً لمضمونِ الجملة كما سبقَ وقيل : تقديرُه سلامٌ عليهم فيكون حكايةً لما سيقالُ لهم من جهتِه تعالى يومئذٍ وقيل : خبرُه الفعلُ المقدَّر ناصباً لقولاً وقيل : خبرُه من ربَ رحيمٍ . وقُرىء سلاماً بالنَّصبِ على الحاليَّةِ أي لهم مرادُهم سالماً خالِصاً . وقُرىء سلمٌ وهو بمعنى السَّلامِ في المعنيينِ .
{ وامتازوا اليوم } عطفٌ إمَّا على الجملة السَّابقةِ المسوقة لبيان أحوالِ أهل الجنَّةِ لا على أنَّ المقصودَ عطف فعل الأمر بخصُوصهِ حتىَّ يتحَّملَ له مشاكل يصحُّ عطفه عليه ، بل على أنَّه عطفُ قصَّةِ سوء حال هؤلاءِ وكيفيَّة عقابِهم على قصَّةِ حُسن حال أولئك ووصف ثوابِهم كما مرَّ في قوله تعالى : { وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ } الآيةَ وكأنَّ تغيير السَّبكِ لتخييل كمالِ التَّباينِ بين الفريقينِ وحاليهما . وإمَّا على مضمرٍ تنساق إليه حكايةُ حال أهل الجنَّةِ كأنَّه قيل : إثرَ بيان كونِهم في شغل عظيمِ الشَّأنِ وفوزهم بنعيم مقيمٍ يقصرُ عنه البيانُ فليقرُّوا بذلك عيناً وامتازُوا عنهم { أَيُّهَا المجرمون } إلى مصيرِكم . وعن قَتادةَ : اعتزلُوا عن كلِّ خبر . وعن الضَّحَّاكِ : لكلِّ كافر بيتٌ من النَّارِ يكون فيه لا يَرى ولا يُرى . وأمَّا ما قيل : من أنَّ المضمرَ فليمتازوا فبمعزلٍ من السَّدادِ لما أنَّ المحكيَّ عنهم ليس مصيرهم إلى ما ذُكرمن الحال المرضيةِ حتَّى يتسنَّى ترتيب الأمر المذكور عليه بل إنَّما هو استقرارُهم عليها بالفعل ، وكونُ ذلك بطريق تنزيل المترقَّبِ منزلةَ الواقع لا يُجدي نفعاً لأنَّ مناطَ الإضمار إنسياقُ الأفهام إليه وانصبابُ نظم الكلامِ عليه ، فبعد ما نزلت تلك الحالة منزلَة الواقع بالفعل لما اقتضاه المقامُ من النُّكتةِ البارعة بالحكمة الرَّائعةِ حسبما مرَّ بيانه وأسقط كونها مترَّقبةً عن درجة الاعتبار بالكُلِّيةِ يكون التَّصدِّي لإضمار شيء يتعلَّقُ به إخراجاً للنَّظمَ الكريم عن الجَزالة بالمرَّةِ .(5/421)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)
{ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابنى آدَم أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان } من جُملة ما يُقال لهم بطريق التَّقريعِ والإلزام والتَّبكيتِ بين الأمر بالامتياز وبين الأمر بدخول جهنَّمَ بقوله تعالى : { اصلوها اليوم } الخ والعهد هو الوصَّيةُ والتَّقدُّمُ بأمر فيه خير ومنفعة والمراد ههنا ما كلَّفهم الله تعالى على ألسنةِ الرُّسلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ من الأوامرِ والنَّواهي التي من جُملتِها قوله تعالى : { يَذَّكَّرُونَ يابنى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الجنة } الآيةَ وقوله تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } وغيرهما من الآياتِ الكريمةِ الواردة في هَذا المعنى ، وقيل : هو الميثافُ المأخوذُ عليهم حين أُخرجوا من ظهور بني آدمَ وأُشهدوا على أنفسهم وقيل : هو ما نُصب لهم من الحُجج العقليَّةِ والسمعيَّةِ الآمرةِ بعبادته تعالى الزَّاجرةِ عن عبادة غيرِه . والمرادُ بعبادة الشَّيطانِ طاعتُه فيما يُوسوس به إليهم ويزيِّنه لهم ، عبرَّ عنها بالعبادة لزيادة التَّحذيرِ والتَّنفيرِ عنها ولوقوعها في مقابلة عبادته عزَّ وجلَّ . وقُرىء إِعهد بكسرِ الهمزة ، وأعهِد بكسر الهاء ، وأحهد بالحاءِ مكان العين ، وأحد بالإدغامِ وهي لغةُ بني تميمٍ { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } أي ظاهرُ العداوةِ وهو تعليل لوجوب الانتهاء عن المنهيِّ عنه وقيل تعليل للنَّهيِ .
{ وَأَنِ اعبدونى } عطف على أنْ لا تعبدُوا على أنَّ أنْ فيهما مفسِّرةٌ للعهد الذي فيه معنى القول بالنهي والأمر ، أو مصدرَّيةٌ حُذف عنها الجارُّ أي ألم أعهد إليكم في ترك عبادةِ الشَّيطانِ وفي عبادتي . وتقديم النَّهي على الأمر لما أنَّ حقَّ التَّخليةِ كما في كلمة التَّوحيدِ وليتصل به قوله تعالى { هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ } فإنَّه إشارة إلى عبادته تعالى التي هي عبارةٌ عن التَّوحيدِ والإسلام ، وهو المشار إليه بقوله تعالى : { هَذَا صراط عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ } والمقصود بقوله تعالى : { لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم } والتَّنكيرُ للتَّفخيمِ ، واللام في قوله تعالى { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً } جواب قسم محذوف والجملة استئناف مَسوق لتشديد التَّوبيخِ وتأكيد التَّقريعِ ببيان أن جناياتِهم ليستْ بنقض العهدِ فقط بل به وبعدم الاتِّعاظِ بما شاهدوا من العقوبات النَّازلةِ على الأُمم الخاليةِ بسبب طاعتهم للشَّيطانِ ، فالخطابُ لمتأخِّريهم الذين من جُملتهم كُفَّارُ مكَّةَ خُصُّواً بزيادة التَّوبيخِ والتَّقريعِ لتضاعف جناياتهمِ والجِبِلُّ بكسرِ الجيم والباءِ وتشديدِ اللاَّم الخَلْقُ . وقُرىء بضمَّتينِ وتشديدٍ ، وبضمَّتينِ وتخفيفٍ ، وبضمَّةٍ وسكونٍ ، وبكسرتينِ وتخفيفٍ ، وبكسرةٍ وسكونٍ . والكلُّ لغاتٌ . وقُرىء جِبَلاً جمعُ جِبْلةٍ كفِطَرٍ وخِلَقٍ في جمعِ فِطْرةٍ وخِلْقةٍ . وقُرىء جِيْلاً بالياء وهو الصِّنفُ من النَّاسِ أي وبالله لقد أضلَّ منكم خَلْقاً كثيراً أو صِنفاً كثيراً عن ذلك الصِّراطِ المستقيم الذي أمرتُكم بالثَّباتِ عليه فأصابهم لأجلِ ذلك ما أصابَهم من العُقوبات الهائلةِ التي ملأ الآفاقَ أخبارُها وبقي مدى الدَّهرِ آثارُها . والفاءُ في قوله تعالى : { أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ } للعطفِ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقامُ أي أكنتُم تشاهدونَ آثارَ عقوباتِهم فلم تكونوا تعقلون أنَّها لضُلاَّلهِم أو فلم تكونُوا تعقلون شيئاً أصلاً حتَّى ترتدعُوا عمَّا كانُوا عليه كيلا يحيقَ بكم العقابُ .(5/422)
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)
وقوله تعالى : { هذه جَهَنَّمُ التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ } استئنافٌ يخاطَبون به بعد تمامِ التَّوبيخِ والتَّقريعِ والإلزامِ والتَّبكيتِ عند إشرافهم على شفير جهنَّمَ أي كنتم تُوعدونها على ألسنةِ الرُّسلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ بمقابلة عبادة الشَّيطانِ مثل قولِه تعالى : { لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ منهم أَجْمَعِينَ } وقوله تعالى : { قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوفُورًا } وقولِه تعالى : { قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْءومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } وغيرِ ذلك مَّما لا يُحصى . وقوله تعالى : { اصلوها اليوم بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } أمر تنكيل وإهانة كقولِه تعالى : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز } الخ أي ادخلُوها من فوق وقاسُوا فنون عذابِها اليَّومَ بكفرِكم المستمرِّ في الدُّنيا . وقوله تعالى { اليوم نَخْتِمُ على أفواههم } أي ختماً يمنعُها عن الكلامِ . التفاتٌ إلى الغَيبةِ للإيذانِ بأنَّ ذكر أحوالِهم القبيحةِ استدعى أنْ يُعرض عنهم ويَحكي أحوالَهم الفظيعة لغيرهم مع ما فيه من الإيماءِ إلى أنَّ ذلك من مقتضيات الختم لأنَّ الخطاب لتلقِّي الجواب ، وقد انفقطع بالكُلَّيةِ ، وقُرىء تَختم . { وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } يُروى أنَّهم يجحدون ويُخاصمون فيشهد عليهم جيرانُهم وأهاليهم وعشائرُهم فيحلفون ما كانُوا مشركين فحينئذٍ يُختم على أفواهِهم وتكلم أيديهم وأرجلُهم . وفي الحديث : « يقول العبدُ يوم القيامة إنِّي لا أجيزُ عليَّ شاهداً إلا من نفسي فيُختم على فيهِ ويقال لأركانِه انطقي فتنطقُ بأعماله ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام فيقول بُعداً لكنَّ وسُحقاً فعنكنَّ كنتُ أناضلُ » وقيل : تكليمُ الأركانِ وشهادتُها على أفعالها وظهورُ آثارِ المعاصي عليها . وقُرىء وتتكلَّمُ أيديهم وقُرىء ولتكلَّمَنا أيديهم وتشهد بلام كَيْ والنَّصبِ على معنى ولذلك نختِم على أفواهِهم وقُرىء ولتكلِّمْنا أيديهم لتشهدْ بلام الأمرِ والجزمِ { وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ } الطَّمسُ تعفيةُ شقِّ العينِ حتَّى تعودَ ممسوحةً . ومفعول المشيئة محذوفٌ على القاعدة المستمرَّةِ التي هي وقوعها شرطاً وكون مفعولها مضمون الجزاء أي لو نشاء أنْ نطمسَ على أعينهم لفعلناه . وإيثارُ صيغة الاستقبال وإن كان المعنى على المُضيِّ لإفادة أنَّ عدمَ الطَّمس على أعينهم لاستمرار عدمِ المشيئة ، فإنَّ المضارعَ المنفيَّ الواقع موقع الماضي ليس بنصَ في إفادة انتفاء استمرارِ انتقائه بحسب المقام كما مرَّ في قوله تعالى : { وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير } { فاستبقوا الصراط } أي فأرادوا أنْ يستبقُوا إلى الطَّريقِ الذي اعتادُوا سلوكَه . على أنَّ انتصابه بنزع الجارِّ أو هو بتضمين الاستباقِ معنى الابتدارِ أو بالظَّرفيةِ { فأنى يُبْصِرُونَ } الطَّريقَ وجهة السلوك .(5/423)
وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)
{ وَلَوْ نَشَاء لمسخناهم } بتغيير صُورِهم وإبطال قواهم { على مكانتهم } أي مكانِهم إلاَّ أن المكانة أخصُّ كالمَقامةِ والمَقامِ . وقُرىء على مكانتهم أي لمسخناهم مسخاً يُجمِّدهم مكانَهم لا يقدرون أنْ يبرحُوه بإقبالٍ ولا إدبارٍ ولا رجوعٍ وذلك قوله تعالى { فَمَا استطاعوا مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ } أي ولا رجوعاً فوُضعَ موضعَه الفعلُ لمراعاةِ الفاصلةِ عن ابن عبَّاسَ رضي الله عنهما قردةً وخنازيرَ ، وقيل : حجارةً وعن قَتادةَ لأقعدناهم على أرجلِهم وأزمنَّاهم . وقُرىء مِضيّا بكسر الميمِ وفتحها . وليسَ مساقُ الشَّرطيتينِ لمجرد بيان قدرته تعالى على ما ذُكر من عقوبة الطَّمسِ والمسخ بل لبيان أنَّهم بما هم عليه من الكُفر ونقص العهد وعدم الاتِّعاظِ بما شاهدُوا من آثارِ دمارِ أمثالِهم أحقَّاءُ بأنْ يُفعلَ بهم في الدُّنيا تلك العقوبة كما فُعل بهم في الآخرةِ عقوبةُ الختمِ وأنَّ المانع من ذلك ليس إلاَّ عدمُ تعلُّقَ المشيئة الإلهيَّةِ كأنَّه قيل : لو نشاء عقوبتَهم بما ذُكر من الطَّمسِ والمسخ جرياً على موجب جناياتهم المستدعيةِ لها لفعلناها ولكنَّا لم نشأها جرياً على سَننِ الرَّحمةِ والحكمة الدَّاعيتينِ إلى إمهالهم { وَمَن نّعَمّرْهُ } أي نُطل عمره { نُنَكّسْهُ فِى الخلق } أي نقلبْه فيه ونخلقْه على عكسِ ما خلقناه أوَّلاً ، فلا يزال يتزايدُ ضعفُه وتتناقصُ قوَّتُه وتُنتقص بنيتُه ويتغير شكلُه وصورتُه حتَّى يعودَ إلى حالةٍ شبيهةٍ بحال الصبيِّ في ضعف الجسدِ وقلَّةِ العقلِ والخلوِّ عن الفهمِ والإدراكِ . وقُرىء نَنكُسْه من الثُّلاثيِّ المجرَّدِ ونُنْكِسه من الإنكاسِ . { أَفَلاَ يَعْقِلُونَ } أي أيرَون ذلك فلا يعقلون أنَّ مَن قَدَر على ذلك يقدِرُ على ما ذُكر من الطَّمسِ والمسخِ وأنَّ عدم إيقاعِهما لعدم تعلُّقِ مشيئته تعالى بهما . وقِرىء تعقلون بالتَّاءِ لجري الخطابِ قبلَه .
{ وَمَا علمناه الشعر } ردٌّ وإبطالٌ لما كانُوا يقولونَه في حقِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من أنَّه شاعرٌ وما يقولُه شعرٌ أي ما علَّمناه الشِّعرُ بتعليمِ القُرآن على أنَّ القُرآنَ ليسَ بشعرٍ فإنَّ الشِّعرَ كلامٌ متكلَّفٌ موضوعٌ ومقالٌ مزخرَفٌ مصنوعٌ منسوجٌ على منوالِ الوزن والقافيةَ مبنيٌّ على خيالاتٍ وأوهامٍ واهيةٍ فأين ذلك من التَّنزيلِ الجليلِ الخطِرِ المنزَّهِ عن مماثلةِ كلامِ البشر المشحون بفُنونِ الحِكَمِ والأحكامِ الباهرةِ الموصِّلةِ إلى سعادةِ الدُّنيا والآخرةِ ، ومن أين اشتَبه عليهم الشؤون واختلطَ بهم الظُّنون قاتلهم الله أنَّى يُؤفكون { وَمَا يَنبَغِى لَهُ } وما يصحُّ له الشِّعرُ ولا يتأتَّى له لو طلبه أي جعلناه بحيث لو أراد قرضَ الشِّعِر لم يتأتَّ له كما جعلناه أميَّاً لا يهتدي للخطِّ لتكون الحجَّةُ أثبتَ والشُّبهةُ أدحضَ . وأما قولُه عليه الصَّلاة والسَّلام : « أنا النبيُّ لا كذب أنا ابنُ عبد المطَّلب » وقولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « هل أنتِ إلا أصبعٌ دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ » فمنْ قبيلِ الاتفِّاقاتِ الواردةِ من غير قصدٍ إليها وعزمٍ على ترتيبها . وقيل : الضَّميرُ في له للقُرآنِ أي وما ينبغي للقُرآنِ أنْ يكونَ شِعراً { إِنْ هُوَ } أي ما للقُرآن { إِلاَّ ذِكْرٌ } أي عظةٌ من الله عزَّ وجلَّ وإرشادٌ للثَّقلين كما قال تعالى : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين } { وَقُرْآنٌ مُّبِين } أي كتابٌ سماويٌّ بيِّنٌ كونه كذلك أو فارقٌ بين الحقِّ والباطلِ يُقرأ في المحاريبِ ويُتلى في المعابدِ ويُنال بتلاوتِه والعملِ بما فيه فوزُ الدَّارينِ فكم بينَهُ وبينَ ما قالُوا .(5/424)
لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)
{ لّيُنذِرَ } أي القُرآنُ أو الرَّسولُ عليه الصلاة والسلام ويُؤيِّده القراءةُ بالتَّاءِ ، وقرىء لينذر من نذر به أي علمه ، وليُنذرَ مبنيَّا للمفعولِ من الإنذارِ . { مَن كَانَ حَيّاً } أي عاقِلاً متأمِّلاً ، فإنَّ الغافلَ بمنزلةِ الميِّتِ ، أو مؤمناً في علمِ الله تعالى فإن الحياةَ الأبديَّةَ بالإيمانِ ، وتخصيصُ الإنذار به لأنَّه المنتفعُ به { وَيَحِقَّ القول } أي تجبُ كلمةُ العذابِ { عَلَى الكافرين } المصرِّين على الكفرِ ، وفي إيرادِهم بمقابلةِ مَن كان حيّاً إشعارٌ بأنَّهم لخلوِّهم عن آثارِ الحياةِ وأحكامِها التي هي المعرفةُ أمواتٌ في الحقيقةِ .
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ } الهمزةُ للإنكار والتَّعجيبِ . والواو للعطفِ على جملةٍ منفيِّةٍ مقدَّرةٍ مستتبعةٍ للمعطوفِ أي ألم يتفكرَّوا أو ألم يلاحظُوا ولم يعلمُوا علماً يقينيّاً مُتاخِماً للمُعاينةِ . { أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم } أي لأجلِهم وانتفاعِهم { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } أي ممَّا تولينا إحداثَه بالذَّاتِ . وذكرُ الأيدي وإسنادُ العمل إليها إستعارةٌ تفيد مبالغة في الاختصاص والتَّفردِ بالأحداث والاعتناء به . { أنعاما } مفعولُ خلقنَا . وتأخيره عن الجارَّينِ المتعلِّقين به مع أنَّ حقَّه التَّقدمُ عليهما لما مرَّ مراراً من الاعتناء بالمقدَّمِ والتَّشويقِ إلى المؤخَّرِ فإنَّ ما حقُّه التَّقدِيمُ إذا أُخِّر تبقى النَّفسُ مترقبةَ له فيتمكن عند ورودِه عليها فضلُ تمكُّنٍ لا سيَّما عند كونِ المقدَّصصمِ منبئاً عن كونِ المؤخَّر أمراً نافعاً خطيراً كما في النَّظمِ الكريم فإنَّ الجارَّ الأول المُعربَ عن كون المؤخَّرِ من منافعهم ، والثَّاني المفصح عن كونه من الأمورِ الخطيرةِ يزيدان النَّفسَ شوقاً إليه ورغبةً فيه ولأنَّ في تأخيره جمعاً بينه وبين أحكامِه المتفرِّعةِ عليه يقوله تعالى { فَهُمْ لَهَا مالكون } الآياتِ الثلاثَ أي مَلّكناها إيَّاهمُ . وإيثارُ الجملة الاسميَّةِ على ذلك للدِّلالةِ على استقرارِ مالكِّيتِهم لها واستمرارِها . والَّلامُ متعلِّقةٌ بمالكون مقوَّيةٌ لعمله أي فهُم مالِكون لها بتمليكِنا إيصِّاهم لهم متصرِّفون فيها بالاستقلالِ مختصُّون بالانتفاع بها لا يُزاحمهم في ذلك عيرُهم أو قادرون على ضبطها متمكِّنون من التَّصرُّفِ فيها بأقدارِنا وتمكيننا وتسخيرِنا إيَّاها لهم كما في قولِ مَن قال
أصبحتُ لا أحملُ السِّلاحَ ولا ... أملكُ رأسَ البعيرِ إنْ نَقَرا
والأَوَّلُ هو الأظهرُ ليكون قوله تعالى { وذللناها لَهُمْ } تأسيساً لنعمةٍ على حيالِها لا تتمَّةً لما قبلها أي صيَّرناها منقادةً لهم بحيثُ لا تستعصِي عليهم في شيءٍ مَّما يُريدون بها حتَّى الذَّبح حسبما ينطقُ به قوله تعالى { فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ } الخ فإنَّ الفاء فيه لتفريع أحكام التَّذليلِ عليه وتفصيلها أي فبعضٌ منها ركوبُهم أي مركوبُهم أي معظم منافعها الرُّكوبُ ، وعدم التَّعرضِ للحمل لكونِه من تتمَّاتِ الرُّكوبِ . وقُرىء ركوبتُهم وهي بمعناه كالحَلوبِ والحَلوبةِ وقيل : الرَّكوبةُ اسم جمع . وقُرىء رُكوبُهم أي ذُو رُكوبِهم { وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } أي وبعضٌ منها يأكلون لحمه .(5/425)
وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
{ وَلَهُمْ فِيهَا } أي في الأنعامِ بكِلا قسميها { منافع } أُخرُ غيرُ الرُّكوبِ والأكلِ كالجلودِ والأصوافِ والأوبارِ وغيرِها وكالحِراثةِ بالثِّيران { ومشارب } من اللَّبنِ جمع مَشربٍ وهذا مجمل ما فُصِّل في سورة النَّحلِ { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } أي أيُشاهدون هذه النِّعمَ أو أيتنعَّمون بها فلا يشكرونَ المنعمَ بها .
{ واتخذوا مِن دُونِ الله } أي متجاوزينَ الله تعالى الذي شاهدُوا تفرُّدَه بتلك القدرةِ الباهرةِ وتفضُّله عليهم بهاتيك النِّعمِ المتظاهرةِ { ءالِهَةً } من الأصنام وأشركوهَا به تعالى في العبادة { لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ } رجاءَ أنْ يُنصروا من جهتِهم فيما حزبَهم من الأمورِ أو يشفعُوا لهم في الآخرةِ وقوله تعالى : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ } الخ استئنافٌ سيق لبيانُ بُطلانِ رأيهم وخيبةِ رجائِهم وانعكاسِ تدبيرِهم أي لا تقدرُ آلهتُهم على نصرِهم { وَهُمْ } أي المشركون { لَهُمْ } أي لآلِهتهم { جُندٌ مٌّحْضَرُونَ } يشيِّعونهم عند مساقِهم إلى النَّارِ ، وقيل : مُعَدُّون في الدُّنيا لحفظِهم وخدمتِهم والذبِّ عنهم ، ولا يساعده مساقُ النَّظمِ الكريم فإنَّ الفاء في قوله تعالى { فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } لترتيب النَّهيِ على ما قبله فلا بُدَّ أنْ يكونَ عبارةً عن خسرانِهم وحرمانِهم عمَّا علَّقوا به أطماعَهم الفارغةَ وانعكاسُ الأمرِ عليهم بترتب الشَّرِّ على ما رتَّبوه لرجاءِ الخبر فإن ذلك مما يُهوِّن الخطبَ ويورث السَّلوةَ ، وأما كونُهم معدِّين لخدمتِهم وحفظِهم فبمعزلٍ من ذلكَ والنَّهيُ وإنْ كان بحسبِ الظَّاهرِ متوجِّهاً إلى قولهم لكنه في الحقيقة متوجّهٌ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ونهيٌ له عليه السَّلامُ عن النَّأثرِ منه بطريقِ الكنايةِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه فإن النَّهيَ عن أسبابِ الشَّيءِ ومبادئهِ المؤدَّيةِ إليه نهيٌ عنه بالطَّريقِ البُرهانِّي وإبطالٍ للسَّببيةِ وقد يُوجَّه النَّهيُ إلى المسبَّبِ ويراد النَّهيُ عن السَّببِ كما في قولِه لا أرينك هَهُنا يريد به نهيَ مخاطبه عن الحضورِ لديهِ والمرادُ بقولِهم ما ينبىءُ عنه ما ذُكر من اتِّخاذهم الأصنامَ آلهةً فإنَّ ذلكَ مما لا يخلُو عن التَّفوه بقولِهم هؤلاءِ آلهتُنا وأنهم شركاءُ لله سبحانه في المعبوديةِ وغير ذلك مَّما يُورث الحزنَ . وقُرىء يُحزِنك بضمِّ الياء وكسرِ الزَّايِ من أحزنَ المنقولِ من حزنَ اللازمِ وقوله تعالى :
{ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } تعليلٌ صريحٌ للنَّهي بطريقِ الاستئنافِ بعد تعليلهِ بطريقِ الإشعارِ فإنَّ العلمَ بما ذُكر مستلزمٌ للمجازاةِ قطعاً أي إنَّا نجازيهم بجميعِ جناياتهم الخافيةِ والباديةِ التي لا يعزُبُ عن علمنا شيءٌ منها وفيه فضلُ تسليةٍ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتقديمِ السرِّ على العَلَنِ إمَّا للمبالغةِ في بيان شمولِ علمهِ تعالى لجميعِ المعلوماتِ كأنَّ علمه تعالى بما يسرُّونه أقدمُ منه بما يعلنونَه مع استوائِهما في الحقيقةِ فإنَّ علمَه تعالى بمعلوماتهِ ليس بطريقِ حصولِ صورها بل وجود كلِّ شيءٍ في نفسِه علم بالنِّسبةِ إليه تعالى ، وفي هذا المعنى لا يختلفُ الحالُ بين الأشياءِ البارزةِ والكامنةِ وإما لأن مرتبةَ السرِّ متقدمةٌ على مرتبة العَلَنِ إذ ما من شيءٍ يعلن إلا وهو أو مباديه مضمرٌ في القلبِ قبل ذلك فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدِّم على تعلقهِ بحالتهِ الثَّانية حقيقة .(5/426)
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)
{ أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ } كلام مستأنفٌ مسوق لبيان بطلانِ إنكارِهم البعثِ بعد ما شاهدوا في أنفسِهم أوضحَ دلائلهِ وأعدلَ شواهده كما أن ما سبق مسوق لبيان بطلانِ إشراكهم بالله تعالى بعدما عاينُوا فيما بأيديهم ما يوجب التَّوحيدَ والإسلامَ وأما ما قيلَ من أنَّه تسليةٌ ثانيةٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم بتهوينِ ما يقولونَهُ بالنِّسبةِ إلى إنكارِهم الحشرَ فكَلاَّ والهمزةُ للإنكارِ والتَّعجيبِ والواوُ للعطفِ على جملةٍ مقدَّرةٍ هي مستتبعة للمعطوفِ كما مرَّ في الجملة الإنكارية السابقةِ أي ألم يتفكر الإنسانُ ولم يعلم علماً يقينياً أنا خلقناهُ من نطفةٍ الخ أو هي عين الجملة السابقةِ أعيدتْ تأكيداً للنكيرِ السَّابقِ وتمهيداً لإنكارِ ما هو أحقُّ منه بالإنكارِ والتَّعجيبِ لما أنَّ المنكرَ هناك عدمُ علمهِم بما يتعلَّقُ بخلقِ أسبابِ معايشهم وهاهنا عدمُ علمهم بما يتعلَّق بخلقِ أنفسهم . ولا ريبَ في أن علمَ الإنسانِ بأحوالِ نفسهِ أهمُّ وإحاطته بها أسهلُ وأكملُ ، فالإنكارُ والتَّعجيبُ من الإخلالِ بذلك أدخلُ كأنَّه قيل ألم يعلمُوا خلقَه تعالى لأسبابِ معايشهم ولم يعلمُوا خلقَه تعالى لأنفسِهم أيضاً مع كونِ العلمِ بذلك في غايةِ الظُّهور ونهايةِ الأهميةِ على معنى أنَّ المنكر الأول بعيدٌ قبيحٌ والثاني أبعدُ وأقبحُ ويجوزُ أنْ تكونَ الواوُ لعطفِ الجملةِ الإنكاريَّةِ الثَّانيةِ على الأُولى على أنَّها متقدِّمة في الاعتبارِ وأنَّ تقدمَ الهمزةِ عليها لاقتضائها الصَّدارة في الكلامِ كما هو رأيُ الجمهورِ وإيرادُ الإنسانِ موردَ الضَّميرِ لأنَّ مدارَ الإنكارِ متعلِّقٌ بأحوالهِ من حيثُ هو إنسانٌ كما في قوله تعالى : { أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } وقولُه تعالى : { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } أي شديدُ الخُصومةِ والجدالِ بالباطلِ . عطفٌ على الجملةِ المنفيَّةِ داخلٌ في حيِّزِ الإنكارِ والتَّعجيبِ كأنَّه قيل أولم يَرَ أنَّا خلقناهُ من أخسِّ الأشياءِ وأمهنِها ففاجأ خصومتنا في أمرٍ يشهدُ بصحَّتهِ وتحقُّقهِ مبدأُ فطرته شهادةً بيِّنةً . وإيرادُ الجملةِ الاسميَّةِ للدِّلالةِ على استقرارِه في الخُصومةِ واستمرارِه عليها . رُوي أنَّ جماعةً من كفَّارِ قُريشٍ منهم أُبيُّ بن خَلَفٍ الجُمحيُّ وأبُو جهلٍ والعاصِ بنُ وائلٍ والوليدُ بنُ المغيرة تكلَّموا في ذلكَ فقال لهم أبيُّ بنُ خلفٍ : ألا ترون إلى ما يقولُ محمدٌ : « إنَّ اللَّهَ يبعثُ الأمواتَ » ثم قال : واللاَّتِ والعُزَّى لأَصيرنَّ إليه ولأخصِمنَّه وأخذ عظماً بالياً فجعل يفتُّه بيدِه ويقولُ : يا محمَّدُ أترى الله يُحيي هذا بعدما رُمَّ قال صلى الله عليه وسلم : « نعم ويبعثُك ويُدخلكَ جهنَّم » فنزلتْ . وقيل معنى قوله تعالى : { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } فإذا هُو بعدما كانَ ماءً مَهيناً رجلٌ مميِّزٌ منطيقٌ قادرٌ على الخصامِ مبينٌ مُعرِبٌ عمَّا في نفسِه فصيحٌ ، فهو حينئذٍ معطوفٌ على خلقنا غيرُ داخلٍ تحت الإنكار والتَّعجيبِ بل هو من مُتمَّماتِ شواهدِ صحَّةِ البعثِ .(5/427)
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)
فقولُه تعالى : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً } معطوفٌ حينئذٍ على الجُملة المنفيَّةِ داخلٌ في حيِّز الإنكارِ والتَّقبيحِ ، وأمَّا على التَّقديرِ الأوَّلِ فهو عطفٌ على الجملة الفُجائيَّةِ ، والمعنى ففاجأ خصومتنا وضربَ لنا مَثَلاً أي أوردَ في شأنِنا قصَّةً عجيبةً في نفس الأمرِ هي في الغرابةِ والبُعدِ عن العقولِ كالمَثَلِ ، وهي إنكارُ إحيائنا العظامَ أو قصَّةً عجيبةً في زعمه واستبعدَها وعدَّها من قبيلِ المَثَلِ وأنكرَها أشدَّ الإنكارِ وهي إحياؤُنا إيَّاها وجعلَ لنا مَثَلاً ونظيراً من الخلقِ وقاسَ قُدرتنا على قُدرتهِم ونفى الكلَّ على العمومِ . وقوله تعالى : { وَنَسِىَ خَلْقَهُ } أي خلقَنا إيَّاهُ على الوجهِ المذكورِ الدَّالِّ على بُطلانِ ما ضربه . إمَّا عطفٌ على ضربَ داخلٌ في حيِّزِ الإنكارِ والتَّعجيبِ أو حالٌ من فاعله بإضمارِ قَدْ أو بدونه . وقولُه تعالى : { قَالَ } استئنافٌ وقع جواباً عن سؤالٍ نشأ من حكايةِ ضربهِ المثلَ كأنَّه قيل أيَّ مَثَلٍ ضربَ أو ماذا قال فقيل قال : { مَن يُحىِ العظام } منكِراً له أشدَّ النَّكيرِ مؤكِّداً له بقوله تعالى : { وَهِىَ رَمِيمٌ } أي باليةٌ أشدَّ البلى بعيدةٌ من الحياةِ غاية البُعدِ فالمَثَلُ على الأوَّلِ هو إنكارُ إحيائهِ تعالى للعظامِ فإنَّه أمرٌ عجيبٌ في نفسِ الأمرِ حقيقٌ لغرابتهِ وبُعدهِ من العقولِ بأنْ يُعدَّ مثلاً ضرورةَ جزمِ العقول ببطلانِ الإنكارِ ووقوعِ المنكرِ لكونهِ كالإنشاءِ بل أهونُ منه في قياسِ العقلِ ، وعلى الثَّاني هو إحياؤُه تعالى لها فإنَّه أمرٌ عجيبٌ في زعمهِ قد استبعدَهُ وعدَّه من قبيلِ المثل وأنكرَهُ أشدَّ الإنكارِ مع أنَّه في نفسِ الأمرِ أقربُ شيءٍ من الوقوعِ لما سبقَ من كونه مثلَ الإنشاءِ أو أهونَ منه ، وأما على الثَّالثِ فلا فرقَ بين أنْ يكون المَثَلُ هو الإنكارَ أو المنكرَ . وعدمُ تأنيثِ الرَّميمِ مع وقوعهِ خبراً للمؤنَّثِ لأنَّه اسمٌ لما بَلِيَ من العظامِ غير صفة كالرُّفاتِ ، وقد تمسَّك بظاهرِ الآيةِ الكريمةِ من أثبتَ للعظمِ حياةً وبنى عليه الحكم بنجاسةِ عظمِ الميتةِ ، وأما أصحابُنا فلا يقولونَ بحياته كالشَّعرِ ويقولون المرادُ بإحياءِ العظامِ ردُّها إلى ما كانتْ عليهِ من الغضاضةِ والرُّطوبةِ في بدنٍ حيَ حسَّاسٍ { قُلْ } تبكيتاً له بتذكيرِ ما نسيَه من فطرته الدالَّةِ على حقيقةِ الحال وإرشاده إلى طريقةِ الاستشهادِ بها { يُحْيِيهَا الذى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } فإنَّ قدرتَهُ كما هي لاستحالةِ التَّغير فيها والمادَّةُ على حالِها { وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } مبالغٌ في العلمِ بتفاصيلِ كيفيَّاتِ الخلقِ والإيجادِ إنشاءً وإعادةً محيطٌ بجميعِ الأجزاءِ المتفتتة المتبدِّدةِ لكلِّ شخصٍ من الأشخاصِ أصولها وفروعها وأوضاعِ بعضها من بعضٍ من الاتِّصالِ والانفصالِ والاجتماعِ والافتراقِ فيعيدُ كلاًّ من ذلك على النَّمطِ السَّابقِ مع القُوى التي كانتْ قبلُ . والجملةُ إما اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لمضمونِ الجوابِ أو معطوفةٌ على الصِّلةِ .(5/428)
والعدولُ إلى الجُملةِ الاسميَّةِ للتَّنبيهِ على أنَّ علمَه تعالى بما ذُكر أمرٌ مستمرٌّ ليسَ كإنشائهِ للمنشآتِ . وقولُه تعالى : { الذى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشجر الاخضر نَاراً } بدلٌ من الموصول الأوَّلِ . وعدمُ الاكتفاءِ بعطف صلتهِ على صلتهِ للتَّأكيدِ ولتفاوتهما في كيفيَّةِ الدِّلالةِ . أي خلقَ لأجلكم ومنفعتِكم منه ناراً ، على أنَّ الجعلَ إبداعيٌّ . والجارَّانِ متعلِّقانِ به قُدِّما على مفعوله الصَّريحِ مع تأخُّرهما عنه رتبةً لما مرَّ من الاعتناء بالمقدَّمِ والتَّشويقِ إلى المؤخَّرِ . ووصفُ الشَّجرِ بالأخضرِ نظراً إلى اللَّفظِ . وقد قُرىء الخضراءِ نظراً إلى المَعْنى . وهو المَرخُ والعفارُ يقطعُ الرَّجلُ منهما عُصيَّتينِ مثل السِّواكينِ وهما خَضْراوانِ يقطرُ منهما الماءُ فيسحقُ المرخَ وهو ذكرٌ على العفارِ وهو أُنثى فتنقدحُ النَّارُ بإذنِ الله تعالى وذلك قولُه تعالى : { فَإِذَا أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ } فمن قدرَ على إحداثِ النَّارِ من الشَّجرِ الأخضرِ مع ما فيهِ من المائيَّةِ المُضادَّةِ لها بكيفيَّتهِ كان أقدرَ على إعادةِ الغضاضةِ إلى ما كان غضًّا فطرأ عليه اليبوسةُ والبِلى .(5/429)
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
وقوله تعالى : { أَوَلَيْسَ الذى خَلَقَ السموات والارض } الخ استئنافٌ مسوقٌ من جهته عزَّ وجلَّ لتحقيق مضمون الجوابِ الذي أُمر عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بأنْ يُخاطبهم بذلك ويُلزمهم الحجَّة . والهمزةُ للإنكارِ والنَّفيِ ، والواوُ للعطفِ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقامُ أي أليسَ الذي أنشأها أوَّلَ مرَّةٍ وليس الذي جعلَ لهم من الشَّجرِ الأخضرِ ناراً وليسَ الذي خلقَ السَّمواتِ والأرضَ مع كِبر جِرمِهما وعظم شأنهما { بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } في الصِّغرِ والقَمَاءةِ بالنسبةِ إليهما فإنَّ بديهةَ العقلِ قاضيةٌ بأنَّ مَن قدرَ على خلقهما فهو على خَلْقِ الأناسيِّ أقدرُ كما قال تعالى : { لَخَلْقُ السموات والارض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } وقُرىء يقدِرُ وقوله تعالى : { بلى } جوابٌ من جهته تعالى وتصريحٌ بما أفادَه الاستفهامُ الإنكارِيُّ من تقريرِ ما بعد النَّفيِ وإيذانٌ بتعيُّنِ الجوابِ نطقُوا به أو تلعثمُوا فيه مخافة الإلزامِ . وقولُه تعالى : { وَهُوَ الخلاق العليم } عطفٌ على ما يفيدُه الإيجابُ أي بَلَى هو قادرٌ على ذلكَ وهو المبالغُ في الخلقِ والعلم كَيْفاً وكمًّا . { إِنَّمَا أَمْرُهُ } أي شأنُه { إِذَا أَرَادَ شَيْئاً } من الأشياءِ { أَن يَقُولَ لَهُ كُن } أي أنْ يعلِّقَ به قدرته { فَيَكُونُ } فيحدُثُ من غيرِ توقُّفٍ على شيءٍ آخرَ أصلاً . وهذا تمثيلٌ لتأثيرِ قُدرتهِ تعالى فيما أرادَه بأمرِ الآمرِ المُطاعِ المأمورِ المطيعِ في سرعةِ حصولِ المأمورِ به من غيرِ توقُّفٍ على شيء مَا . وقُرىء فيكونَ بالنَّصب عطفاً على يقولَ { فسبحان الذى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء } تنزيهٌ له عزَّ وعلا عمَّا وصفُوه تعالى به وتعجيبٌ ممَّا قالوا في شأنهِ تعالى وقد مرَّ تحقيقُ معنى سبحانَ . والفاءُ للإشارةِ إلى أنَّ ما فُصِّل من شؤونهِ تعالى موجبةٌ لتنزُّهه وتنزيههِ أكملَ إيجابٍ كما أنَّ وصفَه تعالى بالمالكيةِ الكلِّيةِ المُطلقة للإشعارِ بأنَّها مقتضيةٌ لذلك أتمَّ اقتضاءٍ . والملكوتُ مبالغةٌ في المُلكِ كالرَّحموتِ والرَّهبوتِ . وقُرىء ملكةُ كلِّ شيءٍ ومملكةُ كلِّ شيءٍ ومُلكُ كلِّ شيءٍ . { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } لا إلى غيرِه . وقُرىء ترجعون بفتحِ التَّاءِ من الرُّجوعِ وفيهِ من الوعدِ والوعيدِ ما لا يَخْفى . عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُما : كنتُ لا أعلمُ ما رُوي في فضائلِ ياس وقراءتها كيف خُصَّتْ بذلك فإذا أنه لهذه الآيةِ . قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : « إنَّ لكلِّ شيءٍ قَلباً وإنَّ قلبَ القُرآنِ ياس مَن قَرأها يريدُ بها وجه الله تعالى غفرَ اللَّهُ له وأُعطيَ من الأجرِ كأنَّما قرأ القُرآنَ اثنتينِ وعشرينَ مرَّةً » وأيَّما مسلمٍ قُرىء عنده إذَا نزل به مَلَكُ الموتِ سورةُ ياس نزلَ بكلِّ حرفٍ منها عشرةُ أملاكٍ يقومون بين يديهِ صفوفاً يصلُّون عليهِ ويستغفرونَ له ويشهدونَ غسلَهُ ويتبعونَ جنازتَهُ ويصلُّون عليهِ ويشهدون دفنَهُ وأيَّما مسلمٍ قرأ ياس وهو في سكراتِ الموتِ لم يقبضْ مَلَكُ الموتِ رُوحَه حتَّى يجيئه رَضوانُ خازنُ الجنَّةِ بشربةٍ من شراب الجنَّةِ فيشربها وهو عَلى فراشِه فيقبضُ مَلَكُ الموتِ رُوحَه وهو ريَّانُ ويمكثُ في قبرهِ وهو ريَّانُ ولا يحتاجُ إلى حوضٍ من حياض الأنبياءِ حتَّى يدخلَ الجنَّة وهو ريَّانُ . وقال صلى الله عليه وسلم : « إنَّ في القُرآنِ سورةً تشفعُ لقارئِها وتستغفرُ لمستمِعها ألا وهيَ سورةُ ياس »(5/430)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)
( سورة الصافات مكية وآياتها مائة واثنتان وثمانون آية )
{ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم } { والصافات صَفَّا } إقسامٌ من اللَّهِ عزَّ وجلَّ بطوائِفَ الملائكةِ الفاعلاتِ للصُّفوفِ على أنَّ المرادَ إيقاعُ نفسِ الفعلِ من غيرِ قصدٍ إلى المفعولِ أو الصَّافَّاتُ أنفسُها أي النَّاظمات أنفسَها أي النَّاظمات لها في سلك الصُّفوفِ بقيامها في مقاماتِها المعلومةِ حسبما ينطقُ به قولُه تعالى : { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } وعلى هذينِ المعنيينِ مدارُ قوله تعالى : { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون } وقيل الصَّافاتُ أقدامها في الصَّلاةِ وقيل أجنحتها في الهواءِ { فالزجرات زَجْراً } أي الفاعلاتِ للزَّجرِ أو الزَّاجراتِ لما نيطَ بها زَجرُه من الأجرامِ العلويَّةِ والسُّفليَّةِ وغيرِها على وجهٍ يليقُ بالمزجورِ . ومن جُملة ذلك زجرُ العبادِ عن المعاصي وزجرُ الشَّياطينِ عن الوسوسةِ والإغواءِ وعن استراقِ السَّمعِ كما سيأتي ، وصفًّا وزَجْراً مصدرانِ مؤكِّدانِ لما قبلهما أي صفًّا بديعاً وزَجْراً بليغاً ، وأمَّا ذِكراً في قولهِ تعالى : { فالتاليات ذِكْراً } فمفعولُ التَّالياتِ ذكراً عظيمَ الشَّأنِ من آياتِ اللَّهِ تعالى وكتبهِ المنزَّلةِ على الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وغيرِها من التَّسبيحِ والتَّقديسِ والتَّحميدِ والتَّمجيدِ وقيل هو أيضاً مصدرٌ مؤكِّد لما قبلَه فإنَّ التِّلاوةَ من بابِ الذِّكرِ ثم إنَّ هذه الصِّفاتِ إنْ أُجريتْ على الكلِّ فعطفُها بالفاءِ للدِّلالةِ على ترتُّبها في الفضلِ إمَّا بكونِ الفضلِ للصَّفِ ثمَّ للزَّجرِ ثمَّ للتِّلاوةِ أو على العكسِ ، وإن أُجريت كلُّ واحدة منهنَّ على طوائفَ معيَّنةٍ فهو للدِّلالةِ على ترتُّبِ الموصوفاتِ في مراتب الفضل بمعنى أنَّ طوائفَ الصَّافَّاتِ ذواتُ فضل والزَّاجراتُ أفضلُ والتَّالياتُ أبهرُ فضلاً أو على العكس . وقيل المرادُ بالمذكوراتِ نفوسُ العلماءِ العمَّالِ الصَّافَّاتُ أنفسَها في صفوف الجماعاتِ وأقدامها في الصَّلواتِ الزَّاجراتُ بالمواعظ والنَّصائحِ التَّالياتُ آياتِ الله تعالى الدَّارساتُ شرائعه وأحكامَه . وقيل طوائفُ الغُزاة الصَّافَّات أنفسَهم في مواطنِ الحروبِ كأنَّهم بنيانٌ مرصوصٌ . أو طوائفُ قُوَّادِهم الصَّافَّاتُ لهم فيها الزَّاجراتُ الخيلَ للجهادِ سوقاً والعدوَّ في المعارك طَرْداً التَّالياتُ آياتِ اللَّهِ تعالى وذكره وتسبيحَه في تضاعيفِ ذلك . والكلامُ في العطفِ ودلالتهِ على ترتُّبِ الصِّفاتِ في الفضلِ أو ترتُّب موصوفاتِها فيه كالذي سلفَ ، وأمَّا الدِّلالةُ على التَّرتُّبِ في الوجودِ كما في قوله
يا لهفَ زبَّانةَ للحارث ال ... صابحِ فالغانمِ فالآيبِ
فغيرُ ظاهرةٍ في شيءٍ من الطَّوائفِ المذكورة ، فإنَّه لو سُلِّم تقدُّمُ الصَّفِ على الزَّجرِ في الملائكةِ والغزاةِ فتأخُّرُ التِّلاوةِ عن الزَّجرِ غيرُ ظاهرٍ . وقيل الصَّافَّاتُ الطَّيرُ من قوله تعالى : { والطير صافات } والزَّاجراتُ كلُّ ما يزجرُ عن المعاصِي ، والتّاليات كُّل مَن يتلُو كتابَ اللَّهِ تعالى . وقيل الزَّاجراتُ القوارعُ القُرآنيةُ . وقُرىء بإدغامِ التَّاءِ في الصَّادِ والزاي والذَّالِ .(5/431)
إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)
{ إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ } جوابٌ للقسمِ . والجملةُ تحقيقٌ للحقِّ الذي هو التَّوحيدُ بما هو المألوفُ في كلامِهم من التَّأكيدِ القسميِّ وتمهيد لما يعقبُه من البُرهانِ النَّاطقِ به أعني قوله تعالى { رَبّ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ المشارق } فإنَّ وجودَها وانتظامَها على هذا النَّمطِ البديعِ من أوضحِ دلائلِ وجودِ الصَّانعِ وعلمهِ وقُدرتهِ وأعدلُ شواهدِ وحدتهِ كما مرَّ في قوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } وربُّ خبرٌ ثانٍ لأنَّ ، أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي مالكُ السموات والأرضِ وما بينهما من الموجوداتِ ومربِّيها ومبلِّغَها إلى كمالاتِها . والمرادُ بالمشارقِ مشارقُ الشَّمسِ . وإعادةُ الربِّ فيها لغايةِ ظهورِ آثارِ الرُّبوبيَّةِ فيها وتجدُّدِها كلَّ يومٍ فإنَّها ثلاثمائة وستُّون مشرقاً تشرقُ كلَّ يومٍ من مشرقٍ منها وبحسبها تختلفُ المغاربُ وتغربُ كلَّ يوم في مغربٍ منها وأما قولُه تعالى : { رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين } فهُما مشرقا الصَّيفِ والشِّتاءِ ومغرباهُما { إِنَّا زَيَّنَّا السماء الدنيا } أي القُربى منكم { بِزِينَةٍ } عجيبة بديعة { الكواكب } بالجرِّ بدلٌ من زينةٍ على أن المرادَ بها الاسمُ ، أي ما يُزان به لا المصدرُ فإنَّ الكواكبَ بأنفسها وأوضاع بعضِها من بعضٍ زينةٌ وأيُّ زينةٍ . وقُرىء بالإضافة على أنَّها بيانيَّةٌ لما أنَّ الزِّينةَ مبهمة صادقة على كلِّ ما يُزان به فتقع الكواكب بياناً لها ويجوزُ أنْ يُراد بزينةِ الكواكبِ ما زُيِّنت هي به وهو ضوؤها . ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : بزينةِ الكواكبِ بضوءِ الكواكبِ . هذا وإمَّا على تقديرِ كون الزِّينةِ مصدراً فالمعنى على تقدير إضافتها إلى الفاعل بأنْ زانتِ الكواكبُ إيَّاها ، وأصله بزينة الكواكب . وعلى تقدير إضافتها إلى المفعولِ بأنْ زانَ اللَّهُ الكواكبَ وحسَّنها ، وأصله بزينة الكواكب . والمرادُ هو التَّزيينُ في رأي العينِ فإنَّ جميع الكواكب من الثَّوابتِ والسَّياراتِ تبدو للنَّاظرينَ كأنَّها جواهرُ مُتلالئةٌ في سطح سماء الدُّنيا بصورٍ بديعةٍ وأشكال رائعة ولا يقدحُ في ذلك ارتكازُ الثَّوابتِ في الفلك الثَّامنِ وما عدا القمرَ في السنةِ المتوسطة إنْ ثبتَ ذلك .(5/432)
وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
{ وَحِفْظاً } منصوبٌ إمَّا بعطفه على زينةٍ باعتبار المعنى كأنَّه قيل إنَّا خلقنا الكواكبَ زينةً للسَّماءِ وحِفظاً { مّن كُلّ شيطان مَّارِدٍ } أي خارجٍ عن الطَّاعةِ برميِ الشُّهبِ . وإمَّا بإضمار فعلهِ ، وإمَّا بتقدير فعلٍ مؤخَّر معلَّلٍ به كأنَّه قيل وحِفظاً من كلِّ شيطانٍ ماردٍ زيَّناها بالكواكبِ ، كقوله تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوماً للشياطين } وقوله تعالى : { لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الاعلى } كلامٌ مبتدأٌ مسوقٌ لبيان حالهم بعد بيانِ حفظِ السَّماءِ عنهم من التَّنبيهِ على كيفيةِ الحفظِ وما يعتريهم في أثناء ذلك من العذابِ ، ولا سبيلَ إلى جعلهِ صفةً لكلِّ شيطانٍ ولا جواباً عن سؤال مقدَّرٍ لعدمِ استقامةِ المعنى ولا علَّةً للحفظِ على أن يكونَ الأصلُ لئلاَّ يسمعُوا فحُذفتِ اللاَّمُ كما حُذفتْ من قولك جئتُك أنْ تكرمني فبقيَ أنْ لا يسمعُوا ثم يحذفُ أنْ ويُهدرُ عملُها كما في قولِ مَن قال
أَلاَ أَيُهذا الزَّاجِرِي أحْضُرَ الوَغَى ... لما أنَّ كلَّ واحدٍ من ذينكَ الحذفينِ غيرُ منكرٍ بانفرادِه ، فأمَّا اجتماعُهما فمنْ أنكرِ المنكرات التي يجبُ تنزيهُ ساحةِ التَّنزيل الجليلِ عن أمثالها . وأصلُ يسمَّعون يتسمَّعُون . والملأُ الأعلى : الملائكةُ . وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : هم الكَتَبةُ . وعنه أشرافُ الملائكةِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ أي لا يتطلَّبون السَّماعَ والإصغاءَ إليهم . وقُرىء يسمعُون بالتَّخفيفِ { وَيَقْذِفُونَ } يُرمَون { مِن كُلّ جَانِبٍ } من جميع جوانبِ السَّماءِ إذا قصدوا الصُّعودَ إليها { دُحُوراً } علَّةً للقذفِ أي للدُّحورِ وهو الطَّردُ . أو حالٌ بمعنى مدحورينَ أو مصدرٌ مؤكِّدٌ له لأنَّهما من وادٍ واحدٍ . وقُرىء دَحُوراً بفتح الدَّالِ أي قَذْفاً دَحُوراً مبالغاً في الطَّردِ . وقد جُوِّز أنْ يكونَ مصدراً كالقَبُولِ والولُوعِ { وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ } أي ولهم في الآخرةِ غيرُ ما في الدُّنيا من عذاب الرَّجمِ بالشُّهبِ عذابٌ شديد دائمٌ غيرُ منقطعٍ كقوله تعالى : { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير } { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة } استثناءٌ من واوِ يسمَّعون . ومَن بدلٌ منه والخطفُ الاختلاسُ والمرادُ اختلاسُ كلامِ الملائكةِ مسارقة كما يُعرب عنه تعريفُ الخَطفةِ . وقُرىء بكسرِ الخاءِ والطَّاءِ المشدَّدةِ وبفتحِ الخاء وكسرِ الطَّاءِ وتشديدها ، وأصلُهما اختطفَ { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ } أي تبعَه ولحقَه . وقُرىء فأتبعَه . والشِّهابُ ما يُرى منقضاً من السَّماءِ { ثَاقِبٌ } مضىءٌ في الغايةِ كأنَّه يثقبُ الجوَّ بضوئهِ يُرجم به الشَّياطينُ إذا صعدُوا لاستراقِ السَّمعِ فيقتلهم أو يحرقُهم أو يخبلُهم . قالُوا : وإنَّما يعودُ من يَسلم منهم حيًّا طمعاً في السَّلامةِ ونيلِ المُرادِ كراكبِ السَّفينةِ .(5/433)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16)
{ فاستفتهم } فاستخبر مُشركي مكَّة { أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً } أي أقوى خِلقةً وأمتنُ بنيةً أو أصعبُ خَلْقاً وأشقُّ إيجاداً { أَم مَّنْ خَلَقْنَا } من الملائكةِ والسَّماءِ والأرضِ وما بينهما . والمشارقُ والكواكبُ والشُّهبُ الثَّواقبُ ومن لتغليبِ العُقلاءِ على غيرِهم ويدلُّ عليه إطلاقُه . ومجيئُه بعد ذلك لا سيَّما قراءةُ مَن قرأ أمْ مَن عددنا . وقولُه تعالى : { إِنَّا خلقناهم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ } فإنَّه الفارقُ بينهم وبينها لا بينهم وبين من قبلهم من الأممِ كعادٍ وثمود ، ولأنَّ المرادَ إثباتُ المعادِ وردُّ استحالتهم . والأمرُ فيه بالإضافةِ إليهم وإلى مَن قبلهم سواء . وقُرىء لازمٍ ولاتبٍ { بَلْ عَجِبْتَ } أي من قُدرة الله تعالى على هذه الخلائقِ العظيمة وإنكارِهم للبعث { وَيَسْخُرُونَ } من تعجُّبكَ وتقريرك للبعث . وقُرىء بضمِّ التَّاءِ ، على معنى أنَّه بلغ كمالُ قدرتي وكثرةُ مخلوقاتي إليَّ حيث عجبتُ منها ، وهؤلاءِ لجهلهم يسخرونَ منها . أو عجبتُ من أنْ ينكرُوا البعثَ ممَّن هذه أفاعيلُه ويسخرُوا ممَّن يجوزُه . والعجبُ من اللَّهِ تعالى إمَّا على الفرضِ والتَّخييلِ ، أو على معنى الاستعظامِ اللاَّزمِ له فإنَّه رَوعةٌ تعتري الإنسانَ عند استعظامِ الشَّيءِ . وقيل إنَّه مقدَّرٌ بالقولِ أي قُل يا محمدُ بل عجبتُ { وَإِذَا ذُكّرُواْ } أي ودأبُهم المستمرُّ أنَّهم إذا وُعظوا بشيءٍ من المواعظِ . { لاَ يَذْكُرُونَ } لا يتَّعظون ، وإذَا ذُكر لهم ما يدلُّ على صحَّةِ البعثِ لا ينتفعُون به لغايةِ بلادتهم وقصورِ فكرهم { وَإِذَا رَأَوْاْ ءايَةً } أي معجزةً تدلُّ على صدقِ القائلِ به { يَسْتَسْخِرُونَ } يُبالغون في السُّخريةِ ، ويقُولون إنَّه سحرٌ أو يستدعي بعضُهم من بعضٍ أنْ يسخرَ منها { وَقَالُواْ إِن هذا } أي ما يَرونه من الآياتِ الباهرةِ { إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } ظاهرٌ سحريَّتهُ { أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما } أي كان بعضُ أجزائِنا تُراباً وبعضُها عظاماً . وتقديمُ التُّرابِ لأنَّه منقلبٌ من الأجزاءِ الباديةِ . والعاملُ في إذا ما دلَّ عليه مبعوثونَ في قوله تعالى : { أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ } أي نُبعث لا نفسه لأنَّ دونَه خطوباً لو تفرَّدَ واحدٌ منها لكفى في المنعِ . وتقديمُ الظَّرفِ لتقويةِ الإنكارِ للبعث بتوجيههِ إلى حالةٍ منافيةٍ له غايةَ المُنافاة وكذا تكريرُ الهمزةِ في أئنا للمبالغةِ والتَّشديدِ في ذلك وكذا تحليةُ الجملةِ بأنْ واللاَّمِ لتأكيدِ الإنكارِ لا لإنكارِ التَّأكيدِ كما يُوهمه ظاهرُ النَّظمِ الكريمِ فإنَّ تقديمَ الهمزةِ لاقتضائها الصَّدارة كما في مثلِ قوله تعالى : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } على رأي الجمهورِ ، فإنَّ المعنى عندَهُم تعقيبُ الإنكارِ لا إنكارُ التَّعقيبِ كما هُو المشهورُ . وقُرىء بطرحِ الهمزةِ الأُولى وبطرحِ الثَّانيةِ فَقَطْ .(5/434)
أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22)
{ أَوَ ءابَاؤُنَا الاولون } رُفع على الابتداءِ ، وخبرُه محذوفٌ عند سيبويهِ أي وآباؤنا الأوَّلُون أيضاً مبعوثُون . وقيل عطفٌ على محلِّ إنَّ واسمِها ، وقيل على الضَّميرِ في مبعوثُون للفصلِ بهمزةِ الإنكارِ الجاريةِ مجرى حرفِ النَّفيِ في قوله تعالى : { مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } وأيًّا ما كانَ فمرادُهم زيادةُ الاستبعادِ بناءً على أنَّهم أقدمُ فبعثهم أبعدُ على زعمهم . وقُرىء أو آباؤُنا .
{ قُلْ } تبكيتاً لهم { نِعْمَ } والخطابُ في قوله تعالى : { وَأَنتُمْ داخرون } لهم ولآبائِهم بطريقِ التَّغليبِ . والجملةُ حالٌ من فاعلِ ما دلَّ عليه نعم أي كلُّكم مبعوثون والحالُ أنَّكم صاغرونَ أذلاَّءُ . وقُرىء نَعِم بكسرِ العينِ وهي لغةٌ فيه . { فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحدة } هي إمَّا ضميرٌ مبهمٌ يفسِّرهُ خبرُه ، أو ضميرُ البعثةِ . والجملةُ جوابُ شرطٍ مضمرٍ أو تعليلٌ لنهيَ مقدَّرٍ أي إذا كانَ كذلك فإنَّما هي الخ . أو لا تستصعبُوه فإنَّما هي الخ . والزَّجرةُ الصَّيحةُ من زجرَ الرَّاعي غنمه إذا صاحَ عليها وهي النَّفخةُ الثَّانيةُ { فَإِذَا هُم } قائمونَ من مراقدهم أحياءً { يَنظَرُونَ } يُبصرون كما كانُوا أو ينتظرون ما يُفعل بهم { وَقَالُواْ } أي المبعوثونَ . وصيغةُ الماضي للدِّلالةِ على التَّحقُقِ والتَّقررِ { ياويلنا } أي هلاكنا احضُر فهذا أوانُ حضورِك . وقولُه تعالى : { هذا يَوْمُ الدين } تعليلٌ لدعائهم الويلِ بطريق الاستئنافِ أي اليوم الذي نُجازى فيه بأعمالنا ، وإنَّما علموا ذلك لأنَّهم كانوا يسمعون في الدُّنيا أنَّهم يُبعثون ويُحاسبون ويُجزَون بأعمالهم فلمَّا شاهدوا البعثَ أيقنُوا بما بعدَه أيضاً . وقولُه تعالى : { هذا يَوْمُ الفصل الذى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ } كلامُ الملائكةِ جواباً لهم بطريقِ التَّوبيخِ والتَّقريعِ . وقيل هُو أيضاً من كلامِ بعضِهم لبعضٍ ، والفصلُ القضاءُ أو الفرقُ بين فِرقِ الهُدى والضَّلالِ . وقولُه تعالى : { احشروا الذين ظَلَمُواْ } خطابٌ من اللَّهِ عزَّ وجلَّ للملائكةِ أو من بعضِهم لبعضٍ بحشر الظَّلمةِ من مقامهم إلى الموقفِ . وقيل من الموقفِ إلى الجحيمِ { وأزواجهم } أي أشباهَهم ونظراءَهم من العُصاةِ ، عابدُ الصَّنمِ مع عبدته وعابدُ الكوكبِ مع عَبَدتهِ ، كقوله تعالى : { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثلاثة } وقيل قرناءَهم من الشَّياطينِ وقيل نساءَهم اللاَّتي على دينهم { وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ } .(5/435)
مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28)
{ مِن دُونِ الله } من الأصنامِ ونحوِها زيادةً في تحسيرهم وتخجيلهم . قيل هو عامٌ مخصوصٌ بقوله تعالى : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى } الآيةَ الكريمةَ وأنت خبيرٌ بأنَّ الموصولَ عبارةٌ عن المشركين خاصَّةً جيء به لتعليل الحكمِ بما في حيِّزِ صلتهِ فلا عمومَ ولا تخصيصَ . { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } أي عرِّفُوهم طريقها ووجِّهوهم إليها وفيه تهكُّمٌ بِهم { وَقِفُوهُمْ } احبِسُوهم في الموقف كأنَّ الملائكة سارعُوا إلى ما أُمروا به من حشرِهم إلى الجحيم فأُمروا بذلك وعُلِّل بقوله تعالى : { إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } إيذاناً من أوَّلِ الأمرِ بأنْ ذلك ليس للعفو عنهم ولا ليستريحُوا بتأخيرِ العذابِ في الجملة بل ليُسألوا لكن لا عن عقائدهم وأعمالهم كما قيل فإنَّ ذلك قد وقع قبل الأمرِ بهم إلى الجحيمِ بل عمَّا ينطقُ به قوله تعالى : { مَا لَكُمْ لاَ تناصرون } بطريق التَّوبيخِ والتَّقريعِ والتَّهكُّمِ ، أي لا ينصرُ بعضُكم بعضاً كما كنتُم تزعمون في الدُّنيا . وتأخيرُ هذا السُّؤالِ إلى ذلك الوقتِ لأنَّه وقتُ تنجُّزِ العذابِ وشدَّةِ الحاجةِ إلى النُّصرةِ وحالة انقطاعِ الرَّجاءِ عنها بالكُلِّية ، فالتَّوبيخُ والتَّقريعُ حينئذٍ أشدُّ وقعاً وتأثيراً . قُرىء لا تَتَناصرون ، ولا تنَّاصرُون بالإدغامِ { بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ } مُنقادون خاضعُون لظهورِ عجزهم وانسدادِ بابِ الحِيلِ عليهم أو أسلم بعضُهم بعضاً وخذله عن عجزٍ فكلُّهم غيرُ منتصرٍ .
{ وَأَقْبَلَ } حينئذٍ { بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } هم الأتباعُ والرؤساء أو الكفرةُ والقُرناء { يَتَسَاءلُونَ } يسألُ بعضُهم بعضاً سؤالَ توبيخٍ بطريقِ الخصومةِ والجدالِ { قَالُواْ } استئنافٌ وقع جواباً عن سؤالٍ نشأ من حكايةِ تساؤلهم كأنَّه قيل كيفَ تساءلون فقيلَ قالوا أي الأتباعُ للرُّؤساء أو الكلُّ للقرناءِ { إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا } في الدُّنيا { عَنِ اليمين } عن أقوى الوجوهِ وأمتنِها أو عن الدِّينِ أو عن الخيرِ كأنَّكم تنفعوننا نفعَ السَّانحِ فتبعناكم فهلكنا ، مستعارٌ من يمينِ الإنسانِ الذي هو أشرفُ الجانبينِ وأقواهما وأنفعُهما ولذلك سُمِّي يميناً ويُتيمَّن بالسَّانحِ أو عن القوَّة والقَسْر فتقسروننا على الغَيِّ وهو الأوفقُ للجوابِ أو عن الحلفِ حيثُ كانُوا يحلفون أنَّهم على الحقِّ .(5/436)
قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38)
{ قَالُواْ } استئنافٌ كما سبق أي قالَ الرُّؤساء أو القُرناء { بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } أي لم نمنعكُم من الإيمانِ بل لم تُؤمنوا باختيارِكم وأعرضتُم عنه مع تمكُّنِكم منه وآثرتُم الكفرَ عليه { وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مّن سلطان } من قهرٍ وتسلُّطٍ نسلبكم به اختيارَكم { بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طاغين } مُختارين للطُّغيانِ مُصرِّين عليه { فَحَقَّ عَلَيْنَا } أي لزمنا وثبتَ علينا { قَوْلُ رَبّنَا } وهو قولُه تعالى : { لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } { إِنَّا لَذَائِقُونَ } أي العذابَ الذي وردَ به الوعيدُ { فأغويناكم } فدَعوناكم إلى الغيِّ دعوةً غيرَ مُلجئةٍ فاستجبتُم لنا باختيارِكم واستحبابِكم الغيَّ على الرُّشدِ { إِنَّا كُنَّا غاوين } فلا عتبَ علينا في تعرُّضِنا لإغوائِكم بتلك المرتبةِ من الدَّعوةِ لتكونُوا أمثالنا في الغوايةِ . { فَإِنَّهُمْ } أي الأتباعُ والمتبُوعينَ { يَوْمَئِذٍ فِى العذاب مُشْتَرِكُونَ } حسبما كانُوا مشتركينَ في الغواية { إِنَّا كَذَلِكَ } أي مثلَ ذلك الفعلِ البديعِ الذي تقتضيهِ الحكمةُ التَّشريعيَّةُ { نَفْعَلُ بالمجرمين } المتناهينَ في الإجرامِ وهم المُشركون كما يُعرب عنه التَّعليلُ بقولهِ تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ } بطريقِ الدَّعوةِ والتَّلقينِ { لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ } عن القبولِ { وَيَقُولُونَ أَءنَّا لَتَارِكُو ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ بَلْ جَاء بالحق وَصَدَّقَ المرسلين } ردٌّ عليهم وتكذيبٌ لهم ببيانِ أنَّ ما جاء به من التَّوحيدِ هو الحقُّ الذي قام به البُرهان وأجمعَ عليه كافَّةُ الرُّسلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ فأينَ الشِّعرُ والجنونُ من ساحتهِ الرَّفيعةِ { إِنَّكُمْ } بما فعلتُم من الإشراكِ وتكذيبِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والاستكبارِ { لَذَائِقُو العذاب الاليم } والالتفاتُ لإظهارِ كمالِ الغضبِ عليهم . وقُرىء بنصبِ العذابِ على تقديرِ النُّون كقولهِ
ولا ذاكرُ اللَّهَ إلا قليلاً . ... وقُرىء لذائقونَ العذابَ على الأصلِ .(5/437)
وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43)
{ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي الإجزاءَ ما كنتُم تعملونَه من السَّيئاتِ أو إلاَّ بما كنتُم تعملونَه منها .
{ إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين } استثناءٌ منقطعٌ من ضمير ذائقو وما بينهما اعتراضٌ جيء به مسارعة إلى تحقيق الحقِّ ببيان أنَّ ذوقهم العذاب ليس إلاَّ من جهتهم لا من جهة غيرهم أصلاً وجعله استثناء من ضمير تُجزون على معنى أنَّ الكفرة لا يُجزون إلا بقدر أعمالهم دون عباد الله المُخلصين فإنَّهم يجزون أضعافاً مضاعفة ممَّا لا وجه له أصلاً لا سيَّما جعله استثناء متَّصلاً بتعميم الخطاب في تُجزون لجميع المكلَّفين فإنَّه ليس في حيِّزِ الاحتمال فالمعنى إنَّكم لذائقون العذاب الأليم لكنْ عباد الله المُخلصين الموحِّدين ليسُوا كذلك وقوله تعالى : { أولئك } إشارةٌ إليهم للإيذان بأنَّهم ممتازون بما اتَّصفوا به من الإخلاص في عبادة الله تعالى عمَّن عداهم امتيازاً بالغاً منتظمون بسببه في سلك الأمور المشاهدة ، وما فيه من معنى البُعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإشعار بعلوِّ طبقتهم وبُعد منزلتهم في الفضل ، وهو مبتدأٌ وقوله تعالى : { لَهُمْ } إمَّا خبرٌ له وقوله تعالى : { رّزْقِ } مرتفعٌ على الفاعلية بما فيه من الاستقرارِ ، أو مبتدأٌ ولهم خبرٌ مقدَّمٌ والجملة خبرٌ لأولئك ، والجملةُ الكُبرى استئناف مبيِّنٌ لما أفاده الاستثناء إجمالاً بياناً تفصيليًّا ، وقيل هي خبر للاستثناء المنقطع على أنَّه متأوَّلٌ بالمبتدأ وقوله تعالى : { مَّعْلُومٌ } أي معلومُ الخصائصِ من حُسن المنظر ولذَّةِ الطَّعمِ وطيب الرَّائحةِ ونحوها من نعوت الكمال وقيل معلوم الوقتِ كقوله تعالى : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } وقوله تعالى : { فواكه } إمَّا بدل من رزقٌ أو خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ ، أي ذلك الرزقُ فواكهُ ، وتخصيصُها بالذِّكر لأنَّ أرزاق أهل الجنَّة كلَّها فواكه أي ما يُؤكل لمجرَّدِ التَّلذُّذِ دون الاقتياتِ لأنَّهم مستغنون عن القوت لكون خِلقتِهم مُحكمةً محفوظة من التَّحلُّلِ المُحوجِ إلى البدل وقيل لأنَّ الفواكه من أتباع سائرِ الأطعمةِ فذكرُها مُغنٍ عن ذكرِها { وَهُم مُّكْرَمُونَ } عند الله عزَّ وجلَّ لا يلحقُهم هوانٌ وذلك أعظم المثوباتِ وأليقها بأُولي الهممِ وقيل مكرمون في نيله حيثُ يصلُ إليهم بغير تعبٍ وسؤالٍ كما هو شأنُ أرزاقِ الدُّنيا . وقُرىء مكرَّمون بالتَّشديدِ { فِي جنات النعيم } أي في جناتٍ ليس فيها إلاَّ النَّعيمُ وهو ظرف أو حال من المستكنِّ في مكرمون ، أو خبر ثانٍ لأولئك .(5/438)
عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)
وقوله تعالى : { على سُرُرٍ } محتمل للحاليَّةِ والخبريَّةِ . فقولُه تعالى : { متقابلين } حالٌ من المستكنِّ فيه أو في مُكرمون . وقوله تعالى : { يُطَافُ عَلَيْهِمْ } إمَّا استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأ من حكاية تكامُلِ مجالسِ أُنسهم أو حال من الضَّميرِ في متقابلين أو في أحد الجارَّينِ وقد جُوِّزَ كونه صفةً لمكرمون { بِكَأْسٍ } بإناء فيه خمر أو بخمرٍ ، فإنَّ الكأس تُطلق عن نفس الخمرِ كما في قول مَن قال
وَكَأْسٍ شَرِبْتُ على لذَّة ... وأخرى تَدَاويتُ منها بها
{ مّن مَّعِينٍ } متعلِّقٌ بمضمرٍ هو صفة لكأس أي كائنةٌ من شرابٍ مَعينٍ أو من نهرٍ مَعينٍ وهو الجاري على وجه الأرضِ الظَّاهرُ للعُيونِ أو الخارجُ من العُيونِ من عان الماءُ إذا نبعَ ، وصف به الخمرُ وهو للماءِ لأنَّها تجري في الجنَّةِ في أنهارٍ كما يجري الماءُ قال تعالى وأنهارٍ من خمرٍ { بَيْضَاء لَذَّةٍ للشاربين } صفتانِ أيضاً لكأسٍ ، ووصفها بلذَّةٍ إمَّا للمُبالغةِ كأنَّها نفسُ اللَّذةِ أو لأنَّها تأنيثُ اللَّذِّ بمعنى اللَّذيذِ ووزنه فعل قال
ولذَ كطعمِ الصَّرخديِّ تركتُه ... بأرضِ العِدا مِنْ خيفةِ الحدَثانِ
يريد النَّومَ { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } أي غائلةٌ كما في خمور الدُّنيا من غالَه إذا أفسدَه وأهلكه ومنه الغُول . { وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } يسكَرُون من نزف الشَّاربُ فهو نَزِيفٌ ومنزوفٌ إذا ذهب عقلُه ويقال للمطعونِ نُرِفَ فماتَ إذا جُرح دمُه كلُّه . أفرد هذا بالنَّفي مع اندراجه فيما قبله من نفي الغَول عنها لما أنَّه من معظم مفاسد الخمرِ كأنَّه جنس برأسهِ والمعنى لا فيها نوعٌ من أنواع الفسادِ من مغصٍ أو صُداعٍ أو خُمارٍ أو عَربدةٍ أو لغوٍ أو تأثيمٍ ولا هم يسكرون . وقُرىء يُنزفون بكسر الزَّاي ، من أنزفَ الشَّاربُ إذا نفد عقلُه أو شرابه . وقُرىء ينزفون بضمِّ الزَّاي من نَزَف يَنزُف بضمِّ الزَّاي فيهما { وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف } قصرن أبصارَهنَّ على أزواجهنَّ لا يمددن طَرفاً إلى غيرهم { عِينٌ } نجُلُ العُيونِ جمع عَيْناءَ والنَّجَلُ سعةُ العينِ { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } شُبِّهن ببيض النَّعامِ المصونِ من الغبارِ ونحوه في الصَّفاءِ والبياض المخلوطِ بأدنى صُفرةٍ فإن ذلك أحسنُ ألوانِ الأبدانِ { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } معطوف على يُطاف أي يشربون فيتحادثُون على الشَّراب كما هو عادة الشرب قال
وَمَا بَقِيَتْ مِن اللَّذاتِ إلا ... أحاديثُ الكرامِ على المُدامِ
فيقبل بعضُهم على بعضٍ يتساءلون عن الفضائلِ والمعارفِ وعمَّا جرى لهم وعليهم في الدُّنيا . فالتَّعبيرُ عنه بصيغة الماضي للتَّأكيدِ والدِّلالةِ على تحقُّقِ الوقوع حتماً .(5/439)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)
{ قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ } في تضاعيف محاوراتهم { إِنّى كَانَ لِى } في الدُّنيا { قَرِينٌ } مصاحب { يِقُولُ } لي على طريقة التَّوبيخِ بما كنت عليه من الإيمان والتَّصديقِ بالبعث { أَءنَّكَ لَمِنَ المصدقين } أي بالبعث . وقُرىء بتشديدِ الصَّادِ من التَّصدُّقِ ، والأوَّلُ هو الأوفقُ لقولهِ تعالى : { أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَدِينُونَ } أي لمبعوثون ومجزيُّون من الدِّينِ بمعنى الجزاء أو لمسوسُون يقال دانَه أي ساسَه ، ومنه الحديثُ : « العاقلُ من دانَ نفسَه » وقيل كان رجلٌ تصدَّقَ بماله لوجه الله تعالى فاحتاج فاستجدَى بعضَ إخوانهِ فقال : أين مالكُ ، قال : تصدَّقتُ به ليعوضني الله تعالى في الآخرةِ خيراً منه فقال : أئنَّك لمن المُصدِّقين بيوم الدِّينِ ، أو المتصدِّقين لطلب الثَّوابِ والله لا أُعطيك شيئاً فيكون التَّعرُّضُ لذكر موتهم وكونِهم تُراباً وعظاماً حينئذٍ لتأكيدِ إنكار الجزاءِ المبني على إنكارِ البعث { قَالَ } أي ذلك القائلُ بعدما حكى لجلسائه مقالَ قرينهِ في الدُّنيا { هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ } أي إلى أهل النَّارِ لأريكم ذلك القرينَ يريد بذلك بيانَ صدقهِ فيما حكاه وقيل القائلُ هو اللَّهُ تعالى أو بعضُ الملائكة يقول لهم هل تُحبُّون أنْ تطَّلعوا على أهل النَّارِ لأريكم ذلك القرينَ فتعلموا أين منزلتُكم من منزلتهم قيل إنَّ في الجنَّة كُوى ينظر منها أهلُها إلى أهل النَّارِ { فَأَطَّلِعَ } أي عليهم { فَرَءاهُ } أي قرينَه { فِى سَوَاء الجحيم } أي في وسطها . وقُرىء فأطَّلِعَ على لفظ المضارع المنصوبِ . وقرىء مُطَّلعون فأطَّلع وفأطْلُعَ بالتَّخفيف على لفظ الماضي والمضارعِ المنصوبِ يقال طلعَ علينا فلانٌ وأطَّلع وبمعنى واحد والمعنى هل أنتُم مطَّلعون إلى القرين فأطَّلع أنا أيضاً أو عوضَ عليهم الاطِّلاعَ فقبلوا ما عرضَه فاطَّلع هو بعد ذلك وإن جُعل الاطِّلاعُ متعدِّياً فالمعنى أنَّه لما شرط في إطِّلاعه إطِّلاعهم كما هو ديدن الجُلساءِ فكأنَّهم مُطْلِعُوه ، وقيل الخطاب على هذا للملائكةِ . وقُرىء مُطَّلعونِ بكسر النُّونِ أراده مطلعونَ إيَّاي فوضع المتَّصلَ موضع المنفصلِ ، كقوله :
هم الفاعلونَ الخيرَ والآمرونه ... أو شُبِّه اسمُ الفاعل بالمضارع لما بينهما من التَّآخِي .
{ قَالَ } أي القائلُ مخاطباً لقرينهِ { تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ } أي لتُهلكني بالإغواءِ . وقُرىء لتُغوينِ والتَّاءُ فيه معنى التَّعجُّبِ وإنْ هي المخففةُ من أنَّ وضميرُ الشَّأنِ الذي هو اسمُها محذوفٌ واللاَّمُ فارقةٌ أي تاللَّهِ إنَّ الشَّأنَ كدت لتردينِ .(5/440)
وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)
{ وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّى } بالهدايةِ والعصمة { لَكُنتُ مِنَ المحضرين } أي من الذين أُحضروا العذابَ كما أُحضِرْته أنتَ وأضرابُك وقوله تعالى : { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ } رجوع إلى محاورةِ جلسائه بعد إتمامِ الكلام مع قرينه تبجُّحاً وابتهاجاً بما أتاحَ الله عزَّ وجلَّ لهم من الفضلِ العظيمِ والنَّعيمِ المقيمِ . والهمزة للتَّقريرِ وفيها معنى التَّعجُّبِ والفاء للعطف على مقدَّرٍ يقتضيه نظمُ الكلام أي أنحنُ مخلَّدون منعَّمون فما نحنُ بميِّتين أي بمن شأنه الموت . وقُرىء بمائتينَ { إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاولى } التي كانت في الدُّنيا وهي متناولةٌ لما في القبر بعد الإحياء للسُّؤالِ قاله تصديقاً لقوله تعالى : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الاولى } وقيل إنَّ أهلَ الجنَّةِ أوَّلَ ما دخلُوا الجنَّة لا يعلمون أنَّهم لا يموتون فإذا جِيء بالموت على صُورة كبشٍ أملحَ فذُبح ونُودي يا أهلَ الجنَّةِ خلود فلا موتَ ويا أهلَ النَّارِ خلود فلا موتَ يعلمونه فيقولون ذلك تحدُّثاً بنعمة الله تعالى واغتباطاً بها { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } كالكُفَّار فإنَّ النَّجاةَ من العذاب أيضاً نعمة جليلة مستوجبة للتَّحدثِ بها { إِنَّ هَذَا } أي الأمرُ العظيم الذي نحن فيه { لَهُوَ الفوز العظيم } وقيل هو من قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ تقريراً لقولهم وتصديقاً له . وقرىء : لهو الرِّزقُ العظيم وهو ما رُزقوه من السَّعادةِ العظمى . { لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون } أي لنيل هذا المرامِ الجليلِ يجب أنْ يعمل العاملون لا للحظوظِ الدُّنيويَّةِ السَّريعةِ الانصرام المشُوبةِ بفنون الآلام وهذا أيضاً يحتملُ أن يكونَ من كلام ربِّ العزَّةِ { أذلك خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم } أصل النُّزلِ الفضل والرِّيعُ فاستُعير للحاصل من الشَّيءِ فانتصابُه على التَّمييزِ أي أذلك الرِّزقُ المعلومُ الذي حاصلُه اللَّذةُ والسُّرورُ خيرٌ نزلاً أم شجرةُ الزَّقُومِ التي حاصلها الألم والغمُّ . ويقال النُّزل لما يقامُ ويهيَّأُ من الطَّعامِ الحاضر للنَّازلِ فانتصابُه على الحاليَّةِ . والمعنى أنَّ الرِّزقَ المعلوم نزلُ أهل الجنَّةِ ، وأهلُ النَّارِ نُزلهم شجرةُ الزَّقُّوم فأيُّهما خيرٌ في كونه نزلاً . والزَّقُّومُ اسم شجرةٍ صغيرةِ الورقِ دَفرةٍ مُرَّةٍ كريهةِ الرَّائحةِ تكون في تِهامة سمِّيتْ به الشَّجرةُ الموصوفةُ .(5/441)
إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69)
{ إِنَّا جعلناها فِتْنَةً للظالمين } محنةً وعذاباً لهم في الآخرة وابتلاء في الدُّنيا فإنَّهم لمَّا سمعوا أنَّها في النَّار قالوا كيف يمكن ذلك والنَّارُ تحرق الشَّجَر ولم يعلموا أن من قَدَرَ على خلق حيوانٍ يعيش في النَّارِ ويتلذَّذُ بها أقدرُ على خلق الشَّجرِ في النَّار وحفظهِ من الاحتراق .
{ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الجحيم } منبتُها في قعر جهنَّم وأغصانها ترتفعُ إلى دركاتِها . وقُرىء نابتةٌ في أصل الجحيم { طَلْعُهَا } أي حملُها الذي يخرج منها مستعارٌ في طلع النَّخلةِ لمشاركته له من الشَّكلِ والطُّلوعِ عن الشَّجرِ . قالوا : أوَّلُ التَّمرِ طَلعٌ ثم خِلالٌ ثم بَلَحٌ ثم رُطَبٌ ثم تمرٌ { كَأَنَّهُ رُءوسُ الشياطين } في تناهي القُبح والهَول . وهو تشبيه بالمخبَّل كتشبيه الفائق في الحُسنِ بالمَلَك . وقيل الشَّياطينُ الحيَّاتُ الهائلةُ القبيحةُ المنظر ، لها أعرافٌ وقيل إنَّ شجراً يقال له الأستنُ خشناً مُنتناً مُرًّا منكر الصُّورةِ يسمَّى ثمرُه رؤوسَ الشَّياطينِ { فَإِنَّهُمْ لاَكِلُونَ مِنْهَا } أي من الشَّجرةِ أو من طلعِها فالتَّأنيثُ مكتسب من المضافِ إليه { فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون } لغلبة الجوعِ أو للقسرِ على أكلِها وإنْ كرهوها ليكونَ ذلك باباً من العذابِ .
{ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا } على الشَّجرةِ التي ملأوا منها بطونَهم بعدما شبِعُوا منها وغلبهم العطشُ وطال استسقاؤهم كما يُنبىء عنه كلمة ثُمَّ ويجوز أنْ تكونَ لما في شرابهم من مزيدِ الكراهة والبشاعةِ { لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ } لشراباً من غسَّاقٍ أو صديدٍ مشُوباً بماءٍ حميمٍ يُقطِّع أمعاءهم . وقُرىء بالضَّمِّ وهو اسم لما يُشاب به ، والأوَّلُ مصدر سُمِّي به { ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ } أي مصيرَهم . وقد قُرىء كذلك . { لإِلَى الجحيم } لإلى دَرَكاتِها أو إلى نفسها فإنَّ الزَّقُّومَ والحميمَ نزلٌ يقدَّمُ إليهم قبل دخولها وقيل الحميمُ خارجٌ عنها لقوله تعالى : { هذه جَهَنَّمُ التى يُكَذّبُ بِهَا المجرمون يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ } يذهب بهم عن مقارِّهم ومنازلهم في الجحيمِ إلى شجرة الزَّقُّومِ فيأكلون منها إلى أنْ يمتلئُوا ثم يُسقون من الحميم ثم يُردُّون إلى الجحيم . ويُؤيِّده أنَّه قُرىء ثمَّ إنَّ منقلبَهم .
{ إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءابَاءهُمْ ضَالّينَ } تعليل لاستحقاقِهم ما ذُكر من فنون العذاب بتقليد الآباء في الدِّينِ من غير أنْ يكونَ لهم ولا لآبائِهم شيءٌ يتمسَّكُ به أصلاً ، أي وجدوهم ضالِّين في نفس الأمر ليس لهم ما يصلُح شبهةً فضلاً عن صلاحيةِ الدَّليلِ .(5/442)
فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
{ فَهُمْ على ءاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } من غير أنْ يتدبروا أنَّهم على الحقِّ أولاً مع ظهور كونهم على الباطل بأدنى تأمُّلٍ . والإهراعُ : الإسراع الشَّديدُ ، كأنَّهم يُزعجون ويحثُّون حثًّا على الإسراع على آثارِهم وقيل هو إسراعٌ فيه شبه رعدةٍ .
{ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ } أي قبل قومِك قريش { أَكْثَرُ الاولين } من الأمم السَّالفةِ وهو جواب قسم محذوف . وكذا قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ } أي أنبياءَ أولي عددٍ كثيرٍ وذوي شأنٍ خطيرٍ بيَّنوا لهم بُطلانَ ما هم عليه وأنذرُوهم عاقبته الوَخِيمَةِ وتكريرُ القَسَمِ لإبراز كمالِ الاعتناء بتحقيقِ مضمونِ كلَ من الجملتين { فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين } من الهول والفظاعةِ لمَّا لم يلتفتُوا إلى الإنذار ولم يرفعُوا له رأساً . والخطابُ إمَّا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو لكلِّ أحدٍ ممَّن يتمكَّنُ من مشاهدة آثارِهم وحيث كان المعنى أنَّهم أُهلكوا إهلاكاً فظيعاً استُثني منهم المُخلصون بقوله تعالى : { إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين } أي الذين أخلصَهم الله تعالى بتوفيقهم للإيمان والعملِ بموجب الإنذارِ . وقُرىء المخلِصين بكسر اللاَّم ، أي الذين أخلصُوا دينَهم لله تعالى .
{ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ } نوعُ تفصيلٍ لما أُجمل فيما قبل ببيان أحوال بعض المرسلين وحسنِ عاقبتهِم متضمِّنٍ لبيان سوء عاقبة بعض المُنذرين حسبما أُشير إليه بقوله تعالى : { فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين } كقوم نوحٍ وآل فرعونَ وقوم لوطٍ وقوم إلياسَ ولبيان حُسن عاقبةِ بعضهم الذين أخلصُهم الله تعالى ووفَّقهم للإيمان كما أشار إليه الاستثناء كقوم يونسَ عليه السَّلامُ ووجه تقديم قصَّةِ نوحٍ على سائر القصص غنيٌّ عن البيان . واللاَّمُ جواب قسم محذوفٍ وكذا ما في قوله تعالى : { فَلَنِعْمَ المجيبون } أي وباللَّهِ لقد دعانا نوحٌ حين يئسَ من إيمان قومه بعدما دعاهُم إليه أحقاباً ودُهُوراً فلم يزدهم دعاؤه إلا فراراً ونُفوراً فأجبناه أحسنَ الإجابةِ فواللَّهِ لنعم المُجيبون نحن فحُذف ما حُذف ثقةً بدلالة ما ذُكر عليه والجمع دليلُ العظمةِ والكبرياءِ .
{ ونجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم } أي من الغَرقِ وقيل من أذيةِ قومه .(5/443)
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)
{ وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين } فحسب حيثُ أهلكنا الكفرة بموجب دعائه { رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الارض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } وقد رُوي أنَّه ماتَ كلُّ من كانَ معه في السَّفينةِ غير أبنائه وأزواجهم أو هم الذين بقوا مُتناسلين إلى يوم القيامة . قال قتادة : النَّاسُ كلُّهم من ذُرِّيةِ نوحٍ عليه السَّلامُ وكان له ثلاثةُ أولادٍ سامٌ وحامٌ ويافثٌ ، فسامٌ أبُو العربِ وفارسَ والرُّومِ ، وحامٌ أبُو السودانِ من المشرق إلى المغربِ ويافثٌ أبو التُّركِ ويأجوجَ ومأجوجَ { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاخرين } من الأمم { سلام على نُوحٍ } أي هذا الكلامُ بعينه وهو واردٌ على الحكاية كقولك قرأتُ سورة أنزلناها والمعنى يُسلِّمون عليه تسليماً ويدعُون له على الدَّوام أمَّةً بعد أمَّةٍ . وقيل ثمة قولٌ مقدَّرٌ أي فقلنا وقيل ضُمِّن تركنا معنى قلنا . وقوله تعالى : { فِى العالمين } متعلِّقٌ بالجارِّ والمجرورِ . ومعناهُ الدُّعاء بثباتِ هذه التَّحيةِ واستمرارِها أبداً في العالمين من الملائكة والثَّقلينِ جميعاً . وقوله تعالى : { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } تعليلٌ لما فُعل به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من التَّكرمةِ السَّنيةِ من إجابةِ دُعائهِ أحسنَ إجابةٍ وإبقاء ذُرِّيتهِ وتَبقيةِ ذكره الجميلِ وتسليم العالمين عليه إلى آخرِ الدَّهرِ بكونه من زُمرة المعروفين بالإحسان الرَّاسخينَ فيه وأنَّ ذلك من قبيل مُجازاة الإحسانِ بالإحسانِ وذلك إشارة إلى ما ذُكر من الكرامات السَّنيةِ التي وقعتْ جزاءً له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وما فيه من معنى البُعد مع قُربِ العهد بالمشارِ إليه للإيذانِ بعلوِّ رُتبته وبُعد منزلتهِ في الفضل والشَّرفِ . والكافُ متعلِّقةٌ بما بعدها أي مثلَ ذلك الجزاءِ الكامل نجزِي الكاملينَ في الإحسانِ لا جزاءً أدنى منه . وقوله تعالى : { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين } تعليل لكونهِ من المحسنين بخلوصِ عبوديته وكمال إيمانه وفيه من الدِّلالةِ على جلالة قدرهما ما لا يخفى . { ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاخرين } أي المغايرين لنوحٍ وأهله وهُم كُفَّارُ قومه أجمعين . { وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ } أي ممَّن شايعه في أصول الدِّينِ { لإبراهيم } وإنِ اختلفتْ فروعُ شرائعهما . ويجوزُ أن يكون بين شريعتيهما اتِّفاقٌ كليٌّ أو أكثر . وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : من أهل دينهِ وعلى سنَّتهِ أو ممَّن شايعه على التَّصلُّبِ في دينِ الله ومصابرةِ المكذِّبين وما كان بينهما إلا نبيَّانِ هما هودٌ وصالحٌ عليهم الصلاة والسلام وكان بين نوح وإبراهيمَ ألفانِ وستمائةٍ وأربعون سنةً .(5/444)
إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)
{ إِذْ جَاء رَبَّهُ } منصوب باذكُر أو متعلِّقٌ بما في الشِّيعةِ من معنى المُشايعةِ { بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } أي من آفات القلوب أو من العلائقِ الشَّاغلةِ عن التَّبتلِ إلى الله عزَّ وجلَّ . ومعنى المجيء به ربَّه إخلاصُه له كأنَّه جاء به متحفاً إيَّاهُ بطريق التَّمثيلِ { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ } بدلٌ من الأولى أو ظرفٌ لجاء أو لسليمٍ أي أيَّ شيء تعبدونه { أَئِفْكاً ءالِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ } أي أتريدون آلهةً من دون الله إفكاً أي للإفكِ فقدَّم المفعولَ على الفعل للعنايةِ ثمَّ المفعولَ له على المفعولِ به لأنَّ الأهمَّ مكافحتُهم بأنَّهم على إفكٍ وباطل في شركهم . ويجوزُ أن يكونَ إفكاً مفعولاً به بمعنى أتريدون إفكاً ثم يفسَّر الإفكُ بقوله آلهةً من دون الله دلالةً على أنَّها إفكٌ في نفسها للمبالغةِ أو يراد بها عبادتُها بحذفِ المضافِ ، ويجوزُ أنْ يكون حالاً بمعنى آفكينَ { فَمَا ظَنُّكُم بِرَبّ العالمين } أي بمن هو حقيقٌ بالعبادة لكونه ربًّا للعالمين حتَّى تركتُم عبادته خاصَّةً وأشركتُم به أخسَّ مخلوقاته أو فما ظنُّكم به أي شيء هو من الأشياء حتى جعلتُم الأصنام له أنداداً أو فما ظنُّكم به ماذا يفعل بكم وكيفَ يعاقبكم بعدما فعلتُم من الإشراكِ به { فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النجوم } قيل كانت له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حُمَّى لها نوبةٌ معيَّنةٌ في بعض ساعات اللَّيلِ فنظر ليعرفَ هل هي تلك السَّاعةُ فإذا هي قد حضرتْ { فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ } وكان صادقاً في ذلك فجعلَه عُذراً في تخلُّفهِ عن عيدهم وقيل أرادَ إنِّي سقيمُ القلبِ لكفرِكم وقيل نظر في علمِها أو في كتبها أو في أحكامها ولا منعَ من ذلك حيثُ كان قصدُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إيهامَهم حين أرادُوا أنْ يخرجُوا به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى معبدِهم ليتركُوه فإنَّ القومَ كانوا نجَّامين فأوهمهم أنَّه قد استدلَّ بأمارةٍ في علم النُّجوم على أنَّه سقيمٌ أي مشارف للسقمِ وهو الطَّاعُونُ وكان أغلبَ الأسقامِ عليهم وكانوا يخافون العدوى ليتفرَّقوا عنه فهربُوا منه إلى معيدِهم وتركوه في بيت الأصنامِ وذلك قوله تعالى : { فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ } أي هاربين مخافةَ العَدْوى .(5/445)
فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)
{ فَرَاغَ إلى ءالِهَتِهِمْ } أي ذهب إليها في خُفْيةٍ وأصله الميلُ بحيلةٍ { فَقَالَ } للأصنام استهزاءً { أَلا تَأْكُلُونَ } أي من الطَّعامِ الذي كانوا يصنعونَه عندها لتبرِّكَ عليه { مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ } أي بجوابي { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ } فمالَ مستعلياً عليهم وقوله تعالى : { ضَرْباً باليمين } مصدر مؤكِّدٌ لراغَ عليهم فإنَّه بمعنى ضربَهم ، أو لفعلٍ مضمرٍ هو حال من فاعله ، أي فراغ عليهم يضربُهم ضرباً ، أو هو الحالُ منه على أنَّه مصدرٌ بمعنى الفاعلِ أي فراغَ عليهم ضارباً باليمين أي ضرباً شديداً قويًّا وذلك لأنَّ اليمينَ أقوى الجارحتينِ وأشدُّهما ، وقوَّةُ الآلةِ تقتضي قُوَّة الفعلِ وشدَّته ، وقيل بالقُوَّةِ والمتانةِ كما في قوله
إذَا مَا رايةٌ رُفعتْ لمجد ... تَلقَّاها عُرابةُ باليمينِ
أي بالقُوَّة وعلى ذلك مدارُ تسميةِ الحلفِ باليمينِ لأنَّه يُقوِّي الكلامَ ويؤكِّدُه وقيل بسبب الحلفِ وهو قولُه تعالى : { وتالله لأَكِيدَنَّ أصنامكم . } { فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ } أي المأمورون بإحضاره عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعدما رجعوا من عيدهم إلى بيت الأصنام فوجدُوها مكسورةً فسألوا عن الفاعلِ فظنُّوا أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فعلَه فقيل فأتُوا به { يَزِفُّونَ } حالٌ من واوِ أقبلُوا أي يُسرعون من زَفيفِ النَّعامِ . وقُرىء يَزِفُون من أزفَ إذا دخلَ في الزَّفيف . أو من أزفّه أي حملَه على الزَّفيفِ أي يزف بعضُهم بعضاً ويُزَفُّون على البناء للمفعولِ أي يُحملون على الزَّفيف ويَزِفون من وزَف يزِف إذا أسرع ويُزَفُّون من زفّاه إذا حداه كأنَّ بعضَهم يزفُو بعضاً لتسارُعهم إليه عليه الصلاة والسلام { قَالَ } أي بعدما أتَوا به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وجرى بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم من المحاوراتِ ما نطقَ به قوله تعالى : { قَالُواْ ءأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِئَالِهَتِنَا يإبراهيم } إلى قوله تعالى : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ } { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } ما تنحتونَه من الأصنام وقوله تعالى : { والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } حالٌ من فاعل تعبدون مؤكِّدةٌ للإنكار والتَّوبيخِ أي والحالُ أنَّه تعالى خلقكم وخلقَ ما تعملونَهُ فإنَّ جواهرَ أصنامِهم ومادتها بخلقه تعالى وشكلها وإن كان بفعلهم لكنَّه بإقداره تعالى إيَّاهم عليه وخلقه ما يتوقَّفُ عليه فعلُهم من الدَّواعي والعدد والأسباب ، وما تعملون إمَّا عبارةٌ عن الأصنامِ فوضعه موضعَ ضميرِ ما تنحِتون للإيذان بأنَّ مخلوقيَّتها لله عزَّ وجلَّ ليس من حيثُ نحتُهم لها فقط بل من حَيثُ سائرُ أعمالهم أيضاً من التَّصويرِ والتَّحليةِ والتَّزيينِ ونحوها ، وإمَّا على عمومهِ فينتظمُ الأصنامَ انتظاماً أوليًّا مع ما فيه من تحقيقِ الحقِّ ببيانِ أنَّ جميع ما يعملونَهُ كائناً ما كان مخلوقٌ له سبحانه . وقيل ما مصدريةٌ أي عملَكم على أنَّه بمعنى المفعولِ وقيل بمعناه فإنَّ فعلَهم إذا كان بخلقِ اللَّهِ تعالى كان مفعولهم المتوقِّفُ على فعلهم أولى بذلك .(5/446)
قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
{ قَالُواْ ابنوا لَهُ بنيانا فَأَلْقُوهُ فِى الجحيم } أي في النَّارِ الشَّديدةِ الاتِّقادِ من الجحمةِ وهي شدَّةُ التَّأجُّجِ ، واللاَّم عوضٌ من المضاف إليه أي جحيم ذلك البنيانِ وقد ذكر كيفية بنائهم له في سورة الأنبياء { فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً } فإنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلام لمَّا قهرهم بالحجَّةِ وألقمهم الحجرَ قصدُوا ما قصدُوا لئلاَّ يظهرَ للعامَّةِ عجزُهم { فجعلناهم الاسفلين } الأذلِّين بإبطال كيدِهم وجعله برهاناً نيِّراً على علوّ شأنهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يجعل النَّارِ عليه بَرْداً وسَلاماً { وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى } أي مهاجرٌ إلى حيثُ أمرني ربِّي كما قال إنِّي مهاجرٌ إلى ربِّي وهو الشَّامُ أو إلى حيث أتجرَّدُ فيه لعبادته تعالى { سَيَهْدِينِ } أي إلى ما فيه صلاحُ ديني أو إلى مقصدي وبت القول بذلك لسبقِ الوعدِ أو لفرط توكِّله أو للبناء على عادته تعالى معه ولم يكُن كذلك حالُ موسى عليه السَّلامُ حيث قال : { عسى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السبيل } ولذلك أتى بصيغة التَّوقُّعِ .
{ رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين } أي بعضَ الصَّالحينَ يعينني على الدَّعوةِ والطَّاعةِ ويؤنسني في الغُربةِ يعني الولد لأن لفظَ الهبة على الإطلاقِ خاصٌّ به وإن كان قد وردَ مقيَّداً بالأخوةِ في قوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هارون نَبِيّاً } ولقوله تعالى : { فبشرناه بغلام حَلِيمٍ } فإنَّه صريح في أنَّ المبشَّر به عينُ ما استوهبه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ولقد جمع فيه بشاراتٌ ثلاثٌ : بشارةُ أنَّه غلامٌ وأنَّه يبلغُ أوانَ الحُلُم وأنَّه يكونُ حَليماً ، وأيُّ حِلْمٍ يُعادل حلمَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حين عرضَ عليه أبُوه الذَّبحَ فقال : { قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين } وقيل ما نعتَ اللَّهُ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ بأقلَّ ممَّا نعتهم بالحِلْمِ لعزَّةِ وجودهِ غيرَ إبراهيمَ وابنه فإنَّه تعالى نعتهما به وحالهما المحكيَّةُ بعد أعدلُ بينةٍ بذلك .
والفاءُ في قوله تعالى : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى } فصيحةٌ معربة عن مقدَّرٍ قد حُذف تعويلاً على شهادةِ الحال وإيذاناً بعدمِ الحاجة إلى التَّصريحِ به لاستحالةِ التَّخلُّفِ والتَّأخُّرِ بعد البشارة كما مرَّ في قوله تعالى : { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } وفي قوله تعالى : { فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } أي فوهبناه له فنشأ فلمَّا بلغَ رتبةَ أنْ يسعى معه في أشغالهِ وحوائجهِ . ومعه متعلِّق بمحذوفٍ يُنبىء عنه السَّعيُ لا بنفسِه لأنَّ صلة المصدرِ لا تتقدَّمُه ولا يبلغ لأنَّ بلوغَهما لم يكن معاً كأنَّه لما ذُكر السَّعيُ قيل مع مَن فقيل مَعَه وتخصيصُه لأنَّ الأبَ أكملُ في الرِّفقِ والاستصلاحِ فلا يستسيغُه قبل أوانهِ أو لأنَّه استوهبه لذلك وكان له يومئذٍ ثلاثَ عشرة سنةً .
{ قَالَ } أي إبراهيمُ عليه السَّلامُ { قَالَ يابنى إِنّى أرى فِى المنام أَنّى أَذْبَحُكَ } أي أرى هذه الصُّورة بعينها أو ما هذه عبارتُه وتأويلُه وقيل إنه رأى ليلةَ التَّرويةِ كأنَّ قائلاً يقول له : إنَّ الله يأمُرك بذبحِ ابنِك هذا فلمَّا أصبحَ رَوَّى في ذلك من الصَّباحِ إلى الرَّواحِ أمنَ اللَّهِ هذا الحُلُم أم من الشَّيطانِ ، فمن ثمة سُمِّي يوم التَّرويةِ فلمَّا أمسى رأى مثلَ ذلك فعرفَ أنَّه من اللَّهِ تعالى فمن ثمَّة سمِّي يومَ عرفة ثم رأى مثله في اللَّيلةِ الثَّالثةِ فهمَّ بنحرهِ فسمِّي اليوم يومَ النَّحرِ .(5/447)
وقيل إنَّ الملائكةَ حين بشَّرته بغلامٍ حليمٍ قال : إذن هو ذبيح الله فلمَّا وُلد وبلغ حدَّ السَّعيِ معه قيل له : أوفِ بنذرك . والأظهرُ الأشهرُ أنَّ المخاطَب إسماعيلُ عليه السَّلامُ إذ هُو الذي وُهب إثرَ المُهاجرةِ ولأنَّ البشارة بإسحاق بعده معطوفٌ على البشارةِ بهذا الغلام ولقوله عليه الصَّلاة والسَّلامُ : « أنا ابنُ الذَّبيحين » فأحدُهما جدُّه إسماعيلُ عليه السَّلامُ والآخرُ أبُوه عبدُ اللَّهِ فإنَّ عبد المطَّلبِ نذر أنْ يذبحَ ولداً أنْ سهَّل الله تعالى له حفرَ بئرِ زمزمٍ أو بلغ بنُوه عشرةً فلمَّا حصل ذلك وخرجَ السَّهمُ على عبدِ اللَّهِ فداهُ بمائةٍ من الإبلِ ولذلك سُنَّت الدِّيةُ مائةً ولأنَّ ذلك كان بمكَّة . وكان قَرْنا الكبشِ معلَّقين بالكعبةِ حتَّى احترقا في أيَّامِ ابن الزُّبيرِ ولم يكن إسحاقُ ثمَّة ولأنَّ بشارة إسحاق كانت مقرونةً بولادةِ يعقوبَ منه فلا يُناسبه الأمرُ بذبحهِ مُراهِقاً . وما رُوي أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلامُ سُئل أيُّ النَّسب أشرفُ؟ فقال يوسفُ صدِّيقُ اللَّهِ ابنُ يعقوبَ إسرائيلَ اللَّهِ ابنِ إسحاقَ ذبيحِ اللَّهِ ابنِ إبراهيمَ خليلِ اللَّهِ فالصَّحيحُ أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قال يوسفُ بنُ إسحاقَ بن إبراهيم والزَّوائدُ من الرَّاوي ، وما رُوي من أنَّ يعقوبَ كتب إلى يوسفَ مثلَ ذلك لم يثبت : وقُرىء إنِّيَ بفتح الياءِ فيهما .
{ فانظر مَاذَا ترى } من الرَّأيِ وإنَّما شاوره فيه وهو أمرٌ محتومٌ ليعلمَ ما عنده فيما نَزلَ من بلاءِ اللَّهِ تعالى فيُثبِّت قدمَه إنْ جَزِعَ ويأمن عليه إنْ سلَّم وليُوطِّنَ نفسَه عليه فيُهون ويكتسبُ المثوبة عليه بالانقيادِ له قبل نزولهِ . وقُرىء ماذا تُري بضمِّ التَّاءِ وكسرِ الرَّاءِ وبفتحِها مبنياً للمفعولِ { قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ } أي تُؤمر بهِ فحذف الجارُّ أوَّلاً على القاعدةِ المُطَّردةِ ثم حُذف العائدُ إلى الموصولِ بعد انقلابه منصوباً بإيصاله إلى الفعلِ أو حُذفا دفعةً أو افعل أمرك على إضافة المصدر إلى المفعولِ وتسمية المأمورِ به أمراً . وقُرىء ما تؤمر به ، وصيغة المضارعِ للدِّلالةِ على أنَّ الأمرَ متعلِّقٌ به متوجِّهٌ إليه مستمرٌّ إلى حينِ الامتثالِ به { سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين } على الذَّبحِ أو على قضاء الله تعالى .(5/448)
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)
{ فَلَمَّا أَسْلَمَا } أي استسلما لأمرِ الله تعالى وانقادا وخَضَعا له يقال سَلَّم لأمرِ الله وأسلَم واستسلَم بمعنى واحدٍ . وقُرىء بهنَّ جميعاً . وأصلُها من قولك سَلِمَ هذا لفلانٍ إذا خلُص له ومعناه سَلِمَ من أنْ يُنازع فيهِ وقولهم سلَّم لأمرِ الله وأسلمَ له منقولانِ منه ومعناهما أخلصَ نفسَه لله وجعلها سالمةً له وكذلك معنى استسلَم استخلصَ نفسَه له تعالى . وعن قتادة رضي الله عنه في أسلما : أسلَمَ إبراهيمُ ابنَه وإسماعيلُ نفَسه . { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } صرعَه على شقِّه فوقع جبينُه على الأرض وهو أحدُ جانبَيْ الجبهةِ وقيل كبَّه على وجههِ بإشارتهِ كيلا يرى منه ما يُورِث رقَّةً تحولُ بينه وبين أمرِ الله تعالى وكان ذلك عند الصَّخرةِ من مِنَى . وقيل في الموضعِ المُشرف على مسجدِ مِنَى وقيل في المنحرِ الذي يُنحر اليوم فيه .(5/449)
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109)
{ وناديناه أَن ياإبراهيم } { قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا } بالعزم على الإتيانِ بالمأمور به وترتيبِ مقدماتهِ . وقد رُوي أنَّه أمرَّ السِّكِّينَ بقوَّتهِ على حلقهِ مراراً فلم يقطعْ ثم وضع السِّكِّينَ على قفاه فانقلبَ السِّكِّينُ فعند ذلك وقع النِّداءُ . وجوابُ لمَّا محذوفٌ إيذاناً بعدم وفاء التَّعبيرِ بتفاصيله كأنَّه قيل كانَ ما كانَ مما لا يحيطُ به نطاق البيانِ من استبشارهما وشكرِهما لله تعالى على ما أنعمَ به عليهما من دفعِ البلاء بعد حلولهِ والتَّوفيقِ لما لم يُوفَّقْ أحدٌ لمثله ، وإظهارِ فضلهما بذلك على العالمين مع إحراز الثَّوابِ العظيمِ إلى غيرِ ذلك { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } تعليلٌ لتفريجِ تلك الكُربةِ عنهما بإحسانهما واحتجَّ به من جوَّز النَّسخَ قبل وقوع المأمور به فإنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان مأموراً بالذَّبحِ لقوله تعالى : { افعل مَا تُؤمَرُ } ولم يحصلْ { إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين } الذي يتميَّز فيه المخلِصُ عن غيره أو المحنةُ البيِّنةُ الصُّعوبةِ إذ لا شيءَ أصعبُ منها . { وفديناه بِذِبْحٍ } بِما يُذبح بدله فيتمُّ به الفعل { عظِيمٌ } أي عظيمِ الجثَّة سمينٍ أو عظيم القدر لأنَّه يَفدي به اللَّهُ نبيًّا ابنِ نبيَ من نسله سيِّدُ المُرسلينَ . قيل كان ذلك كبشاً من الجنَّةِ . عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : أنَّه الكبشُ الذي قرَّبه هابيلُ فتُقبِّل منه وكان يَرْعى في الجنَّةِ حتَّى فُدي به إسماعيلُ عليه السَّلامُ . وقيل فُدي بوعلٍ أُهبط عليه من ثَبير . ورُوي أنه هربَ من إبراهيمَ عليه السَّلامُ عند الجمرةِ فرماه بسبع حصياتٍ حتَّى أخذه فبقي سنَّةً في الرَّميِ . ورُوي أنَّه رَمَى الشَّيطان حين تعرَّض له بالوسوسةِ عند ذبحِ ولده . ورُوي أنَّه لمَّا ذبحه قال جبريلُ عليه السَّلامُ : اللَّهُ أكبرُ اللَّهُ أكبرُ فقال الذَّبيحُ : لا إله إلاَّ اللَّهُ واللَّهُ أكبرُ فقالَ إبراهيمُ : اللَّهُ أكبرُ ولِلَّهِ الحمدُ فبقي سُنَّةً . والفادي في الحقيقة هو إبراهيمُ وإنَّما قيل وفدينَاهُ لأنَّه تعالى هو المُعطي له والآمرُ به على التَّجوزِ في الفداءِ أو الإسنادِ { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاخرين سلام على إبراهيم } قد سلف بيانُه في خاتمةِ قصَّة نوحٍ عليه السَّلامُ .(5/450)
كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116)
{ كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } ذلك إشارةٌ إلى إبقاءِ ذكره الجميل فيما بين الأممِ لا إلى ما أُشير إليه فيما سبق فلا تكرارَ . وعدم تصديرِ الجملةِ بإنا للاكتفاءِ بما مرَّ آنِفاً { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين } الراسخين في الإيمان على وجهة الإيقان والاطمئنان .
{ وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً مّنَ الصالحين } أي مقضيًّا بنبُّوتهِ مقدَّراً كونه من الصَّالحينَ وبهذا الاعتبار وقَعا حالينِ ولا حاجةَ إلى وجود المبشَّر به وقت البشارةِ فإنَّ وجود ذي الحالِ ليس بشرطٍ وإنَّما الشَّرطُ مقارنةُ تعلُّق الفعل به لاعتبارِ معنى الحالِ فلا حاجة إلى تقدير مضافٍ يجعل عاملاً فيهما مثل وبشَّرناهُ بوجودِ إسحاقَ بأنْ يُوجدَ إسحاقَ نبيًّا من الصَّالحين ، ومع ذلكَ لا يصيرُ نظيرَ قوله تعالى : { فادخلوها خالدين } فإنَّ الدَّاخلين كانوا مقدِّرين خلودهم وقت الدُّخولِ وإسحاقُ عليه السَّلامُ لم يكن مقدِّراً نبُّوة نفسه وصلاحَها حين ما يُوجد ، ومن فسَّر الغلامَ بإسحاقَ جعل المقصودَ من البشارةِ نبوُّته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وفي ذكر الصَّلاحِ بعد تعظيمٍ لشأنهِ وإيماءً إلى أنَّه الغايةُ لها لتضمُّنِها معنى الكمالِ والتَّكميلِ بالفعلِ على الإطلاقِ .
{ وباركنا عَلَيْهِ } على إبراهيمَ في أولادِه { وعلى إسحاق } بأنْ أخرجنا من صلبهِ أنبياءَ بني إسرائيلَ وغيرَهم كأيُّوبَ وشُعيبَ عليهم السَّلامُ أو أفضْنا عليهما بركاتِ الدِّينِ والدُّنيا . وقُرىء وبرَّكنا . { وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ } في عملهِ أو لنفسِه بالإيمانِ والطَّاعةِ { وظالم لّنَفْسِهِ } بالكفر والمَعَاصي { مُّبِينٌ } ظاهرٌ ظلمُه وفيه تنبيهٌ على أنَّ النَّسبَ لا تأثيرَ له في الهدايةِ والضَّلالِ وأنَّ الظُّلمَ في أعقابهما لا يعودُ عليهما بنقيصةٍ ولا عيبٍ { وَلَقَدْ مَنَنَّا على موسى وهارون } أي أنعمنا عليهما بالنبوَّة وغيرِها من النِّعم الدِّينيةِ والدُّنيويةِ { ونجيناهما وَقَوْمَهُمَا } وهم بنُو إسرائيلَ { مِنَ الكرب العظيم } هو مَلَكةُ آل فرعونَ وتسلطهم عليهم بألوان الغَشَمِ والعذاب كما في قوله تعالى : { وَإِذْ أنجيناكم مّنْ ءالِ فِرْعَونَ } وقيل هو الغَرَقُ وهو بعيد لأنَّه لم يكن عليهم كَرباً ومشقةً .
{ ونصرناهم } أي إيَّاهما وقومَهما على عدوِّهم { فَكَانُواْ } بسبب ذلك { هُمُ الغالبين } عليهم غلبةً لا غايةَ وراءها بعد أنْ كان قومُهما في أسرِهم وقَسْرِهم مقهورين تحت أيديهم العادية يسومُونهم سوء العذاب . وهذه التَّنجيةُ وإن كانتْ بحسب الوجودِ مقارنةً لما ذُكر من النَّصرِ والغَلَبة لكنَّها لما كانتْ بحسب المفهومِ عبارة عن التَّخليصِ من المكروهِ بُدىء بها ثمَّ بالنَّصر الذي يتحقَّقُ مدلُوله بمحضِ تنجيةِ المنصورِ من عدوِّه من غير تغليبهِ عليه ثم بالغلبةِ لتوفيةِ مقام الامتنانِ حقَّه بإظهار أنَّ كلَّ مرتبةٍ من هذه المراتبِ الثَّلاثِ نعمةٌ جليلةٌ على حيالها .(5/451)
وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)
{ وءاتيناهما } بعد ذلك { الكتاب المستبين } أي البليغَ في البيان والتَّفصيلِ وهو التَّوراةُ { وهديناهما } بذلك { الصراط المستقيم } الموصِّلَ إلى الحقِّ والصَّوابِ بما فيه من تفاصيلِ الشَّرائعِ وتفاريعِ الأحكامِ { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الاخرين سلام على موسى وهارون } أي أبقينا فيما بين الأممِ الآخرين هذا الذِّكرَ الجميلَ والثَّناءَ الجزيلَ { إِنَّا كَذَلِكَ } الجزاءِ الكاملِ { نَجْزِى المحسنين } الذين هُما من جُملتهم لا جزاء قاصراً عنه { إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين } سبق بيانُه .
{ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المرسلين } هو إلياسُ بنُ ياسينَ من سبطِ هارون أخي مُوسى عليهم السلام بُعث بعده وقيل إدريسُ لأنَّه قُرىء مكانه إدريسَ وإدراسَ وقُرىء إيليسَ وقرىء إلياسَ بحذفِ الهمزة { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ } أي عذابَ الله تعالى . { أَتَدْعُونَ بَعْلاً } أتعبدونَه وتطلبون الخيرَ منه وهو اسمُ صنمٍ كان لأهل بكَّ من الشَّأمِ وهو البلد المعروفُ اليوم ببَعْلَبَكَّ قيل كان من ذهبٍ طوله عشرون ذراعاً وله أربعةُ أوجهٍ فتُنوا به وعظَّموه حتى أخدمُوه أربعمائة سادنٍ وجعلوهم أنبياءَ فكان الشَّيطانُ يدخل جوفَه ويتكلَّم بشريعة الضَّلالةِ ، والسَّدنةُ يحفظونَها ويُعلِّمونها النَّاسَ . وقيل البَعْلُ الرَّبُّ بلغة اليمنِ أي أتعبدون بعضَ البُعولِ . { وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين } أي وتتركون عبادته وقد أُشير إلى المقتضى للإنكارِ المعنيِّ بالهمزة ثم صرَّح به بقوله تعالى :(5/452)
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136)
{ الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءابَائِكُمُ الاولين } بالنَّصبِ على البدليةِ من أحسنَ الخالقينَ . وقُرىء بالرَّفعِ على الابتداءِ . والتَّعرُّضُ لذكرِ ربوبيَّتهِ تعالى لآبائهم لتأكيدِ إنكارِ تركهِم عبادته تعالى والإشعارِ ببُطلان آراءِ آبائهم أيضاً { فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ } بسبب تكذيبهم ذلك { لَمُحْضَرُونَ } أي العذابَ . والإطلاقُ للاكتفاء بالقرائنِ على أنَّ الإحضارَ المطلقَ مخصوص بالشَّرِّ عُرفاً { إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين } استثناء من ضمير مُحضرون { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاخرين سلام على إِل يَاسِين } هو لغة في الياسَ كسيناءَ في سينينَ وقيل هو جمعٌ له أُريد به هو وأتباعُه كالمهلَّبين والخُبَيبين . وفيه أنَّ العَلَم إذا جُمع يجبُ تعريفُه كالمثالينِ . وقُرىء بإضافة آلِ إلى ياسينَ لأنَّهما في المصحفِ مفصولانِ فيكونُ ياسينَ أبا إلياس { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين } مرَّ تفسيرُه { وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ المرسلين إِذْ نجيناه } أي اذكُر وقتَ تنجيتِنا إيَّاه { وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِى الغابرين } أي الباقين في العذابِ أو الماضين الهالكين .
{ ثُمَّ دَمَّرْنَا الاخرين } فإنَّ في ذلك شواهدَ على جليةِ أمرِه وكونِه من جُملةِ المُرسلين .(5/453)
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145)
{ وَإِنَّكُمْ } يا أهلَ مكَّة { لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ } على منازلهم في متاجرِكم إلى الشَّأمِ وتشاهدون آثارَ هلاكهم فإنَّ سدومَ في طريق الشَّأمِ { مُّصْبِحِينَ } داخلين في الصَّباحِ { وباليل } أي ومساء أهم نهاراً وليلاً ، ولعلَّها وقعت بقرب منزلٍ يمرُّ بها المرتحلُ عنه صباحاً والقاصدُ له مساءً { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أتشاهدون ذلك فلا تعقلون حتَّى تعتبرُوا به وتخافوا أنْ يُصيبكم مثلُ ما أصابهم .
{ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين } وقرىء بكسر النُّونِ { إِذْ أَبَقَ } أي هربَ وأصله الهربُ من السَّيدِ لكن لمَّا كان هربُه من قومه بغير إذن ربِّه حسُن إطلاقُه عليه { إِلَى الفلك المشحون } أي المملوءِ { فساهم } فقارعَ أهلَه { فَكَانَ مِنَ المدحضين } فصار من المغلوبينَ بالقُرعةِ وأصله المزلق عن مقام الظفر . رُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لمَّا وعدَ قومَه بالعذابِ خرجَ من بينهم قبل أنْ يأمرَه الله تعالى به فركبَ السَّفينةَ فوقفتْ فقال فيها عبدٌ آبقٌ فاقترعُوا فخرجت القُرعةُ عليه فقال : أنا الآبقُ ورَمَى بنفسه في الماءِ { فالتقمه الحوت } فابتلعه من اللُّقمةِ { وَهُوَ مُلِيمٌ } داخلٌ في المَلامةِ أو آتٍ بما يُلام عليه أو مليمٌ نفسَه . وقُرىء مَليم بالفتح مبنيًّا من لِيم كمَشيب في مشُوب { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين } الذَّاكرينَ الله كثيراً بالتَّسبيحِ مدَّة عمره أو في بطنِ الحوت وهو قوله : { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين } وقيل من المصلِّين فإنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان كثيرَ الصَّلاةِ في الرَّخاءِ { لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } حيًّا وقيل ميِّتاً وفيه حثٌّ على إكثارِ الذِّكرِ وتعظيمٌ لشأنهِ ومن أقبل عليه في السَّراءِ أُخذ بيدِه عند الضَّرَّاء { فنبذناه بالعراء } بأن حملنا الحوتَ على لفظه بالمكان الخالي عمَّا يُغطِّيه من شجرٍ أو نبتٍ . رُوي أنَّ الحوتَ سار مع السَّفينةِ رافعاً رأسه يتنفسُّ فيه يونسُ عليه السلام ويسبِّحُ ولم يفارقْهم حتَّى انتهَوا إلى البرِّ فلفظَه سالماً لم يتغيَّرْ منه شيءٌ فأسلمُوا . ورُوي أنَّ الحوتَ قذفَه بساحل قريةٍ من المَوصلِ . واختُلف في مقدارِ لبثه فقيل أربعون يوماً وقيل عشرون وقيل سبعةٌ وقيل ثلاثةٌ وقيل لم يلبثْ إلا قليلاً ثم أُخرج من بطنهِ بعيد الوقتِ الذي التُقمَ فيه . رَوى عطاءٌ أنَّه حين ابتلعه أوحى اللَّهُ تعالى إلى الحوتِ إنِّي جعلتُ بطنك له سجناً ولم أجعله لك طعاماً . { وَهُوَ سَقِيمٌ } ممَّا ناله قيل صار بدنُه كبدنِ الطِّفلِ حين يُولد .(5/454)
وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)
{ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ } أي فوقه مظلَّة عليه { شَجَرَةً مّن يَقْطِينٍ } وهو كل ما ينبسطُ على الأرضِ ولا يقوم على ساقٍ كشجر البطِّيخ والقِثَّاءِ والحنظلِ وهو يَفْعيلٌ من قَطَن بالمكانِ إذا أقام به والأكثرون على أنَّه الدُّبَّاءُ غطَّته بأوراقِها عن الذُّبابِ فإنَّه لا يقعُ عليه ويدلُّ عليه أنَّه قيل لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم إنَّك تحبُّ القرعَ قال : « أجلْ هي شجرةُ أخي يونس » وقيل هي التِّينُ وقيل المَوزُ تغطَّى بورقهِ واستظلَّ بأغصانهِ وأفطر على ثماره وقيل كان يستظلُّ بالشَّجرةِ وكانت وعلةٌ تختلفُ إليه فيشربُ من لبنها .
{ وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ } هم قومُه الذين هرب منهم وهم أهل نَيْنَوى . والمرادُ به إرسالُه السَّابقُ أَخبر أولاً بأنَّه من المرسلين على الاطلاقِ ثم أخبرَ بأنَّه قد أُرسل إلى أمةٍ جمَّةٍ وكأنَّ توسيطَ تذكير وقت هربِه إلى الفُلكِ وما بعده بينهما لتذكير سببهِ وهو ما جرى بينه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وبين قومِه من إنذاره إيَّاهم عذابَ الله تعالى وتعيينِه لوقت حلوله وتعلُّلِهم وتعليقِهم لإيمانِهم بظهور أماراتِه كما مرَّ تفصيلُه في سُورة يونسَ ليعلم أنَّ إيمانَهم الذي سيحكى بعد لم يكُن عقيبَ الإرسالِ كما هو المتبادرُ من ترتيبِ الإيمانِ عليه بالفاء بعد اللَّتيا والَّتي وقيل : هو إرسالٌ آخرُ إليهم وقيل : إلى غيرِهم وليس بظاهرٍ { أَوْ يَزِيدُونَ } أي في مَرأى النَّاظرِ فإنَّه إذا نظر إليهم قال إنَّهم مائةً ألفٍ أو يزيدون ، والمرادُ هو الموصفُ بالكثرة . وقُرىء بالواو { فَئَامِنُواْ } أي بعد ما شاهدُوا علائمَ حلول العذابِ إيماناً خالصاً { فمتعناهم } أي بالحيارةِ الدُّنيا { إلى حِينٍ } قدَّره الله سبحانه لهم . قيل لعلَّ عدمَ ختمِ هذه القصَّةِ وقصَّةِ لوطٍ بما خُتم به سائرُ القصصِ للتَّفرقةِ بينهما وبين أربابِ الشَّرائعِ وأُولي العزمِ من الرُّسلِ أو اكتفاءً بالتَّسليمِ الشَّاملِ لكلِّ الرُّسلِ المذكورينَ في آخرِ السُّورةِ .
{ فاستفتهم } أمر الله عزَّ وجلَّ في صدر السُّورة الكريمةِ رسولَه صلى الله عليه وسلم بتبكيتِ قُريشٍ وإبطالِ مذهبِهم في إنكارِ البعثِ بطريقِ الاستفتاءِ وساقَ البراهينَ القاطعةَ النَّاطقة بتحقُّقةِ لا محالة وبيَّن وقوعَه وما سيلقَونه عند ذلك من فُنون العذابِ واستثنى منهم عبادَه المُخلَصين وفصَّل ما لهم من النَّعيمِ المقيمِ ثم ذكر أنَّه قد ضلَّ من قبلهم أكثرُ الأوَّلينَ وأنَّه تعالى أرسلَ إليهم منذرينَ على وجهِ الإجمالِ ثم أوردَ قصص كلِّ واحدٍ منهم على وجهِ التَّفصيلِ مبيِّناً في كل قصَّةِ منها أنَّهم من عبادِه تعالى واصفاً لهم تارةً بالإخلاصِ وأُخرى بالإيمانِ ثم أمره عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ههنا بتبكيتِهم بطريقِ الاستفتاءِ عن وجهِ أمرٍ منكرٍ خارج عن العقول بالكلِّيةِ وهي القسمةُ الباطلةُ اللازمةُ لما كانُوا عليه من الاعتقاد الزَّائغِ حيثُ كانُوا يقولون كبعض أجناس العربِ جُهينةَ وبني سلمةَ وخُزاعةَ وبني مَليحٍ ، الملائكةُ بناتُ الله والفاء لترتيب الأمرِ على ما سبق من كون أولئك الرُّسلِ الذين هم أعلامُ الخَلْقِ عليهم الصلاة والسلام عبادَه تعالى فإنَّ ذلك ممَّا يؤكِّدُ التَّبكيتَ ويُظهر بُطلانَ مذهبهم الفاسد ثم تبكيتُهم بما يتضمَّنُه كفرهم المذكورُ من الاستهانةِ بالملائكةِ يجعلهم إناثاً ثم أبطل أصلَ كفرهم المنطوي على هذينِ الكفرينِ وهو نسبةُ الولِد إليه سبحانَه وتعالى عن ذلك علوَّاً كبيراً ولم ينظمه في سلكِ التَّبكيتِ لمشاركتهم النَّصارى في ذلك أي فاستخبرْهم { أَلِرَبّكَ البنات } اللاتي هن أوضعُ الجنسينِ { وَلَهُمُ البنون } الذين هم أرفعُهما فإنَّ ذلك ممَّا لا يقولُ به من له أدنى شيءٍ من العقلِ .(5/455)
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
وقوله تعالى : { أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إناثا } إضرابٌ وانتقالٌ من التَّبكيت بالاستفتاءِ السَّابقِ إلى التَّبكيتِ بهذا كما أُشير إليه أي بل أخلقنا الملائكةَ الذين هم من أشرفِ الخلائقِ وأبعدِهم من صفات الأجسامِ ورذائل الطَّبائعِ إناثاً والأُنوثةُ من أخسِّ صفاتِ الحيوانِ . وقوله تعالى : { وَهُمْ شاهدون } استهزاءً بهم تجهيلٌ لهم كقولِه تعالى : { أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ } وقوله تعالى : { مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والارض وَلاَخَلْقَ أَنفُسِهِمْ } فإنَّ أمثالَ هذه الأمورِ لا تُعلم إلا بالمشاهدةِ إذ لا سبيلَ إلى معرفتِها بطريقِ العقلِ وانتفاء النَّقلِ ممَّا لا ريَب فيه فلا بُدَّ أنْ يكون القائل بأنوثتهم شاهداً عند خلقِهم والجملةُ إمَّا حال من فاعلِ خلقنا أي بل أخلقناهُم إناثاً والحالُ أنهم حاضرون حينئذٍ أو عطفٌ على خلقنا أي بل أهم شاهدون وقوله تعالى :
{ أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله } استئنفاف من جهته غيرُ داخلٍ تحت الأمر بالاستفتاء مسوقٌ لإبطالِ أصل مذهبِهم الفاسدِ ببيان أنَّ مبناهُ ليس إلاَّ الإفكُ الصَّريحُ والافتراء القبيحُ من غير أنْ يكونَ لهم دليلٌ أو شبهة قطعاً { وَإِنَّهُمْ لكاذبون } في قولِهم ذلك كَذِباً بيِّناً لا ريبَ فيه . وقُرىء ولدُ الله على أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي الملائكةُ ولدُه تعالَى عن ذلك عُلوَّاً كبيراً فإنَّ الولدَ فعل بمعنى مفعولٍ يستوِي فيه الواحدُ والجمعُ والمذكَّرُ والمؤنَّثُ { أَصْطَفَى البنات على البنين } إثباتٌ لإفكِهم وتقريرٌ لكذبِهم فيما قالوا ببيان استلزامه لأمر بيِّن الاستحالة هو اصطفاؤه تعالى البنات على البنينَ ، والاصطفاءُ أخذُ صفوةِ الشَّيءِ لنفسِه ، وقُرىء بكسرِ الهمزةِ على حذفِ حرفِ الاستفهامِ ثقةً بدلالةِ القَرَائنِ عليهِ وجعله بدلاً من ولدَ الله ضعيفٌ وتقديرُ القولِ أي لكاذبونَ في قولِهم اصطفَى الخ تعسُّفٌ بعيدٌ .(5/456)
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)
{ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } بهذا الحكمِ الذين يَقضي ببطلانِه بديهةُ العقلِ { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } بحذفِ إحدى التَّاءينِ من تتذكَّرون ، وقُرىء تذكُرون من ذَكَر ، والفاءُ للعطفِ على مقدَّرٍ أي أَلاَ تُلاحِظُون ذلك فلا تتذكَّرون بطلانَهُ فإنَّه مركوزٌ في عقلِ كلِّ ذكيَ وغبيَ .
{ أَمْ لَكُمْ سلطان مُّبِينٌ } إضرابٌ وانتقالٌ من توبيخِهم وتبكيتِهم بما ذُكر إلي تبكيتِهم بتكليفِهم ما لا يدخلُ تحتَ الوجودِ أصلاً أي بل ألكُم حجَّةٌ واضحةٌ نزلتْ عليكم من السَّماءِ بأنَّ الملائكةَ بناتُه تعالى ضرورةَ أنَّ الحكمَ بذلك لا بُدَّ له من سندٍ حسيَ أو عقلي وحيثُ انتفى كلاهُما فلا بُدَّ من سندٍ نقليَ { فَأْتُواْ بكتابكم } النَّاطقِ بصَّحةِ دَعْواكم { إِن كُنتُمْ صادقين } فيها وفي هذه الآياتِ من الإنباءِ عن السُّخطِ العظيمِ والإنكارِ الفظيعِ لأقاويلهم والاستبعادِ الشَّديدِ لأباطيلِهم وتسفيِه أحلامِهم وتركيكِ عقولِهم وأفهامِهم مع استهزاءٍ بهم وتعجيبٍ من جهلِهم مَا لا يَخْفى عَلَى من تأمَّل فيها . وقولُه تعالَى :
{ وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً } التفاتٌ إلى الغَيبةِ للإيذانِ بانقطاعِهم عن الجوابِ وسقوطِهم عن درجةِ الخطابِ واقتضاءِ حالِهم أنْ يعرضَ عنهم وتُحكى جناياتُهم لآخرينَ والمرادُ بالجِنَّةِ الملائكةُ قالوا الجنسُ واحدً ولكنْ من خَبُثَ من الجنِّ ومَرَد وكان شرَّاً كله فهو شيطانٌ ومن طهر منهم ونسكَ وكان خيراً كله فهو مَلَكٌ وإنَّما عبَّر عنهم بذلك الاسمِ وَضْعاً منهم وتَقصيراً بهم مع عِظَمِ شأنِهم فيما بينَ الخلقِ أنْ يبلغُوا منزلةَ المناسبة التي أضافُوها إليهم فجعلهم هذا عبارةً عن قولهم الملائكةُ بناتُ الله وإنَّما أُعيد ذكُره تمهيداً لما يعقبُه من قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } أي وبالله لقد علمتْ الجِنَّةُ التي عظَّموها بأنْ جعلُوا بينها وبينه تعالى نَسَباً وهم الملائكةُ أنَّ الكفرةَ لمحضرونَ النَّار معذَّبُون بها لكذبِهم وافترائِهم في قولِهم ذلك ، والمرادُ به المبالغةُ في التَّكذيبِ ببيانِ أنَّ الذين يدَّعي هؤلاء لهم تلك النِّسبةَ ويعلمون أنَّهم أعلمُ منهم بحقيقةِ الحالِ يكذبونهم في ذلك ويحكمُون بأنَّهم معذَّبون لأجلِه حُكماً مؤكَّداً وقيل : إنَّ قوماً من الزَّنادقةِ يقولون : الله تعالى وإبليسُ أخوانِ فالله هو الخيِّرُ الكريمُ وإبليسُ هو الشَّرُّ اللَّئيمُ وهو المرادُ بقوله تعالى : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً } . قال الإمامُ الرَّازيُّ وهذا القولُ عندي أقربُ الأقاويلِ وهو مذهبُ المجوسِ القائلين بَيزْدانَ واهْرمنْ منْ . وقال مجاهدٌ قالتْ قُريشٌ : الملائكةُ بناتُ الله فقال أبُو بكرٍ الصِّديقُ رضي الله عنه : فمنْ أمهاتهم تبكيتاً لهمُ؟ فقالوا سَرَواتُ الجنِّ وقيل : معنى جعلُوا بينه وبين الجِنَّةِ نَسَباً جعلُوا بينهما مناسبةً حيثُ أشركُوا به تعالى الجنَّ في استحقاف العبادةِ فعلى هذه الأقاويلِ يجوزُ أنْ يكونَ الضَّميرُ في إنَّهم لمحضرون للجنَّة فالمَعنى لقد علمتِ الشَّياطينُ أنَّ الله تعالى يحضرهم النَّارَ ويُعذبهم بها ولو كانُوا مناسبينَ له تعالى أو شركاءَ في استحقافِ العبادةِ لمَّا عذَّبهم والوجهُ هو الأوَّلُ فإنَّ قوله :(5/457)
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)
{ سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ } حكايةٌ لتنزيهِ الملائكةِ إيَّاهُ تعالى عمَّا وَصَفه المشركونَ به بعد تكذيبِهم لهم في ذلكَ بتقديرِ قولٍ معطوفٍ على علمتْ . وقولُه تعالى : { إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين } شهادةٌ منهم ببراءةِ المخلصينَ مِن أنْ يَصفُوه تعالَى بذلكَ متضمِّنة لتبرئِهم مِنْهُ بحكمِ اندراجِهم في زُمرة المُخلصين على أبلغ وجهٍ وآكدِه على أنَّه استثناءٌ منقطعٌ من واوِ يصفُون كأنَّهُ قيل ولقد علمتِ الملائكةُ أنَّ المشركينَ لمعذبون لقولهم ذلك وقالوا سبحان الله عمَّا يصفونَه به لكنْ عبادُ الله الذين نحنُ من جُملتهم بُرَآهُ من ذلكَ الوصفِ وقوله تعالى : { فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بفاتنين } تعليلٌ وتحقيقٌ لبراءةِ المخلصين ممَّا ذُكر ببيانِ عجزِهم عن إغوائِهم وإضلالِهم . والالتفاتُ إلى الخطابِ لإظهارِ كمالِ الاعتناءِ بتحقيقِ مضمونِ الكلامِ وما تعبدون عبارةٌ عن الشِّياطينِ الذين أغوَوهم وفيه إيذانٌ بتبرئهم عنهم وعن عبادتِهم كقولِهم بل كانُوا يعبدون الجنَّ وما نافيةٌ وأنتُم خطابٌ لهم ولمعبوديهم تغليباً ، وعلى متعلقة بفاتنينَ يقال فتنَ فلانٌ على فلانٍ امرأتَه أي أفسدَها عليه والمعنى فإنَّكم ومعبوديكم أيُّها المشركونَ لستُم بفاتنينَ عليه تعالى بإفسادِ عبادِه وإضلالِهم .
{ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم } منهم أي داخلُها لعلمه تعالى بأنَّه يصيرُ على الكفر بسوء اختيارِه ويصيرُ من أهل النَّارِ لا محالةَ وأما المخلصونَ منهم فأنتُم بمعزلٍ من إفسادِهم وإضلالِهم ، فهم لا جرَم بُرآء مُن أنْ يُفتتنوا بكم ويسلكُوا مسلككم في وصفِه تعالى بما وصفتُموه به . وقُرىء صالُ بضمِّ الَّلامِ على أنَّه جمعٌ محمول على معَنْى من قد سقط واوه لالتقاءِ السَّاكنينِ وقولُه تعالى : { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } تبيينٌ لجلية أمرِهم وتَعيينٌ لحيِّزهم في موقفِ العُبودية بعد ما ذُكر من تكذيبِ الكَفَرةِ فيما قالُوا وتنزيه الله تعالى عن ذلك وتبرئةُ المخلصين عنه وإظهارٌ لقصور شأنِهم وقماءتهم أي وما منَّا أحدٌ إلا لهُ مقامٌ معلومٌ في العبادةِ والانتهاء إلى إمرِ الله تعالى مقصورٌ عليه لا يتجاوزُه ولا يستطيعُ أنْ يزلَّ عنه خُضوعاً لعظمتِه وخُشوعاً لهيبتِه وتواضُعاً لجلالِه كما رُوي فمنهم راكعٌ لا يقيُم صُلبَه وساجدٌ لا يرفعُ رأسَه قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما ( ما في السَّمواتِ موضعُ شبرٍ إلاَّ وعليه ملكٌ يصلِّي أو يسبِّح ) ورُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قال : « أطَّتِ السَّماءُ وحقَّ لها أنْ تئطَّ والذي نفسي بيدِه ما فيها موضعُ أربعِ أصابعَ إلاَّ وفيه مَلَكٌ واضعٌ جبهَته ساجدٌ لله تعالى » . وقال السُّدِّيَّ إلا له مقامٌ معلومٌ في القُربةِ والمشاهدِة .(5/458)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)
{ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون } في مواقفِ الطَّاعةِ ومواطن الخِدمة { وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون } المقدِّسون لله سبحانه عن كلِّ ما لا يليقُ بجنابِ كبريائِه ، وتحليةُ كلامِهم بفُنونِ التَّأكيدِ لإبراز أن صدورَه عنهم بكمالِ الرَّغبةِ والنَّشاطِ هذا هو الذي تقتضيهِ جَزَالةُ التَّنزيلِ وقد ذُكر في تفسير الآياتِ الكريمةِ وإعرابِها وجوهٌ أُخرُ فتأمَّلْ والله المُوفِّق .
{ وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ } إنْ هي المخففةُ من الثقيلة ، وضميرُ الشَّأنِ محذوفٌ ، والَّلامُ هي الفارقةُ أي إنَّ الشَّأنَ كانتْ قُريشٌ تقولُ : { لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الاولين } أي كتاباً من كُتب الأوَّلينَ من التَّوارةِ والإنجيلِ . { لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين } أي لأخلصنا العبادةَ لله تعالى ولَما خالفنا كما خالفُوا وهذا كقولِهم : { لئنْ جاءهم نذيرٌ ليكونن أهدى من إِحْدَى الأممِ } والفاءُ في قولِه تعالى : { فَكَفَرُواْ بِهِ } فصيحةٌ كما في قولِه تعالى : { أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق } أي فجاءَهُم ذكرٌ وأيُّ ذكرٍ ، سيِّدُ الأذكارِ وكتابٌ مُهيمنٌ على سائرِ الكُتبِ والأسفارِ فكفرُوا به { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } أي عاقبةَ كُفرِهم وغائلتَه .
{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين } استئنافٌ مقَّررٌ للوعيدِ وتصديرُه بالقسمِ لغايةِ الاعتناءِ بتحقيقِ مضمونِه أي وبالله لقد سبقَ وعدُنا لهم بالنُّصرةِ والغَلَبةِ وهو قولُه تعالى : { إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون } .(5/459)
وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)
{ وَإِنَّ جُندَنَا } وهم أتباعُ المُرسلين { لَهُمُ الغالبون } على أعدائِهم في الدُّنيا والآخرةِ ولا يقدحُ في ذلك انهزامُهم في بعضِ المشاهدِ فإنَّ قاعدةَ أمرِهم وأساسَه الظَّفرُ والنُّصرةُ وإنْ وقعَ في تضاعيفِ ذلكَ شَوبٌ من الابتلاءِ والمحنةِ ، والحكمُ للغالبِ . وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهُما : إنْ لم يُبصَرُوا في الدُّنيا نُصرِوا في الآخرةِ . وقُرىء على عبادِنا بتضمينِ سبقتْ معنى حُقِّقتْ وتسميتُها كلمةً مع أنَّها كلماتٌ لانتظامِها في معنى واحدٍ . وقُرىء كلماتُنا .
{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } فأَعرضْ عنهم واصبرْ { حتى حِينٍ } إلى مُدَّةٍ يسيرةٍ وهي مُدَّةُ الكفِّ عن القتالِ ، وقيل يومَ بدرٍ ، وقيل : يومَ الفتحِ . { وأبصارهم } على أسوأِ حالٍ وأفظعِ نكالٍ حلَّ بهم من القتلِ والأسرِ ، والمرادُ بالأمرِ بأبصارِهم الإيذانُ بغايةِ قُربِه كأنَّه بين يديِه . { فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } ما يقعَ حينئذٍ من الأمورِ ، وسوفَ للوعيدِ دُون التَّبعيدِ { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } رُوي أنَّه لمَّا نزل فسوف يُبصرون قالُوا متَى هذا فنزلَ { فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ } أي فإذا نزلَ العذابُ الموعودُ بفنائِهم كأنَّه جيشٌ قد هجمَهم فأناخَ بفنائِهم بغتةً فشنَّ عليهم الغارةَ وقطعَ دابرَهم بالمرَّةِ . وقيل : المرادُ نزولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يومَ الفتحِ . وقُرىء نزلَ بساحتهم على إسنادِه إلى الجارِّ والمجرور . وقُرىء نُزّل مبنَّياً للمفعولِ من التَّنزيلِ أي نُزّلَ العذابُ { فَسَاء صَبَاحُ المنذرين } فبئسَ صباحُ المنذَرين صباحُهم . واللاَّمُ للجنسِ . والصَّباحُ مستعارٌ من صباحِ الجيشِ المبيِّتِ لوقت نزول العذابِ ولمَّا كثُرتْ منهم الغارة في الصَّباح سمَّوها صباحاً ، وإن وقعت ليلاً . رُوي أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم : لمَّا أتى خيبرَ وكانُوا خارجينَ إلى مزارعِهم ومعهم المَسَاحي قالُوا : محمدٌ والخميسُ ورجعُوا إلى حصنِهم فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « الله أكبرُ خربتْ خيبرُ إنا إذَا نزلنا بساحةِ قومٍ فساءَ صباحُ المنذَرينِ » { وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } تسليةً لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم إثرَ تسليةٍ وتأكيدٍ لوقوعِ الميعادِ غبَّ تأكيدِ مع ما في إطلاقِ الفعلينِ عن المعفولِ من الإيذانِ بأنَّ ما يُبصره عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حينئذٍ من فنونِ المسارِ وما يُبصرونه من أنواعِ المضارِّ لا يحيطُ به الوصفُ والبيانُ . وقيلَ : أُريد بالأوَّلِ عذابُ الدُّنيا ، وبالثَّاني عذابُ الآخرةِ .(5/460)
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
{ سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ } تنزيهٌ لله سبحانَه عن كلِّ ما يصفُه المشركونَ به ممَّا لا يليقُ بجنابِ كبريائِه وجبروتِه ممَّا ذُكر في السُّورةِ الكريمةِ وما لم يُذكر من الأمورِ التي من جُملتِها تركُ إنجازِ الموعودِ على موجبِ كلمتِه السَّابقةِ لا سيَّما في حقِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كما يُنبىء عنْه التَّعرضُ لعُنوانِ الرُّبوبيةِ المُعربةِ عن التَّربيةِ والتَّكميلِ والمالكيةِ الكُلِّيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أوَّلاً وإلى العزَّةِ ثانياً كأنَّه قيلَ سبحانَ من هُو مربِّيكَ ومكمِّلكَ ومالكُ العزَّةِ والغَلَبةِ على الإطلاقِ عمَّا يصفُه المشركونَ به من الإشياءِ التي منها تركُ نصرتِكَ عليهم كما يدلُّ عليه استعجالُهم بالعذابِ وقولُه تعالى : { وسلام على المرسلين } تشريفٌ لهم عليهم السَّلامُ بعد تنزيهِه تعالى عمَّا ذُكر وتنويهٌ بشأنِهم وإيذانٌ بأنَّهم سالمون عن كلِّ المكارِه فائزونَ بجميعِ المآربِ . وقولُه تعالى : { والحمد للَّهِ رَبّ العالمين } إشارةٌ إلى وصفِه عزَّ وجلَّ بصفاتِه الكريمةِ الثُّبوتيةِ بعد التَّنبيهِ على اتِّصافِه بجميعِ صفاته السَّلبيةِ ، وإيذانٌ باستتباعِها للأفعالِ الجميلةِ التي من جُملتها إفاضتُه عليهم من فُنُونِ الكراماتِ السَّنيةِ والكمالاتِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ وإسباغه عليهم وعلى مَن تبعِهم من صُنوف النَّعماءِ الظَّاهرةِ والباطنةِ المُوجبةِ لحمده تعالى وإشعارٌ بأنَّ وُعده عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ من النُّصرةِ والغَلَبة قد تحقَّقتْ ، والمرادُ تنبيه المؤمنينَ على كيفيَّةِ تسبيحِه تعالى وتحميدِه والتَّسليم على رُسلِه الذينَ هُم وسائطُ بينهم وبينَهُ عزَّ وعَلاَ في فيضانِ الكَمالاتِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ عليهم ، ولعلَّ توسيطَ التَّسليمِ على المُرسلينَ بين تسبيحهِ تعالى وتحميدِه لختمِ السُّورةِ الكريمةِ بحمدِه تعالى معَ ما فيهِ من الإشعارِ بأنَّ توفيقَهُ تعالى للتَّسليمُ عليهم من جُملةِ نعمِه المُوجبةِ للحمدِ . عن عليَ رضيَ الله عنه من « أحبَّ أنْ يُكتالَ بالمكيالِ الأَوْفى من الأجرِ يومَ القيامةِ فليكُن آخرُ كلامِه إذا قامَ من مجلسهِ سبحانَ ربِّك ربِّ العِزَّةِ عمَّا يصفُون وسلامٌ على المُرسلينَ والحمدُ لله ربِّ العالمينَ » . وعن رسولِ صلى الله عليه وسلم « مَن قرأَ والصَّافَّاتِ أُعطي منَ الأجرِ عشرَ حَسَناتٍ بعددِ كلِّ جنيَ وشيطانٍ ، وتباعدتْ عنه مَرَدةُ الشَّياطينِ . وبرىءَ من الشِّركِ وشَهد له حافظاهُ يومَ القيامةِ أنَّه كان مُؤمناً بالمُرسلين »(5/461)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)
( سورة ص مكية وآياتها ثمان وثمانون آية )
{ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم } { ص } بالسُّكون على الوقفِ . وقُرىء بالكسرِ والفتحِ لالتقاء السَّاكنينِ ويجوزُ أنْ يكونَ الفتحُ بإضمارِ حرفِ القسمِ في موضعِ الجرِّ كقولِهم الله لأفعلنَّ بالجرِّ وأنْ يكونَ ذلك نصباً بإضمارِ اذكُرْ أو اقرأْ لا فتحاً كما مرَّ في فاتحةِ سورةِ البقرةِ وامتناعُ الصرَّفِ للتَّعريفِ والتَّانيثِ لأنَّها عَلَمٌ للسُّورةِ وقد صرَفها منَ قرأ صادٌ بالتَّنوينِ على أنَّه اسمُ الكتابِ أو التَّنزيل . وقيل هو في قراءةِ الكسر أمرٌ من المصاداةِ وهي المعارضةُ والمقابلةُ ومنها الصَّدى الذي ينعكسُ من الأجسامِ الصَّلبةِ بمقابلة الصَّوتِ ومعناهُ عارضِ القُرآن بعملِك فاعملْ بأوامرِه وانتِه عن نواهيهِ وتخلَّقْ بأخلاقِه ثمَّ إنْ جُعل اسماً للحرفِ مسرُوداً على منهاجِ التَّحدي أو الرَّمزِ إلى كلامٍ مثل صدقَ الله أو صدقَ محمدٌ كما نقل عن أكابرِ السَّلفِ أو اسماً للسُّورة خبراً لمبتدأٍ محذوفٍ أو نصباً على إضمارِ اذكُر أو اقرأْ أو أمراً من المُصاداةِ فالواوُ في قولِه تعالى : { والقرءان ذِى الذكر } للقسمِ وإنْ جعلَ مُقسَماً به فهي للعطفِ عليه فإنْ أُريد بالقرآنِ كلِّه بالمغايرةُ بينَهما حقيقةٌ وإنْ أُريد عينُ السُّورةِ فهي اعتبارَّيةٌ كما في قولِك مررتُ بالرَّجلِ الكريمِ وبالنَّسمةِ المُباركةِ وأيّاً ما كان ففي التَّكريرِ مزيدُ تأكيدٍ لمضمونِ الجملةِ المُقسَمِ عليها والذِّكرُ الشَّرفُ والنَّباهةُ كما في قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } أو الذِّكرى والموعظة أو ذكرُ ما يُحتاج إليه في أمر الدِّينِ من الشَّرائعِ والأحكام وغيرِها من أقاصيص الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وأخبار الأمم الدَّارجةِ والوعد والوعيد وجواب القسم على الوجه الأول والرَّابعِ والخامس محذوف هو ما يُنبىءُ عنه التَّحدِّي والأمرُ والإقسامُ به من كون المُتحدَّى به معجزاً وكونِ المأمورِ به واجباً وكونِ المقسَم به حقيقاً بالإعظامِ أي أُقسم بالقرآنِ أو بصادٍ وبه إنَّه لمعجز أو لواجب العمل به أو لحقيقٌ بالإعظامِ ، وأمَّا على الوجهينِ الباقيينِ فهو الكلامُ المرموزُ إليه ونفسُ الجملةِ المذكورةِ قبل القسم فإنَّ التَّسميةَ تنويه بشأن المُسمَّى وتنبيه على عظم خَطَرِه أي إنَّه لصادقٌ والقرآن ذي الذِّكرِ أو هذه السُّورة عظيمةُ الشَّأنِ والقرآنِ الخ على طريقة قولهم هذا حاتمٌ والله ، ولمَّا كان كل واحد من هذه الأجوبة مُنبئاً عن انتفاء الرِّيبِ عن مضمونه بالكُلِّيةِ أبناء بينا كان قوله تعالى :
{ بَلِ الذين كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } إضراباً عن ذلك كأنَّه قيل لا ريبَ فيه قطعاً وليس عدمُ إذعان الكَفَرةِ له لشائبةِ ريبٍ ما فيه ، بل هم في استكبارٍ وحميَّةٍ شديدةٍ وشقاقٍ بعيدٍ لله تعالى ولرسولِه ولذلك لا يُذعنون له وقيل الجواب ما دلَّ عليه الجملةُ الإضرابيَّةُ أي ما كفَر به مَن كفَر لخللٍ وجدَهُ فيه بل الذَّينَ كفروا الخ وقُرىء في غِرَّةٍ أي في غَفْلةٍ عمَّا يجب عليهم التَّنبهُ له من مبادىء الإيمان ودواعيِه .(5/462)
كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)
{ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ } وعيدٌ لهم على كُفرهم واستكبارِهم ببيان ما أصاب مَن قبلهم من المُستكبرينَ . وكم مفعولُ أهلكنا ، ومِن قرنٍ تمييزٌ والمعنى وقرناً كثيراً أهلكنا من القُرون الخاليةِ { فَنَادَوْاْ } عند نزول بأسنِا وحلول نقمتِنا استغاثةً وتوبةً لينجُوا من ذلك . وقولُه تعالى : { وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } حالٌ من ضمير نادَوا واستغاثوا طلباً للنَّجاةِ والحالُ أنْ ليسَ الحينُ حينَ مناصٍ أي فوتٍ ونجاةٍ ، من ناصَه أي فاتَه لا من ناصَ بمعنى تأخَّر ، ولا : هيَ المشبَّهةُ بليسَ زيدتْ عليها تاءُ التَّانيثِ للتَّأكيدِ كما زِيدتْ على رُبَّ وثُمَّ . وخُصَّتْ بنفي الأحيانِ ولم يبرزْ إلا أحدُ معمُوليها والأكثرُ حذفُ اسمِها . وقيلَ هي النَّافيةُ للجنسِ زيدتْ عليها التَّاءُ وخصَّتْ بنفيِ الأحيانِ ، وحينَ مناصٍ . منصوبٌ على أنَّه اسمُها أي ولا حينَ مناصٍ . وقُرىء بالرَّفعِ فهو على الأوَّلِ اسمُها والخبرُ محذوفٌ أي وليسَ حينُ مناصٍ حاصلاً لهم وعلى الثَّانِي مبتدأُ محذوفُ الخبرِ أي ولا حينُ مناصٍ كائنٌ لهم وقُرىء بالكسرِ كما في قوله
طلبُوا صلحَنا ولاتَ أوان ... فأجبنا أنْ لاتَ حينِ بقاءِ
إمَّا لأنَّ لاتَ تجرُّ الأحيانَ كما أنَّ لولا تجرُّ الضَّمائرَ في نحوِ قوله
لولاكَ هذا العامَ لم أحجُجِ ... أو لأنَّ أوانٍ شُبِّه بإذْ في قوله
نهيتُكَ عن طِلابِكَ أمَّ عمرو ... بعافيةٍ وأنتَ إذٍ صحيحُ
في أنَّه زمانٌ قُطع منه المضافُ إليه وعُوِّض التَّنوين لأنَّ أصلَه أوانُ صُلحٍ ثم حُمل عليه حينِ مناصٍ تنزيلاً لقطعِ المضافِ إليه من مناصٍ إذْ أصلُه حينَ مناصِهم منزلَة قطعِه من حينٍ لما بينَ المضافينِ من الإتِّحادِ ثمَّ بنُي الحينُ لإضافتِه إلى غيرِ مُتمكِّنٍ . وقُرىء لاتِ بالكسرِ كجَيْرِ . ويقفُ الكوفيُّون عليها بالهاءِ كالأسماءِ والبصريُّون بالتاءِ كالأفعالِ . وما قيل : منْ أنَّ التَّاءَ مزيدةٌ على حينٍ لاتِّصالِها به في الإمامِ مما لا وجهَ له فإنَّ خطَّ المصحفِ خارجٌ عن القياسِ . { وَعَجِبُواْ أَن جَاءكُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ } حكايةٌ لأباطيلِهم المتفرِّعةِ على ما حُكي من استكبارِهم وشقاقِهم أي عجبُوا من أنْ جاءهم رسولٌ من جنسِهم بل أدونُ منهم في الرِّياسةِ الدُّنيويَّةِ والمالِ على معنى أنَّهم عدُّواً ذلك أمراً عجيباً خارجاً عن احتمالِ الوقوعِ وأنكرُوه أشدَّ الإنكارِ لا أنَّهم اعتقدُوا وقوعَه وتعجَّبوا منه { وَقَالَ الكافرون } وُضعَ فيه الظَّاهرُ موضعَ الضَّميرِ غضباً عليهم وإيذاناً بأنَّه لا يتجاسرُ على مثل ما يقولونَه إلا المتوغِّلون في الكُفر والفسوق { هذا ساحر } فيما يُظهره من الخوارقِ { كَذَّابٌ } فيما يُسنده إلى الله تعالى من الإرسالِ والإنزالِ { أَجَعَلَ الالهة إلها واحدا } بأنْ نفى الأُلوهيَّةَ عنهم وقَصرَها على واحدٍ { إِنَّ هذا لَشَىْء عُجَابٌ } بليغٌ في العَجَبِ وذلك لأنَّه خلافُ ما ألِفُوا عليهِ آباءَهم الذينَ أجمعُوا على ألوهيَّتِهم وواظبُوا على عبادتِهم كابراً عن كابرٍ فإنَّ مدارَ كلِّ ما يأتُون وما يذرُون من أمورٍ دينِهم هو التَّقليدُ والاعتيادُ فيعدُّون ما يخالفُ ما اعتادُوه عجيباً بل مُحالاً .(5/463)
وأماً جعلُ مدارِ تعجبِهم عدمَ وفاءِ علمِ الواحدِ وقدرتِه بالأشياءِ الكثيرةِ فلا وجَه له لما أنَّهم لا يدَّعُون أنَّ لآلهتِهم علماً وقدرةً ومدخلاً في حدوثِ شيءٍ من الأشياءِ حتَّى يلزمَ من نفي ألوهيَّتهم بقاءُ الآثارِ بلا مُؤثِّر . وقُرىء عجَّاب بالتَّشديدِ وهو أبلغُ ككُرامٍ وكَرَّامِ . ( رُوي أنَّه لما أسلَم عمرُ رضي الله عنه شقَّ ذلك على قُريشٍ فاجتمعَ خمسةٌ وعشرونَ من صناديدِهم فأتَوا أبَا طالبٍ فقالُوا أنتَ شيخُنا وكبيرُنا وقد علمتَ ما فعلَ هؤلاءِ السُّفهاءُ وقد جئناكَ لتقضِي بينَنا وبينَ ابنِ أخيكَ فاستحضرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : يا ابنَ أخِي هؤلاءِ قومُك يسألونَك السُّؤالَ فلا تملْ كلَّ الميلِ على قومِك فقالَ صلى الله عليه وسلم : « ماذَا تسألوننِي » قالُوا ارفُضنا وارفُض ذكَر آلهتِنا وندعكَ وإلهَك فقالَ صلى الله عليه وسلم : « أرأيتُم إنْ أعطيتُكم ما سألتُم أمعطيَّ أنتُم كلمةً واحدةً تملكونَ بها العربَ وتدينُ لكم بها العجمُ » قالُوا نعم وعشراً فقال : « قولُوا لا إلَه إلاَّ الله » فقامُوا وقالُوا ذلكَ .(5/464)
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)
{ وانطلق الملأ مِنْهُمْ } أي وانطلقَ الأشرافُ من قريشٍ عن مجلسِ أبي طالبٍ بعد ما بكَّتهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالجوابِ العتيدِ وشاهدُوا تصلُّبَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في الدِّينِ وعزيمتَه على أنْ يُظهره على الدِّينِ كلِّه ويئسُوا ممَّا كانُوا يرجونَه بتوسطِ أبي طالبٍ من المصالحةِ على الوجِه المذكورِ { أَنِ امشوا } أي قائلين بعضِهم لبعضٍ على وجهِ النَّصيحةِ امشُوا { وَاْصْبِرُواْ على ءالِهَتِكُمْ } أي واثبتُوا على عبادتِها متحمِّلين لما تسمعُونه في حقِّها من القدحِ ، وأنْ هي المفسِّرةُ ، لأنَّ الانطلاقَ عن مجلسِ التقاولِ لا يخلُو عن القولِ . وقيل : المرادُ بالانطلاقِ الاندفاعُ في القولِ وامشُوا من مشتِ المرأةُ إذا كثرتْ ولادتُها ومنه الماشيةُ للتفاؤلِ أي اجتمعُوا واكثرُوا . وقُرىء امشُوا بغير أنْ على إضمارِ القولِ وقُرىء يمشُون أنِ اصبرُوا { إِنَّ هذا لَشَىْء يُرَادُ } تعليلٌ للأمرِ بالصَّبرِ أو لوجوبِ الامتثالِ به أي هذا الذي شاهدناهُ من محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم من أمرِ التَّوحيدِ ونفي آلهتِنا وأبطالِ أمرِها لشيءٌ يُراد أي من جهتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إمضاؤُه وتنفيذُه لا محالةَ من غيرِ صارفٍ يلويهِ ولا عاطفٍ يثنيهِ ، لا قولٌ يقال من طرفِ اللِّسان أو أمر يُرجى فيه المسامحةُ بشفاعةٍ أو امتنانٍ فاقطعُوا أطماعَكم عن استنزالِه من رأيهِ بوساطة أبي طالبٍ وشفاعته وحسبكم أي لا تمنعوا من عبادةِ آلهتِكم بالكلِّية فاصبروا علها وتحمَّلوا ما تسمعونَه في حقِّها من القدحِ وسُوءِ القالةِ . وقيل : إنَّ هذا الأمر لشيءٌ يريده الله تعالى ويحكم بإمضائِه وما أرادَ الله كونَه فلا مردَّ له ولا ينفعِ فيه إلاَّ الصَّبرُ ، وقيل : إن هذا الأمرَ لشيءٌ من نوائب الدَّهرِ يُراد بنا فلا انفكاكَ لنا منه وقيل : إنَّ دينَكم لشيءٌ يُراد أي يُطلب ليؤخذَ منكم وتُغلبوا عليه . وقيل : إنَّ هذا الذي يدَّعيهِ من التَّوحيدِ أو يقصدُه من الرِّياسةِ والتَّرفعِ على العرب والعجم لشيءٌ يُتمنَّى ويرُيده كلُّ أحدٍ فتأمَّل في هذه الأقاويلِ واخترْ منها ما يساعدُه النَّطمُ الجليلُ { مَّا سَمِعْنَا بهذا } الذي يقولُه { فِى الملة الاخرة } أي الملَّةِ النَّصرانيةِ التي هي آخرُ الملل فإنَّهم مُثلِّثةٌ أو في الملَّةِ التي أدركنا عليها آباءَنا . ويجوزُ أن يكون الجارُّ والمجرور حالاً من هذا أي ما سمعنا بهذا من أهلِ الكتابِ ولا الكُهَّانِ كائناً في الملَّة المترقبة ولقد كذبُوا في ذلك أقبح كذبٍ فإنَّ حديثَ البعثةِ والتَّوحيدِ كان أشهرَ الأمورِ قبل الظُّهور { إِنَّ هَذَا } أي ما هذا { إِلاَّ اختلاق } أي كذبٌ اختلَقه .(5/465)
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
{ أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر } أي القرآن { مّن بَيْنِنَا } ونحن رؤساءُ النَّاسِ وأشرافُهم كقولهم : { لولا نزِّل هذا القرآنُ على رجلٍ من القريتينِ عظيمٍ } ومرادهم إنكارُ كونه ذكراً منزَّلاً من عند الله عزَّ وجلَّ كقولهم : ( لو كان خيراً ما سبقُونا إليه ) وأمثالُ هذه المقالاتِ الباطلة ودليلٌ على أنَّ مناطَ تكذيبهم ليس إلاَّ الحسدُ وقِصرُ النَّظرِ على الحُطام الدنيويِّ { بْل هُمْ فَى شَكّ مّن ذِكْرِى } أي من القرآنِ أو الوحي لميلهم إلى التَّقليدِ وإعراضِهم عن النَّظرِ في الأدِلَّةِ المؤدِّية إلى العلمِ بحقِّيتِه وليس في عقيدتِهم ما يبتُّون به فهم مذبذبون بين الأوهامِ ينسبونه تارةً إلى السِّحرِ وأخرى إلى الاختلاقِ { بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ } أي بل لم يذوقُوا بعد عذابي فإذا ذاقُوه تبيَّن لهم حقيقةُ الحال ، وفي لمَّا دلالةٌ على أنَّ ذوقَهم على شرف الوقوع والمعنى أنهم لا يصدّقون به حتى يمسَّهم العذاب وقيل لم يذوقوا عذابَى الموعودَ في القرآنِ ولذلك شكُّواً فيه { أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبّكَ العزيز الوهاب } بل أعندهم خزائنُ رحمتِه تعالى يتصرَّفون فيها حسبما يشاءون حتَّى يُصيبوا بها من شاءوا ويُصرفُوها عمَّن شاءوا ويتحكَّموا فيها بمقتضي آرائِهم فيتخيَّروا للنُّبوةِ بعضَ صناديدهم . والمعنى أنَّ النُّبوةَ عطيةٌ من الله عزَّ وجلَّ يتفضَّلُ بها على مَن يشاءُ من عباده المصطَفينَ لا مانع له فإنَّه العزيزُ أي الغالبُ الذي لا يُغالب الوهَّابُ الذي له أنْ يهبَ كلَّ ما يشاءُ لكلِّ مَن يشاءُ . وفي إضافةِ اسم الربِّ المنبىء عن التَّربيةِ والتَّبليغِ إلى الكمال إلى ضميرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من تشريفه واللُّطفِ به ما لا يَخْفى ، وقولُه تعالى : { أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا } ترشيحٌ لما سبق أي بل ألهُم ملكُ هذه العوالمِ العُلويةِ والسُّفليةِ حتَّى يتكلَّموا في الأمورِ الرَّبانيةِ ويتحكَّموا في التَّدابيرِ الإلهيةِ التي يستأثرُ بها ربُّ العزَّةِ والكبرياءِ . وقولُه تعالى :
{ فَلْيَرْتَقُواْ فِى الاسباب } جوابُ شرطٍ محذوفٍ أي إنْ كان لهم ما ذُكر من الملك فليصعدُوا في المعارجِ والمناهج التي يتوصَّلُ بها إلى العرشِ حتَّى يستووا عليه ويدبِّروا أمر العالم ويُنزلوا الوحَي إلى مَن يختارون ويستصوبوُن وفيه من التَّهكُّمِ بهم ما لا غايةَ وراءه . والسَّببُ في الأصل هو الوصلةُ وقيل : المرادُ بالأسبابِ السَّمواتُ لأنَّها أسبابُ الحوادثِ السُّفليةِ وقيل أبوابُها . { جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مّن الاحزاب } أي هم جندٌ ما من الكُفَّارِ المتحزِّبين على الرُّسلِ مهزومٌ مكسورٌ عمَّا قريب فلا تُبالِ بما يقولون ولا تكترثْ بما يهذُون . ومَا مزيدةٌ للتَّقليلِ والتَّحقيرِة نحو قولِك أكلتُ شيئاً ما ، وقيل : للتَّعظيمِ على الهُزءِ . وهنالك إشارةٌ إلى حيثُ وضعُوا فيه أنفسَهم من الانتدابِ لمثل ذلك القولِ العظيمِ .(5/466)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)
وقوله تعالى : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الاوتاد } الخ استئناف مقررٌ لمضمون ما قبله ببيانِ أحوالِ العُتاةِ الطُّغاةِ الذين هؤلاءِ جندٌ ما جنودهم ممَّا فعلوا من التَّكذيبِ وفعل بهم من العقابِ . وذُو الأوتادِ معناه ذُو المُلك الثَّابتَ أصلُه من ثبات البيت المطنَّبِ بأوتادِه فاستُعير لثبات الملكِ ورسوخِ السَّلطنةِ واستقامةِ الأمرِ . قال الأسودُ بن يَعْفُر
وَلَقَد غَنُوا فيها بأَنْعمِ عِيْشة ... فِي ظِلِّ مُلْكٍ ثَابتِ الأَوْتَادِ
أو ذُو الجموع الكثيرةِ وسُمُّوا بذلك لأنَّ بعضَهم يشدُّ بعضاً كالوتدِ يشدُّ البناءَ وقيل : نصبَ أربعَ سوار وكان يمدُّ يَدَيْ المعذَّبِ ورجليه إليه ويضربُ عليها أوتاداً ويتركُه حتَّى يموتَ . وقيل : كان يمدُّه بين أربعةِ أوتادٍ في الأرض ويرسلُ عليه العقاربَ والحيَّاتِ . وقيل : كانت له أوتادٌ وحبالٌ يلعب بها بين يديِه { وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وأصحاب الئيكة } أصحابُ الغَيضةِ من قومِ شُعيبِ عليه السَّلامُ وقوله تعالى : { أُوْلَئِكَ الاحزاب } إمَّا بدلٌ من الطَّوائفِ المذكورة كما أنَّ ذلك الكتابُ بدلٌ من ألم على أحدِ الوجوه وفيه فضلُ تأكيدٍ وتنبيهٌ على أنَّهم الذين جُعل الجندُ المهزومُ منهم وقوله تعالى : { إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل } استئنافٌ جيء به تقريراً لتكذيبِهم وبياناً لكيفَّيتِه وتمهيداً لما يعقُبه أي ما كلُّ أحدٍ من آحادِ أولئكَ الأحزابِ أو ما كلُّ حزبٍ منُهم إلا كذَّبَ الرُّسلَ لأنَّ تكذيبَ واحد منهم تكذيبٌ لهم جميعاً لاتِّفاقِ الكلِّ على الحقِّ . وقيل ما كلُّ حزبٍ إلاَّ كذَّب رسولَه على نهجِ مقابلةِ الجمعِ بالجمعِ ، وأيَّاً ما كان فالاستثناءُ مفرَّغٌ من أعمِّ العام في خبر المبتدأ ، أي ما كلُّ أحدٍ منهم محكوماً عليه بحكم إلا محكومٌ عليه بأنه كذَّب الرُّسلَ وقيل ما كلُّ واحدٍ منهم مُخبَراً عنه بخبرٍ إلا مخَبرٌ عنه بأنَّه كذَّب الرُّسلَ وفي إسناد التَّكذيبِ إلى الطَّوائفِ المذكُورةِ على وجهِ الإبهامِ أوَّلاً والإيذانِ بأنَّ كُلاَّ منهم حزبٌ على حيالِه تحزَّب على رسولِه ثانياً وتبيينِ كيفيةِ تكذيبِهم بالجملةِ الاستثنائيةِ ثالثاً فنونٌ من المبالغة مسجَّلةٌ عليهم باستحقاقِ أشدِّ العذابِ وأفظعِه ولذلك رُتِّب عليه قولُه تعالى : { فَحَقَّ عِقَابِ } أي ثبتَ ووقعَ على كلَ منُهم عقابي الذي كانتْ تُوجبه جناياتُهم من أصنافِ العقوباتِ المفصَّلةِ في مواقَعِها وإما مبتدأٌ . وقوله تعالى : { إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل } خبرُه بحذفِ العائدِ أي إنْ كلٌّ منهم الخ والجملةُ استئنافٌ مقررٌ لما قبله مؤكِّدٌ لمضمونِه مع ما فيه من بيانِ كيفيةِ تكذيبهم والتَّنبيهِ على أنَّهم الذين جُعل الجندُ المهزومُ منهم كما ذُكر وقيل : هو مبتدأٌ وخبرٌ ، والمَعنْى أنَّ الأحزابَ الذين جُعل الجندُ المهزومُ منهم هُم هُم وأنَّهم الذينُ وجد منهم التَّكذيبُ فتدبَّر . وأمَّا ما قيل مِن أنَّه خبرٌ والمبتدأُ قوله تعالى : { وَعَادٌ } الخ أو قوله : { وَقَوْمُ لُوطٍ } الخ فممَّا يجب تنزيُه ساحةِ التَّنزيلِ عن أمثالِه .(5/467)
وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)
{ وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآء } شروعٌ في بيان عقابِ كُفَّارِ مكَّة إثر بيانِ عقابِ أضرابِهم من الأحزابِ الذين أُخبر فيما سبقَ بأنَّهم جندٌ حقيرٌ منهم مهزومٌ عن قريبٍ فإنَّ ذلكَ ممَّا يوجبُ انتظارَ السَّامعِ وترقبه إلي بيانه قطعاً ، وفي الإشارةِ إليهم بهؤلاء تحقيرٌ لشأنِهم وتهوينٌ لأمرِهم ، وأمَّا جعلُه إشارةً إلى الأحزابِ باعتبارِ حضورِهم بحسبِ الذِّكرِ أو حضورِهم في علمِ الله عزَّ وجلَّ فليس في حيِّزِ الاحتمالِ أصلاً كيف لا والانتظار سواءٌ كان حقيقةً أو استهزاءً إنَّما يُتصوَّو في حقِّ من لم يترتب على أعمالِه نتائَجُها بعْد ، وبعدَ ما بيّن عقابُ الأحزابِ واستئصالُهم بالمرَّةِ لم يبقَ ممَّا أُريد بيانُه من عقوباتهم أمرٌ منتظرٌ وإنَّما الذين في مرصدِ الأنتظارِ كفَّارُ مكَّةَ حيث ارتكبُوا من عظائمِ الجرائم وكبائرِ الجرائرِ الموجبة لأشدِّ العقوباتِ مثلَ ما ارتكب الأحزابُ أو أشدَّ منه ولمَّا يلاقوا بعد شيئاً من غوائلِها أي وما ينتظُر هؤلاءِ الكَفَرةُ الذين هم أمثالُ أولئك الطَّوائفِ المهلكة في الكُفرِ والتَّكذيبِ { إِلاَّ صَيْحَةً واحدة } هي النَّفخةُ الثَّانيةُ لا بمعني أنَّ عقابهم نفسُها بما فيها من الشِّدَّةِ والهَوْلِ فإنَّها داهيةٌ يعمُّ هولُها جميعَ الأُممِ برَّهاً وفاجرِها بل بمعنى أنَّه ليس بينهم وبين حلولِ ما أُعدَّ لهم من العقاب الفظيعِ إلاَّ هي حيثُ أُخِّرتْ عقوبتُهم إلى الآخرةِ لما أنَّ تعذيبَهم بالاستئصال حسبما يستحقُّونه . والنَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بين أظهرهم خارجٌ عن السُّنَّةِ الإلهيَّةِ المبنية على الحكم الباهرةِ كما نطقَ به قولُه تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } وأمَّا ما قيل : مِن أنَّها النَّفخةُ الأَولى فممَّا لا وجهَ له أصلاً لما أنَّه لا يشاهدُ هولَها ولا يُصعقُ بها إلاَّ من كانَ حيَّاً عند وقوعِها وليس عقابُهم الموعودُ واقعاً عقيبها ولا العذابُ المطَلقُ مؤخَّراً إليها بل يحلُّ بهم من حينِ موتِهم { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } أي من توقُّفٍ مقدار فَوَاقٍ وهو ما بين الحَلْبتينِ . وقُرىء بضمِّ الفاءِ وهُما لغتانِ . وقولُه تعالى : { وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب } حكاية لما قالُوه عند سماعِهم بتأخير عقابهم إلى الآخرةِ أي قالوا بطريق الاستهزاء والسُّخريةِ عجِّل لنا قطَّناً من العذابِ الذي تُوعدنا به ولا تؤخره إلى يومِ الحسابِ الذي مبدؤه الصَّيحةُ المذكورةُ . والقطُّ : القطعةُ من الشَّيءِ من قطَّه إذا قطَعه ، ويقالُ لصحيفةِ الجائزةِ قطٌّ لأنَّها قطعةٌ من القرطاسِ ، وقد فسِّر بها أي عجِّل لنا صحيفةَ أعمالِنا لننظرَ فيها . وقيل ذكرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعدَ الله تعالى المؤمنينَ الجنَّة فَقالُوا على سبيلِ الهُزءِ به عجِّلْ لنا نصيبنَا منها . وتصديرُ دُعائِهم بالنِّداءِ المذكورِ للإمعانِ في الاستهزاءِ كأنَّهم يدعُون ذلك بكمالِ الرَّغبةِ والابتهالِ .
{ اصبر على مَا يَقُولُونَ } من أمثالِ هذه المقالاتِ الباطلةِ { واذكر } لهم { عَبْدَنَا دَاوُودُ } أي قصَّته تهويلاً لأمرِ المعصيةِ في أعينهم وتنبيهاً لهم على كمالِ قُبح ما اجترؤُا عليه من المَعاصي فإنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع علوِّ شأنِه واختصاصِه بعظائمِ النِّعمِ والكراماتِ لمَّا ألمَّ بصغيرةٍ نزلَ عن منزلتِه ووبَّخْته الملائكةُ بالتَّمثيلِ والتَّعريضِ حتَّى تفطَّنَ فاستغفرَ ربَّه وأنابَ ووُجد منه ما يُحكى من بكائِه الدَّائبِ وغمِّه الواصبِ وندمِه الدَّائمِ فما الظنُّ بهؤلاءِ الكَفَرةِ والأذلِّينَ من كلِّ ذليلٍ المرتكبينَ لأكبرِ الكبائرِ المصرِّين على أعظمِ المَعَاصي أو تذكَّر قصَّته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وصُنْ نفسَك أنْ تزلَّ فيما كُلِّفت من مصابرتِهم وتحمُّلِ أذيَّتهم كيلا يلقاكَ ما لقيه من المعاتبةِ { ذَا الايد } أي ذَا الُقوَّة يقال فلانٌ أيدٌ وذُو أيدٍ وآدٌ بمعنى ، وإيادُ كلِّ شيءٍ ما يُتقوَّى بهِ { إِنَّهُ أَوَّابٌ } رجَّاعٌ إلى مرضاةِ الله تعالى وهو تعليلٌ لكونِه ذَا الأيدِ ودليلٌ على أنَّ المرادَ به القَّوةُ في الدِّينِ فإنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان يصومُ يوماً ويفطرُ يوماً ويقوم نصفَ اللَّيلِ .(5/468)
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
{ إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ } استئنافٌ سيقَ لتعليلِ قوَّتِه في الدِّينِ وأوابيَّتِه إلى مرضاتِه تعالى ومع متعلقة بالتَّسخيرِ ، وإيثارُها على اللامِ لما أُشير إليه في سورةِ الأنبياءِ من أنَّ تسخيرَ الجبال له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم يكن بطريقِ تفويضِ التَّصرُّفِ الكلِّي فيها إليهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كتسخيرِ الرِّيحِ وغيرِها لسليمانَ عليه السَّلامُ بل بطريقِ التَّبعيةِ له عليه الصلاَّةُ والسَّلامُ والاقتداء به في عبادةِ الله تعالى . وقيل : بما بعدَها وهو أقربُ بالنسبةِ إلى ما في سورة الأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ { يُسَبّحْنَ } أي يُقدسن الله عزَّ وجلَّ بصوتٍ يتمثلُ له أو بخلقِ الله تعالى فيها الكلامَ أو بلسانِ الحالِ وقيل : يسرن معه من السِّباحةِ وهو حالٌ من الجبالِ وضع موضعَ مُسبِّحات للدِّلالةِ على تجدُّدِ التَّسبيحِ حالاً بعد حالٍ أو استئنافٌ مبينٌ لكيفَّيةِ التَّسخيرِ { بالعشى والإشراق } أي وقتَ الإشراقِ وهو حين تشرقُ الشَّمسُ أي تُضيء ويصفُو شعاعُها وهو وقت الضُّحى وأما شروقُها فطلُوعها يقال شرقتِ الشَّمسُ ولمَّا تشرقُ . وعن أمِّ هانىءٍ رضي الله عنها أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ صلَّى صلاة الضحى وقالَ : هذهِ الإشراقُ . وعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهُمَا : ما عرفتُ صلاةَ الضُّحى إلاَّ بهذِه الآيةِ .
{ والطير } عطفٌ على الجبالَ { مَحْشُورَةً } حالٌ من الطَّيرَ والعاملُ سخَّرنا أي وسخَّرنا الطَّيرَ حالَ كونِها محشورةٌ عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما كانَ إذا سبَّح جاوبْتُه الجبالُ بالتَّسبيحِ واجتمعتْ إليه الطَّيرُ فسبَّحتْ وذلك حشرُها . وقُرىء والطَّيرَ محشُورةً بالرَّفعِ على الابتداءِ والخبريةِ { كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } استئنافٌ مقررٌ لمضمون ما قبله مصرِّح بما فُهم منه إجمالاً من تسبيحِ الطَّيرِ أي كلُّ واحدٍ من الجبالِ والطَّيرِ لأجلِ تسبيحِه رجَّاعٌ إلى التَّسبيحِ ووضعُ الأوَّابِ موضعَ المسبِّحِ إمَّا لأنَّها كانتْ ترجِّع التَّسبيحَ والمرجِّعُ رجَّاعٌ لأنَّه يَرْجِعُ إلى فعله رجوعاً بعد رجوعٍ ، وإمَّا لأنَّ الأوَّابَ هو التَّوابُ الكثيرُ الرجوعِ إلى الله تعالى ، ومن دأبه إكثارُ الذِّكرِ وإدامُة التَّسبيحِ والتَّقديسِ وقيل الضَّميرُ لله عزَّ وجلَّ أي كلٌّ من داودَ والجبالِ والطَّيرِ لله أوابٌ أي مسبِّحٌ مرجِّعٌ للتَّسبيحِ { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } قوَّيناهُ بالهَيبةِ والنُّصرةِ وكثرةِ الجنودِ . وقُرىء بالتَّشديدِ للمبالغة قيل : كان يبيتُ حول محرابِه أربعون ألفَ مستلئمٍ وقيل : ادَّعى رجلٌ على آخرَ بقرةً وعجزَ عن إقامةِ البيِّنةِ فأوحى الله تعالى إليه في المنامِ أنِ اقتل المدَّعى عليهِ فتأخَّر فأُعيد الوحيُ في اليقظةِ فأعلَمه الرَّجلُ فقال : إنَّ الله تعالى لَمْ يأخذْنِي بهذا الذَّنبِ ولكنْ بأنِّي قتلتُ أبا هَذا غيلةً فقال النَّاسُ : إنْ أذنبَ أحدٌ ذنباً أظهرَهُ الله تعالى عليه فقتلَه فهابُوه وعظمتْ هيبتُه في القلوبِ { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ } النُّبوةَ وكمالَ العلمِ وإتقانَ العملِ وقيل : الزَّبورَ وعلمَ الشَّرائعِ وقيل : كلُّ كلامٍ وافقَ الحقَّ فهو حكمةٌ { وَفَصْلَ الخطاب } أي فصل الخصام بتمييزِ الحقِّ عن الباطل أو الكلامَ المُلخَّصَ الذي ينبه المخاطَب على المرامِ من غير التباس لما قد رُوعي فيه مظانُّ الفصل والوصل والعطفِ والاستئنافِ والإظهارِ والإضمارِ والحذفِ والتَّكرارِ ، وإنَّما سُمِّي به أمَّا بعدُ لأنَّه يفصل المقصودَ عمَّا سبق تمهيداً له كالحمدِ والصَّلاةِ وقيل : هو الخطابُ الفصلُ الذي ليس فيه إيجازٌ يخلُّ ولا إطنابٌ مُملٌّ كما جاء في نعت كلام النُّبوةِ فَصْلٌ لا نَزْر ولا هَذْر .(5/469)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)
{ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الخصم } استفهامٌ معناه التَّعجيبُ والتَّشويقُ إلى استماع ما في حيِّزهِ لإيذانه بأنَّه من الأنباء البديعة التي حقُّها أنْ تشيعَ فيما بين كلِّ حاضرٍ وبادٍ . والخَصمُ في الأصل مصدرٌ ولذلك يُطلق على الواحدِ وما فوقه كالضَّيفِ ، ومعنى خصمانِ فريقانِ { إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب } إذا تصعدوا سورَه ونزلُوا إليه . والسُّورُ الحائطُ المرتفعُ ونظيرُه تسنَّمه إذا علا سنامَهُ وتذرَّاهُ إذا علا ذِرْوَتُه . وإذْ متعلِّقةٌ بمحذوفٍ أي نبأ تحاكم الخصم إذْ تسوَّروا أو بالنبأ على أنَّ المرادَ به الواقع في عهد داودَ عليه السَّلامُ وأنَّ إسنادَ الإتيان إليه على حذف مضافٍ أي قصَّةً نبأ الخصم أو بالخصم لما فيه من معنى الخُصومةِ لا بأتى لأنَّ إتيانَه الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم لم يكن حينئذٍ وقوله تعالى : { إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودَ } بدلٌ ممَّا قبله أو ظرف لتسوَّروا { فَفَزِعَ مِنْهُمْ } رُوي أنَّه تعالى بعثَ إليه مَلكين في صورة إنسانينِ قيل : هما جبريلُ وميكائيلُ عليهما السَّلامُ فطلبا أنْ يدخلا عليه فوجداهُ في يوم عبادته فمنعهُما الحَرَسُ فتسوَّروا عليه المحراب بمن معهُما من الملائكةِ فلم يشعرْ إلاَّ وهُما بين يديه جالسانِ ففزِع منهم لأنَّهم نزلُوا عليه من فوق على خلافِ العادةِ والحَرَسُ حوله في غير يوم الحُكومةِ والقضاء . قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : إنَّ داودَ عليه السَّلامُ جزَّأ زمانَه أربعةَ أجزاءٍ يوماً للعبادة ويوماً للقضاء ويوماً للاشتغال بخاصَّةِ نفسه ويوماً للوعظ والتَّذكيرِ . { قَالُواْ } استئناق وقع جواباً عن سؤالٍ نشأ من حكايةِ فزعِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ، وكأنَّه قيل : فماذا قالتِ الملائكةُ عند مشاهدتِهم لفزعِه ، فقيل قالوا إزالةً لفزعِه { لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ } أي نحنُ فوجانِ متخاصمانِ على تسمية مصاحب الخصم خَصْماً { بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ } هو على الفرض وقصد التَّعريضِ فلا كذبَ فيه { فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ } أي لا تجُر في الحُكومةِ وقرىء ولا تشطُطْ أي لا تبعُد عن الحقِّ وقرىء ولا تشطّط ولا تشاطِطْ وكلُّها من معنى الشَّططِ وهو مجاوزةُ الحدِّ وتخطِّي الحقِّ { واهدنا إلى سَوَاء الصراط } إلى وسطِ طريقِ الحقِّ بزجر الباغي عمَّا سلكه من طريق الجَوْرِ وإرشاده إلى منهاجِ العدلِ .(5/470)
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)
{ إِنَّ هَذَا أَخِى } استئنافٌ لبيان ما فيه الخُصومة أي أخي في الدِّينِ أو في الصُّحبةِ ، والتَّعرُّضُ لذلك تمهيدٌ لبيان كمال قبحِ ما فعل به صاحبُه { لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِى نَعْجَةٌ واحدة } هي الأُنْثى من الضَّأْنِ وقد يُكنى بها عن المرأةِ والكنايةُ والتَّعريضُ أبلغُ في المقصودِ . وقُرىء تَسعٌ وتَسعونَ بفتحِ التَّاءِ ونعِجة بكسر النُّونِ . وقُرىء وليْ نعجةٌ بسكونِ الياءِ . { فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا } أي ملِّكنْيِها ، وحقيقتُه اجعلِني أكفُلُها كما أكفلُ ما تحتَ يدي ، وقيل : اجعلْها كِفْلي أي نَصيبي . { وَعَزَّنِى فِى الخطاب } أي غلبنِي في مخاطبتِه إيَّاي محاجَّةً بأنْ جاء بحجاجٍ لم أقدرْ على ردِّه في مغالبته إيَّاي . أو في الخِطبةِ يقال خَطَبتُ المرأةَ وخَطبها هو فخاطبني خِطاباً أي غالبني في الخِطبة فغلبنِي حيثُ زُوِّجها دُوني . وقُرىء وعازَّني أي غالبني وعَزَنِي بتخفيف الزَّاي طلباً للخفَّةِ ، وهو تخفيفٌ غريبٌ كأنَّه قيسَ على ظِلْتُ ومِسْتُ { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ } جوابُ قسمٍ محذوفٍ قصد به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ المبالغةَ في إنكار فعل صاحبه وتهجِينَ طمعِه في نعجةِ من ليس له غيرُها مع أنَّ له قطيعاً منها ولعلَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قال ذلك اعترافِ صاحبهِ بما ادَّعاه عليه ، أو بناهُ على تقدير صدقِ المدَّعِي . والسُّؤالُ مصدرٌ مضافٍ إلى مفعولِه ، وتعديتُه إلى مفعولٍ آخرَ بإلى لتضمُّنه معنى الإضافةِ والضمِّ . { وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الخلطاء } أي الشُّركاءِ الذين خلطُوا أموالَهم { لَيَبْغِى } ليتعدَّى . وقُرىء بفتح الياء على تقدير النُّون الخفيفةِ وحذفها وبحذف الياءِ اكتفاءً بالكسرةِ { بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } غير مراعٍ لحقِّ الصُّحبةِ والشِّركةِ . { إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } منهم فإنَّهم يتحامَون عن البغي والعُدوانِ { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } أي وهم قليلٌ وما مزيدةٌ للإبهام والتَّعجبِ من قلَّتِهم ، والجملةُ اعتراضٌ { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فتناه } الظنُّ مستعارٌ للعلمِ الاستدلاليِّ لما بينهما من المشابهةِ الظَّاهرةِ أي عَلِمَ بما جرى في مجلس الحُكومةِ . وقيل : لما قَضَى بينهما نظرَ أحدُهما إلى صاحبِه فضحكَ ثم صعدَا إلى السَّماءِ حيال وجهِه فعلم عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّه تعالى ابتلاهُ . وليس المعنى على تخصيص الفتنةِ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ دون غيرِه بتوجيِه القصرِ المُستفادِ من كلمة إنَّما إلى المفعول بالقياس إلى مفعولٍ آخرَ كما هو الاستعمالُ الشَّائعُ الوارد على توجيِه القصرِ إلى متعلِّقات الفعلِ وقيوده باعتبار النَّفي فيه والإثباتِ فيها كما في مثلِ قولِك إنَّما ضربتُ زيداً وإنَّما ضربته تأديباً بل على تخصيص حالِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالفتنةِ بتوجيه القصر إلى نفسِ الفعلِ بالقياس إلى ما يُغايره من الأفعالِ لكن لا باعتبار النَّفي والإثبات معاً في خُصوصية الفعل فإنَّه غيرُ ممكنٍ قطعاً بل باعتبار النَّفي فيما فيه من معنى مُطلقِ الفعلِ واعتبار الإثبات فيما يقارنه من المعنى المخصُوص فإنَّ كلَّ فعلٍ من الأفعال المخصُوصة ينحلُّ عند التَّحقيقِ إلى معنى مطلقٍ هو مدلولُ لفظِ الفعلِ وإلى معنى مخصُوص يُقارنه ويقيِّده وهو أثرُه في الحقيقةِ فإنَّ معنى نَصَر مثلاً فعلَ النَّصرَ يُرشدك إلى ذلك قولُهم معنى فلان يُعطي ويَمنعُ : يفعلُ الإعطاءَ والمنعَ فموردُ القصرِ في الحقيقةِ ما يتعلَّق بالفعلِ باعتبار النَّفي فيه والإثبات فيما يتعلَّق به ، فالمعنى : وعلَم داودُ عليه السَّلامُ أنَّما فعلنا به الفتنةَ لا غيرَ .(5/471)
قيل : ابتليناهُ بأمرأةِ أُوريَّاً وقيل : امتحناهُ بتلك الحكومةِ هل يتنبه بها لما قُصد منها . وإيثارُ طريقِ التَّميلِ لأنَّه أبلغُ في التَّوبيخِ فإنَّ التَّأملَ فيه إذا أدَّاه إلى الشُّعورِ بما هو الغرضُ كانَ أوقعَ في نفسِه وأعظمَ تأثيراً في قلبهِ وأدعى إلى التَّنبه للخطأ مع ما فيه من مراعاةِ حُرمتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بتركِ المُجاهرة والإشعار بأنَّه أمرٌ يُستحى من التَّصريحِ به وتصويُرِه بصُورة التَّحاكُم لإلجائِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى التَّصريحِ بنسبة نفسِه إلى الظُّلم وتنبيهه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على أنَّ أُوريَّاً بصددِ الخصامِ .
{ فاستغفر رَبَّهُ } إثرَ ما علمَ أنَّ ما صدرَ عنه ذنبٌ { وَخَرَّ رَاكِعاً } أي ساجداً على تسمية السجودِ ركوعاً لأنَّه مبدؤُه أو خرَّ للسُّجودِ راكعاً أي مُصلِّياً كأنَّه أحرم بركعتي الاستغفارِ { وَأَنَابَ } أي رجع إلى الله تعالى بالتَّوبةِ . وأصلُ القصَّة أنَّ داودَ عليه السَّلامُ رأى امرأةَ رجلٍ يقال له أُوريَّا فمال قلبُه إليها فسأله أنْ يطلِّقها فاستحيى أنْ يردَّه ففعلَ فتزوَّجها وهي أمُ سليمانَ عليه السَّلامُ وكان ذلك جَائزاً في شريعتِه مُعتاداً فيما بين أمَّتهِ غيرَ مخلَ بالمروءة حيثُ كان يسأل بعضُهم بعضاً أنْ ينزلَ له عن امرأتِه فيتزوَّجها إذا أعجبته . وقد كان الأنصارُ في صدر الإسلامِ يُواسون المهاجرين بمثلِ ذلك من غيرِ نكيرٍ خلا أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لعظم منزلتِه وارتفاع مرتبتِه وعلوِّ شأنه نُبِّه بالتَّمثيل على أنَّه لم يكنْ ينبغي له أنْ يتَعَاطى ما يتعاطاه آحادُ أمَّتهِ ويسألَ رجلاً ليس له إلاَّ امرأةٌ واحدة أنْ ينزلَ عنها فيتزوَّجها مع كثرة نسائه بل كان يجبُ عليه أنْ يغالبَ هواهُ ويقهرَ نفسَه ويصبرَ على ما امتُحن به . وقيل : لم يكن أوريَّا تزوَّجها بل كان خطَبها ثمَّ خطبها داودُ عليه السَّلامُ فآثر عليه السَّلام أهلها فكان ذنبُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ خطبَ على خِطبةِ أخيه المسلمِ . هذا وأمَّا ما يُذكر من أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ دخلَ ذاتَ يومٍ محرابَه وأغلق بابَه وجعل يُصلِّي ويقرأُ الزَّبورَ فبينما هو كذلك إذْ جاءَه الشَّيطانُ في صورةِ حمامةٍ من ذهبٍ فمدَّ يده ليأخذَها لابنٍ صغيرٍ له فطارتْ فامتدَّ إليها فطارتْ فوقعت في كُوَّةٍ فتبعها فأبصر امرأةً جميلةً قد نقضت شعرها فغطَّى بدنها وهي امرأةُ أُوريَّا وهو من غُزاة البلقاءِ فكتب إلى أيُّوبَ بن صُوريا وهو صاحبُ بعثِ البلقاءِ أنِ أبعثْ أُوريَّا وقدِّمُه على التَّابوتِ وكان من يتقدَّم على التَّابوتِ لا يحلُّ له أنْ يرجعَ حتَّى يفتحَ الله علي يديِه أو يُستشهدَ ففتح الله تعالى على يدِه وسلَم فأمرَ بردِّه مرةً أُخرى وثالثةً حتَّى قُتل وأتاه خبرُ قتلِه فلم يحزنْ كما كان يحزنُ على الشهداء وتزوَّج امرأتَه فإفكٌ مبتَدعٌ مكروهٌ ومكرٌ مخترعٌ بئسما مكروه تمجُّه الأسماعُ وتنفرُ عنه الطِّباعُ ويلٌ لمن ابتدعَه وأشاعَه وتبَّاً لَمن اخترعه وأذاعَه ، ولذلك قال عليٌّ رضي الله عنه : مَن حدَّثَ بحديثِ داودَ عليه السَّلامُ على ما يرويهِ القُصَّاصُ جلدتُه مائةً وستِّين وذلك حدُّ الفريةِ على الأنبياءِ صلواتُ الله تعالى وسلامُه عليهم .(5/472)
هذا وقد قيلَ إنَّ قوماً قصُدوا أنْ يقتلُوه عليه الصَّلاة والسَّلام فتسوّروا المحرابَ ودخلوا عليه فوجدُوا عنده أقواماً فتصنَّعوا بهذا التَّحاكمِ فعلم عليه الصَّلاة والسَّلام غرضَهم فهمَّ بأنْ ينتقمَ منهمِ فظنَّ أنَّ ذلك ابتلاءٌ له من الله عزَّ وجلَّ فاستغفرَ ربَّه ممَّا همَّ به وأنابَ .(5/473)
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)
{ فَغَفَرْنَا لَهُ ذلك } أي ما استغفرَ منه . ورُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بقي ساجداً أربعينَ يوماً وليلةً لا يرفعُ رأسَه إلا لصلاةٍ مكتوبةٍ أو لما لا بُدَّ منه ولا يرقأُ دمعُه حتَّى نبتَ منه العشبُ إلى رأسه ولم يشرب ماء إلا ثلثاه دمعٌ وجهد نفسَه راغباً إلى الله تعالى في العفوِ عنه حتَّى كادَ يهلك واشتغل بذلك عن المُلكِ حتَّى وثبَ ابنٌ له يقال له إيشا على ملكِه ودعا إلى نفسِه فاجتمع إليه أهلُ الزَّيغِ من بني إسرائيلَ فلمَّا غُفر له حاربَه فهزمَه { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى } لقُربةٍ وكرامة بعد المغفرة { وَحُسْنُ مَئَابٍ } حسنَ مرجعٍ في الجنَّةِ .
{ ياداوود إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً فِى الارض } إمَّا حكاية لمَّا خُوطب به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مبينة لزُلفاه عنده عزَّ وجلَّ وإمَّا مقولُ قولٍ مقدَّرٍ هو معطوف على غفرنا ، أو حالٌ من فاعله أو وقُلنا له أو قائلين له يا داودُ الخ أي استخلفناك على المُلك فيها والحكمِ فيما بينَ أهِلها أو جعلناك خليفةً ممَّن كان قبلك من الأنبياء القائمينَ بالحقِّ وفيه دليلٌ بيِّنٌ على أنَّ حالهَ عليه الصَّلاة والسَّلام بعد التَّوبةِ كما كانت قبلها لم تتغيَّرْ قَط .
{ فاحكم بَيْنَ الناس بالحق } بحكم الله تعالى فإنَّ الخلافةَ بكلا معنييه مقتضيةٌ له حتماً { وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى } أي هوى النفس في الحكومات وغيرها من أمور الدِّين والدُّنيا { فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله } بالنَّصبِ على أنَّه جوابُ النَّهي . وقيل : هو مجزومٌ بالعطفِ على النَّهيِ مفتوحٌ لالقتاءِ السَّاكنينِ أي فيكون الهوى أو اتِّباعُه سبباً لضلالِك عن دلائلِه التي نصبها على الحقِّ تكويناً وتَشريعاً . وقوله تعالى : { إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله } تعليلٌ لما قبله ببيانِ غائلتِه وإظهار سبيلِ الله في موقعِ الإضمارِ لزيادة التَّقريرِ والإيذانِ بكمال شناعةِ الضَّلالِ عنه { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } جملة من خبرٍ ومبتدأٍ وقعت خبراً لأنَّ أو الظَّرفُ خبراً لأنَّ وعذابٌ مرتفع على الفاعليةِ بما فيه من معنى الاستقرارِ . { بِمَا نَسُواْ } بسبب نسيانِهم وقوله تعالى : { يَوْمِ الحساب } إما مفعولٌ لنسُوا فيكون تعليلاً صريحاً لثبوت العذابِ الشَّديدِ لهم بنسيان يوم الحسابِ بعد الإشعارِ بعلِّيةِ ما يستتبُعه ويستلزمه أعني الضَّلالَ عن سبيل الله تعالى فإنَّه مستلزمٌ لنسيانِ يوم الحساب بالمرَّةِ بل هذا فردٌ من أفرادِه أو ظرفٌ لقوله تعالى : لهم أي لهُم عذابٌ شديدٌ يومَ القيامةِ بسببِ نسيانِهم الذي هو عبارةٌ عن ضلالِهم ، ومن ضرورتِه أن يكون مفعولُه سبيلِ الله فيكون التَّعليلُ المصرح به حينئذٍ عينَ التَّعليلِ المشعر به بالذَّاتِ غيره بالعُنوان ومَن لم يتنبه لهذا السرِّ السريِّ قال بسبب نسيانِهم وهو ضلالُهم عن السَّبيلِ فإنَّ تذكَّره يقتضي ملازمةَ الحقِّ ومخالفةَ الهَوَى فتدبَّر .(5/474)
{ وَمَا خَلَقْنَا السماء والارض وَمَا بَيْنَهُمَا باطلا } كلامٌ مستأنفٌ مقررٌ لما قبله من أمرِ البعثِ والحسابِ والجزاءِ وما خلقناهُما وما بينهما من المخلوقاتِ على هذا النِّظامِ البديعِ الذي تحارُ في فهمِه العقولُ خلقاً باطلاً أي خالياً عن الغايةِ الجليلةِ والحكمةِ الباهرةِ بل منطوياً على الحقِّ المُبين والحِكم البالغةِ حيثُ خلقنا من بينِ ما خلقنا نُفوساً أودعناها العقلَ والتَّمييزَ بين الحقِّ والباطلِ والنَّافعِ والضَّارِّ ومكنَّاها من التَّصرفاتِ العلميةِ والعمليةِ في استجلابِ منافعِها واستدفاعِ مضارِّها ونصبنا للحقِّ دلائلَ آفاقيةً وأنفسيةً ومنحناها القُدرةَ على الاستشهادِ بها ثم لم نقتصرْ على ذلك المقدارِ من الألطافِ بل أرسلنا إليها رُسلاً وأنزلنا عليها كُتباً بيّنّا فيها كلَّ دقيقٍ وجليلٍ وأزحنا عللَها بالكلِّية وعرضناها بالتكليف للمنافع العظيمةِ وأعددنا لها عاقبةً وجزاءً على حسب أعمالِها { ذلك } إشارةٌ إلى ما نُفي من خلقِ ما ذُكر باطلاً { ظَنُّ الذين كَفَرُواْ } أي مظنونهم فإنَّ جحودَهم بأمرِ البعثِ والجزاءِ الذي عليه يدورُ فلكُ تكوينِ العالمِ قولٌ منهم ببطلانِ خلقِ ما ذُكر وخلوِّه عن الحكمةِ سبحانَهُ وتعالى عمَّا يقولون علوّاً كبيراً . { فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } مبتدأٌ وخبرٌ والفاءُ لإفادةِ ترتُّبِ ثبوتِ الويلِ لهم على ظنِّهم الباطلِ كما أنَّ وضع الموصولِ موضعَ ضميرهم للإشعارِ بما في خيِّز الصِّلةِ بعلية كفرهم له ، ولا تنافى بينهما لأنَّ ظنَّهم من باب كُفرِهم . ومِن في قوله تعالى : { مِنَ النار } تعليليةٌ كما في قوله تعالى : { فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } ونظائرِه ، ومفيدةٌ لعليَّةِ النَّار لثبوتِ الويلِ لهم صَريحاً بعد الإشعارِ بعليةِ ما يُؤدِّي إليها من ظنِّهم وكفرِهم أي فويلٌ لهم بسببِ النَّارِ المترتِّبةِ على ظنِّهم وكفرِهم .(5/475)
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
{ أَمْ نَجْعَلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِى الارض } أم منقطعةً ، وما فيها من بلْ للإضرابِ الانتقاليِّ عن تقرير أمر البعثِ والحسابِ والجزاء بما مرَّ من نفيِ خلقِ العالم خالياً عن الحكمِ والمصالحِ إلى تقريرِه وتحقيقِه بما في الهمزةِ من إنكار التَّسويةِ بين الفريقينِ ونفيها على أبلغِ وجهٍ وآكدِه أي بل أنجعلُ المؤمنينَ المُصلحينَ كالكَفَرةِ المُفسدين في أقطارِ الأرضِ كما يقتضيه عدمُ البعثِ وما يترتَّبُ عليه من الجزاءِ لاستواء الفريقين في التَّمتع بالحياةِ الدُّنيا بل الكَفَرةُ أوفرُ حظَّاً منها من المؤمنينَ لكن ذلك الجعلُ محالٌ فتعيَّن البعثُ والجزاءُ حتماً لرفع الأوَّلينَ إلى أعلى عِلِّييِّنَ وردِّ الآخرينَ إلى أسفلِ سافلينَ . وقوله تعالى : { أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار } إضرابٌ وانتقالٌ عن إثبات ما ذُكر بلزوم المحالِ الذي هو التَّسويةُ بين الفريقينِ المذكُورينِ على الإطلاقِ إلى إثباتِه بلزومِ ما هو أظهرُ منه استحالةً وهو التَّسويةُ بين أتقياءِ المؤمنينَ وأشقياءِ الكَفَرةِ وحملُ الفُجَّار على فَجَرةِ المُؤمنين ممَّا لا يساعدُه المقامُ ويجوزُ أنْ يرادَ بهذينِ الفريقينِ عينُ الأوَّلينِ ويكون التَّكريرُ باعتبارِ وصفينِ آخرينِ هما أدخلُ في إنكار التَّسوية من الوصفينِ الأوَّلين وقيل قال كفَّارُ قُريشٍ للمؤمنين : إنَّا نُعطَى في الآخرةِ من الخيرِ ما تُعطَون فنزلتْ . { كِتَابٌ } خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ هو عبارةٌ عن القُرآن أو السُّورةِ . وقولُه تعالى : { أنزلناه إِلَيْكَ } صفتُه . وقوله تعالى : { مُّبَارَكٌ } خبرٌ ثانٍ للمتدأِ أو صفةٌ لكتابٌ عند مَن يُجوِّز تأخيرَ الوصفِ الصَّريحِ عن غيرِ الصَّريحِ . وقُرىء مباركاً على أنَّه حالٌ من مفعولِ أنزلنا ومعنى المبارك الكثيرُ المنافعِ الدِّينيةِ والدُّنيويةِ . وقولُه تعالى : { لّيَدَّبَّرُواْ ءاياته } متعلِّقٌ بأنزلناه أي أنزلنَاهُ ليتفكَّروا في آياتِه التي من جُملتها هذه الآياتُ المعربةُ عن أسرارِ التَّكوينِ والتَّشريعِ فيعرفُوا ما يدبر ظاهرها من المعانِي الفائقةِ والتَّأويلاتِ اللائقةِ وقرىء ليتدَّبروا على الأصل ولتدبَّروا على الخطابِ أي أنتَ وعلماءُ أمَّتك بحذفِ إحدى التَّاءينِ { وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الالباب } أي وليتَّعظ به ذَوُو العقولِ السَّلميةِ أو ليستحضرُوا ما هو كالمركوزِ في عقولِهم من فرطِ تمكُّنهم من معرفتِه لما نُصبِ عليه من الدَّلائلِ فإنَّ الكتبَ الإلهيةَ مبيِّنةٌ لما لا يُعرف إلا بالشَّرعِ ومرشدةٌ إلى ما لا سبيلَ للعقلِ إليه .(5/476)
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)
{ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سليمان نِعْمَ العبد } وقُرىء نعم العبدُ أي سليمانُ كما ينبىءُ عنه تأخيرُه عن داودَ مع كونِه مفعولاً صريحاً لوهبنا ولأنَّ قوله تعالى : { إِنَّهُ أَوَّابٌ } أي رجَّاع إلى الله تعالى بالتَّوبة أو إلى التَّسبيح مرجع له تعليلٌ للمدح وهو من حاله لما أنَّ الضَّميرَ المجرورَ في قوله تعالى : { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ } راجع إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قطعاً وإذْ منصوبٌ باذكُر أي اذكُر ما صدرَ عنه إذْ عُرضَ عليه { بالعشى } هو من الظُّهرِ إلى آخرِ النَّهارِ { الصافنات } فإنَّه يشهدُ بأنَّه أوَّاب وقيل : لنعِم وتأخيرُ الصَّافنات عن الظَّرفينِ لما مرَّ مراراً من التَّشويقِ إلى المؤخَّرِ . والصَّافنُ من الخيلِ : الذي يقومُ على طَرَفِ سُنبكِ يدٍ أو رجلٍ ، وهو من الصِّفاتِ المحمودةِ في الخيلِ لا يكادُ يتَّفقُ إلا في العِراب الخُلَّصِ ، وقيل : هو الذي يجمعُ يديهِ ويسوِّيهما . وأمَّا الذي يقفُ على سنبكهِ فهو المنخيم { الجياد } جمعُ جوادٍ وجودٍ وهو الذي يُسرع في جريِه وقيل : الذي يجودُ عند الرَّكضِ ، وقيل : وُصفتْ بالصُّفون والجَودةِ لبيان جمعها بين الوصفينِ المحمودينِ واقفةً وجاريةً أي إذا وقفتْ كانتْ ساكنةً مطمئنة في مواقفها وإذا جرتْ كانت سِراعاً خِفافاً في جَريها . وقيل : هو جمعُ جيِّد . رُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسلام غَزَا أهلَ دمشقَ ونصيبين وأصابَ ألفَ فرسٍ وقيل : أصابها أبُوه من العمالقةِ فورثها منه وقيل : خرجتْ من البحرِ لها أجنحةٌ فقعد يوماً بعد ما صلَّى الظُّهر على كرسيِّه فاستعرضَها فلم تزلْ تُعرض عليه حتَّى غربتِ الشَّمسُ وغفلَ عن العصرِ أو عن وِردٍ كان له من الذِّكرِ وقتئذٍ وتهيَّبُوه فلم يعلموه فاغتمَّ لما فاتَه فاستردَّها فعقَرها تقرباً لله تعالى وبقي مائةٌ فما في أيدي النَّاسِ من الجياد فمن نسلها وقيل : لمَّا عقرَها أبدلَه الله خيراً منها وهي الرِّيحُ تجري بأمره . { فَقَالَ إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِى } قاله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عند غروب الشَّمسِ اعترافاً بما صدرَ عنه من الاشتغالِ بها عن الصَّلاةِ وندماً عليه وتمهيداً لما يعقبُه من الأمر بردِّها وعقرِها ، والتَّعقيب باعتبار أواخرِ العرض المستمرِّ دون ابتدائِه والتَّأكيدُ للدِّلالةِ على أنَّ اعترافَه وندمَهُ عن صميم القلبِ لا لتحقيقِ مضمونِ الخيرِ ، وأصلُ أحببتُ أنْ يعدَّى بعلى لأنَّه بمعنى آثرَ لكن لما أُنيب مُنابَ أنبتُ عُدِّي تعديتَه وحبَّ الخيرِ مفعولُه كأنَّه قيل : أنبتُ حبَّ الخيرِ عن ذكر ربِّي ووضعتُه موضعه ، والخبرُ المالُ الكثيرُ والمراد به الخيلُ التي شغلته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ويحتمل أنَّه سمَّاها خيراً لتعلُّق الخيرِ بها قال عليه الصَّلاة والسَّلام : « الخيرُ معقودٌ بنواصِي الخيلِ إلى يومِ القيامةِ » . وقُرىء أنِّي { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } متعلِّق بقوله أحببتُ باعتبار استمرار المحبَّةِ ودوامِها حسب استمرارِ العرضِ أي أنبتُ حبَّ الخيرِ عن ذكر ربِّي واستمرَّ ذلك حتَّى توارتْ أي غربتْ الشَّمسُ تشبيهاً لغروبِها في مغربِها بتوارى المخبأةِ بحجابها ، وإضمارها من غير ذكر لدلالة العشي عليها وقيل : الضمير للصافنات أي توارتْ بحجابِ اللَّيلِ أي بظلامِه .(5/477)
رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)
{ رُدُّوهَا عَلَىَّ } من تمام مقالةِ سليمانَ عليه السَّلامُ ومرمى غرضِه من تقديم ما قدَّمه ومَن لم يتنبه له مع ظهورِه توهَّم أنَّه متَّصل بمضمرٍ هو جوابٌ لمضمرٍ آخرَ كأنَّ سائلاً قال : فماذا قال سليمانُ عليه السَّلامُ فقيل قال : ردُّوها فتأمَّلْ والفاء في قوله تعالى : { فَطَفِقَ مَسْحاً } فصيحةٌ مفصحةٌ عن جملةٍ قد حُذفتْ ثقةً بدلالهِ الحالِ عليها وإيذاناً بغاية سرعةِ الامتثالِ بالأمرِ أي فردُّوها عليه فأخذ يمسحُ السَّيفَ مسحاً { بالسوق والاعناق } أي بسوقِها وأعناقِها يقطعها من قولِهم مسحَ عِلاوتَه أي ضربَ عنقَه عنه وقيل : جعل يمسحُ بيدهِ أعناقَها وسوقَها حُبَّاً لها وإعجاباً بها وليس بذاكَ وقُرىء بالسُّؤُقِ على همز الواوِ لضمَّتها كما في أدؤُر وقرىء بالسُّؤوقِ تنزيلاً لضمَّةِ السِّينِ منزلة ضمَّه الواوِ وقُرىء بالسَّاق اكتفاءً بالواحدِ عن الجمعِ لأمنِ الالباسِ .
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ } أظهرُ ما قيل في فتنتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما رُوي مرفُوعاً أنَّه قال : « لأطوفنَّ الليلةَ على سبعينَ امرأة تأتِي كلُّ واحدةٍ بفارسٍ يجاهدُ في سبيلِ الله تعالى ولم يقُل إنْ شاءَ الله تعالى فطافَ عليهنَّ فلم تحمل إلا امرأةٌ واحدةٌ جاءتْ بشقِّ رجلٍ ، والذي نفسِي بيدِه لو قالَ إنْ شاء الله لجاهدُوا في سبيلِ الله فُرساناً أجمعون » وقيل : وُلد له ابنٌ فاجتمعتِ الشَّياطينُ على قتلِه فعلم ذلكَ فكانَ يغذُوه في السَّحابِ فَما شعرَ به إلى أنْ أُلقي عَلَى كرسيِّه ميتاً فتنبَّه لخطئِه حيثُ لَم يتوكَّل على الله عزَّ وعَلاَ . وقيل إنَّه غَزَا صيدونَ من الجزائرِ فقتلَ ملكَها وأصابَ بنْتاً له تسمَّى جرادةَ من أحسنِ النَّاسِ فاصطفَاها لنفسِه وأسلمتْ وأحبَّها وكان لا يرقأُ دمعُها جَزَعاً على أبيها فأمرَ الشَّياطينَ فمثَّلوا لها صورتَه وكانت تغدُو إليها وتروحُ مع ولائدِها يسجُدن لها كعادتهنَّ في مُلكِه فأخبرهَ آصفُ بذلك فكسرَ الصُّورةَ وعاقَب المرأةَ ثم خرج وحدَهُ إلى فَلاَة وفُرش له الرَّمادُ فجلس عليه تائباً إلى الله تعالى باكياً متضرِّعاً وكانتْ له أمُّ ولدٍ يُقال لها أمينةُ إذا دخلَ للطَّهارةِ أو لإصابةِ امرأةٍ يعطيها خاتمه وكان ملكُه فيه فأعطاها يوماً فتمثَّل لها بصورتِه شيطانٌ اسمه صخر وأخذ الخاتمَ فتختَّم به وجلس على كُرسِّيه فاجتمعَ عليه الخلقُ ونفَّذ حكمَه في كلِّ شيءٍ إلاَّ في نسائِه وغيَّر سليمانَ عن هيئتِه فأتى أمينةَ لطلبِ الخاتمِ فأنكرتْهُ وطردتْهُ فعرفَ أنَّ الخطيئةَ قد أدركتْهُ فكان يدورُ على البيوتِ يتكفَّفُ وإذا قال أنَا سليمانُ حثَوا عليه التُّرابَ وسبُّوه ثم عمد إلى السَّماكين ينقلُ لهم السَّمك فيعطونَه كلَّ يومٍ سمكتينِ فمكثَ على ذلك أربعينَ صباحاً عددَ ما عُبد الوثنُ في بيتِه فأنكر آصفُ وعظماءُ بني إسرائيلَ حكمَ الشَّيطانِ ثم طارَ اللعينُ وقذفَ الخاتمَ في البحرِ فابتلعتْهُ سمكةٌ فوقعتْ في يدِ سليمانَ فبقرَ بطنَها فإذَا هُو بالخاتمِ فتختَّم به وخرَّ ساجداً وعادَ إليه ملكه وجاب صخرةً لصخرٍ فجعلَه فيها وسدَّ عليه بأُخرى ثم أوثَقهما بالحديدِ والرَّصاص وقذفه في البحرِ وعلى هذا . فالجسدُ عبارةٌ عن صخرٍ سمِّي به وهو جسمٌ لا رُوحَ فيه لأنَّه تمثَّل بما لم يكن كذلكَ والخطيئةُ تغافلُه عليه الصَّلاةُ السَّلام عن حالِ أهلِه لأنَّ اتِّخاذَ التَّماثيلِ لم يكُن محظُوراً حينئذٍ ، وسجودُ الصُّورةِ بغير علمٍ منه لا يضرُّه .(5/478)
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38)
{ قَالَ } بدل من أنابَ وتفسيره له { رَبّ اغفر لِى } أي ما صدرَ عنِّي من الزَّلَّةِ { وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى } لا يتسهل له ولا يكونُ ليكونَ معجزةً لي مناسبةً لحالي فإنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لمَّا نشأَ في بيتِ الملكِ والنُّبوة وورثهما معاً استدعى من ربِّه معجزةً جامعةً لحكمهما أو لا ينبغي لأحدٍ أنْ يسلَبه منِّي بعد هذه السَّلبةِ أو لا يصحُّ لأحدٍ من بعدي لعظمتِه كقولِك لفلان ما ليسَ لأحدٍ من الفضلِ والمالِ على إرادة وصف الملكِ بالعظمةِ لا أنْ لا يعطى أحد مثله فيكون منافسة وقيل كان مُلكاً عظيماً فخاف أنْ يُعطى مثلَه أحدٌ فلا يحافظُ على حدودِ الله تعالى . وتقديمُ الاستغفارِ على الاستيهابِ لمزيد اهتمامِه بأمر الدِّينِ جرياً على سَننِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ والصَّالحين . وكون ذلك أدخلَ في الإجابةِ . وقُرىء ليَ بفتحِ الياءِ { إِنَّكَ أَنتَ الوهاب } تعليلٌ للدُّعاءِ بالمغفرةِ والهبةِ معاً لا بالأخيرة فقط فإنَّ المغفرةَ أيضاً من أحكامِ وصفِ الوهَّابيةِ فقط .
{ فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح } أي فذللناها لطاعتِه إجابةً لدعوتِه فعاد أمرُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى ما كان عليهِ قبل الفتنةِ . وقُرىء الرِّياح { تَجْرِى بِأَمْرِهِ } بيانٌ لتسخيرِها له { رُخَاء } أي لينةً من الرَّخاوةِ طيبة لا تزعزعُ وقيل : طيعةً لا تمنع عليه كالمأمورِ المنقادِ { حَيْثُ أَصَابَ } أي حيثُ قصدَ وأرادَ . حَكَى الأصمعيُّ عن العربِ أصابَ الصَّوابَ فأخطأَ الجوابَ { والشياطين } عطفٌ على الرِّيح { كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ } بدلٌ من الشَّياطينَ { وَءاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الاصفاد } عطفٌ على كلَّ بنَّاءٍ داخلٌ في حُكمِ البدلِ كأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فصَّل الشَّياطينَ إلى عَمَلةٍ استعملهم في الأعمالِ الشَّاقةِ من البناء والغَوص ونحو ذلك وإلى مَرَدةٍ قرن بعضَهم مع بعضٍ في السَّلاسلِ لكفِّهم عن الشرِّ والفسادِ . ولعلَّ أجسامهم شفَّافةٌ فلا تُرى صلبةً فيمكن تقييدُها ويقدرون على الأعمال الصَّعبة وقد جُوِّز أن يكون الإقرانُ في الأصفادِ عبارة عن كفِّهم عن الشُّرورِ بطريق التَّمثيلِ . والصَّفدُ القَيدُ وسُمِّي به العطاءُ لأنَّه يرتبط بالمنعمِ عليه وفرَّقوا بين فعليهما فقالُوا صفَده قيَّده وأصفدَهُ أعطاهُ على عكسِ وَعَد وأَوْعدَ .(5/479)
هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)
وقوله تعالى : { هذا } الخ إمَّا حكايةٌ لما خُوطب به سيلمانُ عليه السَّلامُ مبيِّنةٌ لعظمِ شأنِ ما أُوتي من الملكِ وأنَّه مفوَّضٌ إليه تفويضاً كلِّياً وإما مقولٌ لقولٍ مقدَّرٍ هو معطوفٌ على سخَّرنا أو حالٌ من فاعلهِ كما مرَّ في خاتمةِ قصَّةِ داودَ عليه السَّلامُ أي وقُلنا له أو قائلين له هذا الأمرُ الذي أعطيناكَه من المُلكِ العظيمِ والبسطةِ والتَّسلطِ على ما لَم يُسلَّطُ عليه غيرُك { عَطَاؤُنَا } الخاصُّ بك { فامنن أَوْ أَمْسِكْ } فأعطِ مَن شئتَ وامنْع مَن شئتَ { بِغَيْرِ حِسَابٍ } حال من المستكنِّ في الأمرِ أي غير محاسب على منِّه وإمساكهِ لتفويضِ التَّصرف فيه إليك على الإطلاقِ أو من العطاءِ أي هذا عطاؤنا مُلتبساً بغير حسابٍ لغاية كثرتِه ، أو صلةٌ له وما بينهما اعتراضٌ على التَّقديرينِ ، وقيل : الإشارةُ إلى تسخير الشَّياطينِ والمرادُ بالمنِّ والإمساكِ الإطلاقُ والتَّقييدُ { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى } في الآخرةِ مع ما له من المُلك العظيمِ في الدُّنيا { وَحُسْنُ مَئَابٍ } هو الجنَّةُ قيل : فُتن سليمانُ عليه السَّلامُ بعد ما ملكَ عشرين سنةً وملك بعد الفتنةِ عشرينَ سنة . وذكر الفقيهُ أبوُ حنيفةَ أحمدُ بنُ داودَ الدِّيْنَوَريُّ في تاريخه أنَّ سُليمان عليه السَّلامُ ورثَ ملكَ أبيهِ في عصرِ كيخسرو بن سياوش وسارَ من الشَّامِ إلى العراقِ فبلغ خبُره كيخسرو فهربَ إلى خُراسانَ فلم يلبثْ حتَّى هلكَ ثمَّ سارَ سُليمانُ عليه السَّلامُ إلى مروٍ . ثمَّ إلى بلادِ التُّركِ فوغل فيها ثم جازَ بلادَ الصِّين ثم عطفَ إلى أنْ وافى بلادَ فارسٍ فنزلها أيّاماً ثم عاد إلى الشَّامِ ثمَّ أمرَ ببناءِ بيتِ المقدسِ فلَّما فرغَ منه سار إلى تهامةَ ثم إلى صنعاءَ وكان من حديثِه مع صاحبتِها ما ذكرَه الله تعالى وغَزا بلادَ المغربِ الأندلسِ وطنجةَ وغيرَهما والله تعالى أعلمُ .
{ واذكر عَبْدَنَا أَيُّوبَ } عطفٌ على اذكُر عبدنا داودَ . وعدمُ تصديرِ قصَّةِ سليمانَ بهذا العُنوان لكمالِ الاتِّصالِ بينه وبينَ داودَ عليهما السَّلامُ . وأيُّوبُ هو ابنُ عِيصَ بنِ إسحاقَ عليه السَّلامُ { إِذْ نادى رَبَّهُ } بدلُ اشتمالٍ من عبدَنا ، وأيُّوبَ عطفُ بيانٍ له { إِنّى } بأني { مَسَّنِىَ الشيطان } بفتحِ ياءِ مسني . وقُرىء بإسكانِها وإسقاطِها { بِنُصْبٍ } أي تعبٍ وقُرىء بفتحِ النُّونِ وبفتحتينِ وبضمَّتينِ للتثقيلِ . { وَعَذَابٍ } أي ألمٍ ووصبٍ يريدُ مرضَه وما كان يُقاسيه من فنونِ الشَّدائدِ وهو المرادُ بالضُّرِّ في قوله إنيِّ مسنى الضُّرُّ وهو حكايةٌ لكلامِه الذي ناداهُ به بعبارتِه وإلاَّ لقيلَ أنَّه مسَّه الخ والإسنادُ إلى الشَّيطان إمَّا لأنَّه تعالَى مسَّه بذلك لما فعل بوسوستِه كما قيل إنَّه أُعجب بكثرةِ مالِه أو استغاثه مظلومٌ فلم يغثه أو كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يغزُه أو لامتحان صبره فيكون اعترافاً بالذَّنبِ أو مراعاةً للأدبِ أو لأنَّه وسوس إلى أتباعِه حتَّى رفضُوه وأخرجُوه من ديارِهم أو لأنَّ المرادَ بالنَّصَبِ والعذابِ ما كان يُوسوس به إليه في مرضِه من تعظيم ما نزل به من البلاءِ والقُنوطِ من الرَّحمةِ ويغريه على الكراهةِ والجَزَعِ فالتجأَ إلى الله تعالى في أنْ يكفيه ذلك بكشفِ البلاءِ أو بالتوفيقِ لدفعِه وردِّه بالصَّبرِ الجميلِ ، وليس هذا تمامَ دُعائه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بل من جُملتِه قولُه : { وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحمين } فاكتفى هَنُها عن ذكرِه بما في سُورةِ الأنبياءِ كما تركَ هناك ذكرَ الشَّيطانِ ثقةً بما ذُكر ههنا .(5/480)
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
وقوله تعالى { اركض بِرِجْلِكَ } الخ إمَّا حكايةٌ لما قيل له أو مقولٌ لقولٍ مقدَّرٍ معطوفٍ على نادى أي فقلنا له اركض برجلك أي اضربْ بها الأرضَ وكذا قوله تعالى { هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } فإنَّه أيضاً إمَّا حكايةٌ لما قيل له بعدَ امتثالِه بالأمرِ وبنوعِ الماءِ أو مقولٌ لقولٍ مقدَّرٍ معطوفٍ على مقدَّرٍ ينساقُ إليه الكلامُ كأنَّه قيل : فضربَها فنبعتْ عينٌ فقلنا له هذا مغتسلٌ تغتسلُ به وتشربُ منه فيبرأُ ظاهرُك وباطُنك وقيل : نبعتْ عينانِ حارَّةٌ للاغتسالِ وباردةٌ للشُّربِ ويأباهُ ظاهرُ النَّظمِ الكريمُ وقوله تعالى { وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ } معطوفٌ على مقدَّرَ مترتِّبٍ على مقدَّرٍ آخرَ يقتضيه القولُ المقدَّرُ آنفاً كأنَّه قيل : فاغتسل وشرب فكشفنا بذلكَ ما به من ضُرَ كما في سورة الأنبياء ووهبنا له أيضاً أهلَه إمَّا بإحيائِهم بعد هلاكِهم وهو المرويُّ عن الحسنِ أو بجمعِهم بعد تفرُّقِهم كما قيل { وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ } عطفٌ على أهلَه فكان له من الأولادِ ضِعفُ ما كان له قبل { رَحْمَةً مّنَّا } أي لرحمةٍ عظيمةٍ عليه من قبلنا { وذكرى لأُوْلِى الالباب } ولتذكيرِهم بذلك ليصبروا على الشَّدائدِ كما صبرَ ويلجأوا إلى الله عزَّ وجلّ فيما يحيقُ بهم كما لجأ ليفعلَ بهم ما فعلَ به من حُسن العاقبةِ { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً } معطوفٌ على اركُض أو على وهبنَا بتقديرِ قُلنا أي وقُلنا خذْ بيدِك الخ والأوَّلُ أقربُ لفظاً وهذا أنسبُ معنى فإنَّ الحاجةَ إلى هذا الأمرِ لا تمسُّ إلا بعد الصَّحةِ ، فإنَّ امرأتَه رحمةَ بنتَ افرايمَ بنِ يوسفَ وقيل : ليَا بنتُ يعقوبَ وقيل : ماصرُ بنتُ ميْشا بن يُوسفَ عليه السَّلامُ ذهبتْ لحاجةٍ فأبطأتُ فحلفَ إنْ برىءَ ليضربنَّها مائةً ضربة فأمرَه الله تعالى بأخذِ الضِّغثِ ، والضِّغثُ الحزمةُ الصَّغيرةُ من الحشيشِ ونحوِه . وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قبضةٌ من الشَّجرِ . وقال { فاضرب بّهِ } أي بذلك الضِّغثِ { وَلاَ تَحْنَثْ } في يمينك فإنَّ البرَّ يتحققُ به ولقد شرعَ الله سبحانه هذه الرُّخصةَ رحمةً عليه وعليها لحُسنِ خدمتِها إيَّاهُ ورضاهُ عنها وهي باقيةٌ ويجب أنْ يصيبَ المضروبَ كلُّ واحدٍ من المائةِ إما بأطرافِها قائمةً أو بأعراضِها مبسوطةً على هيئةِ الضَّربِ { إِنَّا وجدناه صَابِراً } فيما أصابَه في النَّفسِ والأهلِ والمالِ وليسَ في شكواهُ إلى الله تعالى إخلالٌ بذلك فإنَّه لا يُسمَّى جزَعاً كتمنِّي العافيةِ وطلب الشِّفاءِ على أنَّه قال ذلك خيفةَ الفتنةِ في الدِّينِ حيث كانُ الشَّيطانُ يوسوسُ إلى قومِه بأنَّه لو كانَ نبيَّاً لما ابُتلي بمثلِ ما ابُتلي به وإرادة القوَّة على الطَّاعةِ فقد بلغ أمرُه إلى أنْ لم يبقَ منه إلاَّ القلبُ واللِّسانُ . ويُروى أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قال في مناجاتِه : إلهي قد علمتَ أنَّه لم يُخالفْ لساني قلبيَ ولم يتبعْ بصريَ ولم يهبني ما ملكتْ يميني ولم آكلْ إلا ومعي يتيم ولم أبتْ شبعانَ ولا كاسياً ومعي جائعٌ أو عريانُ فكشفَ الله تعالى عنه { نِعْمَ العبد } أي أيُّوبُ { إِنَّهُ أَوَّابٌ } تعليلٌ لمدحِه أي رجَّاعٌ إلى الله تعالى .(5/481)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)
{ واذكر عِبَادَنَا إبراهيم وإسحاق وَيَعْقُوبَ } . عطفُ بيانٍ لعبادَنا . وقُرىء عبدَنا إمَّا على أنَّ إبراهيمَ وحدَهُ لمزيد شرفهِ عطفُ بيانٍ ، وقيل : بدلٌ وقيل نُصبَ بإضمارِ أَعْنِي ، والباقيانِ عطفٌ على عَبدنا ، وإمَّا على أنَّ عبدَنا اسمُ جنسٍ وضعَ موضعَ الجمع . { أُوْلِى الايدى والابصار } أُولي القوَّةِ في الطَّاعةِ والبصيرةِ في الدِّينِ أو أولي الأعمالِ الجليلةِ والعلومِ الشَّريفةِ فعبَّر بالأيدِي عن الأعمالِ لأنَّ أكثرَها تُباشر بها ، وبالأبصارِ عن المعارفِ لأنَّها أقوى مباديها ، وفيه تعريضٌ بالجَهَلةِ البطَّالينَ أنَّهم كالزمنى والعُماةِ وتوبيخٌ على تركِهم المجاهدةِ والتَّأمُّلِ مع تمكُّنِهم منهما . وقُرىء أُولي الأيدِ بطرحِ الياءِ والاكتفاءِ بالكسر . وقُرىء أُولي الأيادِي على جمعِ الجمعِ . { إِنَّا أخلصناهم بِخَالِصَةٍ } تعليلٌ لما وُصفوا به من شرفِ العُبودَّيةِ وعلوِّ الرُّتبةِ في العلم والعمل أي جعلناهم خالصينَ لنا بخصلةٍ خالصةٍ عظيمةَ الشَّأنِ كما يُنبىءُ عنه التَّنكيرُ التَّفخيميُّ . وقولُه تعالى { ذِكْرَى الدار } بيانٌ للخالصةِ بعد إبهامِها للتَّفخيم أي تذكرٍ للدَّارِ الآخرةِ دائماً فإنَّ خُلوصَهم في الطَّاعةِ بسببِ تذكُّرِهم لها وذلكَ لأنَّ مطمحَ أنظارِهم ومطرح أفكارِهم في كلِّ ما يأتُون وما يذرون جوارُ الله عزَّ وجلَّ والفوزُ بلقائهِ ولا يتسنَّى ذلك إلاَّ في الآخرةِ وقيل : أخلصناهُم بتوفيقِهم لها واللُّطفِ بهم في اختيارِها ويعضد الأوَّلَ قراءةُ من قرأ بخالصتِهم . وإطلاق الدَّارِ للإشعارِ بأنَّها الدَّارُ في الحقيقةِ وإنَّما الدُّنيا مَعْبرٌ . وقُرىء بإضافةِ خالصةٍ إلى ذِكرى أي بما خلُص من ذِكرى الدَّارِ على معنى أنَّهم لا يشوبُون ذكراها بهمَ آخرَ أصلاً أو تذكيرهم الآخرةَ وترغيبُهم فيها وتزهيدُهم في الدُّنيا كما هو شأنُ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ . وقيل : ذِكرى الدَّارِ الثَّناءُ الجميلُ في الدُّنيا ولسانُ الصِّدقِ الذي ليس لغيرِهم .
{ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الاخيار } لمن المُختارين من أمثالِهم المصطَفَين عليهم في الخيرِ . والأخيار جمعُ خَيْرٍ كشرَ وأشرارٍ ، وقيل : جمعُ خَيِّرٍ أو خَيْرٍ مُخفَّفٍ منْهُ كأمواتٍ في جمعِ مَيِّتٍ ومَيْتٍ { واذكر إسماعيل } فُصلَ ذكرُه عن ذكره أبيه وأخيهِ للإشعارِ بعراقتِه في الصَّبرِ الذي هُو المقصودُ بالتَّذكيرِ . { واليسع } هو ابن أخطوب بنِ العجوزِ استخلفَه الياسُ على بني إسرائيلَ ثم استُنبىء واللامُ فيه حرفُ تعريفٍ دخلَ على يسع كما في قولِ مَن قال :
رأيتُ الوليدَ بنَ اليزيدِ مُبارَكاً ... وقُرىء واللَّيسع كأنَّ أصله لَيْسع فَيْعل من اللَّسعِ دخلَ عليه حرفُ التَّعريفِ وقيل : هو على القراءتينِ عَلَم أعجميٌّ دخل عليه اللامُ وقيل : هو يُوشع . { وَذَا الكفل } هو ابنُ عمِّ يسع أو بشر بن أيوب . واختُلف في نبوَّتِه ولقبهِ فقيل فرَّ إليه مائةُ نبيَ من بني إسرائيلَ من القتل فآواهُم وكَفَلهم ، وقيل كُفل بعملِ رجلٍ صالحٍ كان يُصلِّي كلَّ يومٍ مائةَ صلاة { وَكُلٌّ } أي وكلُّهم { مّنَ الاخيار } المشهورينَ بالخيريَّةِ .(5/482)
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53)
{ هذا } إشارةٌ إلى ما تقدَّمَ من الآياتِ النَّاطقةِ بمحاسِنهم . { ذُكرٌ } أي شَرفٌ لهم وذكرٌ جميلٌ يُذكرون به أبداً أو نوعٌ من الذِّكرِ الذي هو القرآنُ وبابٌ منه مشتملٌ على أنباءِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ . وعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما : هذا ذكرُ مَن مضى من الأنبياءِ . وقولُه تعالى { وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ } شروع في بيان أجرِهم الجزيل في الآجلِ بعد بيان ذكرِهم الجميلِ في العاجلِ وهو بابٌ آخرُ من أبواب التَّنزيلِ . والمرادُ بالمتَّقينَ إمَّا الجنسُ وهم داخلون في الحكم دُخولاً أوليَّاً وإما نفسُ المذكورين عبَّر عنهم بذلك مَدْحاً لهم بالتَّقوى التي هي الغايةُ القاصيةُ من الكمالِ . { جنات عَدْنٍ } عطفُ بيانٍ لحسنَ مآبٍ عندَ من يجوِّزُ تخالفَهما تعريفاً وتنكيراً فإنَّ عَدْناً مَعْرِفةٌ لقولِه تعالى : { جنات عَدْنٍ التى وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ } أو بدلٌ منه أو نصب على المدحِ . وقولُه تعالى : { مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابواب } حالٌ من جنَّاتِ عَدْنٍ ، والعاملُ فيها ما في للمتَّقين من معنى الفعلِ . والأبوابُ مرتفعةٌ باسمِ المفعولِ والرَّابطُ بين الحالِ وصاحبِها إمَّا ضميرٌ مقدَّرٌ كما هو رأيُ البصريِّينَ أي الأبوابُ منها أو الألفُ واللاَّمُ القائمةُ مقامَه كما هو رأيُ الكوفيِّينَ إذِ الأصلُ أبوابُها ، وقُرئتا مرفوعتينِ على الابتداءِ والخبرِ ، أو على أنَّهما خبرانِ لمحذوفٍ أي هي جنَّاتُ عدنٍ هي مفتّحةٌ .
{ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا } حالٌ من ضميرِ لَهمُ والعاملُ فيها مفتَّحة . وقولُه تعالى { يَدْعُونَ فِيهَا بفاكهة كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ } استئنافٌ لبيانِ حالِم فيها وقيل : هو أيضاً حالٌ مَّما ذُكر أو من ضمير متَّكئين والاقتصارُ على دعاءِ الفاكهةِ للإيذانِ بأنَّ مطاعَمهم لمحضِ التَّفكهِ والتَّلذذِ دُون التَّغذِّي فإنَّه لتحصيل بدلِ المتحلِّلِ ولا تحلَّلِ ثَمة { وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف } أي على أزواجهنَّ لا ينظُرن إلى غيرِهم { أَتْرَابٌ } لداتٌ لهم فإنَّ التَّحابَّ بين الأقرانِ أرسخُ أو بعضهن لبعضٍ لا عجوزَ فيهنَّ ولا صبيَّةَ . واشتقاقُه من التُّراب فإنَّه يمسُّهم في وقتٍ واحدٍ { هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحساب } أي لأجلِه فإنَّ الحسابَ علَّةٌ للوصولِ إلى الجزاءِ . وقُرىء بالياءِ ليوافقَ ما قبلَه . والالتفاتُ أليقُ بمقامِ الامتنانِ والتَّكريمِ .(5/483)
إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59)
{ إِنَّ هَذَا } أي ما ذُكر من أنواعِ النِّعم والكَرَاماتِ { لَرِزْقُنَا } أعطيناكموه { مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ } انقطاعٍ أبداً { هذا } أي الأمرُ هذا أو هذا كما ذُكر أو هذا ذِكر وقوله تعالى { وَإِنَّ للطاغين لَشَرَّ } شروعٌ في بيان أضَّدادِ الفريق السَّابقِ { جَهَنَّمَ } إعرابُه كما سلف { يَصْلَوْنَهَا } أي يدخلُونها ، حالٌ من جهنَّمَ . { فَبِئْسَ المهاد } وهو المهدُ والمفرشُ مستعار من فراشِ النَّائمِ ، والمخصوص بالذمِّ محذوف وهو جهنَّم لقوله تعالى : { لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ } { هذا فَلْيَذُوقُوهُ } أي ليذوقُوا هذا فليذوقُوه كقوله تعالى : { وإياى فارهبون } أو العذابُ هذا فليذوقوه أو هذا مبتدأٌ خبرُه { حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ } وما بينهما اعتراضٌ وهو على الأولين خبرُ مبتدأٍ محذوف أي هو حميم . والغسَّاقُ ما يغسِق من صديدِ أهلِ النَّارِ ، من غسَقتِ العينُ إذا سال دمعُها وقيل : الحميمُ يحرقُ بحرِّه والغسَّاقُ يحرقُ ببردِه . وقيل لو قَطرت منه قطرةٌ في المشرقِ لنتَّنتْ أهلَ المغربِ ، ولو قَطرت قطرةٌ في المغرب لنتنت أهلَ المشرقِ . وقيل : الغسَّاقُ عذابٌ لا يعلمه إلاَّ الله تعالى . وقُرىء بتخفيفِ السِّينِ { وَءاخَرُ مِن شَكْلِهِ } أي ومذوقٌ آخرُ أو عذابٌ آخرُ من مثل هذا المذوقِ أو العذابِ في الشِّدَّةِ والفظاعةِ . وقُرىء وأُخَرُ أي ومذوقاتٌ أخَرُ أو أنواع عذابٍ أُخر . وتوحيدُ ضميرِ شكله بتأويلِ ما ذُكر أو الشَّرابُ الشَّاملُ للحميمِ . والغسَّاقِ أو هو راجعٌ إلى الغسَّاقِ { أزواج } أي أجناس وهو خبر لآخر يجوز أن يكون ضروباً ، أو صفةٌ له أو للثلاثة أو مرتفعٌ بالجار والخبرُ محذوفٌ مثلُ لهم .
{ هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ } حكاية ما يقال من جهة الخَزَنةِ لرُؤساء الطَّاغينَ إذا دخلوا النَّارَ واقتحمها معهم فوجٌ كانوا يتبعونهم في الكُفرِ والضَّلالةِ . والاقتحامُ الدُّخولُ في الشَّيء بشدَّةٍ . قال الرَّاغبُ «الاقتحامُ توسُّطُ شدَّةٍ مخيفةٍ» وقولُه تعالى { لاَ مَرْحَباً بِهِمْ } من إتمام كلام الخَزنةِ بطيق الدُّعاءِ على الفوجِ ، أو صفةٌ للفوجِ . أو حالٌ منه ، أي مقولٌ أو مقولاً في حقِّهم لا مرحباً بهم ، أي لا أتَوا مرحباً أو لا رحُبتْ بهم الدَّار مرحباً . { إِنَّهُمْ صَالُو النار } تعليل من جهةِ الخَزَنةِ لاستحقاقهم الدُّعاءِ عليهم أو وصفهم بما ذُكر . وقيل : لا مرحباً بهم إلى هنا كلامُ الرُّؤساءِ في حقَ أتباعِهم عند خطاب الخَزَنة لهم باقتحام الفوجِ معهم تضجُّراً من مقارنتهم وتنفُّرا من مصاحبتِهم . وقيل : كلُّ ذلك كلامْ الرُّؤساءِ بعضِهم مع بعضٍ في حقِّ الأتباعِ .(5/484)
قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63)
{ قَالُواْ } أي الأتباعُ عند سماعِهم ما قيل في حقِّهم ، ووجه خطابهم للرُّؤساءِ في قولهم { بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ } الخ على الوجهينِ الأخيرينِ ظاهرٌ ، وأمَّا على الوجهِ الأوَّلِ فلعلَّهم إنَّما خاطبُوهم مع أنَّ الظَّاهرَ أنْ يقولُوا بطريقِ الاعتذارِ إلى الخَزَنةِ بل هُم لا مرحباً بهم الخ قَصْداً منهم إلى إظهارِ صدقِهم بالمُخاطبةِ مع الرُّؤساءِ والتَّحاكمِ إلى الخَزَنةِ طمعاً في قضائِهم بتخفيفِ عذابِهم أو تضعيفِ عذابِ خُصَمائهم أي بل أنتم أحقُّ بما قيلَ لنا أو قلتُم . وقولُه تعالى { أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا } تعليلٌ لأحقِّيتهم بذلك أي أنتمُ قدَّمتم العذابَ أو الصِّلِيَّ لنا وأوقعتُمونا فيه بتقديمِ ما يُؤدِّي إليه من العقائدِ الزَّائغةِ والأعمالِ السَّيئةِ وتزيينها في أَعُيننا وإغرائِنا عليها لا أنَّها باشرنَاها من تلقاءِ أنفسنا { فَبِئْسَ القرار } أي فبئسَ المقرُّ جهنَّم قصدُوا بذمِّها تغليظَ جنايةِ الرُّؤساءِ عليهم { قَالُواْ } أي الأتباعُ أيضاً وتوسيطُه بين كلاميهم لما بينهُما من التَّباينِ البيِّنِ ذاتاً وخِطِاباً أي قالُوا مُعرضين عن خصومتِهم متضرِّعين إلى الله تعالى { رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِى النار } كقولِهم { رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مّنَ النار } أي عذاباً مُضاعفاً أي ذا ضعفٍ وذلك بأنْ يزيدَ عليه مثلَه ويكون ضعفينِ كقولِه { رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب } وقيل : المرادُ بالضِّعفِ الحيَّاتُ والأَفَاعي .
{ وَقَالُواْ } أي الطَّاغُون { مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الاشرار } يعنون فقراءَ المُسلمينَ الذين كانُوا يسترذلونَهم ويسخرُون منهم { أتخذناهم سِخْرِيّاً } بهمزةِ استفهامٍ سقطتْ لأجلها همزةُ الوصل . والجملةُ استئنافٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ قالُوه إنكاراً على أنفسِهم وتأنيباً لها في الاستسخارِ منهم { أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الابصار } متَّصلٌ باتَّخذناهم على أنَّ أم متَّصلة والمعنى أيَّ الأمرينِ فعلنَا بهم الاستسخارُ منهم أم الازدراءُ بهم وتحقيرُهم ، وإنَّ أبصارَنا كانت تزيغُ عنهم وتقتحمُهم على معنى إنكارِ كلِّ واحدٍ من الفعلينِ على أنفسهم توبيخاً لها أو على أنَّها منقطعةٌ والمعنى أتخذناهم سخرياً بل أزاغتْ عنهم أبصارُنا كقولك أزيدٌ عندك أم عندَك عمروٌ على معنى توبيخِ أنفسِهم على الاستسخارِ ثمَّ الإضرابُ والانتقالُ منه إلى التَّوبيخِ على الازدراءِ والتَّحقيرِ . وقُرىء اتَّخذناهم بغير همزةٍ على أنَّه صفةٌ أخرى لرجالاً فقوله تعالى أمْ زاغتْ متَّصلٌ بقوله ما لنا لا نَرى والمعنى ما لنا لا نراهُم في النار أليسوا فيها فكذلك لا نراهم أم زاغتْ عنهم أبصارُنا وهم فيها وقد جُوِّز أنْ تكونَ الهمزةُ مقدَّرةٌ على هذه القراءةِ وقُرىء سُخريا بضمِّ السَّينِ .(5/485)
إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)
{ إِنَّ ذلك } أي الذي حُكي من أحوالِهم { لَحَقُّ } لا بدَّ من وقوعةِ البتةَ . وقوله تعالى { تَخَاصُمُ أَهْلِ النار } خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ ، والجملةُ بيانٌ لذلك وفي الإبهامِ أوَّلاً والتَّبيينِ ثانياً مزيدُ تقريرٍ له . وقيل : بدلٌ من محلِّ ذلك . وقيل بدلٌ من حقٌّ أو عطفُ بيانٍ له . وقُرىء بالنَّصبِ على أنَّه بدلٌ من ذلكَ وما قيل : من أنَّه صفةٌ له فقد قيل عليه : إنَّ اسمَ الإشارةِ لا يُوصف إلا بالمعرَّفِ باللامِ يقال بهذا الرَّجلَ ولا يقال بهذا غلامِ الرَّجلِ .
{ قُلْ } أمرٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يقولَ للمشركينَ { إِنَّمَا أَنَاْ مُنذِرٌ } من جهتهِ تعالى أنذرُكم عذابَه { وَمَا مِنْ إله } في الوجودِ { إِلاَّ الله الواحد } الذي لا يقبل الشِّركِةَ والكثرةَ أصلاً { القهار } لكلِّ شيءٍ سواه . { رَبّ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا } من المخلوقاتِ فكيف يُتوهُّم أن يكونَ له شريكٌ منها { العزيز } الذي لا يُغلب في أمرٍ من أمورِه { الغفار } المبالغ في المغفرةِ يغفرُ ما يشاء لمَن يشاء ، وفي هذه النُّعوت من تغرير التَّوحيدِ والوعد للموحِّدين والوعيد للمشركين ما لا يخفى . وتثنيةُ ما يُشعر بالوعيد من وصفَيْ القهرِ والعزَّةِ وتقديمهما على وصفِ المغفرةِ لتوفية مقامَ الإنذارِ حقَّه .
{ قُلْ } تكريرُ الأمر للإيذانِ بأنَّ المقولَ أمرٌ جليلٌ له شأنٌ خطيرٌ لا بدَّ من الاعتناء به أمراً وائتماراً . { هُوَ } أي ما أنبأتُكم به من أنِّي منذرٌ من جهته تعالى وأنَّه تعالى واحدٌ لا شريك له وأنه متَّصفٌ بما ذُكر من الصِّفاتِ الجليلةِ والأظهرُ أنَّه القرآنُ وما ذُكر داخلٌ فيه دُخولاً أوليّاً كما يشهد به آخر السُّورةِ الكريمة وهو قولُ ابن عبَّاسٍ ومُجاهدٍ وقَتَادةَ { نَبَأٌ عَظِيمٌ } واردٌ من جهتِه تعالى . وقوله تعالى { أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } استئنافٌ ناعٍ عليهم سوءَ صنيعهم به ببيان أنَّهم لا يقدِّرون قدرَه الجليلَ حيث يُعرضون عنه مع عظمته وكونه موجباً للإقبال الكلِّي وتلقِّيه بحسن القَبول ، وقيل : صفةٌ أُخرى لنبأٌ . وقولُه تعالى { مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الاعلى } الخ استئنافً مسوقٌ لتحقيق أنَّه نبأ عظيم واردٌ من جهته تعالى بذكر نبأٍ من أنبائهِ على التَّفصيل من غير سابقةِ معرفةٍ به ولا مباشرةِ سببٍ من أسبابِها المعتادةِ فإنَّ ذلك حجَّةٌ بينةٌ دالَّةٌ على أنَّ ذلك بطريق الوحيِ من عند الله تعالى وأنَّ سائرَ أنبيائه أيضاً كذلك . والملأُ الأعلى هم الملائكةُ وآدمُ عليهم السَّلامُ وإبليسُ عليه اللَّعنةُ . وقوله تعالى { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } متعلِّق بمحذوفٍ يقتضيه المقام إذِ المراد نفيُ علمِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بحالهم لا بذواتهم . والتَّقديرُ ما كان لي فيما سبقَ عملٌ ما بوجهٍ من الوجوه بحالِ الملأ الأعلى وقتَ اختصامِهم . وتقديرُ الكلامِ كما اختاره الجمهورُ تحجيرٌ للواسعِ فإنَّ علمه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ غيرُ مقصورِ على ما جرى بينهم من الأقوالِ فقط بل عامٌّ لها وللأفعال أيضاً من سجودِ الملائكة واستكبارِ إبليسَ وكفرِه حسبما ينطقُ به الوحيُ فلا بُدَّ من اعتبارِ العمومِ في نفيِه أيضاً لا محالةَ .(5/486)
إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71)
وقولُه تعالى { إِن يوحى إِلَىَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } اعتراضٌ وسطٌ بين إجمالي اختصامِهم وتفصِيله تقريراً لثُبوتِ علمه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وتعييناً لسببه إلاَّ أنَّ بيانَ انتفائِه فيما سبق لمَّا كانَ منبئاً عن ثبوتِه الآن ومن البيِّن عدمُ ملابستِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بشيءٍ من مباديه المعهودةِ تعين أنَّه ليس إلا بطريقِ الوحي حتماً فجعل أمراً مسلَّم الثُّبوتِ غنيّاً عن الإخبارِ به قَصْداً وجعل مصبَّ الفائدةِ والمقصودَ إخبارَ ما هو داعٍ إلى الوحيِ ومصحِّحٌ له تحقيقَا لقوله تعالى : { إِنَّمَا أَنَاْ مُنذِرٌ } في ضمن تحقيقِ علمهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بقصَّة الملأ الأعلى ، فالقائمُ مقامَ الفاعلِ ليُوحى إمَّا ضميرٌ عائدٌ إلى الحالِ المقدَّرِ أو مايعمُّه وغيرَه فالمعنى ما يُوحى إلى حالِ الملأ الأعلى أو ما يُوحى إلي ما يُوحى من الأمور الغيبيَّةِ التي من جُملِتها حالُهم إلاَّ لأنما أنا نذيرٌ مبين من جهته تعالى فإن كونَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كذلك من دَوَاعي الوحي إليه ومن موجباتِه حتماً وأمَّا أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ هو الجارُّ والمجرورُ أو هو إنَّما أنا نذيرٌ مبينٌ بلا تقديير الجارِّ وأنَّ المعنى ما يُوحَى إليَّ إلاَّ للإنذارِ أو ما يُوحَى إليَّ أنْ أنذر وأبلغَ ولا أفرِّط في ذلك كما قيل فمع ما فيه من الاضطرارِ إلى التَّكلُّفِ في توجيه قصرِ الوحي على كونِه للإنذارِ في الأوَّلِ وقصره على الأنذارِ في الثَّاني فلا يساعدُه سباقُ النَّظم الكريمِ وسياقُه ، كيف لا والاعتراضُ حينئذٍ يكون أجنبيّاً ممَّا توسَّط بينهما من إجمالِ الاختصامِ وتفصيلِه فتأمَّلُ والله المرشدُ . وقُرىء إِنَّما بالكسرِ على الحكايةِ . وقولُه تعالى : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة } شروعٌ في تفصيلِ ما أجمل من الاختصامِ الذي هو ما جرى بينهم من التَّقاولِ وحيث كان تكليمُه تعالى إيَّاهم بواسطةِ المَلكِ صحَّ إسنادُ الاختصامِ إلى الملائكةِ وإذْ بدلٌ مِن إذِ الأولى وليس من ضرورة البدليَّةِ دخولُها على نفس الاختصامِ بل يكفي اشتمالُ ما في حيِّزها عليه فإنَّ القصَّة ناطقةٌ بذلك تفصيلاً ، والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِه عليه الصَّلاة والسَّلام لتشريفِه والإيذانِ بأنَّ وحيَ هذا النبأ إليه تربيةٌ وتأييدٌ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ . والكافُ واردٌ باعتبارِ حالِ الآمرِ لكونِه أدلَّ على كونِه وحياً منزَّلاً من عنده تعالى كما في قوله تعالى : { قُلْ يا عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } الخ دون حالِ المأمورِ وإلا لقيل : ربِّي لأنَّه داخلٌ في حيِّز الأمر . { إِنّى خالق } أي فيما سيأتي وفيه ما ليسَ في صيغة المضارعِ من الدِّلالةِ على أنَّه تعالى فاعل له البتةَ من غير صارفٍ يلويه ولا عاطفٍ يثنيه { بَشَرًا } قيل : أي جسماً كثيفاً يلاقى ويُباشر . وقيل : خَلْقاً بادي البشرةِ بلا صوفٍ ولا شعرٍ ، ولعل ما جرى عند وقوع المحكيِّ ليس هذا الاسم الذي لم يُخلق مسمَّاهُ حينئذٍ فضلاً عن تسميتِه به بل عبارةٌ كاشفةٌ عن حالِه وإنما عبر عنه بهذا الاسمِ عند الحكايةِ { مِن طِينٍ } لم يتعرَّضْ لأوصافِه من التَّغيرِ والاسودادِ والمسنونيَّةِ اكتفاءً بما ذُكر في مواقعَ أُخرَ .(5/487)
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)
{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } أي صوَّرته بالصُّورةِ الإنسانيَّةِ والخِلقةِ البشريَّةِ أو سوَّيتُ أجزاءَ بدنِه بتعديل طبائعهِ { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } النَّفخُ إجراءُ الرِّيح إلى تجويفِ جسمٍ صالحٍ لإمساكِها والامتلاءِ بها . وليس ثَّمةَ نفخٌ ولا منفوخٌ وإنَّما هو تمثيلٌ لإفاضة ما به الحياةُ بالفعل على المادَّةِ القابلة لها أي فإذا كمَّلتُ استعدادَه وأفضت عليه ما يحيى به من الرُّوحِ التي هي أمري { فَقَعُواْ لَهُ } أمرٌ من وقعَ وفيه دليلٌ على أنَّ المأمورَ به ليس مجرَّدَ الانحناءِ كما قيل أي اسقُطوا له { ساجدين } تحَّيةً له وتكريماً .
{ فَسَجَدَ الملائكة } أي فخلقه فسوَّاه فنفخ فيه الرُّوحَ فسجد له الملائكةُ { كُلُّهُمْ } بحيث لم يبقَ منهم أحدٌ إلاَّ سجدَ { أَجْمَعُونَ } أي بطريقِ المعيةِ بحيثُ لم يتأخَّر في ذلك أحدٌ منهم عن أحدٍ ، ولا اختصاص لإفادة هذا المعنى بالحالية بل يفيدُه التَّأكيدُ أيضاً وقيل أُكِّد بتأكيدينِ مبالغةً في التَّعميمِ . هذا وأمَّا أنَّ سجودَهم هذا هل ترتَّبَ على ما حُكي من الأمر التَّعليقيِّ كما تقتضيهِ هذه الآيةُ الكريمةُ والتي في سُورة الحجرِ فإنَّ ظاهرَهُما يستدعِي ترتُّبه عليه من غيرِ أنْ يتوسَّط بينهما شيءٌ غير ما يفصح عنه الفاءُ الفصيحةٌ من الخلق والتَّسويةِ ونفخ الرُّوحِ أو على الأمرِ التَّنجيزيِّ كما يقتضيه ما في سُورة البقرةِ وما في سُورةِ الأعرافِ وما في سُورة بني إسرائيلَ وما في سُورةِ الكهفِ وما في سُورة طه من الآياتِ الكريمةِ فقد مرَّ تحقيقُه بتوفيقِ الله عزَّ وجلَّ في سُورةِ البقرةِ وسُورة الأعرافِ { إِلاَّ إِبْلِيسَ } استثناءٌ متَّصل لما أنه كانَ جنِّياً مفرَداً مغموراً بألوفٍ من الملائكةِ موصُوفاً بصفاتِهم فغلبُوا عليه ثمَّ استُثنَى استثناءَ واحدٍ منُهم أو لأنَّ من الملائكةِ جنساً يتوالدُون وهو منُهم أو منقطعٌ . وقولُه تعالى : { استكبر } على الأوَّلِ استئنافٌ مبينٌ لكيفيَّةِ تركِ السّجودِ المفهومِ من الاستثناءِ فإنَّ تركَه يحتملُ أن يكونَ للتَّامُّل والتروِّي وبه بتحقَّقُ أنَّه للإباءِ والاستكبارِ . وعلى الثَّاني يجوزُ اتِّصالُه بما قبله أي لكنْ إبليسُ استكبرَ { وَكَانَ مِنَ الكافرين } أي وصارَ منهم بمخالفتِه للأمرِ واستكبارِه عن الطَّاعةِ أو كان منهم في علمِ الله تعالى عزَّ وجلَّ { قَالَ يا إِبْلِيسَ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } أَي خلقتُه بالذَّاتِ من غير توسُّطِ أبٍ وأمَ والتَّثنيةُ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بخلقِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ المستدعِي لإجلالِه وإعظامِه قَصْداً إلى تأكيدِ الإنكارِ وتشديدِ التَّوبيخِ . { أَسْتَكْبَرْتَ } بهمزة الإنكارِ وطرحِ همزةِ الوصلِ أي أتكبَّرتَ من غيرِ استحقاقٍ { أَمْ كُنتَ مِنَ العالين } المستحقِّين للتَّفوقِ وقيل : أستكبرتَ الآنَ أم لم تزلْ منذ كنتَ من المستكبرينَ . وقُرىء بحذفِ همزةِ الاستفهامِ ثقةً بدلالةِ أمْ عليها .(5/488)
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80)
وقولُه تعالى : { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ } أدِّعاءٌ منه لشيءٍ مستلزم لمنعهِ من السُّجودِ على زعمِه وإشعارٌ بأنَّه لا يليقُ أنْ يسجدَ الفاضلُ للمفضولِ كما يُعرب عنه قولُه : { لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } وقولُه تعالَى { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } تعليلٌ لما ادَّعاهُ من فضلِه عليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ، ولقد أخطأ اللَّعينُ حيث خصَّ الفضلَ بما من جهةِ المادَّةِ والعنصرِ وزلَّ عنه ما من جهة الفاعل كما أنبأَ عنه وقولُه تعالى : { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } وما من جهة الصُّورة كما نبه عليه قوله تعالى : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } وما من جهة الغايةِ وهو مِلاكُ الأمرِ ، ولذلك أمرَ الملائكةَ بسجودِه عليهم السَّلامُ حين ظهرَ لهم أنَّه أعلمُ منهم بما يدورُ عليه من أمرِ الخلافةِ في الأرضِ وأنَّ له خواصَّ ليست لغيرِه . { قَالَ فاخرج مِنْهَا } الفاءُ لترتيبِ الأمر على ما ظهر من اللَّعينِ من المخالفةِ للأمرِ الجليلِ وتعليلِها بالأباطيلِ أي فاخرجْ من الجنَّةِ أو من زُمرةِ الملائكةِ وهو المرادُ بالأمرِ بالهبوطِ لا الهبوطِ من السَّماءِ كما قيل فإنَّ وسوستَه لآدمَ عليه السلام كانتْ بعد هذا الطَّردِ وقد بُيِّن كيفيَّةُ وسوستِه في سُورة البقرةِ . وقيل : اخرجْ من الخلقةِ التي كنتَ فيها وانسلخْ منها فإنَّه كان يفتخرُ بخلقتِه فغيَّر الله خلقتَه فاسودَّ بعد ما كان أبيضَ وقَبُح بعد ما كان حَسَناً وأظلمَ بعد ما كان نورانياً وقوله تعالى : { فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } تعليلٌ للأمرِ بالخروجِ أي مطرودٌ من كلِّ خيرٍ وكرامةٍ ، فإنَّ مَن يُطردْ يُرجمْ بالحجارةِ أو شيطان يُرجم بالشُّهبِ { وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى } أي إبعادي عن الرَّحمةِ ، وتقييدها بالإضافةِ مع إطلاقِها في قوله تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة } لما أنَّ لعنةَ اللاعنين من الملائكةِ والثَّقلينِ أيضاً من جهتِه تعالى وأنَّهم يدعُون عليه بلعنةِ الله تعالى وإبعادِه من الرَّحمةِ { إلى يَوْمِ الدين } أي يوم الجزاء والعقوبة ، وفيه إيذانٌ بأنَّ اللَّعنةَ مع كمال فظاعتها ليستْ جزاءً لجنايته بل هي أُنموذجٌ لما سيلقاه مستمرّاً إلى ذلك اليومِ لكن لا على أنَّها تنقطعُ يومئذٍ كما يُوهمه ظاهرُ التَّوقيتِ بل على أنَّه سيلقى يومئذٍ من ألوان العذابِ وأفانينِ العقابِ ما ينسى عنده اللَّعنَة وتصير كالزَّائلِ ألا يرى إلى قوله تعالي : { فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } وقوله تعالى : { وَيَلْعَنُ بَعْضُهُم بَعْضاً . } { قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى } أي أمهلنِي وأخِّرني ، والفاءُ متعلِّقة بمحذوفٍ ينسحبُ عليه الكلام أي إذْ جعلتني رَجيماً فأمهلني ولا تُمتني { إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي آدمُ وذريتُه للجزاءِ بعد فنائِهم ، وأرادَ بذلك أنْ يجدَ فُسحةً لإغوائِهم ويأخذَ منهم ثأرَه وينجوَ من الموتِ بالكلِّية إذ لا موتَ بعد يومِ البعثِ .
{ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين } ورودُ الجوابِ بالجملةِ الاسميَّةِ مع التَّعرُّضِ لشمولِ ما سأله لآخرين على وجهٍ يُشعر بكونِ السَّائلِ تبعاً لهم في ذلك دليلٌ واضحٌ على أنَّه إخبارٌ بالإنظارِ المقدَّر لهم أزلاً ، لا إنشاء لإنظارٍ خاصَ به ، وقد وقعَ إجابةً لدعائِه وأنَّ استنظارَه كان طَلَباً لتأخيرِ الموتِ إذ بهِ يتحقّقُ كونُه منهم لا لتأخيرِ العُقوبةِ كما قيل فإنَّ ذلكَ معلومٌ من إضافةِ اليَّومِ إلى الدِّينِ أي إنَّك من جُملةِ الذينَ أخِّرتْ آجالُهم أزلاً حسبما تقتضيِه حكمةُ التَّكوينِ .(5/489)
إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)
{ إلى يَوْمِ الوقت المعلوم } الذي قدَّره الله وعيَّنه لفناءِ الخلائقِ ، وهو وقتُ النَّفخةِ الأولى لا إلى وقتِ البعثِ الذي هو المسؤولُ . فالفاءُ ليستْ لربطِ نفسِ الأنظارِ بالاستنظارِ بل لربطِ الإخبارِ المذكورِ به كما في قولِ مَن قال :
فإن تَرحمْ فأنتَ لذاكَ أهلُ ... فإنَّه لا إمكان لجعل الفاء فيه لربطِ ما له تعالى من الأهليَّةِ القديمةِ للرَّحمةِ الحادثةِ بل هي لربط الإخبارِ بتلك الأهليةِ للرَّحمةِ بوقوعِها ، هذا وقد تُرك التَّوقيتُ في سورةِ الأعرافِ كما تُرك النِّداءُ والفاء في الاستنظار والإنظار تعويلاً على ما ذُكر ههنا وفي سُورة الحجرِ وإنْ خطَر ببالك أنَّ كلَّ وجهٍ من وجوهِ النَّظمِ الكريمِ لا بُدَّ أنْ يكونَ له مقامٌ يقتضيهِ مغاير لمقامِ غيرِه وأنَّ ما حُكي من اللَّعينِ إنَّما صدرَ عنه مرَّةً وكذا جوابُه لم يقعْ إلاَّ دفعةً فمقام الاستنظارِ والإنظارِ إنِ اقتضَى أحدَ الوجوهِ المحكيَّةِ فذلك الوجهُ هو المطابقُ لمقتَضى الحالِ والبالغُ إلى رُتبةِ البلاغةِ ودرجةِ الإعجازِ ، وأمَّا ما عداهُ من الوجوهِ فهو بمعزلٍ من بلوغِ طبقةِ البلاغةِ فضلاً عن العُروجِ إلى معارجِ الإعجازِ فقد سلفَ تحقيقُه في سورةِ الأعرافِ بفضلِ الله تعالى وتوفيقِه . { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ } الباءُ للقسمِ والفاءُ لترتيبِ مضمونِ الجملةِ على الإنظارِ ولا يُنافيه قولُه تعالى فبما أغويتني وقوله ربِّ بما أغويتني فإنَّ إغواءَهُ تعالى إيَّاهُ أثرٌ من آثارِ قُدرتِه تعالى وعزَّتِه وحكمٌ من أحكامِ قهرِه وسلطنتِه فمآلُ الإقسامِ بهما واحدٌ ولعلَّ اللَّعينَ أقسمَ بهما جميعاً فحكى تارةً قسَمه بأحدِهما وأُخرى بالآخرِ أي فأُقسم بعزَّتِك { لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } أي ذريةَ آدمَ بتزيينِ المَعَاصي لهم { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } وهم الذين أخلصَهم الله تعالى لطاعتِه وعصمَهم من الغوايةِ . وقُرىء المخلِصين على صيغةِ الفاعلِ أي الذينَ أخلصُوا قلوبَهم وأعمالَهم لله تعالى .
{ قَالَ } أي الله عزَّ وجلَّ { فالحق والحق أَقُولُ } يرفعِ الأوَّلِ على أنَّه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ أو خبرٌ محذوفُ المبتدأِ ، ونصبِ الثَّاني على أنَّه مفعولٌ لما بعدَهُ قُدِّم عليه للقصرِ ، أي لا أقولُ إلاَّ الحقَّ . والفاءُ لترتيبِ ما بعدَها على ما قبلها أي فالحقُّ قَسَمي { لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ } على أنَّ الحقَّ إمَّا اسمُه تعالى ، أو نقيضُ الباطلِ عظّمه الله تعالى بإقسامِه به أو فأنا الحقُّ أو فقولِي الحقُّ وقوله تعالى : { لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ } الخ حينئذٍ جوابٌ لقسمٍ محذوفٍ أي والله لأملأنَّ الخ وقوله تعالى : { والحق أَقُولُ } على كلِّ تقديرٍ اعتراضٌ مقرِّرٌ على الوجهينِ الأوَّلينِ لمضمونِ الجملةِ القَسَميَّةِ ، وعلى الوجِه الثَّالثِ لمضمونِ الجملةِ المتقدِّمةِ أعني فقولي الحقُّ . وقُرئا منصوبينِ على أنَّ الأوَّلَ مقسمٌ به كقولِك الله لأفعلنَّ وجوابُه لأملأنَّ وما بينهما اعتراضٌ . وقُرئا مجرورينِ على أنَّ الأولَ مقسمٌ به قد أُضمرَ حرفُ قسمِه كقولِك الله لأفعلنَّ والحقَّ أقولَ على حكايةِ لفظِ المقسمِ به على تقديرِ كونِه نقيضَ الباطلِ ومعناه التَّأكيدُ والتَّشديدُ .(5/490)
وقُرىء بجرِّ الأَولِ على إضمارِ حرفِ القسمِ ونصبِ الثَّانِي على المفعوليَّةِ { مِنكَ } أي من جنسِك من الشَّياطينِ { وَمِمَّن تَبِعَكَ } في الغَوايةِ والضَّلالِ { مِنْهُمْ } من ذريةِ آدمَ { أَجْمَعِينَ } تأكيدٌ للكافِ وما عُطف عليه أي لأملأنَّها من المتبوعينَ والأتباعِ أجمعينَ ، كقولِه تعالى : { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } وهذا القولُ هو المرادُ بقوله تعالى : { ولكن حَقَّ القول مِنْى لاَمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } وحيثُ كان مناطُ الحكمِ ههُنا اتِّباعُ الشَّيطانِ اتَّضحَ أنَّ مدارَ عدمِ المشيئةِ في قولِه تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } اتباعُ الكَفَرةِ للشَّيطانِ بُسوءِ اختيارِهم لا تحقُّقُ القولِ فليس في ذلك شائبةُ الجبرِ فتدبَّر .(5/491)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
{ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ } على القُرآنِ أو على تبليغِ ما يُوحى إليَّ . { مِنْ أَجْرٍ } دنيويَ { وَمَا أَنَا مِنَ المتكلفين } أي المتصنِّعين بما ليسُوا من أهلِه حتَّى أنتحلَ النبوة وأتقوَّلَ القُرآنَ { إِنْ هُوَ } أي مَا هُو { إِلاَّ ذِكْرٌ } من الله عزَّ وجلَّ { للعالمين } أي للثَّقلينِ كافَّةً { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ } أي ما أنبأ بهِ من الوعدِ والوعيدِ وغيرِهما أو صحَّةَ خبرهِ وأنَّه الحقُّ والصِّدقُ { بَعْدَ حِينِ } بعد الموتِ أو يومَ القيامةِ أو عند ظهورِ الإسلامِ وفشوِّه . وقيل : من بقى علمَ ذلك أذا ظهرَ أمرُه وعلاَ ومَن ماتَ علمَهُ بعدَ الموتِ وفيه من التَّهديدِ ما لا يخَفْى .
عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : « مَن قرأَ سورةَ ص كانَ له بوزنِ كلِّ جبلٍ سخَّره الله لداودَ عشرَ حسناتٍ وعُصم أنْ يُصرَّ على ذنبٍ صغيرٍ أو كبيرٍ » وقال أبُو أمامةَ : عصمَه الله تُعالى من كلِّ ذنبٍ صغيرٍ أو كبيرٍ والله أعلمُ .(5/492)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
( سورة الزمر مكية إلا قوله { قل يا عبادي } الآية وآياتها خمس وسبعون آية )
{ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم } { تَنزِيلُ الكتاب } خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ هو اسم إشارة أُشير به إلى السُّورةِ تنزيلاً لها منزلةَ الحاضر المُشارِ إليه لكونها على شرف الذِّكرِ والحضورِ كما مرَّ مراراً . وقد قيل هو ضميرٌ عائد إلى الذِّكرِ في قوله تعالى : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين } وقوله تعالى : { مِنَ الله العزيز الحكيم } صلة للتَّنزيلِ أو خبرٌ ثانٍ أو حالٌ من التَّنزيلِ عاملُها معنى الإشارة أو من الكتابِ الذي هو مفعولٌ معنى ، عاملُها المضاف ، وقيل هو خبرٌ لتنزيلُ الكتابِ ، والوجهُ الأَوَّلُ أو في بمقتضى المقامِ الذي هو بيانُ أنَّ السُّورةَ أو القُرآنَ تنزيلُ الكتابِ من الله تعالى لا بيانُ أنَّ تنزيلَ الكتابِ منه تعالى لا من غيرِه كما يفيده الوجهُ الأخيرُ . وقُرىء تنزيلَ الكتابِ بالنَّصبِ على إضمار فعلٍ نحو اقرأْ أو الزمْ . والتَّعرُّضُ لوصفَيْ العزَّةِ والحكمة للإيذانِ بظهور أثريهما في الكتابِ بجريانِ أحكامِه ونفاذ أوامره ونواهيه من غير مُدافعٍ ولا ممانع ، وبابتناءِ جميع ما فيه على أساس الحِكَمِ الباهرةِ . وقولُه تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق } شروعٌ في بيان شأن المنزَّلِ إليه وما يجبُ عليه إثرَ بيانِ شأن المنَّزلِ وكونِه من عند الله تعالى ، والمرادُ بالكتاب هو القُرآنُ وإظهاره على تقدير كونِه هو المرادَ بالأَوَّلِ أيضاً لتعظيمه ومزيد الاعتناء بشأنِه . والباء إمَّا متعلِّقةٌ بالإنزال أي بسبب الحقِّ وإثباته وإظهارِه أو بداعية الحقِّ واقتضائه للإنزالِ وإمَّا بمحذوفٍ هو حالٌ من نون العظمةِ أو من الكتاب أو أنزلناهُ إليك محقِّين في ذلك أو أنزلناه مُلتبِساً بالحقِّ والصواب أي كلُّ ما فيه حقٌّ لا ريبَ فيه موجبٌ للعمل به حَتْماً . والفاءُ في قوله تعالى : { فاعبد الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين } لترتيب الأمر بالعبادة على إنزالِ الكتاب إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالحقِّ أي فاعبْدُه تعالى ممُحِّضاً له الدِّينَ من شوائب الشِّركِ والرِّياءِ حسبما بُيِّن في تضاعيف ما أُنزل إليك . وقُرىء برفع الدِّينِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه الظَّرفُ المقدَّمُ عليه لتأكيد الاختصاصِ المُستفاد من اللاَّمِ . والجملةُ استئنافٌ وقع تعليلاً للأمر بإخلاصِ العبادةِ . وقوله تعالى : { أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص } استئنافٌ مقرِّرٌ لما قبله من الأمرِ بإخلاص الدِّينِ له تعالى ، ووجوبِ الامتثالِ به . وعلى القراءةِ الأخيرةِ مؤكِّدٌ لاختصاصِ الدِّينِ به تعالى أي أَلاَ هو الذي يجبُ أنْ يُخصَّ بإخلاصِ الطَّاعةِ له لأنَّه المُتفرِّدُ بصفاتِ الأُلوهيَّةِ التي من جُملتها الاطِّلاعُ على السَّرائرِ والضَّمائرِ . وقولُه تعالى :
{ والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } تحقيقٌ لحقِّيةِ ما ذُكر من إخلاص الدِّينِ الذي هو عبارةٌ عن التَّوحيدِ ببيان بُطلان الشِّركِ الذي هو عبارةٌ عن ترك إخلاصِه ، والموصولُ عبارةٌ عن المُشركين ومحلُّه الرَّفعُ على الابتداءِ خبرُه ما سيأتي من الجُملةِ المُصدَّرةِ بأنْ .(5/493)
والأولياءُ عن الملائكةِ وعيسى عليهم السَّلامُ والأصنامِ . وقولُه تعالى : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى } حالٌ بتقدير القَول من واوِ اتَّخذوا مبنيةٌ لكيفيَّةِ إشراكِهم وعدمِ خُلوصِ دينهم . والاستثناءُ مفرَّغٌ من أعمِّ العلل . وزُلْفى مصدرٌ مؤكَّدٌ على غير لفظِ المصدرِ ملاقٍ له في المعنى أي والذينَ لم يُخلصوا العبادةَ لله تعالى بل شابُوها بعبادةِ غيره قائلين ما نعبدُهم لشيءٍ من الأشياءِ إلا ليقرِّبونا إلى الله تعالى تقريباً . { إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } أي وبين خصمائِهم الذين هم المُخلِصون للدِّين . وقد حُذفَ لدلالةِ الحالِ عليه كما في قولِه تعالى : { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ } على أحدِ الوجهينِ أي بين أحدٍ منهم وبين غيرِه وعليه قول النَّابغةِ :
فمَا كانَ بينَ الخيرِ لو جاءَ سالما ... أبُو حَجَرٍ إلاَّ ليالٍ فلائلُ
أي بين الخيرِ وبينِي وقيل : ضيمر بينَهم للفريقينِ جميعاً { فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } من الدِّين الذي اختلفُوا فيه بالتَّوحيد والإشراكِ وادَّعى كلُّ فريقٍ منهم صحَّةَ ما انتحله وحكمُه تعالى في ذلك إدخالُ الموحِّدينَ الجنَّةَ والمشركين النَّارَ فالضَّميرُ للفريقينِ هذا هو الذي يستدعيِه مساقُ النَّظمِ الكريم ، وأمَّا تجويزُ أنْ يكونَ الموصول عبارةً عن المعبودينَ على حذف العائد إليه وإضمارِ المشركينَ من غير ذكر تعويلاً على دلالة المساقِ عليهم ، ويكون التَّقديرُ والذين اتَّخذهم المشركون أولياءَ قائلين ما نعبُدهم إلاَّ ليقربونا إلى الله إنَّ الله يحكم بينهم أي بين العَبَدةِ والمعبودينَ فيما هم فيه يختلفُون حيثُ يرجُو العَبَدةُ شفاعتهم وهم يلعنونهم فبعد الإغضاءِ عمَّا فيه من التَّعسُّفاتِ بمعزل من السَّدادِ ، كيف لا وليس فيما ذُكر من طلب الشَّفاعةِ واللَّعنِ مادَّةٌ يختلفُ فيها الفريقانِ اختلافاً مُحوِجاً إلى الحكمِ والفصلِ وإنَّما ذاك ما بين فريقَيْ الموحِّدينَ والمشركينَ في الدُّنيا من الاختلاف في الدِّينِ الباقي إلى يوم القيامة . وقُرىء قالُوا ما نعبدُهم فهو بدلٌ من الصِّلةِ ولا خبرٌ للموصول كما قيل إذ ليس في الإخبارِ بذلك مزيدُ مزيِّةٍ . وقُرىء ما نعبدكم إلاَّ لتُقرِّبونا حكايةً لما خاطبُوا به آلهتَهم . وقُرىء نعبدُهم إتباعاً للباء { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى } أي لا يُوفِّقُ للاهتداءِ إلى الحقِّ الذي هو طريقُ النَّجاةِ عن المكروهِ والفوزُ بالمطلوبِ { مَنْ هُوَ كاذب كَفَّارٌ } أي راسخٌ في الكذبِ مبالغٌ في الكُفرِ كما يُعربُ عنه قراءةُ كذَّاب وكَذُوب فإنَّهما فاقدانِ للبصيرةِ غيرُ قابلينِ للاهتداءِ لتغييرهما الفطرةَ الأصليَّةَ بالتَّمرُّنِ في الضَّلالةِ والتَّمادِي في الغِيِّ . والجملةُ تعليلٌ لما ذُكر من حكمه تعالى .(5/494)
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)
{ لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } الخ استئنافٌ مسوقٌ لتحقيقِ الحقِّ وإبطالِ القولِ بأنَّ الملائكةَ بناتُ الله وعيسى ابنُه تعالى عن ذلك عُلَّواً كبيراً ببيانِ استحالةِ اتَّخاذ الولدِ في حقَّه تعالى على الإطلاقِ ليندرجَ فيه استحالةُ ما قيل اندراجاً أوليَّاً أي أرادَ الله أنْ يتَّخذَ وَلَداً { لاصطفى } أي لاتَّخذَ { مِمَّا يَخْلُقُ } أي من جملة ما يخلقُه أو من جنس ما يخلقه { مَا يَشَاء } أنْ يتَّخذَه إذْ لا موجودَ سواهُ إلاَّ وهو مخلوقٌ له تعالى لامتناعِ تعدُّدِ الواجبِ ووجوبِ استنادِ جميعِ ما عداهُ إليه ، ومن البيِّنِ أنَّ اتِّخاذَ الولد منوطٌ بالمماثلة بين المتَّخِذِ والمتَّخَذِ وأنَّ المخلوقَ لا يُماثل خالقَه حتَّى يمكن اتِّخاذُه ولداً فما فرضناه اتِّخاذَ ولدٍ لم يكُن اتِّخاذَ ولدٍ بل اصطفاءُ عبدٍ وإليه أُشير حيث وُضع الاصطفاءُ موضع الاتِّخاذِ الذي تقتضيهِ الشَّرطَّيةُ تنبيهاً على استحالةِ مُقدمها لاستلزامِ فرض وقوعِه بل فرضِ إرادةِ وقوعِه انتفاءه أي لو أراد الله تعالى أنْ يتَّخذَ ولداً لفعل شيئاً ليس هو من اتِّخاذِ الولد في شيءٍ أصلاً بل إنَّما هو اصطفاءُ عبدٍ ولا ريب في أنَّ ما يستلزم فرضُ وقوَعه انتفاءَه فهو ممتنعٌ قطعاً فكأنَّه قيل لو أراد الله أنْ يتَّخذَ ولداً لامتنع ولم يصحَّ لكن لا على أنَّ الامتناعَ منوطٌ بتحقُّقِ الإرادة بل على أنَّه مُتحقِّقٌ عند عدمِها بطريقِ الأَولوَّيةِ على منوال لو لم يخفِ الله لم يعصِه . وقوله تعالى : { سبحانه } تقريرٌ لما ذُكر من استحالة اتِّخاذ الولد في حقِّه تعالى وتأكيدٌ له ببيانِ تنزُّهه تعالى عنه أي تنزّه بالذَّاتِ عن ذلك تنزهه الخاصّ به على أنَّ السُّبحانَ مصدر من سبَح إذا بعُد أو أسبِّحه تسبيحاً لائقاً به على أنَّه عَلَم للتَّسبيح مقولٌ على ألسنة العباد أو سبِّحوه تسبيحاً حقيقاً بشأنِه . وقولُه تعالى : { هُوَ الله الواحد القهار } استئنافٌ مبيِّنٌ لتنزُّههِ تعالى بحسبِ الصِّفاتِ إثرَ بيانِ تنزُّههِ تعالى عنه بحسب الذَّاتِ فإنَّ صفةَ الأُلوهيَّةِ المستتبعة لسائر صفاتِ الكمال النَّافيةِ لسماتِ النُّقصانِ والوحدة الذَّاتية الموجبة لامتناعِ المُماثلة والمُشاركة ببنه تعالى وبين غيرِه على الإطلاقِ ممَّا يقضِي بتنزُّهه تعالى عمَّا قالوا قضاءً مُتقناً ، وكذا وصف القهَّاريَّةِ لما أنَّ اتِّخاذَ الولد شأنُ مَن يكون تحتَ ملكوتِ الغيرِ عُرضةً للفناءِ ليقومَ ولدُه مقامَه عند فنائِه ومَن هو مستحيلُ الفناءِ قهَّارٌ لكلِّ الكائناتِ كيفَ يُتصوُرُ أنْ يتَّخذَ من الأشياءِ الفانيةِ ما يقومُ مقامَه .(5/495)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
وقولُه تعالى : { خلَقَ السموات والارض بالحق } تفصيلٌ لبعض أفعالِه تعالى الدَّالَّةِ على تفرُّدِه بما ذُكر من الصِّفاتِ الجليلة أي خلقهما وما بينهما من الموجوداتِ ملتبِسة بالحقِّ والصَّوابِ مشتملة على الحِكَم والمصالح . وقولُه تعالى : { يُكَوّرُ اليل عَلَى النهار وَيُكَوّرُ النهار عَلَى اليل } بيانٌ لكيفيَّةِ تصرُّفةِ تعالى فيهما بعد بيان خلقِهما فإنَّ حدوثَ اللَّيلِ والنَّهارِ في الأرض منوطٌ بتحريك السَّمواتِ أي يغشى كلُّ واحدٍ منُهما الآخرَ كأنَّه يلفه عليه لفَّ اللباسِ على اللاَّبسِ أو يُغيبه به كما يُغيَّبُ الملفوفُ باللُّفافةِ أو يجعله كارَّاً عليه كُروراً متتابعاً تتابع أكوارِ العمامةِ . وصيغةُ المضارع للدِّلالةِ على التَّجدُّدِ { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } جعلهما منقادينِ لأمرِه تعالى . وقولُه تعالى : { كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى } بيانٌ لكيفيَّةِ تسخيرِهما أي كلٌّ منهما يجري لمُنتهى دورتِه أو منقطعِ حركتِه وقد مرَّ تفصيلُه غيرَ مرَّةٍ { إِلاَّ هُوَ العزيز } الغالبُ القادرُ على كلِّ شيءٍ من الأشياءِ التي من جُملتها عقابُ العُصاةِ { الغفار } المبالغُ في المغفرةِ ولذلك لا يُعاجل بالعقوبةِ وسلب ما في هذه الصَّنائعِ البديعة من آثارِ الرَّحمةِ . وتصديرُ الجملة بحرفِ التَّنبيهِ لإظهار كمالِ الاعتناءِ بمضمونِها .(5/496)
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
{ خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة } بيانٌ لبعضٍ آخرَ من أفعالِه الدَّالَّةِ على ما ذُكر ، وتركُ عطفِه على خلقِ السَّمواتِ للإيذانِ باستقلالِه في الدِّلالةِ ولتعلُّقِه بالعالم السُّفلي ، والبَداءةُ يخلق الإنسانِ لعراقتِه في الدِّلالةِ لما فيه من تعاجيبِ آثارِ القُدرةِ وأسرارِ الحكمةِ وأصالتِه في المعرفةِ فإنَّ الإنسانَ بحالِ نفسِه أعرفُ والمرادُ بالنَّفسِ نفسُ آدمَ عليه السَّلامُ . وقولُه { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } عطفٌ على محذوفٍ هو صفةٌ لنفس أي منْ نفسٍ خلقَها ثمَّ جعل منها زَوْجَها أو على معنى واحدةٍ أي من نفسٍ واحدةٍ ثمَّ جعلَ منها زَوْجها فشَفَعها أو على خلقكم لتفاوتِ ما بينهما في الدِّلالةِ فإنَّهما وإن كانتا آيتينِ دالتَّينِ على ما ذُكر لكن الأُولى لاستمرارِها صارتْ معتادةً وأما الثَّانيةُ فحيثُ لم تكن معتادةً خارجةً عن قياسِ الأولى كما يُشعر به التَّعبيرُ عنها بالجعلِ دون الخلقِ كانت أدخلَ في كونِها آيةً وأجلبَ للتَّعجُّبِ من السَّامعِ فعطفت على الأولى بثمَّ دلالةً على مباينتِها لها فضلاً ومزية وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادةِ كونِها آيةً فهو من التَّراخي في الحالِ والمنزلةِ . وقيل أخرج ذريَّةَ آدمَ من ظهرهِ كالذَّرِّ ثم خلقَ منه حواء ففيهِ ثلاثُ آياتٍ مترتِّبة : خلقُ آدمَ عليه السَّلامُ بلا أبٍ وأمَ وخلقُ حوَّاءَ من قُصيراه ، ثم تشعيبُ الخلقِ الفائتِ للحصرِ منهما . وقوله تعالى :
{ وَأَنزَلَ لَكُمْ } بيانٌ لبعضٍ آخرَ من أفعاله الدَّالَّةِ على ما ذُكر أي قضى أو قسَم لكم فإنَّ قضاياهُ وقسمه تُوصف بالنُّزولِ من السَّماءِ حيثُ تُكتب في اللَّوحِ المحفوظِ أو أحدثَ لكم بأسبابٍ نازلةٍ من السَّماءِ كالأمطارِ وأشعَّةِ الكواكبِ { مّنَ الانعام ثمانية أزواج } ذكراً وأُنثى هي الإبلُ والبقرُ والضَّأنُ والمعزُ وقيل خلقَها في الجنَّةِ ثمَّ أنزلها . وتقديمُ الظَّرفينِ على المفعولِ والصَّريحِ لما مرَّ مراراً من الاعتناءِ بما قُدِّم والتَّشويقِ إلى ما أُخِّر فإنَّ كونِ الإنزالِ لمنافعِهم وكونَه من الجهةِ العاليةِ من الأمورِ المهمَّةِ المشوِّقةِ إلى ما أُنزل لا محالةَ . وقولُه تعالى : { يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أمهاتكم } استئنافٌ مسوقٌ لبيان كيفيَّةِ خلقِهم وأطواره المختلفةِ الدَّالَّةِ على القُدرةِ الباهرةِ . وصيغة المضارعِ للدِّلالةِ على التَّدرجِ والتَّجدُّدِ . وقولُه تعالى : { خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ } مصدرٌ مؤكد أي يخلقكُم فيها خلقاً كائناً من بعدِ خلقٍ أي خلقاً مدرجاً حيواناً سَوياً من بعد عظام مكسوَّةٍ لحماً من بعد عظامٍ عارية من بعد مُضَغ مخلَّقةٍ من بعد مضغ غير مخلَّقةٍ من بعد علقةٍ من بعد نُطفةٍ { فِى ظلمات ثلاث } متعلِّق بيخلقُكم وهي ظُلمة البطن وظُلمة الرَّحمِ وظُلمة المشيمةِ أو ظُلمة الصُّلبِ والبطنِ والرَّحِمِ .
{ ذلكم } إشارة إليه تعالى باعتبارِ أفعالِه المذكورةِ ، وما فيه من معنى البُعدِ للإيذانِ بُبعد منزلتِه تعالى في العظمةِ والكبرياءِ . ومحلُّه الرَّفعُ على الابتداءِ أي ذلكم العظيمُ الشَّأنِ الذي عددت أفعاله { الله } وقوله تعالى : { رَبُّكُمْ } خبرٌ آخرُ أي مُربيكم فيما ذُكر من الأطوارِ وفيما بعدَها ومالككم المستحقُّ لتخصيصِ العبادةِ به { لَهُ الملك } على الإطلاقِ في الدُّنيا والآخرةِ ليس لغيره شركةٌ في ذلك بوجهٍ من الوجوهِ . والجملةُ خبرٌ آخرُ . وكذا قولُه تعالى : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } والفاء في قوله تعالى : { فأنى تُصْرَفُونَ } لترتيبِ ما بعدَها على ما ذُكر من شؤونِه تعالى أي فكيفَ تُصرفون عن عبادتِه تعالى مع وفورِ موجباتِها ودواعيها وانتفاءِ الصَّارفِ عنها بالكُلِّيةِ إلى عبادةِ غيرِه من غير داعٍ إليها مع كثرة الصَّوارفِ عنها .(5/497)
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
{ إِن تَكْفُرُواْ } به تعالى بعد مشاهدةِ ما ذُكر من فنونِ نعمائِه ومعرفةِ شؤونِه العظيمةِ الموجبةِ للإيمانِ والشُّكرِ { فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنكُمْ } أي فاعلمُوا أنَّه تعالى غنيٌّ عن إيمانِكم وشكركم غيرُ متأثِّرٍ من انتفائهما { وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر } أي عدمُ رضاه بكفر عباده لأجل منفعتِهم ودفعِ مضرَّتِهم رحمةً عليهم لا لتضرُّرهِ تعالى به { وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ } أي يرض الشُّكرَ لأجلكم ومنفعتكم لأنَّه سببٌ لفوزكم بسعادة الدَّارينِ لا لانتفاعه تعالى به وإنَّما قيل لعباده لا لكُم لتعميم الحكمِ وتعليله بكونهم عبادَه تعالى . وقُرىء بإسكانِ الهاءِ { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } بيانٌ لعدم سرايةِ كفر الكافر إلى غيرِه أصلاً أي لا تحملُ نفسٌ حاملة للوزر حملَ نفسٍ أخرى { ثُمَّ إلى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ } بالبعث بعد الموت { فَيُنَبّئُكُمْ } عند ذلك { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي كنتُم تعملونَه في الدُّنيا من أعمال الكفر والإيمانِ أي يُجازيكم بذلك ثواباً وعقاباً . { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أي بمضمرات القلوبِ فكيف بالأعمال الظَّاهرةِ وهو تعليل للتَّنبيه .
{ وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ } من مرضٍ وغيره { دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ } راجعاً إليه ممَّا كان يدعُوه في حالة الرَّخاءِ لعمله بأنَّه بمعزلٍ من القُدرة على كشف ضُرِّه ، وهذا وصف للجنس بحالِ بعضِ أفرادِه كقوله تعالى : { إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } { ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مّنْهُ } أي أعطاهُ نعمةً عظيمةً من لدنه تعالى من التَّخولِ وهو التَّعهدُ أي جعله خائلَ مالٍ من قولهم فلانٌ خائلُ مال إذا كان مُتعهِّداً له حسنَ القيامِ به أو من الخَولِ وهو الافتخارُ أي جعله يخُولُ أي يختالُ ويفتخرُ { نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ } أي نسيَ الضُّرَّ الذي كان يدعُو الله تعالى فيما سبق إلى كشفِه { مِن قَبْلُ } أي من قبل التَّخويلِ أو نسي ربَّه الذي كان يدعُوه ويتضرَّعُ إليه ، إمَّا بناء على أنَّ ما بمعنى مَن كما في قوله تعالى : { وَمَا خَلَقَ الذكر والانثى } وقوله تعالى : { وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ } وإمَّا إيذاناً بأنَّ نسيانَهُ بلغ إلى حيثُ لا يعرف مدَّعوه ما هو فضلاً عن أنْ يعرفه من هو كما مرَّ في قوله تعالى : { عَمَّا أَرْضَعَتْ } { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً } شركاءَ في العبادة { لِيُضِلَّ } النَّاس بذلك { عَن سَبِيلِهِ } الذي هو التَّوحيدُ وقُرىء ليَضلَّ بفتح الياء أي يزدادَ ضلالاً أو يثبتَ عليه وإلا فأصلُ الضَّلالِ غيرُ متأخِّرٍ عن الجعل المذكور . واللامُ لامُ العاقبة كما في قوله تعالى : { فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } خلا أنَّ هذا أقربُ إلى الحقيقةِ لأنَّ الجاعلَ ههنا قاصدٌ بجعله المذكورِ حقيقةَ الإضلالِ والضَّلالِ وإنْ لم يعرف لجهله أنَّهما إضلالٌ وضلالٌ وأمَّا آلُ فرعونَ فهم غيرُ قاصدين بالتقاطِهم العداوةَ أصلاً . { قُلْ } تهديداً لذلك الضَّالَّ المُضلَّ وبياناً لحالِه ومآلِه { تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً } أي تمتُّعاً قليلاً أو زمَاناً قليلاً { إِنَّكَ مِنْ أصحاب النار } أي ملازميها والمعذَّبين فيها على الدَّوامِ وهو تعليلٌ لقلَّة التَّمتعِ ، وفيه من الإقناط من النَّجاةِ ما لا يخفى كأنَّه قيل : إذ قد أبيتَ قبولَ ما أُمرتَ به من الإيمان والطَّاعةِ فمن حقَّك أنْ تُؤمرَ بتركه لتذوقَ عقوبتَه .(5/498)
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء اليل } الخ من تمام الكلامِ المأمورِ به وأم إما متصلة قد حُذف معادلُها ثقةً بدلالة مساقِ الكلام عليه كأنَّه قيل له تأكيداً للتَّهديد وتهكُّماً به : أأنت أحسنُ حالاً ومآلاٍ أمَّن هو قائمٌ بمواجب الطَّاعاتِ ودائم على أداءَ وظائف العبادات في ساعاتِ اللَّيل حالتَيْ السَّراءِ والضَّراءِ لا عند مساس الضُّرِّ فقط كدأبك حالَ كونِه { ساجدا وَقَائِماً } أي جامعاً بين الوصفينِ المحمودينِ ، وتقديمُ السُّجودِ على القيام لكونه أدخلَ في معنى العبادةِ . وقُرىء كلاهُما بالرَّفعِ على أنه خبرٌ بعد خبرٍ { يَحْذَرُ الاخرة } حالٌ أُخرى على التَّرادفِ أو التَّداخلِ . أو استئنافً وقع جواباً عمَّا نشأ من حكاية حالِه من القنوتِ والسُّجود والقيامِ كأنَّه قيل ما بالُه يفعل ذلك فقيلَ يحذرُ عذابَ الآخرةِ { مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ } فينجُو بذلك مما يحذرُه ويفوزُ بما يرجُوه كما ينبىءُ عنه التَّعرضُ لعُنوانِ الرُّبوبَّيةِ المنبئةِ عن التَّبليغِ إلى الكمالِ مع الإضافة إلى ضميرِ الرَّاجي لا أنَّه يحذرُ ضرَّ الدُّنيا ويرجُو خيرَها فقط ، وإما منقطعةٌ وما فيها من الإضرابِ للانتقالِ من التَّهديدِ إلى التَّبكيتِ بتكليف الجواب الملجىءِ إلى الاعترافِ بما بينهما من التَّباينِ البيِّن كأنَّه قيل : بل أمن هو قانتٌ الخ أفضل أمَّن هو كافرٌ مثلك كما هو المعنى على قراءة التَّخفيفِ { قُلْ } بياناً للحقِّ وتنبيهاً على شرفِ العلمِ والعمل { هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ } حقائقَ الأحوالِ فيعملون بموجبِ علمهم كالقانتِ المذكورِ { والذين لاَ يَعْلَمُونَ } أي ما ذُكر أو شيئاً فيعملون بمقتضى جهلِهم وضلالِهم كدأبك والاستفهامُ للتَّنبيه على أنَّ كون الأَوَّلينَ في أعلى معارج الخيرِ وكون الآخرينَ في أقصى مدارج الشَّرِّ من الظُّهورِ بحيث لا يكادُ يخفى على أحدٍ من منصفِ ومكابرٍ وقيل : هو واردٌ على سبيل التَّشيبهِ أي كما لا يستوي العالمونَ والجاهلون لا يستوي القانتون والعاصُون . وقوله تعالى { إِنَّمَا يَتَذَكَّرَ أُوْلُو الالباب } كلامٌ مستقلٌّ غير داخلٍ في الكلام المأمور به واردٌ من جهته تعالى بعد الأمر بما ذُكر من القوارعِ الزَّاجرةِ عن الكُفر والمعاصِي لبيانِ عدمِ تأثيرِها في قلوبِ الكفرةِ لاختلال عقولهم كما في قَول مَنْ قال :
عُوجُوا فحيُّوا لنُعْمَى دِمْنَةَ الدَّار ... مَاذا تُحيُّونَ من نُؤْيٍ وَأَحْجَارِ
أي إنما يتَّعظُ بهذه البيانات الواضحة أصحابُ العقولِ الخالصةِ عن شوائبِ الخللِ وهؤلاءِ بمعزلٍ من ذلك . وقُرىء إنَّما يذكَّر بالإدغام .(5/499)
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)
{ قُلْ يا عِبَادِى الذين ءامَنُواْ اتقوا رَبَّكُمْ } أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بتذكير المُؤمنين وحملِهم على التَّقوى والطَّاعة إثرَ تخصيص التَّذكُّر بأولي الألباب إيذاناً بأنَّهم هم كما سيصرِّح به أي قُل لهم قولي هذا بعينه وفيه تشريفٌ لهم بإضافتهم إلي ضمير الجلالةِ ومزيدُ اعتناءٍ بشأن المأمور به فإنَّ نقلَ عينِ أمرِ الله أدخلُ في إيجابِ الإمتثالِ به . وقولُه تعالى : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } تعليلٌ للأمر أو لوجوبِ الامتثال به وإيراد الإحسان في حيِّز الصِّلةِ التَّقوى للإيذانِ بأنَّه من باب الإحسان وأنَّهما مُتلازمانِ وكذا الصَّبرُ كما مرَّ في قوله تعالى : { إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ } وفي قوله تعالى : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } وقوله تعالى { فِى هذه الدنيا } متعلِّقٌ بأحسنُوا أي عملوا الأعمالَ الحسنةَ في هذه الدُّنيا على وجه الإخلاصِ وهو الذي عبّر عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حينَ سُئل عن الإحسانِ بقوله عليه السَّلامُ : « أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكن تراهُ فإنَّه يراكَ » { حَسَنَةٌ } أي حسنة عظيمةٌ لا يُكْتَنَه كُنْهُها وهي الجنَّةُ . وقيل : هو متعلِّقٌ بحسنة على أنَّه بيان لمكانها أو حالٌ من ضميرها في الظَّرفِ فالمرادُ بها حينئذٍ الصِّحَّةُ والعافيةُ { وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ } فمن تعسَّر عليه التَّوفرُ على التَّقوى والإحسانِ في وطنِه فليهاجر إلى حيثُ يتمكَّن فيه من ذلك كما هو سُنَّة الأنبياءِ والصَّالحينَ فإنه لا عُذرَ له في التَّفريطِ أصلاً وقوله تعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون } الخ ترغيب في التَّقوى المأمور بها ، وإيثارُ الصَّابرين على المتَّقين للإيذانِ بأنَّهم حائزونَ لفضيلة الصَّبر كحيازتهم لفضيلةِ الإحسانِ لما أشير إليه من استلزام التَّقوى لهما مع ما فيه من زياذةِ حثَ على المصابرةِ والمجاهدةِ في تحمُّل مشاقَّ المهاجرة ومتاعبها أي إنَّما يوفَّى الذين صبرُوا على دينِهم وحافظُوا على حدودِه ولم يُفرِّطُوا في مُراعاةِ حقوقه لما اعتراهم في ذلك من فُنونِ الآلامِ والبَلاَيا التي من جُملتها مهاجرةُ الأهلِ ومفارقةُ الأوطانِ { أَجْرَهُمْ } بمقابلة ما كابدُوا من الصَّبرِ { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي بحيث لا يُحصى ولا يُحصر . عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : لا يَهتدِي إليه حسابُ الحُسَّاب ، ولا يُعرف . وفي الحديثِ « أنَّه تنصبُ الموازينُ يوم القيامة لأهلِ الصَّلاة والصَّدقة والحَجِّ فيُؤتَون بها أجورَهم ولا تنُصب لأهل البلاءِ بل يُنصبُّ عليهم الأجرُ صَّباً حتَّى يتمنَّى أهلُ العافيةِ في الدُّنيا أنَّ أجسادَهم تُقرضُ بالمقاريضِ مَّما يذهبُ به أهلُ البلاءِ من الفضلِ »
{ قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين } أي من كلِّ ما ينافيهِ من الشِّركِ والرِّياءِ وغير ذلك أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ببيانِ ما أُمر به نفسه من الإخلاصِ في عبادة الله الذي هو عبارةٌ عمَّا أُمر به المؤمنون من التَّقوى مبالغةً في حثِّهم على الإتيان بما كُلِّفوه وتمهيداً لما يعقُبه مَّما خُوطب به المشركونَ .(5/500)
{ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين } أي وأُمرت بذلك لأجلِ أنْ أكونَ مقدَّمهم في الدُّنيا والآخرةِ لأنَّ إحرازَ قَصَب السَّبقِ في الدِّين بالإخلاصِ فيه . والعطفُ لمغايرةِ الثَّاني الأوَّلَ بتقييده بالعلَّةِ والإشعارِ بأنَّ العبادةَ المذكورةَ كما تقتضِي الأمرَ بها لذاتِها تقتضيهِ لما يلزمُها من السَّبقِ في الدِّينِ ويجوزُ أنْ تُجعلَ اللاَّمُ مزيدةً كما في أردتُ لأنْ أقومَ بدليلِ قوله تعالى : { أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } فالمعنى وأُمرت أنْ أكونَ أوَّلَ مَن أسلمَ من أهلِ زمانيِ أو مِن قومي أو أكون أولَ من دَعا غيرَهُ إلى ما دعا إليه نفسَه .(6/1)
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)
{ قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى } بترك الإخلاصِ والميل إلى ما أنتمُ عليه من الشِّركِ { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } هو يومُ القيامةِ وصفَ بالعظمةِ لعظمةِ ما فيه من الدَّواهي والأهوالِ { قُلِ الله أَعْبُدُ } لا غيرَه لا استقلالاً ولا اشتراكاً { مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى } من كلِّ شَوْبٍ . أُمر عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أوَّلاً ببيان كونِه مأموراً بعبادةِ الله تعالى وخلاصِ الدِّينِ له ثمَّ بالإخبارِ بخوفِه من العذابِ على تقديرِ العصيانِ ثمَّ بالإخبارِ بامتثاله بالأمرِ على أبلغِ وجِه وآكدِه إظهاراً لتصلُّبه في الدِّينِ وحسماً لأطماعِهم الفارغةِ وتمهيداً لتهديدِهم بقوله تعالى { فاعبدوا مَا شِئْتُمْ } أنْ تعبدُوه { مِن دُونِهِ } تعالى وفيه من الدِّلالةِ على شدَّةِ الغضبِ عليهم ما لا يخفي كأنَّهم لمَّا لم ينتهُوا عما نُهوا عنه أُمروا به كي يحل بهم العقابُ .
{ قُلْ إِنَّ الخاسرين } أي الكاملينَ في الخُسران الذي هو عبارةٌ عن إضاعةِ ما يُهمه وإتلافِ ما لا بدَّ منه { الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ } باختيارِهم الكفرَ لهما أي أضاعُوهما وأتلفوهُما { يَوْمُ القيامة } حين يدخُلون النَّارِ حيث عرَّضوهما للعذابِ السَّرمديِّ وأوقعُوهما في هَلَكةٍ لا هلكةَ وراءها . وقيل : خسِروا أهليهم لأنَّهم إنْ كانُوا من أهلِ النَّار فقد خسروهم كما خسِروا أنفسَهم إنَ كانُوا من أهلِ الجنَّةَ فقد ذهبُوا عنهم ذهاباً لا إيابَ بعدَهُ . وفيه أنَّ المحذورَ ذهابُ ما لو آبَ لانتفع به الخاسرُ وذلك غيرُ متصوَّرٍ في الشِّقِّ الأخيرِ . وقيل : خسِروهم لأنَّهم لم يدخلُوا الذين لهم أهلٌ في الجنَّةِ وخَسِروا أهليهم الذين كانِوا يتمتَّعون بهم لو آمنُوا ، وأيَّا ما كان فليسَ المرادُ مجرد تعريفِ الكاملينَ في الخُسران بما ذُكر بل بيانَ أنَّهم هم ، إمَّا بجعلِ الموصولِ عبارةً عنهم أو عمَّا هم مُندرجون فيه اندراجاً أوليَّاً . وما في قوله تعالى { أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين } من استئنافِ الجملةِ وتصديرِها بحرفِ التَّنبيه والإشارةِ بذلك إلى بُعد منزلةِ المُشارِ إليه في الشَّرِّ . وتوسيطُ ضمير الفصل وتعريفُ الخسرانِ ووصفُه بالمبينِ من الدِّلالةِ على كمالِ هوله وفظاعتِه وأنَّه لا خُسران وراءه ما لا يَخفْى . وقوله تعالى { لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النار } الخ نوع بيانٍ لخسرانِهم بعد تهويلِه بطريقِ الإيهامِ على أنَّ لهم خبرٌ لظُللٌ . ومن فوقِهم متعلِّقٌ بمحذوفٍ قيل : هو حالٌ من ظُللٌ . والأظهرُ أنَّه حالٌ من الضَّميرِ في الظَّرفِ المُقدَّمِ ومن النَّارِ صفةٌ لظللٌ أي لهم كائنةٌ من فوقهم ظللٌ كثيرةٌ متراكبةٌ بعضُها فوق بعضِ كائنةٌ من النَّارِ { وَمِن تَحْتِهِمْ } أيضاً { ظُلَلٌ } أي أطباقٌ كثيرةٌ بعضُها تحتَ بعضٍ ظللٌ لآخرينَ بل لهم أيضاً عد تردِّيهم في دَرَكاتِها { ذلك } العذابُ الفظيعُ هو الذي { يُخَوّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ } ويُحذِّرهم إيَّاه بآياتِ الوعيدِ ليجتنبُوا ما يُوقعهم فيه { يَا عِبَادِى فاتقون } ولا تتعرَّضُوا لَما يُوجبُ سَخَطي . وهذه عظة من الله تعالى بالغةٌ منطويةٌ على غايةِ اللُّطفِ والمرحمةِ وقُرىء يا عبادِي .(6/2)
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)
{ والذين اجتنبوا الطاغوت } أي البالغَ أقصى غيةَ الطُّغيانِ ، فَعَلوتٌ منه بتقديم اللاَّمِ على العينِ بُني للمبالغةِ في المصدرِ كالرَّحموتِ والعظَمُوتِ . ثم وُصف به للمبالغةِ في النَّعتِ . والمرادُ به هو الشَّيطانُ { أَن يَعْبُدُوهَا } بدلُ الاشتمالِ منه فإنَّ عبادةَ غيرَ الله تعالى عبادةٌ للشَّيطانِ إذِ هُو الآمرُ بها والمُزيِّنُ لها . { وَأَنَابُواْ إِلَى الله } وأقبلُوا إليه مُعرضين عمَّا إقبالاً كلِّياً .
{ لَهُمُ البشرى } بالثَّوابِ على ألسنةِ الرُّسلِ أو الملائكةِ عند حضورِ الموتِ وحين يُحشرون وبعد ذلك { فَبَشّرْ عِبَادِ الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } هم الموصُوفون بالاجتنابِ والإنابةِ بأعيانهم لكنْ وُضع موضعَ ضميرِهم الظَّاهرُ تشريفاً لهم بالإضافةِ ودلالةً على أنَّ مدارَ اتصِّافِهم بالوصفينِ الجليلينِ كونُهم نُقَّاداً في الدَّينِ يميِّزون الحقَّ من الباطلَ ويؤُثرون الأفضلَ فالأفضلَ { أولئك } إشارةٌ إليهم باعتبارِ اتِّصافهم بما ذُكر من النَّعوتِ الجليلةِ ، وما فيه من مَعْنى البُعد للإيذانِ بعلوِّ رُتبتهم وبُعدِ منزلتِهم في الفضلِ . ومحلُّه الرَّفعُ على الابتداءِ خبرُه ما بعده من الموصولِ أي أولئك المنعوتُون بالمحاسنِ الجمليةِ { الذين هَدَاهُمُ الله } للدِّين الحقِّ { وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الالباب } أي هم أصحابُ العقولِ السَّلميةِ عن معارضة الوهمِ ومنازعةِ الهَوَى المستحقُّون للهدايةِ لا غيرهم ، وفيه دلالةٌ على أنَّ الهدايةَ تحصلُ بفعل الله تعالى وقبول النَّفسِ لها { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النار } بيانٌ لأحوال أضَّدادِ المذكورينَ على طريقة الإجمالِ وتسجيلٌ عليهم بحرمانِ الهداية وهم عَبَدةُ الطَّاغوتَ ومتَّبعُو خطواتها كما يُلوحُ به التَّعبيرُ عنهم بمن حقَّ عليه كلمة العذاب فإنَّ المرادَ بها قوله تعالى لإبليسَ : { لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } وقوله تعالى : { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } وأصلُ الكلامِ أمن حقَّ عليه كلمةُ العذاب فأنتَ تنقذه على أنَّها شرطيةٌ دخل عليها الهمزةُ لإنكارِ مضمونها ثم الفاءُ لعطفها على جملةٍ مستتبعة لها مقدَّرة بعد الهمزةِ ليتعلَّق الإنكارُ والنَّفيُ بمضمونيهما معاً أي أأنتَ مالكُ أمرِ النَّاسِ فمن حقَّ عليه كلمةُ العذابِ فأنت تنقذه ثم كُررتْ الهمزةُ في الجزاءِ لتأكيدِ الإنكارِ وتذكيرِه لمَّا طال الكلامُ ثم وضِع موضعَ الضَّميرِ مَن في النَّارِ لمزيد تشديدِ الإنكارِ والاستبعاد والتَّنبيه على أنَّ المحكومَ عليه بالعذابِ بمنزلة الواقعِ في النَّارِ وأنَّ اجتهادَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فى دُعائهم إلى الإيمانِ سعيٌ في إنقاذِهم من النَّارِ ويجوزُ أن يكونَ الجزاءُ محذوفاً . وقوله تعالى أفأنتَ الخ جملة مستقلَّةٌ مسوقة لتقريرِ مضمون الجملة السَّابقةِ وتعيين ما حُذف منها وتشديدِ الإنكارِ بتنزيل من استحقَّ العذابَ منزلةَ من دخل النَّارَ وتصوير الاجتهاد في دُعائه إلى الإيمان بصورةِ الإنقاذِ من النَّارِ كأنَّه قيل أوَّلاً : أفمن حقَّ عليه العذابُ فأنتَ تخلِّصه منه ثم شُدِّد النَّكيرُ فقيل أفأنتَ تنقذُ من في النَّارِ وفيه تلويحٌ بأنَّه تعالى هو الذي يقدرُ على الإنفاذِ لا غيرُه وحيثُ كان المرادُ بمن في النَّارِ الذين قيل في حقِّهم : { لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } استدركَ منهم بقوله تعالى :(6/3)
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)
{ لكن الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ } وهم الذين خُوطبوا بقوله تعالى : { يَا عِبَادِى فاتقون } ووُصفوا بما عُدِّد من الصِّفاتِ الفاضلةِ وهم المخاطَبون أيضاً فيما سبق بقوله تعالى : { قُلْ ياعباد الذين ءامَنُواْ اتقوا رَبَّكُمْ } الآيةَ وبينَّ أنَّ لهم درجاتٍ عاليةً في جنَّاتِ النَّعيمِ بمقابلة ما للكفرةِ من دَرَكاتٍ سافلةٍ في الجحيم أي لهم علالي بعضُها فوقَ بعضٍ { مَّبْنِيَّةٌ } بناءَ المنازلِ المبنية المؤسَّسةِ على الأرضِ في الرَّصانةِ والإحكام { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا } من تحت تلك الغرفِ { الانهار } من غيرِ تفاوتٍ بين العُلوِّ والسُّفلِ { وَعَدَ الله } مصدرٌ مؤكّدٌ لقولِه تعالى لهم غُرف الخ فإنه وعدٌ وأيُّ وعدٍ { لاَ يُخْلِفُ الله الميعاد } لاستحالتِه عليه سبحانه .
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء } استئنافٌ وارد إمَّا لتمثيلِ الحياةِ الدُّنيا في سرعة الزَّوالِ وقُرب الاضمحلالِ بما ذكر من أحوالِ الزَّرعِ ترغيباً عن زخارِفها وزينتها وتحذيراً من الاغترارِ بزَهرتِها كما في نظائر قوله تعالى : { إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا } الآيةَ أو للاستشهاد على تحقُّقِ الموعودِ من الأنهارِ الجاريةِ من تحت الغُرفِ بما يُشاهد من إنزالِ الماءِ من السَّماءِ وما يترتَّبُ عليه من آثارِ قدرتهِ تعالى وأحكامِ حكمتِه ورحمتِه والمرادُ بالماءِ المطر . وقيل : كلُّ ماءٍ في الأرضِ فهو من السَّماءِ ينزلُ إلى الصَّخرةِ ثم يقسمُه الله تعالى بين البقاعِ { فَسَلَكَهُ } فأدخلَه ونظمه { يَنَابِيعَ فِى الارض } أي عُيوناً ومجاريَ كالعروقِ في الأجسادِ وقيل : مياهاً نابعةً فيها فإنَّ الينبوعَ يطلقُ على المنبعِ والنَّابعِ فنصبها على الحالِ وعلى الأوَّلِ بنزعِ الجارِّ أي في ينابيعَ { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } أصنافُه من بُرَ وشعيرٍ وغيرهِما أو كيفياته من الألوانِ والطُّعومِ وغيرِهما وكلمة ثمَّ للتَّراخي في الرُّتبةِ أو الزَّمانِ . وصيغةُ المضارعِ لاستحضارِ الصُّورةِ { ثُمَّ يَهِيجُ } أي يتمُّ جفافُه ويشرف على أنْ يثورَ من منابتِه { فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً } من بعد خُضرتِه ونُضرتِه وقُرىء مُصفارَّا { ثُمَّ يَجْعَلُهُ حطاما } فُتاتاً مُتكسِّرةً كأن لم يغنَ بالأمسِ ولكون هذه الحالةِ من الآثارِ القوَّيةِ عُلِّقت بجعلِ الله تعالى كالإخراجِ { إِنَّ فِى ذَلِكَ } إشارةٌ إلى ما ذُكر تفصيلاً ، وما فيه من مَعنى البُعدِ للإيذانِ ببُعد منزلتِه في الغَرابةِ والدِّلالةِ على ما قُصد بيانُه { لِذِكْرِى } لتذكيراً عظيماً { لاِوْلِى الالباب } لأصحابِ العُقول الخالصةِ عن شوائبِ الخللِ وتنبيهاً لهم على حقيقةِ الحالِ يتذكَّرون بذلك أنَّ حالَ الحياةِ الدُّنيا في سُرعةِ التَّقصِّي والانصرامِ كما يشاهدونَهُ من حال الحُطامِ كلَّ عامٍ فلا يغترُّون ببهجتِها ولا يُفتتنون بفتنتها أو يجزمون بأنَّ مَن قدرَ على إنزالِ الماءِ من السَّماءِ وإجرائِه في ينابيع الأرضِ قادرٌ على إجراءِ الأنهارِ من تحتِ الغُرفِ ، هذا وأمَّا ما قيلَ إنَّ في ذلك لتذكيراً وتنبيهاً على أنَّه لا بُدَّ من صانعٍ حكيمٍ وأنه كائنٌ عن تقديرٍ وتدبيرٍ لا عن تعطيلٍ وإهمالٍ فبمعزلٍ من تفسيرِ الآيةِ الكريمةِ وإنَّما يليقُ ذلك بما لو ذُكرَ ما ذُكر من الآثارِ الجليلة والأفعالِ الجميلةِ من غيرِ إسنادٍ لها إلى مؤثِّرٍ ما فحيثُ ذُكرتْ مسندةً إلى الله عزَّ وجلَّ تعيَّن أنْ يكونَ متعلَّقُ التَّذكيرِ والتَّنبيهِ شؤونه تعالى أو شؤونَ آثارِه حسبما بُيِّن لا وجودُه تعالى .(6/4)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
وقولُه تعالى { أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام } الخ استئنافٌ جارٍ مجرى التَّعليلِ لما قبله من تخصيصِ الذِّكرى بأولي الألبابِ . وشرحُ الصَّدرِ للإسلامِ عبارةٌ عن تكميلِ الاستعدادِ له فإنه محلٌّ للقلبِ الذي هو منبعٌ للرُّوحِ التي تتعلَّقُ بها النَّفسُ القابلةُ للإسلامِ فانشراحُه مستدعٍ لاتِّساعِ القلبِ واستضاءتِه بنوره فإنَّه روي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قال : « إذا دخلَ النُّور القلبَ انشرحَ وانفسحَ » فقيل فما علامةُ ذلك؟ قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « الإنابةُ إلى دارِ الخُلودِ والتَّجافي عن دارِ الغُرور والتَّأهُّبُ للموتِ قبل نزولِه » والكلامُ في الهمزةِ والفاءِ كالذي مرَّ في قوله تعالى : { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب } وخبرُ مَن محذوفٌ لدلالةِ ما بعده عليه والتَّقديرُ أكلُّ النَّاسِ سواءٌ فَمْن شَرحَ الله صدرَهُ أي خلقَهُ متَّسعَ الصَّدرِ مُستعدَّاً للإسلامِ فبقي على الفطرةِ الأصليةِ ولم يتغيرْ بالعوارضِ المكتسبةِ القادحةِ فيها { فَهُوَ } بموجبِ ذلك مستقرٌّ { على نُورٍ } عظيم { مّن رَّبّهِ } وهو اللُّطفُ الإلهيُّ الفائضُ عليه عند مشاهدةِ الآياتِ التَّكوينيةِ والتَّنزيليةِ والتَّوفيقُ للاهتداءِ بها إلى الحقِّ كمَنْ قسا قلبُه وحَرِجَ صدره بسببِ تبديلِ فطرةِ الله بسُوء اختيارِه واستولى عليه ظلماتُ العِيِّ والضِّلالةِ فأعرضَ عن تلك الآياتِ بالكُلِّيةِ حتَّى لا يتذكَّر بها ولا يغتنمُها { فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ الله } أي من أجلِ ذكرهِ الذي حقُّه أنْ تنشرحَ له الصُّدورُ وتطمئنَّ به القلوبُ أي إذا ذُكر الله تعالى عندهم أو آياتُه اشمأزُّوا من أجلِه وازدادتْ قلوبُهم قساوةً كقولِه تعالى فزادْتُهم رجساً . وقُرىء عن ذكرِ الله أي عن قبولِه { أولئك } البُعداءُ الموصوفون بما ذُكر من قساوةِ القلوب { فِى ضلال } بُعدٍ عن الحقِّ { مُّبِينٌ } ظاهر كونه ضلالاً لكلِّ أحدٍ قيل : نزلتِ الآيةُ في حمزةَ وعليَ رضي الله عنهما وأبي لهبٍ وولدِه وقيل : في عمَّارِ بنِ ياسرٍ رضي الله عنه وأبي جهلٍ وذويه .(6/5)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
{ الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث } هو القرآنُ الكريمُ . رُوي أنَّ أصحابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ملُّوا ملَّةً فقالُوا له عليه الصَّلاةُ والسَّلام حدِّثْنا حَديثاً . وعن ابن مسعُودٍ وابن عبَّاسَ رضي الله عنُهم قالُوا : لو حدَّثتنا فنزلتْ . والمَعنى أنَّ فيه مندوحةً عن سائرِ الأحاديثِ . وفي إيقاعِ الاسمِ الجليلِ مبتدأً ، وبناءِ نزَّل عليهِ من تفخيمِ أحسنِ الحديثِ ورفعِ محلَّه والاستشهادِ على حُسنِه وتأكيدِ استنادِه إليه تعالى وأنَّه من عندَه لا يمكنُ صدورُه عن غيرِه والتَّنبيهُ على أنَّه وحيٌ معجزٌ ما لا يخفى { كتابا } بدلٌ من أحسنَ الحديثِ أو حالٌ منه سواء اكتسبَ من المضافِ إليه تعريفاً أَوْ لاَ فإنَّ مساغَ مجيء الحالِ من النَّكرةِ والمُضافةِ اتفاقيٌّ ووقوعُه حالاً مع كونِه اسماً لا صفةً إمَّا لاتَّصافِه بقولِه تعالى { متشابها } أو لكونِه في قوَّة مكتوباً ومعنى كونِه مُتشابهاً تشابُه معانيهِ في الصِّحَّةِ والأحكامِ والابتناءِ على الحقِّ والصِّدقِ واستنباع منافعِ الخلقِ في المعادِ والمعاشِ وتناسب ألفاظِه في الفصاحةِ وتجاوبِ نظمِه في الإعجازِ { مَّثَانِيَ } صفةٌ أخرى لكتاباً أوحالٌ أُخرى منه وهو جمعُ مَثنْى بمعنى مردودٍ ومكرَّرٍ لمَا ثُنِّي من قصصهِ وأنبائِه وأحكامِه وأوامرهِ ونواهيهِ ووعدِه ووعيدِه ومواعظِه . وقيل لأنَّه يُثنَّى في التَّلاوةِ ، وقيل : هو جمعُ مَثنى مَفْعل من التَّثنيةِ بمعنى التَّكريرِ والإعادةِ كما في قولِه تعالى : { ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } أي كرةً بعدَ كرَّةٍ . ووقوعُه صفةً لكتاباً باعتبار تفاصيلهِ كما يُقال القرآن سورٌ وآياتٌ ويجوزُ أنْ ينتصبَ على التَّمييزِ من مُتشابهاً كما يُقال رأيتُ رجلاً حسناً شمائلَ أي شمائلُه والمعنى متشابهةٌ مثانية { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } قيل صفةٌ لكتاباً أو حالٌ منه لتخصُّصه بالصِّفةِ ، والأظهر أنَّه استئنافٌ مسوق لبيانِ آثارِه الظَّاهرةِ في سامعيهِ بعد بيانِ أوصافهِ في نفسِه ولتقريرِ كونِه أحسنَ الحديثِ . والاقشعرارُ التَّقبضُ يقال اقشعرَّ الجلدُ إذا تقبَّضَ تقبُّضاً شَديداً وتركيبُه من القَشع وهو الأديمُ اليابسُ قد ضُمَّ إليه الرَّاءُ ليكونَ رُباعيَّا ودَالاًّ على معنى زائد يُقال اقشعرَّ جلدُه وقفَ شعرُه إذا عرضَ له خوفٌ شديدٌ من منكرٍ هائلٍ دهمه بغتة . والمرادُ إمَّا بيانُ إفراطِ خشيتِهم بطريقِ التَّمثيلِ والتَّصويرِ أو بيانُ حصولِ تلك الحالةِ وعرُوضِها لهم بطريقِ التَّحقيقِ . والمعني أنَّهم إذا سمعُوا القُرآنَ وقوارعَ آياتِ وعيده أصابتُهم هيبةٌ وخشيةٌ تقشعرُّ منها جلودُهم وإذا ذُكِّروا رحمةَ الله تعالى تبدَّلتْ خشيتُهم رجاءً ورهبتُهم رغبةً وذلك قولُه تعالى .
{ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله } أي ساكنةً مطمئنَّةً إلى ذكر رحمتِه تعالى وإنَّما لم يُصرِّحْ بها إيذاناً بأنَّها أولُ ما يخطرُ بالبال عند ذكرِه تعالى . { ذلك } أي الكتابُ الذي شُرحَ أحوالُه { هُدَى الله يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء } أنْ يهديه بصرفِ مقدورِه إلى الاهتداءِ بتأمُّلِه فيما في تضاعيفِه من شواهدِ الحقِّية ودلائلِ كونِه من عندِ الله تعالى { وَمَن يُضْلِلِ الله } أي يخلقُ فيه الضَّلالةَ بصرفِ قُدرته إلى مباديها وإعراضِه عمَّا يُرشده إلى الحقَّ بالكُلِّية وعدم تأثُّرِه بوعيدِه ووعدِه أصلاً أو ومن يخذلْ { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } يُخلِّصه من ورطةِ الضَّلالِ وقيل : ذلك الذي ذُكرَ من الخشيةِ والرَّجاءِ إثر هُداه تعالى يهدي بذلكَ الأثرِ مَن يشاءُ من عبادةِ ومَن يُضللْ أي ومَن لم يُؤثِّر فيه لطفُه لقسوةِ قلبهِ وإصرارِه على فجورِه فما له من هادٍ من مؤثِّرٍ فيه بشيءٍ قَطْ .(6/6)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)
{ أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ } الخ استئنافٌ جارٍ مجرى التَّعليقِ لما قبلَه من تباينِ حالَيْ المُهتدي والضَّالَّ . والكلامُ في الهمزةِ والفاءِ وحذفِ الخبرِ كالذي مرَّ في نظيريهِ . والتَّقديرُ أكلُّ النَّاسِ سواءٌ فمَن شأنُه أنَّه يقِي نفسَه بوجههِ الذي هو أشرفُ أعضائِه { سُوء العذاب } أي العذابَ السَّيءِ الشَّديدَ { يَوْمُ القيامة } لكون يدهِ التي بها كان يتَّقي المكارَه والمخاوفَ مغلولةً إلى عنقه كمن هو آمن لا يعتريه مكروه ولا يحتاج إلى الاتّقاء بوجهٍ من الوجوهِ . وقيل نزلتْ في أبي جهلٍ { وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ } عطفٌ على يتَّقي أي ويقالُ لهم من جهةِ خَزَنةِ النَّارِ . وصيغةُ الماضِي للدِّلالةِ على التَّحقُّقِ والتَّقررِ وقيل : هو حالٌ من ضميرِ يتَّقي بإضمارِ قَدْ ، ووضع المُظهر في مقام المُضمرِ للتَّسجيلِ عليهم بالظُّلم والإشعار بعلَّةِ الأمرِ في قوله تعالى { ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } أي وبالَ ما كنتُم تكسبونَه في الدُّنيا على الدَّوامِ من الكفرِ والمعاصي . { كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ أصابَ بعضَ الكفرةِ من العذابِ الدنيويِّ إثرَ بيانِ ما يُصيب الكلَّ من العذابِ الأخرويِّ . أي كذَّب الذين من قبلِهم من الأممِ السَّالفةِ . { فأتاهم العذاب } المقدَّرُ لكلَّ أمَّةٍ منهم { مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } من الجهةِ التي لا يحتسبونَ ولا يخطرُ ببالِهم إتيانُ الشَّرِّ منها . { فَأَذَاقَهُمُ الله الخزى } أي الذُّلَّ والصَّغارَ { فِى الحياة الدنيا } كالمسخِ والخسفِ والقتلِ والسَّبي والإجلاءِ ونحوِ ذلك من فنون النَّكالِ . { وَلَعَذَابُ الأخرة } المعدِّ لهم { أَكْبَرَ } لشدَّتِه وسرمدَّيتهِ { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أي لو كانَ من شأنِهم أنْ يعلمُوا شيئاً لعلمُوا ذلكَ واعتبرُوا به . { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هذا القرءان مِن كُلّ مَثَلٍ } يحتاجُ إليه النَّاظرُ في أمورِ دينِه { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } كي يتذكَّروا به ويتعَّظوا . { قُرْءاناً عَرَبِيّاً } حالٌ مؤكَّدةٌ من هذا على أنَّ مدارَ التَّأكيدِ هو الوصفُ كقولِك جاءني زيدٌ رَجُلاً صالِحاً أو مدحٌ له { غَيْرَ ذِى عِوَجٍ } لا اختلافَ فيه بوجهٍ من الوجوهِ فهو أبلغُ من المستقيمِ وأخصُّ بالمعانِي . وقيل : المرادُ بالعوجِ الشَّكُّ . { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } علَّة أُخرى مترتِّبةٌ على الأولى . { ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون } إيرادٌ لمثلٍ من الأمثالِ القُرآنيةِ بعد بيانِ أنَّ الحكمةَ في ضربِها هو التَّذكُّر والاتِّعاظُ بها وتحصيلُ التَّقوى . والمرادُ بضربِ المثل هَهُنا تطبيقُ حالةٍ عجيبةٍ بأُخرى مثلِها وجعلِها مثلَها كما مرَّ في سُورة بس ومثلاً مفعولٌ ثانٍ لضربَ ورجلاً مفعولُه الأوَّلُ أُخِّر عن الثَّانِي للتَّشويقِ إليه وليتَّصلَ به ما هُو من تتمتِه التي هي العُمدةُ في التَّمثيلِ وفيه ليسَ بصلةٍ لشركاءِ كما قيل بل هُو خبرٌ له وبيانُ أنَّه في الأصلِ كذلكَ مَّما لا حاجةَ إليهِ .(6/7)
والجملةُ في حيِّزِ النَّصبِ على أنَّه وصفٌ لرجلاً أو الوصفُ هو الجارُّ والمجرورُ وشركاء مرتفعٌ به على الفاعليةِ لاعتمادِه على الموصوفِ فالمعنى جعلَ الله تعالى مثلاً للمشركِ حسبَما يقودُ إليهِ مذهبُه من ادَّعاءِ كلَ من معبوديه عبوديتَه عبداً يتشاركُ فيه جماعة يتجاذبونه ويتعاورُونه في مهمَّاتهم المتباينةِ في تحيُّرِه وتوزُّعِ قلبه { وَرَجُلاً } أي وجعل للموحِّد مثلاً رجلاً { سلاما } أي خالصاً { لِرَجُلٍ } فردٍ ليس لغيره عليه سبيل أصلاً . وقُرىء سَلْماً وسِلْماً بفتح السين وكسرِها مع سكون الَّلامِ . والكُلُّ مصادرٌ من سَلم له كذا أي خلُص نُعتَ به مبالغةً أو حُذف منها ذُو . وقِرىء سالماً وسالم ، أي وهناك رجلٌ سالم . وتخصيصُ الرَّجُلِ لأنَّه أفطن لما يجري عليه من الضُّرِّ والنَّفعِ . { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } إنكارٌ واستبعاد لاستوائِهما ونفيٌ له على أبلغِ وجهٍ وآكدِه وإيذانٌ بأنَّ ذلك من الجلاء والظُّهور بحيث لا يقدرُ أحدٌ أنْ يتفوَّه باستوائِهما أو يتلعثم في الحُكم بتباينهما ضرورةَ أنَّ أحدهما في أعلى عِلِّيِّينَ والآخرُ في أسفلِ سافلينَ . وهو السِّرُّ في إبهام الفاضلِ والمفضولِ وانتصاب مثلاً على التَّمييزِ أي هل يستوي حالاهُما وصفتاهُما . والاقتصارُ في التَّمييزِ على الواحد لبيان الجنسِ . وقُرىء مَثَلين . كقوله تعالى : { وَأَكْثَرَ أموالا وأولادا } للإشعارِ باختلاف النَّوعِ أو لأنَّ المرادَ هل يستويانِ في الوصفين على أنَّ الضَّميرَ للمثلينِ ، لأنَّ التَّقديرَ مَثَلُ رجلٍ فيه الخ ومَثَلُ رجلٍ الخ . وقولُه تعالى { الحمد للَّهِ } تقريرٌ لما قبله من نفيِ الاستواءِ بطريقِ الاعتراضِ وتنبيهٌ للموحِّدين على أنَّ ما لهُم من المزَّيةِ بتوفيقِ الله تعالى وأنَّها نعمةٌ جليلةٌ موجبةٌ عليهم أنْ يداومُوا على حمدِه وعبادتِه أو على أنَّ بيانه تعالى بضرب المثل أن لهم المثل الأعلى وللمشركين مثل السَّوء صنعٌ جميلٌ ولطفٌ تامٌّ منه عزَّ وجلَّ مستوجبٌ لحمدِه وعبادتِه . وقولُه تعالى { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } إضرابٌ وانتقالٌ من بيان عدمِ الاستواءِ على الوجهِ المذكورِ إلى بيانِ أنَّ أكثرَ النَّاسِ وهو المُشركون لايعلمونَ ذلك مع كمالِ ظُهورِه فيبقون في ورطةِ الشِّركِ والضَّلالِ .(6/8)
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
وقولُه تعالى : { إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ } تمهيدٌ لما يعقبُه من الاختصامِ يوم القيامةِ . وقُرىء مائتٌ ومائتونَ . وقيل : كانُوا يتربَّصون برسولِ الله صلى الله عليه وسلم موتَه أي إنَّكم جميعاً بصددِ الموتِ . { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ } أي مالكِ أمورِكم { تَخْتَصِمُونَ } فتحتجُّ أنتَ عليهم بأنَّك بلَّغتهم ما أُرسلتَ به من الأحكام والمواعظ التي من جُملتها ما في تضاعيف هذه الآياتِ واجتهدتَ في الدَّعوةِ إلى الحقَّ حقَّ الاجتهادِ وهم قد لجُّوا في المُكابرة والعناد . وقيل : المرادُ به الاختصامُ العامُّ الجاري في الدُّنيا بين الأنامِ . والأوَّلُ هو الأظهرُ الأنسبُ بقوله تعالى .(6/9)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله } فإنَّه إلى آخرهِ مسوقٌ لبيانِ حال كلَ من طرفَيْ الاختصامِ الجاري في شأن الكفرِ والإيمانِ لا غيرُ . أي أظلمُ من كلِّ ظالمٍ مَنِ افترى على الله سبحانه وتعالى بأنْ أضافَ إليه الشَّريكَ والولد { وَكَذَّبَ بالصدق } أي بالأمرِ الذي هو عينُ الحقِّ ونفسُ الصِّدقِ وهو ما جاء به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم . { إِذْ جَاءهُ } أي في أوَّلِ مجيئهِ من غير تدبُّرٍ فيه ولا تأمُّلٍ { أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين } أي لهؤلاءِ الذين افترَوا على الله سبحانه وسارعُوا إلى التَّكذيبِ بالصَّدقِ من أوَّلِ الأمرِ . والجمعُ باعتبار معنى مَن كما أنَّ الإفراد في الضَّمائرِ السَّابقةِ باعتبار لفظها . أو لجنسِ الكَفَرةِ وهم داخلون في الحُكمِ أوَّليَّاً .
33
{ والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ } الموصولُ عبارةٌ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ومَن تبعه كما أنَّ المرادَ في قوله تعالى : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } هو عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقومه ، وقيل عن الجنس المُتناول للرُّسلِ والمؤمنين بهم . ويؤيِّدُه قراءةُ ابن مسعودِ رضي الله عنه : «والذين جَاءُوا بالصَّدقِ وصدَّقُوا به» وقيل : هو صفة لموصوفٍ محذوف هو الفَوجُ والفَرِيقُ { أولئك } الموصُوفون لما ذُكر من المجيء بالصَّدقِ والتصديق به { هُمُ المتقون } المنعوتُون بالتَّقوى التي هي أجلُّ الرَّغائبِ . وقُرىء وصدَق به بالتَّخفيفِ ، أي صدَقَ بهِ النّاسَ فأدَّاه إليهم كما نزلَ من غيرِ تغيير ، وقيل : وصارَ صادقاً به أي بسببهِ ، لأنَّ ما جاء به من القرآنُ معجزةٌ دالَّةٌ على صدقه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ . وقُرىء صُدِّق به على البناء للمفعول .
34
{ لَهُمْ مَّا يَشآءُونَ عِندَ رَبّهِمْ } بيانٌ لما لهمُ في الآخرةِ من حسنِ المآبِ بعد بيانِ ما لُهم في الدنيا من محاسنِ الأعمالِ ، أي لهم كلُّ ما يشاؤونه من جلبِ المنافعِ ودفعِ المضارِّ في الآخرةِ لا في الجنَّةِ فقط ، لِما أنَّ بعضَ ما يشاؤونه من تكفير السَّيئاتِ والأمن من الفَزَع الأكبرِ وسائرِ أهوال القيامةِ إنَّما يقع قبل دخولِ الجنَّةِ { ذلك } الذي ذُكر من حصول كلِّ ما يشاؤونه { جَزَاء المحسنين } أي الذينَ أحسنُوا أعمالَهم وقد مرَّ تفسيرُ الإحسان غيرَ مرَّةٍ .
وقوله تعالى : { لِيُكَفّرَ الله عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذى عَمِلُواْ } الخ متعلِّقٌ بقوله تعالى لهم ما يشاؤون لكن لا باعتبارِ منطوقِه ضرورةَ أنَّ التَّفكيرَ المذكور لا يُتصوَّرُ كونُه غايةً لثبُوتِ ما يشاؤون لهم في الآخرةِ ، كيف لا وهو بعضُ ما سيثبُتُ لهم فيها بل باعتبارِ فحواه فإنَّه حيثُ لم يكن إخباراً بما ثبت لهم فيما مَضَى بل بما سيثبت لهم فيا سيأتِي كان في معنى الوعدِ به كما مرَّ في قوله تعالى وَعْد الله فإنه مصدر مؤكَّدٌ لما قبله من قولِه تعالى : { لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ } فإنَّه في معنى وَعَدَهم الله غُرفاً فانتصبَ به وعد الله كأنَّه قيل : وَعَدَهم الله جميعَ ما يشاءونه من زوالِ المضارِّ وحصول المسارِّ ليكفِّرَ عنهم بموجب ذلك الوعدِ أسوأَ الذي عملوا دفعاً لمضارِّهم .(6/10)
{ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ } إعطاء لمنافِعهم . وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقعِ الإضمارِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بمضمون الكلامِ . وإضافةُ الأسوأِ والأحسنِ إلى ما بعدهما ليستْ من قبيل إضافةِ المفضَّلِ إلى المفضَّل عليه بل من إضافةِ الشَّيءِ إلى بعضِه للقصد إلى التَّحقيقِ والتَّوضيحِ من غير اعتبارِ تفضيلِه عليه ، وإنَّما المُعتبر فيهما مطلقُ الفضلِ والزَّيادةِ لا على المضاف إليه المعيِّنِ بخصوصه كما في قوله : « النَّاقصُ والأَشَجُّ أعْدَلاَ بني مَرْوانَ » خلا أنَّ الزِّيادة المعتبرةَ فيهما ليست بطريقِ الحقيقةِ بل هي في الأوَّلِ بالنَّظرِ إلى ما يليقُ بحالِهم من استعظامِ سيِّئاتِهم وإن قلَّتْ واستصغارِ حسناتِهم وإنْ جلَّتْ . والثَّاني بالنَّظرِ إلى لُطفِ أكرمِ الأكرمينَ من استكثارِ الحسنةِ اليسيرةِ ومقابلتها بالمثُوباتِ الكثيرةِ وحمل الزيادة على الحقيقةِ وإن أمكنَ في الأوَّلِ بناءً على أنَّ تخصيصَ الأسوأِ بالذَّكرِ لبيان تكفيرِ ما دُونَه بطريقِ الأولويَّةِ ضرورةَ استلزامِ تكفيرِ الأسوأ لتكفير السَّيِّءِ لكن لمَّا لم يكُن ذلك في الأحسنِ كان الأحسنُ نظمَهما في سلكٍ واحدٍ من الاعتبار . والجمعُ بين صيغتَيْ الماضِي والمستقبلِ في صلةِ الموصولِ الثَّاني دون الأوَّلِ للإيذانِ باستمرارهم على الأعمالِ الصَّالحةِ بخلاف السَّيئةِ .(6/11)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)
{ أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } إنكارٌ ونفيٌ لعدم كفايته تعالى على أبلغِ وجهٍ وآكدِه كأن الكفاية من التَّحقُّقِ والظُّهورِ بحيثُ لا يقدر أحدٌ على أنْ يتفوَّه بعدمِها أو يتلعثم في الجوابِ بوجودِها . والمرادُ بالعبدِ إمَّا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أو الجنسُ المنتظمُ له عليه السَّلامُ انتظاماً أوَّلياً . ويُؤيده قراءةُ مَن قرأَ عبادَهُ ، وفُسِّر بالأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ . وكذا قراءةُ من قرأ بكافي عبادِه على صيغة المُغالبةِ إمَّا من الكِفايةِ لإفادة المبالغة فيها ، وإمَّا من المُكافأةِ بمعنى المُجازاة وهذه تسليةٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم عمَّا قالت له قُريشٌ إنَّا نخاف أنْ تخبلَك آلهتُنا ويصيبَك مضرَّتُها لعيبكِ إيَّاها وفي روايةٍ قالُوا لتكُفَنَّ عن شتمِ آلهتِنا أو ليصيبنَّكَ منهم خَبَلٌ أو جنونٌ كما قال قومُ هودٍ { إنْ نقولُ إلاَّ اعتراك بعضُ آلهتِنا بسوءٍ } وذلك قوله تعالى { وَيُخَوّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ } أي الأوثانِ التي اتَّخذوها آلهةً من دونه تعالى . والجملةُ استئنافٌ وقيل : حالٌ { وَمَن يُضْلِلِ الله } حتَّى غفل عن كفايتِه تعالى وعصمتِه له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وخوَّفه بما لا ينفعُ ولا يضرُّ أصلاً { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } يهديه إلى خيرٍ ما . { وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلّ } يصرفُه عن مقصدِه أو يُصيبه بسوءٍ يخلُّ بسلوكِه إذ لا رادَّ لفعلِه ولا معارضَ لإرادتِه كما ينطقُ به قولُه تعالى { أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ } غالبٍ لا يُغالبُ منيعٍ لا يُمانعُ ولا يُنازعُ . { ذِى انتقام } ينتقمُ من أعدائِه لأوليائِه . وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقعِ الإضمارِ لتحقيقِ مضمونِ الكلامِ وتربيةِ المهابةِ .(6/12)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } لوضوحِ الدَّليلِ وسنوح السَّبيلِ { قُلْ } تبكيتاً لهُم { أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِىَ الله بِضُرّ هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرّهِ } أي بعد ما تحقَّقتُم أنَّ خالق العالم العلويَّ والسُّفليِّ هو الله عزَّ وجلَّ فأخبروني أن آلهتَكم إنْ أرادني الله بضرَ هل يكشفنَ عنِّي ذلك الضُّرِّ { أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ } أي أو أرادني بنفعٍ { هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ } فيمنعنها عنِّي . وقُرىء كاشفاتٌ ضرَّه وممسكاتٌ رحمتَه بالتَّنوينِ فيهما ونصبِ ضُرِّه ورحمته . وتعليق إرادة الضُّرَّ والرَّحمةِ بنفسه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ للردِّ في نحورِهم حيث كانُوا خوّفوه معرَّةَ الأوثانِ ولما فيه من الإيذانِ بإمحاضٍ النَّصيحةِ . { قُلْ حَسْبِىَ الله } أي في جميعِ أموري من إصابةِ الخير ودفعِ الشَّرِّ . رُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لمَّا سألهم سكتُوا فنزلَ ذلك { عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون } لا على غيرِه أصلاً لعلمهم بأنَّ كلَّ ما سواه تحت ملكوتِه تعالى : { قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } على حالتِكم التي أنتمُ عليها من العداوة التي تمكَّنتُم فيها فإنَّ المكانة تُستعار من العَين للمعنى كما تُستعار هُنا وحَيثُ للزَّمانِ مع كونِهما للمكانِ . وقُرىء على مكاناتِكم { إِنّى عامل } أي على مكانتِي فحذف اللاختصارِ والمبالغةِ في الوعيدِ والاشعارِ بأنَّ حالَه لا تزال تزداد قوَّةً بنصر الله عزَّ وجلَّ وتأييدِه ولذلك توعَّدهم بكونه منصُوراً عليهم في الدَّارينِ بقوله تعالى { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } فإنَّ خِزي أعدائِه دليلُ غلبتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقد عذَّبهم الله تعالى وأخزاهم يومَ بدرٍ . { وَيَحِلُّ عَلَيْهِمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } أي دائمٌ هو عذابُ النَّارِ .
{ إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب لِلنَّاسِ } لأجلِهم فإنَّه مناطُ مصالحِهم في المعاشِ والمعادِ { بالحق } حال من فاعل أنزلَنا أو من مفعولِه { فَمَنُ اهتدى } بأنْ عملَ بما فيه { فَلِنَفْسِهِ } أي إنَّما نفعَ به نَفسه { وَمَن ضَلَّ } بأنْ لم يعمل بموجبِه { فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } لما أنَّ وبالَ ضلاله مقصورٌ عليها .
{ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } لتُجبرَهم على الهُدى ، وما وضيفتُك إلاَّ البلاغُ وقد بلَّغت أيَّ بلاغٍ { الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا } أي يقبضِها من الأبدانِ بأنْ يقطع تعلُّقها عنها وتصرُّفها فيها إمَّا ظاهراً وباطناً كما عند الموتِ أو ظاهراً فقط كما عند النَّومِ { فَيُمْسِكُ التى قضى عَلَيْهَا الموت } ولا يردُّها إلى البدنِ . وقُرىء قُضِيَ على البناءِ للمفعولِ ورفعِ الموتَ . { وَيُرْسِلُ الاخرى } أي النَّائمةَ إلى بدنها عند التَّيقظِ { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } هو الوقتُ المضربُ لموتِه وهو غاية لجنس الإرسال الواقعِ بعد الإمساكِ لا لفردٍ منه فإنَّ ذلك مَّما لا امتدادَ فيه ولا كميَّة .(6/13)
وما رُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ في ابنِ آدمَ نَفساً ورُوحاً بينهما مثلُ مثل الشَّمسِ فالنفسُ هي التي بها العقلُ والتَّمييزُ والرُّوحُ هي التي بها النَّفَسُ والتَّحركُ فتتوفيان عند الموتِ وتُتوفى النَّفسُ وحدَها عند النَّوم قريبٌ مَّما ذُكر . { إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي فيما ذُكر من التَّوفِّي على الوجهينِ والإمساكِ في أحدِهما والإرسالِ في الآخرِ { لاَيَاتٍ } عجيبةً دالَّةً على كمال قُدرته تعالى وحكمته وشمول رحمتِه { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } في كيفَّيةِ تعلُّقِها بالإبدان وتوفِّيها عنها تارة بالكُلَّيةِ كما عند الموت وإمساكها باقيةً لا تفنى بفنائِها وما يعتريها من السَّعادةِ والشَّقاوةِ وأخرى عن ظواهرها فقط كما عند النَّومِ وإرسالها حيناً بعد حينٍ إلى انقضاءِ آجالِها .(6/14)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
{ أَمِ اتخذوا } أي بل أتَّخذ قُريشٌ { مِن دُونِ الله } من دُون إذنِه تعالى { شُفَعَاء } تشفعُ لهم عنده تعالى؟ { قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ } الهمزةُ لإنكار الواقع واستقباحِه والتَّوبيخِ عليه أي قل أتَّتخذونهم شفعاءَ ولو كانُوا لا يملكون شيئاً من الأشياء ولا يعقلونَه فضلاً عن أنْ يملكوا الشَّفاعةَ عند الله تعالى أو هي لإنكارِ الوقوع ونفيه على أنَّ المرادَ بيانُ أنَّ ما فعلوا ليس من اتَّخاذِ الشُّفعاءِ في شيء لأنَّه فرعُ كونِ الأوثان شفعاءَ وذلك أظهرُ المحالاتِ فالمقدَّر حينئذٍ غيرُ ما قُدِّر أوَّلاً وعلى أي تقديرٍ كان فالواو للعطفِ على شرطيةٍ قد حُذفتْ للدلالة المذكورةِ عليها أي أيشفعون لو كانُوا يملكون شيئاً ولو كانُوا لا يملكون الخ وجوابُ لو محذوفً لدلالةِ المذكور عليه وقد مرَّ تحقيقُه مراراً . { قُلْ } بعد تبكيتِهم وتجهيلِهم بما ذُكر تحقيقاً للحقِّ { لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً } أي هو مالُكها لا يستطيعُ أحدٌ شفاعةً ما إلاَّ أن يكونَ المشفوعُ له مرتضَى ، والشَّفيعُ مأذوناً له وكلاهما مفقودٌ ههنا . وقولُه تعالى { لَّهُ مُلْكُ السموات والأرض } تقريرٌ له وتأكيدٌ أي له ملكُهما وما فيهما من المخلوقاتِ لا يملك أحدٌ أنْ يتكلَّم في أمرٍ من أمورِه بدونِ إذنِه ورضاه { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } يومَ القيامةِ لا إلى أحدٍ سواهُ لا استقلالاً ولا اشتراكاً فيفعل يؤمئذٍ ما يريدُ { وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ } دون آلهتِهم { اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة } أي انقبضتْ ونَفَرتْ كما في قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا } { وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ } فُرادى أو مع ذكرِ الله تعالى { إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } لفرطِ افتتانهم بها ونسيانِهم حقَّ الله تعالى ، ولقد بُولغ في بيان حالَيهم القبيحتينِ حيثُ بيّن الغايةُ فيهما فإنَّ الاستبشارَ هو أنْ يمتلىءَ القلبَ سُروراً حتَّى ينبسطَ له بَشَرةُ الوجهِ ، والاشمئزازُ أنْ يمتلىءَ غيظاً وغمَّا ينقبضُ منه أديمُ الوجهِ . والعاملُ في إذا الأولى اشمأزَّت ، وفي الثَّانيةِ ما هو العاملُ في إذا المفاجأةِ تقديرُه وقتَ ذكرِ الذين من دُونه فاجأوا وقتَ الاستبشارِ .(6/15)
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49)
{ قُلِ اللهم فَاطِرَ السموات والأرض عالم الغيب والشهادة } أي التجىءْ إليه تعالى بالدُّعاءِ لما تحيَّرتَ في أمر الدَّعوةِ وضجرت من شدَّةِ شكيمتهم في المُكابرة والعناد فإنَّه القادرُ على الأشياء بجُملتها والعالمُ بالأحوال بُرمَّتِها . { أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ * فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي حُكماً يُسلِّمه كلُّ مكابرٍ معاند ، ويخضعُ له كلُّ عاتٍ مارد وهو العذابُ الدنيويُّ أو الأخرويُّ . وقولُه تعالى { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى الارض جَمِيعاً } الخ كلامٌ مستأنف مسوقٌ لبيان آثارِ الحُكمِ الذي استدعاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وغايةِ شدَّتِه وفظاعتِه أي لو أنَّ لهم جميعَ ما في الدُّنيا من الأموال والذَّخائرِ . { وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوء العذاب يَوْمَ القيامة } أي لجعلُوا كلَّ ذلك فديةً لأنفسهم من العذاب الشَّديدِ وهيهاتَ ولاتَ حينَ مناصٍ . وهذا كما ترى وعيدٌ شديدٌ وإقناطٌ كليٌّ لهم من الخلاصِ . { وَبَدَا لَهُمْ مّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } أي ظهرَ لهم من فُنون العقوباتِ ما لم يكن في حسابهم . وهذه غاية من الوعيد لا غاية وراءها ونظيره في الوعد قولُه تعالى : { فَلاَ تَعْلَمُ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } { وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } سيئات أعمالِهم أو كسبِهم حين تُعرض عليهم صحائفهم { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } أي أحاطَ بهم جزاؤُه { فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا } إخبارٌ عن الجنسِ بما يفعله غالبُ أفرادِه . والفاءُ لترتيب ما بعدها من المناقضةِ . والتَّعكيسُ على ما مرَّ من حالتيهم القبيحتينِ وما بينهما اعتراضٌ مؤكِّدٌ للإنكار عليهم أي أنَّهم يشمئزُّون عن ذكرِ الله تعالى وحدَهْ ويستبشرون بذكرِ الآلهةِ فإذا مسَّهم ضُرٌّ دَعَوا مَن اشمأزُّوا عن ذكره دون مَن استبشرُوا بذكرِه { ثُمَّ إِذَا خولناه نِعْمَةً مّنَّا } أعطيناهُ إيَّاها تفضُّلاً ، فإنَّ التَّخويل مختصٌ به لا يُطلق على ما أُعطي جزاءً { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ } أي على علم منِّي بوجوهِ كسبِه أو بأنِّي سأعطاه لَما لِي من الاستحقاقِ أو على علمٍ من الله تعالى بي وباستحقاقي . والهاءُ لما ، أنْ جُعلتْ موصولةً ، وإلاَّ فلِنعمةً والتَّذكيرُ لما أنَّ المرادَ شيء من النعمةِ { بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ } أي محنةٌ وابتلاءٌ له أيشكرُ أم يكفرُ وهو ردٌّ لما قاله . وتغييرُ السَّبكِ للمبالغة فيهِ والإيذانِ بأنَّ ذلك ليس من بابِ الإيتاءِ المُنبىء عن الكرامةِ وإنَّما هو أمرٌ مباين بالكُلِّيةِ . وتأنيثُ الضَّميرِ باعتبار لفظ النِّعمةِ أو باعتبار الخبرِ وقُرىء بالتَّذكيرِ .
{ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أنَّ الأمرَ كذلك وفيه دلالةٌ على أنَّ المراد بالإنسانِ هو الجنسُ .(6/16)
قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
{ قَدْ قَالَهَا الذين مِن قَبْلِهِمْ } الهاء لقوله إنَّما أُوتيته على علمٍ لأنَّها كلمةٌ أو جملةٌ وقُرىء بالتَّذكيرِ . والموصول عبارةٌ عن قارونَ وقومِه حيثُ قال إنَّما أُوتيته على علمٍ عندي وهم راضُون به . { فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من متاعِ الدُّنيا ويجمعون منه . { فأصابهم سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } جزاءُ سيِّئاتِ أعمالِهم أو أجزيةُ ما كسبُوا . وتسميتها سيِّئاتٍ لأنَّها في مقابلة سيِّئاتِهم وجزاءُ سيِّئةٍ سيِّئةٌ مثلُها { والذين ظَلَمُواْ مِنْ هَؤُلاَء } المشركين ومِن للبيان أو للتَّبعيضِ أي أفرطوا في الظُّلم والعُتوِّ . { سَيُصِيبُهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } من الكُفر والمَعاصي كما أصاب أولئك . والسِّينُ للتَّأكيدِ . وقد أصابهم أيَّ إصابةٍ حيثُ قحطوا سبعَ سنين وقُتل صناديدُهم يومَ بدرٍ { وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي فائتين .
{ أَوَ لَمْ يَعْلَمُواْ } أي أقالُوا ذلك ولم يعلمُوا أو أَغفلُوا ولم يعلمُوا { أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء } أنْ يبسطَه له { وَيَقْدِرُ } لمن يشاء أن يقدرَه له من غيرِ أن يكون لأحدٍ مدخلٌ ما في ذلك حيثُ حبسَ عنهم الرِّزقَ سبعاً ثم بسطَه لهم سبعاً { إِنَّ فِى ذَلِكَ } الذي ذُكر { لاَيَاتٍ } دالَّةً على أنَّ الحوادثَ كافَّةً من الله عزَّ وجلَّ . { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } إذ هم المستدلُّون بها على مدلولاتِها .(6/17)
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)
{ قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } أي أفرطُوا في الجنايةِ عليها بالإسرافِ في المعَاصي . وإضافةُ العبادِ تخصصه بالمؤمنين على ما عرف القرآن الكريم .
{ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } أي لا تيأسُوا من مغفرته أولاً ولا تفضُّلِه ثانياً { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } عفواً لمن يشاءُ ولو بعد حينٍ بتعذيب في الجملة بغيره حسبما يشاء . وتقييده بالتَّوبةِ خلاف الظَّاهرِ كيف لا وقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } ظاهرٌ في الإطلاقِ فيما عدا الشِّركَ . وممَّا يدلُّ عليه التَّعليلُ بقوله تعالى { إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } على المبالغة وإفادةِ الحصرِ والوعد بالرَّحمةِ بعد المغفرة وتقديمُ ما يستدعي عمومَ المغفرة مَّما في عبادي من الدِّلالةِ على الذِّلَّةِ والاختصاص المقتضيينِ للتَّرحم ، وتخصيصُ ضررِ الإسرافِ بأنفسهم والنَّهيُ عن القُنوطِ مطلقاً عن الرَّحمةِ فضلاً عن المغفرة وإطلاقِها وتعليلهُ بأنَّ الله يغفرُ الذُّنوبَ ووضعُ الاسمِ الجليلِ موضعَ الضَّميرِ لدلالتهِ على أنَّه المستغنِي والمنعمُ على الإطلاقِ .
والتأكيد بالجميعِ وما رُوي من أسبابِ النُّزولِ الدَّالَّةِ على ورود الآيةِ فيمن تابَ لا يقتضِي اختصاصَ الحكم بهم ووجوبُ حملِ المطلقِ على المقيِّد في كلامِ واحدٍ مثل أكرمِ الكاملينَ غيرُ مسلَّمٍ فكيف فيما هو بمنزلةِ كلامٍ واحدٍ ولا يخلُّ بذلك الأمرُ بالتَّوبةِ ، والإخلاصِ في قوله تعالى : { وَأَنِيبُواْ إلى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } إذْا ليسَ المدَّعَى أنَّ الآيةَ تدلُّ على حصولِ المغفرةِ لكل أحدٍ من غير توبةٍ وسبقِ تعذيبٍ لتُغنيَ عن الأمرِ بهما وتُنافي الوعيدَ بالعذابِ { واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ } أي القرآنَ أو المأمورَ به دون المنهيِّ عنه أو العزائمَ دون الرُّخصِ أو النَّاسخَ دون المنسوخِ ولعلَّه ما هو أنجى وأسلم كالإنابةِ والمواظبةِ على الطَّاعةِ { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } بمجيئِه لتتداركوا وتتأهَّبوا له { أَن تَقُولَ نَفْسٌ } أي كراهةَ أنْ تقولَ . والتَّنكيرُ للَّتكثيرِ كما في قولِه تعالى : { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ } فإنَّه مسلكٌ ربَّما يسلك عند إرادة التكثيرِ والتَّعميمِ ، وقد مرَّ تحقيقُه في مطلع سورة الحجرِ { ياحسرتى } بالألفِ بدلاً من ياءِ الإضافةِ وقُرىء يا حسرتَاه بهاء السَّكتِ وقفاً . وقُرىء يا حسرتَاي بالجمعِ بين العوضينِ . وقُرىء با حسرتِي على الأصلِ أي احضُرِي فهذا أوانُ حُضورِك . { على مَا فَرَّطَتُ } أي على تفريطي وتقصيرِي { فِى جَنبِ الله } أي حانبِه وفي حقَّه وطاعتِه وعليه قولُ مَن قال
أَمَا تتَّقينَ الله في جنبِ وامق ... لَه كَبدٌ حَرَّى وَعَينٌ ترقرقُ
وهو كنايةٌ فيها مبالغة وقيل : في ذاتِ الله على تقديرِ مضافٍ كالطَّاعة وقيل : في قُربِه من قوله تعالى :(6/18)
{ والصاحب بالجنب } وقُرىء . في ذكرِ الله { وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين } أي المُستهزئين بدينِ الله تعالى وأهلِه . ومحلُّ الجملةِ النَّصبِ على الحالِ أي فرَّطتُ وأنا ساخرٌ { أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِى } بالإرشاد إلى الحقِّ { لَكُنتُ مِنَ المتقين } الشِّركَ والمعاصيَ { أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب لَوْ أَنَّ كَرَّةٌ } رجعةً إلى الدُّنيا { فَأَكُونَ مِنَ المحسنين } في العقيدةِ والعملِ وأو للدِّلالةِ على أنَّها لا تخلُو عن هذه الأقوالِ تحسُّراً وتحيُّراً وتعلُّلاً بما لا طائل تحته . وقولُه تعالى : { بلى قَدْ جَاءتْكَ ءاياتى فَكَذَّبْتَ بِهَا واستكبرت وَكُنتَ مِنَ الكافرين } ردُّ من الله تعالى عليه لما تضمَّنه قولُه لو أنَّ الله هداني من معنى النَّفيِ وفصله عنه لما أنَّ تقديمَه يفرقُ القرائنَ وتأخيرُ المردودِ يخلُّ بالتَّرتيب الوجوديِّ لأنَّه يتحسَّرُ بالتَّفريطِ ثم يتعلَّلُ بفقدِ الهدايةِ ثم يتمنَّى الرَّجعةَ وهو لا يمنعُ تأثيرَ قُدرةِ الله تعالى في فعلِ العبدِ ولا ما فيه من إسنادِ الفعلِ إليه كما عرفتَ ، وتذكيرُ الخطابِ باعتبار المَعنْى وقُرىء بالتَّأنيثِ .(6/19)
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)
{ وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله } بأنْ وصفُوه بما لا يليقُ بشأنِه كاتِّخاذ الولدِ { وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } بما ينالهم من الشِّدَّةِ أو بما يتخيَّلُ عليها من ظُلمة الجهل . والجملةُ حالٌ قد اكتفُي فيها بالضَّميرِ عن الواوِ على أنَّ الرُّؤيةَ بصريةٌ أو مفعولٌ ثانٍ لها على أنَّها عِرفانيةٌ { أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى } أي مقامٌ { لّلْمُتَكَبّرِينَ } عن الإيمانِ والطَّاعةِ ، وهو تقريرٌ لما قبله من رُؤيتهم كذلك { وَيُنَجّى الله الذين اتقوا } الشِّركَ والمعاصيَ أي من جهنَّم . وقُرىء يُنْجِي من الإنجاء . { بِمَفَازَتِهِمْ } مصدرٌ ميميٌّ إما من فاز بالمطلوب أي ظفر به ، والباءُ متعلقة بمحذوفٍ هو حالٌ من الموصول مفيدةٌ لمقارنة تنجيتهم من العذاب لنيلِ الثَّواب أي ينجَّيهم الله تعالى من مَثْوى المتكبِّرينَ ملتبسين بفوزِهم بمطلوبِهم الذي هو الجنَّةُ . وقوله تعالى { لاَ يَمَسُّهُمُ السوء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } إمَّا حالٌ أخرى من الموصول أو من ضميرِ مفازتِهم مفيدةٌ لكون نجاتِهم أو فوزِهم بالجنة غيرَ مسبوقةٍ بمساس العذاب والحزن . وإمَّا من فازَ منه أي نجا منه ، والباءُ للملابسة . قولُه تعالى : { لاَ يَمَسُّهُمُ } إلى آخرِه تفسيرٌ وبيانٌ لمفازتِهم أي ينجَّيهم الله تعالى ملتبسين بنجاتِهم الخاصَّةِ بهم أي بنفي السُّوءِ والحُزنِ عنهم أو للسَّببيةِ إمَّا على حذفِ المضافِ أي ينجيِّهم بسبب مفازتهم التي هي تقواهم كما يُشعر به إيراده في حيِّزِ الصِّلةِ ، وإمَّا على إطلاقِ المفازةِ على سببها الذي هو التَّقوى وليس المرادُ نفيَ دوام المساسِ والحزن بل دوامَ نفيهما كما مرَّ مراراً . { الله خالق كُلّ شَىْء } من خيرٍ وشرَ وإيمان وكفر لكن لا بالجَبْرِ بل بمباشرة الكاسب لأسبابِها . { وَهُوَ على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ } يتولَّى التَّصرُّفَ فيه كيفما يشاء { لَّهُ مَقَالِيدُ السموات والأرض } لا يملك أمرَها ولا يتمكَّن من التَّصرُّفَ فيها غيرُه وهو عبارة عن قُدرته تعالى وحفظِه لها . وفيها مزيدُ دلالةٍ على الاستقلالِ والاستبداد لأنَّ الخزائن لا يدخُلها ولا يتصرَّفُ فيها إلا من بيده مفاتيحُها . وهو جمعُ مِقْليدٍ أو مِقلادٍ من قلَّدتُه إذا ألزمتُه ، وقيل : جمعُ إقليدٍ معرَّبُ كَلِيدٍ على الشُّذوذِ كالمذاكيرِ . وعن عثمانَ رضي الله عنه أنَّه سألَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن المقاليدِ فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « تفسيرُها لا إلَه إلاَّ الله والله أكبرُ وسبحانَ الله وبحمدِه وأستغفرُ الله ولا حولَ ولا قوَّةَ إلاَّ بالله العليَّ العظيمِ هو الأوَّلُ والآخرُ والظَّاهرُ والباطنُ بيدِه الخيرُ يُحيي ويُميتُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ » والمعنى على هذا أنَّ لله هذه الكلمات يُوحد بها ويُمجّد وهي مفاتيحُ خيرِ السَّمواتِ والأرضِ من تكلَّم بها أصابَه { والذين كَفَرُواْ بئايات الله أُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون } متَّصلٌ بما قبله والمعنى أنَّ الله تعالى خالقٌ لجميعِ الأشياءِ ومتصرِّفٌ فيها كيفما يشاءُ بالإحياء والإماتة بيده مقاليدُ العالم العلويِّ والسُّفليِّ . والذي كفرُوا بآياته التَّكوينيَّةِ المنصوبةِ في الآفاق والأنفسِ والتَّنزيليةِ التي من جُملتها هاتيك الآيات النَّاطقةُ بذلك هم الخاسرون خُسراناً لا خسارَ وراءه ، هذا وقيل : هو متَّصلٌ بقوله تعالى وينجِّي الله وما بينهما اعتراضٌ فتدَّبر .(6/20)
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
{ قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا أَيُّهَا الجاهلون } أي أبعدَ مشاهدةِ هذه الآياتِ غيرَ الله أعبدُ ، وتأمروني اعتراضٌ للدِّلالةِ على أنَّهم أمرُوه به عَقيب ذلكَ وقالُوا استلمْ بعضَ آلهتِنا نؤمنُ بإلِهك لفرطِ غباوتِهم . ويجوزُ أن ينتصبَ غيرُ بما يدلُّ عليه تأمروني أعبدُ لأنَّه بمعنى تعبِّدونني ، وتقولون لي أعبد على أنَّ أصلَه تأمرونني أنْ أعبدَ فحُذف أنْ ورُفعَ ما بعدَها كما في قوله
أَلاَ أيُهذا الزَّاجري أحضُرَ الوَغَى ... وأنْ أشهدَ اللذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلدِي
ويؤيِّدهُ قراءةُ أعبدَ بالنَّصبِ وقُرىء تأمرونني بإظهارِ النُّونينِ على الأصلِ وبحذفِ الثَّانيةِ { وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ } أي من الرُّسلِ عليهم السَّلامُ { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } كلامٌ واردٌ على طريقةِ الفرضِ لتهييجِ الرُّسلِ وإقناط الكفرةِ والإيذانِ بغايةِ شناعةِ الإشراكِ وقُبحهِ وكونِه بحيثُ ينهى عنه من لا يكادُ يمكن أنْ يباشرَه فكيف بمن عداهُ . وإفرادُ الخطاب باعتبار كلِّ واحدٍ واللامُ الأولى مُوطِّئة للقسمِ والأخريانِ للجوابِ وإطلاق الاحباطِ يحتملُ أنْ يكون من خصائصِهم عند الإشراكِ منهم لأنَّ الإشراكَ منهم أشدُّ وأقبحُ وأن يكون مقيداً بالموتِ كما صَّرح به في قوله تعالى : { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم } وعطفُ الخسران عليه من عطفِ المسبَّبِ على السَّببِ .
{ بَلِ الله فاعبد } ردٌّ لما أمروه به ولولا دلالةُ التَّقديمِ على القصرِ لم يكن كذلك { وَكُنْ مّنَ الشاكرين } إنعامه عليك وفيه إشارة إلى ما يُوجب الاختصاصَ ويقتضيهِ . { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } ما قدرُوا عظمتَه تعالى في أنفسهم حقَّ عظمتِه حيثُ جعلُوا له شريكاً ووصفُوه بما لا يليقُ بشؤونِه الجليلةِ وقُرىء بالتَّشديدِ { والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ } تنبيهٌ على غاية عظمتِه وكمالِ قُدرته وحقارةِ الأفعال العظامِ التي تتحيَّر فيها الأوهامِ بالنسبةِ إلى قدرته تعالى ودلالةٌ على أنَّ تخريبَ العالم أهونُ شيءٍ عليه على طريقةِ التَّمثيل والتَّخييلِ من غير اعتبارِ القبضةِ واليمينِ حقيقةً ولا مجازاً كقولِهم شابتْ لُمَّةُ اللَّيلِ . والقبضةُ المَّرةُ من القبضِ أُطلقت بمعنى القبضةِ هي المقدارُ المقبوضُ بالكفِّ تسميةً بالمصدرِ أو بتقديرِ ذات قبضةٍ . وقُرىء بالنَّصبِ على الظَّرفِ تشبيهاً للموقَّتِ بالمُبهمِ . وتأكيدُ الأرضِ بالجميع لأنَّ المرادَ بها الأرَضَون السَّبعُ أو جميعُ أبعاضِها الباديةِ والغائرة . وقُرىء مطوياتٍ على أنَّها حالٌ والسَّمواتُ معطوفةٌ على الأرضُ منظومةٌ في حُكمِها . { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } ما أبعدَ وما أعلى مَنْ هذه قدرتُه وعظمتُه عن إشراكِهم أو عمَّا يُشركونه من الشُّركاءِ .(6/21)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)
{ وَنُفِخَ فِى الصور } هي النَّفخةُ الأولى { فَصَعِقَ مَن فِى السموات وَمَن فِى الأرض } أي خرُّوا أمواتاً أو مغشيّاً عليهم { إِلاَّ مَن شَاء الله } قيل : هم جبريلُ وميكائيلُ وإسرافيلُ فإنَّهم لا يموتُون بعد وقيل : حَمَلةُ العرشِ . { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى } نفخةٌ أخرى هي النَّفخةُ الثَّانيةُ . وأُخرى يحتملُ النَّصبَ والرَّفعَ . { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ } قائمون من قبورِم أو متوقفون . وقُرىء بالنَّصبِ على أنَّ الخبرَ { يُنظَرُونَ } وهو حالٌ من ضميرِه والمعنى يُقلِّبون أبصارَهم في الجوانبِ كالمبهوتينَ أو ينتظرون ما يفعل بهم . { وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبّهَا } بما أقام فيها من العدلِ استُعير له النُّورُ لأنَّه يزيِّنُ البقاعَ ويُظهر الحقوقَ كما يسمَّى الظُّلم ظُلمةً . وفي الحديثِ : «الظُّلم ظلماتٌ يومَ القيامةِ» ولذلك أضيف الأسمُ الجليلُ إلى ضميرِ الأرضُ أو بنور خلقه فيها بلا توسُّطِ أجسامٍ مضيئةٍ ولذلك أُضيف إلى الاسمِ الجليلِ . { وَوُضِعَ الكتاب } الحسابُ والجزاءُ من وضع المحاسبِ كتابَ المحاسبةِ بين يديه أو صحائفُ الأعمال في أيدي العمَّالِ واكتفى باسم الجنسِ عن الجمعِ وقيل : اللَّوحُ المحفوظُ يقابل به الصَّحائفُ . { وَجِىء بالنبيين والشهداء } للأممِ وعليهم من الملائكةِ والمؤمنينَ وقيل : المُستشَهدون { وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ } بين العباد { بالحق وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } بنقصِ ثوابٍ أو زيادةِ عقابٍ على ما جرى به الوعدُ .
{ وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } أي جزاءَه { وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ } فلا يفوتُه شيءٌ من أفعالِهم . وقولُه تعالى { وَسِيقَ الذين كَفَرُواْ إلى جَهَنَّمَ زُمَراً } الخ تفصيلٌ للتَّوفيةِ وبيانٌ لكيفيَّتيِها أي سِيقُوا إليها بالعُنفِ والإهانةِ أفواجاً متفرقةً بعضُها في إثرِ بعضٍ مترتِّبةً حسب ترتُّبِ طبقاتهم في الضَّلالةِ والشِّرارةِ . والزُّمَر جمعُ زُمْرةٍ ، واشتقاقها من الزَّمرِ وهو الصَّوتُ إذِ الجماعةُ لا تخلُو عنه . { حتى إِذَا جَاءوهَا فُتِحَتْ أبوابها } ليدخلُوها . وحتَّى هي التي تُحكى بعدها الجملةُ . وقرىء بالتَّشديدِ . { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا } تقريعاً وتوبيخاً { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ } من جنسِكم . وقُرىء نُذُر منكم . { يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءايات رَبّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا } أي وقتِكم هذا وهو وقتُ دخولِهم النَّارَ ، وفيه دليلٌ على أنَّه لا تكليفَ قبل الشِّرعِ من حيثُ أنَّهم علَّلوا توبيخَهم بإتيان الرُّسلِ وتبليغَ الكُتبِ { قَالُواْ بلى } قد أتَونا وأنذرونا { ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين } حيثُ قال الله تعالى لإبليسَ : { لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } وقد كنَّا ممَّن تبعَه وكذَّبنا الرُّسلَ وقلنا ما نزَّل الله من شيءٍ إنْ أنتمُ إلاَّ تكذبُون .(6/22)
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
{ قِيلَ ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا } أي مقدَّراً خلودُكم فيها . وإبهامُ القائلِ لتهويلِ المَقُولِ { فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين } اللامُ للجنسِ والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ ثقةً بذكرِه آنِفا أي فبئسَ مثواهُم جهنَّمُ . ولا يقدُح ما فيه من الإشعارِ بأنَّ كونَ مثواهُم جهنَّمَ لتكبُّرِهم عن الحقِّ في أنَّ دخولَهم النَّارَ لسبق كلمةِ العذابِ عليهم فإنَّها إنَّما حُقَّتْ عليهم بناءَّ على تكبُّرِهم وكُفرِهم وقد مرَّ تحقيقُه في سُورة الم السَّجدةِ .
{ وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة } مساقَ إعزازٍ وتشريفٍ للإسراعِ بهم إلى دار الكرامةِ . وقيل : سِيق مراكبُهم إذْ لا يُذهبُ بهم إلا راكبينَ { زُمَراً } متفاوتينَ حسب تفاوتٍ مراتبِهم في الفضلِ وعلوِّ الطَّبقةِ . { حتى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أبوابها } وقُرىء بالتَّشديدِ . وجوابُ إذا محذوفٌ للإيذانِ بأن لهم حينئذٍ من فُنون الكراماتِ ما لا يَحدِقُ به نطاقُ العباراتِ كأنَّه قيل حتَّى إذَا جَاؤُها وقد فُتحِتْ أبوابُها { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سلام عَلَيْكُمْ } من جميعِ المكارِه والآلام { طِبْتُمْ } طهرتم من دَنَس المعاصي أو طبتُم نَفْساً بما أُتيح لكُم من النَّعيمِ . { فادخلوها خالدين } كان ما كان مَّما يقصر عنه البيانُ { وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ } بالبعث والثَّوابِ { وَأَوْرَثَنَا الأرض } يريدونَ المكانَ الذي استقرُّوا فيه على الاستعارةِ وإيراثُها تمليكُها مخلَّفة عليهم من أعمالِهم أو تمكينُهم من التَّصرُّفِ فيها تمكينَ الوارثِ فيما يَرثُه { نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء } أي يتبوأُ كلُّ واحدٍ مَّنا في أي مكانٍ أرادُه من جنَّتهِ الواسعة على أنَّ فيها مقاماتٍ معنويةً لا يتمانعُ واردُها { فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } الجنَّةُ { وَتَرَى الملائكة حَافّينَ } مْحدقين { مِنْ حَوْلِ العرش } أي حوله ومِن مزيدةٌ أو لابتداءِ الحفوفِ { يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ } أي ينزهونَه تعالى عَّما لا يليقُ به ملتبسينَ بحمدِه . والجملة حالٌ ثانيةٌ أو مقيَّدةٌ للأُولى والمعنى ذاكرينَ له تعالى بوصفِ جلالِه وإكرامِه تلذُّذاً به ، وفيه إشعارٌ بأنَّ أقصى درجاتِ العلِّيينَ وأعلى لذائذِهم هو الاستعراقُ في شؤونه عزَّ وجلَّ { وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالحق } أي بين الخلقِ بإدخال بعضِهم النَّارَ وبعضهم الجَّنةَ أو بين الملائكةِ بإقامتِهم في منازلِهم على حسبِ تفاضُلِهم { وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبّ العالمين } أي على ما قَضَي بيننا بالحقِّ وأنزل كلاَّ منَّا منزلتَه التي هي حقُّه . والقائلون هم المؤمنون ممَّن قُضىَ بينهم أو الملائكةُ . وطيُّ ذكرِهم لتعيينهم وتعظيمِهم .
عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : « مَن قرأَ سُورة الزُّمَر لم يقطعِ الله تعالى رجاءَهُ يومَ القيامةِ وأعطاهُ ثوابَ الخائفينَ » وعن عائشةَ رضي الله عنها أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ يقرأُ كلَّ ليلةٍ بني إسرائيلَ والزُّمَرَ .(6/23)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
{ حم } بتفخيمِ الألفِ وتسكينِ الميمِ . وقُرىءَ بإِمالةِ الألفِ وبإخراجِها بينَ بينَ وبفتحِ الميمِ لالتقاءِ الساكنينِ أو نصبِها بإضمارِ اقرأْ وَنَحوِهِ ، ومنعُ الصرفِ للتعريفِ والتأنيث أو للتعريف وكونِها على زنةِ قابيلَ وهابيلَ . وبقيةُ الكلامِ فيه وفي قولِه تَعَالى { تَنزِيلُ الكتاب } كالذي سَلَفَ في آلم السجدةِ . وقولُه تعالى { مِنَ الله العزيز العليم } كما في مَطْلعِ سُورةِ الزُّمَرِ في الوجوه كُلِّها . ووجْهُ التعرضِ لنعتَي العزةِ والعلم ما ذُكرَ هناك . { غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب ذِى الطول } إِمَّا صفاتٌ أُخَرُ لتحقيق ما فيها منَ الترغيبِ والترهيبِ والحثِّ على ما هو المقصودُ ، والإضافةُ فيها حقيقيةٌ على أنَّه لمْ يُرَدْ بها زمانٌ مخصوصٌ وأريدَ بشديدِ العقابِ مشدِّدُه أو الشديدُ عقابُهُ بحذف اللامِ للازدواجِ وأمنِ الالتباسِ أوْ إبدالٍ وجعلُهُ وحْدَه بدلاً كما فعَلُه الزجَّاجُ مشوشٌ للنظمِ ، وتوسيطُ الواو بينَ الأوليَّنِ لإفادةِ الجمعِ بينَ محوِ الذنوبِ وقبول التوبةِ أو تغايرِ الوصفينِ إذْ رُبَّما يتوهمُ الاتحادُ أو تغايرُ موقعِ الفعلينِ لأنَّ الغفرَ هو السترُ معَ بقاءِ الذنبِ وذلكَ لمن لَمْ يتُبْ « فإنَّ التائبَ منَ الذنبِ كمنْ لا ذنبَ لَهُ » والتوبُ مصدرٌ كالتوبةِ وقيل : هُوَ جَمعُها والطَّولُ الفضلُ بترك العقابِ المستَحقِ ، وفي توحيد صفةِ العذابِ مغمورةً بصفاتِ الرحمةِ دليلُ سَبْقِها ورُجْحانِها { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } فيجبُ الإقبالُ الكُلِّي عَلى طاعتِهِ في أوامرِهِ ونواهيهِ { إِلَيْهِ المصير } فحسبُ لا إلى غيرِهِ لا استقلالاً ولا اشتراكاً فيجازِي كلاًّ من المطيعِ والعاصِي .(6/24)
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)
{ مَا يجادل فِى ءايات الله } أي بالطعنِ فيَها واستعمالِ المقدماتِ الباطلةِ لإدحاضِ الحقِّ كقولِه تَعَالى : { وجادلوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق } { إِلاَّ الذين كَفَرُواْ } بَها وأمَّا الذينَ آمنُوا فلا يخطرُ ببالهم شائبةُ شبهةٍ منها فضلاً عن الطعنِ فيها وأما الجدالُ فيها لحلِّ مشكلاتها وكشفِ معضلاتها واستنباطِ حقائقِها الكلية وتوضيحٍ مناهجِ الحقِّ في مضايقِ الأفهامِ ومزالقِ الأقدامِ وإبطالِ شبهِ أهلِ الزيغِ والضلالِ فمنْ أعظمِ الطاعاتِ ولذلكَ قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : « إنَّ جدالاً في القرآنِ كفرٌ » بالتنكيرِ للفرقِ بينَ جدالٍ وجدالٍ والفاءُ فِي قولِهِ تَعَالَى { فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى البلاد } لترتيبِ النَّهي أوْ وجوبِ الانتهاءِ عَلَى ما قبلها منَ التسجيلِ عليهمْ بالكُفرِ الذي لاَ شيءَ أمقت منْهُ عندَ الله تعالىَ وَلاَ أجلبُ لخُسرانِ الدُّنيا وَالآخرةِ فإنَّ منْ تحققَ ذلكَ لايكادُ يَغترُّ بمَا لهُم من حظوظِ الدُّنيا وزحارِفِها فإنَّهم مأخوذونَ عَمَّا قليلٍ أخْذَ منْ قبلَهمُ منَ الأممِ حسبَما ينطق بِه قولُه تَعَالَى { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والاحزاب مِن بَعْدِهِمْ } أي الذينَ تحزبُوا على الرسلِ وناصبوهم بعدَ قومِ نوحٍ مثلُ عادٍ وثمودَ وأضرابِهم { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ } مِنْ تلكَ الأممِ العاتيةِ { بِرَسُولِهِمْ } وَقُرىء برسولِها { لِيَأْخُذُوهُ } ليتمكنُوا منْهُ فيصيبوا بهِ مَا أرادُوا منِ تعذيبٍ أو قتلٍ منَ الأخذِ بمَعْنى الأَسْرِ { وجادلوا بالباطل } الذي لاَ أصلَ وَلاَ حقيقةَ لهُ أصلاً { لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق } الذي لا محيدَ عَنْه كما فعلَ هؤلاءِ المذكورونَ { فَأَخَذَتْهُمُ } بسببِ ذلك أخذَ عَزيزٍ مُقتدرٍ { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } الذي عاقبتُهمْ بهِ فإنَّ آثارَ دمارِهم عبرةٌ للناظرينَ ولآخذنَّ هؤلاءِ أيْضاً لاتحادِهم فِي الطريقةِ واشتراكِهم في الجَريرةِ كما ينبىءُ عنْهُ قولُه تعالَى :
{ وكذلك حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ } أَيْ كَما وجبَ وثبتَ حكمُه تَعَالى وقضاؤُهُ بالتعذيبِ عَلى أولئكَ الأممِ المكذبةِ المُتحزبةِ عَلى رُسلِهم المجادلةِ بالباطلِ لإدحاضِ الحقِّ بهِ وجبَ أَيْضاً { عَلَى الذين كَفَرُواْ } أيْ كفرُوا بكَ وتحزبُوا عليكَ وَهمُّوا بَما لَمْ ينالُوا كما ينبىءُ عنْهُ إضافةُ اسمِ الربِّ إلى ضميرِه عليه الصَّلاةُ وَالسلامُ فإنَّ ذلكَ للإشعارِ بأنَّ وجوبَ كلمةِ العذابِ عليهمْ مِنْ أحكامِ تربيتِهِ التي مِنْ جُمْلتِها نصرتُهُ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ وتعذيبُ أعدائِهِ وذلكَ إنَّما يتحققُ بكونِ الموصولِ عبارةً عن كفارِ قومِهِ لاَ عنِ الأممِ المهلكةِ وَقولُه تعالَى { أَنَّهُمْ أصحاب النار } فِي حَيِّزِ النصبِ بحذفِ لام التعليلِ أيْ لأنهُمْ مستحقَّو أشدِّ العُقوباتِ وأفظعِها التي هيَ عذابُ النارِ وَملازمُوهَا أبداً لكونهمْ كُفَّاراً معاندينَ متحزبينَ عَلى الرسولِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ كدأبِ منْ قبلهُم منَ الأممِ المهلكةِ فهُم لسائرِ فنونِ العقوباتِ أشدُّ استحقاقاً وأحقُّ استيجاباً وقيلَ : هو في محل الرفع على أنَّه بدل من كلمة ربك والمعنى مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرةِ المهلكةِ كونُهم من أصحابِ النارِ أي كما وجبَ إهلاكُهم في الدُّنيا بعذابِ الاستئصالِ كذلكَ وجبَ تعديبُهم بعذابِ النَّارِ في الآخرةِ وَمحلُّ الكافِ عَلى التقديرينِ النصبُ عَلى أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ .(6/25)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)
{ الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ } وَهُم أعلى طبقاتِ الملائكةِ عليهم السلامُ وأولُهم وجُوداً وحملهم إيَّاهُ وحفيفُهم حولَهُ مجازٌ عن حفظِهم وتدبيرِهم له وكنايةٌ عن زُلفاهُم منْ ذِي العرشِ جَلَّ جَلالُه ومكانتِهم عِنْدُه وَمحلُّ الموصولِ الرفعُ عَلى الابتداءِ خبرُه :
{ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ } والجملةُ اسئتنافٌ مَسوقٌ لتسليةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ببيانِ أنَّ أشرافَ الملائكةِ عليهمُ السلامُ مثابروِنَ عَلَى ولايةِ مَنْ معهُ منَ المُؤمنينَ ونُصْرتِهم واستدعاءِ مَا يُسعِدُهم في الدارينِ أيْ ينزهونهُ تعالى عن كُلِّ ما لاَ يليقُ بشأنِه الجليلِ ملتبسينَ بحمدِهِ عَلى نعمائِه التي لاَ تتناهَى { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } إِيماناً حقيقياً بحالِهم ، والتصريحُ بهِ مع الغنِىَ عن ذِكْرِهِ رَأْساً لإظهارِ فضيلةِ الإيمانِ وإبرازِ شرفِ أهلِه والإشعارِ بعلةِ دُعَائهم للمؤمنينَ حسبما ينطِقُ بهِ قولُه تَعالى : { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } فَإِنَّ المشاركةَ في الإيمانِ أقْوَى المناسباتِ وأتمُّها وأدعى الدَّواعِي إِلى النصحِ والشفقةِ ، وفي نظمِ استغفارهم لهم في سلكِ وظائِفهم المفروضةِ عليهم منْ تسبيحهم وتحميدِهم وإيمانهم إيذانٌ بكمالِ اعتنائِهم بهِ وإِشعارٌ بوقوعِهِ عندَ الله تعالى فِي مَوقعِ القَبولِ . رُوي أنَّ حملةَ العرشِ أرجلُهم في الأَرْضِ السُّفلى ورؤوسُهم قدْ خرقتِ العرشَ وهم خشوعٌ لا يرفعونَ طَرفهم . وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : « لا تتفكروا في عِظَمِ ربكم ولكنْ تفكروا فيمَا خلقَ الله من الملائكةِ فإنَّ خلقاً من الملائكةِ يقالُ لهُ إسرافيلُ زاويةٌ منْ زَوَايا العرشِ عَلى كاهلِهِ وقدماهُ في الأرضِ السُّفْلى وَقَدُ مرقَ رأسُهُ منْ سبعِ سمواتٍ وإنَّه ليتضاءلُ منْ عظمةِ الله حتَّى يصيرَ كأنُه الوصعُ » وَفِي الحديثِ : « إِنَّ الله أمرَ جميعَ الملائكةِ أَنْ يغدُوا ويروحُوا بالسلامِ عَلى حملةِ العرشِ تفضيلاً لهم عَلى سائِرهم » وقيل : خلقَ الله تعالى العرشَ من جوهرةٍ خضراءَ وبينَ القائمتينِ من قوائمِهِ خفقان الطيرِ المسرعِ ثمانينَ عامٍ وقيل : حولَ العرشِ سبعونَ ألفَ صفّ منَ الملائكةِ يطوفونَ به مهللينَ مكبرينَ ومن ورائهم سبعونَ ألفَ صفٍ قيامٌ قد وضعُوا أيديَهُم عَلى عواتقِهم رافعينَ أصواتَهُم بالتهليلِ والتكبيرِ ومنْ ورائِهم مائةُ ألفِ صفٍ قدْ وضعُوا أيمانَهُم عَلى الشمائلِ ما منهمْ أحدٌ إلا وهو يسبحُ بما لا يسبحُ بهِ الآخرُ { رَبَّنَا } عَلى إرادةِ القولِ أيْ يقولونَ ربَّنا عَلى أنَّه إمّا بيانٌ لاستغفارِهم أوْ حالٌ .
{ وَسِعْتَ كُلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً } أيْ وَسِعتْ رحمتُكَ وعلمُكَ فأزيلَ عنْ أصلِه للإغراقِ في وصفهِ تعالَى بالرحمةِ والعلمِ والمبالغةِ في عمومهمَا وتقديمُ الرحمةِ لأنَّها المقصودةُ بالذات هنها والفاءُ في قولِه تعالَى { فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ } أي للذين عملتَ منهم التوبةَ واتباعَ سبيلِ الحقِّ لترتيبِ الدعاءِ عَلَى ما قبلها مِنْ سعةِ الرحمةِ والعلمِ { وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم } وَاحفظْهُم عنْهُ وهُوَ تصريحٌ بعدَ إِشعارٍ للتأكيدِ .(6/26)
رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10)
{ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ } عطفٌ عَلى قِهِمْ وتوسيطُ النداءِ بينَهما للبمالغةِ في الجؤارِ { جنات عَدْنٍ التى وَعَدْتَّهُمْ } أيْ وعَدَتهم إيَّاهَا وقُرِىءَ جَنَّةَ عَدْنٍ { وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وأزواجهم وَذُرّيَّاتِهِمْ } أيْ صلاحاً مصحَّحاً لدخولِ الجنةِ في الجملةِ وإنْ كانَ دونَ صلاحِ أصولِهم وهُوَ عطفٌ على الضميرِ الأولِ أيْ وأدخلها معهم هؤلاء ليتم سرورهم ويتضاعفُ ابتهاجُهم أوْ عَلى الثانِي لكنْ لا بناءً عَلى الوعدِ العام للكلِّ كما قيل إذ لا يبقى حينئذ للعطف وجه بل بناء على الوعد الخاصِّ بهمْ بقولِه تعالَى : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ } بأنْ يكونُوا أعلى درجةً منْ ذريتِهم قالَ سعيدُ بنُ جُبيرٍ : يدخلُ المؤمنُ الجنةَ فيقولُ أينَ أبي أينَ ولدي أينَ زَوْجي فيقالُ إِنَّهم لمْ يعملُوا مثلَ عملكَ فيقولُ إني كنتُ أعملُ لي ولهُم فيقالُ أَدخلوهم الجنةَ . وسبقُ الوعدِ بالإدخالِ والإلحاقِ لاَ يستدعي حصولَ الموعودِ بلا توسطِ شفاعةٍ واستغفارٍ وعليهِ مَبْنى قولِ منْ قالَ فائدةُ الاستغفارِ زيادةُ الكرامةِ والثوابِ والأولُ هو الأَولى لأنَّ الدعاءَ بالإدخالِ فيه صريحٌ وفي الثاني ضمنيٌّ وقُرىءَ صَلُح بالضَّمِ وذرّيتِهمُ بالإفرادِ { إِنَّكَ أَنتَ العزيز } أي الغالبُ الذَّي لاَ يمتنعُ عليه مَقْدورٌ { الحكيم } أي الذي لا يفعلُ إلاَّ ما تقتضيهِ الحكمةُ الباهرةُ مَن الأمورِ التي منْ جُمْلتها إنجازُ الوعدِ فالجملةُ تعليلٌ لما قَبْلها .
{ وَقِهِمُ السيئات } أي العقوباتِ لأَنَّ جزاءَ السيئةِ سيئةٌ مثلُهَا أو جزاءَ السيئاتِ عَلَى حذْفِ المُضافِ وَهُوَ تعميمٌ بعدَ تخصيصٍ أوْ مخصوصٌ بالأتْباعِ أو المعاصي في الدُّنيا فمعنى قولِه تعالَى { وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ } : ومن تقه المعاصي في الدنيا فقد رحمته فِي الآخرةِ كأنَّهم طلَبوا لهُمْ السببَ بعدَ مَا سألُوا المُسبَّبَ { وَذَلِكَ } إشارةٌ إلى الرحمةِ المفهومةِ من ( رَحْمتَه ) أوْ إليَها وإِلى الوقايةِ وَمَا فيه منْ مَعْنى البُعدِ لما مَرَّ مِراراً منَ الإشعارِ ببُعْدِ درجةِ المُشارِ إليهِ { هُوَ الفوز العظيم } الذِي لاَ مطمعَ وَرَاءَهُ لطامعٍ .
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ } شروعٌ في بيانِ أحوالِ الكفرة بعدَ دخولِهم النَّارَ بعدَ ما بينَ فيما سبقَ أنهُمْ أصحابُ النارِ { يُنَادَوْنَ } أيْ مِنْ مكانٍ بعيدٍ وهُمْ في النارِ وقَدْ مقتُوا أنفسَهُم الأمَّارةَ بالسُّوءِ التي وقعُوا فيمَا وقعُوا باتباعِ هَوَاهَا أوْ مقَتَ بعضُهم بعضاً من الأحبابِ كقولِه تَعَالَى : { يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } أيْ أبغضوهَا أشدَّ البغضِ وَأنكروهَا أبلغَ الإنكارِ وَأظهرُوا ذلكَ على رؤوسِ الأشهادِ فيقالُ لهم عندَ ذلكَ { لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } أيْ لمقتُ الله أنفسَكُم الأمَّارةَ بالسوءِ أوُ مقتُه إِيَّاكم في الدُّنيا { إِذْ تَدْعُونَ } منْ جهةِ الأنبياءِ { إِلَى الإيمان } فتأبَوْنَ قَبولَهُ { فَتَكْفُرُونَ } اتّباعاً لأنفسكمْ الأمَّارةِ ومسارعةً إِلى هَوَاها أوِ اقتداءً بِأَخِلاَّئِكُم المضلينَ واستحباباً لآرائِهم أكبرُ منْ مقتِكم أنفسَكُم الأمارةَ بالسوءِ أوْ مِنْ مقتِ بعضِكم بعضاً اليومَ فإذ ظرفٌ للمقتِ الأولِ وإنْ توسطَ بينَهما الخبرُ لما فِي الظروفِ من الاتساعِ وقيل : لمصدرٍ آخرَ مقدرٍ أيْ مقتُه إيَّاكم إذْ تدعونَ وقيلَ : مفعولٌ لأذكرُوا والأولُ هو الوجْه وقيلَ : كلا المقتينِ في الآخرةِ وإذْ تدعَونَ تعليلٌ لَما بينَ الظرفِ والسببِ منْ علاقةِ اللزومِ والمعنى لمقتُ الله إِيَّاكم الآنَ أكبرُ منْ مقتكم أنفسَكم لمَّا كنتمُ تُدعَونَ إِلى الإيمانِ فتكفرونَ ، وتخصيصُ هَذَا الوجهِ بصورةِ كونِ المرادِ بأنفسِهم أضرابَهُم مما لاَ دَاعيَ إليهِ .(6/27)
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
{ قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين } صفتانِ لمصدرَيْ الفعلينِ المذكورينِ أيْ إماتتينِ وإحياءتينِ أوْ موتتينِ وحياتينِ عَلى أنَّهما مصدرانِ لهما أيضاً بحذفِ الزوائدِ أو لفعلينِ يدلُّ عليهما المذكوران فإنَّ الإماتةَ والإحياءَ ينبئانِ عن الموتِ والحياةِ حَتْماً كأنَّه قيلَ : أمتنَا فمُتنَا موتتينِ اثنتينِ وأحييتَنا فحِييَنا حياتينِ اثنتينِ على طريقةِ قولِ مَنْ قالَ
وعضةُ دهرٍ يا ابْنَ مروانَ لمْ تَدَع ... منَ المالِ إلاَّ مُسْحَتٌ أو مُجلّفُ
أيْ لَم تدعَ فلمْ يبقَ إلا مسحتٌ الخ قيلَ : أرادُوا بالإماتةِ الأُولى خلْقَهُم أمواتاً وبالثانيةِ إماتتَهُم عندَ انقضاءِ آجالِهم على أنَّ الإماتةَ جعلُ الشيءِ عادمَ الحياةِ أعمُّ منْ أنْ يكونَ بإنشائِه كذلكَ كما في قولِهم سبحانَ منْ صغَّر البعوضَ وكبَّر الفيلَ أو بجعلهِ كذلكَ بعدَ الحياةِ وبالإحياءينِ الإحياءَ الأولَ وإحياءَ البعثِ وقيل : أرادُوا بالإماتةِ الأُولى ما بعدَ حياةِ الدُّنيا وبالثانيةِ ما بعدَ حياةِ القبرِ وبالإحياءينِ ما في القبرِ وما عند البعثِ وهو الأنسبُ بحالِهم ، وأما حديثُ لزومِ الزيادةِ على النصِّ ضرورةَ تحققِ حياةِ الدُّنيا فمدفوعٌ لكنْ لا بما قيلَ من عدم اعتدادِهم بها لزوالِها وانقضائِها وانقطاعِ آثارِها وأحكامِها بل بأنَّ مقصودَهُم إحداثُ الاعترافِ بما كانوا يُنكِرونه في الدُّنيا كما ينطِقُ به قولُهم : { فاعترفنا بِذُنُوبِنَا } والتزامُ العملِ بموجب ذلك الاعترافِ ليتوسلُوا بذلكَ إلى ما علقوا بهِ أطماعَهُم الفارغةَ من الرجْعِ إلى الدُّنيا كما قد صرَّحوا بهِ حيثُ قالوا : { فارجعنا نَعْمَلْ صالحا إِنَّا مُوقِنُونَ } وَهُو الذي أرادُوه بقولِهم { فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ } معَ نوعِ استبعادٍ لهُ واستشعارِ يأسٍ منْهُ لاَ أنَّهم قالوه بطريقِ القنوطِ البحتِ كما قيلِ : ولا ريبَ في أنَّ الذي كانَ يُنكرونَهُ ويُفرِّعون عليهِ فنونَ الكفرِ والمعاصِي ليسَ إلا الإحياءَ بعدَ الموتِ وأمَّا الإحياءُ الأولُ فلم يكونُوا يُنكرونَه لينظِمُوه في سلكِ ما اعترفُوا بهِ وزعمُوا أنَّ الاعترافَ يُجديهُم نفعاً وإنما ذكرُوا الموتَةَ الأُولى معَ كونِهم معترفينَ بَها في الدُّنيا لتوقف حياةِ القبرِ عليهَا وكَذا حالُ الموتةِ في القبرِ فإنَّ مقصدَهُم الأصليَّ هوَ الاعترافُ بالإحياءينِ وإنَّما ذكرُوا الإماتتينِ لترتيبهِما عليهِما ذكراً حسبَ ترتبهِما عليهِما وجُوداً وتنكيرُ سبيلٍ للإبهامِ أيْ منْ سبيلٍ مَا كيفَما كانَ وقولُه تعاَلى :
{ ذلكم } الخ جوابٌ لَهُم باستحالةِ حصولِ مَا يرجُونه ببيانِ ما يوجبُها مِن أعمالِهم السيئةِ أيْ ذلكم الذي أنتمُ فيهِ منَ العذابِ مُطلقاٍ لا مقيداً بالخلودِ كَما قيلَ : { بِأَنَّهُ } أيْ بسببِ أنَّ الشأنَ { إِذَا دُعِىَ الله } فِي الدُّنيا أيْ عُبدَ { وَحْدَهُ } أيْ مُنْفَرِداً { كَفَرْتُمْ } أيْ بتوحيدِهِ { وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ } أيْ بالإشراكِ به وتسارعوا فيه ، وفي إيرادِ إذَا وصيغةِ الماضِي في الشرطيةِ الأُولى وإنْ وصيغةِ المضارعِ في الثانيةِ ما لا يَخْفى منَ الدلالةِ على كمالِ سوءِ حالِهم وحيثُ كان حالُكم كذلكَ { فالحكم للَّهِ } الذي لاَ يحكُم إلا بالحقِّ ولاَ يقضِي إلاَّ بَما تقتضيهِ الحكمةُ { العلى الكبير } الذي ليسَ كمثلِه شيءٌ في ذاتِه ولا في صفاتِه ولا في أفعالِه يفعلُ ما يشاءُ ويحكمُ ما يريدُ لا معقّبَ لحكمهِ وقد حكمَ بأنَّه لا مغفرةَ للمشركِ ولا نهايةَ لعقوبتِه كَما لا نهايةَ لشناعتِه فلا سيبلَ لكُم إلى الخروجِ أَبداً .(6/28)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)
{ هُوَ الذى يُرِيكُمْ ءاياته } الدالةَ عَلى شؤونِه العظيمةِ الموجبةِ لتفرده بالألوهيةِ لتستدلوا بها على ذلك وتعملوا بموجبِهَا فتوحِّدوه تعالَى وتخُصُّوه بالعبادةِ { وَيُنَزّلُ } بالتشديدِ وقُرىءَ بالتخفيفِ منَ الإنزالِ { لَكُم مّنَ السماء رِزْقاً } أيْ سببَ رزقٍ وهو المطرُ وإفرادُه بالذكرِ مع كونِه من جملةِ الآياتِ الدالةِ على كمالِ قُدرتِهِ تَعَالى لتفردِّه بعنوانِ كونِه من آثارِ رحمتِه وجلائلِ نعمتِه الموجبةِ للشكرِ ، وصيغةُ المضارعِ في الفعلينِ للدِّلالةِ على تجددِ الإراءةِ والتنزيلِ واستمرارِهِما ، وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعولِ لما مَرَّ غيرَ مرةٍ { وَمَا يَتَذَكَّرُ } بتلكَ الآياتِ الباهرةِ ولا يَعملُ بمقتضَاهَا { إِلاَّ مَن يُنِيبُ } إلى الله تَعَالى ويتفكرُ فيما أودَعهُ في تضاعيفِ مصنوعاتِهِ من شواهدِ قدرتِه الكاملةِ ونعمتِه الشاملةِ الموجبةِ لتخصيصِ العبادةِ بهِ تَعالَى ومن ليسَ كذلكَ فهُو بمعزلٍ منَ التذكرِ والاتعاظِ { فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } أيْ إِذا كانَ الأمرُ كَما ذكرَ منَ اختصاصِ التذكرِ بمنْ ينيبُ فاعبدُوه أيُّها المؤمنونَ مخلصينَ له دينَكُم بموجبَ إنابتِكم إليهِ تعالَى وإيمانِكم به { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } ذلكَ وغاظَهُم إخلاصُكم .
{ رَفِيعُ الدرجات } نحوُ بديعِ السمواتِ عَلى أنه صفةٌ مشبّهةٌ أضيفتْ إلى فاعِلها بعدَ النقلِ إلى فُعُلٍ بالضمِّ كما هُوَ المشهورُ وتفسيرُه بالرافعِ ليكونَ منْ إضافِه اسمِ الفاعلِ إلى المفعولِ بعيدٌ في الاستعمالِ أيْ رفيعُ درجاتِ ملائكتِه أي معارجِهم ومصاعدِهم إلى العرشِ { ذُو العرش } أيْ مالكُه وهُمَا خبرانِ آخرانِ لقولِه تعالى : ( هوَ ) أخبرَ عنْهُ بهما إيذاناً بعلوِّ شأنِه تَعَالى وعظمِ سُلطانِه الموجبَيْنِ لتخصيصِ العبادةِ بهِ وإخلاصِ الدينِ لهُ إمَّا بطريقِ الاستشهادِ بهمَا عليهَما فإنَّ ارتفاعَ معارجَ ملائكتِه إلى العرشِ وكونَ العرشِ العظيمِ المحيطِ بأكنافِ العالمِ العلويِّ والسفليِّ تحتَ ملكوتِه وقبضةِ قدرتِه مما يقضِي بكونِ علوِّ شأنِه وعظمِ سُلطانِه في غايةٍ لاغايةَ وراءَهَا وإمَّا بجعلَهما عبارةً عنهما بطريقِ المجازِ المتفرعِ على الكنايةِ كالاستواءِ على العرشِ وتمهيداً لما يعقُبهما من قولِه تعالى { يُلْقِى الروح مِنْ أَمْرِهِ } فإنَّه خبرٌ آخرُ لمَا ذكرَ منبىءٌ عن إنزالِ الرزقِ الرُّوحانِيِّ الذي هُو الوحيُ بعدَ بيانِ إنزالِ الرزقِ الجُسمانيِّ الذي هُو المطرُ أي ينزلُ الوحيَ الجاريَ من القلوبِ منزلةَ الروحِ منَ الأجسادِ وقولُه تعالَى مِنْ أمرِه بيانٌ للروحِ الذي أريدَ بهِ الوحيُ فإنَّه أمرٌ بالخيرِ أو حالٌ منِهُ أيْ حالَ كونِه ناشئاً ومبتدأً منْ أمرِهِ أو صفةٌ لهُ عَلى رأْي منْ يجوزُ حذفَ الموصولِ معَ بعضِ صلتِه أي الروحَ الكائنَ منْ أمرهِ أو متعلقٌ بيُلقِي وَمنْ للسببيةِ كالباءِ مثلُ ما في قولِه تَعَالى : { مّمَّا خطيئاتهم } أي يُلقِي الوحيَ بسببِ أمرهِ { على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } وهوَ الذي اصطفاهُ لرسالتِه وتبليغِ أحكامِه إليهمْ { لّيُنذِرَ } أي الله تعالَى أو الملقى عليه أو الروح ، وقرىء لتنذر على أن الفاعل هو الرسول عليه الصلاة والسلام أو الرُّوحُ لأنَّها قد تؤنث { يَوْمَ التلاق } إما ظرفٌ للمفعولِ الثانِي أي لينذرَ الناسَ يوم العذابَ التلاقِ وهو يومُ القيامةِ لأنَّه يتلاقَى فيهِ الأرواحُ والأجسامُ وأهلُ السمواتِ والأرضِ أو هُو المفعولُ الثانِي اتساعاً أوْ أصالةً فإنَّه منْ شدةِ هولِه وفظاعتِه حقيقٌ بالإنذارِ أصالةً وقُرىَء ليُنْذرَ عَلَى البناءِ للمفعولِ ورفعِ اليومِ .(6/29)
يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
{ يَوْمَ هُم بارزون } بدلٌ منُ يومِ التلاقِ أيْ خارجونَ من قبورِهم أو ظاهرونَ لا يستُرهُم شيءٌ من جبلِ أو أَكَمةٍ أوْ بناءٍ لكونِ الأرضِ يومئذٍ قاعاً صفصفاً ولاَ عليهمُ ثيابٌ إنما هُم عراةٌ مكشوفونَ كما جاءَ فِي الحديثِ « يحشرونَ عُراةً حُفاه غُرْلا » وقيلَ : ظاهرةٌ نفوسُهم لا تحجبُهم غواشِي الأبدانِ . أوْ أعمالُهم وسرائرُهم { لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَىْء } استئنافٌ لبيانِ بروزِهم وتقريرٌ له وإزاحةٌ لَما يتوهمُّه المتوهمونَ في الدُّنيا منَ الاستتارِ توهماً باطلاً أو خبرٌ ثانٍ وقيلَ : حَالٌ منْ ضميرِ بارزونَ أيْ لا يخْفى عليهِ تَعَالى شيءٌ مَا منْ أعيانِهم وأعمالِهم وأحوالِهم الجليلةِ والخفيةِ السابقةِ واللاحقةِ .
{ لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } حكايةٌ لمَا يقعُ حينئذٍ منَ السؤال والجوابِ بتقديرِ قولٍ معطوفٍ على ما قبَلهُ من الجملةِ المنفيةِ المستأنفةَ أو مستأنفٌ يقعُ جواباً عنْ سؤالٍ نشأَ منْ حكايةِ بروزِهم وظهورِ أحوالِهم كأنَّه قيلَ فماذَا يكونُ حينئذٍ فقيلَ : يقالُ الخ أيْ يُنادِي منادٍ لَمنِ الملكُ اليومَ فيجيبُهُ أهلُ المحشرِ لله الواحدِ القهارِ وقيلَ المجيبُ هُوَ السائلُ بعينِه لما رُوي أنَّه يجمعُ الله الخلائقَ يومَ القيامةِ في صعيدٍ واحدٍ في أرضٍ بيضاءَ كأنَّها سبيكةُ فضةٍ لم يعصَ الله فيَها قطُّ فأولُ ما يتكلُم بهِ أنْ ينادِيَ منادٍ لمنِ الملكُ اليومَ لله الواحدِ القهارِ وقيلَ حكايةً لما ينطقُ بهِ لسانُ الحالِ من تقطعِ أسبابِ التصرفاتِ المجازيةِ واختصاصِ جميعِ الأفاعيلِ بقبضةِ القدرةِ الإلهيةِ { اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } إلخ إمَّا منْ تتمةِ الجوابِ لبيانِ حكمِ اختصاصِ الملكِ بهِ تعالَى ونتيجتِه التي هيَ الحكُم السويُّ والقضاءُ الحقُّ أوْ حكايةً لِمَا سيقولُه تعالى يومئذٍ عقيبَ السؤالِ والجوابِ أيْ تُجزى كُلُّ نفسٍ منَ النفوسِ البَرّةِ والفاجرةِ بما كسبتْ منْ خَيرٍ أوْ شرَ { لاَ ظُلْمَ اليوم } بنقصِ ثوابٍ أوْ زيادةِ عذابٍ { إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } أيْ سريعٌ حسابُه تماماً إذْ لا يشغلُه تعالَى شأنٌ عنْ شأنٍ فيحاسبُ الخلائقَ قاطبةً في أقربِ زمانٍ كما نُقلَ عن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عَنْهما أنَّه تعالَى إذَا أخذَ في حسابِهم لم يقِلْ أهلُ الجنةِ إلاَّ فيهَا ولا أهلُ النارِ إلا فيهَا فيكونُ تعليلاً لقولِه تعالَى اليومَ تُجزى الخ فإنَّ كونَ ذلكَ اليومِ بعينِه يومَ التلاقِي ويومَ البروزِ ممّا يوهم استبعادَ وقوعِ الكُلِّ فيهِ أو سريعٌ مَجيئاً فيكونُ تعليلاً للإنذارِ .(6/30)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21)
{ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة } أي القيامةِ سميتْ بَها لأُزوفِهَا وهُو القربُ غيرَ أنَّ فيهِ إشعاراً بضيقِ الوقتِ وقيلَ الخطةُ الآزفةُ وهي مشارفةُ أهلِ النارِ دخولَها وقيل : وقتَ حضورِ الموتِ كما في قولِه تعالَى : { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم } وقولِه : { كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقى } وقولُه تعالَى : { إِذِ القلوب لَدَى الحناجر } بدلٌ منْ يومَ الآزفةِ فإنَّها ترتفعُ من أماكِنها فتلتصقُ بحلوقِهم فلا تعودُ فيتروّحوا ولا تخرجُ فيستريحوا بالموتِ { كاظمين } عَلى الغَمِّ حالٌ منْ أصحابِ القلوبِ عَلى المَعْنى إِذِ الأصلُ قلوُبُهم أوْ مِنْ ضميرِهَا في الظرفِ وجمعُ السلامةِ باعبتارِ أنَّ الكظَم منْ أحوالِ العُقلاءِ كقولِه تعالَى : { فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين } أوْ منْ مفعولِ أنذرْهم عَلى أنَّها حالٌ مقدرةٌ أيْ أنذرهُم مقدراً كظمَهُم أوْ مشارفينَ الكظمَ .
{ مَا للظالمين مِنْ حَمِيمٍ } أَيْ قريبٍ مشفقٍ { وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } أيْ لاَ شفيعَ مُشفَّعٌ على مَعْنى نفِي الشفاعةِ والطاعةِ معاً على طريقةِ قولِه
على لاحبٍ لا يُهتدى بمنارِ ... والضمائرُ إنْ عادتْ إلى الكُفارِ وهو الظاهرُ فوضعُ الظالمينَ موضعَ ضميرِهم للتسجيلِ عليهم بالظلمِ وتعليلِ الحكمِ بهِ { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعين } النظرةَ الخائنةَ كالنظرةِ الثانيةِ إلى غيرِ المَحْرمِ واستراقِ النظرِ إليهِ أو خيانةَ الأعينِ على أنها مصدرٌ كالعافيةِ { وَمَا تُخْفِى الصدور } من الضمائرِ والأسرارِ والجملةُ خبرٌ آخرُ مثلُ يُلقي الروحَ للدِّلالةِ على أنَّه ما مِنْ خفيَ إلا وهُو متعلقُ العلمِ والجزاءِ . { والله يَقْضِى بالحق } لأنَّه المالكُ الحاكُم على الإطلاقِ فلا يقضِي بشيءٍ إلا وهُو حقٌّ وعدلٌ { والذين يَدْعُونَ } يعبدونَهم { مِن دُونِهِ } تعالَى { لاَ يَقْضُونَ بِشَىْء } تهكمٌ بهم لأنَّ الجمادَ لا يُقالُ في حقِّه يَقْضِي أو لا يَقْضِي . وقُرىء تَدْعُون عَلى الخطابِ التفاتاً أو على إضمارِ قُلْ { إِنَّ الله هُوَ السميع البصير } تقريرٌ لعلمِه تعالَى بخائنةِ الأعينِ وقضائِه بالحقِّ ووعيدٌ لهمُ على ما يقولونَ ويفعلو نَ وتعريضٌ بحالِ ما يدْعونَ من دونِه . { أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ } أي مآلُ حالِ مَنْ قبلَهم من الأُممِ المكذبةِ لرُسلِهم كعادٍ وثمودَ وأضرابِهم . { كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } قدرةً وتمكناً من التصرفاتِ . وإنَّما جيءَ بضميرِ الفصلِ معَ أنَّ حقَّه التوسطُ بينَ معرفتينِ لمضاهاةِ أفعلَ للمعرفةِ في امتناعِ دخولِ اللامِ عليهِ . وقُرِىءَ أشدَّ منكُم بالكافِ { وَءَاثَاراً فِى الأرض } مثلُ القلاعِ الحصينةِ والمدائنِ المتينةِ ، وقيلَ : المَعْنى وأكثرَ آثاراً ، كقولِه
متقلداً سيفاً ورُمحاً ... { فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ } أخذاً وبيلاً { وَمَا كَانَ لَهُم مّنَ الله مِن وَاقٍ } أي منْ واقٍ يقيهم عذابَ الله .(6/31)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)
{ ذلك } أي ما ذُكِرَ من الأخذِ { بِأَنَّهُمْ } بسببِ أنَّهم { كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات } أي المعجزاتِ أو بالأحكامِ الظاهرةِ { فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ الله إِنَّهُ قَوِىٌّ } متمكنٌ مما يريدُ غايةَ التمكنِ { شَدِيدُ العقاب } لا يُؤبَهُ عندَ عقابِه بعقابٍ . { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا } وهي معجزاتُه { وسلطان مُّبِينٍ } أي وحجَّةٍ قاهرةٍ وهيَ إما عينُ الآياتِ والعطفُ لتغايرِ العنوانينِ وإما بعضُ مشاهيرِها كالعَصا أفردتْ بالذكرِ مع اندراجِها تحتَ الآياتِ لإنافتِها إفرادَ جبريلَ وميكالَ به معَ دخولِها في الملائكةِ عليهم السَّلامُ . { إلى فِرْعَوْنَ وهامان وَقَارُونَ فَقَالُواْ ساحر كَذَّابٌ } أي فيما أظهرَهُ من المعجزاتِ وفيمَا ادَّعاهُ من رسالةِ ربِّ العالمينَ . { فَلَمَّا جَاءهُمْ بالحق مِنْ عِندِنَا } وهو ما ظهرَ على يدِه من المعجزاتِ القاهرةِ { قَالُواْ اقتلوا أَبْنَاء الذين ءامَنُواْ مَعَهُ واستحيوا نِسَاءهُمْ } كما قالَ فرعونُ سنقتلُ أبناءَهُم ونستحيي نساءَهُم أي أعيدُوا عليهم ما كنتُم تفعلونَهُ أولاً وكانَ فرعونُ قد كفَّ عن قتلِ الوِلْدانِ فلما بُعثَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأحسَّ بأنَّه قد وقعَ ما وقعَ أعادَهُ عليهم غيظاً وَحنَقاً وزعماً منْهُ أنَّه يصدُّهم بذلكَ عن مظاهرتِه ظَّناً منهُم أنَّه المولودُ الذي حكَم المنجّمونَ والكهنةُ بذهابِ ملكِهم على يدِه { وَمَا كَيْدُ الكافرين إِلاَّ فِى ضلال } أي في ضَياعٍ وبُطلانٍ لا يُغني عنهُم شيئاً وينفذ عليهم لا محالةَ القدرُ المقدورُ والقضاءُ المحتومُ . واللامُ إمَّا للعهدِ والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لذمِّهم بالكفرِ والإشعارِ بعلةِ الحكمِ ، أو للجنسِ وهم داخلونَ فيه دخولاً أولياً . والجملةُ اعتراضٌ جيءَ بهِ في تضاعيفِ مَا حُكيَ عنْهم من الأباطيلِ للمسارعةِ إلى بيانِ بطلانِ ما أظهروه من الإبراقِ والإرعادِ واضمِحْلالِه بالمرةِ .
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ موسى } كانَ مَلؤُه إذَا هَمَّ بقتلِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كفُّوه بقولِهم ليسَ هَذا بالذي تخافُه فإنَّه أقلُّ من ذاكَ وأضعفُ وما هُو إلا بعضُ السحرةِ ، وبقولِهم إذا قتلتَهُ أدخلتَ على النَّاسِ شُبهةً واعتقدُوا أنَّكَ عجَزتَ عن معارضتِه بالحجَّةِ وعَدلتَ إلى المقارعةِ بالسيفِ ، والظاهرُ من دهاءِ اللعينِ ونَكارتِه أنَّه كانَ قد استيقنَ أنَّه نبيٌّ وأنَّ ما جاءَ بهِ آياتٌ باهرةٌ وما هُو بسحرٍ ولكنْ كانَ يخافُ إنْ همَّ بقتلِه أنْ يُعاجلَ بالهلاكِ ، وكانَ قولُه هذا تمويهاً على قومِه وإيهاماً أنَّهم هم الكافُّونَ له عن قتلِه ولولاهُم لقتلَه وما كانَ الذي يكفُّه إلا ما في نفسِه من الفزعِ الهائل . وقولُه : { وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } تجلدٌ منه وإظهارٌ لعدمِ المُبالاةِ بدعائِه ولكنَّه أخوفُ ما يخافُه { إِنّى أَخَافُ } إنْ لم أقتْلهُ { أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ } أنْ يغيرَ ما أنتُم عليهِ من الدينِ الذي هُو عبارةٌ عن عبادتِه وعبادةِ الأصنامِ لتقربَهم إليه { أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الأرض الفساد } ما يُفسدُ دُنياكُم من التحاربِ والتهارجِ إنْ لم يقدرُ على تبديلِ دينِكم بالكلِّيةِ . وقُرِىءَ بالواوِ الجامعةِ ، وقُرىءَ بفتحِ الياءِ والهاءِ ورفعِ الفساد ، وقُرِىءَ يَظَّهَّر بتشديدِ الظَّاءِ والهاءِ من تظهَّرَ بمعنى تظَاهرَ أي تتابعَ وتعاونَ .(6/32)
وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
{ وَقَالَ مُوسَى } أي لقومِه حينَ سمعَ بمَا تقوَّلَهُ اللعينُ من حديثِ قتلِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ { إِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب } صدَّرَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كلامَهُ بإنَّ تأكيداً له وإظهاراً لمزيدِ الاعتناءِ بمضمونِه وفرطِ الرغبةِ فيهِ ، وخصَّ اسمَ الربِّ المنبىءِ عن الحفظِ والتربيةِ لأنَّهما الذي يستدعيِه وأضافَهُ إليهِ وإليهم حثَّاً لهم على موافقتِه في العياذِ بهِ تعالى والتوكلِ عليه فإنَّ في تظاهرِ النفوسِ تأثيراً قوياً في استجلابِ الإجابةِ ولم يسمِّ فرعونَ بل ذكرَهُ بوصفٍ يعمُّه وغيرَهُ منَ الجبابرةِ لتعميمِ الاستعاذةِ والإشعارِ بعلةِ القساوةِ والجرأةِ على الله تعالَى . وقُرِىءَ عُتُّ بالإدغامِ .
{ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ } قيلَ كانَ قبطياً ابْنَ عمَ لفرعونَ آمنَ بُموس سِرَّاً ، وقيلَ : كانَ إسرائيلياً ، أو غَريباً مُوحداً { يَكْتُمُ إيمانه } أيْ مِنْ فرعونَ وملئِه { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً } أتقصِدونَ قتلَهُ . { أَن يَقُولَ } لأنْ يقولَ ، أو كراهةَ أنْ يقولَ { رَبّىَ الله } أيْ وحدَهُ من غيرِ رويةٍ وتأملٍ في أمرِه { وَقَدْ جَاءكُمْ بالبينات } والحالُ أنَّه قد جاءكُم بالمعجزاتِ الظاهرةِ التي شاهدتمُوها وعهدتمُوها { مّن رَّبّكُمْ } أضافَهُ إليهم بعدَ ذكرِ البيناتِ احتجاجاً عليهم واستنزالاً لَهمُ عن رُتبةِ المكابرةِ ثم أخذَهُم بالاحتجاجِ من بابِ الاحتياطِ ، فقالَ { وَإِن يَكُ كاذبا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ } لا يتخطَّاهُ وبالُ كذبِه فيُحتاجَ في دفعه إلى قتلِه { وَإِن يَكُ صادقا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذى يَعِدُكُمْ } أيْ إنْ لَم يُصبكم كلُّه فلاَ أقلَّ منْ إصابةِ بعضِه لا سيَّما إنْ تعرضتُم له بسوءٍ ، وهَذا كلامٌ صادرٌ عن غايةِ الإنصافِ وعدمِ التعصبِ ولذلكَ قدَّمَ من شِقَّيْ الترديدِ كونَهُ كاذباً أو يُصبْكُم ما يعدُكُم من عذابِ الدُّنيا وهو بعضُ ما يعدُهم كأنَّه خوَّفُهم بما هو أظهرُ احتمالاً عندَهُم ، وتفسيرُ البعضِ بالكُلِّ مستدَلاً بقولِ لَبيدٍ
ترَّاكُ أمكنةٍ إذَا لَمْ أَرْضَها ... أو يرتبطْ بعضَ النفوسِ حِمامُها
مردودٌ لمَا أنَّ مرادَهُ بالبعضِ نَفْسُه { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } . احتجاجٌ آخرُ ذُو وجهينِ أحدُهما أنَّه لوْ كانَ مُسرفاً كذاباً لما هداهُ الله تعالَى إلى البيناتِ ولمَا أيَّدهُ بتلكَ المعجزاتِ وثانيهما إنْ كان كذلك خذلَه الله وأهلكَهُ فَلا حاجةَ لكُم إلى قتلِه ولعلَّه أراهُم المعنى الثَّانِي وهُو عاكفٌ على المَعْنى الأول لتلينَ شكيمتُهم وقد عَرَّضَ به لفرعونَ بأنَّه مسرفٌ كذَّابٌ لا يهديِه الله سبيلَ الصوابِ ومنهاجَ النجاةِ .(6/33)
يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
{ ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظاهرين } غالبينَ عالينَ عَلى بني إسرائيلَ { فِى الأرض } أي أرضِ مصرَ لا يُقاومكُم أحدٌ في هذا الوقتِ { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله } من أخذِه وعذابِه . { إِن جَاءنَا } أي فَلاَ تُفسدُوا أمرَكُم ولا تتعرضُوا لبأسِ الله بقتلِه فإنَّه إنْ جاءَنا لم يمنعنا منه أحدٌ وإنَّما نسبَ ما يسرُّهم من المُلكِ والظهورِ في الأرضِ إليهم خَاصَّة ونظمَ نفسَهُ في سلكِهم فيما يسوؤُهم من مجىء بأسِ الله تعالى تطييباً لقلوبِهم وإيذاناً بأنَّه ناصحٌ لهم ساعٍ في تحصيلِ ما يُجديهم ودفعِ ما يُرديهم سعيَهُ في حقِّ نفسِه ليُتأثرَ بنصحِه .
{ قَالَ فِرْعَوْنُ } بعد ما سَمِع نُصحَهُ { مَا أُرِيكُمْ } أيْ ما أُشيرُ عليكُم { إِلاَّ مَا أرى } وأستصوبُهُ مِنْ قتلِه { وَمَا أَهْدِيكُمْ } بهذَا الرَّأي { إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد } أي الصوابِ ، أو لا أُعلِّمُكم إلاَّ ما أعلمُ ولا أُسرُّ عنكُم خلافَ ما أُظهرُهُ ، ولقدْ كذبَ حيثُ كانَ مستشعراً للخوفِ الشديدِ ولكنَّه كان يتجلدُ ولولاهُ لما استشارَ أحداً أبداً . وقُرِىءَ بتشديدِ الشِّينِ للمبالغةِ من رشُد كعلاّم أو من رشَد كعبّاد لا من أرشد كجبار من أجبر لأنه مقصورٌ على السماع أو للنسبة إلى الرُّشْد كعوّاج وبتَّات غيرَ منظور فيه إلى فَعْل .
{ وَقَالَ الذى ءامَنَ } مخاطباً لقومِه : { ياقوم إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ } في تكذيبِه والتعرضِ بالسوءِ { مّثْلَ يَوْمِ الأحزاب } مثلَ أيامِ الأممِ الماضيةِ يعني وقائِعَهُم ، وجمعُ الأحزابِ مع التفسيرِ أغنى عَن جمعِ اليومِ { مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ } أيْ مثلَ جزاءِ ما كانوا عليهِ من الكفرِ وإيذاءِ الرُّسلِ . { والذين مِن بَعْدِهِمْ } كقومِ لوطٍ { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ } فَلا يُعاقبُهم بغيرِ ذنبٍ ولا يُخلّي الظالَم منُهم بغيرِ انتقامِ وهُو أبلغُ من قولِه تعالى : { وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ } لما أنَّ المنفيّ فيهِ إرادةُ ظلمٍ مَا فينتِفي الظلمُ بطريقِ الأولويةِ { وياقوم إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد } خوَّفهم بالعذابِ الأُخروي بعدَ تخويفِهم بالعذابِ الدنيويِّ ويومُ التنادِ يومُ القيامةِ لأنَّه يُنادِي فيهِ بعضُهم للاستغاثةِ أو يتصايحونَ بالويلِ والثبورِ أو يتنادَى أصحابُ الجنةِ وأصحابُ النارِ حسبَما حُكِيَ في سورةِ الأعرافِ . وقُرِىءَ بتشديدِ الدَّالِ وهُو أنْ ينِدَّ بعضُهم من بعضٍ كقولِه تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ } وعنِ الضحَّاكِ إذا سمعُوا زفيرَ النارِ ندُّوا هَرَباً فلا يأتونَ قُطراً من الأقطارِ إلاَّ وجدُوا ملائكةً صفوفاً فبينَا هُم يموجُ بعضهم في بعضِ إذْ سمعُوا مُنادياً أقِبلوا إلى الحسابِ { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } بدلٌ من يومَ التنادِ أي منصرفينَ عن الموقفِ إلى النارِ أو فارينَ منها حسبَما نُقلَ آنِفاً { مَا لَكُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ } يعصمُكم من عذابِه . والجملةُ حالٌ أُخْرَى من ضميرِ تُولُّون . { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } يهديِه إلى طريقِ النجاةِ .(6/34)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
{ وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ } هو يوسفُ بنُ يعقوبَ عليهما السَّلامُ على أنَّ فرعونَهُ فرعونُ موسى أو على نسبةِ أحوالِ الآباءِ إلى الأولادِ ، وقيلَ سِبْطُه يوسفُ بنُ إبراهيمَ بنِ يوسفَ الصدِّيقِ . { مِن قَبْلُ } من قبلِ موُسى { بالبينات } بالمعجزاتِ الواضحةِ { فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكّ مّمَّا جَاءكُمْ بِهِ } من الدينِ { حتى إِذَا هَلَكَ } بالموتِ { قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً } ضمَّاً إلى تكذيبِ رسالتِه تكذيبَ رسالةِ مَنْ بعدَهُ أو جزماً بأنْ لا يُبعثَ بعدَهُ رسولٌ معَ الشكِّ في رسالتِه . وقُرِىءَ ألنْ يبعثَ الله على أنَّ بعضَهُم يقررُ بعضاً بنفي البعثِ { كذلك } أي مثل ذلكَ الإضلالِ الفظيعِ { يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } في عصيانِه { مُّرْتَابٌ } في دينِه شاكٌّ فيما تشهدُ به البيناتُ لغلبةِ الوهمِ والانهماكِ في التقليدِ .
{ الذين يجادلون فِى ءايات الله } بدلٌ من الموصولِ الأولِ أو بيانٌ له أو صفةٌ باعتبارٍ معناهُ كأنَّه قيلَ كلُّ مسرفٍ مرتابٍ أو المسرفينَ المرتابينَ { بِغَيْرِ سلطان } متعلقٌ بيجادلونَ أي بغيرِ حُجَّةٍ صالحةٍ للتمسكِ بها في الجُملةِ { ءاتاهم } صفةُ سلطانِ { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله وَعِندَ الذين ءامَنُواْ } فيه ضربٌ من التعجبِ والاستعظامِ وفي كبُر ضميرٌ يعودُ إلى مَنْ وتذكيرُه باعتبارِ اللفظِ وقيلَ إلى الجدالِ المستفادِ من يُجادلونَ { كذلك } أي مثل ذلكَ الطبعِ الفظيعِ { يَطْبَعُ الله على كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ } فيصدرُ عنه أمثالُ ما ذُكَر من الإسرافِ والارتيابِ والمجادلةِ بالباطلِ . وقُرِىءَ بتنوينِ قلبِ ، ووصفُه بالتكبرِ والتجبرِ لأنَّه منبعُهما { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياهامان ابن لِى صَرْحاً } أي بناءً مكشُوفاً عالياً من صرُحَ الشيءُ إذَا ظهرَ { لَّعَلّى أَبْلُغُ الأسباب } أي الطرقَ { أسباب السموات } بيانٌ لها وفي إبهامِها ثمَّ إيضاحِها تفخيمٌ لشأنِها وتشويقٌ للسامعِ إلى معرفتِها { فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى } بالنصبِ على جوابِ الترجِّي . وقُرِىءَ بالرفعِ عطفاً على أبلغُ ، ولعلَّه أرادَ أنْ يبنيَ له رَصَداً في موضعٍ عالٍ ليرصُدَ منْهُ أحوالَ الكواكبِ التي هي أسبابٌ سماويةٌ تدلُّ على الحوادثِ الأرضيةِ فيرى هَلْ فيها ما يدلُّ على إرسالِ الله تعالَى إيَّاهُ أو أنْ يَرَى فسادَ قولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بأنَّ إخبارَهُ من إلِه السماءِ يتوقفُ على اطِّلاعِه عليهِ ووصولِه إليهِ وذلكَ لا يتأتَّى إلا بالصُّعودِ إلى السماءِ وهُو ممَّا لا يقْوَى عليهِ الإنسانُ وما ذاكَ إلا لجهلِه بالله سبحانَهُ وكيفيِة استنبائِه { وَإِنّى لاَظُنُّهُ كاذبا } فيَما يدعيهِ من الرسالةِ { وكذلك } أيْ ومثلَ ذلكَ التزيينِ البليغِ المُفْرطِ { زُيّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوء عَمَلِهِ } فانهمكَ فيهِ انهماكاً لا يرْعَوِي عنه بحال { وَصُدَّ عَنِ السبيل } أي الرشادِ . والفاعلُ في الحقيقةِ هُو الله تعالَى ، ويؤيدُه قراءةُ زَيَّنَ بالفتحِ وبالتوسطِ الشيطانُ . وقُرِىءُ وصَدَّ على أنَّ فرعونَ صدَّ الناسَ عنِ الهُدى بأمثالِ هذهِ التمويهاتِ والشبهاتِ . ويُؤيدُه قولُه تعالى : { وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِى تَبَابٍ } أي خسَارٍ وهلاكِ أو على أنَّه من صَدَّ صُدوداً أي أعرضَ . وقُرِىءَ بكسرِ الصَّادِ على نقلِ حركةِ الدَّالِ إليهِ . وقُرِىءَ وصَدٌّ على أنَّه عطفٌ على سوءُ عملِه وقُرِىءَ وصَدُّوا أيْ هُو وقومُهُ .(6/35)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
{ وَقَالَ الذى ءامَنَ } أي مؤمنُ آلِ فرعونَ ، وقيلَ مُوسَى عليهِ السَّلامُ . { ءامَنَ ياقوم اتبعون } فيما دَللْتكُم عليهِ { أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد } أيْ سبيلاً يصلُ سالكُه إلى المقصودِ وفيه تعريضٌ بأنَّ ما يسلُكُه فرعونُ وقومُه سبيلُ الغيِّ والضلالِ . { ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا متاع } أي تمتعٌ يسيرٌ لسرعةِ زوالِها أجملَ لَهمُ أولاً ثمَّ فسرَ فافتتحَ بذمِّ الدُّنيا وتصغيرِ شأنِها لأنَّ الإخلادَ إليها رأسُ كلِّ شرَ ومنه تتشعبُ فنونُ ما يُؤدِّي إلى سخطِ الله تعالَى ثمَّ ثنَّى بتعظيمِ الآخرةِ فقالَ : { وَإِنَّ الأخرة هِىَ دَارُ القرار } لخلودِها ودوامِ ما فيها . { مِنْ عَمَلٍ } في الدُّنيا { سَيّئَةً فَلاَ يجزى } في الآخرةِ { إِلاَّ مِثْلَهَا } عدلاً من الله سبحانَهُ وفيه دليلٌ على أنَّ الجناياتِ تُغْرمُ بأمثالِها { وَمَنْ عَمِلَ صالحا مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ } الذينَ عملِوا ذلَك { يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } أيْ بغيرِ تقديرٍ وموازنةٍ بالعملِ بَلْ أضعافاً مُضاعفةً فضلاً من الله عزَّ وجلَّ ورحمةً . وجعلُ العملِ عمدةً والإيمانِ حالاً للإيذانِ بأنَّه لا عبرةَ بالعملِ بدونِه ، وأنَّ ثوابَهُ أَعْلَى منْ ذلك { وياقوم مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وَتَدْعُونَنِى إِلَى النار } كررَ نداءَهم إيقاظاً لهم عن سنة الغفلة واعتناء بالمنادى له ومبالغة في توبيخهم على ما يقابلون به نصحَهُ . ومدارُ التعجبِ الذي يلوحُ به الاستفهامُ دعوتُهم إيَّاهُ إلى النارِ ودعوته إياهم إلى النجاة كأنه قبل : أخبروني كيف هذه الحال أدعوكم إلى الخير وتدعونني إلى الشرِّ وقد جعلَه بعضُهم من قبيلِ ما لي أراكَ حزيناً أي ما لكَ تكونُ حزيناً . وقولُه تعالَى : { تَدْعُونَنِى لاَكْفُرَ بالله } بدلٌ أو بيانٌ فيه تعليلٌ والدعاءُ كالهدايةِ في التعديةِ بإلى واللامِ { وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ } بشركتِه له تعالى في المعبوديةِ وقيل بربوبيتِه { عِلْمٍ } والمرادُ نفيُ المعلومِ والإشعارُ بأنَّ الألوهيةَ لا بُدَّ لها من بُرهانٍ موجبٍ للعلمِ بَها . { وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى العزيز الغفار } الجامعِ لجميعِ صفاتِ الألوهيةِ من كمالِ القُدرةِ والغَلبةِ وما يتوقفُ عليهِ من العلمِ والإرادةِ والتمكنِ من المجازاةِ والقدرةِ على التعذيبِ والغفرانِ .(6/36)
لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
{ لاَ جَرَمَ } لا ردَّ لما دعَوهُ إليهِ وجرمَ فعلٌ ماضٍ بمعَنْى حَقَّ وفاعلُه قولُه تعالى : { إِنَّ مَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِى الدنيا وَلاَ فِى الأخرة } أيْ حق ووجب عدم دعوة آلهتهم إلى عبادتها أصلاً أو عدم دعوة مستجابة أو عدم استجابةِ دعوةٍ لهَا وقيلَ جرمَ بمعنى كسبَ وفاعلُه مستكنٌّ فيهِ أي كسبَ ذلكَ الدعاءُ إليهِ بطلانَ دعوتِه بمعنى ما حصلَ من ذلكَ إلا ظهورُ بطلانِ دعوتِه وقيل : جرمَ فعلٌ من الجَرْمِ وهو القطعُ كما أن بُدّاً من لا بد فُعْلٌ من التبديد أي التفريق والمعنى لا قطع لبطلان ألوهية الأصنام أي لا ينقطع في وقت ما فينقلب حقاً ويؤيده قولهم لا جُرْم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء وفُعْلٌ وفَعَلٌ أخوان كرُشْد ورَشَد { وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى الله } أي بالموتِ عطفٌ على أنَّ ما تدعونِني داخلٌ في حُكمِه وكذا قولُه تعالى : { وَأَنَّ المسرفين } أي في الضلالِ والطغيانِ كالإشراكِ وسفكِ الدِّماءِ { هُمْ أصحاب النار } أي مُلازمُوهَا { فَسَتَذْكُرُونَ } وقُرىءَ فَستدكَّرُونَ أي فسيذكِّرُ بعضُكم بعضاً عند معاينةِ العذابِ { مَا أَقُولُ لَكُمْ } من النضائحِ { وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى الله } قالَه لما أنَّهم كانُوا توعَّدُوه { إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد } فيحرُسُ مَنْ يلوذُ به من المكارِه { فَوقَاهُ الله سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ } شدائدَ مكرِهم وما همّوا به من إلحاقِ أنواعِ العذابِ بمن خالفَهم قيلَ نَجا معَ مُوسى عليهِ السَّلامُ { وَحَاقَ بِئَالِ فِرْعَوْنَ } أي بفرعونَ وقومِه ، وعدمُ التصريحِ بهِ للاستغناءِ بذكرِهم عنْ ذكرِه ضرورةَ أنَّه أولى منُهم بذلكَ وقيل : بطَلَبةِ المؤمنِ منْ قومِه لما أنَّه فرَّ إلى جبلٍ فاتبعَهُ طائفةٌ ليأخذُوه فوجدُوه يُصلِّي والوحوسُ صفوفٌ حولَهُ فرجعُوا رُعْباً فقتلَهُم { سُوء العذاب } الغرقُ والقتلُ والنَّارُ .
{ النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } جملةٌ مستأنفةٌ مَسْوقةٌ لبيانِ كيفيةِ سوءِ العذابِ ، أو النَّارُ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ ، كأنَّ قَائِلاً قالَ ما سوءُ العذابِ فقيلَ هُو النَّارُ ويُعرضونَ استئنافٌ للبيانِ ، أو بدلٌ من سوءِ العذابِ ويُعرضون حالٌ منَها أو من الآلِ ولا يشترطُ في الحَيْقِ أنْ يكونَ الحائقُ ذلكَ السوءَ بعينِه حَتَّى يردَ أنَّ آلَ فرعونَ لم يهمُّوا بتعذيبِه بالنَّارِ ليكونَ ابتلاؤهم بها من قبيلِ رجوعِ ما هَمُّوا بهِ عليهم بلْ يكِفي في ذلكَ أنْ يكونَ مما يطلقُ عليهِ اسمُ السوءِ . وقُرِئتْ منصوبةً على الاختصاصِ أو بإضمار فعلٍ يفسرُه يُعرَضونَ مثلُ يُصْلَون فإنَّ عرضَهُم على النَّارِ بإحراقِهم بها من قولِهم عُرضَ الأُسَارى على السيفِ إذا قُتِلُوا بهِ وذلكَ لأرواحِهم كما رَوَىَ ابنُ مسعودٍ رضَي الله عنْهُ أنَّ أرواحَهُم في أجوافٍ طيرٍ سُودٍ تُعرضُ على النَّارِ بُكرةً وعشياً إلى يومِ القيامةِ ، وذكرُ الوقتينِ إمَّا للتخصيصِ وإمَّا فيما بينهُمَا فالله تعالَى أعلمُ بحالِهم وإمَّا للتأبيدِ هذا ما دامتِ الدُّنيا .
{ وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة } يقالُ للملائكةِ { أَدْخِلُواْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب } أي عذابَ جهنَم فإنَّه أشدُّ ممَّا كانُوا فيه ، أو أشدّ عذابِ جهنَم ، فإنَّ عذابَها ألوانٌ بعضُها أشدُّ من بعضٍ . وقُرىءَ ادخُلُوا من الدخولِ أي يُقالُ لهم ادخُلُوا يا آلَ فرعونَ أشدَّ العذابِ .(6/37)
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)
{ وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِى النار } أي واذكُر لقومِكَ وقتَ تخاصُمِهم فيَها { فَيَقُولُ الضعفاء } منهم { لِلَّذِينَ استكبروا } وهُم رؤساؤُهم { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا } أتباعاً كخَدَمٍ في جمعِ خَادِمٍ ، أو ذَوِي تبعٍ أي أتْباعٍ على إضمار المضافِ أو تَبَعاً على الوصفِ بالمصدرِ مبالغةً { فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مّنَ النار } بالدفعِ أو بالحملِ ، ونصيباً منصوبٌ بمضمرٍ يدلُّ عليه مغنونَ أي دافعونَ عنَّا نصيباً الخ . أو بمغنونَ على تضمينِه مَعْنى الحملِ أي مغنونَ عنَّا حاملينَ نصيباً الخ أو نُصبَ على المصدريةِ كشيئاً في قوله تعالى : { لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله شَيْئًا } فإنَّه في موقعِ غَناءٍ فكذلكَ نصيباً { قَالَ الذين استكبروا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا } أي نحنُ وأنتُم فكيفَ تُغنِي عنكُم ولو قَدرنا لأغنيَنا عن أنفسِنا . وقُرِىءَ كُلاًّ على التأكيدِ لاسمِ إنَّ بمَعنى كُلَّنا وتنوينُه عوضٌ عن المضافِ إليهِ ولا مساغَ لجعلِه حالاً من المستكنِّ في الظرفِ فإنَّه لا يعملُ في الحالِ المتقدمةِ كما يعملُ في الظرفِ المتقدمِ فإنَّك تقولُ كلَّ يومٍ لكَ ثوبٌ ولاَ تقولُ جديداً لك ثوبٌ { إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العباد } وقضَى قضاءً متقناً لا مردَّ لهُ ولا معقّبَ لحُكمهِ .
{ وَقَالَ الذين فِى النار } من الضعفاءِ والمستكبرينَ جميعاً لمَّا ضاقتْ حيلُهم وعيّتُ بهم عِللُهم { لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ } أي للقُوَّامِ بتعذيبِ أهلِ النَّارِ ، ووضعُ جهنمَ موضعَ الضميرِ للتهويلِ والتفظيعِ أو لبيانِ محلِّهم فيَها بأنْ تكونَ جهنمُ أبعدَ دركاتِ النَّارِ وفيها أَعْتَى الكفرةِ وأطغاهُم أو لكونِ الملائكةِ الموكلينَ بعذابِ أهلِها أقدرَ على الشفاعةِ لمزيدِ قُربهم منَ الله تعالى : { ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفّفْ عَنَّا يَوْماً } أي مقدارَ يومٍ أو في يومٍ ما منَ الأيامِ على أنه ظرفٌ لا معيارُ شيئاً { مّنَ العذاب } واقتصارهُم في الاستدعاءِ على ما ذُكرَ من تخفيفِ قدرٍ يسيرٍ من العذابِ في مقدارِ قصيرٍ من الزمانِ دونَ رفعِه رأساً أو تخفيفِ قدرٍ كثيرٍ منْهُ في زمانٍ مديدٍ لأنَّ ذلكَ عندهُم مما ليسَ في حيزِ الإمكانِ ولا يكادُ يدخلُ تحتَ أَمانيِّهم { قَالُواْ } أي الخزنةُ { أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بالبينات } أيْ ألم تُنبهوا على هَذا ولم تكُ تأتيكُم رسلُكم في الدُّنيا على الاستمرارِ بالحججِ الواضحةِ الدالةِ على سُوءِ مغبةٍ ما كنتُم عليهِ من الكُفرِ والمَعَاصِي ، كَما في قولِه تعالى : { أَلَمْ يأْتِكُم رُسل مِنْكُم يَتْلونَ عَلَيْكُم ءايات رَبِكُم وَيُنْذِرُونَكُم لِقَاء يَومِكُم هذا } أرادُوا بذلكَ إلزامَهُم وتوبيخَهُم على إضاعةِ أوقاتِ الدُّعاءِ وتعطيلِ أسبابِ الإجابةِ { قَالُواْ بلى } أي أتَونا بها فكذَّبناهُم كما نطقَ به قولُه تعالَى : { بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَىْء إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال كَبِيرٍ } والفاءُ في قولِه تعالَى : { قَالُواْ فادعوا } فصحيةٌ كما في قولِ مَنْ قالَ
فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانا ... أيْ إذَا كانَ الأمرُ كذلكَ فادعُوا أنتُم فإنَّ الدعاءَ لمن يفعلُ ذلكَ مما يستحيلُ صدورُه عنَّا وتعليلُ امتناعِهم عنِ الدعاءِ بعدمِ الإذنِ فيه معَ عرائِه عن بيانِ أنَّ سبَبهُ من قبلِهم كَما تُفصحُ عنه الفاءُ رُبَّما يُوهُم أنَّ الإذنَ في حيزِ الإمكانِ وأنَّهم لو أُذنَ لهم فيهِ لفعلُوا ولم يريدُوا بأمرِهم بالدعاءِ إطماعَهُم في الإجابةِ بل إقناطَهم منَها وإظهارَ خيبتهم حسبما صرَّحُوا بهِ في قولِهم : { وَمَا دُعَاء الكافرين إِلاَّ فِى ضلال } أي ضياعٍ وبُطلانٍ .(6/38)
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)
وقولُه تعالَى :
{ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين ءامَنُواْ } كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ من جهتِه تعالَى لبيانِ أنَّ ما أصابَ الكفرةَ من العذابِ المحِكيِّ من فروعِ حكمٍ كليَ تقتضيِه الحكمةُ وهو أنَّ شأنَنا المستمرَّ أنَّا ننصرُ رسلنَا وأتباعَهُم { فِى الحياة الدنيا } بالحجَّةِ والظفرِ والانتقامِ لهم من الكفرةِ بالاستئصالِ والقتلِ والسَّبي وغيرِ ذلكَ من العقوباتِ ولا يقدحُ في ذلكَ ما قدْ يتفقُ لهم من صورةِ الغلبةِ امتحاناً إذِ العبرةُ إنَّما هيَ بالعواقبِ وغالبِ الأمر .
{ وَيَوْمَ يَقُومُ الاشهاد } أي يومَ القيامةِ عبرَ عنْهُ بذلكَ للإشعارِ بكيفيةِ النُصرةِ وأنَّها تكونُ عندَ جميعِ الأولينَ والآخِرينَ بشهادةِ الأشهادِ للرسلِ بالتبليغِ وعلى الكفرةِ بالتكذيبِ { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ } بدلٌ من الأولِ وعدمُ نفعِ المعذرةِ لأنَّها باطلةٌ . وقُرِىءَ لا تنفعُ بالتاءِ { وَلَهُمُ اللعنة } أيْ البُعدُ عن الرحمةِ { وَلَهُمْ سُوء الدار } أي جهنُم { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الهدى } ما يُهتدَى بهِ من المعجزاتِ والصحفِ والشرائعِ { وَأَوْرَثْنَا بَنِى إسراءيل الكتاب } وتركنَا عليهم من بعدِه التوراةَ { هُدًى وذكرى } هدايةً وتذكرةً أو هادياً ومذكراً { لأُوْلِى الألباب } لذوِي العقولِ السليمةِ العاملينَ بما في تضاعيفِه { فاصبر } على ما نالكَ من أذيةِ المشركينَ { إِنَّ وَعْدَ الله } أيْ وعدَه الذي ينطقُ بهِ قولُه تعالَى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } أو وعدَهُ الخاصَّ بكَ أو جميعَ مواعيدِه التي من جُمْلتها ذلكَ { حَقّ } لا يحتملُ الإخلافَ أصلاً واستشهدْ بحالِ مُوسى وفرعونَ { واستغفر لِذَنبِكَ } تداركاً لما فرَطَ منكَ من تركِ الأَوْلى في بعضِ الأحايينِ فإنَّه تعالَى كافيكَ في نُصرةِ دينكَ وإظهارِه على الدِّينِ كُلِّه { وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ بالعشى والإبكار } أيْ ودُمْ على التسبيحِ ملتبساً بحمدِه تعالَى ، وقيلَ صَلِّ لهذينِ الوقتينِ إذْ كانَ الواجبُ بمكةَ ركعتينِ بُكرةً وركعتينِ عشياً ، وقيلَ صلِّ شُكراً لرِّبكَ بالعشيِّ والإبكارَ ، وقيلَ هُمَا صلاةُ العصرِ وصلاةُ الفجرِ .(6/39)
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58)
{ إِنَّ الذين يجادلون فِى ءايات الله } ويجحدونَ بها { بِغَيْرِ سلطان أتاهم } في ذلكَ من جهتِه تعالَى ، وتقييدُ المجادلةِ بذلكَ مع استحالةِ إتيانِه للإيذانِ بأنَّ التكلَم في أمِر الدِّينِ لا بُدِّ من استنادِه إلى سطانٍ مبينٍ البتةَ وهذا عامٌ لكلِّ مجادلٍ مُبطلٍ وإنْ نزلَ في مُشركِي مكَة . وقولُه تعالَى : { إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ } خبرٌ لإنَّ ، أيْ ما فِي قلوبِهم إلا تكبرٌ عن الحقِّ وتعظّمٌ عن التفكرِ والتعلمِ ، أو إلاَّ إرادةُ الرياسةِ والتقدمِ على الإطلاقِ أو إلا إرادةُ أنْ تكونَ النبوةُ لهم دونَك حسداً وبغياً حسبَما قالُوا : { لوَلا نُزِّلَ هذا القرآنُ على رجلٍ من القريتينِ عظيمٍ } وقالُوا : { لو كانَ خيراً ما سبقونَا إليهِ } ولذلكَ يُجادلون فيها لا أنَّ فيها موقعَ جدالٍ ما أو أنَّ لهمُ شيئاً يتوهم أنْ يَصلُحَ مداراً لمُجادلتِهم في الجُملةِ . وقولُه تعالى : { مَّا هُم ببالغيه } صفةٌ لكِبرٌ . قال مجاهدٌ ما هُم ببالغي مقتضَى ذلكَ الكِبرِ وهُو ما أرادُوه من الرياسةِ أو النبوةِ ، وقيلَ المجادلونَ هم اليهودُ وكانُوا يقولونَ لستَ صاحبنَا المذكورَ في التوراةِ بلْ هُو المسيحُ بنُ داودَ يريدونَ الدجَّالَ يخرجُ في آخرِ الزمانِ ويبلغُ سلطانُه البَرَّ والبحرَ وتسيرُ معه الأنهارُ وهُو آيةٌ من آياتِ الله تعالى فيرجعُ إلينا المُلكُ فسمَّى الله تعالَى تمنَّيَهم ذلكَ كبْراً ونَفَى أنْ يبلُغوا مُتمنَّاهُم { فاستعذ بالله } أي فالتجىءْ إليهِ من كيدِ مَنْ يحسدُكَ ويبغِي عليكَ وفيهِ رمزٌ إلى أنَّه من هَمَزاتِ الشياطينِ { إِنَّهُ هُوَ السميع البصير } لأقوالِكم وأفعالِكم . وقولُه تعالَى :
{ لَخَلْقُ السموات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } تحقيقٌ للحقِّ وتبيينٌ لأشهرِ ما يُجادلونَ فيهِ من أمرِ البعثِ على منهاجِ قولِه تعالى : { أَوَلَيْسَ الذى خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } لقصُورِهم في النظرِ والتأملِ لفرطِ غفلتِهم واتباعِهم لأهوائِهم . { وَمَا يَسْتَوِى الأعمى والبصير } أي الغافلُ والمستبصرُ { والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَلاَ المسىء } أي والمحسنُ والمسيءُ فلا بُدَّ أنْ تكونَ لهم حالٌ أُخرى يظهرُ فيها ما بينَ الفريقينِ من التفاوتِ وهيَ فيما بعدَ البعثِ وزيادةُ لا في المسيءِ لتأكيدِ النفي لطولِ الكلامِ بالصلةِ ولأنَّ المقصودَ نفي مساواتِه للمحسنِ فيَما له من الفضلِ والكرامةِ والعاطفُ الثاني عطفُ الموصولِ بما عُطفَ عليهِ على الأعمى والبصيرُ لتغايرِ الوصفينِ في المقصودِ أو الدلالةِ بالصراحةِ والتمثيلِ { قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ } على الخطابِ بطريقِ الالتفاتِ أي تذكراً قليلاً تتذكرون ، وقُرِىءَ على الغَيبةِ . والضميرُ للناسِ أو الكفَّارِ .(6/40)
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)
{ إِنَّ الساعة لاَتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا } أي في مجيئِها لوضوحِ شواهدِها وإجماعِ الرسلِ على الوعدِ بوقوعِها . { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ } لا يُصدقونَ بها لقصورِ أنظارِهم على ظواهرِ ما يُحسُّون به .
{ وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى } أي اعبدونِي { أَسْتَجِبْ لَكُمْ } أي أُثِبْكُم لقولِه تعالى : { إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين } أيْ صاغرينَ أذلاّء وإنْ فُسِّرِ الدعاءُ بالسؤالِ كانَ الأمرُ الصارفُ عنه منزّلاً منزلةَ الاستكبارِ عن العبادةِ للمبالغةِ أو المرادُ بالعبادةِ الدعاءُ فإنَّه من أفضلِ أبوابِها . وقُرِىءَ سيُدخلُونَ على صيغةِ المبنيِّ للمفعولِ من الإدخالِ .
{ الله الذى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } بأنْ حلقَهُ بارداً مُظلماً ليُؤدِّيَ إلى ضعفِ المحركاتِ وهُدءِ الحواسِّ لتستريحُوا فيهِ . وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعولِ قد مرَّ سرُّه مراراً { والنهار مُبْصِراً } أي مُبصَراً فيهِ أو بهِ . { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ } عظيمٍ لا يُوازيِه ولا يدانيِه فضلٌ . { عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } لجهلِهم بالمُنعمِ وإغفالِهم مواضعَ النعمِ ، وتكريرُ النَّاسِ لتخصيصِ الكفرانِ بهم .
{ ذلكم } المتفردُ بالأفعالِ المقتضيةِ للألوهيةِ والربوبيةِ { الله رَبُّكُمْ خالق كُلّ شَىْء لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } أخبارٌ مترادفةٌ تخصصُ اللاحقةُ منها السابقةَ وتُقررها . وقُرِىءَ خالقَ بالنصبِ على الاختصاصِ فيكونُ لاَ إلَه إلا هُو استئنافاً بما هُو كالنتيجة للأوصاف المذكورةِ { فأنى تُؤْفَكُونَ } فكيفَ ، ومن أيِّ وجهٍ تُصرفونَ عن عبادتِه خاصَّةً إلى عبادةِ غيرِه { كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بئايات الله يَجْحَدُونَ } أي مثلَ ذلكَ الإفكِ العجيبِ الذي لا وجَه لهُ ولا مصححَ أصلاً يؤفكُ كلُّ من جحدَ بآياتِه تعالَى أيَّ آية كانتْ لا إفكاً آخرَ له وجهٌ ومصحِّحٌ في الجملة { الله الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً والسماء بِنَاء } بيانٌ لفضلِه تعالى المتعلقِ بالمكانِ بعد بيانِ فضلِه المتعلقِ بالزمانِ . وقولُه تعالَى : { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } بيانٌ لفضلِه المتعلقِ بأنفسِهم ، والفاءُ في فأحسنَ تفسيريةٌ فإنَّ الإحسانَ عينُ التصويرِ أي صوَّركُم أحسنَ تصويرٍ حيثُ خلقكُم مُنتصِبي القامةِ باديَ البَشَرةِ متناسبَ الأعضاءِ والتخطيطاتِ متهيئاً لمزاولةِ الصنائعِ واكتسابِ الكمالاتِ . { وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات } أي اللذائذِ { ذلكم } الذي نُعتَ بما ذُكرَ من النعوتِ الجليلةِ { الله رَبُّكُمُ } خبرانِ لذلكُم { فَتَبَارَكَ الله } أي تعالَى بذاتِه { رَبّ العالمين } أي مالكُهم ومربيِهم والكلُّ تحتَ ملكوتِه مفتقرٌ إليه في ذاتِه ووجودِه وسائرِ أحوالِه جميعاً بحيثُ لو انقطعَ فيضُه عَنه آناً لانعدمَ بالكليةِ .(6/41)
هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
{ هُوَ الحى } المتفردُ بالحياةِ الذاتيةِ الحقيقةِ { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } إذْ لاَ موجودَ يدانيهِ في ذاتِه وصفاتِه وأفعالِه { فادعوه } فاعبدُوه خاصَّةً لاختصاصِ ما يُوجبه به تعالَى { مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } أي الطاعةَ من الشركِ الجليِّ والخفيِّ { الحمد للَّهِ رَبّ العالمين } أيْ قائلينَ ذلكَ ، عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنُهمَا : مَنْ قالَ لا إلهَ إلاَّ الله فليقُلْ علَى أثرِها الحُمد الله ربِّ العالمينَ .
{ قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَمَّا جَاءنِى البينات مِن رَّبّى } من الحججِ والآياتِ أو من الآياتِ لكونِها مؤيدةً لأدلةِ العقلِ منبهةً عليها فإنَّ الآياتِ التنزيليةَ مفسراتٌ للآياتِ التكوينيةِ الآفاقيةِ والأنفُسية . { وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبّ العالمين } أيْ بأنْ أنقادَ لهُ وأخلصَ له دِيني { هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ } أيْ في ضمنِ خلقِ آدمَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ منه حسبَما مرَّ تحقيقُه مراراً . { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } أي ثمَّ خلقكُم خلقاً تفصيلياً من نطفة أي منيَ . { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } أي أطفالاً . والإفراد لإرادة الجنسِ ، أو لإرادةِ كلِّ واحدٍ من أفرادِه . { ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ } علةٌ ليخرجَكم معطوفةً على علةٍ أُخرى له مناسبةٌ لها كأنَّه قيلَ ثم يُخرجَكُم طِفْلاً لتكبَروا شيئاً فشيئاً ثم لتبلُغوا كمالَكُم في القوةِ والعقلِ وكَذا الكلامُ في قولِه تعالى : { ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً } ويجوزُ عطفُه عَلى لتبلغُوا . وقُرِىءَ شيخاً كقولِه تعالَى طِفْلاً { وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ } أي من قبلِ الشيخوخةِ بعد بلوغِ الأشدِّ أو قبلَه أيضاً . { وَلِتَبْلُغُواْ } متعلقٌ بفعلٍ مقدرٍ بعدَهُ أي ولتبلغُوا { أَجَلاً مُّسَمًّى } هُو وقتُ الموتِ ، أو يومَ القيامةِ يفعلُ ذلكَ { وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ولكي تعقلُوا ما في ذلكَ من فنونِ الحِكَمِ والعِبر { هُوَ الذى يُحْىِ } الأمواتَ { وَيُمِيتُ } الأحياءَ أو الذي يفعلُ الإحياءَ والإماتةَ { فَإِذَا قضى أَمْراً } أي أرادَ أمراً من الأمورِ { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } من غيرِ توقفٍ على شيءٍ من الأشياءِ أصلاً وهذا تمثيلٌ لتأثيرِ قُدرتِه تعالى في المقدوراتِ عند تعلقِ إرادتِه بها وتصويرٌ لسرعةِ ترتبِ المكوناتِ على تكوينِه من غيرِ أنْ يكونَ هناكَ أمرٌ ومأمورٌ . والفاءُ الأُولَى للدِلالةِ على أنَّ ما بعدَها من نتائج ما قبلها من اختصاصِ الإحياءِ والإماتةِ به سبحانَه .(6/42)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يجادلون فِى ءايات الله أنى يُصْرَفُونَ } تعجيبٌ من أحوالِهم الشنيعةِ وآرائِهم الركيكةِ وتمهيدٌ لما يعقُبه من بيانِ تكذيبِهم بكلِّ القُرآنِ وبسائرِ الكتبِ والشرائعِ وترتيبُ الوعيدِ على ذلكَ كَما أنَّ ما سبقَ من قولِه تعالَى : { إِنَّ الذين يجادلون فِى ءايات الله } الخ بيانٌ لا بتناءِ جدالِهم على مَبْنى فاسدٍ لا يكادُ يدخلُ تحتَ الوجودِ هُو الأمنيَّةُ الفارغةُ فلا تكريَر فيهِ أي انظُرْ إلى هؤلاءِ المكابرينَ المُجادلينَ في آياتِه تعالَى الواضحةِ الموجبةِ للإيمانِ بها الزاجرةِ عن الجدالِ فيها كيفَ يُصرفونَ عنها معَ تعاضدِ الدَّواعِي إلى الإقبالِ عليها وانتفاءِ الصوارفِ عنها بالكُلِّيةِ . وقولُه تعالَى : { الذين كَذَّبُواْ بالكتاب } أيْ بكُلِّ القُرآنِ أو بجنسِ الكُتبِ السماويةِ فإنَّ تكذيبَهُ تكذيبٌ لهَا في محلِّ الجرِّ على أنَّه بدلٌ من الموصولِ الأولِ أو في حيزِ النصبِ أو الرفعِ على الذمِّ ، وإنما وُصلَ الموصولُ الثَّانِي بالتكذيبِ دُونَ المُجادلةِ لأنَّ المعتادَ وقوعَ المُجادلةِ في بعض الموادِ لا في الكُلِّ . وصيغةُ الماضِي للدِلالة على التحقق كما أنَّ صيغةَ المضارعِ في الصلةِ الأُولى للدلالةِ على تجددِ المجادلةِ وتكررِها { وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا } من سائرِ الكتبِ أو مطلقِ الوَحي والشرائعِ { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } كُنْهَ ما فعلُوا من الجدالِ والتكذيبِ عند مشاهدتِهم لعقوباتِه { إِذِ الأغلال فِى أعناقهم } ظرفٌ ليعلمونَ إِذ المَعْنى على الاستقبالِ . ولفظُ الماضِي لتيقنِه { والسلاسل } عطفٌ على الأغلالِ . والجارُّ في نيةِ التأخيرِ وقيل : مبتدأ حذف خبره لدلالة خبر الأول عليه ، وقيل : قوله تعالى : { يُسْحَبُونَ } بحذفِ العائدِ أي يُسحبونَ بَها وهُو على الأولَينِ حالٌ من المُستكنِّ في الظرفِ وقيل : استئنافٌ وقعَ جواباً عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ حالِهم كأنَّه قيلَ فماذَا يكونُ حالُهم بعدَ ذلكَ فقيلَ يُسحبونَ { فِى الحميم } وقُرِىءَ والسلاسلَ يَسحبون بالنَّصبِ وَفتحِ الياءِ عَلَى تقديمِ المفعولِ وعطفِ الفعليةِ على الاسميةِ ، والسَّلاسلِ بالجرِّ حملاً على المَعْنى لأنَّ قولَه تعالى : { الأغلال فِى أعناقهم } في مَعْنى أعناقُهم في الأغلالِ أو إضماراً للباءِ ويدلُّ عليه القراءةُ بهِ { ثُمَّ فِى النار يُسْجَرُونَ } أي يُحرقونَ مِنْ سجرَ التنورَ إذا ملأَهُ بالوقودِ ومنُه السَّجيرُ للصديقِ كأنَّه سُجِّر بالحبِّ أي مُلىءَ والمرادُ بيانُ أنَّهم يُعذبونَ بأنواعِ العذابِ ويُنقلونَ من بابِ إلى بابٍ { ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا } أي يقالُ لَهمُ ويقولونَ . وصيغةُ المَاضِي للدلالةِ على التحقيقِ ومَعْنى ضلُّوا عنَّا غابُوا عنَّا وذلكَ قبلَ أنْ يُقرنَ بهم آلهتُهم أو ضاعُوا عنَّا فلم نجدْ ما كُنَّا نتوقعُ منُهم . { بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً } أي بَلْ تبينَ لنَا أنَّا لم نكُنْ نعبدُ شيئاً بعبادتِهم لما ظهرَ لنا اليومَ أنَّهم لم يكونُوا شيئاً يعتدُّ بهِ كقولِك حسبتُه فلم يكُنْ .
{ كذلك } أي مثلَ ذلكَ الضلالِ الفظيعِ { يُضِلُّ الله الكافرين } حيثُ لا يهتدونَ إلى شيءٍ ينفُعهم في الآخرةِ أو كما ضلَّ عنُهم آلهتُهم يُضلّهم عن آلهتِهم حتَّى لو تطالبُوا لم يتصادفُوا .(6/43)
ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
{ ذلكم } الإضلالُ { بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الأرض } أي تبطَرون وتتكبرون { بِغَيْرِ الحق } وهُو الشركُ والطغيانُ { وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ } تتوسعونَ في البطر والأشَر . والالتفاتُ للمبالغة في التوبيخِ .
{ ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ } أي أبوابَها السبعةَ المقسومةَ لكُم { خالدين فِيهَا } مقدراً خلودُكم فيها { فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين } أي عن الحقِّ جهنمُ والتعبيرُ عن مدخلِهم بالمَثْوى لكونِ دخولِهم بطريقِ الخلودِ { فاصبر } إلى أنْ يُلاقُوا ما أُعدَّ لهمُ من العذابِ { إِنَّ وَعْدَ الله } بتعذيبِهم { حَقّ } كائنٌ لا محالَة { فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ } أي فإنْ نُرِكَ ومَا مزيدةٌ لتأكيدِ الشرطيةِ ولذلكَ لحقتِ النونُ الفعلَ ولا تلحقُه مع إنْ وحدَها { بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ } وهو القتلُ والأسرُ { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } قبلَ ذلكَ { فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } يومَ القيامةِ فنجازِيهم بأعمالِهم وهُو جوابُ نتوفينكَ وجوابُ نرينك محذوفٌ مثلُ فذاكَ ويجوزُ أن يكونَ جواباً لهما بَمعْنى إنْ نُعذبهم في حياتِك أو لم نُعذبْهم فإنَّا نعذبهم في الآخرةِ أشدَّ العذابِ وأفظَعه كما ينبىءُ عنْهُ الاقتصارُ على ذكِر الرجوعِ في هذا المعرضِ .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } إذْ قيلَ عددُ الأنبياءِ عليهم السلام مائةٌ وأربعةٌ وعشرونَ ألفاً ، والمذكورُ قصصُهم أفرادٌ معدودةٌ وقيلَ أربعةُ آلافً من بني إسرائيلَ وأربعةُ آلافٍ من سائرٍ النَّاسِ . { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ } أي وما صحَّ وما استقامَ لرسولٍ منُهم { أَن يَأْتِىَ بِئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } فإنَّ المعجزاتِ على تشعب فنونِها عطايَا من الله تعالَى قسمها بينُهم حسبَما اقتضتْهُ مشيئتُه المبنيةُ على الحكمِ البالغةِ كسائرِ القَسْمِ ليسَ لهم اختيارٌ في إيثارِ بعضِها والاستبدادِ بإتيانِ المقترحِ منَها { فَإِذَا جَاء أَمْرُ الله } بالعذابِ في الدُّنيا والآخرةِ { قُضِىَ بالحق } بإنجاءِ المُحقِّ وإثابتِه وإهلاكِ المُبطلِ وتعذيبِه { وَخَسِرَ هُنَالِكَ } أي وقتَ مجيءِ أمرِ الله ، اسمُ مكانٍ استعيرَ للزمانِ { المبطلون } أي المتمسكونَ بالباطلِ على الإطلاقِ فيدخلُ فيهم المعاندونَ المقترحونَ دخولاً أولياً .(6/44)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
{ الله الذى جَعَلَ لَكُمُ الأنعام } قيلَ هيَ الإبلُ خَاصَّةً ، أي خلقَها لأجلِكُم ومصلحتِكم . وقولُه تعالى : { لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } تفصيلٌ لما دلَّ عليهِ اللامُ إجمالاً ، ومِنْ لابتداءِ الغايةِ ومعناهَا ابتداءٌ الركوبِ والأكلِ منَها أي تعلقهُما بَها ، وقيل : للتبعيضِ أي لتركبُوا بعضَها وتأكلُوا بعضَها لا على أَنَّ كلاَّ من الركوبِ والأكلِ مختصٌّ ببعضٍ معينٍ منها بحيثُ لا يجوزُ تعلقُه بما تعلقَ به الآخرُ بلْ على أنَّ كلَّ بعضٍ منَها صالحٌ لكلَ منهما ، وتغييرُ النظمِ الكريمِ في الجُملةِ الثانيةِ لمُراعاةِ الفواصلِ معَ الإشعارِ بأصالِة الركوبِ { وَلَكُمْ فيِهَا منافع } أُخرُ غيرُ الركوبِ والأكلِ كألبانِها وأوبارِها وجلودِها { وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ } بحملِ أثقالِكم من بلدٍ إلى بلدٍ { وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ } لعلَّ المرادَ به حملُ النساءِ والولدانِ عليها بالهودجِ ، وهو السرُّ في فصلِه عن الركوبِ . والجمعُ بينَها وبينَ الفلكِ في الحملِ لما بينَهمَا من المناسبةِ التامَّةِ حتى سُميتْ سفائنَ البرِّ وقيلَ : هي الأزواجُ الثمانيةُ فمعنى الركوبِ والأكلِ منها تعلقُهمَا بالكلِّ لكنْ لا على أنَّ كلاَّ منهُمَا تعلقُه بما تعلقَ به الآخرُ بل على أنَّ بعضَها يتعلقُ به كلاهُما كالإبلِ والبقرِ ، والمنافعُ تعمُّ الكلَّ ، وبلوغُ الحاجةِ عليها يعمُّ البقرَ { وَيُرِيكُمْ ءاياته } دلائلَه الدالةَ على كمالِ قُدرتِه ووفورِ رحمتِه { فَأَىَّ ءايات الله } أي فأيَّ آيةٍ من تلكَ الآياتِ الباهرةِ { تُنكِرُونَ } فإنَّ كلاً منها من الظهورِ بحيثُ لا يكادُ يجترىءُ على إنكارِها مَنْ له عقلٌ في الجملةِ وهو ناصبٌ لأيَّ ، وإضافةُ الآياتِ إلى الاسمِ الجليلِ لتربيةِ المهابةِ وتهويلِ إنكارِها وتذكير أيْ هُو الشائعُ المستفيضُ ، والتأنيثُ قليلٌ لأنَّ التفرقةَ بين المذكِر والمؤنثِ في الأسماءِ غيرُ الصفاتِ نحوُ حمارٌ وحمارةٌ غريبٌ وهيَ في أيَ أغربُ لإبهامِه .
{ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ } أي أقعدُوا فلم يسيُروا { فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ } من الأممِ المُهلكةِ . وقولُه تعالَى : { كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً } الخ استئنافٌ مسوقٌ لبيان مبادِي أحوالِهم وعواقِبها { وَءَاثَاراً فِى الأرض } باقيةً بعدَهُم من الأبنيةِ والقصورِ والمصانعِ ، وقيل هي آثارُ أقدامِهم في الأرضِ لعظمِ أجرامِهم { فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } مَا الأُولى نافيةٌ أو استفهاميةٌ منصوبةٌ بأَغْنَى ، والثانيةُ موصولةٌ أو مصدريةٌ مرفوعةٌ ، أيْ لَم يُغنِ عنهُم أو أيَّ شيءٍ أغنَى عنهُم مكسوبُهم أو كسبُهم .(6/45)
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
{ فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } بالمعجزاتِ أو بالآياتِ الواضحةِ { فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مّنَ العلم } أي أظهرُوا الفرحَ بذلكَ وهو ما لَهُم من العقائدِ الزائغةِ والشُّبهِ الداخصةِ . وتسميتُها علماً للتهكمِ بهم ، أو علُم الطبائعِ والتنجيمِ والصنائعِ ونحوِ ذلك ، أو هو علمُ الأنبياءِ الذي أظهرَهُ رسلُهم على أنَّ مَعْنى فرحِهم بهِ ضحِكُهم منْهُ واستهزاؤُهم بهِ ، ويؤيدُه قولُه تعالى : { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } وقيلَ الفرحَ أيضاً للرسلِ فإنَّهم لمَّا شاهدُوا تماديَ جهلِهم وسوءَ عاقبتِهم فِرحُوا بمَا أُوتوا منَ العلمِ المُؤدِّي إلى حُسنِ العاقبةِ وشكرُوا الله عليهِ وحاقَ بالكافرينَ جزاءُ جهلِهم واستهزائِهم { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } شدةَ عذابِنا ومنْهُ قولُه تعالى : { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } { قَالُواْ ءامَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ } يعنونَ الأصنامَ { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } أي عندَ رؤيةِ عذابِنا لامتناعِ قَبولِه حينئذٍ ولذلكَ قيلَ فلم يكُ يمعَنْى لَم يصحَّ ولم يستقمْ . والفاءُ الأُولى لبيانِ عاقبةِ كثرتِهم وشدةِ قوتِهم وما كانُوا يكسبونَ بذلكَ زعماً منهُم أنَّ ذلكَ يُغنِي عنُهم فلم يترتبْ عليهِ إلا عدمُ الإغناءِ فبهذا الاعتبارِ جرى مَجرى النتيجةِ وإنْ كانَ عكسَ الغرضِ ونقيضَ المطلوبِ كَما في قولِك وعظتُه فلم يتعظْ ، والثانيةُ تفسيرٌ وتفصيلٌ لما أُبهمَ وأُجملَ من عدمِ الإغناءِ وقد كثُر في الكلامِ مثلُ هذه الفاءِ ومبناهَا على أنَّ التفسيرَ بعدَ الإبهامِ والتفصيلَ بعد الإجمالِ ، والثالثةُ لمجردِ التعقيبِ وجعلِ ما بعدَها تابعاً لما قبلَها واقعاً عقيبه لأنَّ مضمونَ قولِه تعالَى : فلمَّا جاءتْهُم الخ هُو أنَّهم كفُروا فصارَ مجموعُ الكلامِ بمنزلةِ أنْ يقالَ فكفرُوا ثمَّ لما رَأَوا بأسَنا آمنُوا ، والرابعةُ للعطفِ على آمنُوا كأنَّه قيلَ فآمنُوا فلم ينفعْهُم لأنَّ النافعَ هُو الإيمانُ الاختياريُّ { سُنَّةَ الله التى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ } أي سَنَّ الله تعالَى ذلكَ سُنَّةً ماضيةً في العباد وهو من المصادر المؤكدةِ { وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون } أي وقتَ رؤيتِهم البأسَ على أنَّه اسمُ مكانٍ قد استُعيرَ للزمانِ كما سلفَ آنِفاً .
عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قرأَ سورةَ المؤمنِ لم يبقَ روحُ نبيَ ولا صدِّيقٍ ولا شهيدٍ ولا مؤمنٍ إلا صلَّى عليه واستغفرَ له » .(6/46)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6)
{ حم } إنْ جُعلَ إسماً للسورةِ فهو إما خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ وهو الأظهرُ لما مرَّ مِنْ سرِّه مِراراً أو مبتدأٌ خبرُهُ { تَنزِيلَ } وهو عَلى الأولِ خبرٌ بعدَ خبرٍ ، وخبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ إن جُعلَ مسروداً على نمطِ التعديدِ وقولُه تعالى : { مّنَ الرحمن الرحيم } متعلقٌ به مؤكدٌ لما أفاده التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامة الإضافيةِ ، أو خبرٌ آخرُ . أو تنزيلٌ مبتدأٌ لتخصصِه بالصفةِ خبرُهُ { كِتَابٌ } وهو على الوجوهِ الأُوَل بدلٌ منه أو خبرٌ آخرُ أو خبرٌ لمحذوفٍ . ونسبةُ التنزيلِ إلى الرحمن الرحيمِ للإيذانِ بأنه مدارٌ للمصالحِ الدينيةِ والدنيويةِ ، واقعٌ بمقتضى الرحمةِ الربانيةِ حسبما ينبىءُ عنه قولُه تعالى : { وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين } { فُصّلَتْ ءاياته } ميزتْ بحسبِ النظمِ والمَعنْى وجُعلتْ تفاصيلَ في أساليبَ مختلفةٍ ومعانٍ متغايرةٍ من أحكامٍ وقصصٍ ومواعظَ وأمثالٍ ووعدٍ ووعيد . وقُرِىءَ فُصِلَتْ ، أي فَرَقتْ بينَ الحقِّ والباطلِ ، أو فُصلَ بعضُها من بعضٍ باختلافِ الأساليبِ والمعانِي من قولكَ فُصلَ من البلدِ فُصُولاً { قُرْءاناً عَرَبِيّاً } نصبٌ على المدحِ أو الحاليةِ من كتابٌ لتخصصه بالصفة أو من آياته { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي معانيَهُ لكونِه على لسانِهم ، وقيلَ لأهل العلم والنظر ، لأنهم المنتفعونَ به . واللامُ متعلقةٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ أُخْرى لقرآناً ، أي كائناً لقومٍ الخ ، أو بتنزيلٌ على أنَّ منَ الرحمن الرحيمِ ليستْ بصفة له أو بفصِّلَتْ { بَشِيراً وَنَذِيراً } صفتانِ أُخريانِ لقرآناً أي بشيراً لأهل الطاعة ونذيراً لأهل المعصية ، أو حالانِ منْ كتابٌ ، أو من آياتِه . وقُرِئَا بالرفع على الوصفية لكتابٌ أو الخبريةِ لمحذوف { فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ } عنْ تدبره مع كونه على لغتهم { فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } سماعَ تفكرٍ وتأملٍ حتى يفهمُوا جلالَة قدرِه فيؤمنُوا به { وَقَالُواْ } أي لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم عندَ دعوتِه إيَّاهم إلى الإيمان والعملِ بما في القرآن { قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ } أي أغطيةٍ متكاثفةٍ { مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ } أي صممٌ ، وأصلُه الثقلُ . وقُرِىءَ بالكسرِ ، وقُرِىءَ بفتحِ القافِ { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } غليظٌ يمنعنَا عن التواصلِ ، ومنْ للدلالةِ على أن الحجابَ مبتدأٌ من الجانبينِ بحيثُ استوعبَ ما بينهما من المسافةِ المتوسطةِ ولم يبقَ ثمةَ فراغٌ أصلاً وهذه تمثيلاتٌ لنُبوِّ قلوبِهم عنْ إدراك الحقِّ وقبولِه ومجِّ أسماعِهم له كأنَّ بها صمماً وامتناع مواصلتِهم وموافقتِهم للرسولِ عليه الصلاةُ والسلامُ .
{ فاعمل } أي على دينكَ وقيلَ في إبطال أمرنا { إِنَّنَا عاملون } أي على دينِنا ، وقيل في إبطال أمرِك والأولُ هو الأظهرُ فإن قولَه تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ } تلقينٌ للجوابِ عنه أي لستُ منْ جنس مغايرٍ لكم حتى يكونَ بيني وبينكم حجابٌ وتباينٌ مصححٌ لتباين الأعمالِ والأديان ، كما ينبىءُ عنه قولُكم .(6/47)
«فاعملْ إننَا عاملونَ» بلْ إنما أنا بشرٌ مثلُكم مأمورٌ بما أُمرتم به حيثُ أُخبرْنا جميعاً بالتوحيدِ بخطابِ جامعٍ بيني وبينكم فإن الخطابَ في إلهُكم محكيٌ منتظمٌ لكلِّ لا أنه خطابٌ منه عليه الصلاةُ والسلامُ للكفرةِ كما في مثلُكم ، وقيلَ المعنى لستُ مَلَكاً ولا جِنياً لا يمكنكم التلقّي منه ولا أدعوكم إلى ما تنبُو عته العقولُ والأسماعُ وإنما أدعوكُم إلى التوحيدِ والاستقامةِ في العملِ ، وقد تدلُّ عليهما دلائلُ العقلِ وشواهدُ النقلِ . وقيلَ المَعْنى إني لستُ بملَكٍ وإنما أنا بشرٌ مثلُكم وقد أُوحي إليّ دونَكُم فصحَّتْ بالوحي إليَّ وأنا بشرٌ نبوتِي وإذا صحَّت نبوتِي وجبَ عليكم اتباعِي ، فتأمل . والفاءُ في قولِه تعالى : { فاستقيموا إِلَيْهِ } لترتيبِ ما بعدَها على ما قبلَها من إيحاءِ الوحدانيةِ فإن ذلك موجبٌ لاستقامتِهم إليه تعالى بالتوحيدِ والإخلاصِ في الأعمالِ { واستغفروه } مما كنتم عليهِ من سُوءِ العقيدةِ والعملِ . وقولُه تعالى : { وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ } ترهيبٌ وتنفيرٌ لهم عن الشركِ إثَر ترغيبِهم في التوحيدِ .(6/48)
الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
وصفَهُم بقولِه تعالى : { الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة } لزيادة التحذيرِ والتخويفِ عن منع الزكاةِ حيثُ جُعلَ من أوصافِ المشركينَ وقُرنَ بالكفر بالآخرة ، حيث قيل { وَهُم بالأخرة كافرون } وهو عطفٌ على لا يُؤتون داخلٌ في حيزِ الصلةِ ، واختلافُهما بالفعلية والاسميةِ لما أنَّ عدمَ إيتائِها متجددٌ والكفرُ أمرٌ مستمرٌ . ونُقلَ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنه فسرَ لا يُؤتون الزكاةَ بقوله لا يقولون لا إلَه إلا الله فإنها زكاةُ الأنفسِ ، والمعنى لا يطهرون أنفسَهُم من الشرك بالتوحيد ، وهو مأخوذٌ من قولِه تعالى : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } وقال الضحاكُ ومقاتلٌ لا ينفقون في الطاعات ولا يتصدقُون وقال مجاهدٌ لا يزكون أعمالَهُم .
{ إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } أي لا يُمنُّ به عليهم من المَنِّ وأصله الثقلُ أو لا يُقطع من مننتُ الحبلَ قطعتُه . وقيل نزلتْ في المَرضى والهَرمى إذا عجزُوا عن الطاعة كُتب لهم الأجرُ كأصحِّ ما كانوا يعملونه .(6/49)
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)
{ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ } إنكارٌ وتشنيعٌ لكفرهم وإنَّ واللامُ إما لتأكيد الإنكارِ وتقديمُ الهمزةِ لاقتضائها الصدارةَ لا لإنكارِ التأكيدِ وإما للإشعارِ بأن كفرَهُم من البعد بحيثُ ينكرُ العقلاءُ وقوعَهُ فيحتاجُ إلى التأكيد وإنما علق كفرُهم بالموصول حيثُ قيل : { بالذى خَلَقَ الأرض فِى يَوْمَيْنِ } لتفخيم شأنِه تعالى واستعظامِ كفرِهم به أي بالعظيمِ الشأنِ الذي قدَّرَ وجودَها أي حكَم بأنها ستوجدُ في مقدار يومينِ أو في نوبتينِ على أن ما يُوجدُ في كلِّ نوبةٍ يوجدُ بأسرعِ ما يكونُ وإلا فاليومُ الحقيقيُّ إنما يتحققُ بعدَ وجودِها وتسويةِ السمواتِ وإبداعِ نيرّاتِها وترتيبِ حركاتِها { وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً } عطفٌ على تكفرُونَ داخلٌ في حكم الإنكارِ والتوبيخِ . وجمعُ الأندادِ باعتبار ما هو الواقعُ لا بأن يكونَ مدارُ الإنكارِ هو التعددُ أي وتجعلونَ له أنداداً والحالُ أنه لا يمكنُ أن يكونَ له ندٌّ واحدٌ { ذلك } إشارةٌ إلى الموصولِ باعتبار اتصافِه بما في حيز الصلةِ وما فيه من معنى البعدِ مع قرب العهدِ بالمشار إليه للإيذانِ ببُعدِ منزلتِه في العظمة وإفرادُ الكافِ لما مرَّ مِراراً من أنَّ المرادَ ليس تعيينَ المخاطبينَ وهو مبتدأٌ خبرُهُ ما بعدَهُ أي ذلكَ العظيمُ الشأنِ الذي فعلَ ما ذُكرَ { رَبّ العالمين } أي خالقُ جميعِ الموجوداتِ ومربيها دونَ الأرضِ خاصَّة فكيف يتُصورُ أن يكونَ أخسُّ مخلوقاتِه نِداً له وقولُه تعالَى : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ } عطفٌ على خلقَ داخلٌ في حكم الصلةِ والجعلُ إبداعيٌّ وحديثُ لزومِ الفصلِ بينهما بجملتينِ خارجتينِ عن حيزِ الصلةِ مدفوعٌ بأن الأُولى متحدةٌ بقولِه تعالى : تكفرونَ فهو بمنزلةِ الإعادةِ له ، والثانيةُ اعتراضيةٌ مقررةٌ لمضمون الكلامِ بمنزلة التأكيدِ فالفصلُ بهما كلاَ فصلٍ على أن فيه فائدةَ التنبيِه على أن مجردَ المعطوفِ عليه كافٍ في تحقق ربوبيتِه للعالمينَ واستحالةِ أنْ يجعلَ له ندٌّ فكيفَ إذا انضمَّ إليه المعطوفاتُ وقيلَ هو عطفٌ على مقدرٍ أي خلقَها وجعلَ الخ وقيلَ هو كلامٌ متسأنفٌ وأيَّاً ما كان فالمرادُ تقديرُ الجعلِ لا الجعلُ بالفعلِ . وقولُه تعالى : { مّن فَوْقِهَا } متعلقٌ بجعلَ أو بمضمر هو صفةٌ لرواسِي أي كائنةً من فوقها مرتفعةً عليها لتكونَ منافعُها معرضةً لأهلها ويظهرَ للنظّارِ ما فيَها من مراصدِ الاعتبارِ ومطارحِ الأفكارِ { وبارك فِيهَا } أي قدرَ أن يكثرَ خيرُها بأن يخلقَ أنواعَ الحيواناتِ التي من جُملتها الإنسانُ وأصنافُ النباتِ التي منها معايشُهم { وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها } أي حكَم بالفعلِ بأن يوجدَ فيما سيأتي لأهلها من الأنواع المختلفةِ أقواتُها المناسبةُ لها على مقدار معينٍ تقتضيه الحكمةُ . وقُرِىءَ وقَسَّم فيَها أقواتَها { فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } متعلقٌ بحصول الأمورِ المذكورةِ ، لا بتقديرها أي قدرَ حصولَها في يومينِ وإنما قيلَ في أربعة أيامٍ أي تتمةِ أربعةٍ تصريحاً بالفذلكةِ { سَوَآء } مصدرٌ مؤكدٌ لمضمرٍ ، هو صفةٌ لأيامٍ أي استوتْ سواءً أيَّ استواءً كما ينبىءُ عنه القراءةُ بالجرِّ وقيلَ هو حالٌ من الضمير في أقواتها أو في فيَها . وقُرِىءَ بالرفع أي هو سواءٌ { لّلسَّائِلِينَ } متعلقٌ بمحذوف تقديرُه هذا الحصرُ للسائلينَ عن مدةِ خلقِ الأرضِ وما فيها أو بقدَّرَ أي قدَّرَ فيها أقواتَها لأجل السائلينَ أي الطالبين لها المحتاجين إليها من المقتاتين .(6/50)
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
وقوله تعالى :
{ ثُمَّ استوى إِلَى السماء } شروعٌ في بيان كيفيةِ التكوينِ إثرَ كيفيةِ التقديرِ ، ولعلَّ تخصيصَ البيانِ بما يتعلقُ بالأرض وأهلِها لما أن بيان اعتنائِه تعالى بأمر المخاطبين وترتيبِ مبادِي معايشِهم قبلَ خلقِهم مما يحملُهم على الإيمان ويزجُرهم عن الكفر والطغيانِ أي ثم قصدَ نحوهَا قصداً سوياً لا يلوِي على غيرِه { وَهِىَ دُخَانٌ } أي أمرٌ ظلمانيٌّ عبرَ به عن مادتها أو عن الأجزاء المتصغرةِ التي ركبتْ هي منها أو دخانٌ مرتفعٌ من الماءِ كما سيأتي وإنما خصَّ الاستواءَ بالسماءِ مع أن الخطابَ المترتبَ عليه متوجهٌ إليهما معاً حسبما ينطقُ به قولُه تعالى : { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ } اكتفاءً بذكر تقديرِ ما فيها كأنه قيل فقال لها وللأرض التي قدرَ وجودَ ما فيها : { ائتيا } أي كُونا واحدُثا على وجه معينٍ وفي وقت مقدرٍ لكل منكُما وهو عبارةٌ عن تعلق إرادتِه تعالى بوجودهما تعلقاً فعلياً بطريق التمثيلِ بعد تقديرِ أمرِهما من غير أن يكونَ هناك أمرٌ ومأمورٌ كما في قوله تعالى كُنْ وقولُه تعالى : { طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } تمثيلٌ لتحتم تأثيرِ قدرتِه تعالى فيهما واستحالةِ امتناعِهما من ذلكَ لا إثباتُ الطوعِ والكرهِ لهما وهما مصدرانِ وقعا موقعَ الحالِ ، أي طائعتينِ أو كارهتينِ . وقولُه تعالى : { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } أي منقادينِ تمثيلٌ لكمال تأثرهما بالذات عن القدرة الربانيةِ وحصولِهما كما أُمرتا بهِ وتصويرٌ لكونِ وجودِهما كما هما عليه جارياً على مُقتضى الحكمةِ البالغةِ ، فإن الطوعَ منبىءٌ عن ذلكَ والكُرهَ موهمٌ لخلافهِ وإنما قيلَ طائعينَ باعتبارِ كونِهما في معرض الخطابِ والجوابِ كقوله تعالى : { ساجدين } وقولُه تعالى : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات } تفسيرٌ وتفصيلٌ لتكوين السماءِ المجملِ المعبرِ عنه بالأمر وجوابِه لا أنه فعلٌ مترتبٌ على تكوينها أي خلقهنَّ خلقاً إبداعياً وأتقنَ أمرَهنَّ حسبما تقتضيهِ الحمكةُ . والضميرُ : إما للسماء على المَعْنى أو مبهمٌ وسبعَ سمواتٍ حالٌ على الأول تمييزٌ على الثانِي { فِى يَوْمَيْنِ } في وقتٍ مقدرٍ بيومينِ وقد بينَ مقدارُ زمانِ خلقِ الأرضِ وخلقِ ما فيها عند بيانِ تقديرهما فكانَ خلقُ الكلِّ في ستة أيامٍ حسبما نصَّ عليهِ في مواقعَ من التنزيلِ .
{ وأوحى فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا } عطفٌ على ( قضاهُنَّ ) أي خلقَ في كلِّ منها ما فيها من الملائكة والنيّراتِ وغيرِ ذلك مما لا يعلمُه إلا الله تعالى كما قاله قَتَادةُ والسدِّيُ فالوحي عبارةٌ عن التكوينِ كالأمر مقيدٌ بما قُيد به المعطوفُ عليه من الوقت أو أوحى إلى أهل كلَ منَها أَو أمرَهُ وكلَّفهم ما يليقُ بهم من التكاليف فهو بمعناهُ ومطلقٌ عن القيد المذكورِ ، وأياً ما كان فعلى ما قُررَ من التفصيل لا دِلالةَ في الآية الكريمةِ على الترتيب بين إيجادِ الأرضِ وإيجادِ السماءِ وإنما الترتيبُ بين التقديرِ والإيجادِ .(6/51)