وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
{ وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } من القرآن الذي هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين ومنبَعٌ للعلوم التي أوتيتَها وثبتّناك عليه حين كادوا يفتنونك عنه ولولاه لكدتَ تركن إليهم شيئاً قليلاً ، وإنما عبّر عنه بالموصول تفخيماً لشأنه ووصفاً له لما بما في حيز الصلة ابتداءً وإعلاماً بحاله من أول الأمرِ وبأنه ليس من قبيل كلامِ المخلوقِ ، واللامُ موطئةٌ للقسم ولنذهبن جوابُه النائبُ منابَ جزاءِ الشرطِ ، وبذلك حسُنَ حذفُ مفعولِ المشيئةِ ، والمرادُ من الذهاب به المحوُ من المصاحف والصدورِ وهو أبلغُ من الإذهاب . عن ابن مسعود رضي الله عنه : « أن أولَ ما تفقِدون من دينكم الأمانةُ وآخرَ ما تفقِدون الصلاةُ وليُصَلّين قومٌ ولا دينَ لهم ، وأن هذا القرآنَ تُصبحون يوماً وما فيكم منه شيءٌ ، فقال رجلٌ : كيف ذلك وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتْناه في مصاحفنا نعلّمه أبناءَنا ويعلمه أبناؤُنا أبناءَهم؟ فقال : يسرى عليه ليلاً فيصبح الناسُ منه فقراءَ تُرفع المصاحفُ وينزَعُ ما في القلوب » { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ } أي بالقرآن { عَلَيْنَا وَكِيلاً } من يتوكل علينا استردادَه مسطوراً محفوظاً .
{ إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } فإنها إن نالتْك لعلها تستردّه عليك ، ويجوز أن يكون الاستثناءُ منقطِعاً بمعنى ولكنْ رحمةٌ من ربك تركَتْه غيرَ مذهوبٍ به ، فيكون امتناناً بإبقائه بعد المنة بتنزيله وترغيباً في المحافظه على أداء حقوقِه وتحذيراً من أن لا يُقدرَ قدرُه الجليلُ ويفرَّط في القيام بشكره وهو أجلُّ النعم وأعظمُها { إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا } كإرسالك وإنزالِ الكتابِ عليك وإبقائِه في حفظك وغير ذلك .
{ قُلْ } للذين لا يعرِفون جلالةَ قدرِ التنزيل ولا يفهمون فخامةَ شأنه الجليل ، بل يزعُمون أنه من كلام البشر { لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن } أي اتفقوا { على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان } المنعوتِ بما لا تدركه العقولُ من النعوت الجليلةِ في البلاغة وحسنِ النظم وكمالِ المعنى . وتخصيصُ الثقلين بالذكر لأن المنكِرَ لكونه من عند الله تعالى منهما لا من غيرهما لا لأن غيرَهما قادرٌ على المعارضة { لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } أوثر الإظهارُ على إيراد الضميرِ الراجع إلى المِثْل المذكورِ احترازاً عن أن يُتوَّهم أن له مِثْلاً معيناً وإيذاناً بأن المرادَ نفيُ الإتيانِ بمثْلٍ ما ، أي لا يأتون بكلام مماثلٍ له فيما ذكر من الصفات البديعةِ وفيهم العربُ العاربة أربابُ البراعةِ والبيانِ ، وهو جوابٌ للقسم الذي ينبىء عنه اللامُ الموطئةُ وسادٌّ مسدَّ جزاءِ الشرطِ ولولاها لكان جواباً له بغير جزمٍ لكون الشرط ماضياً كما في قول زهير
وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مسألة ... يقول لا غائبٌ مالي ولا حرِمُ
وحيث كان المرادُ بالاجتماع على الإتيان بمثل القرآنِ مطلقَ الاتفاقِ على ذلك سواءٌ كان التصدِّي للمعارضة من كل واحدٍ منهم على الانفراد ، أو من المجموع بأن يتألّبوا على تلفيق كلامٍ واحد بتلاحق الأفكارِ وتعاضُدِ الأنظار قيل : { وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } أي في تحقيق ما يتوخَّوْنه من الإتيان بمثله وهو عطفٌ على مقدّر ، أي لا يأتون بمثله لو لم يكن بعضُهم ظهيراً لبعض ولو كان الخ ، وقد حُذف المعطوفُ عليه حذفاً مطّرداً لدِلالة المعطوفِ عليه دِلالةً واضحةً فإن الإتيانَ بمثله انتفى عند التظاهرِ فلأَنْ ينتفيَ عند عدِمه أولى ، وعلى هذه النكتةِ يدور ما في إن ولو الوصليتين من التأكيد كما مر غيرَ مرة ، ومحلُّه النصبُ على الحالية حسبما عُطف عليه ، أي لا يأتون بمثله على كل حال مفروضٍ ولو في هذه الحال المنافيةِ لعدم الإتيانِ به فضلاً عن غيرها وفيه حسمٌ لأطماعهم الفارغةِ في رَوْم تبديل بعض آياتِه ببعض ، ولا مساغَ لكون الآية تقريراً لما قبلها من قوله تعالى :(4/223)
{ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً } كما قيل ، لكن لا لِما قيل من أن الإتيانَ بمثله أصعبُ من استرداد عينِه ، ونفيُ الشيء إنما يقرره نفيُ ما دونه لا نفيُ ما فوقه فإن أصعبيةَ الاستردادِ بغير أمرِه تعالى من الإتيان بمثله مما لا شُبهةَ فيه بل لأن الجملةَ القسميةَ ليست مَسوقةً إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل إلى المكابرين من قِبَله عليه السلام .(4/224)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)
{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } كررنا وردّدنا على أنحاءٍ مختلفةٍ توجب زيادةَ تقريرٍ وبيان ووَكادةِ رسوخٍ واطمئنان { لِلنَّاسِ فِى هذا القرءان } المنعوتِ بما ذكر من النعوت الفاضلة { مِن كُلّ مَثَلٍ } من كل معنى بديعٍ هو الحسنُ والغرابةُ واستجلابُ النفسِ كالمَثَل ليتلقَّوْه بالقبول { فأبى أَكْثَرُ الناس } أوثر الإظهارُ على الإضمار تأكيداً وتوضيحاً { إِلاَّ كُفُورًا } أي إلا جُحوداً ، وإنما صح الاستثناءُ من الموجبُ مع أنه لا يصِح ضربتُ إلا زيداً لأنه متأوّل بالنفي كأنه قيل : ما قَبِل أكثرُهم إلا كفوراً ، وفيه من المبالغة ما ليس في أبَوْا الإيمانَ لأن فيه دِلالةً على أنهم لم يرضَوا بخَصلة سوى الكفورِ من الإيمان والتوقفِ في الأمر ونحو ذلك وأنهم بالغوا في عدم الرضا حتى بلغوا مرتبةَ الإباءِ .
{ وَقَالُواْ } عند ظهور عجزهم ووضوحِ مغلوبيّتِهم بالإعجاز التنزيليّ وغيرِه من المعجزات الباهرةِ متعللين بما لا يمكن في العادة وجودُه ولا تقتضي الحكمةُ وقوعَه من الأمور كما هو دَيدَنُ المبهوتِ المحجوج { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ } وقرىء بالتشديد { لَنَا مِنَ الأرض } أرضِ مكة { يَنْبُوعًا } عيناً لا ينضُب ماؤُها ، يفعولٌ من نبع الماءُ كيعْبوب من عبّ الماءَ إذا زحَر .
{ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ } أي بستانٌ تسترُ أشجارُه ما تحتها من العَرْصة { مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الأنهار } أي تجريها بقوة { خلالها تَفْجِيرًا } كثيراً ، والمرادُ إما إجراءُ الأنهارِ خلالها عند سقْيها أو إدامةُ إجرائِها كما ينبىء عنه الفاءُ لا ابتداؤه { أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا } جمع كِسْفة كقطعة وقِطَع لفظاً ومعنى ، وقرىء بالسكون كسِدْرة وسِدْر وهي حالٌ من السماء والكاف في كما في محل النصبِ على أنه صفةُ مصدرٍ محذوف أي إسقاطاً مماثلاً لما زعمتَ يعنُون بذلك قولَه تعالى : { أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السماء } .
{ أَوْ تَأْتِىَ بالله والملئكة قَبِيلاً } أي مقابلاً كالعشير والمعاشِر أو كفيلاً يشهد بصِحة ما تدعيه ، وهو حالٌ من الجلالة وحالُ الملائكةِ محذوفةٌ لدِلالتها عليها أي والملائكةِ قُبَلأَ كما حذف الخبرُ في قوله
فإني وقيّارٌ بها لغريب ... أو جماعةً فيكون حالاً من الملائكة .(4/225)
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)
{ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ } من ذهب وقد قرىء به وأصلُه الزينة { أَوْ ترقى فِى السماء } أي في معارجها فحُذف المضافُ ، يقال : رقيَ في السُّلّم وفي الدرجة { وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ } أي لأجل رُقيِّك فيها وحده أو لن نصدق رقيَّك فيها { حَتَّى تُنَزّلَ } منها { عَلَيْنَا كِتَابًا } فيه تصديقُك { نَّقْرَءهُ } نحن من غير أن يُتلقّى من قِبلك . عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال عبدُ اللَّه بنُ أمية : لن نؤمن لك حتى تتخذ إلى السماء سُلّماً ثم ترقى فيه وأنا أنظُر حتى تأتيَها وتأتَي معك بصك منشورٍ معه أربعةٌ من الملائكة يشهدون أنك كما تقول ، وما كانوا يقصِدون بهاتيك الاقتراحاتِ الباطلة إلا العنادَ واللَّجاجَ ولو أنهم أُوتوا أضعافَ ما اقترحوا من الآيات ما زادهم ذلك إلا مكابرةً وإلا فقد كان يكفيهم بعضُ ما شاهدوا من المعجزات التي تخِرُّ لها صُمُّ الجبال .
{ قُلْ } تعجباً من شدة شكيمتِهم وتنزيهاً لساحة السُّبحات عما لا يكاد يليق بها من مثل هذه الاقتراحاتِ الشنيعة التي تكاد السمواتُ يتفطّرن منها أو عن طلبك ذلك وتنبيهاً على بطلان ما قالوه { سبحان رَبّى } وقرىء قال : سبحان ربي { هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا } لا ملَكاً حتى يُتصور مني الرقيُّ في السماء ونحوُه { رَسُولاً } مأموراً من قبل ربي بتبليغ الرسالةِ من غير أن يكون لي خِيَرةٌ في الأمر كسائر الرسلِ وكانوا لا يأتون قومَهم إلا بما يظهره الله على أيديهم حسبما يلائم حالَ قومِهم ولم يكن أمرُ الآياتِ إليهم ولا لهم أن يتحكموا على الله سبحانه بشيء منها ، وقولُه بشراً خبرٌ لكنت ورسولاً صفتُه .
{ وَمَا مَنَعَ الناس } أي الذين حُكيت أباطيلُهم { أَن يُؤْمِنُواْ } مفعولٌ ثانٍ لمنع وقوله : { إِذْ جَاءهُمُ الهدى } أي الوحيُ ظرفٌ لمنع أو يؤمنوا أي وما منعهم وقت مجيءِ الوحي المقرونِ بالمعجزاتِ المستدعيةِ للإيمان أن يؤمنوا بالقرآن وبنبوّتك أو ما منعهم أن يؤمنوا بذلك وقت مجيءِ ما ذكر { إِلاَّ أَن قَالُواْ } في محل الرفعِ على أنه فاعلُ منع أي إلا قولُهم : { أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولاً } منكِرين أن يكون رسولُ الله تعالى من جنس البشرِ ، وليس المرادُ أن هذا القولَ صدر عن بعضهم فمنع بعضاً آخرَ منهم ، بل المانعُ هو الاعتقادُ الشاملُ للكل المستتبعُ لهذا القول منهم ، وإنما عبرّ عنه بالقول إيذاناً بأنه مجردُ قولٍ يقولونه بأفواههم من غير أن يكون له مفهومٌ ومِصْداقٌ ، وحصرُ المانعِ من الإيمان فيما ذكر مع أن لهم موانعَ شتّى لِما أنه معظمُها أو لأنه هو المانعُ بحسب الحال ، أعني عند سماعِ الجواب بقوله تعالى : { هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً } إذ هو الذي يتشبّثون به حينئذ من غير أن يخرِمَ ببالهم شبهةً أخرى من شبههم الواهيةِ ، وفيه إيذانٌ بكمال عنادِهم حيث يشير إلى أن الجوابَ المذكورَ مع كونه حاسماً لموادّ شُبَهِهم ملجئاً إلى الإيمان يعكُسون الأمرَ ويجعلونه مانعاً منه .(4/226)
قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
{ قُلْ } لهم أولاً من قِبلنا تبييناً للحكمة وتحقيقاً للحق المُزيحِ للرَّيب { لَّوْ كَانَ } أي لو وجد واستقر { فِى الأرض } بدل البشر { ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ } قارّين فيها من غير أن يعرُجوا في السماء ويعلموا ما يجب أن يُعلم { لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً } يهديهم إلى الحق ويُرشِدُهم إلى الخير لتمَكُّنهم من الاجتماع والتلقي منه ، وأما عامةُ البشر فهم بمعزل من استحقاق المفاوضةِ الملكية فكيف لا وهي منوطةٌ بالتناسب والتجانس ، فبعثُ الملكِ إليهم مزاحِمٌ للحكمة التي عليها مبنى التكوينِ والتشريع ، وإنما يُبعث الملَك من بينهم إلى الخواصّ المختصين بالنفوس الزكية المؤيَّدين بالقوة القُدسية المتعلقين بكِلا العالَمَين الروحاني والجُسماني ليتلقَّوا من جانب ويُلْقوا إلى جانب ، وقوله تعالى : { مَلَكًا } يحتمل أن يكون حالاً من رسولاً وأن يكون موصوفاً به وكذلك بشراً في قوله تعالى : { أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولاً } والأولُ أولى .
{ قُلْ } لهم ثانياً من جهتك بعد ما قلت لهم من قِبلنا ما قلتَ وبينتَ لهم ما تقضيه الحكمةُ في البعثة ولم يرفعوا إليه رأساً { كفى بالله } وحده { شَهِيداً } على أني أدّيتُ ما عليّ من مواجب الرسالةِ أكملَ أداءٍ وأنكم فعلتم ما فعلتم من التكذيب والعِناد ، وتوجيهُ الشهادةِ إلى كونه عليه السلام رسولاً بإظهار المعجزةِ على وفق دعواه كما اختير لا يساعده قوله تعالى : { بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } وما بعده من التعليل ، وإنما لم يقل : بيننا تحقيقاً للمفارقة وإبانةً للمباينة ، وشهيداً إما حالٌ أو تمييزٌ { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ } من الرسل والمرسَلِ إليهم { خَبِيرَا بَصِيرًا } محيطاً بظواهر أحوالِهم وبواطنها فيجازيهم على ذلك وهو تعليلٌ للكفاية ، وفيه تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديدٌ للكفار .
{ وَمَن يَهْدِ الله } كلامٌ مبتدأٌ يفصل ما أشار إليه الكلامُ السابق من مجازاة العبادِ إشارةً إجماليةً ، أي من يهدِه الله إلى الحق بما جاء من قبله من الهدى { فَهُوَ المهتد } إليه وإلى ما يؤدّي إليه من الثواب أو المهتدِ إلى كل مطلوب { وَمَن يُضْلِلِ } أي يخلُقْ فيه الضلالَ بسوء اختيارِه كهؤلاء المعاندين { فَلَن تَجِدَ لَهُمْ } أوثر ضميرُ الجماعة اعتباراً لمعنى ( مَنْ ) غِبّ ما أوثر في مقابله الإفرادُ نظراً إلى لفظها تلويحاً بوَحدة طريقِ الحقِّ وقلةِ سالكيه وتعددِ سبلِ الضلال وكثرةِ الضلال { أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ } من دون الله تعالى أي أنصاراً يهدونهم إلى طريق الحقِّ أو إلى طريق يوصلهم إلى مطالبهم الدنيويةِ والأخروية ، أو إلى طريق النجاةِ من العذاب الذي يستدعيه ضلالُهم ، على معنى لن تجدَ لأحد منهم وليًّا على ما تقتضيه قضيةُ مقابلةِ الجمعِ بالجمع من انقسام الآحادِ إلى الآحاد { وَنَحْشُرُهُمْ } التفاتٌ من الغَيبة إلى التكلم إيذاناً بكمال الاعتناءِ بأمر الحشرِ { يَوْمُ القيامة عَلَى وُجُهِهِمْ } على وجوههم أو مشياً ، فقد روي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يمشون على وجوههم؟ قال :(4/227)
« إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادرٌ على أن يُمشِيَهم على وجوههم » { عُمْيًا } حال من الضمير المجرورِ في الحال السابقة { وَبُكْمًا وَصُمّا } لا يُبصِرون ما يُقِرّ أعينَهم ولا ينطِقون ما يُقبل منهم ولا يسمعون ما يُلذّ مسامعَهم لما قد كانوا في الدنيا لا يستبصرون بالآيات والعبرِ ولا ينطِقون بالحق ولا يستمعونه ، ويجوز أن يُحشَروا بعد الحسابِ من الموقف إلى النار مُوفَيْ القُوى والحواسّ وأن يحشروا كذلك ثم يعاد إليهم قواهم وحواسُّهم ، فإن إدراكاتِهم بهذه المشاعرِ في بعض المواطنِ مما لا ريب فيه { مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } إما حالٌ أو استئنافً وكذا قوله تعالى : { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } أي كلما سكن لهبُها بأن أكلت جلودَهم ولحومَهم ولم يبق فيهم ما تتعلق به النارُ وتحرِقه زدناهم توقداً بأن بدّلناهم جلوداً غيرَها فعادت ملتهبةً ومستعرةً ، ولعل ذلك عقوبةٌ لهم على إنكارهم الإعادةَ بعد الفناءِ بتكريرها مرةً بعد أخرى ليرَوها عِياناً حيث لم يعلموها برهاناً كما يفصح عنه قوله تعالى : { ذلك } أي ذلك العذابُ { جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُمْ } أي بسبب أنهم { كَفَرُواْ بئاياتنا } العقليةِ والنقليةِ الدالةِ على صحة الإعادةِ دَلالةً واضحةً ، فذلك مبتدأٌ وجزاؤُهم خبرُه ويجوز أن يكون مبتدأً ثانياً وبأنهم خبرُه ، والجملةُ خبراً لذلك وأن يكون جزاؤهم بدلاً من ذلك أو بياناً له والخبرُ هو الظرف { وَقَالُواْ } منكرِين أشدَّ الإنكار { أَءذَا كُنَّا عظاما ورفاتا أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } إما مصدرٌ مؤكدٌ من غير لفظِه أي لمبعوثون بعثاً جديداً وإما حالٌ أي مخلوقين مستأنَفين .
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ } أي ألم يتفكروا ولم يعلموا { أَنَّ الله خَلَقَ السموات والأرض } من غير مادةٍ مع عظمهما { قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } في الصغر على أن المِثْلَ مقحَمٌ والمرادُ بالخلق الإعادةُ كما عبر عنها بذلك حيث قيل : خلقاً جديداً { وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ } عطف على أولم يروا فإنه في قوة قد رأوا ، والمعنى قد علموا أن من قدَر على خلق السموات والأرضِ فهو قادرٌ على خلق أمثالِهم من الإنس وجعل لهم ولبعثهم أجلاً محققاً لا ريب فيه هو يومُ القيامة { فأبى الظالمون } وُضع موضعَ الضميرِ تسجيلاً عليهم بالظلم وتجاوزِ الحدّ بالمرة { إِلاَّ كُفُورًا } أي جحوداً .
{ قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى } خزائنَ رزقِه التي أفاضها على كافة الموجوداتِ ، وأنتم مرتفعٌ بفعل يفسّره المذكورُ كقول حاتم
لو ذاتُ سِوارٍ لَطَمتْني ... وفائدة ذلك المبالغةُ والدلالةُ على الاختصاص .
{ أَذِاً لأمْسَكْتُمْ } لبخِلتم { خَشْيَةَ الإنفاق } إذ ليس في الدنيا أحدٌ إلا وهو يختار النفعَ لنفسه ، ولو آثر غيرَه بشيء فإنما يُؤثره لِعَوض يفوقه ، فإذن هو بخيلٌ بالإضافة إلى جودِ الله سبحانه { وَكَانَ الإنسان قَتُورًا } مبالغاً في البخل لأن مبْنى أمرِه على الحاجة والضِّنّة بما يحتاج إليه وملاحظةِ العِوضِ بما يبذُله .(4/228)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)
{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى تِسْعَ ءايات بَيّنَاتٍ } واضحاتِ الدِلالة على نبوته وصِحّةِ ما جاء به من عند الله وهي العَصا واليدُ والجَرادُ والقُمّل والضفادعُ والدمُ والطوفانُ والسّنونَ ونقصُ الثمرات ، وقيل : انفجارُ الماء من الحجر ونتْقُ الطورِ على بني إسرائيلَ وانفلاقُ البحرِ بدل الثلاث الأخيرة ، ويأباه أن هذه الثلاثَ لم تكن منزلةً إذ ذاك وأن الأولَين لا تعلقَ لهما بفرعون وإنما أوتيهما بنو إسرائيلَ ، وعن صفوانَ بن عسّال أن يهودياً سألَ النبي عليه الصلاة والسلام عنها فقال : « ألا تشركوا به شيئاً ولا تسرِقوا ولا تزنوا ، ولا تقتُلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تسحرَوا ولا تأكُلوا الربا ، ولا تمشوا ببريءٍ إلى ذي سلطان ليقتُله ولا تقذِفوا مُحصنةً ولا تفِرّوا من الزحف ، وعليكم خاصّةَ اليهودِ أن لا تعْدوا في السبت » فقبّل اليهوديُّ يدَه ورجلَه عليه السلام ، ولا يساعده أيضاً ما ذكر ولعل جوابَه عليه السلام بذلك لما أنه المُهم للسائل وقبولُه لما أنه كان في التوراة مسطوراً ، وقد علِم أنه ما علمه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلا من جهة الوحي .
{ فاسأل بَنِى إسراءيل } وقرىء فسَلْ أي فقلنا له : سلْهم من فرعون ، وقل له : أرسلْ معيَ بني إسرائيلَ أو سلهم عن إيمانهم أو عن حال دينِهم أو سلْهم أن يعاضدوك ، ويؤيده قراءةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على صيغة الماضي ، وقيل : الخطابُ للنبي عليه الصلاة والسلام أي فاسألهم عن تلك الآياتِ لتزدادَ يقيناً وطُمَأْنينةً أو ليظهر صِدقُك { إِذْ جَاءهُمُ } متعلق بقلنا وبسأل على القراءة المذكورةِ وبآتينا أو بمضمر هم يخبروك أو اذكر على تقدير كونِ الخطابِ للرسول عليه الصلاة والسلام { فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ } الفاءُ فصيحةٌ أي فأظهرَ عند فرعون ما آتيناه من الآيات البيناتِ وبلّغه ما أُرسل به ، فقال له فرعونُ : { إِنّى لاظُنُّكَ ياموسى مَّسْحُورًا } سُحرْت فتخبّط عقلك .
{ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء } يعني الآياتِ التي أظهرها { إِلاَّ رَبُّ السموات والأرض } خالقُهما ومدبرُهما ، والتعرّضُ لربوبيته تعالى لهما للإيذان بأنه لا يقدِر على إيتاء مثلِ هاتيك الآياتِ العظامِ إلا خالقُهما ومدبّرهما { بَصَائِرَ } حالٌ من الآيات أي بيناتٍ مكشوفاتٍ تُبصّرك صدقي ولكنك تعاند وتكابر ، نحوُ : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ } ومن ضرورة ذلك العلمِ العلمُ بأنه عليه الصلاة والسلام على كمال رصانةِ العقلِ فضلاً عن توهم المسحورية ، وقرىء علمتُ على صيغة التكلمِ أي لقد علمتُ بيقين أن هذه الآياتِ الباهرةَ أنزلها الله عز سلطانه فكيف يُتوهم أن يحومَ حولي سحر { وَإِنّى لاظُنُّكَ يافرعون مَثْبُورًا } مصروفاً عن الخير مطبوعاً على الشر ، من قولهم : ما ثبَرك عن هذا أي ما صرفك ، أو هالكاً ولقد قارع عليه السلام ظنَّه بظنه وشتان بينهما ، كيف لا وظنُّ فرعونَ إفكٌ مُبينٌ وظنُّه عليه الصلاة والسلام يتاخم اليقين .(4/229)
فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)
{ فَأَرَادَ } أي فرعون { أَن يَسْتَفِزَّهُم } أي يستخِفَّهم ويُزعجَهم { مّنَ الأرض } أرضِ مصرَ أو من الأرض مطلقاً بالقتل كقوله : { سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ } { فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا } فعكسنا عليه مكرَه واستفززناه وقومَه بالإغراق .
{ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ } من بعد إغراقِهم { لِبَنِى إسراءيل اسكنوا الأرض } التي أراد أن يستفزّكم منها { فَإِذَا جَاء وَعْدُ الأخرة } الكرةُ الآخرةُ أو الحياةُ أو الساعةُ والدارُ الآخرة أي قيامُ القيامة { جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا } مختلطين إياكم وإياهم ثم نحكُم بينكم ونميز سعداءَكم من أشقيائكم واللفيفُ الجماعاتُ من قبائلَ شتى .
{ وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ } أي وما أنزلنا القرآنَ إلا ملتبساً بالحق المقتضي لإنزاله وما نزل إلا ملتبساً بالحق الذي اشتمل عليه ، أو ما أنزلناه من السماء إلا محفوظاً وما نزل على الرسول إلا محفوظاً من تخليط الشياطينِ ، ولعل المرادَ بيانُ عدم اعتراءِ البطلان له أولَ الأمرَ وآخرَه { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا } للمطيع بالثواب { وَنَذِيرًا } للعاصي من العقاب ، وهو تحقيقٌ لحقية بعثتِه عليه الصلاة والسلام إثرَ تحقيقِ حقية إنزالِ القرآن .
{ وَقُرْءانًا } منصوب بمضمر يفسّره قوله تعالى : { فَرَقْنَاهُ } وقرىء بالتشديد دَلالةً على كثرة نجومِه { لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ } على مَهل وتثبُّتٍ فإنه أيسرُ للحفظ وأعونُ على الفهم ، وقرىء بالفتح وهو لغة فيه { ونزلناه تَنْزِيلاً } حسبما تقتضيه الحكمةُ والمصلحة ويقع من الحوادث والواقعات .
{ قُلْ } للذين كفروا { ءَامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ } فإن إيمانَكم به لا يزيده كمالاً وامتناعَكم لا يورثه نقصاً { إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ } أي العلماءَ الذين قرأوا الكتبَ السالفةَ من قبل تنزيلِه وعرَفوا حقيقةَ الوحي وأماراتِ النبوةِ وتمكّنوا من التمييز بين الحقِّ والباطلِ والمُحقِّ والمبطلِ ورأوا فيها نعتَك ونعتَ ما أنزل إليك { إِذَا يتلى } أي القرآنُ { عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ } أي يسقطون على وجوههم { سُجَّدًا } تعظيماً لأمر الله تعالى أو شكراً لإنجاز ما وعد به في تلك الكتبِ من بعثتك ، وتخصيصُ الأذقانِ بالذكر للدِلالة على كمال التذللِ إذ حينئذ يتحقق الخُرور عليها ، وإيثارُ اللام للدِلالة على اختصاص الخُرور بها كما في قوله
فخرَّ صريعاً لليدين وللفمِ ... وهو تعليلٌ لما يفهم من قوله تعالى : { ءَامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ } من عدم المبالاة بذلك أي إن لم تؤمنوا به فقد آمن به أحسنَ إيمانٍ مَنْ هو خيرٌ منكم ، ويجوز أن يكون تعليلاً لقُلْ على سبيل التسليةِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قيل : تسلَّ بإيمان العلماءِ عن إيمان الجهلةِ ولا تكترث بإيمانهم وإعراضِهم .(4/230)
وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
{ وَيَقُولُونَ } في سجودهم { سُبْحَانَ رَبّنَا } عما يفعل الكفرةُ من التكذيب أو عن خُلْف وعده { إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً } إن مخففةٌ من المثقّلة ، واللامُ فارقةٌ أي إن الشأن هذا .
{ وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ } كرر الخُرورَ للأذقان لاختلاف السبب فإن ( الأولَ ) لتعظيم أمر الله تعالى أو الشكرِ لإنجاز الوعدِ ( والثاني ) لِما أثّر فيهم من مواعظ القرآنِ حالَ كونِهم باكين من خشية الله { وَيَزِيدُهُمْ } أي القرآنُ بسماعهم { خُشُوعًا } كما يزيدهم علماً ويقيناً بالله تعالى .
{ قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } نزل حين سمع المشركون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : « يا ألله يا رحمن » فقالوا : إنه ينهانا عن عبادة إلهين وهو يدعو إلها آخرَ . وقالت اليهود : إنك لتُقِلّ ذكرَ الرحمن وقد أكثره الله تعالى في التوراة . والمرادُ على الأول هو التسويةُ بين اللفظين بأنهما عبارتان عن ذات واحدةٍ وإن اختلف الاعتبارُ والتوحيدُ إنما هو للذات الذي هو المعبودُ ، وعلى الثاني أنهما سيّان في حسن الإطلاقِ والإفضاء إلى المقصود وهو أوفق لقوله تعالى : { أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسماء الحسنى } والدعاءُ بمعنى التسمية وهو يتعدى إلى مفعولين حُذف أولُهما استغناءً عنه ، وأو للتخيير والتنوينُ في أياً عوضٌ عن المضاف إليه وما مزيدةٌ لتأكيد ما في أي من الإبهام ، والضميرُ في له للمسمّى لأن التسميةَ له لا للاسم وكان أصلُ الكلامِ أياً ما تدعوا فهو حسنٌ فوضع موضعَه فله الأسماءُ الحسْنى للمبالغة والدِلالة على ما هو الدليلُ عليه ، إذ حسنُ جميعِ أسمائِه يستدعي حسنَ ذينك الاسمين وكونُها حُسنى لدلالتها على صفات الكمالِ من الجلال والجمال والإكرام .
{ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } أي بقراءة صلاتِك بحيث تُسمع المشركين فإن ذلك يحملهم على السب واللغوِ فيها { وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } أي بقراءتها بحيث لا تُسمع من خلفك من المؤمنين { وابتغ بَيْنَ ذلك } أي بين الجهرِ والمخافتة على الوجه المذكور { سَبِيلاً } أمراً وسَطاً قصْداً فإن خيرَ الأمور أوساطُها ، والتعبيرُ عن ذلك بالسبيل باعتبار أنه أمرٌ يتوجه إليه المتوجهون ويؤُمّه المقتدون ويوصلُهم إلى المطلوب ، وروي أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان يخفِت ويقول : أناجي ربي وقد علم حاجتي ، وعمر رضي الله عنه كان يجهر بها ويقول : أطرُد الشيطان وأوقظ الوسْنان ، فلما نزلت أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يرفعَ قليلاً وعمرَ أن يخفِض قليلاً ، وقيل : المعنى لا تجهَرْ بصلاتك كلِّها ولا تخافت بها بأسرها وابتغِ بين ذلك سبيلاً بالمخافتة نهاراً والجهرِ ليلاً ، وقيل : بصلاتك بدعائك وذهب قوم إلى أنها منسوخةٌ بقوله تعالى : { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً . }(4/231)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
{ وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا } كما يزعم اليهودُ والنصارى وبنو مليح ، حيث قالوا : عزيرٌ ابنُ الله والمسيحُ ابنُ الله والملائكةُ بناتُ الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً { وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الملك } أي الألوهيةِ كما يقوله الثنويةُ القائلون بتعدد الآلهة { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ الذل } ناصرٌ ومانعٌ منه لاعتزازه ، أو لم يوالِ أحداً من أجل مذلةٍ ليدفعها به ، وفي التعرض في أثناء الحمدِ لهذه الصفاتِ الجليلة إيذانٌ بأن المستحقَّ للحمد مَنْ هذه نعوتُه دون غيره ، إذ بذلك يتم الكمالُ والقُدرةُ التامةُ على الإيجاد ، وما يتفرّع عليه من إفاضة أنواعِ النعم وما عداه ناقصٌ مملوكٌ نعمةٌ أو منقماً عليه ، ولذلك عُطف عليه قولُه تعالى : { وَكَبّرْهُ تَكْبِيرًا } وفيه تنبيهٌ على أن العبدَ وإن بالغ في التنزيه والتمجّد واجتهد في الطاعة والتحميد ينبغي أن يعترِف بالقصور في ذلك . رُوي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أفصح الغلامُ من بني عبد المطلب علّمه هذه الآية الكريمة .
وعنه عليه الصلاة والسلام : « من قرأ سورةَ بني إسرائيلَ فرقّ قلبُه عند ذكرِ الوالدَين كان له قنطارٌ في الجنة » والقنطارُ ألفُ أوقية ومائتا أوقية والحمد لله سبحانه وله الكبرياء والعظمة والجبروت .(4/232)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)
{ الحمد لِلَّهِ الذى أَنْزَلَ على عَبْدِهِ } محمد صلى الله عليه وسلم { الكتاب } أي الكتابَ الكاملَ الغنيَّ عن الوصف بالكمال المعروفِ بذلك من بين الكتبِ ، الحقيقَ باختصاص اسمِ الكتابِ به ، وهو عبارةٌ عن جميع القرآنِ أو عن جميع المُنْزَل حينئذ كما مر مراراً ، وفي وصفه تعالى بالموصول إشعارٌ بعلّية ما في حيز الصلةِ لاستحقاق الحمدِ وإيذانٌ بعِظم شأنِ التنزيلِ الجليلِ ، كيف لا وعليه يدور فَلكُ سعادةِ الدارين ، وفي التعبير عن الرسول عليه الصلاة والسلام بالعبد مضافاً إلى ضمير الجلالةِ تنبيهٌ على بلوغه عليه الصلاة والسلام إلى أعلى معارجِ العبادةِ وتشريفٌ وإشعارٌ بأن شأنَ الرسولِ أن يكون عبداً للمرسِل لا كما زعمت النصارى في حق عيسى عليه السلام ، وتأخيرُ المفعول الصريح عن الجار والمجرور مع أن حقه التقديمُ عليه ليتصل به قوله تعالى : { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } أي شيئاً من العِوَج بنوع اختلالٍ في النظم وتَنافٍ في المعنى أو انحرافٍ عن الدعوة إلى الحق وهو في المعاني كالعِوَج في الأعيان ، وأما قوله تعالى : { لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً } مع كون الجبالِ من الأعيان فللدِلالة على انتفاء ما لا يُدرك من العوج بحاسة البصر ، بل إنما يوقف عليه بالبصيرة بواسطة استعمالِ المقاييسِ الهندسيةِ ولمّا كان ذلك مما لا يُشعَر به بالمشاعر الظاهرةِ عُدّ من قبيل ما في المعاني ، وقيل : الفتحُ في اعوجاج المنتصِبِ كالعُود والحائِط ، والكسرُ في اعوجاج غيرِه عيناً كان أو معنى .
{ قَيِّماً } بالمصالح الدينيةِ والدنيويةِ للعباد على ما ينبىء عنه ما بعده من الإنذار والتبشيرِ فيكون وصفاً له بالتكميل بعد وصفِه بالكمال ، أو على ما قبله من الكتب السماويةِ شاهداً بصِحتها ومهيمناً عليها أو متناهياً في الاستقامة ، فيكون تأكيداً لما دل عليه نفيُ العِوج مع إفادة كونِ ذلك من صفاته الذاتيةِ اللازمةِ له حسبما تنبىء عنه الصيغةُ لا أنه نُفي عنه العوجُ مع كونه من شأنه ، وانتصابُه على تقديرِ كونِ الجملةِ المتقدمةِ معطوفةً على الصلة بمضمر ينبىء عنه نفيُ العِوَج تقديرُه جعلَه قيماً ، وأما على تقدير كونها حاليةً فهو على الحالية من الكتاب إذ لا فصلَ حينئذ بين أبعاضِ المعطوفِ عليه بالمعطوف وقرىء قيماً { لّيُنذِرَ } متعلقٌ بأنزل والفاعلُ ضميرُ الجلالة كما في الفعلين المعطوفين عليه ، والإطلاقُ عن ذكر المفعولِ الأول للإيذان بأن ما سيق له الكلامُ هو المفعولُ الثاني وأن الأولَ ظاهرٌ لا حاجةَ إلى ذكره ، أي أنزل الكتابَ لينذر بما فيه الذين كفروا به { بَأْسًا } أي عذاباً { شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ } أي صادراً من عنده نازلاً من قِبله بمقابلة كفرِهم وتكذيبهم ، وقرىء من لدْنِه بسكون الدال مع إشمام الضمةِ وكسر النونِ لالتقاء السَاكنين وكسر الهاءِ للإتباع { وَيُبَشّرُ } بالتشديد وقرىء بالتخفيف { المؤمنين } أي المصدقين به { الذين يَعْمَلُونَ الصالحات } الأعمالَ الصالحةَ التي بيّنت في تضاعيفه ، وإيثارُ صيغةِ الاستقبال في الصلة للإشعار بتجدد الأعمالِ الصالحة واستمرارِها ، وإجراءُ الموصولِ على موصوفه المذكورِ لما أن مدارَ قَبولِ الأعمالِ هو الإيمان { أَنَّ لَهُمْ } أي بأن لهم بمقابلة إيمانِهم وأعمالِهم المذكورة { أَجْرًا حَسَنًا } هو الجنةُ وما فيها من المثوبات الحُسنى .(4/233)
مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
{ مَّاكِثِينَ } حال من الضمير المجرور في لهم { فِيهِ } أي في ذلك الأجر { أَبَدًا } من غير انتهاء أي خالدين فيه ، وهو نصبٌ على الظرفية لماكثين ، وتقديمُ الإنذار على التبشير لإظهار كمال العنايةِ بزجر الكفّارِ عما هم عليه مع مراعاة تقديمِ التخليةِ على التحلية ، وتكريرُ الإنذار بقوله تعالى : { وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا } متعلقاً بفِرْقة خاصة ممن عمّه الإنذارُ السابقُ من مستحقي البأسِ الشديدِ للإيذان بكمال فظاعةِ حالِهم لغاية شناعةِ كفرِهم وضلالِهم ، أي وينذرَ من بين سائر الكفرةِ هؤلاء المتفوّهين بمثل هاتيك العظيمةِ خاصة وهم كفارُ العرب الذين يقولون : الملائكةُ بناتُ الله تعالى ، واليهودُ القائلون : عزيرٌ ابنُ الله ، والنصارى القائلون : المسيحُ ابن الله ، وتركُ إجراءِ الموصولِ على الموصوف كما فُعل في قوله تعالى : { وَيُبَشّرُ المؤمنين } للإيذان بكفاية ما في حيز الصلةِ في الكفر على أقبح الوجوه ، وإيثارُ صيغةِ الماضي في الصلة للدِلالة على تحقق صدورِ تلك الكلمةِ القبيحة عنهم فيما سبق . وجعلُ المفعولِ المحذوفِ فيما سلف عبارةً عن هذه الطائفة يؤدي إلى خروج سائرِ أصنافِ الكفرة عن الإنذار والوعيدِ ، وتعميمُ الإنذارِ هناك للمؤمنين أيضاً بحمله على معنى مجردِ الإخبارِ بالخبر الضارِّ من غير اعتبار حُلول المنذَرِ به على المنذَر كما في قوله تعالى : { أَنْ أَنْذِر الناس وَبَشر الذين ءَامَنُواْ } يُفضي إلى خلوّ النظمِ الكريم عن الدلالة على حلول البأسِ الشديدِ على مَنْ عدا هذه الفرقةِ ، ويجوز أن يكون الفاعلُ في الأفعال الثلاثة ضميرَ الكتاب أو ضميرَ الرسول عليه الصلاة والسلام .
{ مَا لَهُمْ بِهِ } أي باتخاذه سبحانه وتعالى ولداً { مِنْ عِلْمٍ } مرفوعٌ على الابتداء أو الفاعلية لاعتماد الظرفِ ، ومِن مزيدةٌ لتأكيد النفي والجملةُ حاليةٌ أو مستأنَفةٌ لبيان حالِهم في مقالهم ، أي ما لهم بذلك شيءٌ من علم أصلاً لا لإخلالهم بطريقه مع تحقيق المعلومِ أو إمكانِه بل لاستحالته في نفسه { وَلاَ لأََبَائِهِمْ } الذين قلدوهم فتاهوا جميعاً في تيه الجهالةِ والضلالةِ أو ما لهم علمٌ بما قالوه أهو صوابٌ أم خطأٌ ، بل إنما قالوه رمياً عن عمًى وجهالةٍ من غير فكر ورويّةٍ كما في قوله تعالى : { وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أو بحقيقة ما قالوه وبعظم رُتبتِه في الشناعة كما في قوله تعالى : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدَا تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } الآيات وهو الأنسب بقوله تعالى : { كَبُرَتْ كَلِمَةً } أي عظُمت مقالتُهم هذه في الكفر والافتراءِ لما فيها من نسبته سبحانه إلى ما لا يكاد يليق بجناب كبريائِه ، والفاعلُ في كبُرت إما ضميرُ المقالةِ المدلولِ عليها بقالوا وكلمةً نُصبَ على التمييز أو ضميرٌ مبهمٌ مفسَّرٌ بما بعده من النكرة المنصوبةِ تمييزاً كبئس رجلاً ، والمخصوصُ بالذم محذوفٌ تقديرُه كبُرت هي كلمةً خارجةً من أفواههم ، وقرىء كبْرتْ بإسكان الباء مع إشمام الضم ، وقرىء كلمةٌ بالرفع { تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } صفةٌ للكلمة مفيدةٌ لاستعظام اجترائِهم على التفوه بها ، وإسنادُ الخروجِ إليها مع أن الخارجَ هو الهواءُ المتكيفُ بكيفية الصوتِ لملابسته بها { إِن يَقُولُونَ } ما يقولون في ذلك الشأنِ { إِلاَّ كَذِبًا } أي إلا قولاً كذباً لا يكاد يدخُل تحت إمكانِ الصدق أصلاً ، والضميران لهم ولآبائهم .(4/234)
مُثّل حالُه عليه الصلاة والسلام في شدة الوجدِ على إعراض القومِ وتولّيهم عن الإيمان بالقرآن وكمالِ التحسّر عليهم بحال من يُتوقع منه إهلاكُ نفسِه إثرَ فواتِ ما يُحِبّه عند مفارقة أحبّتِه تأسفاً على مفارقتهم وتلهفاً على مهاجَرتهم ، فقيل على طريقة التمثيلِ حملاً له عليه الصلاة والسلام على الحذر والإشفاق من ذلك :(4/235)
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)
{ فَلَعَلَّكَ باخع } أي مُهلكٌ { نَّفْسَكَ على ءاثارهم } غماً ووجداً على فراقهم وقرىء بالإضافة { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث } أي القرآنِ الذي عبّر عنه في صدر السورةِ بالكتاب ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ ثقةً بدلالة ما سبق عليه ، وقرىء بأنْ المفتوحةِ أي لأن لم يؤمنوا ، فإعمالُ باخعٌ بحمله على حكاية حالٍ ماضيةٍ لاستحضار الصورةِ كما في قوله عز وجل : { باسط } { الحديث أَسَفاً } مفعولٌ له لباخعٌ أي لِفَرْط الحزنِ والغضبِ أو حالٌ مما فيه الضمير أن متأسفاً عليهم ، ويجوز حملُ النظمِ الكريم على الاستعارة التبعيةِ بجعل التشبيهِ بين أجزاءِ الطرفين لا بين الهيئتين المنتزَعتين منهما كما في التمثيل ، وقد مر تحقيقُه في تفسير قوله تعالى : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ } { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض } استئنافٌ وتعليلٌ لما في لعل من معنى الإشفاقِ ، أي إنا جعلنا ما عليها ممن عدا مَنْ وُجّه إليه التكليفُ من الزخارف حيواناً كان أو نباتاً أو معدِناً كقوله تعالى : { هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض جَمِيعاً } { زِينَةُ } مفعولٌ ثانٍ للجعل إن حُمل على معنى التصييرِ أو حالٌ إن حمل على معنى الإبداعِ ، واللام في { لَهَا } إما متعلقةٌ بزينةً أو بمحذوف هو صفةٌ لها أي كائنةً لها أي ليتمتع بها الناظرون من المكلفين وينتفعوا بها نظراً واستدلالاً ، فإن الحياتِ والعقاربَ من حيث تذكيرُهما لعذاب الآخرة من قبيل المنافِع بل كلُّ حادثٍ داخلٌ تحت الزينة من حيث دَلالتُه على وجود الصانعِ ووَحدتِه فإن الأزواجَ والأولادَ أيضاً من زينة الحياةِ الدنيا بل أعظمُها ولا يمنع ذلك كونُهم من جملة المكلفين فإنهم من جهة انتسابهم إلى أصحابهم داخلون تحت الزينةِ ومن جهة كونهم مكلفين داخلون تحت الابتلاء .
{ لِنَبْلُوَهُمْ } متعلقٌ بجعلنا أي جعلنا ما جعلنا لنعاملَهم معاملةَ من يختبرهم { أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } فنجازيهم بالثواب والعقابِ حسبما تبين المحسنُ من المسيء وامتازت طبقاتُ أفرادِ كلَ من الفريقين حسب امتيازِ مراتبِ علومِهم المرتبة على أنظارهم وتفاوتِ درجاتِ أعمالِهم المتفرّعةِ على ذلك كما قررناه في مطلع سورة هود ، وأيُّ إما استفهاميةٌ مرفوعةٌ بالابتداء وأحسنُ خبرُها والجملةُ في محل النصبِ معلِّقةٌ لفعل البلوى لما فيه من معنى العلمِ باعتبار عاقبتِه كالسؤال والنظرِ ، ولذلك أجريَ مَجراه بطريق التمثيلِ أو الاستعارةِ التبعية ، وإما موصولةٌ بمعنى الذي وأحسنُ خبرٌ لمبتدأ مضمر ، والجملةُ صلةٌ لها وهي في حيز النصبِ بدلٌ من مفعول لنبلوَهم والتقديرُ لنبلوَ الذي هو أحسنُ عملاً فحينئذ يحتمل أن تكون الضمةُ في أيُّهم للبناء كما في قوله عز وجل : { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً } على أحد الأقوالِ لتحقق شرط البناءِ الذي هو الإضافةُ لفظاً وحذفُ صدرِ الصلةِ وأن تكون للإعراب لأن ما ذكر شرطٌ لجواز البناءِ لا لوجوبه ، وحُسنُ العملِ الزهدُ فيها وعدمُ الاغترار بها والقناعةُ باليسير منها وصرفُها على ما ينبغي والتأملُ في شأنها وجعلُها ذريعةً إلى معرفة خالقِها والتمتعُ بها حسبما أذِن له الشرعُ وأداءُ حقوقها والشكرُ لها ، لا اتخاذُها وسيلةً إلى الشهوات والأغراضِ الفاسدة كما يفعله الكفرةُ وأصحابُ الأهواء .(4/236)
وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
{ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ } فيما سيأتي عند تناهي عُمرِ الدنيا { مَا عَلَيْهَا } من المخلوقات قاطبةً بإفنائها بالكلية وإنما أُظهر في مقام الإضمارِ لزيادة التقريرِ أو لإدراج المكلفين فيه { صَعِيداً } مفعولٌ ثانٍ للجعل ، والصعيدُ الترابُ أو وجهُ الأرضِ ، قال أبو عبيدةَ : هو المستوي من الأرض ، وقال الزجاجُ : هو الطريقُ الذي لا نبات فيه { جُرُزاً } تراباً لا نباتَ فيه بعد ما كان يَتعجَّب من بهجته النُّظارُ وتتشرف بمشاهدته الأبصارُ ، يقال : أرضٌ جرُزٌ لا نباتَ فيها وسَنةٌ جرُزٌ لا مطر فيها . قال الفراء : جُرِزَت الأرضُ فهي مجرُوزة أي ذهب نباتُها بقحط أو جراد ، ويقال : جرَزها الجرادُ والشاةُ والإبلُ إذا أكلت ما عليها ، وهذه الجملةُ لتكميل ما في السابقة من التعليل ، والمعنى لا تحزنْ بما عاينْتَ من القوم من تكذيب ما أنزلنا عليك من الكتاب فإنا قد جعلنا ما على الأرض من فنون الأشياءِ زينةً لها لنختبرَ أعمالَهم فنجازِيَهم بحسبها وإنا لَمُفْنون جميعَ ذلك عن قريب ومجازون لهم بحسب أعمالهم .
{ أَمْ حَسِبْتَ } الخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمرادُ إنكارُ حُسبانِ أمّته ، وأم منقطعةٌ مقدّرة ببل التي هي للانتقال من حديث إلى حديث لا للإبطال ، وبهمزة الاستئنافِ عند الجمهور وببل وحدها عند غيرِهم أي بل أحسبت { أَنَّ أصحاب الكهف والرقيم كَانُواْ } في بقائهم على الحياة مدةً طويلةً من الدهر { مِنْ ءاياتنا } من بين آياتِنا التي من جملتها ما ذكرناه مِنْ جعْل ما على الأرض زينةً لها للحكمة المشارِ إليها ثم جعلِ ذلك كلِّه صعيداً جرُزاً كأن لم تغْنَ بالأمس { عَجَبًا } أي آيةً ذاتَ عجَبٍ وضْعاً له موضعَ المضاف أو وصفاً لذلك بالمصدر مبالغةً ، وهو خبرٌ لكانوا ومن آياتنا حالٌ منه ، والمعنى أن قصّتَهم وإن كانت خارقةً للعادات ليست بعجيبة بالنسبة إلى سائر الآياتِ التي من جملتها ما ذكر من تعاجيب خلق الله تعالى بل هي عندها كالنزْر الحقير ، والكهفُ الغارُ الواسعُ في الجبل والرقيمُ كلبُهم ، قال أمية بن أبي الصَّلت
وليس بها إلا الرقيمُ مجاورا ... وصيدُهمُ والقومُ في الكهف هُمَّدُ
وقيل : هو لوحٌ رصاصيٌّ أو حجَري رُقمت فيه أسماؤُهم وجُعل على باب الكهفِ ، وقيل : هو الوادي الذي فيه الكهفُ فهو من رَقْمة الوادي أي جانبِه ، وقيل : الجبلُ ، وقيل : قريتُهم ، وقيل : مكانُهم بين غضبانَ وأيْلةَ دون فلسطين ، وقيل : أصحابُ الرقيم آخرون وكانوا ثلاثةً انطبق عليهم الغارُ فنجَوْا بذكر كلَ منهم أحسنَ عمله على ما فُضِّل في الصحيحين .(4/237)
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
{ إِذْ أَوَى } ظرفٌ لعجباً لا لحسِبتَ أو مفعولٌ لاذكرُ أي حين التجأ { الفتية } أي أصحابُ الكهف ، أوثر الإظهارُ على الإضمار لتحقيق ما كانوا عليه في أنفسهم من حال الفتوةِ فإنهم كانوا فتيةً من أشراف الرومِ أرادهم دقيانوسُ على الشرك فهربوا منه بدينهم ولأن صاحبيّةَ الكهف من فروع التجائِهم إلى الكهف فلا يناسب اعتبارُها معهم قبل بيانه { إِلَى الكهف } بجلبهم للجلوس واتخذوه مأوى { فَقَالُواْ رَبَّنَا ءاتِنَا مِن لَّدُنكَ } من خزائن رحمتِك الخاصةِ المكنونةِ عن عيون أهلِ العادات ، فمن ابتدائيةٌ متعلقةٌ بآتنا أو بمحذوف وقع حالاً من مفعوله الثاني قُدّمت عليه لكونه نكرةً ، ولو تأخّرت لكانت صفةً له أي آتنا كائنةً من لدنك { رَحْمَةً } خاصةً تستوجب المغفرةَ والرزقَ والأمنَ من الأعداء { وَهَيّىء لَنَا مِنْ أَمْرِنَا } الذي نحن عليه من مهاجَرة الكفارِ والمثابرة على طاعتك ، وأصلُ التهيئةِ إحداثُ هيئةِ الشيء ، أي أصلحْ ورتِّب وأتممْ لنا من أمرنا { رَشَدًا } إصابةً للطريق الموصلِ إلى المطلوب واهتداءً إليه ، وكِلا الجارّين متعلقٌ بهيِّىءْ لاختلافهما في المعنى ، وتقديمُ المجرورَين على المعفول الصريحِ لإظهار الاعتناءِ بهما وإبرازِ الرغبةِ في المؤخر بتقديم أحوالِه فإن تأخيرَ ما حقُّه التقديمُ عما هو من أحواله المرغّبة فيه كما يورث شوقَ السامعِ إلى وروده ينبىء عن كمال رغبةِ المتكلّم واعتنائِه بحصوله لا محالة ، وكذا الكلامُ في تقديم قوله تعالى : { مِن لَّدُنْكَ } على تقدير تعلّقِه بآتنا ، وتقديمُ لنا على ( من أمرنا ) للإيذان من أول الأمرِ بكون المسؤول مرغوباً فيه لديهم ، أو اجعل أمرَنا راشداً كلَّه على أن من تجريديةٌ مثلُها في قولك : رأيتُ منك أسداً .
{ فَضَرَبْنَا على ءاذَانِهِمْ } أي أَنَمناهم على طريقة التمثيل المبنيِّ على تشبيه الإنامةِ الثقيلةِ المانعةِ عن وصول الأصواتِ إلى الآذان بضرب الحجابِ عليها ، وتخصيصُ الآذان بالذكر مع اشتراك سائرِ المشاعرِ لها في الحجْب عن الشعور عند النومِ لما أنها المحتاجُ إلى الحجب عادة ، إذ هي الطريقةُ للتيقظ غالباً لا سيما عند انفرادِ النائم واعتزالِه عن الخلق ، وقيل : الضربُ على الآذان كنايةٌ عن الإنامة الثقيلةِ ، وحملُه على تعطيلها كما في قولهم : ضرب الأميرُ على يد الرعيةِ أي منعهم من التصرف مع عدم ملاءمتِه لما سيأتي من البعث لا يدل على النوع مع أنه المرادُ قطعاً ، والفاء في فضربنا كما في قوله عز وجل : { فاستجبنا لَهُ } بعد قوله تعالى : { إِذْ نادى } فإن الضربَ المذكور وما ترتب عليه من التقليب ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال والبعثِ وغيرِ ذلك إيتاءُ رحمةً لدنيّةٍ خافيةٍ عن أبصار المتمسكين بالأسباب العادية استجابةً لدعوتهم { فِى الكهف } ظرف مكان لضربنا { سِنِينَ } ظرفُ زمان له باعتبار بقائِه لا ابتدائِه { عَدَدًا } أي ذواتَ عدد أو تُعدّ عدداً على أنه مصدرٌ أو معدودةً على أنه بمعنى المفعول ، ووصفُ السنين بذلك إما للتكثير وهو الأنسبُ بإظهار كمالِ القدرةِ أو للتقليل وهو الأليقُ بمقام إنكارِ كون القصةِ عجباً من بين سائر الآياتِ العجيبة فإن مدة لُبثهم كبعض يومٍ عنده عز وجل .(4/238)
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
{ ثُمَّ بعثناهم } أي أيقظناهم من تلك النومةِ الثقيلة الشبيهة بالموت { لَنَعْلَمُ } بنون العظمة ، وقرىء بالياء مبنياً للفاعل بطريق الالتفاتِ ، وأياً ما كان فهو غايةٌ للبعث لكن لا بجعل العلمِ مجازاً من الإظهار والتمييز ، أو بحمله على ما يصِح وقوعُه غايةً للبعث الحادثِ من العلم الحالي الذي يتعلق به الجزاءُ كما في قوله تعالى : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ } وقوله تعالى : { وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءامَنُواْ } ونظائِرهما التي يتحقق فيها العلمُ بتحقق متعلقِه قطعاً ، فإن تحويلَ القِبلة قد ترتب عليه تحزّبُ الناس إلى متّبعٍ ومنقلب ، وكذا مداولةُ الأيامِ بين الناس ترتب عليه تحزّبُهم إلى الثابت على الإيمان والمتزلزلِ فيه وتعلق بكل من الفريقين العلمُ الحالي والإظهارُ والتمييزُ ، وأما بعثُ هؤلاء فلم يترتب عليه تفرقُهم إلى المَحْصيِّ وغيره حتى يتعلق بهما العلم أو الإظهارُ والتمييزُ ويتسنى نظمُ شيء من ذلك في سلك الغاية ، وإنما الذي ترتب عليه تفرقُهم إلى مقدِّر تقديراً غيرَ مصيب ومفوِّض إلى العلم الرباني وليس شيءٌ منهما من الإحصاء في شيء بل بحمل النظمِ الكريم على التمثيل المبنيِّ على جعل العلمِ عبارةً عن الاختبار مجازاً بطريق إطلاقِ اسمِ المسبَّب على السبب ، وليس من ضرورة الاختبارِ صدورُ الفعل المختبَرِ به عن المختبَرِ قطعاً ، بل قد يكون لإظهار عجزِه عنه على سنن التكاليفِ التعجيزيةِ كقوله تعالى : { فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب } وهو المرادُ هاهنا فالمعنى بعثناهم لنعاملهم معاملةَ من يختبرهم .
{ أَيُّ الحِزْبَيْنِ } أي الفريقين المختلفَين في مدة لُبثهم بالتقدير والتفويض كما سيأتي { أحصى } أي أضبط { لِمَا لَبِثُواْ } أي للبثهم { أَمَدًا } أي غايةً فيظهر لهم عجزُهم ويفوضوا ذلك إلى العليم الخبير ويتعرفوا حالَهم وما صنع الله تعالى بهم من حفظ أبدانِهم وأديانِهم فيزدادوا يقيناً بكمال قدرتِه وعلمِه ويستبصروا به أمرَ البعث ويكون ذلك لطفاً لمؤمني زمانِهم وآيةً بينة لكفارهم ، وقد اقتُصر هاهنا من تلك الغايات الجليلةِ على ذكر مبدئِها الصادرِ عنه عز وجل وفيما سيأتي على ما صدر عنهم من التساؤل المؤدّي إليها ، وهذا أولى من تصوير التمثيلِ بأن يقال : بعثناهم بعْثَ من يريد أن يعلم الخ حسبما وقع في تفسير قوله تعالى : { وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءامَنُواْ } على أحد الوجوهِ حيث حُمل على معنى فعلنا ذلك فِعْلَ مَن يريد أن يعلم مَن الثابتُ على الإيمان من غير الثابت ، إذ ربما يتوهم منه استلزامُ الإرادةِ لتحقق المراد ، فيعود المحذورُ فيصار إلى جعل إرادةِ العلم عبارةً عن الاختبار فاختبر واختر .
هذا وقد قرىء ليُعْلِمَ مبنياً للمفعول ومبنياً للفاعل من الإعلام على أن المفعولَ الأولَ محذوفٌ والجملة المصدرةُ بأي في موقع المفعولِ الثاني فقط إن جعل العلمُ عِرفانياً ، وفي موقع المفعولين إن جعل يقينياً أي ليُعلِمَ الله الناسَ أيَّ الحزبين أحصى الخ ، وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أحدَ الحزبين الفتيةُ والآخرَ الملوكُ الذين تداولوا المدينةَ مُلكاً بعد ملك ، وقيل : كلاهما من غيرهم والأولُ هو الأظهر ، فإن اللامَ للعهد ولا عهدَ لغيرهم والأمدُ بمعنى المدى كالغاية في قولهم : ابتداءُ الغاية وانتهاءُ الغاية وهو مفعولٌ لأحصي ، والجارُّ والمجرور حالٌ منه قدمت عليه لكونه نكرةً .(4/239)
وليس معنى إحصاءِ تلك المدةِ ضبطَها من حيث كميتُها المتصلةُ الذاتيةُ فإنه لا يسمى إحصاءً بل ضبطَها من حيث كميتُها المنفصلةُ العارضةُ لها باعتبار قسمتِها إلى السنينَ وبلوغها من تلك الحيثيةِ إلى مراتبِ الأعداد على ما يرشدك إليه كونُ تلك المدة عبارةً عما سبق من السنين .
ويجوز أن يراد بالأمد معناه الوضعيُّ بتقدير المضافِ أي لزمان لُبثِهم وبدونه أيضاً فإن الُلبثَ عبارةٌ عن الكون المستمرِّ المنطبق على الزمان المذكورِ فباعتبار الامتدادِ العارضِ له بسببه يكون له أمدٌ لا محالة ، لكن ليس المرادُ به ما يقع عليهم غايةً ومنتهًى لذلك الكونِ المستمرِّ باعتبار كميتِه المتصلةِ العارضةِ له بسبب انطباقِه على الزمان الممتدِّ بالذات وهو آنُ انبعاثِهم من نومهم فإن معرفتَه من تلك الحيثيةِ لا تخفى على أحد ولا تسمّى إحصاءً كما مر ، بل باعتبار كميّتِه المنفصلةِ معارضةً له بسبب عروضِها لزمانه المنطبقِ هو عليه باعتبار انقسامِه إلى السنين ووصولِه إلى مرتبة معينةٍ من مراتب العددِ كما حقق في الصورة الأولى ، والفرقُ بين الاعتبارين أن ما تعلق به الإحصاءُ في الصورة السابقةِ نفسُ المدة المنقسمةِ إلى السنين فهو مجموعُ ثلاثِمائةٍ وتسعِ سنين ، وفي الصورة الأخيرةِ منتهى تلك المدةِ المنقسمةِ إليها أعني السنةَ التاسعةَ بعد الثلاثِمائةِ ، وتعلقُ الإحصاءِ بالأمد بالمعنى الأول ظاهرٌ ، وأما تعلقُه به بالمعنى الثاني فباعتبار انتظامِه لما تحته من مراتب العددِ واشتمالِه عليها . هذا تقديرُ كون «ما» في قوله تعالى : { لِمَا لَبِثُواْ } مصدريةً ويجوز أن تكون موصولةً حُذف عائدُها من الصلة أي للذي لبثوا فيه من الزمان الذي عبّر عنه فيما قبل بسنينَ عدداً ، فالأمدُ بمعناه الوضعيِّ على ما تحققْتَه ، وقيل : اللامُ مزيدةٌ والموصولُ مفعولٌ وأمداً نصبٌ على التمييز ، وأما ما قيل من أنّ أحصى اسمُ تفضيل لأنه الموافقُ لما وقع في سائر الآيات الكريمةِ نحوُ : { أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } إلى غير ذلك مما لا يحصى ولأن كونَه فعلاً ماضياً يُشعر بأن غايةَ البعث هو العلمُ بالإحصاء المتقدمِ على البعث لا بالإحصاء المتأخرِ عنه وليس كذلك ، وادعاءُ أن مجيءَ أفعلِ التفضيلِ من المزيد عليه غيرُ قياسي مدفوعٌ بأنه عند سيبويهِ قياسٌ مطلقاً ، وعند ابن عصفورٍ فيما ليست همزتُه للنقل ولا ريب في أن ما نحن فيه من ذلك القبيلِ ، وامتناعُ عمله إنما هو في غير التمييز من المعمولات ، وأما أن التمييزَ يجب كونُه فاعلاً في المعنى فلمانعٍ أن يمنعَه بصحة أن يقال : أيُّهم أحفظُ لهذا الشعر وزناً أو تقطيعاً ، أو يقالَ : إن العاملَ في أمداً فعلٌ محذوفٌ يدل عليه المذكورُ أي يُحصي لما لبثوا أمداً كما في قوله(4/240)
وأضرَبُ منا بالسيوف القوانسا ... وحديثُ الوقوع في المحذور بلا فائدة مدفوعٌ بما أشير إليه من فائدة الموافقةِ للنظائر ، فمع ما فيه من الاعتسافِ والخللِ بمعزل من السَّداد لأن مؤداه أن يكون المقصودُ بالاختبار إظهارَ أفضلِ الحزبين وتمييزَه عن الأدنى مع تحقق أصلِ الإحصاء فيهما ، ومن البيّن أن لا تحقُّقَ له أصلاً وأن المقصودَ بالاختبار إظهارُ عجزِ الكلِّ عنه رأساً فهو فعل ماضٍ قطعاً ، وتوهُم إيذانِه بأن غايةَ البعثِ هو العلمُ بالإحصاء المتقدمِ عليه مردودٌ بأن صيغةَ الماضي باعتبار حالِ الحكايةِ والله تعالى أعلم .(4/241)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ } شروعٌ في تفصيل ما أُجمل فيما سلف من قوله تعالى : { إِذْ أَوَى الفتية } الخ ، أي نحن نخبرك بتفاصيل أخبارِهم وقد مر بيانُ اشتقاقِه في مطلع سورة يوسفَ عليه السلام { نبَأَهُم } النبأُ الخبرُ الذي له شأنٌ وخطرٌ { بالحق } إما صفةٌ لمصدر محذوف أو حالٌ من صمير نقصّ أو من ( نبأَهم ) أو صفةٌ له على رأي من يرى حذفَ الموصولِ مع بعض صلتِه ، أي نقصّ قَصصاً ملتبساً بالحق أو نقصّه ملتبسين به أو نقص نبأهم ملتبساً به أو نبأهم الملتبسَ به ، ونبأهم حسبما ذكره محمدُ بن إسحاقَ بنِ يسارَ أنه مرَج أهلُ الإنجيل وعظُمت فيهم الخطايا وطغت ملوكُهم فعبدوا الأصنامَ وذبحوا للطواغيت ، وكان ممن بالغ في ذلك وعتا عتوًّا كبيراً دقيانوس فإنه غلا فيه غلوًّا شديداً فجاس خلالَ الديار والبلاد بالعبث والفسادِ وقتل مَنْ خالفه من المتمسكين بدين المسيحِ عليه السلام ، وكان يتبع الناسَ فيخيّرهم بين القتل وعبادةِ الأوثانِ فمن رغِب في الحياة الدنيا الدنية يصنع ما يصنع ومن آثر عليها الحياةَ الأبديةَ قتله وقطع آرابه وعلقها في سور المدينةِ وأبوابِها ، فلما رأى الفتيةُ ذلك وكانوا عظماءَ أهلِ مدينتهم ، وقيل : كانوا من خواصّ الملك ، قاموا فتضرعوا إلى الله عز وجل واشتغلوا بالصلاة والدعاء .
فبينما هم كذلك إذ دخل عليهم أعوانُ الجبار فأحضروهم بين يديه فقال لهم ما قال وخيّرهم بين القتل وبين عبادةِ الأوثان ، فقالوا : إن لنا إلها ملأ السمواتِ والأرضَ عظمتُه وجبروتُه لن ندعوَ من دونه أحداً ، ولن نُقِرّ بما تدعونا إليه إبداً فاقضِ ما أنت قاضٍ ، فأمر بنزع ما عليهم من الثياب الفاخرةِ وأخرجهم من عنده وخرج هو إلى مدينة نينوى لبعض شأنِه وأمهلهم إلى رجوعه ليتأملوا في أمرهم فإن تبِعوه وإلا فعل بهم ما فعل بسائر المسلمين ، فأزمعت الفتيةُ على الفرار بالدين والالتجاء إلى الكهف الحصين ، فأخذ كل منهم من بيت أبيه شيئاً فتصدّقوا ببعضه وتزوّدوا بالباقي فأوَوا إلى الكهف فجعلوا يصلّون فيه آناءَ الليل وأطرافَ النهار ويبتهلون إلى الله سبحانه بالأنين والجُؤار وفوّضوا أمرَ نفقتِهم إلى يمليخا ، فكان إذا أصبح يضع عنه ثيابَه الحِسانَ ويلبس لباس المساكين ويدخُل المدينة ويشتري ما يُهمّهم ويتحسس ما فيها من الأخبار ويعود إلى أصحابه ، فلبِثوا على ذلك إلى أن قدم الجبارُ المدينةَ فطلبهم وأحضر آباءَهم فاعتذروا بأنهم عصَوْهم ونبهوا أموالَهم وبذروها في الأسواق وفرّوا إلى الجبل ، فلما رأى يمليخا ما رأى من الشر رجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه قليلٌ من الزاد فأخبرهم بما شهده من الهول ففزِعوا إلى الله عز وجل وخرّوا له سُجّداً ثم رفعوا رؤوسهم وجلسوا يتحدثون في أمرهم ، فبينما هم كذلك إذ ضرب الله تعالى على آذانهم فناموا ونفقتُهم عند رؤوسهم ، فخرج دقيانوس في طلبهم بخيله ورَجِلِه فوجدوهم قد دخلوا الكهفَ فأمر بإخراجهم فلم يُطِق أحدٌ أن يدخله فلما ضاق بهم ذرعاً قال قائل منهم : أليس لو كنتَ قدَرتَ عليهم قتلتَهم؟ قال : بلى ، قال : فابْنِ عليهم باب الكهف ودعهم يموتوا جوعاً وعطشاً وليكن كهفُهم قبراً لهم ، ففعل ثم كان من شأنهم ما قص الله عز وجل عنهم { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ } استئنافٌ تحقيقيٌّ مبني على تقدير السؤالِ من قبل المخاطَب ، والفتيةُ جمعُ قلة للفتى كالصبية للصبى { ءَامَنُواْ بِرَبّهِمْ } أوثر الالتفاتُ للإشعار بعلّية وصفِ الربوبية لإيمانهم ولمراعاة ما صدر عنهم من المقالة حسبما سيُحكى عنهم { وزدناهم هُدًى } بأن ثبتناهم على ما كانوا عليه من الدين وأظهرنا لهم مكنوناتِ محاسنِه ، وفيه التفاتٌ من الغيبة إلى ما عليه سبكُ النظمِ سباقاً وسياقاً من التكلم .(4/242)
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
{ وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ } أي قويناها حتى اقتحموا مضايقَ الصبر على هجر الأهلِ والأوطانِ والنعيم والإخوانِ ، واجترأوا على الصدْع بالحق من غير خوف ، وحذِروا الردَّ على دقيانوسَ الجبار { إِذْ قَامُواْ } منصوبٌ بربطنا والمرادُ بقيامهم انتصابُهم لإظهار شعارِ الدين ، قال مجاهد : خرجوا من المدينة فاجتمعوا على غير ميعادٍ ، فقال أكبرُهم : إني لأجد في نفسي شيئاً أن ربي ربُّ السمواتِ والأرض ، فقالوا : نحن أيضاً كذلك فقاموا جميعاً { فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السموات والأرض } ضمّنوا دعواهم ما يحقق فحواها ويقضي بمقتضاها فإن ربوبيتَه عز وجل لهما تقتضي ربوبيتَه لما فيهما أيَّ اقتضاءٍ ، وقيل : المراد قيامُهم بين يدي الجبارِ من غير مبالاةٍ به حين عاتبهم على ترك عبادةِ الأصنام ، فحينئذ يكون ما سيأتي من قوله تعالى : { هَؤُلاء } الخ ، منقطعاً عما قبله صادراً عنهم بعد خروجِهم من عنده { لَن نَّدْعُوَاْ } لن نعبدَ أبداً { مِن دُونِهِ إلها } معبوداً آخرَ لا استقلالاً ولا اشتراكاً ، والعدولُ عن أن يقال : ربًّا للتنصيص على رد المخالفين حيث كانوا يسمون أصنامَهم آلهةً وللإشعار بأن مدارَ العبادة وصفُ الألوهية وللإيذان بأن ربوبيتَه تعالى بطريق الألوهيةِ لا بطريق المالكية المجازية { لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا } أي قولاً ذا شططٍ أي تجاوزَ عن الحد أو قولاً هو عينُ الشطط ، على أنه وُصفَ بالمصدر مبالغةً ثم اقتُصر على الوصف مبالغةً على مبالغة ، وحيث كانت العبادةُ مستلزِمةً للقول لما أنها لا تَعرَى عن الاعتراف بألوهية المعبودِ والتضرّعِ إليه قيل : لقد قلنا ، وإذاً جوابٌ وجزاءٌ أي لو دعَونا من دونه إلها والله لقد قلنا قولاً خارجاً عن حد العقولِ مُفْرِطاً في الظلم .
{ هَؤُلاء } هو مبتدأ وفي اسم الإشارةِ تحقيرٌ لهم { قَوْمُنَا } عطفُ بيانٍ له { اتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً } خبرُه وفيه معنى الإنكار { لَّوْلاَ يَأْتُونَ } تخصيصٌ فيه معنى الإنكارِ والتعجيزِ أي هلا يأتون { عَلَيْهِمْ } على ألوهيتهم أو على صحة اتخاذِهم لها آلهةً { بسلطان بَيّنٍ } بحجة ظاهرةِ الدلالةِ على مُدّعاهم وهو تبكيتٌ لهم وإلقامُ حجرٍ { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا } بنسبة الشريكِ إليه تعالى عن ذلك علواً كبيراً ، والمعنى أنه أظلمُ من كل ظالمٍ ، وإن كان سبكُ النظمِ على إنكار الأظلميةِ من غير تعرضٍ لإنكار المساواة كما مر تحقيقه في سورة هود .(4/243)
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
{ وَإِذِ اعتزلتموهم } أي فارقتموهم في الاعتقاد أو أردتم الاعتزالَ الجُسمانيَّ { وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ الله } عطفٌ على الضمير المنصوبِ وما موصولةٌ أو مصدريةٌ ، أي إذِ اعتزلتموهم ومعبودِيهم إلا الله أو وعبادتَهم إلا عبادةَ الله وعلى التقديرين فالاستثناءُ متصلٌ على تقدير كونِهم مشركين كأهل مكةَ ، ومنقطعٌ على تقدير تمحضهم في عبادة الأوثان ، ويجوز كونُ ما نافيةً على أنه إخبارٌ من الله تعالى عن الفتية بالتوحيد معترضٌ بين إذْ وجوابِه { فَأْوُواْ } أي التجِئوا { إِلَى الكهف } قال الفراء : هو جوابُ إذ ، كما تقول : إذْ فعلتَ فافعل كذا ، وقيل : هو دليلٌ على جوابه أي إذ اعتزلتموهم اعتزالاً اعتقادياً فاعتزلوهم اعتزالاً جُسمانياً ، أو إذا أردتم اعتزالَهم فافعلوا ذلك بالالتجاء إلى الكهف { يَنْشُرْ لَكُمْ } يبسُطْ لكم ويوسِّعْ عليكم { رَبُّكُمْ } مالكُ أمرِكم { مّن رَّحْمَتِهِ } في الدارين { وَيُهَيّىء لَكُمْ } يسهلْ لكم { مّنْ أَمْرِكُمْ } الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين { مّرْفَقًا } ما ترتفقون وتنتفعون به ، وقرىء بفتح الميم وكسر الفاء مصدراً كالمرِجع ، وتقديمُ لكم في الموضعين لما مر مراراً من الإيذان من أول الأمر بكون المؤخر من منافعهم والتشويقِ إلى وروده .
{ وَتَرَى الشمس } بيانٌ لحالهم بعد ما أَوَوا إلى الكهف ، ولم يصرح به إيذاناً بعدم الحاجةِ إليه لظهور جرَيانِهم على موجب الأمرِ به لكونه صادراً عن رأي صائبٍ وتعويلاً على ما سلف من قوله سبحانه : { إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف } وما لحق من إضافة الكهفِ إليهم وكونِهم في فجوة منه ، والخطابُ للرسول عليه الصلاة والسلام أو لكل أحد ممن يصلُح للخطاب ، وليس المرادُ به الإخبارَ بوقوع الرؤيةِ تحقيقاً بل الإنباءُ بكون الكهفِ بحيث لو رأيته ترى الشمس { إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ } أي تتزاوَر وتتنحّى بحذف إحدى التاءين ، وقرىء بإدغام التاء في الزاي ، وتزورّ كتحمرّ ، وتزْوارّ كتحمار وتزوتر ، وكلها من الزَّوَر وهو الميل { عَن كَهْفِهِمْ } الذي أووا إليه فالإفاضة لأدنى ملابسة { ذَاتَ اليمين } أي جهةَ ذاتِ يمين الكهفِ عند توجه الداخلِ إلى قعره أي جانبه الذي يلي المغرِبَ فلا يقع عليهم شعاعُها فيؤذيهم { وَإِذَا غَرَبَت } أي تراها عند غروبها { تَّقْرِضُهُمْ } أي تقطَعهم من القطيعة والصَّرْم ولا تقربهم { ذَاتَ الشمال } أي جهةَ ذاتِ شمال الكهف أي جانبه الذي يلي المشرِق ، وكان ذلك بتصريف الله سبحانه على منهاج خرقِ العادةِ كرامةً لهم ، وقوله تعالى : { وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مّنْهُ } جملةٌ حالية مبينةٌ لكون ذلك أمراً بديعاً أي تراها تميل عنهم يميناً وشمالاً ولا تحوم حولهم مع أنهم في متّسع من الكهف معرَّضٍ لإصابتها لولا أن صرفتْها عنهم يدُ التقدير .
{ ذلك } أي ما صنع الله بهم من تزاوُر الشمسِ وقَرْضِها حالتي الطلوعِ والغروب مع كونهم في موقع شعاعِها { مِنْ آيات الله } العجيبةِ الدالةِ على كمال علمِه وقدرتِه وحقية التوحيدِ وكرامةِ أهله عنده سبحانه وتعالى .(4/244)
وهذا قبل أن سد دقيانوسُ بابَ الكهف شمالياً مستقبلَ بناتِ نْعشٍ ، وأقربُ المشارقِ والمغاربِ إلى محاذاته رأسُ مشرِق السرَطان ومغربِه ، والشمسُ إذا كان مدارُها مدارَه تطلُع مائلةً عنه مقابلةً لجانبه الأيمنِ وهو الذي يلي المغربَ ، وتغرُب محاذيةً لجانبه الأيسرِ فيقع شعاعُها على جنبيه وتحلّل عفونتَه وتعدّل هواءه ولا يقع عليهم فيؤذي أجسادَهم ويُبْلي ثيابَهم ، ولعل ميلَ الباب إلى جانب الغرب كان أكثر ولذلك أوقع التزاورَ على كهفهم والقرضَ على أنفسهم ، فذلك حينئذ إشارةٌ إلى إيوائهم إلى كهف هذا شأنُه ، وأما جعلُه إشارةً إلى حفظ الله سبحانه إياهم في ذلك الكهفِ تلك المدةَ الطويلةَ أو إلى إطلاعه سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم على أخبارهم فلا يساعده إيرادُه في تضاعيف القصة { مَن يَهْدِ الله } إلى الحق بالتوفيق له { فَهُوَ المهتد } الذي أصاب الفلاحَ ، والمرادُ إما الثناءُ عليهم والشهادةُ لهم بإصابة المطلوبِ والإخبارُ بتحقيق ما أمّلوه من نشر الرحمةِ وتهيئةِ المرافق ، أو التنبيهُ على أن أمثالَ هذه الآيةِ كثيرةٌ ولكن المنتفعَ بها من وفقه الله تعالى للاستبصار بها { وَمَن يُضْلِلِ } أي يخلق فيه الضلالَ لصرف اختيارِه إليه { فَلَن تَجِدَ لَهُ } أبداً وإن بالغتَ في التتبع والاستقصاء { وَلِيّاً } ناصراً { مُّرْشِدًا } يهديه إلى ما ذكر من الفلاح لاستحالة وجودِه في نفسه ، لا لأنك لا تجده مع وجوده أو إمكانه .(4/245)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
{ وَتَحْسَبُهُمْ } بفتح السين وقرىء بكسرها أيضاً ، والخطابُ فيه كما سبق { أَيْقَاظًا } جمع يَقظ بكسر القاف وفتحها وهو اليقظانُ ، ومدارُ الحسبانِ انفتاحُ عيونِهم على هيئة الناظرِ ، وقيل : كثرةُ تقلّبهم ، ولا يلائمه قوله تعالى : { وَنُقَلّبُهُمْ } { وَهُمْ رُقُودٌ } أي نيام ، وهو تقريرٌ لما لم يُذْكَر فيما سلف اعتماداً على ذكره السابقِ من الضرب على آذانهم { وَنُقَلّبُهُمْ } في رقدتهم { ذَاتَ اليمين } نصبٌ على الظرفية أي جهةً تلي أَيمانهم { وَذَاتَ الشمال } أي جهةً تلي شمالَهم كيلا تأكلَ الأرضُ ما يليها من أبدانهم . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لو لم يقلّبوا لأكلتْهم الأرضُ ، قيل : لهم تقليبتان في السنة . وقيل : تقليبةٌ واحدةٌ يوم عاشوراءَ ، وقيل : في كل تسع سنين ، وقرىء يقلبهم على الإسناد إلى ضمير الجلالة ، وتقَلُّبَهم على المصدر منصوباً بمضمر ينبىء عنه وتحسبهم أي وترى تقلّبَهم { وَكَلْبُهُمْ } قيل : هو كلبٌ مروا به فتبعهم فطردوه مراراً فلم يرجِع فأنطقه الله تعالى فقال : لا تخشَوا جانبي فإني أحب أحباءَ الله تعالى فناموا حتى أحرُسَكم ، وقيل : هو كلبُ راعٍ قد تبعهم على دينهم ويؤيده قراءة كالبُهم إذ الظاهرُ لحوقُه بهم ، وقيل : هو كلبُ صيد أحدِهم أو زرعِه أو غنمِه ، واختلف في لونه فقيل : كان أنمرَ ، وقيل : أصفرَ ، وقيل : أصهبَ ، وقيل : غير ذلك ، وقيل : كان اسمُه قطمير ، وقيل : ريان ، وقيل : تتوه ، وقيل : قطمور ، وقيل : ثور . قال خالدُ بنُ مَعْدان : ليس في الجنة من الدواب إلا كلبُ أصحابِ الكهف وحمارُ بلعم ، وقيل : لم يكن ذلك من جنس الكلاب بل كان أسداً { باسط ذِرَاعَيْهِ } حكايةُ حالٍ ماضية ولذلك أُعمل اسمُ الفاعل وعند الكسائي ، وهشام ، وأبي جعفر ، من البصريين يجوز إعمالُه مطلقاً ، والذراعُ من المرفق إلى رأس الأُصبَعِ الوسطى { بالوصيد } أي بموضع الباب من الكهف { لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ } أي لو عاينتَهم وشاهدتَهم ، وأصلُ الاطّلاع الإشرافُ على الشيء بالمعاينة والمشاهدة ، وقرىء بضم الواو .
{ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا } هرباً مما شاهدتَ منهم ، وهو إما نصبٌ على المصدرية من معنى ما قبله إذ التوليةُ والفِرارُ من واد واحدٍ وإما على الحالية بجعل المصدرِ بمعنى الفاعل أي فارًّا ، أو بجعل الفاعلِ مصدراً مبالغة كما في قوله
فإنما هيَ إقبالٌ وإدبارُ ... وإما على أنه مفعولٌ له { وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا } وقرىء بضم العين أي خوفاً يملأ الصدرَ ويُرعِبه ، وهو إما مفعولٌ ثانٍ أو تمييز ، ذلك لما ألبسهم الله عز وجل من الهيبة والهيئةِ كانت أعينُهم مفتّحةً كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم ، وقيل : لطول أظفارِهم وشعورِهم ولا يساعده قولُهم : { لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } وقوله : { وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا } فإن الظاهرَ من ذلك عدمُ اختلافِ أحوالِهم في أنفسهم ، وقيل : لعِظم أجرامِهم ، ولعل تأخيرَ هذا عن ذكر التوليةِ للإيذان باستقلال كلَ منهما في الترتب على الاطلاع ، إذ لو رُوعيَ ترتيبُ الوجودِ لتبادر إلى الفهم ترتبُ المجموعِ من حيث هو عليه وللإشعار بعدم زوالِ الرعبِ بالفرار كما هو المعتادُ .(4/246)
وعن معاوية ( لما غزا الروم فمرّ بالكهف ، قال : لو كشفتَ لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم ، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما : ليس لك ذلك قد منع الله تعالى من هو خيرٌ منك حيث قال : { لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ } الآية ، قال معاوية : لا أنتهي حتى أعلمَ علمَهم ، فبعث ناساً وقال لهم : اذهبوا فانظُروا ، ففعلوا فلما دخلوا الكهفَ بعث الله تعالى ريحاً فأحرقتْهم ) . وقرىء بتشديد اللام على التكثير وبإبدال الهمزةِ ياءً مع التخفيف والتشديد .(4/247)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
{ وكذلك بعثناهم } أي كما أنمناهم وحفِظنا أجسادَهم من البِلى والتحلّل آيةً دالةً على كمال قدرتِنا بعثناهم من النوم { لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ } أي ليسأل بعضُهم بعضاً فيترتب عليه ما فُصّل من الحِكَم البالغةِ ، وجعلُه غايةً للبعث المعلّل فيما سبق بالاختبار من حيث إنه من أحكامه المترتبةِ عليه والاقتصارُ على ذكره لاستتباعه لسائر آثارِه { قَالَ } استئنافٌ لبيان تساؤلِهم { قَائِلٌ مّنْهُمْ } هو رئيسُهم واسمُه مكسلمينا { كَمْ لَبِثْتُمْ } في منامكم ، لعله قاله لِما رأى من مخالفة حالِهم لما هو المعتادُ في الجملة { قَالُواْ } أي بعضُهم { لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } قيل : إنما قالوه لأنهم دخلوا الكهفَ غُدوةً وكان انتباهُهم آخرَ النهار ، فقالوا : لبثنا يوماً ، فلما رأَوا أن الشمسَ لم تغرُبْ بعْدُ ، قالوا : أو بعضَ يوم ، وكان ذلك بناءً على الظن الغالب فلم يُعْزوا إلى الكذب { قَالُواْ } أي بعضٌ آخرُ منهم بما سنح لهم من الأدلة أو بإلهام من الله سبحانه { رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } أي أنتم لا تعلمون مدة لبثِكم وإنما يعلمها الله سبحانه ، وهذا ردٌّ منهم على الأولين بأجملِ ما يكون من مراعاة حسنِ الأدب وبه يتحقق التحزبُ إلى الحزبين المعهودين فيما سبق ، وقد قيل : القائلون جميعُهم ولكن في حالتين ، ولا يساعده النظمُ الكريم فإن الاستئنافَ في الحكاية والخطابَ في المحكيّ يقضي بأن الكلامَ جارٍ على منهاج المحاورةِ والمجاوبةِ ، وإلا لقيل : ثم قالوا : ربنا أعلمُ بما لبثنا .
{ فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة } قالوه إعراضاً عن التعمق في البحث وإقبالاً على ما يُهمّهم بحسب الحالِ كما ينبىء عنه الفاءُ والورِقُ الفضةُ مضروبةً أو غيرَ مضروبة ، ووصفُها باسم الإشارةِ يُشعر بأن القائلَ ناولها بعضَ أصحابه ليشتريَ بها قوتَ يومِهم ذلك ، وقرىء بسكون الراء وبإدغام القافِ في الكاف وبكسر الواو وبسكون الراء مع الإدغام ، وحملُهم لها دليلٌ على أن التزودَ لا ينافي التوكلَ على الله تعالى { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا } أي أهلِها { أزكى } أحلُّ وأطيبُ أو أكثرُ وأرخصُ { طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مّنْهُ } أي من ذلك الأزكى طعاماً { وَلْيَتَلَطَّفْ } وليتكلّف اللُّطفَ في المعاملة كيلا يُغبَنَ أو في الاستخفاء لئلا يُعرَف { وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا } من أهل المدينةِ فإنه يستدعي شيوعَ أخبارِكم أي لا يفعلنّ ما يؤدّي إلى ذلك ، فالنهيُ على الأول تأسيسٌ وعلى الثاني تأكيدٌ للأمر بالتلطف .(4/248)
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
{ إِنَّهُمْ } تعليلٌ لما سبق من الأمر والنهي أي لِيبالِغْ في التلطف وعدمِ الإشعار لأنهم { إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ } أي يطّلعوا عليكم أو يظفَروا بكم ، والضميرُ للأهل المقدّر في أيُّها { يَرْجُمُوكُمْ } إن ثبتُّم على ما أنتم عليه .
{ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ } أي يصيِّروكم إليها ويُدخلوكم فيها كُرهاً ، من العَوْد بمعنى الصيْرورة كقوله تعالى : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا } وقيل : كانوا أولاً على دينهم ، وإيثارُ كلمةِ في بدل إلى للدِلالة على الاستقرار الذي هو أشدُّ شيءٍ عندهم كراهةً ، وتقديمُ احتمال الإعادةِ لأن الظاهرَ من حالهم هو الثباتُ على الدين المؤدي إليه ، وضميرُ الخطاب في المواضع الأربعةِ للمبالغة في حمل المبعوثِ على الاستخفاء وحثِّ الباقين على الاهتمام بالتوصية ، فإن إمحاضَ النُّصحِ أدخلُ في القَبول واهتمامُ الإنسان بشأن نفسِه أكثرُ وأوفر { وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا } أي إن دخلتم فيها ولو بالكرُه والإلجاء لن تفوزوا بخير { أَبَدًا } لا في الدنيا ولا الآخرة ، وفيه من التشديد في التحذير ما لا يخفى .
{ وكذلك } أي وكما أَنَمناهم وبعثناهم لما مرّ من ازديادهم في مراتب اليقينِ { أَعْثَرْنَا } أي أطلعْنا الناسَ { عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُواْ } أي الذين أعثرناهم عليهم بما عاينوا من أحوالهم العجيبة { إِنَّ وَعْدَ الله } أي وعدَه بالبعث أو موعودَه الذي هو البعثُ أو أن كلَّ وعدِه أوكُلَّ موعودِه فيدخُل فيه وعدُه بالبعث أو مبعثُ الموعودِ دخولاً أولياً { حَقّ } صادقٌ لا خُلْف فيه أو ثابتٌ لا مردَّ له لأن نومَهم وانتباهَهم كحال من يموت ثم يُبعث { وَأَنَّ الساعة } أي القيامةَ التي هي عبارةٌ عن وقت بعثِ الخلائقِ جميعاً للحساب والجزاء { لاَ رَيْبَ فِيهَا } لا شك في قيامها فإن من شاهد أنه جل وعلا توفى نفوسَهم وأمسكها ثلاثُمائة سنة وأكثرَ حافظاً أبدانَها من التحلل والتفتّت ثم أرسلها إليها لا يبقى له شائبةُ شك في أن وعدَه تعالى حقٌّ وأنه يبعث مَنْ في القبور فيرد إليهم أرواحَهم فيحاسبهم ويجزيهم بحسب أعمالِهم { إِذْ يتنازعون } ظرف لقوله : أعثرنا قُدّم عليه الغايةُ إظهاراً لكمال العنايةِ بذكرها ، لا لقوله : ليعلموا كما قيل لدِلالته على أن التنازعَ يحدُث بعد الإعثار وليس كذلك أي أعثرناهم عليهم حين يتنازعون { بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ } ليرتفع الخلافُ ويتبينَ الحقُّ ، قيل : المتنازعُ فيه أمرُ دينهم حيث كانوا مختلفين في البعث فمِن مُقِرّ له وجاحدٍ به وقائلٍ يقول ببعث الأرواحِ دون الأجساد وآخرَ يقول ببعثهما معاً . قيل : كان ملكُ المدينة حينئذ رجلاً صالحاً مؤمناً وقد اختلف أهلُ مملكته في البعث حسبما فُصّل فدخل الملكُ بيتَه وأغلق بابه ولبس مِسْحاً وجلس على رماد وسأل ربه أن يظهر الحقَّ فألقى الله عز وجل في نفس رجل من رعيانهم فهدَم ما سد به دقيانوسُ بابَ الكهف ليتخذه حظيرةً لغنمه فعند ذلك بعثهم الله تعالى فجرى بينهم من التقاول ما جرى .(4/249)
روي أن المبعوثَ لما دخل المدينة أخرج الدرهمَ ليشتريَ به الطعامَ وكان على ضرب دقيانوس ، فاتهموه بأنه وجد كنزاً فذهبوا به إلى الملكِ فقصّ عليه القِصة ، فقال بعضُهم : إن آباءَنا أخبرونا بأن فتيةً فرّوا بدينهم من دقيانوس فلعلهم هؤلاءِ ، فانطلق الملكُ وأهلُ المدينة من مسلم وكافر وأبصروهم وكلّموهم ثم قالت الفتيةُ للملك : نستودعك الله ونعيذك به من شر الإنسِ والجنّ ثم رجعوا إلى مضاجعهم فماتوا ، فألقى الملكُ عليهم ثيابَه وجعل لكل منهم تابوتاً من ذهب ، فرآهم في المنام كارهين الذهب فجعلها من الساج وبنى على باب الكهف مسجداً ، وقيل : لما انتهَوْا إلى الكهف قال لهم الفتى : مكانَكم حتى أدخُل أولاً لئلا يفزَعوا ، فدخل فعمِيَ عليهم المدخلُ فبنَوا ثمةَ مسجداً . وقيل : المتنازعَ فيه أمرُ الفتية قبل بعثهم أي أعثرنا عليهم حين يتذاكرون بينهم أمرَهم وما جرى بينهم وبين دقيانوسَ من الأحوال والأهوالِ ويتلقَّوْن ذلك من الأساطير وأفواهِ الرجال ، وعلى التقديرين فالفاء في قوله عز وجل : { فَقَالُواْ } فصيحةٌ أي أعثرناهم عليهم فرَأَوا فماتوا فقالوا أي قال بعضهم : { ابنوا عَلَيْهِمْ } أي على باب كهفِهم { بنيانا } لئلا يتطرقَ إليهم الناسُ ضنًّا بتربتهم ومحافظةً عليها وقوله تعالى : { رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ } من كلام المتنازِعين كأنهم لما رأَوا عدم اهتدائِهم إلى حقيقة حالِهم من حيث النسبُ ومن حيث اللُّبثُ في الكهف قالوا ذلك تفويضاً للأمر إلى علاّم الغيوب ، أو من كلام الله تعالى ردًّا لقول الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازِعين ، وقيل : هو أمرُهم وتدبيرُهم عند وفاتِهم أو شأنُهم في الموت والنومِ حيث اختلفوا في أنهم ماتوا أو ناموا كما في أول مرةٍ فإذْ حينئذ متعلق بقوله تعالى : { قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ } وهم الملِكُ والمسلمون { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا } وقوله تعالى : { فَقَالُواْ } معطوفٌ على يتنازعون ، وإيثارُ صيغةِ الماضي للدِلالة على أن هذا القولَ ليس مما يستمر ويتجدد كالتنازُع ، وقيل : متعلقٌ باذكر مضمَراً ، وأما تعلقُه بأعثرنا فيأباه أن إعثارِهم ليس في زمان تنازُعِهم فيما ذكر بل قبلَه ، وجعلُ وقتِ التنازع ممتداً يقع في بعضه الإعثارُ وفي بعضه التنازعُ تعسفٌ لا يخفى مع أنه لا مخصَّصَ لإضافته إلى التنازُع وهو مؤخرٌ في الوقوع .(4/250)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
{ سَيَقُولُونَ } الضميرُ في الأفعال الثلاثة للخائضين في قصتهم في عهد النبيِّ عليه الصلاة والسلام من أهل الكتابِ والمسلمين لكن لا على وجه إسنادِ كلَ منها إلى كلهم بل إلى بعضهم { ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } أي هم ثلاثةُ أشخاص رابعُهم أي جاعلُهم أربعةً بانضمامه إليهم كلبُهم ، قيل : قالته اليهودُ ، وقيل : قاله السيد من نصارى نَجرانَ وكان يعقوبياً ، وقرىء ثلاةٌ بإدغام الثاء في التاء { وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ } قيل : قالتْه النصارى أو العاقبُ منهم وكان نِسْطورياً { رَجْماً بالغيب } رمياً بالخبر الخفيِّ الذي لا مُطَّلَعَ عليه أو ظنًّا بالغيب من قولهم : رجَمَ بالظن إذا ظن ، وانتصابُه على الحالية من الضمير في الفعلين جميعاً أي راجمين أو على المصدرية منهما فإن الرجْمَ والقولَ واحد ، أو من محذوف مستأنَفٍ واقعٍ موقعَ الحال من الضمير في الفعلين معاً أي يرجُمون رجماً ، وعدم إيرادِ السينِ للاكتفاء بعطفه على ما فيه ذلك .
{ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } هو ما يقوله المسلمون بطريق التلقي من هذا الوحي وما فيه مما يرشدهم إلى ذلك من عدم نظمِه في سلك الرجْمِ بالغيب ، وتغييرُ سبكه بزيادة الواو المفيدةِ لزيادة وكادةِ النسبة فيما بين طرفيها لا بوحي آخرَ كما قيل { قُلْ } تحقيقاً للحق وردًّا على الأولين { رَّبّى أَعْلَمُ } أي أقوى علماً { بِعِدَّتِهِم } بعددهم { مَّا يَعْلَمُهُمْ } أي ما يعلم عِدّتهم أو ما يعلمهم فضلاً عن العلم بعِدتهم { إِلاَّ قَلِيلٌ } من الناس قد وفقهم الله تعالى للاستشهاد بتلك الشواهد . قال ابن عباس رضي الله عنهما : حين وقعت الواوُ انقطعت العِدّةُ وعليه مدارُ قوله رضي الله عنه : أنا من ذلك القليل ولو كان في ذلك وحيٌ آخرُ لما خفيَ عليه ولما احتاج إلى الاستشهاد بالواو ولكان المسلمون أسوةً له في العلم بذلك . وعن علي كرم الله وجهه أنهم سبعةُ نفرٍ أسماؤُهم : يمليخا ومكشليبنا ومشليبنا ، هؤلاء أصحابُ يمينِ الملكِ وكان عن يساره مرنوش ودبرنوش وشاذنوش وكان يستشير هؤلاء الستةَ في أمره ، والسابعُ الراعي الذي رافقهم حين هربوا من ملكهم دقيانوسَ واسمه كفيشيططيوش { فَلاَ تُمَارِ } الفاءُ لتفريع النهي على ما قبله أي إذ قد عرفتَ جهلَ أصحابِ القولين فلا تجادلهم { فِيهِمْ } في شأن الفتية { إِلاَّ مِرَآء ظاهرا } قدرَ ما تعرّض له الوحيُ من وصفهم بالرجم بالغيب وعدمِ العلم على الوجه الإجمالي وتفويضِ العلم إلى الله سبحانه من غير تصريحٍ بجهلهم وتفضيحٍ لهم فإنه يُخِلُّ بمكارم الأخلاق .
{ وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ } في شأنهم { مِنْهُمْ } من الخائضين { أَحَدًا } فإن فيما قُص عليك لمندوحةً عن ذلك مع أنه لا علمَ لهم بذلك .(4/251)
وقال عطاء : إلا قليلٌ من أهل الكتابِ فالضمائرُ الثلاثة في الأفعال الثلاثةِ لهم وما ذكر من الشواهد لإرشاد المؤمنين إلى صحة القولِ الثالثِ وفيه محيصٌ عما في الأول من التكلف في جعل أحدِ الأقوالِ المحكية المنظومةِ في سِمْط واحدٍ ناشئاً عن الحكاية مع كون الأخيرين بخلافه ووضوحٌ في سبب حذف المفعولِ في لا تُمار ، والمعنى حينئذ : وإذ قد وقفتَ على أن كلَّهم ليسوا على خطأ في ذلك فلا تجادِلْهم إلا جدالاً ظاهراً نطَق به الوحيُ المبين من غير تجهيل لجميعهم فإن فيهم مُصيباً وإن قل ، والنهيُ عن الاستفتاء لدفع ما عسى يُتوهم من احتمال جوازِه أو احتمالِ وقوعِه بناءً على إصابة بعضهم ، فالمعنى لا ترجِعْ إليهم في شأن الفتيةِ ولا تصدّق القولَ الثالثَ من حيث صدورُه عنهم ، بل من حيث التلقّي من الوحي .(4/252)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23)
{ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء } أي لأجل شيءٍ تعزم عليه { إِنّى فَاعِلٌ ذلك } الشيءَ { غَداً } أي فيما يُستقبل من الزمان مطلقاً فيدخُل فيه الغدُ دخولاً أولياً ( فإنه نزل حين قالت اليهودُ لقريش : سلُوه عن الروح وعن أصحاب الكهفِ وذي القرنين ، فسألوه عليه الصلاة والسلام فقال : « ائتوني غداً أُخبرْكم » ولم يستثنِ فأبطأ عليه الوحيُ حتى شق عليه وكذّبته قريشٌ ) . وما قيل من أن المدلولَ بالعبارة هو الغدُ وما بعد ذلك مفهومٌ بطريق دِلالة النصِّ يرده أن ما بعده ليس بمعناه في مناط النهي ، فإن وسعةَ المجالِ دليلُ القدرة فليتأمل .(4/253)
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
{ إِلاَّ أَن يَشَاء الله } استثناءٌ مفرَّغ من النهي أي لا تقولن ذلك في حال من الأحوال إلا حالَ ملابستِه بمشيئته تعالى على الوجه المعتادِ وهو أن يقال : إن شاء الله أو في وقت من الأوقات إلا وقتَ أن يشاء الله أن تقوله لا مطلقاً بل مشيئةً إذن ، فإن النسيانَ أيضاً بمشيئته تعالى ، ولا مساغَ لتعليقه بفاعل لعدم سِدادِ استثناءِ اقترانِ المشيئة بالفعل ومنافاةِ استثناءِ اعتراضها النهي ، وقيل : الاستثناءُ جارٍ مَجرى التأبيدِ ، كأنه قيل : لا تقولنّه أبداً كقوله تعالى : { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء الله } { واذكر رَّبَّكَ } بقولك : إن شاء الله متدارِكاً له { إِذَا نَسِيتَ } إذا فرَطَ منك نسيانٌ ثم ذكرتَه ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ولو بعد سنةٍ ما لم يحنَثْ ، ولذلك جوّز تأخيرُ الاستثناءِ ، وعامةُ الفقهاء على خلافه إذ لو صح ذلك لما تقرر إقرارٌ ولا طلاقٌ ولا عَتاقٌ ولم يُعلم صِدقٌ ولا كذِبٌ . قال القرطبيُّ : هذا في تدارُك التَّرْك والتخلف عن الإثم ، وأما الاستثناءُ مبالغةٌ في الحث عليه ، أو اذكر ربَّك وعقابَه إذا تركت بعضَ ما أمرك به ليبعثك ذلك على التدارُك ، أو اذكره إذا اعتراك النسيانُ ليذكِّرك المنسيَّ ، وقد حُمل على أداء الصلاةِ المنْسية عند ذكرِها { وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِى رَبّى } أي يوفقني { لاِقْرَبَ مِنْ هذا } أي لشيء أقربَ وأظهرَ من نبأ أصحابِ الكهفِ من الآيات والدلائل الدالةِ على نبوتي { رَشَدًا } أي إرشاداً للناس ودلالةً على ذلك ، وقد فعل عز وجل ذلك حيث آتاه من البينات ما هو أعظمُ من ذلك وأبينُ كقصص الأنبياءِ المتباعدِ أيامُهم والحوادثِ النازلة في الأعصار المستقبلةِ إلى قيام الساعةِ أو لأقربَ رشداً وأدنى خبراً من المنسيّ .
{ وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ } أحياءً مضروباً على آذانهم { ثلاث مِئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعًا } وهي جملةٌ مستأنَفةٌ مبيّنةٌ لما أُجمل فيما سلف وأُشير إلى عزة منالِه ، وقيل : إنه حكايةُ كلامِ أهلِ الكتابِ فإنهم اختلفوا في مدة لُبثِهم كما اختلفوا في عِدّتهم فقال بعضهم هكذا وبعضُهم ثلاثمائة .
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : عند أهلِ الكتابِ أنهم لبِثوا ثلاثَمائةِ سنةٍ شمسيةٍ والله تعالى ذكر السنةَ القمريةَ والتفاوتَ بينهما في كل مائة سنةٍ ثلاث سنين فيكون ثلاثَمائةٍ وتسعَ سنين ، وسنينَ عطفُ بيانٍ لثلاثمائة ، وقيل : بدلٌ وقرىء على الإضافة وضعاً للجمع موضعَ المفردِ ومما يحسّنه هاهنا أن علامةَ الجمعِ فيه جبرٌ لما حُذف في الواحد وأن الأصلَ في العدد إضافتُه إلى الجمع .(4/254)
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
{ قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } أي بالزمان الذي لبثوا فيه . { لَهُ غَيْبُ السموات والأرض } أي ما غاب فيهما وخفيَ من أحوال أهلِهما ، واللامُ للاختصاص العلميِّ دون التكوينيِّ فإنه غيرُ مختص بالغيب { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } دلّ بصيغة التعجبِ على أن شأنَ علمِه سبحانه بالمبصَرات والمسموعاتِ خارجٌ عما عليه إدراكُ المدرِكين لا يحجُبه شيءٌ ولا يحول دونه حائلٌ ولا يتفاوت بالنسبة إليه اللطيفُ والكثيفُ والصغيرُ والكبيرُ والخفيُّ والجليُّ ، والهاءُ ضميرُ الجلالة ، ومحلُّه الرفعُ على الفاعلية والباء مَزيدةٌ عند سيبويهِ وكان أصله أبصَرَ أي صار ذا بَصَر ، ثم نقل إلى صيغة الأمرِ للإنشاء فبرز الضميرُ لعدم لياقةِ الضيغة له أو لزيادة الباء كما في كفى به ، والنصبُ على المفعولية عند الأخفشِ والفاعلُ ضميرُ المأمورِ وهو كلُّ أحد ، والباءُ مزيدة إن كانت الهمزةُ للتعدية ، ومتعدّية إن كانت للصيرورة ، ولعل تقديمَ أمرِ إبصارِه تعالى لما أن الذي نحن بصدده من قبيل المبصَرات { مَّا لَهُم } لأهل السمواتِ والأرض { مِن دُونِهِ } تعالى { مِن وَلِىّ } يتولى أمورَهم وينصُرهم استقلالاً { وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ } في قضائه أو في علم الغيب { أَحَدًا } منهم ولا يُجعل له فيه مدخلاً وهو كما ترى أبلغُ في نفي الشريكِ من أن يقال : من ولي ولا شريكٍ ، وقرىء على صيغة نهي الحاضرِ على أن الخطابَ لكل أحدٍ .
ولما دل انتظامُ القرآنِ الكريم لقصة أصحابِ الكهف من حيث إنهم بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم من المغيبات على أنه وحيٌ معجزٌ أمره عليه السلام بالمداومة على دراسته فقال : { واتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِن كتاب رَبّكَ } ولا تسمَعْ لقولهم : ائتِ بقرآن غيرِ هذا أو بدِّلْه { لاَ مُبَدّلَ لكلماته } لا قادرَ على تبديله وتغييره غيرُه { وَلَن تَجِدَ } أبدَ الدهر وإن بالغتَ في الطلب { مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا } ملجأً تعدل إليه عند إلمام مُلِمّة .
{ واصبر نَفْسَكَ } احبِسها وثبِّتها مصاحِبةً { مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشى } أي دائبين على الدعاء في جميع الأوقاتِ ، وقيل : في طرفي النهار ، وقرىء بالغُدوة على أن إدخال اللام عليها وهي علمٌ في الأغلب على تأويل التنكيرِ بهم ، والمرادُ بهم فقراءُ المؤمنين مثلُ صُهيبٍ وعمارٍ وخبابٍ ونحوِهم رضي الله عنهم ، وقيل : أصحابُ الصُّفَّة وكانوا نحو سبعِمائة رجل ، قيل : إنه قال قومٌ من رؤساء الكفرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : نحِّ هؤلاء المواليَ الذين كأن ريحَهم ريحُ الضأن حتى نجالسَك كما قال قومُ نوحٍ عليه السلام : { أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } فنزلت . والتعبيرُ عنهم بالموصول لتعليل الأمر بما في حيز الصلة من الخَصلة الداعيةِ إلى إدامة الصحبة { يُرِيدُونَ } بدعائهم ذلك { وَجْهَهُ } حالٌ من المستكنِّ في يدْعون أي مريدين لرضاه تعالى وطاعته .(4/255)
{ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } أي لا يجاوِزْهم نظرُك إلى غيرهم ، مِن عدَاه أي جاوزه ، واستعمالُه بعن لتضمينه معنى النبوِّ أو لا تصرِفْ عيناك النظرَ عنهم إلى غيرهم ، من عدَوتُه عن الأمر أي صرفتُه عنه على أن المفعولَ محذوفٌ لظهوره ، وقرىء ولا تُعْدِ عينيك من الإعداء والتعدية ، والمرادُ نهيُه عليه السلام عن الازدراء بهم لرثاثة زِيِّهم طموحاً إلى زِيّ الأغنياء { تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا } أي تطلب مجالسةَ الأشراف والأغنياءِ وأصحابِ الدنيا ، وهي حالٌ من الكاف على الوجه الأولِ من القراءة المشهورة ومن الفاعل على الوجه الثاني منها ، وضمير تريد للعينين وإسنادُ الإرادةِ إليه مجازٌ وتوحيدُه للتلازم كما في قوله
لمن زُحْلوفةٌ زُل ... بها العينان تنهلُّ
ومن المستكنّ في الفعل على القراءتين الأخيرتين { وَلاَ تُطِعِ } في تنحية الفقراءِ عن مجالسك { مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ } أي جعلناه غافلاً لبطلان استعدادِه للذكر بالمرة أو وجدناه غافلاً ، كقولك : أجبَنْتُه وأبخلتُه إذا وجدتُه كذلك أو هو مِنْ أَغفلَ إبِلَه أي لم نسمِّه بالذكر { عَن ذِكْرِنَا } كأولئك الذين يدعونك إلى طرد الفقراءِ عن مجلسك فإنهم غافلون عن ذكرنا على خلاف ما عليه المؤمنون من الدعاء في مجامع الأوقاتِ ، وفيه تنبيهٌ على أن الباعثَ له على ذلك الدعاءِ غفلةُ قلبه عن جناب الله سبحانه وجهته وانهماكُه في الحسيات حتى خفيَ عليه أن الشرفَ بحِلْية النفس لا بزينة الجسد ، وقرىء أغفلَنا قلبُه ، على إسناد الفعل إلى القلب أي حسِبَنا غافلين عن ذكرنا إياه بالمؤاخذة ، من أغفلتُه إذا وجدتُه غافلاً { واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } ضيَاعاً وهلاكاً أو متقدماً للحق والصواب نابذاً له وراءَ ظهره ، من قولهم : فرسٌ فرُطٌ أي متقدِّمٌ للخيل أو هو بمعنى الإفراط والتفريطِ فإن الغفلةَ عن ذكره سبحانه تؤدّي إلى اتباع الهوى المؤدِّي إلى التجاوز والتباعُدِ عن الحق والصواب ، والتعبيرُ عنهم بالموصول للإيذان بعلية ما في حيز الصلة للنهي عن الإطاعة .(4/256)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
{ وَقُلْ } لأولئك الغافلين المتبعين هواهم { الحق مِن رَّبّكُمْ } أي ما أوحيَ إليَّ الحقُّ لا غيرُ كائناً من ربكم أو الحقُّ المعهودُ من جهة ربكم لا من جهتي حتى يُتصور فيه التبديلُ أو يُمكنَ الترددُ في اتباعه وقوله تعالى : { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } إما من تمام القولِ المأمورِ به والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها بطريق التهديد لا لتفريعه عليه كما في قوله تعالى : { هذا عَطَاؤُنَا فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } وقوله تعالى : { الحق مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } أي عَقيبَ تحقق أن ما أوحي إليَّ حقٌّ لا ريب فيه وأن ذلك الحقَّ من جهة ربكم فمن شاء أن يؤمنَ كسائر المؤمنين ولا يتعللَ بما لا يكاد يصلُح للتعلل ومن شاء أن يكفرَ به فليفعلْ ، وفيه من التهديد وإظهارِ الاستغناءِ عن متابعتهم وعدمِ المبالاةِ بهم وبإيمانهم وجوداً وعدماً ما لا يخفى ، وإما تهديدٌ من جهة الله تعالى والفاء لترتيب ما بعدها من التهديد على الأمر لا على مضمون المأمورِ به ، والمعنى قل لهم ذلك ، وبعد ذلك من شاء أن يؤمن به أو أن يصدِّقَك فيه فليؤمن ومن شاء أن يكفُر به أو يكذِّبَك فيه فليفعل ، فقوله تعالى : { إِنَّا أَعْتَدْنَا } وعيدٌ شديدٌ وتأكيدٌ للتهديد وتعليلٌ لما يفيده من الزجر عن الكفر أو لما يُفْهم من ظاهر التخييرِ من عدم المبالاةِ بكفرهم وقلةِ الاهتمامِ بزجرهم عنه ، فإن إعدادَ جزائِه من دواعي الإملاءِ والأمهالِ ، وعلى الوجه الأول هو تعليلٌ للأمر بما ذكر من التخيير التهديديِّ أي قل لهم ذلك إنا أعتدنا { للظالمين } أي هيأنا للكافرين بالحق بعد ما جاء من الله سبحانه ، والتعبيرُ عنهم بالظالمين للتنبيه على أن مشيئةَ الكفر واختيارَه تجاوزٌ عن الحد ووضعٌ للشيء في غير موضعه { نَارًا } عظيمةً عجيبة { أَحَاطَ بِهِمْ } أي يحيط بهم ، وإيثارُ صيغةِ الماضي للدِلالة على التحقق { سُرَادِقُهَا } أي فُسطاسُها شُبّه به ما يحيط بهم من النار ، وقيل : السرادِقُ الحجرةُ التي تكون حول الفُسطاطِ ، وقيل : سرادِقُها دُخانُها ، وقيل : حائط من نار { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ } من العطش { يُغَاثُواْ بِمَاء كالمهل } كالحديد المذاب ، وقيل : كدُرْدِيِّ الزيت وهو على طريقة قوله : فاعتُبوا بالصَّيْلم { يَشْوِى الوجوه } إذا قدم ليُشرَب انشوى الوجهُ لحرارته . عن النبي عليه الصلاة والسلام : « هو كعَكَر الزيت فإذا قُرب إليه سقطت فروةُ وجهه » { بِئْسَ الشراب } ذلك { وَسَاءتْ } النار { مُرْتَفَقًا } متكأً ، وأصل الارتفاقِ نصبُ المِرْفقِ تحت الخد وأنى ذلك في النار ، وإنما هو بمقابلة قوله تعالى : { حَسُنَتْ مُرْتَفَقًا . }(4/257)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
{ إِنَّ الذين ءامَنُواْ } في محل التعليلِ للحث على الإيمان المنفهِم من التخيير ، كأنه قيل : وللذين آمنوا ، ولعل تغييرَ سبكه للإيذان بكمال تنافي مآليْ الفريقين أي إن الذين آمنوا بالحق الذي أوحيَ إليك { وَعَمِلُواْ الصالحات } حسبما بين في تضاعيفه { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } خبرُ إن الأولى هي الثانيةُ مع ما في حيزها والراجعُ محذوفٌ أي من أحسنَ منهم عملاً أو مستغنًى عنه كما في قولك : نعم الرجلُ زيدٌ أو واقعٌ موقعَه الظاهرَ فإن من أحسن عملاً في الحقيقة هو الذي آمن وعمِل الصالحات .
{ أولئك } المنعوتون بالنعوت الجليلة { لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار } استئنافٌ لبيان الأجر ، أو هو الخبرُ وما بينهما اعتراضٌ أو هو خبرٌ بعد خبر { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } من الأولى ابتدائيةٌ والثانيةُ صفةٌ لأساور والتنكيرُ للتفخيم وهو جمعُ أَسوِرة أو إسْوار جمع سِوار { وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا } خُصت الخُضرة بثيابهم لأنها أحسنُ الألوان وأكثرُها طراوة { مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } أي مما رقّ من الديباج وغلُظ ، جمعَ بين النوعين للدِلالة على أن فيها ما تشتهي الأنفسُ وتلَذّ الأعين { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك } على السرُر على ما هو شأن المتنعمين { نِعْمَ الثواب } ذلك { وَحَسُنَتْ } أي الأرائك { مُرْتَفَقًا } أي متكأ .(4/258)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
{ واضرب لَهُم } أي للفريقين الكافر والمؤمن { مَثَلاً رَّجُلَيْنِ } مفعولان لاضربْ أولُهما ثانيهما لأنه المحتاجُ إلى التفصيل والبيان أي اضرب للكافرين والمؤمنين لا من حيث أحوالُهما المستفادةُ مما ذكر آنفاً من أن للأولين في الآخرة كذا بل من حيث عصيانُ الأولين مع تقلبهم في نعم الله تعالى وطاعةِ الآخرين مع مكابدتهم مشاقَّ الفقر مثلاً حالَ رجلين مقدرَين أو محققَين هما أخوان من بني إسرائيلَ أو شريكان : كافرٌ اسمُه قطروس ومؤمنٌ اسمه يهوذا اقتسما ثمانيةَ آلافِ دينار فاشترى الكافرُ بنصيبه ضِياعاً وعَقاراً وصرف المؤمن نصيبه إلى وجوه المبارِّ فآل أمرُهما إلى ما حكاه الله تعالى ، وقيل : هما أخوان من بني مخزومٍ كافرٌ هو الأسودُ بن عبد اللَّه بن عبد الأسد زوجُ أم سلمة رضي الله عنها أولاً { جَعَلْنَا لاِحَدِهِمَا } وهو الكافر { جَنَّتَيْنِ } بساتين { مّنْ أعناب } من كروم متنوعة والجملة بتمامها بيانٌ للتمثيل أو صفةٌ لرجلين { وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ } أي جعلنا النخل محيطةً بهما مؤزَّراً بها كرومُهما ، يقال : حفّه القومُ إذا طافوا به وحففتُه بهم جعلتُهم حافّين حوله فيزيده الباء مفعولاً آخر كقولك : غشَّيتُه به { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا } وسطهما { زَرْعًا } ليكون كلٌّ منهما جامعاً للأقوات والفواكهِ متواصلَ العِمارة على الهيئة الرائقةِ والوضعِ الأنيق .
{ كِلْتَا الجنتين اتَتْ أُكُلَهَا } ثمرَها وبلغت مبلغاً صالحاً للأكل ، وقرىء بسكون الكاف ، وقرىء كلُّ الجنتين آتى أكُلَه { وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ } لم تنقُص من أُكُلها { شَيْئاً } كما يعهد ذلك في سائر البساتينِ فإن الثمارَ غالباً تكثُر في عام وتقِلُّ في آخر ، وكذا بعضُ الأشجارِ يأتي بالثمر في بعض الأعوامِ دون بعض { وَفَجَّرْنَا خلالهما } فيما بين كلَ من الجنتين { نَهَراً } على حِدَة ليدوم شربُهما ويزيد بهاؤهما ، وقرىء بالتخفيف ولعل تأخير ذكر تفجيرِ النهر عن ذكر إيتاءِ الأكلِ مع أن الترتيب الخارجيَّ على العكس للإيذان باستقلال كلَ من إيتاء الأكل وتفجيرِ النهر في تكميل محاسنِ الجنتين كما في قصة البقرة ونحوها ، ولو عُكس لانفهم أن المجموعَ خَصلةٌ واحدة بعضُها مترتبٌ على بعض فإن إيتاءَ الأكلِ متفرِّعٌ على السقْي عادةً ، وفيه إيماءٌ إلى أن إيتاء الأكلِ لا يتوقف على السقى كقوله تعالى : { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } { وَكَانَ لَهُ } لصاحب الجنتين { ثَمَرٌ } أنواعٌ من المال غيرُ الجنتين ، من ثمر مالَه إذا كثّره ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو جميعُ المال من الذهب والفضة والحيوانِ وغير ذلك ، وقال مجاهد : هو الذهبُ والفضة خاصة { فَقَالَ لصاحبه } المؤمن { وَهُوَ } أي القائلُ { يحاوره } أي صاحبَه المؤمنَ وإن جاز العكسُ أي يراجعه في الكلام من حار إذا رجع { أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } حشَماً وأعواناً أو أولاداً ذُكوراً لأنهم الذين ينفِرون معه .(4/259)
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)
{ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ } التي شُرحت أحوالُها وعَدَدُها وصفاتُها وهيآتُها ، وتوحيدها إما لعدم تعلق الغرَضِ بتعددها ، وإما لاتصال إحداهما بالأخرى ، وإما لأن الدخولَ يكون في واحدة فواحدة { وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ } ضارٌّ لها بعُجبه وكفره { قَالَ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من ذكر دخولِ جنته حالَ ظلمِه لنفسه ، كأنه قيل : فماذا قال إذ ذاك؟ فقيل قال : { مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه } الجنةُ أي تفنى { أَبَدًا } لطول أملِه وتمادي غفلتِه واغترارِه بمُهلته ، ولعله إنما قاله بمقابلة موعظةِ صاحبِه وتذكيرِه بفناء جنّتيه ونهيِه عن الاغترار بهما وأمره بتحصيل الباقيات الصالحات .
{ وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً } كائنةً فيما سيأتي { وَلَئِن رُّدِدتُّ } بالبعث عند قيامها كما تقول { إلى رَبّى لاجِدَنَّ } يومئذ { خَيْراً مّنْهَا } أي من هذه الجنةِ ، وقرىء منهما أي من الجنتين { مُنْقَلَباً } مرجعاً وعاقبةً ، ومدارُ هذا الطمعِ واليمينِ الفاجرةِ اعتقادٌ أنه تعالى إنما أولاه ما أولاه في الدنيا لاستحقاقه الذاتي وكرامتِه عليه سبحانه ولم يدرِ أن ذلك استدراجٌ .
{ قَالَ لَهُ صاحبه } استئناف كما سيق { وَهُوَ يحاوره } جملةٌ حاليةٌ كما مر فائدتُها التنبيهُ من أول الأمرِ على أن ما يتلوه كلامٌ معتنًى بشأنه مسوقٌ للمحاورة { أَكَفَرْتَ } حيث قلت : ما أظن الساعةَ قائمةً { بالذى خَلَقَكَ } أي في ضمن خلقِ أصلِك { مّن تُرَابٍ } فإن خلْقَ آدمَ عليه السلام منه متضمّنٌ لخلقه منه لِما أن خلقَ كل فردٍ من أفراد البشر له حظٌّ من خلقه عليه السلام إذ لم تكن فطرتُه الشريفةُ مقصورةً على نفسه ، بل كانت أُنموذجاً منطوياً على فطرة سائرِ أفرادِ الجنسِ انطواءً إجمالياً مستتبِعاً لجريان آثارِها على الكل ، فكان خلْقُه عليه السلام من التراب خَلْقاً للكل منه ، وقيل : خلقَك منه لأنه أصلُ مادتِك إذ به يحصُل الغذاءُ الذي منه تحصل النطفةُ فتدبر { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } هي مادتُك القريبة فالمخلوقُ واحدٌ والمبدأُ متعددٌ { ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } أي عَدلك وكمّلك إنساناً ذكراً أو صيّرك رجلاً ، والتعبيرُ عنه تعالى بالموصول للإشعار بعلية ما حيز الصلة لإنكار الكفرِ والتلويحِ بدليل البعثِ الذي نطق به قولُه عز من قائل : { السعير ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ البعث فَإِنَّا خلقناكم مّن تُرَابٍ } الخ .
{ لَكُنَّا هُوَ الله رَبّى } أصله لكنْ أنا وقد قرىء كذلك فحُذفت الهمزةُ فتلاقت النونان فكان الإدغامُ ، و ( هو ) ضميرُ الشأن وهو مبتدأٌ خبرُه الله ربي وتلك الجملةُ خبرُ أنا والعائدُ منها إليه الضميرُ ، وقرىء بإثبات ألفِ أنا في الوصل والوقف جميعاً وفي الوقف خاصة ، وقرىء لكنه بالهاء ولكن بطرح أنا ولكن أنا لا إله إلا هو ربي ، ومدارُ الاستدراك قوله تعالى : { أَكَفَرْتَ } كأنه قال : أنت كافرٌ لكني مؤمنٌ موحّد { وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا } فيه إيذانٌ بأن كفرَه كان بطريق الإشراك .(4/260)
وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)
{ وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ } أي هلاّ قلت عندما دخلتَها ، وتقديمُ الظرف على المحضَّض عليه للإيذان بتحتّم القولِ في آن الدخولِ من غير ريث لا للقصر { مَا شَاء الله } أي الأمرُ ما شاء الله أو ما شاء الله كائنٌ على أن ما موصولةٌ مرفوعةُ المحلِّ ، أو أيَّ شيء شاء الله كان على أنها شرطيةٌ منصوبةٌ والجوابُ محذوفٌ ، والمرادُ تحضيضُه على الاعتراف بأنها وما فيها بمشيئة الله تعالى إن شاء أبقاها وإن شاء أفناها { لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله } أي هلا قلت ذلك اعترافاً بعجزك وبأن ما تيسر لك من عِمارتها وتدبيرِ أمرِها إنما هو بمعونته تعالى وإقداره عن النبي صلى الله عليه وسلم : « من رأى شيئاً فأعجبه فقال : ما شاء الله لا قوةَ إلا بالله لم يضُرَّه » { إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا } أنا إما مؤكدٌ لياء المتكلمِ أو ضميرُ فصْلٍ بين مفعولي الرؤيةِ إن جُعلت عِلْميةً ، وأقلَّ ثانيهما ، وحالٌ إن جُعلت بصَريةً فيكون أنا حينئذ تأكيداً لا غيرُ لأن شرطَ كونِه ضميرَ فصلٍ توسطُه بين المبتدأ والخبر أو ما أصلُه المبتدأُ والخبر ، وقرىء أقلُّ بالرفع خبراً لأنا والجملةُ مفعولٌ ثانٍ للرؤية أو حالٌ وفي قوله تعالى : { وَوَلَدًا } نُصرةٌ لمن فسر النفرَ بالولد .
{ فعسى رَبّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ } هو جوابُ الشرط والمعنى إن ترنِ أفقرَ منك فأنا أتوقع من صنع الله سبحانه أن يقلِبَ ما بي وما بك من الفقر والغنى فيرزُقني لإيماني جنةً خيراً من جنتك ويسلُبَك لكفرك نعمتَه ويُخْرِب جنتك { وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا } هو مصدرٌ بمعنى الحِساب كالبُطلان والغفران أي مقداراً قدره تعالى وحسَبه ، وهو الحكمُ بتخريبها ، وقيل : عذابَ حُسبانٍ وهو حسابُ ما كسبت يداه ، وقيل : مَراميَ جمعُ حُسبانة وهي الصواعقُ . ومساعدة النظمِ الكريم فيما سيأتي للأولين أكثر { مِّنَ السماء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا } مصدر أريد به المفعولُ مبالغةً أي أرضاً ملساء يُزْلَق عليها لاستئصال ما عليها من البناء والشجر والنبات .
{ أَوْ يُصْبِحَ } عطف على قوله تعالى : { فَتُصْبِحُ } ، وعلى الوجه الثالث على يرسلَ { مَاؤُهَا غَوْرًا } أي غائراً في الأرض أُطلق عليه المصدرُ مبالغة { فَلَن تَسْتَطِيعَ } أبداً { لَهُ } أي للماء الغائرِ { طَلَبًا } فضلاً عن وجدانه وردِّه .
{ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } أُهلك أموالُه المعهودةُ من جنتيه وما فيهما ، وأصلُه من إحاطة العدوِّ ، وهو عطفٌ على مقدر ، كأنه قيل : فوقع بعضُ ما توقع من المحذور وأُهلك أمواله ، وإنما حُذف لدِلالة السباقِ والسياقِ عليه كما في المعطوف عليه بالفاء الفصيحة { فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ } ظهراً لبطن وهو كنايةٌ عن الندم ، كأنه قيل : فأصبح يندم { عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا } أي في عِمارتها من المال ، ولعل تخصيصَ الندم به دون ما هلك الآن من الجنة لما أنه إنما يكون على الأفعال الاختياريةِ ولأن ما أنفق في عِمارتها كان مما يمكن صيانتُه عن طوارق الحدَثانِ وقد صرفه إلى مصالحها رجاءَ أن يتمتعَ به ، وكان يرى أنه لا تنالها أيدي الردَى ، ولذلك قال : ما أظن أن تبيدَ هذه أبداً ، فلما ظهر له أنها مما يعتريه الهلاكُ ندم على ما صنع بناءً على الزعم الفاسدِ من إنفاق ما يمكن ادخارُه في مثل هذا الشيءِ السريع الزوال .(4/261)
{ وَهِىَ } أي الجنةُ من الأعناب المحفوفةِ بنخل { خَاوِيَةٍ } ساقطةٌ { على عُرُوشِهَا } أي دعائمها المصنوعةِ للكروم لسقوطها قبل سقوطِها ، وتخصيصُ حالها بالذكر دون النخل والزرعِ إما لأنها العُمدةُ وهما من متمماتها ، وإما لأن ذكرَ هلاكِها مغنٍ عن ذكر هلاك الباقي لأنها حيث هلكت وهي مُشيَّدةٌ بعروشها فهلاكُ ما عداها بالطريق الأولى ، وإما لأن الإنفاقَ في عمارتها أكثرُ ، وقيل : أرسل الله تعالى عليها ناراً فأحرقها وغار ماؤُها { وَيَقُولُ } عطف على يقلّب أو حالٌ من ضميره أي وهو يقول : { ياليتنى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّى أَحَدًا } كأنه تذكر موعظةَ أخيه وعلم أنه إنما أُتيَ من قِبل شِرْكِه فتمنى لو لم يكن مشركاً فلم يُصبْه ما أصابه . قيل : ويحتمل أن يكون ذلك توبةً من الشرك وندَماً على ما فرَط منه .(4/262)
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
{ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ } وقرىء بالياء التحتانية { فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ } يقدِرون على نصره بدفع الإهلاكِ أو على رد المهلِك أو الإتيانِ بمثله ، وجمعُ الضميرِ باعتبار المعنى كما في قوله عز وعلا : { يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ } { مِن دُونِ الله } فإنه القادرُ على ذلك وحده { وَمَا كَانَ } في نفسه { مُنْتَصِراً } ممتنعاً بقوته عن انتقامه سبحانه .
{ هُنَالِكَ } في ذلك المقامِ وفي تلك الحال { الولاية لِلَّهِ الحق } أي النُصرة له وحده لا يقدِر عليها أحدٌ فهو تقريرٌ لما قبله ، أو ينصُر فيها أولياءَه من المؤمنين على الكفرة كما نصر بما فعل بالكافر أخاه المؤمنَ ، ويعضُده قوله تعالى : { هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا } أي لأوليائه ، وقرىء الوِلاية بكسر الواو ومعناها الملكُ والسلطانُ له عز وجل لا يُغلَب ولا يُمتَنع منه أو لا يُعبد غيرُه كقوله تعالى : { وَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } فيكون تنبيهاً على أن قوله : يا ليتني لم أشرِك الخ ، كان عن اضطرار وجزَعٍ عمّا دهاه على أسلوب قوله تعالى : { ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين } وقيل : هنالك إشارةٌ إلى الآخرة كقوله تعالى : { لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } وقرىء برفع الحقِّ على أنه صفةٌ للولاية وبنصبه على أنه مصدرٌ مؤكد ، وقرىء عقُباً بضم القاف وعُقْبى كرُجعى والكلُّ بمعنى العاقبة .
{ واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا } أي واذكر لهم ما يُشبهها في زَهْرتها ونَضارتها وسرعةِ زوالها لئلا يطمئنوا بها ولا يعكُفوا عليها ولا يَضرِبوا عن الآخرة صفحاً بالمرة ، أو بيِّنْ لهم صفتَها العجيبة التي هي في الغرابة كالمثَل { كَمَاء } استئنافٌ لبيان المثَل أي هي كماء { أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء } ويجوز كونُه مفعولاً ثانياً لاضْربْ على أنه بمعنى صيّر { فاختلط بِهِ } اشتبك بسببه { نَبَاتُ الارض } فالتفّ وخالط بعضه بعضاً من كثرته وتكاثفه ، أو نجَع الماءُ في النبات حتى روِيَ ورفّ ، فمقتضى الظاهرِ حينئذ فاختلط بنبات الأرض ، وإيثارُ ما عليه النظمُ الكريمُ عليه للمبالغة في الكثرة فإن كلاًّ من المختلِطَين موصوفٌ بصفة صاحبِه { فَأَصْبَحَ } ذلك النباتُ الملتفُّ إثرَ بهجتها ورفيفِها { هَشِيمًا } مهشوماً مكسوراً { تَذْرُوهُ الرياح } تفرّقه ، وقرىء تُذْريه من أذراه وتذروه الريحُ ، وليس المشبَّهُ به نفسَ الماء بل هو الهيئةُ المنتزَعةُ من الجملة ، وهي حالُ النبات المُنبَتِ بالماء ، يكون أخضرَ وارفاً ثم هشيماً تطيِّره الرياحُ كأن لم يغْنَ بالأمس { وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء } من الأشياء التي من جملتها الإنشاءُ والإفناءُ { مُّقْتَدِرًا } قادراً على الكمال .(4/263)
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
{ المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا } بيانٌ لشأن ما كانوا يفتخِرون به من محسّنات الحياة الدنيا ، كما قال الأخُ الكافرُ : أنا أكثرُ منك مالاً وأعزُّ نفراً إثرَ بيانِ شأن نفسها بما مر من المثَل . وتقديمُ المال على البنين مع كونهم أعزَّ منه كما في الآية المحكية آنفاً وقولِه تعالى : { وأمددناكم بأموال وَبَنِينَ } وغيرِ ذلك من الآيات الكريمة لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمدادِ وغيرِ ذلك وعمومِه بالنسبة إلى الأفراد والأوقات ، فإنه زينةٌ ومُمِدٌّ لكل أحد من الآباء والبنين في كل وقت وحين ، وأما البنون فزينتُهم وإمدادُهم إنما يكون بالنسبة إلى من بلغ مبلغَ الأبوّة ، ولأن المالَ مناطٌ لبقاء النفس والبنين لبقاء النوع ، ولأن الحاجةَ إليه أمسُّ من الحاجة إليهم ، ولأنه أقدرُ منهم في الوجود ، ولأنه زينةٌ بدونهم من غير عكس فإن من له بنونَ بلا مال فهو في ضيقِ حالٍ ونكال . وإفرادُ الزينة مع أنها مسنَدةٌ إلى الإثنين لما أنها مصدرٌ في الأصل أطلق على المفعول مبالغةً كأنهما نفسُ الزينة ، والمعنى أن ما يفتخرون به من المال والبنين شيءٌ يُتزيّن به في الحياة الدنيا وقد عُلم شأنُها في سرعة الزوالِ وقُربِ الاضمحلال فكيف بما هو من أوصافها التي شأنُها أن تزول قبل زوالِها . { والباقيات الصالحات } هي أعمالُ الخير ، وقيل : هي الصلواتُ الخمسُ ، وقيل : سبحان الله والحمدُ لله ولا إله إلا الله والله أكبرُ ، وقيل : كلُّ ما أريد به وجهُ الله تعالى ، وعلى كل تقدير يدخُل فيها أعمالُ فقراءِ المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهَه دخولاً أولياً ، أما صلاحُها فظاهرٌ وأما بقاءُ عوائدِها عند فناءِ كلِّ ما تطمح إليه النفسُ من حظوظ الدنيا { خَيْرٌ } أي مما نُعت شأنُه من المال والبنين ، وإخراجُ بقاءِ تلك الأعمالِ وصلاحِها مُخرَجَ الصفات المفروغِ عنها مع أن حقَّهما أن يكونا مقصودَي الإفادةِ لا سيما في مقابلة إثباتِ الفناء لما يقابلها من المال والبنين على طريقة قوله تعالى : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ } للإيذان بأن بقاءَها أمرٌ محقّقٌ لا حاجة إلى بيانه بل لفظُ الباقياتِ اسمٌ لها وصفٌ ، ولذلك لم يُذكر الموصوفُ وإنما الذي يُحتاج إلى التعرض له خيريتُها { عِندَ رَبّكَ } أي في الآخرة وهو بيانٌ لما يظهر فيه آثارُ خيريّتها بمنزلة إضافة الزينةِ إلى الحياة الدنيا لا لأفضليتها فيها من المال والبنين مع مشاركة الكلِّ في الأصل إذ لا مشاركةَ لهما في الخيرية في الآخرة { ثَوَاباً } عائدةً تعود إلى صاحبها { وَخَيْرٌ أَمَلاً } حيث ينال بها صاحبُها في الآخرة كلَّ ما كان يؤمله في الدنيا ، وأما ما مر من المال والبنين فليس لصاحبه أملٌ يناله ، وتكريرُ خيرٌ للإشعار باختلاف حيثيَّتي الخيرية والمبالغةِ فيها .(4/264)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
{ وَيَوْمَ نُسَيّرُ الجبال } منصوبٌ بمضمر أي اذكرْ حين نقلَعُها من أماكنها ونسيّرها في الجو على هيئاتها كما ينبىء عنه قوله تعالى : { وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب } أو نسير أجزاءَها بعد أن نجعلها هباءً مُنْبَثّاً ، والمرادُ بتذكيره تحذيرُ المشركين مما فيه من الدواهي ، وقيل : هو معطوفٌ على ما قبله من قوله تعالى : { عِندَ رَبّكَ } أي الباقياتُ الصالحات خيرٌ عند الله ويومَ القيامة . وقرىء تُسيَّر على صيغة البناء للمفعول من التفعيل جرياً على سنن الكِبرياءِ وإيذاناً بالاستغناء عن الإسناد إلى الفاعل لتعيُّنه ، وقرىء تَسِير { وَتَرَى الأرض } أي جميعَ جوانبها والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحدٍ ممن يتأتّى منه الرؤيةُ ، وقرىء تُرَى على صيغة البناء للمفعول { بَارِزَةً } أما بروزُ ما تحت الجبال فظاهرٌ ، وأما ما عداه فكانت الجبالُ تحول بينه وبين الناظرِ قبل ذلك ، فالآن أضحى قاعاً صفْصِفاً لا ترى فيها عِوَجاً أمْتاً { وحشرناهم } جمعناهم إلى الموقف من كل أَوْب . وإيثارُ صيغةِ الماضي بعد نسيّر وتَرى للدِلالة على تحقق الحشْرِ المتفرِّع على البعث الذي يُنكره المنكرون ، وعليه يدورُ أمرُ الجزاءِ وكذا الكلام فيما عطف عليه منفياً وموجَباً ، وقيل : هو للدَّلالة على أن حشْرهم قبل التسيير والبروزِ ليعاينوا تلك الأهوالَ ، كأنه قيل : وحشرناهم قبل ذلك { فَلَمْ نُغَادِرْ } أي لم نترُك { مّنْهُمْ أَحَداً } يقال : غادره إذا تركه ومنه الغدْرُ الذي هو تركُ الوفاءِ والغديرُ الذي هو ماءٌ يتركه السيلُ في الأرض الغائرةِ ، وقرىء بالياء وبالفوقانية على إسناد الفعل إلى ضمير الأرض كما في قوله تعالى : { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ } { وَعُرِضُواْ على رَبّكَ } شُبّهت حالُهم بحال جندٍ عُرضوا على السلطان ليأمُر فيهم بما يأمُر ، وفي الالتفات إلى الغَيبة وبناءِ الفعل للمفعول مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافةِ إلى ضميره عليه السلام من تربية المهابةِ والجَرْي على سَنن الكبرياءِ وإظهار اللطفِ به عليه السلام ما لا يخفى { صَفَّا } أي غيرَ متفرِّقين ولا مختلِطين فلا تعرّض فيه لوَحدة الصفِّ وتعدّدِه ، وقد ورد في الحديث الصحيح : « يجمع الله الأولين والآخِرين في صعيد واحد صُفوفاً » { لَّقَدْ جِئْتُمُونَا } على إضمار القولِ على وجه يكون حالاً من ضمير عُرضوا أي مقولاً لهم أو وقلنا لهم ، وأما كونُه عاملاً في يومَ نسيّر كما قيل فبعيدٌ من جزالة التنزيل الجليلِ ، كيف لا ويلزم منه أن هذا القولَ هو المقصودُ بالأصالة دون سائر القوارعِ مع أنه خاصُّ التعلق بما قبله من العَرض والحشر دون تسييرِ الجبال وبروزِ الأرض { كَمَا خلقناكم } نعتٌ لمصدر مقدّرٍ أي مجيئاً كائناً كمجيئكم عند خلْقِنا لكم { أَوَّلَ مَرَّةٍ } أو حال من ضمير جئتمونا أي كائنين كما خلقناكم أولَ مرة حُفاةً عُراة غُرْلاً أو ما معكم شيءٌ مما تفتخرون به من الأموال والأنصار كقوله تعالى :(4/265)
{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم وَرَاء ظُهُورِكُمْ } { بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا } إضرابٌ وانتقالٌ من كلام إلى كلام كِلاهما للتوبيخ والتقريعِ ، أي زعمتم في الدنيا أنه لن نجعلَ لكم أبداً وقتاً نُنْجز فيه ما وعدناه من البعث وما يتبعه ، وأنْ مخففةٌ من المثقلة فُصِل بحرف النفي بينها وبين خبرِها لكونه جملةً فعليةً متصرِّفةً غيرَ دعاءٍ ، والظرفُ إما مفعولٌ ثانٍ للجعل وهو بمعنى التصييرِ والأولُ هو موعداً ، أو حال من موعداً وهو بمعنى الخلق والإبداعِ .(4/266)
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
{ وَوُضِعَ الكتاب } عطف على عُرضوا داخلٌ تحت الأمورِ الهائلة التي أريد تذكيرُها بتذكير وقتِها أُورد فيه ما أورد في أمثاله من صيغة الماضي دَلالةً على التقرر أيضاً ، أي وُضع صحائفُ الأعمالِ ، وإيثارُ الإفرادِ للاكتفاء بالجنس ، والمرادُ بوضعها إما وضعُها في أيدي أصحابِها يميناً وشمالاً وإما في الميزان { فَتَرَى المجرمين } قاطبةً فيدخل فيهم الكفرةُ المنكِرون للبعث دخولاً أولياً { مُشْفِقِينَ } خائفين { مِمَّا فِيهِ } من الجرائم والذنوب { وَيَقُولُونَ } عند وقوفِهم على ما في تضاعيفه نقيراً وقِطْميراً { ياويلتنا } منادين لهِلَكتهم التي هلكوها من بين الهلَكات مستدْعين لها ليهلِكوا ولا يرَوا هولَ ما لاقَوه ، أي يا ويلتَنا احضُري فهذا أوانُ حضورِك { مَا لهذا الكتاب } أي أيُّ شيء له ، وقولُه تعالى : { لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } أي حواها وضبطَها ، جملةٌ حاليةٌ محقِّقةٌ لما في الجملة الاستفهاميةِ من التعجب ، أو استئنافيةٌ مبنيةٌ على سؤال نشأ من التعجب ، كأنه قيل : ما شأنُه حتى يُتعجَّب منه؟ فقيل : لا يغادر سيئةً صغيرةً ولا كبيرة إلا أحصاها { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ } في الدنيا من السيئات ، أو جزاءَ ما عملوا { حَاضِرًا } مسطوراً عتيداً { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } فيكتب ما لم يُعمَل من السيئات أو يزيد في عقابه المستحَّقِ فيكون إظهاراً لِمَعْدلة القلمِ الأزلي .
{ وَإِذَا قُلْنَا للملائكة } أي اذكر وقتَ قولنا لهم : { اسجدوا لاِدَمَ } سجودَ تحيةٍ وتكريم وقد مر تفصيلُه { فَسَجَدُواْ } جميعاً امتثالاً بالأمر { إِلاَّ إِبْلِيسَ } فإنه لم يسجُد بل أبى واستكبر وقوله تعالى : { كَانَ مِنَ الجن } كلامٌ مستأنفٌ سيق مساقَ التعليلِ لما يفيده استثناءُ اللعين من الساجدين ، كأنه قيل : ما له لم يسجُد؟ فقيل : كان أصلُه جنيًّا { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ } أي خرج عن طاعته كما ينبىء عنه الفاءُ ، أو صار فاسقاً كافراً بسبب أمرِ الله تعالى إذ لولاه لما أبى . والتعرضُ لوصف الربوبيةِ المنافية للفسق لبيان كمالِ قبحِ ما فعله ، والمرادُ بتذكير قصّتِه تشديدُ النكيرِ على المتكبرين المفتخرين بأنسابهم وأموالِهم المستنكفين عن الانتظام في سلك فقراءِ المؤمنين ببيان أن ذلك من صنيع إبليسَ وأنهم في ذلك تابعون لتسويله كما ينبىء عنه قوله تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ } الخ ، فإن الهمزةَ للإنكار والتعجبِ والفاءَ للتعقيب أي أعَقيبَ علمِكم بصدور تلك القبائحِ عنه تتخذونه { وَذُرّيَّتَهُ } أي أولادَه وأتباعَه ، جعلوا ذريتَه مجازاً . قال قتادة : يتوالدون كما يتوالد بنو آدمَ ، وقيل : يُدخل ذنبَه في دُبُره فيبيض فتنفلق البيضةُ عن جماعة من الشياطين { أَوْلِيَاء مِن دُونِى } فتستبدلونهم بي فتطيعونهم بدَل طاعتي { وَهُمْ } أي والحال أن إبليسَ وذريته { لَكُمْ عَدُوٌّ } أي أعداءٌ كما في قوله تعالى : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ العالمين } وقوله تعالى : { هُمُ العدو } وإنما فُعل به ذلك تشبيهاً له بالمصادر نحو القَبول والوُلوع وتقييد الاتخاذِ بالجملة الحالية لتأكيد الإنكارِ وتشديدِه ، فإن مضمونَها مانعٌ من وقوع الاتخاذِ ومنافٍ له قطعاً { بِئْسَ للظالمين } أي الواضعين للشيء في غير موضعِه { بَدَلاً } من الله سبحانه إبليسُ وذريتُه ، وفي الالتفات إلى الغَيبة مع وضع الظالمين موضعَ الضمير من الإيذان بكمال السُخطِ والإشارة إلى أن ما فعلوه ظلمٌ قبيح ما لا يخفى .(4/267)
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
{ مَّا أَشْهَدتُّهُمْ } استئنافٌ مَسوق لبيان عدمِ استحقاقِهم للاتخاذ المذكورِ في أنفسهم بعد بيانِ الصوارفِ عن ذلك من خباثة المَحتِد والفسق والعداوة ، أي ما أحضَرْتُ إبليسَ وذريتَه { خُلِقَ السموات والأرض } حيث خلقتُهما قبل خلقِهم { وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ } أي ولا أشهدتُ بعضَهم خلقَ بعض كقوله تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } هذا ما أجمع عليه الجمهورُ حِذاراً من تفكيك الضميرين ومحافظةً على ظاهر لفظ الأنفس ، ولك أن تُرجع الضميرَ الثانيَ إلى الظالمين وتلتزمَ التفكيكَ بناءً على قَوْد المعنى إليه ، فإن نفيَ إشهادِ الشياطين خلقَ الذين يتولَّونهم هو الذي يدور عليه إنكارُ اتخاذهم أولياءَ بناء على أن أدنى ما يصحح التوليَ حضورُ الوليِّ خلقَ المتولى ، وحيث لا حضورَ لا مصحِّحَ للتولي قطعاً ، وأما نفيُ وإشهادِ بعضِ الشياطينِ خلقَ بعض منهم فليس من مدارية الإنكارِ المذكور في شيء ، على أن إشهادَ بعضهم خلقَ بعض إن كان مصحِّحاً لتولي الشاهدِ بناءً على دِلالته على كماله باعتبار أن له مدخلاً في خلق المشهودِ في الجملة فهو مُخِلٌّ بتولي المشهودِ بناء على قصوره عمّن شهِد خلقَه فلا يكون نفيُ الإشهادِ المذكورِ متمحّضاً في نفي الكمالِ المصحِّح للتولي عن الكل وهو المناطُ للإنكاء المذكور { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين } أي متّخذَهم ، وإنما وُضع موضعَه المظهُر ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالإضلال وتأكيداً لما سبق من إنكار اتخاذِهم أولياءَ { عَضُداً } أعواناً في شأن الخلقِ أو في شأن من شؤوني حتى يُتوهّم شِرْكتُهم في التولي بناء على الشركة في بعض أحكامِ الربوبية ، وفيه تهكمٌ بهم وإيذانٌ بكمال ركاكةِ عقولِهم وسخافةِ آرائِهم حيث لا يفهمون هذا الأمرَ الجليَّ الذي لا يكاد يشتبه على البُلْه والصبيان فيحتاجون إلى التصريح به ، وإيثارُ نفي الإشهاد على نفي شهودِهم ونفي اتخاذِهم أعواناً على نفي كونهم كذلك للإشعار بأنهم مقهورون تحت قدرتِه تعالى تابعون لمشيئته وإرادتِه فيهم ، وأنهم بمعزل من استحقاق الشهودِ والمعونة من تلقاء أنفسِهم من غير إحضارٍ واتخاذ وإنما قُصارى ما يتوهم في شأنهم أن يبلُغوا ذلك المبلغَ بأمر الله عز وجل ولم يكد ذلك يكون ، وقيل : الضميرُ للمشركين والمعنى ما أشهدتُهم خلقَ ذلك وما أطلعتُهم على أسرار التكوينِ وما خصَصْتُهم بفضائلَ لا يَحويها غيرُهم حتى يكونوا قدوةً للناس فيؤمنوا بإيمانهم كما يزعُمون فلا يُلتفت إلى قولهم طمعاً في نُصرتهم للدين فإنه لا ينبغي لي أن أعتضِدَ بالمُضِلّين ، ويعضُده القراءةُ بفتح التاءِ خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمعنى ما صح لك الاعتضادُ بهم . ووصفُهم بالإضلال لتعليل نفي الاتخاذِ ، وقرىء متّخِذاً المُضلّين على الأصل ، وقرىء عُضْداً بضم العين وسكون الضاد وبفتح وسكون بالتخفيف وبضمتين بالاتباع وبفتحتين على أنه جمع عاضد كرَصَد وراصد .(4/268)
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)
{ وَيَوْمَ يَقُولُ } أي الله عز وجل للكافرين توبيخاً وتعجيزاً ، وقرىء بنون العظمة { نَادُواْ شُرَكَائِىَ الذين زَعَمْتُمْ } أنهم شفعاؤُكم ليشفعوا لكم ، والمرادُ بهم كلُّ ما عُبد من دونه تعالى ، وقيل : إبليسُ وذرِّيتُه { فَدَعَوْهُمْ } أي نادَوهم للإغاثة ، وفيه بيانٌ لكمال اعتنائِهم بإعانتهم على طريقة الشفاعةِ إذ معلومٌ أن لا طريقَ إلى المدافعة { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } فلم يُغيثوهم إذ لا إمكان لذلك وفي إيراده مع ظهوره تهكمٌ بهم وإيذانٌ بأنهم في الحماقه بحيث لا يفهمونه إلا بالتصريح به { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم } بين الداعين والمدعوّين { مَّوْبِقاً } اسمُ مكانٍ أو مصدرٌ من وبَق وُبوقاً كوثب وثوباً وبِق وبَقاً كفرح فرحاً إذا هلَك أي مهلِكاً يشتركون فيه وهو النارُ ، أو عداوةً وهي في الشدة نفسُ الهلاك كقول عمر رضي الله عنه : « لا يكن حبُّك كلَفاً ولا بغضُك تلَفاً » وقيل : البينُ الوصلُ أي وجعلنا تواصلَهم في الدنيا هلاكاً في الآخرة ، ويجوز أن يكون المرادُ بالشركاء الملائكةَ وعزيراً وعيسى عليهم السلام ومريمَ ، وبالمَوْبق البرزخَ البعيدَ أي جعلنا بينهم أمداً بعيداً يُهلِك فيه الأشواطُ لفرْط بُعده لأنهم في قعر جهنمَ وهم في أعلى الجنان .
{ وَرَأَى المجرمون النار } وُضع المظهرُ مقام المُضمر تصريحاً بإجرامهم وذماً لهم بذلك { فَظَنُّواْ } أي فأيقنوا { أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا } مخالطوها واقعون فيها أو ظنوا إذ رأوها من مكان بعيد أنهم مواقعوها الساعةَ { وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا } انصرافاً أو معدِلاً ينصرفون إليه .
{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } أي كررنا وأوردنا على وجوه كثيرةٍ من النظم { فِى هذا القرءان لِلنَّاسِ } لمصلحتهم ومنفعتِهم { مِن كُلّ مَثَلٍ } من جملته ما مر مِن مَثَل الرجلين ومثَل الحياةِ الدنيا أو من كل نوعٍ من أنواع المعاني البديعةِ الداعيةِ إلى الإيمان التي هي في الغرابة والحسنِ واستجلاب النفس كالمثل ليتلقَّوْه بالقَبول فلم يفعلوا { وَكَانَ الإنسان } بحسب جِبلَّته { أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً } أي أكثرَ الأشياءِ التي يتأتى منها الجدلُ وهو هاهنا شدةُ الخُصومةِ بالباطل والمماراةِ ، من الجدْل الذي هو الفتْلُ ، والمجادلةُ الملاواةُ لأن كلاًّ من المجادِلَين يلتوي على صاحبه ، وانتصابُه على التمييز والمعنى أن جدَله أكثرُ من جدَل كلِّ مجادل .
{ وَمَا مَنَعَ الناس } أي أهلَ مكةَ الذين حُكيت أباطيلُهم { أَن يُؤْمِنُواْ } من أن يؤمنوا بالله تعالى ويتركوا ما هم فيه من الإشراك { إِذْ جَاءهُمُ الهدى } أي القرآنُ العظيم الهادي إلى الإيمان بما فيه من فنون المعاني الموجبةِ له { وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ } عما فرَط منهم من أنواع الذنوبِ التي من جملتها مجادلتُهم للحق بالباطل { إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين } أي إلا طلبُ إتيانِ سُنّتهم أو إلا انتظارُ إتيانِها ، أو إلا تقديرُه فحذُف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه وسنتُهم الاستئصالُ { أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب } أي عذابُ الآخرة { قُبُلاً } أي أنواعاً ، جمعُ قَبيل أو عِياناً كما في قراءة قِبَلاً بكسر القاف وفتحِ الباء ، وقرىء بفتحتين أي مستقبَلاً ، يقال : لقِيتُه قُبُلاً وقَبَلاً وقِبَلاً ، وانتصابُه على الحالية من الضمير أو العذاب والمعنى أن ما تضمنه القرآنُ الكريم من الأمور المستوجبةِ للإيمان بحيث لو لم يكن مثلَ هذه الحكمةِ القوية لما امتنع الناسُ من الإيمان وإن كانوا مجبولين على الجدَل المفْرِط .(4/269)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
{ وَمَا نُرْسِلُ المرسلين } إلى الأمم ملتبسين بحال من الأحوال { إِلا } حالَ كونهم { مُبَشّرِينَ } للمؤمنين بالثواب { وَمُنذِرِينَ } للكفرة والعصاة بالعقاب { ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل } باقتراح الآياتِ بعد ظهور المعجزاتِ والسؤالِ عن قصة أصحاب الكهفِ ونحوها تعنّتاً { لِيُدْحِضُواْ بِهِ } أي بالجدال { الحق } أي يُزيلوه عن مركزه ويُبْطلوه من إدحاض القدمِ وهو إزلاقُها ، وهو قولهم للرسل عليهم الصلاة والسلام : { مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } { وَلَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة } ونحوُهما { واتخذوا ءاياتى } التي تخِرُّ لها صمُّ الجبال { وَمَا أُنْذِرُواْ } أي أُنذروه من القوارع الناعيةِ عليهم العقابَ والعذابَ أو إنذارهم { هُزُواً } استهزاءً ، وقرىء بسكون الزاي وهو ما يستهزأ به .
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بئايات رَبّهِ } وهو القرآنُ العظيم { فَأَعْرَضَ عَنْهَا } ولم يتدبرها ولم يتذكرْ بها ، وهذا السبكُ وإن كان مدلولُه الوضعيُّ نفيَ الأظلمية من غير تعرّضٍ لنفي المساواة في الظلم إلا أن مفهومَه العُرْفيَّ أنه أظلمُ من كل ظالم ، وبناءُ الأظلمية على ما في حيز الصلة من الإعراض عن القرآن للإشعار بأن ظلمَ من يجادل فيه ويتخذُه هزواً خارجٌ عن الحد { وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } أي عملَه من الكفر والمعاصي التي من جملتها ما ذكر من المجادلة بالباطل والاستهزاءِ بالحق ولم يتفكر في عاقبتها { إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } أغطيةً كثيرة جمع كِنان ، وهو تعليلٌ لإعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوعٌ على قلوبهم { أَن يَفْقَهُوهُ } مفعولٌ لما دل عليه الكلام أي منعناهم أن يقفوا على كُنهه ، أو مفعولٌ له أي كراهةَ أن يفقهوه { وَجَعَلْنَا على } أي جعلنا فيها { وِقْراً } ثِقَلاً يمنعهم من استماعه { وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً } أي فلن يكون منهم اهتداءٌ البتةَ مدةَ التكليف ، وإذن جزاءٌ للشرط وجوابٌ عن سؤال النبي عليه الصلاة والسلام المدلولِ عليه بكمال عنايتِه بإسلامهم ، كأنه قال عليه الصلاة والسلام : « مالي لا أدعوهم؟ » فقيل : إن تدعهم الخ ، وجمعُ الضميرِ الراجع إلى الموصول في هذه المواضع الخمسة باعتبار معناه كما أن إفراده في المواطن الخمسة المتقدمة باعتبار لفظِه .(4/270)
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
{ وَرَبُّكَ } مبتدأ وقوله تعالى : { الغفور } خبرُه وقوله تعالى : { ذُو الرحمة } أي الموصوفُ بها ، خبرٌ بعد خبرٍ ، وإيرادُ المغفرة على صيغة المبالغة دون الرحمة للتنبيه على كثرة الذنوب ، ولأن المغفرةَ تركُ المضارّ وهو سبحانه قادرٌ على ترك ما لا يتناهى من العذاب ، وأما الرحمةُ فهي فعل وإيجادٌ ولا يدخل تحت الوجود إلا ما يتناهى ، وتقديمُ الوصف الأولِ لأن التخليةَ قبل التحلية أو لأنه أهمُّ بحسب الحال إذ المقامُ مقامُ بيانِ العقوبة عنهم بعد استيجابهم لها كما يُعرب عنه قوله عز وجل : { لَوْ يُؤَاخِذُهُم } أي لو يريد مؤاخذتهم { بِمَا كَسَبُواْ } من المعاصي التي من جملتها ما حُكي عنهم من مجادلتهم بالباطل وإعراضِهم عن آيات ربهم وعدمِ المبالاة بما اجترحوا من المُوبقات { لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب } لاستيجاب أعمالِهم لذلك ، وإيثارُ المؤاخذةِ المنبئة عن شدة الأخذِ بسرعة على التعذيب والعقوبةِ ونحوهما للإيذان بأن النفيَ المستفادَ من مقدَّم الشرطية متعلقٌ بوصف السرعة كما ينبىء عنه تاليها ، وإيثارُ صيغة الاستقبال وإن كان المعنى على المضيّ لإفادة أن انتفاءَ تعجيلِ العذاب لهم بسبب استمرار عدمِ إرادة المؤاخذة فإن المضارعَ الواقعَ موقعَ الماضي يفيد استمرارَ انتفاءِ الفعل فيما مضى كما حُقق في موضعه { بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ } اسمُ زمان هو يومُ القيامة ، والمجلةُ معطوفةٌ على مقدر كأنه قيل : لكنهم ليسوا بمؤاخذين بغتةً { لَّن يَجِدُواْ } البتةَ { مِن دُونِهِ مَوْئِلاً } منْجى أو ملجأً ، يقال : وأل أي نجا ووأل إليه أي لجأ إليه .
{ وَتِلْكَ القرى } أي قرى عاد وثمودَ وأضرابِها ، وهي مبتدأٌ على تقدير المضافِ أي وأهلُ تلك القرى خبرُه قوله تعالى : { أهلكناهم } أو مفعولٌ مضمرٌ مفسر به { لَمَّا ظَلَمُواْ } أي وقت ظلمِهم كما فعلت قريشٌ بما حُكي عنهم من القبائح ، وتركُ المفعول إما لتعميم الظلم أو لتنزيله منزلةَ اللازم أي لما فعلوا الظلم ، ولمّا إما حرفٌ كما قال ابنُ عصفور ، وإما ظرفٌ استعمل للتعليل وليس المرادُ به الوقتَ المعين الذي عملوا فيه الظلم بل زمانٌ ممتدٌ من ابتداء الظلم إلى آخره { وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم } أي عيّنّا لهلاكهم { مَّوْعِدًا } أي وقتاً معيناً لا محيدَ لهم عن ذلك ، وهذا اسشهاد على ما فُعل بقريش من تعيين الموعد ليتنبهوا لذلك ولا يغتروا بتأخر العذاب ، وقرىء بضم الميم وفتح اللام أي إهلاكهم وبفتحهما .
{ وَإِذْ قَالَ موسى } نصب بإضمار فعل ، أي اذكر وقت قوله عليه السلام { لفتاه } وهو يوشعُ بن نونٍ بنِ أفرايمَ بنِ يوسفَ عليه السلام ، سُمّي فتاه إذ كان يخدُمه ويتبعه ، وقيل : كان يتعلم منه ويسمى التلميذُ فتًى وإن كان شيخاً ، ولعل المرادَ بتذكيره عَقيب بيانِ أن لكل أمة موعداً تذكيرُ ما في القصة من موعد الملاقاة مع ما فيها من سائر المنافعِ الجليلة { لا أَبْرَحُ } من برِح الناقصِ كزال يزال ، أي لا أزال أسير فحُذف الخبر اعتماداً على قرينة الحالِ إذْ كان ذلك عند التوجه إلى السفر واتكالاً على ما يعقُبه من قوله : { حتى أَبْلُغَ } فإن ذلك غايةٌ تستدعي ذا غايةً يؤدّي إليها ، ويجوز أن يكون أصلُ الكلام لا يبرَح مسيري حاصلاً حتى أبلُغ فيُحذف المضافُ ويقام المضافُ إليه مُقامَه فينقلب الضمير البارزُ المجرورُ المحلِّ مرفوعاً مستكنًّا ، والفعلُ من صيغة الغَيبة إلى التكلم .(4/271)
ويجوز أن يكون من برح التامِّ كزال يزول أي لا أفارق ما أنا بصدده حتى أبلغ { مَجْمَعَ البحرين } هو ملتقى بحرِ فارسَ والروم مما يلي المشرِق ، وقيل : طَنْجَةُ ، وقيل : هما الكر والرس بإرْمِيْنِيةَ ، وقيل : إِفْرِيقِيَّة ، وقرىء بكسر الميم كمشرق { أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً } أسير زماناً طويلاً أتيقن معه فواتَ المطلب والحُقب الدهرُ أو ثمانون سنة ، وكان منشأُ هذه العزيمة أن موسى عليه السلام لما ظهر على مصر مع بني إسرائيلَ واستقروا بها بعد هلاكِ القِبْط أمره الله عز وجل أن يذكّر قومَه النعمةَ فقام فيهم خطيباً بخطبة بديعةٍ رقت بها القلوبُ وذرَفت العيون ، فقالوا له : مَنْ أعلمُ الناس؟ قال : أنا . فعتب الله تعالى عليه إذ لم يردّ العلم إليه عز وجل فأوحى إليه : « بل أعلمُ منك عبدٌ لي عند مجمع البحرين وهو الخِضْرُ عليه السلام » . وكان في أيام أفريذون قبل موسى عليه السلام وكان على مقدّمة ذي القرنين وبقي إلى أيام موسى . وقيل : ( إن موسى عليه السلام سأل ربه : أيُّ عبادِك أحبُّ إليك؟ قال : « الذي يذكرُني ولا ينساني » قال : فأيُّ عبادك أقضى؟ قال : « الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى » قال : فأيُّ عبادك أعلمُ؟ قال : « الذي يبتغي علمَ الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمةً تدله على هدى ، أو تردّه عن ردَى » فقال : إن كان في عبادك من هو أعلمُ مني فدلَّني عليه ، قال : « أعلمُ منك الخِضْرُ » قال : أين أطلبه؟ قال : « على ساحل البحر عند الصخرة » قال : يا رب كيف لي به؟ قال : « تأخذ حوتاً في مِكْتل فحيثما فقَدته فهو هناك » . فأخذ حوتاً فجعله في مِكتل ، فقال لفتاه : إذا فقدتَ الحوتَ فأخبرني فذهبا يمشيان ) .(4/272)
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)
{ فَلَمَّا بَلَغَا } الفاءُ فصيحة كما أشير إليه { مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } أي مجمعَ البحرين ، وبينِهما ظرفٌ أضيف إليه اتساعاً أو بمعنى الوصل { نَسِيَا حُوتَهُمَا } الذي جُعل فقدانُه أمارةَ وُجدانِ المطلوب أي نسيا تفقّد أمره وما يكون منه ، وقيل : نسي يوشع أن يقدّمه وموسى عليه السلام أن يأمره فيه بشيء ، روي أنهما لما بلغا مجمع البحرين وفيه الصخرةُ وعينُ الحياة التي لا يصيب ماؤها ميْتاً إلا حيِيَ وضعا رؤوسَهما على الصخرة فناما فلما أصاب الحوتَ بردُ الماء ورَوحُه عاش ، وقد كانا أكلا منه وكان ذلك بعد ما استيقظ يوشع عليه السلام ، وقيل : توضأ عليه السلام من تلك العينِ فانتضح الماءُ على الحوت فعاش فوقع في الماء { فاتخذ سَبِيلَهُ فِى البحر سَرَباً } مسلَكاً كالسرب وهو النفق ، قيل : أمسك الله عز وجل جريةَ الماء على الحوت فصار كالطاق عليه معجزةً لموسى أو للخضر عليهما السلام ، وانتصابُ سَرباً على أنه مفعولٌ ثانٍ لاتخذ وفي البحر حال منه أو من السبيل ويجوز أن يتعلق باتخذ .
{ فَلَمَّا جَاوَزَا } أي مجمعَ البحرين الذي جُعل موعداً للملاقاة ، قيل : أدلجا وسارا الليلةَ والغدَ إلى الظهر وأُلقي على موسى عليه السلام الجوعُ فعند ذلك { قَالَ لفتاه ءاتِنَا غَدَاءنَا } أي ما نتغدى به وهو الحوتُ كما ينبىء عنه الجواب { لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا } إشارةٌ إلى ما سارا بعد مجاوزةِ الموعد { نَصَباً } تعباً وإعياءً ، قيل : لم ينصَبْ ولم يجُعْ قبل ذلك ، والجملةُ في محل التعليل للأمر بإيتاء الغداء إما باعتبار أن النصَبَ إنما يعتري بسبب الضعفِ الناشىء عن الجوع وإما باعتبار ما في أثناء التغدي من استراحة ما .(4/273)
قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)
{ قَالَ } أي فتاه عليه السلام : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصخرة } أي التجأنا إليها وأقمنا عندها . وذكرُ الإِواءِ إليها مع أن المذكور فيما سبق مرتين بلوغُ مجمعِ البحرين لزيادة تعيينِ محلِّ الحادثة ، فإن المجمَع محلٌ متسعٌ لا يمكن تحقيقُ المراد المذكور بنسبة الحادثةِ إليه ولتمهيد العذر فإن الإِواءَ إليها والنومَ عندها مما يؤدي إلى النسيان عادة ، والرؤيةُ مستعارةٌ للمعرفة التامة والمشاهدة الكاملةِ ، ومرادُه بالاستفهام تعجيبُ موسى عليه السلام مما اعتراه هناك من النسيان مع كون ما شاهده من العظائم التي لا تكاد تنسى ، وقد جُعل فقدانُه فقدانُه علامةً لوجدان المطلوب وهذا أسلوبٌ معتادٌ فيما بين الناس ، يقول أحدهم لصاحبه إذا نابه خطب : أرأيتَ ما نابني؟ يريد بذلك تهويلَه وتعجيبَ صاحبه منه وأنه مما لا يعهد وقوعُه لا استخبارُه عن ذلك كما قيل ، والمفعولُ محذوفٌ اعتماداً على ما يدل عليه من قوله عز وجل : { فَإِنّى نَسِيتُ الحوت } وفيه تأكيدٌ للتعجيب وتربيةٌ لاستعظام المنسيِّ ، وإيقاعُ النسيان على اسم الحوتِ دون ضمير الغَداءِ مع أنه المأمورُ بإتيانه للتنبيه من أول الأمر على أنه ليس من قبيل نِسيان المسافرِ زادَه في المنزل وأن ما شاهده ليس من قبيل الأحوالِ المتعلقة بالغداء من حيث هو غَداءٌ وطعامٌ ، بل من حيث هو حوتٌ كسائر الحِيتان مع زيادة أي نسِيتُ أن أذكر لك أمرَه وما شاهدتُ منه من الأمور العجيبة { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان } بوسوسته الشاغلةِ عن ذلك وقوله تعالى : { أَنْ أَذْكُرَهُ } بدلُ اشتمال من الضمير أي ما أنساني أن أذكرَه لك ، وفي تعليق الإنساء بضمير الحوتِ أولاً وبذكره له ثانياً على طريق الإبدالِ المنبىء عن تنحية المبدَل منه إشارةٌ إلى أن متعلَّقَ النسيان أيضاً ليس نفسَ الحوتِ بل ذكرُ أمره ، وقرىء أن أذكّره ، وإيثارُ أن أذكُرَه على المصدر للمبالغة فإن مدلوله نفسُ الحدث عند وقوعه ، والحالُ وإن كانت غريبةً لا يُعهد نسيانُها لكنه لما تعوّد بمشاهدة أمثالِها عند موسى عليه السلام وألِفَها قل اهتمامه بالمحافظة عليها { واتخذ سَبِيلَهُ فِى البحر عَجَبًا } بيانٌ لطرف من أمر الحوتِ منبىءٌ عن طرف آخرَ منه ، وما بينهما اعتراضٌ قُدم عليه للاعتناء بالاعتذار ، كأنه قيل : حَيِيَ واضطرب ووقع في البحر واتخذ سبيله فيه سبيلاً عجباً ، فعجباً ثاني مفعولَي اتخَذ والظرفُ حالٌ من أولهما أو ثانيهما ، أو هو المفعولُ الثاني وعجباً صفةُ مصدرٍ محذوفٍ أي اتخاذاً عحباً وهو كونُ مسلَكه كالطاق والسرَب ، أو مصدرُ فعلٍ محذوف أي أتعجب منه عجباً ، وقد قيل : إنه من كلام موسى عليه الصلاة والسلام وليس بذاك .
{ قَالَ } أي موسى عليه السلام { ذلك } الذي ذكرتَ من أمر الحوت { مَا كُنَّا نَبْغِ } وقرىء بإثبات الياء ، والضميرُ العائد إلى الموصول محذوفٌ ، أصلُه نبغيه أي نطلبه لكونه أَمارةً للفوز بالمرام { فارتدا } أي رجعا { على ءاثَارِهِمَا } طريقِهما الذي جاءا منه { قَصَصًا } يقُصان قَصصاً أي يتّبعان آثارَهما اتباعاً أو مقتصّين حتى أتيا الصخرة .(4/274)
فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)
{ فَوَجَدَا عَبْدًا مّنْ عِبَادِنَا } التنكيرُ للتفخيم والإضافةُ للتشريف والجمهور على أنه الخِضْرُ واسُمه بَلْيَا بنُ مَلْكَان ، وقيل : اليسع ، وقيل : إلياس عليهم الصلاة والسلام { رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ } هي الوحيُ والنبوةُ كما يُشعِرُ به تنكيرُ الرحمة واختصاصُها بجناب الكبرياء { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا } خاصاً لا يُكتنه كُنهُه ولا يقادر قدرُه وهو علمُ الغيوب .
{ قَالَ لَهُ موسى } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من السباق ، كأنه قيل : فماذا جرى بينهما من الكلام؟ فقيل : قال له موسى : { هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلّمَنِ } استئذاناً منه في اتّباعه له على وجه التعلم { مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً } أي علماً ذا رُشدٍ أرشُد به في ديني ، والرشدُ إصابةُ الخير ، وقرىء بفتحتين وهو مفعولُ تعلّمنِ ومفعول عُلّمت محذوفٌ وكلاهما منقولٌ من عِلم المتعدي إلى مفعول واحد ، ويجوز كونُه علةً لأتبعُك أو مصدراً بإضمار فعله ، ولا ينافي نبوتَه وكونَه صاحبَ شريعةٍ أن يتعلم من نبي آخرَ ما لا تعلقَ له بأحكام شريعتِه من أسرار العلومِ الخفية ، ولقد راعى في سَوق الكلام غايةَ التواضع معه عليهما السلام .
{ قَالَ } أي الخِضْر : { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً } نفى عنه استطاعةَ الصبر معه على وجه التأكيد كأنه مما لا يصِحّ ولا يستقيم وعلله بقوله : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } إيذاناً بأنه يتولى أموراً خفيةَ المدارِ مُنْكَرةَ الظواهرِ ، والرجلُ الصالح لا سيما صاحبِ الشريعة لا يتمالك أن يشمئز عند مشاهدتها . وفي صحيح البخاري قال : « يا موسى إنى على علمٍ من علم الله تعالى علَّمنيه لا تعلَمُه وأنت على علمٍ من علم الله علّمكه الله لا أعلمه » وخبراً تمييز أي لم يحط به خبرك .
{ قَالَ } موسى عليه الصلاة والسلام : { سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله صَابِرًا } معك غيرَ معترضٍ عليك ، وتوسيطُ الاستثناء بين مفعولَي الوُجدان لكمال الاعتناءِ بالتيمّن ولئلا يُتوهّم بالصبر { وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً } عطف على صابراً أي ستجدني صابراً وغيرَ عاصٍ ، وفي وعد هذا الوُجدان من المبالغة ما ليس في الوعد بنفس الصبرِ وتركِ العصيان ، أو على ستجدني فلا محلَّ له من الإعراب والأولُ هو الأولى لما عرفته ولظهور تعلقِه بالاستثناء حينئذ ، وفيه دليلٌ على أن أفعالَ العبادِ بمشيئة الله سبحانه وتعالى .(4/275)
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)
{ قَالَ فَإِنِ اتبعتنى } أذِن له في الاتّباع بعد اللتيا والتي ، والفاءُ لتفريع الشرطيةِ على ما مر من التزام موسى عليه الصلاة والسلام للصبر والطاعة { فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَىء } تشاهده من أفعالي أي لا تفاتحْني بالسؤال عن حكمته فضلاً عن المناقشة والاعتراض { حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } أي حتى أبتدىء ببيانه ، وفيه إيذانٌ بأن كلَّ ما صدر عنه فله حكمةٌ وغايةٌ حميدةٌ البتةَ ، وهذا من أدب المتعلم مع العالم والتابعِ مع المتبوع ، وقرىء فلا تسألَنّي بالنون المثقلة .
{ فانطلقا } أي موسى والخضِرُ عليهما الصلاة والسلام على الساحل يطلبان السفينةَ ، وأما يوشعُ فقد صرفه موسى عليه الصلاة والسلام إلى بني إسرائيلَ ، قيل : إنهما مرا بسفينة فكلّما أهلها فعرفوا الخضِرَ فحملوهما بغير نَول { حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السفينة } استعمالُ الركوب في أمثال هذه المواقع بكلمة في مع تجريده عنها في مثل قوله عز وجل : { لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } على ما يقتضيه تعديتُه بنفسه لِما أشرنا إليه في قوله تعالى : { وَقَالَ اركبوا فِيهَا } لا لما قيل : من أن في ركوبها معنى الدخول { خَرَقَهَا } قيل : خرقها بعد ما لججوا حيث أخذ فأساً فقلع من ألواحها لوحين مما يلي الماء ، فعند ذلك { قَالَ } موسى عليه السلام { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا } من الإغراق ، وقرىء بالتشديد من التغريق وليغرَقَ أهلُها من الثلاثي { لَقَدْ جِئْتَ } أتيت وفعلت { شَيْئًا إِمْرًا } أي عظيماً هائلاً من أمرِ الأمرُ إذا عظُم ، قيل : الأصل أَمِراً فخفف .
{ قَالَ } أي الخضِرُ عليه السلام : { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً } تذكيرٌ لما قاله من قبلُ وتحقيقٌ لمضمونه متضمنٌ للإنكار على عدم الوفاء بوعده { قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ } بنيساني أو بالذي نسِيتُه أي بشيء نسيتُه وهو وصيتُه بأن لا يسألَه عن حكمة ما صدر عنه من الأفعال الخفيةِ الأسبابِ قبلَ بيانه ، أراد أنه نسِيَ وصيته ولا مؤاخذةَ على الناسي كما ورد في صحيح البخاريّ من أن الأولَ كان من موسى نسياناً ، أو أَخْرج الكلامَ في معرِض النهي عن المؤاخذة بالنسيان يوهمه أنه قد نسِيَ ليبسُطَ عذرَه في الإنكار ، وهو من معاريض الكلام التي يتقى بها الكذبُ مع التوصل إلى الغرض ، أو أراد بالنسيان التركَ أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة { وَلاَ تُرْهِقْنِى } أي لا تُغشِّني ولا تحمّلني { مِنْ أَمْرِى } وهو اتباعه إياه { عُسْراً } أي لا تعسِّرْ عليّ متابعتك ويسِّرها عليّ بالإغضاء وتركِ المناقشة ، وقرىء عُسُراً بضمتين .
{ فانطلقا } الفاءُ فصيحةٌ أي فقِبل عذرَه فخرجا من السفينة فانطلقا { حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ } قيل : كان الغلامُ يلعب مع الغلمان ففتل عُنقَه ، وقيل : ضرب برأسه الحائطَ ، وقيل : أضجعه فذبحه بالسكين { قَالَ } أي موسى عليه الصلاة والسلام : { أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً } طاهرةً من الذنوب ، وقرىء زاكيةً { بِغَيْرِ نَفْسٍ } أي بغير قتلِ نفسٍ محرمة؟ وتخصيصُ نفْي هذا المبيحِ بالذكر من بين سائرِ المبيحات من الكفر بعد الإيمان والزنا بعد الإحصانِ لأنه الأقربُ إلى الوقوع نظراً إلى حال الغلام ، ولعل تغييرَ النظمِ الكريم بجعل ما صدر عن الخضِر عليه الصلاة والسلام هاهنا من جملة الشرطِ ، وإبرازِ ما صدر عن موسى عليه الصلاة والسلام في معرض الجزاءِ المقصودِ إفادتُه مع أن الحقيقَ بذلك إنما هو ما صدر عن الخضر عليه الصلاة والسلام من الخوارق البديعة لاستشراف النفسِ إلى ورود خبرِها لقلة وقوعِها في نفس الأمر ونُدرة وصولِ خبرها إلى الأذهان ، ولذلك روعيت تلك النكتةُ في الشرطية الأولى لما أن صدورَ الخوارقِ منه عليه الصلاة والسلام خرج بوقوعه مرة مَخرجَ العادة ، فانصرفت النفسُ عن ترقبّه إلى ترقب أحوالِ موسى عليه الصلاة والسلام هل يحافظ على مراعاة شرطِه بموجب وعدِه الأكيدِ عند مشاهدةِ خارقٍ آخرَ ، أو يسارع إلى المناقشة كما مر في المرة الأولى؟ فكان المقصودُ إفادةَ ما صدر عنه عليه الصلاة والسلام ففعل ما فعل ولله درُّ شأنِ التنزيل .(4/276)
وأما ما قيل من أن القتلَ أقبحُ والاعتراضَ عليه أدخلُ فكان جديراً بأن يُجعل عمدةً في الكلام فليس من دفع الشبهةِ في شيء بل هو مؤيدٌ لها ، فإن كونَ القتل أقبحَ من مبادي قلة صدورِه عن المؤمن العاقلِ ونُدرةِ وصولِ خبره إلى الأسماع ، وذلك مما يستدعي جعلَه مقصوداً بالذات وكونَ الاعتراضِ عليه أدخلَ من موجبات كثرة صدورِه عن كل عاقل وذلك مما لا يقتضي جعله كذلك { لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً } قيل : معناه أنكرُ من الأول إذا لا يمكن تدارُكه كما يمكن تداركُ الأول بالسدّ ونحوِه ، وقيل : الأمرُ أعظمُ من النُّكر لأن قتلَ نفس واحدةٍ أهونُ من إغراق أهلِ السفينة .(4/277)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
{ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً } زيد ( لك ) لزيادة المكافحةِ بالعتاب على رفض الوصيةِ وقلة التثبّتِ والصبرِ لمّا تكرر منه الاشمئزازُ والاستنكار ولم يَرعَوِ بالتذكير حتى زاد النكير في المرة الثانية { قَالَ } أي موسى عليه الصلاة والسلام : { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْء بَعْدَهَا } أي بعد هذه المرة { فَلاَ تُصَاحِبْنِى } وقرىء من الإفعال أي لا تجعلني صاحبك { قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً } أي قد أعذرتَ ووجدتَ من قِبلي عُذراً حيث خالفتُك ثلاثَ مرات . عن النبي صلى الله عليه وسلم : « رحم الله أخي موسى استحْيى فقال ذلك ، لو لبث مع صاحبه لأبصرَ أعجبَ الأعاجيب » وقرىء لدُني بتخفيف النون ، وقرىء بسكون الدال كعضْد في عضُد .
{ فانطلقا حتى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ } هي أنطاكيةُ ، وقيل : أَيْلةُ وهي أبعدُ أرض الله من السماء ، وقيل : هي برقة ، وقيل : بلدة بأندلس . عن النبي صلى الله عليه وسلم : « كانوا أهلَ قرية لئاما » وقيل : شرُّ القرى التي لا يضاف فيها الضيفُ ولا يُعرف لابن السبيل حقُّه ، وقوله تعالى : { استطعما أَهْلَهَا } في محل الجرِّ على أنه صفةٌ لقرية ، ولعل العدولَ عن استطعامهم على أن يكون صفةً للأهل لزيادة تشنيعهم على سوء صنيعِهم فإن الإباءَ من الضيافة وهم أهلُها قاطنون بها أقبحُ وأشنع . روي أنهما طافا في القرية فاستطعماهم فلم يطعموهما واستضافاهم { فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا } بالتشديد ، وقرىء بالتخفيف من الإضافة ، يقال : ضافه إذا كان له ضيفاً وأضافه وضيّفه أنزله وجعله ضيفاً له ، وحقيقةُ ضاف مال إليه من ضاف السهمُ عن الغرَض ونظيرُه زاره من الازورار .
{ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } أي يداني أن يسقُط فاستعيرت الإرادةُ للمشارفة للدِلالة على المبالغة في ذلك ، والانقضاضُ الإسراعُ في السقوط وهو انفعالٌ من القضّ ، يقال : قتُه فانقضّ ، ومنه انقضاضُ الطير والكوكبِ لسقوطه بسرعة ، وقيل : هو افْعِلالٌ من النقض كاحمرّ من الحُمرة ، وقرىء أن ينقُض من النقْض وأن ينقاض من انقاضّت السن إذا انشقت طولاً { فَأَقَامَهُ } قيل : مسحه بيده فقام ، وقيل : نقضه وبناه ، وقيل : أقامه بعمود عمَده به ، قيل : كان سَمكُه مائةَ ذراع { قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } تحريضاً له على أخذ الجُعْل لينتعشا به أو تعريضاً بأنه فضولٌ لما في لو من النفي ، كأنه لما رأى الحِرمانَ ومِساسَ الحاجة واشتغالَه بما لا يعنيه لم يتمالك الصبرَ ، واتخذ افتعل من تخِذ بمعنى أخذ كاتبع من تبع وليس من الأخذ عند البصريين ، وقرىء لتَخِذْتَ أي لأخذت ، وقرىء بإدغام الذال في التاء .(4/278)
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
{ قَالَ } أي الخَضِر عليه الصلاة والسلام : { هذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ } على إضافة المصدرِ إلى الظرف اتساعاً وقد قرىء على الأصل ، والمشارُ إليه إما نفسُ الفِراق كما في هذا أخوك ، أو الوقتُ الحاضرُ أي هذا الوقتُ وقتُ فراق بيني وبينِك ، أو السؤالُ الثالث ، أي هذا سببُ ذلك الفراقِ حسبما هو الموعودُ { سَأُنَبّئُكَ } السين للتأكيد لعدم تراخي التنبئة { بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } التأويلُ رجْعُ الشيءِ إلى مآله والمرادُ به هاهنا المآلُ والعاقبةُ إذ هو المنبَّأُ به دون التأويل وهو خلاصُ السفينة من اليد العادِيَة ، وخلاصُ أبوَي الغلام من شره مع الفوز بالبدل الأحسنِ واستخراجُ اليتيمين للكنز ، وفي جعل صلةِ الموصول عدمَ استطاعةِ موسى عليه الصلاة والسلام للصبر دون أن يقال : بتأويل ما فعلتُ أو بتأويل ما رأيتَ ونحوِهما نوعُ تعريضٍ به عليه الصلاة والسلام وعتاب .
{ أَمَّا السفينة } التي خرقتُها { فَكَانَتْ لمساكين } لضعفاءَ لا يقدرون على مدافعة الظَّلَمة ، وقيل : كانت لعشرة إخوةٍ خمسةٌ زمنى وخمسة { يَعْمَلُونَ فِى البحر } وإسنادُ العمل إلى الكل حينئذ إنما هو بطريق التغليب أو لأن عملَ الوكلاءِ عمل الموكِّلين { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا } أي أجعلها ذاتَ عيب { وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ } أي أمامَهم وقد قرىء به أو خلفَهم وكان رجوعُهم عليه لا محالة واسمه جَلَندَي بنُ كركر ، وقيل : منولة بن جلندي الأزْدي { يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ } أي صالحةٍ وقد قرىء كذلك { غَصْباً } من أصحابها وانتصابُه على أنه مصدرٌ مبينٌ لنوع الأخذ ، ولعل تفريعَ إرادةِ تعييب السفينةِ على مسكنة أصحابِها قبل بيان خوفِ الغصْب مع أن مدارَها كلا الأمرين ، للاعتناء بشأنها إذ هي المحتاجةُ إلى التأويل ، وللإيذان بأن الأقوى في المدارية هو الأمرُ الأولُ ولذلك لا يبالي بتخليص سفنِ سائرِ الناس مع تحقق خوفِ الغصبِ في حقهم أيضاً ، ولأن في التأخير فصلاً بين السفينة وضميرِها مع توهم رجوعِه إلى الأقرب .(4/279)
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
{ وَأَمَّا الغلام } الذي قتلتُه { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ } لم يصرح بكفرانه أو بكفره إشعاراً بعدم الحاجة إلى الذكر لظهوره { فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا } فخِفنا أن يغْشَى الوالدَين المؤمنَين { طُغْيَانًا } عليهما { وَكُفْراً } لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعِه ويُلحق بهما شراً وبلاءً ، أو يُقرَنَ بإيمانهما طغيانُه وكفره فيجتمَع في بيت واحد مؤمنان وطاغٍ كافرٌ ، أو يُعدِيَهما بدائه ويُضلّهما بضلاله فيرتدّا بسببه ، وإنما خشِيَ الخَضِر عليه الصلاة والسلام منه ذلك لأن الله سبحانه أعلمه بحاله وأطلعه على سر أمرِه ، وقرىء فخاف ربك أي كره سبحانه كراهةَ مَن خاف سوء عاقبة الأمر فغيّره ، ويجوز أن تكون القراءةُ المشهورة على الحكاية بمعنى فكرِهنا كقوله تعالى : { لاِهَبَ لَكِ } { فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً } منه بأن يرزُقهما بدلَه ولداً خيراً { مِنْهُ } وفي التعرض لعنوان الربوبيةِ والإضافةِ إليهما ما لا يخفى من الدِلالة على إرادة وصولِ الخير إليهما { زكواة } طهارةً من الذنوب والأخلاق الرديئة { وَأَقْرَبَ رُحْماً } أي رحمةً وعطفاً ، قيل : وُلدت لهما جاريةٌ تزوجها نبي فولدت نبياً هدى أي تعالى على يده أمةً من الأمم ، وقيل : ولدت سبعين نبياً ، وقيل : أبدلهما ابناً مؤمناً مثلَهما ، وقرىء رُحُماً بضم الحاء أيضاً وانتصابُه على التمييز مثلُ زكوة .
{ وَأَمَّا الجدار } المعهودُ { فَكَانَ لغلامين يَتِيمَيْنِ فِى المدينة } هي القريةُ المذكورة فيما سبق ، ولعل التعبيرَ عنها بالمدينة لإظهار نوعِ اعتدادٍ بها باعتداد ما فيها من اليتيمين وأبيهما الصالحِ ، قيل : اسماهما أصرم وصريم واسمُ المقتول جيسور { وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا } من فضة وذهب كما رُوي مرفوعاً . والذمُّ على كنزهما في قوله عز وجل : { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة } لمن لا يؤدي زكاتَهما وسائرَ حقوقهما . وقيل : كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه : ( عجبْتُ لمن يؤمن بالقدر كيف يحزَن ، وعجبتُ لمن يؤمن بالرزق كيف يتعَب ، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفُل ، وعجبت لمن يعرِف الدنيا وتقلُّبَها بأهلها كيف يطمئن إليها ، لا إله إلا الله محمد رسول الله ) . وقيل : صحفٌ فيها علم . { وَكَانَ أَبُوهُمَا صالحا } تنبيهٌ على أن سعيَه في ذلك كان لصلاحه ، قيل : كان بينهما وبين الأب الذي حُفظا فيه سبعةُ آباء { فَأَرَادَ رَبُّكَ } أي مالكُك ومدبرُ أمورك ، ففي إضافة الربِّ إلى ضمير موسى عليه الصلاة والسلام دون ضميرهما تنبيهٌ له عليه الصلاة والسلام على تحتم كمالِ الانقيادِ والاستسلامِ لإرادته سبحانه ووجوبِ الاحترازِ عن المناقشة فيما وقع بحسبها من الأمور المذكورة { أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا } أي حُلُمَهما وكمالَ رأيهما { وَيَسْتَخْرِجَا } بالكلية { كَنزَهُمَا } من تحت الجدار ولولا أني أقمتُه لانقضّ وخرج الكنزُ من تحته قبل اقتدارهما على حفظ المال وتنميتِه وضاع { رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } مصدرٌ في موقع الحال أي مرحومَين منه عز وجل ، أو مفعولٌ له أو مصدرٌ مؤكدٌ لأراد فإن إرادةَ الخير رحمةٌ ، وقيل : متعلقٌ بمضمر أي فعلتُ ما فعلتُ من الأمور التي شاهدتَها رحمةً من ربك ، ويعضُده إضافةُ الرب إلى ضمير المخاطبِ دون ضميرهما فيكون قوله عز وعلا : { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى } أي عن رأيي واجتهادي تأكيداً لذلك { ذلك } إشارة إلى العواقب المنظومةِ في سلك البيان ، وما فيه معنى البُعد للإيذان ببُعد درجتِها في الفخامة { تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع } أي لم تستطع فحُذف التاء للتخفيف { عَّلَيْهِ صَبْراً } من الأمور التي رابتْه أي مآلُه وعاقبتُه فيكون إنجازاً للتنبئة الموعودةِ ، أو إلى البيان نفسه فيكون التأويلُ بمعناه ، وعلى كل حالٍ فهو فذلكةٌ لما تقدم ، وفي جعل الصلة عينَ ما مر تكريرٌ للنكير وتشديدٌ للعتاب .(4/280)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)
تنبيه : اختلفوا في حياة الخضر عليه الصلاة والسلام ، فقيل : إنه حيٌّ وسببُه أنه كان على مقدمة ذي القرنين فلما دخل الظلماتِ أصاب الخضرُ عينَ الحياة فنزل واغتسل منها وشرب من مائها وأخطأ ذو القرنين الطريقَ فعاد ، قالوا : وإلياسُ أيضاً في الحياة يلتقيان كلَّ سنة بالموسم ، وقيل : إنه ميتٌ لما رُوي أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى العشاءَ ذاتَ ليلة ، ثم قال : " أرأيتَكم ليلتَكم هذه فإن رأسَ مائةِ سنة منها لا يبقي ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحدٌ ولو كان الخضرُ حينئذ حيًّا لما عاش بعد مائة عام " . رُوي أن موسى عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يفارقه ، قال له : أوصِني ، قال : لا تطلب العلمَ لتحدّث به واطلبُه لتعمل به .
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى القرنين } هم اليهودُ سألوه على وجه الامتحانِ ، أو سألتْه قريشٌ بتلقينهم ، وصيغةُ الاستقبال للدِلالة على استمرارهم على ذلك إلى ورود الجوابِ وهو ذو القرنين الأكبرُ واسمه ( الإسكندرُ بنُ فيلفوس اليوناني ) ، وقال ابن إسحاق : اسمُه ( مَرزُبانُ بنُ مردبةَ ) من ولد يافثَ بنِ نوح عليه الصلاة والسلام وكان أسودَ ، وقيل : اسمُه ( عبد اللَّه بن الضحاك ) ، وقيل : ( مصعبُ بنُ عبد اللَّه بنِ فينانَ بنِ منصور بنِ عبد اللَّه بن الآزَرِ بن عون بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يعرُبَ بن قحطانَ ) . وقال السهيلي : قيل : إن اسمه ( مَرْزُبانُ بنُ مُدرِكةَ ) ذكره ابن هشام وهو أول التبابِعة . وقيل : إنه أفريذون بنُ النعمانِ الذي قتل الضحاك . وذكر أبو الريحان البيروني في كتابه المسمى ب«الآثار الباقية عن القرون الخالية» أن ذا القرنين هو أبو كرب سميّ بن عيرين بن أفريقيس الحِمْيري وأن مُلكَه بلغ مشارقَ الأرض ومغاربَها وهو الذي افتخر به التبّعُ اليماني حيث قال
قد كان المشارقَ جدّي مسلما ... ملِكاً علا في الأرض غيرَ مفنَّد
بلغ المشارقَ والمغاربَ يبتغي ... أسبابَ أمرٍ من حكيم مُرشد
وجعلَ هذا القولَ أقربَ لأن الأذواءَ كانوا من اليمن كذي المنار وذي نواس وذي النون وذي رُعَين وذي يزَن وذي جَدَن . قال الإمام الرازي : والأولُ هو الأظهرُ لأن من بلغ ملكَه من السعة والقوة إلى الغاية التي نطق بها التنزيلُ الجليلُ إنما هو الإسكندر اليونانيُّ كما تشهد به كتبُ التواريخ . يروى أنه لما مات أبوه جَمع مُلكَ الروم بعد أن كان طوائفَ ، ثم قصد ملوكَ العرب وقهرَهم ، ثم أمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ، ثم عاد إلى مصرَ فبنى الاسكندرية وسماها باسمه ، ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيلَ وورد بيتَ المقدس وذبح في مذبحه ، ثم انعطف إلى أرمينيةَ وبابِ الأبواب ودان له العراقيون والقِبطُ والبربرُ ، ثم توجه نحو دارا بنِ دارا وهزمه مراراً إلى أن قتله صاحبُ حرسِه ، واستولى على ممالك الفرسِ وقصدَ الهند وفتحه وبنى مدينة سرنديبَ وغيرَها من المدن العظامِ ، ثم قصد الصينَ وغزا الأمم البعيدةَ ورجع إلى خراسانَ وبنى بها مدائنَ كثيرة ، ورجع إلى العراق ومرض بشهرزورَ ومات ، انتهى كلام الإمام .(4/281)
وروي أن أهلَ النجوم قالوا له : إنك لا تموت إلا على أرض من حديد وتحت سماء من خشب ، وكان يدفِن كنزَ كل بلدةٍ فيها ويكتب ذلك بصفته وموضعِه ، فبلغ بابل فرعَف وسقط عن دابته ، فبُسطت له دروعٌ فنام عليها ، فآذته الشمس فأظلوه بترس ، فنظر فقال : هذه أرض من حديد وسماءٌ من خشب ، فأيقن بالموت فمات وهو ابنُ ألفٍ وستمائة سنة ، وقيل : ثلاثةِ آلافِ سنة . قال ابن كثير : وهذا غريب . وأغربُ منه : ما قاله ابنُ عساكر من أنه بلغني أنه عاش ستاً وثلاثين سنة أو ثنتين وثلاثين سنة ، وأنه كان بعد داود وسليمان عليهما السلام فإن ذلك لا ينطبق إلا على ذي القرنين الثاني كما سنذكره . قلت : وكذا ما ذكره الإمام من قصد بني إسرائيلَ وورودِ بيت المقدس والذبحِ في مذبحه ، فإنه مما لا يكاد يتأتى نسبتُه إلى الأول .
واختُلف في نبوته بعد الاتفاق على إسلامه وولايتِه ، فقيل : كان نبياً لقوله تعالى : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض } وظاهر أنه متناولٌ للتمكين في الدين وكمالُه بالنبوة ، ولقوله تعالى : { واتيناه مِن كُلّ شَىْء سَبَباً } ومن جملة الأشياء النبوةُ ، ولقوله تعالى : { قُلْنَا ياذا القرنين } ونحوِ ذلك ، وقيل : كان ملكاً لما رُوي أن عمرَ رضي الله عنه سمع رجلاً يقول لآخر : يا ذا القرنين ، فقال : اللهم غفراً أما رضِيتم أن تتسموا بأسماء الملائكة .
قال ابن كثير : والصحيحُ أنه ما كان نبياً ولا ملكاً وإنما كان ملكاً صالحاً عادلاً ملَك الأقاليَم وقهر أهَلها من الملوك وغيرَهم ودانتْ له البلادُ ، وأنه كان داعياً إلى الله تعالى سائراً في الخلق بالمَعْدلة التامة والسلطانِ المؤيَّدِ المنصورِ ، وكان الخضر على مقدمة جيشِه بمنزلة المستشار الذي هو من الملك بمنزلة الوزير ، وقد ذكر الأزرقي وغيرُه أنه أسلم على يدَيْ إبراهيمَ الخليلِ عليه الصلاة والسلام فطاف معه بالكعبة هو وإسماعيلُ عليهم السلام . ورُوي أنه حج ماشياً فلما سمع إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام بقدومه تلقاه ودعا له وأوصاه بوصايا ، ويقال : إنه أُتيَ بفرس ليركب فقال : لا أركب في بلد فيه الخليل ، فعند ذلك سُخّر له السحاب وطُويَ له الأسباب وبشره إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام بذلك فكانت السحابُ تحمله وعساكرَه وجميعَ آلاتِهم إذا أرادوا غزوةَ قومٍ ، وقال أبو الطفيل : سُئل عنه عليٌّ كرم الله وجهه أكان نبياً أم ملِكاً؟ فقال : لم يكن نبياً ولا ملكاً لكن كان عبداً أحب الله فأحبه وناصح الله فناصحه سُخر له السحابُ ومُدّ له الأسباب .
واختلف في وجه تسميته بذي القرنين ، فقيل : لأنه بلغ قَرني الشمس مشرِقَها ومغربَها ، وقيل : لأنه ملَك الرومَ وفارسَ ، وقيل : الرومَ والتركَ ، وقيل : لأنه كان في رأسه أو في تاجه ما يشبه القرنين ، وقيل : كان له ذؤابتان ، وقيل : لأنه كانت صفحتا رأسِه من النحاس ، وقيل : لأنه دعا الناس إلى الله عز وجل فضَرب بقرنه الأيمنِ فمات ثم بعثه الله تعالى فضَرب بقرنه الأيسرِ فمات ثم بعثه الله تعالى ، وقيل : لأنه رأى في منامه أنه صعِد الفَلكَ فأخذ بقرني الشمس ، وقيل : لأنه انقرض في عهده قَرنان ، وقيل : لأنه سُخّر له النورُ والظلمة فإذا سرَى يهديه النورُ من أمامه وتحوطه الظلمةُ ورائه ، وقيل : لُقّب به لشجاعته .(4/282)
هذا وأما ذو القرنين الثاني فقد قال ابن كثير : إنه الإسكندر بنُ فيلبسَ بنِ مصريمَ بنِ هُرمُسَ بنِ ميطونَ بنِ رومي بن ليطى بن يونان بن يافثَ بن نونه بن شرخونَ بن روميةَ بن ثونط بن نوفيلَ بن رومي بن الأصفرِ بن العنرِ بن العيصِ بن إسحاقَ بنِ إبراهيمَ الخليلِ عليهما الصلاة والسلام ، كذا نسبه ابنُ عساكرَ المقدونيُّ اليوناني المصريُّ باني الإسكندريةِ الذي يؤرِّخ بأيامه الرومُ ، وكان متأخراً عن الأول بدهر طويلٍ أكثرَ من ألفي سنة ، كان هذا قبل المسيح عليه السلام بنحو من ثلثمائة سنة وكان وزيرُه أرسطاطاليس الفيلسوفَ وهو الذي قتل دارا بنَ دارا وأذلّ ملوكَ الفرس ووطِىء أرضهم . ثم قال ابن كثير : وإنما بيّنا هذا لأن كثيراً من الناس يعتقد أنهما واحدٌ ، وأن المذكورَ في القرآن العظيم هو هذا المتأخرُ فيقع بذلك خطأ كبير وفساد كثيرٌ ، كيف لا والأولُ كان عبداً صالحاً مؤمناً وملكاً عادلاً وزيرُه الخضرُ عليه الصلاة والسلام ، وقد قيل : إنه كان نبياً . وأما الثاني فقد كان كافراً وزيرُه أرسطاطاليس الفيلسوفُ وقد كان ما بينهما من الزمان أكثرَ من ألفي سنة فأين هذا من ذلك؟ انتهى .
قلت : المقدوني نسبةً إلى بلدة من بلاد الروم غربيَّ دارِ السلطنة السنية قُسطنطينيةَ المحمية لا زالت مشحونةً بالشعائر الدينية ، بينهما من المسافة مسيرةُ خمسةَ عشر يوماً أو نحوِ ذلك عند مدينة سَيروزَ اسمُها بلغة اليونانيين مقدونيا ، كانت سريرَ مُلك هذا الإسكندرِ وهي اليوم بلقَعٌ لا يقيم بها أحد ، ولكن فيها علائمُ تحكي كمالَ عِظَمها في عهد عُمرانها ونهايةِ شوكةِ واليها وسلطانِها ، ولقد مررتُ بها عند القُفول من بعض المغازي السُّلطانية فعاينتُ فيها من تعاجيب الآثارِ ما فيه عبرةٌ لأولي الأبصار .
{ قُلْ } لهم في الجواب { يَتْلُو عَلَيْكُمْ } أي سأذكر لكم { مِنْهُ } أي من ذي القرنين { ذِكْراً } أي نبأ مذكوراً ، وحيث كان ذلك بطريق الوحي المتلوِّ حكايةً عن الله عز وجل ، قيل : سأتلو أو سأتلو في شأنه من جهته تعالى ذكراً أي قرآناً ، والسينُ للتأكيد والدِلالة على التحقيق المناسبِ لمقام تأييدِه عليه الصلاة والسلام وتصديقِه بإنجاز وعدِه ، أي لا أترك التلاوةَ البتةَ كما في قوله من قال
سأشكر عَمْراً إن تراخت منيّتي ... أياديَ لك تُمنَنْ وإن هي جلَّتِ
لا للدلالة على أن التلاوة ستقع فيما يستقبل كما قيل ، لأن هذه الآيةَ ما نزلت بإنفرادها قبل الوحي بتمام القصة ، بل موصولةٌ بما بعدها ريثما سألوه عليه الصلاة والسلام عنه وعن الروح وعن أصحاب الكهفِ ، فقال لهم عليه الصلاة والسلام : « ائتوني غداً أخبرْكم » فأبطأ عليه الوحيُ خمسة عشر يوماً أو أربعين كما ذكر فيما سلف .(4/283)
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
وقوله عز وجل : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض } شروعٌ في تلاوة الذكر المعهودِ حسبما هو الموعودُ ، والتمكينُ هاهنا الإقدارُ وتمهيدُ الأسباب ، يقال : مكّنه ومكّن له ومعنى الأولِ جعله قادراً وقوياً ، ومعنى الثاني جعل له قدرةً وقوةً ، ولتلازمهما في الوجود وتقاربهما في المعنى يُستعمل كلٌّ منهما في محل الآخر كما في قوله عز وعلا : { مكناهم فِى الارض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ } أي جعلناهم قادرين من حيث القُوى والأسبابُ والآلاتُ على أنواع التصرفاتِ فيها ، ما لم نجعلْه لكم من القوة والسَّعة في المال والاستظهارِ بالعَدد والأسباب ، فكأنه قيل : ما لم نمكنْكم فيها أي ما لم نجعلْكم قادرين على ذلك فيها أو مكنّا لهم في الأرض ما لم نمكنْ لكم ، وهكذا إذا كان التمكينُ مأخوذاً من المكان بناءً على توهّم ميمِه أصليةً كما أشير إليه في سورة يوسفَ عليه الصلاة والسلام ، والمعنى إنا جعلنا له مَكِنةً وقدرةً على التصرف في الأرض من حيث التدبيرُ والرأيُ والأسبابُ ، حيث سُخّر له السحابُ ، ومُدّ له في الأسباب ، وبُسط له النورُ ، وكان الليلُ والنهار عليه سواءً ، وسُهِّل عليه السيرُ في الأرض ، وذُلّلت له طرقها { واتيناه مِن كُلّ شَىْء } أراده من مُهمّات مُلكه ومقاصدِه المتعلقة بسلطانه { سَبَباً } أي طريقاً يوصله إليه وهو كلُّ ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة .(4/284)
فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
{ فَأَتْبَعَ } بالقطع ، أي فأراد بلوغَ المغرب فأتبع { سَبَباً } يوصله إليه ، ولعل قصدَ بلوغِ المغرب ابتداءً لمراعاة الحركةِ الشمسية ، وقرىء فاتّبع من الافتعال والفرق أن الأولَ فيه معنى الإدراك والإسراعِ دون الثاني .
{ حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس } أي منتهى الأرضِ من جهة المغرب بحيث لا يتمكن أحدٌ من مجاوزته ، ووقف على حافة البحر المحيطِ الغربي الذي يقال له أوقيانوس الذي فيه الجزائرُ المسماة بالخالدات التي هي مبدأُ الأطوال على أحد القولين { وَجَدَهَا } أي الشمس { تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ } أي ذاتِ حَمأة وهي الطينُ الأسود من حمِئت البئرُ إذا كثرت حَمأتُها ، وقرىء حامية أي حارّة . روي أن معاوية رضي الله عنه قرأ ( حامية ) وعنده ابن عباس رضي الله عنهما فقال : ( حَمِئة ) ، فقال معاوية لعبد اللَّه بن عمرو بن العاص : كيف تقرأ؟ قال : كما يقرأ أمير المؤمنين ، ثم وجه إلى كعب الأحبار : كيف تجد الشمسَ تغرب؟ قال : في ماء وطين . وروي في ثَأْط فوافق قول ابن عباس رضي الله عنهما ، وليس بينهما منافاةٌ قطعية لجواز كون العينِ جامعةً بين الوصفين وكونِ الياء في الثانية منقلبةً عن الهمزة لانكسار ما قبلها . وأما رجوعُ معاوية إلى قول ابن عباس رضي الله عنهم بما سمعه من كعب مع أن قراءته أيضاً مسموعةٌ قطعاً ، فلكون قراءةِ ابن عباس رضي الله عنهما قطعيةً في مدلولها وقراءتهِ محتمَلةً . ولعله لما بلغ ساحلَ المحيط رآها كذلك إذ ليس في مطمح بصره غيرُ الماء كما يلوح به قوله تعالى : { وَجَدَهَا تَغْرُبُ } { وَوَجَدَ عِندَهَا } عند تلك العين { قَوْماً } قيل : كان لباسُهم جلودَ الوحوش وطعامُهم ما لفَظه البحر ، وكانوا كفاراً فخيّره الله جل ذكره بين أن يعذبهم بالقتل وأن يدعوَهم إلى الإيمان وذلك قوله تعالى : { قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّا أَن تُعَذّبَ } بالقتل من أول الأمر { وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } أي أمراً ذا حُسْن على حذف المضافِ أو على طريقةِ إطلاقِ المصدر على موصوفه مبالغةً ، وذلك بالدعوة إلى الإسلام والإرشاد إلى الشرائع ، ومحلُّ أن مع صلته إما الرفعُ على الابتداء أو الخبرية وإما النصبُ على المفعولية ، أي إما تعذيبُك واقعٌ أو إما تفعلُ تعذيبَك وهكذا الحال في الاتخاذ ، ومن لم يقل بنبوته قال : كان ذلك الخطابُ بواسطة نبيَ في ذلك العصر أو كان ذلك إلهاماً لا وحياً بعد أن كان ذلك التخييرُ موافقاً لشريعة ذلك النبي .(4/285)
قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)
{ قَالَ } أي ذو القرنين لذلك النبيِّ أو لمن عنده من خواصّه بعد ما تلقّى أمرَه تعالى مختاراً للشق الأخير { أَمَّا مَن ظَلَمَ } أي نفسَه ولم يقبل دعوتي وأصرّ على ما كان عليه من الظلم العظيم الذي هو الشركُ { فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } بالقتل . وعن قتادة أنه كان يطبُخ مَنْ كفر في القدور ومن آمن أعطاه وكساه { ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبّهِ } في الآخرة { فَيْعَذّبُهُ } فيها { عَذَاباً نُّكْراً } أي منكراً فظيعاً وهو عذابُ النار ، وفيه دِلالةٌ ظاهرةٌ على أن الخطابَ لم يكن بطريق الوحي إليه وأن مقاولتَه كانت مع النبي أو مع من عنده من أهل مشورتِه .
{ وَأَمَّا مَنْ امَنَ } بموجب دعوتي { وَعَمِلَ } عملاً { صالحا } حسبما يقتضيه الإيمان { فَلَهُ } في الدارين { جَزَاء الحسنى } أي فله المثوبةُ الحسنى أو الفِعلةُ الحسنى أو الجنةُ جزاءً ، على أنه مصدرٌ مؤكدٌ لمضمون الجملةِ قُدّم على المبتدأ اعتناءً به ، أو منصوب بمضمر أي نجزي بها جزاء ، والجملةُ حالية أو معترضة بين المبتدأ والخبرِ المتقدمِ عليه أو حال أي مجزياً بها أو تمييز ، وقرىء منصوباً غيرَ منوّن على أنه سقط تنوينُه لالتقاء الساكنين ومرفوعاً منوّناً على أنه المبتدأُ والحسنى بدلُه والخبرُ الجارُّ والمجرور . وقيل : خُيّر بين القتل والأسرِ والجوابُ من باب الأسلوبِ الحكيم لأن الظاهرَ التخييرُ بينهما وهم كفار ، فقال : أما الكافرُ فيراعى في حقه قوةُ الإسلام وأما المؤمنُ قلا يُتعرَّض له إلا بما يحب ، ويجوز أن تكون إما وأما للتوزيع دون التخيير أي وليكن شأنُك معهم إما التعذيبَ وإما الإحسانَ فالأول لمن بقيَ على حاله والثاني لمن تاب { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا } أي مما نأمر به { يُسْراً } أي سهلاً متيسراً غيرَ شاقَ وتقديرُه ذا يُسر ، أو أُطلق عليه المصدرُ مبالغةً ، وقرىء بضمتين .
{ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً } أي طريقاً راجعاً من مغرب الشمس موصلاً إلى مشرقها { حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشمس } يعني الموضِعَ الذي تطلع عليه الشمسُ أولاً من معمورة الأرض ، وقرىء بفتح اللام على تقدير مضاف أي مكان طلوعِ الشمس فإنه مصدر ، قيل : بلغه في اثنتي عشرة سنة ، وقيل : في أقلَّ من ذلك بناء على ما ذكر من أنه سُخّر له السحابُ وطُويَ له الأسباب { وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مّن دُونِهَا سِتْراً } من اللباس والبناء ، قيل : هم الزَّنْج . وعن كعب : أن أرضَهم لا تُمسك الأبنية وبها أسرابٌ ، فإذا طلعت الشمسُ دخلوا الأسرابَ أو البحر ، فإذا ارتفع النهارُ خرجوا إلى معايشهم ، وعن بعضهم : خرجتُ حتى جاوزت الصينَ فسألت عن هؤلاء فقالوا : بينك وبينهم مسيرةُ يومٍ وليلةٍ ، فبلغتُهم فإذا أحدُهم يفرُش أُذنه ويلبَس الأخرى ومعي صاحبٌ يعرِف لسانهم ، فقالوا له : جئتنا تنظرُ كيف تطلُع الشمس ، قال : فبينما نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة فغُشيَ عليّ ثم أفقتُ وهم يمسحونني بالدُّهن ، فلما طلعت الشمسُ على الماء إذا هو فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سرَباً لهم ، فلما ارتفع النهارُ خرجوا إلى البحر يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضَج لهم ، وعن مجاهد : من لا يلبَس الثيابَ من السودان عن مطلع الشمس أكثرُ من جميع أهلِ الأرض .(4/286)
كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
{ كذلك } أي أمرُ ذي القرنين كما وصفناه لك في رفعة المحلِّ وبسطةِ المُلك ، أو أمرُه فيهم كأمره في أهل المغرِب من التخيير والاختيارِ ، ويجوز أن يكون صفةَ مصدرٍ محذوف لوجد أو نجعل أو صفةَ قومٍ ، أي على قوم مثلَ ذلك القَبيل الذي تغرُب عليهم الشمس في الكفر والحُكم ، أو ستراً مثلَ سترِكم من اللباس والأكنان والجبال وغيرِ ذلك { وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ } من الأسباب والعَدد والعُدد { خُبْراً } يعني أن ذلك من الكثرة بحيث لا يحيط به إلا علمُ اللطيفِ الخبير . هذا على الوجه الأولِ وأما على الوجوه الباقيةِ فالمرادُ بما لديه ما يتناول ما جرى عليه وما صدر عنه وما لاقاه فتأمل .
{ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً } أي طريقاً ثالثاً معترِضاً بين المشرق والمغرب آخذاً من الجنوب إلى الشمال { حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } بين الجبلين الذين سُدّ ما بينهما وهو منقطَعُ أرضِ الترك مما يلي المشرِق ، لا جبلا أرمينيةَ وأَذَرْبيجان كما توهم ، وقرىء بالضم ، قيل : ما كان من خلق الله تعالى فهو مضموم وما كان من عمل الخلق فهو مفتوح ، وانتصاب بين على المفعولية لأنه مبلوغ وهو من الظروف التي تستعمل أسماءً أيضاً كما ارتفع في قوله تعالى : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } وانجرّ في قوله تعالى : { هذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ } { وَجَدَ مِن دُونِهِمَا } أي من ورائهما مجاوزاً عنهما { قَوْماً } أي أمة من الناس { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } لغرابة لغتِهم وقلة فِطنتِهم ، وقرىء من باب الإفعال أي لا يُفهمون السامعَ كلامَهم ، واختلفوا في أنهم من أي الأقوام ، فقال الضحاك : هم جيلٌ من الترك ، وقال السدي : التّركُ سريةٌ من يأجوجَ ومأجوجَ ، خرجت فضرب ذو القرنين السدّ فبقيت خارجَه فجميعُ الترك منهم ، وعن قتادة : أنهم اثنتان وعشرون قبيلة سدّ ذو القرنين على إحدى وعشرين قبيلةً منهم وبقيت واحدة فسُمّوا التركَ لأنهم تركوا خارجين .
قال أهل التاريخ : أولادُ نوح عليه السلام ثلاثةٌ : سامٌ وحامٌ ويافثُ ، فسامٌ أبو العرب والعجمِ والروم ، وحامٌ أبو الحبشةِ والزَّنج والنُّوبة ، ويافثُ أبو الترك والخَزَر والصقالبة ويأجوجَ ومأجوج .
{ قَالُواْ } أي بواسطة مترجمِهم أو بالذات على أن يكون فهمُ ذي القرنين كلامَهم وإفهامُ كلامِه إياهم من جملة ما آتاه الله تعالى من الأسباب { ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ } قد ذكرنا أنهما من أولاد يافثَ بنِ نوحٍ عليه السلام ، وقيل : يأجوجُ من الترك ومأجوجُ من الجيل ، واختلف في صفاتهم فقيل : في غاية صِغرِ الجُثة وقِصَر القامة لا يزيد قدُّهم على شبر واحد ، وقيل : في نهاية عِظَم الجسم وطولِ القامة تبلغ قدُودهم نحوَ مِائةٍ وعشرين ذراعاً وفيهم من عَرضُه كذلك ، وقيل : لهم مخالبُ وأضراسٌ كالسباع وهما اسمانِ أعجميان بدليل منْع الصرفِ ، وقيل : عربيان من أجّ الظليمُ إذا أسرع وأصلهما الهمزة كما قرأ عاصم ، وقد قرىء بغير همزةٍ ومُنع صرفُهما للتعريف والتأنيث { مُفْسِدُونَ فِى الأرض } أي في أرضنا بالقتل والتخريب وإتلافِ الزروع ، وقيل : كانوا يخرُجون أيام الربيع فلا يتركون أخضرَ إلا أكلوه ولا يابساً إلا احتملوه ، وقيل : كانوا يأكلون الناسَ أيضاً { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً } أي جُعْلاً من أموالنا ، والفاء لتفريع العَرض على إفسادهم في الأرض ، وقرىء خَراجا وكلاهما واحد كالنَّول والنوال ، وقيل : الخراجُ ما على الأرض والذمة والخَرْجُ المصدر ، وقيل : الخرج ما كان على كل رأس والخراجُ ما كان على البلد ، وقيل : الخرجُ ما تبرعْتَ به والخراج ما لزِمك أداؤُه { على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّا } وقرىء بالضم .(4/287)
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
{ قَالَ مَا مَكَّنّى } بالإدغام وقرىء بالفك ، أي ما مكّنني { فِيهِ رَبّى } وجعلني فيه مكيناً وقادراً من المُلك والمال وسائرِ الأسباب { خَيْرٌ } أي مما تريدون أن تبذُلوه إليّ من الخَرْج فلا حاجة بي إليه { فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ } أي بفَعَلة وصُنّاع يُحسنون البناءَ والعمل وبآلات لا بد منها من البناء ، والفاءُ لتفريع الأمر بالإعانة على خيرية ما مكّنه الله تعالى فيه من مالهم أو على عدم قَبولِ خَرْجهم { أَجَعَلَ } جواب للأمر { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ } تقديمُ إضافةِ الظرف إلى ضمير المخاطبين على إضافته إلى ضمير يأجوج ومأجوج ، لإظهار كمالِ العناية بمصالحهم كما راعَوْه في قولهم : بيننا وبينهم { رَدْمًا } أي حاجزاً حصيناً وبرزخاً متيناً وهو أكبرُ من السدّ وأوثقُ ، يقال : ثوبٌ مُرَدّم أي فيه رِقاع فوق رِقاعٍ وهذا إسعافٌ بمرامهم فوق ما يرجونه .
{ ءَاتُونِى زُبَرَ زُبَرَ الحديد } جمع زُبْره كغرف في غرفة وهي القطعةُ الكبيرة وهذا لا ينافي ردّ خراجِهم لأن المأمورَ به الإيتاءُ بالثمن أو المناولةُ كما ينبىء عنه القراءة بوصل الهمزة ، أي جيئوني بزُبَر الحديد على حذف الباء كما في أمرتك الخيرَ ، ولأن إيتاءَ الآلة من قبيل الإعانةِ بالقوة دون الخَراج على العمل ، ولعل تخصيصَ الأمر بالإيتاء بها دون سائرِ الآلات من الصخور والحطبِ ونحوِهما لِما أن الحاجة إليها أمسُّ إذ هي الركنُ في السد ووجودُها أعزُّ . قيل : حفَر الأساسَ حتى بلغ الماء وجعل الأساسَ من الصخر والنحاس المذابِ والبنيانَ من زُبر الحديد بينها الحطبُ والفحم حتى سدّ ما بين الجبلين إلى أعلاهما وكان مائةَ فرسخ وذلك قوله عز قائلاً : { حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين } أي آتَوه إياها فإخذ يبني شيئاً فشيئاً حتى إذا جعل ما بين ناحيتي الجبلين من البنيان مساوياً لهما في السَّمْك على النهج المحكيِّ ، قيل : كان ارتفاعُه مائتي ذارعٍ وعَرضُه خمسين ذراعاً ، وقرىء سوّى من التسوية وسُووِيَ على البناء للمجهول { قَالَ } للعَمَلة { انفخوا } أي بالكيران في الحديد المبني ففعلوا { حتى إِذَا جَعَلَهُ } أي المنفوخ فيه { نَارًا } أي كالنار في الحرارة والهيئة ، وإسنادُ الجعل المذكور إلى ذي القرتين مع أنه فعلُ الفَعَلة للتنبيه علي أنه العُمدة في ذلك وهم بمنزلة الآلةِ { قَالَ } للذين يتولَّوْن أمرَ النحاس من الإذابة ونحوِهما { اتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } أي آتوني قِطراً أي نُحاساً مذاباً أفرِغْ عليه قطراً ، فحُذف الأول لدِلالة الثاني عليه ، وقرىء بالوصل أي جيئوني كأنه يستدعيهم للإعانة باليد عند الإفراغ وإسنادُ الإفراغِ إلى نفسه للسر الذي وقفت عليه آنفاً وكذا الكلامُ في قوله تعالى : { سَاوِى } وقولِه تعالى : { أَجَعَلَ } .(4/288)
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
{ فَمَا اسطاعوا } بحذف تاء الافتعال تخفيفاً وحذَراً عن تلاقي المتقارِبَين ، وقرىء بالإدغام وفيه جمعٌ بين الساكنين على غير حِدَة ، وقرىء بقلب السين صاداً ، والفاء فصيحةٌ أي فعلوا ما أُمروا به من إيتاء القِطْر أو الإتيانِ ، فأفرغَه عليه ، فاختلط والتصق بعضُه ببعض ، فصار جبلاً صَلْداً ، فجاء يأجوجُ ومأجوجُ ، فقصدوا أن يعلُوه وينقُبوه فما استطاعوا { أَن يَظْهَرُوهُ } أي يعلوه ويرقَوا فيه لارتفاعه وملاسته { وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْبًا } لصلابته وثخانتِه ، وهذه معجزةٌ عظيمةٌ لأن تلك الزُبَرَ الكثيرةَ إذا أثرت فيها حرارةُ النار لا يقدر الحيوانُ على أن يحوم حولها فضلاً عن النفخ فيها إلى أن تكون كالنار ، أو عن إفراغ القِطر عليها فكأنه سبحانه وتعالى صرف تأثيرَ الحرارةِ العظيمة عن أبدان أولئك المباشرين للأعمال فكان ما كان والله على كل شيء قدير . وقيل : بناه من الصخور مرتبطاً بعضُها ببعض بكلاليب من حديد ونحاسٍ مُذاب في تجاويفها بحيث لم يبق هناك فُرجةٌ أصلاً .
{ قَالَ } أي ذو القرنين لمن عنده من أهل تلك الديارِ وغيرهم { هذا } إشارةٌ إلى السد ، وقيل : إلى تمكينه من بنائه والفضلُ للمتقدم أي هذا الذي ظهر على يدي وحصل بمباشرتي من السد الذي شأنُه ما ذكر من المتانة وصعوبةِ المنال { رَحْمَةً } أي أثرُ رحمةٍ عظيمة عبر عنه بها مبالغةً { مّن رَّبّى } على كافة العباد لا سيما على مجاوريه ، وفيه إيذانٌ بأنه ليس من قبيل الآثارِ الحاصلةِ بمباشرة الخلقِ عادةً بل هو إحسانٌ إلهي محضٌ وإن ظهر بمباشرتي ، والتعرّضُ لوصف الربوبية لتربية معنى الرحمة .
{ فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبّى } مصدر بمعنى المفعول وهو يومُ القيامة لا خروجُ يأجوجَ ومأجوجَ كما قيل إذ لا يساعده النظمُ الكريم ، والمراد بمجيئه ما ينتظم مجيئَه ومجيءَ مباديه من خروجهم وخروجِ الدجالِ ونزولِ عيسى عليه الصلاة والسلام ونحوِ ذلك لا دنوُّ وقوعِه فقط كما قيل ، فإن بعضَ الأمور التي ستحكى تقع بعد مجيئِه حتماً { جَعَلَهُ } أي السدَّ المشارَ إليه مع متانته ورصانتِه ، وفيه من الجزالة ما ليس في توجيه الإشارةِ السابقة إلى التمكين المذكور { دَكَّاء } أي أرضاً مستويةً ، وقرىء دكاً أي مدكوكاً مسوَّى بالأرض ، وكلُّ ما انبسط بعد ارتفاعٍ فقد اندك ومنه الجملُ الأدكُّ أي المنبسطُ السنام ، وهذا الجعلُ وقت مجيءِ الوعد بمجيء بعضِ مباديه ، وفيه بيانٌ لعظم قدرتِه عز وجل بعد بيان سعةِ رحمته { وَكَانَ وَعْدُ رَبّى } أي وعدُه المعهودُ أو كلُّ ما وعد به فيدخُل فيه ذلك دخولاً أولياً { حَقّاً } ثابتاً لا محالةَ واقعاً البتة ، وهذه الجملةُ تذييلٌ من ذي القرنين لما ذكره من الجملة الشرطيةِ ومقرِّرٌ مؤكدٌ لمضمونها وهو آخرُ ما حُكي من قصته .(4/289)
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
وقوله عز وجل : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ } كلامٌ مَسوقٌ من جنابه تعالى معطوفٌ على قوله تعالى : { جَعَلَهُ دَكَّاء } ومحقِّقٌ لمضمونه أي جعلنا بعضَ الخلائق { يَوْمَئِذٍ } أي يوم إذ جاء الوعدُ بمجيء بعضِ مباديه { يَمُوجُ فِى بَعْضٍ } آخرَ منهم يضطربون اضطرابَ أمواجِ البحر ويختلط إنسُهم وجنُّهم حَيارى من شدة الهول ، ولعل ذلك قبل النفخةِ الأولى ، أو تركنا بعضَ يأجوجَ ومأجوجَ يموج في بعض آخرَ منهم حين يخرُجون من السد مزدحمين في البلاد . روي أنهم يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابَّه ثم يأكلون الشجرَ ومن ظفِروا به ممن لم يتحصّن منهم من الناس ، ولا يقدِرون أن يأتوا مكةَ والمدينة وبيتَ المقدسِ ثم يبعث الله عز وجل نَغَفاً في أقفائهم فيدخُل آذانَهم فيموتون موتَ نفس واحدة ، فيرسل الله تعالى عليهم طيراً فتلقيهم في البحر ثم يرسل مطراً يغسل الأرض ويطهرها من نَتْنهم حتى يترُكها كالزَّلَفة ثم يوضع فيها البركة وذلك بعد نزولِ عيسى عليه الصلاة والسلام وقتْل الدجال .
{ وَنُفِخَ فِى الصور } هي النفخةُ الثانية بقضية الفاء قوله تعالى { فجمعناهم } ولعل عدمَ التعرضِ لذكر النفخةِ الأولى لأنها داهيةٌ عامةٌ ليس فيها حالةٌ مختصة بالكفار ، ولئلا يقعَ الفصلُ بين ما يقع منها في النشأة الأولى من الأحوال والأهوالِ ، وبين ما يقع منها في النشأة الآخرة ، أي جمعنا الخلائقَ بعدما تفرقت أوصالُهم وتمزقت أجسادُهم في صعيد واحدٍ للحساب والجزاء { جَمْعاً } أي جمعاً عجيباً لا يُكتَنُه كُنهُه .
{ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ } أي أظهرناها وأبرزناها { يَوْمَئِذٍ } أي يومَ إذْ جمعنا الخلائقَ كافة { للكافرين } منهم حيث جعلناها بحيث يرَوْنها ويسمعون لها تغيظاً وزفيراً { عَرْضاً } أي عرضاً فظيعاً هائلاً لا يُقادَر قدرُه ، وتخصيصُ العَرض بهم مع أنها بمرأى من أهل الجمعِ قاطبةً لأن ذلك لأجلهم خاصة .
{ الذين كَانَتْ } وهم في الدنيا { أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَاء } كثيف وغشاوةٍ غليظة مُحاطةٍ من جميع الجوانب { عَن ذِكْرِى } عن الآيات المؤديةِ لأولي الأبصار المتدبرين فيها إلى ذكري بالتوحيد والتمجيدِ ، أو كانت أعينُ بصائِرهم في غطاء عن ذكري على وجه يليق بشأني أو عن القرآن الكريم { وَكَانُواْ } مع ذلك { لاَ يَسْتَطِيعُونَ } لفَرْط تصامِّهم عن الحق وكمالِ عداوتهم للرسول عليه الصلاة والسلام { سَمْعاً } استماعاً لذكري وكلامي الحقِّ الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه ، وهذا تمثيلٌ لإعراضهم عن الأدلة السمعيةِ كما أن الأولَ تصويرٌ لتعاميهم عن الآيات المشاهَدةِ بالأبصار ، والموصولُ نعتٌ للكافرين أو بدلٌ منه أو بيانٌ جيء به لذمهم بما في حيز الصلةِ وللإشعار بعلّيته لإصابة ما أصابهم من عرض جهنمَ لهم ، فإن ذلك إنما هو لعدم استعمالِ مشاعرِهم فيما عَرَض لهم في الدنيا من الآيات وإعراضِهم عنها مع كونها أسباباً منجِّيةً عما ابتُلوا به في الآخرة .(4/290)
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)
{ أَفَحَسِبَ الذين كَفَرُواْ } أي كفروا بي كما يُعرب عنه قوله تعالى : { عِبَادِى } والحُسبان بمعنى الظن وقد قرىء أفظنّ والهمزةُ للإنكار والتوبيخِ على معنى إنكارِ الواقعِ واستقباحِه ، كما في قولك : أضربتَ أباك؟ لا إنكارِ الوقوعِ ، كما في قوله : أأضرِب أبي؟ والفاء للعطف على مقدر يُفصح عنه الصلةُ على توجيه الإنكارِ والتوبيخِ إلى المعطوفَين جميعاً كما إذا قُدّر المعطوفُ عليه في قوله تعالى : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } منفياً أي لا تسمعون فلا تعقلون لا إلى المعطوف فقط كما إذا قُدّر مُثْبتاً أي أتسمعون فلا تعقلون ، والمعنى أكفروا بي مع جلالة شأني فحسِبوا { أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِى } من الملائكة وعيسى وعُزيرٍ عليهم السلام وهم تحت سلطاني وملكوتي { أَوْلِيَاء } معبودين ينصُرونهم من بأسي ، وما قيل إنها للعطف على ما قبلها من قوله تعالى : { كَانَتْ } الخ { وَكَانُواْ } الخ دَلالةً على أن الحُسبانَ ناشىءٌ من التعامي والتصامِّ وأُدخل عليها همزةُ الإنكار ذماً على ذم وقطعاً له عن المعطوف عليهما لفظاً لا معنى للإيذان بالاستقلال المؤكّدِ للذم يأباه تركُ الإضمار والتعرضُ لوصف آخرَ غيرِ التعامي والتصامِّ على أنهما أُخرجا مُخرَجَ الأحوال الجِبِلّية لهم ، ولم يذكروا من حيث إنهما من أفعالهم الاختيارية الحادثة كحُسبانهم ليحسُن تفريعُه عليهما ، وأيضاً فإنه دينٌ قديمٌ لا يمكن جعلُه ناشئاً عن تصامّهم عن كلام الله عز وجل ، وتخصيصُ الإنكار بحُسبانهم المتأخرِ عن ذلك تعسّفٌ لا يخفى ، وما في حيز صلةِ أن سادٌّ مسدَّ مفعولَيْ حسِب كما في قوله تعالى : { وَحَسِبُواْ أَن لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي أفحسبوا أنهم يتخذونهم أولياءَ على معنى أن ذلك ليس من الاتخاذ في شيء لِما أنه إنما يكون من الجانبين ، وهم عليهم الصلاة والسلام منزَّهون عن وَلايتهم بالمرة لقولهم : { سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ } وقيل : مفعولُه الثاني محذوفٌ أي أفحسبوا اتخاذَهم نافعاً لهم ، والوجهُ هو الأولُ لأن في هذا تسليماً لنفس الاتخاذِ واعتداداً به في الجملة ، وقرىء أفحَسْبُ الذين كفروا أي أفحسبُهم وكافيهم أن يتخذوهم أولياءَ على الابتداء والخبرِ ، أو الفعلِ والفاعل فإن النعتَ إذا اعتمد الهمزةَ ساوى الفعلَ في العمل ، فالهمزة حينئذ بمعنى إنكار الوقوع { إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ } أي هيأناها { للكافرين } المعهودين ، عدلَ عن الإضمار ذمًّا لهم وإشعاراً بأن ذلك الاعتادَ بسبب كفرهم المتضمّنِ لحسبانهم الباطل { نُزُلاً } أي شيئاً يتمتعون به عند ورودِهم وهو ما يقام للنزيل أي الضيفِ مما حضر من الطعامِ ، وفيه تخطئةٌ لهم في حسبانهم وتهكّمٌ بهم حيث كان اتخاذُهم إياهم أولياءَ من قبيل إعتاد العتادِ وإعدادِ الزاد ليوم المعاد ، فكأنه قيل : إنا أعتدنا لهم مكان ما أعدّوا لأنفسهم من العُدة والذُّخْر جهنمَّ عُدّةً . وفي إيراد النُزُل إيماءٌ إلى أن لهم وراءَ جهنمَ من العذاب ما هو أنموذجٌ له ، وقيل : النزلُ موضعُ النزول ، ولذلك فسره ابن عباس رضي الله عنهما بالمثوى .
{ قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم } الخطابُ الثاني للكفرة على وجه التوبيخِ والجمعُ في صيغة المتكلم لتعيينه من أول الأمر وللإيذان بمعلومية النبأ للمؤمنين أيضاً { بالأخسرين أعمالا } نصبٌ على التمييز والجمعُ للإيذان بتنوعها ، وهذا بيانٌ لحال الكفرة باعتبار ما صدَر عنهم من الأعمال الحسَنةِ في أنفسها وفي حُسبانهم أيضاً حيث كانوا معجَبين بها واثقين بنيل ثوابِها ومشاهدةِ آثارِها غِبَّ بيان حالِهم باعتبار أعمالِهم السيئةِ في أنفسها مع كونها حسنةً في حسبانهم .(4/291)
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)
{ الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ } في إقامة تلك الأعمالِ أي ضاع وبطَل بالكلية { وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم } متعلقٌ بالسعي لا بالضلال لأن بُطلاَن سعيِهم غيرُ مختصَ بالدنيا ، قيل : المرادُ بهم أهلُ الكتابين قاله ابن عباس وسعدُ بنُ أبي وقاص ومجاهدٌ رضي الله عنهم ، ويدخُل في الأعمال حينئذ ما عمِلوه من الأحكام المنسوخةِ المتعلقةِ بالعبادات ، وقيل : الرهابنةُ الذين يحبِسون أنفسَهم في الصوامع ويحمِلونها على الرياضات الشاقّة ، ولعله ما يُعمهم وغيرَهم من الكفرة ، ومحلُّ الموصول الرفعُ على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ لأنه جوابٌ للسؤال ، كأنه قيل : من هم؟ فقيل : الذين الخ ، وجعلُه مجروراً على أنه نعتٌ للأخسرين أو بدلٌ منه أو منصوباً على الذم على أن الجوابَ ما سيأتي من قوله تعالى : { أولئك } الآية يأباه أن صدرَه ليس مُنْبئاً عن خُسران الأعمالِ وضلالِ السعي كما يستدعيه مقامُ الجواب ، والتفريعُ الأولُ وإن دل على حبوطها لكنه ساكتٌ عن إنباء ما هو العُمدةُ في تحقيق معنى الخسرانِ من الوثوق بترتب الربحِ واعتقاد النفعِ فيما صنعوا على أن التفريعَ الثانيَ يقطع ذلك الاحتمالَ رأساً إذ لا مجال لإدراجه تحت الأمرِ بقضية نونِ العظمة .
{ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } الإحسانُ الإتيانُ بالأعمال على الوجه اللائقِ وهو حسنُها الوصفيُّ المستلزِمُ لحسنها الذاتي ، أي يحسبَون أنهم يعملون ذلك على الوجه اللائقِ وذلك لإعجابهم بأعمالهم التي سعَوا في إقامتها وكابدوا في تحصيلها ، والجملةُ حالٌ من فاعل ضل أي بطل سعيُهم المذكورُ والحالُ أنهم يحسَبون أنهم يُحسنون في ذلك وينتفعون بآثاره ، أو من المضاف إليه لكونه في محل الرفعِ نحوُ قوله تعالى : { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } أي بطل سعيُهم والحالُ أنهم الخ ، والفرقُ بينهما أن المقارِنَ لحال حُسبانِهم المذكورِ في الأول ضلالُ سعيهم وفي الثاني نفسُ سعيهم والأولُ أدخلُ في بيان خطئهم .
{ أولئك } كلامٌ مستأنفٌ من جنابه تعالى مَسوقٌ لتكميل تعريفِ الأخسرين وتبيينِ سبب خسرانِهم وضلالِ سعيهم وتعيينِهم بحيث ينطبق التعريفُ على المخاطبين غيرُ داخلٍ تحت الأمر ، أي أولئك المنعوتون بما ذكر من ضلال السعي مع الحسبان المزبورِ { الذين كَفَرُواْ بئايات رَبّهِمْ } بدلائله الداعيةِ إلى التوحيد عقلاً ونقلاً ، والتعرضُ لعنوان الربوبيةِ لزيادة تقبيحِ حالِهم في الكفر المذكور { وَلِقَائِهِ } بالبعث وما يتبعه من أمور الآخرة على ما هي عليه { فَحَبِطَتْ } لذلك { أعمالهم } المعهودةُ حبوطاً كلياً { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ } أي لأولئك الموصوفين بما مر من حبوط الأعمالِ ، وقرىء بالياء { يَوْمَ القيامة وَزْناً } أي فنزدريهم ولا نجعل لهم مقداراً واعتباراً لأن مدارَه الأعمالُ الصالحة وقد حبِطت بالمرة ، وحيث كان هذا الازدراءُ من عواقب حبوطِ الأعمال عُطف عليه بطريق التفريعِ ، وأما ما هو من أجزية الكفرِ فسيجيء بعد ذلك ، أو لا نضع لأجل وزنِ أعمالِهم ميزاناً لأنه إنما يوضع لأهل الحسناتِ والسيئاتِ من الموحّدين ليتمَّمَ به مقاديرُ الطاعات والمعاصي ليترتب عليه التكفير أو عدمُه لأن ذلك في الموحدين بطريق الكمية ، وأما الكفرُ فإحباطه للحسنات بحسب الكيفيةِ دون الكمية فلا يوضع لهم الميزانُ قطعاً .(4/292)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)
{ ذلك } بيانٌ لمآل كفرهم وسائرِ معاصيهم إثرَ بيان مآلِ أعمالِهم المحبَطة بذلك أي الأمرُ ذلك ، وقوله عز وجل : { جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ } جملةٌ مبيِّنةٌ له أو ذلك مبتدأٌ والجملةُ خبرُه والعائدُ محذوفٌ ، أي جزاؤُهم به أو جزاؤهم بدلَه وجهنمُ خبرُه أو جزاؤهم خبرُه وجهنمُ عطفُ بيانٍ للخبر { بِمَا كَفَرُواْ } تصريحٌ بأن ما ذكر جزاءٌ لكفرهم المتضمن لسائر القبائحِ التي أنبأ عنها قوله تعالى : { واتخذوا ءاياتى وَرُسُلِى هُزُواً } أي مهزوًّا بهما فإنهم لم يقتنعوا بمجرد الكفرِ بالآيات والرسل ، بل ارتكبوا مثلَ تلك العظيمة أيضاً .
{ إِنَّ الذين ءامَنُواْ } بيانٌ بطريق الوعدِ لمآل الذين اتصفوا بأضداد ما اتصف به الكفرةُ إثرَ بيانِ ما لهم بطريق الوعيد ، أي آمنوا بآيات ربِّهم ولقائه { وَعَمِلُواْ الصالحات } من الأعمال { كَانَتْ لَهُمْ } فيما سبق من حكم الله تعالى ووعدِه ، وفيه إيماءٌ إلى أن أثرَ الرحمةِ يصل إليهم بمقتضى الرأفةِ الأزليةِ بخلاف ما مر من جعل جهنم للكافرين نزلاً ، فإنه بموجب ما حدث من سوء اختيارِهم { جنات الفردوس } عن مجاهد : أن الفردوسَ هو البستانُ بالرومية ، وقال عكرمة : هو الجنةُ بالحبشية ، وقال الضحاك : هو الجنة الملتفّةُ الأشجار ، وقيل : هي الجنةُ التي تُنبتُ ضروباً من النبات ، وقيل : هي الجنةُ من الكرم خاصة ، وقيل : ما كان غالبة كَرْماً ، وقال المبرد : هو فيما سمعتُ من العرب للشجر الملتفِّ والأغلب عليه أن يكون من العنب ، وعن كعب : أنه ليس في الجنان أعلى من جنة الفردوس وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « في الجنة مائةُ درجةٍ ما بين كلِّ درجةٍ مسيرةُ مائة عام ، والفردوسُ أعلاها وفيها الأنهارُ الأربعةُ فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفِردوسَ فإن فوقه عرشَ الرحمن ومنه تفجّر أنهار الجنة » { نُزُلاً } خبرُ كانت والجار والمجرور متعلقٌ بمحذوف على أنه حالٌ من نزلاً ، أو على أنه بيانٌ أو حالٌ من جنات الفردوس والخبرُ هو الجارُّ والمجرورُ فإن جعل النزول بمعنى ما يُهيَّأ للنازل فالمعنى كانت لهم ثمارُ جناتِ الفردوس نزلاً ، أو جُعلت نفسُ الجنّات نزلاً مبالغةً في الإكرام ، وفيه إيذانٌ بأنها عند ما أعد الله لهم على ما جرى على لسان النبوة من قوله : « أَعْدَدْتُ لعباديَ الصالحين ما لا عينٌ رأتُ ، ولا أُذنٌ سمِعتْ ولا خطرَ على قلب بشر » بمنزلة النزلِ بالنسبة إلى الضيافة ، وإن جُعل بمعنى المنْزِل فالمعنى ظاهر .(4/293)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
{ خالدين فِيهَا } نصب على الحالية { لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } مصدرٌ كالعِوج والصِّغر ، أي لا يطلبون تحوّلاً عنها إذ لا يُتصوّر أن يكون شيءٌ أعزَّ عندهم وأرفعَ منها حتى تُنازِعَهم إليه أنفسُهم وتطمَح نحوه أبصارُهم ، ويجوز أن يراد نفيُ التحول وتأكيدُ الخلود ، والجملة حالٌ من صاحب خالدين أو من ضميره فيه فيكون حالاً متداخِلةً .
{ قُل لَّوْ كَانَ البحر } أي جنسُ البحر { مِدَاداً } وهو ما تُمِدُّ به الدواةُ من الحبر { لكلمات رَبّى } لتحرير كلماتِ علمِه وحكمتِه التي من جملتها ما ذكر من الآيات الداعيةِ إلى التوحيد المحذّرة من الإشراك { لَنَفِدَ البحر } مع كثرته ولم يبقَ منه شيء لتناهيه { قَبْلَ أَن تَنفَدَ } وقرىء بالياء والمعنى من غير أن تنفد { رَبّى لَنَفِدَ } لعدم نتاهيها فلا دِلالةَ للكلام على نفادها بعد نفادِ البحرِ ، وفي إضافة الكلماتِ إلى اسم الربِّ المضافِ إلى ضميره صلى الله عليه وسلم في الموضعين من تفخيم المضافِ وتشريفِ المضاف إليه ما لا يخفى ، وإظهارُ البحر والكلماتِ في موضع الإضمارِ لزيادة التقرير { وَلَوْ جِئْنَا } كلامٌ من جهته تعالى غيرُ داخل في الكلام الملقّن جيء به لتحقيق مضمونِه وتصديقِ مدلولِه مع زيادة مبالغةٍ وتأكيد ، والواوُ لعطف الجملة على نظيرتها المستأنفةِ المقابلةِ لها المحذوفة لدِلالة المذكورةِ عليها دَلالةً واضحة ، أي لنفد البحرُ من غير نفادِ كلماته تعالى لو لم نجِىءْ بمثله مدداً ولو جئنا ، بقدرتنا الباهرة { بِمِثْلِهِ مَدَداً } عوناً وزيادةً لأن مجموعَ المتناهيَيْن متناهٍ ، بل مجموعُ ما يدخل تحت الوجود من الأجسام لا يكون إلا متناهياً لقيام الأدلةِ القاطعة على تناهي الأبعادِ ، وقرىء مُدَداً جمع مُدّة وهي ما يستمدّه الكاتبُ ، وقرىء مِداداً .
{ قُلْ } لهم بعد ما بينْتَ لهم شأن كلماتِه تعالى : { إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } لا أدّعي الإحاطةَ بكلماته التامة { يوحى إِلَىَّ } من تلك الكلماتِ { أَنَّمَا إلهكم إله واحد } لا شريكَ له في الخلق ولا في سائر أحكامِ الألوهيةِ ، وإنما تميزْتُ عنكم بذلك { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ } الرجاءُ توقعُ وصولِ الخير في المستقبل ، والمرادُ بلقائه تعالى كرامتُه ، وإدخالُ الماضي على المستقبل للدِلالة على أن اللائقَ بحال المؤمن الاستمرارُ والاستدامةُ على رجاء اللقاءِ ، أي فمن استمر على رجاء كرامتِه تعالى { فَلْيَعْمَلِ } لتحصيل تلك الطِّلْبةِ العزيزة { عَمَلاً صالحا } في نفسه لائقاً بذلك المرجوِّ كما فعله الذين آمنوا وعملوا الصالحات { وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا } إشراكاً جلياً كما فعله الذين كفروا بآيات ربِّهم ولقائه ، ولا إشراكاً كما يفعله أهلُ الرياء ومَنْ يطلبُ به أجراً ، وإيثارُ وضعِ المُظهَرِ موضعَ المُضمر في الموضعين مع التعرض لعنوان الربوبيةِ لزيادة التقريرِ ، وللإشعار بعلية العنوانِ للأمر والنهي ووجوبِ الامتثالِ فعلاً وتركاً .(4/294)
روي أن جُندُبَ بنَ زهير رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأعمل العملَ لله تعالى فإذا اطّلع عليه سرّني ، فقال عليه الصلاة والسلام : « إن الله لا يقبل ما شوُرك فيه » فنزلت تصديقاً له . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال له : « لك أجران أجرُ السرِّ وأجرُ العلانية » وذلك إذا قصد أن يُقتدى به . وعنه عليه السلام : « اتقوا الشركَ الأصغرَ » قيل : وما الشركُ الأصغرُ؟ قال : « الرياء » .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ سورةَ الكهفِ من آخرها كانت له نوراً من قَرْنه إلى قدمه ، ومن قرأها كلَّها كانت له نوراً من الأرض إلى السماء » . وعنه صلى الله عليه وسلم : « من قرأ عند مضجعه : { قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ } الخ ، كان له من مضجعه نوراً يتلألأ إلى مكةَ ، حشْوُ ذلك النورِ ملائكةٌ يصلّون عليه حتى يقوم ، وإن كان مضجعُه بمكةَ كان له نوراً يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمورِ ، حشوُ ذلك النورِ ملائكةٌ يصلُون عليه حتى يستيقظ » الحمد لله سبحانه على نعمه العِظام .(4/295)
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
{ كهيعص } بإمالة الهاءِ والياء وإظهار الدال ، وقرىء بفتح الهاء وإمالةِ الياء وبتفخيمهما وبإخفاء النونِ قبل الصادِ لتقاربهما ، وقد سلف أن ما لا تكون من هذه الفواتح مفردةً ولا موازِنةً لمفرد فطريقُ التلفظ بها الحكايةُ فقط ساكنةُ الأعجاز على الوقف ، سواءٌ جعلت أسماءً للسور أو مسرودةً على نمط التعديد ، وإن لزمها التقاءُ الساكنين لكون مغتفراً في باب الوقف قطعاً فحق هذه الفاتحة الكريمةِ أن يوقف عليها جرياً على الأصل ، وقرىء بإدغام الدال فيما بعدها لتقاربهما في المخرج ، فإن جُعلت اسماً للسورة على ما عليه إطباقُ الأكثر فمحلُّه الرفعُ ، إما على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ والتقديرُ هذا كهيعص أي مسمًّى به وإنما صحت الإشارةُ إليه مع عدم جرَيانِ ذكرِه لأنه باعتبار كونِه على جناح الذكر صار في حكم الحاضِر المشاهَدِ ، كما يقال : هذا ما اشترى فلان ، أو على أنه مبتدأٌ خبرُه : { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ } أي المسمّى به ذكرُ رحمة الخ ، فإن ذكرَها لمّا كان مطلَعَ السورةِ الكريمة ومعظمَ ما انطوت هي عليه جُعلت كأنها نفسُ ذكرها ، والأولُ هو الأولى لأن ما يجعل عنواناً للموضوع حقُّه أن يكون معلومَ الانتساب إليه عند المخاطبِ ، وإذ لا علمَ بالتسمية من قبل فحقُّها الإخبارُ بها كما في الوجه الأول ، وإن جُعلت مسرودةً على نمط التعديدِ حسبما جنَح إليه أهلُ التحقيقِ فذكرُ الخ خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ هو ما ينبىء عنه تعديدُ الحروف كأنه قيل : المؤلَّفُ من جنس هذه الحروف المبسوطةِ مراداً به السورةُ ذكرُ الرحمة الخ ، وقيل : هو مبتدأٌ قد حُذف خبرُه أي فيما يتلى عليك ذكرُها ، وقرىء ذكَّر رحمةَ ربك على صيغة الماضي من التذكير أي هذا المتلوُّ ذكّرها ، وقرىء اذكُرْ على صيغة الأمر ، والتعرضُ لوصف الربوبية المنْبئةِ عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام للإيذان بأن تنزيلَ السورة عليه عليه الصلاة والسلام تكميلٌ له عليه السلام ، وقوله تعالى : { عَبْدِهِ } مفعولٌ لرحمة ربك على أنها مفعولٌ لما أضيف إليها ، وقيل : للذكر على أنه مصدرٌ أضيف إلى فاعله على الاتساع ، ومعنى ذكرِ الرحمةِ بلوغُها وإصابتُها ، كما يقال : ذكرني معروفُ فلان أي بلغني ، وقوله عز وعلا : { زَكَرِيَّا } بدل منه أو عطف بيان له { إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً } ظرفٌ لرحمة ربك ، وقيل : لذِكرُ على أنه مضافٌ إلى فاعله اتساعاً لا على الوجه الأولِ لفساد المعنى ، وقيل : هو بدلُ اشتمالٍ من زكريا كما في قوله : { واذكر فِى الكتاب مَرْيَمَ إِذِ انتبذت } ولقد راعى عليه الصلاة والسلام حسنَ الأدب في إخفاء دعائِه ، فإنه مع كونه بالنسبة إليه عز وجل كالجهر أدخلُ في الإخلاص وأبعدُ من الرياء وأقربُ إلى الخلاص عن لائمة الناس على طلب الولدِ لتوقّفه مبادىءَ لا يليق به تعاطيها في أوان الكِبَر والشيخوخة وعن غائلة مواليه الذين كان يخافهم ، وقيل : كان ذلك من عليه السلام لضَعف الهرم ، قالوا : كان سنُّه حينئذ ستين ، وقيل : خمساً وستين ، وقيل : سبعين ، وقيل : خمساً وسبعين ، وقيل : أكثرَ منها كما مر في سورة آل عِمرانَ .(4/296)
{ قَالَ } جملةٌ مفسِّرةٌ لنادى لا محلَّ لها من الإعراب { رَبّ إِنّى وَهَنَ العظم مِنّى } إسنادُ الوهن إلى العظم لِما أنه عمادُ البدن ودِعامُ الجسد فإذا أصابه الضَّعفُ والرخاوة أصاب كلَّه ، أو لأنه أشدُّ أجزائه صلابةً وقِواماً وأقلُّها تأثراً من العلل فإذا وهَن كان ما وراءه أوهنَ ، وإفرادُه للقصد إلى الجنس المنْبىءِ عن شمول الوهْنِ لكل فردٍ من أفراده ، ومنّي متعلقٌ بمحذوف هو حالٌ من العظم ، وقرىء وهِن بكسر الهاء وبضمها أيضاً ، وتأكيدُ الجملة لإبراز كمال الاعتناءِ بتحقيق مضمونها { واشتعل الرأس شَيْباً } شبّه عليه الصلاة والسلام الشيبَ في البياض والإنارة بشُواظ النار ، وانتشارَه في الشعر وفُشوَّه فيه وأخذَه منه كلَّ مأخذ باشتعالها ، ثم أخرجه مُخرجَ الاستعارةِ ثم أَسند الاشتعالَ إلى محل الشعرِ ومنبِتِه ، وأخرجه مُخرج التمييز وأطلق الرأسَ اكتفاءً بما قيّد به العظمَ ، وفيه من فنون البلاغة وكمالِ الجزالةِ ما لا يخفى ، حيث كان الأصلُ اشتعل شيبُ رأسي فأسند الاشتعالَ إلى الرأس كما ذُكر لإفادة شمولِه لكلها ، فإن وِزانَه بالنسبة إلى الأصل وزانُ اشتعل بيتُه ناراً بالنسبة إلى اشتعل النارُ في بيته ، ولزيادة تقريرِه بالإجمال أولاً والتفصيلِ ثانياً ولمزيد تفخيمِه بالتنكير ، وقرىء بإدغام السينِ في الشين { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً } أي ولم أكن بدعائي إياك خائباً في وقت من أوقات هذا العمُر الطويلِ ، بل كلما دعوتُك استجبتَ لي ، والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها أو حالٌ من ضمير المتكلم إذِ المعنى واشتعل الرأسُ شيباً ، وهذا توسلٌ منه عليه السلام بما سلف منه من الاستجابة عند كلِّ دعوة إثرَ تمهيدِ ما يستدعي الرحمةَ ويستجلب الرأفةَ من كِبَر السّنِّ وضَعفِ الحال ، فإنه تعالى بعد ما عوّد عبدَه بالإجابة دهراً طويلاً لا يكاد يُخيّبه أبداً لا سيما عند اضطرارِه وشدة افتقارِه ، والتعرضُ في الموضوعين لوصف الربوبيةِ المنْبئة عن إضافة ما فيه صلاحُ المربوبِ ، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لا سيما توسيطُه بين كان وخبرها لتحريك سلسلةِ الإجابةِ بالمبالغة في التضرّع ، ولذلك قيل : إذا أراد العبدُ أن يُستجابَ له دعاؤُه فليدعُ الله تعالى بما يناسبه من أسمائه وصفاتِه .(4/297)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
{ وَإِنّي خِفْتُ الموالى } عطف على قوله تعالى : { إِنّى وَهَنَ العظم } مترتبٌ مضمونُه على مضمونه فإنه ضَعفَ القُوى وكِبَر السنِّ من مبادىء خوفه عليه السلام مِمّن يلي أمرَه بعد موته ، ومواليه بنو عمه وكانوا أشرارَ بني إسرائيلَ فخاف أن لا يُحسِنوا خلافتَه في أمته ويبدّلوا عليهم دينَهم ، وقوله : { مِن وَرَائِى } أي بعد موتي متعلقٌ بمحذوف ينساق إليه الذهنُ ، أي فِعلَ الموالي من بعدي أو جَوْرَ الموالي وقد قرىء كذلك ، أو بما في الموالي من معنى الوِلاية ، أي خِفتُ الذين يلون الأمرَ من ورائي لا بخِفْتُ لفساد المعنى ، وقرىء ورايَ بالقصر وفتح الياء ، وقرىء خفّت الموالي من ورائي أي قلوا وعجَزوا عن القيام بأمور الدين بعدي ، أو خفّت الموالي القادرون على إقامة مراسمِ الملة ومصالحِ الأمة من خفَّ القومُ أي ارتحلوا مسرعين أي درَجوا قُدّامي ولم يبقَ منهم من به تَقوَ واعتضادٌ ، فالظرفُ حينئذ متعلقٌ بِخفّتْ { وَكَانَتِ امرأتى عَاقِرًا } أي لا تلد من حينِ شبابها . { فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ } كلا الجارّين متعلقٌ بهب لاختلاف معنييهما ، فاللام صلةٌ له ومِنْ لابتداء الغاية مجازاً ، وتقديمُ الأول لكون مدلولِه أهمَّ عنده ويجوز تعلّقُ الثاني بمحذوف وقع حالاً من المفعول ، ولدن في الأصل ظرفٌ بمعنى أولِ غايةِ زمانٍ أو مكان أو غيرهما من الذوات ، وقد مر تفصيلُه في أوائل سورة آل عمران ، أي أعطِني من محض فضلِك الواسعِ وقدرتِك الباهرةِ بطريق الاختراعِ لا بواسطة الأسباب العادية { وَلِيّاً } أي ولداً من صُلبي ، وتأخيرُه عن الجارَّين لإظهار كمالِ الاعتناءِ بكون الهبةِ له على ذلك الوجه البديعِ مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر ، فإن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخّر تبقى النفسُ مستشرِفةً له فعند ورودِه لها يتمكن عندها فضلُ تمكنٍ ، ولأن فيه نوعَ طولٍ بما بعده من الوصف فتأخيرُهما عن الكل أو توسيطُهما بين الموصوف والصفه مما لا يليق بجزالة النظمِ الكريم ، والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فإن ما ذكرَه عليه الصلاة والسلام من كِبَر السنِّ وضَعف القُوى وعقرِ المرأة موجبٌ لانقطاع رجائِه عليه السلام عن حصول الولدِ بتوسط الأسبابِ العادية واستيهابِه على الوجه الخارِق للعادة ، ولا يقدح في ذلك أن يكون هنا داعٍ آخرُ إلى الإقبال على الدعاء المذكورِ من مشاهدته عليه السلام للخوارق الظاهرةِ في حق مريمَ كما يُعرب عنه قوله تعالى : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } الآية ، وعدمُ ذكرِه هاهنا للتعويل على ذكره هناك كما أن عدمَ ذكر مقدمةِ الدعاء هناك للاكتفاء بذكره هاهنا ، فإن الاكتفاءَ بما ذكر في موطن عما تُرك في موطن آخرَ من النكت التنزيلية .
وقوله تعالى : { يَرِثُنِى } صفةٌ لولياً ، وقرىء هو وما عطف عليه بالجزم جواباً للدعاء ، أي يرثني من حيث العلمُ والدينُ والنبوةُ فإن الأنبياءَ عليهم الصلاة والسلام لا يورِّثون المالَ ، قال صلى الله عليه وسلم :(4/298)
« نحن معاشرَ الأنبياءِ لا نورَث ، ما تركنا صدقةٌ » وقيل : يرثني الحُبورة وكان عليه السلام حِبْراً .
{ وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ } يقال : ورِثه وورِث منه لغتان ، وآلُ الرجل خاصّته الذين يؤُول إليه أمرُهم للقرابة أو الصُّحبة أو الموافقة في الدين ، وكانت زوجةُ زكريا أختَ أمِّ مريمَ ، أي ويرث منهم الملكَ ، قيل : هو يعقوبُ بنُ إسحاقَ بن إبراهيمَ عليهم الصلاة والسلام ، وقال الكلبي ومقاتل : هو يعقوبُ بنُ ماثانَ أخو عمرانَ بنِ ماثان من نسل سليمانَ عليه السلام ، وكان آلُ يعقوب أخوالَ يحيى بنِ زكريا ، قال الكلبي : كان بنو ماثانَ رؤوسَ بني إسرائيلَ وملوكَهم ، وكان زكريا رئيسَ الأحبار يومئذ فأراد أن يرثه ولدُه حبورتَه ويرثَ من بني ماثان ملكَهم ، وقرىء ويرث وارثَ آلِ يعقوب على أنه حالٌ من المستكن في يرث ، وقرىء أو يرث آل يعقوب بالتصغير ففيه إيماءٌ إلى وراثته عليه السلام لما يرثه في حالة صِغَره ، وقرىء وارثٌ من آل يعقوب على أنه فاعلُ يرثني على طريقة التجريد أي يرثني به وارثٌ ، وقيل : من للتبعيض إذ لم يكن كلُّ آل يعقوبَ عليه السلام أنبياءَ ولا علماءَ { واجعله رَبّ رَضِيّاً } مرضياً عندك قولاً وفعلاً ، وتوسيطُ ربِّ بين مفعولي اجعَلْ للمبالغة في الاعتناء بشأن ما يستدعيه .(4/299)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
{ يَا زَكَرِيَّا } على إرادة القولِ أي قال تعالى : { يَا زَكَرِيَّا } { إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام اسمه يحيى } لكن لا بأن يخاطِبه عليه الصلاة والسلام بذلك بالذات ، بل بواسطة الملَك على أن يحكيَ له عليه الصلاة والسلام هذه العبارةَ عنه عز وجل على نهج قوله تعالى : { قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ } الآية ، وقد مر تحقيقُه في سورة آلى عمران ، وهذا جوابٌ لندائه عليه الصلاة والسلام ووعدٌ بإجابة دعائِه ، لكن لا كما هو المتبادرُ من قوله تعالى : { فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى } الخ ، بل بعضاً حسبما تقتضيه المشيئةُ الإلهية المبنية على الحِكَم البالغة فإن الأنبياءَ عليهم الصلاة والسلام وإن كانوا مستجابي الدعوةِ لكنهم ليسوا كذلك في جميع الدعواتِ ، ألا يرى إلى دعوة إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام في حق أبيه وإلى دعوة النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال : « وسألته أن لا يُذيقَ بعضَهم بأسَ بعض فمنعنيها » وقد كان من قضائه عز وعلا أن يهبَه يحيى نبياً مرضياً ولا يرثه ، فاستجيب دعاؤُه في الأول دون الثاني حيث قتل قبلَ موت أبيه عليهما الصلاة والسلام على ما هو المشهورُ ، وقيل : بقي بعده برهةً فلا إشكال حينئذ ، وفي تعيين اسمِه عليه الصلاة والسلام تأكيدٌ للوعد وتشريفٌ له عليه الصلاة والسلام ، وفي تخصيصه به عليه السلام حسبما يُعرب عنه قوله تعالى : { لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } أي شريكاً له في الاسم حيث لم يُسمَّ أحدٌ قبله بيحيى مزيدُ تشريفٍ وتفخيم له عليه الصلاة والسلام فإن التسميةَ بالأسامي البديعة الممتازة عن أسماء سائرِ الناس تنويهٌ بالمسمّى لا محالة ، وقيل : سميًّا شبيهاً في الفضل والكمالِ كما في قوله تعالى : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } فإن المتشاركين في الوصف بمنزلة المتشاركين في الاسم ، قالوا : لم يكن له عليه الصلاة والسلام مِثْلٌ في أنه لم يعصِ الله تعالى ولم يهُمَّ بمعصية قط وأنه ولد من شيخ فانٍ وعجوزٍ عاقر وأنه كان حَصوراً ، فيكون هذا إجمالاً لما نزل بعده من قوله تعالى : { مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ الله وَسَيّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيّا مّنَ الصالحين } والأظهرُ أنه اسمٌ أعجميٌّ وإن كان عربياً فهو منقول عن الفعل كيعمَرَ ويَعيشَ ، قيل : سمي به لأنه حيِيَ به رحِمُ أمِّه أو حيِيَ دينُ الله تعالى بدعوته .(4/300)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)
{ قَالَ } استئنافٌ مبنيٌّ على السؤال كأنه قيل : فماذا قال عليه الصلاة والسلام حينئذ : فقيل : قال : { رَبّ } ناداه تعالى بالذات مع وصول خطابِه تعالى إليه بتوسط الملَك ، للمبالغة في التضرع ، والمناجاة والجِدِّ في التبتل إليه تعالى ، والاحترازِ عما عسى يُوهم خطابُه للملك من توهُّم أن علمَه تعالى بما يصدُر عنه متوقِّفٌ على توسطه ، كما أن علمَ البشرِ بما يصدر عنه سبحانه متوقِّفٌ على ذلك في عامة الأوقات { أنى يَكُونُ لِي غلام } كلمة أنى بمعنى كيف أو من أين ، وكان إما تامةٌ وأنى واللام متعلقتان بها وتقديمُ الجار على الفاعل لما مر مراراً من الاعتناء بما قدم والتشويقِ إلى ما أُخّر ، أي كيف أو من أين يحدث لي غلامٌ؟ ويجوز أن تتعلق اللامُ بمحذوف وقع حال من غلامٌ إذ لو تأخر لكان صفةً له أي أنى يحدث كائناً لي غلام ، أو ناقصةٌ اسمُها ظاهرٌ وخبرُها إما أنى ولي متعلقٌ بمحذوف كما مر ، أو هو الخبر وأنى نصبٌ على الظرفية ، وقوله تعالى : { وَكَانَتِ امرأتى عَاقِرًا } حال من ضمير المتكلم بتقدير قد وكذا قوله تعالى : { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } حالٌ منه مؤكدةٌ للاستبعاد إثرَ تأكيد ، أي كانت امرأتي عاقراً لم تلِدْ في شبابها وشبابي فكيف وهي الآن عجوزٌ وقد بلغتُ أنا من أجل كِبَر السنِّ جساوة وقحولاً في المفاصل والعِظام ، أو بلغتُ من مدارج الكِبَر ومراتبه ما يسمى عِتيًّا من عتا يعتو وأصله عُتُووٌ كقعود فاستُثقل توالي الضمتين والواوين فكسرت التاء فانقلبت الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ، ثم قلبت الثانية أيضاً لاجتماع الواو والياء وسبْقِ إحداهما بالسكون وكُسرت العينُ إتباعاً لها لما بعدها ، وقرىء بضمها . ولعل البداءة هاهنا بذكر حال امرأتِه على عكس ما في سورة آل عمرانَ لِما أنه قد ذُكر حالُه في تضاعيف دعائِه وإنما المذكورُ هاهنا بلوغُه أقصى مراتبِ الكِبَر تتمةً لما ذكر قبل ، وأما هنالك فلم يسبِقْ في الدعاء ذكرُ حاله فلذلك قدّمه على ذكر حال امرأتِه لِما أن المسارعةَ إلى بيان قصورِ شأنه أنسبُ ، وإنما قاله عليه الصلاة والسلام مع سبق دعائِه بذلك وقوةِ يقينه بقدرة الله لا سيما بعد مشاهدتِه للشواهد المذكورة في سورة آلِ عمران استعظاماً لقدرة الله تعالى وتعجيباً منها واعتداداً بنعمته تعالى عليه في ذلك بإظهار أنه من محضِ لطفِ الله عز وعلا وفضله مع كونه في نفسه من الأمور المستحيلةِ عادة لا استبعاداً له . وقيل : إنما قاله ليُجابَ بما أجيب به فيزدادَ المؤمنون إيقاناً ويرتدعَ المبطلون ، وقيل : كان ذلك بطريق الاستبعادِ حيث كان بين الدعاء والبِشارة ستون سنة وكان قد نسِيَ دعاءه ، وهو بعيد .(4/301)
{ قَالَ } استئناف كما مر مبنيٌّ على سؤال نشأ مما سلف ، والكافُ في قوله تعالى : { كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ } مقحمةٌ كما في : مثلُك لا يبخل محلُّها إما النصبُ على أنه مصدرٌ تشبيهيُّ لقال الثاني وذلك إشارةٌ إلى مصدره الذي هو عبارةٌ عن الوعد السابقِ لا إلى قول آخرَ شُبِّه هذا به ، وقد مر تحقيقُه في تفسير قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا } وقولُه تعالى : { هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ } جملةٌ مقرِّرةٌ للوعد المذكورِ دالةٌ على إنجازه داخلةٌ في حيز قال الأول ، كأنه قيل : قال الله عز وجل مثلَ ذلك القولِ البديع ، قلت : أي مثلَ ذلك الوعدِ الخارقِ للعادة وعدتُ وهو علي خاصةً هيِّنٌ وإن كان في العادة مستحيلاً ، وقرىء وهو علي هينٌ فالجملة حينئذ حالٌ من ربك والياء عبارةٌ عن ضميره كما ستعرفه أو اعتراضٌ ، وعلى كل حالٍ فهي مؤكدةٌ ومقرِّرةٌ لما قبلها ، ثم أُخرج القولُ الثاني مُخرجَ الالتفات جرياً على سنن الكبرياء لتربية المهابةِ وإدخال الروعةِ ، كقول الخلفاء : أميرُ المؤمنين يرسم لك مكان أنا أرسم ، أُسند إلى اسم الربِّ المضاف إلى ضميره عليه الصلاة والسلام تشريفاً له وإشعاراً بعلة الحُكم ، فإن تذكيرَ جرَيانِ أحكامِ ربوبيتِه تعالى عليه عليه الصلاة والسلام من إيجاده من العدم وتصريفِه في أطوار الخلقِ من حال إلى حال شيئاً فشيئاً إلى أن يبلغ كمالَه اللائقَ به ، مما يقلَع أساسَ استبعاده عليه الصلاة والسلام لحصول الموعودِ ويورثه عليه الصلاة والسلام الاطمئنانَ بإنجازه لا محالة ، ثم التُفت من ضمير الغائبِ العائدِ إلى الرب إلى ياء العظمةِ إيذاناً بأن مدارَ كونه هيّناً عليه سبحانه هو القدرةُ الذاتيةُ لا ربوبيتُه تعالى له عليه الصلاة والسلام خاصة وتمهيداً لما يعقُبه ، وقيل : ذلك إشارةٌ إلى مبهم يفسّره قولُه تعالى : { هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ } على طريقة قوله تعالى : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الامر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } ولا يخرج هذا الوجهُ على القراءة بالواو لأنها لا تدخل بين المفسِّر والمفسَّر . وإما الرفع على أنه مبتدأ محذوفٌ وذلك إشارةٌ إلى ما تقدم من وعده تعالى ، أي قال عز وعلا : « الأمرُ كما وعدتُ » وهو واقعٌ لا محالة ، وقوله تعالى : { قَالَ رَبُّكِ } الخ ، استئنافٌ مقرِّر لمضمونه والجملةُ المحكية على القراءة الثانية معطوفةٌ على المحكية الأولى ، أو حالٌ من المستكن في الجار والمجرور أياً ما كان ، فتوسيطُ قال بينهما مُشعرٌ بمزيد الاعتناءِ بكل منهما والكلامُ في إسناد القولِ إلى الرب ثم الالتفاتِ إلى التكلم كالذي مر آنفاً ، وقيل : ذلك إشارةٌ إلى ما قاله زكريا عليه الصلاة والسلام ، أي قال تعالى : « الأمرُ كما قلت » تصديقاً له فيما حكاه من الحالة المباينةِ للولادة في نفسه وفي امرأته ، وقوله تعالى : { قَالَ رَبُّكِ } الخ ، استئنافٌ مَسوقٌ لإزالة استبعادِه بعد تقريره ، أي قال تعالى :(4/302)
« هو مع بعده في نفسه عليّ هيّنٌ » والقراءة الثانية أَدخلُ في إفادة هذا المعنى على أن الواو للعطف ، وأما جعلُها للحال فمُخِلٌّ بسِداد المعنى لأن مآلَه تقريرُ صعوبته حال سهولتِه عليه تعالى مع أن المقصودَ بيانُ سهولتِه عليه سبحانه مع صعوبته في نفسه ، وقوله تعالى : { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } جملةٌ مستأنَفةٌ مقررة لما قبلها ، والمرادُ به ابتداءُ خلق البشرِ إذ هو الواقعُ إثرَ العدم المحضِ لا ما كان بعد ذلك بطريق التوالدِ المعتادِ ، وإنما لم يُنسَبْ ذلك إلى آدمَ عليه الصلاة والسلام وهو المخلوقُ من العدم حقيقةً بأن يقال : وقد خلقتُ أباك أو آدمَ من قبل ولم يك شيئاً مع كفايته في إزالة الاستبعادِ بقياس حالِ ما بُشّر به على حاله عليه الصلاة والسلام لتأكيد الاحتجاجِ وتوضيح منهاجِ القياس حيث نبه على أن كل فرد من أفراد البشر له حظٌّ من إنشائه عليه الصلاة والسلام من العدم ، إذ لم تكن فطرتُه البديعةُ مقصورةً على نفسه به كانت أنموذجاً منطوياً على فطرية سائر آحادِ الجنس انطواءً إجمالياً مستتبعاً لجريان آثارِها على الكل ، فكان إبداعُه عليه الصلاة والسلام على ذلك الوجه إبداعاً لكل أحد من فروعه كذلك ، ولمّا كان خَلقُه عليه الصلاة والسلام على هذا النمطِ الساري إلى جميع أفراد ذريته أبدعَ من أن يكون ذلك مقصوراً على نفسه كما هو المفهومُ من نسبة الخلقِ المذكور إليه وأدلَّ على عظم قدرتِه تعالى وكمال علمِه وحكمتِه ، وكان عدمُ زكريا حينئذ أظهرَ عنده وأجلى وكان حالُه أولى بأن يكون معياراً لحال ما بشر به نُسب الخلقُ المذكور إليه ، كما نسب الخَلقُ والتصويرُ إلى المخاطَبين في قوله تعالى : { وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم } توفيةً لمقام الامتنان حقَّه ، فكأنه قيل : وقد خلقتُك من قبل في تضاعيف خلقِ آدمِ ولم تكن إذ ذاك شيئاً أصلاً بل عدماً بحتاً ونفياً صِرْفاً . هذا وأما حملُ الشيء على المعتدّ به أي ولم تكن شيئاً معتداً به فيأباه المقام ويردّه نظمُ الكلام ، وقرىء خلقناك .(4/303)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
{ قَالَ رَبّ اجعل لِّى ءايَةً } أي علامةً تدلني على تحقق المسؤولِ ووقوعِ الحبَل ، ولم يكن هذا السؤالُ منه عليه الصلاة والسلام لتأكيد البِشارة وتحقيقِها كما قيل فإن ذلك مما لا يليق بمنصِب الرسالة ، وإنما كان ذلك لتعريف وقت العُلوق حيث كانت البشارةُ مطلقةً عن تعيينه وهو أمرٌ خفيٌّ لا يوقف عليه ، فأراد أن يُطلعَه الله تعالى عليه لتلقِّي تلك النعمةِ الجليلةِ بالشكر من حين حدوثِها ولا يؤخّرَه إلى أن تظهر ظهوراً معتاداً ، وقد مرت الإشارةُ في تفسير سورة آل عمران إلى أن هذا السؤالَ ينبغي أن يكون بعد ما مضى بعد البشارة بُرهةٌ من الزمان ، لما روي أن يحيى كان أكبرَ من عيسى عليهما الصلاة والسلام بستة أشهر أو بثلاث سنين ، ولا ريب في أن دعاءَ زكريا عليه الصلاة والسلام كان في صِغَر مريمَ لقوله تعالى : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } وهي إنما ولدت عيسى عليه الصلاة والسلام وهي بنتُ عشرِ سنين أو بنتُ ثلاثَ عشْرةَ سنةً ، والجعلُ إبداعيٌّ واللامُ متعلقة به وتقديمُها على المفعول به لما مر مراراً من الاعتناء بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخَّر ، أو بمحذوف وقع حالاً من آيةً إذ لو تأخر لكان صفةً لها ، وقيل : بمعنى التصيير المستدعي لمفعولين أولُهما آيةً وثانيهما الظرفُ ، وتقديمُه لأنه لا مسوِّغَ لكون آيةً مبتدأً عند انحلال الجملة إلى مبتدأ وخبر سوى تقديمِ الظرف فلا يتغير حالُهما بعد ورودِ الناسخ .
{ قَالَ ءَايَتُكَ أَن لا تُكَلّمَ الناس } أي لا تقدر على أن تكلمهم بكلام الناسِ مع القدرة على الذكر والتسبيح { ثلاث لَيَالٍ } مع أيامهن للتصريح بها في سورة آل عمران { سَوِيّاً } حال من فاعل تكلم مفيدٌ لكون انتفاءِ التكلم بطريق الاضطرار دون الاختيار أي تُمنع الكلامَ فلا تطيق به حال كونك سوى الخلق سليمَ الجوارحِ ما بك شائبةُ بَكَم ولا خَرَس .
{ فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب } أي من المصلّى أو من الغرفة وكانوا من وراء المحرابِ ينتظرونه أن يفتح لهم البابَ فيدخلوه ويصلّوا إذْ خرج عليهم متغيِّراً لونُه فأنكروه وقالوا : ما لك؟ { فأوحى إِلَيْهِمْ } أي أومأ إليهم لقوله تعالى : { إِلاَّ رَمْزًا } وقيل : كتب على الأرض وأنْ في قوله تعالى : { أَن سَبّحُواْ } إما مفسرةٌ لأوحى أو مصدريةٌ والمعنى أن صلّوا أو بأن صلوا { بُكْرَةً وَعَشِيّاً } هما ظرفا زمانٍ للتسبيح .
عن أبي العالية : أن المرادَ بهما صلاةُ الفجر وصلاةُ العصر ، أو نزِّهوا ربكم طرفي النهار ولعله كان مأموراً بأن يسبِّح شكراً ويأمرَ قومه بذلك .
{ يَا يحيى } استئناف طُويَ قبله جملٌ كثيرةٌ مسارعةً إلى الإنباء بإنجاز الوعدِ الكريم أي قلنا : يا يحيى { خُذِ الكتاب } التوراةَ { بِقُوَّةٍ } أي بجد واستظهار بالتوفيق { وَاتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً } قال ابن عباس رضي الله عنهما : الحكمُ النبوةُ استنبأه وهو ابنُ ثلاثِ سنين ، وقيل : الحُكمُ الحِكمةُ وفهمُ التوراة والفقهُ في الدين . روي أنه دعاه الصبيانُ إلى اللعب ، فقال : ما لِلَّعب خُلقنا .(4/304)
وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)
{ وَحَنَانًا مّن لَّدُنَّا } عطف على الحُكم وتنوينُه للتفخيم وهو التحنّنُ والاشتياق ، ومن متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً مؤكدةً لما أفاده التنوينُ من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافيةِ ، أي وآتيناه رحمةً عظيمةً عليه كائنة من جنابنا أو رحمةً في قلبه وشفقةً على أبويه وغيرِهما { وزكواة } أي طهارةً من الذنوب أو صدقةً تصدقنا به على أبويه أو وفقناه للتصدق على الناس { وَكَانَ تَقِيّا } مطيعاً متجنباً عن المعاصي .
{ وَبَرّا بوالديه } عطف على تقياً أي بارًّا بهما لطيفاً بهما محسناً إليهما { وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً } متكبراً عاقاً لهما أو عاصياً لربه .
{ وسلام عَلَيْهِ } من الله عز وجل { يَوْمَ وُلِدَ } من أن يناله الشيطانُ بما ينال به بني آدم { وَيَوْمَ يَمُوتُ } من عذاب القبر { وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } من هول القيامةِ وعذاب النار .
{ واذكر فِى الكتاب } كلامٌ مستأنَفٌ خوطب به النبيُّ عليه الصلاة والسلام وأُمر بذكر قصة مريمَ إثرَ قصةِ زكريا لما بينهما من كمال الاشتباكِ ، والمرادُ بالكتاب السورةُ الكريمة لا القرآنُ إذ هي التي صُدّرت بقصة زكريا المستتبعةِ لذكر قصتها وقصصِ الأنبياء المذكورين فيها أي واذكر للناس { مَرْيَمَ } أي نَبأَها فإن الذكرَ لا يتعلق بالأعيان وقوله تعالى : { إِذِ انتبذت } ظرف لذلك المضافِ لكن لا على أن يكون المأمورُ به ذكرَ نبئها عند انتباذِها فقط ، بل كلَّ ما عُطف عليه وحُكيَ بعده بطريق الاستئنافِ ، داخلٌ في حيز الظرف متممٌ للنبأ . وقيل : بدلُ اشتمال من مريم على أن المراد بها نبأُها فإن الظروفَ مشتملةٌ على ما فيها ، وقيل : بدلُ الكل على المرادَ بالظرف ما وقع فيه ، وقيل : إذ بمعنى أن المصدرية كما في قولك : أكرمتك إذ لم تكرمني أي لأن لم تكرمني فهو بدلُ اشتمالٍ لا محالة وقوله تعالى : { مّنْ أَهْلِهَا } متعلق بانتبذت وقوله : { مَكَاناً شَرْقِياً } مفعولٌ له باعتبار ما في ضمنه من معنى الإتيانِ المترتبِ وجوداً واعتباراً على أصل معناه العاملِ في الجار والمجرور ، وهو السرُّ في تأخيره عنه أي اعتزلت وانفردت منهم وأتت مكاناً شرقياً من بيت المقدِس أو من دارها لتتخلّى هنالك للعبادة ، وقيل : قعدت في شرُفة لتغتسل من الحيض محتجبةً بحائط أو بشيء يستُرها وذلك قوله تعالى : { فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً } وكان موضعُها المسجدَ فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها وإذا طهُرت عادت إلى المسجد ، فبينما هي في مغتسلها أتاها الملَكُ عليه الصلاة والسلام في صورة آدميَ شابّ أمردَ وضيءِ الوجه جعْدِ الشعر وذلك قوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا } أي جبريلَ عليه الصلاة والسلام عبرّ عنه بذلك توفيةً للمقام حقَّه ، وقرىء بفتح الراء لكونه سبباً لما فيه روحُ العباد الذي هو عُدّةُ المقربين في قوله تعالى :(4/305)
{ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } سويَّ الخلقِ كاملَ البُنية لم يفقِدْ من حِسان نعوتِ الآدمية شيئاً ، وقيل : تمثل في صورة تِرْبٍ لها اسمُه يوسفُ من خدم بيتِ المقدس وذلك لتستأنسَ بكلامه وتتلقّى منه ما يلقى إليها من كلماته تعالى ، إذ لو بدا لها على الصورة الملَكيةِ لنفرَتْ منه ولم تستطع مفاوضتَه . وأما ما قيل من أن ذلك لتهييج شهوتِها فتنحدر نطفتُها إلى رحمها فمع مخالفته لمقام بيانِ آثارِ القدرة الخارقةِ للعادة يكذبه قوله تعالى : { قَالَتْ إِنّى أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ } فإنه شاهذٌ عدْلٌ بأنه لم يخطُر ببالها شائبةُ ميل ما إليه فضلاً عما ذُكر من الحالة المترتبة على أقصى مراتبِ الميل والشهوة ، نعم كان تمثيلُه على ذلك الحسنِ الفائقِ والجمالِ الرائقِ لابتلائها وسبْر عِفّتها ، ولقد ظهر منها من الورع والعَفافِ ما لا غايةَ وراءه ، وذكرُه تعالى بعنوان الرحمانيةِ للمبالغة في العياذ به تعالى واستجلابِ آثارِ الرحمةِ الخاصة التي هي العصمةُ مما دهِمَها وقوله تعالى : { إِن كُنتَ تَقِيّاً } أي تتقي الله تعالى وتبالي بالاستعاذة به ، وجوابُ الشرط محذوفٌ ثقةً بدلالة السياقِ عليه أي فإني عائذةٌ به أو فتعوّذْ بتعوذي أو فلا تتعرّضْ لي .(4/306)
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
{ قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ } يريد عليه الصلاة والسلام أني لست ممن يُتوقّع منه ما توهّمتِ من الشر ، وإنما أنا رسولُ ربك الذي استعذتِ به { لأَهَبَ لَكِ غلاما } أي لأكون سبباً في هبته بالنفخ في الدِّرْع ، ويجوز أن يكون ذلك حكاية لقوله تعالى ويؤيده القراءة بالياء ، والتعرضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتسليتِها والإشعارِ بعلة الحكم ، فإن هبةَ الغلامِ لها من أحكام تربيتها ، وفي بعض المصاحفِ أمرَني أن أهبَ لك غلاماً { زَكِيّاً } طاهراً من الذنوب أو نامياً على الخير أي مترقياً من سن إلى سن على الخير والصلاح .
{ قَالَتْ أنى يَكُونُ لِى غلام } كما وصفت { وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ } أي والحال أنه لم يباشرْني بالنكاح رجلٌ ، وإنما قيل بشرٌ مبالغةً في بيان تنزُّهها من مبادىء الولادة { وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } عطف على لم يمسَسْني داخلٌ معه في حكم الحالية مفصِحٌ عن كون المِساس عبارةً عن المباشرة بالنكاح أي ولم أكن فاجرةً تبغي الرجالَ ، وهي فَعولٌ بمعنى الفاعل أصلها بغُويٌ فأدغمت الواوُ بعد قلبها ياء في الياء وكسرت الغين للياء ، وقيل : هي فعيل بمعنى الفاعل ، وإلا لقيل : بَغُوٌّ كما يقال : فلان نَهُوٌّ عن المنكر ، وإنما لم تلحَقْه التاءُ لأنها من باب النسب كطالق أو بمعنى المفعول أي يبغيها الرجالُ للفجور بها .
{ قَالَ } أي الملَكُ تقريراً لمقالته وتحقيقاً لها { كذلك } أي الأمرُ كما قلتُ لك ، وقوله تعالى : { قَالَ رَبُّكِ } الخ ، استئنافٌ مقرِّر له أي قال ربك الذي أرسلني إليك : { هُوَ } أي ما ذكرتُ لك من هبة الغلامِ من غير أن يمسَّك بشرٌ أصلاً { عَلَىَّ } خاصة { هَيّنٌ } وإن كان مستحيلاً عادة لما أني لا أحتاج إلى الأسباب والوسائطِ ، وقوله تعالى : { وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لّلْنَّاسِ } إما علةٌ لمعلَّلٍ محذوف أي ولنجعل وهْبَ الغلام آيةً لهم وبرهاناً يستدلون به على كمال قدرتِنا نفعل ذلك ، أو معطوفٌ على علة أخرى مضمَرةٍ أي لنبين به عِظَمَ قدرتِنا ولنجعله آية الخ ، والواو على الأول اعتراضيةٌ والالتفاتُ إلى نون العظمة لإظهار كمالِ الجلالةِ { وَرَحْمَةً } عظيمةً كائنة { مِنَّا } عليهم يهتدون بهدايته ويسترشدون بإرشاده . { وَكَانَ } ذلك { أَمْراً مَّقْضِيّاً } مُحكماً قد تعلق به قضاؤنا الأزليُّ أو قُدّر وسُطّر في اللوح لا بد من جريانه عليك البتةَ ، أو كان أمراً حقيقاً بأن يقضى ويُفعلَ لتضمنّه حِكَماً بالغة .(4/307)
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
{ فَحَمَلَتْهُ } بأن نفخ جبريلُ عليه الصلاة والسلام في دِرعها فدخلت النفخةُ في جوفها ، قيل : إنه عليه الصلاة والسلام رفع دِرعَها فنفخ في جيبه فحمَلت ، وقيل : نفخ عن بُعد فوصل الريحُ إليها فحملت في الحال ، وقيل : إن النفخةَ كانت في فيها وكانت مدةُ حملها سبعةَ أشهر ، وقيل : ثمانيةً ، ولم يعِشْ مولود وُضع لثمانية أشهر غيرُه ، وقيل : تسعةَ أشهرٍ ، وقيل : ثلاثَ ساعات ، وقيل : ساعة كما حملت وضعتْه وسنُّها حينئذ ثلاثَ عشْرةَ سنةً ، وقيل : عشرُ سنين وقد حاضت حيضتين { فانتبذت بِهِ } أي فاعتزلت وهو في بطنها كما في قوله
تدوس بنا الجماجمَ والتّريبا ... فالجارُّ والمجرور في حيز النصب على الحالية أي فانتبذت ملتبسةً به { مَكَاناً قَصِيّاً } بعيداً من أهلها وراء الجبل ، وقيل : أقصى الدارِ وهو الأنسبُ لقِصرَ مدة الحمل .
{ فَأَجَاءهَا المخاض } أي فألجأها وهو في الأصل منقول من جاء لكنه لم يستعمل في غيره كآتى في أعطي ، وقرىء المِخاض بكسر الميم وكلاهما مصدرُ مخِضَت المرأةُ إذا تحرك الولدُ في بطنها للخروج { إلى جِذْعِ النخلة } لتستتر به وتعتمد عليه عند الوِلادة وهو ما بين العِرْق والغصن ، وكانت نخلةً يابسةً لا رأس لها ولا خُضرة وكان الوقت شتاءً ، والتعريفُ إما للجنس أو للعهد إذ لم يكن ثمةَ غيرُها وكانت كالمتعالم عند الناس ، ولعله تعالى ألهمها ذلك ليُريَها من آياتها ما يسكّن رَوْعتها ويطعمها الرُّطَبَ الذي هو خُرْسةُ النُّفَساءِ الموافقةُ لها { قَالَتْ ياليتنى مّتَّ } بكسر الميم من مات يمات كخِفت ، وقرىء بضمها من مات يموت { قَبْلَ هذا } أي هذا الوقتِ الذي لقِيتُ فيه ما لقِيت ، وإنما قالته مع أنها كانت تعلم ما جرى بينها وبين جبريلَ عليه السلام من الوعد الكريم استحياءً من الناس وخوفاً من لائمتهم ، أو حِذاراً من وقوع الناس في المعصية بما تكلموا فيها ، أو جرياً على سَنن الصالحين عند اشتدادِ الأمر عليهم كما روي عن عمر رضي الله عنه أنه أخذ تِبْنةً من الأرض فقال : « يا ليتنى هذه التبنةُ ولم أكن شيئاً » ، وعن بلال أنه قال : « ليت بلالاً لم تلده أمُّه » { وَكُنتُ نَسْياً } أي شيئاً تافهاً شأنُه أن يُنسى ولا يُعتدَّ به أصلاً ، وقرىء بالكسر ، قيل : هما لغتان في ذلك كالوتر ، وقيل : هو بالكسر اسمٌ لما يُنسى كالنِّقْض اسمٌ لما يُنقض وبالفتح مصدرٌ سُمِّي به المفعولُ مبالغةً ، وقرىء بهما مهموزاً من نسأتُ اللبن إذا صببتُ عليه الماء فصار مستهلَكاً فيه ، وقرىء نساً كعصاً { مَّنسِيّاً } لا يخطُر ببال أحد من الناس وهو نعتٌ للمبالغة ، وقرىء بكسر الميم إتباعاً له بالسين .(4/308)
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
{ فَنَادَاهَا } أي جبريلُ عليه السلام { مِن تَحْتِهَا } قيل : إنه كان يقبل الولد ، وقيل : من تحتها أي من مكان أسفلَ منها تحت الأكمة ، وقيل : من تحت النخلة ، وقيل : ناداها عيسى عليه السلام ، وقرىء فخاطبها مَنْ تحتَها بفتح الميم { أَن لا تَحْزَنِى } أي لا تحزني ، على أن «أنْ» مفسرةٌ ، أو بأن لا تحزني على أنها مصدرية قد حذف عنها الجار { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ } أي بمكان أسفل منك ، وقيل : تحت أمرِك إنْ أمرْتِ بالجري أُجريَ وأن أمرت بالإمساك أُمسِك { سَرِيّاً } أي نهراً صغيراً حسبما روي مرفوعاً ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن جبريلَ عليه السلام ضرب برجله الأرضَ فظهرت عينُ ماء عذبٍ فجرى جدْولاً . وقيل : فعله عيسى عليه السلام . وقيل : كان هناك نهر يابسٌ أجرى الله عز وجل فيه الماءَ حينئذ كما فعل مثلَه بالنخلة ، فإنها كانت نخلةً يابسة لا رأسَ لها ولا ورق فضلاً عن الثمر وكان الوقت شتاءً ، فجعل الله لها إذ ذاك رأساً وخُوصاً وثمراً ، وقيل : كان هناك ماءٌ جارٍ . والأول هو الموافقُ لمقام بيان ظهورِ الخوارق والمتبادرُ من النظم الكريم ، وقيل : سرياً أي سيداً نبياً رفيعَ الشأن جليلاً وهو عيسى عليه السلام ، فالتنوينُ للتفخيم والجملةُ للتعليل لانتفاء الحزْنِ المفهوم من النهي عنه ، والتعرضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتأكيدِ التعليل وتكميلِ التسلية .
{ وهزي } هزُّ الشيء تحريكُه إلى الجهات المتقابلة تحريكاً عنيفاً متدارِكاً ، والمرادُ هاهنا ما كان منه بطريق الجذبِ والدفعِ لقوله تعالى : { إِلَيْكَ } أي إلى جهتك والباء في قوله عز وعلا : { بِجِذْعِ النخلة } صلةٌ للتأكيد كما في قوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } الخ ، قال الفراء : تقول العرب : هَزّه وهزّ بِه وأخذ الخطامَ وأخذ بالخطام ، أو لإلصاق الفعل بمدخولها أي افعلي الهزَّ بجذعها { تساقط } أي تُسقِطِ النخلة { عَلَيْكَ } إسقاطاً متواتراً حسب تواترِ الهزِّ ، وقرىء تُسقِطْ ويُسقِط من الإسقاط بالتاء والياء ، وتتساقطْ بإظهار التاءين ، وتَساقطْ بطرح الثانية ، وتسّاقَطْ بإدغامها في السين ، ويَسّاقط بالياء كذلك ، وتسقُطْ ويسقُطْ من السقوط على أن التاء في الكل للنخلة والياء للجذع ، وقوله تعالى : { رُطَباً } على القراءات الأُوَل مفعولٌ وعلى الست البواقي تمييزٌ ، وقوله تعالى : { جَنِيّاً } صفةٌ له وهو ما قُطع قبل يَبْسه فعل بمعنى مفعول ، أي رطباً مجنياً أي صالحاً للاجتناء ، وقيل : بمعنى فاعل أي طرياً طيباً ، وقرىء جِنياً بكسر الجيم للاتباع .
{ فَكُلِى واشربى } أي ذلك الرطبَ وماءَ السَّريِّ أو من الرطب وعصيرِه { وَقَرّى عَيْناً } وطِيبي نفساً وارفضي عنها ما أحزنك وأهمك ، فإنه تعالى قد نزّه ساحتَك عما اختلج في صدور المتعبدين بالأحكام العادية بأن أظهر لهم من البسائط العنصريةِ والمركباتِ النباتية ما يخرِق العاداتِ التكوينيةَ ويرشدهم إلى الوقوف على سريرة أمرِك ، وقرىء وقِرّي بكسر القاف وهي لغة نجد واشتقاقُه من القرار ، فإن العينَ إذا رأت ما يسرّ النفسَ سكنت إليه من النظر إلى غيره ، أو من القَرّ فإن دمعةَ السرور باردةٌ ودمعةَ الحُزن حارة ، ولذلك يقال : قُرّة العين وسُخْنةُ العين للمحبوب والمكروه { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً } أي آدمياً كائناً مَنْ كان ، وقرىء تَرئِنّ على لغة من يقول : لبّأْتُ بالحج لما بين الهمزة والياءِ من التآخي { فَقُولِى } له إن استنطقك { إِنّى نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً } أي صمتاً وقد قرىء كذلك ، أو صياماً وكان صيامُهم بالسكوت { فَلَنْ أُكَلّمَ اليوم إِنسِيّاً } أي بعد أن أخبرتُكم بنذري وإنما أكلم الملائكةَ وأناجي ربي ، وقيل : أُمِرت بأن تخبرَ بنذرها بالإشارة وهو الأظهرُ ، قال الفراء : العربُ تسمِّي كلَّ ما وصل إلى الإنسان كلاماً بأي طريق وصَل ما لم يؤكَّد بالمصدر ، فإذا أُكّد لم يكن إلا حقيقةَ الكلام ، وإنما أمرت بذلك لكراهة مجادلةِ السفهاء ومناقلتهم والاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام ، فإنه نصٌّ قاطعٌ في قطع الطعن .(4/309)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)
{ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا } أي جاءتهم مع ولدها راجعة إليهم عندما طهرت من نفاسها { تَحْمِلُهُ } أي حاملةً له { قَالُواْ } مؤنبين لها { يا مريم لَقَدْ جِئْتَ } أي فعلت { شَيْئاً فَرِيّاً } أي عظيماً بديعاً منكراً من فرَى الجلدَ أي قطعه ، أو جئتِ مجيئاً عجيباً عبر عنه بالشيء تحقيقاً للاستغراب .
{ ياأخت هارون } استئنافٌ لتجديد التعييرِ وتأكيدِ التوبيخ عنَوا به هارونَ النبيَّ عليه السلام ، وكانت مِن أعقاب مَن كان معه في طبقة الأخوة ، وقيل : كانت من نسله وكان بينهما ألف سنة ، وقيل : هو رجلٌ صالح أو طالح كان في زمانهم شبّهوها به ، أي كنت عندنا مثله في الصلاح أو شتموها به { مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } تقريرٌ لكون ما جاءت به فِرّياً منكراً وتنبيهٌ على أن ارتكابَ الفواحش من أولاد الصالحين أفحشُ .
{ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } أي إلى عيسى عليه السلام أنْ كلّموه ، والظاهر أنها حينئذ بينت نذرَها وأنها بمعزل من محاورة الإنس حسبما أُمرت ، ففيه دَلالةٌ على أن المأمورَ به بيانُ نذرها بالإشارة لا بالعبارة ، والجمعُ بينهما مما لا عهدَ به { قَالُواْ } منكرين لجوابها { كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى المهد صَبِيّاً } ولم نعهَد فيما سلف صبياً يكلمه عاقل ، وقيل : ( كان ) لإيقاع مضمونِ الجملة في زمان ماضٍ مبهمٍ صالحٍ لقريبه وبعيده ، وهو هاهنا لقريبه خاصة بدليل أنه مَسوقٌ للتعجب ، وقيل : هي زائدة والظرفُ صلة مَنْ وصبياً حال من المستكنّ فيه أو هي تامة أو دائمة كما في قوله تعالى : { وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً }(4/310)
قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)
{ قَالَ } استئنافٌ مبنيّ على سؤال نشأ من سياق النظمِ الكريم ، كأنه قيل : فماذا كان بعد ذلك؟ فقيل : قال عيسى عليه السلام : { إِنّى عَبْدُ الله } أنطقه الله عز وجل بذلك آثرَ ذي أثيرٍ تحقيقاً للحق وردًّا على من يزعُم ربوبيته ، قيل : كان المستنطِقُ لعيسى زكريا عليهما الصلاة والسلام ، وعن السدي رضي الله عنه : لما أشارت إليه غضِبوا وقالوا : لَسُخرَيتُها بنا أشدُّ علينا مما فعلت ، وروي أنه عليه السلام كان يرضَع فلما سمع ذلك ترك الرَّضاعَ وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار إليهم بسبابته فقال ما قال الخ ، وقيل : كلمهم بذلك ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان { الكتاب } أي الإنجيلَ { وَجَعَلَنِى نَبِيّاً } { وَجَعَلَنِى } مع ذلك { مُبَارَكاً } نفّاعاً معلِّماً للخير ، والتعبيرُ بلفظ الماضي في الأفعال الثلاثة إما باعتبار ما سبق في القضاء المحتومِ أو بجعل ما في شرف الوقوعِ لا محالة واقعاً ، وقيل : أكمله الله عقلاً واستنبأه طفلاً { أَيْنَمَا كُنتُ } أي حيثما كنت { واوصانى بالصلاة } أي أمرني بها أمراً مؤكداً { والزكواة } زكاةِ المال إن ملكتُه أو بتطهير النفسِ عن الرذائل { مَا دُمْتُ حَيّاً } في الدنيا .
{ وَبَرّاً بِوَالِدَتِى } عطفٌ على مباركاً أي جعلني بارًّا بها ، وقرىء بالكسر على أنه مصدرٌ وصف به مبالغةً ، أو منصوبٌ بمضمر دل عليه أوصاني ، أي وكلفني بَرًّا ، ويؤيده القراءةُ بالكسر والجر عطفاً على الصلاة والزكاة والتنكيرُ للتفخيم { وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً } عنيداً لله تعالى لفَرْط تكبّره .
{ والسلام عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } كما هو على يحيى ، على أن التعريفَ للعهد والأظهرُ أنه للجنس والتعريضِ باللعن على أعدائه ، فإن إثباتَ جنسِ السلام لنفسه تعريضٌ بإثبات ضدِّه لأضداده كما في قوله تعالى : { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } فإنه تعريضٌ بأن العذابَ على من كذّب وتولى .
{ ذلك } إشارةٌ إلى من فُصّلت نعوتُه الجليلةُ ، وما فيه من معنى البُعد للدِلالة على علو مرتبتِه وبُعد منزلتِه وامتيازِه بتلك المناقبِ الحميدةِ عن غيره ونزولِه منزلةَ المشاهَد المحسوس { عِيسَى ابن مَرْيَمَ } لا ما يصفه النصارى ، وهو تكذيبٌ لهم فيما يزعُمونه على الوجه الأبلغِ والمنهاج البرهانيِّ حيث جعله موصوفاً بأضداد ما يصفونه { قَوْلَ الحق } بالنصب على أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لقال : إني عبد الله الخ ، وقوله تعالى : { ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ } اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله ، وقرىء بالرفع على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي هو قولُ الحق الذي لا ريب فيه ، والإضافةُ للبيان والضميرُ للكلام السابق لتمام القصة ، وقيل : صفةُ عيسى أو بدلُه أو خبرٌ ثانٍ ومعناه كلمةُ الله ، وقرىء قالَ الحقِّ وقول الحق فإن القولَ والقال في معنى واحد { الذى فِيهِ يَمْتُرُونَ } أي يشكون أو يتنازعون ، فيقول اليهودُ : ساحرٌ ، والنصارى : ابنُ الله ، وقرىء بتاء الخطاب .(4/311)
مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)
{ مَا كَانَ للَّهِ } أي ما صح وما استقام له تعالى { أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سبحانه } تكذيبٌ للنصارى وتنزيهٌ له تعالى عما بَهتوه وقوله تعالى : { إِذَا قضى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } تبكيتٌ لهم ببيان أن شأنه تعالى إذا قضى أمراً من الأمور أن يعلِّق به إرادتَه فيكونَ حينئذ بلا تأخير ، فَمْن هذا شأنُه كيف يُتوهّم أن يكون له ولد وقرىء فيكونَ بالنصب على الجواب .
وقوله تعالى : { وَإِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه } من تمام كلامِ عيسى عليه السلام ، قيل : هو عطف على قوله : { إِنّى عَبْدُ الله } داخلٌ تحت القولِ وقد قرىء بغير واو ، وقرىء بفتح الهمزة على حذف اللام أي ولأنه تعالى ربي وربُّكم فاعبُدوه كقوله تعالى : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً } وقيل : معطوفٌ على الصلاة { هذا } أي الذي ذكرتُه من التوحيد { صراط مُّسْتَقِيمٍ } لا يضِلُّ سالكُه والفاء في قوله تعالى : { فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ } لترتيب ما بعدها على ما قبلها تنبيهاً على سوء صنيعِهم بجعلهم ما يوجب الاتفاقَ منشأً للاختلاف ، فإن ما حُكي من مقالات عيسى عليه السلام مع كونها نصوصاً قاطعةً في كونه عبدَه تعالى ورسولَه قد اختلفت اليهودُ والنصارى بالتفريط والإفراط ، أو فرّق النصارى ، فقالت النُّسطوريةُ : هو ابنُ الله ، وقالت اليعقوبيةُ : هو الله هبط إلى الأرض ثم صعِد إلى السماء تعالى عن ذلك علواً كبيراً ، وقالت الملكانية : هو عبدُ الله ونبيُّه .
{ فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } وهم المختلفون عبّر عنهم بالموصول إيذاناً بكفرهم جميعاً وإشعاراً بعلة الحُكم { مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي من شهود يومٍ عظيمِ الهول والحساب والجزاء وهو يومُ القيامة ، أو من وقت شهودِه أو من مكان الشهود فيه أو من شهادة ذلك اليوم عليهم ، وهو أن يشهد عليهم الملائكةُ والأنبياءُ عليهم السلام وألسنتُهم وآذانُهم وأيديهم وأرجلُهم وسائرُ آرابِهم بالكفر والفسوق ، أو من وقت الشهادة أو من مكانها ، وقيل : هو ما شِهدوا به في حق عيسى وأمِّه عليهما السلام .
{ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } تعجّبٌ من حِدّة سمعِهم وأبصارِهم يومئذ ، ومعناه أن أسماعَهم وأبصارهم { يَوْمَ يَأْتُونَنَا } للحساب والجزاء أي يوم القيامة جديرٌ بأن يُتعجَّب منها بعد أن كانوا في الدنيا صُمًّا عُمياً ، أو تهديدٌ بما سيسمعون ويُبصرون يومئذ ، وقيل : أُمر بأن يُسمِعَهم ويُبصرهم مواعيدَ ذلك اليوم وما يحيق بهم فيه ، والجارُّ والمجرورُ على الأول في موقع الرفعِ وعلى الثاني في حيز النصب { لكن الظالمون اليوم } أي في الدنيا { فِى ضلال مُّبِينٍ } لا تُدرك غايتُه حيث أغفلوا الاستماعَ والنظرَ بالكلية ، ووضعُ الظالمين موضعَ الضمير للإيذان بأنهم في ذلك ظالمون لأنفسهم .(4/312)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
{ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة } أي يوم يتحسر الناسُ قاطبةً ، أما المسيءُ فعلى إساءته وأما المحسنُ فعلى قلة إحسانِه { إِذْ قُضِىَ الأمر } أي فُرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك ، فقال : « حين يجاء بالموت على صورة كبشٍ أملحَ فيذبح والفريقان ينظرون ، فينادي المنادي يا أهلَ الجنة خلودٌ فلا موت ويا أهلَ النار خلود فلا موت ، فيزداد أهلُ الجنة فرحاً إلى فرح وأهلُ النار غمًّا إلى غم » وإذ بدلٌ من يومَ الحسرة أو ظرفٌ للحسرة فإن المصدرَ المعرّفَ باللام يعمل في المفعول الصريح عند بعضِهم فكيف بالظرف { وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ } أي عما يُفعل بهم في الآخرة { وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } وهما جملتان حاليتان من الضمير المستتر في قوله تعالى : { فِى ضلال مُّبِينٍ } أي مستقرون في ذلك وهم في تينك الحالتين ، وما بينهما اعتراضٌ ، أو من مفعول أنذِرْهم أي أنذرهم غافلين غيرَ مؤمنين فيكون حالاً متضمنةً لمعنى التعليل .
{ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا } لا يبقى لأحد غيرِنا عليها وعليهم مُلكٌ ولا مَلِك ، أو نتوفى الأرضَ ومن عليها بالإفناء والإهلاك توَفيَ الوارثِ لإرثه { وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } أي يُردّون للجزاء لا إلى غيرنا استقلالاً أو اشتراكاً .
{ واذكر } عطف على أنذِرْهم { فِى الكتاب } أي في السورة أو في القرآن { إِبْرَاهِيمَ } أي اتلُ على الناس قصته وبلِّغها إياهم كقوله تعالى : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إبراهيم } فإنهم ينتمون إليه عليه السلام فعساهم باستماع قصته يُقلِعون عما هم فيه من القبائح { إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً } ملازماً للصدق في كل ما يأتي ويذر ، أو كثيرَ التصديق لكثرة ما صدّق به غيوبَ الله تعالى وآياتِه وكتبَه ورسلَه ، والجملةُ استئنافٌ مسَوقٌ لتعليل موجبِ الأمر فإن وصفه عليه السلام بذلك من دواعي ذكرِه { نَبِيّاً } خبرٌ آخرُ لكان مقيدٌ للأول مخصِّصٌ له كما ينبىء عنه قوله تعالى : { مّنَ النبيين والصديقين } الآية ، أي كان جامعاً بين الصدّيقية والنبوة ولعل هذا الترتيبَ للمبالغة في الاحتراز عن توهم تخصيصِ الصدّيقية بالنبوة فإن كلَّ نبيَ صديقٌ .
{ إِذْ قَالَ } بدلُ اشتمالٍ من إبراهيمَ وما بينهما اعتراضٌ مقررٌ لما قبله أو متعلق بكان أو بنبياً ، وتعليقُ الذكر بالأوقات مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيها من الحوادث قد مر سرُّه مراراً ، أي كان جامعاً بين الأثَرتين حين قال { لأَبِيهِ } آزرَ متلطفاً في الدعوة مستميلاً له { ياأبت } أي با أبي فإن التاء عوضٌ عن ياء الإضافة ولذلك لا يجتمعان ، وقد قيل : يا أبتا لكون الألف بدلاً من الياء { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ } ثناءَك عليه عند عبادتِك له وجؤارِك إليه { وَلاَ يَبْصِرُ } خضوعَك وخشوعَك بين يديه ، أو لا يسمع ولا يبصر شيئاً من المسموعات والمُبصَرات فيدخُل في ذلك ما ذكر دخولاً أولياً { وَلاَ يُغْنِى } أي لا يقدر على أن يغنيَ { عَنكَ شَيْئاً } في جلب نفعٍ أو دفع ضُرّ ، ولقد سلك عليه السلام في دعوته أحسنَ منهاجٍ وأقومَ سبيل ، واحتج بحسن أدبٍ وخلقٍ جميل لئلا يركبَ متنَ المكابرة والعناد ولا يُنكّبَ بالكلية عن مَحَجّة الرشاد ، حيث طَلب منه علةَ عبادتِه لِما يستخفّ به عقلُ كل عاقل من عالم وجاهلٍ ويأبى الركونّ إليه ، فضلاً عن عبادته التي هي الغايةُ القاصية من التعظيم مع أنها لا تحِقّ إلا لمن له الاستغناءُ التامُّ والإنعامُ العام : الخالقِ الرازقِ المحيي المميتِ المثيبِ المعاقب ، ونبّه على أن العاقل يجب أن يفعل كلَّ ما يفعل لداعيةٍ صحيحة وغرضٍ صحيح ، والشيءُ لو كان حياً مميّزاً سميعاً بصيراً قادراً على النفع والضرِّ مطيقاً بإيصال الخير والشر لكن كان ممكِناً لاستنكف العقلُ السليمُ عن عبادته ، وإن كان أشرفَ الخلائق لما يراه مِثْلَه في الحاجة والانقيادِ للقدرة القاهرةِ الواجبة ، فما ظنُّك بجماد مصنوع من حجر أو شجر ليس له من أوصاف الإحياءِ عينٌ ولا أثرٌ ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديَه إلى الحق المبين ، لِما أنه لم يكن محفوظاً من العلم الإلهي مستقلاً بالنظر السويّ مصدّراً لدعوته بما مر من الاستمالة والاستعطاف حيث قال :
{ ياأبت إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ } ولم يسِمْ أباه بالجهل المُفرِط وإن كان في أقصاه ولا نفسَه بالعلم الفائق وإن كان كذلك ، بل أبرز نفسه في صورة رفيقٍ له أعرفَ بأحوال ما سلكاه من الطريق ، فاستماله برفق حيث قال : { فاتبعنى أَهْدِكَ صراطا سَوِيّاً } أي مستقيماً موصلاً إلى أسنى المطالب منجياً عن الضلال المؤدّي إلى مهاوي الردى والمعاطب ، ثم ثبّطه عما كان عليه بتصويره بصورة يستنكرها كلُّ عاقل ببيانِ أنه مع عرائه عن النفع بالمرة مستجلبٌ لضرر عظيم ، فإنه في الحقيقة عبادةُ الشيطان لِما أنه الآمرُ به فقال : { ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان } فإن عبادتك للأصنام عبادةٌ له إذ هو الذي يسولها لك ويغريك عليها وقوله : { إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً } تعليلٌ لموجب النهي وتأكيدٌ له ببيان أنه مستعصٍ على ربك الذي أنعم عليك بفنون النعم ، ولا ريب في أن المطيعَ للعاصي عاصٍ وكلُّ مَن هو عاصٍ حقيقٌ بأن يسترد منه النعم وينتقم منه ، والإظهارُ في موضع الإضمار لزيادة التقريرِ ، والاقتصارُ على ذكر عصيانه من بين سائر جناياتِه لأنه مَلاكُها أو لأنه نتيجةُ معاداتِه لآدمَ عليه السلام وذريته ، فتذكيرُه داعٍ لأبيه إلى الاحتراز عن موالاته وطاعته والتعرضُ لعنوان الرحمانية لإظهار كمالِ شناعة عصيانِه .(4/313)
وقوله : { ياأبت إِنّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرحمن } تحذيرٌ من سوء عاقبةِ ما كان عليه من عبادة الشيطان وهو ابتلاؤُه بما ابتُليَ به معبودُه من العذاب الفظيع ، وكلمةُ مِن متعلقةٌ بمضمر وقع صفةً للعذاب مؤكدةٌ لما أفاده التنكيرُ من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ، وإظهارُ الرحمن للإشعار بأن وصفَ الرحمانية لا يدفع حلولَ العذاب كما في قوله عز وجل : { مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم } { فَتَكُونَ للشيطان وَلِيّاً } أي قريناً له في اللعن المخلّد ، وذكرُ الخوف للمجاملة وإبرازِ الاعتناء بأمره .(4/314)
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)
{ قَالَ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل : فماذا قال أبوه عندما سمع منه عليه السلام هذه النصائحَ الواجبةَ القَبولِ؟ فقيل : قال مُصرًّا على عِناده : { أَرَاغِبٌ أَنتَ عَن ءَالِهَتِى ياإبراهيم } أي أمُعرضٌ ومنصرفٌ أنت عنها بتوجيه الإنكار إلى نفس الرغبة مع ضرب من التعجب ، كأن الرغبةَ عنها مما لا يصدر عن العاقل فضلاً عن ترغيب الغير عنها وقوله : { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ } تهديدٌ وتحذير عما كان عليه من العِظة والتذكير أي والله لئن لم تنته عما كنت عليه من النهي عن عبادتهم لأرجُمنك بالحجارة ، وقيل : باللسان { واهجرنى } أي فاحذَرْني واتركني { مَلِيّاً } أي زماناً طويلاً أو ملياً بالذهاب مطيقاً به .
{ قَالَ } استئناف كما سلف { سلام عَلَيْكَ } توديعٌ ومُتارَكةٌ على طريقة مقابلة السيئة بالحسنة ، أي لا أصيبك بمكروه بعدُ ولا أشافهك بما يؤذيك ولكن { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي } أي أستدعيه أن يغفر لك بأن يوفقك للتوبة ويهديَك إلى الإيمان ، كما يلوح به تعليلُ قوله تعالى : { واغفر لاِبِى } بقوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين } والاستغفارُ بهذا المعنى للكافر قبل تبين أنه يموت على الكفر مما لا ريب في جوازه وإنما المحظورُ استدعاءُ المغفرة له مع بقائه على الكفر فإنه مما لا مساغَ له عقلاً ولا نقلاً ، وأما الاستغفارُ له بعد موته على الكفر فلا تأباه قضيةُ العقل وإنما الذي يمنعه السمعُ ، ألا يرى إلى أنه عليه السلام قال لعمه أبي طالب : لا أزال أستغفر لك ما لم أُنهَ عنه فنزل قوله تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } الآية ، والاشتباه في أن هذا الوعدَ من إبراهيمَ عليه السلام ، وكذا قولُه : لأستغفرن لك وما ترتب عليهما من قوله : { واغفر لاِبِى } الآية ، إنما كان قبل انقطاعِ رجائِه عن إيمانه لعدم تبيّن أمرِه لقوله تعالى : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } كما مر في تفسير سورة التوبة ، واستثناؤه عما يؤتسى به في قوله تعالى : { إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لاِبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } لا يقدح في جوازه لكن لا لأن ذلك كان قبل ورودِ النهي أو لموعِدة وعدها إياه كما قيل ، لِما أن النهيَ إنما ورد في شأن الاستغفارِ بعد تبيّن الأمرِ وقد كان استغفارُه عليه السلام قبل التبيُّن فلم يتناولْه النهيُ أصلاً ، وأن الوعدَ بالمحظور لا يرفع حظرَه بل لأن المرادَ بما يؤتسى به ما يجب الائتساءُ به حتماً لوجود الوعيدِ على الإعراض عنه بقوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الاخر وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد } فاستثناؤه عن ذلك إنما يفيد عدمَ وجوبِ استدعاء الإيمان للكافر الموجوِّ إيمانُه لا سيما وقد انقطع ذلك عند ورودِ الاستثناء وذلك مما لا يتردد فيه أحدٌ من العقلاء ، وأما عدمُ جوازه قبل تبيّن الأمرِ فلا دِلالةَ للاستثناء عليه قطعاً ، وتوجيهُ الاستثناءِ إلى العِدَة بالاستغفار لا إلى نفس الاستغفارِ بقوله : { واغفر لاِبِى } الآية ، لأنها كانت هي الحاملةَ له عليه السلام عليه ، وتخصيصُ تلك العِدَة بالذكر دون ما وقع هاهنا لورودها على نهج التأكيدِ القسَميّ ، وأما جعلُ الاستغفارِ دائراً عليها وترتيبُ التبرُّؤ على تبيّن الأمرِ فقد مر تحقيقُه في تفسير سورة التوبة . وقوله : { إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً } أي بليغاً في البِرّ والإلطاف تعليلٌ لمضمون ما قبله .(4/315)
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)
{ وَأَعْتَزِلُكُمْ } أي أتباعد عنك وعن قومك { وَمَا تَدْعُون مِن دُونِ الله } بالمهاجَرة بديني حيث لم تؤثّرْ فيكم نصائحي .
{ وَأَدْعُو رَبّى } أعبدُه وحده ، وقد جُوّز أن يراد به دعاؤُه المذكورُ في تفسير سورةِ الشعراء ، ولا أن يبعُد أ يُرادَ به استدعاءُ الولد أيضاً بقوله : { رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين } حسبما يساعده السباق والسياق { عسى أَن لا أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا } أي خائباً ضائعَ السعي ، وفيه تعريضٌ بشقائهم في عبادة آلهتِهم ، وفي تصدير الكلام بعسى من إظهار التواضعِ ومراعاة حسنِ الأدب والتنبيهِ على حقيقة الحقِّ من أن الإجابةَ والإثابةَ بطريق التفضل منه عز وجل لا بطريق الوجوبِ ، وأن العبرةَ بالخاتمة وذلك من الغيوب المختصّةِ بالعليم الخبير ما لا يخفى .
{ فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } بالمهاجرة إلى الشام { وَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ } بدلَ مَنْ فارقهم من أقربائه الكفرة لكن لا عَقيبَ المهاجرة فإن المشهورَ أن الموهوبَ حينئذ إسماعيلُ عليه السلام لقوله تعالى : { فبشرناه بغلام حَلِيمٍ } إثرَ دعائِه بقولِه : { رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين } ولعل ترتيبَ هِبتهما على اعتزاله هاهنا لبيان كمالِ عِظَم النّعم التي أعطاها الله تعالى إياه بمقابلة مَن اعتزلهم من الأهل والأقرباء فإنهما شجرتا الأنبياء لهما أولادٌ وأحفادٌ أوُلو شأنٍ خطير وذوو عددٍ كثير . هاذ وقد روي أنه عليه السلام لما قصد الشام أتى أولاً حَرّان وتزوج بسارةَ وولدت له إسحاقَ ووُلد لإسحاقَ يعقوبُ والأولُ هو الأقربُ الأظهر { وَكُلاًّ } أي كلَّ واحد منهما أو منهم وهو مفعولٌ أولٌ لقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا نَبِيّاً } لا بعضَهم دون بعض .
{ وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا } هي النبوةُ ، وذكرُها بعد ذكر جعلِهم نبياً للإيذان بأنها من باب الرحمةِ ، وقيل : هي المالُ والأولادُ وما بُسط لهم من سَعة الرزقِ ، وقيل : هو الكتابُ والأظهر أنها عامةٌ لكل خير ديني ودنيويَ أُوتوه مما لم يُؤتَه أحدٌ من العالمين { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } يفتخر بهم الناسُ ويثنون عليهم استجابةً لدعوته بقوله : { اجعل لِّى * لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاخرين } والمرادُ باللسان ما يوجد به من الكلام ولسانُ العرب لغتُهم ، وإضافتُه إلى الصدق ووصفُه بالعلو للدلالة على أنهم أحِقّاءُ بما يثنون عليهم وأن محامِدَهم لا تخفى على تباعد الأعصارِ وتبدُّل الدول وتحوُّل المِلل والنِحَل .
{ واذكر فِى الكتاب موسى } قُدّم ذكرُه على ذكر إسماعيلَ لئلا ينفصِل عن يعقوبَ عليهما السلام { إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً } موحّداً أخلصَ عبادتِه عن الشرك والرياء ، أو أسلم وجهَه لله تعالى وأخلص نفسَه عما سواه ، وقرىء مخلَصاً على أن الله تعالى أخلصه { وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً } أرسله الله تعالى إلى الخلق فأنبأهم عنه ولذلك قُدّم رسولاً مع كونه أخلصَ وأعلى .(4/316)
وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56)
{ وناديناه مِن جَانِبِ الطور الأيمن } الطورُ جبلٌ بين مصرَ ومدْيَنَ ، والأيمنُ صفةٌ للجانب أي ناديناه من ناحيته اليُمنى من اليمين وهي التي تلي يمينَ موسى عليه السلام ، أو من جانبه الميمونِ من اليُمن ومعنى ندائِه منه أنْ تمثّل له الكلامُ من تلك الجهة { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } تقريبَ تشريفٍ ، مُثّل حالُه عليه السلام بحال من قرّبه الملِكُ لمناجاته واصطفاه لمصاحبته ونجياً أي مناجياً حالٌ من أحد الضميرين في ناديناه أو قربناه ، وقيل : مرتفعاً لما روي أنه عليه السلام رُفع في السموات حتى سمع صَريفَ القلم .
{ وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا } أي من أجل رحمتِنا ورأفتِنا له أو بعضِ رحمتنا { أَخَاهُ } أي معاضَدةَ أخيه ومؤازرَتَه إجابةً لدعوته بقوله : { واجعل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى هارون أَخِى } لا نفسَه لأنه كان أكبرَ منه عليهما السلام ، وهو على الأول مفعولٌ لوهبنا وعلى الثاني بدلٌ وقوله تعالى : { هارون } عطف بيان له وقوله تعالى : { نَبِيّاً } حال منه .
{ واذكر فِى الكتاب إسماعيل } فُصّل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه لإبراز كمال الاعتناءِ بأمره بإيراده مستقلاً وقوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد } تعليلٌ لموجب الأمر ، وإيرادُه عليه السلام بهذا الوصف لكمال شهرتِه به وناهيك أنه وعَدَ الصبرَ على الذبح بقوله : { سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين } فوفّى { وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً } فيه دِلالةٌ على أن الرسولَ لا يجب أن يكون صاحبَ شريعةٍ ، فإن أولادَ إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام كانوا على شريعته .
{ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكواة } اشتغالاً بالأهم وهو أن يُقْبل الرجلُ بالتكميل على نفسه مَنْ هو أقربُ الناس إليه قال تعالى : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة } { قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } وقصد إلى تكميل الكل بتكميلهم لأنهم قدوةٌ يؤتسى بهم ، وقيل : أهلُه أمتُه فإن الأنبياءَ عليهم السلام آباءُ الأمم { وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً } لاتصافه بالنعوت الجليلةِ التي من جملتها ما ذكر من خصاله الحميدة .
{ واذكر فِى الكتاب إِدْرِيسَ } وهو سِبطُ شَيْثٍ وجدُّ أبي نوحٍ فإنه نوحُ بنُ لمك بن متوشلح بنِ أُخنوخ وهو إدريسُ عليه السلام ، واشتقاقُه من الدّرس يُرده منعُ صرفِه . نعم لا يبعُد أن يكون معناه في تلك اللغة قريباً من ذلك فلُقّب به لكثرة دراسته . روي أنه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفةً وأنه أولُ من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب { إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً } ملازماً للصدق في جميع أحوالِه { نَبِيّاً } خبرٌ آخرُ لكان مخصّصٌ للأول ، إذ ليس كلُّ صدّيق نبياً .(4/317)
وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
{ وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } هو شرفُ النبوة والزُّلفى عند الله عز وجل ، وقيل : علوُّ الرتبة بالذكر الجميل في الدنيا كما في قوله تعالى : { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } وقيل : الجنة ، وقيل : السماءُ السادسةُ أو الرابعة . روي عن كعب وغيره في سبب رفعِ إدريسَ عليه السلام أنه سُئل ذاتَ يوم في حاجة فأصابه وهَجُ الشمس ، فقال : يا رب إني قد مشَيتُ فيها يوماً وقد أصابني منها ما أصابني ، فكيف من يحمِلها مسيرةَ خمسِمائة عام في يوم واحد؟ اللهم خففْ عنه من ثِقَلها وحرِّها ، فلما أصبح المَلَك وجد من خفة الشمس وحرِّها ما لا يُعرف ، فقال : يارب ما الذي قضيت فيه؟ قال : « إن عبدي إدريسَ سألني أن أخففَ عنك حَملَها وحرَّها فأجبتُه » قال : يا رب اجعل بيني وبينه خُلّةً ، فأذِن الله تعالى له فرفعه إلى السماء .
{ أولئك } إشارةٌ إلى المذكورين في السورة الكريمة وما فيه من معنى البُعد للإشارة بعلوّ رُتَبهم وبُعد منزلتِهم في الفضل وهو مبتدأٌ وقوله تعالى : { الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم } صفتُه أي أنعم عليهم بفنون النِعَم الدينيةِ والدنيويةِ حسبما أشير إليه مجملاً وقوله تعالى : { مّنَ النبيين } بيان للموصول وقوله تعالى : { مِن ذُرّيَّةِ ءادَمَ } بدلٌ منه بإعادة الجارِّ ويجوز أن تكون كلمةُ ( من ) فيه للتبعيض لأن المنعَمُ عليهم أعمُّ من الأنبياء وأخصُّ من الذرية .
{ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } أي ومن ذرية مَنْ حملنا معه خصوصاً وهم مَنْ عدا إدريسَ عليه السلام ، فإن إبراهيمَ كان من ذرية سامِ بنِ نوح { وَمِن ذُرّيَّةِ إبراهيم } وهم الباقون { وإسراءيل } عطفٌ على إبراهيمَ أي ومن ذرية إسرائيلَ وكان منهم موسى وهارونُ وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام ، وفيه دليلٌ على أن أولادَ البناتِ من الذرية { وَمِمَّنْ هَدَيْنَا واجتبينا } أي ومن جملة من هديناهم إلى الحق واجتبيناهم للنبوة والكرامة ، وقوله تعالى : { إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً } خبرٌ لأولئك ويجوز أن يكون الخبرُ هو الموصولُ ، وهذا استئنافاً مَسوقاً لبيان خشيتِهم من الله تعالى وإخباتِهم له مع ما لهم من علوّ الرتبة وسمُوّ الطبقة في شرف النسَب وكمالِ النفس والزُلفى من الله عز سلطانه ، وسجّداً وبُكياً حالان من ضمير خروا أي ساجدين باكين . عن النبي صلى الله عليه وسلم : « اتلوا القرآن وابكُوا فإن لم تبكُوا فتباكوا » والبُكِيُّ جمع باكٍ كالسُّجّد جمع ساجد ، وأصله بُكُويٌ فاجتمعت الواوُ والياء وسُبقت إحداهما بالسكون فقُلبت الواوُ ياء وأُدغمت الياءُ في الياء ، وحُرّكت الكافُ بالكسر المجانس للباء ، وقرىء يُتلى بالياء التحتانيةِ لأن التأنيثَ غيرُ حقيقي ، وقرىء بِكِيّاً بكسر الباء للإتباع ، قالوا : ينبغي أن يدعوَ الساجد في سجدته بما يليق بآياتها فهنا يقول : اللهُم اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهدبين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك وفي آية الإسراء يقول اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك وفي آية التنزيل السجدة يقول اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك من أن أكون من المستكبرينعن أمرك .(4/318)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } يقال : لعَقِب الخير خلفٌ بفتح اللام ولعقِب الشرِّ خلْفٌ بالسكون أي فعقَبهم وجاء بعدهم عَقِبُ سوءٍ { أَضَاعُواْ الصلاة } وقرىء الصلواتِ أي تركوها أو أخّروها عن وقتها { واتبعوا الشهوات } من شرب الخمر واستحلالِ نكاحِ الأختِ من الأب والانهماكِ في فنون المعاصي . وعن علي رضي الله عنه عندهم مِنْ بناء المشيَّد وركوبِ المنظور ولُبس المشهور { فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } أي شراً فإن كلَّ شر عند العرب غيٌّ وكل خير رشادٌ كقوله
فمن يلقَ خيراً يحمَدِ الناسُ أمرَه ... ومن يغْوِ لا يعدَمْ على الغي لائما
وعن الضحاك جزاءَ غيَ كقوله تعالى : { يَلْقَ أَثَاماً } أو غياً عن طريق الجنة ، وقيل : « غَيٌّ وادٍ في جهنمَ تستعيذ منه أوديتُها » وقوله تعالى : { إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صالحا } يدل على أن الآيةَ في حق الكفرة { فَأُوْلَئِكَ } إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافِه بما في حيز الصلة ، وما فيه من معنى البُعد لما مرّ مراراً ، أي فأولئك المنعوتون بالتوبة والإيمانِ والعمل الصالح { يَدْخُلُونَ الجنة } بموجب الوعدِ المحتوم وقرىء يُدْخَلون على البناء للمفعول .
{ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } أي لا يُنقَصون من جزاء أعمالِهم شيئاً ، أو لا ينقصون شيئاً من النقص ، وفيه تنبيهٌ على أن كفرَهم السابقَ لا يضرهم ولا ينقُص أجورَهم .
{ جنات عَدْنٍ } بدلٌ من الجنةَ بدلَ البعض لاشتمالها عليها وما بينهما اعتراضٌ أو نصبٌ على المدح ، وقرىء بالرفع على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي هي أو تلك جنات الخ . أو مبتدأ خبرُه التي وعد الخ ، وقرىء جنة عدْنَ نصباً ورفعاً ، وعدْنُ علمٌ لمعنى العَدْن وهو الإقامةُ كما أن فيْنةَ وسحرَ وأمسَ فيمن لم يصرِفها أعلامٌ لمعاني الفينةِ وهي الساعة التي أنت فيها والسحرِ والأمسِ فجرى لذلك مجرى العدْن ، أو هو علمٌ لأرض الجنة خاصةً ولولا ذلك لما ساغ إبدالُ ما أضيف إليه من الجنة بلا وصفٍ عند غير البصريين ولا صفةٍ بقوله تعالى : { التى وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ } وجعلُه بدلاً منه خلافُ الظاهر فإن الموصولَ في حكم المشتقّ وقد نصّوا على أن البدَل بالمشتق ضعيفٌ ، والتعرضُ لعنوان الرحمة للإيذان بأن وعدَها وإنجازَه لكمال سَعةِ رحمته والباء في قوله تعالى : { بالغيب } متعلقةٌ بمضمر هو حالٌ من المضمر العائدِ إلى الجنات أو من عباده ، أي وعدها إياهم ملتبسةً أو ملتبسين بالغيب ، أي غائبةً عنهم غيرَ حاضرة أو غائبين عنها لا يرَوْنها وإنما آمنوا بها بمجرد الإخبار ، أو بمضمر هو سببُ الوعدِ أي وعدها إياهم بسبب إيمانِهم .
{ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ } أي موعدُه كائناً ما كان فيدخل فيه الجناتُ الموعودةُ دخولاً أولياً ، ولما كانت هي مثابةً يُرجَع إليها قيل : { مَأْتِيّاً } أي يأتيه مَنْ وُعِد له لا محالة بغير خُلْف ، وقيل : هو مفعولٌ بمعنى فاعل ، وقيل : مأتياً أي مفعولاً مُنجَزاً من أتى إليه إحساناً أي فعَلَه .(4/319)
{ لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } أي فضولَ كلامٍ لا طائلَ تحته وهو كنايةٌ عن عدم صدورِ اللغوِ من أهلها ، وفيه تنبيهٌ على أن اللغوَ مما ينبغي أن يُجتنَب عنه في هذه الدارِ ما أمكن { إِلاَّ سلاما } استثناءٌ منقطِعٌ أي لكن يسمعون تسليمَ الملائكة عليهم أو تسليمَ بعضهم على بعض ، أو متصلٌ بطريق التعليقِ بالمُحال أي لا يسمعون لغواً ما إلا سلاماً فحيث استحال كونُ السلامِ لغواً استحال سماعُهم له بالكلية كما في قوله
ولا عيبَ فيهم غيرَ أن سيوفَهم ... بهنّ فُلولٌ من قراع الكتائبِ
أو على أن معناه الدعاءُ بالسلامة وهم أغنياءُ عنه فهو من باب اللغو ظاهراً وإنما فائدتُه الإكرامُ وقوله تعالى : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } واردٌ على عادة المتنعّمين في هذه الدار ، وقيل : المرادُ دوامُ رزقِهم ودُرورُه وإلا فليس فيها بكرةٌ ولا عشيٌّ .(4/320)
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
{ تِلْكَ الجنة } مبتدأٌ وخبرٌ جيء به لتعظيم شأنِ الجنةِ وتعيينِ أهلِها ، فإن ما في اسم الإشارةِ من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلتِها وعلوِّ رتبتها { التى نُورِثُ } أي نورثها { مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } أي نُبقيها عليهم بتقواهم ونمتّعهم بها كما نُبقي على الوارث مالَ مُورِّثه ونمتّعه به ، والوِراثةُ أقوى ما يستعمل في التملك والاستحقاق من الألفاظ من حيث إنها لا تُعقَبُ بفسخ ولا استرجاعٍ ولا إبطالٍ ، وقيل : يُورَّث المتقون من الجنة المساكنَ التي كانت لأهل النار لو آمنوا وأطاعوا زيادةً في كرامتهم ، وقرىء نورّث بالتشديد .
{ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ } ( حكايةٌ لقول جبريلَ حين استبطأه رسولُ الله عليهما الصلاة والسلام لما سئل عن أصحاب الكهفِ وذي القرنين والروح ، فلم يدرِ كيف يجيب ورجا أن يوحى إليه فيه فأبطأ عليه أربعين يوماً أو خمسةَ عشرَ فشق ذلك عليه مشقةً شديدة ، وقال المشركون : وَدَّعَه ربُّه وقلاه ثم نزل ببيان ذلك ) وأنزل الله عز وجل هذه الآيةَ وسورةَ الضحى ، والتنزّل النزولُ على مَهل لأنه مطاوعٌ للتنزيل وقد يطلق على مطلق النزولِ كما يطلق التنزيلُ على الإنزال ، والمعنى وما ننزِل وقتاً غَبَّ وقتٍ إلا بأمر الله تعالى على ما تقتضيه حكمتُه ، وقرىء وما يَتنزَّل بالياء والضمير للوحي { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك } وهو ما نحن فيه من الأماكن والأزمنة ولا ننتقل من مكان إلى مكان ولا نتنزّل في زمان دون زمان إلا بأمره ومشيئته .
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } أي تاركاً لك يعني أن عدمَ النزل لم يكن إلا لعدم الأمر به لحكمة بالغةٍ فيه ، ولم يكن لتركه تعالى لك وتوديعِه إياك كما زعمَتِ الكفرة ، وفى إعادة اسمِ الربّ المُعربِ عن التبليغ إلى الكمال اللائقِ مضافاً إلى ضميره عليه السلام من تشريفه والإشعارِ بعلة الحكمِ ما لا يخفى ، وقيل : أولُ الآية حكايةُ قولِ المتقين حين يدخُلون الجنة مخاطِباً بعضُهم بعضاً بطريق التبجّح والابتهاج ، والمعنى وما نتنزّل الجنةَ إلا بأمر الله تعالى ولطفه وهو مالكُ الأمورِ كلِّها سالِفها ومُتَرقَّبِها وحاضرِها فما وجدناه وما نجده من لطفه وفضلِه وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } تقريرٌ لقولهم من جهة الله تعالى أي وما كان ناسياً لأعمال العاملين وما وعدهم من الثواب عليها .
وقوله تعالى : { رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } بيانٌ لاستحالة النسيان عليه تعالى فإن مَن بيده ملكوتُ السموات والأرض وما بينهما كيف يُتصوَّر أن يحوم حول ساحتِه سبحانه الغفلةُ والنسيانُ؟ وهو خبرُ مبتدأ محذوفٍ أو بدلٌ من ربك ، والفاء في قوله تعالى : { فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ } لترتيب ما بعدها من موجب الأمرين على ما قبلها من كونه تعالى ربَّ السمواتِ والأرض وما بينهما ، وقيل : من كونه تعالى غيرَ تارك له عليه السلام أو غيرَ ناس لأعمال العاملين ، والمعنى : فحين عرفتَه تعالى بما ذُكر من الربوبية الكاملةِ فاعبده الخ ، فإن إيجابَ معرفته تعالى كذلك لعبادته مما لا ريب فيه أو حين عرفتَ أنه تعالى لا ينساك أو لا ينسى أعمالَ العاملين كائناً مَنْ كان فأقبِلْ على عبادته واصطبرْ على مشاقّها ولا تحزن بإبطال الوحي وهُزْؤ الكفرةِ ، فإنه يراقبك ويراعيك ويلطُف بك في الدنيا والآخرة .(4/321)
وتعديةُ الاصطبار باللام لا بحرف الاستعلاء كما في قوله تعالى : { واصطبر عَلَيْهَا } لتضمينه معنى الثباتِ للعبادة فيما تورِد عليه من الشدائد والمشاقّ ، كقولك للمبارز : اصطبرُ لِقَرنك أي اثبُت له فيما يورِد عليك من شدائده { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } السمِيُّ الشريكُ في الاسم والظاهرُ أن يراد به هاهنا الشريكُ في اسم خاص قد عُبِّر عنه تعالى بذلك وهو ربُّ السموات والأرض وما بينهما ، والمرادُ بإنكارُ العلم ونفيُه إنكار المعلوم ونفيه على أبلغ وجهٍ وآكَدِه ، فالجملةُ تقريرٌ لما أفاده الفاء من علّية ربوبيته العامةِ لوجوب عبادتِه بل لوجوب تخصّصها به تعالى ببيان استقلالِه عز وجل بذلك الاسمِ وانتفاءِ إطلاقِه على الغير بالكلية حقاً أو باطلاً .
وقيل : المرادُ هو الشريكُ في الاسم الجليلِ فإن المشركين مع غلوهم في المكابرة لم يسمّوا الصنم بالجلالة أصلاً ، وقيل : هو الشريكُ في اسم الإله والمرادُ بالتسمية التسميةُ على الحق ، فالمعنى هل تعلم شيئاً يسمى بالاستحقاق إلها؟ وأما التسميةُ على الباطل فهي كلا تسميةٍ ، فتقريرُ الجملة لوجوب العبادة حينئذ باعتبار ما في الاسمين الكريمين من الإشعار باستحقاق العبادةِ فتدبر .(4/322)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)
{ وَيَقُولُ الإنسان } المرادُ به إما الجنسُ بأسره وإسنادُ القول إلى الكل لوجود القولِ فيما بينهم وإن لم يقله الجميع ، كما يقال : بنو فلان قتلوا فلاناً وإنما القاتلُ واحدٌ منهم وإما البعضُ المعهودُ منهم وهم الكفرةُ أو أُبيُّ بنُ خلف فإنه أخذ عظاماً باليةً ففتّها وقال : يزعُم محمد أنا نبعث بعد ما نموت ونصير إلى هذه الحال ، أي يقول بطريق الإنكار والاستبعاد : { أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً } أي أُبعث من الأرض ، أو من حال الموت ، وتقديمُ الظرف وإيلاؤه حرفَ الإنكار لما أن المنكرَ كونُ ما بعد الموت وقت الحياة ، وانتصابُه بفعل دل عليه أُخرجُ لا به فإن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها وهي هاهنا مخلَصةٌ للتوكيد مجرّدةٌ عن معنى الحال ، كما خلَصت الهمزةُ واللامُ للتعويض في يا ألله فساغ اقترانُها بحرف الاستقبال ، وقرىء إذا ما مِتّ بهمزة واحدة مكسورة على الخبر .
{ أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإنسان } من الذكر الذي يراد به التفكرُ ، والإظهارُ في موقع الإضمار لزيادة التقريرِ والإشعارِ بأن الإنسانيةَ من دواعي التفكرِ فيما جرى عليه من شؤون التكوينِ المُنْحِية بالقلع عن القول المذكور ، وهو السرُّ في إسناده إلى الجنس أو إلى الفرد بذلك العنوان ، والهمزةُ للإنكار التوبيخيِّ والواوُ لعطف الجملة المنفيةِ على مقدّر يدلُّ عليه يقول ، أي أيقول ذلك ولا يذكر { أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ } أي من قبلِ الحالة التي هو فيها وهي حالةُ بقائِه { وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } أي والحالُ أنه لم يكن حينئذ شيئاً أصلاً ، فحيث خلقناه وهو في تلك الحالةِ المنافيةِ للخلق بالكلية مع كونه أبعدَ من الوقوع فلأَنْ نَبعثَه بجمع الموادِّ المتفرِّقة وإيجادِ مثلِ ما كان فيها من الأعراض أَوْلى وأظهرُ ، فما له لا يذكُره فيقعَ فيما يقع فيه من النكير وقرىء يذّكّر ويتذكر على الأصل .(4/323)
فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
{ فَوَرَبّكَ } إقسامُه باسمه عزّت أسماؤه مضافاً إلى ضميره عليه السلام لتحقيق الأمرِ بالإشعار بعلّيته وتفخيمِ شأنِه عليه الصلاة والسلام ورفع منزلتِه { لَنَحْشُرَنَّهُمْ } لنجمعَن القائلين بالسَّوق إلى المحشر بعد ما أخرجناهم من الأرض أحياءً ، ففيه إثباتٌ للبعث بالطريق البرهانيّ على أبلغ وجهٍ وآكَدِه كأنه أمرٌ واضحٌ غنيٌّ عن التصريح به ، وإنما المحتاجُ إلى البيان ما بعد ذلك من الأهوال { والشياطين } معطوفٌ على الضمير المنصوبِ أو مفعول معه . روي أن الكفرةَ يُحشرون مع قرنائهم من الشياطين التي كانت تُغْويهم ، كلٌّ منهم مع شيطانه في سلسلة ، وهذا وإن كان مختصاً بهم لكن ساغ نسبتُه إلى الجنس باعتبار أنهم لما حُشروا وفيهم الكفرةُ مقرونين بالشياطين فقد حشروا معهم جميعاً كما ساغ نسبةُ القولِ إلى المحكيّ إليه مع كون القائل بعضَ أفراده { ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً } ليرى السعداءُ ما نجاهم الله تعالى منه فيزدادوا غِبطةً وسروراً وينالَ الأشقياءُ ما ادخّروا لِمَعادهم عُدّةً ويزدادوا غيظاً من رجوع السعداء عنهم إلى دار الثواب وشماتتِهم بهم ، والجِثيُّ جمع جاثٍ من جثا إذا قعد على ركبتيه ، وأصلُه جُثُوْوٌ بواوين فاستُثقل اجتماعُهما بعد ضمتين فكسرت الثاءُ للتخفيف فانقلبت الواوُ ياءً وأُدغمت فيها الياء الأولى وكُسرت الجيم إتباعاً لما بعدها وقرىء بضمها ، ونصبُه على الحالية من الضمير البارز أي لنُحضرنهم حول جهنم جاثين على رُكَبهم لما يدهَمُهم من هول المطلَعِ أو لأنه من توابع التواقُفِ للحساب قبل التواصُل إلى الثواب والعقاب ، فإن أهلَ الموقف جاثون كما ينطِق به قوله تعالى : { وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } على ما هو المعتادُ في مواقف التقاول ، وإن كان المرادُ بالإنسان الكفرةَ فلعلهم يساقون من الموقف إلى شاطىء جهنم جُثاةً إهانةً بهم أو لعجزهم عن القيام لما اعتراهم من الشدة .
{ ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ } أي من كل أمةٍ شايعت ديناً من الأديان { أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً } أي مَنْ كان منهم أعصى وأعتى فنطرَحهم فيها ، وفي ذكر الأشدّ تنبيهٌ على أنه تعالى يعفو عن بعضٍ من أهل العصيان . وعلى تقدير تفسير الإنسانِ بالكفرة فالمعنى إنا نميز من كل طائفةٍ منهم أعصاهم فأعصاهم وأعتاهم فأعتاهم فنطرحهم في النار على الترتيب أو نُدخل كلاًّ منهم طبقتَها اللائقةَ به . وأيُّهم مبنيٌّ على الضم عند سيبويه لأن حقه أن يُبنى كسائر الموصولاتِ لكنه أُعرب حملاً على كلٍ وبعض للزوم الإضافة ، وإذا حُذف صدرُ صلتِه زاد نقصُه فعاد إلى حقه ، وهو منصوبُ المحل بننزعنّ ولذلك قرىء منصوباً ، ومرفوعٌ عند غيره بالابتداء على أنه استفهاميٌّ وخبرُه أشدُّ والجملةُ محكيةٌ ، والتقديرُ لننزعَنّ من كل شيعةٍ الذين يقال لهم أيُّهم أشدُّ ، أو مُعلّقٌ عنها لننزعن لتضمّنه معنى التمييزِ اللازمِ للعلم ، أو مستأنفةٌ والفعل واقعٌ على كل شيعة كقوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا } و ( على ) للبيان فيتعلق بمحذوف كأنّ سائلاً قال : على مَنْ عتَوا؟ فقيل : على الرحمن ، أو متعلقٌ بأفعل وكذا الباءُ في قوله تعالى { ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً } أي هم أولى بالنار وهم المنتزَعون ، ويجوز أن يراد بهم وبأشدِّهم عِتيًّا رؤساءُ الشِيَع فإن عذابَهم مضاعفٌ لضلالهم وإضلالهم ، والصِّليُّ كالعِتيّ صيغةً وإعلالاً وقرىء بضم الصاد .(4/324)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)
{ وَإِن مّنكُمْ } التفاتٌ لإظهار مزيدِ الاعتناءِ بمضمون الكلامِ ، وقيل : هو خطابٌ للناس من غير التفاتٍ إلى المذكور ، ويؤيد الأولَ أنه قرىء وإن منهم أي منكم أيها الإنسانُ { إِلاَّ وَارِدُهَا } أي واصلُها وحاضرٌ دونها يمرّ بها المؤمنون وهي خامدةٌ وتنهار بغيرهم . وعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم سئل عنه فقال : « إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ قال بعضُهم لبعض : أليس قد وعدنا ربنا أن نرِدَ النار؟ فيقال لهم : قد وردتُموها وهي خامدةٌ » وأما قولُه تعالى : { أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } فالمرادُ الإبعادُ عن عذابها ، وقيل : ورودُها الجوازُ على الصراط الممدودِ عليها { كَانَ } أي ورودُهم إياها { على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } أي أمراً محتوماً أوجبه الله عز وجل على ذاته وقضى أنه لا بد من وقوعه البتةَ ، وقيل : أقسم عليه { ثُمَّ نُنَجّى الذين اتقوا } الكفرَ والمعاصيَ مما كانوا عليه من حال الجُثُوّ على الركب على الوجه الذي سلف فيُساقون إلى الجنة ، وقرىء نُنْجي بالتخفيف ويُنْجي ، وينجَى على البناء للمفعول ، وقرىء ثَمةَ نُنجّي بفتح الثاء أي هناك ننجيهم { وَّنَذَرُ الظالمين } بالكفر والمعاصي { فِيهَا جِثِيّاً } منهاراً بهم كما كانوا ، قيل : فيه دليلٌ على أن المراد بالورود الجثُوُّ حواليها وأن المؤمنين يفارقون الفجرةَ بعد تجاثيهم حولها ويُلقى الفجرةُ فيها على هيئاتهم .
وقوله تعالى : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ } الآية إلى آخرها حكايةٌ لما قالوا عند سماعِ الآياتِ الناعية عليهم فظاعةَ حالِهم ووخامةَ مآلِهم ، أي وإذا تتلى على المشركين { ءاياتنا } التي من جملتها هاتيك الآياتُ الناطقةُ بحسن حالِ المؤمنين وسوءِ حال الكفرةِ وقوله تعالى : { بينات } أي مِرتّلاتِ الألفاظ مبيَّناتِ المعاني بنفسها أو ببيان الرسول عليه الصلاة والسلام أو بيِّناتِ الإعجاز ، حالٌ مؤكدةٌ من آياتنا { قَالَ الذين كَفَرُواْ } أي قالوا ، ووضعُ الموصولِ موضعَ الضمير للتنبيه على أنهم قالوا ما قالوا كافرين بما يتلى عليهم رادّين له ، أو قال الذين مرَدوا منهم على الكفر ومرَنوا على العتوّ والعِناد وهم النضْرُ بنُ الحارثِ وأتباعُه الفجرةُ واللام في قوله تعالى : { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } للتبليغ كما في مثل قوله تعالى : { وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ } وقيل : لامُ الأجْل كما في قوله تعالى : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } أي قالوا لأجلهم وفي حقهم ، والأولُ هو الأولى لأن قَبولَهم ليس في حق المؤمنين فقط كما ينطِق به قوله تعالى : { أَىُّ الفريقين } أيُّ المؤمنين والكافرين كأنهم قالوا : أينا { خَيْرٌ } نحن أو أنتم { مَقَاماً } أي مكاناً ، وقرىء بضم الميم أي موضِعَ إقامةٍ ومنزلٍ { وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } أي مجلِساً ومجتمَعاً . يروى أنهم كانوا يرجّلون شعورَهم ويدهنونها ويتطيبون ويتزينون بالزينة الفاخرةِ ثم يقولون ذلك لفقراء المؤمنين ، يريدون بذلك أن خيريّتَهم حالاً وأحسنيّتَهم مآلاً مما لا يقبل الإنكارَ وأن ذلك لكرامتهم على الله سبحانه وزُلْفاهم عنده ، إذ هو العيارُ على الفضل والنقصانِ والرفعة والضَّعة وأن من ضرورته هوانَ المؤمنين عليه تعالى لقصور حظِّهم العاجلِ ، وما هذا القياسُ العقيمُ والرأيُ السقيم إلا لكونهم جهَلةً لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا وذلك مبلغُهم من العلم فرُدَّ عليهم ذلك من جهته تعالى بقوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً } أي كثيراً من القرون التي كانت أفضلَ منهم فيما يفتخرون به من الحظوظ الدنيوية كعادٍ وثمودَ وأضرابِهم من الأمم العاتيةِ قبل هؤلاء أهلكناهم بفنون العذاب ، ولو كان ما آتيناهم لكرامتهم علينا لما فعلنا بهم ما فعلنا ، وفيه من التهديد والوعيد ما لا يخفى ، كأنه قيل : فلينتظِرْ هؤلاءِ أيضاً مثلَ ذلك ( فكم ) مفعولُ أهلكنا و ( من قرن ) بيانٌ لإبهامها ، وأهلُ كل عصرٍ قَرنٌ لمن بعدهم لأنهم يتقدّمونهم ، مأخوذٌ من قَرْن الدابة وهو مقدّمها وقوله تعالى : { هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً } في حيز النصبِ على أنه صفةٌ لِكم وأثاثاً تمييزُ النسبة وهو متاعُ البيت ، وقيل : هو ما جدّ منه ، والخُرْثيُّ ما لُبس منه ورثّ والرِئْيُ المنظرُ ، فِعْلٌ من الرؤية لما يُرَى ، كالطِّحْن لما يُطحَن ، وقرىء رِيًّا على قلب الهمزة ياءً وإدغامِها أو على أنه من الرِّيّ وهو النعمةُ والتُّرفةُ ، وقرىء ريئاً على القلب ورِيَا بحذف الهمزة وزَيا بالزاي المعجمة من الزَّيّ وهو الجمعُ فإنه عبارةٌ عن المحاسن المجموعة .(4/325)
{ قُلْ مَن كَانَ فِى الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } لما بيّن عاقبةَ أمرِ الأمم المهلَكة مع ما كان لهم من التمتع بفنون الحظوظِ العاجلة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب هؤلاء المفتخِرين بما لهم من الحظوظ ببيان مآلِ أمر الفريقين ، إما على وجه كليَ متناولٍ لهم ولغيرهم من المنهمكين في اللَّذة الفانية المبتهجين بها على أن ( مَن ) على عمومها ، وإما على وجه خاصَ بهم على أنهم عبارةٌ عنهم ووصفُهم بالتمكن لذمهم والإشعارِ بعلة الحُكم ، أي مَنْ كان مستقراً في الضلالة مغموراً بالجهل والغَفلةِ عن عواقب الأمورِ فليمدُد له الرحمن أي يمُدّ له ويُمهِله بطول العمُرِ وإعطاءِ المال والتمكينِ من التصرفات ، وإخراجُه على صيغة الأمر للإيذان بأن ذلك مما ينبغي أن يفعل بموجب الحِكمة لقطع المعاذير كما ينبىء عنه قوله عز وجل : { أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } أو للاستدراج كما ينطق به قوله تعالى : { إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً } وقيل : المرادُ به الدعاءُ بالمد والتنفيس ، واعتبارُ الاستقرارِ في الضلال لما أن المد لا يكون إلا للمُصِرّين عليها إذ رُبّ ضالَ يهديه الله عز وجل ، والتعرضُ لعنوان الرحمانية لما أن المد من أحكام الرحمة الدنيوية ، وقوله تعالى :(4/326)
{ حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } غايةٌ للمدّ الممتدِّ لا لقول المفتخِرين كما قيل ، إذ ليس فيه امتدادٌ بحسب الذات وهو ظاهرٌ ولا استمرارٌ بحسب التكرار لوقوعه في حيّز جوابِ إذا ، وجمعُ الضمير في الفعلين باعتبار معنى مَنْ كما أن الإفرادَ في الضميرين الأولين باعتبار لفظِها وقوله تعالى : { إِمَّا العذاب وَإِمَّا الساعة } تفصيلٌ للموعود بدلٌ منه على سبيل البدل فإنه إما العذابُ الدنيويُّ بغلَبة المسلمين واستيلائِهم عليهم وتعذيبهم إياهم قتلاً وأسْراً ، وإما يومُ القيامة وما لهم فيه من الخزي والنَّكالُ على منع الخلوّ دون منع الجمعِ ، فإن العذابَ الأخرويَّ لا ينفك عنهم بحال وقوله تعالى : { فَسَيَعْلَمُونَ } جوابُ الشرط والجملةُ محكيةٌ بعد حتى ، أي حتى إذا عاينوا ما يوعَدون من العذاب الدنيويِّ أو الأخرويِّ فقط فسيعلمون حينئذ { مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً } من الفريقين بأن يشاهدوا الأمرَ على عكس ما كانوا يقدّرونه فيعلمون أنهم شرٌ مكاناً لا خيرٌ مقاماً { وَأَضْعَفُ جُنداً } أي فئةً وأنصاراً لا أحسنُ ندِياً كما كانوا يدّعونه ، وليس المرادُ أن له ثمّةَ جنداً ضعفاءَ كلا { وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً } وإنما ذُكر ذلك رداً لما كانوا يزعمون أن لهم أعواناً من الأعيان وأنصاراً من الأخيار ويفتخرون بذلك في الأندية والمحافل .(4/327)
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)
{ وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى } كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان حال المهتدين إثرَ بيانِ حال الضالين ، وقيل : عطفٌ على فليمدُدْ لأنه في معنى الخبر حسبما عرفته كأنه قيل : مَن كان في الضلالة يمُده الله ويزيد المهتدين هدايةً كقوله تعالى : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى } وقيل : عطفٌ على الشرطية المحكية بعد القول كأنه لما بين أن إمهالَ الكافر وتمتيعَه بالحياة ليس لفضله عقّب ذلك ببيان أن قصورَ حظّ المؤمنِ منها ليس لنقصه ، بل لأنه تعالى أراد به ما هو خيرٌ من ذلك وقوله تعالى : { والباقيات الصالحات خَيْرٌ } على تقديرَي الاستئنافِ والعطف كلامٌ مستأنفٌ وارد من جهته تعالى لبيان فضل أعمالِ المهتدين غيرُ داخل في حيز الكلام الملقّن لقوله تعالى : { عِندَ رَبّكَ } أي الطاعات التي تبقى فوائدُها وتدوم عوائدُها ومن جملتها ما قيل من الصلوات الخمس ، وما قيل من قول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خيرٌ عند الله تعالى ، والتعرضُ لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره لتشريفه عليه السلام { ثَوَاباً } أي عائدةً مما يَتمتّع به الكفرةُ من النعم المُخدَجةِ الفانية التي يفتخرون بها لا سيما ومآلُها النعيمُ المقيمُ ، ومآلُ هذه الحسرةِ السرمدية والعذاب الأليم كما أشير إليه بقوله تعالى : { وَخَيْرٌ مَّرَدّاً } أي مرِجعاً وعاقبةً ، وتكريرُ الخيرِ لمزيد الاعتناءِ ببيان الخيريةِ وتأكيدٌ لها وفي التفصيل مع أن ما للكفرة بمعزل من أن يكون له خيريّةٌ في العاقبة تهكّمٌ بهم .
{ أَفَرَأَيْتَ الذى كَفَرَ بئاياتنا } أي بآياتنا التي من جملتها آياتُ البعث ، نزلت في العاص بنِ وائلٍ كان لخبّابٍ بنِ الأرتّ عليه مالٌ فاقتضاه فقال : لا ، حتى تكفرَ بمحمد ، قال : لا والله لا أكفرُ به حياً ولا ميْتاً ولا حين بُعِثتُ ، قال : فإذا بُعث جئني فيكونُ لي ثمّةَ مالٌ وولدٌ فأعطِيَك ، وفي رواية قال : لا أكفر به حتى يُميتك ثم تُبعثَ ، فقال : إني لميِّتٌ ثم مبعوثٌ؟ قال : نعم ، قال : دعني حتى أموتَ وأُبعث فسأوتى مالاً وولداً فأقضيَك فنزلت . فالهمزةُ للتعجيب من حاله والإيذانِ بأنها من الغرابة والشناعةِ بحيث يجب أن تُرى ويُقضَى منها العجب ، ومن فرّق بين ألم ترَ وأرأيتَ بعد بيان اشتراكِهما في الاستعمال لقصد التعجيبِ بأن الأولَ يعلّق بنفس المتعجبِ منه ، فيقال : ألم ترَ إلى الذي صنع كذا بمعنى انظُرْ إليه فتعجَّبْ من حاله ، والثاني يعلّق بمثل المتعجَّب منه ، فيقال : أرأيتَ مثْلَ الذي صنع كذا بمعنى أنه من الغرابة بحيث لا يُرى له مِثْلٌ فقد حفِظ شيئاً وغابت عنه أشياءُ ، وكأنه ذهب عليه قوله عز وجل : { أَرَءيْتَ الذى يُكَذّبُ بالدين } والفاءُ للعطف على مقدّر يقتضيه المقام أي أنظَرْتَ فرأيتَ الذي كفر بآياتنا الباهرةِ التي حقُّها أن يؤمِنَ بها كلُّ من يشاهدها { وَقَالَ } مستهزئاً بها مصدّراً لكلامه باليمين الفاجرةِ : والله { لأُوتَيَنَّ } في الآخرة { مَالاً وَوَلَدًا } أي انظُر إليه فتعجّبْ من حالته البديعةِ وجُرْأتِه الشنيعة ، هذا هو الذي يستدعيه جزالةُ النظمِ الكريم وقد قيل : إن أرأيت بمعنى أخبِرْ والفاءُ على أصلها والمعنى أخبِرْ بقصة هذا الكافرِ عقيبَ حديثِ أولئك الذين قالوا :(4/328)
{ أَىُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً } الآية ، وأنت خبيرٌ بأن المشهورَ استعمالُ أرأيت في معنى أخبرني بطريق الاستفهامِ جارياً على أصله أو مُخْرَجاً إلى ما يناسبه من المعاني لا بطريق الأمر بالإخبار لغيره ، وقرىء وُلْداً على أنه جمع وَلد كأُسْد جمعُ أسد أو على لغة فيه كالعُرْب والعَرَب .(4/329)
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79)
وقوله تعالى : { أَطَّلَعَ الغيب } ردٌّ لكلمته الشنعاء وإظهارٌ لبطلانها إثرَ ما أشير إليه من التعجب منها ، أي قد بلغ من عظمة الشأنِ إلى أن قد ارتقى إلى علم الغيب الذي يستأثر به العليمُ الخبير حتى ادعى أن يؤتى في الآخرة مالاً وولداً وأقسم عليه { أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } بذلك فإنه لا يُتوصَّل إلى العلم به إلا بأحد هذين الطريقين ، والتعرضُ لعنوان الرحمانية للإشعار بعلية الرحمةِ لإيتاء ما يدّعيه ، وقيل : العهدُ كلمةُ الشهادة ، وقيل : العملُ الصالح فإن وعدَه تعالى بالثواب عليهما كالعهد وهذا مجاراةٌ مع اللعين بحسب منطوقِ مقالِه كما أن كلامَه مع خبّاب كان كذلك .
وقوله تعالى : { كَلاَّ } ردعٌ له عن التفوّه بتلك العظيمةِ وتنبيهٌ على خطْأته { سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ } أي سنُظهر أنا كتبنا قوله ، كقوله
إذا ما انتسبْنا لم تلِدْني لئيمةٌ ... أي يتبينُ أني لم تلدني لئيمة ، أو سننتقم منه انتقامَ مَنْ كتب جريمةَ الجاني وحفِظها عليه ، فإن نفسَ الكَتَبة لا تكاد تتأخر عن القول ، كقوله عز وعلا : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } فمبنى الأولِ تنزيلُ إظهارِ الشيءِ الخفيِّ منزلةَ إحداثِ الأمرِ المعدومِ بجامع أن كلاًّ منهما إخراجٌ من الكمُون إلى البروز فيكون استعارةً تبعيةً مبنية على تشبيه إظهارِ الكتابةِ على رؤوس الأشهاد بإحداثها ، ومدارُ الثاني تسميةُ الشيء باسم سببِه فإن كتابةَ جريمةِ المجرمِ سببٌ لعقوبته قطعاً { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً } مكانَ ما يدّعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد ، أي نطوّل له من العذاب ما يستحقه أو نزيد عذابه ونضاعفه له لكُفره وافترائِه على الله سبحانه وتعالى واستهزائِه بآياته العِظام ، ولذلك أُكّد بالمصدر دَلالةً على فرط الغضب .(4/330)
وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
{ وَنَرِثُهُ } بموته { مَا يَقُولُ } أي مسمَّى ما يقول ومصداقَه وهو ما أوتيه في الدنيا من المال والولد ، وفيه إيذانٌ بأنه ليس لما يقوله مصداقٌ موجودٌ سوى ما ذكر أي ننزِع عنه ما آتيناه { وَيَأْتِينَا } يوم القيامة { فَرْداً } لا يصحبه مالٌ ولا ولدٌ كان له في الدنيا فضلاً أن يؤتى ثمةَ زائداً ، وقيل : نزوي عنه ما زعم أنه يناله في الآخرة ونعطيه ما يستحقه ويأباه معنى الإرث ، وقيل : المرادُ بما يقول نفسُ القول المذكور لا مسمّاه ، والمعنى إنما يقول هذا القولَ ما دام حياً فإذا قبضناه حُلْنا بينه وبين أن يقوله ويأتينا رافضاً له منفرداً عنه ، وأنت خبير بأن ذلك مبنيٌّ على أن صدورَ القول المذكورِ عنه بطريق الاعتقادِ وأنه مستمرٌّ على التفوّه به راجٍ لوقوع مضمونِه ، ولا ريب في أن ذلك مستحيلٌ ممن كفر بالبعث وإنما قال ما قال بطريق الاستهزاء وتعليقِ أداءِ دَيْنه بالمُحال .
{ واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً } حكايةٌ لجناية عامةٍ للكل مستتبِعةٌ لضدّ ما يرجُون ترتّبه عليها إثرَ حكاية مقالةِ الكافرِ المعهودِ واستتباعِها لنقيض مضمونِها ، أي اتخذوا الأصنامَ آلهةً متجاوزين الله تعالى { لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً } أي ليُعزَّزوا بهم بأن يكونوا لهم وصلةً إليه عز وجل وشفعاءَ عنده .
{ كَلاَّ } ردعٌ لهم عن ذلك الاعتقادِ وإنكارٌ لوقوع ما علّقوا به أطماعَهم الفارغة { سَيَكْفُرُونَ بعبادتهم } أي ستجحد الآلهةُ بعبادتهم لها بأن يُنطِقَها الله تعالى وتقولَ : ما عبدتمونا ، أو سينكر الكفرةُ حين شاهدوا سوءَ عاقبة كفرهم عبادتَهم لها كما في قوله تعالى : { والله رَبّنَا مَا كُنا مُشْرِكِينَ } ومعنى قوله تعالى : { وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } على الأول تكون الآلهةُ التي كانوا يرجون أن تكون عِزاً ضدّاً للعز أي ذلاً وهُوناً ، أو تكون عوناً عليهم وآلةً لعذابهم حيث تُجعل وَقودَ النار وحصَبَ جهنم ، أو حيث كانت عبادتُهم لها سبباً لعذابهم ، وإطلاقُ الضدِّ على العَون لما أن عَونَ الرجل يُضادُّ عدوَّه وينافيه بإعانته له عليه ، وعلى الثاني يكون الكفرةُ ضداً وأعداءً للآلهة كافرين بها بعد أن كانوا يحبونها كحب الله ويعبُدونها . وتوحيدُ الضدِّ لوَحدة المعنى الذي عليه تدور مُضادّتُهم فإنهم بذلك كشيء واحدٍ كما في قوله عليه السلام : « وهم يدٌ على مَنْ سواهم » وقرىء كَلاًّ بفتح الكاف والتنوين على قلب الألفِ نوناً في الوقف قلْبَ ألفِ الإطلاق في قوله
أقِليِّ اللومَ عاذِلَ والعِتابَن ... وقولي إن أصبتُ لقد أصابنْ
أو على معنى كَلَّ هذا الرأيُ كلاًّ ، وقرىء كلاّ على إضمار فعل يفسّره ما بعده أي سيجحدون ، كلاّ سيكفرون الخ .(4/331)
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين } تعجيبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما نطَقت به الآياتُ الكريمةُ السالفةُ وحكتْه عن هؤلاء الكفرةِ الغُواة والمَرَدةِ العُتاةِ من فنون القبائِح من الأقاويل والأفاعيلِ ، والتمادي في الغي ، والانهماكِ في الضلال ، والإفراطِ في العِناد ، والتصميمِ على الكفر من غير صارفٍ يَلويهم ولا عاطفٍ يثنيهم ، والإجماعِ على مدافعة الحقّ بعد اتضاحِه وانتفاءِ الشك عنه بالكلية ، وتنبيهٌ على أن جميعَ ذلك منهم بإضلال الشياطينِ وإغوائِهم لا لأن مسوِّغاً ما في الجملة ، ومعنى إرسالِ الشياطينِ عليهم إما تسليطُهم عليهم وتمكينُهم من إضلالهم وإما تقييضُهم لهم ، وليس المرادُ تعجيبَه عليه السلام من إرسالهم عليهم كما يوهمه تعليقُ الرؤية به ، بل مما ذُكر من أحوال الكفرةِ من حيث كونُها من آثار إغواءِ الشياطينِ كما ينبىء عنه قوله تعالى : { تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } فإنه إما حالٌ مقدّرةٌ من الشياطين أو استئنافٌ وقع جواباً عما نشأ من صدر الكلامِ ، كأنه قيل : ماذا يفعل الشياطينُ بهم حينئذ؟ فقيل : تؤزّهم أي تُغريهم وتُهيّجهم على المعاصي تهييجاً شديداً بأنواع الوساوسِ والتسويلات ، فإن الأزَّ والهزّ والاستفزازَ أخواتٌ معناها شدةُ الإزعاج .
{ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ } أي بأن يُهلَكوا حسبما تقتضيه جناياتُهم ويَبيدوا عن آخرهم وتطهُرَ الأرض من فساداتهم ، والفاء للإشعار بكون ما قبلها مَظِنّةً لوقوع المنهيِّ مُحوِجةً إلى النهي كما في قوله تعالى : { إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة } وقوله تعالى : { إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً } تعليلٌ لموجب النهي ببيان اقترابِ هلاكهم أي لا تستعجلْ بهلاكهم فإنه لم يبقَ لهم إلا أيامٌ وأنفاسٌ نعدّها عداً .
{ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين } منصوبٌ على الظرفية بفعل مؤخّرٍ قد حُذف للإشعار بضيق العبارةِ عن حصره وشرحِه لكمال فظاعةِ ما يقع فيه من الطامّة والدواهي العامة ، كأنه قيل : يوم نحشر المتقين أي نجمعهم { إِلَى الرحمن } إلى ربهم الذي يغمرُهم برحمته الواسعة { وَفْداً } وافدين عليه كما يفد الوفودُ على الملوك منتظِرين لكرامتهم وإنعامِهم .
{ وَنَسُوقُ المجرمين } كما تُساق البهائم { إلى جَهَنَّمَ وِرْداً } عِطاشاً فإن مَنْ يرد الماءَ لا يورِدُه إلا العطشُ ، أو كالدوابّ التي ترِد الماءَ نفعل بالفريقين من الأفعال ما لا يخفى ببيانه نطاقُ المقال ، وقيل : منصوبٌ على المفعولية بمضمر مقدمٍ خوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، أي اذكر لهم بطريق الترغيبِ والترهيبِ يوم نحشر الخ ، وقيل : على الظرفية لقوله تعالى :
{ لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة } والذي يقتضيه مقامُ التهويلِ وتستدعيه جزالةُ التنزيل أن ينتصبَ بأحد الوجهين الأولَين ويكونُ هذا استئنافاً مبيناً لبعض ما فيه من الأمور الدالةِ على هوله ، وضميرُه عائداً إلى العباد المدلولِ عليهم بذكر الفريقين لانحصارهم فيهما ، وقيل : إلى المتقين خاصة ، وقيل : إلى المجرمين من الكفرة وأهلِ الإسلام ، والشفاعةُ على الأولين مصدرٌ من المبنيّ للفاعل وعلى الثالث ينبغي أن تكون مصدراً من المبنيّ للمفعول وقوله تعالى : { إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } على الأول استثناءٌ متصلٌ مِن لا يملكون ، ومحلُّ المستثنى إما الرفعُ على البدل أو النصبُ على أصول الاستثناءِ والمعنى لا يملك العبادُ أن يشفعوا لغيرهم إلا من استعَدّ له بالتحلّي بالإيمان والتقوى أو من أُمر بذلك ، من قولهم : عهدِ الأميرُ إلى فلان بكذا إذا أمرَه به ، فيكون ترغيباً للناس في تحصيل الإيمانِ والتقوى المؤدِّي إلى نيل هذه الرتبةِ ، وعلى الثاني استثناءٌ من الشفاعة على حذف المضافِ والمستثنى منصوبٌ على البدل أو على أصل الاستثناءِ ، أي لا يملك المتقون الشفاعةَ إلا شفاعةَ من اتخذ العهد بالإسلام فيكون ترغيباً في الإسلام ، وعلى الثالث استثناءٌ مِنْ لا يملكون أيضاً والمستثنى مرفوعٌ على البدل أو منصوبٌ على الأصل والمعنى لا يملك المجرمون أن يَشفع لهم إلا مَنْ كان منهم مسلماً .(4/332)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)
{ وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً } حكايةٌ لجناية اليهودِ والنصارى ومن يزعُم من العرب أن الملائكةَ بناتُ الله سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً إثرَ حكاية عبَدةِ الأصنام بطريق عطفِ القصة على القصة وقوله تعالى : { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } ردٌّ لمقالتهم الباطلةِ وتهويلٌ لأمرها بطريق الالتفاتِ المنبىءِ عن كمال السخطِ وشدةِ الغضب المُفصِح عن غاية التشنيعِ والتقبيحِ ، وتسجيلٌ عليهم بنهاية الوقاحةِ والجهل والجراءة ، والإدُّ بالكسر والفتح العظيمُ المنكر ، والإدّةُ الشدةُ وأدَني الأمرُ وآدَني أثقلني وعظُم عليّ ، أي فعلتم أمراً منكراً شديداً لا يقادَر قدرُه ، فإن جاء وأتى يستعملان في معنى فعَلَ فيُعدَّيان تعدِيتَه وقوله تعالى : { تَكَادُ السموات } الخ ، صفةٌ لإدًّا أو استئنافٌ لبيان عِظَم شأنه في الشدة والهول ، وقرىء يكاد بالتذكير { يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } يتشقّقن مرةً بعد أخرى من عِظم ذلك الأمر ، وقرىء ينفطرْن والأولُ أبلغُ لأن تفعّل مطاوِعُ فعّل ، وانفعلَ مطاوعُ فَعَل ولأن أصل التفعّل التكلف .
{ وَتَنشَقُّ الأرض } أي تكاد وتنشقّ الأرض { وَتَخِرُّ الجبال } أي تسقُط وتتهدم ، وقوله تعالى : { هَدّاً } مصدرٌ مؤكّدٌ لمحذوف هو حالٌ من الجبال أي تُهدّ هدًّا أو مصدرٌ من المبنيّ للمفعول مؤكّدٌ لتخِرُّ على غير المصدر لأنه حينئذ بمعنى التهدّم والخرُور ، كأنه قيل : وتخِرّ الجبال خروراً أو مصدرٌ بمعنى المفعول منصوبٌ على الحالية أي مهدودةً ، أو مفعول له أي لأنها تُهَدّ ، وهذا تقريرٌ لكونه إدًّا والمعنى أن هَولَ تلك الكلمةِ الشنعاءِ وعِظمَها بحيث لو تَصوّرتْ بصورة محسوسة لم تُطِقْ بها هاتيك الأجرامُ العِظامُ وتفتتت من شدتها أو أن فظاعتَها في استجلاب الغضَبِ واستيجابِ السَّخَط بحيث لولا حِلْمُه تعالى لخُرِّب العالمُ وبُدِّدت قوائمُه غضباً على من تفوه بها .(4/333)
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
{ أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً } منصوبٌ على حذف اللام المتعلقةِ بتكاد أو مجرورٌ بإضمارها ، أي تكاد السموات يتفطرّن والأرضُ تنشق والجبالُ تخِرّ لأَن دعَوا له سبحانه ولداً ، وقيل : اللامُ متعلقةٌ بهدًّا ، وقيل : الجملةُ بدلٌ من الضمير المجرورِ في منه كما في قوله
على جوده لضنّ بالماء حاتِمُ ... وقيل : خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي الموجبُ لذلك أنْ دعوا الخ ، وقيل : فاعلُ هدًّا أي هدّها دُعاءُ الولد ، والأولُ هو الأولى ودعَوا من دعا بمعنى سمَّى المتعدّي إلى مفعولين ، وقد اقتُصر على ثانيهما ليتناولَ كل ما دُعيَ له ولداً ، أو من دعا بمعنى نسب الذي مطاوعُه ادّعى إلى فلان أي انتسب إليه وقوله تعالى : { وَمَا يَنبَغِى للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } حالٌ من فاعل قالوا أو دعَوا ، مقرّرةٌ لبطلان مقالتهم واستحالةِ تحقق مضمونها ، أي قالوا : اتخذ الرحمن ولداً أو أنْ دَعوا للرحمن ولداً ، والحال أنه ما يليق به تعالى اتخاذُ الولد ولا يُتطلب له لو طُلب مثلاً لاستحالته في نفسه ، ووضعُ الرحمن موضع الضمير للإشعار بعلة الحُكم بالتنبيه على أن كل ما سواه تعالى إما نعمةٌ أو مُنعَمٌ عليه ، فكيف يتسنى أن يجانس من هو مبدأُ النعمِ ومولى أصولِها وفروعِها حتى يتوهَّم أن يتخذه ولداً؟ وقد صرح له قومٌ به عز قائلاً : { إِن كُلُّ مَن فِى السموات والأرض } أي ما منهم أحدٌ من الملائكة والثقلين { إِلاَّ اتِى الرحمن عَبْداً } إلا وهو مملوكٌ له يأوي إليه بالعبودية والانقيادِ ، وقرىء آتٍ الرحمن على الأصل { لَّقَدْ أحصاهم } أي حصَرهم وأحاط بهم بحيث لا يكاد يخرج منهم أحدٌ من حِيطة علمِه وقبضة قدرتِه وملكوتِه { وَعَدَّهُمْ عَدّاً } أي عد أشخاصَهم وأنفاسَهم وأفعالَهم وكلُّ شيء عنده بمقدار { وَكُلُّهُمْ ءاتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً } أي كلُّ واحدٍ منهم آتٍ إياه تعالى منفرداً من الأتباع والأنصار ، وفي صيغة الفاعلِ من الدِلالة على إتيانهم كذلك البتةَ ما ليس في صيغة المضارعِ لو قيل : يأتيه ، فإذا كان شأنُه تعالى وشأنُهم كما ذكر فأنى يُتوهم احتمالُ أن يتخذ شيئاً منهم ولداً
{ إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } لما فُصّلت قبائحُ أحوالِ الكفرة عُقّب ذلك بذكر محاسنِ أحوالِ المؤمنين { سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً } أي سيُحدث لهم في القلوب مودّةً من غير تعرضٍ منهم لأسبابها سوى ما لهم من الإيمان والعملِ الصالحِ ، والتعرضُ لعنوان الرحمانيةِ لِما أن الموعودَ من آثارها . وعن النبي عليه الصلاة والسلام : « إذا أحبّ الله عبداً يقول لجبريلَ عليه السلام : إني أحبُّ فلاناً فأحِبَّه ، فيُحِبّه جيريلُ ثم ينادي في أهل السماء : إن الله أحب فلاناً فأحِبُّوه ، فيحبه أهلُ السماء ثم يوضع له المحبةُ في الأرض » . والسينُ لأن السورةَ مكيةٌ وكانوا إذ ذاك ممقوتين بين الكفرة فوعدهم ذلك ثم أنجزه حين ربا الإسلامُ ، أو لأن الموعودَ في القيامة حين تُعرض حسناتُهم على رؤوس الأشهاد فينزع ما في صدورهم من الغِلّ الذي كان في الدنيا ، ولعل إفرادَ هذا بالوعد من بين ما سيُؤْتَون يوم القيامة من الكرامات السنية لِما أن الكفرةَ سيقع بينهم يومئذ تباغضٌ وتضادٌّ وتقاطُعٌ وتلاعن .(4/334)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
{ فَإِنَّمَا يسرناه } أي القرآنَ { بِلَسَانِكَ } بأن أنزلناه على لغتك والباء بمعنى على ، وقيل : ضُمّن التيسيرُ معنى الإنزالِ أي يسرنا القرآنَ منزِلين له بلغتك ، والفاءُ لتعليل أمرٍ ينساق إليه النظمُ الكريم ، كأنه قيل بعد إيحاءِ السورةِ الكريمة : بلِّغْ هذا المنزلَ أو بشر به وأنذر فإنما يسرناه بلسانك العربي المبين .
{ لِتُبَشّرَ بِهِ المتقين } أي الصائرين إلى التقوى بامتثال ما فيه من الأمر والنهي { وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } لا يؤمنون به لجَاجاً وعِناداً ، واللُّد جمعُ الألد وهو الشديدُ الخصومة اللَّجوجُ المعانِدُ .
وقوله تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ } وعدٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ضمن وعيدِ الكفرة بالإهلاك وحثٌّ له عليه الصلاة والسلام على الإنذار ، أي قَرْناً كثيراً أهلكنا قبل هؤلاء المعاندين وقوله تعالى : { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ } استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله ، أي هل تشعُر بأحد منهم وترى { أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً } أي صوتاً خفيفاً ، وأصلُ الرِكْز هو الخفاءُ ومنه رَكَز الرمحَ إذا غَيَّب طرفه في الأرض ، والرِّكازُ المالُ المدفونُ المخفيُّ ، والمعنى أهلكناهم بالكلية واستأصلناهم بحيث لا يُرى منهم أحدٌ ولا يسمع منهم صوتٌ خفيّ .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ سورة مريمَ أُعطِي عشرَ حسناتٍ بعدد من كذّب زكريا وصدّق به ويحيى وعيسى وسائرَ الأنبياءِ المذكورين فيها ، وبعدد مَنْ دعا الله تعالى في الدنيا ومن لم يدْع الله تعالى » .(4/335)
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)
{ طه } فخّمهما قالونُ وابنُ كثير وابنُ عامر وحفصٌ ويعقوبُ على الأصل ، والطاءَ وحده أبو عمْرو وورْشٌ لاستعلائه وأمالَهما الباقون ، وهو من الفواتح التي يُصدّر بها السورُ الكريمةُ وعليه جمهورُ المتْقنين . وقيل : معناه يا رجلُ وهو مرويٌّ عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن ومجاهدٍ وسعيدِ بنِ جُبير وقَتادةَ وعِكرِمةَ والكلبي ، إلا أنه عند سعيدٍ على اللغة النبْطية وعند قتادة على السُّريانية وعند عكرمة على الحبشية وعند الكلبي على لغة عكّ ، وقيل : عُكْل وهي لغة يمانيةٌ ، قالوا : إن صح فلعل أصلَه يا هذا فتصرّفوا فيه بقلب الياء طاءً وحذفِ ذا من هذا ، وما استُشهد به من قول الشاعر
إن السَّفاهَةَ طاها في خلائِقِكُم ... لا قدّس الله أخلاقَ الملاعينِ
ليس بنص في ذلك لجواز كونِه قسماً كما في حم لا يُنْصرون ، وقد جوز أن يكون الأصلُ طَأْها بصيغة الأمر من الوطء فقُبلت الهمزةُ في يطأُ ألفاً لانفتاح ما قبلها كما في قول مَنْ قال : لا هَناك المرتُع ، وها ضميرُ الأرض على أنه خطابٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يطأ الأرضَ بقدميه لمّا كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه مبالغةً في المجاهدة ، ولكن يأباه كتابتُهما على صورة الحرف ، كما تأبى التفسيرَ بيا رجلُ فإن الكتابةَ على صورة الحرف مع كون التلفظِ بخلافه من خصائص حروفِ المُعجم ، وقرىء إما على أن أصلَه طَأْ فقلبت همزتُه هاءً كما في أمثال هَرَقتَ أو قلبت الهمزة في يطأ ألفاً كما مر ، ثم بُني منه الأمر وألحق به هاءُ السكت وإما على أنه اكتُفي في التلفظ بشطْري الاسمين وأُقيما مُقامَهما في الدِلالة على المسمَّيين فكأنهما اسماهما الدالان عليها . وعلى هذا ينبغي أن يحمل قولُ من قال : أو اكتفى بشطري الكلمتين وعبّر عنهما باسمهما وإلا فالشطران لم يذكرا من حيث إنهما مسمَّيان لاسمَيهما ليقعا معبَّراً عنهما ، بل من حيث إنهما جزءان لهما قد اكتُفيَ بذكرهما عن ذكرهما ولذلك وقع التلفظُ بأنفسهما لا باسميهما بأن يراد بضمير التثنية في الموضعين الشطران من حيث هما جزآنِ للاسمين ، ويراد باسمهما الشطران من حيث هما قائمان مقامَ الاسمين فالمعنى اكتُفي في التلفظ بشطري الكلمتين أي الاسمين فعبّر عنهما أي عن الشطرين من حيث هما مسمَّيان بهما من حيث هما قائمان مقامَ الاسمين ، وأما حملُه على معنى أنه اكتُفي في الكتابة بشطري الكلمتين يعني طا على تقديري كونِه أمراً وكونِه حرفَ نداء ، وها على تقديري كونِها كنايةً عن الأرض وكونِها حرفَ تنبيهٍ وعُدل عن ذينك الشطرين في التلفظ باسمهما تبيّن البُطلانُ كيف و ( طا ) و ( ها ) على ما ذكر من التقادير ليسا باسمين للحرفين المذكورين ، بل الأولُ أمرٌ أو حرفُ نداء والثاني ضميرُ الأرض أو حرفُ تنبيهٍ ، على أن كتابةَ صورةِ الحرف والتلفظَ بغيره من خواصّ حروفِ المعجم كما مر ، فالحق ما سلف من أنها من الفواتح إما مسرودةٌ على نمط التعديدِ بأحد الوجهين المذكورين في مطلع سورة البقرة فلا محلَّ لها من الإعراب وكذا ما بعدها من قوله تعالى : { مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لتشقى } فإنه استئنافٌ مَسوقٌ لتسليته عليه الصلاة والسلام عما كان يعتريه من جهة المشركين من التعب ، فإن الشقاءَ شائعٌ في ذلك المعنى ومنه أشقى من رائض مُهْرٍ أي ما أنزلناه عليك لتتعبَ بالمبالغة في مكابدة الشدائد في مقاولة العُتاةِ ومحاورة الطغاةِ وفرْطِ التأسّف على كفرهم به والتحسرّ على أن يؤمنوا كقوله عز وجل :(4/336)
{ فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ على ءاثارهم } الآية ، بل للتبليغ والتذكير وقد فعلتَ فلا عليك إن لم يؤمنوا به بعد ذلك ، أو لصرفه عليه الصلاة والسلام عما كان عليه من المبالغة في المجاهدة في العبادة ، كما يروى أنه عليه الصلاة والسلام كان يقوم بالليل حتى ترم قدماه ، فقال له جبريلُ عليه السلام : أَبْقِ على نفسك فإن لها عليك حقاً ، أي ما أنزلناه عليك لتتعب بنهك نفسِك وحملِها على الرياضات الشاقةِ والشدائدِ الفادحة وما بُعثت إلا بالحنيفية السمحة ، وقيل : إن أبا جهل والنضْرَ بنَ الحارث قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك شقيٌّ حيث تركت دينَ آبائِك وإن القرآنَ نزل عليك لتشقى به ، فرُدّ ذلك بأنا ما أنزلناه عليك لِما قالوا ، والأولُ هو الأنسبُ كما يشهد به الاستثناء الآتي .
هذا ، وإما اسمٌ للقرآن محلُّه الرفعُ على أنه مبتدأٌ وما بعده خبرُه ، والقرآنُ ظاهرٌ أوقع موقعَ العائد إلى المبتدأ كأنه قيل : القرآنُ ما أنزلناه عليك لتشقى ، أو النصبُ على إضمار فعلِ القسم أو الجرُّ بتقدير حرفِه وما بعده جوابُه ، وعلى هذين الوجهين يجوز أن يكون اسماً للسورة أيضاً بخلاف الوجهِ الأول فإنه لا يتسنى على ذلك التقدير لكن لا لأن المبتدأ يبقى حينئذ بلا عائد ولا قائم مَقامَه ، فإن القرآنَ صادقٌ على الصورة لا محالة إما بطريق الاتحاد بأن يراد به القدْرُ المشترَكُ بين الكل والبعض ، أو باعتبار الاندراجِ إن أريد به الكلُّ ، بل لأن نفيَ كونِ إنزالِه للشقاء يستدعي سبقَ وقوعِه الشقاء مترتباً على إنزاله قطعاً إما بحسب الحقيقة كما لو أريد به معنى التعب أو بجسب زعْم الكفرةِ كما لو أريد به ضدُّ السعادة ، ولا ريب في أن ذلك إنما يُتصور في إنزال ما أُنزل من قبل ، وأما إنزالُ السورةِ الكريمة فليس مما يمكن ترتبُ الشقاءِ السابق عليه حتى يُتصدّى لنفيه عنه . أما باعتبار الاتحادِ فظاهرٌ وأما باعتبار الأندارجِ فلأن مآلَه أن يقال : هذه السورةُ ما أنزلنا القرآنَ المشتمِلَ عليها لتشقى ، ولا يخفى أن جعْلَها مُخبَراً عنها مع أنه لا دخلَ لإنزالها في الشقاء السابق أصلاً مما لا يليق بشأن التنزيلِ الجليل وقوله تعالى : { إِلاَّ تَذْكِرَةً } نُصب على أنه مفعولٌ له لأنزلنا لكن لا من حيث أنه معللٌ بالشقاء على معنى ما أنزلنا عليك القرآنَ لتتعب بتبليغه إلا تذكرةً .(4/337)
. الآية ، كقولك : ما ضربتُك للتأديب إلا إشفاقاً لما أنه يجب في أمثاله أن يكون بين العلتين ملابسةٌ بالسببية والمسبَّبية حتماً كما في المثال المذكور ، وفي قولك : ما شافهتُك بالسوء لتتأذّى إلا زجراً لغيرك فإن التأديبَ في الأول مسبَّبٌ عن الإشفاق والتأذّي في الثاني سببٌ لزجر الغير ، وقد عرفت ما بين الشقاءِ والتذكرةِ من التنافي ولا يُجدي أن يراد به التعبُ في الجملة المجامِعُ للتذكرة لظهور أن لا ملابسةَ بينهما بما ذكر من السببية والمسببية وإنما يتصور ذلك أن لو قيل مكانَ إلا تذكرةً : إلا تكثيراً لثوابك فإن الأجر بقدر التعب ، ولا من حيث أنه بدلٌ من محل لتشقى كما في قوله تعالى : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } لوجوب المجانسةِ بين البدلين وقد عرفتَ حالَهما ، بل من حيث إنه معطوفٌ عليه بحسب المعنى بعد نفيه بطريق الاستدراكِ المستفادِ من الاستثناء المنقطعِ ، كأنه قيل : ما أنزلنا عليك القرآنَ لتتعب في تبليغه ولكن تذكرةً { لّمَن يخشى } وقد جرد التذكرة عن اللام لكونها فعلاً لفاعل الفعل المعلّل ، أي لمن شأنُه أن يخشى الله عز وعلا ويتأثرَ بالإنذار لرقة قلبه ولينِ عَريكتِه أو لمن علم الله تعالى أنه يخشى بالتخويف ، وتخصيصُها بهم مع عموم التذكرة والتبليغ لأنهم المنتفعون بها .(4/338)
تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)
وقوله تعالى : { تَنْزِيلاً } مصدرٌ مؤكدٌ لمضمر مستأنفٌ مقرّر لما قبله ، أي نُزّل تنزيلاً أو لما تفيده الجملةُ الاستثنائيةُ فإنها متضمِّنةٌ لأن يقال : أنزلناه للتذكرة والأولُ هو الأنسبُ بما بعده من الالتفات أو منصوبٌ على المدح والاختصاص ، وقيل : هو منصوبٌ بيخشى على المفعولية أي يخشى تنزيلاً من الله تعالى ، وأنت خبير بأن تعليقَ الخشيةِ والخوفِ ونظائرِهما بمطلق التنزيلِ غيرُ معهودٍ ، نعم قد يعلق ذلك ببعض أجزائه المشتملة على الوعيد ونظائرِه كما في قوله تعالى : { يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم } وقيل : هو بدلٌ من تذكرةً لكن لا على أنه مفعولٌ له لأنزلنا إذ لا يعلل الشيءُ بنفسه ولا بنوعه ، بل على أنه مصدرٌ بمعنى الفاعل واقعٌ موقعَ الحال من الكاف في عليك أو من القرآن ، ولا مساغَ له إلا بأن يكون قيداً لأنزلنا بعد تقيّده بالقيد الأول وقد عرفت حاله فيما سلف ، وقرىء تنزيلٌ على أنه خبر لمبتدأ محذوف ومِنْ في قوله تعالى : { مّمَّنْ خَلَق الأرض والسماوات العلى } متعلقةٌ بتنزيلاً أو بمضمر هو صفةٌ له مؤكدةٌ لما في تنكيره من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ، ونسبةُ التنزيلِ إلى الموصول بطريق الالتفات إلى الغَيبة بعد نسبته إلى نون العظمة لبيان فخامتِه تعالى بحسب الصفات والأفعال إثرَ بيانها بحسب الذات بطريق الإبهامِ ، ثم التفسيرِ لزيادة تحقيق وتقريرٍ ، وتخصيصُ خلقِهما بالذكر مع أن المراد خلقُهما بجميع ما يتعلق بهما كما يفصح عنه قوله تعالى : { لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض } الآية ، لأصالتهما واستتباعِهما لما عداهما ، وتقديمُ الأرض لكونه أقربَ إلى الحس وأظهرَ عنده ، ووصفُ السمواتِ بالعُلا وهو جمعُ العليا تأنيثُ الأعلى لتأكيد الفخامةِ مع ما فيه من مراعاة الفواصل ، وكل ذلك إلى قوله تعالى : { لَهُ الأسماء الحسنى } مَسوقٌ لتعظيم شأنِ المنزِّل عز وجل المستتبعِ لتعظيم شأنِ المنزَّل الداعي إلى تربية المهابةِ ، وإدخالِ الروعةِ المؤديةِ إلى استنزال المتمرّدين عن رتبة العتوِّ والطُّغيان واستمالِتهم نحو الخشية المُفْضِية إلى التذكرة والإيمان .
{ الرحمن } رُفع على المدح أي هو الرحمن وقد عرفت في صدر سورةِ البقرة أن المرفوعَ مدحاً في حكم الصفةِ الجاريةِ على ما قبله وإن لم يكن تابعاً له في الإعراب ، ولذلك التزموا حذفَ المبتدأ ليكون في صورة متعلّق من متعلقاته وقد قرىء بالجر على أنه صفةٌ صريحةٌ للموصول ، وما قيل من أن الأسماءَ الناقصةَ لا يوصف منها إلا الذي وحده مذهب الكوفيين ، وأياً ما كان فوصفُه بالرحمانية إثرَ وصفِه بخالقية السموات والأرض للإشعار بأن خلقَهما من آثار رحمته تعالى كما أن قوله تعالى : { رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا الرحمن } للإيذان بأن ربوبيتَه تعالى بطريق الرحمةِ ، وفيه إشارةٌ إلى أن تنزيلَ القرآنِ أيضاً من أحكام رحمتِه تعالى كما ينبّىء عنه قوله تعالى :(4/339)
{ الرحمن عَلَّمَ القرءان . } أو رفع على الابتداء واللامُ للعهد والإشارةِ إلى الموصول ، والخبرُ قوله تعالى : { عَلَى العرش استوى } وجعلُ الرحمة عنوانَ الموضوع الذي شأنُه أن يكون معلومَ الثُبوت للموضوع عند المخاطَب للإيذان بأن ذلك أمرٌ بيّن لا سُتْرَةَ به غنيٌّ عن الإخبار به صريحاً ، وعلى متعلقةٌ باستوى قدِّمت عليه لمراعاة الفواصِل ، والجارُّ والمجرور على الأول خبرُ مبتدأ محذوفٍ كما في قراءة الجرِّ وقد جُوِّز أن يكون خبراً بعد خبر ، والاستواءُ على العرش مجازٌ عن المُلك والسلطان ومتفرِّعٌ على الكناية فيمن يجوّز عليه القعودَ على السرير ، يقال : استوى فلانٌ على سرير الملك يراد به مَلَك وإن لم يقعُدْ على السرير أصلاً ، والمرادُ بيانُ تعلقِ إرادتِه الشريفة بإيجاد الكائنات وتدبيرِ أمرها .(4/340)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
وقوله تعالى : { لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض } سواء كان ذلك بالجزئية منهما أو بالحلولِ فيهما { وَمَا بَيْنَهُمَا } من الموجودات الكائنة في الجو دائماً كالهواء والسحاب أو أكثرياً كالطير ، أي له وحده دون غيرِه لا شِرْكةً ولا استقلالاً كلُّ ما ذكر مُلكاً وتصرفاً وإحياءً وإماتةً وإيجاداً وإعداماً { وَمَا تَحْتَ الثرى } أي ما وراءَ التراب ، وذكرُه مع دخوله تحت ما في الأرض لزيادة التقريرِ ، روي عن محمد بن كعب أنه ما تحت الأرضينَ السبعِ ، وعن السدّي أن الثرى هو الصخرةُ التي عليها الأرضُ السابعة .
{ وَإِن تَجْهَرْ بالقول } بيانٌ لإحاطة علمِه تعالى بجميع الأشياء إثرَ بيانِ سعةِ سلطنتِه وشمولِ قدرتِه لجميع الكائنات ، أي وإن تجهَرْ بذكره تعالى ودعائِه فاعلم أنه تعالى غنيٌّ عن جهرك { فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى } أي ما أسرَرْته إلى غيرك وشيئاً أخفى من ذلك وهو ما أخطَرْته ببالك من غير أن تتفوّه به أصلاً ، أو ما أسرَرْتَه لنفسك وأخفى منه وهو ما ستُسِرُّه فيما سيأتي ، وتنكيرُه للمبالغة في الخفاء ، وهذا إما نهيٌ عن الجهر كقوله تعالى : { واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الجهر مِنَ القول } وإما ارشادٌ للعباد إلى أن الجهرَ ليس لإسماعه سبحانه بل لغرض آخرَ من تصوير النفسِ بالذكر ، وتثبيتِه فيها ، ومنْعِها من الاشتغال بغيره ، وقطعِ الوسوسةِ عنها ، وهضمِها بالتضرّع والجُؤار وقوله تعالى : { الله } خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، والجملةُ استئنافٌ مَسوقٌ لبيان أن ما ذُكر من صفات الكمالِ موصوفُها ذلك المعبودُ بالحق ، أي ذلك المنعوتُ بما ذكر من النعوت الجليلةِ الله عز وجل وقوله تعالى : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } تحقيقٌ للحق وتصريحٌ بما تضمّنه ما قبله من اختصاص الألوهيةِ به سبحانه ، فإن ما أُسند إليه تعالى من خلق جميعِ الموجوداتِ والرحمانيةِ والمالكيةِ للكل والعلمِ الشاملِ مما يقتضيه اقتضاءً بيناً ، وقوله تعالى : { لَهُ الأسماء الحسنى } بيانٌ لكون ما ذكرَ من الخالقية والرحمانيةِ والمالكيةِ والعالَمية أسماءَه وصفاتِه من غير تعددٍ في ذاته تعالى ، فإنه روي أن المشركين حين سمعوا النبيَّ عليه الصلاة والسلام يقول : « يا ألله يا رحمن » قالوا : ينهانا أن نعبُدَ إلهين وهو يدعو إلها آخرَ . والحُسنى تأنيثُ الأحسن يوصف به الواحدةُ المؤنثةُ والجمعُ من المذكر والمؤنث كمآربُ أخرى ، وآياتِنا الكبرى .(4/341)
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
{ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى } استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير أمر التوحيدِ الذي إليه انتهى مَساقُ الحديث وبيانِ أنه أمرٌ مستمرّ فيما بين الأنبياء كابراً عن كابر ، وقد خوطب به موسى عليه الصلاة والسلام حيث قيل له : { إِنَّنِى أَنَا الله لا إله إِلا أَنَاْ } وبه ختَم عليه الصلاة والسلام مقالَه حيث قال : { إِنَّمَا إلهكم الله الذى لا إله إِلاَّ هُوَ } وأما ما قيل من أن ذلك لترغيب النبيِّ عليه الصلاة والسلام في الائتساء بموسى عليه الصلاة والسلام في تحمل أعباءِ النبوة والصبرِ على مقاساة الخطوبِ في تبليغ أحكامِ الرسالة ، فيأباه أن مساقَ النظمِ الكريم لصرفه عليه الصلاة والسلام عن اقتحام المشاقِّ ، وقوله تعالى : { إِذْ رَأَى نَاراً } ظرفٌ للحديث ، وقيل : لمضمر مؤخّر أي حين رأى ناراً كان كيتَ وكيت ، وقيل : مفعولٌ لمضمر مقدّم أي اذكرْ وقتَ رؤيته ناراً . روي أنه عليه الصلاة والسلام استأذن شعيباً عليهما الصلاة والسلام في الخروج إلى أمّه وأخيه فخرج بأهله وأخذ على غير الطريق مخافةً من ملوك الشام ، فلما وافى واديَ طُوًى وهو الجانبُ الغربيُّ من الطور وُلد له وَلدٌ في ليلة مظلمةٍ شاتية مُثلجة وكانت ليلةَ الجمعة وقد ضل الطريقَ وتفرّقت ماشيتُه ولا ماءَ عنده ، وقَدَح فصَلَد زندُه ، فبينما هو في ذلك إن رأى ناراً على يسار الطريق من جانب الطور { فَقَالَ لأَهْلِهِ امكثوا } أي أقيموا مكانَكم ، أمرهم عليه الصلاة والسلام بذلك لئلا يتْبعوه فيما عزم عليه عليه الصلاة والسلام من الذهاب إلى النار كما هو المعتادُ ، لا لئلا ينتقلوا إلى موضع آخرَ فإنه مما لا يخطُر بالبال ، والخطابُ للمرأة والولدِ والخادمِ ، وقيل : لها وحدها والجمعُ إما لظاهر لفظ الأهلِ أو للتفخيم كما في قول مَنْ قال
وإن شئتِ حرمتُ النساءَ سواكمُ ... { إِنّى آنَسْتُ نَاراً } أي أبصرتُها إبصاراً بيّناً لا شُبهةَ فيه ، وقيل : الإيناسُ خاصٌّ بإبصار ما يؤنَس به والجملةُ تعليلٌ للأمر أو المأمورِ به { لَّعَلِّى ءًاتِيكُم مِّنْهَا } أي أجيئكم من النار { بِقَبَسٍ } أي بشُعلة مقتبَسةٍ من معظم النارِ وهي المُرادةُ بالجذوة في سورة القَصص وبالشهاب القبسُ { أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى } هادياً يدلني على الطريق على أنه مصدرٌ سمّي به الفاعلُ مبالغةً ، أو حُذف منه المضافُ أي ذا هدايةٍ ، أو على أنه إذا وُجد الهادي فقد وجد الهُدى ، وقيل : هادياً يهديني إلى أبواب الدين فإن أفكارَ الأبرارِ معمورةٌ بالهمّة الدينية في عامة أحوالِهم لا يشغَلهم عنها شاغلٌ ، والأولُ هو الأظهرُ لأن مساقَ النظمِ الكريم لتسلية أهلِه ، وقد نُصّ عليه في سورة القَصص حيث قيل : { فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ } الآية ، وكلمةُ أو في الموضعين لمنع الخلوِّ دون منْعِ الجمعِ ، ومعنى الاستعلاء في قوله تعالى : { عَلَى النار } أن أهلَ النارِ يستعلون المكانَ القريب منها أو لأنهم عند الاصطلاءِ يكتنفونها قِياماٍ وقعوداً فيُشرفون عليها . ولما كان الإتيانُ بهما مترقَّباً غيرَ محقَّقِ الوقوعِ صُدّر الجملة بكلمة الترجي ، وهي إما علةٌ لفعل قد حذف ثقةً بما يدل عليه من الأمر بالمُكث والإخبار بإيناس النارِ وتفادياً عن التصريح بما يوحشهم ، وإما حالٌ من فاعله أي فأَذهب إليها لآتيَكم أو كي آتيَكم أو راجياً أن آتيَكم منها بقبس . . الآية ، وقد مر تحقيق ذلك مفصلاً في تفسير قوله تعالى : { قَدِيرٌ ياأيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }(4/342)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
{ فَلَمَّا أتاها } أي النارَ التي آنسها ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : رأى شجرةً خضراءَ أطافت بها من أسفلها إلى أعلاها نارٌ بيضاءُ تتقدُ كأضْوإ ما يكون ، فوقف متعجباً من شدة ضوئها وشدةِ خُضرة الشجرة فلا النارُ تُغيّر خضرتها ولا كَثرةُ ماء الشجرة تُغيّر ضوءَها . قالوا : النارُ أربعةُ أصنافٍ : صنفٌ يأكل ولا يشرب وهي نارُ الدنيا ، وصنفٌ يشرب ولا يأكل وهي نارُ الشجرِ الأخضر ، وصنفٌ يأكل ويشرب وهي نار جهنم ، وصنفٌ لا يأكل ولا يشرب وهي نارُ موسى عليه الصلاة والسلام ، وقالوا : هي أربعةُ أنواعٍ : نوعٌ له نورٌ وإحراقٌ وهي نارُ الدنيا ، ونوع لا نورَ له ولا إحراقَ وهي نارُ الأشجار ، ونوعٌ له نورٌ بلا إحراقٍ وهي نارُ موسى عليه الصلاة والسلام ، ونوعٌ له إحراقٌ بلا نور وهي نارُ جهنم . روي أن الشجرة كانت عَوْسَجةً ، وقيل : كانت سَمُرة { نُودِىَ ياموسى } أي نودي فقيل : يا موسى { إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ } أو عومل النداءُ معاملةَ القول لكونه ضرباً منه ، وقرىء بالفتح أي بأني ، وتكريرُ الضمير لتأكيد الدليلِ وتحقيقِ المعرفة وإماطةِ الشبهة . روي أنه لما نودي يا موسى ، قال عليه الصلاة والسلام : من المتكلم؟ فقال الله عز وجل : «أنا ربك» فوسوس إليه إبليسُ : لعلك تسمع كلامَ شيطان ، فقال : أنا عرفتُ أنه كلامُ الله تعالى بأني أسمعه من جميع الجهاتِ بجميع الأعضاء . قلت : وذلك لأن سماعَ ما ليس من شأنه ذلك من الأعضاء ليس إلا من آثار الخلاق العليم تعالى وتقدس ، وقيل : تلقّى عليه الصلاة والسلام كلامَ رب العزة تلقياً روحانياً ثم تمثل ذلك الكلامُ لبدنه وانتقل إلى الحس المشترك فانتقش به من غير اختصاص بعضو وجهه { فاخلع نَعْلَيْكَ } أُمر عليه الصلاة والسلام بذلك لأن الحفْوةَ أدخلُ في التواضع وحسنِ الأدب ، ولذلك كان السلفُ الصالحون يطوفون بالكعبة حافين ، وقيل : ليباشر الواديَ بقدميه تبركاً به ، وقيل : لما أن نعليه كانتا من جلد حمارٍ غيرِ مدبوغ ، وقيل : معناه فرِّغْ قلبَك من الأهل والمال ، والفاء لترتيب الأمر على ما قبلها فإن ربوبيته تعالى له عليه الصلاة والسلام من موجبات الأمر وداوعيه وقوله تعالى : { إِنَّكَ بالواد المقدس } تعليلٌ لوجوب الخَلْع المأمور به وبيانٌ لسبب ورودِ الأمر بذلك من شرف البُقعة وقُدْسِها ، روي أنه عليه الصلاة والسلام خلعهما وألقاهما وراء الوادي { طُوًى } بضم الطاء غيرُ منوّن ، وقرىء منوناً ، وقرىء بالكسر منوناً وغيرَ منّون ، فمَنْ نوّنه أوّله بالمكان دون البقعة ، وقيل : هو كثني الطي مصدرٌ لنوديَ أو المقدس أي نودي نداءين أو قُدّس مرة بعد أخرى .(4/343)
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
{ وَأَنَا اخترتك } أي اصطفيتك للنبوة والرسالة ، وقرىء وأنّا اخترناك بالفتح والكسر ، والفاء في قوله : { فاستمع } لترتيب الأمرِ أو المأمورِ به على ما قبلها ، فإن اختيارَه عليه السلام لما ذكر من موجبات الاستماع والأمرِ به ، واللام في قوله تعالى : { لِمَا يُوحَى } متعلقةٌ باستمعْ وما موصولةٌ أو مصدريةٌ ، أي فاستمع الذي يوحى إليك أو الوحْيَ لا باخترتك كما قيل ، لكن لا لما قيل من أنه من باب التنازُعِ وإعمالِ الأول فلا بد حينئذ من إعادة الضميرِ مع الثاني بل لأن قوله تعالى : { إِنَّنِى أَنَا الله لا إله إِلا أَنَاْ } بدلٌ من ( ما يوحى ) ولا ريب في أن اختيارَه عليه الصلاة والسلام ليس لهذا الوحي فقط ، والفاءُ في قوله تعالى : { فاعبدنى } لترتيب المأمورِ به على ما قبلها فإن اختصاصَ الألوهية به سبحانه وتعالى من موجبات تخصيصِ العبادةِ به عز وجل { اتل مَا } خُصت الصلاةُ بالذكر وأُفردت بالأمر مع اندراجها في الأمر بالعبادة لفضلها وإنافتِها على سائر العبادات بما نيطت به من ذكر المعبودِ وشُغل القلبِ واللسانِ بذكره ، وذلك قوله تعالى : { لِذِكْرِى } أي لتذكُرني فإن ذِكْري كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادةِ والصلاة ، أو لتذكُرني فيها لاشتمالها على الأذكار ، أو لذكري خاصةً لا تشوبُه بذكر غيري ، أو لإخلاص ذكري وابتغاءِ وجهي لا تُرائي بها ولا تقصِدُ بها غرضاً آخرَ ، أو لتكون ذاكراً لي غيرَ ناس ، وقيل : لذكري إياها وأمْري بها في الكتب ، أو لأنْ أذكُرَك بالمدح والثناء ، وقيل : لأوقات ذكري وهي مواقيتُ الصلاة ، أو لذِكْر صلاتي لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : « من نام عن صلاة أو نسِيَها فليصلِّها إذا ذكرها لأن الله تعالى يقول : { إِنَّنِى أَنَا الله } » . وقرىء لذكرى بألف التأنيثِ وللذكرى معرفاً وللذكْر بالتعريف والتنكير وقوله تعالى :
{ إِنَّ الساعة ءاتِيَةٌ } تعليلٌ لوجوب العبادة وإقامةِ الصلاة أي كائنةٌ لا محالة ، وإنما عُبّر عن ذلك بالإتيان تحقيقاً لحصولها بإبرازها في معرِض أمرٍ محققٍ متوجِّهٍ نحو المخاطبين { أَكَادُ أُخْفِيهَا } أي لا أظهرها ، بأن أقول : إنها آتيةٌ ، ولولا أن ما في الإخبار بذلك من اللطف وقطعِ الأعذار لما فعلتُ ، أو أكاد أظهرُها بإيقاعها من أخفاه إذا أظهره بسلب خفائِه ، ويؤيده القراءةُ بفتح الهمزة من خفاه بمعنى أظهره ، وقيل : أخفاه من الأضداد يجيء بمعنى الإظهار والسَّترِ . وقوله تعالى : { لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى } متعلقٌ بآتيةٌ ، وما بينهما اعتراضٌ أو بأخفيها على المعنى الأخير ، وما مصدرية أي لتُجزى كلُّ نفس بسعيها في تحصيل ما ذُكر من الأمور المأمور بها ، وتخصيصُه في معرِض الغاية لإتيانها مع أنه لجزاء كلِّ نفس بما صدر عنها سواءٌ كان سعياً فيما ذكر ، أو تقاعداً عنه بالمرة ، أو سعياً في تحصيل ما يُضادّه للإيذان بأن المرادَ بالذات من إتيانها هو الإثابةُ بالعبادة ، وأما العقابُ بتركها فمن مُقتَضَيات سوءِ اختيارِ العصاة وبأن المأمورَ به في قوة الوجوبِ والساعةَ في شدة الهول والفظاعة يوجِبان على كل نفسٍ أن تسعى في الامتثال بالأمر وتجِدَّ في تحصيل ما ينجّيها من الطاعات ، وحينئذ تحترز عن اقتراف ما يُرديها من المعاصي ، وعليه مدارُ الأمر في قوله تعالى :(4/344)
{ وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } فإن الابتلأَ مع شموله لكافة المكلفين باعتبار أعمالِهم المنقسمةِ إلى الحسن والقبيح أيضاً لا إلى الحسن والأحسَن فقط قد عُلّق بالأخيرين ، لما ذكر من أن المقصودَ الأصليَّ من إبداع تلك البدائعِ على ذلك النمط الرائعِ إنما هو ظهورُ كمالِ إحسانِ المحسنين وأن ذلك لكونه على أتم الوجوه الرائقةِ وأكملِ الأنحاءِ اللائقةِ يوجب العملَ بموجبه بحيث لا يحيد أحدٌ عن سَننه المستبين ، بل يهتدي كلُّ فرد إلى ما يرشد إليه من مطلق الإيمان والطاعة ، وإنما التفاوتُ بينهم في مراتبهما بحسب القوة والضعفِ ، وأما الإعراض عن ذلك والوقوعُ في مهاوي الضلال فبمعزل من الوقوع فضلاً عن أن ينتظم في سلك الغايةِ لذلك الصنعِ البديع ، وإنما هو عملٌ يصدُر عن عامله بسوء اختيارِه من غير مصحِّحٍ له أو مسوِّغ . هذا ويجوز أن يُراد بالسعي مطلقُ العمل .(4/345)
فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)
{ فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا } أي عن ذكر الساعةِ ومراقبتِها ، وقيل : عن تصديقها والأولُ هو الأليقُ بشأن موسى عليه الصلاة والسلام وإن كان النهيُ بطريق التهييجِ والإلهاب ، وتقديمُ الجارِّ والمجرور على قوله تعالى : { مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا } لما مر مراراً من الاهتمام بالمقدّم والتشويقِ إلى المؤخّر فإن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخّر تبقى النفسُ مستشرِفةً له فيتمكن عند ورودِه لها فضلُ تمكّنٍ ، ولأن في المؤخر نوعَ طولٍ ربما يُخِلُّ تقديمُه بجزاله النظمِ الكريم ، وهذا وإن كان بحسب الظاهر نهياً للكافر عن صد موسى عليه الصلاة والسلام عن الساعة لكنه في الحقيقة نهيٌ له عليه الصلاة والسلام عن الانصداد عنها على أبلغ وجهٍ وآكَدِه ، فإن النهيَ عن أسباب الشيءِ ومباديه المؤديةِ إليه نهيٌ عنه بالطريق البرهاني وإبطالٌ للسببية من أصلها كما في قوله تعالى : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } الخ ، فإن صدَّ الكافر حيث كان سبباً لانصداده عليه الصلاة والسلام كان النهيُ عنه نهياً بأصله وموجِبه وإبطالاً له بالكلية ، ويجوز أن يكون من باب النهي عن المسبَّب وإرادةِ النهي عن السبب على أن يراد نهيُه عليه الصلاة والسلام عن إظهار لينِ الجانبِ للكفرة ، فإن ذلك سببٌ لصدّهم إياه عليه الصلاة والسلام كما في قوله : لا أُرَينّك هاهنا ، فإن المراد به نهيُ المخاطب عن الحضور لديه الموجبِ لرؤيته { واتبع هَوَاهُ } أي ما تهواه نفسه من اللذات الحسية الفانية { فتردى } أي فتهلِكَ فإن الإغفالَ عنها وعن تحصيل ما ينجِّي عن أهوالها مستتبِعٌ للهلاك لا محالة ، وهو في محل النصبِ على جواب النهي أو في محلّ الرفعِ على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي فأنت تردى .
{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى } شروعٌ في حكاية ما كُلف به عليه الصلاة والسلام من الأمور المتعلقةِ بالخلق إثرَ حكايةِ ما أُمر به من الشؤون الخاصة بنفسه ، فما استفهاميةٌ في حيز الرفعِ بالابتداء وتلك خبرُه أو بالعكس وهو أدخلُ بحسب المعنى وأوفقُ بالجواب ، وبيمينك متعلقٌ بمضمر وقع حالاً أي وما تلك قارّةً أو مأخوذةً بيمينك ، والعاملُ معنى الإشارة كما في قوله عز وعلا : { وهذا بَعْلِى شَيْخًا } وقيل : تلك موصولةٌ أي ما التي هي بيمينك وأياً ما كان فالاستفهامُ إيقاظٌ وتنبيهٌ له عليه الصلاة والسلام على ما سيبدو له من التعاجيب ، وتكريرُ النداء لزيادة التأنيسِ والتنبيه(4/346)
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
{ قَالَ هِىَ عَصَاىَ } نسبها إلى نفسه تحقيقاً لوجه كونِها بيمينه وتمهيداً لما يعقُبه من الأفاعيل المنسوبةِ إليه عليه الصلاة والسلام ، وقرىء عَصَيَّ على لغة هذيل { أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيْهَا } أي أعتمد عليها عند الإعياءِ أو الوقوفِ على رأس القطيع { وَأَهُشُّ بِهَا } أي أخبِط بها الورقَ وأُسقطه { على غَنَمِى } وقرىء أهِشّ بكسر الهاء وكلاهما من هشّ الخبزُ يهش إذا انكسر لهشاشته ، وقرىء بالسين غيرِ المعجمة وهو زجرُ الغنم وتعديتُه بعلي لتضمين معنى الإنحاءِ والإقبال ، أي أزجُرها مُنْحِياً ومُقبلاً عليها { وَلِىَ فِيهَا مَأَرِبُ أخرى } أي حاجاتٌ أخرى من هذا الباب مثلُ ما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا سار ألقاها على عاتقه فعلّق بها أدواتِه من القوس والكِنانة والحِلاب ونحوِها ، وإذا كان في البرية ركَزها وعرض الزنذين على شعبتيها وألقى عليها الكِساء واستظل به ، وإذا قصُر الرِّشاءُ وصله بها ، وإذا تعرضت لغنمه السباعُ قاتل بها ، قيل : ومن جملة المآربِ أنها كانت ذاتَ شعبتين ومِحْجَن فإذا طال الغصنُ حناه بالمحجن وإذا أراد كسره لواه بالشعبتين ، وكأنه عليه الصلاة والسلام فهم أن المقصودَ من السؤال بيانٌ حقيقتها وتفصيلُ منافعِها بطريق الاستقصاءِ حتى إذا ظهرت على خلاف تلك الحقيقةِ وبدت منها خواصُّ بديعةٌ علم أنها آياتٌ باهرة ومعجزاتٌ قاهرة أحدثها الله تعالى ، وليست من الخواصّ المترتبةِ عليها ، فذكرُ حقيقتَها ومنافعَها على التفصيل والإجمال على معنى أنها من جنس العِصِيّ مستتبِعةٌ لمنافعِ بناتِ جنسِها ليطابقَ جوابُه الغرضَ الذي فهمه من سؤال العليم الخبير .
{ قَالَ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال ينساق إليه الذهنُ ، كأنه قيل : فماذا قال عز وجل؟ فقيل : قال : { أَلْقِهَا ياموسى } لترى من شأنها ما لم يخطُر على بالك من الأمور ، وتكرارُ النداءِ لتأكيد التنبيه .
{ فألقاها } على الأرض { فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى } رُوي أنه عليه الصلاة والسلام حين ألقاها انقلبت حيةً صفراءَ في غِلَظ العصا ثم انتفخت وعظُمت ، فلذلك شُبّهت بالجانّ تارةً وسميت ثُعباناً أخرى وعبّر عنها هاهنا بالاسم العامّ للحالين ، وقيل : قد انقلبت من أول الأمر ثعباناً وهو الأليقُ بالمقام كما يفصح عنه قوله عز وجل : { فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } وإنما شبهت بالجان في الجلادة وسُرعة الحركةِ لا في صِغَر الجُثة ، وقوله تعالى : { تسعى } إما صفةٌ لحيّةٌ أو خبرٌ ثان عند من يجوز كونَه جملة .
{ قَالَ } استئناف كما سبق { خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ } عن ابن عباس رضي الله عنهما : انقلبت ثعباناً ذكَراً يبتلع كلَّ شيء من الصخر والشجَر ، فلما رآه كذلك خاف ونفَر ، وما يملك البشرُ عند مشاهدةِ الأهوال والمخاوفِ من الفزع والنّفار ، وفي عطف النهي على الأمر إشعارٌ بأن عدمَ المنهيّ عنه مقصودٌ لذاته لا لتحقيق المأموريةِ فقط وقوله تعالى : { سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى } مع كونه استئنافاً مسوقاً لتعليل الامتثال بالأمر والنهي فإن إعادتَها إلى ما كانت عليه من موجبات أخذها ، وعدمِ الخوفِ منها عِدَةٌ كريمةٌ بإظهار معجزةٍ أخرى على يده عليه الصلاة والسلام ، وإيذانٌ بكونها مسخَّرةً له عليه الصلاة والسلام ليكون على طُمَأْنينة من أمره ولا يعتريه شائبةُ تَزلزُلٍ عند مُحاجّة فرعون ، أي سنعيدها بعد الأخذ إلى حالتها الأولى التي هي الهيئةُ العَصَوية .(4/347)
قيل : بلغ عليه الصلاة والسلام عند ذلك من الثقة وعدمِ الخوف إلى حيث كان يُدخل يدَه في فمها ويأخذ بلَحْيَيها . والسِّيرةُ فِعْلةٌ من السير تجوز بها للطريقة والهيئة ، وانتصابُها على نزع الجارِّ أي إلى سيرتها ، أو على أنّ أعاد منقولٌ من عاده بمعنى عاد إليه ، أو على الظرفية أي سنعيدها في طريقها ، أو على تقدير فعلها وإيقاعِها حالاً من المفعول أي سنعيدها عصاً كما كانت من قبل تسير سيرتَها الأولى ، أي سائرةً سيرتَها الأولى فتنتفعَ بها كما كنت تنتفع من قبل .(4/348)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
{ واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ } أُمر عليه الصلاة والسلام بذلك بعدما أخذ الحيةَ وانقلبت عصاً كما كانت أي أدخلها تحت عضُدِك فإن جناحَيْ الإنسانِ جنباه كما أن جناحيَ العسكر ناحيتاه مستعارٌ من جناحي الطائرِ ، وقد سُمّيا جناحين لأنه يجنَحُهما أي يُميلهما عند الطيران وقوله تعالى : { تُخْرِجُ } جوابُ الأمر وقوله تعالى : { بَيْضَاء } حالٌ من الضمير فيه وقوله تعالى : { مِنْ غَيْرِ سُوء } متعلقٌ بمحذوف هو حالٌ من الضمير في بيضاء أي كائنةً من غير عيب وقبح ، كنّي به عن البرص كما كنّي بالسوأة عن العورة لما أن الطِباعَ تعافه وتنفِر منه ، روي أنه عليه الصلاة والسلام كان آدمَ فأخرج يده من مُدرّعته بيضاءَ لها شُعاعٌ كشعاع الشمس تُغشّي البصرَ { ءَايَةً أخرى } أي معجزةً أخرى غيرَ العصا وانتصابُها على الحالية إما من الضمير في تخرجْ على أنها بدلٌ من الحال الأولى ، وإما من الضمير في بيضاءَ ، وقيل : من الضمير في الجار والمجرور ، وقيل : هي منصوبةٌ بفعل مضمرٍ نحوُ خذْ أو دونك وقوله تعالى : { لِنُرِيَكَ مِنْ ءاياتنا الكبرى } متعلقٌ بمضمر ينساق إليه النظمُ الكريم ، كأنه قيل : فعلنا ما فعلنا من الأمر والإظهارِ لنُريَك بذلك بعضَ آياتنا الكبرى ، على أن الكبرى صفةٌ لآياتنا أو نريَك بذلك من آياتنا ما هي كُبرى على أن الكبرى مفعولٌ ثانٍ لنُريَك ومن آياتنا متعلق بمحذوف هو حال من ذلك المفعولِ ، وأياً ما كان فالآيةُ الكبرى عبارةٌ عن العصا واليدِ جميعاً ، وأما تعلقُه بما دل عليه آيةٌ أي دلّلنا بها لنريك الخ ، أو بقوله تعالى : { واضمم } أو بقوله : { تُخْرِجُ } أو بما قُدّر من نحو خذ ودونك كما قال بكلٍ من ذلك قائل ، فيؤدّي إلى عَراء آيةِ العصا عن وصف الكِبَر فتدبر .
{ اذهب إلى فِرْعَوْنَ } تخلّصٌ إلى ما هو المقصودُ من تمهيد المقدمات السالفةِ فُصل عما قبله من الأوامر إيذاناً بأصالته ، أي اذهبْ إليه بما رأيتَه من الآيات الكبرى وادْعُه إلى عبادتي وحذّره نَقِمتي وقوله تعالى { إِنَّهُ طغى } تعليلٌ للأمر أو لوجوب المأمورِ به أي جاوز الحدَّ في التكبر والعتوّ والتجبر حتى تجاسر على العظيمة التي هي دعوى الربوبية .(4/349)
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
{ قَالَ } استئنافٌ مبني على سؤال ينساق إليه الذهنُ ، كأنه قيل : فماذا قال عليه الصلاة والسلام حين أُمر بهذا الأمر الخطيرِ والخطبِ العسير؟ فقيل قال مستعيناً بربه عز وجل : { رَبّ اشرح لِى صَدْرِى } { وَيَسّرْ لِى أَمْرِى } لما أُمر بما أمر به من الخطب الجليلِ تضرّع إلى ربه عز وجل وأظهر عجْزَه بقوله : ويضيق صدري ولا ينطلق لساني ، وسأله تعالى أن يوسعّ صدرَه ويفسَحَ قلبه ويجعله عليماً بشؤون الحق وأحوالِ الخلقِ حليماً حَمولاً يستقبل ما عسى يرِدُ عليه من الشدائد والمكاره بجميل الصبرِ وحسن الثبات ويتلقّاها بصدر فسيحٍ وجأش رابط ، وأن يسّهل عليه مع ذلك أمرَه الذي هو أجلُّ الأمور وأعظمُها وأصعبُ الخطوب وأهولُها بتوفيق الأسبابِ ورفع الموانعِ ، وفي زيادة كلمة ( لي ) مع انتظام الكلامِ بدونها تأكيدٌ لطلب الشرحِ والتيسير بإبهام المشروحِ والميسّر أولاً وتفسيرِهما ثانياً ، وفي تقديمها وتكريرِها إظهارُ مزيدِ اعتناءٍ بشأن كل من المطلوبَيْن وفضلِ اهتمامٍ باستدعاء حصولهما له واختصاصِهما به { واحلل عُقْدَةً مّن لّسَانِى } روي أنه كان في لسانه عليه الصلاة والسلام رُتّةٌ من جمرة أدخلها فاه في صغره ، وذلك أن فرعون حمله ذاتَ يوم فأخذ لحيتَه فنتفها لما كان فيها من الجواهر فغضب وأمر بقتله ، فقالت آسيةُ : إنه صبيٌّ لا يفرق بين الجمر والياقوت فأُحضِرا بين يديه فأخذ الجمرةَ فوضعها في فيه ، قيل : واحترقت يده فاجتهد فرعونُ في علاجها فلم تبرأ . ثم لما دعاه قال : إلى أي ربّ تدعوني؟ قال : إلى الذي أبرأ يدي وقد عَجزْتَ عنه ، واختلف في زوال العُقدة بكمالها فمن قال به تمسك بقوله تعالى : { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ } ومن لم يقل به احتج بقوله تعالى : { هُوَ أَفْصَحُ مِنّى } وقوله تعالى : { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } وأجاب عن الأول بأنه لم يسأل حلَّ عُقدة لسانه بالكلية بل حلَّ عقدةٍ تمنع الإفهام ولذلك نكرّها ووصفها بقوله : { مّن لّسَانِى } أي عقدةً كائنة من عُقَد لساني وجعل قوله تعالى : { يَفْقَهُواْ قَوْلِي } جوابَ الأمر وغرضاً من الدعاء ، فبحلّها في الجملة يتحقق إيتاءُ سؤلِه عليه الصلاة والسلام ، والحقُّ أن ما ذكر لا يدل على بقائها في الجملة أما قوله تعالى : { هُوَ أَفْصَحُ مِنّى } فلأنه عليه الصلاة والسلام قاله قبل استدعاءِ الحلِّ كما ستعرفه على أن أفصحيّتَه منه عليهما الصلاة والسلام لا تستدعي عدمَ البقاءِ لما أن الأفصحيةَ توجب ثبوتَ أصلِ الفصاحة في المفضول أيضاً وذلك منافٍ للعقدة رأساً ، وأما قوله تعالى : { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } فمن باب غلوِّ اللعين في العتوّ والطغيان وإلا لدل على عدم زوالِها أصلاً ، وتنكيرُها إنما يفيد قِلتها في نفسها لا قِلَّتها باعتبار كونِها بعضاً من الكثير ، وتعلقُ كلمة مِنْ قوله تعالى : { مّن لّسَانِى } بمحذوف هو صفةٌ لها ليس بمقطوع به ، بل الظاهرُ تعلُّقها بنفس الفعل فإن المحلولَ إذا كان متعلقاً شيء ومتصلاً به فكما يتعلق الحلُّ به يتعلق بذلك الشيء أيضاً باعتبار إزالتِه عنه أو ابتداءِ حصوله منه .(4/350)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34)
{ واجعل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى * هارون أَخِى } أي مؤازراً يعاونني في تحمّل أعباء ما كُلّفتُه ، على أن اشتقاقَه من الوِزْر الذي هو الثِقَلُ أو ملجأً أعتصمُ برأيه على أنه من الوَزَر وهو الملجأ ، وقيل : أصله أَزير من الأزْر بمعنى القوة فعيل بمعنى فاعل كالشعير والجليسِ قُلبت همزتُه واواً كقلبها في مُوازِر ، ونصبُه على أنه مفعولٌ ثانٍ لاجْعل قُدّم على الأول الذي هو قوله تعالى : { هارون } اعتناءً بشأن الوزارة ، ولي صلةٌ للجعل أو متعلقٌ بمحذوف هو حالٌ من وزيراً إذ هو صفةٌ له في الأصل ومن أهلي إما صفةٌ لوزيراً أو صلةٌ لاجعل ، وقيل : مفعولاه : لي وزيراً وهارونَ عطفُ بيانٍ للوزير ومن أهلي كما مر من الوجهين ، وأخي في الوجهين بدلٌ من هارونَ أو عطفُ بيان آخرَ ، وقيل : هما وزيراً من أهلي ولي تبيينٌ كما في قوله تعالى : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } ورُدّ بأن شرطَ المفعولين في باب النواسخِ صحةُ انعقاد الجملةِ الاسمية ولا مساغَ لجعل وزيراً مبتدأً ويُخبر عنه بما بعده { اشدد بِهِ أَزْرِى * وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى } كلاهما على صيغة الدعاءِ أي أحكِمْ به قوتي واجعله شريكي في أمرالرسالةِ حتى نتعاونَ على أدائها كما ينبغي ، وفصلُ الأول عن الدعاء السابق لكمال الاتصالِ بينهما فإن شدَّ الأزْر عبارةٌ عن جعله وزيراً ، وأما الإشراكُ في الأمر فحيث كان من أحكام الوزارة توسّطَ بينهما العاطف .
{ واجعل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى * هارون أَخِى } أي مؤازراً يعاونني في تحمّل أعباء ما كُلّفتُه ، على أن اشتقاقَه من الوِزْر الذي هو الثِقَلُ أو ملجأً أعتصمُ برأيه على أنه من الوَزَر وهو الملجأ ، وقيل : أصله أَزير من الأزْر بمعنى القوة فعيل بمعنى فاعل كالشعير والجليسِ قُلبت همزتُه واواً كقلبها في مُوازِر ، ونصبُه على أنه مفعولٌ ثانٍ لاجْعل قُدّم على الأول الذي هو قوله تعالى : { هارون } اعتناءً بشأن الوزارة ، ولي صلةٌ للجعل أو متعلقٌ بمحذوف هو حالٌ من وزيراً إذ هو صفةٌ له في الأصل ومن أهلي إما صفةٌ لوزيراً أو صلةٌ لاجعل ، وقيل : مفعولاه : لي وزيراً وهارونَ عطفُ بيانٍ للوزير ومن أهلي كما مر من الوجهين ، وأخي في الوجهين بدلٌ من هارونَ أو عطفُ بيان آخرَ ، وقيل : هما وزيراً من أهلي ولي تبيينٌ كما في قوله تعالى : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } ورُدّ بأن شرطَ المفعولين في باب النواسخِ صحةُ انعقاد الجملةِ الاسمية ولا مساغَ لجعل وزيراً مبتدأً ويُخبر عنه بما بعده { اشدد بِهِ أَزْرِى * وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى } كلاهما على صيغة الدعاءِ أي أحكِمْ به قوتي واجعله شريكي في أمرالرسالةِ حتى نتعاونَ على أدائها كما ينبغي ، وفصلُ الأول عن الدعاء السابق لكمال الاتصالِ بينهما فإن شدَّ الأزْر عبارةٌ عن جعله وزيراً ، وأما الإشراكُ في الأمر فحيث كان من أحكام الوزارة توسّطَ بينهما العاطف .(4/351)
{ كَىْ نُسَبّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً } غايةٌ للأدعية الثلاثةِ الأخيرة فإن فعل فيها كل واحد منهما من التسبيح والذكر مع كونه مكثِراً لفعل الآخر ومضاعفاً له بسبب انضمامِه إليه مكثرٌ له في نفسه أيضاً بسبب تقويتِه وتأييدِه ، إذ ليس المرادُ بالتسبيح والذكر ما يكون منهما بالقلب أو في الخلَوات حتى لا يتفاوت حالُه عند التعدد والانفرادِ ، بل ما يكون منهما في تضاعيف أداءِ الرسالة ودعوةِ المَرَدة العُتاة إلى الحق ، وذلك مما لا ريب في اختلاف حالِه في حالتي التعددِ والانفراد فإن كلاًّ منهما يصدر عنه بتأييد الآخر من إظهار الحقِّ ما لا يكاد يصدر عنه مثلُه في حال الانفراد . وكثيراً في الموضعين نعتٌ لمصدر محذوف أو زمانٍ محذوف أي ننزّهك عما لا يليق بك من الصفات والأفعال التي من جملتها ما يدّعيه فرعونُ الطاغيةُ ويقبَلُه منه فئتُه الباغية من ادّعاء الشِرْكةِ في الألوهية ، ونصفُك بما يليق بك من صفات الكمالِ ونعوتِ الجمالِ والجلالِ تنزيهاً كثيراً أو زماناً كثيراً من جملته زمانُ دعوةِ فرعون وأوانُ المُحاجّة معه . وأما ما قيل من أن المعنى كي نصليَ لك كثيراً ونحمَدَك ونُثنيَ عليك فلا يساعده المقام .(4/352)
إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38)
{ إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً } أي عالماً بأحوالنا وبأن ما دعوتُك به مما يُصلحنا ويفيدنا في تحقيق ما كُلّفتُه من إقامة مراسمِ الرسالةِ وبأن هارونَ نِعمَ الرِّدْءُ في أداء ما أُمرت به ، والباءُ متعلقة ببصيراً قُدّمت عليه لمراعاة الفواصل . { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ } أي أُعطيتَ سُؤْلك ، فُعْلٌ بمعنى مفعول كالخبز والأُكْل بمعنى المخبوز والمأكول ، والإيتاءُ عبارةٌ عن تعلق إرادتِه تعالى بوقوع تلك المطالبِ وحصولِها له عليه السلام البتة وتقديرِه إياها حتماً ، فكلُّها حاصلةٌ له عليه السلام وإن كان وقوعُ بعضها بالفعل مترقباً بعدُ كتيسير الأمر وشدِّ الأزْر ، وباعتباره قيل : سنشُدّ عضُدَك بأخيك ، وقولُه تعالى : { ياموسى } تشريفٌ له عليه السلام بشرف الخِطاب إثرَ تشريفِه بشرف قَبول الدعاء .
وقوله تعالى : { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ } كلامٌ مستأنَفٌ مَسوق لتقرير ما قبله وزيادةِ توطينِ نفس موسى عليه السلام بالقبولِ ببيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعمِ التامة من غير سابقةِ دعاءٍ منه وطلبٍ فلأَن يُنعِم عليه بمثلها وهو طالبٌ له وداعٍ أَوْلى وأحرى ، وتصديرُه بالقسم لكمال الاعتناءِ بذلك أي وبالله لقد أنعمنا { مَرَّةً أخرى } أي في وقت غيرِ هذا الوقت لا أن ذلك مؤخّرٌ عن هذا فإن أخرى تأنيثُ آخَرَ بمعنى غير ، والمرةُ في الأصل اسمٌ للمرور الواحدِ ثم أُطلق على كل فَعْلة واحدةٍ من الفَعَلات متعديةً كانت أو لازمة ، ثم شاع في كل فرد واحدٍ من أفراد ما لَه أفرادٌ متجددةٌ متعددة فصار علماً في ذلك حتى جُعل معياراً لما في معناه من سائر الأشياء ، فقيل : هذا بناء المرة ، ويقرب منها الكرّةُ والتارَةُ والدفعةُ والمراد بها هاهنا الوقتُ الممتدُّ الذي وقع فيه ما سيأتي ذكرُه من المنن العظيمة الكثيرة وقوله تعالى : { إِذْ أَوْحَيْنَا إلى أُمّكَ مَا يوحى } ظرفٌ لمننّا والمرادُ بالإيحاء إما الإيحاءُ على لسان نبيَ في وقتها كقوله تعالى : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين } الآية ، وإما الإيحاءُ بواسطة الملَك لا على وجه النبّوة كما أوحيَ إلى مريم ، وإما الإلهامُ كما قي قوله تعالى : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } وإما الإراءةُ في المنام والمرادُ بما يوحى ما سيأتي من الأمر بقذفه في التابوت وقذْفِه في البحر ، أُبهم أولاً تهويلاً له وتفخيماً لشأنه ثم فُسّر ليكون أقرَّ عند النفسِ ، وقيل : معناه ما ينبغي أن يوحى ولا يُخَلَّ به لعِظم شأنه وفرْطِ الاهتمام به ، وقيل : ما لا يُعلم إلا بالوحي وفيه أنه لا يلائم المعنيين الأخيرين للوحي إذ لا تفخيمَ لشأنه في أن يكون مما لا يُعلم إلا بالإلهام أو بالإراءة في المنام .(4/353)
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
وأنْ في قوله تعالى : { أَنِ اقذفيه فِى التابوت } مفسِّرةٌ لأن الوحيَ من باب القول أو مصدريةٌ حُذف منها الباء ، أي بأن اقذفيه ومعنى القذْفِ هاهنا الوضعُ وأما في قوله تعالى : { فاقذفيه فِى اليم } فالإلقاءُ ، وهذا التفصيلُ هو المرادُ بقوله تعالى : { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى اليم } لا القذفُ بلا تابوت { فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل } لما كان إلقاءُ البحرِ إياه بالساحل أمراً واجبَ الوقوع لتعلق الإرادةِ الربانية به جُعل البحرُ كأنه ذو تمييزٍ مطيعٍ أُمر بذلك وأُخرج الجوابُ مُخرجَ الأمر والضمائرُ كلُّها لموسى عليه الصلاة والسلام ، والمقذوفُ في البحر والمُلقى بالساحل وإن كان هو التابوتَ أصالةً لكنْ لما كان المقصودُ بالذات ما فيه جُعل التابوتُ تبعاً له في ذلك { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّى وَعَدُوٌّ لَّهُ } جوابٌ للأمر بالإلقاء ، وتكريرُ العدو للمبالغة والتصريحِ بالأمر والإشعارِ بأن عداوتَه له مع تحققها لا تؤثر فيه ولا تضرُه ، بل تؤدي إلى المحبة فإن الأمرَ بما هو سبب للهلاك صورةً من قذفه في البحر ووقوعِه في يد عدو الله تعالى وعدوِّه مشعرٌ بأن هناك لُطفاً خفياً مندرجاً تحت قهرٍ صوريّ ، وقيل : الأولُ باعتبار الواقعِ والثاني باعتبار المتوقَّع وليس المرادُ بالساحل نفسَ الشاطىء بل ما يقابل الوسطَ وهو ما يلي الساحلَ من البحر بحيث يجري ماؤه إلى نهر فرعون ، لما روي أنها جَعلتْ في التابوت قُطناً ووضعتْه فيه ثم قيّرتْه وألقتْه في اليم وكان يشرَع منه إلى بستان فرعون نهرٌ صغير فدفعه الماءُ إليه فأتى به إلى بِرْكة في البستان ، وكان فرعونُ جالساً ثمّةَ مع آسيةَ بنتِ مُزاحِم فأُمر به فأُخرج ففُتح فإذا هو صبيٌّ أصبحُ الناس وجهاً ، فأحبه عدوُّ الله حباً شديداً لا يكاد يتمالك الصبرَ عنه وذلك قوله تعالى : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى } كلمةُ مِنْ متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لمحبةً مؤكدةٌ لما في تنكيرها من الفخامة الذاتيةِ بالفخامة الإضافية ، أي محبةً عظيمة كائنةً مني قد زرعتُها في القلوب بحيث لا يكاد يصبِر عنك من رآك ولذلك أحبك عدوُّ الله وآلُه . وقيل : هي متعلقةٌ بألقيت أي أحببتُك ومن أحبه الله تعالى أحبته القلوبُ لا محالة وقوله تعالى : { وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى } متعلقٌ بألقيتُ معطوفٌ على علة له مُضمَرةٍ ، أي ليتعطّف عليك ولتربى بالحنوّ والشفقة بمراقبتي وحِفظي ، أو بمضمر مؤخّرٍ هو عبارةٌ عما قبله من إلقاء المحبةِ ، والجملةُ مبتدَأةٌ أي ولتصنع على عيني فعلتُ ذلك ، وقرىء ولِتُصْنعْ على صيغة الأمر بسكون اللام وكسرها وقرىء بفتح التاء والنصب أي وليكونَ عملُك على عين مني لئلا يخالَفَ به عن أمري .
{ إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ } ظرفٌ لتُصنعَ على أن المراد به وقتٌ وقع فيه مشيُها إلى بيت فرعونَ وما ترتب عليه من القول والرجْعِ إلى أمها وتربيتِها له بالبر والحُنوّ وهو المِصداق لقوله تعالى :(4/354)
{ وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى } إذ لا شفقةَ أعظمُ من شفقة الأم وصنعُها على موجب مراعاتِه تعالى ، وقيل : هو بدلٌ من إذ أوحينا على أن المراد به زمانٌ متّسعٌ متباعدُ الأطراف وهو الأنسب بما سيأتي من قوله تعالى : { فنجيناك مِنَ الغم } الخ ، فإن جميع ذلك من المنن الإلهية ولا تعلق لشيء منها بالصنع المذكور ، وأما كونُه ظرفاً لألقيت كما جُوّز فربما يوهم أن إلقاءَ المحبة لم يحصُل قبل ذلك ، ولا ريب في أن معظمَ آثارِ إلقائِها ظهر عند فتحِ التابوت { فَتَقُولُ } أي لفرعون وآسيةَ حين رأتهما يطلبان له عليه السلام مرضعةً يقبل ثديَها وكان لا يقبل ثدياً ، وصيغةُ المضارِعِ في الفعلين لحكاية الحالِ الماضية { هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ } أي يضمه إلى نفسه ويربّيه وذلك إنما يكون بقَبوله ثديَها .
يروى أنه فشا الخبر بمصر أن آلَ فرعون أخذوا غلاماً من النيل لا يرتضع ثديَ امرأة واضطُروا إلى تتبّع النساء ، فخرجت أختُه مريمُ لتعرِف خبرَه فجاءتهم متنكّرة فقالت ما قالت وقالوا ما قالوا ، فجاءت بأمه فقبِل ثديَها ، فالفاء قوله تعالى : { فرجعناك إلى أُمّكَ } فصيحةٌ معربةٌ عن محذوف قبلها يُعطَف عليه ما بعدها ، أي فقالوا : دُلّينا عليها فجاءت بأمك فرجعناك إليها { كَى تَقَرَّ عَيْنُها } بلقائك { وَلاَ تَحْزَنْ } أي يطرأَ عليها الحزنُ بفراقك بعد ذلك ، وإلا فزوالُ الحزن مقدمٌ على السرور المعبَّر عنه بقُرّة العين فإن التخليةَ متقدمةٌ على التحلية ، وقيل : ولا تحزنَ أنت بفقد إشفاقها { وَقَتَلْتَ نَفْساً } هي نفس القِبْطيّ الذي استغاثه الإسرائيليُّ عليه .
{ فنجيناك مِنَ الغم } أي غمِّ قْتلِه خوفاً من عقاب الله تعالى بالمغفرة ومن اقتصاص فرعونَ بالإنجاء منه بالمهاجَرة إلى مدين { وفتناك فُتُوناً } أي ابتليناك ابتلاءً أو فتوناً من الابتلاء على أنه جمعُ فتن ، أو فتنة على ترك الاعتداء بالتاء كحُجوز في حجزة وبُدور في بَدْرة أي خلّصناك مرة بعد أخرى وهو إجمالُ ما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن ومفارقةِ الأُلاّف والمشْي راجلاً وفقْدِ الزاد ، وقد روي أن سعيدَ بنَ جبير سأل عنه ابنَ عباس رضي الله عنهما ، فقال : خلّصناك من محنة بعد محنة ولد في عام كان يُقتل فيه الوِلْدانُ فهذه فتنةٌ يا ابنَ جبير ، وألقتْه أمُّه في البحر وهمّ فرعونُ بقتله وقتلَ قِبْطياً وآجَرَ نفسه عشر سنين وضلّ الطريقَ وتفرّقت غنمُه في ليلة مظلمة ، وكان يقول عند كلِّ واحدةٍ : فهذه فتنةٌ يا ابنَ جبير . ولكن الذي يقتضيه النظمُ الكريم أن لا تُعدَّ إجارةُ نفسه وما بعدها من تلك الفُتون ضرورةَ أن المرادَ بها ما وقع قبل وصولِه عليه السلام إلى مدينَ بقضية الفاء في قوله تعالى : { فَلَبِثَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ } إذ لا ريب في أن الإجارةَ المذكورة وما بعدها مما وقع بعد الوصولِ إليهم ، وقد أشير بذكر لُبثه عليه السلام فيهم دون وصولِه إليهم إلى جميع ما قاساه عليه السلام في تضاعيف تلك السنينَ العشْر من فنون الشدائد والمكاره التى كلُّ واحد منها فتنةٌ وأيُّ فتنة .(4/355)
ومدينُ بلدةُ شعيبٍ عليه الصلاة والسلام على ثماني مراحلَ من مصرَ { ثُمَّ جِئْتَ } إلى المكان الذي أُونس فيه النارُ ووقع فيه النداءُ والجُؤار ، وفي كلمة التراخي إيذانٌ بأن مجيئَه عليه السلام كان بعد اللتيا والتي من ضلال الطريق وتفرُّقِ الغنم في الليلة المظلمةِ الشاتية وغيرِ ذلك { على قَدَرٍ } أي تقديرٍ قدّرتُه لأن أكلّمَك وأستنبئَك في وقت قد عينته لذلك فما جئت إلا على ذلك القدَرِ غيرَ مستقدِمٍ ولا مستأخِر ، وقيل : على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء عليهم السلام وهو رأسُ أربعين سنةً وقوله تعالى : { ياموسى } تشريفٌ له عليه الصلاة والسلام وتنبيهٌ على انتهاء الحكايةِ التي هي تفصيلُ المرةِ الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكيةِ أولاً .(4/356)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
وقوله تعالى : { واصطنعتك لِنَفْسِى } تذكيرٌ لقوله تعالى : { أَنَاْ اخترتك } وتمهيدٌ لإرساله عليه السلام إلى فرعون مؤيّداً بأخيه حسبما استدعاه بعد تذكيرِ المِنن السابغةِ تأكيداً لوثوقه عليه السلام بحصول نظائرِها اللاحقة ، وهذا تمثيلٌ لما خوّله عز وعلا من الكرامة العظمى بتقريب الملِكِ بعضَ خواصّه واصطناعِه لنفسه وترشيحِه لبعض أمورِه الجليلة ، والعدولُ عن نون العظمة الواقعة في قوله تعالى : { وفتناك } ونظيرَيه السابقين تمهيدٌ لإفراد لفظِ النفسِ اللائقِ بالمقام فإنه أدخلُ في تحقيق معنى الاصطناعِ والاستخلاص ، أي اصطفيتُك برسالاتي وبكلامي وقوله تعالى : { اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ } أي وليذهبْ أخوك حسبما استدعيتَ ، استئنافٌ مَسوق لبيان ما هو المقصودُ بالاصطناع { بآياتي } أي بمعجزاتي التي أرَيتُكَها من اليد والعصا فإنهما وإن كانتا اثنتين لكن في كل منهما آياتٌ شتى كما في قوله تعالى : { فِيهِ ءايات بينات مَّقَامُ إبراهيم } فإن انقلاب العصا حيواناً آيةٌ ، وكونَها ثعباناً عظيماً لا يقادَر قدرُه آيةٌ آخرى ، وسرعةَ حركتِه مع عِظم جِرْمه آيةٌ أخرى ، وكونَه مع ذلك مسخراً له عليه السلام بحيث كان يُدخل يده في فمه فلا يضره آيةٌ أخرى ، ثم انقلابُها عصاً آيةٌ أخرى ، وكذلك اليدُ فإن بياضها في نفسه آيةٌ وشعاعَها آيةٌ ، ثم رجوعُها إلى حالتها الأولى آيةٌ أخرى . والباء للمصاحبة لا للتعدية إذ المراد ذهابُهما إلى فرعون ملتبسين بالآيات متمسّكين بها في إجراء أحكامِ الرسالة وإكمالِ أمر الدعوة لا مجردُ إذهابِها وإيصالها إليه { وَلاَ تَنِيَا } لا تفتُرا ولا تقصّرا ، وقرىء لا تِنيا بكسر التاء للاتباع { فِى ذِكْرِى } أي بما يليق بي من الصفات الجليلةِ والأفعال الجميلة عند تبليغِ رسالتي والدعاءِ إليّ ، وقيل : المعنى لا تنيا في تبليغ رسالتي فإن الذكرَ يقع على جميع العبادات وهو أجلُّها وأعظمُها ، وقيل : لا تنسَياني حيثما تقلبتما واستمِدّا بذكري العونَ والتأييدَ واعلما أن أمراً من الأمور لا يتأتى ولا يتسنّى إلا بذكري .
{ اذهبا إلى فِرْعَوْنَ } جمعهما في صيغة أمر الحاضرِ مع غَيبة هارون إذ ذاك للتغليب ، وكذا الحالُ في صيغة النهي . روي أنه أوحي إلى هارونَ وهو بمصر أن يتلقّى موسى عليهما السلام ، وقيل : سمِع بإقباله فتلقاه { إِنَّهُ طغى } تعليلٌ لموجب الأمر .
والفاء في قوله تعالى : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً } لترتيب ما بعدها على طغيانه فإن تليينَ القولِ مما يكسِر سَوْرةَ عنادِ العُتاة ويُلين عريكةَ الطغاة . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا تُعنّفا في قولكما ، وقيل : القولُ اللين مثل : { هَل لَّكَ إلى أَن تزكى * وَأَهْدِيَكَ إلى رَبّكَ } فإنها دعوةٌ في صورة عَرْض ومَشورة ، ويرده ما سيجيء من قوله تعالى : { فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ } الآيتين ، وقيل : كنِّياه وكان له ثلاثُ كُنًى : أبو العباس وأبو الوليد وأبو مُرّة ، وقيل : عِداه شباباً لا يهرَم ويبقى له لذةُ المطعم والمشرب والمنكِح ومُلكاً لا يزول إلا بالموت ، وقرىء لَيْنا { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ } بما بلغتُماه من ذكري ويرغب فيما رغّبتماه فيه { أَوْ يخشى } عقابي ، ومحلُّ الجملة النصبُ على الحال من ضمير التثنية ، أي فقولا له قولاً ليناً راجين أن يتذكر أو يخشى ، وكلمةُ أو لمنع الخلوّ أي باشِرا الأمرَ مباشرةَ مَنْ يرجو ويطمع في أن يُثمر عملُه ولا يخيبَ سعيُه وهو يجتهد بطَوْقه ويحتشد بأقصى وُسْعه . وجدوى إرسالِهما إليه مع العلم بحاله إلزامُ الحجة وقطعُ المعذرة .(4/357)
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)
{ قَالاَ رَبَّنَا } أُسند القولُ إليهما مع أن القائلَ حقيقةً هو موسى عليه الصلاة والسلام بطريق التغليبِ إيذاناً بأصالته في كل قولٍ وفعلٍ وتبعيّةِ هارونَ عليه السلام له في كل ما يأتي ويذر ، ويجوز أن يكون هارونُ قد قال ذلك بعد تلاقيهما فحَكى ذلك مع قول موسى عليه السلام عند نزولِ الآية كما في قوله تعالى : { وَمَعِينٍ يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات } فإن هذا الخطابَ قد حُكي لنا بصيغة الجمع مع أن كلاًّ من المخاطَبين لم يخاطَب إلا بطريق الانفرادِ ضرورةَ استحالةِ اجتماعِهم في الوجود فكيف باجتماعهم في الخطاب { إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا } أي يعجَلَ علينا بالعقوبة ولا يصبِرَ إلى إتمام الدعوةِ وإظهارِ المعجزة من فرَط إذا تقدّم ومنه الفارِطُ وفرسٌ فارِطٌ يسبِق الخيلَ ، وقرىء يُفرِطَ من أفرطه إذا حمله على العجلة ، أي نخاف أن يحمِله حاملٌ من الاستكبار أو الخوف على المُلك أو غيرهما على المعاجلة بالعقاب { أَوْ أَن يطغى } أي يزداد طغياناً إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي لكمال جراءتِه وقساوته ، وإطلاقُه من حسن الأدب ، وإظهارُ كلمة أن مع سَداد المعنى بدونه لإظهار كمالِ الاعتناء بالأمرِ والإشعارِ بتحقق الخوفِ من كل منهما .
{ قَالَ } استئنافٌ مبني على السؤال الناشىءِ من النظم الكريم ، ولعل الفعلَ إسنادٌ إلى ضمير الغَيبة للإشعار بانتقال الكلامِ من مَساق إلى مساقٍ آخرَ ، فإن ما قبله من الأفعال الواردةِ على صيغة التكلم حكايةٌ لموسى عليه السلام بخلاف ما سيأتي من قوله تعالى : { قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاعلى } فإن ما قبله أيضاً واردٌ بطريق الحكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأنه قيل : فماذا قال لهما ربُّهما عند تضرُّعِهما إليه؟ فقيل : قال : { لاَ تَخَافَا } ما توهمتما من الأمرين وقوله تعالى : { إِنَّنِى مَعَكُمَا } تعليلٌ لموجب النهي ومزيدُ تسليةٍ لهما ، والمرادُ بالمعية كمالُ الحفظ والنُّصرة كما ينبىء عنه قوله تعالى : { أَسْمَعُ وأرى } أي ما يجري بينكما وبينه من قول وفعلٍ فأفعلُ في كل حال ما يليق بها من دفع ضُرّ وشر وجلب نفعٍ وخير . ويجوز أن لا يُقدَّر شيءٌ ، على معنى أنني حافظُكما سميعاً بصيراً والحافظ الناصرُ إذا كان كذلك فقد تم وبلغت النُّصرةُ غايتها { فَأْتِيَاهُ } أُمِرا بإتيانه الذي هو عبارةٌ عن الوصول إليه بعد ما أمرا بالذهاب إليه فلا تكرار ، وهو عطف على لا تخافا باعتبار تعليلِه بما بعده { فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ } أُمرا بذلك تحقيقاً للحق من أول الأمر ليعرِف الطاغيةُ شأنَهما ويبني جوابُه عليه ، وكذا التعرّضُ لربوبيته تعالى له والفاء في قوله تعالى : { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسراءيل } لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن كونَهما رسوليْ ربِّه مما يوجب إرسالَهم معهما ، والمرادُ بالإرسال إطلاقُهم من الأسر والقسر وإخراجُهم من تحت يدِه العاديَةِ لا تكليفُهم أن يذهبوا معهما إلى الشام كما ينبىء عنه قوله تعالى : { وَلاَ تُعَذّبْهُمْ } أي بإبقائهم على ما كانوا عليه من العذاب فإنهم كانوا تحت مَلَكَة القِبْط يستخدمونهم في الأعمال الصعبة الفادحة من الحفر ونقْلِ الأحجار وغيرهما من الأمور الشاقةِ ، ويقتُلون ذكورَ أولادِهم عاماً دون عام ويستخدمون نساءَهم ، وتوسيطُ حكمِ الإرسال بين بيان رسالتِهما وبين ذكرِ المجيء بآية دالةٍ على صحتها لإظهار الاعتناءِ به مع ما فيه من تهوين الأمرِ على فرعون ، فإن إرسالَهم معهما من غير تعرّض لنفسه وقومِه بفنون التكاليف الشاقةِ كما هو حكمُ الرسالة عادةً ليس مما يشُقّ عليه كلَّ المشقة ، ولأن في بيان مجيءِ الآية نوعَ طُولٍ كما ترى ، فتأخيرُ ذلك عنه مُخِلٌّ بتجاوب أطرافِ النظمِ الكريم ، وأما ما قيل من أن ذلك دليلٌ على أن تخليصَ المؤمنين من الكفرة أهمُّ من دعوتهم إلى الإيمان فكلاّ .(4/358)
{ قَدْ جئناك بِئَايَةٍ مّن رَّبّكَ } تقريرٌ لما تضمنه الكلامُ السابق من دعوى الرسالةِ وتعليلٌ لوجوب الإرسالِ ، فإن مجيئَهما بالآية من جهته تعالى مما يحقق رسالتَهما ويُقِرّها ويوجب الامتثالَ بأمرهما ، وإظهارُ اسمِ الربِّ في موضع الإضمار مع الإضافة إلى ضمير المخاطبِ لتأكيد ما ذكر من التقرير والتعليل ، وتوحيدُ الآيةِ مع تعدّدها لأن المرادَ إثباتُ الدعوى ببرهانها لا بيانُ تعدّد الحجةِ وكذلك قوله تعالى : { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ } وقولُه تعالى : { أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ } وأما قوله تعالى : { مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ } فالظاهرُ أن المرادَ بها آيةٌ من الآيات { والسلام } المستتبِعُ لسلامة الدارين من الله تعالى والملائكةِ وغيرهم من المسلمين { على مَنِ اتبع الهدى } بتصديق آياتِ الله تعالى الهاديةِ إلى الحق ، وفيه من ترغيبه في اتباعهما على ألطف وجهٍ مالا يخفى .(4/359)
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49)
{ إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَا } من جهة ربنا { أَنَّ العذاب } الدنيويَّ والأخروي { على مَن كَذَّبَ } أي بآياته تعالى { وتولى } أي أعرض عن قَبولها ، وفيه من التلطيف في الوعيد حيث لم يصرَّحْ بحلول العذاب به ما لا مزيد عليه .
{ قَالَ } أي فرعون بعد ما أتياه وبلَّغاه ما أُمرا به ، وإنما طُوي ذكرُه للإيجاز والإشعارِ بأنهما كما أُمرا بذلك سارعا إلى الامتثال به من غير تلعثم ، وبأن ذلك من الظهور بحيث لا حاجة إلى التصريح به { فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى } لم يُضِف الربَّ إلى نفسه ولو بطريق حكاية ما في قوله تعالى : { إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ } وقوله تعالى : { قَدْ جئناك بِئَايَةٍ مّن رَّبّكَ } لغاية عتوِّه ونهاية طُغيانه بل أضافه إليهما لما أن المرسِلَ لا بد أن يكون رباً للرسول ، أو لأنهما قد صرحا بربوبيته تعالى للكل بأن قالا : { إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين } كما وقع في سورة الشعراءِ ، والاقتصارُ هاهنا على ذكر ربوبيته تعالى لفرعون لكفايته فيما هو المقصودُ والفاءُ لترتيب السؤال على ما سبق من كونهما رسولَيْ ربِّهما ، أي إذا كنتما رسولَي ربِّكما فأخبِراني مَنْ ربُّكما الذي أرسلكما ، وتخصيصُ النداء بموسى عليه الصلاة والسلام مع توجيه الخطابِ إليهما لما أنه الأصلُ في الرسالة وهارونُ وزيرُه ، وأما ما قيل من أن ذلك لأنه قد عرف أن له عليه الصلاة والسلام رُتّةً فأراد أن يُفحِمه فيردُّه ما شاهده منه عليه الصلاة والسلام من حسن البيانِ القاطعِ لذلك الطمعِ الفارغ ، وأما قوله : { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } فمن غلوّه في الخُبث والدعارة كما مر .(4/360)
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)
{ قَالَ } أي موسى عليه الصلاة والسلام مجيباً له : { رَبَّنَا } إما مبتدأٌ وقوله تعالى : { الذى أعطى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ } خبرُه أو هو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ والموصولُ صفتُه ، وأياً ما كان فلم يريدا بضمير المتلكم أنفسَهما فقط حسبما أراد اللعينُ بل جميعَ المخلوقاتِ تحقيقاً للحق ورداً عليه كما يُفصح عنه ما في حيز الصلة ، أي هو ربُّنا الذي أعطى كلَّ شيء من الأشياء خلقَه أي صورتَه وشكلَه اللائقَ بما نيط به من الخواصّ والمنافِع ، أو أعطى مخلوقاتِه كلَّ شيء تحتاج هي إليه وترتفق به ، وتقديمُ المفعول الثاني للاهتمام به ، أو أعطى كلَّ حيوان نظيرَه في الخلق والصورة حيث زوّج الحصانَ بالحِجْر والبعيرَ بالناقة والرجلَ بالمرأة ولم يزوِّج شيئاً من ذلك بخلاف جنسِه ، وقرىء خَلَقه على صيغة الماضي على أن الجملة صفةٌ للمضاف أو المضافِ إليه ، وحَذفُ المفعولِ الثاني إما للاقتصار على الأول أي كلَّ شيء خلقه الله تعالى لم يحرِمْه من عطائه وإنعامِه ، أو للاختصار من كونه منوياً مدلولاً عليه بقرينة الحالِ أي أعطى كلَّ شيء خلقه الله تعالى ما يحتاج إليه .
{ ثُمَّ هدى } أي إلى طريق الانتفاعِ والارتفاق بما أعطاه وعرّفه كيف يَتوصّل إلى بقائه وكماله إما اختياراً كما في الحيوانات أو طبعاً كما في الجمادات والقُوى الطبيعية النباتية والحيوانية ، ولمّا كان الخلقُ الذي هو عبارةٌ عن تركيب الأجزاءِ وتسويةِ الأجسام متقدماً على الهداية التي هي عبارةٌ عن إيداع القُوى المحرِّكةِ والمدْرِكة في تلك الأجسامِ وُسِّط بينهما كلمةُ التراخي ، ولقد ساق عليه الصلاة والسلام جوابَه على نمط رائقٍ وأسلوب لائقٍ حيث بين أنه تعالى عالمٌ قادرٌ بالذات خالقٌ لجميع الأشياء مُنعِمٌ عليها بجميع ما يليق بها بطريق التفضلِ ، وضمّنه أن إرسالَه تعالى إياه إلى الطاغية من جملة هداياته سبحانه إياه بعد أن هداه إلى الحق بالهدايات التكوينيةِ حيث ركّب فيه العقلَ وسائرَ المشاعرِ والآلاتِ الظاهرةِ والباطنة .
{ قَالَ فَمَا بَالُ القرون الاولى } لما شاهد اللعينُ ما نظمه عليه الصلاة والسلام في سلك الاستدلالِ من البرهان النيّر على الطراز الرائِع خاف أن يُظهر للناس حقّيةَ مقالاتِه عليه الصلاة والسلام وبُطلانَ خرافات نفسِه ظهوراً بيّناً فأراد أن يصرِفه عليه الصلاة والسلام عن سَننه إلى ما لا يعنيه من الأمور التي لا تعلّق لها بالرسالات من الحكايات ، ويشغَلَه عما هو بصدده عسى يظهر فيه نوعُ غفلةٍ فيتسلق بذلك إلى أن يدّعيَ بين يدي قومه نوعَ معرفة ، فقال : ما حالُ القرونِ الماضية والأممِ الخالية وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصّلة؟ فأجاب عليه الصلاة والسلام : بأن العلمَ بأحوالهم مفصّلةً مما لا ملابسة له بمنصِب الرسالة وإنما علمُها عند الله عز وجل ، وأما ما قيل من أنه سأله عن حال مَنْ خلا من القرون وعن شقاء من شقيَ منهم وسعادةِ من سعِد فيأباه قوله تعالى : { قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبّى } فإن معناه أنه من الغيوب التي لا يعلمها إلا الله تعالى وإنما أنا عبدٌ لا أعلم منها إلا ما علّمنيه من الأمور المتعلقة بما أُرسلت به ، ولو كان المسؤولُ عنه ما ذكر من الشقاوة والسعادةِ لأجيب ببيان أن من اتبع الهدى منهم فقد سلِم ومن تولى فقد عُذّب حسبما نطق به قوله تعالى : { والسلام } الآيتين { فِى كتاب } أي مُثبْتٌ في اللوح المحفوظِ بتفاصيله ويجوز أن يكون ذلك تمثيلاً لتمكنه وتقرّره في علم الله عز وجل بما استحفظه العالَم ، وقيده بالكَتَبة كما يلوح به قوله تعالى { لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى } أي لا يُخطِىء ابتداءً ولا يذهب علمه بقاءً بل هو ثابتٌ أبداً فإنهما مُحالان عليه سبحانه ، وهو على الأول لبيان أن إثباتَه في اللوح ليس لحاجته تعالى إليه في العلم به ابتداءً أو بقاءً ، وإظهارُ ربي في موقع الإظمار للتلذذ بذكره ولزيادة التقريرِ والإشعار بعلة الحُكم فإن الربوبيةَ مما يقتضي عدمَ الضلالِ والنسيانِ حتماً ، ولقد أجاب عليه الصلاة والسلام عن السؤال بجوا عبقري بديعٍ حيث كشف عن حقيقة الحقِّ حجابَها مع أنه لم يخرُجْ عما كان بصدده من بيان شؤونِه تعالى ثم تخلّص إليه حيث قال بطريق الحكايةِ عن الله عز وجل لما سيأتي من الالتفات : { الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً } على أن الموصولَ إما مرفوعٌ على المدح أو منصوبٌ عليه أو خبرُ مبتدأ محذوف ، أي جعلها لكم كالمهد تتمهدونها أو ذاتَ مهدٍ وهو مصدرٌ سُمّي به المفعولُ ، وقرىء مِهاداً وهو اسمٌ لما يُمْهد كالفِراش أو جمعُ مهد أي جعل كلَّ موضع منها مهداً لكل واحد منكم { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } أي حصّل لكم طرقاً ووسّطها بين الجبال والأودية والبراري تسلُكونها من قُطْر إلى قطر لتقضُوا منها مآربَكم وتنتفعوا بمنافعها ومرافقها .(4/361)
{ وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء } هو المطر { فَأَخْرَجْنَا بِهِ } أي بذلك الماءِ وهو عطفٌ على أنزل داخلٌ تحت الحكاية ، وإنما التُفت إلى التكلم للتنبيه على ظهور ما فيه من الدِلالة على كمال القدرةِ والحكمة ، والإيذان بأنه لا يتأتى إلا من قادر مُطاعٍ عظيمِ الشأن تنقاد لأمره وتُذعِن لمشيئته الأشياءُ المختلفة كما في قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } وقولِه تعالى : { أَم مَّنْ خَلَقْنَا السموات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ } خلا أن ما قبل الالتفاتِ هناك صريحُ كلامِه تعالى وأما هاهنا فحكايةٌ عنه تعالى وجَعْلُ قوله تعالى : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ } هو المحكيَّ مع كون ما قبله كلاَم موسى عليه الصلاة والسلام خلافُ الظاهر مع أنه يفوّت حينئذ الالتفاتَ لعدم اتحادِ المتكلم { أزواجا } أصنافاً سميت بذلك لازدواجها واقترانِ بعضِها ببعض { مّن نبات } بيانٌ أو صفةٌ لأزواجاً أي كائنة من نبات وكذا قوله تعالى : { شتى } أي متفرقة جمعُ شتيت ، ويجوز أن يكون صفةً لنبات لما أنه في الأصل مصدرٌ يستوي فيه الواحد والجمع ، يعني أنها شتّى مختلفةٌ في الطعم والرائحة والشكل والنفع ، بعضُها صالحٌ للناس على اختلاف وجوهِ الصلاح وبعضُها للبهائم ، فإن من تمام نعمته تعالى أن أرزاقَ عبادِه لما كان تحصّلها بعمل الأنعامِ جعل علَفها مما يفضُل عن حاجاتهم ولا يليق بكونه طعاماً لهم .(4/362)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
وقوله تعالى :
{ كُلُواْ وارعوا أنعامكم } حال من ضمير فأخرجنا على إرادة القول أي أخرجنا منها أصنافَ النباتِ قائلين : كلوا وارعَوا أنعامَكم أي معدّيها لانتفاعكم بالذات وبالواسطة آذنين في ذلك { إِنَّ فِى ذَلِكَ } إشارةٌ إلى ما ذكر من شؤونه تعالى وأفعاله ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلو رتبتِه وبُعْدِ منزلته في الكمال ، والتنكيرُ في قوله تعالى : { لاَيَاتٍ } للتفخيم كماً وكيفاً أي لآياتٍ كثيرةً جليلةً واضحةَ الدِلالة على شؤون الله تعالى في ذاته وصفاتِه وأفعاله ، وعلى صحة نبوةِ موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام { لأُوْلِى النهى } جمع نُهْية سمّي بها العقلُ لنهيه عن اتباع الباطلِ وارتكاب القبائح كما سمّي بالعقل والحِجْر لعقله وحَجْره عن ذلك ، أي لذوي العقولِ الناهية عن الأباطيل التي من جملتها ما يدّعيه الطاغية ويقبله منه فئتُه الباغية ، وتخصيصُ كونها آياتٍ بهم مع أنها آياتٌ للعالمين باعتبار أنهم المنتفعون بها .
{ مِنْهَا خلقناكم } أي في ضمن خلقِ أبيكم آدمَ عليه الصلاة والسلام منها فإن كل فردٍ من أفراد البشر له حظٌّ من خلقه عليه الصلاة والسلام إذ لم تكن فطرتُه البديعةُ مقصورةً على نفسه عليه الصلاة والسلام ، بل كانت أنموذَجاً منطوياً على فطرة سائرِ أفرادِ الجنسِ انطواءً إجمالياً مستتبِعاً لجَريان آثارِهما على الكل فكان خلقُه عليه الصلاة والسلام منها خلقاً للكل منها ، وقيل : المعنى خلقنا أبدانَكم من النُطفة المتولدة من الأغذية المتولّدة من الأرض بوسائطَ ، وقيل : إن الملَك الموكلَ بالرحِم يأخذ من تربة المكان الذي يُدفن فيه المولود فيبدّدها على النطفة فيخلق من التراب والنطفة { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } بالإماتة وتفريقِ الأجزاء ، وإيثار كلمة في على كلمة إلى للدِلالة على الاستقرار المديدِ فيها { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى } بتأليف أجزائِكم المتفتّتة المختلطةِ بالتراب على الهيئة السابقةِ وردِّ الأرواح إليها ، وكونُ هذا الإخراجِ تارةً أخرى باعتبار أن خلقَهم من الأرض إخراجٌ لهم منها وإن لم يكن على نهج التارةِ الثانيةِ ، والتارة في الأصل اسمٌ للتَّوْر الواحد وهو الجرَيانُ ثم أطلق على كل فَعْلة واحدة من الفَعَلات المتجددة كما مر في المرة .
{ وَلَقَدْ أريناه } حكايةٌ إجماليةٌ لما جرى بين موسى عليه الصلاة والسلام وبين فرعونَ إثرَ حكايةِ ما ذكره عليه الصلاة والسلام بجلائل نَعمائِه الداعيةِ له إلى قَبول الحقِّ والانقيادِ له ، وتصديرُها بالقسم لإبراز كمالِ العنايةِ بمضمونها وإسنادُ الإراءةِ إلى نون العظمةِ نظراً إلى الحقيقة لا إلى موسى نظراً إلى الظاهر لتهويل أمرِ الآياتِ وتفخيمِ شأنها وإظهار كمالِ شناعةِ اللعين وتماديه في المكابرة والعناد ، أي وبالله لقد بصّرنا فرعونَ أو عرّفناه { ءاياتنا } حين قال لموسى عليه الصلاة والسلام :(4/363)
{ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء للناظرين } وصيغةُ الجمع مع كونهما اثنتين باعتبار ما في تضاعيفهما من بدائع الأمورِ التي كلٌّ منها آيةٌ بينةٌ لقوم يعقلون حسبما بين في تفسير قوله تعالى : { اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بئاياتى } وقد ظهر عند فرعونَ أمورٌ أُخَرُ كلُّ واحد منها داهيةٌ دهياءُ ، فإنه روي أنه عليه الصلاة والسلام لما ألقاها انقلب ثعباناً أشعَرَ فاغراً فاه بين لحييه ثمانون ذراعاً وضَع لَحْيَه الأسفلَ على الأرض والأعلى على سور القصر وتوجه نحوَ فرعون ، فهرب وأحدث وانهزم الناسُ مزدحِمين ، فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً من قومه ، فصاح فرعونُ : ياموسى أنشدك بالذي أرسلك إلا أخذتَه فأخذه فعاد عصاً ، وروي أنها انقلبت حيةً فارتفعت في السماء قدرَ ميلٍ ثم انحطت مُقبلةً نحو فرعون وجعلت تقول : يا موسى مُرْني بما شئت ، ويقول فرعون : أنشدك الخ ، ونزع يدَه من جيبه فإذا هي بيضاءُ بياضاً نورانياً خارجاً عن حدود العادات قد غلب شعاعُه شعاعَ الشمس يجتمع عليه النظّارة تعجباً من أمره ، ففي تضاعيف كلَ من الآيتين آياتٌ جمّةٌ لكنها لما كانت غيرَ مذكورةٍ صراحة أُكدتْ بقوله تعالى : { كُلَّهَا } كأنه قيل : أريناه آيتَيْنا بجميع مُستتبَعاتِهما وتفاصيلِهما قصداً إلى بيان إنه لم يبقَ له في ذلك عذرٌ ولا مساغَ لعد بقية الآياتِ التسعِ منها لما أنها إما ظهرت على يده عليه الصلاة والسلام بعد ما غلب السحرةَ على مهل في نحو من عشرين سنةً كما مر في تفسير سورة الأعراف ، ولا ريب في أن أمرَ السحرةِ مترقَّبٌ بعُد ، وأبعدُ من ذلك أن يُعدَّ منها ما جُعل لإهلاكهم لا لإرشادهم إلى الإيمان من فلْق البحرِ وما ظهر بعد مهلِكِه من الآيات الظاهرةِ لبني إسرائيل ، من نتْق الجبل والحجر سواءٌ أريد به الحجرُ الذي فرَّ بثويه أو الذي انفجرت منه العيون ، وكذا أن يُعدّ منها الآياتُ الظاهرةُ على يد الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام بناءً على أن حكايتَه عليه الصلاة والسلام إياها لفرعون في حكم إظهارِها بين يديه وإراءتِه إياها لاستحالة الكذب عليه عليه الصلاة والسلام ، فإن حكايتَه عليه الصلاة والسلام إياها لفرعون مما لم يجْرِ ذكرُه هاهنا على أن ما سيأتي من حمل ما أظهره عليه الصلاة والسلام على السحر والتصدي للمعارضة بالمثل يأباه إباءً بيّناً ، وينطِق بأن المرادَ بها ما ذكرناه قطعاً ولولا ذلك لجاز جعلُ ما فصله عليه الصلاة والسلام من أفعاله تعالى الدالةِ على اختصاصه بالربوبية وأحكامِها من جملة الآيات { فَكَذَّبَ } موسى عليه الصلاة والسلام من غير تردّد وتأخُّر مع ما شاهده في يده من الشواهد الناطقةِ بصدقه جحوداً وعِناداً { وأبى } الإيمانَ والطاعةَ لعتوّه واستكبارِه ، وقيل : كذب بالآيات جميعاً وأبى أن يقبل شيئاً منها أو أبى قَبولَ الحق(4/364)
قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)
وقوله تعالى : { قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ ياموسى } استئنافٌ مبينٌ لكيفية تكذيبه وإبائِه ، والهمزةُ لإنكار الواقعِ واستقباحِه وادعاءِ أنه أمرٌ مُحال ، والمجيءُ إما على حقيقته أو بمعنى الإقبال على الأمر والتصدي له ، أي أجئتنا من مكانك الذي كنتَ فيه بعد ما غِبت عنا ، أو أقبلت علينا لتُخرِجنا من مصرَ بما أظهرْته من السحر فإن ذلك مما لا يصدُر عن العاقل لكونه من باب محاولة المُحال ، وإنما قاله لحمل قومِه على غاية المقْت لموسى عليه الصلاة والسلام بإبراز أن مرادَه عليه الصلاة والسلام ليس مجردَ إنجاءِ بني إسرائيلَ من أيديهم بل إخراجُ القِبط من وطنهم وحيازةُ أموالِهم وأملاكهم بالكلية حتى لا يتوجّهَ إلى اتباعه أحدٌ ويبالغوا في المدافعة والمخاصمة ، وسمي ما أظهره عليه الصلاة والسلام من المعجزة الباهرة سحراً لتجسيرهم على المقابلة ثم ادّعى أنه يعارضه بمثل ما أتى به عليه الصلاة والسلام فقال : { فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مّثْلِهِ } الفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها واللامُ جوابُ قسمٍ محذوف كأنه ، قيل : إذا كان كذلك فوالله لنأتينك بسحر مثلِ سحرِك { فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً } أي وعداً كما ينبىء عنه وصفُه بقوله تعالى : { لاَّ نُخْلِفُهُ } فإنه المناسبُ لا المكانُ والزمانُ أي لا نخلف ذلك الوعد { نَحْنُ وَلا أَنتَ } وإنما فوّض اللعينُ أمرَ الوعد إلى موسى عليه الصلاة والسلام للاحتراز عن نسبته إلى ضعف القلب وضيقِ المجال وإظهارِ الجلادة وإراءة أنه متمكّنٌ من تهيئه أسباب المعارضةِ وترتيبِ آلاتِ المغالبة طال الأمدُ أم قصُر ، كما أن تقديمَ ضميره على ضمير موسى عليه الصلاة والسلام وتوسيطَ كلمةِ النفي بينهما للإيذان بمسارعته إلى عدم الإخلافِ وأن عدم إخلافِه لا يوجب إخلافَه عليه الصلاة والسلام ، ولذلك أُكّد النفيُ بتكرير حرفِه ، وانتصابُ { مَكَاناً سُوًى } بفعل يدل عليه المصدرُ لا به فإنه موصوفٌ أو بأنه بدلٌ من موعداً على تقدير مكان مضاف إليه فحينئذ تكون مطابقةُ الجواب في قوله تعالى : { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } من حيث المعنى فإن يوم الزينة يدلّ على مكان مشتهرٍ باجتماع الناس فيه يؤمئذ ، أو بإضمار مثلَ مكانِ موعدِكم مكانَ يوم الزينة كما هو على الأول ، أو وعدُكم وعدُ يوم الزينة ، وقرىء يومَ بالنصب وهو ظاهرٌ في أن المراد به المصدرُ ، ومعنى سُوى مُنتصَفاً تستوي مسافته إلينا وإليك وهو في النعت كقولهم : قوم عدي في الشذوذ وقرىء بكسر السين . وقيل : يومُ الزينة يومُ عاشوراءَ أو يومُ النَّيْروز أو يومُ عيد كان لهم في كل عام وإنما خصه عليه الصلاة والسلام بالتعيين لإظهار كمالِ قوتِه وكونِه على ثقة من أمره وعدمِ مبالاته بهم لما أن ذلك اليومَ وقتُ ظهورِ غاية شوكتِهم ، وليكون ظهورُ الحق وزهوقُ الباطلِ في يوم مشهود على رؤوس الأشهاد ويشيع ذلك فيما بين كل حاضرٍ وبادٍ { وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى } عطفٌ على يومُ أو الزينةِ ، وقرىء على البناء للفاعل بالتاء على خطاب فرعونَ وبالياء على أن الضمير له على سنن الملوك أو لليوم .(4/365)
{ فتولى فِرْعَوْنُ } أي انصرف عن المجلس { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } أي ما يكاد به من السحرة وأدواتِهم { ثُمَّ أتى } أي الموعدَ ومعه ما جمعه من كيده ، وفي كلمة التراخي إيماءٌ إلى أنه لم يسارعْ إليه بل أتاه بعد لأْيٍ وتلعثم .
وقوله تعالى : { قَالَ لَهُمْ موسى } الخ ، بطريق الاستئنافِ المبنيِّ على السؤال يقضي بأن المترقَّبَ عن أحواله عليه الصلاة والسلام حينئذ والمحتاجَ إلى السؤال والبيانِ ليس إلا ما صدر عنه عليه الصلاة والسلام من الكلام ، وأما إتيانُه أولاً فأمرٌ محققٌ غنيٌّ عن التصريح به كأنه قيل : فمادا صنع موسى عليه الصلاة والسلام عند إتيانِ فرعونَ بمن جمعه من السحرة؟ فقيل : قال لهم بطريق النصيحة : { وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً } بأن تدْعوا آياتِه التي ستظهر على يدي سِحراً كما فعل فرعون { فَيُسْحِتَكُم } أي يستأصلكم بسببه { بِعَذَابِ } هائل لا يقادَر قدرُه ، وقرىء يَسحَتُكم من الثلاثي على لغة أهلِ الحجاز ، والإسحاتُ لغةُ بني تميم ونجد { وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى } أي على الله كائناً من كان بأي وجهٍ كان فيدخل فيه الافتراءُ المنهيُّ عنه دخولاً أولياً ، وقد خاب فرعونُ المفتري فلا تكونوا مثلَه في الخَيبة ، والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبلها .(4/366)
فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)
{ فتنازعوا } أي السحرةُ حين سمعوا كلامَه عليه الصلاة والسلام كأن ذلك غاظهم فتنازعوا { أَمَرَهُمْ } الذي أريد منهم مِنْ مغالبته عليه الصلاة والسلام وتشاوروا وتناظروا { بَيْنَهُمْ } في كيفية المعارضةِ وتجاذبوا أهدابَ القول في ذلك { وَأَسَرُّواْ النجوى } أي من موسى عليه الصلاة والسلام لئلا يقِفَ عليه فيدافعَه وكان نجواهم ما نطَق به قوله تعالى : { قَالُواْ } أي بطريق التناجي والإسرار :
{ إِنْ هاذان لساحران } الخ ، فإنه تفسيرٌ له ونتيجةٌ لتنازعهم وخلاصةُ ما استقرت عليه آراؤُهم بعد التناظرِ والتشاور ، وإنْ مخففةٌ من إنّ قد أهملت عن العمل واللامُ فارقةٌ ، وقرىء بتشديد نون هذان ، وقيل : هي نافيةٌ واللامُ بمعنى إلا أي ما هذان إلا ساحران ، وقرىء إنّ بالتشديد وهذان اسمُها على لغة بلحارث بن كعب فإنهم يُعربون التثنيةَ تقديراً ، وقيل : اسمُها ضميرُ الشأن المحذوفُ وهذان لساحران خبرُها ، وقيل : إن بمعنى نعم وما بعدها جملةٌ من مبتدأ وخبر وفيهما أن اللامَ لا تدخُل خبرَ المبتدأ ، وقيل : أصله إنه هذان لهما ساحران فخذف الضمير وفيه أن المؤكدَ باللام لا يليق به الحذفُ ، وقرىء إن هذين لساحران وهي قراءةٌ واضحة { يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ } أي أرض مصرَ بالاستيلاء عليها { بِسِحْرِهِمَا } الذي أظهراه من قبل { وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى } أي بمذهبكم الذي هو أفضلُ المذاهب وأمثلُها بإظهار مذهبهما وإعلاءِ دينهما يريدون به ما كان عليه قومُ فرعون لا طريقةَ السحر فإنهم ما كانوا يعتقدونه ديناً ، وقيل : أرادوا أهلَ طريقتكم وهم بنو إسرائيلَ لقول موسى عليه الصلاة والسلام : أرسل معنا بني إسرائيلَ وكانوا أربابَ علمٍ فيما بينهم ، ويأباه أن إخراجَهم من أرضهم إنما يكون بالاستيلاء عليها تمكناً وتصرفاً فكيف يتصور حينئذ نقلُ بني إسرائيلَ إلى الشام؟ وحملُ الإخراج على أخراج بني إسرائيلَ منها مع بقاء قومِ فرعون على حالهم مما يجب تنزيهُ التنزيلِ عن أمثاله على أن هذه المقالةَ منهم للإغراء بالمبالغة في المغالبة والاهتمامِ بالمناصبة فلا بد أن يكون الإنذارُ والتحذيرُ بأشد المكاره وأشقِّها عليهم ، ولا ريب في أن إخراجَ بني إسرائيلَ من بينهم والذهابَ بهم إلى الشام وهو آمنون في ديارهم ليس فيه كثيرُ محذورٍ ، وقيل : الطريقةُ اسمٌ لوجوه القوم وأشرافِهم لما أنهم قُدوةٌ لغيرهم ولا يخفى أن تخصيصَ الإذهاب بهم مما لا مزيةَ فيه .(4/367)
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65)
وقوله تعالى : { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } تصريحٌ بالمطلوب إثرَ تمهيدِ المقدّمات والفاءُ فصيحةٌ ، أي إذ كان الأمرُ كما ذُكر من كونهما ساحرَين يريدان بكم ما ذُكر من الإخراج والإذهاب فأزمعوا كيدَكم واجعلوه مُجمَعاً عليه بحيث لا يتخلّف عنه واحدٌ منكم وارمُوا عن قوس واحدةٍ ، وقرىء فاجْمَعوا من الجمع ويعضدُه قوله تعالى : { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } أي فاجْمَعو أدواتِ سحركم ورتّبوها كما ينبغي { ثُمَّ ائتوا صَفّاً } أي مصطفّين ، أُمروا بذلك لأنه أهْيبُ في صدور الرائين وأدخلُ في استجلاب الرهبة من المشاهِدين ، قيل : كانوا سبعين ألفاً مع كل منهم حبلٌ وعصاً وأقبلوا عليه إقبالةً واحدة ، وقيل : كانوا اثنين وسبعين ساحراً اثنان من القِبط والباقي من بني إسرائيلَ ، وقيل : تِسعَمائة : ثلاثُمائةٍ من الفرس ، وثلاثُمائةٍ من الروم ، وثلاثمائة من الإسكندرية ، وقيل : خمسةَ عشرَ ألفاً ، وقيل : بضعةً وثلاثين ألفاً والله أعلم . ولعل الموعدَ كان مكاناً متسعاً خاطبهم موسى عليه الصلاة والسلام بما ذكر في قُطر من أقطاره وتنازعوا أمرهم في قُطر آخرَ منه ، ثم أُمروا بأن يأتوا وسَطَه على الوجه المذكور ، وقد فُسّر الصفُّ بالمصلّى لاجتماع الناسِ فيه في الأعياد والصلواتِ ووجهُ صِحّتِه أن يكون علماً لموضع معّينٍ من المكان الموعود ، وأما إرادةُ مصلًّى من المصلَّيات بعد تعين المكان الموعودِ فلا مساغ لها قطعاً ، وقوله تعالى : { وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى } اعتراضٌ تذييليٌّ من قِبلهم مؤكدٌ لما قبله من الأمرين ، أي قد فاز بالمطلوب من غلب يريدون بالمطلوب : ما وعدهم فرعونُ من الأجر والتقريب حسبما نطق به قوله تعالى : { قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين } وبمن غلب : أنفسَهم جميعاً على طريقة قولهم : { بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون } أو مَنْ غلب منهم حثاً لهم على بذل المجهودِ في المغالبة ، هذا هو اللائقُ بتجاوب أطرافِ النظمِ الكريم ، وقد قيل : كان نجواهم أن قالوا حين سمِعوا مقالةَ موسى عليه الصلاة والسلام : ما هذا بقول ساحر ، وقيل : كان ذلك أن قالوا : إن غَلَبنا موسى اتّبعناه ، وقيل : كان ذلك قولَهم : إن كان ساحراً فسنغلِبه وإن كان من السماء فله أمرٌ ، فيكون إسرارُهم حينئذ من فرعون ومَلئِه ويُحمل قولُهم : إن هذان لساحران الخ ، على أنهم اختلفوا فيما بينهم على الأقاويل المذكورةِ ثم رجعوا عن ذلك بعد التنازُعِ والتناظُر واستقرت آراؤهم على ذلك وأبَوْا إلا المناصبةَ للمعارضة ، وأما جعلُ ضمير قالوا لفرعون وملَئِه على أنهم قالوا ذلك للسحرة رداً لهم عن الاختلاف وأمروهم بالإجماع والإزماعِ ، وإظهارِ الجلادة بالإتيان على وجه الاصطفافِ فمُخِلٌّ بجزالة النظمِ الكريم كما يشهد به الذوقُ السليم .
{ قَالُواْ } استئنافٌ مبنيٌ على سؤال ناشىءٍ من حكاية ما جرى بين السحرة من المقارنة ، كأنه قيل : فماذا فعلوا بعد ما قالوا فيما بينهم ما قالوا؟ فقيل : قالوا : { ياموسى } وإنما لم يتعرض لإجماعهم وإتيانِهم بطريق الاصطفافِ إشعاراً بظهور أمرِهما وغناهما عن البيان { إِمَّا أَن تُلْقِىَ } أي ما تُلقيه أولاً على أن المفعولَ محذوفٌ لظهوره أو تفعل الإلقاءَ أولاً على أن الفعلَ منزّلٌ منزلةَ اللازم { وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى } ما يُلقيه أو أولَ من يفعل الإلقاءَ ، خيّروه عليه الصلاة والسلام بما ذُكر مراعاةً للأدب لِما رأَوا منه عليه الصلاة والسلام ما رأَوا من مخايل الخيرِ ورزانةِ الرأْي وإظهاراً للجلادة بإراءة أنه لا يختلف حالُهم بالتقديم والتأخير ، وأنْ مع ما في حيزها منصوبٌ بفعل مضمر أو مرفوعٌ بخبرية مبتدأ محذوفٍ أي اخترْ إلقاءَك أولاً أو إلقاءَنا ، أو الأمرُ إما إلقاؤُك أو إلقاؤنا .(4/368)
قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
{ قَالَ } استئنافٌ كما سلف ناشىءٌ من حكاية تخييرِ السحرةِ إياه عليه الصلاة والسلام ، كأنه قيل : فماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ فقيل : قال : { بَلْ أَلْقُواْ } أنتم أولاً مقابلةً للأدب بأحسنَ مِنْ أدبهم حيث بتّ القولَ بإلقائهم أولاً ، وإظهاراً لعدم المبالاةِ بسحرهم ومساعدةً لما أوهموا من الميل إلى البدء وليبُرِزوا ما معهم ويستفرغوا أقصى جُهدِهم ويستنفدوا قُصارى وُسعِهم ، ثم يظهر الله عز وجل سلطانَه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه لمّا علم أن ما سيظهر بيده سيلقَف ما يصنعون من مكايد السحر .
{ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى } الفاءُ فصيحة معربة عن مسارعتهم إلى الإلقاء كما في قوله تعالى : { أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق } أي فألقَوا فإذا حبالُهم وهي للمفاجأة والتحقيقُ أنها أيضاً ظرفيةٌ تستدعي متعلَّقاً ينصِبها وجملةً تضاف إليها ، ولكنها خُصت بكون متعلَّقِها فعلَ المفاجأة والجملةُ ابتدائيةٌ ، والمعنى فألقَوا ففاجأ موسى عليه الصلاة والسلام وقت أن يُخيَّل إليه سعيُ حبالِهم وعِصِيِّهم من سحرهم وذلك أنهم كانوا لطّخوها بالزئبق فلما ضربت عليها الشمسُ اضطربت واهتزت فخُيل إليه أنها تتحرك ، وقرىء تُخيِّل بالتاء على إسناده إلى ضمير الحبال والعِصِيّ وإبدالِ ( أنها تسعى ) منه بدلَ اشتمالٍ ، وقرىء يُخيِّل بإسناده إليه تعالى ، وقرىء تَخَيَّل بحذف إحدى التاءين من تتخيل { فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً موسى } أي أضمر فيها بعضَ خوفٍ من مفاجأته بمقتضى البشريةِ المجبولةِ على النفْرة من الحيّات والاحترازِ من ضررها المعتاد من اللسْع ونحوِه ، وقيل : من أن يخالج الناسَ شكٌّ فلا يتبعوه وليس بذاك كما ستعرفه ، وتأخيرُ الفاعل لمراعاة الفواصل .
{ قُلْنَا لاَ تَخَفْ } أي ما توهمتَ { إِنَّكَ أَنتَ الأعلى } تعليلٌ لما يوجبه النهيُ من الانتهاء عن الخوف وتقريرٌ لغلبته على أبلغ وجهٍ وآكَدِه كما يُعرب عنه الاستئنافُ ، وحرفُ التحقيق وتكريرُ الضمير وتعريفُ الخبر ولفظُ العلوّ المنبىءِ على الغلَبة الظاهرة وصيغةُ التفضيل .
{ وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ } أي عصاك كما وقع في سورة الأعراف ، وإنما أُوثر الإبهامُ تهويلاً لأمرها وتفخيماً لشأنها وإيذاناً بأنها ليست من جنس العِصِيِّ المعهودة المستتبعةِ للآثار المعتادة ، بل خارجةٌ عن حدود سائرِ أفراد الجنسِ مبهمةُ الكُنْهِ مستتبِعةٌ لآثار غريبةٍ . وعدمُ مراعاة هذه النُّكتةِ عند حكايةِ الأمرِ في موضع آخرَ لا يستدعي عدمَ مراعاتها عند وقوع المحكيّ . هذا وحملُ الإبهامِ على التحقير بأن يراد لا تُبالِ بكثرة حبالِهم وعصيِّهم وألقِ العُوَيدَ الذي في يدك فإنه بقدرة الله تعالى يلقَفها مع وَحدته وكثرتها وصِغره وعِظَمها يأباه ظهورُ حالها فيما مر مرتين ، على أن ذلك المعنى إنما يليق بما لو فعلتْ العصا ما فعلتْ وهي على هيئتها الأصليةِ وقد كان منها ما كان وقوله تعالى : { تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ } بالجزم جواباً للأمر من لقِفه إذا ابتلعه والتقمه بسرعة ، والتأنيثُ لكون ( ما ) عبارةً عن العصا أي تبتلع ما صنعوه من الحبال والعِصِيّ التي خُيّل إليك سعيُها وخِفّتُها ، والتعبيرُ عنها بما صنعوا للتحقير والإيذانِ بالتمويه والتزوير ، وقرىء تَلَقّف بتشديد القاف وإسقاطِ إحدى التاءين من تتلقف ، وقرىء بالرفع على الحال أو الاستئنافِ والجملةُ الأمرية معطوفةٌ على النهي متمّمةٌ بما في حيزها لتعليل موجبِه ببيان كيفيةِ غلبتِه عليه الصلاة والسلام وعلوِّه ، فإن ابتلاعَ عصاه لأباطيلهم التي منها أوجسَ في نفسه ما أوجس مما يقلَع مادّته بالكلية ، وهذا كما ترى صريحٌ في أن خوفَه عليه الصلاة والسلام لم يكن مما ذكر من مخالجة الشكِّ للناس وعدمِ اتّباعِهم له عليه الصلاة السلام وإلا لعُلّل بما يُزيله من الوعد بما يوجب إيمانَهم واتباعَهم له عليه الصلاة والسلام ، وقوله تعالى : { إِنَّ مَا صَنَعُواْ } الخ ، تعليلٌ لقوله تعالى : { تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ } وما إما موصولةٌ أو موصوفةٌ أي إن الذي صنعوه أو إن شيئاً صنعوه { كَيْدُ سَاحِرٍ } بالرفع على أنه خبرٌ لأن أن كيدُ جنسِ الساحر ، وتنكيرُه للتوسل به إلى تنكير ما أضيف إليه للتحقير ، وقرىء بالنصب على أنه مفعولُ صنعوا و ( ما ) كافةٌ ، وقرىء كيدُ سحرٍ على أن الإضافةَ للبيان كما في علمُ فقةٍ أو على معنى ذي سحر أو على تسمية الساحر سحراً مبالغةً وقوله تعالى : { وَلاَ يُفْلِحُ الساحر } أي هذا الجنسُ { حَيْثُ أتى } أي حيث كان وأين أقبل ، من تمام التعليل ، وعدمُ التعرض لشأن العصا وكونِها معجزةً إلهية مع ما في ذلك من تقوية التعليلِ للإيذان بظهور أمرِها ، والفاء في قوله تعالى :
{ فَأُلْقِىَ السحرة سُجَّداً } كما سلف فصيحةٌ معربةٌ عن محذوفَين ينساق إليهما النظمُ الكريم غنيّين عن التصريح بهما لعدم احتمال تردّدِ موسى عليه السلام في الامتثال بالأمر واستحالةِ عدمِ وقوعِ اللقْف الموعود ، أي فألقاه عليه السلام فوقع ما وقع من اللقف فألقى السحرةُ سجّداً لما تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر وإنما هي آيةٌ من آيات الله عز وجل .(4/369)
روي أن رئيسَهم قال : كنا نغلِب الناسَ وكانت الآلاتُ تبقى علينا ، فلو كان هذا سحراً فأين ما ألقَيناه من الآلاتِ؟ فاستَدلّ بتغير أحوال الأجسامِ على الصانع القادرِ العالِم ، وبظهور ذلك على يد موسى عليه الصلاة والسلام على صحة رسالتِه لا جرم ، ألقاهم ما شاهدوه على وجوههم وتابوا وآمنوا وأتَوا بما هو غايةُ الخضوعِ ، قيل : لم يرفعوا رؤوسَهم حتى رأَوا الجنةَ والنارَ والثوابَ والعقاب ، وعن عِكرمة لما خرّوا سجداً أراهم الله تعالى في سجودهم منازلَهم في الجنة ولا ينافيه قولهم : { إِنَّا امَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خطايانا } الخ ، لأن كونَ تلك المنازلِ منازلَهم باعتبار صدورِ هذا القول عنهم { قَالُواْ } استئناف كما مر غيرَ مرة { امَنَّا بِرَبّ هارون وموسى } تأخيرُ موسى عند حكاية كلامِهم لرعاية الفواصل وقد جُوّز أن يكون ترتيبُ كلامهم أيضاً هكذا ، إما لِكبَر سنَّ هارون عليه الصلاة والسلام وإما للمبالغة في الاحتراز عن التوهم الباطلِ من جهة فرعونَ وقومِه ، حيث كان فرعونُ ربى موسى عليه الصلاة والسلام في صِغَره فلو قدّموا موسى عليه الصلاة والسلام لربما توهم اللعينُ وقومُه من أول الأمر أن مرادَهم فرعونُ .(4/370)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)
{ قَالَ } أي فرعونُ للسحرة : { ءَامَنْتُم لَهُ } أي لموسى عليه الصلاة والسلام ، واللامُ لتضمين الفعلِ معنى الاتباعِ ، وقرىء على الاستفهام التوبيخي { قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ } أي من غير أن آذنَ لكم في الإيمان له كما في قوله تعالى : { لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى } لا أن إذنَه لهم في ذلك واقعٌ بعده أو متوقَّع { أَنَّهُ } يعني موسى عليه الصلاة والسلام { لَكَبِيرُكُمُ } أي في فنكم وأعلمُكم به وأستاذكُم { الذى عَلَّمَكُمُ السحر } فتواطأتم على ما فعلتم أو فعلّمكم شيئاً دون شيء فلذلك غلبكم ، وهذه شُبهةٌ زوّرها اللعينُ وألقاها على قومه وأراهم أن أمرَ الإيمان منوطٌ بإذنه فلما كان إيمانُهم بغير إذنه لم يكن معتدًّا به وأنهم من تلامذته عليه الصلاة والسلام ، فلا عبرةَ بما أظهره كما لا عبرةَ بما أظهروه وذلك لِما اعتراه من الخوف من اقتداء الناسِ بالسحرة في الأيمان بالله تعالى ثم أقبل عليهم بالوعيد المؤكّد حيث قال : { فَلاقَطّعَنَّ } أي فوالله لأُقطعن { أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ } أي اليدَ اليمنى والرجلَ اليسرى ، ومن ابتدائيةٌ كأن القطعَ ابتداءٌ من مخالفة العضو ، فإن المبتدِىءَ من المعروض مبتدِىءٌ من العارض أيضاً ، وهي مع مجرورها في حيّز النصبِ على الحالية أي لأقطعنّها مختلفاتٍ ، وتعيينُ تلك الحال للإيذان بتحقيق الأمر وإيقاعِه لا محالة بتعيين كيفيتِه المعهودة في باب السياسة لا لأنها أفظعُ من غيرها { وَلاصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النخل } أي عليها ، وإيثارُ كلمةِ ( في ) للدلالة على إبقائهم عليها زماناً مديداً تشبيهاً لاستمرارهم عليها باستقرار المظروفِ المشتملِ عليه ، قالوا : وهو أولُ من صَلَب ، وصيغةُ التفعيل في الفعلَين للتكثير وقد قرئا بالتخفيف { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا } يريد به نفسه وموسى عليه الصلاة والسلام لقوله : آمنتم له قبل أن آذَنَ لكم ، واللامُ مع الإيمان في كتاب الله تعالى لغيره تعالى وهذا إما لقصد توضيعِ موسى عليه الصلاة والسلام والهُزْءِ به لأنه لم يكن من التعذيب في شيء ، وإما لإراءة أن إيمانَهم لم يكن عن مشاهدة المعجزة ومعاينةِ البرهان بل كان عن خوف من قِبل موسى عليه الصلاة والسلام حيث رأوا ابتلاعَ عصاه لحبالهم وعِصِيَّهم فخافوا على أنفسهم أيضاً ، وقيل : يريد به ربَّ موسى الذي آمنوا به بقولهم : آمنا برب هارون وموسى { أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى } أي أدوم .
{ قَالُواْ } غير مكترثين بوعيده { لَن نُّؤْثِرَكَ } لن نختارك بالإيمان والاتّباع { على مَا جَاءنَا } من الله على يد موسى عليه الصلاة والسلام { مِنَ البينات } من المعجزات الظاهرة فإن ما ظهر بيده عليه الصلاة والسلام من العصا كان مشتملاً على معجزات جمّة كما مر تحقيقه فيما سلف ، فإنهم كانوا عارفين بجلائلها ودقائِقها { والذى فَطَرَنَا } أي خلقنا وسائرَ المخلوقات وهو عطفٌ على ما جاءنا وتأخيرُه لأن ما في ضمنه آيةٌ عقليةٌ نظرية وما شاهدوه آيةٌ حسيةٌ ظاهرة ، وإيرادُه تعالى بعنوان فاطريته تعالى لهم للإشعار بعلة الحُكم فإن خالقيتَه لهم وكونَ فرعونَ من جملة مخلوقاتِه مما يوجب عدَم إيثارِهم له عليه سبحانه وتعالى ، وهذا جوابٌ منهم لتوبيخ فرعونَ بقوله : { قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ } ، وقيل : هو قسَمٌ محذوفُ الجواب لدِلالة المذكورِ عليه أي وحقَّ الذي فطرنا لا نؤثرك الخ ، ولا مساغَ لكون المذكورِ جواباً له عند من يجوّز تقديمَ الجواب أيضاً لما أن القسمَ لا يجاب بلن إلا على شذوذ ، وقوله تعالى : { فاقض مَا أَنتَ قَاضٍ } جوابٌ عن تهديده بقوله : لأقطعن الخ ، أي فاصنع ما أنت صانعُه أو فاحكم به وقوله تعالى : { قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا } مع ما بعده تعليلٌ لعدم المبالاة المستفادِ مما سبق من الأمر بالقضاء ، أي إنما تصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في هذه الحياةِ الدنيا فحسبُ ، وما لنا من رغبة في عذْبها ولا رهبةٍ من عذابها .(4/371)
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)
{ إِنَّا ءَامَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خطايانا } التي اقترفنا فيها من الكفر والمعاصي ولا يؤاخذَنا بها في الدار الآخرة ، لا ليمتّعنا بتلك الحياةِ الفانية حتى نتأثرَ بما أوعدتَنا به من القطع والصلب ، وقوله تعالى : { وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر } عطفٌ على خطايانا أي ويغفرَ لنا السحرَ الذي عمِلناه في معارضة موسى عليه السلام بإكراهك وحشرِك إيانا من المدائن القاصية ، خصّوه بالذكر مع اندراجه في خطاياهم إظهاراً لغاية نفرتِهم عنه ورغبتهم في مغفرته ، وذكرُ الإكراه للإيذان بأنه مما يجب أن يُفرَد بالاستغفار منه مع صدوره عنهم بالإكراه ، وفيه نوعُ اعتذارٍ لاستجلاب المغفرةِ ، وقيل : أرادوا الإكراهَ على تعلم السحر حيث روي أن رؤساءَهم كانوا اثنين وسبعين : اثنان منهم من القِبط والباقي من بني إسرائيل ، وكان فرعون أكرههم على تعلم السحر ، وقيل : إنه أكرههم على المعارضة حيث روي أنهم قالوا لفرعون : أرِنا موسى نائماً ففعل فوجدوه تحرُسه عصاه ، فقالوا : ما هذا بسحر فإن الساحرَ إذا نام بطل سحرُه ، فأبى إلا أن يعارضوه ويأباه تصدّيهم للمعارضة على الرغبة والنشاط كما يُعرب عنه قولُهم : { إِنَّ لَنَا لاجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين } وقولهم : { بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون } { والله خَيْرُ } أي في حد ذاتِه وهو ناظرٌ إلى قولهم : والذي فطرنا { وأبقى } أي جزاءً ، ثواباً كان أو عذاباً أو خيرٌ ثواباً وأبقى عذاباً .
وقوله تعالى :
{ أَنَّهُ } إلى آخر الشرطيتين تعليلٌ من جهتهم لكونه تعالى خيراً وأبقى جزاءٌ وتحقيقٌ له وإبطالٌ لما ادّعاه فرعون ، وتصديرُهما بضمير الشأنِ للتنبيه على فخامة مضمونِهما لأن مناطَ وضْع الضميرِ موضعَه ادّعاءُ شهرتِه المغْنيةِ عن ذكره مع ما فيه من زيادة التقريرِ فإن الضميرَ لا يفهم منه من أول الأمرِ إلا شأنٌ مبهمٌ له خطرٌ فيبقى الذهنُ مترقِّباً لما يعقُبه فيتمكن عند وروده له فضلُ تمكن ، كأنه قيل : إن الشأنَ الخطيرَ هذا أي قوله تعالى : { مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً } بأن مات على الكفر والمعاصي { فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا } فينتهيَ عذابُه وهذا تحقيقٌ لكون عذابه أبقى { وَلاَ يَحْيَا } حياةً ينتفع بها .
{ وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً } به تعالى وبما جاء من عنده من المعجزات التي من جملتها ما شاهدناه { قَدْ عَمِلَ الصالحات } الصالحةُ كالحسنة جاريةٌ مجرى الاسم ولذلك لا تُذكر غالباً مع الموصوف وهي كلُّ ما استقام من الأعمال بدليل العقلِ والنقل { فَأُوْلَئِكَ } إشارةٌ إلى مَنْ والجمعُ باعتبار معناها كما أن الإفراد في الفعلين السابقين باعتبار لفظِها ، وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعلوّ درجتِهم وبُعد منزلتِهم ، أي فأولئك المؤمنون العاملون للصالحات { لَهُمْ } بسبب إيمانِهم وأعمالِهم الصالحة { والدرجات العلى } أي المنازلُ الرفيعةُ ، وليس فيه ما يدل على عدم اعتبارِ الإيمان المجرد عن العمل الصالحِ في استتباع الثوابِ ، لأن ما نيط بالإيمان المقرون بالأعمال الصالحة هو الفوزُ بالدرجات العلى لا بالثواب مطلقاً وهل التشاجرُ إلا فيه .(4/372)
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)
{ جنات عَدْنٍ } بدلٌ من الدرجات العلى أو بيان ، وقد مر أنّ عدْناً علمٌ لمعنى الإقامة أو لأرض الجنة فقوله تعالى : { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } حال من الجنات وقوله تعالى { خالدين فِيهَا } حالٌ من الضمير في لهم والعاملُ معنى الاستقرارِ أو الإشارةِ { وَذَلِكَ } إشارةٌ إلى ما أتيح لهم من الفوز بما ذُكر من الدرجات العُلى ، ومعنى البُعد لما مر من التفخيم { جَزَاء مَن تزكى } أي تطهر من دنس الكفرِ والمعاصي بما ذكر من الإيمان والأعمالِ الصالحة ، وهذا تحقيقٌ لكون ثوابِه تعالى أبقى ، وتقديمُ ذكرِ حال المجرمِ للمسارعة إلي بيان أشدّية عذابِه ودوامِه رداً على ما ادعاه فرعونُ بقوله : { أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى } هذا وقد قيل : هذه الآياتُ الثلاثُ ابتداءُ كلامٍ من الله عز وجل ، قالوا : ليس في القرآن أن فرعونَ فعل بأولئك المؤمنين ما أوعدهم به ولم يثبُت في الأخبار .
{ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إلى موسى } حكايةٌ إجماليةٌ لما انتهى إليه أمرُ فرعونَ وقومِه ، وقد طُويَ في البين ذِكرُ ما جرى عليهم من الآيات المفصّلات الظاهرةِ على يد موسى عليه الصلاة والسلام بعد ما غلب السحرةَ في نحو من عشرين سنةً حسبما فُصّل في سورة الأعراف ، وتصديرُها بالقسم لإبراز كمالِ العناية بمضمونها وأنْ في قوله : { أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى } إما مفسرةُ لأن الوحيَ فيه معنى القول أو مصدريةٌ حذف عنها الجارُّ ، والتعبيرُ عنهم بعنوان كونِهم عباداً له تعالى لإظهار المرحمةِ والاعتناءِ بأمرهم والتنبيهِ على غاية قُبح صنيعِ فرعونَ بهم حيث استعبدهم وهم عبادُه عز وجل وفعل بهم من فنون الظلم ما فعل ، أي وبالله لقد أوحينا إليه عليه الصلاة والسلام أنْ أسرِ بعبادي الذين أرسلتُك لإنقاذهم من مَلَكة فرعونَ ، أي سِرْ بهم من مصرَ ليلاً { فاضرب لَهُمْ } أي فاجعل أو فاتخذْ لهم { طَرِيقاً فِى البحر يَبَساً } أي يابساً على أنه مصدرٌ وصف به الفاعلُ مبالغةً ، وقرىء يَبْساً وهو إما مخففٌ منه أو وصفٌ كصعب ، أو جمعُ يابس كصحْب ، وُصف الواحد للمبالغة أو لتعدّده حسبَ تعدّدِ الأسباط { لاَّ تَخَافُ دَرَكاً } حالٌ من المأمور أي آمِناً من أن يُدركَكم العدوُّ أو صفةٌ أخرى لطريقاً والعائدُ محذوفٌ ، وقرىء لا تخَفْ جواباً للأمر { وَلاَ تخشى } عطف على لا تخاف داخلٌ في حكمه أي ولا تخشى الغرقَ ، وعلى قراءة الجزم استئنافٌ أي وأنت لا تخشى أو عطفٌ عليه والألفُ للإطلاق كما في قوله تعالى : { وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } وتقديمُ الخوفِ المذكورِ للمسارعة إلى إزاحة ما كانوا عليه من الخوف العظيمِ حيث قالوا : إنا لمدرَكون .(4/373)
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)
{ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ } أي تبِعهم ومعه جنودُه حتى لحِقوهم ، يقال : أتْبعتُهم أي تبِعتُهم وذلك إذا كانوا سبقوك فلحِقتهم ، ويؤيده أنه قرىء فاتّبعهم من الافتعال ، وقيل : المعنى أتْبعهم فرعونُ نفسَه فحذف المفعولُ الثاني ، وقيل : الباءُ زائدةٌ والمعنى فأتبعهم فرعونُ جنودَه أي ساقهم خلفهم ، وأياً ما كان فالفاءُ فصيحةٌ مُعرِبة عن مُضمر قد طُوي ذكرُه ثقةً بغاية ظهورِه وإيذاناً بكمال مسارعةِ موسى عليه الصلاة والسلام إلى الامتثال بالأمر ، أي ففعل ما أُمر به من الإسراء بهم وضرْب الطريقِ وسلوكِه فأتبعهم فرعونُ وجنودُه براً وبحراً . روي أن موسى عليه الصلاة والسلام خرج بهم أولَ الليل وكانوا ستَّمائةٍ وسبعين ألفاً ، فأخبر فرعونُ بذلك فاتّبعهم بعساكره وكانت مقدمتُه سبعَمائة ألفٍ فقف أثرهم فلحِقهم بحيث تراءى الجمعان فعند ذلك ضرب عليه الصلاة والسلام بعصاه البحرَ فانفلق على اثني عشر فرِقاً كلُّ فِرقٍ كالطود الغظيم ، فعبَر موسى عليه الصلاة والسلام بمن معه من الأسباط سالمين وتبِعهم فرعونُ بجنوده { فَغَشِيَهُمْ مّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ } أي علاهم منه وغمرَهم ما غمرهم من الأمر الهائلِ الذي لا يقادَر قدرُه ولا يُبلغ كُنهُه ، وقيل : غشِيهم ما سُمِعَت قِصتُه وليس بذاك ، فإن مدارَ التهويلِ والتفخيمِ خروجُه عن حدود الفهم والوصفِ لا سماعُ قصتِه ، وقرىء فغشّاهم من اليم ما غشاهم أي غطاهم ما غطاهم ، والفاعلُ هو الله عز وعلا أو ما غشاهم ، وقيل : فرعونُ لأنه الذي ورّطهم للهلكة ويأباه الإظهارُ في قوله تعالى : { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ } أي سلك مسلَكاً أداهم إلى الخَيبة والخُسران في الدين والدنيا معاً حيث ماتوا على الكفر بالعذاب الهائلِ الدنيويّ المتصل بالعذاب الخالدِ الأخروي ، وقوله تعالى : { وَمَا هدى } أي ما أرشدهم قطُّ إلى طريق موصلٍ إلى مطلب من المطالب الدينية والدنيوية ، تقريرٌ لإضلاله وتأكيدٌ له إذ رُبّ مضِلٍ قد يُرشد من يُضِلّه إلى بعض مطالبِه ، وفيه نوعُ تهكمٍ به في قوله : { وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد } فإن نفيَ الهدايةِ عن شخص مُشعرٌ بكونه ممن يُتصور منه الهدايةَ في الجملة وذلك إنما يُتصور في حقه بطريق التهكم ، وحملُ الإضلالِ والهداية على ما يختص بالديني منهما يأباه مقامُ بيانِ سَوْقه بجنوده إلى مساق الهلاكِ الدنيوي ، وجعلُهما عبارةً عن الإضلال في البحر والإنجاءِ منه مما لا يقبله العقل السليم .
{ يابنى إسراءيل } حكايةٌ لما خاطبهم الله تعالى بعد إغراقِ فرعونَ وقومِه وإنجائِهم منهم لكن لا عَقيب ذلك بل بعد ما أفاض عليهم من فنون النعمِ الدينية والدنيوية ما أفاض ، وقيل : هو إنشاءُ خطابٍ للذين كانوا منهم في عهد النبي عليه الصلاة والسلام على معنى أنه تعالى قد منّ عليهم بما فعل بآبائهم أصالة وبهم تبَعاً ، ويردُّه ما سيأتي من قوله تعالى : { وَمَا أَعْجَلَكَ } الآية ، ضرورةَ استحالةِ حملِه على الإنشاء ، فالوجهُ هو الحكايةُ بتقدير قلنا عطفاً على أوحينا ، أي وقلنا : يا بني إسرائيل { قَدْ أنجيناكم مّنْ عَدُوّكُمْ } فرعونَ وقومِه حيث كانوا يبغونكم الغوائلَ ويسومونكم سوءَ العذاب يذبّحون أبناءَكم ويستحيون نساءكم ، وقرىء نجيناكم ونجيتُكم { وواعدناكم جَانِبَ الطور الأيمن } بالنصب على أنه صفةٌ للمضاف ، وقرىء بالجرّ للجوار أي واعدناكم بواسطة نبيِّكم إتيانَ جانبِه الأيمنِ نظراً إلى السالك من مصرَ إلى الشام ، أي إتيانَ موسى عليه الصلاة والسلام للمناجاة وإنزالَ التوراة عليه ، ونُسبت المواعيدُ إليهم مع كونها لموسى عليه الصلاة والسلام نظراً إلى ملابستها إياهم وسِراية منفعتِها إليهم وإيفاءً لمقام الامتنان حقَّه كما في قوله تعالى :(4/374)
{ وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم } حيث نسَب الخلقَ والتصويرَ إلى المخاطبين مع أن المخلوقَ المصوّر بالذات هو آدمُ عليه الصلاة والسلام ، وقرىء واعدتُكم ووعدناكم { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى } أي الترنجبين والسمان حيث كان ينزل عليهم المنُّ وهو في التيه مثلَ الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل إنسان صاعٌ ، ويبعث الجنوبُ عليهم السمان فيذبح الرجل منه ما يكفيه كما مر مراراً .(4/375)
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)
{ كُلُواْ } جملةٌ مستأنفة مَسوقة لبيان إباحة ما ذكر لهم وإتماماً للنعمة عليهم { مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم } أي من لذائذه أو من حلالاته ، وقرىء رزقكم ، وفي البدء بنعمة الإنجاءِ ثم بالنعمة الدينية ثم بالنعمة الدنيوية من حسن النظمِ ولطفِ الترتيب ما لا يخفى { وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ } أي فيما رزقناكم بالإخلال بشكره والتعدّي لما حُدّ لكم فيه كالسرَف والبطَر والمنع من المستحِق { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى } جواب للنهي أي فتلزمَكم عقوبتي وتجبَ لكم ، من حلّ الدَّينُ إذا وجب أداؤه { وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هوى } أي تردّى وهلك ، وقيل : وقع في الهاوية ، وقرىء فيحُلَّ بضم الحاء من حل يحُل إذا نزل .
{ وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ } من الشرك والمعاصي التي من جملتها الطغيانُ فيما ذكر { وَءَامَنَ } بما يجب الإيمان به { وَعَمِلَ صالحا } أي عملاً صالحاً مستقيماً عند الشرع والعقلِ ، وفيه ترغيبٌ لمن وقع منه الطغيانُ فيما ذكر وحثٌّ على التوبة والإيمان وقوله تعالى : { ثُمَّ اهتدى } أي استقام على الهدى إشارةٌ إلى أن من لم يستمرَّ عليه بمعزل من الغفران وثم للتراخي الرتبي .
{ وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى } حكايةٌ لما جرى بينه تعالى وبين موسى عليه الصلاة والسلام من الكلام عند ابتداءِ موافاته الميقاتَ بموجب المواعدةِ المذكورة ، أي قلنا له : أيُّ شيءٍ أعجلك منفرداً عن قومك؟ وهذا كما ترى سؤالٌ عن سبب تقدمه على النقباء مَسوقٌ لإنكار انفرادِه عنهم لما في ذلك بحسب الظاهر من مخايل إغفالهم وعدمِ الاعتداد بهم مع كونه مأموراً باستصحابهم وإحضارِهم معه ، لا لإنكاره نفسَ العجلة الصادرةِ عنه عليه الصلاة والسلام لكونها نقيصةً منافية للحزم اللائقِ بأولي العزم ، ولذلك أجاب عليه الصلاة والسلام بنفي الانفرادِ المنافي للاستصحاب والمعية حيث { قَالَ هُمْ أُوْلاء على أَثَرِى } يعني إنهم معي وإنما سبقتهم بخُطاً يسيرة ظننتُ أنها لا تُخِل بالمعية ولا تقدح في الاستصحاب ، فإن ذلك مما لا يعتد به فيما بين الرفقةِ أصلاً ، وبعد ما ذكرَ عليه الصلاة والسلام أن تقدّمَه ذلك ليس لأمر منكر ذكَر أنه لأمر مَرضيّ حيث قال : { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لترضى } عنّي بمسارعتي إلى الامتثال بأمرك واعتنائي بالوفاء بعهدك ، وزيادةُ ربِّ لمزيد الضراعةِ والابتهال رغبةً في قَبول العذر .(4/376)
قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)
{ قَالَ } استئنافٌ مبني على سؤال نشأ من حكاية اعتذارِه عليه الصلاة والسلام وهو السرُّ في وروده على صيغة الغائبِ ، لا أنه التفاتٌ من التكلم إلى الغَيبة لما أن المقدرَ فيما سبق من الموضعين على صيغة التكلم ، كأنه قيل من جهة السامعين : فماذا قال له ربه حينئذ؟ فقيل : قال : { فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ } أي ابتليناهم بعبادة العِجل من بعد ذهابك من بينهم وهم الذين خلّفهم مع هارونَ عليه الصلاة والسلام ، وكانوا ستَّمائة ألفٍ ما نجا منهم من عبادة العجل إلا اثنا عشرَ ألفاً ، والفاءُ لترتيب الإخبار بما ذكر من الابتلاء على إخبار موسى عليه الصلاة والسلام بعجَلته لكن لا لأن الإخبارَ بها سببٌ موجبٌ للإخبار به ، بل لما بينهما من المناسبة المصحِّحة للانتقال من أحدهما إلى الآخر من حيث إن مدارَ الابتلاءِ المذكور عجَلةُ القوم ، فإنه روي أنهم أقاموا على ما وصّى به موسى عليه الصلاة والسلام عشرين ليلةً بعد ذهابه فحسَبوها مع أيامها أربعين ، وقالوا : قد أكملنا العدةَ وليس من موسى عليه الصلاة والسلام عينٌ ولا أثر { وَأَضَلَّهُمُ السامرى } حيث كان هو المدبرَ في الفتنة فقال لهم : إنما أخلفَ موسى عليه الصلاة والسلام ميعادَكم لما معكم من حُلِيّ القوم وهو حرامٌ عليكم فكان من أمر العجل ما كان ، فإخبارُه تعالى بوقوع هذه الفتنةِ عند قدومِه عليه الصلاة والسلام إما باعتبار تحققِها في علمه تعالى ومشيئتِه ، وإما بطريق التعبيرِ عن المتوقَّع بالواقع كما في قوله تعالى : { وَنَادَى أصحاب الجنة } ونظائرِه ، أو لأن السامريَّ كان قد عزم على إيقاع الفتنةِ عند ذهاب موسى عليه الصلاة والسلام وتصدّى لترتيب مبانيها وتمهيدِ مباديها فكانت الفتنةُ واقعةً عند الإخبار بها ، وقرىء وأضلُّهم السامريُّ على صيغة التفضيلِ أي أشدُّهم ضلالاً لأنه ضالٌّ ومُضلٌّ ، والسامريُّ منسوبٌ إلى قبيلة من بني إسرائيلَ يقال لها السامرة ، وقيل : كان عِلْجاً من كَرْمان ، وقيل : من أهل باجرما واسمُه موسى بنُ ظفر وكان منافقاً قد أظهر الإسلام وكان من قوم يعبدون البقر .
{ فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ } عند رجوعِه المعهود أي بعدما استوفى الأربعين وأخذ التوراة لا عَقيبَ الإخبار بالفتنة ، فسببيةُ ما قبل الفاء لما بعدها إنما هي باعتبار قيد الرجوعِ المستفاد من قوله تعالى : { غضبان أَسِفًا } لا باعتبار نفسه وإن كانت داخلةً عليه حقيقةً فإن كونَ الرجوعِ بعد تمام الأربعين أمرٌ مقرّرٌ مشهورٌ لا يذهب الوهمُ إلى كونه عند الإخبار بالفتنة ، كما إذا قلتَ : شايعتُ الحُجاجَ ودعوتُ لهم بالسلامة فرجعوا سالمين ، فإن أحداً لا يرتاب في أن المراد رجوعُهم المعتادُ لا رجوعُهم إثرَ الدعاء وأن سببيةَ الدعاءِ باعتبار وصفِ السلامة لا باعتبار نفس الرجوعِ ، والأسِفُ : الشديدُ الغضب ، وقيل : الحزين { قَالَ } استئنافٌ مبني على سؤال ناشىء من حكاية رجوعِه كذلك ، كأنه قيل : فماذا فَعل بهم؟ فقيل : قال : { قَالَ ياقوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً } بأن يُعطيَكم التوارةَ فيها ما فيها من النور والهدى ، والهمزةُ لإنكار عدم الوعدِ ونفيِه وتقريرِ وجودِه على أبلغ وجه وآكَدِه ، أي وعَدكم بحيث لا سبيلَ لكم إلى إنكاره ، والفاء في قوله تعالى : { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد } أي الزمان للعطف على مقدر والهمزةُ لإنكار المعطوفِ ونفيه فقط ، أي أوعدكم ذلك فطال زمانُ الإنجاز فأخطأتم بسببه { أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ } أي يجبَ { عَلَيْكُمْ غَضَبٌ } شديدٌ لا يقادرَ قدرُه كائنٌ { مّن رَّبّكُمْ } أي من مالك أمرِكم على الإطلاق { فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِى } أي وعْدَكم إياي بالثبات على ما أمرتُكم به إلى أن أرجِع من الميقات على إضافة المصدرِ إلى مفعوله للقصد إلى زيادة تقبيحِ حالِهم ، فإن إخلافَهم الوعدَ الجاريَ فيما بينهم وبينه عليه السلام من حيث إضافتُه إليه عليه السلام أشنعُ منه من حيث إضافتُه إليهم ، والفاءُ لترتيب ما بعدها على كل واحد من شِقَّي الترديد على سبيل البدلِ ، كأنه قيل : أنسيتم الوعدَ بطول العهد فأخلفتموه خطأً أم أردتم حلولَ الغضب عليكم فأخلفتموه عمْداً؟ وأما جعلُ الموعدِ مضافاً إلى فاعله وحملُ إخلافه على معنى وجدانِ الخلُف فيه ، أي فوجدتم الخُلفَ في موعدي لكم بالعَود بعد الأربعين فما لا يساعده السباقُ ولا السياق أصلاً .(4/377)
قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
{ قَالُواْ مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ } أي وعدَنا إياك الثباتَ على ما أمرتَنا به ، وإيثارُه على أن يقال : موعدَنا على إضافة المصدرِ إلى فاعله لما مر انفاً { بِمَلْكِنَا } أي بأن ملَكنا أمورَنا يعنون أنا لو خُلّينا وأمورَنا ولم يسوّل لنا السامريُّ ما سوله مع مساعدة بعضِ الأحوالِ لما أخلفناه ، وقرىء بمِلْكنا بكسر الميم وضمِّها والكلُّ لغاتٌ في مصدر ملَكتُ الشيءَ { ولكنا حُمّلْنَا أَوْزَاراً مّن زِينَةِ القوم } استدراكٌ عما سبق واعتذارٌ عما فعلوا ببيان منشأ الخطأ ، وقرىء حَمَلنا بالتخفيف أي حمَلْنا أحمالاً من حُليِّ القِبْط التي استعرناها منهم حين هممنا بالخروج من مصرَ باسم العُرس ، وقيل : كانوا استعاروها لعيد كان لهم ثم لم يردّوها إليهم عند الخروجِ مخافةَ أن يقفوا على أمرهم ، وقيل : هي ما ألقاه البحرُ على الساحل بعد إغراقهم فأخذوها ، ولعل تسميتهم لها أوزاراً لأنها تبعاتٌ وآثامٌ حيث لم تكن الغنائمُ تحِلّ حينئذ { فَقَذَفْنَاهَا } أي في النار رجاءً للخلاص عن ذنبها { فَكَذَلِكَ } أي فمثلَ ذلك القذف { أَلْقَى السامرى } أي ما كان معه منها وقد كان أراهم أنه أيضاً يُلقي ما كان معه من الحُليّ فقالوا ما قالوا على زعمهم ، وإنما كان الذي ألقاه التربةَ التي أخدها من أثر الرسولِ كما سيأتي ، روي أنه قال لهم : إنما تأخر موسى عنكم لما معكم من الأوزار فالرأي أن نحفِرَ حفيرةً ونسجّر فيها ناراً ونقذفَ فيها كلَّ ما معنا ففعلوا .(4/378)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)
{ فَأَخْرُجْ } أي السامريُّ { لَهُمْ } للقائلين { عِجْلاً } من تلك الحُلِيّ المُذابة ، وتأخيرُه مع كونه مفعولاً صريحاً عن الجار والمجرور لما مر مراراً من الاعتناء بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طول يُخِلّ تقديمُه بتجاوب أطرافِ النظمِ الكريم فإن قوله تعالى { جَسَداً } أي جُثةً ذا دم ولحمٍ ، أو جسداً من ذهب لا روحَ له بدلٌ منه وقوله تعالى : { لَّهُ خُوَارٌ } أي صوتُ عجلٍ ، نعتٌ له { فَقَالُواْ } أي السامريُّ ومن افتُتن به أولَ ما رآه { هذا إلهكم وإله موسى فَنَسِىَ } أي غفَل عنه وذهب يطلُبه في الطور ، وهذا حكايةٌ لنتيجة فتنةِ السامريّ فعلاً وقولاً من جهته تعالى قصداً إلى زيادة تقريرِها ، ثم ترتيبِ الإنكار عليها لا من جهة القائلين وإلا لقيل : فأخرج لنا ، والحملُ على أن عدولَهم إلى ضمير الغيبة لبيان أن الإخراجَ والقولَ المذكورَيْن للكل لا للعَبَدة فقط خلافُ الظاهر مع أنه مُخلٌّ باعتذارهم ، فإن مخالفةَ بعضهم للسامري وعدَم افتتانِهم بتسويله مع كون الإخراجِ والخطاب لهم مما يهوّن مخالفتَه للمعتذرين ، فافتتنانُهم بعد ذلك أعظمُ جنايةً وأكثر شناعةً . وأما ما قيل من أن المعتذرين هم الذين لم يعبُدوا العجلَ وأن نسبة الإخلافِ فيما بيننا بأمر كنا نملِكه ، بل تمكنت الشبهةُ في قلوب العبَدةِ حيث فعل السامريُّ ما فعل فأخرج لهم ما أخرج وقال ما قال ، فلم نقدِرْ على صرفهم عن ذلك ولم نفارقهم مخافةَ ازديادِ الفتنة فيقضي بفساده سباقِ النظمِ الكريم وسياقه وقوله تعالى :
{ أَفَلاَ يَرَوْنَ } الخ ، إنكار وتقبيحٌ من جهته تعالى لحال الضالّين والمُضلّين جميعاً وتسفيهٌ لهم فيما أقدموا عليه من المنكَر الذي لا يشتبه بطلانُه واستحالتُه على أحد وهو اتخاذُه إلها ، والفاءُ للعطف على مقدر يقتضيه المقامُ ، أي ألا يتفكرون فلا يعلمون { أَن لا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً } أي أنه لا يرجِعُ إليهم كلاماً ولا يرد عليهم جواباً ، فكيف يتوهّمون أنه إله؟ وقرىء يرجَع بالنصب ، قالوا : فالرؤية حينئذ بصريةٌ فإن أن الناصبةَ لا تقع بعد أفعالِ اليقين أي ألا ينظرون فلا يُبصرون عدمَ رجْعِه إليهم قولاً من الأقوال ، وتعليقُ الإبصار بما ذُكر مع كونه أمراً عدمياً للتنبيه على كمال ظهورِه المستدعي لمزيد تشنيعِهم وتركيكِ عقولِهم ، وقوله تعالى : { وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } عطف على لا يرجعُ داخلٌ معه في حيز الرؤية ، أي أفلا يرون أنه لا يقدر على أن يدفعَ عنهم ضرًّا أو يجلُبَ لهم نفعاً ، أو لا يقدر على أن يضرَّهم إن لم يعبدوه أو ينفعَهم إن عبدوه { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هارون مِن قَبْلُ } جملةٌ قسميةٌ مؤكدة لما قبلها من الإنكار والتشنيع ببيان عُتوِّهم واستعصائِهم على الرسول إثرَ بيانِ مكابرتهم لقضية العقولِ ، أي وبالله لقد نصح لهم هارونُ ونبّههم على كُنه الأمرِ من قبل رجوعِ موسى عليه الصلاة والسلام إليهم وخطابِه إياهم بما ذكر من المقالات ، وقيل : من قبل قولِ السامري كأنه عليه السلام أو وما أبصره حين طلع من الحفيرة توهم منهم الافتتانَ به فسارع إلى تحذيرهم وقال لهم : { ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ } أي أُوقِعتم في الفتنة بالعجل أو أُضللتم به على توجيه القصر المستفادِ من كلمة إنما إلى نفس الفعل بالقياس إلى مقابله الذي يدّعيه القومُ ، لا إلى قيده المذكورِ بالقياش إلى قيد آخرَ على معنى إنما فُعل بكم للفتنةُ لا الإرشادُ إلى الحق ، لا على معنى إنما فتنتم بالعجل لا بغيره وقوله تعالى : { وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن } بكسر إن عطفاً على إنما ، إرشادٌ لهم إلى الحق إثرَ زجرهم عن الباطل ، والتعرّضُ لعنوان الربوبيةِ والرحمة للاعتناء باستمالتهم إلى الحق كما أن التعرضَ لوصف العجل للاهتمام بالزجر عن الباطل ، أي إن ربكم المستحقَّ للعبادة هو الرحمن لا غيرُ ، والفاء في قوله تعالى : { فاتبعونى } لترتيب ما بعدها على ما قبلها من مضمون الجملتين ، أي إذا كان الأمرُ كذلك فاتبعوني في الثبات على الدين { وَأَطِيعُواْ أَمْرِى } هذا واترُكوا عبادةَ ما عرفتم شأنه .(4/379)
قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)
{ قَالُواْ } في جواب هارون عليه الصلاة والسلام { لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ } على العجل وعبادته { عاكفين } مقيمين { حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى } جعلوا رجوعَه عليه السلام إليهم غايةً لعُكوفهم على عبادة العجلِ لكن لا على طريق الوعدِ بتركها عند رجوعِه عليه السلام بل بطريق التعلل والتسويفِ ، وقد دسوا تحت ذلك أنه عليه السلام لا يرجِع بشيء مبين تعويلاً على مقالة السامريّ . روي أنهم لما قالوه اعتزلهم هارونُ عليه السلام في اثني عشر ألفاً وهم الذين لم يعبدوا العجل ، فلما رجع موسى عليه السلام وسمع الصياحَ وكانوا يرقُصون حول العجل قال للسبعين الذين كانوا معه : هذا صوتُ الفتنة فقال لهم ما قال وسمع منهم ما قالوا .
وقوله تعالى : { قَالَ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من حكاية جوابهم لهارون عليه السلام ، كأنه قيل : فماذا قال موسى لهارون عليهما السلام حين سمع جوابهم له؟ وهل رضيَ بسكوته بعد ما شاهد منهم ما شاهد؟ فقيل : قال له وهو مغتاظٌ قد أخذ بلحيته ورأسه : { قَالَ ياهارون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ } بعبادة العجل وبلغوا من المكابرة إلى أن شافهوك بتلك المقالةِ الشنعاء { أَن لا تَتَّبِعَنِ } أي أن تتّبعَني ، على أن لا مزيدةٌ وهو مفعولٌ ثانٍ لمنع وهو عامل في إذ ، أيْ أيُّ شيءٍ منعك حين رؤيتِك لضلالهم من أن لا تتبعني في الغضب لله تعالى والمقاتلة مع من كفر به ، وقيل : المعنى ما حملك على أن تتبعني ، فإن المنع عن الشيء مستلزمٌ للحمل على مقابله ، وقيل : ما منعك أن تلحقَني وتُخبرَني بضلالهم فتكونَ مفارقتُك مزْجرةً لهم ، وفيه أن نصائحَ هارونَ عليه السلام حيث لم تزجُرْهم عما كانوا عليه فلأن لا تزجُرَهم مفارقتُه إياهم عنه أولى ، والاعتذارُ بأنهم إذا علموا أنه يلحقه ويخبره بالقصة يخافون رجوعَ موسى عليه السلام فينزجروا عن ذلك بمعزل من حيز القبول ، كيف لا وهم قد صرحوا بأنهم عاكفون عليه إلى رجوعه عليه السلام { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى } أي بالصلابة في الدين والمحاماةِ عليه فإن قوله له عليهما السلام : اخلُفني متضمنٌ للأمر بهما حتماً ، فإن الخلافةَ لا تتحقق إلا بمباشرة الخليفة ما كان يباشره المستخلِفُ لو كان حاضراً ، والهمزة للإنكار التوبيخي والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، أي ألم تتبعني أو خالفتني فعصيت أمري .(4/380)
قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)
{ قَالَ يابن أُمَّ } خَصّ الأمَّ بالإضافة استعظاماً لحقها وترقيقاً لقلبه لا لما قيل من أنه كان أخاه لأم فإن الجمهورَ على أنهما كان شقيقين { لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى } أي ولا بشعر رأسي ، روي أنه عليه السلام أخذ شعرَ رأسِه بيمينه ولحيتَه بشماله من شدة غيظِه وفرْطِ غضبِه لله ، وكان عليه السلام حديداً متصلّباً في كل شيء فلم يتمالكْ حين رآهم يعبدون العجلَ ففعل ما فعل وقوله تعالى : { إِنّى خَشِيتُ } الخ ، استئنافٌ سيق لتعليل موجبِ النهي ببيان الداعي إلى ترك المقاتلةِ وتحقيقِ أنه غيرُ عاصٍ لأمره بل ممتثلٌ به ، أي إني خشيتُ لو قاتلت بعضَهم ببعض وتفانَوا وتفرقوا { أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءيلَ } برأيك مع كونهم أبناءَ واحدٍ كما ينبىء عنه ذكرُهم بذلك العنوان دون القوم ونحوِه ، وأراد عليه السلام بالتفريق ما يستتبعه القتالُ من التفريق الذي لا يرُجى بعده الاجتماعُ { وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى } يريد به قولَه عليه السلام : اخلُفني في قومي وأصلح الخ ، يعني إني رأيت أن الإصلاحَ في حفظ الدَّهْماءِ والمداراةِ معهم إلى أن ترجِع إليهم فلذلك استأنيتُك لتكون أنت المتدارِكَ للأمر حسبما رأيت لا سيما وقد كانوا في غاية القوةِ ونحن على القلة والضّعف كما يُعرب عنه قوله تعالى : { إِنَّ القوم استضعفونى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى . } { قَالَ } استئنافٌ وقع جواباً عما نشأ من حكاية ما سلف من اعتذار القوم بإسناد الفسادِ إلى السامري واعتذارِ هارونَ عليه السلام ، كأنه قيل : فماذا صنع موسى عليه السلام بعد سماع ما حُكي من الاعتذارين واستقرارِ الفتنة على السامري؟ فقيل : قال موبخاً له : هذا شأنُهم { فَمَا خَطْبُكَ ياسامري } أي ما شأنُك وما مطلوبُك مما فعلت ، خاطبه عليه السلام بذلك ليُظهر للناس بُطلانَ كيدِه باعترافه ويفعلَ به وبما صنعه من العقاب ما يكون نكالاً للمفتونين به ولمن خلفهم من الأمم .
{ قَالَ } أي السامريُّ مجيباً له عليه السلام : { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } بضم الصاد فيهما ، وقرىء بكسرها فى الأول وفتحِها في الثاني ، وقرىء بالتاء على الوجهين على خطاب موسى عليه السلام وقومِه ، أي علمتُ ما لم يعلمْه القوم وفطِنت لما لم يفطَنوا له أو رأيت ما لم يرَوه ، وهو الأنسب بما سيأتي من قوله : { وكذلك سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى } لا سيما على القراءة بالخطاب فإن ادعاءَ علمِ ما لم يعلمه موسى عليه السلام جرأةٌ عظيمة لا تليق بشأنه ولا بمقامه بخلاف ادعاءِ رؤيةِ ما لم يرَه عليه السلام فإنها مما يقع بحسب ما يتفق ، وقد كان رأى أن جبريلَ عليه السلام جاء راكبَ فرسٍ وكان كلما رفع الفرسُ يديه أو رجليه على الطريق اليَبَس بخرج من تحته النباتُ في الحال ، فعرف أن له شأناً فأخذ من موطئه حفنةً وذلك قوله تعالى : { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول } وقرىء من أثر فرسِ الرسولِ أي من تربة موطِيءِ فرسِ الملَك الذي أُرسل إليك ليذهبَ بك إلى الطور ، ولعل ذكرَه بعنوان الرسالة للإشعار بوقوفه على ما لم يقِفْ عليه القومُ من الأسرار الإلهية تأكيداً لما صدّر به مقالتَه والتنبيهِ على وقت أخْذِ ما أخذه ، والقبضةُ المرّةُ من القبض أُطلقت على المقبوض مرةً ، وقرىء بضم القاف وهو اسمُ المقبوض كالغُرفة والمُضغة ، وقرىء فقبصْت قبصة بالصاد المهملة والأول للأخذ بجميع الكف والثاني بأطراف الأصابع ، ونحوُهما الخضْمُ والقضم { فَنَبَذْتُهَا } أي في الحُليّ المُذابة فكان ما كان { وكذلك سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى } أي ما فعلتُه من القبض والنبذ فقوله تعالى : { ذلك } إشارةٌ إلى مصدر الفعلِ المذكور بعده ، ومحلُّ كذلك في الأصل النصبُ على أنه مصدرٌ تشبيهيٌّ أي نعتٌ لمصدر محذوف والتقديرُ سولت لي نفسي تسويلاً كائناً مثلَ ذلك التسويلِ فقُدّم على الفعل لإفادة القصِر واعتُبرت الكافُ مقحمةً لإفادة تأكيدِ ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة فصار نفسَ المصدرِ المؤكّدِ لا نعتاً له ، أي ذلك التزيينَ البديعَ زينت لي نفسي ما فعلتُه ، لا تزييناً أدنى منه ولذلك فعلتُه وحاصلُ جوابه أن ما فعله إنما صدر عنه بمحضر اتباعِ هوى النفسِ الأمارة بالسوء وإغوائِها لا بشيء آخرَ من البرهان العقليّ أو الإلهامِ الإلهي .(4/381)
فعند ذلك { قَالَ } عليه السلام { فاذهب } أي من بين الناس وقوله تعالى : { قَالَ فاذهب فَإِنَّ لَكَ } الخ ، تعليلٌ لموجب الأمرِ و ( في ) متعلقةٌ بالاستقرار في لك أي ثابتٌ لك في الحياة أو بمحذوف وقع حالاً من الكاف والعاملُ معنى الاستقرار في الظرف المذكورِ لاعتماده على ما هو مبتدأٌ معنى لا بقوله تعالى : { أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ } لِمَكان ، أي إن قولك : لا مساس ثابت لك كائناً في الحياة أي مدةَ حياتك أن تفارقَهم مفارقةً كلية ، لكن لا بحسب الاختيارِ بموجب التكليفِ بل بحسب الاضطرارِ المُلجِىءِ إليها ، وذلك أنه تعالى رماه بداء عَقام لا يكاد يمَسّ أحداً أو يمَسّه أحدٌ كائناً من كان إلا حُمّى من ساعته حُمّى شديدةً ، فتحامى الناسَ وتحامَوْه وكان يصيح بأقصى طَوقه : لا مِساس وحُرّم عليهم ملاقاتُه ومواجهتُه ومكالمتُه ومبايعتُه وغيرُها مما يُعتاد جرَيانُه فيما بين الناسِ من المعاملات ، وصار بين الناس أوحشَ من القاتل اللاجىء إلى الحَرم ومن الوحش النافِر في البرية ، ويقال : إن قومَه باقٍ فيهم تلك الحالةُ إلى اليوم ، وقرىء لا مَساسِ كفَجارِ وهو علمٌ للمسّة ، ولعل السرَّ في مقابلة جنايتِه بتلك العقوبةِ خاصة ما بينهما من مناسبة التضادّ فإنه لما أنشأ الفتنةَ بما كانت ملابستُه سبباً لحياة المَوات عوقب بما يُضادُّه حيث جُعلت ملابستُه سبباً للحمّى التي هي من أسبابُ موتِ الأحياء { وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً } أي في الآخرة { لَّن تُخْلَفَهُ } أي لن يُخلفَك الله ذلك الوعدَ بل ينجزه لك البتةَ بعد ما عاقبك في الدنيا ، وقرىء بكسر اللام والأظهر أنه من أخلفتُ الموعدَ أي وجدتُه خلفاً ، وقرىء بالنون على حكاية قوله عز وجل : { وانظر إلى إلهك الذى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً } أي ظلِلْتَ مقيماً على عبادته فحُذفت اللامُ الأولى تخفيفاً ، وقرىء بكسر الظاءِ بنقل حركةِ اللام إليها { لَّنُحَرّقَنَّهُ } جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي بالنار ويؤيده قراءةُ لنُحْرِقنه من الإحراق ، وقيل : بالمِبْرد على أنه مبالغةٌ في حرق إذا بُرد بالمِبرَد ويعضده قراءة لنَحْرُقنه { ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ } أي لنُذْرِينّه ، وقرىء بضم السين { فِي اليم } رماداً أو مُبْرَداً كأنه هباءٌ { نسفاً } بحيث لا يبقى منه عينٌ ولا أثرٌ ولقد فعل عليه السلام ذلك كلَّه حينئذ كما يشهد به الأمرُ بالنظر ، وإنما لم يصرح به تنبيهاً على كمال ظهورِه واستحالةِ الخُلْف في وعده المؤكّدِ باليمين .(4/382)
إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99)
{ إِنَّمَا إلهكم الله } استئناف مَسوقٌ لتحقيق الحقِّ إثرَ إبطالِ الباطل بتلوين الخطابِ وتوجيهِه إلى الكل ، أي إنما معبودُكم المستحقُّ للعبادة الله { الذى لا إله } في الوجود لشيء من الأشياء { إِلاَّ هُوَ } وحده من غير أن يشاركَه شيءٌ من الأشياء بوجه من الوجوه التي من جملتها أحكامُ الألوهية ، وقرىء الله لا إله إلا هو الرحمن ربُّ العرش وقوله تعالى : { وَسِعَ كُلَّ شَىْء عِلْماً } أي وسع علمُه كلَّ ما من شأنه أن يُعلم بدلٌ من الصلة ، كأنه قيل : إنما إلهكم الله الذي وسع كلَّ شيءٍ علماً لا غيرُه كائناً ما كان فيدخل فيه العِجْلُ دخولاً أولياً ، وقرىء وسّع بالتشديد فيكون انتصابُ عِلْماً على المفعولية لأنه على القراءة الأولى فاعلٌ حقيقةً ، وبنقل الفعل إلى التعدية إلى المفعولين صار الفاعل مفعولاً أولاً ، كأنه قيل : وسِع علمُه كلَّ شيء وبه تم حديثُ موسى عليه السلام المذكورُ لتقرير أمر التوحيدِ حسبما نطقت به خاتمتُه وقوله تعالى :
{ كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ } كلامٌ مستأنف خوطب به النبيُّ عليه السلام بطريق الوعدِ الجميل بتنزيل أمثالِ ما مر من أنباء الأممِ السالفة ، وذلك إشارةٌ إلى اقتصاص حديثِ موسى عليه السلام ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلو رتبتِه وبُعدِ منزلتِه في الفضل ، ومحلُّ الكاف النصبُ على أنه نعتٌ لمصدر مقدّر أي نقص عليك { مِنْ أَنْبَاء مَا قَدْ سَبَقَ } من الحوادث الماضيةِ الجارية على الأمم الخاليةِ قصًّا مثلَ ذلك القَصِّ المارِّ ، والتقديمُ للقصر المفيدِ لزيادة التعيين ، ومن في قوله تعالى : { مِنْ أَنْبَاء } في حيز النصب إما على أنه مفعولُ نقُصّ باعتبار مضمرٍ فيه وإما على أنه متعلقٌ بمحذوف هو صفةٌ للمفعول كما في قوله تعالى : { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } أي جمْعٌ دون ذلك ، والمعنى نقصّ عليك بعضَ أنباءِ ما قد سبق أو بعضاً كائناً من أنباء ما قد سبق ، وقد مر تحقيقه في تفسير قوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ } الخ ، وتأخيرُه عن عليك لما مر مراراً الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر أي مثلَ ذلك القصِّ البديعِ الذي سمِعتَه نقصّ عليك ما ذكر من الأنباء لا قصًّا ناقصاً عنه تبصِرةً لك وتوقيراً لعلمك وتكثيراً لمعجزاتك وتذكيراً للمستبصرين من أمتك .
{ وَقَدْ اتيناك مِن لَّدُنَّا ذِكْراً } أي كتاباً منطوياً على الأقاصيص والأخبارِ حقيقاً بالتفكير والاعتبار ، وكلمةُ مِنْ متعلقةٌ بآتيناك وتنكيرُ ذكراً للتفخيم وتأخيرُه عن الجارّ والمجرور لما أن مرجِعَ الإفادةِ في الجملة كونُ المؤتى من لدنه تعالى ذكراً عظيماً وقرآناً كريماً جامعاً لكل كمالٍ ، لا كونُ ذلك الذي مر مُؤْتى من لدنه عز وجل مع ما فيه من نوع طولٍ بما بعده من الصفة ، فتقديمُه يذهب برونق النظمِ الكريم .(4/383)
مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)
{ مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ } عن ذلك الذكرِ العظيم الشأنِ المستتبِع لسعادة الدارين ، وقيل : عن الله عز وجل ، ومَنْ إما شرطيةٌ أو موصولةٌ وأياً ما كانت فالجملةُ صفةٌ لذكراً { فَإِنَّهُ } أي المعرِضُ عنه { يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً } أي عقوبةً ثقيلةً فادحة على كفره وسائرِ ذنوبه ، وتسميتُها وِزراً إما لتشبيهها في ثِقلها على المعاقَب وصعوبةِ احتمالها بالحِمْل الذي يفدَح الحاملَ وينقُض ظهرَه ، أو لأنها جزاءُ الوِزْر وهو الإثمُ والأولُ هو الأنسبُ بما سيأتي من تسميتها حِملاً وقوله تعالى : { خالدين فِيهِ } أي في الوزر أو في احتماله المستمرِّ ، حالٌ من المستكنّ في يحملُ والجمعُ بالنظر إلى معنى مَنْ لما أن الخلودَ في النار مما يتحقق حالَ اجتماعِ أهلِها كما أن الإفراد فيما سبق من الضمائر الثلاثةِ بالنظر إلى لفظها { وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً } أي بئس لهم ففيه ضميرٌ مبهمٌ يفسّره حِمْلاً والمخصوصُ بالذم محذوفٌ ، أي ساء حملاً وِزرُهم واللامُ للبيان كما في هيتَ لك كأنه لما قيل : ساء ، قيل : لمن يقال هذا؟ فأجيب : لهم ، وإعادةُ يوم القيامة لزيادة التقريرِ وتهويلِ الأمر .
{ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور } بدلٌ من يوم القيامة أو منصوبٌ بإضمار اذكُر أو ظرفٌ لمضمر قد حُذف للإيذان بضيق العبارةِ عن حصره وبيانِه حسبما مر في تفسير قوله تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل } وقوله تعالى : { يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً } وقرىء ننفخ بالنون على إسناد النفخِ إلى الآمرِ به تعظيماً له ، وبالياء المفتوحة على أن ضميره لله عز وجل أو لإسرافيلَ عليه السلام وإن لم يجْرِ ذكرُه لشهرته { وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ } أي يوم إذ يُنفخ في الصور ، وذكرُه صريحاً مع تعيّن أن الحشرَ لا يكون إلا يومئذ للتهويل ، وقرىء ويُحشَر المجرمون { زُرْقاً } أي حالَ كونهم زُرْقَ العيون وإنما جعلوا كذلك لأن الزُّرقةَ أسوأُ ألوانِ العين وأبغضُها إلى العرب فإن الرومَ الذين كانوا أعدى عدوِّهم زُرقٌ ، ولذلك قالوا في صفة العدو : أسودُ الكِبد وأصهبُ السِّبال وأزرقُ العين ، أو عُمياً لأن حدَقةَ الأعمى تزرقّ .
وقوله تعالى : { يتخافتون بَيْنَهُمْ } أي يخفِضون أصواتَهم ويُخفونها لما يملأ صدورَهم من الرعب والهول ، استئنافٌ ببيان ما يأتون وما يذرون حينئذ ، أو حالٌ أخرى من المجرمين أي يقول بعضُهم لبعض بطريق المخافتة : { إِن لَّبِثْتُمْ } أي ما لبثتم في الدنيا { إِلاَّ عَشْراً } أي عشرَ ليالٍ استقصاراً لمدة لبثهم فيها لزوالها أو لاستطالتهم مدةَ الآخرة لتأسفهم عليها لمّا عاينوا الشدائدَ وأيقنوا أنهم استحقوها على إضاعتها في قضاء الأوطارِ واتّباعِ الشهوات ، أو في القبر وهو الأنسبُ بحالهم فإنهم حين يشاهدون البعثَ الذي كانوا يُنكِرونه في الدنيا ويعُدّونه من قبيل المُحالات لا يتمالكون من أن يقولوا ذلك اعترافاً به وتحقيقاً لسرعة وقوعِه ، كأنهم قالوا : قد بُعثتم وما لبثتم في القبر إلا مدةً يسيرة ، وإلا فحالُهم أفظعُ من أن تمكّنهم من الاشتغال بتذكر أيامِ النعمة والسرورِ واستقصارِها والتأسف عليها .(4/384)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)
{ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } وهو مدةُ لبثهم { إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً } أي أعدلُهم رأياً أو عملاً { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } ونسبةُ هذا القولِ إلى أمثلهم استرجاحٌ منه تعالى له لكن لا لكونه أقربَ إلى الصدق بل لكونه أدلَّ على شدة الهول .
{ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال } أي عن مآل أمرِها وقد سأل عنه رجل من ثقيف ، وقيل : مشركو مكةَ على طريق الاستهزاء { فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً } أي يجعلها كالرمل ثم يُرسل عليها الرياحَ فتُفرّقها والفاء للمسارعة إلى إلزام السائلين { فَيَذَرُهَا } الضميرُ إما للجبال باعتبار أجزائِها السافلةِ الباقيةِ بعد النسفِ وهي مقارُّها ومراكزُها ، أي فيذر ما انبسط منها وساوى سطحُه سطوحَ سائرِ أجزاءِ الأرض بعد نسفِ ما نتَأ منها ونشَز ، وإما للأرض المدلول عليها بقرينة الحالِ لأنها الباقيةُ بعد نسفِ الجبال ، وعلى التقديرين يذر الكلَّ { قَاعاً صَفْصَفاً } لأن الجبالَ إذا سُوّيت وجُعل سطحُها مساوياً لسطوح سائر أجزاءِ الأرض فقد جُعل الكلُّ سطحاً واحداً ، والقاعُ قيل : السهلُ ، وقيل : المنكشفُ من الأرض ، وقيل : المستوى الصُّلْبُ منها ، وقيل : ما لا نباتَ فيه ولا بناء ، والصفْصفُ الأرضُ المستويةُ الملساءُ كأن أجزاءَه صفٌّ واحد من كل جهة ، وانتصابُ قاعاً على الحالية من الضمير المنصوبِ أو هو مفعولٌ ثانٍ ليذر على تضمين معنى التصييرِ وصفصفاً إما حالٌ ثانية أو بدلٌ من المفعول الثاني وقوله تعالى : { لاَّ ترى فِيهَا } أي في مقارّ الجبال أو في الأرض على ما مر من التفصيل { عِوَجَا } بكسر العين أي اعوجاجاً ما ، كأنه لغاية خفائِه من قبيل ما في المعاني أي لا تدركه إن تأملْتَ بالمقاييس الهندسية { وَلا أَمْتاً } أي نتُوءاً يسيراً استئنافٌ مبينٌ لكيفية ما سبق من القاع الصفْصَف أو حالٌ أخرى أو صفة لقاعاً ، والخطابُ لكل أحدٍ ممن تتأتى منه الرؤيةُ ، وتقديمُ الجارّ والمجرور على المفعول الصريحِ لما مر مراراً من الاهتمام بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخر مع ما فيه من طول ربما يُخلُّ تقديمُه بتجاوب أطرافِ النظم الكريم { يَوْمَئِذٍ } أي يومَ إذْ نُسفت الجبالُ على إضافة اليوم إلى وقت النسْفِ وهو ظرفٌ لقوله تعالى : { يَتَّبِعُونَ الداعى } وقيل : بدلٌ من يومَ القيامة وليس بذاك أي يتبع الناسُ داعيَ الله عز وجل إلى المحشر وهو إسرافيلُ عليه السلام يدعو الناسَ عند النفخةِ الثانية قائماً على صخرة بيتِ المقدس ، ويقول : أيتها العِظامُ النخِرةُ والأوصالُ المتفرّقةُ واللحومُ المتمزّقة قومي إلى عَرْض الرحمن ، فيُقبلون من كل أَوبٍ إلى صَوْبه { لاَ عِوَجَ لَهُ } لا يعوَجّ له مدعوٌّ ولا يعدِل عنه .
{ وَخَشَعَتِ الاصوات للرحمن } أي خضعت لهيبته { فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } أي صوتاً خفياً ومنه الهميسُ لصوت أخفافِ الإبل ، وقد فُسر الهمْسُ بخفق أقدامِهم ونقلِها إلى المحشر .(4/385)
يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
{ يَوْمَئِذٍ } أي يوم إذ يقع ما ذُكر من الأمور الهائلةِ { لاَّ تَنفَعُ الشفاعة } من الشفعاء أحداً { إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن } أن يشفع له { وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً } أي ورضيَ لأجله قولَ الشافع في شأنه أو رضي قوله لأجله وفي شأنه ، وأما من عداه فلا تكاد تنفعه وإنْ فُرِضَ صدورُها عن الشفعاء المتصدّين للشفاعة للناس كقوله تعالى : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شفاعة الشافعين } فالاستثناءُ كما ترى من أعم المفاعيل ، وأما كونُه استثناءً من الشفاعة على معنى لا تنفع الشفاعةُ إلا شفاعةُ من أذِن له الرحمن أن يشفع لغيره كما جوزوه ، فلا سبيل إليه لِما أن حُكم الشفاعةِ ممن لم يؤذَنْ له أن يملِكَها ولا تصدرُ هي عنه أصلاً كما في قوله تعالى : { لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } وقوله تعالى : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } فالإخبارُ عنها بمجرد عدم نفعِها للمشفوع له ربما يوهم إمكانَ صدورِها عمن لم يؤذَنْ له مع إخلاله بمقتضى مقامِ تهويل اليوم ، وأما قوله تعالى : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شفاعة } فمعناه عدمُ الإذنِ في الشفاعة لا عدمُ قبولها بعد وقوعها { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } أي ما تقدمهم من الأحوال ، وقيل : من أمر الدنيا { وَمَا خَلْفَهُمْ } وما بعدهم مما يستقبلونه ، وقيل : من أمر الآخرة { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } أي لا تحيط علومُهم بمعلوماته تعالى ، وقيل : بذاته أي من حيث اتصافُه بصفات الكمالِ التي من جملتها العلمُ الشاملُ ، وقيل : الضمير لأحد الموصولين أو لمجموعهما فإنهم لا يعلمون جميع ذلك ولا تفصيلَ ما علموا منه .
{ وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَىّ القيوم } أي ذلت وخضعت خضوعَ العُناة أي الأُسارى في يد الملكِ القهارِ ولعلها وجوه المجرمين كقوله تعالى : { سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ } ويؤيده قوله تعالى : { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } قال ابن عباس رضي الله عنهما : خسِر من أشرك بالله ولم يتُب ، وهو استئنافٌ لبيان ما لأجله عنت وجوهُهم ، أو اعتراضٌ ، كأنه قيل : خابوا وخسِروا ، وقيل : حالٌ من الوجوه ومَنْ عبارةٌ عنها مغنيةٌ عن ضميرها ، وقيل : الوجوهُ على العموم فالمعنى حينئذ وقد خاب من حمل ظلماً فقوله تعالى : { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات } الخ ، قسيمٌ لقوله : { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } لا لقوله تعالى : { وَعَنَتِ الوجوه } الخ ، كما أنه كذلك على الوجه الأول أي ومن يعملْ بعضَ الصالحات أو بعضاً من الصالحات على أحد الوجهين المذكورين في تفسير قوله تعالى : { مِنْ أَنْبَاء مَا قَدْ سَبَقَ } { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فإن الإيمان شرطٌ في صحة الطاعاتِ وقَبول الحسنات { فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً } أي منْعَ ثوابٍ مستحَقٍ بموجب الوعد { وَلاَ هَضْماً } ولا كسْراً منه يَنْقُص ، أو لا يخاف جزاءَ ظلمٍ وهضْمٍ إذ لم يصدُر عنه ظلمٌ ولا هضمٌ حتى يخافَهما ، وقرىء فلا يخَفْ على النهي .(4/386)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
{ وكذلك } عطفٌ على { كذلك نَقُصُّ } وذلك إشارةٌ إلى إنزال ما سبق من الآيات المتضمنةِ للوعيد المنبئةِ عما سيقع من أحوال القيامةِ وأهوالِها أي مثلَ ذلك الإنزال { أنزلناه } أي القرآنَ كلَّه ، وإضمارُه من غير سبق ذكرِه للإيذان بنباهة شأنِه وكونِه مركوزاً في العقول حاضراً في الأذهان { قُرْءاناً عَرَبِيّاً } ليفهمه العربُ ويقفوا على ما فيه من النظم المعجزِ الدالِّ على كونه خارجاً عن طوق البشر نازلاً من عند خلاّق القُوى والقدر { وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد } أي كررنا فيه بعضَ الوعيد أو بعضاً من الوعيد حسبما أشير إليه آنفاً { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي كي يتقوا الكفرَ والمعاصيَ بالفعل { أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } اتعاظاً واعتباراً مؤدياً بالآخرة إلى الاتقاء .
{ فتعالى الله } استعظامٌ له تعالى ولشؤونه التي يُصرّف عليها عبادَه من الأوامر والنواهي والوعدِ والوعيد وغيرِ ذلك ، أي ارتفع بذاته وتنزّه عن مماثلة المخلوقين في ذاته وصفاتِه وأفعالِه وأحواله { الملك } النافذُ أمرُه الحقيقيُّ بأن يُرجى وعدُه ويُخشَى وعيدُه { الحق } في ملكوته وألوهيتِه لذاته ، أو الثابتُ في ذاته وصفاته { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ } أي يتِمَّ { وَحْيُهُ } كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا ألْقَى إليه عليه السلام الوحيَ يتبعه عند لفظِ كل حرفٍ وكل كلمةٍ لكمال اعتنائِه بالتلقّي والحِفظ فنُهيَ عن ذلك إثرَ ذكرِ الإنزال بطريق الاستطرادِ لِما أن استقرارَ الألفاظِ في الأذهان تابعٌ لاستقرار معانيها فيها ، وربما يَشغَل التلفظُ بكلمة عن سماع ما بعدها ، وأُمر باستفاضة العلمِ واستزادتِه منه تعالى فقيل :
{ وَقُلْ } أي في نفسك { رَّبّ زِدْنِى عِلْماً } أي سل الله عز وجل زيادةَ العلمِ فإنه الموصلُ إلى طِلْبتك دون الاستعجالِ ، وقيل : إنه نهُي عن تبليغ ما كان مجملاً قبل أن يأتيَ بيانُه وليس بذاك ، فإن تبليغَ المُجملِ وتلاوتَه قبل البيان مما لا ريب في صحته ومشروعيّتِه .
{ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى ءادَمَ } كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لتقرير ما سبق من تصريف الوعيدِ في القرآن وبيانِ أن أساسَ بني آدمَ على العصيان ، وعِرْقُه راسخٌ في النسيان مع ما فيه من إنجاز الموعودِ في قوله تعالى : { كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء مَا قَدْ سَبَقَ } يقال : عَهدِ إليه المِلكُ وعزم عليه وأوعز إليه وتقدّم إليه إذا أمره ووصاه ، والمعهودُ محذوفٌ يدل عليه ما بعده واللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي وأُقسِم أو وبالله أو وتالله لقد أمرناه ووصّيناه { مِن قَبْلُ } أي من قبلِ هذا الزمانِ { فَنَسِىَ } أي العهدَ ولم يعتنِ به حتى غفلَ عنه أو تركَه تركَ المنْسيِّ عنه ، وقرىء فنُسِّيَ أي نسّاه الشيطان { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } تصميمَ رأيٍ وثباتَ قدم في الأمور إذ لو كان كذلك لما أزله الشيطانُ ولَما استطاع أن يغُرّه وقد كان ذلك منه عليه السلام في بدء أمره من قبل أن يجرّب الأمورَ ويتولّى حارَّها وقارَّها ويذوقَ شَرْيَها وأَرْيها .(4/387)
عن النبي عليه الصلاة والسلام : « لو وُزنت أحلامُ بني آدمَ بحِلْم آدمَ لرجح حِلْمُه وقد قال الله تعالى : { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } » . وقيل : عزماً على الذنب فإنه أخطأ ولم يتعمّد وقوله تعالى : { وَلَمْ نَجِدْ } إن كان من الوجود العلميّ فله عزماً مفعولاه قُدّم الثاني على الأول لكونه ظرفاً ، وإن كان من الوجود المقابلِ للعدم وهو الأنسبُ لأن مصبَّ الفائدةِ هو المفعولُ وليس في الإخبار بكون العزْم المعدومِ له مزيدُ مزيةٍ فله متعلقٌ به قُدّم على مفعوله لما مر مراراً من الاهتمام بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخر ، أو بمحذوف هو حالٌ من مفعوله المنَكّر ، كأنه قيل : ولم نصادِفْ له عزماً(4/388)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)
وقوله تعالى :
{ وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لاِدَمَ } شروعٌ في بيان المعهودِ وكيفيةِ ظهور نسيانِه وفُقدانِ عزمِه ، وإذ منصوبٌ على المفعولية بمضمر خوطب به النبيُّ عليه الصلاة والسلام ، أي واذكر وقتَ قولِنا لهم ، وتعليقُ الذكر بالوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادث لما مر مراراً من المبالغة في إيجاب ذكرِها فإن الوقتَ مشتملٌ على تفاصيل الأمورِ الواقعةِ فيه ، فالأمرُ بذكره أمرٌ بذكر تفاصيلِ ما وقع فيه بالطريق البرهانيِّ ، ولأن الوقتَ مشتملٌ على أعيان الحوادثِ فإذا ذكر صارت الحوادثُ كأنها موجودةٌ في ذهن المخاطَبِ بوجود ذاتها العينيةِ ، أي اذكر ما وقع في ذلك الوقتِ منا ومنه حتى يتبينَ نسيانُه وفقدانُ عزمِه { فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ } قد سبق الكلامُ فيه مراراً { أبى } جملةٌ مستأنفةٌ وقعت جواباً عن سؤال نشأ عن الأخبار بعدم سجودِه ، كأنه قيل : ما بالُه لم يسجُدْ؟ فقيل : أبى واستكبر ، ومفعول أبى إما محذوفٌ أي أبى السجودَ كما في قوله تعالى : { أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين } أو غيرُ مَنْويَ رأساً بتنزيله منزلةَ اللام أي فعل الإباءَ وأظهره { فَقُلْنَا } عَقيبَ ذلك اعتناءً بنُصحه { ياءادم إِنَّ هذا } الذي رأيتَ ما فعل { عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا } أي لا يكونَنّ سبباً لإخراجكما { مِنَ الجنة } والمرادُ نهيُهما عن أن يكونا بحيث يتسبب الشيطانُ إلى إخراجهما منها بالطريق البرهاني ، كما في قولك : لا أُرَينّك هاهنا ، والفاءُ لترتيب موجبِ النهى على عداوته لهما أو على الإخبار بها { فتشقى } جوابٌ للنهي ، وإسنادُ الشقاء إليه خاصةً بعد تعليقِ الإخراجِ الموجبِ له بهما معاً لأصالته في الأمور واستلزامِ شقائِه لشقائها مع ما فيه من مراعاة الفواصل ، وقيل : المرادُ بالشقاء التعبُ في تحصيل مبادىء المعاشِ وذلك من وظائف الرجال .
{ إِنَّ لَكَ أَن لا تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تضحى } تعليلٌ لما يوجبه النهيُ فإن اجتماعَ أسبابِ الراحة فيها مما يوجب المبالغةَ في الاهتمام بتحصيل مبادىء البقاءِ فيها ، والجِدّ في الانتهاء عما يؤدّي إلى الخروج عنها . والعدلُ عن التصريح بأن له عليه السلام فيها تنعّماً بفنون النعم من المآكل والمشاربِ وتمتعاً بأصناف الملابسِ البهية والمساكنِ المرْضيةِ مع أن فيه من الترغيب في البقاء فيها ما لا يخفى إلى ما ذكر من نفْي نقائِضها التي هي الجوعُ والعطشُ والعُرْي والضُحِيّ لتذكير تلك الأمورِ المنْكرة ، والتنبيهِ على ما فيها من أنواع الشِّقوةِ التي حذّره عنها ليبالغَ في التحامي عن السبب المؤدي إليها ، على أن الترغيبَ قد حصل بما سوّغ له من التمتع بجميع ما فيها سوى ما استثني من الشجرة حسبما نطق به قوله تعالى :(4/389)
{ وَقُلْنَا يَاءادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا } وقد طُوي ذكرُه هاهنا اكتفاءً بما ذكر في موضع آخرَ واقتصر على ما ذكر من الترغيب المتضمّنِ للترهيب ، ومعنى { أَن لا تَجُوعَ فِيهَا } الخ ، أن لا يصيبَه شيء من الأمور الأربعة أصلاً فإن الشِبعَ والرِّيَّ والكسوة ، ولكن قد تحصُل بعد عروض أضدادِها بإعواز الطعام والشرابِ واللباس والمسكنِ وليس الأمر فيها كذلك ، بل كلُّ ما وقع فيها شهوةٌ وميلٌ إلى شيء من الأمور المذكورة تمتع به من غير أن يصل إلى حد الضرورة ، ووجهُ إفرادِه عليه السلام بما ذكر ما مر آنفاً ، وفصلُ الظمأ عن الجوع في الذكر مع تجانُسهما وتقارنِهما في الذكر عادةً وكذا حالُ العُرْي والضَّحْو المتجانسين ، لتوفية مقامِ الامتنان حقَّه بالإشارة إلى أن نفيَ كلِّ واحد من تلك الأمور نعمةٌ على حيالها ، ولو جمُع بين الجوعِ والظمأ لربما تُوهم أن نفيَهما نعمةٌ واحدةٌ ، وكذا الحال في الجمع بين العُرْي والضَّحْو على منهاج قصة البقرة ولزيادة التقريرِ بالتنبيه على أن نفيَ كل واحد من الأمورالمذكورة مقصودٌ بالذات مذكورٌ بالأصالة لا أن نفيَ بعضِها مذكورٌ بطريق الاستطرادِ والتبعية لنفي بعضٍ آخرَ كما عسى يُتوهم لو جمع بين كلَ من المتجانسين ، وقرىء إنك بالكسر والجمهورُ على الفتح بالعطف على أن لا تجوع ، وصحةُ وقوعِ الجملة المصدّرةِ بأن المفتوحة اسماً للمكسورة المشاركة لها في إفادة التحقيقِ مع امتناع وقوعِها خبراً لها لما أن المحذورَ اجتماعُ حرفي التحقيق في مادة واحدة ولا اجتماعَ فيما نحن فيه لاختلاف مناطِ التحقيقِ فيما في حيزهما ، بخلاف ما لو وقعت خبراً لها فإن اتحادَ المناطِ حينئذ مما لا ريب فيه بيانُه أن كل واحدةٍ من المكسورة والمفتوحة موضوعةٌ لتحقيق مضمونِ الجملة الخبريةِ المنعقدةِ من اسمها وخبرِها ، ولا يخفى أن مرجِعَ خبريّتها ما فيها من الحُكم الإيجابي أو السلبيِّ وأن مناطَ ذلك الحكمِ خبرُها لا اسمُها ، فمدلولُ كلَ منهما تحقيقُ ثبوتِ خبرِها لاسمها لا ثبوتِ اسمِها في نفسه ، فاللازمُ من وقوع الجملةِ المصدرةِ بالفتحة اسماً للمكسورة تحقيقُ ثبوتِ خبرها لتلك الجملةِ المؤولة بالمصدر ، وأما تحقيقُ ثبوتِها في نفسها فهو مدلولُ المفتوحةِ حتماً فلم يلزَم اجتماعُ حرفي التحقيق في مادة واحدة قطعاً ، وإنما لم يجوّزوا أن يقال : أن زيداً قائم ، حتى مع اختلاف المناطِ بل شرطوا الفصلَ بالخبر كقولنا : إن عندي أن زيداً قائم للتجافي عن صورة الاجتماعِ ، والواوُ العاطفة وإن كانت نائبةً عن المكسورة التي يمتنع دخولُها على المفتوحة بلا فصل وقائمةً مقامَها في إفضاء معناها وإجزاءِ أحكامِها على مدخولها ، لكنها حيث لم تكن حرفاً موضوعاً للتحقيق لم يلزم من دخولها على المفتوحة اجتماعُ حرفي التحقيقِ أصلاً ، فالمعنى إن لك عدمَ الجوعِ وعدمَ العُري وعدَم الظمأ خلا أنه لم يُقتصَر على بيان أن الثابتَ له عليه السلام عدمُ الظمأ والضَّحْو مطلقاً كما فُعل مثلُه في المعطوف عليه بل قُصد بيانُ أن الثابتَ له عليه السلام تحقيقُ عدمِهما فوُضِع موضعَ الحرفِ المصدريّ المحض إنّ المفيدةُ له ، كأنه قيل : إن لك فيها عدمَ ظمئك على التحقيق .(4/390)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)
{ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان } أي أنهى إليه وسوسته أو أسرها إليه { قَالَ } إما بدلٌ من وسوس أو استئنافً وقع جواباً عن سؤال نشأ منه ، كأنه قيل : فماذا قال في وسوسته؟ فقيل : قال : { يائادم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد } أيْ شجرةٍ مَنْ أكل منها خلّد ولم يمُت أصلاً سواءٌ كان عن حاله أو بأن يكون ملَكاً لقوله تعالى : { إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين } { وَمُلْكٍ لاَّ يبلى } أي لا يزول ولا يختلّ بوجه من الوجوه .
{ فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءتُهُمَا } قال ابن عباس رضي الله عنهما : عَرِيا عن النور الذي كان الله تعالى ألبسهما حتى بدت فروجُهما { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة } قد مر تفسيرة في سورة الأعراف { وعصى ءادَمَ رَبَّهُ } بما ذكر من أكل الشجرة { فغوى } ضل عن مطلوبه الذي هو الخلودُ أو المأمورُ به أو عن الرَّشَد حيث اغتر بقول العدوّ ، وقرىء فغوي من غوي الفصيل إذا أُتخم من اللبن ، وفي وصفه عليه السلام بالعصيان والغَواية مع صغر زلّتِه تعظيمٌ لها وزجرٌ بليغ لأولاده عن أمثالها .
{ ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ } أي اصطفاه وقرّبه إليه بالحمل على التوبة والتوفيقِ لها ، من اجتبى الشيءَ بمعنى جباه لنفسه أي جمعه ، كقوله : اجتمعتُه أو من جبى إليّ كذا فاجتبيته مثل جليتُ على العروس فأجليتُها ، وأصلُ الكلمة الجمعُ وفي التعرض لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام مزيدُ تشريفٍ له عليه السلام { فَتَابَ عَلَيْهِ } أي قبِل توبتَه حين تاب هو وزوجتُه قائلين : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } وإفرادُه عليه السلام بالاجتباء وقَبولِ التوبة قد مرّ وجهُه { وهدى } أي إلى الثبات على التوبة والتمسكِ بأسباب العصمة .
{ قَالَ } استئنافٌ مبنيّ على سؤال نشأ من الإخبار بأنه تعالى قبِل توبته وهداه ، كأنه قيل : فماذا أمره تعالى بعد ذلك؟ فقيل : قال له ولزوجته : { اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً } أي انزِلا من الجنة إلى الأرض وقوله تعالى : { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } حالٌ من ضمير المخاطب في اهبِطا والجمعُ لما أنهما أصلُ الذرية ومنشأُ الأولاد ، أي مُتعادِين في أمر المعاشِ كما عليه الناسُ من التجاذُب والتحارُب { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى } من كتاب ورسول { فَمَنِ اتبع هُدَاىَ } وُضع الظاهرُ موضعَ المضمرِ مع الإضافة إلى ضميره تعالى لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعِه { فَلاَ يَضِلُّ } في الدنيا { وَلاَ يشقى } في الآخرة .(4/391)
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)
{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى } أي عن الهدى الذاكرِ لي والداعي إليّ { فَإِنَّ لَهُ } في الدنيا { مَعِيشَةً ضَنكاً } ضيقاً ، مصدرٌ وصف به ولذلك يستوي فيه المذكرُ والمؤنثُ ، وقرىء ضنكى كسَكْرى وذلك لأن مجامعَ همتِه ومطامحَ نظرِه مقصورةٌ على أعراض الدنيا وهو متهالكٌ على ازديادها وخائفٌ على انتقاصها بخلاف المؤمنِ الطالبِ للآخرة ، مع أنه قد يضيق الله تعالى بشؤم الكفر ويوسع ببركة الإيمان كما قال تعالى : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة } وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ءامَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء والأرض } وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب ءامَنُواْ } إلى قوله تعالى : { لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } وقيل : هو الضَّريعُ والزقومُ في النار ، وقيل : عذاب القبر { وَنَحْشُرُهُ } وقرىء بسكون الهاء على لفظ الوقفِ وبالجزم عطفاً على محل ( فإن له معيشةً ضنكاً ) لأنه جواب الشرط { يَوْمَ القيامة أعمى } فاقدَ البصر كما في قوله تعالى : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا } لا أعمى عن الحجة كما قيل { قَالَ } استئنافٌ كما مر { رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } أى في الدنيا ، وقرىء أعمى بالإمالة في الموضعين وفي الأول فقط لكونه جديراً بالتغيير لكونه رأسَ الآية ومحلَّ الوقف .
{ قَالَ كذلك } أي مثلَ ذلك فعلتَ أنت ثم فسره بقوله تعالى : { أَتَتْكَ اياتنا } واضحةً نيِّرةً بحيث لا تخفى على أحد { فَنَسِيتَهَا } أي عَمِيتَ عنها وتركتها ترْكَ المنسيِّ الذي لا يُذكر أصلاً { وكذلك } ومثلَ ذلك النسيانِ الذي كنت فعلته في الدنيا { اليوم تنسى } تترك في العمى جزاءً وفاقاً لكن لا أبداً كما قيل بل إلى ما شاء الله ، ثم يزيله عنه فيرى أهوالَ القيامة ويشاهد مقعدَه في النار ويكون ذلك له عذاباً فوق العذاب ، وكذا البَكَم والصمَمُ يزيلهما الله تعالى عنه { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } { وكذلك } أي مثلَ ذلك الجزاءِ الموافقِ للجناية { نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ } بالانهماك في الشهوات { وَلَمْ يُؤْمِن بئايات رَبّهِ } بل كذبها وأعرض عنها { وَلَعَذَابُ الأخرة } على الإطلاق أو عذابُ النار { أَشَدُّ وأبقى } أي من ضنْك العيشِ أو منه ومن الحشر على العمى .
{ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون } كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لتقرير ما قبله من قوله تعالى : { وكذلك } الآية ، والهمزةُ للإنكارالتوبيخي والفاءُ للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، واستعمالُ الهداية باللام إما لتنزيلها منزلةَ اللام فلا حاجةَ إلى المفعول أو لأنها بمعنى التبيين والمفعولُ محذوفٌ ، وأياً ما كان فالفاعلُ هو الجملة بمضمونها ومعناها وضمير لهم للمشركين المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمعنى أغَفلوا فلم يَفعل الهدايةَ لهم أو فلم يبين لهم مآلَ أمرِهم كثرةُ إهلاكنا للقرون الأولى وقد مر في قوله عز وجل :(4/392)
{ أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَا } الآية ، وقيل : الفاعلُ الضميرُ العائد إلى الله عز وجل ويؤيده القراءةُ بنون العظمة وقوله تعالى : { كَمْ أَهْلَكْنَا } الخ ، إما معلِّقٌ للفعل سادٌّ مسدَّ مفعولِه أو مفسّرٌ لمفعوله المحذوف هكذا قيل ، والأوجهُ أن لا يُلاحَظَ مفعولٌ كأنه قيل : أفلم يفعلِ الله تعالى لهم الهدايةَ؟ ثم قيل بطريق الالتفاتِ : كم أهلكنا الخ بياناً لتلك الهدايةِ ، ومن القرى في محل النصبِ على أنه وصفٌ لممُيِّزِكَم أي كم قرناً كائناً من القرون وقوله تعالى : { يَمْشُونَ فِى مساكنهم } حالٌ من القرون أو من مفعول أهلكْنا ، أي أهلكناهم وهم في حال أمنٍ وتقلّبٍ في ديارهم أو من الضمير في لهم مؤكدٌ للإنكار والعاملُ يهد ، والمعنى أفلم يهد لهم إهلاكُنا للقرون السالفة من أصحاب الحِجْر وثمودَ وقُريّات قوم لوطٍ حالَ كونهم ماشين في مساكنهم إذا سافروا إلى الشام مشاهدين لآثار هلاكِهم ، مع أن ذلك مما يوجب أن يهتدوا إلى الحق فيعتبروا لئلا يحِلَّ بهم مثلُ ما حل بأولئك ، وقرىء يُمْشَوْن على البناء للمفعول أي يمكثون على المشي { إِنَّ فِى ذَلِكَ } تعليلٌ للإنكار وتقريرٌ للهداية مع عدم اهتدائِهم ، وذلك إشارةٌ إلى مضمون قوله تعالى : { كَمْ أَهْلَكْنَا } الخ ، وما فيه من معنى البُعد للإشعار ببُعْد منزلتِه وعلوِّ شأنه في بابه { لاَيَاتٍ } كثيرةً عظيمةً واضحاتِ الهداية ظاهراتِ الدِلالة على الحق ، فإذن هو هادٍ وأيُّما هادٍ ويجوز أن تكون كلمةُ في تجريدية فافهم { لأُوْلِى النهى } لذوي العقولِ الناهيةِ عن القبائح التي من أقبحها ما يتعاطاه كفارُ مكّة من الكفر بآيات الله تعالى والتعامي عنها وغيرِ ذلك من فنون المعاصي ، وفيه دلالةٌ على أن مضمونَ الجملة هو الفاعلُ لا المفعول .(4/393)
وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
وقوله تعالى : { فاختلفوا وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ } كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان حِكمة عدمِ وقوعِ ما يُشعر به قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } الآية ، من أن يصيبَهم مثلُ ما أصاب القرونَ المهلَكة ، أي ولولا الكلمةُ السابقةُ وهي العِدَةُ بتأخير عذابِ هذه الأمة إلى الآخرة لحكمة تقتضيه ومصلحةٍ تستدعيه { لَكَانَ } عقابُ جناياتِهم { لِزَاماً } أي لازماً لهؤلاء الكفرةِ بحيث لا يتأخر عن جناياتهم ساعةً لزومُ ما نزل بأولئك الغابرين ، وفي التعرض لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام تلويحٌ بأن هذا التأخيرَ لتشريفه عليه السلام كما ينبىء عنه قوله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } واللِّزامُ إما مصدرٌ لازمٌ وُصِف به مبالغةً وإما فِعالٌ بمعنى مِفْعل ، جُعل آلةَ اللزوم لفَرْط لزومه كما يقال : لِزازُ خصم { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } عطف على ( كلمةٌ ) أي ولولا أجلٌ مسمًّى لأعمارهم أو لعذابهم وهو يومُ القيامة ويومُ بدر لما تأخر عذابُهم أصلاً ، وفصلُه عما عطف عليه للمسارعة إلى بيان جوابِ لولا وللإشعار باستقلال كلَ منهما بنفي لزومِ العذابِ ومراعاةِ فواصلِ الآيةِ الكريمةِ ، وقد جوّز عطفُه على المستكن في كان العائدِ إلى الأخذ العاجلِ المفهومِ من السياق تنزيلاً للفصل بالخبر منزلةَ التأكيد ، أي لكان الأخذُ العاجلُ وأجلٌ مسمى لازمَين لهم كدأب عادٍ وثمودَ وأضرابِهم ولم ينفرد الأجلُ المسمى دون الأخذِ العاجل .(4/394)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)
{ فاصبر على مَا يَقُولُونَ } أي إذا كان الأمرُ على ما ذكر من أن تأخيرَ عذابِهم ليس بإهمال بل إمهالٍ وأنه لازمٌ لهم البتةَ ، فاصبِرْ على ما يقولون من كلمات الكفرِ فإن علمه عليه السلام بأنهم معذبون لا محالة مما يسلّيه ويحمِلُه على الصبر { وَسَبّحْ } ملتبساً { بِحَمْدِ رَبّكَ } أي صلِّ وأنت حامدٌ لربك الذي يبلّغك إلى كمالك على هدايته وتوفيقِه ، أو نزِّهه تعالى عما ينسُبونه إليه مما لا يليق بشأنه الرفيعِ حامداً له على ما ميّزك بالهدى معترفاً بأنه مولى النّعم كلِّها ، والأولُ هو الأظهرُ المناسبُ لقوله تعالى : { قَبْلَ طُلُوعِ الشمس } الخ ، فإن توقيت التنزيه غيرُ معهودٍ فالمرادُ صلاة الفجر { وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } يعني صلاتي الظهرِ والعصر لأنهما قبل غروبِها بعد زوالها ، وجمعُهما لمناسبة قوله تعالى : { قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ صلاة العَصْرِ } { وَمِنْ ءانَاء اليل } أي من ساعاته جمع إِنًى بالكسر والقصر ، وآناء بالفتح والمد { فَسَبّحْ } أي فصلِّ والمرادُ به المغربُ والعشاءُ إيذاناً باختصاصهما بمزيد الفضلِ فإن القلبَ فيهما أجمعُ والنفسَ إلى الاستراحة أميلُ فتكون العبادةُ فيهما أشقَّ ، ولذلك قال تعالى : { إِنَّ نَاشِئَةَ اليل هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } { وَأَطْرَافَ النهار } تكريرٌ لصلاته الفجر والمغرِب إيذاناً باختصاصهما بمزيد مزيةٍ ، ومجيئُه بلفظ الجمعِ لأمن الإلباس كقول من قال : ظَهراهما مثلُ ظهورِ التُّرسين ، أو أمرٌ بصلاة الظهر فإنه نهايةُ النصفِ الأول من النهار وبدايةُ النصف الأخيرِ ، وجمعُه باعتبار النصفين أو لأن النهارَ جنسٌ أو أمرٌ بالتطوع في أجزاء النهار { لَعَلَّكَ ترضى } متعلقٌ بسبح أي في هذه الأوقات رجاءَ أن تنال عنده تعالى ما ترضَى به نفسُك ، وقرىء تُرضَى على صيغة البناء للمفعول من أرضى أي يُرضيك ربك .
{ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } أي لا تُطِلْ نظرَهما بطريق الرغبة والميل { إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ } من زخارف الدنيا ، وقوله تعالى : { أزواجا مّنْهُمْ } أي أصنافاً من الكَفَرة مفعول متّعنا قُدّم عليه الجارُّ والمجرور للاعتناء به ، أو هو حالٌ من الضمير والمفعولُ منهم أي إلى الذي متعنا به وهو أصنافُ وأنواعُ بعضِهم على أنه معنى مِنْ التبعيضية ، أو بعضاً منهم على حذف الموصوفِ كما مر مراراً { زَهْرَةَ الحياة الدنيا } منصوبٌ بمحذوف يدل عليه متعنا أي أعطينا أو به على تضمين معناه ، أو بالبدلية من محل به أو من أزواجاً بتقدير مضافٍ أو بدونه ، أو بالذم وهي الزينةُ والبهجةُ ، وقرىء زهَرةَ بفتح الهاء وهي لغة كالجهَرة في الجهْرة أو جمعُ زاهر ، وصفٌ لهم بأنهم زاهِرو الدنيا لتنعُّمهم وبهاءِ زِيِّهم بخلاف ما عليه المؤمنون الزهّاد { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } متعلقٌ بمتعنا جيء به للتنفير عنه ببيان سوءِ عاقبتِه مآلاً إثرَ إظهارِ بهجتِه حالاً ، أي لنعاملهم معاملةَ من يبتليهم ويختبرُهم فيه أو لنعذّبهم في الآخرة بسببه { وَرِزْقُ رَبّكَ } أي ما ادخّر لك في الآخرة أو ما رزقك في الدنيا من النبوة والهدى { خَيْرٌ } مما منحهم في الدنيا لأنه مع كونه في نفسه أجلَّ ما يتنافس فيه المتنافسون مأمونُ الغائلةِ بخلاف ما منحوه { وأبقى } فإنه لا يكاد ينقطع نفْسُه أو أثرُه أبداً كما عليه زهرة الدنيا .(4/395)
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)
{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة } أُمر عليه السلام بأن يأمر أهلَ بيته والتابعين له من أمته بالصلاة بعد ما أُمر هو بها ليتعاونوا على الاستعانة على خَصاصتهم ولا يهتموا بأمر المعيشة ولا يلتفتوا لفتَ أربابِ الثروة { واصطبر عَلَيْهَا } وثابرْ عليها غيرَ مشتغلٍ بأمر المعاش { لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً } أي لا نكلّفك أن ترزُقَ نفسَك ولا أهلَك { نَّحْنُ نَرْزُقُكَ } وإياهم ففرِّغْ بالَك بأمر الآخرة { والعاقبة } الحميدةُ { للتقوى } أي لأهل التقوى ، على حذف المضافِ وإقامة المضافِ إليه مُقامَه تنبيهاً على أن مَلاكَ الأمر هو التقوى . روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أصاب أهلَه ضُرٌّ أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية { وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِئَايَةٍ مّن رَّبّهِ } حكاية لبعض أقاويلهم الباطلةِ التي أُمر عليه السلام بالصبر عليها ، أي هلا يأتينا بآية تدل على صدقة في دعوى النبوةِ أو بآية مما اقترحوها بلغوا من المكابرة والعِناد إلى حيث لم يعُدوا ما شاهدوا من المعجزات التي تخِرّ لها صُمُّ الجبال من قبيل الآيات حتى اجترأوا على التفوه بهذه العظيمة الشنعاء ، وقوله تعالى : { أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَةُ مَا فِى الصحف الأولى } أي التوراةِ والإنجيل وسائرِ الكتبِ السماوية ، ردٌّ من جهته جل وعلا لمقالتهم القبيحةِ وتكذيبٌ لهم فيما دسوا تحتها من إنكار مجيءِ الآية بإتيان القرآنِ الكريم الذي هو أمُّ الآياتِ وأُسُّ المعجزات وأعظمُها وأبقاها ، لأن حقيقةَ المعجزةِ اختصاصُ مدّعي النبوة بنوع من الأمور الخارقةِ للعادات أيِّ أمرٍ كان ، ولا ريب في أن العلمُ أجلُّ الأمور وأعلاها إذ هو أصلُ الأعمال ومبدأَ الأفعالِ ولقد ظهر مع حيازته لجميع علومِ الأولين والآخرين على يد أميَ لم يمارس شيئاً من العلوم ولم يدارس أحداً من أهلها أصلاً ، فأيُّ معجزة تُراد بعدَ ورودِه وأيُّ آية ترام مع وجوده ، وفي إيراده بعنوان كونِه بينةَ ما في الصحف الأولى ومن التوراة والإنجيل وسائرِ الكتبِ السماوية أي شاهداً بحقية ما فيها من العقائد الحقةِ وأصولِ الأحكام التي أجمعت عليها كافةُ الرسل ، وبصحة ما تنطِقُ به من أنباء الأمم من حيث أنه غنيٌّ بإعجازه عما يشهد بحقّيته ، حقيقٌ بإثبات حقّيةِ غيرِه ما لا يخفى من تنويه شأنِه وإنارة برهانِه ، ومزيدُ تقريرٍ وتحقيقٍ لإتيانه ، وإسنادُ الإتيان إليه مع جعلهم إياه مأتياً به للتنبيه على أصالته فيه مع ما فيه من المناسبة للبينة ، والهمزةُ لإنكار الوقوعِ والواوُ للعطف على مقدر يقتضيه المقامُ ، كأنه قيل : ألم يأتهم سائرُ الآياتِ ولم تأتهم خاصةً بينةُ ما في الصحف الأولى؟ تقريراً لإتيانه وإيذاناً من الوضوح بحيث لا يتأتى منهم إنكارُه أصلاً وإن اجترأوا على إنكار سائر الآياتِ مكابرةً وعِناداً ، وقرىء أولم يأتهم بالياء التحتانية ، وقرىء الصُّحْفِ بالسكون تخفيفاً .(4/396)
وقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ } إلى آخر الآية جملةٌ مستأنفةٌ سيقت لتقرير ما قبلها من كون القرآن آيةً بينةً لا يمكن إنكارُها ببيان أنهم يعترفون بها يوم القيامة ، والمعنى لو أنا أهلكناهم في الدنيا بعذاب مستأصِل { مِن قَبْلِهِ } متعلقٌ بأهلكنا أو بمحذوف هو صفةٌ لعذاب أي بعذاب كائنٍ من قبل إتيانِ البينة أو قبلِ محمد عليه الصلاة والسلام { لَقَالُواْ } أي يوم القيامة { رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا } في الدنيا { رَسُولاً } مع كتاب { فَنَتَّبِعَ ءاياتك } التي جاءنا بها { مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ } بالعذاب في الدنيا { ونخزى } بدخول النار اليوم ولكنا لم نُهلكهم قبل إتيانِها فانقطعت معذِرتُهم فعند ذلك قالوا : بلى ، قد جاءنا نذيرٌ فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء .(4/397)
قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
{ قُلْ } لأولئك الكفرة المتمردين { كُلٌّ } أي كلُّ واحدٍ منا ومنكم { مُّتَرَبّصٌ } منتظِرٌ لما يؤول إليه أمرُنا وأمرُكم { فَتَرَبَّصُواْ } وقرىء فتمتعوا { فَسَتَعْلَمُونَ } عن قريب { مَنْ أصحاب الصراط السوي } أي المستقيمِ ، وقرىء السواءِ أي الوسطِ الجيد ، وقرىء السوءِ والسُّوآي والسُّوَي تصغيرُ السوء { وَمَنِ اهتدى } من الضلالة ومَنْ في الموضعين استفهاميةٌ محلُّها الرفعُ بالابتداء خبرُها ما بعدها ، والجملةُ سادةٌ مسدَّ مفعولي العلم أو مفعولِه ، ويجوز كونُ الثانية موصولةً بخلاف الأولى لعدم العائد فتكون معطوفةً على محل الجملةِ الاستفهامية المعلَّقِ عنها الفعلُ على أن العلم بمعنى المعرفة أو على أصحاب أو على الصراط ، وقيل : العائدُ في الأولى محذوفٌ والتقديرُ من هم أصحابُ الصراط .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ سورةَ طاه أُعطِيَ يوم القيامة ثوابَ المهاجرين والأنصار » وقال : « لا يقرأ أهلُ الجنة من القرآن إلا سورةَ طاه ويس » .(4/398)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
{ اقترب لِلنَّاسِ حسابهم } مناسبةُ هذه الفاتحةِ الكريمة لما قبلها من الخاتمة الشريفة غنيةٌ عن البيان . قال ابن عباس رضي الله عنهما : المرادُ بالناس المشركون وهو الذي يُفصح عنه ما بعده ، والمرادُ باقتراب حسابِهم اقترابُه في ضمن اقترابِ الساعةِ ، وإسنادُ الاقترابِ إليه لا إلى الساعة مع استتباعها له ولسائر ما فيها من الأحوال والأهوالِ الفظيعة لانسياق الكلامِ إلى بيان غفلتِهم عنه وإعراضِهم عما يذكّرهم ذلك ، واللامُ متعلقةٌ بالفعل ، وتقديمُها على الفاعل للمسارعة إلى إدخال الروعةِ فإن نسبةَ الاقتراب إليهم من أول الأمر مما يسوؤهم ويُورثهم رَهبةً وانزعاجاً من المقترِب ، كما أن تقديمَ الجارِّ والمجرور على المفعول الصريحِ في قوله تعالى : { هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض } لتعجيل المسرّة لما أن بيان كونِ الخلق لأجل المخاطَبين مما يسرّهم ويزيدهم رغبةً فيما خُلق لهم وشوقاً إليه ، وجعلها تأكيداً للإضافة على أن الأصلَ المتعارفَ فيما بين الأوساط اقترب حسابُ الناس ثم اقترب للناس الحسابُ ثم اقترب للناس حسابُهم مع أنه تعسفٌ تامٌّ بمعزل عا يقتضيه المقامُ وإنما الذي يستدعيه حسنُ النظام ما قدمناه والمعنى دنا منهم حسابُ أعمالِهم السيئةِ الموجبة للعقاب ، وفي إسناد الاقترابِ المنبىءِ عن التوجه نحوَهم إلى الحساب مع إمكان العكس بأن يُعتبرَ التوجّهُ والإقبالُ من جهتهم نحوه من تفخيم شأنِه وتهويلِ أمره ما لا يخفى لما فيه من تصويره بصورة شيءٍ مقبلٍ عليهم لا يزال يطلُبهم ويصيبهم لا محالة ، ومعنى اقترابِه لهم تقارُبُه ودُنوُّه منهم بعدَ بُعدِه عنهم فإنه في كل ساعة من ساعات الزمان أقربُ إليهم منه في الساعة السابقة .
هذا وأما الاعتذارُ بأن قربَه بالإضافة إلى ما مضى من الزمان أو بالنسبة إلى الله عز وجل أو باعتبار أن كلَّ آتٍ قريبٌ فلا تعلُّقَ له بما نحن فيه من الاقتراب المستفادِ من صيغة الماضي ولا حاجة إليه في تحقيق أصلِ معناه ، نعم قد يفهم منه عُرفاً كونُه قريباً في نفسه أيضاً فيصار حينئذ إلى التوجيه بالوجه الأولِ دون الأخيرين ، أما الثاني فلا سبيلَ إلى اعتباره هاهنا لأن قربَه بالنسبة إليه تعالى مما لا يُتصوّر فيه التجددُ والتفاوتُ حتماً ، وإنما اعتبارُه في قوله تعالى : { لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ } ونظائرِه مما لا دَلالةَ فيه على الحدوث ، وأما الثالثُ فلا دِلالةَ فيه على القرب حقيقةً ولو بالنسبة إلى شيء آخر .
{ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ } أي في غفلة تامةٍ منه ساهون عنه بالمرة لا أنهم غيرُ مبالين به مع اعترافهم بإتيانه ، بل منكرون له كافرون به مع اقتضاء عقولِهم أن الأعمالَ لا بد لها من الجزاء { مُّعْرِضُونَ } أي عن الآيات والنذرُ المنبّهة لهم عن سِنَة الغفلة ، وهما خبران للضمير وحيث كانت الغفلةُ أمراً جِبِلّياً لهم جُعل الخبرُ الأول ظرفاً منبئاً عن الاستقرار بخلاف الإعراض ، والجملةُ حالٌ من الناس ، وقد جُوّز كونُ الظرف حالاً من المستكن في معرضون .(4/399)
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
{ مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ } من طائفة نازلةٍ من القرآن تذكّرهم ذلك أكملَ تذكيرٍ وتنبّههم عن الغفلة أتمَّ تنبيهٍ ، كأنها نفسُ الذكر ومن في قوله تعالى : { مّن رَّبّهِمُ } لابتداء الغايةِ مجازاً متعلقةٌ بيأتيهم أو بمحذوف هو صفةٌ لذكر ، وأياً ما كان ففيه دِلالةٌ على فضله وشرفِه وكمالِ شناعةِ ما فعلوا به ، والتعرضُ لعنوان الربوبية لتشديد التشنيع { مُّحْدَثٍ } بالجر صفةٌ لذكر ، وقرىء بالرفع حملاً على محلّه أي محدَثٌ تنزيلُه بحسب اقتضاءِ الحكمةِ وقوله تعالى : { إِلاَّ استمعوه } استثناءٌ مفرَّغٌ محلُّه النصبُ على أنه حالٌ من مفعول يأتيهم بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور وقوله تعالى : { وَهُمْ يَلْعَبُونَ } حالٌ من فاعل استمعوه وقوله تعالى : { لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ } إما حالٌ أخرى منه أو من واو يلعبون والمعنى ما يأتيهم ذكرٌ من ربهم محدَثٌ في حال من الأحوال إلا حالَ استماعِهم إياه لاعبين مستهزئين به لاهين عنه ، أو لاعبين به حالَ كون قلوبِهم لاهيةً عنه لتناهي غفلتِهم وفرْطِ إعراضِهم عن النظر في الأمور والتفكرِ في العواقب ، وقرىء لاهيةٌ بالرفع على أنه خبرٌ بعد خبر { وَأَسَرُّواْ النجوى } كلامٌ مستأنفٌ مَسوق لبيان جنايةٍ خاصة إثرَ حكايةِ جناياتهم المعتادة ، والنجوى اسمٌ من التناجي ومعنى إسرارِها مع أنها لا تكون إلا سرًّا أنهم بالغوا في إخفائها أو أسروا نفسَ التناجي بحيث لم يشعُر أحدٌ بأنهم متناجون وقوله تعالى : { الذين ظَلَمُواْ } بدلٌ من واو أسروا منبىء عن كونهم موصوفين بالظلم الفاحش فيما أسروا به ، أو هو مبتدأٌ خبرُه أسروا النجوى قُدّم عليه اهتماماً به ، والمعنى هم أسرّوا النجوى فوُضِع الموصولُ موضعَ الضمير تسجيلاً على فعلهم بكونه ظلماً أو منصوبٌ على الذم وقوله : { هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } الخ ، في حيّز النصبِ على أنه مفعولٌ لقول مضمرٍ هو جوابٌ عن سؤال نشأ عما قبله ، كأنه قيل : ماذا قالوا في نجواهم؟ فقيل : قالوا هل هذا الخ ، أو بدلٌ من أسرّوا أو معطوفٌ عليه أو على أنه بدلٌ من النجوى ، أي أسروا هذا الحديثَ وهل بمعنى النفي والهمزة في قوله تعالى : { أَفَتَأْتُونَ السحر } للإنكار والفار للعطف على مقدّر يقتضيه المقام ، وقوله تعالى : { وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } حال من فاعل تأتون مقرِّرة للإنكار ومؤكدةٌ للاستبعاد ، والمعنى ما هذا إلا بشرٌ مثلُكم أي من جنسكم وما أتى به سحرٌ ، أتعلمون ذلك فتأتونه وتحضُرونه على وجه الإذعان والقَبول وأنتم تعاينون أنه سحر قالوه بناءً على ما ارتكز في اعتقادهم الزائغِ أن الرسولَ لا يكون إلا ملَكاً وأن كل ما يظهر على يد البشر من الخوارق من قبيل السحر ، وزل عنهم أن إرسالَ البسر إلى عامة البشر هو الذي تقتضيه الحكمةُ التشريعية قاتلهم الله أنى يؤفكون ، وإنما أسروا ذلك لأنه كان على طريق توثيقِ العهدِ وترتيب مبادي الشرِّ والفساد وتمهيدِ مقدمات المكرِ والكيد في هدم أمرِ النبوة وإطفاءِ نورِ الدين والله متمٌّ نورَه ولو كره الكافرون .(4/400)
قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
{ قَالَ رَبّى يَعْلَمُ القول فِى السماء والأرض } حكايةٌ من جهته تعالى لما قاله عليه السلام بعد ما أوحى إليه أحوالَهم وأقوالَهم بياناً لظهور أمرِهم وانكشافِ سرِّهم ، وإيثارُ القول المنتظمِ للسر والجهر على وتيرة واحدة لا تفاوتَ بينهما بالجلاء والخفاء قطعاً كما في علوم الخلقِ ، وقرىء : قل ربي الخ ، وقوله تعالى : { فِى السماء والأرض } متعلقٌ بمحذور وقع حالاً من القول أي كائناً في السماء والأرض وقوله تعالى : { وَهُوَ السميع العليم } أي المبالغُ في العلم بالمسموعات والمعلومات التي من جملتها ما أسروه من النجوى فيجازيهم بأقوالهم وأفعالهم ، اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ لمضمون ما قبله متضمنٌ للوعيد .
{ بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ } إضرابٌ من جهته تعالى وانتقالٌ من حكاية قول آخرَ مضطربٍ في مسالك البطلان ، أي لم يقتصروا على أن يقولوا في حقه عليه السلام : هل هذا إلا بشرٌ؟ وفي حق ما ظهر على يده من القرآن الكريم إنه سحرٌ ، بل قالوا تخاليطُ الأحلام ثم أضربوا عنه فقالوا : { بَلِ افتراه } من تلقاء نفسِه من غير أن يكون له أصلٌ أو شبهةُ أصلٍ ، ثم قالوا : { بَلْ هُوَ شَاعِرٌ } وما أتى به شعرٌ يُخيّل إلى السامع معانيَ لا حقيقة لها وهكذا شأنُ المبطِلِ المحجوجِ متحيّرٌ لا يزال يتردد بين باطلٍ وأبطلَ ويتذبذب بين فاسد وأفسدَ ، فالإضرابُ الأول كما ترى من جهته تعالى والثاني والثالث من قبلهم وقد قيل : الكلُّ من قبلهم حيث أضربوا عن قولهم : هو سحرٌ إلى أنه تخاليطُ أحلام ، ثم إلى أنه كلامٌ مفترًى ثم إلى أنه قولُ شاعر ، ولا ريب في أنه كان ينبغي حينئذ أن يقال : قالوا : بل أضغاثُ أحلامٍ والاعتذارُ بأن ( بل قالوا ) مقولٌ لقالوا المضمرِ قبل قوله تعالى : { هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ } الخ ، كأنه قيل : وأسروا النجوى قالوا : ( هل هذا ) إلى قوله : ( بل أضغاثُ أحلام ) ، وإنما صرح بقالوا بعد بل لبُعْد العهد مما يجب تنزيهُ ساحة التنزيلِ عن أمثاله { فَلْيَأتِنا بِآيَة } جوابُ شرطٍ محذوفٍ يفصح عنه السياقُ ، كأنه قيل : وإن لم يكن كما قلنا بل كان رسولاً من الله تعالى فليأتنا بآية { كَمَا أُرْسِلَ الأولون } أي مثلَ الآية التي أرسل بها الأولون كاليد والعصا ونظائرِهما حتى نؤمن به ، فما موصولةٌ ومحلُّ الكاف الجرُّ على أنها صفةٌ لآية ويجوز أن تكون مصدريةً فالكافُ منصوبةٌ على أنها مصدرٌ تشبيهيٌّ أي نعتٌ لمصدر محذوفٍ ، أي فليأتنا بآية إتياناً كائناً مثلَ إرسالِ الأولين بها ، وصِحّةُ التشبيه من حيث إن الإتيانَ بالآية من فروع الإرسالِ بها أي مثلَ إتيانٍ مترتبٍ على الإرسال ، ويجوز أن يحمل النظمُ الكريمُ على أنه أريد كلُّ واحد من الإتيان والإرسال في كل واحد من طرفي التشبيه ، لكنه تُرك في جانب المشبّه ذكرُ الإرسال وفي جانب المشبّهِ به ذكرُ الإتيانِ اكتفاءً بما ذكر في كل موطنٍ عما تُرك في الموطن الآخر حسبما مر في آخر سورة يونسَ عليه السلام .(4/401)
{ مَا ءامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَةٍ } كلامٌ مستأنفٌ مَسوق لتكذيبهم فيما تنبىء عنه خاتمةُ مقالهم من الوعد الضمنيّ بالإيمان كما أشير إليه ، وبيانِ أنهم في اقتراح تلك الآياتِ كالباحث عن حتفه بظِلْفه وأن في ترك الإجابة إليه إبقاءً عليهم ، كيف لا ولو أُعطوا ما اقترحوا مع عدم إيمانهم قطعاً لوجب استئصالُهم لجريان سنةِ الله عز وجل في الأمم السالفة ، على أن المقترحين إذا أُعطوا ما اقترحوه ثم لم يؤمنوا نزل بهم عذابُ الاستئصال لا محالة ، وقد سبقت كلمةُ الحق منه تعالى أن هذه الأمةَ لا يعذبون بعذاب الاستئصالِ ، فقوله : من قرية أي من أهل قرية في محل الرفعِ على الفاعلية ومن مزيدةٌ لتأكيد العمومِ وقوله تعالى : { أهلكناها } أي بإهلاك أهلِها لعدم إيمانِهم بعد مجيءِ ما اقترحوه من الآيات صفةٌ لقرية والهمزة في قوله تعالى : { أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ } لإنكار الوقوعِ والفاء للعطف إما على مقدر دخلتْه الهمزةُ فأفادت إنكارَ وقوعِ إيمانِهم ونفيَه عقبَ عدمِ إيمان الأولين ، فالمعنى أنه لم تؤمنْ أمةٌ من الأمم المهلَكة عند إعطاءِ ما اقترحوه من الآيات فلم يؤمنوا ، أفهؤلاء يؤمنون لو أجيبوا إلى ما سألوا وأعطوا ما اقترحوا مع كونهم أعتى منهم وأطغى؟ وإما على ما آمنت على أن الفاء متقدمةٌ على الهمزة في الاعتبار مفيدةٌ لترتيب إنكارِ وقوعِ إيمانِهم على عدم إيمانِ الأولين ، وإنما قُدّمت عليها الهمزةُ لاقتضائها الصدارةَ كما هو رأيُ الجمهور .(4/402)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)
وقوله عز وجل : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً } جوابٌ لقولهم : هل هذا إلا بشر؟ الخ ، متضمنٌ لردّ ما دسّوا تحت قولهم : كما أُرسل الأولون من التعريض بعدم كونِه عليه السلام مثلَ أولئك الرسلِ صلوات الله تعالى عليهم أجمعين ، ولذلك قُدّم عليه جوابُ قولهم : فليأتنا بآية ولأنهم قالوا ذلك بطريق التعجيزِ فلا بد من المسارعة إلى رده وإبطالِه كما مر في تفسير قوله تعالى : { قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } وقوله تعالى : { مَا نُنَزّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ } ولأن في هذا الجواب نوعَ بسطٍ يُخِل تقديمُه بتجاوب أطرافِ النظم الكريم ، والحقُّ أن ما اتخذوه سبباً للتكذيب موجبٌ للتصديق في الحقيقة لأن مقتضى الحكمةِ أن يُرسلَ إلى البشر البشرُ وإلى الملَك الملَكُ حسبما ينطِق به قوله تعالى : { قُل لَوْ كَانَ فِى الارض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً } فإن عامةَ البشر بمعزل من استحقاق المفاوضةِ الملَكية لتوقّفها على التناسب بين المُفيض والمستفيض ، فبعثُ الملَكِ إليهم مزاحِمٌ للحكمة التي عليها يدور فلكُ التكوينِ والتشريع ، وإنما الذي تقتضيه الحكمةُ أن يبعث الملكُ منهم إلى الخواصّ المختصّين بالنفوس الزكية المؤيَّدين بالقوة القدسية المتعلّقين بكلا العالَمَين الروحانيِّ والجُسماني ليتلقَّوا من جانب ويُلْقوا إلى جانب آخرَ ، وقوله تعالى : { نُّوحِى إِلَيْهِمْ } استئنافٌ مبينٌ لكيفية الإرسالِ وصيغةُ المضارعِ لحكاية الحالِ الماضية المستمرةِ ، وحُذف المفعولُ لعدم القصدِ إلى خصوصه ، والمعنى وما أرسلنا إلى الأمم قبلَ إرسالك إلى أمتك إلا رجالاً مخصوصين من أفراد الجنسِ مستأهلين للاصطفاء والإرسال نوحي إليهم بواسطة الملَك ما نوحي من الشرائع والأحكام وغيرهما من القصص والأخبار ، كما نوحي إليك من غير فرقٍ بينهما في حقيقة الوحي وحقيقةِ مدلولِه حسبما يَحكيه قوله تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ والنبيين } إلى قوله تعالى : { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } كما لا فرقَ بينك وبينهم في البشرية فما لهم لا يفهمون أنك لست بدْعاً من الرسل وأن ما أُوحيَ إليك ليس مخالفاً لما أوحيَ أليهم فيقولون ما يقولون ، وقرىء يوحى إليهم بالياء على صيغة المبني للمفعول جرياً على سَنن الكبرياءِ وإيذاناً بتعين الفاعل وقوله تعالى : { فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى الكفرة لتبكيتهم واستنزالِهم عن رتبة الاستبعادِ والنكير إثرَ تحقيق الحقِّ على طريقة الخطابِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه الحقيقُ بالخطاب في أمثال تلك الحقائقِ الأنيقةِ ، وأما الوقوفُ عليها بالاستخبار من الغير فهو من وظائف العوامِّ ، والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، وجوابُ الشرط محذوفٌ ثقةً بدلالة المذكورِ عليه أي إن كنتم لا تعلمون ما ذُكر فاسألوا أيها الجهلةُ أهلَ الكتاب الواقفين على أحوال الرسلِ السالفةِ عليهم السلام لتزول شبهتُكم . أُمروا بذلك لأن إخبارَ الجمِّ الغفير يوجب العلمَ لا سيما وهم كانوا يشايعون المشركين في عداوته عليه السلام ويشاورونهم في أمره عليه السلام ، ففيه من الدِلالة على كمال وضوحِ الأمر وقوةِ شأنِ النبي عليه السلام ما لا يخفى .(4/403)
وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
{ وَمَا جعلناهم جَسَداً } بيان لكون الرسل عليهم السلام أُسوةً لسائر أفراد الجنسِ في أحكام الطبيعةِ البشرية إثرَ بيانِ كونهم أسوةً في نفس البشرية ، والجسدُ جسمُ الإنسانِ والجنِّ والملائكة ، ونصبُه إما على أنه مفعولٌ ثانٍ للجعل لكن لا بمعنى جعلِه جسداً بعد أن لم يكن كذلك كما هو المشهورُ من معنى التصيير ، بل بمعنى جعله كذلك ابتداءً على طريقة قولهم : سبحان من صغّر البعوضَ وكبر الفيل ، كما مر في قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا اليل والنهار ءايَتَيْنِ } وإما حالٌ من الضمير والجعلُ إبداعيٌّ وإفرادُه لإرادة الجنس المنتظمِ للكثير أيضاً ، وقيل : بتقدير المضافِ أي ذوي جسدٍ وقوله تعالى : { لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام } صفةٌ له أي وما جعلناهم جسداً مستغنياً عن الأكل والشرب بل محتاجاً إلى ذلك لتحصيل بدَلِ ما يتحلل منه { وَمَا كَانُواْ خالدين } لأن مآلَ التحلّلِ هو الفناءُ لا محالة ، وفي إيثار ما كانوا على ما جعلناهم تنبيهٌ على أن عدمَ الخلود مقتضي جِبِلّتِهم التي أشير إليها بقوله تعالى : { وَمَا جعلناهم } الخ ، لا بالجعل المستأنَف والمرادُ بالخلود إما المكثُ المديدُ كما هو شأنُ الملائكة أو الأبدية وهم معتقدون أنهم لا يموتون ، والمعنى جعلناهم أجساداً متغذّيةً صائرةً إلى الموت بالآخرة على حسب آجالِهم لا ملائكةً ولا أجساداً مستغنيةً عن الأغذية مصونةً عن التحلل كالملائكة فلم يكن لها خلودٌ كخلودهم ، فالجملةُ مقرّرةٌ لما قبلها من كون الرسلِ السالفةِ عليهم السلام بشراً لا ملَكاً مع ما في ذلك من الرد على قولهم : ما لهذا الرسولِ يأكل الطعامَ .
وقوله تعالى : { ثُمَّ صدقناهم الوعد } عطفٌ على ما يفهم من حكاية وحْيِه تعالى إليهم على الاستمرار التجدّدي كأنه قيل : أوحينا ثم صدقناهم في الوعد الذي وعدناهم في تضاعيف الوحي بإهلاك أعدائِهم { فأنجيناهم وَمَن نَّشَاء } من المؤمنين وغيرهم من تستدعي الحكمةُ إبقاءَه كمن سيؤمن هو أو بعضُ فروعِه بالآخرة ، وهو السرُّ في حماية العرب من عذاب الاستئصال { وَأَهْلَكْنَا المسرفين } أي المجاوزين للحدود في الكفر والمعاصي .(4/404)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)
{ لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ } كلامٌ مستأنفٌ مَسوق لتحقيق حقيةِ القرآنِ العظيم الذي ذُكر في صدر السورةِ الكريمةِ إعراضُ الناس عما يأتيهم من آياته واستهزاؤُهم به وتسميتُهم تارةً سحراً وتارة أضغاثَ أحلام وأخرى مفترًى وشعراً ، وبيانُ علوِّ رتبته إثرَ تحقيق رسالتِه صلى الله عليه وسلم ببيان أنه كسائر الرسلِ الكرام عليهم الصلاة والسلام قد صدر بالتوكيد القسمي إظهاراً لمزيد الاعتناء بمضمونه وإيذاناً بكون المخاطبين في أقصى مراتب النكيرِ ، أي والله لقد أنزلنا إليكم يا معشرَ قريش { كتابا } عظيمَ الشأن نيِّر البرهان وقوله تعالى : { فِيهِ ذِكْرُكُمْ } صفةٌ لكتاباً مؤكدةٌ لما أفاده التنكيرُ التفخيميُّ من كونه جليلَ المقدار بأنه جميلُ الآثار مستجلبٌ لهم منافعَ جليلةً ، أي فيه شرفكم وصِيتُكم كقوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } وقيل : ما تحتاجون إليه في أمور دينِكم ودنياكم ، وقيل : فيه ما تطلُبون به حَسَنَ الذكرِ من مكارم الأخلاق ، وقيل : فيه موعظتُكم وهو الأنسب بسباق النظمِ الكريم وسياقِه فإن قوله تعالى : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } إنكارٌ توبيخيٌّ فيه بعثٌ لهم على التدبر في أمر الكتابِ والتأمل فيما في تضاعيفه من فنون المواعظِ والزواجر التي من جملتها القوارعُ السابقةُ واللاحقةُ ، والفاءُ للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلامُ أي ألا تتفكرون فلا تعقلون أن الأمرَ كذلك؟ أو لا تعقلون شيئاً من الأشياء التي من جملتها ما ذكر .
وقوله تعالى : { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ } نوعُ تفصيل لإجمالِ قوله تعالى : { وَأَهْلَكْنَا المسرفين } وبيانٌ لكيفية إهلاكِهم وسببِه وتنبيهٌ على كثرتهم ، وكم خبريةٌ مفيدةٌ للتكثير محلُّها النصبُ على أنها مفعولٌ لقصمنا ومن قرية تمييزٌ ، وفي لفظ القصْمِ الذي هو عبارةٌ عن الكسر بإبانة أجزاءِ المكسور وإزالةِ تأليفها بالكلية من الدِلالة على قوة الغضبِ وشدة السُّخط ما لا يخفى وقوله تعالى : { كَانَتْ ظالمة } في محل الجرِّ على أنها صفةٌ لقرية بتقدير مضافٍ ينبىء عنه الضميرُ الآتي ، أي وكثيراً قصمنا من أهل قريةٍ كانوا ظالمين بآيات الله تعالى كافرين بها كدأْبكم { وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا } أي بعد إهلاكها { قَوْماً ءاخَرِينَ } أي ليسوا منهم نسباً ولا ديناً ، ففيه تنبيهٌ على استئصال الأولين وقطعِ دابرهم بالكلية وهو السرُّ في تقديم حكاية إنشاءِ هؤلاء على حكاية مبادي إهلاكِ أولئك بقوله تعالى : { فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا } أي أدركوا عذابَنا الشديدَ إدراكاً تاماً كأنه إدراكُ المشاهَد المحسوسِ { إِذَا هُمْ مّنْهَا يَرْكُضُونَ } يهرُبون مسرعين راكضين دوابَّهم أو مُشبَّهين بهم في فرْط الإسراع { لاَ تَرْكُضُواْ } أي قيل لهم بلسان الحالِ أو بلسان المقالِ من الملَك أو ممن ثمّةَ من المؤمنين بطريق الاستهزاءِ والتوبيخِ : لا تركُضوا { وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ } من التنعم والتلذّذ ، والإترافُ إبطارُ النعمة { ومساكنكم } التي كنتم تفخرون بها { لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } تُقصَدون للسؤال والتشاور والتدبير في المُهمّات والنوازل ، أو تُفقّدون إذا رُئيت مساكنُكم خاليةً وتُسألون أين أصحابُها ، أو يسألكم الوافدون نوالَكم على أنهم كانوا أسخياءَ ينفقون أموالَهم رياءً ، أو بخلأَ فقيل لهم ذلك تهكماً إلى تهكم .(4/405)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)
{ قَالُواْ } لما يئسوا من الخلاص بالهرب وأيقنوا بنزول العذاب { يا ويلنا } أي هلاكَنا { إِنَّا كُنَّا ظالمين } أي مستوجِبين للعذاب ، وهذا اعترافٌ منهم بالظلم وباستتباعه للعذاب وندمٌ عليه حين لم ينفعْهم ذلك .
{ فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ } أي فما زالوا يرددون تلك الكلمةَ ، وتسميتُها دعوى أيْ دعوةً لأن المُوَلولَ كأنه يدعو الويلَ قائلاً : يا ويل تعالَ فهذا أوانُك { حتى جعلناهم حَصِيداً } أي مثلَ الحصيدِ وهو المحصودُ من الزرع والنبت ولذلك لم يُجمع { خامدين } أي ميتين من خمَدت النارُ إذا طَفِئت وهو مع حصيداً في حيز المفعول الثاني للجعْل ، كقولك : جعلتُه حُلْواً حامضاً ، والمعنى جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيدِ والخمود ، أو حالٌ من الضمير المنصوب في جعلناهم أو من المستكنّ في حصيداً أو صفة لحصيداً لتعدّده معنًى لأنه في حكم جعلناهم أمثالَ حصيد .
{ وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض } إشارةٌ إجماليةٌ إلى أن تكوينَ العالمَ وإبداعَ بني آدمَ مؤسسٌ على قواعد الحِكَم البالغةِ المستتبِعة للغايات الجليلةِ ، وتنبيهٌ على أن ما حُكي من العذاب الهائلِ والعقاب النازلِ بأهل القرى من مقتَضيات تلك الحِكَم ومتفرِّعاتها حسبَ اقتضاءِ أعمالِهم إياه ، وأن للمخاطَبين المقتدين بآثارهم ذَنوباً مثلَ ذَنوبهم ، أي ما خلقناهما { وَمَا بَيْنَهُمَا } من المخلوقات التي لا تُحصى أجناسُها وأفرادُها ولا تحصر أنواعُها وآحادُها على هذا النمط البديعِ والأسلوب المنيعِ خاليةٌ عن الحِكَم والمصالح ، وإنما عبّر عن ذلك باللعب واللهو حيث قيل : { لاَعِبِينَ } لبيان كمالِ تنزّهه تعالى عن الخَلْق الخالي عن الحِكمة بتصويره بصورةِ ما لا يرتاب أحدٌ في استحالة صدورِه عنه سبحانه ، بل إنما خلقناهما وما بينهما لتكون مبدأً لوجود الإنسان وسبباً لمعاشه ودليلاً يقودُه إلى تحصيل معرفتِنا التي هي الغايةُ القصوى بواسطةِ طاعتِنا وعبادتنا كما ينطِق به قوله تعالى : { وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } وقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } وقوله تعالى : { لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً } استئنافٌ مقرّر لما قبله من انتفاء اللعبِ واللهو ، أي لو أردنا أن نتخذ ما يُتَلهّى به ويُلعب { لاتخذناه مِن لَّدُنَّا } أي من جهة قدرتِنا أو من عندنا مما يليق بشأننا من المجردات لا من الأجسام المرفوعةِ والأجرامِ الموضوعة كدَيدن الجبابرةِ في رفع العروش وتحسينها وتسويةِ الفروش وتزيينها ، لكن يستحيل إرادتُنا له لمنافاته الحِكمةَ فيستحيل اتخاذُنا له قطعاً وقوله تعالى : { إِن كُنَّا فاعلين } جوابُه محذوفٌ ثقةً بدِلالة ما قبله عليه ، أي إن كنا فاعلين لاتخذناه ، وقيل : إن نافية أي ما كنا فاعلين أي لاتخاذ اللهو لعدم إرادتِنا إياه فيكون بياناً لانتفاء التالي لانتفاء المقدّم أو لإرادة اتخاذِه فيكون بياناً لانتفاء المقدّمِ المستلزِمِ لانتفاء التالي ، وقيل : اللهوُ الولدُ بلغة اليمن ، وقيل : الزوجةُ والمرادُ الردُّ على النصارى ولا يخفى بُعدُه .(4/406)
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)
{ بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل } إضرابٌ عن اتخاذ اللهوِ بل عن إرادته ، كأنه قيل : لكنا لا نريده بل شأنُنا أن نُغلّب الحقَّ الذي من جملته الجِدُّ على الباطل الذي من قبيله اللهوُ ، وتخصيصُ شأنِه هذا من بين سائر شؤونِه تعالى بالذكر للتخلص إلى ما سيأتي من الوعيد { فَيَدْمَغُهُ } أي يمحقه بالكلية كما فعلنا بأهل القرى المَحْكية ، وقد استُعير لإيراد الحقِّ على الباطل القذفُ الذي هو الرمْيُ الشديدُ بالجِرم الصُّلْب كالصخرة ، وَلمَحْقه للباطل الدمغُ الذي هو كسرُ الشيء الرِّخْوِ الأجوفِ وهو الدِّماغ بحيث يشق غشاءَه المؤدّيَ إلى زُهوق الروحِ تصويراً له بذلك ، وقرىء فيدمغَه بالنصب وهو ضعيف ، وقرىء فيدمُغه بضم الميم { فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } أي ذاهبٌ بالكية ، وفي إذا الفجائية والجملة الاسميةِ من الدِلالة على كمال المسارعةِ في الذهاب والبُطلان ما لا يخفى فكأنه زاهقٌ من الأصل { وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ } وعيدٌ لقريش بأن لهم أيضاً مثلَ ما لأولئك من العذاب والعقاب ، ومن تعليليةٌ متعلقةٌ بالاستقرار الذي تعلق به الخبرُ ، أو بمحذوف هو حالٌ من الويل أو من ضميره في الخبر ، وما إما مصدريةٌ أو موصولةٌ أو موصوفةٌ أي واستقر لكم الويلُ والهلاكُ من أجل وصفِكم له سبحانه بما لا يليق بشأنه الجليل ، أو بالذي تصفونه أو بشيء تصفونه به من الولد أو كائناً مما تصفونه تعالى به .
{ وَلَهُ مَن فِى السموات والأرض } استئنافٌ مقررٌ لما قبله من خلقة تعالى لجميع مخلوقاتِه على حكمة بالغةٍ ونظامٍ كامل وأنه تعالى يُحِق الحقَّ ويُزْهق الباطل ، أي له تعالى خاصة جميعُ المخلوقات خلقاً ومُلكاً وتدبيراً وتصرفاً وإحياءً وإماتةً وتعذيباً وإثابةً من غير أن يكون لأحد في ذلك دخلٌ ما استقلالاً أو استتباعاً { وَمَنْ عِندَهُ } وهم الملائكةُ عليهم السلام ، عبّر عنهم بذلك إثرَ ما عبّر عنهم بمن في السموات تنزيلاً لهم لكرامتهم عليه عز وعلا وزُلْفاهم عنده منزلةَ المقربين عندالملوكِ بطريق التمثيل وهو مبتدأ خبرُه { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } أي لا يتعظمون عنها ولا يُعدّون أنفسهم كبيراً { وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } ولا يكِلّون ولا يَعيَوْن ، وصيغةُ الاستفعال المنبئةِ عن المبالغة في الحُسور للتنبيه على أن عباداتِهم بثقلها ودوامها حقيقةٌ بأن يُستَحسَرَ منها ومع ذلك لا يستحسرون ، لا لإفادة نفي المبالغة في الحسور مع ثبوت أصلِه في الجملة كما أن نفيَ الظلاّمية في قوله تعالى : { وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ } لإفادة كثرةِ الظلم المفروضِ تعلقُّه بالعبيد لا لإفادة نفي المبالغةِ في الظلم مع ثبوت أصلِ الظلم في الجملة ، وقيل : من عنده معطوف على من الأولى وإفرادُهم بالذكر مع دخولهم في مَن في السموات والأرض للتعظيم كما في قوله تعالى : { وَجِبْرِيلُ } فقوله تعالى : { وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } حينئذ حال من الثانية .
{ يُسَبّحُونَ الليل والنهار } أي ينزهونه في جميع الأوقات ويعظّمونه ويمجدونه دائماً ، وهو استئنافٌ وقع جواباً عما نشأ مما قبله ، كأنه قيل : ماذا يصنعون في عباداتهم أو كيف يعبدون؟ فقيل : يسبحون الخ ، أو حالٌ من فاعل يستحسرون وكذا قوله تعالى : { لاَ يَفْتُرُونَ } أي لا يتخلل تسبيحَهم فترةٌ أصلاً بفراغ أو بشغل آخرَ .(4/407)
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)
{ أَمِ اتخذوا ءَالِهَةً } حكايةٌ لجناية أخرى من جناياتهم بطريق الإضرابِ والانتقال من فن إلى فن آخر من التوبيخ إثرَ تحقيق الحقِّ ببيان أنه تعالى خلق جميع المخلوقات على منهاج الحكمة وأنهم قاطبةً تحت ملكوته وقهره وأن عبادَه مذعنون لطاعته ومثابرون على عبادته منزِّهون له عن كل ما لا يليق بشأنه من الأمور التي من جملتها الأندادُ ، ومعنى الهمزة في ( أم ) المنقطعة إنكارُ الوقوعِ لا إنكار الواقع وقوله تعالى : { مّنَ الأرض } متعلقٌ باتخذوا أو بمحذوف هو صفة لآلهة وأياً ما كان فالمرادُ هو التحقيرُ لا التخصيصُ ، وقوله تعالى : { هُمْ يُنشِرُونَ } أي يَبعثون الموتى ، صفةٌ لآلهةً وهو الذي يدور عليه الإنكارُ والتجهيلُ والتشنيع لا نفسُ الاتخاذ فإنه واقعٌ لا محالة أي بل أتخذوا آلهةً من الأرض هم خاصة مع حقارتهم وجماديتهم يُنشِرون الموتى ، كلا ، فإن ما اتخذوها آلهةً بمعزل من ذلك وهم وإن لم يقولوا بذلك صريحاً لكنهم حيث ادَّعَوا لها الإلهية فكأنهم ادّعَوا لها الإنشارَ ضرورةَ أنه من الخصائص الإلهية حتماً ، ومعنى التخصيص في تقديم الضمير ما أشير إليه من التنبيه على كمال مباينةِ حالهم للإنشار الموجبةِ لمزيد الإنكار كما في قوله تعالى : { أَفِى الله شَكٌّ } وقوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا } فإن تقديمَ الجار والمجرور للتنبيه على كمال مباينةِ أمرِه تعالى لأن يُشَك فيه ويُستهزأَ به ، ويجوز أن يُجعلَ ذلك من مستتبعات ادّعائِهم الباطلِ لأن الألوهيةَ مقتضيهٌ للاستقلال بالإبداء والإعادة فحيث ادَّعَوا للأصنام الإلهية فكأنهم ادَّعوا لها الاستقلالَ بالإنشار كما أنهم جعلوا بذلك مدّعين لأصل الإنشار .
{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلاَّ الله } إبطالٌ لتعدد الإله بإقامة البرهان على انتفائه بل على استحالته ، وإيرادُ الجمع لوروده إثرَ إنكار اتخاذِ الآلهة لا لأن للجمعية مدخلاً في الاستدلال وكذا فرضُ كونِهما فيهما وإلا بمعنى غير على أنها صفةٌ لآلهة ، ولا مساغَ للاستثناء لاستحالة شمولِ ما قبلها وما بعدها وإفضائِه إلى فساد المعنى لدلالته حينئذ على أن الفسادَ لكونها فيهما بدونه تعالى ولا للرفع على البدل لأنه متفرّع على الاستثناء ومشروطٌ بأن يكون في كلامٍ غيرِ موجب ، أي لو كان في السموات والأرض آلهةٌ غيرُ الله كما هو اعتقادُهم الباطل { لَفَسَدَتَا } أي لبطلتا بما فيهما جميعاً وحيث انتفى التالي عُلم انتفاءُ المقدّم قطعاً ببيان الملازمة أن الإلهية مستلزِمةٌ للقدرة على الاستبداد بالتصرف فيهما على الإطلاق تغييراً وتبديلاً وإيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة ، فبقاؤهما على ما هما عليه إما بتأثير كل منها وهو محالٌ لاستحالة وقوعِ المعلولِ المعيّن بعلل متعددة ، وإما بتأثير واحدٍ منها فالبواقي بمعزل من الإلهية قطعاً ، واعلم أن جعلَ التالي فسادَهما بعد وجودِهما لِما أنه اعتُبر في المقدم تعددُ الآلهةِ فيهما وإلا فالبرهانُ يقضي باستحالة التعدد على الإطلاق ، فإنه لو تعدد الإله فإنْ توافقَ الكلِّ في المراد تطاردت عليه القُدَرُ وإن تخالفت تعاوقت فلا يوجد موجودٌ أصلاً وحيث انتفى التالي تعيّن انتفاءُ المقدّم والفاء في قوله تعالى :
{ فَسُبْحَانَ الله } لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ثبوت الوحدانية بالبرهان ، أي فسبحوه سبحانه اللائقَ به ونزّهوه عما لا يليق به من الأمور التي من جملتها أن يكون له شريكٌ في الألوهية ، وإيرادُ الجلالة في موضع الإضمارِ للإشعار بعلة الحُكم فإن الألوهيةَ مناطٌ لجميع صفاتِ كماله التي من جملتها تنزّهُه تعالى عما لا يليق به ولتربية المهابةِ وإدخالِ الروعة وقوله تعالى : { رَبُّ العرش } صفةٌ للاسم الجليل مؤكدةٌ لتنزّهه عز وجل { عَمَّا يَصِفُونَ } متعلق بالتسبيح أي فسبحوه عما يصفونه من أن يكون من دونه آلهةٌ .(4/408)
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
{ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } استئنافٌ ببيان أنه تعالى لقوة عظمته وعزةِ سلطانه القاهرِ بحيث ليس لأحد من مخلوقاته أن يناقشه ويسألَه عما يفعل من أفعال إثرَ بيانِ أن ليس له شريكٌ في الإلهية { وَهُمْ } أي العباد { يُسْئَلُونَ } عما يفعلون نقيراً وقطميراً لأنهم مملوكون له تعالى مستعبَدون ففيه وعيدٌ للكفرة .
{ أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً } إضرابٌ وانتقالٌ من إظهار بُطلانِ كون ما اتخذوه آلهةً آلهةً حقيقةً بإظهار خلوِّها عن خصائص الألاهية التي من جملتها الإنشارُ وإقامةُ البرهان القاطعِ على استحالة تعدد الإله على الإطلاق وتفرّدِه سبحانه بالألوهية إلى إظهار بطلانِ اتخاذِهم تلك الآلهة مع عرائها عن تلك الخصائص بالمرة شركاءَ لله عز سلطانُه ، وتبكيتُهم بإلجائهم إلى إقامة البرهان على دعواهم الباطلة وتحقيقُ أن جميع الكتب السماويةِ ناطقةٌ بحقية التوحيد وبطلانِ الإشراك . والهمزةُ لإنكار الاتخاذ المذكور واستقباحِه ومن متعلقةٌ باتخذوا ، والمعنى بل أُتخذوا متجاوزين إياه تعالى مع ظهور شؤونه الجليلة الموجبة لتفرده بالألوهية آلهةً مع ظهور خلوهم عن خواصّ الألوهية بالكلية { قُلْ } لهم بطريق التبكيتِ وإلقامِ الحجر { هَاتُواْ برهانكم } على ما تدّعونه من جهة العقل والنقلِ فإنه لا صحةَ لقولٍ لا دليلَ عليه في الأمور الدينية لا سيما في مثل هذا الشأنِ الخطير ، وما في إضافة البرهان إلى ضميرهم من الإشعار بأن لهم برهاناً ضربٌ من التهكم بهم وقوله تعالى : { هذا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى } إنارةٌ لبرهانه وإشارةٌ إلى أنه مما نطقت به الكتبُ الإلهية قاطبةً وشهِدت به ألسنةُ الرسلِ المتقدمة كافةً وزيادةُ تهييجٍ لهم على إقامة البرهان لإظهار كمالِ عجزِهم ، أي هذا الوحيُ الواردُ في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطعِ العقليّ ذكرُ أمتي أي عظتُهم وذكرُ الأمم السالفة قد أقمتُه فأقيموا أنتم أيضاً برهانَكم ، وقيل : المعنى هذا كتابٌ أُنزل على أمتي وهذا كتابٌ أنزل على أمم الأنبياءِ عليهم السلام من الكتب الثلاثةِ والصحفِ فراجعوها وانظُروا هل في واحد منها غيرُ الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك ، ففيه تبكيتٌ لهم يتضمن إثباتَ نقيضِ مُدّعاهم وقرىء بالتنوين والإعمال كقوله تعالى : { أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً } وبه وبمن الجارة على أن ( مع ) اسمٌ هو ظرف كقبلٍ وبعْدٍ وقوله تعالى : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق } إضرابٌ من جهته تعالى غيرُ داخل في الكلام الملقن وانتقالٌ من الأمر بتبكيتهم بمطالبة البرهانِ إلى بيان أنه لا ينجع فيهم المُحاجّة بإظهار حقيقة الحقِّ وبطلانِ الباطل ، فإن أكثرهم لا يفهمون الحقَّ ولا يميزون بينه وبين الباطل { فَهُمُ } لأجل ذلك { مُّعْرِضُونَ } أي مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباعِ الرسول لا يرعوون عما هم عليه من الغي والضلال وإن كُرّرت عليهم البينات والحجج ، أو معرضون عما ألقي عليهم من البراهين العقلية ، وقرىء الحقُّ بالرفع على أنه خبرُ مبتدأ محذوف وسِّط بين السبب والمسببِ تأكيداً للسببية .(4/409)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)
وقوله تعالى :
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون } استئنافٌ مقررٌ لما أُجمل فيما قبله من كون التوحيد مما نطَقت به الكتبُ الإلهية وأجمعت عليه الرسلُ عليهم الصلاة والسلام ، وقرىء ( يوحى ) على صيغة الغائب مبنياً للمفعول وأياً ما كان فصيغةُ المضارع لحكاية الحالِ الماضية استحضاراً لصورة الوحي .
{ وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً } حكايةٌ لجناية فريق من المشركين جيء بها لإظهار بُطلانِها وبيانِ تنزّهه تعالى عن ذلك إثرَ بيان تنزّهِه سبحانه عن الشركاء على الإطلاق وهم حيٌّ من خُزاعَةَ يقولون : الملائكةُ بناتُ الله تعالى ، ونقل الواحدي أن قريشاً وبعضَ أجناسِ العرب جهينةَ وبني مُلَيح يقولون ذلك . والتعرضُ لعنوان الرحمانية المنبئةِ عن كون جميع ما سواه تعالى مربوباً له تعالى نعمةً أو مُنعَماً عليه لإبراز كمالِ شناعةِ مقالتِهم الباطلةِ { سبحانه } أي تنزّه بالذات تنزّهَه اللائقَ به على أن السُّبحانَ مصدرٌ من سبح أي بَعُد أو أسبّحه تسبيحَه على أنه علمٌ للتسبيح وهو مقولٌ على ألسنة العباد أو سبحوه تسبيحَه وقوله تعالى : { بَلْ عِبَادٌ } إضرابٌ وإبطالٌ لما قالوه ، كأنه قيل : ليست الملائكةُ كما قالوا بل هم عبادٌ له تعالى { مُّكْرَمُونَ } مقربون عنده ، وقرىء مكرّمون بالتشديد تنبيهٌ على منشأ غلطِ القوم .
وقوله تعالى : { لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول } صفةٌ أخرى لعباد منبئةٌ عن كمال طاعتهم وانقيادِهم لأمره تعالى ، أي لا يقولون شيئاً حتى يقوله تعالى أو يأمرهم به وأصلُه لا يسبق قولُهم قولَه تعالى ، فأسند السبقُ إليه منسوباً إليه تعالى تنزيلاً لسبق قولِهم قولَه تعالى منزلةَ سبقهم إياه تعالى لمزيد تنزيههم عن ذلك وللتنبيه على غاية استهجان السبقِ المعرَّضِ به للذين يقولون ما لا يقوله الله تعالى ، وجعلُ القول محلاً للسبق وأداةً له ثم أنيب اللامُ عن الإضافة للاختصار والتجافي عن التكرار ، وقرىء لا يسبقونه بضم الباء من سابقته فسبقته أسبُقه وفيه مزيدُ استهجانٍ للسبق وإشعارٌ بأن من سبق قولُه قولَه تعالى فقد تصدّى لمغالبته تعالى في السبق فسبقه فغلبه والعياذ بالله تعالى ، وزيادةُ تنزيهٍ لهم عما نُفيَ عنهم ببيان أن ذلك عندهم بمنزلة الغلَبة بعد المغالبة ، فأنى يُتوهم صدورُه عنهم { وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } بيانٌ لتبعيتهم له تعالى في الأعمال إثرَ بيانِ تبعيتهم له تعالى في الأقوال ، فإن نفيَ سبقِهم له تعالى بالقول عبارةٌ عن تبعيّتهم له تعالى فيه ، كأنه قيل : هم بأمره يقولون وبأمره يعملون لا بغير أمره أصلاً ، فالقصرُ المستفادُ من تقديم الجار معتبرٌ بالنسبة إلى غير أمرِه لا إلى أمر غيرِه .(4/410)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)
{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } استئنافٌ وقع تعليلاً لما قبله وتمهيداً لما بعده فإنهم لعلمهم بإحاطته تعالى بما قدموا وأخروا من الأقوال والأعمال لا يزالون يراقبون أحوالَهم فلا يُقدمون على قول أو عمل بغير أمره تعالى { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } أن يشفعَ له مهابةً منه تعالى { وَهُمْ } مع ذلك { مّنْ خَشْيَتِهِ } عز وجل { مُشْفِقُونَ } مرتعدون ، وأصلُ الخشية الخوفُ مع التعظيم ولذلك خص بها العلماءُ ، والإشفاق الخوفُ مع الاعتناء فعند تعديتِه بمن يكون معنى الخوف فيه أظهرَ وعند تعديته بعلى ينعكس الأمر .
{ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ } أي من الملائكة الكلامَ فيهم وفي كونهم بمعزل مما قالوا في حقهم { إِنّى إله مّن دُونِهِ } متجاوزٌ إياه تعالى { فَذَلِكَ } الذي فُرض قولُه فرضَ مُحال { نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } كسائر المجرمين ولا يغني عنهم ما ذُكر من صفاتهم السنية وأفعالِهم المَرْضية ، وفيه من الدِلالة على قوة ملكوتِه تعالى وعزة جبروتِه واستحالةِ كون الملائكة بحيث يتوهم في حقهم ما توهمه أولئك الكفرةُ ما لا يخفى { كذلك نَجْزِى الظالمين } مصدرٌ تشبيهيٌّ مؤكد لمضمون ما قبله أي مثلَ ذلك الجزاءِ الفظيعِ نجزي الذين يضعون الأشياءَ في غير مواضعها ويتعدَّوْن أطوارَهم ، والقصرُ المستفادُ من التقديم معتبرٌ بالنسبة إلى النقصان دون الزيادة أي لا جزاءً أنقصَ منه .
{ أَوَلَمْ يَرَ الذين كَفَرُواْ } تجهيلٌ لهم بتقصيرهم في التدبُّر في الآيات التكوينيةِ الدالةِ على استقلاله تعالى بالألوهية وكونِ جميع ما سواه مقهوراً تحت ملكوتِه ، والهمزةُ للإنكار والواو للعطف على مقدّر وقرىء بغير واو والرؤيةُ قلبيةٌ ، أي ألم يتفكروا ولم يعلموا { أَنَّ السموات والأرض كَانَتَا } أي جماعتا السمواتِ والأرضين كما في قوله تعالى : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والأرض أَن تَزُولاَ } { رَتْقاً } الرتْق الضمُّ والالتحامُ والمعنى إما على حذف المضافِ أو هو بمعنى المفعولِ أي كانتا ذواتيْ رتْقٍ أو مرتوقتين ، وقرىء رتَقاً أي شيئاً رتقاً أي مرتوقاً { ففتقناهما } قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية عكرمة والحسن البصري وقتادة وسعيد بن جبير : كانتا شيئاً واحداً ملتزمين ففصل الله تعالى بينهما ورفع السماءَ إلى حيث هي وأقرّ الأرض ، وقال كعب : خلق الله تعالى السمواتِ والأرض ملتصقتين ثم خلق ريحاً فتوسطتها ففتقتْها ، وعن الحسن : خلق الله تعالى الأرضَ في موضع بيت المقدس كهيئة الفِهْر عليها دخانٌ ملتزق بها ثم أصعدَ الدخانَ وخلق منه السمواتِ وأمسك الفِهرَ في موضعها وبسط منها الأرضَ وذلك قوله تعالى : { كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما } وقال مجاهد والسدي : كانت السمواتُ مُرتتِقَةً طبقةً واحدة ففتقها فجعلها سبعَ سموات وكذلك الأرضُ كانت مرتتِقةً طبقةً واحدةً ففتقها فجعلها سبعَ أرضين ، وقال ابن عباس في رواية عطاء وعليه أكثرُ المفسرين : إن السمواتِ كانت رتْقاً مستويةً صُلبة لا تمطر والأرضُ رتْقاً لا تُنبت ففتق السماءَ بالمطر والأرضَ بالنبات ، فيكون المراد بالسموات السماءَ الدنيا والجمعُ باعتبار الآفاقِ أو السمواتِ جميعاً على أن لها مدخلاً في الأمطار ، وعلمُ الكفرةِ الرتْقَ والفتقَ بهذا المعنى مما لا سِترةَ به وأما بالمعاني الأُوَل فهم وإن لم يعلموهما لكنهم متمكنون من علمهما إما بطريق النظرِ والتفكر ، فإن الفتقَ عارضٌ مفتقرٌ إلى مؤثر قديم وإما بالاستفسار من العلماء ومطالعةِ الكتب .(4/411)
{ وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَىْء حَىّ } أي خلقنا من الماء كلَّ حيوان كقوله تعالى : { والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاء } وذلك لأنه من أعظم موادِّه أو لفرْط احتياجِه إليه وانتفاعِه به ، أو صيرنا كلَّ شيء حي من الماء أي بسبب منه لا بد له من ذلك ، وتقديمُ المفعول الثاني للاهتمام به لا لمجرد أن المفعولين في الأصل مبتدأٌ وخبرٌ وحقُّ الخبر عند كونه ظرفاً أن يتقدم على المبتدأ فإن ذلك مصحِّحٌ محْضٌ لا مرجحٌ ، وقرىء حيًّا على أنه صفةُ كلَّ أو مفعولٌ ثانٍ والظرفُ كما في الوجه الأول قُدّم على المفعول للاهتمام به والتشويقِ إلى المؤخر { أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } إنكار لعدم إيمانِهم بالله وحده مع ظهور ما يوجبه حتماً من الآيات الآفاقية والأنفسيةِ الدالةِ على تفرده عز وجل بالألوهية وعلى كون ما سواه من مخلوقاته مقهورةً تحت ملكوته وقدرتِه ، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه الإنكارُ السابق أي أيعلمون ذلك فلا يؤمنون(4/412)
وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
{ وَجَعَلْنَا فِى الأرض رَوَاسِىَ } أي جبالاً ثوابتَ جمعُ راسية من رسا الشيءُ إذا ثبت ورسَخ ، ووصفُ جمعِ المذكر بجمع المؤنثِ في غير العقلاءِ مما لا ريب في صحته كقوله تعالى : { أَشْهُرٌ معلومات } و { أَيَّامًا معدودات } { أَن تَمِيدَ بِهِمْ } أي كراهةَ أن تتحرك وتضطربَ بهم أو لئلا تميدَ بهم بحذف اللام ولا ، لعدم الإلباس { وَجَعَلْنَا فِيهَا } أي في الأرض وتكريرُ الفعل لاختلاف المجعولين ولتوفية مقام الامتنان حقَّه أو في الرواسي لأنها المحتاجةُ إلى الطرق { فِجَاجاً } مسالكَ واسعةً وإنما قدم على قوله تعالى : { سُبُلاً } وهى وصفٌ له ليصير حالاً فيفيد أنه تعالى حين خلقها خلقَها كذلك ، أو ليبدل منها سبلاً فيدل ضمناً على أنه تعالى خلقها ووسّعها للسابلة مع ما فيه من التوكيد { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } أي إلى مصالحهم ومَهمّاتهم .
{ وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً } من الوقوع بقدرتنا القاهرةِ أو من الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم بمشيئتنا أو من استراق السمعِ بالشُهُب { وَهُمْ عَنْ ءاياتها } الدالةِ على وحدانيته تعالى وعلمِه وحكمتِه وقدرتِه وإرادتِه التي بعضُها محسوسٌ وبعضُها معلومٌ بالبحث عنه في علمَي الطبيعة والهيئة { مُّعْرِضُونَ } لا يتدبرون فيها فيبقَون على ما هم عليه من الكفر والضلال .
وقوله تعالى :
{ وَهُوَ الذى خَلَقَ اليل والنهار والشمس والقمر } اللذين هما آيتاهما بيانٌ لبعض تلك الآياتِ التي هم عنها معرضون بطريق الالتفاتِ الموجب لتأكيد الاعتناءِ بفحوى الكلام ، أي هو الذي خلقهن وحده { كُلٌّ } أي كلُّ واحد منهما على أن التنوينَ عوضٌ عن المضاف إليه { فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } أي يجْرون في سطح الفلك كالسبْح في الماء ، والمرادُ بالفَلَك الجنسُ كقولك : كساهم الخليفةُ حُلّةً ، والجملة حالٌ من الشمس والقمر وجاز انفرادُهما بها لعدم اللَّبْس ، والضميرُ لهما والجمعُ باعتبار المطالعِ ، وجُعل الضميرُ واوَ العقلاء لأن السباحة حالُهم .(4/413)
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)
{ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الخلد } أي في الدنيا لكونه مخالفاً للحكمة التكوينيةِ والتشريعية { أفَإن مِتَ } بمقتضى حكمتِنا { فَهُمُ الخالدون } نزلت حين قالوا : نتربّص به ريبَ المَنون ، والفاءُ لتعليق الشرطيةِ بما قبلها والهمزةُ لإنكار مضمونِها بعد تقرّر القاعدةِ الكلية النافية لذلك بالمرة ، والمرادُ بإنكار خلودِهم ونفيه إنكارُ ما هو مدارٌ له وجوداً وعدماً من شماتتهم بموته عليه السلام ، فإن الشماتةَ بما يعتريه أيضاً مما لا ينبغي أن يصدُرَ عن العاقل كأنه قيل : أفإن متَّ فهم الخالدون حتى يشمتوا بموتك وقوله تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت } أي ذائقةٌ مرارةَ مفارقتِها جسدَها ، برهانٌ على ما أُنكِرَ من خلودهم .
{ وَنَبْلُوكُم } الخطابُ إما للناس كافة بطريق التلوينِ أو للكفرة بطريق الالتفات أي نعاملكم معاملة من يبلوكم { بالشر والخير } بالبلايا والنعم هل تصبرون وتشكرون أو لا { فِتْنَةً } مصدرٌ مؤكد لنبلوَكم من غير لفظِه { وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } لا إلى غيرنا لا استقلالاً ولا اشتراكاً فنجازيكم حسبما يظهر منكم من الأعمال ، فهو على الأول وعد ووعيدٌ وعلى الثاني وعيدٌ محضٌ وفيه إيماءٌ إلى أن المقصود من هذه الحياة الدنيا الابتلاءُ والتعريضُ للثواب والعقاب ، وقرىء يُرجعون بالياء على الالتفات .
{ وَإِذَا رَاكَ الذين كَفَرُواْ } أي المشركون { إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً } أي ما يتخذونك إلا مهزوءاً به على معنى قصرِ معاملتهم معه عليه السلام على اتخاذهم إياه هُزواً ، لا على معنى قصرِ اتخاذهم على كونه هزواً كما هو المتبادرُ ، كأنه قيل : ما يفعلون بك إلا اتخاذَك هزواً وقد مر تحقيقه في قوله تعالى : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ } في سورة الأنعام { أهذا الذى يَذْكُرُ الِهَتَكُمْ } على إرادة القولِ أي ويقولون أو قائلين ذلك أي يذكرهم الخ ، وقوله تعالى : { وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كافرون } في حيز النصبِ على الحالية من ضمير القول المقدرِ والمعنى أنهم يَعيبون عليه عليه الصلاة والسلام أن يذكُرَ آلهتَهم التي لا تضُرّ ولا تنفع بالسوء ، والحالُ أنهم بذكر الرحمن المنْعِم عليهم بما يليق به من التوحيد أو بإرشاد الخلق بإرسال الرسلِ وإنزالِ الكتب أو بالقرآن كافرون بذكر الرحمن ، والضمير الثاني تأكيدٌ لفظيٌّ للأول فوقع الفصلُ بين العامل ومعمولِه بالمؤكد ، وبين المؤكِّد والمؤكَّد بالمعمول .(4/414)
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39)
{ خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } جُعل لفرْطِ استعجالِه وقلة صبره كأنه مخلوقٌ منه تنزيلاً لما طُبع عليه من الأخلاق منزلةَ ما طبع منه من الأركان إيذاناً بغاية لزومِه له وعدم انفكاكه عنه ، ومن عجلته مبادرتُه إلى الكفر واستعجالُه بالوعيد ، روي أنها نزلت في النضْر بن الحارثِ حين استعجل العذابَ بقوله : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ } الآية ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن المراد بالإنسان آدمُ عليه السلام وأنه حين بلغ الروحُ صدرَه ولم يتبالغْ فيه أراد أن يقوم ، وروي أنه لما دخل الروحُ في عينيه نظر إلى ثمار الجنة ولما دخل جوفَه اشتهى الطعامَ ، وقيل : خلقه الله تعالى في آخر النهار يومَ الجمعة قبل غروبِ الشمس فأسرعَ في خلقه قبل غيبتِها ، فالمعنى خُلق الإنسان خلقاً ناشئاً من عجل فذكرُه لبيان أنه من دواعي عجلته في الأمور ، والأظهر أن المرادَ به الجنسُ وإن كان خلقُه عليه السلام سارياً إلى أولاده ، وقيل : العجلُ الطينُ بلغة حِمْير ، ولا تقريبَ له هاهنا وقوله تعالى : { سَأَريكُمْ ءاياتي } تلوينٌ للخطاب وصرفٌ له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المستعجِلين بطريق التهديدِ والوعيد ، أي سأريكم نقِماتي في الآخرة كعذاب النار وغيره { فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } بالإتيان بها والنهي عما جُبلت عليه نفوسُهم ليُقعِدوها عن مرادها .
{ وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد } أي وقت مجيء الساعة التي كانوا يوعدون وإنما كانوا يقولونه استعجالاً لمجيئه بطريق الاستهزاء والإنكار كما يرشد إليه الجوابُ لا طلباً لتعيين وقتِه بطريق الإلزام كما في سورة الملك { إِن كُنتُمْ صادقين } أي في وعدكم بأنه يأتينا ، والخطابُ للنبيّ عليه الصلاة والسلام والمؤمنين الذين يتلون الآياتِ الكريمةَ المنبئةَ عن مجيء الساعة ، وجوابُ الشرط محذوفٌ ثقةً بدِلالة ما قبله عليه حسبما حُذف في مثل قوله تعالى : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } فإن قولهم : حتى هذا الوعدِ استبطاءٌ للموعود وطلبٌ لإتيانه بطريق العجَلة فإن ذلك في قوة الأمرِ بالإتيان عجلةً ، كأنه قيل : فليأتنا بسرعة إن كنتم صادقين .
{ لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ } استئنافٌ مَسوقٌ لبيان شدةِ هول ما يستعجلونه وفظاعةِ ما فيه من العذاب وأنهم إنما يستعجلونه لجهلهم بشأنه ، وإيثارُ صيغة المضارعِ في الشرط وإن كان المعنى المُضِيَّ لإفادة استمرارِ عدم العلم فإن المضارعَ المنفيَّ الواقعَ موقعَ الماضي ليس بنص في إفادة انتفاءِ استمرار الفعل بل يفيد استمرارَ انتفائه أيضاً بحسب المقام ، كما في قولك : لو تحسن إلي لشكرتك ، فإن المعنى أن انتفاءَ الشكر لاستمرار انتفاءِ الإحسان لا لانتفاء استمرارِ الأحسان ووضعُ الموصولِ موضعَ الضمير للتنبيه بما في حيز الصلة على علّة استعجالِهم ، وقوله تعالى : { حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ } مفعول يعلم وهو عبارةٌ عن الوقت الموعودِ الذي كانوا يستعجلونه وإضافتُه إلى الجملة الجارية مَجرى الصفة التي حقُّها أن تكون معلومةَ الانتساب إلى الموصوف عند المخاطب أيضاً مع إنكار الكفرةِ لذلك للإيذان بأنه من الظهور بحيث لا حاجة له إلى الإخبار به وإنما حقُّه الانتظامُ في سلك المسلّمات المفروغ عنها ، وجوابُ لو محذوفٌ أي لو لم يستمِرَّ علمهم بالوقت الذي يستعجلونه بقولهم : متى هذا الوعد من الحين الذي تحيط بهم النار فيه من كل جانب ، وتخصيصُ الوجوه والظهور بالذكر بمعنى القُدّام والخَلْف لكونهما أشهرَ الجوانب واستلزامِ الإحاطة بهما الإحاطةَ بالكمال بحيث يقدرون على دفعها بأنفسهم من جانب من جوانبهم .(4/415)
{ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } من جهة الغير في دفعها الخ ، لما فعلوا ما فعلوا من الاستعجال ويجوز أن يكون ( يعلم ) متروكَ المفعول مُنزّلاً منزلةَ اللازم ، أي لو كان لهم علم لما فعلوه وقوله تعالى : { حِينٍ } الخ ، استئنافٌ مقرر لجهلهم ومبينٌ لاستمراره إلى ذلك الوقت كأنه قيل : حين يرون ما يرَوْن يعلمون حقيقةَ الحال .(4/416)
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)
{ بَلْ تَأْتِيهِم } عطف على لا يكفون أي لا يكفّونها بل تأتيهم أي العدَةُ أو النار أو الساعة { بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ } أي تغلِبهم أو تحيّرهم ، وقرىء الفعلان بالتذكير على أن الضمير للوعد أو الحين وكذا الهاء في قوله تعالى : { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا } بتأويل الوعد بالنار أو العِدة والحينِ بالساعة ، ويجوز عَودُه إلى النار ، وقيل : إلى البغتة أي لا يستطيعون ردها عنهم بالكلية { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } أي يمهلون ليستريحوا طرفةَ عين ، وفيه تذكيرٌ لإمهالهم في الدنيا .
{ وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ } تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزائهم به عليه السلام في ضمن الاستعجال وعِدةٌ ضمنيةٌ بأنه يصيبهم مثلُ ما أصاب المستهزئين بالرسل السالفةِ عليهم الصلاة والسلام ، وتصديرُها بالقسم لزيادة تحقيقِ مضمونها ، وتنوينُ الرسل للتفخيم والتكثير ومن متعلقةٌ بمحذوف هو صفة له ، أي وبالله لقد استُهزىء برسل أولي شأنٍ خطير وذوي عددٍ كثير كائنين من زمان قبل زمانك على حذف المضاف وإقامةِ المضاف إليه مُقامه .
{ فَحَاقَ } أي أحاط عَقيب ذلك أو نزل أو حل أو نحو ذلك ، فإن معناه يدور على الشمول واللزوم ولا يكاد يُستعمل إلا في الشر ، والحيقُ ما يشتمل على الإنسان من مكروهٍ فَعَله ، وقوله تعالى : { بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ } أي من أولئك الرسل عليهم السلام متعلق بحاق وتقديمه على فاعله الذي هو قوله تعالى : { مَّا كَانُوا بِهِ } للمسارعة إلى بيان لحوقِ الشرّ بهم ، وما إما موصولة مفيدةٌ للتهويل والضمير المجرورُ عائدٌ إليها والجار متعلق بالفعل وتقديمُه عليه لرعاية الفواصلِ ، أي فأحاط بهم الذي كانوا يستهزؤن به حيث أهلكوا لأجله ، وإما مصدريةٌ فالضمير المجرور راجعٌ حينئذ إلى جنس الرسول المدلولِ عليه بالجمع كما قالوا ، ولعل إيثارَه على الجمع للتنبيه على أنه يحيق بهم جزاءُ استهزائهم بكل واحدٍ واحدٌ منهم عليهم السلام لا جزاءُ استهزائهم بكلهم من حيث هو كلٌّ فقط ، أي فنزل بهم جزاءُ استهزائهم على وضع السبب موضعَ المسبب إيذاناً بكمال الملابسةِ بينهما أو عينُ استهزائهم إن أريد بذلك العذابُ الأخرويُّ بناء على تجسيم الأعمال الظاهرةِ في هذه النشأة بصور عرضية تبرُز في النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبةٍ لها في الحسن والقبح وعلى ذلك بني الوزن ، وقد مر تفصيلُه في سورة الأعراف في قوله تعالى : { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ } الآية إلى آخرها .(4/417)
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
{ قُلْ } خطابٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إثرَ تسليته بما ذكر من مصير أمرِهم إلى الهلاك وأمرٌ له عليه السلام بأن يقول لأولئك المستهزئين بطريق التقريع والتبكيت : { مَن يَكْلَؤُكُم } أي يحفظكم { باليل والنهار مِنَ الرحمن } أي من بأسه الذي تستحقون نزولَه ليلاً أو نهاراً ، وتقديمُ الليل لما أن الدواهيَ أكثرُ فيه وقوعاً وأشدُّ وقعاً ، وفي التعرض لعنوان الرحمانيةِ إيذانٌ بأن كالِئَهم ليس إلا رحمتُه العامةُ ، وبعد ما أُمر عليه السلام بما ذكر من السؤال على الوجه المذكور حسبما تقتضيه حالُهم لأنهم بحيث لولا أن الله تعالى يحفظهم في المَلَوَيْن لحل بهم فنون الآفاتِ ، فهم أحقّاءُ بأن يكلفوا الاعترافَ بذلك فيوبخوا على ما هم عليه من الإشراك ، أُضرب عن ذلك بقوله تعالى : { بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مُّعْرِضُونَ } ببيان أن لهم حالاً أخرى مقتضيةً لصرف الخطابِ عنهم هي أنهم لا يُخطِرون ذكرَه تعالى ببالهم ، فضلاً أن يخافوا بأسَه ويعدّوا ما كانوا عليه من الأمن والدعَةِ حفظاً وكَلاءةً حتى يسألوا عن الكالِىءِ على طريقة قول من قال
عُوجوا فحيُّوا لنعمى دِمنةَ الدار ... ماذا تُحيُّون من نُؤْيٍ وأحجارِ
وفي تعليق الإعراض بذكره تعالى وإيرادِ اسمِ الرب المضافِ إلى ضميرهم المنبىء عن كونهم تحت ملكوتِه وتدبيره وتربيتِه تعالى من الدلالة على كونهم في الغاية القاصيةِ من الضلالة والغيّ ما لا يخفى ، وكلمةُ أم في قوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ الِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا } منقطعةٌ وما فيها من معنى بل للإضراب والانتقالِ عما قبله من بيان أن جهلَهم بحفظه تعالى إياهم لعدم خوفِهم الناشىءِ عن إعراضهم عن ذكر ربهم بالكلية إلى توبيخهم باعتمادهم على آلهتهم وإسنادِهم الحفظَ إليها ، والهمزةُ لإنكار أن يكون لهم آلهةٌ تقدر على ذلك والمعنى بل ألهم آلهةٌ تمنعهم من العذاب تتجاوز منْعنا أو حفظَنا ، أو من عذاب كائنٍ من عندنا فهم معوّلون عليها واثقون بحفظها ، وفي توجيه الإنكارِ والنفي إلى وجود الآلهةِ الموصوفة بما ذكر من المنع لا إلى نفس الصفةِ بأن يقال : أم تمنعهم آلهتُهم الخ ، من الدِلالة على سقوطها عن مرتبة الوجود فضلاً عن رتبة المنع ما لا يخفى ، وقوله عز وعلا : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ } استئنافٌ مقرّر لما قبله من الإنكار وموضِّحٌ لبُطلان اعتقادِهم أي هم لا يستطيعون أن ينصُروا أنفسهم ولا يُصحَبون بالنصر من جهتنا ، فكيف يتوهم أن ينصُروا غيرهم؟ وقوله تعالى : { بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء وَءابَاءهُمْ حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر } إضرابٌ عما توهموا ببيان أن الداعيَ إلى حفظهم تمتيعُنا إياهم بما قدّر لهم من الأعمار أو عن الدِلالة على بطلانه ببيان ما أوهمهم ذلك ، وهو أنه تعالى متعهم بالحياة الدنيا وأمهلهم حتى طالت أعمارُهم فحسِبوا أن لا يزالوا كذلك وأنه بسبب ما هم عليه ، ولذلك عقّب بما يدل على أنه طمعٌ فارغٌ وأمل كاذبٌ حيث قيل : { أَفَلاَ يَرَوْنَ } أي ألا ينظرون فلا يرَون { أَنَّا نَأْتِى الأرض } أي أرضَ الكفرة { نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } فكيف يتوهمون أنهم ناجون من بأسنا ، وهو تمثيلٌ وتصويرٌ لما يُخْرِبه الله عز وجل من ديارهم على أيدي المسلمين ويُضيفها إلى دار الإسلام { أَفَهُمُ الغالبون } على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، والفاء لإنكار ترتيب الغالبيةِ على ما ذكر من نفس أرضِ الكفرةِ بتسليط المسلمين عليها ، كأنه قيل : أبعد ظهورِ ما ذكر ورؤيتِهم له يتوهم غلَبتُهم؟ كما مر في قوله تعالى :(4/418)
{ أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ } وقولِه تعالى : { قُلْ أفاتخذتم مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء } وفي التعريف تعريضٌ بأن المسلمين هم المتعيِّنون للغلَبة المعروفون بها .(4/419)
قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
{ قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم } بعد ما بُيّن من جهته تعالى غايةُ هول ما يستعجله ونهايةُ سوءِ حالهم عند إتيانه ونُعيَ عليهم جهلُهم بذلك وإعراضُهم عن ذكر ربهم الذي يكلؤهم من طوارق الليل والنهار وغيرُ ذلك من مساوي أحوالهم ، أُمر عليه السلام بأن يقول لهم : إنما أنذركم ما تستعجلونه من الساعة { بالوحى } الصادق الناطقِ بإتيانها وفظاعةِ ما فيها من الأهوال ، أي إنما شأني أن أنذرَكم بالإخبار بذلك لا بالإتيان بها فإنه مزاحمٌ للحكمة التكوينية والتشريعية إذ الإيمانُ برهانيٌّ لا عياني ، وقوله تعالى : { وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعاء } إما من تتمة الكلامِ الملقّن تذييلٌ له بطريق الاعتراض ، قد أُمر عليه السلام بأن يقوله لهم توبيخاً وتقريعاً وتسجيلاً عليهم بكمال الجهلِ والعِناد ، واللامُ للجنس المنتظمِ للمخاطبين انتظاماً أولياً أو للعهد فوضعُ المظهر موضعَ المضمر للتسجيل عليهم بالتصامّ ، وتقييدُ نفي السماعِ بقوله تعالى : { إِذَا مَا يُنذَرُونَ } مع أن الصمَّ لا يسمعون الكلام إنذاراً كان أو تبشيراً لبيان كمال شدةِ الصّمَمِ ، كما أن إيثارَ الدعاء الذي هو عبارةٌ عن الصوت والنداءِ على الكلام لذلك فإن الإنذارَ عادة يكون بأصوات عاليةٍ مكررةٍ مقارِنةٍ لهيئات دالةٍ عليه ، فإذا لم يسمعوها يكون صَممُهم في غاية لا غايةَ وراءها ، وإما من جهته تعالى على طريقة قوله تعالى : { بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مُّعْرِضُونَ } ويؤيده القراءةُ على خطاب النبي عليه الصلاة والسلام من الإسماع بنصب الصمُّ والدعاءَ ، كأنه قيل : قل لهم ذلك وأنت بمعزل من إسماعهم ، وقرىء بالياء أيضاً على أن الفاعلَ هو عليه السلام ، وقرىء على البناء للمفعول أي لا يقدر أحدٌ على إسماع الصمِّ .
وقوله تعالى : { وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مّنْ عَذَابِ رَبّكَ } بيان لسرعة تأثرِهم من مجيء نفس العذابِ إثرَ بيان عدمِ تأثرِهم من مجيء خبرِه على نهج التوكيد القسمي ، أي وبالله لئن أصابهم أدنى شيءٍ من عذابه تعالى كما ينبىء عنه المس والنفحة بجوهرها وبنائها فإن أصلَ النفحِ هبوبُ رائحة الشيء { لَيَقُولُنَّ ياويلنا قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظالمين } ليدْعُنّ على أنفسهم بالويل والهلاك ويعترِفُنّ عليها بالظلم .
وقوله تعالى : { وَنَضَعُ الموازين القسط } بيانٌ لما سيقع عند إتيانِ ما أُنذروه ، أي نقيم الموازينَ العادلةَ التي توزن بها صحائفُ الأعمال ، وقيل : وضعُ الموازين تمثيلٌ لإرصاد الحسابِ السويِّ والجزاء على حسب الأعمال ، وقد مر تفصيلُ ما فيه من الكلام في سورة الأعراف ، وإفرادُ القسطِ لأنه مصدرٌ وُصفَ به مبالغةً { لِيَوْمِ القيامة } التي كانوا يستعجلونها أي لجزائه أو لأجل أهلِه أو فيه كما في قولك : جئت لخمسٍ خلَوْن من الشهر { فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ } من النفوس { شَيْئاً } حقاً من حقوقها أو شيئاً ما من الظلم ، بل يوفى كلُّ ذي حق حقَّه إن خيراً فخيرٌ وإن شرًّا فشر ، والفاء لترتيب انتفاء الظلم على وضع الموازين { وَإِن كَانَ } أي العملُ المدلولُ عليه بوضع الموازين { مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ } أي مقدارَ حبة كائنةٍ من خردل ، أي وإن كان في غاية القِلة والحَقارة فإن حبةَ الخردل مَثَلٌ في الصِغر ، وقرىء مثقالُ حبة بالرفع على أن كان تامةٌ { أَتَيْنَا بِهَا } أي أحضرنا ذلك العملَ المعبَّر عنه بمثقال حبةِ الخردل للوزن ، والتأنيث لإضافته إلى الحبة وقرىء آتينا بها أي جازينا بها من الإيتاء بمعنى المجازاة والمكافأةِ لأنهم أتَوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء ، وقرىء أثبنا من الثواب وقرىء جئنا بها { وكفى بِنَا حاسبين } إذ لا مزيدَ على علمنا وعدْلِنا .(4/420)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان وَضِيَاء وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ } نوعُ تفصيلٍ لما أُجمل في قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ } إلى قوله تعالى : { وَأَهْلَكْنَا المسرفين } وإشارةٌ إلى كيفية إنجائهم وإهلاكِ أعدائهم ، وتصديرُه بالتوكيد القسمي لإظهار كمال الاعتناءِ بمضمونه ، والمرادُ بالفرقان هو التوارةُ وكذا بالضياء والذكر ، أي وبالله لقد آتيناهم وحياً ساطعاً وكتاباً جامعاً بين كونه فارقاً بين الحقِّ والباطل وضياءً يستضاء به في ظلمات الجهلِ والغَواية وذِكْراً يتعظ به الناسُ ، وتخصيصُ المتقين بالذكر لأنهم المستضيئون بأنواره المغتنمون لمغانم آثارِه أو ذكر ما يحتاجون إليه من الشرائع والأحكامِ ، وقيل : الفرقانُ النصرُ ، وقيل : فلقُ البحر والأول هو اللائقُ بمساق النظمِ الكريم فإنه لتحقيق أمر القرآن المشارك لسائر الكتبِ الإلهية لا سيما التوراةِ فيما ذكر من الصفات ، ولأن فلقَ البحر هو الذي اقترح الكفرةُ مثله بقولهم : فليأتنا بآية كما أُرسل الأولون ، وقرىء ضياءً بغير واو على أنه حالٌ من الفرقان .
وقوله تعالى : { الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم } أي عذابَه ، مجرورُ المحل على أنه صفةٌ مادحة للمتقين أو بدلٌ أو بيان أو منصوب أو مرفوعٌ على المدح { بالغيب } حال من المفعول أي يخشَون عذابه تعالى وهو غائبٌ عنهم غيرُ مشاهد لهم ، ففيه تعريضٌ بالكفرة حيث لا يتأثرون بالإنذار ما لم يشاهِدوا ما أنذروه ، وقيل : من الفاعل { وَهُمْ مّنَ الساعة مُشْفِقُونَ } أي خائفون منها بطريق الاعتناء ، وتقديمُ الجار لمراعاة الفواصل وتخصيصُ إشفاقهم منها بالذكر بعد وصفِهم بالخشية على الإطلاق للإيذان بكونها معظمَ المَخُوفاتِ وللتنصيص على اتصافهم بضد ما اتصف به المستعجلون ، وإيثارُ الجملة الاسميةِ للدِلالة على ثبات الإشفاق ودوامِه .
{ وهذا } أي القرآنُ الكريم أشير إليه بهذا إيذاناً بغاية وضوحِ أمرِه { ذُكِرَ } يُتذكّر ، وُصف بالوصف الأخير للتوراة لمناسبة المقام وموافقتِه لما مر في صدر السورةِ الكريمة { مُّبَارَكٌ } كثيرُ الخير غزيرُ النفع يُتبرّك به { أنزلناه } إما صفةٌ ثانية لذكر أو خبر { أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } إنكارٌ لإنكارهم بعد ظهورِ كون إنزالِه كإيتاء التوراة ، كأنه قيل : أبعد أن علمتم أن شأنَه كشأن التوراة في الإيتاء والإيحاءِ أنتم منكرون لكونه منزّلاً من عندنا؟ فإن ذلك بعد ملاحظةِ حالِ التوراة مما لا مساغَ له أصلاً .(4/421)
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)
{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ } أي الرشدَ اللائقَ به وبأمثاله من الرسل الكبارِ وهو الاهتداءُ الكاملُ المستند إلى الهداية الخاصةِ الحاصلةِ بالوحي والاقتدار على إصلاح الأمةِ باستعمال النواميسِ الإلهية ، وقرىء رَشَدَه وهما لغتان كالحُزْن والحَزَن { مِن قَبْلُ } أي من قبل إيتاءِ موسى وهارونَ التوراةَ ، وتقديمُ ذكر إيتائها لما بينه وبين إنزال القرآن من الشبه التامّ ، وقيل : من قبل استنبائِه أو قبلَ بلوغِه ويأباه المقام { وَكُنَّا بِهِ عالمين } أي بأنه أهلٌ لما آتيناه وفيه من الدليل على أنه تعالى عالمٌ بالجزئيات مختارٌ في أفعاله ما لا يخفى .
{ إِذْ قَالَ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ } ظرفٌ لآتينا على أنه وقت متّسعٌ وقع فيه الإيتاءُ وما ترتب عليه من أفعاله وأقواله ، وقيل : مفعولٌ لمضمر مستأنَفٍ وقع تعليلاً لما قبله أي اذكر وقتَ قولِه لهم : { مَا هذه التماثيل التى أَنتُمْ لَهَا عاكفون } لتقف على كمال رشدِه وغايةِ فضله ، والتِمثالُ اسمٌ لشيء مصنوعٍ مشبَّهٍ بخلق من خلائق الله تعالى وهذا تجاهلٌ منه عليه السلام حيث سألهم عن أصنامهم بغير التي يُطلب بها بيانُ الحقيقة ، أو شرحُ الاسم كأنه لا يعرف أنها ماذا مع إحاطته بأن حقيقتها حجرٌ أو شجرٌ اتخذوها معبوداً ، وعبّر عن عبادتهم لها بمطلق العكُوف الذي هو عبارةٌ عن اللزوم والاستمرار على الشير لغرض من الأغراض قصداً إلى تحقيرها وإذلالها وتوبيخاً لهم على إجلالها ، واللام في لها للاختصاص دون التعديةِ وإلا لجيء بكلمة على ، والمعنى أنتم فاعلون العكوفَ لها ، وقد جُوّز تضمينُ العكوف معنى العبادة كما ينبىء عنه قوله تعالى : { قَالُواْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا لَهَا عابدين } أجابوا بذلك لما أن مآلَ سؤاله عليه السلام الاستفسارُ عن سبب عبادتِهم لها كما ينبىء عنه وصفه عليه السلام إياهم بالعكوف لها ، كأنه قال : ما هي؟ هل تستحق ما تصنعون من العكوف عليها؟ فلما لم يكن لهم ملجأٌ يعتدّ به التجأوا إلى التقليد فأبطله عليه السلام على طريقة التوكيد القسمي حيث { قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ } الذين سنّوا لكم هذه السنةَ الباطلة { فِى ضلال } عجيبٍ لا يقادَر قدرُه { مُّبِينٌ } أي ظاهر بيّن بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء كونُه كذلك ، ومعنى كنتم مطلقُ استقرارِهم على الضلال لا استقرارُهم الماضي الحاصلِ قبل زمانِ الخطاب المتناولِ لهم ولآبائهم ، أي والله لقد كنتم مستقرين على ضلال عظيم ظاهرٍ لعدم استنادِه إلى دليل ما ، والتقليدُ إنما يجوز فيما يحتمل الحقية في الجملة .(4/422)
قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
{ قَالُواْ } لما سمعوا مقالته عليه السلام استبعاداً لكون ما هم عليه ضلالاً وتعجباً من تضليله عليه السلام إياهم بطريق التوكيدِ القسمي ، وتردداً في كون ذلك منه عليه السلام على وجه الجد { أَجِئْتَنَا بالحق } أي بالجِد { أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين } فتقول ما تقول على وجه المداعبةِ والمزاحِ ، وفي إيراد الشِّقِّ الأخير بالجملة الاسميةِ الدالة على الثبات إيذانٌ برُجْحانه عندهم . { قَالَ } عليه السلام إضراباً عما بنَوا عليه مقالتَهم من اعتقاد كونِها أرباباً لهم كما يُفصح عنه قولُهم : نعبدُ أصناماً فنظل لها عاكفين ، كأنه قيل : ليس الأمر كذلك { بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السموات والأرض الذى فطَرَهُنَّ } وقيل : هو إضرابٌ عن كونه لاعباً بإقامة البرهانِ على ما ادّعاه ، وضميرُ هن للسموات والأرض ، وصَفه تعالى بإيجادهن إثرَ وصفِه تعالى بربوبيته تعالى لهن تحقيقاً للحق وتنبيهاً على أن ما لا يكون كذلك بمعزل من الربوبية ، أي أنشأهن بما فيهن من المخلوقات التي من جملتها أنتم وآباؤكم وما تعبدونه من غير مثال يَحتذيه ولا قانونٍ ينتحيه ، ورجْعُ الضمير إلى التماثيل أدخلُ في تضليلهم وأظهرُ في إلزام الحجة عليهم لما فيه من التصريح المغني عن التأمل في كون ما يعبُدونه من جملة المخلوقات { وَأَنَاْ على ذلكم } الذي ذكرتُه من كون ربكم ربَّ السموات والأرض فقط دون ما عداه كائناً ما كان { مّنَ الشاهدين } أي العالِمين به على سبيل الحقيقةِ المُبرهنين عليه فإن الشاهدَ على الشيء مَنْ تحققه وحقّقه ، وشهادتُه على ذلك إدلاؤه بالحجة عليه وإثباتُه بها ، كأنه قال : وأنا أبين ذلك وأبرهن عليه { وتالله } وقرى بالباء وهو الأصلُ والتاء بدل من الواو التي هي بدل من الأصل وفيها تعجب { لاكِيدَنَّ أصنامكم } أي لأجتهدنّ في كسرها وفيه إيذانٌ بصعوبة الانتهاز وتوقّفِه على استعمال الحيل وإنما قاله عليه السلام سرًّا ، وقيل : سمعه رجل واحد { بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } من عبادتها إلى عيدكم ، وقرىء تَوَلّوا من التولي بحذف إحدى التاءين ويعضُدها قوله تعالى : { فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ } والفاء في قوله تعالى : { فَجَعَلَهُمْ } فصيحةٌ أي فولَّوا فجعلهم { جُذَاذاً } أي قُطاعاً فُعال بمعنى مفعول من الجذّ الذي هو القطعُ كالحُطام من الحطْم الذي هو الكسرُ ، وقرىء بالكسر وهي لغة أو جمعُ جذيذ كخِفاف وخفيف ، وقرىء بالفتح وجُذُذاً جمع جذيذ وجُذَذاً جمع جُذة . روي أن آزر خرج به في يوم عيدٍ لهم فبدأوا ببيت الأصنام فدخلوه فسجدوا لها ووضعوا بينها طعاماً خرجوا به معهم وقالوا : إلى أن تَرجِعَ بركتَه الآلهةُ على طعامنا ، فذهبوا وبقيَ إبراهيمُ عليه السلام فنظر إلى الأصنام وكانت سبعين صنماً مصطفّاً وثمّةَ صنمٌ عظيم مستقبلَ الباب ، وكان من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل فكسر الكلَّ بفأس كانت في يده ولم يبق إلا الكبيرُ وعلّق الفأس في عنقه وذلك قوله تعالى : { إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ } أي للأصنام { لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ } أي إلى إبراهيمَ عليه السلام { يَرْجِعُونَ } فيحاجّهم بما سيأتي فيحجّهم ويبكّتهم ، وقيل : يرجعون إلى الكبير فيسألونه عن الكاسر لأن من شأن المعبودِ أن يُرجَعَ إليه في المُلمّات ، وقيل : يرجِعون إلى الله تعالى وتوحيدِه عند تحقّقهم عجزَ آلهتِهم عن دفع ما يصيبهم وعن الإضرار بمن كسرهم .(4/423)
قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)
{ قَالُواْ } أي حين رجعوا من عيدهم ورأَوا ما رأوا { مَن فَعَلَ هذا بِئَالِهَتِنَا } على طريقة الإنكارِ والتوبيخِ والتشنيع ، وإنما عبروا عنها بما ذكر ولم يشيروا إليها بهؤلاء وهي بين أيديهم مبالغةً في التشنيع وقوله تعالى : { إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين } استئنافٌ مقرر لما قبله ، وقيل : مَنْ موصولةٌ وهذه الجملةُ في حيز الرفع على أنها خبرٌ لها ، والمعنى الذي فعل هذا الكسرَ والحطْمَ بآلهتنا إنه معدودٌ من جملة الظَّلَمة إما لجُرأته على إهانتها وهي حقيقةٌ بالإعظام أو لإفراطه في الكسر والحطْمِ وتماديه في الاستهانة بها ، أو بتعريض نفسِه للهلكة { قَالُواْ } أي بعضٌ منهم مجيبين للسائلين { سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ } أي يَعيبُهم فلعله فعل ذلك بها فقوله تعالى : { يَذْكُرُهُمْ } إما مفعولٌ ثانٍ لسمِع لتعلّقه بالعين أو صفةٌ لفتى مصحِّحةٌ لتعلقه به ، إذا كان القائلون سمِعوه عليه السلام بالذات يذْكُرهم وإن كانوا قد سمِعوا من الناس أنه عليه السلام يذكرهم بسوء فلا حاجة إلى المصحّح { يُقَالُ لَهُ إبراهيم } صفةٌ أخرى لفتى أي يطلق عليه هذا الاسم .
{ قَالُواْ } أي السائلون { فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس } أي بمرأىً منهم بحيث نصبَ أعينهم في مكان مرتفع لا يكاد يخفى على أحد { لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ } أي يحضُرون عقوبتنا له ، وقيل : لعلهم يشهدون أي بفعله أو بقوله ذلك فالضميرُ حينئذ ليس للناس بل لبعض منهم مُبهم أو معهود { قَالُواْ } استئنافٌ مبني على سؤال نشأ من حكاية قولهم ، كأنه قيل : فماذا فعلوا به عليه السلام بعد ذلك؟ هل أتَوا به أو لا؟ فقيل : أتوا به ثم قالوا : { ءأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِئَالِهَتِنَا إِبْرَاهِيمَ } اقتصاراً على حكاية مخاطبتِهم إياه عليه السلام للتنبيه على أن إتيانَهم به ومسارعتهم إلى ذلك أمرٌ محقق غني عن البيان .
{ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا } مشيراً إلى الذي لم يكسِرْه ، سلك عليه السلام مسلكاً تعريضياً يؤديه إلى مقصِده الذي هو إلزامُهم الحجّةَ على ألطف وجهٍ وأحسنِه بحملهم على التأمل في شأن آلهتهم مع ما فيه من التوقي من الكذب ، حيث أبرز الكبيرَ قولاً في معرض المباشِرِ للفعل بإسناده إليه كما أبرزه في ذلك المعرِض فعلاً بجعل الفأسَ في عنقه ، وقد قصد إسنادَه إليه بطريق التسبيب حيث كانت تلك الأصنامُ غاظته عليه السلام حين أبصرها مصطفةً مرتّبةً للعبادة من دون الله سبحانه ، وكان غيظُ كبيرِها أكبرَ وأشدَّ حسب زيادة تعظيمهم له ، فأسند الفعلَ باعتبار أنه الحاملُ عليه ، وقيل : هو حكايةٌ لما يقود إلى تجويزه مذهبُهم كأنه قال لهم : ما تنكرون أن يفعله كبيرُهم فإن من حق من يعبد ويدعى إلها أن يقدِر على ما هو أشدُّ من ذلك ، ويحكى أنه عليه السلام قال : فعله كبيرُهم هذا ، غضِبَ أن تُعبدَ معه هذه الصغارُ وهو أكبرُ منها فيكون تمثيلاً أراد به عليه السلام تنبيهَهم على غضب الله تعالى عليهم لإشراكهم بعبادته الأصنامَ ، وأما ما قيل من أنه عليه السلام لم يقصد نسبة الفعل الصادرِ عنه إلى الصنم بل إنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلُغ فيه غرضه من إلزامهم الحجةَ وتبكيتِهم ومُثِّل لذلك بما لو قال لك أمي فيما كتبتُه بخط رشيقٍ وأنت شهيرٌ بحسن الخطِّ : أأنت كتبْتَ؟ كان قصدُك تقريرَ الكتابة لنفسك مع الاستهزاء بالسائل لا نفيَها عنك وإثباتَها له فبمعزل من التحقيق لأن خلاصةَ المعنى في المثال المذكور مجردُ تقريرِ الكتابة لنفسك وإدعاءُ ظهور الأمر مع الاستهزاء بالسائل وتجهيلِه في السؤال لابتنائه على أن صدورَها عن غيرك محتملٌ عنده مع استحالته عندك ، ولا ريب في أن مرادَه عليه السلام من إسناد الكسرِ إلى الصنم ليس مجردَ تقريرِه لنفسه ولا تجهيلَهم في سؤالهم لابتنائه على احتمال صدوره عن الغير عندهم ، بل إنما مرادُه عليه السلام توجيهُهم نحو التأملِ في أحوال أصنامهم كما ينبىء عنه قوله : { فَسْئَلُوهُمْ إِن كَانوُاْ يَنطِقُونَ } أي إن كانوا ممن يمكن أن ينطِقوا وإنما لم يقل عليه السلام : إن كانوا يسمعون أو يعقِلون مع أن السؤال موقوفٌ على السمع والعقل أيضاً ، لما أن نتيجةَ السؤالِ هو الجوابُ وأن عدم نطقِهم أظهرُ وتبكيتَهم بذلك أدخلُ ، وقد حصل ذلك أولاً حسبما نطق به قوله تعالى :
{ فَرَجَعُواْ إلى أَنفُسِهِمْ } أي راجعوا عقولَهم وتذكروا أن ما لا يقدر على دفع المضَرّةِ عن نفسه ولا على الإضرار بمن كسَره بوجه من الوجوه ، يستحيل أن يقدر على دفع مضرَّةٍ عن غيره أو جلبِ منفعة له فكيف يستحق أن يكون معبوداً { فَقَالُواْ } أي قال بعضهم لبعض فيما بينهم : { إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون } أي بهذا السؤالِ لأنه كان على طريقة التوبيخِ المستتبِعِ للمؤاخذة أو بعبادة الأصنام ، لا من ظلمتوه بقولكم : إنه لمن الظالمين أو أنتم الظالمون بعبادتها لا مَنْ كسرها .(4/424)
{ ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُؤُوسَهُمْ } أي انقلبوا إلى المجادلة بعدما استقاموا بالمراجعة ، شبّه عودَهم إلى الباطل بصيرورة أسفلِ الشيءِ أعلاه ، وقرىء نُكّسوا بالتشديد ونكَّسوا على البناء للفاعل أي نكّسوا أنفسَهم { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ } على إرادة القول أي قائلين : والله لقد علمت أنْ ليس شأنهم النطقُ فكيف تأمرُنا بسؤالهم؟ على أن المرادَ استمرارُ نفي النطقِ لا نفيُ استمراره كما تُوهمه صيغةُ المضارع .(4/425)
قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)
{ قَالَ } مبكّتاً لهم { أَفَتَعْبُدُونَ } أي أتعلمون ذلك فتعبدون { مِن دُونِ الله } أي متجاوزين عبادتَه تعالى : { مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً } من النفع { وَلاَ يَضُرُّكُمْ } فإن العلمَ بحاله المنافيةِ للألوهية مما يوجب الاجتنابَ عن عبادته قطعاً .
{ أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } تضجّرٌ منه عليه الصلاة والسلام من إصرارهم على الباطل البيّن ، وإظهارُ الاسم الجليلِ في موضع الإضمارِ لمزيد استقباحِ ما فعلوا ، وأفَ صوتُ المتضجِّر ومعناه قُبحاً ونتْناً واللامُ لبيان المتأفَّفِ له { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي ألا تتفكرون فلا تعقِلون قبحَ صنيعكم .
{ قَالُواْ } أي قال بعضُهم لبعض لما عجَزوا عن المُحاجّة وضاقت عليهم الحِيلُ وعيَّت بهم العللُ ، وهكذا دَيدنُ المبطِلِ المحجوجِ إذا قَرَعْتَ شبُهتَه بالحجة القاطعة وافتُضِح لا يبقى له مفزِعٌ إلا المناصبةُ { حَرّقُوهُ } فإنه أشدُّ العقوبات { وانصروا ءالِهَتَكُمْ } بالانتقام لها { إِن كُنتُمْ فاعلين } أي للنصر أو لشيء يُعتدّ به ، قيل : القائلُ نمرودُ بنُ كنعان بن السنجاريب بن نمرود بن كوسِ بن حام بن نوح ، وقيل : رجلٌ من أكراد فارسَ اسمُه هيون ، وقيل : هدير خُسِفت به الأرض ، روي أنهم لما أجمعوا على إحراقه عليه السلام بنَوا له حظيرةً بكُوثَى ، قرية من قرى الأنباط وذلك قوله تعالى : { قَالُواْ ابنوا لَهُ بنيانا فَأَلْقُوهُ فِى الجحيم } فجمعوا له صِلاب الحطب من أصناف الخشبِ مدةَ أربعين يوماً فأوقدوا ناراً عظيمة لا يكاد يحوم حولها أحدٌ ، حتى إن كانت الطير لتمرّ بها وهي في أقصى الجو فتحترق من شَلْوة وهَجِها ولم يكد أحد يحوم حولها . فلم يعلموا كيف يُلقونه عليه السلام فيها فأتى إبليسُ وعلمهم عمل المِنْجنيق فعمِلوه ، وقيل : صنعه لهم رجل من الأكراد فخسف الله تعالى به الأرضَ فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ، ثم عَمدوا إلى إبراهيم عليه السلام فوضعوه فيه مغلولاً فرمَوا به فيها فقال له جبريلُ عليهما السلام : هل لك حاجةٌ؟ قال : أما إليك فلا ، قال : فاسأل ربك ، قال : حسبي من سؤالي علمُه بحالي ، فجعل الله تعالى ببركة قوله الحظيرةَ روضةً وذلك قوله تعالى : { قُلْنَا يانار كُونِى بَرْداً وسلاما على إبراهيم } أي كوني ذاتَ بردٍ وسلامٍ أي ابرُدي برداً غيرَ ضارّ وفيه مبالغات : جعلُ النارِ المسخرةِ لقدرته تعالى مأمورةً مطاوِعةً وإقامةَ كوني ذاتَ بردٍ مقامَ ابردي ، ثم حذفُ المضافِ وإقامةُ المضاف إليه مُقامَه ، وقيل : نصب سلاماً بفعله أي وسلمنا عليه . روي أن الملائكة أخذوا بضَبْعَي إبراهيمَ وأقعدوه على الأرض فإذا عينُ ماءٍ عذبٍ ووردٌ أحمرُ ونرجسٌ ولم تحرِق النارُ إلا وَثاقه ، وروي أنه عليه السلام مكث فيها أربعين يوماً أو خمسين وقال : ما كنت أطيبَ عيشاً مني إذ كنت فيها ، قال ابن يسار : وبعث الله تعالى ملَكَ الظل فقعد إلى جنبه يؤنسه ، فنظر نمرودُ من صَرْحه فأشرف عليه فرآه جالساً في روضة مُونِقة ومعه جليسٌ على أحسن ما يكون من الهيئة والنارُ محيطةٌ به ، فناداه : يا إبراهيمُ هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال : نعم ، قال : فقم فاخرُج ، فقام يمشي فخرج منها فاستقبله نمرودُ وعظّمه وقال : مَن الرجلُ الذي رأيته معك؟ قال : ذلك ملَك الظلّ أرسله ربي ليؤنسني ، فقال : إني مقرِّبٌ إلى إلهك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك ، فقال عليه السلام : لا يقبل الله منك ما دمت على دينك هذا ، قال : لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبح له أربعةَ آلافِ بقرة ، فذبحها وكف عن إبراهيم عليه السلام وكان إذا ذاك ابنَ ستَّ عشْرةَ سنة .(4/426)
وهذا كما ترى من أبدع المعجزات فإن انقلابَ النار هواء طيباً وإن لم يكن بدعاً من قدرة الله عز وجل لكن وقوعَ ذلك على هذه الهيئة مما يخرِق العاداتِ ، وقيل : كانت النار على حالها لكنه تعالى دفع عنه عليه السلام أذاها كما تراه في السَّمَنْدل كما يشعر به ظاهرُ قوله تعالى : { على إبراهيم } .(4/427)
وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)
{ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً } مكراً عظيماً في الإضرار به { فجعلناهم الأخسرين } أي أخسرَ من كل خاسر حيث عاد سعيُهم في إطفاء نور الحقِّ برهاناً قاطعاً على أنه عليه السلام على الحق وهم على الباطل ، وموجباً لارتفاع درجته واستحقاقِهم لأشد العذاب .
{ ونجيناه وَلُوطاً إِلَى الأرض التى بَارَكْنَا فِيهَا للعالمين } أي من العراق إلى الشام وبركاته العامة فإن أكثر الأنبياءِ بُعثوا فيه فانتشرت في العالمين شرائعُهم التي هي مبادي الكمالات والخيراتِ الدينية والدنيويةِ ، وقيل : كثرةُ النعم والخِصْبُ الغالب ، روي أنه عليه السلام نزل بِفلَسطين ولوطٌ عليه السلام بالمؤتفكة وبيهما مسيرةُ يومٍ وليلة .
{ وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } أي عطيةً فهي حالٌ منهما أو ولدٌ أو زيادةٌ على ما سأل وهو إسحاقُ فتختص بيعقوبَ ولا لَبْس فيه للقرنية الظاهرةِ { وَكُلاًّ } أي كلُّ واحدٍ من هؤلاء الأربعة لا بعضُهم دون بعض { جَعَلْنَا صالحين } بأن وفقناهم للصلاح في الدين والدنيا فصاروا كاملين .
{ وجعلناهم أَئِمَّةً } يقتدى بهم في أمور الدين إجابةً لدعائه عليه السلام بقوله : { وَمِن ذُرّيَتِى } { يَهْدُونَ } أي الأمة إلى الحق { بِأَمْرِنَا } لهم بذلك وإرسالِنا إياهم حت صاروا مكملين { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات } ليحثوّهم عليه فيتم كما لهم بانضمام العملِ إلى العلم ، وأصلُه أن تفعل الخيراتِ ثم فعل الخيرات وكذا قوله تعالى : وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَآءَ الزكاة } وهو من عطف الخاصِّ على العام دَلالةً على فضله وإنافتِه وحُذفت تاءُ الأقامة المعوّضة من إحدى الألفين لقيام المضاف إليه مَقامة { وَكَانُواْ لَنَا } خاصة دون غيرنا { عابدين } لا يخطر ببالهم غيرُ عبادتنا .(4/428)
وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)
{ وَلُوطاً } قيل : هو منصوبٌ بمضمر يفسّره قوله تعالى : { ءاتيناه } أي وآتينا لوطاً ، وقيل : باذكُرْ { حُكْمًا } أي حكمةً أو نبوة أو فصلاً بين الخصوم بالحق { وَعِلْماً } بما ينبغي علمُه للأنبياء عليهم السلام { ونجيناه مِنَ القرية التى كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث } أي اللّواطةَ ، وُصفت بصفة أهلها وأُسندت إليها على حذف المضاف وإقامتها مُقامه كما يُؤذِن به قوله تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء فاسقين } فإنه كالتعليل له .
{ وأدخلناه فِى رَحْمَتِنَا } أي في أهل رحمتِنا أو في جنتنا { إِنَّهُ مِنَ الصالحين } الذين سبقت لهم منا الحسنى .
{ وَنُوحاً } أي اذكر نوحاً أي خبرَه وقوله تعالى : { إِذْ نادى } أى دعا الله تعالى على قومه بالهلاك ، ظرف للمضاف أي اذكر نبأَه الواقعَ وقت دعائه { مِن قَبْلُ } أي من قبل هؤلاء المذكورين { فاستجبنا لَهُ } أي دعاءَه الذي من جملته قولُه : إني مغلوبٌ فانتصر { فنجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم } وهو الطوفانُ ، وقيل : أذيّةُ قومِه وأصلُ الكرب الغمُّ الشديد .
{ ونصرناه } نصراً مستتبِعاً للانتقام والانتصار ولذلك قيل : { مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } وحملُه على فانتصر يأباه ما ذكر من دعائه عليه السلام فإنه ظاهرَه يوجب إسنادَ الانتصارِ إليه تعالى مع ما فيه من تهويل الأمر وقوله تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء } تعليلٌ لما قبله وتمهيد لما قبله وتمهيد لما بعده من قوله تعالى : { فأغرقناهم أَجْمَعِينَ } فإن الإصرارَ على تكذيب الحقِّ والانهماكَ في الشر والفساد مما يوجب الإهلاكَ قطعاً .
{ وَدَاوُودَ وسليمان } إما عطفٌ على نوحاً معمولٌ لعامله وإما لمضمر معطوفٍ على ذلك العامل بتقدير المضاف وقوله تعالى : { إِذْ يَحْكُمَانِ } ظرفٌ للمضاف المقدر وصيغةُ المضارع حكايةٌ للحال الماضيةِ لاستحضار صورتِها ، أي اذكر خبرَهما وقت حُكمِهما { فِى الحرث } أي في حق الزرعِ أو الكرم المتدلّي عناقيدُه كما قيل ، أو بدلُ اشتمال منهما وقوله تعالى : { إِذْ نَفَشَتْ } أي تفرّقت وانتشرت { فِيهِ غَنَمُ القوم } ليلاً بلا راعٍ فرَعَتْه وأفسدتْه ظرفٌ للحكم { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ } أي لحُكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما ، فإن الإضافةَ لمجرد الاختصاص المنتظمِ لاختصاص القيامِ واختصاصِ الوقوع ، وقرىء لحكمهما { شاهدين } حاضرين علماً والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ للحكم ومفيدٌ لمزيد الاعتناءِ بشأنه .(4/429)
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
{ ففهمناها سليمان } عطفٌ على يحكمان فإنه على حكم الماضي ، وقرىء فأفهمناها والضميرُ للحكومة أو الفُتيا ، روي أنه دخل على داودَ عليه السلام رجلان ، فقال أحدهما : إن غنَمَ هذا دخلت في حرثي ليلاً فأفسدتْه فقضى له بالغنم فخرجا فمرّا على سليمان عليه السلام فأخبراه بذلك ، فقال : غيرُ هذا أرفقُ بالفريقين فسمعه داودُ فدعاه ، فقال له : بحق النبوةِ والأبوة إلا أخبرتَني بالذي أرفقُ بالفريقين ، فقال : أرى أن تُدفع الغنَمُ إلى صاحب الأرض لينتفعَ بدرها ونسلِها وصوفِها ، والحرثَ إلى أرباب الغنم ليقوموا عليه حتى يعودَ إلى ما كان ثم يترادّا ، فقال : القضاءُ ما قضيتَ وأمضى الحُكْمَ بذلك ، والذي عندي أن حكْمَهما عليهما السلام كان بالاجتهاد فإن قولَ سليمان عليه الصلاة والسلام : غيرُ هذا أرفقُ بالفريقين ، ثم قولُه : أرى أن تُدفع الخ ، صريحٌ في أنه ليس بطريق الوحي وإلا لبتّ القولَ بذلك ولما ناشده داودُ عليهما السلام لإظهار ما عنده بل وجب عليه أن يُظهِره بدْأً وحرُم عليه كتمُه ، ومن ضرورته أن يكون القضاءُ السابقُ أيضاً كذلك ضرورةَ استحالة نقضِ حكم النصِ بالاجتهاد ، بل أقول : والله تعالى أعلم إن رأْيَ سليمان عليه السلام استحسانٌ كما ينبىء عنه قوله : أرفقُ بالفريقين ورأيَ داودَ عليه السلام قياسٌ كما أن العبدَ إذا جنى على النفس يدفعه المولى عند أبي حنيفة إلى المجنيِّ عليه أو يفديه ويبيعُه في ذلك أو يفديه عند الشافعي ، وقد روي أنه لم يكن بين قيمة الحرثِ وقيمة الغنمِ تفاوتٌ ، وأما سليمانُ عليه السلام فقد استحسن حيث جعل الانتفاعَ بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث من غير أن يزول مُلكُ المالك عن الغنم ، وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث إلى أن يزولَ الضررُ الذي أتاه من قِبله كما قال أصحابُ الشافعيِّ فيمن غصب عبداً فأبَقَ منه : أنه يضمن القيمةَ فينتفعَ بها المغصوبُ منه بإزاء ما فوّته الغاصبُ من المنافع فإذا ظهر الآبقُ ترادّا وفي قوله تعالى : { ففهمناها سليمان } دليلٌ على رجحان قولِه ورجوعِ داودَ عليه السلام إليه مع أن الحكمَ المبنيَّ على الاجتهاد لا يُنقَض باجتهاد آخرَ وإن كان أقوى منه لما أن ذلك من خصائص شريعتِنا ، على أنه ورد في الأخبار أن داودَ عليه السلام لم يكن بتّ الحكمَ في ذلك حتى سمع من سليمانَ وأما حكمُ المسألةِ في شريعتنا فعند أبي حنيفة رحمه الله لا ضمانَ إن لم يكن معها سائقٌ أو قائد ، وعند الشافعي يجب الضمانُ ليلاً لا نهاراً وقوله تعالى : { وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } لدفع ما عسى يوهمه تخصيصُ سليمانَ عليه السلام بالتفهيم من عدم كون حكم داودَ عليه السلام حكماً شرعياً ، أي وكلُّ واحد منهما آتينا حكماً وعلماً كثيراً لا سليمانُ وحده ، وهذا إنما يدل على أن خطأَ المجتهدِ لا يقدح في كونه مجتهداً ، وقيل : بل على أن كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ وهو مخالفٌ لقوله تعالى : { ففهمناها سليمان } ولولا النقلُ لاحتمل توافقُهما على أن قوله تعالى : { ففهمناها سليمان } لإظهار ما تفضّل عليه في صِغره فإنه عليه السلام كان حيئنذ ابن إحدى عشْرة سنةً { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الجبال } شروعٌ في بيان ما يختص بكل منهما من كراماته تعالى إثرَ بيان كرامتِه العامة لهما { يُسَبّحْنَ } أي يقدّسْن الله عز وجل معه بصوت يتمثل له أو يخلق الله تعالى فيها الكلامَ ، وقيل : يسِرْن معه من السباحة وهو حالٌ من الجبال أو استئنافٌ مبين لكيفية التسخيرِ ومع متعلقةٌ بالتسخير ، وقيل : بالتسبيح وهو بعيد { والطير } عطفٌ على الجبال أو مفعولٌ معه ، وقرىء بالرفع على الابتداء والخبرُ محذوفٌ ، أي والطيرُ مسخراتٌ ، وقيل : على العطف على الضمير في يسبحن وفيه ضعفٌ لعدم التأكيد والفصلِ { وَكُنَّا فاعلين } أي من شأننا أن نفعل أمثالَه فليس ذلك ببِدْعٍ منا وإن كان بديعاً عندكم .(4/430)
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
{ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ } أي عملَ الدِّرْعِ وهو في الأصل اللباسُ قال قائلهم
إلبَسْ لكل حالة لَبوسَها ... إما نعيمَها وإما بوسَها
وقيل : كانت صفائح فحلقها وسرَدها { لَكُمْ } متعلقٌ بعلّمنا أو بمحذوف هو صفةُ لَبوس { لِتُحْصِنَكُمْ } أي اللبوسُ بتأويل الدرع ، وقرىء بالتذكير على أن الضمير لداودَ عليه السلام أو للّبوس ، وقرىء بنون العظمة وهو بدلُ اشتمال من لكم بإعادة الجارّ مبينٌ لكيفية الاختصاصِ والمنفعةِ المستفادةِ من لام لكم { مّن بَأْسِكُمْ } قيل : من حرب عدوِّكم ، وقيل : من وقع السلاح فيكم { فَهَلْ أَنتُمْ شاكرون } أمرٌ واردٌ على صورة الاستفهامِ للمبالغة أو التقريع .
{ ولسليمان الريح } أي وسخرنا له الريحَ ، وإيرادُ اللام هاهنا دون الأول للدِلالة على ما بين التسخيرين من التفاوت ، فإن تسخيرَ ما سخر له عليه السلام من الريح وغيرِها كان بطريق الانقيادِ الكليِّ له والامتثالِ بأمره ونهيِه والمقهوريةِ تحت ملكوتِه ، وأما تسخيرُ الجبال والطيرِ لداودَ عليه السلام فلم يكن بهذه المثابة بل بطريق التبعيةِ له عليه السلام والاقتداء به في عبادة الله عز وعلا { عَاصِفَةً } حالٌ من الريح والعاملُ فيها الفعلُ المقدرُ ، أي وسخرنا له الريحَ حالَ كونِها شديدةَ الهبوبِ من حيث أنها كانت تبعُد بكرسيه في مدة يسيرة من الزمان كما قال تعالى : { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } وكانت رُخاءً في نفسها طيبةً ، وقيل : كانت رُخاءً تارة وعاصفةً أخرى حسب إرادتِه عليه الصلاة والسلام ، وقرىء الريحُ بالرفع على الابتداء والخبرُ هو الظرفُ المقدم وعاصفةً حينئذ حال من ضمير المبتدأ في الخبر والعاملُ ما فيه من معنى الاستقرارِ ، وقرىء الرياح نصباً ورفعاً { تَجْرِى بِأَمْرِهِ } بمشيئته حالٌ ثانية أو بدلٌ من الأولى أو حال من ضميرها { إِلَى الأرض التى بَارَكْنَا فِيهَا } وهي الشام رَواحاً بعد ما سار به منه بكرةً ، قال الكلبي : كان سليمانُ عليه السلام وقومه يركبون عليها من اصطخْرَ إلى الشام وإلى حيث شاء ثم يعود إلى منزله { وَكُنَّا بِكُلّ شَىْء عالمين } فنُجريه حسبما تقتضيه الحِكمة .
{ وَمِنَ الشياطين } أي وسخرنا له من الشياطين { مَن يَغُوصُونَ لَهُ } في البحار ويستخرجون له من نفائسها ، وقيل : مَنْ رُفع على الابتداء وخبرُه ما قبله والأولُ هو الأظهرُ { وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلك } أي غير ما ذكر من بناء المدن والقصورِ واختراعِ الصنائعِ الغريبة لقوله تعالى : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن محاريب وتماثيل } الآية ، وهؤلاء أما الفرقةُ الأولى أو غيرها لعموم كلمة مَنْ ، كأنه قيل : ومَن يعملون وجمعُ الضمير الراجع إليها باعتبار معناها بعد ما رشح جانبُه بقوله تعالى : { وَمِنَ الشياطين } ، روي أن المسخَّر له عليه السلام كفارُهم لا مؤمنوهم لقوله تعالى : { وَمِنَ الشياطين } وقوله تعالى : { وَكُنَّا لَهُمْ حافظين } أي من أن يزيغوا عن أمره أو يُفسدوا على ما هو مقتضى جِبِلّتهم ، قيل : وكل بهم جمعاً من الملائكة وجمعاً من مؤمني الجن ، وقال الزجاجُ : كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عمِلوا وكان دأبُهم أن يفسدوا بالليل ما عمِلوه بالنهار .(4/431)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
{ وَأَيُّوبَ } الكلام فيه كما مر في قوله تعالى : { وَدَاوُودَ وسليمان } أي واذكر خبرَ أيوبَ { إِذْ نادى رَبَّهُ أَنّى } أي بأني { مَسَّنِىَ الضر } وقرىء بالكسر على إضمار القولِ أو تضمينِ النداء معناه ، والضرُّ شائع في كل ضررٍ وبالضم خاص بما في النفس من مرض وهُزال ونحوهما { وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحمين } وصفه تعالى بغاية الرحمةِ بعد ما ذكر نفسه بما يوجبها واكتفى به عن عرض المطلب لطفاً في السؤال ، وكان عليه السلام رومياً من ولد عيص بن إسحاقَ استنبأه الله تعالى وكثُر أهلُه وماله فابتلاه الله تعالى بهلاك أولادِه بهدم بيت عليهم وذهابِ أمواله والمرضِ في بدنه ثمانيَ عشرةَ سنة ، أو ثلاثَ عشرةَ سنة ، أو سبعاً وسبعةَ أشهر وسبعة أيام وسبعَ ساعات ، روي أن امرأتَه ماخيرَ بنتَ ميشا بنِ يوسفَ عليه السلام أو رحمةَ بنتَ أفرايمَ بنِ يوسف قالت له يوماً : لو دعوتَ الله تعالى ، فقال : كم كانت مدةُ الرخاء؟ فقالت : ثمانين سنة ، فقال : أستحيي من الله تعالى أن أدعوَه وما بلغتْ مدةُ بلائي مدةَ رخائي ، وروي أن إبليسَ أتاها على هيئة عظيمة فقال : أنا إله الأرضِ فعلتُ بزوجك ما فعلت لأنه تركني وعبدَ إله السماء ، فلو سجد لي سجدةً لرددتُ عليه وعليك جميعَ ما أخذتُ منكما ، وفي رواية : لو سجدتِ لي سجدةً لرَجعتُ المالَ والولد وعافيتُ زوجَك ، فرجعت إلى أيوبَ وكان ملْقًى في الكُناسة لا يقرُب منه أحدٌ فأخبرته بالقصة فقال عليه السلام : كأنك افتُتِنْتِ بقول اللعين لئن عافاني الله عز وجل لأضرِبنّك مائة سَوْط وحرامٌ عليّ أن أذوق بعد هذا شيئاً من طعامك وشرابِك ، فطردها فبقيَ طريحاً في الكُناسة لا يحوم حوله أحدٌ من الناس فعند ذلك خر ساجداً فقال : ربّ إني مسّنيَ الضرُّ وأنت أرحمُ الراحمين ، فقيل له : ارفعْ رأسك فقد استُجيب لك ، اركُضْ برجلك فركض فنبعتْ من تحته عينُ ماء فاغتسل منها فلم يبقَ في ظاهر بدنه دابةٌ إلا سقطتْ ولا جراحةٌ إلا برِئت ، ثم ركض مرة أخرى فنبعت عينٌ أخرى فشرب منها فلم يبقَ في جوفه داءٌ إلا خرج وعاد صحيحاً ورجع إليه شبابُه وجمالُه ثم كُسِيَ حلة وذلك قوله تعالى : { فاستجبنا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ } فلما قام جعل يلتفت فلا يرى شيئاً مما كان له من الأهل والمالِ إلا وقد ضاعفه الله تعالى وذلك قوله تعالى : { وَءَاتًيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهمْ مَعْهمْ } وقيل : كان ذلك بأن وُلد له ضِعفُ ما كان ، ثم إن امرأتَه قالت في نفسها : هبْ أنه طردني أفأترُكه حتى يموتَ جوعاً وتأكلَه السباع لأرجِعنّ إليه ، فلما رجعت ما رأت تلك الكُناسة ولا تلك الحال وقد تغيرت الأمورُ فجعلت تطوفُ حيث كانت الكُناسة وتبكي وهابت صاحبَ الحُلة أن تأتيَه وتسألَ عنه ، فأرسل إليها أيوبُ ودعاها فقال : ما تريدين يا أمةَ الله؟ فبكت وقالت : أريد ذلك المبتلى الذي كان ملقًى على الكناسة ، قال لها : ما كان منك؟ فبكت وقالت : بعْلي ، قال : أتعرِفينه إذا رأيتِه؟ قالت : وهل يخفى عليّ؟ فتبسم فقال : أنا ذلك فعرفته بضحكه فاعتنقتْه { رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وذكرى للعابدين } أي آتيناه ما ذُكر لرحمتنا أيوبَ وتذكرةً لغيره من العابدين ليصبِروا كما صبر فيُثابوا كما أثيب ، أو لرحمتنا العابدين الذين من جملتهم أيوبُ وذكْرِنا إياهم بالإحسان وعدمِ نسياننا لهم .(4/432)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
{ وإسماعيل وَإِدْرِيسَ وَذَا الكفل } أي واذكرهم ، وذو الكِفل إلياسُ ، وقيل : يوشعُ بنُ نون ، وقيل : زكريا سُمّي به لأنه كان ذا حظ من الله تعالى أو تكفُّلٍ منه ، أو ضعفِ عمل أنبياءِ زمانه وثوابِه فإن الكفلَ يجيء بمعنى النصيب والكفالة والضِعْف { كُلٌّ } أي كل واحد من هؤلاء { مّنَ الصابرين } أي على مشاقّ التكاليف وشدائدِ النُّوَب ، والجملةُ استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال نشأ من الأمر بذكرهم .
{ وأدخلناهم فِى رَحْمَتِنَا } أي في النبوة أو في نعمة الآخرة { إِنَّهُمْ مّنَ الصالحين } أي الكاملين في الصلاح الكاملِ الذي لا يحوم حوله شائبةُ الفساد وهم الأنبياءُ ، فإن صلاحَهم معصومٌ من كَدَر الفساد .
{ وَذَا النون } أي واذكر صاحب الحوت وهو يونسُ عليه السلام { إِذ ذَّهَبَ مغاضبا } أي مراغِماً لقومه لمّا برِمَ من طول دعوته إياهم وشدةِ شكيمتهم وتمادي إصرارِهم مهاجراً عنهم قبل أن يؤمر ، وقيل : وعدَهم بالعذاب فلم يأتِهم لميعادهم بتوبتهم ولم بعرف الحال فظن أنه كذّبهم فغضِب من ذلك ، وهو من بناء المغالبة للمبالغة أو لأنه أغضبهم بالمهاجَرة لخوفهم لحوقَ العذاب عندما وقرىء مُغضَباً { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } أي لن نضيّقَ عليه أو لن نقضيَ عليه بالعقوبة من القدر ، ويؤيده أنه قرىء مشدداً أو لن نُعمِل فيه قدرتَنا ، وقيل : هو تمثيلٌ لحاله بحال مَنْ يظن أن لن نقدر عليه أي نعامله معاملةَ من يظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومَه من غير انتظار لأمرنا كما في قوله تعالى : { يَحْسَبُ أَن مَالَهُ أَخْلَدَهُ } أي نعامله معاملةَ من يحسَب ذلك ، وقيل : خطرةٌ شيطانية سبقت إلى وهمه فسُمّيت ظنًّا للمبالغة ، وقرىء بالياء مخففاً ومثقلاً مبنياً للمفعول { فنادى } الفاءُ فصيحة أي فكان ما كان من المساهمة والتقامِ الحوت فنادى { فِى الظلمات } أي في الظلمة الشديدةِ المتكاثفة أو في ظلمات بطنِ الحوتِ والبحرِ والليل ، وقيل : ابتلع حوتَه حوتٌ أكبرُ منه فحصل في ظلمتي بطني الحوتين وظلمتي البحر والليل { أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ } أي بأنه لا إله إلا أنت على أنّ أنْ مخففةٌ من أنّ وضميرُ الشأن محذوف ، أو أي لا إله إلا أنت على أنها مفسّرة { سبحانك } أنزهك تنزيهاً لائقاً بك من أن يُعجزك شيءٌ أو أن يكون ابتلائي بهذا بغير سبب من جهتي { إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين } لأنفسهم بتعريضها للهلكة حيث بادرت إلى المهاجرة .(4/433)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
{ فاستجبنا لَهُ } أي دعاءَه الذي دعاه في ضمن الاعترافِ بالذنب على ألطف وجهٍ وأحسنه . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من مكروبٍ يدعو بهذا الدعاء إلا استُجيب له » { ونجيناه مِنَ الغم } بأن قذفه الحوتُ إلى الساحل بعد أربع ساعاتٍ كان فيها في بطنه ، وقيل : بعد ثلاثة أيام ، وقيل : الغمُّ غمُّ الالتقام ، وقيل : الخطيئة { وكذلك } أي مثلَ ذلك الإنجاءِ الكامل { نُنجِى المؤمنين } من غمومٍ دَعَوُا الله تعالى فيها بالإخلاص لا إنجاءً أدنى منه ، وفي الإمام نجّى فلذلك أخفى الجماعةُ النون الثانية فإنها تخفى مع حروف الفم ، وقرىء بتشديد الجيم على أن أصله نُنجّي فخذفت الثانية كما حذفت التاء في تَظاهرون وهي وإن كانت فاءً فخذفُها أوقعُ من حذف حرفِ المضارَعة التي لِمعنًى ، ولا يقدح فيه اختلافُ حركتي النونين فإن الداعيَ إلى الحذف اجتماعُ المِثلين مع تعذّر الإدغام وامتناعُ الحذفِ في ( تتجافى ) لخوف اللَّبس ، وقيل : هو ماضٍ مجهولٌ أسند إلى ضمير المصدر وسُكّن آخره تخفيفاً ورُدّ بأنه لا يسند إلى المصدر والمفعول مذكور ، والماضي لا يسكن آخرُه .
{ وَزَكَرِيَّا } أي واذكر خبره { إِذْ نادى رَبَّهُ } وقال : { رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً } أي وحيداً بلا ولدٍ يرثني { وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين } فحسبي أنت إن لم ترزُقني وارثاً { فاستجبنا لَهُ } أي دعاءَه { وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى } وقد مر بيانُ كيفية الاستجابة والهبة في سورة مريم { وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } أي أصلحناها للولادة بعد عُقْرها أو أصلحناها للمعاشرة بتحسين خلقِها وكانت حَرِدةً ، وقوله تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الخيرات } تعليل لما فصل من فنون إحسانِه تعالى المتعلقة بالأنبياء المذكورين ، أي كانوا يبادرون في وجوه الخيراتِ مع ثباتهم واستقرارهم في أصل الخير وهو السرُّ في إيثار كلمة ( في ) على كلمة إلى المُشعرة بخلاف المقصودِ من كونهم خارجين عن أصل الخيراتِ متوجهين إليها كما في قوله تعالى : { وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ } { وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } ذوي رغَبٍ ورهَب أو راغبين في الثواب راجين للإجابة أو في الطاعة وخائفين العقاب أو المعصية أو للرغب والرهب { وَكَانُواْ لَنَا خاشعين } أي مُخْبتين متضرعين أو دائمي الوجَل ، والمعنى أنهم نالوا من الله تعالى ما نالوا بسبب اتصافِهم بهذه الخصال الحميدة .
{ والتى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } أي اذكر خبرَ التي أحصنتْه على الإطلاق من الحلال والحرام ، والتعبيرُ عنها بالموصول لتفخيم شأنِها وتنزيهها عما زعموه في حقها آثرَ ذي أثيرٍ { فَنَفَخْنَا فِيهَا } أي أحيينا عيسى في جوفها { مِن رُّوحِنَا } من الروح الذي هو من أمرنا ، وقيل : فعلنا النفخَ فيها من جهة روحنا جبريلَ عليه السلام { وجعلناها وابنها } أي قصتهما أو حالهما { ءَايَةً للعالمين } فإن مَنْ تأمل حالهما تحقق كمالَ قدرتِه عز وجل ، فالمرادُ بالآية ما حصل بهما من الآية التامةِ مع تكاثر آياتِ كلِّ واحد منهما ، وقيل : أريد بالآية الجنسُ الشاملُ لما لكل واحدٍ منهما من الآيات المستقلة ، وقيل : المعنى وجعلناها آيةً وابنها آيةً فحذفت الأولى لدِلالة الثانية عليها .(4/434)
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
{ إِنَّ هذه } أي ملةَ التوحيد والإسلام أشير إليها بهذه تنبيهاً على كمال ظهور أمرِها في الصحة والسَّداد { أُمَّتُكُمْ } أي ملتُكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها وتُراعوا حقوقَها ولا تُخِلّوا بشيء منها والخطابُ للناس قاطبة { أُمَّةً وَاحِدَةً } نصب على الحالية من أمتُكم أي غيرَ مختلفة فيما بين الأنبياء عليهم السلام ، إذ لا مشاركةَ لغيرها في صحة الاتباعِ ولا احتمال لتبدّلها وتغيُّرها كفروع الشرائعِ المتبدلة حسب تبدّلِ الأممِ والأعصار ، وقرىءأمتَكم بالنصب على البدلية من اسم إن أمةٌ واحدةٌ بالرفع على الخبرية وقرئتا بالرفع على أنهما خبران { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ } لا إله لكم غيري { فاعبدون } خاصة لا غيرُ .
وقوله تعالى : { وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } التفاتٌ إلى الغَيبة لينعى عليهم ما أفسدوه من التفرق في الدين وجعلِ أمره قِطَعاً مُوَزّعةً وينهى قبائحَ أفعالهم إلى الآخرين كأنه قيل : ألا ترَون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله الذي أجمعت عليه كافةُ الأنبياء عليهم السلام { كُلٌّ } أي كلُّ واحدة من الفرق المتقطّعة أو كلُّ واحد من آحاد كلِّ واحدة من تلك الفرق { إِلَيْنَا راجعون } بالبعث لا إلى غيرنا فنجازيهم حينئذ بحسب أعمالهم ، وإيرادُ اسمِ الفاعل للدِلالة على الثبات والتحقق .
وقوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات } الخ ، تفصيلٌ للجزاء أي فمن يعملْ بعضَ الصالحات أو بعضاً من الصالحات { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } بالله ورسله { فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ } أي لا حِرمانَ لثواب عملِه ذلك ، عبّر عن ذلك بالكفران الذي هو سَتْرُ النعمة وجحودُها لبيان كمال نزاهتِه تعالى عنه بتصويره بصورة ما يستحيل صدورُه عنه تعالى من القبائح وإبرازِ الإثابة في معرِض الأمور الواجبةِ عليه تعالى ، ونفيُ الجنس للمبالغة في التنزيه وعبّر عن العمل بالسعي لإظهار الاعتداد به { وَإِنَّا لَهُ } أي لسعيه { كاتبون } أي مُثبّتون في صحائف أعمالِهم لا نغادر من ذلك شيئاً .
{ وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ } أي ممتنعٌ على أهلها غيرُ متصوَّر منهم ، وقرىء حِرْمٌ وهي لغة كالحِل والحلال { أهلكناها } قدّرنا هلاكها أو حكمنا به لغاية طغيانهم وعتوّهم وقوله تعالى : { أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } في حيز الرفع على أنه مبتدأٌ خبرُه حرامٌ أو فاعل له سادٌّ مسدَّ خبرِه ، والجملةُ لتقرير مضمونِ ما قبلها من قوله تعالى : { كُلٌّ إِلَيْنَا راجعون } وما في أنّ من معنى التحقيق معتبرٌ في النفي المستفادِ من حرامٌ لا من المنفي أي ممتنعٌ البتةَ عدمُ رجوعِهم إلينا للجزاء ، لا أن عدمَ رجوعِهم المحقق ممتنعٌ ، وتخصيصُ امتناعِ عدمِ رجوعِهم بالذكر مع شمول الامتناعِ لعدم رجوعِ الكل حسبما نطق به قوله تعالى : { كُلٌّ إِلَيْنَا راجعون } لأنهم المنكِرون للبعث والرجوعِ دون غيرهم ، وقيل : ممتنعٌ رجوعُهم إلى التوبة على أن ( لا ) صلةٌ ، وقرىء أنهم لا يرجِعون بالكسر على أنه استئنافٌ تعليليٌّ لما قبله فحرامٌ خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي محرمٌ عليها ذلك وهو ما ذكر في الآية السابقة من العمل الصالح المشفوعِ بالإيمان والسعي المشكور ، ثم علل بقوله تعالى : { أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } عما هم عليه من الكفر فكيف لا يمتنع ذلك ، ويجوز حملُ المفتوحة أيضاً على هذا المعنى بحذف اللامِ عنها ، أي لأنهم لا يرجعون وحتى في قوله تعالى : { حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ } الخ ، هي التي يُحكى بعدها الكلامُ وهي على الأول غايةٌ لما يدل عليه ما قبلها ، كأنه قيل : يستمرون على ما هم عليه من الهلاك حتى إذا قامت القيامةُ يرجعون إلينا ويقولون : يا ويلنا الخ ، وعلى الثاني غايةٌ للحُرمة أي يستمر امتناعُ رجوعِهم إلى التوبة حتى إذا قامت القيامة يرجعون إليها حين لا تنفعهم التوبةُ ، وعلى الثالث غايةٌ لعدم الرجوعِ عن الكفر أي لا يرجعون عنه حتى إذا قامت القيامة يرجعون عنه حين لا ينفعهم الرجوع ، ويأجوجُ ومأجوجُ قبيلتان من الإنس قالوا : الناسُ عشرةُ أجزاء تسعةٌ منها يأجوجُ ومأجوج ، والمرادُ بفتحها فتحُ سدِّها على حذف المضاف وإقامةِ المضاف إليه مُقامَه ، وقرىء فتّحت بالتشديد { وَهُمْ } أي يأجوجُ ومأجوجُ ، وقيل : الناس { مّن كُلّ حَدَبٍ } أي نشَز من الأرض ، وقرىء جدَث وهو القبر { يَنسِلُونَ } أي يسرعون وأصله مقاربةُ الخَطْو مع الإسراع ، وقرىء بضم السين { واقترب الوعد الحق } عطف على فُتحت والمرادُ به ما بعد النفخة الثانية من البعث والحسابِ والجزاء لا النفخةُ الأولى { فَإِذَا هِىَ شاخصة أبصار الذين كَفَرُواْ } جوابُ الشرط وإذا للمفاجأة تسدّ مسدّ الفاءِ الجزائية كما في قوله تعالى :(4/435)
{ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } فإذا دخلتها الفاء تظاهرت على وصل الجزاء بالشرط ، والضميرُ للقصة أو مبهمٌ يفسره ما بعده { ياويلنا } على تقدير قول وقع حالاً من الموصول ، أي يقولون : يا ويلنا تعالَ فهذا أوانُ حضورِك ، وقيل : هو الجواب للشرط { قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ } تامة { مّنْ هذا } الذي دهمنا من البعث والرجوع إليه تعالى للجزاء ولم نعلم أنه حقٌ { بَلْ كُنَّا ظالمين } إضرابٌ عما قبله من وصف أنفسهم بالغفلة ، أي لم نكن غافلين عنه حيث نبهنا عليه بالآيات والنذر بل كنا ظالمين بتلك الآيات والنذُرِ مكذّبين بها ، أو ظالمين لأنفسنا بتعريضها للعذاب الخالد بالتكذيب .(4/436)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)
{ واقترب الوعد الحق } عطف على فُتحت والمرادُ به ما بعد النفخة الثانية من البعث والحسابِ والجزاء لا النفخةُ الأولى { فَإِذَا هِىَ شاخصة أبصار الذين كَفَرُواْ } جوابُ الشرط وإذا للمفاجأة تسدّ مسدّ الفاءِ الجزائية كما في قوله تعالى : { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } فإذا دخلتها الفاء تظاهرت على وصل الجزاء بالشرط ، والضميرُ للقصة أو مبهمٌ يفسره ما بعده { ياويلنا } على تقدير قول وقع حالاً من الموصول ، أي يقولون : يا ويلنا تعالَ فهذا أوانُ حضورِك ، وقيل : هو الجواب للشرط { قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ } تامة { مّنْ هذا } الذي دهمنا من البعث والرجوع إليه تعالى للجزاء ولم نعلم أنه حقٌ { بَلْ كُنَّا ظالمين } إضرابٌ عما قبله من وصف أنفسهم بالغفلة ، أي لم نكن غافلين عنه حيث نبهنا عليه بالآيات والنذر بل كنا ظالمين بتلك الآيات والنذُرِ مكذّبين بها ، أو ظالمين لأنفسنا بتعريضها للعذاب الخالد بالتكذيب .
وقوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } خطابٌ لكفار مكةَ وتصريحٌ بمآل أمرهم مع كونه معلوماً مما سبق على وجه الإجمالِ مبالغة في الإنذار وإزاحةِ الاعتذار ، وما تعبدون عبارةٌ عن أصنامهم لأنها التي يعبدونها كما يفصح عنه كلمة ما ، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تلا الآيةَ قال له ابن الزِّبَعْرَي : خصمتُك وربِّ الكعبة أليست اليهودُ عبدوا عُزيراً والنصارى المسيحَ وبنو مليحٍ الملائكةَ؟ ردّ عليه بقوله عليه السلام : « ما أجهلك بلغة قومك ، أما فهمت أن ما لما لا يعقل؟ » ولا يعارضه ما روي أنه عليه السلام رده بقوله : « بل هم عبدوا الشياطينَ التي أمرتْهم بذلك » ولا ما روي أن عبدَ اللَّه بن الزُّبعري قال : هذا شيءٌ لآلهتنا خاصة أو لكل مَنْ عُبد من دون الله ، فقال عليه السلام : « بل لكل من عُبد من دون الله تعالى » إذ ليس شيءٌ منهما نصاً في عموم كلمة ما كما أن الأولَ نصٌّ في خصوصها ، وشمولُ حكم النص لا يقتضي شمولَه بطريق العبارة بل يكفي في ذلك شمولُه لهم بطريق دِلالة النصِّ بجامع الشركةِ في المعبودية من دون الله تعالى ، فلعله عليه السلام بعد ما بين مدلولَ النظمِ الكريم بما ذكر ، وعدمَ دخول المذكورين في حكمه بطريق العبارةِ بيّن عدم دخولِهم فيه بطريق الدِلالة أيضاً تأكيداً للرد والإلزام وتكريراً للتبكيت والإفحام ، لكن لا باعتبار كونهم معبودين لهم كما هو زعمُهم فإن إخراجَ بعضِ المعبودين عن حكم منبىءٍ عن الغضب على العبَدة والمعبودين مما يوهم الرخصةَ في عبادته في الجملة ، بل بتحقيق الحقِّ وبيانِ أنهم ليسوا من المعبودية في شيء حتى يُتوهم دخولُهم في الحكم المذكورِ دلالة بموجب شركتهم للأصنام في المعبودية من دون الله تعالى ، وإنما معبودُهم الشياطينُ التي أمرتهم بعبادتهم كما نطق به قولُه تعالى :(4/437)
{ سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن } الآية ، فهم الداخلون في الحُكم المذكور لإشراكهم الأصنامَ في المعبودية من دونه تعالى دون المذكورين عليهم السلام وهذا هو الوجهُ في التوفيق بين الأخبار المذكورة ، وأما تعميمُ كلمةِ ما للعقلاء أيضاً وجعلُ ما سيأتي من قوم تعالى : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى } الخ ، بياناً للتجوز أو التخصيص فمما لا يساعده السباقُ والسياق كما يشهد به الذوقُ السليم ، والحَصَبُ ما يُرمى به ويهيج به النار من حصَبه إذا رماه بالحصْباء ، وقرىء بسكون الصاد وصفاً له بالمصدر للمبالغة { أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } استئنافٌ أو بدلٌ من حصبُ جهنمَ واللامُ معوّضة من على للدِلالة على الاختصاص وأن ورودَهم لأجلها والخطابُ لهم ولما يعبدون تغليباً .(4/438)
لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)
{ لَوْ كَانَ هَؤُلاء } أي أصنامُهم { ءالِهَةً } كما يزعمون { مَّا وَرَدُوهَا } وحيث تبين ورودُهم إياها تعين امتناعُ كونها آلهةً بالضرورة ، وهذا كما ترى صريحٌ في أن المرادَ بما يعبدون هي الأصنامُ لأن المرادَ إثباتُ نقيضِ ما يدّعونه وهم إنما يدّعون إلهية الأصنام لا إلهية الشياطين حتى يُحتجَّ بورودها النارَ على عدم آلِهيّتها ، وأما ما وقع في الحديث الشريف فقد وقع بطريق التكملة بانجرار الكلام إليه عند بيان ما سيق له النظمُ الكريم بطريق العبارة ، حيث سأل ابنُ الزبعرى عن حال سائرِ المعبودين وكان الاقتصارُ على الجواب الأول مما يوهم الرخصةَ في عبادتهم في الجملة لأنهم المعبودون عندهم ، أجيب ببيان أن المعبودين هم الشياطينُ وأنهم داخلون في حكم النص لكن بطريق الدِلالة لا بطريق العبارة لئلا يلزَمَ التدافعُ بين الخبرين { وَكُلٌّ } أي من العبَدة والمعبودين { فِيهَا خالدون } لا خلاصَ لهم عنها .
{ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ } أي أنينٌ وتنفسٌ شديدٌ وهو مع كونه من أفعال العبَدة أضيف إلى الكل للتغليب ، ويجوز أن يكون الضميرُ للعبدة لعدم الإلباس وكذا في قوله تعالى : { وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ } أي لا يسمع بعضُهم زفيرَ بعض لشدة الهول وفظاعةِ العذاب ، وقيل : لا يسمعون ما يسرهم من الكلام .(4/439)
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
{ إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى } شروعٌ في بيان حال المؤمنين إثرَ شرح حالِ الكفرة حسبما جرت به سنةُ التنزيل من شفْع الوعد بالوعيد وإيرادِ الترغيب مع الترهيب ، أي سبقت لهم منا في التقدير الخَصلةُ الحسنى التي هي أحسنُ الخصال وهي السعادةُ ، وقيل : التوفيقُ للطاعة أو سبقت لهم كلمتُنا بالبشرى بالثواب على الطاعة وهو الأدخلُ الأظهرُ في الحمل عليها لما أن الأولَين مع خفائهما ليسا من مقدورات المكلفين ، فالجملةُ مع ما بعدها تفصيلٌ لما أُجمل في قوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتبون } كما أن ما قبلها من قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } الخ ، تفصيلٌ لما أُجمل في قوله تعالى : { وَحَرَامٌ } الخ { أولئك } إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافِه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلوّ درجتهم وبُعد منزلتِهم في الشرف والفضل ، أي أولئك المنعوتون بما ذكر من النعت الجميل { عَنْهَا } أي عن جهنم { مُبْعَدُونَ } لأنهم في الجنة وشتان بينها وبين النار ، وما روي أن علياً رضي الله تعالى عنه خطب يوماً فقرأ هذه الآية ثم قال : أنا منهم وأبو بكر وعمرُ وعثمانُ وطلحةُ والزبيرُ وسعدٌ وسعيدٌ وعبدُ الرحمن بنُ عوف وأبو عبيدةَ بنُ الجراح رضوانُ الله تعالى عنهم أجمعين ، ثم أقيمت الصلاةُ فقام يجرّ رداءه ويقول : { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } ليس بنص في كون الموصول عبارةً عن طائفة مخصوصة ، والحسيسُ صوتٌ يُحَسّ به ، أي لا يسمعون صوتَها سمعاً ضعيفاً كما هو المعهودُ عند كون المصوِّت بعيداً وإن كان صوتُه في غاية الشدة ، لا أنهم لا يسمعون صوتَها الخفيَّ في نفسه فقط ، والجملةُ بدلٌ من مبعَدون أو حال من ضميره مَسوقةٌ للمبالغة في إنقاذهم منها وقوله تعالى : { وَهُمْ فِى مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ خالدون } بيانٌ لفوزهم بالمطالب إثرَ بيان خلاصِهم من المهالك والمعاطب أي دائمون في غاية التنعمَ ، وتقديمُ الظرف للقصر والاهتمام به .
وقوله تعالى : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } بيانٌ لنجاتهم من الأفزاع بالكلية بعد بيان نجاتِهم من النار ، لأنهم إذا لم يُحزُنْهم أكبرُ الأفزاع لا يحزنهم ما عداه بالضرورة ، عن الحسن رضي الله عنه أنه الانصرافُ إلى النار ، وعن الضحاك حتى يطبَقَ على النار ، وقيل : حين يُذبح الموتُ في صورة كبشٍ أملحَ ، وقيل : النفخةُ الأخيرة لقوله تعالى : { فَفَزِعَ مَن فِى السموات وَمَن فِى الأرض } وليس بذاك فإن الآمنَ من ذلك الفزع من استثناه الله تعالى بقوله : { إِلاَّ مَن شَاء الله } لا جميعُ المؤمنين الموصوفين بالأعمال الصالحة ، على أن الأكثرين على أن ذلك في النفخة الأولى دون الأخيرة كما سيأتي في سورة النمل { وتتلقاهم الملئكة } أي تسقبلهم مهنّئين لهم { هذا يَوْمُكُمُ } على إرادة القولِ أي قائلين : هذا اليومُ يومُكم { الذى كُنتُمْ تُوعَدُونَ } في الدنيا وتبشرون بما فيه من فنون المَثوبات على الإيمان والطاعات ، وهذا كما ترى صريحٌ في أن المرادَ بالذين سبقت لهم الحسنى كافةُ المؤمنين الموصوفين بالإيمان والأعمال الصالحةِ لا مَنْ ذكر من المسيح وعُزيرٍ والملائكة عليهم السلام خاصة كما قيل .(4/440)
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)
{ يَوْمَ نَطْوِى السماء } بنون العظمة منصوبٌ باذكرْ ، وقيل : ظرفٌ لقوله تعالى : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع } وقيل : بتتلقاهم ، وقيل : حالٌ مقدرة من الضمير المحذوفِ في توعدون والطيُّ ضدُّ النشر ، وقيل : المحوِ ، وقرىء يُطوى بالياء والتاء والبناء للمفعول { كَطَىّ السجل } وهي الصحيفة أي طياً كطيّ الطوُّمار ، وقرىء السَّجْل كلفظ الدلو وبالكسر والسُّجُلّ على وزن العُتُلّ وهما لغتان واللام في قوله تعالى : { لِلْكُتُبِ } متعلقةٌ بمحذوف هو حال من السجلّ أو صفةٌ له على رأي من يجوّز حذفَ الموصولِ مع بعض صلتِه ، أي كطي السجل كائناً للكتب أو الكائن للكتب فإن الكتبَ عبارةٌ عن الصحائف وما كتب فيها فسجلُّها بعضُ أجزائها وبه يتعلق الطيُّ حقيقةً ، وقرىء للكتاب وهو إما مصدرٌ واللامُ للتعليل أي كما يُطوى الطومارُ للكتابة أو اسم كالإمام فاللامُ كما ذكر أولاً ، وقيل : السجلُّ اسمُ ملَكٍ يطوي كتبَ أعمالِ بني آدمَ إذا رُفعت إليه ، وقيل : هو كاتبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } أي نعيد ما خلقناه مبتدأً إعادةً مثلَ بدئنا إياه في كونها إيجاداً بعد العدم أو جمعاً من الأجزاء المتبدّدة ، والمقصودُ بيانُ صِحّةِ الإعادةِ بالقياس على المبدأ لشمول الإمكانِ الذاتي المصحّح للمقدورية وتناولِ القدرة لهما على السواء ، وما كافةٌ أو مصدرية وأولَ مفعولٌ لبدأنا أو لفعل يفسّره نعيده ، أو موصولةٌ والكافُ متعلقةٌ بمحذوف يفسره نعيده أي نعيدُه مثل الذي بدأناه وأولَ خلقٍ ظرفٌ لبدأنا أو حالٌ من ضمير الموصول المحذوف { وَعْداً } مصدرٌ مؤكد لفعله ومقرّرٌ لنعيده أو منتصبٌ به لأنه عِدَةٌ بالإعادة { عَلَيْنَا } أي علينا إنجازُه { إِنَّا كُنَّا فاعلين } لما ذكر لا محالة .
{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزبور } هو كتابُ داودَ عليه السلام ، وقيل : هو اسمٌ لجنس ما أُنزل على الأنبياء عليهم السلام { مِن بَعْدِ الذكر } أي التوراةِ وقيل : اللوحِ المحفوظ أي وبالله لقد كتبنا في كتاب داودَ بعد ما كتبنا في التوراة أو كتبنا في جميع الكتب المنزلة بعد ما كتبنا وأثبتنا في اللوح المحفوظ { أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصالحون } أي عامةُ المؤمنين بعد إجلاءِ الكفار ، وهذا وعدٌ منه تعالى بإظهار الدينِ وإعزازِ أهلِه ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن المرادَ أرضُ الجنة كما ينبىء عنه قوله تعالى : { وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء } وقيل : الأرضُ المقدسة يرثها أمةُ محمد صلى الله عليه وسلم .
{ إِنَّ فِى هذا } أي فيما ذكر في السورة الكريمة من الأخبار والمواعظِ البالغة والوعدِ والوعيد والبراهينِ القاطعة الدالة على التوحيد وصحةِ النبوة { لبلاغا } أي كفايةً أو سببَ بلوغٍ إلى البُغية { لّقَوْمٍ عابدين } أي لقوم همُّهم العبادةُ دون العادة .(4/441)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)
{ وَمَا أرسلناك } بما ذكر وبأمثاله من الشرائع والأحكامِ وغير ذلك من الأمور التي هي مناطٌ لسعادة الدارين { إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين } هو في حيز النصب على أنه استثناءٌ من أعم العلل أو من أعم الأحوال ، أي ما أرسلناك بما ذكر لعلة من العلل إلا لرحمتنا الواسعةِ للعالمين قاطبةً ، أو ما أرسلناك في حال من الأحوال إلا حالَ كونِك رحمةً لهم فإن ما بُعثتَ به سببٌ لسعادة الدارين ومنشأٌ لانتظام مصالحهم في النشأتين ، ومن لم يغتنمْ مغانمَ آثارِه فإنما فرَّط في نفسه وحُرمةِ حقه لا أنه تعالى حَرَمه مما يُسعِده ، وقيل : كونُه رحمةً في حق الكفار أمنُهم من الخسف والمسخِ والاستئصال حسبما ينطِق به قوله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } { قُلْ إِنَّمَا يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله واحد } أي ما يوحى إليّ إلا أنه لا إله لكم إلا إله واحدٌ لأنه المقصودُ الأصليُّ من البعثة ، وأما ما عداه فمن الأحكام المتفرِّعة عليه فإنما الأولى لقصر الحُكم على الشيء كقولك : إنما يقوم زيد أي ما يقوم إلا زيد ، والثانيةُ لقصر الشيءِ على الحكم كقولك : إنما زيدٌ قائم أي ليس له إلا صفةُ القيام { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } أي مخلِصون العبادةَ لله تعالى مخصِّصون لها به تعالى ، والفاءُ للدِلالة على أن ما قبلها موجبٌ لما بعدها . قالوا : فيه دَلالةٌ على أن صفةَ الوَحْدانية تصحّ أن يكون طريقُها السمعَ .
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ } عن الإسلام وعن شرائعه ومباديه ولم يلتفتوا إلى ما يوجبه من الوحي { فَقُلْ } لهم { ءاذَنتُكُمْ } أي أعلمتُكم ما أُمرت به أو حربي لكم { على سَوَاء } كائنين على سواءٍ في الإعلام به لم أطْوِه عن أحد منكم أو مستوين به أنا وأنتم في العلم بما أعلمتُكم به أو في المعاداة أو إيذاناً على سواء ، وقيل : أعلمتكم أني على سواء أي عدلٍ واستقامة رأيٍ بالبرهان النيّر { وَإِنْ أَدْرِى } أي ما أدري { أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ } من غلَبة المسلمين وظهورِ الدين أو الحشرُ مع كونه آتياً لا محالة .
{ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول } أي ما تجاهرون به من الطعن في الإسلام وتكذيبِ الآياتِ التي من جملتها ما نطق بمجيء الموعود { وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } من الإحْن والأحقاد للمسلمين فيجازيكم عليه نقيراً وقطميراً .
{ وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ } أي ما أدري لعل تأخيرَ جزائِكم استدراجٌ لكم وزيادةٌ في افتتانكم ، أو امتحانٌ لكم لينظُرَ كيف تعملون { ومتاع إلى حِينٍ } أي وتمتُّعٌ لكم إلى أجل مقدر تقتضيه مشيئتَه المبنيةُ على الحِكَم البالغةِ ليكون ذلك حجةً عليكم .(4/442)
قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
{ قَالَ رَبّ احكم بالحق } حكايةٌ لدعائه عليه الصلاة والسلام ، وقرىء قلْ : رب على صيغة الأمر أي اقضِ بيننا وبين أهل مكةَ بالعدل المقتضي لتعجيل العذابِ والتشديد عليهم ، وقد استجيب دعاؤُه عليه السلام حيث عُذّبوا ببدر أيَّ تعذيبٍ ، وقرىء ربُّ احكم بضم الباء وربِّ أحكَمُ على صيغةِ التفضيل وربِّ أَحكِمْ من الإحكام { وَرَبُّنَا الرحمن } مبتدأ أي كثيرُ الرحمة على عباده وقوله تعالى : { المستعان } أي المطلوبُ منه المعونةُ خبر ، أو خبرٌ آخرُ للمبتدأ ، وإضافةُ الربِّ فيما سبق إلى ضميره عليه السلام خاصة لما أن الدعاءَ من الوظائف الخاصةِ به عليه السلام كما أن إضافتَه هاهنا إلى ضمير الجمعِ المنتظمِ للمؤمنين أيضاً لما أن الاستعانةَ من الوظائف العامة لهم { على مَا تَصِفُونَ } من الحال فإنهم كانوا يقولون : إن الشوكةَ تكون لهم وإن رايةَ الإسلام تخفُق ثم تركُد وإن المتوعَّد به لو كان حقاً لنزل بهم إلى غير ذلك مما لا خيرَ فيه ، فاستجاب الله عز وجل دعوةَ رسوله عليه السلام فخيب آمالَهم وغيّر أحوالَهم ونصر أولياءَه عليهم ، فأصابهم يومَ بدرٍ ما أصابهم ، والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ لمضمون ما قبله ، وقرىء يصفون بالياء التحتانية .
وعن النبي عليه السلام : " من قرأ «اقترب» حاسبه الله تعالى حساباً يسيراً وصافحه وسلم عليه كلُّ نبيَ ذُكر اسمُه في القرآن " .(4/443)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
{ يَأَيُّهَا الناس اتقوا رَبَّكُمُ } خطابٌ يعمُّ حُكمُه المكلفين عند النُّزولِ ومَن سينتظم في سلكهم بعدُ من الموجودين القاصرين عن رتبةِ التكليفِ والحادثين بعدَ ذلك إلى يومِ القيامةِ وإنْ كان خطابُ المشافهةِ مختصًّا بالفريق الأولِ على الوجه الذي مرَّ تقريرُه في مطلعِ سورةِ النساءِ . ولفظُ النَّاسِ ينتظمُ الذكورَ والإناثَ حقيقةً وأما صيغةُ جمعِ المذكورِ فواردةٌ على نهجِ التغليبِ لعدمِ تناولِها للإناثِ حقيقةً إلا عندَ الحنابلةِ . والمأمورُ به مطلقُ التَّقوى الذي هو التجنبُ عن كلِّ ما يُؤثِّمُ من فعلٍ وتركٍ ، ويندرجُ فيه الإيمانُ بالله واليومِ الآخرِ حسبما وردَ به الشرعُ اندراجاً أولياً . والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ المنبئةِ عن المالكيةِ والتربيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِ المخاطبينَ لتأييدِ الأمرِ وتأكيدِ إيجابِ الامتثالِ به ترهيباً وترغيباً . أي احذَرُوا عقوبةَ مالكِ أمورِكم ومُربِّيكم . وقولُه تعالى : { إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَىْء عَظِيمٌ } تعليلٌ لموجبِ الأمرِ بذكرِ بعضِ عقوباتِه الهائلةِ فإنَّ ملاحظةَ عِظَمِها وهولِها وفظاعةِ ما هيَ من مباديهِ ومقدماتِه من الأحوالِ والأهوالِ التي لا مَلْجأَ منها سوى التَّدرعِ بلباسِ التَّقوى مما يوجبُ مزيدَ الاعتناءِ بملابستِه وملازمتِه لا محالةَ . والزلزلةُ التحريكُ الشديدُ والإزعاجُ العنيفُ بطريقِ التكريرِ بحيث يزيلُ الأشياءَ من مقارِّها ويُخرجُها عن مراكزِها . وإضافتُها إلى الساعةِ إمَّا إضافةُ المصدرِ إلى فاعلِه ، على المجازِ الحكميِّ . كأنَّها هي التي تزلزلُ الأشياءَ ، أو إضافتُه إلى الظَّرفِ إمَّا بإجرائِه مُجرى المفعولِ به اتساعاً ، أو بتقديرِ في كما في قولِه تعالى : { بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } وهي الزَّلزلةُ المذكورةُ في قولِه تعالى : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا } عن الحسنِ أنَّها تكونُ يومَ القيامةِ . وعن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا : زلزلةُ السَّاعةِ قيامُها ، وعن علقمةَ والشَّعبيِّ : أنَّها قبلَ طلوعِ الشَّمسِ من مغربِها ، فإضافتُها إلى الساعةِ حينئذٍ لكونِها من أشراطِها ، وفي التعبيرِ عنها بالشيءِ إيذانٌ بأنَّ العقولَ قاصِرةٌ عنْ إدراكِ كُنهِها والعبارةُ ضيقةٌ لا تحيطُ بها إلاَّ على وجهِ الإبهامِ .
وقوله تعالى :
{ يَوْمَ تَرَوْنَهَا } منتصبٌ بما بعدَهُ قُدِّمَ عليهِ اهتماماً بهِ . والضميرُ للزَّلزلةِ أي وقتَ رؤيتِكم إيَّاها ومشاهدتِكم لهولِ مطلعِها { تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ } أي مباشرةٍ للإرضاعِ . { عَمَّا أَرْضَعَتْ } أي تغفلُ وتذهلُ مع دهشةٍ عمَّا هيَ بصددِ إرضاعِه من طفلِها الذي ألقمتْهُ ثديَها . والتعبيرُ عنه بمَا دونِ مَنْ لتأكيدِ الذهولِ وكونِه بحيثُ لا يخطرُ ببالِها أنَّه ماذا لا أنها تعرف شيئيته لكن لا تدري من هو بخصوصه ، وقيل : مَا مصدريةٌ أي تذهلُ عنْ إرضاعِها . والأولُ أدلُّ على شدةِ الهولِ وكمالِ الانزعاجِ . وقُرَىءَ تُذهَل من الإذهالِ مبنياً للمفعولِ أو مبنياً للفاعلِ مع نصبِ كلُّ ، أي تُذهلها الزلزلةُ . { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا } أي تُلقي جنينَها لغيرِ تمامٍ ، كما أنَّ المرضعةَ تذهلُ عن ولدِها لغيرِ فطامٍ .(4/444)
وهذا ظاهرٌ على قولِ علقمةَ والشَّعبيِّ وأمَّا على ما رُوي عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا فقدْ قيلَ إنَّه تمثيلٌ لتهويلِ الأمرِ ، وفيه أنَّ الأمرَ حينئذٍ أشدُّ من ذلكَ وأعظمُ وأهولُ ممَّا وُصفَ وأطمُّ . وقيلَ : إنَّ ذلكَ يكونُ عند النفخةِ الثَّانيةِ ، فإنَّهم يقومونَ على ما صُعقوا في النفخةِ الأولى فتقومُ المرضعةُ على إرضاعِها والحاملُ على حملِها . ولا ريبَ في أنَّ قيامَ الناسِ من قبورِهم بعد النَّفخةِ الثَّانيةِ لا قبلَها حتى يتصورَ ما ذُكر . { وَتَرَى الناس } بفتحِ التَّاءِ والرَّاءِ على خطابِ كلِّ واحدٍ من المُخاطبينَ برؤيةِ الزَّلزلةِ . والاختلافُ بالجمعيةِ والإفرادِ لِمَا أنَّ المرئيَّ في الأولِ هي الزلزلةُ التي يشاهدُهَا الجميعُ وفي الثَّاني حالُ مَن عَدَا المخاطبِ منهم فلا بدَّ من إفرادِ المخاطبِ على وجهٍ يعمُّ كلَّ واحدٍ منهم لكلِّ من غيرِ اعتبارِ اتِّصافِه بتلكَ الحالةِ فإنَّ المرادَ بيانُ تأثيرِ الزَّلزلةِ في المرئيِّ لا في الرَّائي باختلافِ مشاعرِه لأنَّ مدارَه حيثيةُ رؤيتِه للزلزلةِ لا لغيرِها كأنَّه قيلَ : ويصيرُ النَّاسُ سُكارى الخ ، وإنما أوترَ عليهِ ما في التنزيلِ للإيذانِ بكمالِ ظهورِ تلك الحالةِ فيهم وبلوغِها من الجلاءِ إلى حدَ لا يكادُ يخفى على أحدٍ أي يراهم كلُّ أحدٍ { سكارى } أي كأنَّهم سُكارى { وَمَا هُم بسكارى } حقيقةً { ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ } فيُرهقهم هولُه ويطيرُ عقولَهم ويَسلُبُ تمييزَهُم فهو الذي جعلَهم كما وُصفوا وقُرِىءَ تُرَى بضمِّ التَّاءِ وفتحِ الرَّاءِ مُسنداً إلى المخاطبِ منْ رأيتكَ قائماً أو رُؤيتكَ قائماً والنَّاسُ منصوبٌ أي تظنُّهم سُكارى . وقُرِىءَ برفعِ النَّاسَ على إسنادِ الفعلِ المجهولِ إليهِ ، والتأنيثُ على تأويلِ الجماعةِ وقُرِىءَ تُرِي بضمِّ التَّاءِ وكسرِ الرَّاءِ أي تُرِي الزلزلةُ الخلقَ جميعَ الناسِ سُكارى وقُرِىءَ سَكْرى وسَكْرى كعطْشى وجَوْعى إجراءً للسُّكرِ مجرَى العللِ .(4/445)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)
{ وَمِنَ الناس } كلامٌ مبتدأٌ جيءَ به إثرَ بيانِ عظمِ شأنِ السَّاعةِ المُنبئةِ عن البعثِ بياناً لحالِ بعضِ المُنكرينَ لها . ومحلُّ الجارِّ الرَّفعُ على الابتداءِ إمَّا بحملِه على المعنى أو بتقديرِ ما يتعلَّقُ به كما مرَّ مراراً ، أي وبعضُ النَّاسِ أو وبعضٌ كائنٌ من النَّاس { مَن يجادل فِى الله } أي في شأنِه تعالى ويقولُ فيه ما لا خيرَ فيه من الأباطيلِ وقوله تعالى : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } حالٌ من ضمير يجادلُ موضحة لما يشعرُ بها المجادلة من الجهلِ أي مُلابساً بغيرِ علمٍ . رُوي أنَّها نزلتْ في النَّضرِ بنِ الحارثِ وكان جَدَلاً يقولُ : الملائكةُ بناتُ الله والقرآنُ أساطيرُ الأولينَ ولا بعثَ بعد الموتِ وهي عامَّة له ولأضرابِه من العُتاةِ المُتمرِّدين { وَيَتَّبِعْ } أي فيما يتعاطاهُ من المُجادلةِ أو في كلِّ ما يأتي وما يذرُ من الأمورِ الباطلةِ التي من جُملتِها ذلك { كُلَّ شيطان مَّرِيدٍ } عاتٍ متمرِّدٍ متجرِّدٍ للفسادِ . وأصلُه العريُ المنبىءُ عن التمحضِ له كالتِّشمرِ ولعله مأخوذٌ من تجرُّدِ المصارعينَ عند المُصارعة قال الزَّجَّاجُ : المريدُ والماردُ المرتفعُ الأملسُ ، والمرادُ إمَّا رُؤساءُ الكَفَرةِ الذين يَدْعُون مَن دونَهُم إلى الكفرِ وإمَّا إبليسُ وجنودُه .(4/446)
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
وقوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْهِ } أي على الشَّيطانِ صفة أخرى له وقوله تعالى : { أَنَّهُ } فاعلُ كتبَ والضَّميرُ للشَّأنِ أي رُقم به لظهور ذلك من حاله أنَّ الشَّأنَ { مَن تَوَلاَّهُ } أي اتَّخذهُ وليًّا وتبعه { فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ } بالفتح على أنَّه خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ والجملة جوابُ الشرطِ إنْ جُعلت مَن شرطيةً وخبرٌ لها إنْ جُعلتْ موصولةً متضمنة لمعنى الشَّرطِ أي من تولاَّه فشأنُه أنْ يُضلَّه عن طريق الجنَّةِ أو طريق الحقِّ أو فحقٌّ أنَّه يُضلُّه قطعاً ، وقيل : فإنَّه معطوفٌ على أنَّه وفيه من التَّعسفِ ما لا يخفى . وقيلَ وقيلَ ممَّا لا يخلُو عن التَّمحلِ والتأويلِ . وقُرىء فإنَّه بالكسرِ على أنَّه خبرٌ لمَن أو جوابٌ لها . وقُرىء بالكسرِ فيهما على حكايةِ المكتوبِ كما هو مثل ما في قولِك : كتبتُ إنَّ الله يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ أو على إضمارِ القولِ أو تضمينِ الكتبِ معناهُ على رأيِ مَن يراهُ { وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير } بحملِه على مباشرةِ ما يُؤدِّي إليه من السَّيِّئاتِ .
{ أَيُّهَا الناس } إثرَ ما حكى أحوالَ المُجادلين بغير علمٍ وأُشير إلى ما يؤول إليه أمرُهم أقيمتْ الحجَّةُ الدَّالَّةُ على تحقُّقِ ما جادلوا فيه من البعثِ { إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ البعث } من إمكانِه وكونه مقدُوراً له تعالى أو من وقوعِه . وقُرىء من البَعَثِ بالتَّحريكِ كالجَلَبِ في الجَلْب . والتَّعبيرُ عن اعتقادِهم في حقِّه بالرَّيبِ مع التَّنكيرِ المنبىءِ عن القلَّةِ مع أنَّهم جازمون باستحالتِه وإيرادِ كلمة الشَّكِّ مع تقررِ حالِهم في ذلك وإيثارِ ما عليه النَّظمُ الكريمُ على أنْ يقالَ إنِ ارتبتُم في البعثِ فقد مرَّ تحقيقُه في تفسير قوله تعالى : { وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا } { فَإِنَّا خلقناكم } أي فانظُروا إلى مبدأ خلقِكم ليزولَ ريبُكم ، فإنَّا خلقناكُم أي خلقنا كلَّ فردٍ منكُم { مّن تُرَابٍ } في ضمنِ خلقِ آدمَ منه خلقاً إجماليًّا فإن خلق كلِّ فردٍ من أفرادِ البشرِ له حظٌّ من خلقِه عليه السَّلامُ إذ لم تكن فطرتُه الشَّريفةُ مقصورةً على نفسه بل كانتْ أُنموذجاً منطوياً على فطرة سائرِ أفراد الجنسِ انطواءً إجماليًّا مستتبعاً لجريانِ آثارِها على الكلِّ فكان خَلقُه عليه السَّلامُ من التُّرابِ خلقاً للكلِّ منه كما مرَّ تحقيقُه مراراً { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } أي ثمَّ خلقناكُم خلقاً تفصيلياً من نُطفةٍ أي من منيَ من النَّطفِ الذي هو الصَّبُّ { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } أي قطعةٍ من الدَّمِ جامدةٍ متكوِّنةٍ من المنيِّ { ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ } أي قطعةٍ من اللَّحمِ متكوِّنةٍ من العَلَقةِ وهي في الأصلِ مقدارُ ما يُمضغ { مُّخَلَّقَةٍ } بالجرِّ صفةُ مضغةٍ أي مستبينة الخلقِ مصوَّرةٍ { وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } أي لم يستبنْ خلقُها وصورتُها بعد .(4/447)
والمرادُ تفصيلُ حالِ المضغةِ وكونُها أَوَّلاً قطعةً لم يظهرْ فيها شيءٌ من الأعضاءِ ثمَّ ظهرتْ بعد ذلك شَيئاً فشَيئاً وكان مُقتضى التَّرتيبِ السَّابقِ المبنيِّ على التَّدرجِ من المبادىءِ البعيدةِ إلى القريبةِ أنْ يقدِّمَ غيرَ المخلَّقةِ على المخلَّقةِ وإنَّما أُخِّرتْ عنها لأنَّها عدمُ المَلَكةِ . هذا وقد فُسِّرتَا بالمُسوَّاةِ وغيرِ المُسوَّاةِ وبالتَّامةِ والسَّاقطةِ وليس بذاكَ وفي جعلِ كلِّ واحدةٍ من هذه المراتبِ مبدأً لخلقِهم لا لخلقِ ما بعدَها من المراتبِ كما في قولِه تعالى : { ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً } الآيةَ ، مزيدُ دلالة على عظيمِ قُدرتِه تعالى وكسرٍ لسَورةِ استبعادِهم .
{ لّنُبَيّنَ لَكُمْ } متعلِّقٌ بخلقنا وتركُ المفعولِ لتفخيمِه كمًّا وكيفاً أي خلقناكُم على هذا النَّمطِ البديعِ ليبين لكُم بذلك ما لا تحصرُه العبارةُ من الحقائقِ والدَّقائقِ التي من جُملتها سرُّ البعثِ فإنَّ مَن تأمَّل فيما ذُكر من الخلقِ التدريجيِّ تأمُّلاً حقيقيًّا جزمَ جَزْماً ضروريًّا بأنَّ مَن قدَرَ على خلقِ البشرِ أوَّلاً من تُرابٍ لم يشمَّ رائحةَ الحياةِ قَطُّ وإنشائِه على وجهٍ مصحِّحٌ لتوليدِ مثلِه مرَّةً بعد أُخرى بتصريفِه في أطوارِ الخلقةِ وتحويلِه من حالٍ إلى حالٍ مع ما بينَ تلك الأطوارِ والأحوالِ من المُخالفةِ والتَّباينِ فهو قادرٌ على إعادتِه بل هو أهونُ في القياسِ نظراً إلى الفاعلِ والقابلِ . وقُرىء ليبيِّن بطريقِ الالتفاتِ وقولُه تعالى : { وَنُقِرُّ فِى الأرحام مَا نَشَاء } استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ حالِهم بعد تمامِ خلقِهم . وعدمُ نظمِ هذا وما عُطف عليه في سلكِ الخلقِ المعلَّل بالتَّبيين مع كونِهما من متمماتِه ومن مبادي التَّبيين أيضاً لما أنَّ دلالةَ الأوَّلِ على كمالِ قُدرته تعالى على جميعِ المقدُورات التي من جُملتها البعثُ المبحوثُ عنه أجلى وأظهرُ أي ونحنُ نقرُّ في الأرحامِ بعد ذلك ما نشاءُ أن نقرَّه فيهَا .
{ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } هو وقتُ الوضعِ وأدناهُ ستَّةُ أشهرٍ ، وأقصاهُ سنتانِ وقيل : أربعُ سنين وفيه إشارةٌ إلى أنَّ بعضَ ما في الأرحامِ لا يشاءُ الله تعالى إقرارَه فيها بعد تكاملِ خلقِه فتسقطه . والتَّعرضُ للإزلاقِ لا يُناسبُ المقامَ لأنَّ الكلامَ فيما جرى عليه أطوارُ الخلقِ وهذا صريحٌ في أنَّ المرادَ بغير المخلَّقةِ ليس من وُلدَ ناقصاً أو مَعيباً وأنَّ ما فُصِّل إلى هنا هي الأطوارُ المتواردةُ على المولودِ قبلَ الولادةِ . وقُرىء يُقرُّ بالياءِ ونقُرُّ ويقُرُّ بضمِّ القافِ من قَررتَ الماءَ إذا صببتَه . { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ } أي من بطونِ أمَّهاتِكم بعد إقرارِكم فيها عند تمامِ الأجلِ المُسمَّى { طِفْلاً } أي حالَ كونِكم أطفالاً . والإفرادُ باعتبارِ كلِّ واحدٍ منهم أو بإرادةِ الجنسِ المنتظمِ للواحدِ والمتعدِّدِ . وقُرىء يُخرجكم بالياءِ . وقولُه تعالى : { ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ } علَّةٌ لنخرجكم معطوفةٌ على علَّةٍ أُخرى له مناسبةٍ لها كأنَّه قيل : ثمَّ نُخرجكم لتكبرُوا شَيئاً فشَيئاً ثم لتبلغُوا كمالَكم في القُوَّةِ والعقلِ والتَّمييزِ ، وقيل : التَّقديرُ ثم نُمهلكم لتبلغُوا الخ ، وما قيل إنَّه معطوفٌ على نبين مخلٌّ بجزالةِ النَّظمِ الكريمِ هذا وقد قُرىء ما قبله من الفِعلينِ بالنَّصبِ حكايةً وغَيْبةً .(4/448)
فهو حينئذٍ عطفٌ على نبين مثلهما والمعنى خلقناكُم على التَّدريجِ المذكورِ لغايتينِ مترتبتينِ عليه إحداهُما أنُ نبيِّن شؤونَنا والثَّانيةُ أنْ نُقرَّكم في الأرحامِ ثم نُخرجَكم صغاراً ثم لتبلغُوا أشدَّكم . وتقديمُ التَّبيينِ على ما بعدَهُ مع أنَّ حصولَه بالفعلِ بعد الكلِّ للإيذانِ بأنَّه غايةُ الغاياتِ ومقصودٌ بالذَّاتِ . وإعادةُ اللامِ هاهنا مع تجريدِ الأَوَّلينِ عنها للإشعارِ بأصالتِه في الغرضيَّةِ بالنَّسبةِ إليهما إذْ عليه يدورُ التَّكليفُ المُؤدِّي إلى السَّعادةِ والشَّقاوةِ . وإيثارُ البلوغِ مُسنداً إلى المخاطبينَ على التَّبليغِ مُسنداً إليه تعالى كالأفعالِ السَّايقةِ لأنَّه المناسبُ لبيانِ حالِ اتَّصافِهم بالكمالِ واستقلالِهم بمبدئيةِ الآثارِ والأفعالِ . والأشُدُّ من ألفاظِ الجموعِ التي لم يُستعملْ لها واحدٌ كالأُسُدةِ والقَتُودِ وكأنَّها حين كانتْ شدَّةً في غيرِ شيءٍ بُنيتْ على لفظِ الجمعِ . { وَمِنكُمْ مَّن يتوفى } أي بعد بلوغِ الأشُدِّ أو قبلَه . وقُرىء يَتوفَّى مبنيًّا للفاعلِ أي يتوفَّاه الله تعالى { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر } وهو الهَرَمُ والخَرَفُ . وقُرىء بسكونِ الميمِ . وإيرادُ الردِّ والتَّوفِّي على صيغةِ المبنيِّ للمفعولِ للجَريِ على سَنَنِ الكبرياءِ لتعين الفاعلِ { لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ } أي علمٍ كثيرٍ { شَيْئاً } أي شيئاً من الأشياءِ أو شيئاً من العلمِ مبالغةً في انتقاصِ علمِه ويُنكر ما عرفَهُ ويعجزُ عمَّا قدرَ عليه . وفيهِ من التَّنبيهِ على صحَّةِ البعثِ ما لا يخفَى .
{ وَتَرَى الأرض هَامِدَةً } حجَّةٌ أُخرى على صحَّةِ البعثِ ، والخطابُ لكلِّ أحدٍ ممَّن يتأتَّى منه الرُّؤيةُ . وصيغةُ المضارعِ للدِّلالةِ على التَّجددِ والاستمرارِ وهي بصريةٌ . وهامدةً حالٌ من الأرضِ ، أي ميِّتةً يابسةً ، من همدتِ النَّارُ إذَا صارتْ رَمَاداً { فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء } أي المطرَ { اهتزت } تحرَّكتْ بالنَّباتِ { وَرَبَتْ } انتفختْ وازدادتْ ، وقُرىء ربأتْ أي ارتفعتْ { وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ } أي صنفٍ { بَهِيجٍ } حسنٍ رائقٍ يسرُّ ناظرَه .(4/449)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
{ ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق } كلامٌ مستأنفٌ جيء به إثرَ تحقيقِ حقِّيةِ البعث وإقامةِ البُرهان عليه من العالَمينِ الإنسانيِّ والنباتيِّ لبيانِ أنَّ ذلك من آثارِ أُلوهيتِه تعالى وأحكامِ شؤونِه الذَّاتيةِ والوصفيةِ والفعليةِ وأنَّ ما ينكرون وجودَه بل إمكانه من إتيانِ السَّاعةِ والبعثِ من أسبابِ تلك الآثارِ العجيبةِ التي يُشاهدونها في الأنفس والآفاقِ ومبادي صدورِها عنه تعالى . وفيه من الإيذانِ بقوَّة الدَّليلِ وأصالةِ المدلُولِ في التَّحقُّقِ وإظهارِ بُطلان إنكارِه ما لا يخفى فإنَّ إنكارَ تحقُّق السَّببِ مع الجزمِ بتحقُّقِ المُسبَّبِ ممَّا يقضي ببُطلانِه بديهةَ العقولِ . والمرادُ بالحقِّ هو الثَّابتُ الذي يحقُّ ثبوتُه لا محالة لكونِه لذاتِه لا الثَّابتُ مطلقاً و ( ذلك ) إشارةٌ إلى ما ذُكر من خلقِ الإنسانِ على أطوارٍ مختلفةٍ وتصريفِه في أحوالٍ مُتباينةٍ وإحياءِ الأرضِ بعد موتِها ، وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ ببُعدِ منزلتِه في الكمالِ وهو مبتدأٌ خبرُه الجارُّ والمجرورُ أي ذلك الصُّنعُ البديع حاصلٌ بسبب أنَّه تعالى هو الحقُّ وحده في ذاتِه وصفاتِه وأفعالِه المحقِّقُ لما سواه من الأشياءِ { وَأنَهُ يُحْىِ الموتى } أي شأنُه وعادته إحياؤُها وحاصلُه أنَّه تعالى قادرٌ على إحيائها بَدْءاً وإعادةً وإلاَّ لما أحيا النُّطفةَ والأرضَ الميتةَ مراراً بعد مرارٍ . وما تُفيده صيغةُ المضارعِ من التَّجددِ إنَّما هو باعتبارِ تعلُّقِ القُدرةِ ومتعلقها لا باعتبارِ نفسِها . { وَأَنَّهُ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } أي مبالغٌ في القدرة وإلاَّ لما أوجد هذه الموجوداتِ الفائتةَ للحصرِ التي من جُملتها ما ذُكر . وأمَّا الاستدلالُ على ذلك بأنَّ قدرته تعالى لذاتِه الذي نسبته إلى الكلِّ سواءٌ فلمَّا دلَّتِ المشاهدةُ على قدرتِه على إحياءِ بعض الأمواتِ لزم اقتدارُه على إحياءِ كلِّها فمنشؤُه الغفولُ عما سيقَ له النَّظمُ الكريمُ من بيانِ كونِ الآثارِ الخاصَّةِ المذكورةِ من فروعِ القُدرةِ العامةِ التَّامةِ ومسبَّباتِها ، وتخصيصُ إحياءِ الموتى بالذِّكرِ مع كونِه من جُملةِ الأشياءِ المقدُورِ عليها للتَّصريحِ بما فيه النِّزاعُ والدَّفعُ في نحو المنكرينَ وتقديمُه لإبرازِ الاعتناءِ به .
{ وَأَنَّ الساعة ءاتِيَةٌ } أي فيما سيأتي . وإيثارُ صيغةِ الفاعلِ على الفعلِ للدِّلالةَ على تحقُّقِ إتيانِها وتقرره البتةَ لاقتضاءِ الحكمة إيَّاه لا محالةَ وتعليله بأنَّ التَّغيُّرِ من مقدمات الانصرامِ وطلائعِه مبنيٌّ على ما ذُكر من الغفولِ . وقولُه تعالَى : { لاَ رَيْبَ فِيهَا } إمَّا خبرٌ ثانٍ لأنَّ أو حالٌ من ضميرِ السَّاعةِ في الخبرِ ومعنى نفيِ الرَّيبِ عنها أنَّها في ظهور أمرِها وضوح دلائلِها التَّكوينيَّةِ والتَّنزيليَّةِ بحيثُ ليس فيها مظنَّةُ أنْ يُرتابَ في إتيانِها حسبما مرَّ في مطلعِ سورةِ البقرةِ . والجملةُ عطفٌ على المجرورِ بالباء كما قبلها من الجُملتينِ داخلةٌ مثلهما في حيِّزِ السَّببيةِ وكذا قولُه عزَّ وجلَّ : { وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِى القبور } لكنْ لا من حيثُ أن إتيانَ السَّاعةِ وبعثَ الموتى مؤثِّرانِ فيما ذُكر من أفاعيلِه تعالى تأثيرَ القُدرة فيها بل من حيثُ إنَّ كُلاًّ منهما سببٌ داعٍ له عزَّ وجلَّ بموجبِ رأفتِه بالعبادِ المبنيَّةِ على الحكمِ البالغةِ إلى ما ذُكرَ من خلقِهم ومن إحياءِ الأرضِ الميتة على نمطٍ بديعٍ صالحٍ للاستشهادِ به على مكانِهما ليتأمَّلوا في ذلكَ ويستدلُّوا به على وقوعِهما لا محالة ويصدقوا بمَا ينطق بهما من الوحيِ المُبينِ وينالُوا به السَّعادةَ الأبديَّةَ ولولا ذلكَ لما فعل تعالى ما فعل بل لما خلق العالم رأساً وهذا كما تَرَى من أحكام حقِّيته تعالى في صفاتِه وكونها في غايةِ الكمالِ وقد جُعل إتيانُ السَّاعةِ وبعث مَنْ في القبورِ لكونهما من روادفِ الحكمةِ كناية عن كونِه تعالى حكيماً كأنَّه قيل ذلك بسببِ أنَّه تعالى قادرٌ على إحياءِ المَوْتى وعلى كلِّ مقدورٍ وأنَّه حكيمٌ لا يُخلف ميعادَه وقد وُعد بالسَّاعةِ والبعث فلا بُدَّ أنْ يفي بما وعد ، وأنتَ خبيرٌ بأن مآله الاستدلالُ بحكمته تعالى على إتيان السَّاعة والبعثِ وليس الكلامُ في ذلكَ بل إنَّما هُو في سببيتهما لما مرَّ من خلقِ الإنسانِ وإحياء الأرضِ فتأمَّل وكُن على الحقِّ المبين .(4/450)
وقيل : قوله تعالى : { وَأَنَّ الساعة ءاتِيَةٌ } ليس معطُوفاً على المجرورِ بالباء ، ولا داخلاً في حيِّز السببية بل هو خبرٌ والمبتدأ محذوفٌ لفهم المَعْنى . والتَّقديرُ والأمرُ أنَّ السَّاعةَ آتيةٌ وأنَّ الثَّانيةَ معطوفةٌ على الأُولى ، وقيل : المَعْنى ذلك لتعلمُوا بأنَّ الله هو الحقُّ الآيتين .(4/451)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)
{ وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله } هو أبُو جهلٍ بنُ هشامٍ حسبَما رُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهُما ، وقيل : هُو من يتصدَّى لإضلالِ النَّاسِ وإغوائِهم كائناً مَن كان كما أنَّ الأولَ من يُقلدهم على أنَّ الشَّيطانَ عبارةٌ عن المضلِّ المُغوي على الإطلاقِ { بِغَيْرِ عِلْمٍ } متعلِّق بمحذوفٍ وقعَ حالاً من ضميرِ يجادلُ أي كائناً بغيرِ علمٍ والمرادُ العلمُ الضَّروريُّ كما أنَّ المرادَ بالهُدى في قوله تعالى : { وَلاَ هُدًى } هو الاستدلالُ والنَّظرُ الصَّحيحُ الهادي إلى المعرفةِ { وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ } وحي مظهرٍ للحقِّ أي يجادل في شأنِه تعالى من غير تمسُّكٍ بمقدِّمةٍ ضروريةٍ ولا بحجَّةٍ نظريةٍ ولا ببرهانٍ سمعيَ كما في قوله تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ } وأما ما قيلَ من أنَّ المرادَ به المجادلُ الأوَّلُ والتَّكريرُ للتَّأكيدِ والتَّمهيدِ لما بعدَهُ من بيانِ أنَّه لا سندَ له من استدلالٍ أو وحيٍ فلا يُساعدُه النَّظمُ الكريمُ ، كيفَ لا وإنَّ وصفَه باتِّباعِ كلِّ شيطانٍ موصوفٍ بما ذُكر يُغني عن وصفِه بالعراءِ عن الدَّليلِ العقليِّ والسِّمعيِّ .
{ ثَانِىَ عِطْفِهِ } حالٌ أخرى من فاعلِ يُجادل أي عاطفاً لجانبه وطاوياً كَشْحَه مُعرضاً متكبِّراً فإنَّ ثنْيَ العطفِ كنايةٌ عن التَّكبُّرِ . وقُرىء بفتحِ العينِ أي مانعاً لتعطُّفِه .
{ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله } متعلِّقٌ بيجادلُ فإنَّ غرضَه الإضلالُ عنه وإن لم يعترفْ بأنَّه إضلالٌ . والمرادُ به إمَّا الإخراجُ من الهُدى إلى الضَّلالِ فالمفعولُ مَن يُجادلُه من المؤمنينَ أَو النَّاس جميعاً بتغليب المؤمنين على غيرِهم وإمَّا التَّثبيتُ على الضَّلالِ أو الزِّيادةُ عليه مجازاً فالمفعولُ هم الكفرةُ خاصَّةً . وقُرىء بفتح الياءِ وجُعل ضلالُه غايةً لجدالِه من حيثُ إنَّ المرادَ به الضَّلالُ المبينُ الذي لا هدايةَ له بعدَهُ مع تمكُّنِه منها قبلَ ذلك { لَهُ فِى الدنيا خِزْىٌ } جملةٌ مستأنفةٌ مسُوقةٌ لبيانِ نتيجةِ ما سلكَه من الطَّريقةِ أي يثبُت له في الدُّنيا بسببِ ما فعله خزيٌ وهُو ما أصابَه يومَ بدرٍ من القتلِ والصَّغَارِ { وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق } أي النَّارِ المُحرقةَ .(4/452)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)
{ ذلك } أي ما ذُكر من العذابِ الدنيويِّ والأُخرويِّ ، وما فيهِ من مَعْنى البُعد للإيذانِ بكونِه في الغايةِ القاصيةِ من الهَولِ والفظاعةِ . وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى : { بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } أي بسببِ ما اقترفتَهُ من الكفرِ والمعاصِي . وإسنادُه إلى يديهِ لما أنَّ الاكتسابَ عادةً يكونُ بالأيدي . والالتفاتُ لتأكيدِ الوعيدِ وتشديدِ التَّهديدِ . ومحلُّ أنَّ في قوله عزَّ وعلا : { وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ } الرَّفعُ على أنَّه خبرُ مبتدإٍ أي والأمرُ أنَّه تعالى ليس بمعذِّبٍ لعبيدِه بغيرِ ذنبٍ من قِبلَهم . والتَّعبيرُ عن ذلك بنفيِ الظُّلمِ مع أنَّ تعذيبَهم بغيرِ ذنبٍ ليس بظُلمٍ قطعاً على ما تقرَّرَ من قاعدةِ أهلِ السُنَّةِ فضلاً عن كونِه ظُلماً بالغاً قد مرَّ تحقيقُه في سورةِ آلِ عمرانَ والجملة اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلها وأمَّا ما قيلَ من أنَّ محلَّ أنَّ هُو الجرُّ بالعطفِ على ما قدمتْ فقد عرفتَ حالَه في سورة الأنفال .
{ وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ } شروعٌ في بيانِ حالِ المُذبذبين إثرَ بيانِ حالِ المُجاهرين أي ومنهُم من يعبدُه سبحانه وتعالى على طَرَفٍ من الدِّين لا ثباتَ له فيه كالَّذي ينحرفُ إلى طَرَفِ الجيشِ فإنْ أحسَّ بظَفَرٍ قَرَّ وإلا فَرَّ { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ } أي دنيويٌّ من الصَّحَّةِ والسَّعةِ { اطمأن بِهِ } أي ثبتَ على ما كانَ عليهِ ظاهراً لا أنَّه اطمأنَّ به اطمئنانَ المُؤمنينَ الذينَ لا يلويهم عنه صارفٌ ولا يثنيهم عاطفٌ . { وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ } أي شيءٌ يُفتتنُ به من مكروهٍ يعتريهِ في نفسِه أو أهلِه أو مالِه . { انقلب على وَجْهِهِ } رُوي أنَّها نزلتْ في أعاريبَ قدمُوا المدينةَ وكانَ أحدُهم إذَا صحَّ بدنُه ونُتجتْ فرسُه مُهراً سَرِيًّا وولدتِ امرأتُه ولداً سَويًّا وكثُر مالُه وماشيتُه قال : ما أصبتُ منذُ دخلتُ في ديني هذا إلاَّ خَيْراً واطمأنَّ وإن كانَ الأمرُ بخلافِه قال : ما أصبتُ إلاَّ شرًّا وانقلبَ . وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه : أنَّ يهُوديًّا أسلمَ فأصابتْهُ مصائبُ فتشاءَم بالإسلامِ فأتَى النبيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فقالَ : أقِلْني ، فقال عليه السَّلامُ : « إنَّ الإسلامَ لا يُقال » . فنزلت . وقيل : نزلتْ في المؤلَّفةِ قلوبُهم .
{ خَسِرَ الدنيا والأخرة } فقدَهُما وضيَّعهما بذهابِ عصمتِه وحبوطِ عملِه بالارتدادِ . وقُرىء خاسرَ بالنَّصبِ على الحالِ ، والرَّفعُ على الفاعليةِ . ووضعُ الظَّاهرِ موضعَ الضَّميرِ تنصيصاً على خُسرانِه أو على أنَّه خبرُ مبتدأ محذوفٍ { ذلك } أي ما ذُكر من الخُسران وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ بكونه في غايةِ ما يكونُ { هُوَ الخسران المبين } الواضحُ كونُه خُسراناً إذ لا خُسرانَ مثله .(4/453)
يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
{ يَدْعُو مِن دُونِ الله } استئنافٌ مبيِّنٌ لعِظم الخُسرانِ أي يعبد مُتجاوزاً عبادةَ الله تعالى { مَا لاَ يَضُرُّهُ } إذا لم يعبدْهُ { وَمَا لاَ يَنفَعُهُ } إنْ عبدَهُ أي جماداً ليسَ من شأنِه النَّفعُ كما يُلوِّحُ به تكريرُ كلمةِ ما { ذلك } الدُّعاءُ { هُوَ الضلال البعيد } عن الحقِّ والهُدى مستعارٌ من ضلالِ مَن أبعدَ في التَّيهِ ضالاًّ عن الطَّريقِ { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } استئنافٌ مسوق لبيانِ مآلِ دُعائِه المذكورِ وتقريرِ كونِه ضلالاً بعيداً مع إزاحةِ ما عسى يُتوَّهم من نفيِ الضَّررِ عن معبودِه بطريقِ المباشرةِ نفيه عنه بطريق التَّسبيبِ أيضاً فالدُّعاءُ بمعنى القول واللاَّمُ داخلةٌ على الجملة الواقعةِ مقولاً له ومَن مبتدأٌ وضرُّه مبتدأٌ ثانٍ خبرُه أقربُ والجملة صلة للمبتدأ الأوَّلِ وقوله تعالى : { لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير } جوابٌ لقسم مقدَّرٍ هو جوابه خبرٌ للمبتدأ الأولِ ، وإيثارُ مَن على مَا مع كون معبودِه جماداً وإيرادُ صيغة التَّفضيل مع خلوِّه عن النَّفع بالمرَّةِ للمبالغة في تقبيح حاله والإمعانِ في ذمِّه أي يقول ذلك الكافرُ يوم القيامةِ بدعاء وصُراخٍ حين يرى تضرُّرَه بمعبوده ودخولَه النَّارَ بسببه ولا يرى منه أثرَ النَّفعِ أصلاً لمن ضرُّه أقربُ من نفعِه ، والله لبئسَ النَّاصرُ هو ولبئسَ الصَّاحبُ هو فكيف بما هو ضررٌ محضٌ عارٍ عن النَّفعِ بالكلِّيةِ ، ويجوزُ أن يكون يدعُو الثَّاني إعادةً للأولِ لا تأكيداً له فقط بل وتمهيداً لما بعده من بيانِ سوءِ حالِ معبودِه إثرَ بيانِ سوءِ حال عبادتِه بقوله تعالى : { ذلك هُوَ الضلال البعيد } كأنَّه قيل من جهته تعالى بعد ذكر عبادتِه لما لا يضرُّه ولا ينفعُه يدعو ذلك ثم قيلَ لمَن ضُرُّه أقربُ من نفعِه : والله لبئسَ المَوْلى ولبئس العَشيرُ ، فكلمة مَن وصيغةُ التَّفضيلِ للتهكُّمِ به وقيل : اللاَّمُ زائدةٌ ومَنْ مفعول يدعُو ، ويؤيِّدُه القراءةُ بغير لامٍ أي يعبد من ضره أقربُ من نفعه وإيراد كلمةِ مَن وصيغة التَّفضيلِ تهكُّمٌ به أيضاً والجملة القسميةُ مستأنفة .
{ إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات } استئنافٌ جيء به لبيان كمال حسنِ حالِ المؤمنينَ العابدينَ له تعالى وأنَّ الله عزَّ وجلَّ يتفضَّل عليهم بما لا غايةَ وراءه من أجلِّ المنافعِ وأعظمِ الخيراتِ إثرَ بيانِ غايةِ سوءِ حالِ الكفرةِ ومآلِهم من فريقَيْ المجاهرينَ والمذبذبينَ وأنَّ معبودَهم لا يُجديهم شيئاً من النَّفع بل يضرُّهم مضرَّةً عظيمةً وأنَّهم يعترفون بسوءِ ولايتِه وعشرتِه ويذمُّونه مذمَّةً تامَّةً وقوله تعالى : { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } صفة لجنَّاتٍ فإن أُريد بها الأشجارُ المتكاثفةُ السَّاترةُ لما تحتها فجريانُ الأنهارِ من تحتها ظاهرٌ ، وإنْ أُريد بها الأرضُ فلا بُدَّ من تقدير مضافٍ أي من تحت أشجارِها ، وإن جُعلت عبارةً عن مجموعِ الأرضِ والأشجارِ فاعتبارُ التَّحتيَّةِ بالنَّظرِ إلى الجزءِ الظَّاهرِ المصحِّح لإطلاقِ اسمِ الجنَّةِ على الكلِّ كما مرَّ تفصيلُه في أوائلِ سورةِ البقرةِ .(4/454)
وقوله تعالى : { إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } تعليلٌ لما قبلَه وتقريرٌ له بطريقِ التَّحقيقِ أي يفعلُ البتة كلَّ ما يريدُه من الأفعالِ المتقنةِ اللاَّئقةِ المبنيَّةِ على الحكمِ الرَّائقةِ التي من جُملتها إثابةُ مَن آمنَ به وصدَّقَ رسولَه صلى الله عليه وسلم وعقابُ مَن أشركَ به وكذَّب برسولِه عليه السَّلامُ ولمَّا كانَ هذا من آثارِ نُصرته تعالى له عليه السَّلامُ عُقِّب بقولِه عزَّ وعلا : { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِى الدنيا والأخرة } تحقيقاً لها وتقريراً لثبوتها على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه . وفيه إيجازٌ بارعٌ واختصارٌ رائعٌ والمعنى : أنَّه تعالى ناصرٌ لرسوله في الدُّنيا والآخرةِ لا محالةَ من غير صارفٍ يَلويه ولا عاطفٍ يَثنيه فمن كانَ يغيظُه ذلك من أعاديهِ وحُسَّادِه ويظنُّ أنْ لَنْ يفعله تعالى بسببِ مدافعتِه ببعضِ الأمورِ ومباشرة ما يردُّه من المكايد فليبالغْ في استفراغِ المجهودِ وليجاوزْ في الجدِّ كلِّ حدَ معهودٍ فقُصارى أمرِه وعاقبةِ مكرِه أنْ يختنقَ حنقاً ممَّا يرى من ضلالِ مساعيهِ وعدمِ إنتاجِ مقدِّماتِه ومباديهِ { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السماء } فليمدُدْ حبلاً إلى سقفِ بيتِه { ثُمَّ لْيَقْطَعْ } أي ليختنقْ ، من قطَع إذا اختنقَ لأنَّه يقطع نفَسَه بحبسِ مجاريهِ وقيل : ليقطعِ الحبلَ بعد الاختناقِ على أنَّ المرادَ به فرضُ القطعِ وتقديرُه ، كما أنَّ المرادَ بالنَّظرِ في قوله تعالى : { فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } تقديرُ النَّظر وتصويرُه أي فليصوِّر في نفسِه النَّظرَ هل يُذهبنَّ كيدُه ذلك الذي هو أقصى ما انتهتْ إليه قدرتُه في باب المُضادَّةِ والمُضارَّةِ ما يغيظه من النُّصرةِ كلا ، ويجوز أنْ يُراد فلينظر الآنَ أنَّه إنْ فعلَ ذلك هَلْ يُذهب ما يغيظُه ، وقيل : المعنى فليمدُدْ حبلاً إلى السَّماءِ المُظِلَّةِ وليصعدْ عليه ثم ليقطعْ الوحيَ ، وقيل : ليقطعَ المسافةَ حتَّى يبلغَ عنانَها فيجتهدَ في دفعِ نصرِه ويأباهُ أنَّ مساقَ النَّظمِ الكريمِ بيانُ أنَّ الأمورَ المفروضةَ على تقديرِ وقوعِها وتحقُّقِها بمعزلٍ من إذهابِ ما يغيظُ ومن البيِّنِ أنْ لا معنى لفرضِ وقوعِ الأمورِ الممتنعةِ وترتيبِ الأمرِ بالنَّظرِ عليه لا سيَّما قطعُ الوحيِ فإنَّ فرضَ وقوعِه مخلٌّ بالمرامِ قطعاً ، وقيل : كانَ قومٌ من المسلمينَ لشدَّةِ غيظِهم وحنقِهم على المُشركين يستبطئونَ ما وعد الله رسولَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من النَّصرِ وآخرون من المشركينَ يُريدون اتباعَه عليه السَّلامُ ويخشَون أنْ لا يثبت أمرُه فنزلتْ وقد فسِّر النَّصرُ بالرِّزق فالمعنى أنَّ الأرزاقَ بيدِ الله تعالى لا تُنال إلاَّ بمشيئتِه تعالى فلا بُدَّ للعبدِ من الرِّضا بقسمتِه فمن ظنَّ أنَّ الله تعالى غيرُ رازقِه ولم يصبرْ ولم يستسلمْ فليبلغ غايةَ الجزعِ وهو الاختناقُ فإنَّ ذلكَ لا يغلبُ القسمةَ ولا يردُّه مرزوقاً .(4/455)
{ وكذلك } أي مثلَ ذلك الإنزالِ البديعِ المنطوي على الحكمِ البالغةِ { أنزلناه } أي القرآنَ الكريمَ كلَّه وقوله تعالى : { ءَايَاتٍ بَيّنَاتٍ } أي واضحاتِ الدِّلالةِ على معانيها الرَّائقةِ حالٌ من الضَّميرِ المنصوبِ مبينةٍ لما أُشير إليه بذلك { وَأَنَّ الله يَهْدِى } به ابتداءً أو يثبِّت على الهُدى أو يزيدُ فيه { مَن يُرِيدُ } هدايتَه أو تثبيتَه أو زيادتَه فيها ومحلُّ الجملةِ إمَّا الجرُّ على حذف الجارِّ أو متعلِّقٌ بمحذوفٍ مؤخَّرٍ أي ولأنَّ الله يهدي من يريدُ أنزلَه كذلك أو الرَّفعُ على أنَّه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي والأمرُ أنَّ الله يهدي مَن يُريد هدايتَه .(4/456)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
{ إِنَّ الذين ءامَنُواْ } أي بما ذُكر من الآياتِ البيِّناتِ بهدايةِ الله تعالى أو بكلِّ ما يجبُ أنْ يُؤمن به فيدخلُ فيه ما ذُكر دخولاً أوليًّا { والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس } قيل : هم قوم يعبدون النَّارَ ، وقيل : الشَّمسَ والقمرَ ، وقيل : هم قوم من النَّصارى اعتزلُوا عنهم ولبسوا المُسوح ، وقيل : أخذُوا من دين النَّصارى شيئاً ومن دين اليَّهودِ شيئاً وهم القائلون بأنَّ للعالم أصلينِ نوراً وظلمة . { والذين أَشْرَكُواْ } هم عَبَدة الأصنامِ . وقوله تعالى : { إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة } في حيِّز الرِّفعِ على أنَّه خبرٌ لإنَّ السَّابقةِ ، وتصدير طرفَيْ الجملتين بحرفِ التَّحقيق لزيادة التَّقديرِ والتَّأكيدِ ، أي يقضي بين المؤمنينَ وبين الفرقِ الخمسِ المتَّفقةِ على ملَّةِ الكُفرِ بإظهار المحقِّ من المبطل وتوفيةِ كلَ منهما حقَّهُ من الجزاء بإثابة الأوَّلِ وعقاب الثَّاني بحسب استحقاقِ أفراد كلَ منهما وقوله تعالى : { إِنَّ الله على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } تعليل لما قبله من الفصل أي عالمٌ بكلِّ شيءٍ من الأشياء ومراقبٌ لأحواله ومن قضيَّتِه الإحاطةُ بتفاصيل ما صدرَ عن كلِّ فردٍ من أفراد الفرق المذكورةِ وإجراءُ جزائه اللاَّئقِ به عليه .
وقولُه تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى * السموات وَمَن فِى الأرض } الخ ، بيان لما يُوجب الفصلَ المذكور من أعمال الفرقِ المذكورةِ مع الإشارةِ إلى كيفيَّتِه وكونه بطريقِ التَّعذيبِ والإثابة والإكرام والإهانة إثرَ بيان ما يُوجبه من كونِه تعالى شهيداً على جميع الأشياء التي من جُملتها أحوالُهم وأفعالُهم والمراد بالرُّؤيةِ العلم عبَّر عنه بها إشعاراً بظهورِ المعلوم والخطاب لكلِّ أحدٍ ممَّن يتأتَّى منه الرُّؤيةُ بناء على أنَّه من الجلاءِ بحيث لا يخفى على أحدٍ . والمرادُ بالسُّجودِ هو الانقيادُ التَّامُّ لتدبيره تعالى بطريق الاستعارةِ المبنيَّةِ على تشبيهه بأكمل أفعالِ المكلَّفِ في باب الطَّاعةِ إيذاناً بكونه في أقصى مراتب التَّسخُّرِ والتَّذلُّلِ لا سجودُ الطَّاعةِ الخاصَّةِ بالعُقلاءِ سواءٌ جُعلتْ كلمةُ من عامةً لغيرهم أيضاً وهو الأنسبُ بالمقام لإفادته شمولَ الحكم لكلِّ ما فيهما بطريقِ القرارِ فيهما أو بطريق الجُزئيَّةِ منهما فيكون قوله تعالى : { والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب } إفراداً لها بالذِّكرِ لشُهرتِها واستبعادِ ذلك منها عادةً ، أو جُعلت خاصَّةً بالعقلاء لعدم شمول سجود الطَّاعةِ لكلِّهم حسبما يُنبىء عنه قوله تعالى : { وَكَثِيرٌ مّنَ الناس } فإنَّه مرتفعٌ بفعل مضمرٍ يدلُّ عليه المذكور أي ويسجدُ له كثيرٌ من النَّاسِ سجود طاعةٍ وعبادةٍ ومن قضيَّتِه انتفاءُ ذلك عن بعضِهم ، وقيل : هو مرفوعٌ على الابتداء حُذف خبرُه ثقةً بدلالة خبر قسميهِ عليه نحو حقَّ له الثَّوابُ ، والأوَّلُ هو الأَولى لما فيه من التَّرغيبِ في السُّجودِ والطَّاعةِ . وقد جُوِّز أنْ يكونَ من النَّاسِ خبراً له أي من النَّاسِ الذين هم النَّاسُ على الحقيقةِ وهم الصَّالحون والمتَّقون وأنْ يكون قوله تعالى : { وَكَثِيرٌ } معطوفاً على كثيرٌ الأول للإيذانِ بغاية الكثرةِ ثم يخبر عنهم باستحقاقِ العذابِ كأنَّه قيل : وكثيرٌ من النَّاسِ { حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } أي بكفرِه واستعصائِه وقُرىء حُقَّ بالضمِّ وحقًّا أي حقَّ عليه العذابُ حقًّا { وَمَن يُهِنِ الله } بأن كتبَ عليه الشَّقاوةَ حسبما علمه من صرفِ اختياره إلى الشرِّ { فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } يُكرمه بالسَّعادةِ .(4/457)
وقُرىء بفتح الرَّاءِ على أنَّه مصدرٌ ميميٌّ { إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء } من الأشياء التي من جُملتها الإكرامُ والإهانةُ .(4/458)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
{ هذان } تعيينٌ لطرفَيْ الخصامِ وإزاحةٌ لمل عسى يتبادرُ إلى الوهمِ من كونِه بين كل واحدةٍ من الفرقِ الستِّ وبين البواقي وتحريرٌ لمحلِّه أي فريق المؤمنينَ وفريقُ الكفرةِ المنقسمُ إلى الفرقِ الخمسِ { خَصْمَانِ } أي فريقانِ مختصمانِ وإنما قيل : { اختصموا فِى رَبّهِمْ } حملاً على المعنى أي اختصمُوا في شأنِه عزَّ وجلَّ ، وقيل في دينه ، وقيل ذاته وصفاته والكّل من شؤونه تعالى فإنَّ اعتقادَ كلَ من الفريقينِ بحقيَّةِ ما هُو عليه وبُطلانِ ما عليه صاحبُه وبناءَ أقوالِه وأفعالِه عليه خصومةٌ للفريقِ الآخرِ وإنْ لم يجرِ بينهما التَّحاورُ والخصامُ ، وقيل : تخاصمتِ اليَّهودُ والمؤمنونَ فقالتِ اليَّهودُ : نحنُ أحقُّ بالله وأقدمُ منكم كتاباً ونبيُّنا قبل نبيِّكم ، وقال المؤمنون : نحنُ أحقُّ بالله منكُم آمنَّا بمحمَّدٍ وبنبيِّكم وبما أَنزل الله من كتابٍ وأنتمُ تعرفون كتابَنا ونبيَّنا ثم كفرتُم به حسداً فنزلت { فالذين كَفَرُواْ } تفصيل لما أُجمل في قوله تعالى : { يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة } { قُطّعَتْ لَهُمْ } أي قُدِّرت على مقاديرِ جُثثهم ، وقُرىء بالتَّخفيفِ { ثِيَابٌ مّن نَّارِ } أي نيرانٍ هائلةٍ تحيطُ بهم إحاطةَ الثِّيابِ بلابسِها { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ الحميم } أي الماءُ الحارُّ الذي انتهتْ حرارتُه ، قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : لو قطرت قطرةٌ منها على جبال الدُّنيا لأذابتَها . والجملةُ مستأنفةٌ أو خبرٌ ثانٍ للموصولِ أو حالٌ من ضميرِ لهم { يُصْهَرُ بِهِ } أي يُذاب { مَا فِى بُطُونِهِمْ } من الأمعاءِ والأحشاءِ ، وقُرىء يُصهَّر بالتَّشديدِ { والجلود } عطف على مَا وتأخيرُه عنه إمَّا لمراعاة الفواصلِ أو للإشعارِ بغاية شدَّةِ الحرارةِ بإيهامِ أنَّ تأثيرَها في الباطنِ أقدمُ من تأثيرِها في الظَّاهرِ مع أنَّ ملابستَها على العكسِ والجملةُ حالٌ من الحميمُ .
{ وَلَهُمْ } للكفرةِ أي لتعذيبهم وأجلِهم { مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } جمع مِقْمعةٍ وهي آلةُ القمعِ .
{ كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا } أي أشرفُوا على الخروجِ من النَّار ودَنَوا منه حسبما يُروى أنَّها تضربُهم بلهيبها فترفعُهم حتَّى إذا كانُوا في أعلاها ضُربوا بالمقامعِ فهوَوا فيها سبعينَ خريفاً { مِنْ غَمّ } أي من غمَ شديدٍ من غمومِها وهو بدلُ اشتمالٍ من الهاء بإعادة الجارِّ والرابط محذوفٌ كما أُشير إليه أو مفعولٌ له للخروج { أُعِيدُواْ فِيهَا } أي في قعرِها بأنْ رُدُّوا من أعاليها إلى أسافلِها من غيرِ أنْ يُخرجوا منها { وَذُوقُواْ } على تقدير قولٍ معطوفٍ على أعيدوا أي وقيل لهم : { عَذَابَ الحريق } أي الغليظَ من النَّارِ المنتشر العظيم الإهلاك .(4/459)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
{ إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } بيان لحسنِ حالِ المُؤمنين إثر بيان سوءِ حال الكَفرةِ وقد غُيِّر الأسلوبُ فيه بإسناد الإدخالِ إلى الله عزَّ وجلَّ . وتصديرُ الجملة بحرفِ التَّحقيقِ إيذاناً بكمال مباينةِ حالِهم لحالِ الكفرةِ وإظهاراً لمزيدِ العنايةِ بأمرِ المؤمنين ودلالة على تحقيقِ مضمونِ الكلام { يُحَلَّوْنَ فِيهَا } على البناء للمفعولِ بالتَّشديدِ من التَّحليةِ وقرىء بالتَّخفيفِ من الإحلاءِ بمعنى الإلباسِ أي يُحلِّيهم الملائكةُ بأمرِه تعالى . وقُرىء يُحلَّون من حليةِ المرأةِ إذا لبستْ حِليتَها ومن في قوله تعالى : { مِنْ أَسَاوِرَ } إما للتبعيضِ أي بعضِ أساورَ وهي جمع أَسْوِرةٍ جمع سِوارٍ أو للبيانِ لِما أنَّ ذكرَ التَّحليةِ ممَّا يُنبىء عن الحلى المبهمِ ، وقيل : زائدةٌ ، وقيل : نعتٌ لمفعولٍ محذوفٍ ليحلون فإنَّه بمعنى يلبسون { مّن ذَهَبٍ } بيانٌ للأساورِ { وَلُؤْلُؤاً } عطفٌ على محلِّ من أساورَ أو على المفعولِ المحذوفِ أو منصوبٌ بفعل مضمرٍ يدلُّ عليه يحلون أي يُؤتون . وقُرىء بالجرِّ عطفاً على أساورَ وقُرىء لؤلؤاً بقلب الهمزة الثَّانيةِ واواً ولولياً بقلبها ياءً بعد قلبهما واواً وليليا بقلبهما ياءً { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } غُيِّر الأسلوبُ حيثُ لم يقُلْ ويلبسون فيها حريراً لكن لا للدِّلالةِ على أنَّ الحريرَ ثيابُهم المعتادة أو لمجرَّدِ المحافظةِ على هيئةِ الفواصلِ بل للإيذانِ بأن ثبوت اللباسِ لهم أمر محقَّقٌ غنيٌّ عن البيان إذ لا يمكن عراؤهم عنْهُ وإنَّما المحتاجُ إلى البيانِ أنَّ لباسَهم ماذا بخلافِ الأساورِ واللؤلؤ فإنَّها ليستْ من اللَّوازمِ الضَّروريَّةِ فجعل بيان تحليتهم بها مقصوداً بالذَّاتِ ولعلَّ هذا هو الباعثُ إلى تقديمِ بيانِ التَّحليةِ على بيانِ حالِ اللِّباس .
{ وَهُدُواْ إِلَى الطيب مِنَ القول } وهو قولُهم : { الحمد للَّهِ الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الارض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة } الآيةَ { وَهُدُواْ إلى صراط الحميد } أي المحمودِ نفسُه أو عاقبتُه وهو الجنَّةُ ، ووجه التَّأخيرِ حينئذٍ أنَّ ذكرَ الحمد يستدعِي ذكرَ المحمودِ .
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } ليس المرادُ به حالاً ولا استقبالاً وإنَّما هو استمرارُ الصَّدِّ ولذلك حسُن عطفُه على الماضي كما في قوله تعالى : { الذين ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله } وقيل هو حالٌ من فاعل كفروا أي وهم يصدُّون وخبر إنَّ محذوفٌ لدلالة آخرِ الآية الكريمة عليه فإنَّ من ألحدَ في الحرمِ حيثُ عُوقب بالعذاب الأليم فلأنْ يُعاقبَ من جمعَ إليه الكفرَ والصَّدَّ عن سبيل الله بأشدَّ من ذلك أحقُّ وأولى { والمسجد الحرام } عطف على سبيلِ اللَّهِ قيل المرادُ به مكَّةُ بدليل وصفه بقوله تعالى : { الذى جعلناه لِلنَّاسِ } أي كائناً مَن كان من غير فرقٍ بين مكيَ وآفاقيَ { سَوَاء العاكف فِيهِ والباد } أي المقيمُ والطارىءُ ، وسواء أي مستوياً مفعول ثانٍ لجعلناه .(4/460)
والعاكفُ مرتفع به . واللاَّمُ متعلِّقٌ به ظرفٌ له . وفائدةُ وصفِ المسجدِ الحرامِ بذلك زيادةُ تشنيعِ الصَّادِّينَ عنه . وقُرىء سواءٌ بالرَّفعِ على أنَّه خبر مقدَّمٌ . والعاكفُ مبتدأٌ والجملة مفعول ثانٍ للجعل . وقُرىء العاكفِ بالجرِّ على أنَّه بدلٌ من النَّاسِ . { وَمَن يُرِدْ فِيهِ } ترك مفعولُه ليتناولَ كلَّ متناول كأنَّه قيل ومَن يُرد فيه مراداً ما . { بِإِلْحَادٍ } بعدولٍ عن القصدِ { بِظُلْمٍ } بغير حقَ وهما حالانِ مترادفانِ ، أو الثَّاني بدلٌ من الأوَّلِ بإعادة الجارِّ أو صلةٌ له أي ملحداً بسبب الظُّلمِ كالإشراك واقتراف الآثام { نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } جواب لمن .(4/461)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
{ وَإِذْ بَوَّأْنَا } يقال بوَّأهُ منزلاً أي أنزلَه فيه . ولمَّا لزمه جعل الثَّاني مباءةً للأوَّلِ وقيل : { لإبراهيم مَكَانَ البيت } وعليه مَبْنى قولِ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهُما جعلناهُ أي اذكر وقتَ جعلنا مكانَ البيت مباءةً له عليه السَّلامُ أي مرجعاً يرجع إليه للعمارةِ والعبادةِ . وتوجيه الأمرِ بالذِّكرِ إلى الوقت مع أنَّ المقصود تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادث قد مرَّ بيانُه غير مرَّةٍ . وقيل اللاَّمُ زائدةٌ ومكانَ ظرفٌ كما في أصل الاستعمالِ أي أنزلناهُ فيه . قيل رُفع البيت إلى السَّماءِ أيَّامِ الطُّوفانِ وكان من ياقوتةٍ حمراءَ فأعلم اللَّهُ تعالى إبراهيمَ عليه السَّلامُ مكانَه بريحٍ أرسلها يقال لها الخجوجُ كنستْ ما حولَه فبناه على أُسِّهِ القديمِ . رُوي أنَّ الكعبةَ الكريمة بُنيت خمس مرَّاتٍ إحداها : بناءُ الملائكةِ وكانت من ياقوتةٍ حمراءَ ثمَّ رُفعت أيَّام الطُّوفانِ ، والثَّانيةُ : بناءُ إبراهيمَ عليه السلام ، والثَّالثة : بناءُ قُريشٍ في الجاهليةِ وقد حضر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هذا البناءَ ، والرَّابعةُ : بناءُ ابن الزُّبيرِ ، والخامسةُ : بناءُ الحجَّاجِ . وقد أوردنا ما في هذا الشَّأنِ من الأقاويل في تفسير قوله تعالى : { وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت } وأنَّ في قوله تعالى : { أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً } مفسِّرةٌ لبوَّأنا من حيث إنَّه متضمِّنٌ لمعنى تعبدنا لأنَّ التَّبوئة للعبادة أو مصدريَّةٌ موصولة بالنَّهي ، وقد مرَّ تحقيقُه في أوائل سُورة هود . أي فعلنا ذلك لئلاَّ تشركَ بي في العبادة شيئاً { وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ والقائمين والركع السجود } أي وطهِّرْ بيتي من الأوثانِ والأقذارِ لمن يطوفُ به ويصلِّي فيه ولعلَّ التَّعبيرَ عن الصَّلاةِ بأركانِها للدِّلالةِ على أنَّ كلَّ واحدٍ منها مستقلٌّ باقتضاء ذلك فكيف وقد اجتمعتْ . وقرىء يُشرك بالياء .
{ وَأَذّن فِى الناس } أي نادِ فيهم . وقُرىء آذِن { بالحج } بدعوة الحجِّ ، والأمر به . رُوي أنَّه عليه السلام صعد أبا قُبيسٍ فقال : يا أيُّها النَّاسُ حجُّوا بيت ربِّكم فأسمعه اللَّهُ تعالى من في أصلاب الرِّجالِ وأرحام النِّساءِ فيما بين المشرقِ والمغربِ ممَّن سبق في علمه تعالى أنْ يحجَّ . وقيل الخطابُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، أُمر بذلك في حجَّةِ الوداع ويأباهُ كونُ السُّورةِ مكِّيةً { يَأْتُوكَ } جوابٌ للأمر { رِجَالاً } أي مُشاةً جمع راجلٍ كقيامٍ جمع قائمٍ . وقُرىء بضمِّ الرَّاءِ وتخفيفِ الجيمِ وتشديدِه ، ورجالى كعجالى { وعلى كُلّ ضَامِرٍ } عطفٌ على رِجالاً أي رُكباناً على كلِّ بغيرٍ مهزولٍ أتعبه بعدُ الشُّقِّةِ فهزله أو زادَ هزالُه . { يَأْتِينَ } صفةٌ لضامرٍ محمولة على المعنى . وقُرىء يأتُون على أنَّه صفةٌ للرِّجالِ والرُّكبانِ أو استئنافٌ فيكون الضَّميرُ للنَّاسِ { مِن كُلّ فَجّ } طريقٍ واسع { عَميِقٍ } بعيد . وقُرىء مُعيقٍ يقال بئرٌ بعيدة العُمقِ وبعيدةُ المُعقِ بمعنى ، كالجَذْبِ والجَبْذِ .(4/462)
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
{ لّيَشْهَدُواْ } متعلِّقٌ بيأتُوك ، لا بأذِّنْ أي ليحضرُوا { منافع } عظيمةَ الخطرِ كثيرةَ العددِ أو نوعاً من المنافع الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ المختصَّةِ بهذه العبادة . واللاَّمُ في قوله تعالى : { لَهُمْ } متعلِّقٌ بمحذوف هو صفة لمنافع أي منافع كائنةً لهم . { وَيَذْكُرُواْ اسم الله } عند إعداد الهَدَايا والضَّحايا وذبحها . وفي جعله غايةً للإتيانِ إيذانٌ بأنَّه الغاية القصوى دون غيرِه . وقيل هو كناية عن الذَّبحِ لأنَّه لا ينفكُّ عنه { فِى أَيَّامٍ معلومات } هي أيَّامُ النَّحرِ كما ينبىء عنه قوله تعالى : { على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنعام } فإنَّ المراد بالذِّكرِ ما وقع عند الذَّبحِ . وقيل هي عشرُ ذي الحجَّةِ قد علِّق الفعلُ بالمرزوقِ وبُيِّنَ بالبهيمة تحريضاً على التَّقرُّبِ وتنبيهاً على الذِّكرِ { فَكُلُواْ مِنْهَا } التفاتٌ إلى الخطاب . والفاءُ فصيحةٌ عاطفة لمدخولِها على مقدَّرٍ قد حُذف للإشعار بأنَّه أمرٌ محقَّقٌ غير مُحتاجٍ إلى التَّصريح به كما في قوله تعالى : { فانفجرت } أي فاذكرُوا اسمَ اللَّهِ على ضحاياكم فكلُوا من لحومِها . والأمرُ للإباحة وإزاحةِ ما كانت عليه أهلُ الجاهليَّةِ من التَّحرُّجِ فيه أو للنَّدبِ إلى مواساة الفُقراء ومساواتِهم { وَأَطْعِمُواْ البائس } أي الذي أصابه بُؤسٌ وشدَّةٌ { الفقير } المُحتاجَ وهذا الأمرُ للوجوب . وقد قيل به في الأوَّلِ أيضاً .
{ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ } أي ليؤدُّوا إزالة وَسَخِهم أو ليحكموها بقصِّ الشَّاربِ والأظفارِ ونتفِ الإبْطِ والاستحدادِ عند الإحلال { وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ } ما ينذرون من البِرِّ في حجِّهم وقيل مواجبُ الحجِّ . وقُرىء بفتح الواو وتشديدِ الفاءِ { وَلْيَطَّوَّفُواْ } طوافَ الرُّكنِ الذي به يتمُّ التَّحللُ فإنَّه قرينةُ قضاء التَّفثِ ، وقيل طواف الوداع . { بالبيت العتيق } أي القديمِ فإنَّه أوَّلُ بيت وُضع للنَّاسِ . أو المُعتَقِ من تسلُّطِ الجبابرةِ فكأينْ من جبَّارٍ سار إليه ليهدِمه فقصَمه اللَّهُ عزَّ وجلَّ . وأما الحجَّاجُ الثَّقفي فإنَّما قصد إخراجَ ابنِ الزُّبيرِ رضي اللَّه عنهما منه لا التَّسلُّطَ عليه .
{ ذلك } أي الأمرُ ذلك ، وهذا وأمثالُه يُطلق للفصل بين الكلامينِ أو بين وجهَيْ كلامٍ واحد { وَمَن يُعَظّمْ حرمات الله } أي أحكامَه وسائر ما لا يحلُّ هتكُه بالعلم بوجوب مُراعاتها والعملِ بموجبه . وقيل الحُرمُ وما يتعلَّق بالحجِّ من التَّكاليفِ . وقيل الكعبةُ والمسجدُ الحرامُ والبلدُ الحرامُ والشَّهرُ الحرامُ { فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ } أي فالتَّعظيمُ خير له ثواباً { عِندَ رَبّهِ } أي في الآخرة ، والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافة إلى ضمير مَن لتشريفه والإشعار بعلَّةِ الحكم . { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام } وهي الأزواج الثَّمانيةُ على الإطلاقِ فقوله تعالى : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } أي إلا ما يُتلى عليكم آيةُ تحريمهِ . استثناءٌ متَّصلٌ منها على أنَّ ما عبارةٌ عمَّا حُرِّم منها لعارضٍ كالميتة وما أُهلَّ به لغير الله تعالى .(4/463)
والجملةُ اعتراضٌ جيء به تقريراً لما قبله من الأمرِ بالأكل والإطعام ودفعاً لما عسى يُنوهَّم أنَّ الإحرامَ يحرِّمُه كما يحرم الصَّيدُ . وعدمُ الاكتفاء ببيان عدم كونها من ذلك القبيلِ بحمل الأنعام على ما ذُكر من الضَّحايا والهدايا المعهودة خاصَّةً لئلاَّ يحتاج إلى الاستثناء المذكورِ إذ ليس فيها ما حُرِّمَ لعارضٍ قطعاً لمراعاة حسنِ التَّخلصِ إلى ما بعده من قوله تعالى : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } فإنَّه مترتِّبٌ على ما يُفيده قوله تعالى ومَن يعظِّم حرماتِ اللَّهِ من وجوب مراعاتها والاجتنابِ عن هتكِها . ولمَّا كان بيانُ حلِّ الأنعام من دَوَاعي التَّعاطِي لا مِن مبادِي الاجتنابِ عُقِّب بما يُوجب الاجتنابَ عنه من المحرَّماتِ ثم أمر بالاجتناب عمَّا هو أقصى الحرماتِ ، كأنَّه قيل ومَن يعظِّم حرماتِ الله فهو خيرٌ له والأنعامُ ليستْ من الحُرُماتِ فإنَّها محلَّلةٌ لكم إلاَّ ما يتلى عليكم آيةُ تحريمه فإنَّه ممَّا يجبُ الاجتنابُ عنه فاجتنبُوا ما هو معظمُ الأمورِ التي يجب الاجتناب عنها . وقولُه تعالى : { واجتنبوا قَوْلَ الزور } تعميمٌ بعد تخصيصٍ فإنَّ عبادةَ الأوثانِ رأسُ الزُّورِ ، كأنَّه لمَّا حثَّ على تعظيم الحُرمات أتبعَ ذلك ردًّا لما كانت الكفرةُ عليه من تحريم البحائرِ والسَّوائبِ ونحوهِما والافتراءِ على الله تعالى بأنَّه حَكَم بذلك . وقيل شهادة الزُّورِ لما رُوي أنَّه عليه السلام قالَ : « عَدلت شهادةُ الزُّورِ الإشراكَ بالله تعالى ثلاثاً » وتلا هذه الآية . والزُّورُ : من الزَّور وهو الانحرافُ كالإفكِ المأخوذِ من الأفْك الذي هو القلبُ والصَّرفُ فإنَّ الكذبَ منحرفٌ مصروفٌ عن الواقعِ . وقيل هو قولُ أهلِ الجاهلية في تلبيتهم لبَّيكَ لا شريكَ لكَ إلاَّ شريكٌ هو لك تملكُه وما ملكَ .(4/464)
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
{ حُنَفَاء للَّهِ } مائلين عن كلِّ دين زائغٍ إلى الدِّين الحقِّ مُخلصين لله تعالى . { غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } أي شيئاً من الأشياءِ فيدخل في ذلك الأوثانُ دخولاً أوليًّا ، وهما حالانِ من واو فاجتنبُوا { وَمَن يُشْرِكْ بالله } جملةٌ مبتدأةٌ مؤكِّدةٌ لما قبلها من الاجتناب عن الإشراك . وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لإظهار كمالِ قُبح الإشراكِ { فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء } لأنَّه مُسْقَط من أوجِ الإيمان إلى حضيض الكفرِ { فَتَخْطَفُهُ الطير } فإنَّ الأهواء المُرديةَ توزِّعُ أفكارَه . وقُرىء فتخَطَّفه بفتح الخاء وتشديد الطَّاءِ . وبكسرِ الخاء والطَّاء ، وبكسر التَّاءِ مع كسرهما ، وأصلُهما تَخْتطفُه { أَوْ تَهْوِى بِهِ الريح } أي تُسقطه وتقذفُه { فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ } بعيدٍ ، فإنَّ الشَّيطانَ قد طوَّحَ به في الضَّلالةِ . وأو للتَّخييرِ كما في { أَوْ كَصَيّبٍ } أو للتَّنويعِ . ويجوزُ أنْ يكونَ من باب التَّشبيهِ المُركَّبِ فيكون المعنى : ومَن يُشرك بالله فقد هلكتْ نفسُه هلاكاً شَبيهاً بهلاكِ أحدِ الهالكينَ هنا .(4/465)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
{ ذلك } أي الأمرُ ذلكَ أو امتثلُوا ذلك { وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله } أي الهَدَايا فإنَّها من معالم الحجِّ وشعائرِه تعالى كما يُنبىء عنه . { والبدن جعلناها لَكُمْ مّن شعائر الله } وهو الأوفقُ لما بعده . وتعظيمُها اعتقادُ أنَّ التَّقربَ بها من أجلِّ القُرباتِ وأنْ يختارَها حِساناً سِماناً غاليةَ الأثمانِ . رُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أهدى مائةَ بَدَنةٍ ، فيها جملٌ لأبي جهلٍ في أنفه بُرَةٌ من ذهبٍ ، وأنَّ عمرَ رضي الله عنه أهدى نَجيبةً طُلبتْ منه بثلاثمائةِ دينارٍ { فَإِنَّهَا } أي فإنَّ تعظيمَها { مِن تَقْوَى القلوب } أي من أفعال ذَوي تقوى القلوبِ فحُذفتْ هذه المضافاتُ والعائدُ إلى مَن . أو فإنَّ تعظيمَها ناشىءٌ من تقوى القلوب . وتخصيصُها بالإضافة لأنَّها مراكزُ التَّقوى التي إذا ثبتتْ فيها وتمكَّنتْ ظهر أثرُها في سائر الأعضاءِ .
{ لَكُمْ فِيهَا } أي في الهَدَايا { منافع } هي درُّها ونسلُها وصوفُها وظهرُها { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } هو وقت نحرِها والتَّصدُّقُ بلحمها والأكلُ منه { ثُمَّ مَحِلُّهَا } أي وجوبُ نحرِها أو وقت نحرِها منتهيةً { إلى البيت العتيق } أي إلى ما يليهِ من الحرمِ . وثمَّ للتَّراخي الزَّمانيِّ أو الرُّتَبِّي أي لكم فيها منافعُ دنيويَّةٌ إلى وقتِ نحرِها ثمَّ منافعُ دينيَّةٌ أعظمها في النَّفعِ محلُّها أي وجوبُ نحرِها أو وقت وجوبِ نحرِها إلى البيتِ العتيقِ أي منتهيةً إليه . هذا وقد قيل المرادُ بالشَّعائرِ مناسكُ الحجِّ ومعالمُه . والمعنى لكُم فيها منافعُ بالأجر والثَّوابِ في قضاءِ المناسكِ وإقامةِ شعائرِ الحجَّ إلى أجلٍ مُسمَّى هو انقضاءُ أيَّامِ الحجِّ ثمَّ محلُّها أي محلُّ النَّاسِ من إحرامهم إلى البيتِ العتيقِ أي منتهٍ إليه بأن يطوفُوا به طوافَ الزِّيارةِ يومَ النَّحرِ بعد قضاء المناسكِ ، فإضافةُ المحلِّ إليها لأدنى ملابسةٍ .
{ وَلِكُلّ أُمَّةٍ } أي لكلِّ أهلِ دينٍ { جَعَلْنَا مَنسَكًا } أي مُتعبَّداً وقُرباناً يتقرَّبون به إلى الله عزَّ وجلَّ . وقُرىء بكسر السِّين أي موضعُ نُسُكٍ . وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على الفعل للتَّخصيص أي لكلِّ أُمَّةٍ من الأُممِ جعلنا منسكاً لا لبعضٍ دونَ بعضٍ . { لّيَذْكُرُواْ اسم الله } خاصَّةً دون غيرِه ويجعلُوا نسيكتهم لوجهه الكريمِ عُلِّل الجعلُ به تنبيهاً على أنَّ المقصودَ الأصليَّ من المناسكِ تذكُّرُ المعبودِ . { على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنعام } عند ذبحِها ، وفيه تنبيهٌ على أنَّ القُربان يجبُ أنْ يكونَ من الأنعام . والخطابُ في قوله تعالى : { فإلهكم إله واحد } للكلِّ تغليباً . والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلَها فإنَّ جعلَه تعالى لكلِّ أُمَّةٍ من الأُمم مَنْسكاً ممَّا يدلُّ على وحدانيَّته تعالى . وإنَّما قيل إله واحدٌ ولم يُقل واحدٌ لما أنَّ المرادَ بيانُ أنَّه تعالى واحدُ في ذاتهِ كما أنَّه واحدٌ في إلهيته للكلِّ . والفاءُ في قوله تعالى : { فَلَهُ أَسْلِمُواْ } لترتيب ما بعدها من الأمر بالإسلام على وحدانيَّتهِ تعالى ، وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على الأمر للقصر ، أي فإذا كان إلهكم إلها واحداً فأخلصوا له التَّقرُّبَ أو الذِّكرَ واجعلُوه لوجههِ خاصَّةً ولا تشوبُوه بالشِّرك { وَبَشّرِ المخبتين } تجريدٌ للخطاب إلى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أي المُتواضعينَ أو المُخلِصين فإنَّ الإخباتَ من الوظائف الخاصَّةِ بهم .(4/466)
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
{ الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } منه تعالى لإشراق أشعةِ جلاله عليها { والصابرين على مَا أَصَابَهُمْ } من مشاقِّ التَّكاليفِ ومُؤناتِ النَّوائبِ . { والمقيمى الصلاة } في أوقاتها . وقُرىء بنصب الصَّلاةِ على تقدير النُّونِ . وقُرىء والمقيمينَ الصَّلاةَ على الأصلِ . { وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } في وجوه الخيراتِ .
{ والبدن } بضمِّ الباءِ وسكون الدَّالِ . وقُرىء بضمِّها . وهُما جَمْعا بَدَنةٍ ، وقيل الأصلُ ضمُّ الدَّالِ كخُشُبٍ وخَشَبةٍ والتَّسكينُ تخفيفٌ منه . وقُرىء بتشديدِ النُّونِ على لفظِ الوقفِ . وإنَّما سُمِّيتْ بها الإبلُ لعظمِ بَدَنِها ، مأخوذةٌ من بَدُنَ بَدَانةً وحيثُ شاركها البقرةُ في الإجزاءِ عن سبعةٍ بقوله صلى الله عليه وسلم : « البُدْنةُ عن سبعةٍ والبقرةُ عن سبعةٍ » جُعلا في الشَّريعةِ جنساً واحداً . وانتصابُه بمضمرٍ يفسِّرهُ : { جعلناها لَكُمْ } وقُرىء بالرَّفعِ على أنَّه مبتدأٌ والجملةُ خبرُهُ . وقولُه تعالى : { مِن شَعَائِرِ الله } أي من أعلامِ دينهِ التي شرعها اللَّهُ تعالى . مفعولٌ ثانٍ للجعل . ولكُم ظرفُ لغوٍ متعلِّقٌ به . وقولُه تعالى : { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } أي منافعُ دينيَّةٌ ودنيويَّةٌ . جملة مستأنفةٌ مقرِّرةٌ لما قبلها .
{ فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا } بأنْ تقولُوا عند ذبحِها اللَّهُ أكبرُ لا إله إلاَّ اللَّهُ واللَّهُ أكبرُ اللهمَّ منكَ وإليكَ { صَوَافَّ } أي قائماتٍ قد صففنَ أيديهنَّ وأرجلهنَّ . وقُرىء صَوَافنَ من صَفن الفرسُ إذا قام على ثلاثٍ وعلى طرفِ سُنْبكِ الرَّابعةِ لأنَّ البدنةَ تُعقل إحدى يديها فتقومُ على ثلاثٍ . وقُرىء صَوَافِنا بإبدالِ التَّنوينِ من حرفِ الإطلاقِ عند الوقفِ . وقُرىء صَوَافى أي خَوَالصَ لوجهِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ . وصَوَافْ على لغة مَن يُسكِّنُ الياءَ على الإطلاق كما في قوله
لعلِّي أرى باقْ على الحدئانِ ... { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } سقطتْ على الأرضِ وهو كنايةٌ عن الموت { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع } الرَّاضيَ بما عنده من غير مسألةٍ ، ويؤيِّدهُ أنَّه قُرىء القنع . أو السَّائلَ من قَنع إليه قُنوعاً إذا خضعَ له في السُّؤالِ { والمعتر } أي المتعرِّضَ للسُّؤالِ . وقُرىء المُعتري يقال عَرّهُ وعَرَاهُ واعترَّهُ واعتراهُ { كذلك } مثلَ ذلك التَّسخيرِ البديعِ المفهوم من قوله تعالى : { سخرناها لَكُمْ } مع كمالِ عظمِها ونهايةِ قوَّتِها فلا تستعصي عليكم حتَّى تأخذوها منقادةً فتعقِلونها وتحبسونها صافَّة قوائمها ثم تطعنونَ في لبَّاتِها { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } لتشكرُوا إنعامَنا عليكم بالتَّقرُّب والإخلاصِ .
{ لَن يَنَالَ الله } أي لن يبلغَ مرضاتَهُ ولن يقعَ منه موقعَ القَبُولِ { لُحُومُهَا } المُتصدَّقُ بها { وَلاَ دِمَاؤُهَا } المُهَراقةُ بالنَّحر من حيثُ إنَّها لحومٌ ودماءٌ { ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ } ولكن يُصيبه تقوى قلوبِكم التي تدعُوكم إلى الامتثال بأمره تعالى وتعظيمه والتَّقرُّبِ إليه والإخلاصِ له . وقيل كانَ أهلُ الجاهليةِ يُلطِّخون الكعبةَ بدماءِ قَرَابينهم فهمَّ به المُسلمون فنزلتْ : { كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ } تكرير للتَّذكير والتَّعليلِ بقوله تعالى : { لِتُكَبّرُواْ الله } أي لتعرفُوا عظمتَه باقتداره على ما لا يقدرُ عليه غيرُه فتوحِّدُوه بالكبرياءِ ، وقيل هو التَّكبيرُ عند الإحلالِ أو الذَّبحِ . { على مَا هَدَاكُمْ } أي أرشدَكُم إلى طريق تسخيرِها وكيفيَّة التَّقرُّبِ بها . وما مصدريةٌ أو موصولةٌ أي على هدايتِه أيَّاكم أو على ما هَدَاكُم إليه . وعلى متعلِّقةٌ بتكبِّروا لتضمُّنهِ معنى الشُّكرِ . { وَبَشّرِ المحسنين } أي المُخلصين في كلِّ ما يأتُون وما يذرُون في أمورِ دينهم .(4/467)
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)
{ إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين ءامَنُواْ } كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لتوطينِ قلوبِ المُؤمنين ببيانِ أنَّ الله تعالى ناصرُهم على أعدائِهم بحيثُ لا يقدرُون على صدِّهم عن الحجِّ ليتفرَّغُوا إلى أداءِ مناسكِه . وتصديرُه بكلمةِ التَّحقيقِ لإبرازِ الاعتناءِ التَّامِّ بمضمونهِ وصيغةُ المفاعلةِ إمَّا للمبالغةِ أو للدِّلالةِ على تكرُّرِ الدَّفعِ فإنَّها قد تُجرَّدُ عن وقوعِ الفعلِ المتكرِّرِ من الجانبينِ فيبقى تكرُّره كما في الممارسةِ أي يبالغ في دفع غائلةِ المشركينَ وضررِهم الذي من جُملته الصَّدُّ عن سبيلِ الله مبالغةً من يغالب فيه أو يدفعها عنهم مرَّةً بعد أُخرى حسبما تجدَّدَ منهم القصدُ إلى الإضرارِ بالمسلمينَ كما في قولِه تعالى : { كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله } وقُرىء يدفعُ والمفعولُ محذوفٌ . وقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } تعليلٌ لما في ضمن الوعدِ الكريمِ من الوعيد للمشركينَ وإيذانٌ بأنَّ دفعهم بطريقِ القهرِ والخِزْيِ . ونفيُ المحبَّةِ كنايةٌ عن البُغضِ أي أنَّ اللَّهَ يُبغضُ كلَّ خَوَّانٍ في أماناته تعالى وهي أوامرُه ونواهيه أو في جميعِ الأماناتِ التي هي معظمُها كفورٌ لنعمته ، وصيغةُ المُبالغةِ فيهما لبيان أنَّهم كذلك لا لتقييدِ البُغضِ بغايةِ الخيانةِ والكفرِ أو للمبالغةِ في نفيِ المحبَّةِ على اعتبارِ النَّفيِ أوَّلاً وإيراد معنى المبالغةِ ثانياً .
{ أَذِنَ } أي رُخِّصَ . وقُرىء على البناء للفاعلِ أي أَذِن اللَّهُ تعالى { لِلَّذِينَ يقاتلون } أي يُقاتلهم المشركون . والمأذونُ فيه محذوفٌ لدلالة المذكورِ عليه فإنَّ مقاتلة المُشركينَ إيَّاهُم دالَّةٌ على مقاتلتهم إيَّاهُم دلالةً نيِّرةً . وقُرىء على صيغة المبنيِّ للفاعلِ أي يُريدون أنْ يُقاتلوا المشركين فيما سيأتي ويَحرصون عليه . فدلالتُه على المحذوفِ أظهرُ { بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ } أي بسبب أنَّهم ظُلموا . وهم أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم كانَ المشركون يُؤذونهم وكانُوا يأتونَه عليه السَّلامُ بين مضروبٍ ومَشْجُوجٍ ويتظلَّمون إليه فيقولُ عليه السَّلامُ : « اصبرُوا فإنِّي لم أُومر بالقتالِ » حتَّى هاجرُوا فأُنزلتْ وهي أوَّلُ آيةٍ نزلتْ في القتالِ بعد ما نُهيَ عنه في نَيِّفٍ وسبعينَ آيةً { وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } وعدٌ لهم بالنَّصرِ وتأكيدٌ لما مرَّ من العدةِ الكريمةِ بالدَّفعِ ، وتصريحٌ بأنَّ المرادَ به ليسَ مجرَّدَ تخليصهم من أيدي المشركين بلْ تغليبهم وإظهارَهم عليهم . والإخبارُ بقُدرتهِ تعالى على نصرِهم واردٌ على سَننِ الكبرياءِ وتأكيدُه بكلمة التَّحقيقِ واللاَّمِ لمزيد تحقيقِ مضمونِه وزيادةِ توطينِ نفوسِ المؤمنينَ .(4/468)
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
وقولُه تعالى : { الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم } في حيِّز الجرِّ على أنَّه صفةٌ للموصولِ الأوَّلِ أو بيانٌ له أو بدلٌ منه أو في محلِّ النَّصبِ على المدحِ أو في محلِّ الرَّفعِ بإضمارِ مبتدأ والجملةُ مرفوعةً على المدح والمرادُ بديارِهم مكَّةُ المعظَّمةُ { بِغَيْرِ حَقّ } متعلِّقٌ بأُخرجوا أي أُخرجوا بغير ما يُوجب إخراجَهم وقوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله } بدلٌ من حقَ أي بغير موجبٍ سوى التَّوحيدِ الذي ينبغي أنْ يكون مُوجباً للإقرارِ والتَّمكينِ دون الإخراجِ والتَّسيير لكن لا على الظَّاهر بل على طريقة قولِ النَّابغةِ
ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم ... بهنَّ فلولٌ من قراعِ الكتائبِ
وقيل الاستثناءُ منقطعٌ . { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ } بتسليطِ المؤمنين على الكافرين في كلِّ عصرٍ وزمانٍ . وقُرىء دِفاعُ { لَّهُدّمَتْ } لخُرِّبتْ باستيلاء المشركينَ على أهلِ الملل . وقُرىء هُدِمت بالتَّخفيفِ { صوامع } للرَّهابنةِ { وَبِيَعٌ } للنَّصارى { وصلوات } أي وكنائسُ لليهودِ سُمِّيتْ بها لأنَّها يُصلَّى فيها وقيل أصلها صلوتا بالعبريَّةِ فعُرِّبتْ { ومساجد } للمسلمين { يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً } أي ذكراً كثيراً أو وقتاً ، صفةٌ مادحة للمساجدِ خُصَّت بها دلالةً على فضلها وفضلِ أهلها وقيل صفةٌ للأربعِ وليس كذلك فإنَّ بيان ذكرِ الله عزَّ وجلَّ في الصَّوامعِ والبيعِ والكنائسِ بعد انتساخِ شرعيَّتها ممَّا لا يقتضيه المقامُ ولا يرتضيه الأفهامُ { وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ } أي وباللَّهِ لينصرنَّ اللَّهُ من ينصر أولياءَهُ أو من ينصر دينَه ولقد أنجز اللَّهُ عزَّ سلطانُه وعدَهُ حيث سلَّطَ المهاجرين والأنصارَ على صناديدِ العربِ وأكاسرةِ العجمِ وقياصرةِ الرُّوم وأورثهم أرضَهم وديارَهم { إِنَّ الله لَقَوِىٌّ } على كلِّ ما يُريده من مراداتهِ التي من جُملتها نصرُهم { عَزِيزٌ } لا يُمانعه شيءٌ ولا يُدافعه .
{ الذين إِنْ مكناهم فِى الارض أَقَامُواْ الصلاة وَاتَوُاْ الزكواة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر } وصفٌ من الله عزَّ وجلَّ للذين أُخرجوا من ديارِهم بما سيكون منهم من حسن السِّيرةِ عند تمكينه تعالى إيَّاهُم في الأرض وإعطائه إيَّاهم زمامَ الأحكامِ منبىءٌ عن عِدَّةٍ كريمة على أبلغ وجهٍ وألطفِه . وعن عثمانَ رضي الله عنه هذا واللَّهِ ثناءٌ قبل بلاءٍ . يُريد أنَّه تعالى أثنى عليهم قبلَ أنْ يُحدثوا من الخيرِ ما أحدثوا . قالُوا وفيه دليلٌ على صحَّة أمر الخلفاءِ الرَّاشدينَ لأنَّه تعالى لم يعطِ التَّمكينَ ونفاذَ الأمرِ مع السِّيرةِ العادلةِ غيرهم من المهاجرين ولا حظَّ في ذلك للأنصارِ والطُّلقاءِ . وعن الحسنِ رحمه الله هم أمةُ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم . وقيل الذينَ بدلٌ من قولهِ مَنْ ينصرُه { وَللَّهِ } خاصَّةً { عاقبة الأمور } فإنَّ مرجعَها إلى حُكمهِ وتقديره فقط . وفيه تأكيدٌ للوعد بإظهار أوليائِه وإعلاءِ كلمتهِ .(4/469)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
{ وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } تسليةٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم متضمِّنةٌ للوعدِ الكريمِ بإهلاكِ مَن يُعاديه من الكفَرَةِ وتعيينٌ لكيفيَّةِ نصرِه تعالى له الموعودِ بقوله تعالى : { وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ } وبيانٌ لرجوعِ عاقبةِ الأمور إليه تعالى . وصيغةُ المضارع في الشَّرطِ مع تحقُّقِ التَّكذيبِ لما أنَّ المقصودَ تسليتُه عليه السلام عمَّا يترتَّبُ على التَّكذيبِ من الحزن المتوقَّعِ أي وإنْ تحزنْ على تكذيبِهم إيَّاك فاعلم أنَّك لست بأوحديَ في ذلك فقد كذَّبتْ قبل تكذيبِ قومِك إيَّاك قومُ نوحٍ { وَعَادٍ وَثَمُودَ } { وَقَوْمِ إبراهيم وَقَوْمُ لُوطٍ } { وأصحاب مَدْيَنَ } أي رُسُلَهم ممَّن ذُكر ومَن لم يُذكر ، وإنَّما حُذف لكمال ظهور المرادِ أو لأنَّ المرادَ نفسُ الفعل أي فعلتْ التَّكذيبَ قومُ نوحٍ إلى آخره . { وَكُذّبَ موسى } غُيِّر النَّظمُ الكريم بذكرِ المفعولِ وبناء الفعل له لا لأنَّ قومَه بنوُ إسرائيل وهم لم يكذِّبوه وإنَّما كذَّبه القِبْطُ لما أنَّ ذلك إنَّما يقتضي عدمَ ذكرِهم بعُنوان كونِهم قومَ مُوسى لا بعنوانٍ آخرَ على أنَّ بني إسرائيلَ أيضاً قد كذَّبوه مرَّةً بعد أُخرى حسبما نطقَ به قوله تعالى : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً } ونحو ذلك من الآياتِ الكريمة بل للإيذانِ بأنَّ تكذيبَهم له كان في غاية الشَّناعةِ لكون آياتِه في كمال الوضوحِ وقوله تعالى : { فَأمْلَيْتُ للكافرين } أي أمهلتهم حتَّى انصرمتْ حبالُ آجالِهم . والفاءُ لترتيبِ إمهالِ كلِّ فريقٍ من فِرق المكذِّبينَ على تكذيب ذلك الفريقِ لا لترتيب إمهال الكلِّ على تكذيب الكلِّ . ووضعُ الظَّاهر موضعَ الضَّميرِ العائد إلى المكذِّبين لذمِّهم بالكفرِ والتَّصريحِ بمكذبِي موسى عليه السلام حيثُ لم يذكروا فيما قبل صَريحاً { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } أي أخذتُ كلَّ فريقٍ من فرق المكذِّبين بعد انقضاء مدَّةِ إملائِه وإمهالِه { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي إنكارِي عليهم بالإهلاك أي فكان ذلك في غاية ما يكون من الهول والفظاعة .
وقوله تعالى : { فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ } منصوبٌ بمضمر يفسِّرُه قوله تعالى : { أهلكناها } أي فأهلكنا كثيراً من القُرى بإهلاك أهلهِا . والجملةُ بدلٌ من قوله تعالى : { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أو مرفوعٌ على الابتداءِ وأهلكنا خبرُهُ أي فكثيرٌ من القُرى أهلكناها . وقُرىء أهلكتُها على وفق قوله تعالى : { فَأمْلَيْتُ للكافرين ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } { وَهِىَ ظالمة } جملة حاليَّةٌ من مفعول أهلكنا . وقوله تعالى : { فَهِىَ خَاوِيَةٌ } عطفٌ على أهلكناها لا على ( وهي ظالمةٌ ) لأنَّها حالٌ والإهلاك ليس في حالِ خوائها فعلى الأوَّلِ لا محلَّ له من الإعرابِ كالمعطوف عليه وعلى الثَّاني في محلِّ الرَّفعِ لعطفه على الخبرِ والخَوَاءُ إمَّا بمعنى السُّقوطِ من خَوَى النَّجمُ إذ سقطَ فالمعنى فهي ساقطةٌ حيطانُها { على عُرُوشِهَا } أي سُقوفِها بأنْ تعطَّل بنيانُها فخرَّتْ سقوفُها ثم تهدَّمتْ حيطانُها فسقطتْ فوق السُّقوفِ .(4/470)
وإسنادُ السُّقوطِ على العُروش إليها لتنزيلِ الحيطانِ منزلةَ كلِّ البنيانِ لكونها عمدةً فيه وإمَّا بمعنى الخُلوِّ من خَوَى المنزلُ إذا خَلاَ من أهله فالمعنى فهي خاليةٌ مع بقاءِ عُروشها وسلامتها فتكونُ على بمعنى معَ ويجوزأنْ يكون على عُروشها خبراً بعد خبرٍ أي فهي على عُروشها أي قائمةٌ مشرفةٌ على عروشِها على معنى أنَّ السُّقوفَ سقطتْ إلى الأرضِ وبقيتْ الحيطانُ قائمةً فهي مشرفة على السُّقوفِ السَّاقطةِ . وإسنادُ الإشرافِ إلى الكلِّ مع كونِه حال الحيطانِ لما مرَّ آنِفاً { وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ } عطفٌ على قريةٍ أي وكم بئرٍ عامرةٍ في البوادي تُركت لا يُستقى منها لهلاكِ أهلِها . وقُرىء بالتَّخفيفِ من أعطلَه بمعنى عطَّله { وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } مرفوعِ البنيانِ أو مجصَّصٍ أخليناهُ عن ساكنيهِ وهذا يؤيِّد كونَ معنى ( خاويةٌ على عروشِها ) خاليةً مع بقاء عروشِها ، وقيل : المراد بالبئرِ بئرٌ بسفحِ جبلٍ بحضْرَمَوت وبالقصرِ قصرٌ مشرفٌ على قُلَّتهِ كانا لقومِ حنظلةَ بنِ صفوانَ من بقايا قومِ صالحٍ فلما قتلُوه أهلكَهم الله تعالى وعطَّلهما .(4/471)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49)
{ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض } حثٌّ لهم أن يُسافروا ليرَوا مصارع المهلَكين فيعتبروا وهمُ وإنْ كانُوا قد سافروا فيها ولكنَّهم حيث لم يُسافروا للاعتبارِ جُعلوا غيرَ مسافرين فحثُّوا على ذلك . والفاءُ لعطفِ ما بعدها على مقدَّرٍ يقتضيه أي أغفِلُوا فلم يسيروا فيها { فَتَكُونَ لَهُمْ } بسبب ما شاهدُوه من موادِّ الاعتبار ومظانِّ الاستبصار { قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } يجب أنْ يُعقل من التَّوحيدِ { أَوْ ءَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } ما يجبُ أنْ يُسمع من الوحيِ أو من أخبارِ الأُممِ المُهلَكة ممَّن يُجاورهم من النَّاسِ فإنَّهم أعرف منهم بحالِهم { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار } الضَّميرُ للقصَّةِ أو مبهمٌ يفسِّرُه الأبصارُ . وفي تعمى ضمير راجعٌ إليه وقد أقيم الظَّاهرُ مُقامَه { ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور } أي ليس الخللُ في مشاعرِهم وإنَّما هو في عقولِهم باتِّباع الهَوَى والانهماكِ في الغَفْلةِ . وذكر الصُّدورِ للتَّأكيدِ ونفيِ تَوهُّمِ التَّجوزِ وفضل التَّنبيه على أنَّ العَمَى الحقيقيَّ ليس المتعارف الذي يختصُّ بالبصر ، قيل : لمَّا نزل قوله تعالى : { وَمَن كَانَ فِى هذه أعمى } قال ابنُ أُمِّ مكتومٍ : يا رسولَ الله ، أنا في الدُّنيا أعمى أفأكونُ في الآخرةِ أعمى؟
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب } كانوا منكرين لمجيءِ العذابِ المتوعَّدِ به أشدَّ الإنكارِ وإنَّما كانوا يستعجلون به استهزاءً برسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتعجيزاً له على زعمِهم فحَكَى عنهم ذلك بطريقِ التَّخطئةِ والاستنكارِ فقوله تعالى : { وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ } إمَّا جملةٌ حاليَّةٌ جيء بها لبيانِ بُطلانِ إنكارِهم لمجيئه في ضمن استعجالِهم به وإظهار خطئِهم فيه كأنَّه قيل : كيف يُنكرون مجيءَ العذابِ الموعود والحالُ أنَّه تعالى لا يُخلف وعدَه أبداً وقد سبق الوعدُ فلا بُدَّ من مجيئِه حتماً أو اعتراضيةٌ مبنيَّةٌ لمَا ذُكر . وقولُه تعالى : { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ } جملة مستأنفة إنْ كانت الأُولى حاليَّةً ومعطوفةٌ عليها إنْ كانتْ اعتراضيةً سيقت لبيان خطئِهم في الاستعجال المذكورِ ببيان كمال سَعةِ ساحةِ حلمه تعالى ووقاره وإظهار غاية ضيق عطنِهم المستتبع لكون المُدَّة القصيرةِ عنده تعالى مُدداً طوالاً عندهم حسبما ينطقُ به قوله تعالى : { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً } ولذلك يرَون مجيئَه بعيداً ويتَّخذونه ذريعةً إلى إنكاره ويجترئون على الاستعجالِ به ولا يدرون أنَّ معيار تقدير الأمور كلِّها وقوعاً وأخباراً ما عنده تعالى من المقدار . وقراءة يعدّون على صيغة الغَيبة أي يعده المستعجلون أوفقُ لهذا المعنى وقد جعل الخطابُ في القراءةِ المشهورة لهم أيضاً بطريقِ الالتفاتِ لكن الظَّاهرُ أنَّه للرسولِ عليه السَّلامُ ومن معه من المؤمنينَ ، وقيل : المرادُ بوعدِه تعالى ما جعل لهلاك كلِّ أُمَّةٍ من موعد معيَّنٍ وأجل مسمَّى كما في قوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءهُمُ العذاب }(4/472)
فتكون الجملةُ الأُولى حالية كانتْ أو اعتراضيةً مبيِّنة لبطلانِ الاستعجالِ به ببيان استحالةِ مجيئِه قبل وقته الموعود والجملةُ الأخيرةُ بياناً لبطلانه ببيانِ ابتناء على استطالةِ ما هو قصير عنده تعالى على الوجهِ الذي مرَّ بيانُه فلا يكون في النَّظمِ الكريمِ حينئذٍ تعرُّضٌ لإنكارِهم الذي دسُّوه تحت الاستعجال بل يكون الجوابُ مبنيًّا على ظاهر مقالِهم ويكتفى في ردِّ إنكارِهم ببيان عاقبةِ من قبلهم من أمثالِهم . هذا وحملُ المستعجَلِ به على عذاب الآخرة وجعلُ اليَّومِ عبارةً عن يوم العذابِ المستطال لشدَّتِه أو عن أيام الآخرةِ الطَّويلةِ حقيقةً أو المُستطالة لشدَّةِ عذابها ممَّا لا يُساعده سباقُ النَّظمِ الجليلِ ولا سياقُه فإنَّ كُلاًّ منهما ناطقٌ بأنَّ المرادَ هو العذابُ الدُّنيويُّ وأن الزَّمانَ الممتدُّ هو الذي مرَّ عليهم قبل حلولِه بطريق الإملالِ لا الزَّمانُ المقارن له ألا يُرَى إلى قوله تعالى : { وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ } الخ ، فإنه كما سلف من قوله تعالى : { فَأمْلَيْتُ للكافرين ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } صريحٌ في أنَّ المراد هو الأخذُ العاجلُ الشَّديدُ بعد الإملاء المديدِ أي وكم من أهلِ قريةٍ فحُذف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه في الإعرابِ ورجع الضَّمائرِ والأحكامِ مبالغةً في التَّعميمِ والتَّهويلِ { أَمْلَيْتُ لَهَا } كما أمليتُ لهؤلاء حتَّى أنكرُوا مجيء ما وُعدوا من العذابِ واستعجلُوا به استهزاءً برسلِهم كما فعلَ هؤلأَ { وَهِىَ ظالمة } جملةٌ حاليَّةٌ مفيدةٌ لكمال حلمِه تعالى ومشعرةٌ بطريق التَّعريضِ بظلم المستعجلينَ أي أمليتُ لها والحالُ أنَّها ظالمةٌ مستوجِبةٌ لتعجيل العقوبةِ كدأبِ هؤلاءِ { ثُمَّ أَخَذْتُهَا } بالعذاب والنَّكالِ بعد طول الإملاءِ والإمهالِ وقولُه تعالى : { وَإِلَىَّ المصير } اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبله ومصرِّحٌ بما أفاده ذلك بطريقِ التَّعريضِ من أنَّ مالَ أمر المُستعجلين أيضاً ما ذُكر من الأخذِ الوبيلِ أي إلى حُكمي مرجعُ الكُلِّ جميعاً لا إلى أحدٍ غيري لا استقلالاً ولا شركة فأفعلُ ممَّا يليقُ بأعمالِهم .
{ قُلْ ياأيها الناس إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أنذركم إنذاراً بيِّناً بما أُوحي من أنباء الأمم المهلكة من غير أن يكونَ لي دخل في إتيانِ ما تُوعدونه من العذاب حتَّى تستعجلوني به والاقتصارُ على الإنذارِ مع بيان حالِ الفريقين بعدَه لما أُشير إليه من أنَّ مساقَ الحديث للمشركين وعقابِهم وإنَّما ذُكر المؤمنون وثوابُهم زيادةً في غيظهم .(4/473)
فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
{ فالذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ } لما ندرَ منهم من الذُّنوبِ { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } هي الجنَّةُ . والكريمُ من كلِّ نوع ما يجمعُ فضائلَه ويحوزُ كمالاتِه .
{ والذين سَعَوْاْ فِى ءاياتنا معاجزين } أي سابقين أو مُسابقين في زعمِهم وتقديرهم طامعين أنَّ كيدَهم للإسلام يتمُّ لهم . وأصلُه من عاجزَهُ وعجزَه فأعجزَه إذا سابقَه فسبقَه لأنَّ كُلاًّ من المتسابقينَ يريدُ إعجازَ الآخرِ عن اللَّحاق بهِ . وقُرىء مُعجزين أي مُثبِّطينَ النَّاسَ عن الإيمان على أنَّه حالٌ مقدَّرةٌ { أولئك } الموصوفون بما ذُكر من السَّعيِ والمُعاجزة { أصحاب الجحيم } أي ملازمُوا النَّارَ المُوقدةِ ، وقيل : هو اسم دَرْكةٍ من دَرَكاتِها .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ } الرَّسولُ من بعثه الله تعالى بشريعةٍ جديدةٍ يدعُو النَّاسَ إليها ، والنَّبيُّ يعمُّه ومَن بعثه لتقريرِ شريعةٍ سابقةٍ كأنبياءِ بني إسرائيلَ الذين كانُوا بين موسى وعيسى عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ ولذلك شَبَّه عليه السَّلامُ علماءَ أُمَّتِه بهم . فالنَّبيُّ أعمُّ من الرَّسول ، ويدلُّ عليه أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ سُئل عن الأنبياءِ فقال : « مائةُ ألفٍ وأربعةٌ وعشرونَ ألفاً » قيل : فكم الرَّسولُ منهم؟ فقال : « ثلاثمائةٌ وثلاثةَ عشرَ جَمًّا غفيراً » . وقيل : الرَّسولُ من جمعَ إلى المعجزةِ كتاباً منزَّلاً عليه ، والنَّبيُّ غيرُ الرَّسولِ من لا كتابَ له . وقيل : الرَّسولُ من يأتيهِ المَلَكُ بالوحيِ ، والنَّبيُّ يقال لَه ولمن يُوحى إليهِ في المنامِ { إِلاَّ إِذَا تمنى } أي هيَّأ في نفسِه ما يهواه { أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ } في تشهِّيه ما يُوجب اشتغالَه بالدُّنيا كما قال عليه السَّلامُ : « وإنَّه ليُغانُ على قَلبي فأستغفرُ الله في اليَّومِ سبعينَ مَرَّة » { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان } فيُبطله ويذهبُ به بعصمتِه عن الرُّكونِ إليه وإرشادِه إلى ما يُزيحه { ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته } أي يُثبت آياتِه الدَّاعية إلى الاستغراق في شؤون الحقِّ . وصيغةُ المضارع في الفعلينِ للدِّلالةِ على الاستمرار التَّجدُّدي . وإظهارُ الجلالة في موقعِ الإضمارِ لزيادةِ التَّقريرِ والإيذانِ بأنَّ الأُلوهيَّةَ من موجباتِ أحكامِ آياتِه الباهرةِ { والله عَلِيمٌ } مبالغٌ في العلمِ بكلِّ ما من شأنِه أنْ يُعلم ومن جُملتِه ما صدرَ عن العبادِ من قولٍ وفعلٍ عمداً أو خطأ { حَكِيمٌ } في كلِّ ما يفعلُ . والإظهارُ هاهنا أيضاً لما ذُكر مع ما فيه من تأكيد استقلالِ الاعتراضِ التَّذييليِّ ، قيل : حدَّث نفسَه بزوال المسكنةِ فنزلتْ ، وقيل : تمنَّى لحرصِه على إيمان قومِه أنْ ينزل عليه ما يُقرِّبهم إليه واستمرَّ به ذلك حتَّى كان في ناديهم فنزلتْ عليه سورةُ النَّجم فأخذَ يقرؤها فلمَّا بلغَ ومناةَ الثَّالثةَ الأُخرى وسوسَ إليه الشَّيطانُ حتَّى سبق لسانُه سهواً إلى أنْ قال تلكَ الغرانيقُ العُلا وإنَّ شفاعتهنَّ لتُرتجى ففرح به المشركون حتَّى شايعُوه بالسُّجودِ لمَّا سجدَ في آخرِها بحيث لم يبقَ في المسجد مؤمنٌ ولا مشركٌ إلاَّ سجد ثم نبَّهه جَبريل عليه السلام فاغتمَّ به فعزَّاه الله عزَّ وجلَّ بهذه الآيةِ وهو مردودٌ عند المحقِّقين ولئن صحَّ فابتلاءٌ يتميَّز به الثَّابتُ على الإيمانِ عن المتزلزلِ فيه ، وقيل : تمنَّى بمعنى قرأ كقوله(4/474)
تمنَّى كتابَ الله أوَّلَ ليلة ... تمنِّيَ داودَ الزَّبورَ على رسلِ
وأمنيَّتُه قراءتُه وإلقاءُ الشَّيطانِ فيها أنْ يتكلَّم بذلك رافعاً صوتَه بحيثُ ظنَّ السَّامعون أنَّه من قراءة النَّبيِّ عليه السَّلامُ وقد رُدَّ بأنه أيضاً يخلُّ بالوثوقِ بالقُرآنِ ولا يندفعُ بقولِه تعالى : { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته } لأنَّه أيضاً يحتملُه ، وفي الآيةِ دلالةٌ على جوازِ السَّهو من الأنبياءِ عليهم السلام وتطرق الوسوسةِ إليهم .(4/475)
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
{ لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشيطان } علَّة لما يُنبىء عنه ما ذُكر من إلقاءِ الشَّيطان من تمكينه تعالى إيَّاهُ من ذلك في حقِّ النبيِّ عليه السلام خاصَّة كما يعرب عنه سياقُ النَّظمِ الكريم لما أنَّ تمكينَه تعالى إيَّاهُ من الإلقاء في حقِّ سائر الأنبياء عليهم السَّلامُ لا يمكن تعليلُه بما سيأتي وفيه دلالةٌ على أنَّ ما يُلقيه أمر ظاهرٌ يعرفه المحقُّ والمبطل { فِتْنَةً لّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي شكٌّ ونفاق كما في قوله تعالى : { فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } الآيةَ { والقاسية قُلُوبُهُمْ } أي المشركين { وَإِنَّ الظالمين } أي الفريقينِ المذكورينِ ، فوضعُ الظَّاهرِ موضعَ ضميرهم تسجيلاً عليهم بالظُّلمِ مع ما وُصفوا به من المرض والقساوةِ { لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أي عداوةٍ شديدةٍ ومخالفةٍ تامَّةٍ ، ووصفُ الشِّقاقِ بالبُعد مع أنَّ الموصوفَ به حقيقةٌ هو معروضة للمبالغةِ والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله .
{ وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ } أي القرآنَ { الحق مِن رَّبّكَ } أي هو الحقُّ النَّازل من عنده تعالى ، وقيل : ليعلمُوا أنَّ تمكينَ الشَّيطانِ من الإلقاءِ هو الحقُّ المتضمنُ للحكمةِ البالغة والغايةِ الجميلةِ لأنَّه ممَّا جرتْ به عادتُه في جنس الإنس من لَدُن آدمَ عليه السلام فحينئذٍ لا حاجة إلى تخصيصِ التَّمكينِ فيما سبق بالإلقاءِ في حقِّه عليه السَّلامُ لكن يأباه قولُه تعالى : { فَيُؤْمِنُواْ بِهِ } أي بالقرآنِ أي يثبتوا على الإيمانِ به أو يزدادوا إيماناً بردِّ ما يُلقي الشَّيطانُ { فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ } بالانقياد والخشية والإذعانِ لما فيه من الأوامرِ والنَّواهي ، ورجعُ الضَّميرِ لا سيَّما الثَّاني إلى تمكينِ الشَّيطانِ من الإلقاء ممَّا لا وجه له { وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين ءَامَنُواْ } أي في الأمورِ الدِّينيةِ خُصوصاً في المداحض والمشكلاتِ التي من جُملتها ما ذكر { إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } هو النَّظرُ الصحيحُ الموصل إلى الحقِّ الصَّريحِ والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبله .
{ وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ } أي في شكَ وجدال { مِنْهُ } أي من القرآن وقيل : من الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم والأَوَّلُ هو الأظهرُ بشهادة ما سبقَ من قوله تعالى : { ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته } وقوله تعالى : { أَنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ } وما لحقَ من قوله تعالى : { وَكَذَّبُواْ بئاياتنا } وأمَّا تجويزُ كون الضَّميرِ لما ألقى الشَّيطانُ في أمنيَّتِه فممَّا لا مساغ له لأنَّ ذلك ليس من هَنَاتِهم التي تستمرُّ إلى الأمدِ المذكورِ بل إنَّما هي مريتُهم في شأن القُرآن ولا يُجدي حملُ مِن على السَّببيةِ دون الابتدائيَّةِ لما أنَّ مريتهم المستمرَّةَ كما أنَّها ليست مبتدأةً من ذلك ليست ناشئةً منه ضرورةَ أنَّها مستمرَّة منهم من لَدُن نزول القرآن الكريم .
{ حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة } أي القيامةُ نفسُها كما يُؤذن قوله تعالى : { بَغْتَةً } أي فجأةً فإنَّها الموصوفةُ بالإتيان كذلك لا أشراطُها وقيل : الموت { أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } أي يومٌ لا يومَ بعده كأنَّ كلَّ يوم يلدُ ما بعده من الأيَّامِ فما لا يومَ بعده يكون عقيماً .(4/476)
والمرادُ به السَّاعةُ أيضاً كأنَّه قيل : أو يأتيَهم عذابُها فوضع ذلك موضعَ ضميرِها لمزيد التَّهويلِ ولا سبيل إلى حمل السَّاعةِ على أشراطِها لما عرفتَه . وأمَّا ما قيل من أنَّ المراد يومُ حربٍ يُقتلون فيه كيومِ بدرٍ سُمِّي به لأنَّ أولاد النِّساء يُقتلون فيه فيصِرْن كأنهنَّ عُقُمٌ لم يلدن أو لأنَّ المقاتلين أبناءُ الحرب فإذا قُتلوا صارتْ عقيماً أي ثَكْلى فوصف اليَّومُ بوصفها اتِّساعاً أو لأنَّه لا خيرَ لهم فيه ومنه الرِّيحُ العقيمُ لما لم يُنشىء مطراً ولم يلقح شَجراً أو لأنَّه لا مثلَ له لقتال الملائكةِ عليهم السَّلامُ فيه فممَّا لا يساعده سياقُ النَّظمِ الكريمِ أصلاً كيفَ لا وإنَّ تخصيصَ الملك والتَّصرفِ الكُليِّ فيه بالله عزَّ وجلَّ ثم بيانَ ما يقع فيه من حكمِه تعالى بين الفريقينِ بالثَّواب والعذابِ الأُخرويينِ يقضي بأنَّ المرادَ به يومُ القيامةِ قضاءً بيِّناً لا ريبَ فيه .(4/477)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
{ الملك } أي السُّلطانُ القاهرُ والاستيلاء التَّامُّ والتَّصرُّفُ على الإطلاقِ { يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } وحدَه بلا شريكٍ أصلاً بحيث لا يكونُ فيه لأحدٍ تصرُّفٌ من التَّصرُّفاتِ في أمرٍ من الأمورِ لا حقيقةً ولا مجازاً ولا صورةً ولا معنى كما في الدُّنيا فإنَّ للبعضِ فيها تصرُّفاً صُورياً في الجملة وليس التَّنوينُ نائباً عمَّا تدلُّ عليه الغايةُ من زوالِ مريتهم كما قيل ولا عمَّا يستلزمه ذلك من إيمانهم كما قيل لما أنَّ القيدَ المعتبر مع اليَّومِ حيث وُسِّط بين طرفَيْ الجملة يجب أنْ يكون مداراً لحكمها أعني كون الملكِ لله عزَّ وجلَّ وما يتفرَّعُ عليه من الإثابة والتَّعذيبِ ولا ريبَ في أنَّ إيمانَهم أو زوالَ مريتهم ليس ممَّا له تعلُّقٌ بما ذُكر فضلاً عن المداريةِ له فلا سبيل إلى اعتبارِ شيءٍ منهما مع اليَّومِ قطعاً وإنَّما الذي يدورُ عليه ما ذُكر إتيانُ السَّاعةِ التي هي مُنتهى تصرُّفاتِ الخلق ومبدأُ ظهور أحكام المَلك الحقِّ جلَّ جلالُه فإذن هو نائبٌ عن نفس الجملة الواقعة غايةً لمريتهم فالمعنى : الملكُ يوم إذْ تأتيهم السَّاعةُ أو عذابُها لله تعالى . وقولُه تعالى : { يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } جملةٌ مستأنفة وقعت جواباً عن سؤال نشأَ من الأخبار بكونِ الملكِ يومئذٍ لله كأنَّه قيل : فماذا يُصنع بهم حينئذٍ؟ فقيل : يحكم بين فريقِ المؤمنينَ به والمُمارينَ فيه بالمجازاةِ . وقوله تعالى : { فالذين ءامَنُواْ } الخ ، تفسير للحُكم المذكور وتفصيلٌ له أي فالذين آمنُوا بالقرآن الكريم ولم يُماروا فيه { وَعَمِلُواْ الصالحات } امتثالاً بما أُمروا في تضاعيفِه { فِي جنات النعيم } أي مستقرُّون فيها .
{ والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا } أي أصرُّوا على ذلك واستمرُّوا { فَأُوْلَئِكَ } إشارةٌ إلى الموصولِ باعتبار اتِّصافِه بما في حيِّز الصِّلةِ من الكفر والتَّكذيبِ وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ ببعد منزلتهم في الشَّرِّ والفساد أي أولئك الموصُوفون بما ذُكر من الكفر والتَّكذيبِ وهو مبتدأٌ وقوله تعالى : { لَهُمْ عَذَابَ } جملةٌ اسميَّةٌ من مبتدأ وخبرٍ مقدَّمٍ عليه وقعت خبر لأولئك أو لهم خبرٌ لأولئك وعذابٌ مرتفعٌ على الفاعلية بالاستقرارِ في الجارِّ والمجرور لاعتمادِه على المبتدأ وأولئك مع خبرِه على الوجهينِ خبرٌ للموصولِ وتصديرُه بالفاء للدِّلالةِ على أنَّ تعذيب الكفَّارِ بسبب أعمالِهم السَّيئةِ كما أنَّ تجريدَ خبرِ الموصول الأوَّلِ عنها للإيذانِ بأنَّ إثابة المؤمنينَ بطريق التَّفضُّلِ لا لإيجاب الأعمال الصَّالحةِ إيَّاها . وقولُه تعالى : { مُّهِينٌ } صفة لعذابٌ مؤكِّدة لما أفاده التَّنوينُ من الفخامةِ وفيه من المبالغةِ من وجوهٍ شتَّى ما لا يخفى .(4/478)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
{ والذين هَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ الله } أي في الجهادِ حسبما يلوحُ به قوله تعالى : { ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ } أي في تضاعيف المُهاجرة . ومحلُّ الموصول الرَّفعُ على الابتداء وقوله تعالى : { لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله } جواب لقسم محذوفٍ والجملةُ خبرُه ومن منع وقوعَ الجملةِ القسميَّةِ وجوابِها خبراً للمبتدأ يُضمر قولاً هو الخبرُ والجملةُ محكمية . وقوله تعالى : { رِزْقًا حَسَنًا } إمَّا مفعول ثانٍ على أنَّه من باب الرَّعي والذَّبحِ أي مَرزوقاً حسناً أو مصدرٌ مؤكِّد والمراد به ما لا ينقطعُ أبداً من نعيمِ الجنَّةِ وإنَّما سوى بينهما في الوعدِ لاستوائهما في القصد . وأصلُ العمل على أن مراتبَ الحُسنِ متفاوتةٌ فيجوزُ تفاوتُ حال المرزوقينَ حسب تفاوت الأرزاقِ الحسنةِ . ورُوي أنَّ بعضَ أصحابِ النَّبيِّ عليه السَّلامُ قالوا : يا نبيَّ الله هؤلاءِ الذين قُتلوا في سبيلِ الله قد علمنا ما أعطاهُم الله تعالى من الخيرِ ونحنُ نجاهد معك كما جاهدُوا فما لنا إنْ مُتنا معك فنزلتْ . وقيل : نزلتْ في طوائفَ خرجُوا من مكَّةَ إلى المدينةِ للهجرةِ فتبعهم المشركونَ فقاتلُوهم { وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرزقين } فإنَّه يرزق بغير حسابٍ مع أنَّ ما يرزقه لا يقدِرُ عليه أحدٌ غيرُه والجملة اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ لما قبله وقوله تعالى : { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ } بدلٌ من قوله تعالى : { لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله } أو استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمونه . ومُدخلاً إمَّا اسمُ مكانٍ أُريد به الجنَّة فهو مفعول ثانٍ للإدخال أو مصدرٌ ميميٌّ أُكِّد به فعلُه . قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : إنَّما قيل يَرضونه لما أنَّهم فيها يَرون ما لا عينٌ رأتْ لا أذنٌ سمعتْ ولا خَطَر على قلبِ بشرٍ فيرضونه { وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ } بأحوالِهم وأحوالِ معاديهم { حَلِيمٌ } لا يُعاجلهم بالعقوبة .
{ ذلك } خبرُ مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك والجملةُ لتقرير ما قبله والتَّنبيهِ على أنَّ ما بعده كلامٌ مستأنفٌ { وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ } أي لم يَزد في الاقتصاصِ وإنَّما سُمِّي الابتداءُ بالعقابِ الذي هو جزاءُ الجنايةِ للمشاكلةِ أو لكونِه سبباً له { ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ } بالمعاودة إلى العُقوبة { لَيَنصُرَنَّهُ الله } على مَن بغى عليه لا محالة { إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } أي مبالغٌ في العفوِ والغُفرانِ فيعفُو عن المنتصرِ ويغفرُ له ما صدرَ عنه من ترجيحِ الانتقامِ على العفوِ والصبرِ المندوبِ إليهما بقوله تعالى : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ } أي ما ذُكر من الصَّبرِ والمغفرةِ { لَمِنْ عَزْمِ الأمور } فإنَّ فيه حثًّا بليغاً على العفوِ والمغفرةِ فإنَّه تعالى مع كمالِ قُدرتِه لمَّا كانَ يعفُو ويغفُر فغيرُه أَوْلى بذلك وتنبيهاً على أنَّه تعالى قادرٌ على العقوبةِ إذ لا يُوصف بالعفوِ إلاَّ القادرُ على ضدِّهِ .(4/479)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)
{ ذلك } إشارةٌ إلى النَّصر وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ بعلوِّ رُتبته . ومحلُّه الرَّفعُ على الابتداءِ خبرُه قوله تعالى : { بِأَنَّ الله يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى اليل } أي بسببِ أنَّه تعالى من شأنِه وسُنَّتِه تغليبُ بعض مخلوقاته على بعضٍ والمداولةُ بين الأشياءِ المتضادَّةِ وعبَّر عن ذلك بإدخالِ أحدِ المَلَوين في الآخرِ بأنْ يزيد فيه ما يُنقص عن الآخرِ أو بتحصيلِ أحدِهما في مكانِ الآخرِلكونِه أظهرَ الموادِّ وأوضحَها { وَأَنَّ الله سَمِيعٌ } بكلِّ المسموعاتِ التي من جُملتها قول المعاقِبِ { بَصِيرٌ } بجميع المُبصراتِ ومن جُملتها أفعاله .
{ ذلك } أي الاتِّصافُ بما ذُكر من كمالِ القُدرةِ والعلمِ وما فيه من معنى البُعد لما مَرَّ آنِفاً وهو مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى : { بِأَنَّ الله هُوَ الحق } الواجبُ لذاته الثَّابتُ في نفسِه وصفاتِه وأفعالِه وحدَهُ فإنَّ وجوبَ وجودِه ووحدتِه يقتضيانِ كونَه مبدأً لكُلِّ ما يُوجدُ من الموجوداتِ عالِماً بكلِّ المعلوماتِ أو الثَّابتُ إلهية فلا يصلحُ إلاَّ مَن كان عالماً قادراً { وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } إلها . وقُرىء على البناءِ للمفعولِ على أنَّ الواوَ لما فاته عبارة عن الآلهةِ . وقُرىء بالتَّاءِ على خطابِ المُشركين { هُوَ الباطل } أي المعدومُ في حدِّ ذاتِه أو الباطلُ ألوهيَّتُه { وَأَنَّ الله هُوَ العلى } على جميعِ الأشياءِ { الكبير } عن أنْ يكون له شريكٌ لا شيء أعلى منه شأناً وأكبر سلطاناً .
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء } استفهامٌ تقريريٌّ كما يفصح عنه الرَّفعُ في قوله تعالى : { فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً } بالعطف على أنزلَ ، وإيثار صيغةَ الاستقبالِ للإشعارِ بتجدُّدِ أثرِ الإنزالِ واستمرارِه أو لاستحضارِ صورةِ الاخضرارِ { إِنَّ الله لَطِيفٌ } يصل لطفُه أو علمُه ألى كلِّ ما جلَّ ودقَّ { خَبِيرٌ } بما يليقُ من التَّدابيرِ الحسنةِ ظاهراً وباطناً .
{ لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض } خَلْقاً ومُلْكاً وتصَرُّفاً { وَإِنَّ الله لَهُوَ الغنى } عن كلِّ شيءٍ { الحميد } المستوجبُ للحمدِ بصفاته وأفعاله .
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى الأرض } أي جعلَ ما فيها من الأشياءِ مذلَّلةً لكم معدَّةً لمنافعكم تتصرَّفون فيها كيفَ شئتُم فلا أصلبَ من الحجرِ ولا أشدَّ من الحديدِ ولا أهيبَ من النَّارِ وهي مسخَّرةٌ لكم . وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعولِ الصَّريحِ لما مرَّ مراراً من الاهتمامِ بالمقدَّمِ لتعجيل المسرَّةِ والتِّشويقِ إلى المؤخَّرِ { والفلك } عطفٌ على مَا ، أو على اسمِ أنَّ . وقُرىء بالرَّفعِ على الابتداء { تَجْرِى فِى البحر بِأَمْرِهِ } حالٌ من الفلك على الأوَّلِ وخبرٌ على الأخيرينِ { وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض } أي من أن تقعَ أو كراهةَ أن تقع بأنْ خلقَها على هيئةٍ متداعيةٍ إلى الاستمساك { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } أي بمشيئته وذلك يومُ القيامةِ وفيه ردٌّ لاستمساكها بذاتها فإنَّها مساويةٌ في الجسميَّةِ لسائر الأجسامِ القابلةِ للميلِ الهابط فتقبله كقبولِ غيرِها { إِنَّ الله بالناس لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } حيث هيَّأ لهم أسبابَ معاشِهم وفتحَ عليهم أبوابَ المنافعِ وأوضح لهم مناهجَ الاستدلالِ بالآيات التَّكوينيةِ والتَّنزيليةِ .(4/480)
وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)
{ وَهُوَ الذى أَحْيَاكُمْ } بعد أنْ كنتُم جماداً عناصرَ ونطفاً حسبما فُصِّل في مطلع السُّورةِ الكريمة { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } عند مجيء آجالِكم { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } عند البعثِ { إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ } أي جَحودٌ للنِّعمِ مع ظهورِها وهذا وصف للجنس بوصف بعضِ أفرادِه .
{ لِكُلّ أُمَّةٍ } كلام مستأنف جِيء به لزجر معاصريه عليه السَّلامُ من أهل الأديان السَّماويةِ عن منازعته عليه السَّلامُ ببيان حالِ ما تمسكوا به من الشَّرائع وإظهارِ خطئِهم في النَّظرِ أي لكلِّ أمةٍ معيَّنةٍ من الأممِ الخاليةِ والباقيةِ { جَعَلْنَا } أي وضعنَا وعيَّنا { مَنسَكًا } أي شريعةً خاصَّةً لا لأمةٍ أُخرى منهم على معنى عيَّنا كلَّ شريعةٍ لأمةٍ معيَّنةٍ من الأمم بحيث لا تتخطَّى أمةٌ منهم شريعتَها المعيَّنةَ لها إلى شريعةٍ أُخرى لا استقلالاً ولا اشتراكاً . وقوله تعالى : { هُمْ نَاسِكُوهُ } صفة لمَنْسكاً مؤكِّدةٌ للقصر المستفادِ من تقديم الجارِّ والمجرور على الفعل ، والضَّميرُ لكلِّ أمةٍ باعتبار خصُوصها أي تلك الأُمَّةُ المعيَّنةُ ناسكوه والعاملون به لا أمةٌ أُخرى فالأمةُ التي كانت من مبعث مُوسى عليه السَّلامُ إلى مبعث عيسَى عليه السَّلامُ منسَكُهم التَّوراةُ هم ناسكوها والعاملونَ بها لا غيرُهم والتي كانت من مَبعثِ عيسى إلى مبعثِ النبيِّ عليهما السَّلامُ منسكُهم الإنجيلُ هم ناسكُوه والعاملون به لا غيرُهم وأما الأمَّةُ الموجودةُ عند مبعثِ النبيِّ عليه السَّلامُ ومن بعدهم من الموجودينَ إلى يومِ القيامةِ فهُم أمةٌ واحدةٌ منسكهم الفرقانُ ليس إلاَّ كما مرَّ في تفسيرِ قوله تعالى : { لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا } والفاء في قوله تعالى : { فَلاَ ينازعنك فِى الأمر } لترتيبِ النَّهيِ أو موجبِه على ما قبلها فإنَّ تعيينَه تعالى لكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم التي من جُملتهم هذه الأمةُ شريعةً مستقلَّةً بحيث لا تتخطَّى أُمَّةٌ منهم شريعتَها المعيَّنةَ لها موجبٌ لطاعةِ هؤلاء لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وعدمِ منازعتِهم إيَّاهُ في أمرِ الدِّينِ زعماً منهم أنَّ شريعتَهم ما عُيِّن لآبائِهم الأوَّلينَ من التَّوراةِ والإنجيلِ فإنَّهما شريعتانِ لمن مَضَى من الأمم قبل انتساخِها وهؤلاء أمةٌ مستقلَّةٌ منسكهم القرآنُ المجيد فحسب ، والنَّهيُ إمَّا على حقيقتِه أو كنايةٌ عن نهيِه عليه السَّلامُ عن الالتفات إلى نزاعهم المنبىءِ على زعمهم المذكورِ ، وأما جعله عبارةً عن نهيِه عليه السَّلامُ عن منازعتهم فلا يساعدُه المقامُ . وقُرىء فلا ينزعنَّك على تهييجِه عليه السَّلامُ والمبالغةِ في تثبيتِه ، وأيًّا ما كان فمحلُّ النِّزاعِ ما ذكرناهُ وتخصيصُه بأمر النَّاسكِ وجعلُه عبارةً عن قول الخُزاعيين وغيرِهم للمسلمينَ : ما لكم تأكُلون ما قتلتُم ولا تأكُلون ما قتلَه الله تعالى ممَّا لا سبيلَ إليهِ أصلاً كيف لا وأنَّه يستدعِي أن يكونَ أكلُ الميتةِ وسائرُ ما يدينونَه من الأباطيلِ من جملة المناسكِ التي جعلها الله تعالى لبعضِ الأُممِ ولا يرتابُ في بُطلانِه عاقلٌ . { وادع } أي وادعُهم أو وادعُ النَّاسَ كافَّةً على أنَّهم داخلون فيهم دُخولاً أوليًّا { إلى رَبّكَ } إلى توحيدِه وعبادتِه حسبما بُيِّن لهم في منسكِهم وشريعتِهم { إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ } أي طريقٍ موصِّلٍ إلى الحقِّ سويّ ، والمرادُ به إما الدِّينُ والشَّريعةُ أو أدلَّتُهما .(4/481)
وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
{ وَإِن جادلوك } بعد ظهورِ الحقِّ بما ذُكر من التَّحقيق ولزومِ الحُجَّةِ عليهم { فَقُلْ } لهم على سبيل الوعيدِ { الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } من الأباطيلِ التي من جُملتها المجادلةُ .
{ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } يفصل بين المؤمنين منكُم والكافرينَ { يَوْمُ القيامة } بالثَّوابِ والعقابِ كما فصَل في الدُّنيا بالحججِ والآياتِ { فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من أمرِ الدِّينِ .
{ أَلَمْ تَعْلَمْ } استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله ، والاستفهامُ للتَّقرير أي قد علمتَ { أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السماء والأرض } فلا يخفى عليه شيءٌ من الأشياء التي من جُملتها ما يقوله الكَفَرةُ وما يعملونَهُ { إِنَّ ذلك } أي ما في السَّماءِ والأرضِ { فِى كتاب } هو اللَّوحُ قد كُتب فيه قبل حدوثِه فلا يُهمنَّك أمرُهم مع علمِنا به وحفظِنا له { إِنَّ ذلك } أي ما ذُكر من العلمِ والإحاطةِ به وإثباتِه في اللَّوحِ أو الحكم بينكم { عَلَى الله يَسِيرٌ } فإنَّ علمَه وقدرتَه مُقتضى ذاتِه فلا يَخْفى عليه شيءٌ ولا يعسرُ عليه مقدورٌ .
{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } حكايةٌ لبعض أباطيلِ المشركينَ وأحوالِهم الدَّالَّةِ على كمال سخافةِ عقولِهم وركاكةِ آرائِهم من بناء أمرِ دينِهم على غيرِ مَبْنى من دليلٍ سمعيَ أو عقليَ وإعراضِهم عمَّا أُلقي عليهم من سلطانٍ بيِّنٍ هو أساسُ الدِّينِ وقاعدتُه أشدَّ إعراضٍ أي يعبدُون متجاوزينَ عبادةَ الله { مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ } أي بجوازِ عبادتِه { سلطانا } أي حجَّةً { وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ } أي بجواز عبادتِه { عِلْمٍ } من ضرورة العقلِ أو استدلاله { وَمَا للظالمين } أي الذينَ ارتكبُوا مثل هذا الظُّلمِ العظيمِ الذي يقضي ببطلانِه وكونِه ظُلماً بديهةُ العقولِ { مِن نَّصِيرٍ } يساعدُهم بنصرةِ مذهبِهم وتقريرِ رأيهم أو بدفعِ العذابِ الذي يعتريهم بسببِ ظلمِهم .(4/482)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
{ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا } عطفٌ على يعبدونَ وما بينهما اعتراضٌ . وصيغة المضارعِ للدِّلالةِ على الاستمرارِ التَّجدُّدِي { بينات } أي حالَ كونِها واضحاتِ الدِّلالةِ على العقائدِ الحَقَّةِ والأحكام الصَّادقةِ أو على بُطلانِ ما هم عليه من عبادةِ الأصنامِ أو على كونِها من عند الله عزَّ وجلَّ { تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر } أي الإنكارَ كالمُكرَم بمعنى الإكرامِ أو الفظيعَ من التَّجهمِ والبُسورِ أو الشَّرِّ الذي يقصدونَهُ بظهورِ مخايلِه من الأوضاعِ والهيئاتِ وهو الأنسبُ بقوله تعالى : { يكادون يَسْطُونَ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءاياتنا } أي يَثِبُون ويبطِشُون بهم من فرط الغيظِ والغضبِ لأباطيلَ أخذُوها تقليداً وهل جهالةٌ أعظمُ وأطمُّ من أنْ يعبدُوا ما لا يوهم صحَّةَ عبادتِه شيءٌ ما أصلاً بل يقضي ببطلانِها العقلُ والنَّقلُ ويظهروا لمن يهديهم إلى الحقِّ البيِّنِ بالسُّلطانِ المُبينِ مثلَ هذا المنكرِ الشَّنيعِ كَلاَّ ولهذا وضعَ الذين كفروا موضعَ الضَّميرِ .
{ قُلْ } ردًّا عليهم وإقناطاً عما يقصدونَه من الإضرارِ بالمسلمينَ { أَفَأُنَبّئُكُم } أي أأخاطبُكم فأخبرُكم { بِشَرّ مّن ذلكم } الذي فيكم من غيظكم على التَّالينَ وسطوتِكم بهم أو مما تبغونَهم من الغوائلِ أو مما أصابكم من الضَّجرِ بسبب ما تلَوه عليكم { النار } أي هو النَّارُ على أنَّه جوابٌ لسؤالٍ مقدَّرٍ كأنَّه قيل : ما هُو؟ وقيل : هو مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى : { وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ } وقُرىء النَّارَ بالنَّصبِ على الاختصاص وبالجرِّ بدلاً من شرَ فتكون الجملةُ الفعليةُ استئنافاً كالوجهِ الأول أو حالاً من النَّارِ بإضمار قَدْ { وَبِئْسَ المصير } النار .
{ المصير يأَيُّهَا الناس ضُرِبَ مَثَلٌ } أي بُيِّن لكم حالٌ مستغربةٌ أو قصَّةٌ بديعةٌ رائعةٌ حقيقةٌ بأنْ تُسمَّى مثلاً وتسيرَ في الأمصارِ والأعصارِ أو جُعل لله مثلٌ أي مثل في استحقاقِ العبادةِ وأُريد بذلك ما حُكي عنهم من عبادتِهم للأصنامِ { فاستمعوا لَهُ } أي للمثلِ نفسِه استماعَ تدبر وتفكُّرٍ أو فاستمعُوا لأجلِه ما أقولُ فقوله تعالى : { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } الخ ، بيانٌ للمثل وتفسيرٌ له على الأوَّلِ وتعليلٌ لبطلان جعلهم الأصنامَ مثلَ الله سبحانه في استحقاق العبادةِ على الثَّاني وقُرىء بياء الغَيبةِ مبنيًّا للفاعلِ ومبنيًّا للمفعولِ والرَّاجع إلى الموصولِ على الأولين محذوفٌ { لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً } أي لن يقدروا على خلقه أبداً مع صغره وحقارتِه فإنَّ ( لن ) بما فيها من تأكيد النَّفيِ دالَّةٌ على مُنافاة ما بين المنفيِّ والمنفيِّ عنه { وَلَوِ اجتمعوا لَهُ } أي لخلقه وجواب لو محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه والجملةُ معطوفةٌ على شرطيةٍ أُخرى محذوفةٍ ثقةً بدلالة هذه عليها أي لو لم يجتمعوا عليه لن يخلقُوه ولو اجتمعُوا له لن يخلقُوه كما مرَّ تحقيقُه مراراً وهما في موضع الحالِ كأنَّه قيل : لن يخلقُوا ذُباباً على كلِّ حالٍ { وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً } بيان لعجزهم عن الامتناع عمَّا يفعل بهم الذُّبابُ بعد بيانِ عجزِهم عن خلقِه أي إنْ يأخذِ الذُّبابُ منهم شيئاً { لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ } مع غايةِ ضعفِه ولقد جُهلوا غايةَ التَّجهيلِ في إشراكِهم بالله القادرِ على جميع المقدوراتِ المتفرِّدِ بإيجاد كافةِ الموجوداتِ تماثيلَ هي أعجزُ الأشياءِ وبين ذلك بأنَّها لا تقدرُ على أقل الأحياءِ وأذلِها ولو اتَّفقُوا عليه بل لا تقوى على مقاومةِ هذا الأقلِ الأذلِّ وتعجز عن ذبِّه عن نفسِها واستنقاذِ ما يختطفُه منها .(4/483)
قيل : كانُوا يطيِّبونها بالطِّيبِ والعسلِ ويُغلقون عليها الأبوابَ فيدخل الذُّبابُ من الكُوى فيأكلُه { ضَعُفَ الطالب والمطلوب } أي عابدُ الصَّنمِ ومعبودُه أو الذُّبابُ الطَّالبُ لما يسلبُه من الصَّنمِ من الطِّيبِ والصَّنمُ المطلوبُ منه ذلك أو الصَّنمُ والذُّبابُ كأنَّه يطلبه ليستنقذَ منه ما يسلبه ولو حقَّقتَ وجدتَ الصَّنمَ أضعفَ من الذُّبابِ بدرجاتٍ وعابدَه أجهلَ من كلِّ جاهلٍ وأضلَّ من كلِّ ضالَ .(4/484)
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
{ مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } أي ما عرفُوه حقَّ معرفتِه حيث أشركُوا به وسمَّوا باسمه ما هو أبعدُ الأشياءِ عنه مناسبةً { إِنَّ الله لَقَوِىٌّ } على خلق الممكناتِ بأسرها وإفناءِ الموجوداتِ عن آخرها { عَزِيزٌ } غالبٌ على جميع الأشياءِ وقد عرفتَ حالَ آلهتِهم المقهورةِ لأذلها العجزة عن أقلها والجملةُ تعليلٌ لما قبلها من نفيِ معرفتهم له تعالى .
{ الله يَصْطَفِى مِنَ الملائكة رُسُلاً } يتوسَّطون بينَه تعالى وبينَ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ بالوحيِ { وَمِنَ الناس } وهم المختصُّون بالنُّفوسِ الزَّكيَّةِ المؤيِّدونَ بالقُوَّة القدسيةِ المتعلِّقون بكلا العالمينِ الرُّوحانيِّ والجُسمانيِّ يتلقَون من جانبٍ ويلقون إلى جانبٍ ولا يعوقهم التَّعلقُ بمصالح الخلقِ عن التَّبتل إلى جانب الحقِّ فيدعونَهم إليه تعالى بما أنزل عليهم ويعلِّمونهم شرائعَه وأحكامَه كأنَّه تعالى لمَّا قرَّر وحدانيَّتَه في الأُلوهية ونفى أنْ يشاركَه فيها شيءٌ من الأشياء بيَّن أنَّ له عباداً مُصطفَين للرِّسالة يُتوسل بإجابتهم والاقتداءِ بهم إلى عبادته عزَّ وجلَّ وهو أعلى الدَّرجاتِ وأقصى الغاياتِ لمن عداه من الموجوداتِ تقريراً للنُّبوة وتزييفاً لقولِهم : { لَوْ شَاء الله لأَنزَلَ ملائكة } وقولهم : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفى } وقولهم : الملائكةُ بناتُ الله وغيرِ ذلك من الأباطيلِ { إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } عليم بجميعِ المسموعاتِ والمبصراتِ فلا يَخْفى عليه شيءٌ من الأقوالِ والأفعالِ .
{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } لا إلى أحدٍ غيرِه لا اشتراكاً ولا استقلالاً .
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اركعوا واسجدوا } أي في صلواتِكم أمرَهم بهما لمَا أنَّهم ما كانُوا يفعلونَهما أوَّلَ الإسلامِ أو صلُّوا عبر عن الصَّلاةِ بهما لأنَّهما أعظمُ أركانِها أو اخضعُوا لله تعالى وخِرُّوا له سُجدَّا { وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ } بسائر ما تعبَّدكم به { وافعلوا الخير } وتحرَّوا ما هو خيرٌ وأصلحُ في كلِّ ما تأتون وما تذرونَ كنوافلِ الطَّاعاتِ وصلةِ الأرحامِ ومكارمِ الأخلاقِ { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي افعلُوا هذه كلَّها وأنتُم راجُون بها الفلاحَ غيرَ متيقنينَ له واثقينَ بأعمالكم . والآيةُ آيةُ سجدةٍ عند الشَّافعيِّ رحمه الله لظاهر ما فيها من الأمر بالسُّجود ولقوله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « فُضِّلتْ سورةُ الحجِّ بسجدتينِ مَن لم يسجدْهُما فلا يقرأها » .(4/485)
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
{ وجاهدوا فِى الله } أي لله تعالى ولأجلِه أعداءَ دينِه الظاهرة كأهلِ الزَّيغِ والباطنةِ كالهَوَى والنَّفسِ وعنه عليه الصَّلاة والسَّلام أنَّه رجعَ من غزوةِ تبوكَ فقال : « رجعنا من الجهادِ الأصغرِ إلى الجهادِ الأكبرِ » { حَقَّ جهاده } أي جهاداً فيه حقًّا خالصاً لوجهه فعكسَ وأضيف الحقُّ إلى الجهادِ مبالغةً كقولِك : هو حقٌّ عالمٌ وأُضيف الجهادُ إلى الضَّمير اتِّساعاً أو لأنَّه مختصٌّ به تعالى من حيثُ أنَّه مفعولٌ لوجهِه ومن أجلِه { هُوَ اجتباكم } أي هو اختاركُم لدينِه ونصرتِه لا غيرُه وفيه تنبيهٌ على ما يقتضي الجهادَ ويدعُو إليه { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ } أي ضيقٍ بتكليف ما يشقُّ عليكم إقامتُه إشارة إلى أنَّه لا مانعَ لهم عنْهُ ولا عذرَ لهم في تركِه أو إلى الرُّخصةِ في إغفالِ بعضِ ما أمرَهم به حيث يشقُّ عليهم لقولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « إذا أمرتُكم بشيءٍ فأتُوا منه ما استطعتُم » وقيل : ذلك بأنْ جعلَ لهم من كلِّ ذنبٍ مخرجاً بأنْ رخَّص لهم في المضايقِ وفتحَ لهم بابَ التَّوبةِ وشرَع لهم الكفَّاراتِ في حقوقِه والأروشَ والدِّياتِ في حقوقِ العبادِ { مّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم } نُصب على المصدرِ بفعلٍ دلَّ عليه مضمونُ ما قبلَه بحذفِ المضافِ أي وسع عليكم دينَكم توسعةَ ملَّةِ أبيكم أو على الإغراءِ أو على الاختصاصِ وإنَّما جعله أباهم لأنَّه أبوُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو كالأبِ لأمَّتِه من حيثُ أنَّه سببٌ لحياتِهم الأبديَّةِ ووجودِهم على الوجه المعتدِّ به في الآخرةِ أو لأنَّ أكثرَ العربِ كانُوا من ذُرِّيتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فغُلِّبُوا على غيرِهم { هُوَ سماكم المسلمين مِن قَبْلُ } في الكتبِ المُتقدِّمةِ .
{ وَفِى هذا } أي في القرآنِ والضَّميرُ لله تعالى ويُؤيِّده أنَّه قُرىء الله سمَّاكُم ، أو لإبراهيمَ وتسميتُهم بالمسلمينَ في القُرآن وإنْ لم تكُنْ منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كانت بسببِ تسميته من قبلُ في قوله : { وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } وقيل : وفي هذا تقديرُه : وفي هذا بيانُ تسميتِه إيَّاكم المسلمينَ { لِيَكُونَ الرسول } يومَ القيامةِ متعلِّقٌ بسمَّاكُم { شَهِيداً عَلَيْكُمْ } بأنَّه بلَّغكُم فيدلُّ على قبولِ شهادتِه لنفسِه اعتماداً على عصمتِه أو بطاعة مَن أطاعَ وعصيانِ مَن عصى { وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } بتبليغِ الرُّسلِ إليهم { أَءشْفَقْتُمْ أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ } أي فتقرَّبُوا إلى الله بأنواعِ الطَّاعاتِ . وتخصيصُهما بالذِّكرِ لإنافتِهما وفضلِهما . { واعتصموا بالله } أي ثقُوا به في مجامعِ أمورِكم ولا تطلبُوا الإعانةَ والنُّصرةَ إلاَّ منْه { هُوَ مولاكم } ناصرُكم ومتولِّي أمورِكم { فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير } هو إذْ لا مثلَ له في الوَلاَيةِ والنُّصرةِ بل لا ولِيَّ ولا نصيرَ في الحقيقةِ سواهُ عزَّ وجلَّ .
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : « مَن قرأ سُورةَ الحجِّ أُعطيَ من الأجرِ كحجَّةٍ حجَّها وعمرةٍ اعتمرَها بعددِ مَن حجَّ واعتمرَ فيما مَضَى وفيما بَقِيَ » .(4/486)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
{ قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } الفلاحُ الفوزُ بالمرام والنجاةُ من المكروه ، وقيل : البقاءُ في الخير والإفلاحُ الدُّخولُ في ذلكَ كالإبشارِ الذي هو الدخولُ في البشارةِ وقد يجيءُ متعدياً بمعنى الإدخال فيه وعليه قراءةُ مَن قرأ على البناء للمفعول . وكلمةُ قد هاهنا لإفادةِ ثبوتِ ما كان متوقعَ الثُّبوتِ من قبلُ لا متوقعَ الإخبارِ به ضرورةَ أنَّ المتوقعَ من حال المؤمنينَ ثبوتُ الفلاحِ لهم لا الإخبارُ بذلك فالمعنى قد فازوا بكلِّ خيرٍ ونجوا من كلِّ ضيرٍ حسبما كان ذلك متوقعاً من حالِهم فإنَّ إيمانَهم وما تفرَّعَ عليه من أعمالهم الصالحةِ من دواعي الفلاحِ بموجب الوعدِ الكريمِ خلا أنَّه إنْ أُريد بالإفلاح حقيقةُ الدُّخولِ في الفلاح الذي لا يتحققُ إلا في الآخرة فالإخبارُ به على صيغة الماضي للدِّلالة على تحققه لا محالةَ بتنزيله منزلةَ الثابتِ وإنْ أُريد كونُهم بحالٍ تستتبعُه البتةَ فصيغةُ الماضي في محلِّها . وقُرِىءَ أفلحُوا على الإبهامِ والتفسيرِ أو على أكلوني البراغيثُ . وقُرىءَ أفلحُ بضمة اكتفَى بها عن الواوِ كما في قولِ من قال
ولو أنَّ الأطبَّا كانُ حَولي ... والمرادُ بالمؤمنينَ إمَّا المصدِّقون بما عُلمَ ضرورة أنَّه من دينِ نبينا صلى الله عليه وسلم من التَّوحيدِ والنبوةِ والبعثِ والجزاءِ ونظائرِها فقولُه تعالى : { الذين هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خاشعون } وما عُطف عليه صفاتٌ مخصصةٌ لهم وإما الآتون بفروعه أيضاً كما يُنبىء عنه إضافةُ الصَّلاة إليهم فهي صفاتٌ موضحةٌ أو مادحةٌ لهم حسب اعتبارِ ما ذُكر في حيز الصِّلةِ من المعاني مع الإيمان إجمالاً أو تفصيلاً كما مرَّ في أوائل سُورة البقرة . والخشوعُ الخوفُ والتَّذللُ أي خائفون من الله عزَّ وجلَّ متذلِّلون له ملزمون أبصارَهم مساجدَهم . رُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان إذا صلَّى رفع بصره إلى السَّماءِ فلمَّا نزلتْ رمى ببصره نحوَ مسجدِه . وأنَّه رأى مُصلِّياً يعبث بلحيته فقال : « لو خشعَ قلبُ هذا لخشعتْ جوارحُه » . { والذين هُمْ عَنِ اللغو } أي عمَّا لا يعنيهم من الأقوال والأفعال { مُّعْرِضُونَ } أي في عامَّة أوقاتهم كما يُنبىء عنه الاسمُ الدَّالُّ على الاستمرار فيدخل في ذلك إعراضُهم عنه حالَ اشتغالِهم بالصَّلاةِ دخولاً أوليًّا ومدارُ إعراضهم عنه ما فيه من الحالة الدَّاعيةِ إلى الإعراض عنه لا مجرَّدَ الاشتغالِ بالجدِّ في أمور الدِّينِ كما قيل فإنَّ ذلك رُبَّما يُوهم أنْ لا يكونَ في اللَّغوِ نفسه ما يزجرُهم عن تعاطيهِ وهو أبلغُ من أنْ يُقالَ لا يلهون من وجوه جعلِ الجملةِ اسميَّةً وبناءِ الحكم على الضَّميرِ والتَّعبيرِ عنه بالاسمِ وتقديمُ الصِّلةِ عليه ، وإقامةُ الإعراضِ مُقامَ التَّركِ ليدلَّ على تباعدهم عنه رأساً مباشرةً وتسبُّباً وميلاً وحضوراً فإنَّ أصلَه أنْ يكونَ في عرضٍ غيرِ عرضِه .(4/487)
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)
{ والذين هُمْ للزكواة فاعلون } وصفهم بذلك بعد وصفهم بالخشوع في الصَّلاة للدِّلالة على أنَّهم بلغوا الغاية القاصية من القيام بالطَّاعات البدنيَّةِ والماليَّةِ والتَّجنبِ عن المحرَّمات وسائرِ ما تُوجب المروءةُ اجتنابَه . وتوسيطُ حديث الإعراضِ بينهما لكمال مُلابسته بالخشوع في الصَّلاةِ . والزَّكاةُ مصدر لأنَّه الأمرُ الصَّادرُ عن الفاعل لا المحلُّ الذي هو موقعُه ، ومعنى الفعلِ قد مرَّ تحقيقُه في تفسير قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ } ويجوزُ أنْ يُراد بها العينُ على تقدير المضاف .
{ والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون } ممسكون لها فالاستثناءُ في قوله تعالى : { إِلاَّ على أزواجهم } من نفي الإرسالِ الذي ينبىءُ على الحفظُ أي لا يُرسلونها على أحدٍ إلاَّ على أزواجِهم وفيه إيذانٌ بأنَّ قوَّتهم الشَّهويَّة داعيةٌ لهم إلاَّ ما لا يخفى وأنَّهم حافظون لها من استيفاءِ مُقتضاها وبذلك يتحقَّقُ كمالُ العفَّةِ ويجوز أنْ تكون على بمعنى من وإليه ذهبَ الفرَّاءُ كما في قوله تعالى : { إِذَا اكتالوا عَلَى الناس } أي حافظون لها من كلِّ أحدٍ إلا من أزواجِهم وقيل هي متعلِّقةٌ بمحذوفٍ وقع حالاً من ضمير حافظون أي حافظون لها في جميعِ الأحوال إلاَّ حالَ كونهم والينَ أو قوَّامين على أزواجِهم وقيل بمحذوفٍ يدلُّ عليه غيرَ ملُومين كأنَّه قيل يُلامون على كلِّ مباشرٍ إلاَّ على ما أُطلق لهم فإنَّهم غيرُ ملومين . وحملُ الحفظِ على القصر عليهنَّ ليكونَ المعنى حافظون فروجَهم على الأزواجِ لا يتعداهُنَّ ثمَّ يقال غير حافظينَ إلا عليهنَّ تأكيداً على تأكيدٍ تكلُّفٌ على تكلُّف { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم } أي سراريهم عبَّر عنهنَّ ب : ( ما ) إجراءً لهنَّ لمملوكيتهنَّ مُجرى غيرِ العُقلاءِ أو لأنوثتهنَّ المنبئةِ عن القُصورِ . وقوله تعالى : { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } تعليلٌ لما يفيده الاستثناءُ من عدم حفظ فروجهم منهنَّ أي فإنَّهم غيرُ ملومين على عدم حفظِها منهنَّ .
{ فَمَنِ ابتغى وَرَاء ذلك } الذي ذُكر من الحدِّ المتَّسعِ وهو أربعٌ من الحرائرِ أو مَا شاء من الإماءِ { فَأُوْلَئِكَ هُمُ العادون } الكاملونَ في العُدوانِ المتناهُون فيه وليس فيه ما يدلُّ حتماً على تحريمِ المتعةِ حسبما نُقل عن القاسمِ بن محمَّدٍ فإنَّه قال : إنَّها ليستْ زوجةً له فوجبَ ألاَّ تحلَّ له أمَّا أنَّها ليستْ زوجةً له فلأنَّهما لا يتوارثانِ بالإجماعِ ولو كانتْ زوجةً له لحصل التَّوارثُ لقوله تعالى : { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم } فوجب أنْ لا تحلَّ لقوله تعالى : { إِلاَّ على أزواجهم } لأنَّ لهم أنْ يقولوا إنَّها زوجةٌ له في الجُملةِ ، وأمَّا أنَّ كلَّ زوجةٍ ترثُ فهم لا يُسلِّمونها وأما ما قيل من أنَّه إنْ أُريد لو كانت زوجةً حالَ الحياةِ لم يُفِدْ وإنْ أُريدَ بعد الموتِ فالملازمةُ ممنوعةٌ فليس له معنى محصَّلٌ . نعم لو عُكسَ لكان له وجهٌ .(4/488)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)
{ والذين هُمْ لاماناتهم وَعَهْدِهِمْ } لما يُؤتمنون عليه ويُعاهدون من جهة الحقِّ أو الخلقِ { راعون } أي قائمون عليها حافظون لها على وجه الإصلاحِ . وقُرىء لأمانتِهم .
{ والذين هُمْ على صلواتهم } المفروضةِ عليهم { يُحَافِظُونَ } يُواظبون عليها ويُؤدُّونها في أوقاتها . ولفظُ الفعلِ فيه لما في الصَّلاةِ من التَّجدُّدِ والتَّكرُّر وهو السرُّ في جمعها وليس فيه تكريرٌ لما أنَّ الخشوعَ في الصَّلاة غيرُ المحافظةِ عليها . وفصلُهما للإيذانِ بأنَّ كلاًّ منهما فضيلةٌ مستقلَّةٌ على حيالِها ولو قُرنا في الذِّكرِ لربَّما توهِّم أنَّ مجموعَ الخشوعِ والمحافظةِ فضيلةٌ واحدةٌ .
{ أولئك } إشارةٌ إلى المؤمنين باعتبار اتِّصافِهم بما ذُكر من الصِّفاتِ . وإيثارُها على الإضمار للإشعار بامتيازهم بها عن غيرهم ونزولهم منزلة المُشار إليه حِسًّا ، وما فيه من معنى البُعدِ للإيذانِ بعلوِّ طبقتهم وبُعدِ درجتهم في الفضل والشَّرفِ أي أولئك المنعوتُون بالنُّعوت الجليلة المذكورةِ { هُمُ الوارثون } أي الأحِقَّاءُ بأنْ يُسمَّوا ورَّاثاً دون مَن عداهم ممَّن ورِثَ رغائب الأموال والذَّخائرِ وكرائمهما .
{ الذين يَرِثُونَ الفردوس } بيانٌ لما يرثونَه وتقييدٌ للوراثة بعد إطلاقها وتفسيرٌ لها بعد إبهامِها تفخيماً لشأنها ورفعها لمحلِّها وهي استعارةٌ لاستحقاقهم الفِردوسَ بأعمالهم حسبما يقتضيه الوعدُ الكريمُ للمبالغة فيه . وقيل إنَّهم يرثون من الكفَّارِ منازلهم فيها حيث فوَّتُوها على أنفسِهم لأنَّه تعالى خلقَ لكلِّ إنسان منزلاً في الجنَّةِ ومنزلاً في النَّارِ . { هُمْ فِيهَا } أي في الفردوسِ . والتَّأنيثُ لأنَّه اسمٌ للجنَّةِ أو لطبقتهم العُليا وهو البستان الجامعُ لأصناف الثَّمرِ . رُوي أنَّه تعالى بَنَى جنَّة الفِردوسِ لبنةً من ذهبٍ ولَبنةً من فضَّةٍ وجعلَ خلالَها المسكَ الأذفرَ ، وفي روايةٍ ولبنةً من مسكٍ مذريَ وغرسَ فيها من جيِّدِ الفاكهةِ وجيِّدِ الرَّيحانِ . { خالدون } لا يخرجُون منها أبداً والجملة إمَّا مستأنفةٌ مقرِّرةٌ لما قبلها وإمَّا حالٌ مقدَّرةٌ من فاعل يرثون أو مفعولهِ إذ فيها ذِكرُ كلَ منهما . ومعنى الكلامِ لا يموتُون ولا يخرجون منها .
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } شروعٌ في بيان مبدأ خلقِ الإنسانِ وتقلُّبهِ في أطوارِ الخلقةِ وأدوارِ الفطرةِ بياناً إجماليًّا إثرَ بيانِ حال بعضِ أفرادِه السُّعداءِ . واللاَّمُ جوابُ قسمٍ والواوُ ابتدائيَّةٌ . وقيل عاطفةٌ على ما قبلَها ، والمرادُ بالإنسان الجنسُ أي وبالله لقد خلقنا جنسَ الإنسان في ضِمن خلقِ آدمَ عليه السَّلامُ خَلْقاً إجماليًّا حسبما تحقَّقته في سورة الحجِّ وغيرِها . وأمَّا كونُه مخلوقاً من سلالاتٍ جُعلتْ نُطَفاً بعد أدوارٍ وأطوارٍ فبعيدٌ { مِن سلالة } السُّلالةُ ما سُلَّ من الشَّيء واستُخرجَ منه . فإن فُعالة اسمٌ لما يحصُل من الفعلِ فتارةً تكون مقصوداً منه كالخُلاصةِ وأُخرى غيرَ مقصودٍ منه كالقُلامةِ والكُناسةِ والسُّلالةُ من قبيلِ الأوَّلِ ، فإنَّها مقصودةٌ بالسَّلِّ . ومن ابتدائيةٌ متعلِّقةٌ بالخلقِ . ومن في قوله تعالى : { مِن طِينٍ } بيانيَّةٌ متعلِّقةٌ بمحذوف وقع صفةً لسُلالة أي خلقناهُ من سُلالةٍ كائنةٍ من طينٍ . ويجوزُ أنْ تتعلَّق بسُلالة على أنَّها بمعنى مسلولةٍ فهي ابتدائيةٌ كالأُولى . وقيل المرادُ بالإنسانِ آدمُ عليه السَّلامُ فإنَّه الذي خُلق من صفوةٍ سُلَّتْ من الطِّينِ وقد وقفت على التَّحقيق .(4/489)
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
{ ثُمَّ جعلناه } أي الجنسَ باعتبار أفراده المغايرة لآدمَ عليه السَّلامُ أو جعلنا نسلَه على حذف المضاف إنْ أُريد بالإنسان آدمُ عليه السَّلامُ { نُّطْفَةٍ } بأن خلقناه منها أو ثمَّ جعلنا السُّلالةَ نُطفةً . والتَّذكيرُ بتأويل الجوهرِ أو المسلولِ أو الماءِ { فِى قَرَارٍ } أي مستقَرَ وهو الرَّحِمُ عبر عنها بالقرارِ الذي هو مصدرٌ مبالغةً . وقولُه تعالى : { مَّكِينٍ } وصفٌ لها بصفة ما استقرَّ فيها مثلُ : طريقٌ سائرٌ أو بمكانتها في نفسِها فإنَّها مكثتْ بحيث هي وأُحرزتْ .
{ ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً } أي دماً جامداً بأن أحلنا النُّطفة البيضاءَ علقةً حمراءَ . { فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً } أي قطعةَ لحمٍ لا استبانة ولا تمايزَ فيها { فَخَلَقْنَا المضغة } أي غالبَها ومعظمها أو كلَّها { عظاما } بأنْ صلبناها وجعلناها عموداً للبدنِ على هيئاتٍ وأوضاعٍ مخصوصةٍ تقتضيها الحكمةُ { فَكَسَوْنَا العظام } المعهودة { لَحْماً } من بقية المضغةِ أو ممَّا أنبتنا عليها بقدرتنا ممَّا يصلُ إليها أي كسونا كلَّ عظمٍ من تلك العظام ما يليقُ به من اللَّحمِ على مقدارٍ لائقٍ به وهيئةٍ مناسبةٍ له . واختلافِ العواطفِ للتَّنبيه على تفاوتِ الاستحالاتِ . وجمعُ العظامِ لاختلافِهما . وقُرىء على التَّوحيدِ فيهما اكتفاءً بالجنسِ وبتوحيدِ الأوَّلِ فَقَطْ وبتوحيد الثَّاني فحسب { ثُمَّ أنشأناه خَلْقَاً ءَاخَرَ } هي صورةُ البدنِ أو الرُّوحِ أو القُوى بنفخه فيه ، أو المجموعُ وثمَّ لكمالِ التَّفاوتِ بين الخلقينِ واحتجَّ به أبو حنيفة رحمه الله على أنَّ من غصبَ بيضةً فأفرختْ عنده لزمه ضمانُ البيضةِ لا الفرخُ لأنَّه خلقٌ آخرُ .
{ فَتَبَارَكَ الله } فتعالى شأنُه في علمه الشَّاملِ وقُدرتهِ الباهرة . والالتفاتُ إلى الاسم الجليل لتربيةِ المهابة وإدخالِ الرَّوعة والإشعارِ بأنَّ ما ذُكر من الأفاعيلِ العجيبة من أحكام الأُلوهيَّةِ وللإيذانِ بأنَّ حقَّ كلِّ مَن سمع ما فُصِّل من آثار قُدرتهِ عزَّ وعلا أو لاحظَه أنْ يُسارعَ إلى التَّكلُّمِ به إجلالاً وإعظاماً لشؤونهِ تعالى . { أَحْسَنُ الخالقين } بدلٌ من الجلالة وقيل نعتٌ بناء على أن الإضافة ليستْ لفظيَّةً وقيل خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : هُو أحسنُ الخالقينَ خَلْقاً ، أي المقدِّرين تقديراً ، حُذف المميِّز لدلالة الخالقينَ عليه كما حُذف المأذونُ فيه في قوله تعالى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يقاتلون } لدلالة الصِّلةِ عليه ، أي أحسنُ الخالقين خَلْقاً ، فالحُسنُ للخلقِ . قيلَ نظيرُه قولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « إنَّ اللَّهَ جميلٌ يحبُّ الجمالَ » أي جميلٌ فعلُه فحُذف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مقامَهُ فانقلبَ مرفُوعاً فاستكنَّ . رُوي أنَّ عبدَ اللَّه بن أبي سَرْحٍ كان يكتبُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحيَ فلمَّا انتهى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى قوله خلقاً آخرَ سارع عبدُ اللَّه إلى النُّطقِ به قبل إملائه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فقال :(4/490)
" اكتبْهُ هكذا نزلتْ " فشكَّ عبدُ اللَّه فقال : إنْ كان محمَّدٌ يُوحى إليه فأنا كذلك فلحقَ بمكَّة كافراً ثمَّ أسلمَ يوم الفتحِ وقيل ماتَ على كُفرِه . ورَوى سعيدُ بنُ جُبيرٍ عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّه قال لمَّا نزلتْ هذه الآية : قال عمرُ رضي الله عنه : فتباركَ اللَّهُ أحسنُ الخالقين ، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " هكذا نزلَ يا عمرُ " . وكان رضي الله عنه يفتخرُ بذلك ويقولُ : «وافقتُ ربِّي في أربعٍ ، الصَّلاةُ خلفَ المُقامِ وضربُ الحجابِ على النِّسوةِ . وقولي لهنَّ أو ليبدله الله خيراً منكنَّ فنزل قولُه تعالى : { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ } الآية ، والرابعُ فتباركَ اللَّهُ أحسنُ الخالقينَ» انظر كيفَ وقعتْ هذه الواقعةُ سبباً لسعادةِ عمرَ رضي الله عنه وشقاوة ابن أبي سَرْح حسبما قال تعالى : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } لا يقالُ فقد تكلَّم البشرُ ابتداءً بمثل نظمِ القُرآن وذلك قادحٌ في إعجازِه لما أنَّ الخارجَ عن قُدرة البشرِ ما كان مقدارَ أقصرِ السُّورِ على أنَّ إعجازَ هذه الآيةِ الكريمةِ منوطٌ بما قبلها كما تُعربُ عنه الفاءُ فإنَّها اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله .(4/491)
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
{ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك } أي بعد ما ذُكر من الأمورِ العجيبةِ حسبما يُنبىء عنه ما في اسمِ الإشارة مِن معنى البُعد المُشعرِ بعلوِّ رُتبةِ المشارِ إليه وبُعد منزلتهِ في الفضلِ والكمالِ وكونهِ بذلك ممتازاً منزَّلاً منزلةَ الأمور الحسيَّةِ { لَمَيّتُونَ } لصائرونَ إلى الموتِ لا محالَة كما تُؤذِنُ به صيغةُ النَّعتِ الدَّالَّةِ على الثُّبوتِ دُون الحدوثِ الذي تُفيده صيغةُ الفاعلِ وقد قُرىء لمائتون .
{ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة } أي عند النَّفخةِ الثَّانيةِ { تُبْعَثُونَ } من قبورِكم للحسابِ والمُجازاةِ بالثَّوابِ والعقابِ .
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ } بيانٌ لخلقِ ما يحتاج إليه بقاؤُهم إثرَ بيانِ خلقِهم أي خلقنا في جهةِ العلوِّ من غيرِ اعتبارِ فوقيَّتِها لهم لأنَّ تلك النِّسبة إنما تعرَّض لها بعد خلقِهم { سَبْعَ طَرَائِقَ } هي السموات السَّبعُ سُمِّيتْ بها لأنَّها طُورق بعضُها فوق بعضٍ مُطارقةَ النَّعلِ فإنَّ كلَّ ما فوقه مثلُه فهو طريقةٌ أو لأنَّها طرائقُ الملائكةِ أو الكواكبِ فيها مسيرُها { وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق } عن ذلك المخلوق الذي هو السموات أو عن جميع المخلوقاتِ التي هي من جُملتِها أو عن النَّاسِ . { غافلين } مُهملين أمرَها بل نحفظُها عن الزَّوال والاختلالِ وندبر أمرَها حتَّى تبلغَ مُنتهى ما قُدِّر لها من الكمال حسبما اقتضتْهُ الحكمةُ وتعلقتْ به المشيئةُ ويصل إلى ما في الأرض منافعُها كما ينبىءُ عنه قولُه تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء } هو المطرُ أو الأنهار النَّازلة من الجنَّة قيل هي خمسةُ أنهار سيحُون نهرُ الهندِ وجيحونُ نهر بَلْخِ ودجلةُ والفراتُ نَهْرا العراقِ والنِّيلُ نهرُ مصرَ أنزلها اللَّهُ تعالى من عينٍ واحدةٍ من عيونِ الجنَّةِ فاستودَعها الجبالَ وأجراها في الأرضِ وجعل فيها منافعَ للنَّاسِ في فُنونِ معايشهم . ومن ابتدائيَّةٌ متعلِّقةٌ بأنزلنا وتقديمُها على المفعولِ الصَّريحِ لما مرَّ مراراً من الاعتناء بالمقدَّمِ والتَّشويقِ إلى المؤخَّرِ والعدولِ عن الإضمارِ لأنَّ الإنزالَ لا يُعتبر فيه عنوانُ كونها طرائقَ بل مجرَّدُ كونها جهة العلوِّ { بِقَدَرٍ } بتقديرٍ لائق لاستجلابِ منافعهم ودفعِ مضارِّهم أو بمقدارِ ما علمنا من حاجاتهم ومصالحهم { فَأَسْكَنَّاهُ فِى الارض } أي جعلناه ثابتاً قارًّا فيها { وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ } أي إزالتهِ بالإفسادِ أو التَّصعيدِ أو التَّغويرِ بحيثُ يتعذَّرُ استنباطُه { لقادرون } كما كُنَّا قادرين على إنزالهِ . وفي تنكيرِ ذهابٍ إيماءٌ إلى كثرةِ طُرقهِ ومبالغةٌ في الإبعادِ به ولذلك جعل أبلغ من قوله تعالى : { قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ }(4/492)
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
{ فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ } أي بذلك الماءِ .
{ جنات مّن نَّخِيلٍ وأعناب لَّكُمْ فِيهَا } في الجنَّاتِ { فواكه كَثِيرَةٌ } تتفكَّهون بها { وَمِنْهَا } من الجنَّاتِ { تَأْكُلُونَ } تغذياً أو تُرزقون وتحصِّلُون معايشَكُم من قولهم فلانٌ يأكل من حرفتهِ ويجوز أي يعود الضميرانِ للنَّخيلِ والأعنابِ أي لكم في ثمراتها أنواعٌ من الفواكه الرُّطبِ والعنب والتَّمرِ والزَّبيبِ والعصير والدِّبسِ وغير ذلك وطعام تأكلونه .
{ وَشَجَرَةً } بالنَّصبِ عطف على جنَّاتٍ . وقُرىء بالرَّفعِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ دلَّ عليه ما قبله أي وممَّا أُنشىء لكم به شجرةٌ وتخصيصها بالذِّكرِ من بين سائر الأشجار لاستقلالِها بمنافعَ معروفةٍ قيل هي أوَّلُ شجرةٍ نبتت بعد الطُّوفانِ . وقوله تعالى : { تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء } وهو جبلُ موسى عليه السَّلامُ بين مصرَ وأيلة وقيل بفلسطينَ ويقال له طورُ سينين فإمَّا أنْ يكون الطُّورُ اسم الجبل وسيناءُ اسمَ البُقعةِ أُضيف إليها ، أو المركَّب منهم عَلَم له كامرىءِ القَيْس . ومُنع صرفُه على قراءةِ من كسر السِّينَ للتَّعريفِ والعُجمةِ أو التَّأنيثِ على تأويل البُقعةِ لا للألف لأنَّه فِيعالٌ كدِيماسٍ من السَّناءِ بالمدِّ وهو الرِّفعةُ أو بالقصر وهو النُّورُ أو ملحق بفعلال كعلباء من السِّين إذ لا فعلاء بألف التَّأنيثِ بخلاف سيناء فإنه فَيعالٌ ككَيْسانَ أو فَعْلأَ كصَحْراءَ إذ لا فَعلال في كلامِهم وقُرىء بالكسرِ والقصرِ . والجملةُ صفةٌ لشجرةً وتخصيصها بالخروج منه مع خروجِها من سائر البقاعِ أيضاً لتعظيمها ولأنَّه المنشأُ الأصليُّ لها . وقولُه تعالى : { تَنبُتُ بالدهن } صفة أخرى لشجرةً والياء متعلِّقة بمحذوفٍ وقع حالاً منها أي تنبتُ ملتبسةً به . ويجوزُ كونُها صلةً معدية أي تنبتُه بمعنى تتضمَّنه وتحصِّله ، فإنَّ النَّباتَ حقيقةً صفةٌ للشَّجرةِ لا للدُّهنِ . وقُرىء تُنبت من الإفعالُ وهو إمَّا من الإنباتِ بمعنى النَّباتِ كما في قولِ زُهيرٍ
رَأيتُ ذَوي الحاجاتِ حولَ بيوتهِم ... قَطيناً لهم حتَّى إذا أنبتَ البقلُ
أو على تقديرِ تُنبت زيتونَها مُلتبِساً بالدُّهنِ . وقُرىء على البناءِ للمفعول وهو كالأوَّلِ وتُثمر بالدُّهنِ وتخرُج بالدُّهنِ وتنبت بالدِّهانِ . { وَصِبْغٍ لّلاكِلِيِنَ } معطوف على الدُّهنِ جارٍ على إعرابه عطف أحد وصفَيْ الشَّيءِ على الآخرِ أي تنبت بالشَّيءِ الجامع بين كونهِ دُهناً يُدهنُ به ويُسرجُ منه وكونهِ إداماً يُصبغ فيه الخبز أي يُغمس فيه للائتدامِ . وقُرىء وصباغٍ كدباغٍ في دِبْغٍ .(4/493)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)
{ وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأنعام لَعِبْرَةً } بيان النِّعم الفائضة عليهم من جهة الحيوانِ إثرَ بيانِ النِّعم الواصلةِ إليهم من جهة الماءِ والنَّبات وقد بُيِّن أنَّها مع كونِها في نفسِها نعمةً ينتفعون بها على وجوهٍ شتى عبرةٌ لا بدَّ من أنْ يعتبرُوا بها ويستدلُّوا بأحوالها على عظيم قُدرة اللَّهِ عزَّ وجلَّ وسابغ رحمته ويشكروه ولا يكفروه وخُصَّ هذا بالحيوان لما أنَّ محلَّ العبرة فيه أظهرُ ممَّا في النَّباتِ . وقولُه تعالى : { نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهَا } تفصيلٌ لما فيها من مواقعِ العبرةِ وما في بطونِها عبارة إمَّا عن الألبانِ فمِن تبعيضيةٌ . والمرادُ بالبطونِ الجَوفُ ، أو عن العلف الذي يتكوَّن منه اللَّبنُ فمن ابتدائيةٌ والبطون على حقيقتها . وقُرىء بفتح النُّونِ وبالتَّاءِ أي تسقيكم الأنعامُ . { وَلَكُمْ فيِهَا منافع كَثِيرَةٌ } غيرُ ما ذُكر من أصوافِها وأشعارِها { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } فتنتفعون بأعيانها كما تنتفعون بما يحصُل منها .
{ وَعَلَيْهَا } أي على الأنعامِ فإنَّ الحملَ عليها لا يقتضي الحملَ على جميعِ أنواعِها بل يتحقَّقُ بالحمل على البعضِ كالإبل ونحوِها . وقيل المرادُ هي الإبلُ خاصَّة لأنَّها هي المحمولُ عليها عندهم والمناسبُ للفلك فإنَّها سفائنُ البرِّ قال ذُو الرُّمَّةِ
سفينةُ بَرَ تحتَ خَدِّي زِمامُها ... فالضَّميرُ فيهِ كما في قوله تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ } { وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ } أي في البرِّ والبحرِ . وفي الجمع بينها وبين الفُلكِ في إيقاع الحملِ عليها مبالغةٌ في تحمُّلِها للحملِ وهو الدَّاعي إلى تأخير ذكرِ هذه المنفعةِ مع كونِها من المنافعِ الحاصلةِ منها عن ذكرِ منفعةِ الأكلِ المتعلِّقة بعينِها .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ } شروعٌ في بيانِ إهمال الأُمم السَّابقةِ وتركهم النَّظرَ والاعتبارَ فيما عُدِّد من النِّعمِ الفائتة للحصر وعدم تذكرهم بتذكير رسلهم وما حاقَ بهم لذلك من فُنون العذاب تحذيراً للمُخاطبين . وتقديمُ قصَّةِ نوحٍ عليه السَّلامُ على سائرِ القصصِ مما لا يخفى وجهُه ، وفي إيرادِها إثرَ قوله تعالى : { وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ } من حُسنِ الموقع ما لا يُوصف . والواوُ ابتدائيةٌ واللاَّمُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ . وتصديرُ القِصَّةِ به لإظهارِ كمالِ الاعتناء بمضمونها أي وباللَّهِ لقد أرسلنا نوحاً الخ . ونسبهُ الكريمُ وكيفيَّةُ بعثهِ وكميَّةُ لبثهِ فيما بينهم قد مرَّ تفصيله في سُورة الأعرافِ وسُورة هُودٍ { فَقَالَ } متعطِّفاً عليهم ومستميلاً لهم إلى الحقِّ { يَابَنِى إسراءيل اعبدوا الله } أي اعبدوه وحدَه كما يُفصح عنه قوله تعالى في سُورة هود : { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله } وتركَ التَّقييدِ به للإيذان بإنَّها هي العبادةُ فقط وأما العبادة بالإشراكِ فليستْ من العبادة في شيءٍ رأساً . وقولُه تعالى : { مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ } استئنافٌ مسوقٌ لتعليل العبادة المأمورِ بها أو تعليلِ الأمرِ بها . وغيرُه بالرَّفعِ صفةٌ لإله باعتبارِ محلِّه الذي هو الرَّفعُ على أنَّه فاعلٌ ، أو مبتدأٌ خبرُه لكُم ، أو محذوفٌ .(4/494)
ولكُم للتَّخصيصِ والتَّبيينِ أي ما لكُم في الوجودِ أو في العالمِ إله غيرُه تعالى . وقُرىء بالجرِّ باعتبار لفظه { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } أنفسَكم عذابَه الذي يستوجبه ما أنتُم عليه من ترك عبادتهِ تعالى كما يُفصح عنه قولُه تعالى : { إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } وقولُه تعالى : { عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } وقيل أفلا تخافون أنْ ترفضُوا عبادة الله الذي هو ربُّكم الخ . وليس بذاكَ وقيل أفلا تخافون أنْ يُزيل عنكم نعمَه الخ وفيهِ ما فيهِ والهمزةِ لإنكارِ الواقعِ واستقباحهِ . والفاءُ للعطفِ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقامُ أي أتعرفون ذلك أي مضمونَ قوله تعالى : { مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ } فلا تتَّقون عذابَه بسبب إشراكِكم به في العبادة ما لا يستحقُّ الوجودَ لولا إيجادُ الله تعالى إيَّاهُ فضلاً عن استحقاقِ العبادة فالمنكر عدمُ الاتِّقاءِ مع تحقُّق ما يُوجبه ، أو ألا تلاحظُون ذلكَ فلا تتَّقُونه فالمنكرُ كلا الأمرينِ فالمبالغةُ حينئذٍ في الكميَّةِ وفي الأوَّلِ في الكيفيَّةِ .(4/495)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
{ فَقَالَ الملأ } أي الأشراف { الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ } وصف الملأ بما ذُكر مع اشتراك الكلِّ فيه للإيذان بكمال عراقتهم في الكُفرِ وشدَّةِ شكيمتهم فيه أي قالوا لعوامِّهم { مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } أي في الجنسِ والوصفِ من غير فرقٍ بينكم وبينَه ، وصفوه عليه السَّلامُ بذلك مبالغةً في وضع رتبته العالية وحطِّها عن منصب النُّبوة { يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ } أي يريدُ أنْ يطلبَ الفضلَ عليكم ويتقدَّمكم بادِّعاءِ الرَّسالةِ مع كونهِ مثلكم ، وصفوه بذلك إغضاباً للمُخاطبين عليه ، عليه السَّلامُ وإغراءً لهم على معاداته عليه السَّلامُ وقولُه تعالى : { وَلَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة } بيانٌ لعدم رسالة البشر على الإطلاقِ على زعمِهم الفاسدِ بعد تحقيق بشريَّتهِ عليه السَّلامُ أي لو شاء الله تعالى إرسالَ الرَّسولِ لأرسل رُسُلاً من الملائكة وإنَّما قيل لأنزل لأنَّ إرسالَ الملائكة لا يكونُ إلا بطريقِ الإنزالِ ، فمفعولُ المشيئة مطلقُ الإرسالِ المفهوم من الجوابِ لا نفسُ مضمونهِ كما في قوله تعالى : { وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ } ونظائره . { مَّا سَمِعْنَا بهذا } أي بمثل هذا الكلامِ الذي هو الأمرُ بعبادة الله خاصَّةً وتركُ عبادة ما سواه . وقيل بمثل نوحٍ عليه السَّلامُ في دعوى النُّبوة { فِى ءَابَائِنَا الأولين } أي الماضين قبل بعثتهِ عليه السَّلامُ قالوه إمَّا لكونهم وآبائهم في فترة متطاولةٍ وإما لفرطِ غلوِّهم في التَّكذيبِ والعناد وانهماكهم في الغيِّ والفساد ، وأيَّا ما كان فقولُهم هذا ينبغي أنْ يكونَ هو الصَّادُّ عنهم في مبادي دعوتهِ عليه السَّلامُ كما تُنبىءُ عنه الفاء في قوله تعالى : { فَقَالَ الملا } الخ وقيل معناه ما سمعنا به عليه السَّلامُ أنَّه نبيٌّ . فالمرادُ بآبائِهم الأوَّلين الذين مضوا قبلهم في زمنِ نوحٍ عليه السَّلامُ . وقولهم المذكور هو الذي صدر عنهم في أواخرِ أمرِه عليه السَّلامُ وهو المناسب لما بعدَه من حكاية دُعائهِ عليه السَّلامُ .
وقولهم { إِنْ هُوَ } أي ما هو { إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ } أي جُنونٌ أو جنٌّ يخيلونه ولذلك يقولُ ما يقولُ { فَتَرَبَّصُواْ بِهِ } أي احتمِلوه واصبِروا عليه وانتظروا { حتى حِينٍ } لعلَّه يُفيقُ ممَّا فيه ، محمول حينئذٍ على ترامي أحوالهم في المكابرةِ والعنادِ . وإضرابِهم عمَّا وصفُوه عليه السَّلامُ به من البشرية وإرادةِ التَّفضُّلِ إلى وصفِه عليه السَّلامُ بما ترى وهم يعرفون أنَّه عليه السَّلامُ أرجحُ النَّاسِ عَقْلاً وأرزنهم قولاً . وعلى الأوَّل على تناقضِ مقالاتِهم الفاسدةِ قاتلهم اللَّهُ أنَّى يُؤفكون .(4/496)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)
{ قَالَ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأ من حكايةِ كلامِ الكَفَرةِ كأنَّه قيل فماذا قال عليه السَّلامُ بعدما سمع منهم هذه الأباطيلَ فقيل قال لمَّا رآهم قد أصرُّوا على الكفر والتَّكذيبِ وتمادَوا في الغواية والضَّلالِ حتَّى يئسَ من إيمانهم بالكلِّيةِ وقد أوحى اللَّهُ إليه أنه لنْ يؤمنَ من قومك إلاَّ مَن قد آمنَ { رَبّ انصرنى } بإهلاكهم بالمرَّةِ فإنَّه حكاية إجماليَّةٌ لقوله عليه السَّلامُ . { رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } الخ { بِمَا كَذَّبُونِ } أي بسبب تكذيبهم إيَّاي أو بدل تكذيبهم { فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ } عند ذلك { أَنِ اصنع الفلك } أنْ مفسِّرة لما في الوحي من معنى القول { بِأَعْيُنِنَا } ملتبساً بحفظِنا وكلاءتِنا كأنَّ معه عليه السَّلامُ منه عزَّ وعلا حُفَّاظاً وحُرَّاساً يكلؤونه بأعينهم من التَّعدِّي أو من الزَّيغِ في الصَّنعةِ . { وَوَحْيِنَا } وأمرِنا وتعليمنا لكيفيَّة صُنعها والفاء في قوله تعالى : { فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا } لترتيب مضمون ما بعدها على تمام صُنع الفُلك . والمرادُ بالأمر العذابُ كما في قوله تعالى : { لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله } لا الأمرُ بالرُّكوبِ كما قيل وبمجيئه كمالُ اقترابهِ أو ابتداءُ ظهورهِ . أي إذا جاء إثرَ تمامِ الفُلكِ عذابُنا وقوله تعالى : { وَفَارَ التنور } عطفُ بيانٍ لمجيء الأمر . رُوي أنَّه قيل له عليه السَّلامُ إذا فار الماءُ من التَّنُّورِ اركبْ أنت ومن معك وكان تنُّور آدمَ عليه السَّلامُ فصار إلى نوحٍ عليه السَّلامُ فلمَّا نبع منه الماء أخبرتْهُ امرأتهُ فركبُوا . واختُلف في مكانه فقيل كان في مسجدِ الكوفةِ أي في موضعه عن يمينِ الدَّاخلِ من باب كِندة اليوم وقيل كان في عين وَردة من الشَّامِ . وقد مرَّ تفصيلُه في تفسير سُورة هودٍ عليه السَّلامُ { فاسلك فِيهَا } أي أدْخِلْ فيها يقال سَلَك فيه أي دَخَلَ فيه وسَلَكه فيه أي أدْخَلَه فيه . ومنه قوله تعالى : { مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ } { مِن كُلّ } أي من كلِّ أمِّةٍ { زَوْجَيْنِ } أي فردينِ مزدوجينِ كما يُعرب عنه قوله تعالى : { اثنين } فإنَّه نصٌّ في الفردين دون الجمعينِ أو الفريقينِ . وقُرىء بالإضافةِ على أنَّ المفعولَ اثنينِ أي من كلِّ أمتي زوجينِ وهُما أمَّة الذَّكرِ وأُمَّة الأُنثى كالجمالِ والنُّوقِ والحصنِ والرماك . وهذا صريحٌ في أنَّ الأمر كان قبل صُنعه الفُلكَ . وفي سُورةِ هودٍ : { حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ } فالوجهُ أنْ يحملَ إمَّا على أنَّه حكايةٌ لأمرٍ آخرَ تنجيزيَ ورد عند فَوَران التَّنُّورِ الذي نِيط به الأمرُ التَّعليقيُّ اعتناءً بشأن المأمور به أو على أنَّ ذلك هو الأمرُ السَّابقُ بعينه لكن لمَّا كان الأمرُ التَّعليقيُّ قبل تحقُّقِ المعلَّقِ به في حقِّ إيجابِ المأمورِ به بمنزلة العدم جُعل كأنَّه إنَّما حدث عند تحقُّقهِ فحُكي على صورةِ التَّنجيزِ وقد مرَّ في تفسيرِ قوله تعالى :(4/497)
{ وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لاِدَمَ . } { وَأَهْلَكَ } منصوبٌ بفعل معطوف على فاسلُك لا بالعطف على زوجينِ أو اثنين على القراءتينِ لأدائه إلى اختلالِ المعنى أي واسلُك أهلَك ، والمرادُ به امرأتُه وبنُوه . وتأخيرُ الأمر بإدخالهم عمَّا ذُكر من إدخال الأزواجِ فيها لكونِه عريقاً فيما أُمر به من الإدخال فإنَّه محتاجٌ إلى مزاولة الأعمال منه عليه السَّلامُ بل إلى معاونةٍ من أهلِه وأتباعِه . وأمَّا هم فإنَّما يدخلونَها باختيارِهم بعد ذلك ولأنَّ في المؤخَّرِ ضربُ تفصيلٍ بذكر الاستثناء وغيرِه فتقديمُه يؤدِّي إلى الإخلالِ بتجاوبِ أطرافِ النَّظمِ الكريمِ { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ } أي القولُ بإهلاكِ الكَفَرةِ وإنَّما جيء بعلى لكون السَّابقِ ضارًّا كما جيء باللامِ في قوله تعالى : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى } لكونِه نافعاً { وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ } بالدُّعاءِ لإنجائهم { إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } تعليلٌ للنَّهيِ أو لما ينبىءُ عنه من عدم قبول الدُّعاءِ أي إنَّهم مقضيٌّ عليهم بالإغراقِ لا محالةَ لظُلمهم بالإشراك وسائر المَعَاصي . ومَن هذا شأنُه لا يُشفعُ له ولا يُشفَّعُ فيه كيف لا وقد أُمر بالحمدِ على النَّجاةِ منهم بهلاكِهم بقوله تعالى : { فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ } أي من أهلِك وأشياعِك { عَلَى الفلك فَقُلِ الحمد للَّهِ الذى نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين } على طريقةِ قوله تعالى : { فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبّ العالمين }(4/498)
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)
{ وَقُل رَّبّ أَنزِلْنِى } في السَّفينةِ أو منها { مُنزَلاً مُّبَارَكاً } أيْ إنزالاً أو موضعَ إنزالٍ يستتبعُ خيراً كثيراً . وقُرىء مَنْزلاً أي موضعَ نزولٍ { وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين } أُمر عليه السَّلامُ بأنْ يشفع دعاءه بما يُطابقه من ثنائه عزَّ وجلَّ توسُّلاً به إلى الإجابةِ . وإفرادُه عليه السَّلامُ بالأمر مع شركة الكلِّ في الاستواءِ والنَّجاةِ لإظهار فضله عليه السَّلامُ والإشعارِ بأنَّ في دُعائه وثنائِه مندوحةً عمَّا عداهُ .
{ إِنَّ فِى ذَلِكَ } الذي ذُكر ممَّا فُعل له عليه السَّلامُ وبقومِه { لاَيَاتٍ } جليلةً يستدلُّ بها أُولو الأبصارِ ويعتبر بها ذَوُو الاعتبار { وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } إنْ مخفَّفةٌ من أنَّ واللامُ فارقةٌ بينها وبين النَّافيةِ . وضميرُ الشَّأنِ محذوفٌ أي وإنَّ الشَّأنَ كُنَّا مصيبين قومَ نوحٍ ببلاء عظيم وعقاب شديد أو مختبرين بهذه الآياتِ عبادَنا لننظر مَن يعتبرُ ويتذكَّر ، كقولِه تعالى : { وَلَقَدْ تركناها ءايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } { ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ } أي من إهلاكِهم { قَرْنٍ ءَاخَرِينَ } هم عادٌ حسبما رُوي عن ابن عبِّاسٍ رضي الله عنهما وعليه أكثرُ المُفسِّرين وهو الأوفقُ لما هو المعهودُ في سائرِ السُّورِ الكريمةِ من إيراد قصَّتهم إثرَ قصَّةِ قومِ نوحٍ . وقيل : هم ثمودُ { فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ } جُعلُوا موضعاً للإرسال كما في قوله تعالى : { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ } ونحوه لا غايةً له كما في مثل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ } للإيذانِ من أوَّلِ الأمر بأنَّ مَن أُرسل إليهم لم يأتِهم من غير مكانِهم بل إنَّما نشأَ فيما بين أظهرِهم كما ينبىءُ عنه قولُه تعالى : { رَسُولاً مّنْهُمْ } أي من جُملتهم نسباً فإنَّهما عليهما السَّلامُ كانا منهم . وأنْ في قولِه تعالى : { أَنِ اعبدوا الله } مفسِّرةٌ لأرسلنا لتضمُّنِه معنى القولِ أي قُلنا لهم على لسانِ الرَّسولِ : اعبدُوا الله تعالى . وقولُه تعالى : { مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ } تعليلٌ للعبادة المأمور بها أو للأمرِ بها أو لوجوب الامتثال به { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } أي عذابَه الذي يستدعيه ما أنتُم عليه من الشِّركِ والمعاصي . والكلامُ في العطفِ كالذي مرَّ في قصَّةِ نوحٍ عليه السَّلامُ .(4/499)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)
{ وَقَالَ الملا مِن قَوْمِهِ } حكايةٌ لقولهم الباطل إثرَ حكاية القول الحقِّ الذي ينطق به حكايةُ إرسال الرَّسولِ بطريق العطفِ على أنَّ المرادَ حكايةُ مطلقِ تكذيبهم له عليه السَّلامُ إجمالاً لا حكايةُ ما جرى بينه عليه السَّلامُ وبينهم من المُحاورةِ والمُقاولةِ تفصيلاً حتَّى يُحكى بطريقِ الاستئناف المبنيِّ على السُّؤال كما ينبىءُ عنه ما سيأتي من حكايةِ سائر الأُمم أي وقال الأشرافُ من قومِه { الذين كَفَرُواْ } في محلِّ الرَّفعِ على أنَّه صفةٌ للملأُ وُصفوا بذلك ذمًّا لهم وتنبيهاً على غلوِّهم في الكُفرِ . وتأخيرُه عن مِن قومِه لعطفِ قوله تعالى : { وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء الأخرة } وما عُطف عليه على الصِّلةِ الأُولى أي كذَّبُوا بلقاء ما فيها من الحساب والثَّوابِ والعقاب أو بمعادِهم إلى الحياة الثَّانيةِ بالبعث { وأترفناهم } ونعَّمناهم { فِى الحياة الدنيا } بكثرةِ الأموالِ والأولادِ أي قالوا لأعقابهم مضلِّين لهم : { مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } أي في الصِّفاتِ والأحوالِ ، وإيثارُ مثلكم على مثلنا للمبالغة في تهوينِ أمرِه عليه السَّلامُ وتوهينِه { يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } تقريرٌ للمماثلة . وما خبريةٌ . والعائدُ إلى الثَّاني منصوبٌ محذوفٌ أو مجرورٌ وقد حُذف مع الجارِّ لدلالةِ ما قبله عليه .
{ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مّثْلَكُمْ } أي فيما ذُكر من الأحوالِ والصِّفات أي إنِ امتثلتُم بأوامرِه { إِنَّكُمْ إِذاً } أي على تقديرِ الاتباع { لخاسرون } عقولَهم ومغبونون في آرائهم حيثُ أذللتُم أنفسَكم أي انظر كيف جعلُوا اتباعَ الرَّسولِ الحقِّ الذي يوصِّلُهم إلى سعادةِ الدَّارينِ خُسراناً دُون عبادةِ الأصنامِ التي لا خُسرانَ وراءها قاتلهم الله أنَّى يُؤفكون . وإذاً واقعٌ بين اسمِ إنَّ وخبرِها لتأكيد مضمون الشَّرطِ . والجملةُ جوابٌ لقسمٍ محذوفٍ قبل إنِ الشَّرطيةِ المصدَّرةِ باللام الموطئةِ . أي وبالله لئن أطعتمُ بشراً مثلَكم إنَّكم إذاً لخاسرونَ .
{ أَيَعِدُكُمْ } استئنافٌ مسوق لتقرير ما قبله من اتِّباعِه عليه السَّلامُ بإنكار وقوع ما يدعُوهم إلى الإيمان واستبعاده . { أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ } بكسر الميمِ ، من ماتَ يَماتُ . وقُرىء بضمِّها من ماتَ يموتُ . { وَكُنتُمْ تُرَاباً وعظاما } نَخِرةً مجرَّدةً عن اللُّحوم والأعصابِ أي كان بعضُ أجزائِكم من اللَّحم ونظائرِه تُراباً ، وبعضُها عظاماً . وتقديمُ التُّراب لعراقتِه في الاستبعادِ وانقلابِه من الأجزاءِ الباديةِ . أو كان متقدِّموكم تُراباً صِرفاً ومتأخِّروكم عظاماً . وقوله تعالى : { إِنَّكُمْ } تأكيد للأوَّلِ لطول الفصلِ بينه وبين خبرِه الذي هو قولُه تعالى : { مُّخْرَجُونَ } أي من القبورِ أحياءً كما كنتُم . وقيل : أنَّكم مخرجون مبتدأٌ وإذا مِتُم خبرُه على معنى إخراجُكم إذا متُم ثم أخبر بالجملة على أنَّكم . وقيل : رُفع أنَّكم مخرجون بفعلٍ هو جزاءُ الشَّرطِ كأنَّه قيل : إذا مِتُم وقعَ إخراجُكم ثم أُوقعتْ الجملةُ الشَّرطيةُ خبراً عن أنَّكم . والذي تقتضيهِ جزالةُ النَّظمِ الكريمِ هو الأوَّلُ . وقُرىء أيعدكم إذَا متم الخ .(4/500)
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
{ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ } تكريرٌ لتأكيد البُعدِ أي بُعدِ الوقوع أو الصِّحةِ . { لِمَا تُوعَدُونَ } وقيل : اللامُ لبيان المستبعَدِ ما هو كما في { هَيْتَ لَكَ } كأنَّهم لما صوَّتوا بكلمةِ الاستبعادِ قيل : لِمَ هذا الاستبعادُ؟ فقيل : لما تُوعدون . وقيل : هيهاتَ بمعنى البُعدِ وهو مبتدأٌ خبرُه لما تُوعدون . وقُرىء بالفتحِ مُنوَّناً للتَّنكيرِ ، وبالضَّمِّ منوَّناً على أنَّه جمعُ هَيْهةٍ ، وغيرَ منوَّن تشبيهاً بقبلُ ، وبالكسرِ على الوجهينِ ، وبالسُّكون على لفظِ الوقفِ ، وإبدالِ التَّاء هاءً .
{ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } أصله إنْ الحياةُ إلاَّ حياتُنا . فأُقيم الضَّميرُ مُقامَ الأُولى لدلالة الثَّانيةِ عليها حَذَراً من التَّكرارِ ، وإشعاراً بإغنائِها عن التَّصريحِ كما في : هي النَّفسُ تتحملُ ما حُمِّلتْ . وهي العربُ تقول ما شاءتْ وحيثُ كان الضَّميرُ بمعنى الحياةِ للدلالة على الجنسِ كانتْ إنِ النَّافيةُ بمنزلةِ لا النَّافيةِ للجنسِ . وقولُه تعالى : { نَمُوتُ وَنَحْيَا } جملةٌ مفسِّرةٌ لما ادَّعوه مِن أنَّ الحياةَ هي الدُّنيا أي يموتُ بعضُنا أو يُولد بعضٌ إلى انقراضِ العصرِ { وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } بعد الموتِ .
{ إِنْ هُوَ } أي ما هُو { إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِباً } فيما يدَّعيه من إرسالِه وفيما يَعدُنا من أنَّ الله يبعثُنا { وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ } بمصدِّقين فيما يقولُه .
{ قَالَ } أي هودُ عليه السَّلامُ عند يأسِه من إيمانهم بعد ما سلكَ في دعوتِهم كلَّ مسلكٍ منصرفاً إلى الله عَزَّ وجَلَّ { رَبّ انصرنى } وانتقم لي منهم { بِمَا كَذَّبُونِ } أي بسببِ تكذيبهم أيَّاي وإصرارِهم عليه .
{ قَالَ } تعالى إجابةً لدعائِه وعدةً بالقَبُول { عَمَّا قَلِيلٍ } أي عن زمانٍ قليلٍ وما مزيدةٌ بين الجارِّ والمجرورِ لتأكيدِ معنى القلَّةِ كما زِيدتْ في قوله تعالى : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله } أو نكرةٌ موصوفةٌ أي عن شيءٍ قليلٍ { لَّيُصْبِحُنَّ نادمين } على ما فعلوه من التَّكذيب وذلك عند معاينتِهم للعذابِ .
{ فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة } لعلَّهم حين أصابتهم الرِّيحُ العقيمُ أُصيبوا في تضاعيفها بصيحةٍ هائلةٍ أيضاً . وقد رُوي أنَّ شدَّادَ بنَ عادٍ حين تمَّ بناءُ إرمَ سار إليها بأهلِه فلمَّا دنا منها بعثَ الله عليهم صيحةً من السَّماءِ فهلكُوا . وقيل : الصَّيحةُ نفسُ العذابِ والموتِ . وقيل : هي العذابُ المصطَلِمُ قال قائلُهم
صاحَ الزَّمانُ بآلِ بَرمكَ صيحة ... خَرُّوا لشدَّتِها عَلَى الأذقانِ
{ بالحق } متعلِّقٌ بالأخذ أي بالأمر الثَّابتِ الذي لا دفاعَ له أو بالعدل من الله تعالى أو بالوعد الصِّدقِ { فجعلناهم غُثَاء } أي كغُثاءِ السَّيلِ وهو حَميلُه { فَبُعْداً لّلْقَوْمِ الظالمين } إخبار أو دعاء وبُعداً من المصادر التي لا يكادُ يُستعمل ناصبُها . والمعنى بعدُوا بُعداً ، أي هلكُوا . واللامُ لبيانِ مَن قيلَ له : بُعداً ووضعُ الظَّاهر موضعَ الضَّميرِ للتَّعليلِ .(5/1)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
{ ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ } أي بعد هلاكِهم { قُرُوناً ءاخَرِينَ } هم قومُ صالحٍ ولوطٍ وشُعيبٍ عليهم السَّلامُ وغيرُهم .
{ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا } أي ما تتقدَّمُ أمةٌ من الأُممِ المهلَكةِ الوقت الذي عُيِّن لهلاكِهم أي ما تهلكُ أمةٌ قبل مجيءِ أجلِها { وَمَا يَسْتَئْخِرُونَ } ذلك الأجلَ بساعةٍ .
وقوله تعالى : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا } عطفٌ على أنشأنا لكنْ لا على مَعْنى أنَّ إرسالَهم مُترَاخٍ عن إنشاء القُرون المذكورةِ جميعاً بل على مَعْنى أنَّ إرسالَ كلِّ رسولٍ متأخِّرٌ عن إنشاءِ قرنٍ مخصُوصٍ بذلك الرَّسولِ ، كأنَّه قيل : ثمَّ أنشأنا من بعدِهم قُروناً آخرينَ قد أرسلنا إلى كلِّ قرنٍ منهُم رسولاً خاصًّا بهِ . والفصلُ بين المعطوفينِ بالجملة المعترِضةِ النَّاطقةِ لعدم تقدُّمِ الأممِ أجلَها المضروبَ لهلاكِهم للمسارعةِ إلى بيان هلاكِهم على وجهٍ إجماليَ { تَتْرَى } أي متواتِرينَ واحداً بعد واحدٍ من الوِتْرِ وهو الفَردُ . والتَّاءُ بدلٌ من الواوِ كما في تولج وينقوا . والألفُ للتأنيثِ باعتبار أنَّ الرُّسلَ جماعةٌ . وقُرىء بالتَّنوينِ على أنَّه مصدرٌ بمعنى الفاعلِ وقع حالاً . وقولُه تعالى : { كُلَّمَا جَاءهُمْ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ } استئنافٌ مبيِّنٌ لمجيء كلِّ رسولٍ لأمَّتِه ولما صدرَ عنهم عند تبليغِ الرِّسالةِ . والمرادُ بالمجيءِ إمَّا التَّبليغُ وإمَّا حقيقةُ المجيء للإيذانِ بأنَّهم كذَّبوه في أوَّلِ المُلاقاة . وإضافةُ الرَّسولِ إلى الأُمَّةِ مع إضافة كلِّهم فيما سبق إلى نُونِ العظمةِ لتحقيق أنَّ كلَّ رسولٍ جاء أُمَّته الخاصَّةَ به لا أنَّ كلَّهم جاءوا كلَّ الأممِ ، والإشعارِ بكمالِ شناعتِهم وضلالِهم حيثُ كذَّبتْ كلُّ واحدةٍ منهُم رسولَها المعيَّنِ لها . وقيل : لأنَّ الإرسالَ لائقٌ بالمرسلِ والمجيءُ بالمرسلِ إليهم { فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً } في الهلاكِ حسبما تبع بعضُهم بعضاً في مباشرة أسبابِه التي هي الكفرُ والتَّكذيبُ وسائرُ المعاصي { وجعلناهم أَحَادِيثَ } لم يبقَ منهم إلا حكاياتٌ يعتبر بها المعتبرون وهو اسمُ جمعٍ للحديثِ أو جمعُ أُحدوثةٍ وهي ما يُتحدَّثُ به تَلهِّياً كأعاجيبَ جمعُ أُعجوبةٍ وهي ما يُتعجَّبُ منه أي جعلناهم أحاديثَ يُتحدَّثُ بها تَلهِّياً وتعجُّباً { فَبُعْداً لّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } اقتصر هاهنا على وصفهم بعدمِ الإيمانِ حسبما اقتصر على حكايةِ تكذيبهم إجمالاً . وأمَّا القُرونُ الأَوَّلُون فحيث نُقل عنهم ما مرَّ من الغُلوِّ وتجاوزِ الحدِّ في الكُفرِ والعُدوانِ وُصفوا بالظُّلمِ .(5/2)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)
{ ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هارون بئاياتنا } هي الآياتُ التِّسعُ من اليدِ والعَصَا والجرادِ والقُمَّلِ والضَّفادعِ والدَّمِ ونقصِ الثَّمراتِ والطَّاعون . ولا مساغَ لعدِّ فلقِ البحر منها إذِ المرادُ هي الآياتُ التي كذَّبوها واستكبرُوا عنها { وسلطان مُّبِينٍ } أي حجَّةٍ واضحةٍ مُلزمةٍ للخَصمِ ، وهي إمَّا العَصَا ، وإفرادُها بالذِّكرِ مع اندراجِها في الآياتِ لما أنَّها أمُّ آياتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأُولاها وقد تعلقتْ بها معجزاتٌ شَتَّى من انقلابِها ثُعباناً وتلقُّفها لما أفكته السَّحرةُ حسبما فُصِّل في تفسير سُورةِ طاه ، وأمَّا التَّعرُّضُ لانفلاقِ البحرِ وانفجارِ العُيون من الحجرِ بضربها وحراستِها وصيرورتِها شمعةً وشجرةً خضراءَ مثمرةً ودَلْواً ورِشَاءَ وغيرَ ذلك ممَّا ظهرَ منها من قبلُ ومن بعدُ في غير مشهدِ فرعونَ وقومِه فغيرُ ملائمٍ لمقتضى المقامِ ، وأمَّا نفسُ الآياتِ كقولِه
إلى الملكِ القَرمِ وابنِ الهُمامِ ... الخ . عبَّر عنها بذلك على طريقةِ العطفِ تنبيهاً على جمعها لعُنوانينِ جليلينِ وتنزيلاً لتغايرِهما منزلةَ التَّغايرِ الذَّاتيِّ .
{ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } أي أشرافِ قومِه خُصُّوا بالذِّكرِ لأنَّ إرسالَ بني إسرائيلَ منوطٌ بآرائِهم لا بآراءِ أعقابهم { فاستكبروا } عن الانقيادِ وتمرَّدوا { وَكَانُواْ قَوْماً عالين } متكبِّرين مُتمرِّدين { فَقَالُواْ } عطفٌ على استكبرُوا ، وما بينهما اعتراضٌ مقرِّرٌ للاستكبارِ أي كانُوا قوماً عادتُهم الاستكبارُ والتَّمرد أي قالُوا فيما بينهم بطريقِ المُناصحةِ : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } ثَنَّى البشرَ لأنَّه يُطلقُ على الجمعِ كما في قوله تعالى : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً } ولم يثنِّ المِثْلَ نظراً إلى كونِه في حكمِ المصدرِ . وهذه القصصُ كما تَرى تدلُّ على أنَّ مدار شُبَه المُنكرين للنُّبوةِ قياسُ حالِ الأنبياءِ على أحوالِهم بناءً على جهلِهم بتفاصيلِ شؤونِ الحقيقةِ البشريَّةِ وتباينِ طبقاتِ أفرادِها في مراقي الكمالِ ومَهَاوي النُّقصانِ بحيثُ يكونُ بعضُها في أعلى عِلِّييِّنَ وهم المختصُّون بالنُّفوس الزكيَّةِ المؤيِّدون يالقُوَّةِ القُدسيَّةِ المتعلِّقون لصفاءِ جواهرِهم بكِلا العالمينِ الرُّحانيِّ والجسمانيِّ يتلقَّون من جانبٍ ويُلقون من جانبٍ ولا يعوقُهم التَّعلُّقُ بمصالحِ الخلقِ عن التَّبتلِ إلى جنابِ الحقِّ وبعضُها في أسفلِ سافلينَ كأولئك الجَهَلة الذين هم كالأنعامِ بلْ هُم أضلُّ سبيلاً { وَقَوْمُهُمَا } يعنون بني إسرائيلَ { لَنَا عابدون } أي خادمون مُنقادون لنا كالعبيدِ وكأنَّهم قصدُوا بذلك التَّعريضَ بشأنِهما عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ وحطَّ رتبتهما العليَّةِ عن منصب الرِّسالةِ من وجهٍ آخرَ غيرِ البشريَّةِ واللامُ في لنا متعلِّقةٌ بعابدون وقُدِّمت عليه رعايةً للفواصلِ . والجملةُ حالٌ من فاعلِ نُؤمنُ مؤكِّدةٌ لإنكارِ الإيمانِ لهما بناءً على زعمهم الفاسدِ المُؤَسَّسِ على قياسِ الرِّياسةِ الدِّينيةِ على الرِّياساتِ الدُّنيويَّةِ الدَّائرةِ على التَّقدُّمِ في نيل الحظوظِ الدَّنيةِ من المالِ والجاهِ كدأبِ قُريشٍ حيثُ قالُوا : { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } وقالُوا : { لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ } وجهلِهم بأنَّ مناطَ الاصطفاءِ للرِّسالةِ هو السَّبقُ في حيازةِ ما ذُكر من النُّعوت العليةِ وإحرازِ المَلَكاتِ السَّنية جِبلَّةً واكتساباً .(5/3)
فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
{ فَكَذَّبُوهُمَا } أي فتموا على تكذيبهما وأصرُّوا واستكبروا استكباراً { فَكَانُواْ مِنَ المهلكين } بالغرقِ في بحرِ قُلْزم .
{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا } أي بعد إهلاكِهم وإنجاءِ بني إسرائيلَ من ملكتهم { مُوسَى الكتاب } أي التَّوارةَ ، وحيث كان إيتاؤُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إيَّاها لإرشاد قومِه إلى الحقِّ كما هو شأنُ الكتبِ الإلهية جعلوا كأنَّهم أُوتوها فقيلَ : { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } أي إلى طريق الحقِّ بالعمل بما فيها من الشَّرائعِ والأحكام ، وقيل : أُريد آتينا قومَ مُوسى فحُذف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مقامَه كما في قوله تعالى : { على خَوْفٍ مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ } أي من آلِ فرعونَ وملئهم ولا سبيلَ إلى عود الضَّميرِ إلى فرعونَ وقومه لظهور أنَّ التَّوراةَ إنَّما نزلتْ بعد إغراقِهم لبني إسرائيلَ وأمَّا الاستشهادُ على ذلك بقوله : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الاولى } فممَّا لا سبيلَ إليه ضرورةَ أنْ ليس المرادُ بالقرونِ الأُولى ما يتناولُ قومَ فوعونَ بل من كان قبلهم من الأمم المُهلكةِ خاصَّةً كقومِ نوحٍ وقومِ هُودٍ وقومِ صالحٍ وقومِ لوطٍ كما سيأتي في سورة القصص .
{ وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً } وأيّةَ آيةٍ دالَّة على عظيمِ قُدرتِنا بولادتِه منها من غير مسيسِ بشرٍ فالآيةُ أمرٌ واحدٌ نُسب إليهما أو جعلنا ابنَ مريمَ آيةً بأنْ تكلَّم في المهدِ فظهرتْ منه معجزاتٌ جمَّةٌ وأمَّه آيةً بأنَّها ولدتْهُ من غير مسيسٍ فحذفت الأولى لدلالة الثَّانيةِ عليها . والتَّعبيرُ عنهما بما ذُكر من العُنوانينِ وهما كونُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ابنَها وكونُها أمَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ للإيذانِ من أوَّلِ الأمرِ بحيثيةِ كونِهما آيةً فإنَّ نسبتَهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إليها مع أنَّ النَّسبَ إلى الآباءِ دالة على أنَّ لا أبَ له أي جعلنا ابنَ مريمَ وحدَها من غيرِ أنْ يكونَ له أبٌ وأمه التي ولدته خاصَّةً من غيرِ مشاركةِ الأبِ آيةً . وتقديمُه عليه الصِّلاةُ والسَّلامُ لأصالتِه فيما ذُكر من كونِه آيةً كما أنَّ تقديمَ أمِّه في قولِه تعالى : { وجعلناها وابنها ءايَةً للعالمين } لأصالتِها فيما نُسب إليها من الإحسانِ والنَّفخِ .
{ وَآوَيناهُمَا إِلَى ربوَةٍ } أي أرضٍ مُرتفعةٍ . قيل : هي إيليا أرضُ بيتِ المقدسِ فإنَّها مرتفعةٌ وأنها كبدُ الأرضِ وأقربُ الأرضِ إلى السَّماءِ بثمانيةَ عشرَ ميلاً على ما يُروى عن كعبٍ . وقيل : دمشقُ وغوطتُها . وقيل : فِلسطينُ والرَّملةُ . وقيل : مصرُ فإنَّ قُراها على الرُّبا . وقُرىء بكسرِ الرَّاءِ وضمِّها ورِباوةٍ بالكسرِ والضَّمِّ { ذَاتِ قَرَارٍ } مستقرَ من أرضٍ منبسطةٍ سهلةٍ يستقرُّ عليها ساكنُوها . وقيل : ذاتِ ثمارٍ وزروعٍ لأجلها يستقرُّ فيها ساكنُوها { وَمَعِينٍ } أي وماءٍ مَعينٍ ظاهرٍ جارٍ . فعيلٌ من مَعنَ الماءُ إذا جَرى ، وأصلُه الإبعادُ في المشيِ ، أو من الماعونِ وهو النَّفعُ لأنَّه نَفَّاعٌ . أو مفعولٌ من عانَه إذا أدركَه بالعَينِ فإنَّه لظهورِه يُدرك بالعُيونِ . وُصف ماؤُها بذلك للإيذانِ بكونِه جامعاً لفُنون المنافعِ من الشُّربِ وسقيِ ما يُسقى من الحيوان والنَّباتِ بغيرِ كُلفةٍ ، والتنزُّهِ بمنظرِه المُونقِ .(5/4)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
{ يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات } حكايةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهِ الإجمالِ لما خُوطب به كلُّ رسولٍ في عصرِه ، جيءَ بها إثرَ حكايةِ إيواءِ عِيْسى عليه السَّلامُ وأمِّه إلى الرَّبوةِ إيذاناً بأنَّ ترتيبَ مبادي التَّنعم لم يكن من خصائصِه عليه السَّلامُ بل إباحةُ الطَّيباتِ شرعٌ قديمٌ جرى عليه جميعُ الرُّسلِ عليهم السَّلامُ ووُصفوا به . أي وقُلنا لكلِّ رسولٍ كُلْ من الطَّيباتِ واعملْ صالحاً ، فعبَّر عن تلك الأوامرِ المُتعدِّدةِ المتعلِّقةِ بالرُّسلِ بصيغةِ الجمعِ عند الحكايةِ إجمالاً للإيجازِ . وفيه من الدِّلالةِ على بُطلان ما عليهِ الرَّهابنةُ من رفضِ الطَّيباتِ ما لا يَخْفى . وقيل : حكايةٌ لما ذُكر لعيسَى عليه السَّلامُ وأمِّه عند إيوائِهما إلى الرَّبوةِ ليقتديَا بالرُّسلِ في تناولِ ما رُزقا . وقيل : نداءٌ وخطابٌ له والجمعُ للتَّعظيمِ . وعن الحسنِ ومُجاهدٍ وقَتَادةَ والسُّدِّيِّ والكَلْبيِّ رحمهم الله تعالى أنَّه خطابٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وحدَهُ على دأبِ العربِ في مخاطبةِ الواحدِ بلفظِ الجمعِ . وفيه إبانةٌ لفضلِه وقيامِه مقامَ الكلِّ في حيازةِ كمالاتِهم . والطَّيباتُ ما يُستطاب ويُستلذُّ من مباحاتِ المأكلِ والفواكِه حسبما يُنبىء عنه سياقُ النَّظمِ الكريمِ ، فالأمرُ للتَّرفيهِ { واعملوا صالحا } أي عملاً صالحاً فإنَّه المقصودُ منكم والنَّافعُ عند ربِّكم { إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ } من الأعمالِ الظَّاهرةِ والباطنةِ { عَلِيمٌ } فأجازيكم عليهِ .
{ وَإِنَّ هذه } استئنافٌ داخلٌ فيما خُوطب به الرُّسلُ عليهم السَّلامُ على الوجهِ المذكورِ مسوقٌ لبيانِ أنَّ ملَّة الإسلامِ والتَّوحيدِ ممَّا أُمر به كافَّةُ الرُّسلِ عليهم السَّلامُ والأممِ . وإنَّما أُشير إليها بهذه للتَّنبيهِ على كمالِ ظُهور أمرِها في الصِّحَّة والسَّدادِ وانتظامِها بسببِ ذلكَ في سلكِ الأمور المُشاهَدةِ { أُمَّتُكُمْ } أي ملَّتُكم وشريعتُكم أيُّها الرُّسل { أُمَّةً وَاحِدَةً } أي مِلَّةً وشريعةً متَّحدةً في أصولِ الشَّرائعِ التي لا تتبدلُ بتبديلِ الأعصارِ . وقيل : هذه إشارةٌ إلى الأممِ المؤمنةِ للرُّسلِ ، والمعنى إنَّ هذه جماعتُكم جماعةً واحدةً متَّفقةً على الإيمانِ والتَّوحيدِ في العبادةِ { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ } من غيرِ أنْ يكونَ لي شريكٌ في الرُّبوبيَّةِ . وضميرُ المُخاطَب فيه وفي قوله تعالى : { فاتقون } أي في شقِّ العَصَا والمخالفةِ بالإخلالِ بمواجبِ ما ذُكر من اختصاصِ الرُّبوبيةِ بي للرُّسلِ والأممِ جميعاً على أنَّ الأمرَ في حقِّ الرُّسلِ للتَّهييجِ والإلهابِ وفي حقِّ الأممِ للتَّحذيرِ والإيجابِ . والفاءُ لترتيبِ الأمرِ أو وجوبِ الامتثالِ به على ما قبلَه من اختصاصِ الرُّبوبيةِ به تعالى واتِّحادِ الأمَّةِ ، فإنَّ كُلاًّ منهما موجبٌ للاتِّقاءِ حَتْماً . وقُرىء وأنَّ هذه بفتحِ الهمزةِ على حذفِ اللامِ أي ولأنَّ هذه أمَّتُكم أمةً واحدةً وأنا ربُّكم فاتَّقون أي إنْ تتَّقونِ فاتَّقونِ ، كما مرَّ في قوله تعالى : { وإياى فارهبون } وقيل : على العطفِ على مَا ، أي إنِّي عليمٌ بأنَّ أمَّتَكم أمَّةٌ الخ . وقيل : على حذفِ فعلٍ عاملٍ فيه أي اعلمُوا أنَّ هذه أمَّتُكم الخ . وقُرىء وأنْ هذه على أنَّها مخففةٌ مِن أنّ .(5/5)
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)
{ فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ } حكايةٌ لما ظهرَ من أممِ الرُّسلِ بعدَهم من مخالفةِ الأمرِ وشقِّ العَصَا . والضَّميرُ لما دلَّ عليه الأمةُ من أربابِها أو لها على التَّفسيرينِ والفاء لترتيبِ عصيانِهم على الأمرِ لزيادةِ تقبيحِ حالِهم أي تقطَّعوا أمرَ دينِهم مع اتِّحادِه وجعلُوه قِطعاً متفرِّقةً وأدياناً مُختلفةً { بَيْنَهُمْ زُبُراً } أي قطعاً جمعُ زَبُورٍ بمعنى الفُرقةِ ويؤيِّدُه قراءةُ زُبَراً بفتحِ الباءِ جمعُ زَبرةٍ وهو حالٌ من أمرَهم أو مِن واوِ تقطَّعوا ، أو مفعولٌ ثانٍ له فإنَّه متضمِّنٌ لمعنى جعلُوا وقيل : كُتُباً فيكون مفعولاً ثانياً ، أو حالاً من أمرَهم عَلَى تقدير المضافِ أي مثل زُبُرٍ . وقُرىء بتخفيفِ الباءِ كرُسْلٍ في رُسُلٍ { كُلُّ حِزْبٍ } من أولئك المتحزِّبين { بِمَا لَدَيْهِمْ } من الدِّين الذي اختارُوه { فَرِحُونَ } مُعجَبون مُعتقِدون أنَّه الحقُّ .
{ فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ } شُبه ما هُم فيه من الجهالة بالماء الذي يغمرُ القامةَ لأنَّهم مغمورون فيها لاعبون بها . وقُرىء غَمَراتِهم . والخطابُ لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، والفاءُ لترتيبِ الأمرِ بالتَّركِ على ما قبله من كونِهم فرحينَ بما لديهم فإنَّ انهماكَهم فيما هم فيه وإصرارَهم عليه من مخايل كونِهم مطبوعاً على قُلوبهم أي اتركْهُم على حالهم { حتى حِينٍ } هو حينِ قتلِهم أو موتِهم على الكُفرِ أو عذابهم فهو وعيدٌ لهم بعذابِ الدُّنيا والآخرةِ وتسليةٌ لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ونهيٌ له عن الاستعجالِ بعذابِهم والجزعِ من تأخيرهِ . وفي التَّنكيرِ والإبهام ما لا يخفى من التَّهويلِ .
{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ } أي نعطيهم إيَّاه ونجعلُه مدداً لهم . فما موصولةٌ . وقولهُ تعالى : { مِن مَّالٍ وَبَنِينَ } بيانٌ لها ، وتقديمُ المالِ على البنينَ مع كونِهم أعزَّ منه قد مرَّ وجهُه في سورةِ الكهفِ لا خبرٌ لأنَّ وإنَّما الخبرُ قولُه تعالى : { نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الخيرات } على حذفِ الرَّاجعِ إلى الاسمِ أي أيحسبون أنَّ الذي نمدُّهم به من المالِ والبنينَ نسارعُ به لهم فيما فيهِ خيرُهم وإكرامُهم على أنَّ الهمزةَ لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه . وقولُه تعالى : { بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } عطفٌ على مقدَّرٍ ينسحبُ عليه الكلامُ أي كلاَّ لا نفعلُ ذلك بل هُم لا يشعرونَ بشيءٍ أصلاً كالبهائمِ لا فطنة لهم ولا شعورَ ليتأمَّلوا ويعرفُوا أنَّ ذلكَ الإمدادَ استدراجٌ لهم واستجرارٌ إلى زيادةِ الإثمِ وهُم يحسبونَهُ مسارعةً لهم في الخيراتِ . وقُرىء يمدُّهم على الغَيبةِ وكذلك يسارعُ ويسرعُ ويُحتمل أنْ يكون فيها ضميرُ الممدِّ بهِ . وقُرىء يُسارع مبنيًّا للمفعولِ .
{ إِنَّ الذين هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ } استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ مَن له المسارعةُ في الخيرات إثرَ إقناطِ الكُفَّار عنها وإبطالِ حسبانهم الكاذبِ أي من خوفِ عذابهِ حذرون .(5/6)
وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
{ والذين هُم بئايات رَبَّهِمْ } المنصوبة والمنزلةِ { يُؤْمِنُونَ } بتصديقِ مدلولِها { والذين هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ } شِرْكاً جليًّا ولا خفيًّا ، ولذلك أُخِّر عن الإيمانِ بالآياتِ ، والتَّعرضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ في المواقع الثَّلاثةِ للإشعارِ بعلِّيتها للإشفاقِ والإيمانِ وعدمِ الإشراكِ .
{ والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ } أي يُعطون ما أعطوه من الصَّدقاتِ . وقُرىء يأتون ما أتوا أي يفعلون ما فعلُوه من الطَّاعاتِ وأيّاً ما كان فصيغةُ الماضي في الصِّلة الثَّانيةِ للدِّلالة على التَّحقُّق كما أنَّ صيغة المضارعِ في الأُولى للدِّلالة عن الاستمرار { وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } حالٌ من فاعلِ يُؤتون أو يأتون أي يُؤتون ما آتوه أو يفعلون من العباداتِ ما فعلُوه والحالُ أنَّ قلوبهم خائفةٌ أشدَّ الخوفِ { أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون } أي من أنَّ رجوعهم إليهِ عزَّ وجلَّ على أنَّ مناطَ الوَجَلِ ألاَّ يُقبلَ منهم ذلك وألاَّ يقعَ على الوجهِ اللاَّئقِ فيُؤاخذُوا به حينئذٍ لا مجرَّدُ رجوعهم إليه تعالى وقيل لأنَّ مرجعَهم إليه تعالى . والموصولاتُ الأربعةُ عبارةٌ عن طائفةٍ واحدةٍ متَّصفةٍ بما ذُكر في حيِّزِ صِلاتِها من الأوصافِ الأربعةِ لا عن طوائفَ كلُّ واحدةٍ منها متَّصفةٌ بواحدٍ من الأوصافِ المذكورةِ ، كأنَّه قيلَ { إِنَّ الذين هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ والذين هُم بئايات يُؤْمِنُونَ } الخ وإنَّما كُرِّر الموصولُ إيذاناً باستقلالِ كلِّ واحدةٍ من تلكَ الصِّفاتِ بفضيلةٍ باهرةٍ على حيالِها ، وتنزيلاً لاستقلالها منزلة استقلالِ الموصوفِ بها .
{ أولئك } إشارةٌ إليهم باعتبارِ اتِّصافهم بها . وما فيهِ من مَعْنى البُعدِ للإشعارِ ببُعدِ رُتبتِهم في الفضلِ أي أولئكَ المنعُوتون بما فُصِّلَ من النُّعوتِ الجليلةِ خاصَّةً دُونَ غيرِهم { يسارعون فِى الخيرات } أي في نيلِ الخيراتِ التي من جُملتها الخيراتُ العاجلةُ الموعودةُ على الأعمالِ الصَّالحةِ كما في قوله تعالى : { فاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاخرة } وقوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النبوة والكتاب } فقد أثبتَ لهم ما نُفيَ عن أضدادِهم خلا أنَّه غيَّر الأسلوبَ حيثُ لم يقُلْ أولئكَ نُسارع لهم في الخيراتِ بل أسندَ المسارعة إليهم إيماءً إلى كمالِ استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسنِ أعمالهِم . وإيثارُ كلمةِ في على كلمةِ إلى للإيذان بأنَّهم متقلِّبون في فُنون الخيراتِ لا أنَّهم خارجُون عنها متوجِّهون إليها بطريق المُسارعة كما في قوله تعالى : { وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ } الآية { وَهُمْ لَهَا سابقون } أي إيَّاها سابقون واللاَّمُ لتقويةِ العملِ كما في قوله تعالى : { هُمْ لَهَا عاملون } أي ينالونَها قبل الآخرةِ حيثُ عُجِّلتْ لهم في الدُّنيا وقيل المرادُ بالخيراتِ الطَّاعاتُ . والمعنى يرغبون في الطَّاعاتِ والعباداتِ أشدَّ الرَّغبةِ وهم لأجلها فاعلون السَّبقَ أو لأجلِها سابقون النَّاسَ والأوَّلُ هو الأولى .(5/7)
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)
{ وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } جملةٌ مستأنفة سِيقتْ للتَّحريضِ على ما وُصف به السابقون من فعلِ الطَّاعاتِ المؤدِّي إلى نيل الخيرات ببيانِ سُهولتهِ وكونه غيرَ خارجٍ عن حدِّ الوسعِ والطَّاقةِ أي عادتُنا جاريةٌ على أنْ لا نكلِّفَ نَفْساً من النُّفوسِ إلاَّ ما في وُسعِها ، على أنَّ المرادَ استمرارُ النَّفيِ بمعونةِ المقامِ لا نَفيُ الاستمرارِ كما مرَّ مراراً . أو للتَّرخيصِ فيما هو قاصرٌ عن درجة أعمالِ أولئك الصَّالحينَ ببيانِ أنَّه تعالى لا يُكلِّفُ عباده إلاَّ ما في وُسعهم فإنْ لم يبلغوا في فعل الطَّاعاتِ مراتبَ السَّابقينَ فلا عليهم بعد أنْ يبذُلوا طاقتهم ويستفرغُوا وُسعهم . قال مقاتلٌ : من لم يستطعِ القيامَ فليصلِّ قاعداً ومَن لم يستطعِ القُعودَ فليومِ إيماءً ، وقولُه تعالى : { وَلَدَيْنَا كِتَابٌ } الخ تتمة لما قبلَه ببيانِ أحوالِ ما كُلِّفوه من الأعمالِ وأحكامِها المترتِّبةِ عليها من الحسابِ والثَّوابِ والعقابِ والمرادُ بالكتابِ صحائفُ الأعمالِ التي يقرأونها عند الحسابِ حسبما يُعربُ عنه قولُه تعالى : { يَنطِقُ بالحق } كقوله تعالى : { هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي عندنا كتابٌ قد أُثبتَ فيه أعمالُ كلِّ أحدٍ على ما هي عليهِ أو أعمالُ السَّابقينَ والمُقتصدينَ جميعاً لا أنَّه أُثبتَ فيه أعمالُ الأوَّلينَ وأُهمل أعمالُ الآخرينَ ففيهِ قطعُ معذرتِهم أيضاً . وقولُه بالحقِّ متعلِّقٌ بينطقُ أي يظهر الحقَّ المطابقَ للواقعِ على ما هو عليهِ ذاتاً ووصفاً ويبيِّنهُ للناظرِ كما يُبيِّنه النُّطقُ ويُظهره للسَّامعِ فيظهر هنالك جلائلُ أعمالهم ودقائقُها ويُرتب عليها أجزيتُها إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شرًّا فشرٌّ وقولُه تعالى : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } بيانٌ لفضلهِ تعالى وعدلهِ في الجزاءِ إثرَ بيانِ لُطفه في التَّكليفِ وكَتْبِ الأعمال أي لا يُظلمون في الجزاء بنقص ثواب أو بزيادة عذاب بل يُجزون بقدرِ أعمالهم التي كُلِّفوها ونطقت بها صحائفها بالحقِّ وقد جُوِّزَ أنْ يكونَ تقريراً لما قبله من التَّكليفِ وكَتْبِ الأعمال أي لا يُظلمون بتكليفِ ما ليس في وُسعهم ولا بعدم كَتْبِ بعض أعمالهم التي من جُملتِها أعمالُ المقتصدين بناءً على قُصورها عن درجة أعمال السَّابقينَ بل يُكتب كلٌّ منها على مقاديرِها وطبقاتها . والتَّعبيرُ عمَّا ذُكرِ من الأمور بالظُّلم مع أنَّ شيئاً منها ليس بظلم ما تقرر من أنَّ الأعمال الصَّالحة لا تُوجب أصل الثَّوابِ فضلاً عن إيجاب مرتبةٍ معينةٍ منه حتَّى تعدَّ الإثابةُ بما دونها نقصاً وكذلك الأعمالُ السَّيئةُ لا توجبُ درجةً معينة من العذابِ حتَّى بعد التَّعذيبِ بما فوقها زيادة وكذا تكليفُ ما في الوسعِ وكتبُ الأعمالِ ليسا ممَّا يجبُ عليه سُبحانه حتَّى يعد تركُهما ظُلماً لكمالِ تنزيه ساحةِ السُّبحانِ عنها بتصويرِها بصورةِ ما يستحيلُ صدوره عنه تعالى وتسميتُها باسمهِ .(5/8)
وقولُه تعالى : { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ مّنْ هذا } إضرابٌ عمَّا قبله . والضَّميرُ للكَفرة لا للكلِّ كما قبله أي بل قلوبُ الكَفَرةِ في غَفْلةٍ غامرةٍ لها من هذا الذي بُيِّن في القُرآن من أنَّ لديه تعالى كتاباً ينطقُ ويظهر لهم أعمالهم السَّيئةَ على رؤوس الأشهاد فيُجزون بها كما يُنبىءُ عنه ما سيأتي من قوله تعالى : { قَدْ كَانَتْ ءايَتِى تتلى عَلَيْكُمْ } الخ وقيل ممَّا عليه أولئك الموصُوفون بالأعمالِ الصَّالحةِ { وَلَهُمْ أعمال } سيِّئةٌ كثيرةٌ { مِن دُونِ ذَلِكَ } الذي ذُكر من كون قلوبِهم في غفلةٍ عظيمةٍ ممَّا ذُكر وهي فنونُ كفرهم ومعاصيهم التي مِن جُملتِها ما سيأتي من طعنِهم في القُرآن حسبما يُنبىءُ عنه قولُه تعالى : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامرا تَهْجُرُونَ } وقيل متخطية لما وُصف به المؤمنون من الأعمالِ الصَّالحةِ المذكورةِ وفيه أنَّه لا مزيَّة في وصف أعمالهم الخبيثة بالتَّخطِّي للأعمال الحسنة للمؤمنين وقيل متخطيةٌ عما هم عليه من الشرك ولا يخفى بعده لعدم جريان ذكره { هُمْ لَهَا عاملون } مستمرُّون عليها مُعتادُون فعلَها ضارون بها لا يكادون يَبرحُونها .(5/9)
حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)
{ حتى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ } أي متنعميهم وهم الذين أمدَّهم الله تعالى بما ذُكر من المالِ والبنينَ وحتَّى مع كونها غايةً لأعمالهم المذكورةِ مبدأ لما بعدها من مضمون الشَّرطيةِ أي لا يزالون يعملُون أعمالَهم إلى حيثُ إذا أخذنا رؤساءهم { بالعذاب } قيل هو القتلُ والأسرُ يومَ بدرٍ ، وقيل هو الجُوع الذي أصابهم حين دَعا عليهم رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بقوله : « اللهمَّ اشدُدْ وطأتكَ على مُضر واجعلها عليهم سنينَ كسِنِي يوسفَ » . فقحطُوا حتى أكلُوا الكلابَ والجِيفَ والعظامَ المحرقة والأولادَ . وأُلحق به العذابُ الأُخرويُّ إذ هو الذي يُفاجئون عنده الجؤارِ فيجابون بالردِّ والإقناطِ عن النَّصر وأما عذابُ يومِ بدرٍ فلم يُوجد لهم عنده جؤارٌ حسبما يُنبىءُ عنه قوله تعالى : { وَلَقَدْ أخذناهم بالعذاب فَمَا استكانوا لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } فإنَّ المرادَ بهذا العذاب ما جرى عليهم يومَ بدرٍ من القتلِ والأسرِ حَتْماً وأمَّا عذابُ الجوع فإنَّ أبا سُفيانَ وإنْ تضرَّع فيه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لكنْ لم يرد عليه بالإقناطِ حيث رُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قد دَعَا بكشفِه فكُشفَ عنهم ذلك { إِذَا هُمْ يَجْئَرُونَ } أي فاجؤا الصُّراخَ بالاستغاثةِ من اللَّهِ عزَّ وجلَّ كقوله تعالى : { وَمَا بِكُم } وهو جوابُ الشَّرطِ . وتخصيصُ مُترفيهم بما ذُكر من الأخذِ بالعذابِ ومفاجأةِ الجؤارِ مع عمومه لغيرهم أيضاً لغايةِ ظهورِ انعكاسِ حالهم وانتكاسِ أمرِهم وكونِ ذلك أشقَّ عليهم ولأنَّهم مع كونهم متمنِّعين محميينَ بحمايةِ غيرِهم من المنعةِ والحَشَم حين لقُوا ما لقُوا من الحالةِ الفظيعةِ فلأنْ يلقاها مَنْ عداهم من الحُماةِ والخدمِ أوْلى وأقدمُ .
{ لاَ تَجْئَرُواْ اليوم } على إضمار القول مَسُوقاً لردِّهم وتبكيتهم وإقناطهم ممَّا علَّقوا به أطماعَهم الفارغة بتفويتهم وقتَ الجُؤارِ . وقد جُوِّز كونُه جوابَ الشَّرطِ ، وأنت خبيرٌ بأنَّ المقصودَ الأصليَّ في الجملةِ الشَّرطيةِ هو الجوابُ فيؤدِّي ذلك إلى أنْ يكونَ مفاجأتُهم إلى الجُؤارِ غيرَ مقصودٍ أصليَ . وقولُه تعالى : { إِنَّكُمْ مّنَّا لاَ تُنصَرُونَ } تعليلٌ للنَّهي عن الجُؤارِ ببيانِ عدمِ إفادته ونفعهِ أي لا يلحقُكم من جهتِنا نصرةٌ تنجِّيكُم ممَّا دهمكُم وقيل لا تُغاثون ولا تُمنعون منَّا ولا يساعدُه سياقُ النَّظمِ الكريمِ لأنَّ جُؤارهم ليس إلى غيرِه تعالى حتَّى يرد عليهم بعدمِ منصوريّتهِم من قبلهِ ولا سياقهُ فإنَّ قوله تعالى : { قَدْ كَانَتْ ءايَتِى تتلى عَلَيْكُمْ } الخ صريحٌ في أنَّه تعليلٌ لما ذكرنا من عدم لحوقِ النَّصرِ من جهته تعالى بسببِ كُفرِهم بالآياتِ ولو كانَ النَّصرُ المنفيُّ مُتوهَّماً من الغيرِ لعُلِّل بعجزه وذُلِّه أو بعزَّةِ الله تعالى وقوَّتهِ أي قد كانتْ آياتي تُتلى عليكم في الدُّنيا { فَكُنتُمْ على أعقابكم تَنكِصُونَ } أي تُعرضون عن سماعها أشدَّ الإعراضِ فضلاً عن تصديقها والعملِ بها . والنُّكوصُ الرُّجوعُ قهقرى .(5/10)
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)
{ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ } أي بالبيتِ الحرامِ أو بالحَرَمِ . والإضمارُ قبل الذِّكرِ لاشتهارِ استكبارِهم وافتخارِهم بأنَّهم خُدَّامهُ وقُوَّامُه أو بكتابي الذي عبر عنه آياتي على تضمينِ الاستكبارِ معنى التَّكذيبِ أو لأنَّ استكبارَهم على المُسلمين قد حدثَ بسببِ استماعِه . ويجوزُ أنْ تتعلَّق الباء . بقولهِ تعالى : { سامرا } أي تسمرُون بذكرِ القُرآنِ وبالطَّعنِ فيه حيثُ كانُوا يجتمعونَ حولَ البيتِ باللَّيلِ يسمرُون وكانت عامَّة سمرِهم ذكرَ القُرآن وتسميته سِحْراً وشِعْراً . والسَّامرُ كالحاضرِ في الإطلاقِ على الجمعِ وقيل هو مصدرٌ جاء على لفظِ الفاعلِ . وقُرىء سَمَراً وسُمَّاراً . وأن تتعلق بقولهِ تعالى : { تَهْجُرُونَ } من الهَجَر بالفتح بمعنى الهَذَيانِ أو التَّركِ أن تهذُون في شأنِ القُرآنِ أو تتركونَه أو من الهُجْرُخع بالضَّمِّ وهو الفُحشُ ويؤيِّدُه قراءةُ تُهجرون من أهجرَ في منطقهِ إذا أفحشَ فيه . وقُرىء تهجّرون من هجّر الذي هو مبالغةٌ في هجَر إذا هذى .
{ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول } الهمزةُ لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه ، والفاءُ للعطفِ على مقدَّرٍ ينسحبُ عليه الكلامُ أي افعلُوا ما فعلُوا من النُّكوصِ والاستكبارِ والهجرِ فلم يتدبَّروا القُرآنَ ليعرفُوا بما فيه من إعجازِ النَّظمِ وصحَّةِ المدلُول والإخبار عن الغيبِ أنَّه الحقُّ من ربِّهم فيؤمنُوا به فضلاً عمَّا فعلُوا في شأنه من القبائحِ . وأمْ في قوله تعالى : { أَمْ جَآءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ ءابَاءهُمُ الأولين } منقطعةٌ وما فيها من معنى بَلْ للإضرابِ والانتقالِ عن التَّوبيخَ بما ذُكر إلى التَّوبيخِ بآخرَ والهمزةُ لإنكارِ الوقوعِ لا لإنكارِ الواقعِ أي بل أجاءهُم من الكتابِ ما لَمْ يأتِ آباءَهم الأوَّلين حتَّى استبدعُوه واستبعدُوه فوقعوا فيما وقعُوا فيه من الكفرِ والضَّلالِ يعني أنَّ مجيءَ الكتبِ من جهتهِ تعالى إلى الرُّسلِ عليهم السَّلامُ سنَّةٌ قديمةٌ له تعالى لا يكادُ يتسنَّى إنكارُه ، وأنَّ مجيءَ القُرآن على طريقته فمن أين يُنكرونه وقيل أمْ جاءهُم من الأمنِ من عذابه تعالى ما لم يأتِ آباءَهم الأوَّلينَ كإسماعيلَ عليه السَّلامُ وأعقابه من عدنان وقَحْطانَ ومُضرَ وربيعة وقيسٍ والحارثِ بنِ كعبٍ وأسدَ بنِ خُزيمةَ وتميمِ بنِ مُرَّة وتُبَّعَ وضبَّة بنِ أُدَّ فآمنُوا به تعالى وبكتبهِ ورسلِه وأطاعُوه .
{ أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ } إضرابٌ وانتقالٌ من التَّوبيخِ بما ذُكر إلى التَّوبيخِ بوجهٍ آخرَ . والهمزةُ لإنكارِ الوقوعِ أيضاً أي بل ألم يعرفُوه عليه السَّلامُ بالأمانةِ والصِّدقِ وحسنِ الأخلاقِ وكمالِ العلمِ مع عدم التَّعلمِ من أحدٍ وغير ذلك ممَّا حازَه من الكمالاتِ اللاَّئقةِ بالأنبياء عليهم السَّلامُ { فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } أي جاحِدُون بنبُّوته فجحودهم بها مترتِّبٌ على عدم معرفتهم بشأنه عليه السَّلامُ ومن ضرورة انتفاءِ المبنيِّ بطلانُ ما بُنيَ عليه أي فهُم غيرُ عارفينَ له عليهِ السَّلامُ فهو تأكيدٌ لما قبله .(5/11)
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)
{ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ } انتقالٌ إلى توبيخٍ آخر . والهمزةُ لإنكارِ الواقعِ كالأُولى أي بل أيقولُون به جنَّةٌ أي جنونٌ مع أنَّه أرجحُ النَّاسِ عَقْلاً وأثقبهم ذِهْناً وأتقنُهم رأياً وأوفرُهم رزانةً ولقد رُوعي في هذه التَّوبيخاتِ الأربعةِ التي اثنانِ منها متعلِّقانِ بالقُرآنِ والباقيانِ به عليه السَّلامُ التَّرقِّي من الأدْنى إلى الأعلى حيثُ وُبِّخوا أولاً بعدمِ التَّدبرِ وذلك يتحقَّقُ مع كونِ القولِ غيرَ متعرِّضٍ له بوجهٍ من الوجوه ثمِّ وُبِّخوا بشيءٍ لو اتَّصف به القولُ لكان سبباً لعدمِ تصديقهم به ثمَّ وُبِّخوا بما يتعلَّق بالرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من عدم معرفتهم به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ، وذلك يتحقَّق بعدمِ المعرفةِ بخيرٍ ولا شرَ ثمَّ بما لو كان فيه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ذلك لقدحَ في رسالتهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ { بَلْ جَاءهُمْ بالحق } إضرابٌ عمَّا يدلُّ عليهِ ما سبقَ أي ليس الأمرُ كما زعمُوا في حقِّ القُرآنِ والرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بل جاءهم عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالحقِّ أي الصِّدقِ الثَّابتِ الذي لا محيدَ عنه أصلاً ولا مدخلَ فيه للباطلِ بوجهٍ من الوجوهِ . { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ } من حيثُ هو حقٌّ أي حقَ كان لا لهذا الحقِّ فقط كما يُنبىء عنه الإظهارُ في موقع الإضمارِ { كارهون } لما في جبلتهم من الزَّيغِ والانحرافِ المناسبِ للباطلِ ولذلك كرهُوا هذا الحقَّ الأبلجَ وزاغُوا عن الطَّريقِ الأنهجِ . وتخصيصُ أكثرهم بهذا الوصفِ لا يقتضي إلاَّ عدمَ كراهةِ الباقين لكلِّ حقَ من الحقوقِ وذلك لا يُنافي كراهتهم لهذا الحقِّ المُبينِ فتأمَّل . وقيل تقييدُ الحُكمِ بالأكثرِ لأنَّ منهم من تركَ الإيمانَ استنكافاً من توبيخِ قومهِ أو لقلَّةِ فطنتهِ وعدمِ تفكُّرهِ لا لكراهته الحقَّ وأنتَ خبيرٌ بأنَّ التَّعرضَ لعدمِ كراهةِ بعضهم للحقِّ مع اتِّفاقِ الكُلِّ على الكُفرِ به ممَّا لا يُساعدُه المقامُ أصلاً .
{ وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَاءهُمْ } استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ أنَّ أهواءَهم الزَّائغة التي ما كرهوا الحقَّ إلا لعدم موافقته إيَّاها مقتضيةٌ للطَّامةِ أي لو كان ما كرهُوه من الحقِّ الذي مِن جُملتهِ ما جاء به عليه السَّلامُ موافقاً لأهوائِهم الباطلةِ { لَفَسَدَتِ السموات والأرض وَمَن فِيهِنَّ } وخرجتْ عن الصَّلاحِ والانتظامِ بالكليةِ لأنَّ مناطَ النِّظامِ ليس إلاَّ ذلكَ وفيه من تنويهِ شأنِ الحقِّ والتَّنبيهِ على سُموِّ مكانه ما لا يخفى ، وأمَّا ما قيلَ لو اتَّبع الحقُّ الذي جاءَ به عليه السَّلامُ أهواءَهم وانقلبَ شِركاً لجاء اللَّهُ تعالى بالقيامةِ ولأهلكَ العالَم ولم يؤخِّرْ ، ففيهِ أنَّه لا يُلائم فرضَ مجيئهِ عليه السَّلامُ به وكذا ما قيل لو كانَ في الواقعِ إلاهان لا يناسبُ المقامَ وأمَّا ما قيل لو اتَّبع الحقُّ أهواءَهم لخرجَ عن الإلهية فممَّا لا احتمالَ له أصلاً .(5/12)
{ بَلْ أتيناهم بِذِكْرِهِمْ } انتقالٌ من تشنيعهم بكراهةِ الحقِّ الذي به يقومُ العالمُ إلى تشنيعهم بالإعراضِ عمَّا جُبلَ عليه كلُّ نفسٍ من الرَّغبةِ فيما فيه خيرُها والمرادُ بالذِّكرِ القرآنُ الذي هو فخرُهم وشرفهم حسبما ينطقُ به قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } أي بل أتيناهُم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجبُ عليهم أنْ يقبلُوا عليه أكملَ إقبالٍ { فَهُمُ } بما فعلُوه من النُّكوصِ { عَن ذِكْرِهِمْ } أي فخرهم وشرفهم خاصَّةً { مُّعْرِضُونَ } لا عن غيرِ ذلكَ ممَّا لا يُوجبُ الإقبالَ عليه والاعتناءَ بهِ .
وفي وضعِ الظَّاهر موضعَ الضَّميرِ مزيدُ تشنيعٍ لهم وتقريعٍ . والفاءُ لترتيب ما بعدَها من إعراضِهم عن ذكرِهم على ما قبلها من إيتاءَ ذكرِهم لا لترتيبِ الإعراضِ على الإيتاءِ مُطلقاً فإنَّ المستتبعَ لكونِ إعراضِهم إعراضاً عن ذكرِهم هو إيتاءُ ذكرِهم لا الإيتاءُ مُطلقاً ، وفي إسنادِ الإتيانِ بالذِّكرِ إلى نُون العظمةِ بعد إسنادِه إلى ضميرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تنويهٌ لشأنِ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وتنبيهٌ على كونه بمثابةٍ عظيمةٍ منه عزَّ وجلَّ . وفي إيرادِ القُرآنِ الكريمِ عند نسبتهِ إليه تعالى بعُنوان الذِّكرِ من النُّكتةِ السِّريَّةِ والحكمةِ العبقريَّةِ ما لا يخفى فإنَّ التَّصريحَ بحقِّيتهِ المستلزمةِ لحقِّيةِ مَن جاء به هُو الذي يقتضيهِ مقامُ حكايةِ ما قاله المُبطلون في شأنه ، وأمَّا التَّشريفُ فإنَّما يليقُ به تعالى لا سيَّما رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أحدُ المشرَّفين . وقيل المرادُ بالذِّكرِ ما تمنَّوه بقولهم لو أنَّ عندنا ذِكراً من الأوَّلينَ . وقيل وعظهُم وأيَّد ذلكَ بأنَّه قُرىء بذكراهُم . والتَّشنيعُ على الأوَّلينَ أشدُّ فإنَّ الإعراضَ عن وعظهم ليسَ في مثابةِ إعراضهم عن شرفهم أو عن ذكرهم الذي يتمنونه في الشَّناعةِ والقباحةِ .(5/13)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)
{ أَمْ تَسْئَلُهُمْ } انتقالٌ من توبيخهم بما ذُكر من قوله : { أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ } إلى التَّوبيخِ بوجهٍ آخَر كأنَّه قيل أمْ يزعمُون أنَّك تسألهم عن أداء الرِّسالةِ { خَرْجاً } أي جُعْلاً فلأجل ذلك لا يُؤمنون بك وقوله تعالى : { فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ } أي رزقُه في الدُّنيا وثوابُه في الآخرةِ ، تعليلٌ لنفيِ السُّؤالِ المستفادِ من الإنكارِ أي لا تسألهم ذلك فإنَّ ما رزقك اللَّهُ تعالى في الدُّنيا والعُقْبى خيرٌ لك من ذلكَ وفي التَّعرضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافةِ إلى ضميرهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من تعليلِ الحكمِ وتشريفه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما لا يخفى . والخَرْجُ بإزاءِ الدَّخْلِ يقال لكلِّ ما تخرجه إلى غيرِك . والخَرَاجُ غالبٌ في الضَّريبةِ على الأرضِ وقيل الخَرْجُ ما تبرَّعت به والخراجُ ما لزمَك وقيل الخَرْجُ أخصُّ من الخَراجِ ففي النَّظمِ الكريمِ إشعارٌ بالكثرةِ واللزومِ . وقُرىء خرجاً فخَرْجُ وخراجاً فخراج { وَهُوَ خَيْرُ الرزقين } تقريرٌ لخيريَّةِ خراجهِ تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } تشهدُ العقول السَّليمةُ باستقامته ليس فيهِ شائبةُ اعوجاجٍ تُوهم اتَّهامَهم لك بوجهٍ من الوجوهِ ولقد ألزمَهم اللَّهُ عزَّ وعلا وأزاحَ عللهم في هذه الآياتِ حيث حصرَ أقسامَ ما يُؤدِّي إلى الإنكارِ والاتِّهامِ وبيَّن انتفاءَ ما عدا كراهتهم للحقِّ وقِلَّة فطنتهم .
{ وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة } وُصفوا بذلك تشنيعاً لهم بما هُم عليهِ من الانهماكِ في الدُّنيا وزعمهم أنْ لا حياة إلاَّ الحياةُ الدُّنيا وإشعاراً بعلَّةِ الحُكمِ فإنَّ الإيمانَ بالآخرةِ وخوفَ ما فيها من الدَّواهي من أقوى الدَّواعي إلى طلبِ الحقِّ وسلوكِ سبيلهِ . { عَنِ الصراط } أي عن جنسِ الصِّراطِ { لناكبون } لعادلون فضلاً عن الصِّراطِ المستقيمِ الذي تدعُوهم إليه . والأوَّلُ أدلُّ على كمال ضلالهم وغايةِ غوايتهم لما أنَّه ينبىءُ عن كون ما ذهبُوا إليه ممَّا لا يُطلق عليه اسمُ الصِّراطِ ولو كان مُعوجّاً .
{ وَلَوْ رحمناهم وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مّن ضُرّ } أي قحطٍ وجدبٍ . { لَّلَجُّواْ } لتمادَوا { فِي طغيانهم } إفراطِهم في الكُفرِ والاستكبارِ وعداوةِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والمؤمنين { يَعْمَهُونَ } أي عامهينَ عن الهُدى . رُوي أنَّه لمَّا أسلمَ ثُمامةُ بنُ أثالٍ الحنفيُّ ولحقَ باليمامةِ ومنعَ الميرةَ عن أهلِ مكَّةَ وأخذَهُم اللَّهُ تعالى بالسِّنينَ حتى أكلُوا العِلْهِزَ ، جاءَ أبُو سفيانَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ له : أنشُدكَ اللَّهَ والرَّحِمَ ألستْ تزعمُ أنَّك بُعثتَ رحمةً للعالمينَ قال : « بلى » فقال : قتلتَ الآباءَ بالسَّيفِ والأبناءَ بالجُوعِ . فنزلتْ والمعنى لو كشفنا عنهُم ما أصابَهم من القحطِ والهُزال برحمتنا إيَّاهم ووجدُوا الخصبَ لارتدُّوا إلى ما كانُوا عليه من الكُفرِ والاستكبارِ ولذهبَ عنهم هذا التملُّقُ والإبلاسُ وقد كان كذلكَ .(5/14)
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)
وقولُه تعالى : { وَلَقَدْ أخذناهم بالعذاب } استئنافٌ مسوقٌ للاستشهادِ على مضمونِ الشَّرطيةِ . والمرادُ بالعذابِ ما نالهم يومَ بدرٍ من القتلِ والأسرِ وما أصابَهم من فنونِ العذابِ التي من جملتها القَحْطُ المذكور . واللاَّمُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي وبالله لقد أخذناهُم بالعذابِ { فَمَا استكانوا لِرَبّهِمْ } بذلك أي لم يخضعوا ولم يتذلَّلوا على أنَّه إمَّا استفعالٌ من الكَوْنِ لأنَّ الخاضع ينتقل من كونٍ إلى كونٍ ، أو افتعالٌ من السُّكونِ قد أُشبعت فتحتُه كمنتزاحٍ في مُنتزحٍ . بل أقاموا على ما كانُوا عليه من العُتوِّ والاستكبارِ . وقوله تعالى : { وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } اعتراضٌ مُقرِّرٌ لمضمون ما قبل ، أي وليس من عادتهم التَّضرعُ إليه تعالى .
{ حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ } هو عذاب الآخرة كما يُنبىء عنه التَّهويلُ بفتح الباب والوصفُ بالشدَّةِ . وقُرىء فتَّحنا بالتَّشديدِ { إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } أي متحيِّرون آيسون من كلِّ خيرٍ أي محناهم بكلِّ محنةٍ من القتل والأسر والجوع وغير ذلك فما رُؤي منهم لينُ مقادةٍ وتوجهٌ إلى الإسلامِ قط . وأمَّا ما أظهره أبُو سفيانَ فليس من الاستكانةِ له تعالى والتَّضرعِ إليه تعالى في شيءٍ وإنَّما هو نوعُ خُنُوعٍ إلى أنْ يتمَّ غرضُه ، فحالُه كما قيل إذا جاعَ ضَغَا وإذا شبِعَ طَغَا . وأكثرُهم مستمرُّون على ذلك إلى أنْ يَرَوا عذابَ الآخرةِ فحينئذٍ يُبلسون . وقيل المرادُ بالبابِ الجوعُ فإنَّه أشدُّ وأعمُّ من القتلِ والأسرِ . والمعنى أخذناهُم أوَّلاً بما جرى عليهم يومَ بدرٍ من قتلِ صناديدِهم وأسرهِم ، فما وُجد منهم تضرعٌ واستكانةٌ حتَّى فتحنا عليهم بابَ الجوعِ الذي هو أطمُّ وأتمُّ فأُبلِسُوا السَّاعة وخضعتْ رقابهم وجاءك أعتاهُم وأشدُّهم شكيمةً في العناد يستعطفُك ، والوجهُ هو الأوَّلُ .
{ وَهُوَ الذى أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار } لتشاهدُوا بها الآياتَ التَّنزيليةَ والتَّكوينيَّةَ { والأفئدة } لتتفكَّروا بها فيما تُشاهدونَهُ وتعتبروا اعتباراً لائقاً { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } أي شكراً قليلاً غيرَ معتدَ به تشكرون تلك النِّعمَ الجليلةَ لما أنَّ العُمدةَ في الشُّكرِ صرفُ تلك القُوى التي هي في أنفسِها نعمٌ باهرةٌ إلى ما خُلقتْ هي له وأنتُم تخلُّون بذلك إخلالاً عظيماً .(5/15)
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)
{ وَهُوَ الذى ذَرَأَكُمْ فِى الأرض } أي خلقَكم وبثَّكم فيها بالتَّناسلِ { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي تُجمعون يومَ القيامةِ بعد تفرُّقكم لا إلى غيرِه فما لكُم لا تُؤمنون به ولا تَشكرونَهُ .
{ وَهُوَ الذى يُحىِ وَيُمِيتُ } من غير أنْ يشاركَه في ذلك شيءٌ من الأشياءِ { وَلَهُ } خاصَّةً { اختلاف اليل والنهار } أي هُو المؤثِّرُ في اختلافِهما أي تعاقبِهما أو اختلافِهما ازدياداً وانتِقاصاً أو لأمرِه وقضائِه اختلافُهما { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي ألا تتفكَّرون فلا تعقلون أو أتتفكَّرون فلا تعقلونَ بالنَّظرِ والتَّأمُّلِ أنَّ الكُلَّ منَّا وأنَّ قدرتَنا تعمُّ جميعَ الممكناتِ التي من جُملتِها البعثُ . وقُرىء يعقلونَ على أنَّ الالتفاتَ إلى الغَيبةِ لحكايةِ سوء حالِ المُخاطبين لغيرِهم ، وقيل : على أنَّ الخطابَ الأَوَّلَ لتغليبِ المؤمنينَ وليس بذاكَ .
{ بَلْ قَالُواْ } عطفٌ على مضمرٍ يقتضيهِ المقامُ أي فلم يعقلُوا بل قالُوا { مِثْلَ مَا قَالَ الأولون } أي آباؤُهم ومَن دان بدينِهم .
{ قَالُواْ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ } تفسيرٌ لما قبله من المُبهم وتفصيلٌ لما فيهِ من الإجمالِ وقد مرَّ الكلامُ فيه .
{ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا هذا } أي البعثَ { مِن قَبْلُ } متعلِّقٌ بالفعلِ من حيثُ إسنادُه إلى آبائِهم لا إليهم أي ووُعد آباؤُنا من قبل . أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من آباؤنا أي كائنينَ من قبلُ .
{ إِنَّ هَذَا } أي ما هذا { إِلاَّ أساطير الأولين } أي أكاذيبُهم التي سَطَرُوها جمع أُسطورةٍ كأُحدوثةٍ وأُعجوبةٍ . وقيل : جمعُ أسطارٍ جمعُ سطرٍ .
{ قُل لّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَا } من المخلوقاتِ تغليباً للعُقلاءِ على غيرِهم { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } جوابُه محذوفٌ ثقةً بدلالة الاستفهامِ عليه أي إنْ كنتُم تعلمون شيئاً فأخبرونِي به ، فإنَّ ذلك كافٍ في الجوابِ . وفيه من المُبالغةِ في وضوحِ الأمرِ وفي تجهيلِهم ما لا يَخْفى أو إنْ كنتُم تعلمون ذلكَ فأخبرونِي وفيه استهانةٌ بهم وتقريرٌ لجهلِهم ولذلك أخبرَ بجوابهم قبل أنْ يُجيبوا حيثُ قيل : { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } لأنَّ بديهةَ العقلِ تضطرُّهم إلى الاعترافِ بأنَّه تعالى خالقُها .
{ قُلْ } أي عندَ اعترافِهم بذلك تبكيتاً لهم { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي أتعلمون ذلكَ أو تقولون ذلكَ فلا تتذكَّرون أنَّ مَن فطرَ الأرضَ وما فيها ابتداءً قادرٌ على إعادتها ثانياً فإنَّ البَدْءَ ليس بأهونَ من الإعادةِ بلِ الأمرُ بالعكس في قياس العقولِ . وقُرىء تتذكَّرون على الأصل .(5/16)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)
{ قُلْ مَن رَّبُّ السموات السبع وَرَبُّ العرش العظيم } أُعيد الرَّبُّ تنويهاً لشأن العرش ورفعاً لمحلِّه عن أن يكونَ تبعاً للسَّمواتِ وجُوداً وذِكراً ، ولقد رُوعي في الأمر بالسُّؤال التَّرقِّي من الأدنى إلى الأعلى { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } باللامِ نظراً إلى معنى السُّؤالِ فإنَّ قولك : مَن رَبُّه ولمنْ هُو في معنى واحدٍ . وقُرىء هُو وما بعدَهُ بغير لامٍ نظراً إلى لفظ السُّؤالِ .
{ قُلْ } إفحاماً لهم وتوبيخاً { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } أي تعلمون ذلك ولا تقُون أنفسَكم عقابَهُ بعدم العمل بموجب العلم حيثُ تكفرون به وتُنكرون البعث وتُثبتون له شريكاً في الرُّبوبيَّةِ .
{ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء } ممَّا ذُكر وما لم يُذكرْ أي ملكه التَّامُّ القاهرُ وقيل : خزائنُه { وَهُوَ يُجْيِرُ } أي يُغيث غيرَه إذا شاء { وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ } أي ولا يُغيث أحدٌ عليه أي لا يُمنع أحدٌ منه بالنَّصر عليه { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي شيئاً ما أو ذلك فأجيبُوني على ما سبق { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } أي لله ملكوتُ كلِّ شيءٍ وهو الذي يجيرُ ولا يُجارُ عليه { قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ } أي فمِن أين تُخدعون وتُصرفون عن الرُّشدِ مع علمكم به إلى ما أنتُم عليه من الغيِّ فإنَّ مَن لا يكونُ مسحوراً مختلَّ العقل لا يكونُ كذلك .
{ بَلْ أتيناهم بالحق } الذي لا محيدَ عنه من التَّوحيدِ والوعد بالبعث { وَإِنَّهُمْ لكاذبون } فيما قالُوا من الشِّركِ وإنكار البعث .
{ مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ } كما يقوله النَّصارى والقائلون إنَّ الملائكةَ بناتُ الله تعالى عن ذلك عُلوًّا كبيراً { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ } يُشاركه في الأُلوهيَّةِ كما يقوله عَبَدَةُ الأوثانِ وغيرُهم { أَذِنَ * لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ } جوابٌ لمحاجَّتِهم ، وجزاءٌ لشرطٍ قد حُذف لدلالةِ ما قبله عليه أي لو كان معه آلهةٌ كما يزعمون لذهبَ كلُّ واحدٍ منهم بما خلقَه واستبدَّ به وامتاز ملكُه عن مُلك الآخرينَ ووقع بينهم التَّغالبُ والتَّحارُبُ كما هُو الجاري فيما بينَ المُلوكِ { وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } فلم يكن بيدِه وَحْدَهُ ملكوتُ كلِّ شيءٍ وهو باطلٌ لا يقولُ به عاقلٌ قط مع قيام البُرهان على استناد جميعِ المُمكنات إلى واجبِ الوجودِ واحد بالذَّاتِ { سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ } أي يصفونَهُ من أنْ يكون له أندادٌ وأولادٌ .(5/17)
عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)
{ عالم الغيب والشهادة } بالجرِّ على أنَّه بدلٌ من الجلالة . وقيل : صفةٌ لها . وقُرىء بالرَّفعِ على أنَّه خبرُ مبتدأ محذوفٍ . وأيًّا ما كان فهُو دليلٌ آخرُ على انتفاءِ الشَّريكِ بناءً على توافقهم في تفرُّدِه تعالى بذلك ولذلك رُتِّبَ عليه بالفاءِ قولُه تعالى : { فتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } فإنَّ تفرُّدَه تعالى بذلك موجبٌ لتعاليهِ عن أنْ يكون له شريكٌ .
{ قُل رَّبّ إِمَّا تُرِيَنّى } أي إنْ كان لا بُدَّ مِن أنْ تريني { مَا يُوعَدُونَ } من العذابِ الدُّنيويِّ المستأصلِ ، وأمَّا العذابُ الأُخرويُّ فلا يناسبُه المقامُ .
{ رَبّ فَلاَ تَجْعَلْنِى فِى القوم الظالمين } أي قَريناً لهم فيما هُم فيه من العذابِ . وفيه إيذانٌ بكمالِ فظاعةِ ما وُعدوه من العذابِ وكونِه بحيثُ يجبُ أنْ يستعيذَ منه مَن لا يكادُ يمكنُ أنْ يحيقَ به ، ورُدَّ لإنكارِهم إيَّاهُ واستعجالِهم به على طريقة الاستهزاءِ به . وقيل : أُمر به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هضماً لنفسِه . وقيل : لأنَّ شُؤمَ الكَفَرةِ قد يحيقُ بمن وَرَاءهُم كقولِه تعالى : { واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } ورُوي أنَّه تعالى أخبرَ نبيِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بأنَّ له في أمَّتِه نقمةً ولم يُطلعه على وقتِها فأمرَه بهذا الدُّعاءِ وتكريرِ النِّداءِ . وتصديرُ كلَ من الشَّرطِ والجزاءِ به لإبرازِ كمالِ الضَّراعةِ والابتهالِ .
{ وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ } من العذابِ { لقادرون } ولكنَّا نُؤخِّره لعلمنا بأنَّ بعضَهم أو بعضَ أعقابِهم سيُؤمنون أو لأنَّا لا نُعذبهم وأنتَ فيهم . وقيل : قد أَراهُ ذلكَ وهو ما أصابَهم يومَ بدرٍ أو فتحُ مكَّةَ ولا يَخْفى بُعدُه فإنَّ المُتبادرَ أنْ يكونَ ما يستحقُّونه من العذابِ الموعودِ عذاباً هائلاً مستأصِلاً لا يظهرُ على يديهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ للحكمة الدَّاعيةِ إليه .
{ ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ السيئة } وهو الصَّفحُ عنها والإحسانُ في مقابلتِها لكن لا بحيثُ يؤدِّي إلى وَهَن في الدِّينِ . وقيل : هي كلمةُ التَّوحيدِ والسَّيئةُ الشِّركُ . وقيل : هو الأمرُ بالمعروفِ والسَّيئةُ المنكرُ وهو أبلغُ من : ادفعْ بالحسنةِ السَّيئةَ لما فيه من التَّنصيصَ على التَّفضيلِ . وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعول في الموضعينِ للاهتمامِ { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ } أي بما يصفونَك به أو بوصفِهم إيَّاك على خلافِ ما أنتَ عليه وفيه وعيدٌ لهم بالجزاءِ والعُقوبة وتسليةٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وإرشادٌ له عليه السَّلامُ إلى تفويضِ أمرِه إليه تعالى .
{ وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين } أي وساوسِهم المُغريةِ على خلاف ما أُمِرتَ به من المحاسنِ التي من جُملتها دفعُ السَّيئةِ بالحسنةِ وأصلُ الهمزِ النَّخسُ ، ومنه مهمازُ الرَّائضِ . شُبِّه حثُّهم للنَّاسِ على المعاصي بهمزِ الرَّائضِ الدَّوابَّ على الإسراعِ أو الوثبِ ، والجمعُ للمرَّاتِ أو لتنوُّعِ الوساوسِ أو لتعدُّدِ المضافِ إليه .(5/18)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)
{ وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ } أُمر عليه السَّلامُ بأنْ يعوذَ به تعالى من حضورِهم بعد ما أُمر بالعوذِ به من همزاتِهم للمبالغة في التَّحذيرِ من مُلابستهم . وإعادةُ الفعلِ مع تكريرِ النِّداءِ لإظهارِ كمالِ الاعتناءِ بالمأمورِ به وعرضِ نهايةِ الابتهالِ في الاستدعاءِ ، أي أعوذُ بك مِن أنْ يحضرونِي ويحومُوا حولي في حالٍ من الأحوالِ . وتخصيصُ حالِ الصَّلاةِ وقراءةِ القُرآنِ كما رُوي عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما . وحالِ حلولِ الأجلِ كما رُوي عن عكرمةَ رحمه الله لأنَّها أحرى الأحوالِ بالاستعاذةِ منها .
{ حتى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الموت } حتَّى هي التي يُبتدأ بها الكلامُ دخلتْ على الجملةِ الشَّرطيَّةِ وهي مع ذلك غايةٌ لما قبلها متعلِّقةٌ بيصفُون وما بينهُما اعتراضٌ مؤكِّدٌ للإغضاءِ بالاستعاذة به تعالى من الشَّياطين أنْ يزلُّوه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن الحِلْمِ ويُغروه على الانتقام لكنْ لا بمعنى أنَّه العاملُ فيه لفساد المعنى ، بل بمعنى أنَّه معمولٌ لمحذوفٍ يدلُّ عليه ذلك . وتعلُّقها بكاذبونَ في غاية البُعدِ لفظاً ومعنى ، أي يستمرُّون على الوصف المذكورِ حتَّى إذا جاءَ أحدَهم أيَّ أحدٍ كان الموتُ الذي لا مرَدَّ له وظهرتْ له أحوالُ الآخرةِ { قَالَ } تحسُّراً على ما فَرَّطَ فيه من الإيمانِ والطَّاعةِ { رَبّ ارجعون } أي رُدَّني إلى الدُّنيا . والواوُ لتعظيم المخاطَبِ وقيل : لتكرير قوله ارجعنِي كما قيل في : قِفَا نَبْكِ ، ونظائرِه .
{ لَعَلّى أَعْمَلُ صالحا فِيمَا تَرَكْتُ } أي في الإيمان الذي تركتُه لم ينظمه في سلك الرَّجاءِ كسائر الأعمالِ الصَّالحةِ بأنْ يقولَ لعلِّي أُومنُ فأعملَ الخ ، لزشعارِ بأنَّه أمرٌ مقرَّرُ الوقوعِ غنيٌّ عن الإخبارِ بوقوعِه قطعاً فضلاً عن كونِه مرجوَّ الوقوعِ أي لعلي أعملُ في الإيمانِ الذي أتى به البتةَ عملاً صالحاً وقيل : فيما تركتُه من المالِ أو من الدُّنيا وعنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « إذا عاين المؤمنُ الملائكةَ قالوا : أنرجعك إلى الدُّنيا؟ فيقول : إلى دار الهُموم والأحزانِ بل قُدوماً إلى الله تبارك وتعالى وأمَّا الكافرُ فيقول : أرجعونِي » . { كَلاَّ } ردعٌ عن طلب الرَّجعةِ واستبعادٌ لها { أَنَّهَا } أي قوله : ربِّ ارجعون الخ { كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } لا محالةَ لتسلُّط الحسرة عليه { وَمِن وَرَائِهِمْ } أي أمامَهم والضَّميرُ لأحدِهم والجمعُ باعتبار المعنى لأنَّه في حُكم كلِّهم كما أنَّ الإفرادَ في الضَّمائرِ الأُوَلِ باعتبار اللَّفظِ { بَرْزَخٌ } حائلٌ بينهم وبين الرَّجعةِ { إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } يوم القيامةِ وهو إقناطٌ كُلِّيٌّ عن الرَّجعة إلى الدُّنيا لما عُلم أنَّه لا رجعة يومَ البعثِ إلى الدُّنيا وإنَّما الرَّجعةُ يومئذٍ إلى الحياةِ الأُخرويَّةِ .
{ فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور } لقيام السَّاعة وهي النَّفخةُ الثَّانيةُ التي يقع عندها البعث والنُّشورُ وقيل : المعنى فإذا نُفخ في الأجساد أرواحُها على أنَّ الصُّورَ جمع الصُّورةِ لا القَرنِ ، ويؤيِّده القراءةُ بفتحِ الواوِ وبه مع كسرِ الصَّادِ { فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ } تنفعُهم لزوال التَّراحُمِ والتَّعاطُفِ من فرط الحيرة واستيلاءِ الدَّهشةِ بحيث يفرُّ المرءُ من أخيه وأمِّه وأبيه وصاحبتِه وبنيهِ أو لا أنسابَ يفتخرون بها { يَوْمَئِذٍ } كما هي بينُهم اليَّومَ { وَلاَ يَتَسَاءلُونَ } أي لا يسألُ بعضُهم بعضاً لاشتغالِ كلَ منهُم بنفسِه ولا يناقضُه قولُه تعالى : { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } لأنَّ هذا عند ابتداءِ النَّفخةِ الثَّانيةِ وذلك بعد ذلك .(5/19)
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)
{ فَمَن ثَقُلَتْ موازينه } موزوناتُ حسناتِه من العقائدِ والأعمالِ أي فمن كانتْ له عقائدُ صحيحةٌ وأعمالٌ صالحةٌ يكون لها وزنٌ وقدرٌ عند الله تعالى { فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون } الفائزونَ بكلِّ مطلوبٍ النَّاجُون من كلِّ مهروبٍ .
{ وَمَنْ خَفَّتْ موازينه } أي ومَن لم يكُن له من العقائدِ والأعمالِ ما له وزنٌ وقدرٌ عنده تعالى وهم الكُفَّارُ لقوله تعالى : { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } وقد مرَّ تفصيلُ ما في هذا المقامِ من الكلامِ في تفسيرِ سورة الأعرافِ { فأولئك الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } ضيَّعُوها بتضييع زمانِ استكمالِها وأبطلُوا استعدادَها لنيل كمالِها . واسمُ الإشارةِ في الموضعينِ عبارةٌ عن الموصولِ وجمعُه باعتبارِ معناهُ كما أنَّ إفرادَ الضَّميرِ في الصِّلتينِ باعتبارِ لفظه { فِى جَهَنَّمَ خالدون } بدلٌ من الصِّلةِ أو خبرٌ ثانٍ لأولئك .
{ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار } تحرِقُها . واللَّفحُ كالنَّفخُ إلاَّ أنَّه أشدُّ تأثيراً منه ، وتخصيصُ الوجوهِ بذلك لأنَّها أشرفُ الأعضاء فبيانُ حالِها أزجرُ عن المعاصي المؤدِّيةِ إلى النَّارِ وهو السِّرُّ في تقديمها على الفاعل { وَهُمْ فِيهَا كالحون } من شدَّةِ الاحتراقِ . والكُلوحُ : تقلُّصُ الشَّفتينِ عن الأسنانِ . وقُرىء كَلِحون .
{ أَلَمْ تَكُنْ ءاياتى تتلى عَلَيْكُمْ } على إضمارِ القولِ أي يُقال لهم تعنيفاً وتوبيخاً وتذكيراً لما به استحقُّوا ما ابتُلوا به من العذابِ : ألم تكُن آياتي تُتلى عليكم في الدُّنيا { فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ } حينئذٍ { قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا } أي ملكتَنا { شِقْوَتُنَا } التي اقترفناها بسوءِ اختيارِنا كما ينبىءُ عنه إضافتُها إلى أنفسِهم . وقُرىء شَقوتُنا بالفتحِ وشقاوتُنا أيضاً بالفتحِ والكسرِ { وَكُنَّا } بسببِ ذلك { قَوْماً ضَالّينَ } عن الحقِّ ولذلك فعلنا من التَّكذيب وهذا كما ترى اعترافٌ منهم بأنَّ ما أصابهم قد أصابَهم بسوءِ صنيعهم وأمَّا ما قيل من أنَّه اعتذارٌ منهم بغلبة ما كُتب عليهم من الشَّقاوةِ الأزليَّةِ فمع أنَّه باطلٌ في نفسِه لما أنَّه لا يُكتبُ عليهم من السَّعادةِ والشَّقاوةِ إلا ما علمَ الله تعالى أنَّهم يفعلونَه باختيارِهم ضرورةَ أنَّ العلمَ تابعٌ للمعلومِ يردُّه قولُه تعالى : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظالمون } أي أخرجْنَا من النَّار وارجعنا إلى الدُّنيا فإنْ عُدنا بعد ذلكَ إلى ما كُنَّا عليه من الكُفر والمَعاصي فإنَّا مُتجاوزون الحدَّ في الظُّلم ولو كانَ اعتقادُهم أنَّهم مجبورون على ما صَدَر عنهم لما سألُوا الرَّجعةَ إلى الدُّنيا ولما وَعدُوا الإيمانَ والطَّاعةَ بل قولُهم : فإنْ عُدنا صريحٌ في أنَّهم حينئذٍ على الإيمانِ والطَّاعةِ وإنَّما الموعُود على تقدير الرَّجعةِ إلى الدُّنيا الثَّباتُ عليها لا إحداثُهما .(5/20)
قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)
{ قَالَ اخسئوا فِيهَا } أي اسكتُوا في النَّارِ سكوتَ هوانٍ وذِلُّوا وانزجرُوا انزجارَ الكلابِ إذا زُجرتْ . من خسأتُ الكلبَ إذا زجرتَه فَخَسِأ أي انزجرَ { وَلاَ تُكَلّمُونِ } أي باستدعاءِ الإخراجِ من النَّار ، والرَّجْعِ إلى الدُّنيا وقيل : لا تُكلِّمونِ في رفع العذابِ ويردُّه الَّعليلُ الآتِي وقيل : لا تُكلِّمونِ رأساً وهو آخرُ كلامٍ يتكلَّمونَ به ثم لا كلامَ بعد ذلكَ إلا الشَّهيقُ والزَّفيرُ والعُواءُ كعواءِ الكلبِ لا يَفْهمون ولا يُفهمون ويردُّه الخطاباتُ الآتيةُ قطعاً .
وقوله تعالى : { إِنَّهُ } تعليلٌ لما قبله من الزجرِ عن الدُّعاءِ أي أنَّ الشَّأنَ . وقُرىء بالفتحِ أي لأنَّ الشَّأنَ { كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى } وهُم المُؤمنون . وقيل : هم الصَّحابةُ . وقيل : أهلُ الصُّفَّةِ رضوان الله تعالى عليهم أجمعينَ { يَقُولُونَ } في الدُّنيا { رَبَّنَا ءامَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الرحمين * فاتخذتموهم سِخْرِيّاً } أي اسكتُوا عن الدُّعاءِ بقولكم : ربنا الخ ، لأنَّكم كنتُم تستهزئُون بالدَّاعينَ بقولهم : ربنا آمنا الخ ، وتتشاغلُون باستهزائِهم { حتى أَنسَوْكُمْ } أي الاستهزاءُ بهم { ذِكْرِى } من فرطِ اشتغالِكم باستهزائِهم { وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } وذلك غايةُ الاستهزاءِ .
وقولُه تعالى : { إِنِى جَزَيْتُهُمُ اليوم } استئنافٌ لبيانِ حُسنِ حالِهم وأنَّهم انتفعُوا بمَا آذوهم { بِمَا صَبَرُواْ } بسبب صبرِهم على أذيَّتِكم . وقولُه تعالى : { أَنَّهُمْ هُمُ الفائزون } ثاني مفعولَيْ الجزاءِ أي جزيتُهم فوزَهم بمجامعِ مراداتِهم مخصُوصينَ به . وقُرىء بكسرِ الهمزةِ على أنَّه تعليلٌ للجزاءِ وبيانٌ لكونِه في غايةِ ما يكونُ من الحُسنِ .
{ قَالَ } أي الله عزَّ وجلَّ أو المَلَكُ المأمور بذلك تذكيراً لِما لبثُوا فيما سألُوا الرُّجوعَ إليه من الدُّنيا بعد التَّنبيهِ على استحالتِه بقولِه : اخسؤُا فيها الخ . وقُرىء قُل ، على الأمرِ للمَلَكِ { كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الأرض } التي تدْعُون أنْ ترجِعوا إليها { عَدَدَ سِنِينَ } تمييزٌ لكَمْ .(5/21)
قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
{ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } استقصاراً لمدَّةِ لبثهم فيها { فَاسْأَلِ العادين } أي المتمكِّنينِ من العدِّ فإنَّا بما دهمَنا من العذاب بمعزلٍ من ذلك ، أو الملائكةَ العادِّين لأعمار العبادِ وأعمالِهم . وقُرىء العادِين بالتَّخفيفِ ، أي المُتعدِّين فإنَّهم أيضاً يقولُون ما نقولُ كأنَّهم الأتباعُ يُسمُّون الرُّؤساءَ بذلك لظُلمهم إيَّاهم بإضلالِهم . وقُرىء العَاديينَ أي القدماءَ المُعمِّرين فإنَّهم أيضاً يستقصرُون مدَّة لبثِهم .
{ قَالَ } أي الله تعالى أو المَلَكُ . وقُرىء قُل ، كما سبق { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } تصديقاً لَهُم في ذلك { لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي تعلمُون شيئاً أو لو كنتُم من أهلِ العلمِ والجوابُ محذوفٌ ثقةً بدلالة ما سبقَ عليه أي لعلمتُم يومئذٍ قلَّةَ لبثِكم فيها كما علمتُم اليومَ ولعلمتُم بموجبِه ولم تُخلِدوا إليها .
{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثاً } أي ألم تعلمُوا شيئاً فحسبتُم أنَّما خلقناكُم بغيرِ حكمةٍ بالغةٍ حتَّى أنكرتُم البعثَ . فعبثاً حالٌ من نون العظمةِ أي عابثينَ ، أو مفعولٌ له أي إنَّما خلقناكم للعَبَث { وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } عطفٌ على أنَّما فإنَّ خلقَكم بغير بعثٍ من قبيل العَبَثِ وإنَّما خلقناكُم لنعيدَكُم ونجازيَكُم على أعمالِكم . وقُرىء تَرجعون بفتحِ التَّاءِ من الرُّجوعِ .
{ فتعالى الله } استعظامٌ له تعالى ولشؤونِه التي تُصرَّفُ عليها عبادُه من البدءِ والإعادةِ والإثابةِ والعقابِ بموجب الحكمةِ البالغةِ أي ارتفعَ بذاتِه وتنزَّه عن مماثلةِ المخلوقينَ في ذاتِه وصفاتِه وأحوالِه وأفعالِه وعن خلوِّ أفعالِه عن الحكمِ والمصالحِ والغاياتِ الحميدةِ { الملك الحق } الذي يحقُّ له المُلكُ على الإطلاقِ إيجاداً وإعداماً بَدءاً وإعادة إحياءً وإماتةً عقاباً وإثابةً ، وكلُّ ما سواهُ مملوكٌ له مقهورٌ تحتَ ملكوتِه { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } فإنَّ كلَّ ما عداهُ عبيدُه { رَبُّ العرش الكريم } فكيف بما تحتَهُ ومحاط به من الموجوداتِ كائناً ما كان . ووصفُه بالكرمِ إمَّا لأنَّه منه ينزلُ الوحيُ الذي منه القرآنُ الكريمُ أو الخيرُ والبركةُ والرحمةُ . أو لنسبته إلى أكرمِ الأكرمينَ وقُرىء الكريمُ بالرَّفعِ على أنَّه صفةُ الرَّبِّ كما في قوله تعالى : { ذُو العرش المجيد } { وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا ءاخَرَ } يعبدُه إفراداً أو إشراكاً { لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } صفةٌ لازمةٌ لإلها كقولِه تعالى : { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } جيءَ بها للتَّأكيدِ وبناءِ الحُكمِ عليه تنبيهاً على أنَّ التَّدينِ بما لا دليلَ عليه باطلٌ فكيفَ بما شهدتْ بديهةُ العُقولِ بخلافِه . أو اعتراضٌ بين الشَّرط والجزاءِ كقولِك : مَن أحسنَ إلى زيدٍ لا أحقَّ منه بالإحسانِ فالله مثيبُه { فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ } فهو مجازٍ له على قدرِ ما يستحقُّه { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون } أي إنَّ الشَّأنَ الخ . وقُرىء بالفتحِ على أنَّه تعليلٌ أو خبرٌ ومعناهُ حسابُه عدمُ الفلاحِ .(5/22)
والأصلُ : حسابُه إنَّه لا يُفلحُ هو فوُضعَ الكافرونَ موضعَ الضّميرِ لأنَّ من يدعُ في معنى الجمعِ وكذلك حسابُه أنَّه لا يفلحُ في معنى : «حسابُهم أنَّهم لا يُفلحون» . بُدئتِ السُّورةُ الكريمةُ بتقريرِ فلاحِ المُؤمنين وخُتمتْ بنفيِ الفلاحِ عن الكافرينَ ثم أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالاستغفارِ والاسترحامِ فقيل : { وَقُل رَّبّ اغفر وارحم وَأنتَ خَيْرُ الرحمين } إيذاناً بأنَّهما من أهمِّ الأمورِ الدِّينيةِ حيثُ أُمر به من قد غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر فكيف بمَن عداهُ .
عن النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : " مَن قرأَ سورةَ المُؤمنين بشَّرتْهُ الملائكةُ بالرَّوحِ والرَّيحانِ وما تقرُّ به عينُه عند نزولِ مَلَك الموتِ " . وعنه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّه قال : " لقد أُنزلتْ عليَّ عشرُ آياتٍ من أقامهنَّ دخلَ الجنَّة ثُم قرأَ قد أفلحَ المُؤمنون حتَّى خَتَم العشرَ " . ورُوي أنَّ أوَّلَها وآخرَها من كنوزِ الجنَّةِ من عملَ بثلاثِ آياتٍ من أوَّلِها واتَّعظ بأربعٍ من آخرِها فقد نَجَا وأفلحَ .(5/23)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
{ سُورَةٌ } خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي هذه سورةٌ وإنَّما أُشير إليها مع عدمِ سبقِ ذكرِها لأنَّها باعتبار كونِها في شرف الذِّكرِ في حُكم الحاضرِ المُشاهَدِ . وقولُه تعالَى : { أنزلناها } معَ ما عُطف عليه صفاتٌ لها مؤكِّدةٌ لما أفادَهُ التَّنكيرُ من الفخامة من حيثُ الذَّاتُ بالفخامة من حيثُ الصِّفاتُ . وأمَّا كونُها مبتدأً محذوفَ الخبرِ على أنْ يكونَ التَّقديرُ فيما أوحينا إليك سورةٌ أنزلناها فيأباهُ أنَّ مُقتضى المقام بيانِ شأنِ هذه السُّورةِ الكريمةِ لا أنَّ في جُملة ما أُوحي إلى النبيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ سورةً شأنُها كَذا وكَذا ، وحملُها على السُّورةِ الكَريمةِ بمعونةِ المقامِ يُوهم أنَّ غيرَها من السُّورِ الكريمةِ ليستْ على تلكَ الصِّفاتِ ، وقُرىء بالنَّصبِ على إضمارِ فعلٍ يُفسِّره أنزلناهَا فلا محلَّ له حينئذٍ من الإعرابِ أو على تقديرِ اقرأْ ونحوِه أو دُونَك من يُسوِّغُ حذفَ أداةِ الإغراءِ فمحلُّ أنزلنا النَّصبُ على الوصفيَّةِ { وفرضناها } أي أوجبنَا ما فيها من الأحكامِ إيجاباً قطعيًّا ، وفيه من الإيذانِ بغايةِ وكادةِ الفرضيَّةِ ما لا يَخْفى . وقُرىءَ فرَّضناها بالتَّشديدِ لتأكيدِ الإيجابِ أو لتعددِ الفرائضِ أو لكثرةِ المفروضِ عليهم من السَّلفِ والخلفِ { وَأَنزَلْنَا فِيهَا } أي في تضاعيفِ السُّورةِ { ءَايَاتٍ بَيّنَاتٍ } إنْ أُريد بها الآياتُ التي نِيطتْ بها الأحكامُ المفروضةُ وهو الأظهرُ فكونُها في السُّورةِ ظاهرٌ ومعنى كونِها بيناتٍ وضوحُ دلالاتِها على أحكامِها لا على الإطلاقِ فإنَّها أسوةٌ لسائرِ الآياتِ في ذلكَ ، وتكريرُ أنزلنا معَ استلزام إنزالِ السُّورةِ لإنزالِها لإبرازِ كمالِ العنايةِ بشأنِها وإنْ أُريد جميعُ الآياتِ فالظَّرفيةُ باعتبارِ اشتمالِ الكلِّ على كلِّ واحدٍ من أجزائِه ، وتكريرُ أنزلنا مع أنَّ جميعَ الآياتِ عينُ السُّورةِ وإنزالها لاستقلالها بعنوانٍ رائقٍ رادعٍ إلى تخصيصِ إنزالِها بالذِّكرِ إبانةً لخطرِها ورفعاً لمحلِّها كقولِه تعالى : { وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } بعد قولِه تعالى : { نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا } { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } بحذفِ إحدى التَّاءينِ . وقُرىء بإدغامِ الثَّانيةِ في الذَّالِ أي تَتذكَّرونها فتعملونَ بموجبِها عند وقوعِ الحوادثِ الدَّاعيةِ إلى إجراءِ أحكامِها وفيه إيذانٌ بأنَّ حقَّها أنْ تكونَ على ذكرٍ منهم بحيثُ مَتَى مسَّتِ الحاجةُ إليها استحضرُوها .
{ الزانية والزانى } شُروعٌ في تفصيلِ ما ذُكِر منَ الآياتِ البيِّناتِ وبيانِ أحكامِها ، والزَّانيةُ هي المرأةُ المُطاوِعةُ للزِّنا الممكِّنةُ منه كما تُنبىء عنه الصِّيغةُ لا المزنيةُ كُرهاً وتقديمُها على الزَّاني لأنَّها الأصلُ في الفعل لكونِ الدَّاعيةِ فيها أوفرَ ولولا تمكينُها منه لم يقعْ . ورفعُهما على الابتداءِ ، والخبرُ قولُه تعالى : { فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ } والفاءُ لتضمُّنِ المبتدأِ معنى الشَّرطِ إذِ اللاَّمُ بمعنى الموصولِ والتَّقديرُ التي زنتْ والذي زَنى كما في قوله تعالى : { واللذان يأتيانها مِنكُمْ فَئَاذُوهُمَا } وقيل الخبرُ محذوفٌ أي فيما أنزلنا أو فيما فرضنا الزانيةُ والزَّاني أي حُكمهُما .(5/24)
وقولُه تعالى { فاجلدوا } الخ بيانٌ لذلكَ الحُكمِ وكانَ هذا عامًّا في حقِّ المُحصنِ وغيرِه وقد نُسخَ في حقِّ المحصنِ قَطْعاً ويكفينا في تعيينِ النَّاسخِ القطعُ بأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قد رجمَ ماعِزاً وغيره فيكونُ من بابِ نسخِ الكتابِ بالسُّنَّةِ المشهُورةِ . وفي الإيضاحِ الرَّجمُ حكمٌ ثبتَ بالسنَّةِ المشهورةِ المتفقِ عليها فجازتِ الزيادةُ بها على الكتابِ ورُوي عن عليَ رضي الله عنهُ : جلدتُها بكتابِ اللَّهِ ورجمتُها بسنَّةِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وقيلَ نُسخ بآيةٍ منسوخةِ التِّلاوةِ هي «الشَّيخُ والشَّيخةُ إذا زنيا فارجمُوهما البتة نكالاً من اللَّهِ واللَّهُ عزيزٌ حكيمٌ» ويأباهُ ما رُوي عن عليَ رضي الله عنهُ . { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ } وقُرىء بفتحِ الهمزةِ وبالمدِّ أيضاً على فَعَالةٍ أي رحمةٌ ورقَّةٌ . { فِى دِينِ الله } في طاعتهِ وإقامةِ حدِّه فتُعطِّلوه أو تُسامحوا فيهِ وقد قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " لو سرقتْ فاطمةُ بنتُ محمَّدٍ لقطعتُ يدها " . { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الأخر } منْ بابِ التَّهييج والإلهابِ فإنَّ الإيمانَ بهما يقتضي الجدَّ في طاعته تعالى والاجتهادَ في إجراءِ أحكامِه . وذكرُ اليومِ الآخرِ لتذكيرِ ما فيهِ من العقابِ في مقابلةِ المُسامحةِ والتَّعطيلِ .
{ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ المؤمنين } أي لتحضره زيادةً في التَّنكيلِ ، فإنَّ التَّفضيحَ قد يُنكِّلُ أكثرَ ممَّا يُنكلُّ التَّعذيبُ والطَّائفةُ فرقةٌ يُمكن أنْ تكونَ حافَّةً حولَ شيءٍ من الطَّوفِ وأقلُّها ثلاثةٌ كما رُوي عن قتادة . وعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهُما أربعةٌ إلى أربعينَ . وعن الحسنِ عشرةٌ والمرادُ جمعٌ يحصلُ بهِ التَّشهيرُ والزَّجرُ .(5/25)
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
{ الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } حكمٌ مؤسَّسٌ على الغالبِ المُعتادِ جيءَ به لزجرِ المؤمنينَ عن نكاحِ الزَّواني بعدَ زجرِهم عن الزِّنا بهنَّ وقد رَغِب بعضٌ من ضَعَفةِ المُهاجرينَ في نكاحِ موسراتٍ كانتْ بالمدينةِ من بَغَايا المُشركينَ فاستأذنُوا رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في ذلكَ فنُفِّروا عنه ببيانِ أنَّه من أفعالِ الزُّناةِ وخصائصِ المُشركين كأنَّه قيلَ الزَّاني لا يرغبُ إلاَّ في نكاحِ إحداهما والزَّانيةُ لا يرغبُ في نكاحِها إلا أحدُهما فلا تحومُوا حولَه كيلا تنتظمُوا في سلكهما أو تتسِمُوا بسمتِهما فإيرادُ الجُملةِ الأُولى مع أنَّ مناطَ التَّنفيرِ هي الثَّانيةُ إمَّا للتعريضِ بقصرهم الرَّغبةَ عليهنَّ حيثُ استأذنُوا في نكاحهنَّ أو لتأكيدِ العلاقةِ بين الجانبينِ مُبالغةً في الزَّجرِ والتَّنفيرِ وعدمِ التَّعرضِ في الجُملة الثَّانيةِ للمشركةِ للتنبيهِ على أنَّ مناطَ الزَّجرِ والتَّنفيرِ هو الزِّنا لا مجردُ الإشراكِ وإنَّما تعرَّضَ لها في الأُولى إشباعاً في التَّنفير عن الزَّانيةِ بنظمها في سلكِ المُشركةِ { وَحُرّمَ ذلك } أي نكاحُ الزَّواني { عَلَى المؤمنين } لما أنَّ فيهِ من التَّشبهِ بالفسقةِ والتَّعرضِ للتُّهمةِ والتَّسببِ لسوءِ القالةِ والطَّعنِ في النَّسبِ واختلالِ أمرِ المعاشِ وغيرِ ذلكَ من المفاسدِ ما لا يكادُ يليقُ بأحدٍ من الأداني والأراذلِ فضلاً عنِ المُؤمنينَ ولذلكَ عبَّر عن التنزيهِ بالتَّحريمِ مُبالغةً في الزَّجرِ وقيل النَّفيُ بمعنى النَّهيِ وقد قُرىءَ بهِ . والتَّحريمُ على حقيقته والحكمُ إمَّا مخصوصٌ بسبب النُّزولِ أو منسوخٌ بقولهِ تعالى : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ } فإنَّه متناولٌ للمسافحاتِ ويُؤيده ما رُوي أنَّه صلى الله عليه وسلم سُئلَ عن ذلكَ فقالَ : « أولهُ سِفاحٌ وآخرُه نِكاحٌ والحرامُ لا يُحرِّمُ الحلالَ » وما قيل من أنَّ المرادَ بالنِّكاحِ هو الوطءُ بيِّنُ البُطلانِ .(5/26)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
{ والذين يَرْمُونَ المحصنات } بيانٌ لحكمِ العَفَائفِ إذا نُسبن إلى الزِّنا بعد بيانِ حُكمِ الزَّوانِي ويُعتبر في الإحصانِ هاهنا مع مدلولهِ الوضعيِّ الذي هو العِفَّةُ عن الزِّنا الحريَّةُ والبُلوغُ والإسلامُ وفي التَّعبيرِ عن التَّفوهِ بما قالُوا في حقهنَّ بالرَّمي المنبىءِ عن صلابةِ الآلةِ وإيلامِ المَرميِّ وبعدِه عن الرَّامِي إيذانٌ بشدَّةِ تأثيره فيهنَّ وكونهِ رجماً بالغيبِ والمرادُ به رميهنَّ بالزِّنا لا غير ، وعدمُ التَّصريحِ به للاكتفاءِ بإيرادهنَّ عقيبَ الزَّواني ووصفِهنَّ بالإحصانِ الدَّالِّ بالوضعِ على نزاهتهنَّ عن الزِّنى خاصَّة فإنَّ ذلكَ بمنزلةِ التَّصريحِ بكونِ رميهنَّ به لا محالة ولا حاجة في ذلكَ إلى الاستشهادِ باعتبارِ الأربعةِ من الشُّهداءِ على أنَّ فيه مؤنة بيانِ تأخُّرِ نزولِ الآيةِ عن قوله تعالى : { فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً } ولا بعدمِ وجوبِ الحدِّ بالرَّميِ بغيرِ الزِّنى على أنَّ فيه شبهة المُصادرةِ كأنَّه قيلَ والذينَ يرمُون العفائفَ المنزَّهاتِ عمَّا رُمين به من الزِّنى { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء } يشهدونَ عليهنَّ بما رموهنَّ به ، وفي كلمةِ ثمَّ إشعارٌ بجوازِ تأخيرِ الإتيانِ بالشُّهودِ كما أنَّ في كلمةِ لم إشارةً إلى تحققِ العجزِ عن الإتيانِ بهم وتقرره خلا أنَّ اجتماعَ الشُّهودِ لا بُدَّ منه عندَ الأداءِ خلافاً للشَّافعيِّ رحمه الله تعالى فإنَّه جَوَّزَ التَّراخي بينَ الشَّهاداتِ كما بينَ الرَّميِ والشَّهادةِ ويجوزُ أنْ يكونَ أحدُهم زوجَ المقذوفةِ خلافاً له أيضاً وقُرىء بأربعة شهداء { فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً } لظهورِ كذبهِم وافترائِهم بعجزِهم عن الإتيانِ بالشُّهداءِ لقوله تعالى : { فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ الله هُمُ الكاذبون } وانتصابُ ثمانينَ كانتصابِ المصادرِ ونصبُ جلدةً على التَّمييزِ . وتخصيصُ رميهنَّ بهذا الحكم مع أنَّ حكم رَميِ المُحصنين أيضاً كذلك لخصوصِ الواقعةِ وشيوعِ الرَّمي فيهنَّ .
{ وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً } عطفٌ على اجلدُوا داخلٌ في حكمهِ تتمةٌ له لما فيهِ معنى الزَّجرِ لأنَّه مؤلمٌ للقلبِ كما أنَّ الجلدَ مؤلمٌ للبدنِ وقد آذى المقذوفَ بلسانه فعُوقبَ بإهدار منافعهِ جزاءً وِفاقاً . واللاَّمُ في لهُم متعلِّقةٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من شهادةً قدمتْ عليها لكونها نكرةً ولو تأخرتْ عنها لكانتْ صفةً لها ، وفائدتُها تخصيصُ الردِّ بشهادتهم النَّاشئةِ عن أهليَّتهم الثَّابتةِ لهم عندَ الرَّميِ وهُو السِّرُّ في قبولِ شهادةِ الكافرِ المحدودِ في القذفِ بعد التَّوبةِ والإسلامِ لأنَّها ليستْ ناشئةً عن أهليَّتهِ السَّابقةِ بل عن أهلية حَدَثتْ له بعد إسلامهِ فلا يتناولُها الردُّ فتدبَّرْ ودعْ عنك ما قيل من أنَّ المسلمينَ لا يعبأون بِنَسَبِ الكفَّارِ فلا يلحقُ المقذوفَ بقذفِ الكافرِ من الشَّينِ والشَّنارِ ما يلحقهُ بقذفِ المسلمِ فإنَّ ذلكَ بدونِ ما مرَّ من الاعتبارِ تعليلٌ في مُقابلةِ النصِّ ولا يخفى حالُه فالمعنى لا تقبلُوا منهم شهادةً من الشَّهاداتِ حالَ كونها حاصلةً لهم عندَ الرَّميِ { أَبَدًا } أي مُدَّة حياتهم وإنْ تابُوا وأصلحُوا لما عرفتَ من أنَّه تتمةٌ للحدِّ كأنَّه قيلَ فاجلدُوهم وردُّوا شهادتهم أي فاجمعُوا لهم الجلدَ والردَّ فيبقى كأصله . { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون } كلامٌ مستأنفٌ مقررٌ لما قبلَه ومبينٌ لسُّوءِ حالهم عند اللَّهِ عزَّ وجلَّ . وما في اسمِ الإشارةِ من معنى البُعدِ للإيذانِ ببعدِ منزلتهم في الشرِّ والفسادِ أيْ أُولئك هم المحكومُ عليهم بالفسقِ والخروجِ على الطَّاعةِ والتَّجاوزِ عن الحدودِ الكاملون فيه كأنَّهم هم المستحقُّون لإطلاقِ اسمِ الفاسقِ عليهم لا غيرُهم منَ الفَسَقةِ .(5/27)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)
وقولُه تعالى : { إِلاَّ الذين تَابُواْ } استثناءٌ من الفاسقينَ كما يُنبىءُ عنْهُ التَّعليلُ الآتِي ومحلُّ المُستثنى النَّصبُ لأنَّه عن موجبٍ . وقولُه تعالى : { مِن بَعْدِ ذلك } لتهويلِ المتوبِ عنه أي من بعدِ ما اقترفُوا ذلكَ الذَّنبَ العظيمَ الهائلَ { وَأَصْلَحُواْ } أي أصلحُوا أعمالَهم التي منْ جُملتِها ما فرطَ منهم بالتَّلافي والتَّداركِ ومنهُ الاستسلامُ للحدِّ والاستحلالُ من المقذوفِ { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تعليلٌ لما يُفيدُه الاستثناءُ من العفوِ عن المؤاخذةِ بموجبِ الفسقِ كأنَّه قيلَ فحينئذٍ لا يؤاخذُهم اللَّهُ تعالى بما فَرَط منهُم ولا ينظمهم في سلكِ الفاسقينَ لأنَّه تعالى مبالغٌ في المغفرةِ والرَّحمةِ هذا وقد علَّق الشَّافعيُّ رحمه الله الاستثناءَ بالنَّهيِ فمحلُّ المستثنى حينئذٍ الجرُّ على البدليَّةِ من الضَّميرِ في لهُم وجعل الأبدَ عبارةً عنْ مُدَّةِ كونه قاذفاً فتنتهي بالتَّوبةِ فتُقبل شهادتهُ بعدَها .
{ والذين يَرْمُونَ أزواجهم } بيانٌ لحكم الرَّامين لأزواجِهم خاصَّة بعد بيانِ حكم الرامين لغيرهنَّ لكنْ لا بأن يكونَ هذا مخصصاً للمحصناتِ بالأجنبياتِ ليلزم بقاءُ الآيةِ السَّابقةِ ظنيةً فلا يثبتُ بها الحدُّ فإنَّ من شرائطِ التَّخصيصِ أنْ لا يكونَ المخصصُ متراخيَ النزولِ بل بكونهِ ناسخاً لعمومها ضرورة تراخي نزولها كما سيأتي فتبقى الآيةُ السَّابقةُ قطعية الدِّلالةِ فيما بقيَ بعدَ النَّسخِ لما بُيِّن في موضعِه أنَّ دليلَ النَّسخِ غيرُ مُعلَّلٍ { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاء } يشهدُون بما رَموهنَّ به من الزِّنى . وقُرىء بتأنيثِ الفعل { إِلاَّ أَنفُسُهُمْ } بدلٌ من شهداءُ أو صفةٌ لها على أن إلاَّ بمعنى غير جعلوا من جُملة الشُّهداء إيذاناً من أولِ الأمرِ بعدمِ إلغاءِ قولهم بالمرَّةِ ونظمِه في سلكِ الشَّهادةِ في الجُملةِ وبذلكَ ازدادَ حسنُ إضافةِ الشَّهادةِ إليهم في قوله تعالى : { فشهادة أَحَدِهِمْ } أي شهادةُ كلِّ واحدٍ منهُم وهو مبتدأٌ وقولهُ تعالى : { أَرْبَعُ شهادات } خبرُه أي فشهادتهم المشروعةُ أربعُ شهاداتٍ { بالله } متعلِّقٌ بشهاداتٍ لقُربِها وقيلَ بشهادةُ لتقدُّمِها . وقُرىء أربعَ شهاداتٍ بالنَّصبِ على المصدرِ والعاملُ فشهادةُ على أنَّه إمَّا خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي فالواجبُ شهادةُ أحدهم ، وإمَّا مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ فشهادةُ أحدهم واجبةٌ { إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين } أي فيما رَماها به من الزِّنا ، وأصلُه على أنَّه الخ فحُذفَ الجارُّ ، وكُسرتْ إنّ وعُلِّق العاملُ عنها للتَّأكيدِ .(5/28)
وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
{ والخامسة } أي الشهادةُ الخامسةُ للأربعِ المتقدِّمةِ أي الجاعلةُ لها خَمْساً بانضمامها إليهنَّ ، وإفرادُها عنهنَّ مع كونها شهادةً أيضاً لاستقلالها بالفحوى ووكادتها في إفادةِ ما يُقصد بالشَّهادةِ من تحقيقِ الخبرِ وإظهارِ الصِّدقِ وهي مبتدأٌ خبرُه { أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الكاذبين } فيما رماها به من الزِّنا فإذا لاعنَ الزَّوجُ حُبستِ الزَّوجةُ حتَّى تعترفَ فتُرجمَ أو تلاجم أو تلاعن .
{ وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب } أي العذابَ الدنيويَّ وهو الحبسُ المغيَّا على أحدِ الوجهينِ بالرَّجمِ الذي هو أشدُّ العذابِ { أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ } أي الزوج { لَمِنَ الكاذبين } أي فيما رَمَاني به من الزِّنا .
{ والخامسة } بالنَّصبِ عَطْفاً على أربع شهادات { أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَا إِن كَانَ } أي الزوج { مِنَ الصادقين } أي فيما رَمَاني به من الزِّنا . وقُرىء والخامسةُ بالرَّفعِ على الابتداءِ وقُرىء أنْ بالتَّخفيفِ في الموضعينِ ، ورفعِ اللَّعنةِ والغضبِ . وقُرىء أنْ غضِبَ اللَّهُ . وتخصيصُ الغضبِ بجانبِ المرأةِ للتغليظِ عليها لما أنَّها مادةُ الفجورِ ولأنَّ النِّساءَ كثيراً ما يستعملنَ اللَّعن فربما يجترئن على التفوُّهِ به لسقوطِ وقعهِ عن قلوبهنَّ بخلافِ غضبهِ تعالى . رُوي أنَّ آيةَ القذفِ لمَّا نزلتْ قرأها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على المنبرِ فقامَ عاصمُ بنُ عديَ الأنصاريُّ رضي الله عنه فقالَ : جعلني اللَّهُ فداكَ إنْ وجدَ رجلٌ مع امرأته رجُلاً فأخبرَ جُلد ثمانينَ ورُدَّتْ شهادتُه وفُسِّقَ وإنْ ضربه بالسَّيفِ قُتل وإنْ سكتَ سكتَ على غيظٍ وإلى أنْ يجيءَ بأربعةِ شهداءَ فقد قضى الرَّجلُ حاجته ومضى اللهمَّ افتحْ وخرجَ فاستقبله هلالُ بن أُميَّة أو عُويمرٌ فقال : ما وراءكَ؟ قالَ : شَرٌّ وجدتُ على امرأتي خَوْلة وهي بنتُ عاصمٍ شريكَ بنَ سَحْماءَ فقالَ : واللَّهِ هذا سُؤالي ما أسرعَ ما ابتُليتَ به فرجعا فأخبرا رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فكلَّم خَوْلةَ فأنكرتْ فلاعنَ بينهما . والفُرقةُ الواقعةُ باللِّعانِ في حُكم التَّطليقةِ البائنةِ عندَ أبي حنيفةَ ومحمَّدٍ رحمهُما اللَّهُ ولا يتأبَّدُ حكمُها حتَّى إذا أكذبَ الرَّجلُ نفسَه بعدَ ذلكَ فحُدَّ جازَ له أنْ يتزوَّجها ، وعند أبي يوسف وزُفر والحسنِ بنِ زياد والشَّافعيِّ رحمهم اللَّهُ : هي فُرقةٌ بغيرِ طلاقٍ تُوجبُ تَحريماً مؤبَّداً ليس لهما اجتماعٌ بعد ذلكَ أبدا .
{ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ } التفاتٌ إلى خطابِ الرَّامين والمرميَّاتِ بطريقِ التَّغليبِ لتوفيةِ مقامَ الامتنانِ حقَّه . وجوابُ لولا محذوفٌ لتهويله والإشعارِ بضيقِ العبارةِ عن حصره كأنَّه قيل ولولا تفضُّلُه تعالى عليكم ورحمتُه وأنَّه تعالى مبالغٌ في قبولِ التَّوبةِ حكيمٌ في جميعِ أفعالِه وأحكامِه التي جُمْلتُها ما شرعَ لكُم من حكمِ اللِّعانِ لكانَ ما كانَ ممَّا لا يحيطُ به نطاقُ البيانِ ومن جُمْلتهِ أنَّه تعالى لو لم يشرعْ لهم ذلك لوجبَ على الزَّوجِ حدُّ القذفِ مع أنَّ الظاهرَ صدقُه لأنَّه أعرفُ بحالِ زوجته وأنّه لا يفترِي عليها لاشتراكِهما في الفضاحةِ ، وبعدَما شرعَ لهم ذلك لو جعلَ شهاداتهِ موجبةً لحدِّ القذفِ عليه لفاتَ النَّظرُ له ولا ريبَ في خروجِ الكلِّ عن سننِ الحكمةِ والفضلِ والرَّحمةِ فجعلَ شهاداتِ كلَ منهُما مع الجزمِ بكذبِ أحدِهما حتماً دارئةً لما توجَّهَ إليهِ من الغائلةِ الدُّنيويةِ وقد ابتُليَ الكاذبُ منهما في تضاعيفِ شهاداتهِ من العذابِ بما هو أتمُّ مما درأتْهُ عنه وأطمُّ ، وفي ذلكَ من أحكامِ الحكمِ البالغةِ وآثارِ التَّفضلِ والرَّحمةِ ما لا يخفى أمَّا على الصَّادقِ فظاهرٌ وأمَّا على الكاذبِ فهو إمهالُه والسَّترُ عليهِ في الدُّنيا ودرءُ الحدِّ عنه وتعريضُه للتَّوبةِ حسبما ينبىءُ عنه التَّعرضُ لعُنوانِ توَّابيته سُبحانه ما أعظمَ شأنَهُ وأوسعَ رحمتَهُ وأدقَّ حكمتَهُ .(5/29)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
{ إِنَّ الذين جَاءوا بالإفك } أي بأبلغَ ما يكونُ من الكذبِ والافتراءِ وقيلَ البُهتانُ لا تشعرُ به حتَّى يفجأكَ وأصلُه الإفكُ وهو القلبُ لأنه مأفوكٌ عن وجهه وسننهِ والمرادُ به ما أُفكَ بهِ الصِّدِّيقةُ أمُّ المؤمنينَ رضي الله عنها ، وفي لفظ المجيءِ إشارةٌ إلى أنَّهم أظهرُوه من عندِ أنفسِهم من غير أنْ يكونَ له أصلٌ وذلك أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا أرادَ سفراً أقرعَ بين نسائهِ فأيتهنَّ خرجتْ قرعتُها استصحبَها قالتْ عائشةُ رضي الله عنها : فأقرعَ بيننا في غزوةٍ غزاها قيلَ غزوةُ بني المُصطلقِ فخرجَ سهمي فخرجتُ معه عليه السَّلامُ بعد نزولِ آيةِ الحجابِ فَحُملت في هَوْدجٍ فسرنا حتَّى إذا قفلنا ودنَونا من المدينةِ نزلنا منزلاً ثم نُودي بالرَّحيل فقُمت ومشيتُ حتَّى جاوزتُ الجيشَ فلمَّا قضيتُ شأني أقبلتُ إلى رَحْلي فلمستُ صَدري فإذا عِقدي من جَزَعِ ظَفَارَ قد انقطعَ فرجعتُ فالتمستُه فحبسني ابتغاؤه ، وأقبلَ الرَّهطُ الذينَ كانُوا يُرحلون بي فاحتملُوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أنِّي فيه لخفَّتي فلم يستنكرُوا خفَّة الهودجِ وذهبُوا بالبعير ووجدتُ عِقدي بعدما استمرت الجيش فجئتُ منازلَهم وليس فيها داعٍ ولا مجيبٌ فتيممتُ منزلي وظننتُ أنِّي سيفقدونني ويعودونَ في طَلَبي فبينا أنا جالسةٌ في منزلي غلبتني عيني فنِمتُ وكانَ صفوانُ بنُ المُعطِّلِ السُّلَميُّ من وراءِ الجيشِ فلمَّا رآنِي عرفنِي فاستيقظتُ باسترجاعهِ فخمَّرتُ وجهي بجلبابِي وواللَّهِ ما تكلَّمنا بكلمةٍ ولا سمعتُ منه كلمةً غيرَ استرجاعِه وهَوى حتَّى أناخَ راحلتَهُ فوطىءَ على يديها فقمتُ إليها فركبتُها وانطلقَ يقودُ بي الرَّاحلةَ حتى أتينا الجيشَ مُوغرين في نحرِ الظَّهيرةِ وهُم نزولٌ وافتقدنِي النَّاسُ حين نزلُوا وماجَ القومُ في ذكرِي فبينا النَّاسُ كذلكَ إذ هجمتُ عليهم فخاضَ النَّاسُ في حديثي فهلكَ مَن هلكَ وقولُه تعالى : { عُصْبَةٌ مّنْكُمْ } خبرُ إنَّ أي جماعةٌ وهي من العشرة إلى الأربعينَ وكذا العِصابةُ وهم عبدُ اللَّهِ بنُ أُبيَ وزيدُ بنُ رفاعة وحسَّانُ بنُ ثابتٍ ومسطحُ بنُ أثاثة وحِمْنةُ بنتُ جحشٍ ومن ساعدهم . وقولُه تعالى : { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ } استئنافٌ خُوطب به رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأبوُ بكرٍ وعائشةُ وصفوانُ رضي الله عنهم تسليةً لهم من أولِ الأمرِ ، والضَّميرُ للإفكِ { بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } لاكتسابِكم به الثَّوابَ العظيمَ وظهورِ كرامتِكم على اللَّهِ عزَّ وجلَّ بإنزالِ ثماني عشرة آيةً في نزاهةِ ساحتِكم وتعظيمِ شأنِكم وتشديدِ الوعيدِ فيمَن تكلَّم فيكُم والثَّناءِ على مَنْ ظنَّ بكُم خَيراً { لِكُلّ امرىء مّنْهُمْ } أي من أولئكَ العُصبةِ { مَّا اكتسب مِنَ الإثم } بقدرِ ما خاضَ فيه { والذى تولى كِبْرَهُ } أي معظمَهُ . وقُرىء بضمِّ الكافِ وهي لغةٌ فيهِ { مِنْهُمْ } من العُصبةِ وهو ابنُ أُبيَ فإنَّه بدأ به وأذاعَه بين النَّاسِ عداوةً لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وقيل هُو وحسَّانُ ومِسْطَحُ فإنَّهما شايعاهُ بالتَّصريحِ به فإفرادُ الموصولِ حينئذٍ باعتبارِ الفوجِ أو الفريقِ أو نحوهما { لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي في الآخرةِ أو في الدُّنيا أيضاً فإنَّهم جلدُوا وردَّتْ شهادتهم وصارَ ابنُ أبيَ مطروداً مشهوداً عليه بالنِّفاق وحسَّانُ أعمى وأشلَّ اليدينِ ومسطحُ مكفوفَ البصرِ . وفي التَّعبير عنه بالذي وتكريرِ الإسنادِ وتنكيرِ العذابِ ووصفهِ بالعظم من تهويل الخطب ما لا يخفى .(5/30)
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
{ لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } تلوينٌ للخطاب وصرفٌ له عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وذويهِ إلى الخائضينَ بطريق الالتفاتِ لتشديد ما في لولا التَّحضيضيةِ من التَّوبيخِ ثمَّ العدول عنه إلى الغيبةِ في قوله تعالى : { ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً } لتأكيدِ التَّوبيخِ والتَّشنيعِ لكنْ لا بطريقِ الإعراضِ عنهم وحكايةِ جناياتهم لغيرهم على وجهِ المُباثَّةِ بل بالتَّوسلِ بذلكَ إلى وصفهم بما يوجبُ الإتيانَ بالمحضض عليه ويقتضيهِ اقتضاءً تامًّا ويزجرُهم عن ضدِّه زَجْراً بليغاً فإنَّ كونَ وصفِ الإيمانِ ممَّا يحملُهم على إحسان الظَّنِّ ويكفُّهم عن إساءته بأنفسِهم أي بأبناءِ جنسِهم النَّازلين منزلة أنفسهم كقولهِ تعالى : { ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ } وقوله تعالى : { وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ } ممَّا لا ريبَ فيه فإخلالهُم بموجب ذلك الوصفِ أقبحُ وأشنعُ والتَّوبيخُ عليه أدخلُ مع ما فيه من التَّوسل به إلى التَّصريحِ بتوبيخ الخائضاتِ ثمَّ إنْ كان المرادُ بالإيمان الإيمانَ الحقيقيَّ فإيجابُه لما ذُكر واضحٌ والتَّوبيخُ خاصٌّ بالمؤمنينَ وإن كان مطلقَ الإيمانِ الشَّاملِ لما يُظهره المنافقون أيضاً فإيجابُه له من حيثُ أنَّهم كانُوا يحترزون عن إظهارِ ما يُنافي مُدَّعاهم فالتَّوبيخُ حينئذٍ متوجِّهٌ إلى الكلِّ ، وتوسيطُ الظَّرفِ بينَ لولا وفعلِها لتخصيصِ التَّحضيضِ بأولِ زمانِ سماعهم ، وقصرُ التَّوبيخِ على تأخيرِ الإتيانِ بالمحضَّضِ عليه عن ذلك الآنَ والتَّردد فيه ليفيدَ أنَّ عدمَ الإتيانِ به رأساً في غاية ما يكونُ من القباحةِ والشَّناعةِ أي كان الواجبُ أنْ يظنَّ المؤمنونَ والمؤمناتُ أول ما سمعوه ممَّن اخترعَه بالذَّاتِ أو بالواسطةِ من غيرِ تلعثُمٍ وترددٍ بمثلِهم من آحادِ المؤمنينَ خيراً { وَقَالُواْ } في ذلكَ الآنَ { هذا إِفْكٌ مُّبِينٌ } أي ظاهرٌ مكشوفٌ كونُه إفكاً فكيفَ بالصِّدِّيقةِ ابنةِ الصِّدِّيقِ أمِّ المؤمنينَ حُرمةِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .
{ لَّوْلاَ جَاءو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء } إما من تمامِ القولِ المُحضَّضِ عليهِ مسوقٌ لحثِّ السامعينَ على إلزامِ المسمِّعين وتكذيبهم إثرَ تكذيبِ ما سمعُوه منهم بقولهم هذا إفكٌ مبينٌ وتوبيخهم على تركه أي هلاَّ جاءَ الخائضونَ بأربعةِ شُهداءَ يشهدُون على ما قالُوا { فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ } بهم وإنَّما قيل { بِالشُّهَدَاء } لزيادة التَّقريرِ { فَأُوْلَئِكَ } إشارةٌ إلى الخائضينَ وما فيه من معنى البُعد للإيذان بغلوهم في الفسادِ وبُعد منزلتهم في الشَّرِّ أي أولئك المُفسدون { عَندَ الله } أي في حُكمهِ وشَرْعه المؤسَّسِ على الدَّلائلِ الظَّاهرةِ المتقنةِ { هُمُ الكاذبون } الكاملونَ في الكذب المشهودُ عليهم بذلك المستحقُّون لإطلاقِ الاسمِ عليهم دُونَ غيرهم ولذلك رُتِّب عليه الحدُّ خاصَّة ، وإما كلامُ مبتدأٌ مسوقٌ من جهته تعالى للاحتجاج على كذبهم بكونِ ما قالُوه قولاً لا يساعدُه الدَّليلُ أصلاً .(5/31)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)
{ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ } خطابٌ للسَّامعينَ والمسمِّعينَ جميعاً { وَرَحْمَتُهُ فِى الدنيا } من فنون النِّعمِ التي من جُملتها الإمهالُ للتَّوبة { والأخرة } من ضروب الآلاءِ التي من جُملتها العفوُ والمغفرةُ بعد التَّوبةِ { لَمَسَّكُمْ } عاجلاً { فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ } بسبب ما خضتُم فيه من حديث الإفكِ ، والإبهامُ لتهويل أمرِه والاستهجانِ بذكرِه . يقالُ أفاضَ في الحديثِ وخاضَ واندفعَ وهضبَ بمعنى { عَذَابٌ عظِيمٌ } يُستحقر دونَه التَّوبيخُ والجلدُ .
{ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } بحذف إحدى التَّاءينِ ظرفٌ للمسِّ أي لمسَّكم ذلكَ العذابُ العظيمُ وقتَ تلقِّيكم إيَّاه من المخترعينَ { بِأَلْسِنَتِكُمْ } والتَّلقِّي والتلقُّفُ والتلقُّنُ معانٍ متقاربةٌ خلا أنَّ في الأولِ معنى الاستقبالِ وفي الثَّاني معنى الخَطفِ والأخذِ بسرعةٍ وفي الثَّالثِ معنى الحِذْقِ والمهارةِ . وقُرىء تَتَلقَونه على الأصل وتلقونه من لقيَه وتلقونَه بكسرِ حرفِ المُضارعةِ وتُلقونه من إلقاء بعضهم على بعض وتَلْقُونه وتألقونَه من الولقِ والألق وهو الكذبُ وتثقفونَه من ثقفتُه إذا طلبتُه وتتقفونَه أي تتبعونَه { وَتَقُولُونَ بأفواهكم مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } أي تقولونَ قولاً مختصًّا بالأفواهِ من غيرِ أنْ يكونَ له مصداقٌ ومنشأٌ في القلوبِ لأنَّه ليسَ بتعبيرٍ عن علمٍ به في قلوبكم كقوله تعالى : { يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } { وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً } سهلاً لا تبعةَ لهُ أو ليسَ له كثيرُ عقوبةٍ { وَهُوَ عِندَ الله } والحالُ أنَّه عنده عزَّ وجلَّ { عظِيمٌ } لا يُقادرُ قَدرُه في الوِزرِ واستجرارِ العذابِ .
{ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } من المخترعينَ أو المشايعينَ لهم { قُلْتُمْ } تكذيباً لهُم وتهويلاً لما ارتكبُوه { مَّا يَكُونُ لَنَا } ما يُمكننا { أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا } وما يصدرُ عنَّا ذلكَ بوجهٍ من الوجوهِ وحاصلُه نفيُ وجودِ التَّكلمِ به لا نفيُ وجوده على وجه الصِّحَّةِ والاستقامةِ والانبغاءِ وهذا إشارةٌ إلى ما سمعُوه . وتوسيطُ الظَّرفِ بينَ لولا وقلتُم لما مرَّ من تخصيصِ التَّحضيضِ بأول وقتِ السَّماعِ وقصرِ التَّوبيخِ واللَّومِ على تأخيرِ القولِ المذكورِ عن ذلك الآنَ ليفيدَ أنَّه المحتملُ للوقوعِ المفتقرُ إلى التَّحضيضِ على تركه وأما تركُ القولِ نفسِه رأساً فمما لا يُتوهَّم وقوعُه حتَّى يحضَّض على فعلِه ويلامَ على تركه ، وعلى هذا ينبغي أنْ يحملَ ما قيل إنَّ المعنى أنَّه كان الواجبُ عليهم أنْ يتفادَوا أولَ ما سمعُوا بالإفك عن التَّكلُّم به فلمَّا كان ذكرُ الوقتِ أهمَّ وجبَ التَّقديمُ وأمَّا ما قيل من أنَّ ظروفَ الأشياءِ منزَّلةٌ أنفسَها لوقوعِها فيها وأنها لا تنفكُّ عنها فلذلك يتَّسعُ فيها ما لا يتَّسعُ في غيرِها فهي ضابطةٌ ربَّما تستعملُ فيما إذا وضع الظَّرفُ موضعَ المظروفِ بأنْ جُعل مفعولاً صريحاً لفعلٍ مذكورٍ كما في قوله تعالى : { واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء } أو مقدَّرٍ كعامةِ الظُّروفِ المنصوبةِ بإضمارِ اذكُر ، وأمَّا هاهنا فلا حاجةَ إليها أصلاً لما تحققت أنَّ مناطَ التَّقديمِ توجيهُ التحضيضِ إليه وذلك يتحقَّقُ في جميع متعلقاتِ الفعلِ كما في قوله تعالى :(5/32)
{ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا . } { سبحانك } تعجُّبٌ ممَّن تفوَّه به وأصلُه أن يذكرُ عند معاينةِ العجيبِ من صنائعِه تعالى تنزيهاً له سبحانَه عنْ أنْ يصعبَ عليه أمثالُه ثمَّ كثُر حتَّى استُعملَ في كلِّ متعجَّبٍ منه أو تنزيهٌ له تعالى عن أنْ تكونَ حُرمةُ نبيِّه فاجرةً فإنَّ فجورَها تنفيرٌ عنه ومخلٌّ بمقصودِ الزَّواجِ فيكون تقريراً لمَا قبلَه وتمهيداً لقوله تعالى : { هذا بهتان عَظِيمٌ } لعَظَمَةِ المبهوتِ عليه واستحالةِ صدقِه فإنَّ حقارةَ الذُّنوبِ وعظمَها باعتبار مُتعلقاتِها .(5/33)
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
{ يَعِظُكُمُ الله } أي ينصحُكم { أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ } أي كراهةَ أنْ تعودُوا أو يزجرُكم مِن أن لا تعودُوا من قولِك : وعظتُه في كذا فتركَه { أَبَدًا } أي مدَّةَ حياتِكم { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } فإنَّ الإيمانَ وازعٌ عنه لا محالةَ وفيه تهييجٌ وتقريعٌ .
{ وَيُبَيّنُ الله لَكُمُ الأيات } الدَّالَّةَ على الشَّرائعِ ومحاسنِ الآدابِ دلالةً واضحةً لتتَّعِظوا وتتأدَّبوا بها أي يُنزلها كذلكَ أي مبينةً ظاهرةَ الدِّلالةِ على معانيها لا أنَّه يُبينها بعد أنْ لم تكُنْ كذلك وهذا كما في قولِهم : سبحانَ من صغَّر البعوضَ وكبَّر الفيلَ أي خلقَهُما صغيراً وكبيراً ومنه قولُك : ضُيِّقَ فمُ الرَّكيَّةِ ووُسِّعَ أسفلُها . وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لتفخيم شأنِ البيانِ { والله عَلِيمٌ } بأحوالِ جميعِ مخلوقاتِه جلائلِها ودقائقِها { حَكِيمٌ } في جميع تدابيرِه وأفعالِه فأنَّى يمكن صدقُ ما قيل في حقِّ حُرمةِ مَن اصطفاهُ لرسالاته وبعثَه لكافَّةِ الخلقِ ليرشدَهم إلى الحقِّ ويزكيهم ويُطهرَهم تطهيراً . وإظهارُ الاسمِ الجليلِ هاهنا لتأكيدِ استقلالِ الاعتراضِ التذييليِّ والإشعارِ بعلَّةِ الأُلوهيَّةِ للعلم والحكمةِ .
{ إِنَّ الذين يُحِبُّونَ } أي يُريدون ويقصدُون { أَن تَشِيعَ الفاحشة } أي تنتشرَ الخَصلةُ المفرطةُ في القُبح وهي الفريةُ والرَّميُ بالزِّنا أو نفسُ الزِّنا فالمراد بشيوعِها شيوعُ خبرِها أي يحبُّون شيوعَها ويتصدَّون مع ذلكَ لإشاعتِها وإنَّما لم يُصرِّحْ به اكتفاءً بذكرِ المحبَّةِ فإنَّها مستتبعةٌ له لا محالةَ { فِى الذين ءَامَنُواْ } متعلق بتشيعَ أي تشيعَ فيما بينَ النَّاسِ . وذكرُ المؤمنينَ لأنَّهم العمدةُ فيهم أو بمضمرٍ هو حالٌ من الفاحشةِ فالموصولُ عبارةٌ عن المؤمنينَ خاصَّة أي يحبُّون أنْ تشيعَ الفاحشةُ كائنةً في حقِّ المؤمنينَ وفي شأنهم { لَهُمْ } بسبب ما ذُكر { عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدنيا } من الحدِّ وغيرِه ممَّا يتفقُ من البَلايا الدُّنيويةِ ولقد ضرب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عبدَ اللَّهِ بنَ أُبيَ وحسَّاناً ومِسْطَحاً حدَّ القذفِ وضربَ صفوانُ حسَّاناً ضربةً بالسَّيفِ وكُفَّ بصرُه { والأخرة } من عذابِ النَّارِ وغيرِ ذلكَ ممَّا يعلمُه الله عزَّ وجلَّ { والله يَعْلَمُ } جميعَ الأمورِ التي من جُملتِها ما في الضَّمائر من المحبَّة المذكورةِ { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ما يعلمُه تعالى بل إنَّما تعلمونَ ما ظهرَ لكم من الأقوال والأفعالِ المحسوسةِ فابنُوا أمورَكم على ما تعلمونَه وعاقبُوا في الدُّنيا على ما تشاهدونَه من الأحوالِ الظَّاهرةِ والله سبحانَه هو المتولِّي للسَّرائرِ فيعاقبُ في الآخرةِ على ما تُكنُّه الصُّدورُ . هذا إذا جُعلَ العذابُ الأليمُ في الدُّنيا عبارةً عن حدِّ القذفِ أو منتظماً له كما أطبقَ عليه الجمهورُ أمَّا إذا بقي على إطلاقِه يُراد بالمحبَّةِ نفسُها من غيرِ أنْ يقارنَها التَّصدِّي للإشاعةِ وهو الأنسبُ بسياقِ النَّظمِ الكريم فيكون ترتيبُ العذابِ عليها تنبيهاً على عذاب مَن يُباشر الإشاعةَ ويتولاَّها أشدَّ وأعظمَ ويكون الاعتراضُ التذييليُّ أعني قولَه تعالى : { والله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } تقريراً لثبوت العذابِ الأليمِ لهم وتعليلاً له .(5/34)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
{ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } تكريرٌ للمنَّةِ بترك المعاجلةِ بالعقاب للتنبيه على كمال عظمِ الجريرةِ { وَأَنَّ الله رَءوفٌ رَّحِيمٌ } عطفٌ على فضلُ الله . وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتربية المهابةِ والإشعارِ باستتباع صفةِ الأُلوهية للرَّأفة والرَّحمةِ ، وتغييرُ سبكِه وتصديرُه بحرفِ التَّحقيقِ لما أنَّ المرادَ بيانُ اتِّصافِه تعالى في ذاتِه بالرَّأفةِ التي هي كمالُ الرَّحمةِ والرَّحيميةِ التي هي المبالغةُ فيها على الدَّوامِ والاستمرارِ لا بيانُ حدوثِ تعلُّق رأفتِه ورحمتِه بهم كما أنَّه المراد بالمعطوفِ عليه . وجوابُ لولا محذوفٌ لدلالةِ ما قبلَه عليه .
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان } أي لا تسلكُوا مسالكَه في كلِّ ما تأتُون وما تذرُون من الأفاعيل التي من جُملتِها إشاعةُ الفاحشةِ وحبُّها . وقُرىء خُطْواتِ بسكونِ الطَّاءِ وبفتحِها أيضاً { وَمَن يَتَّبِعْ خطوات الشيطان } وُضعَ الظَّاهرانِ موضعَ ضميريهما حيثُ لم يُقلْ ومَن يتبعها أو ومَن يتبع خطواتِه لزيادة التَّقريرِ والمبالغةِ في التَّنفيرِ والتَّحذيرِ { فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بالفحشاء والمنكر } علَّة للجزاءِ وضعتْ موضعَه كأنَّه قيل : فقد ارتكبَ الفحشاءَ والمُنكرَ لأنَّه دأبُه المستمرُّ أنْ يأمرَ بهما فمَن اتبعَ خطواتِه فقدِ امتثلَ بأمرِه قطعاً . والفحشاءُ : ما أفرطَ قبحُه كالفاحشةِ ، والمنكرُ : ما يُنكره الشَّرعُ . وضميرُ إنَّه للشَّيطانِ وقيل : للشَّأنِ على رأي مَن لا يوجبُ عودَ الضَّميرِ من الجُملةِ الجزائيَّةِ إلى اسمِ الشَّرطِ ، أو على أنَّ الأصلَ يأمرُه وقيل : هو عائدٌ إلى مَن أي فإنَّ ذلك المتَّبعَ يأمرُ النَّاسَ بهما لأنَّ شأنَ الشَّيطانِ هو الإضلالُ فمن اتَّبعه يترقَّى من رُتبة الضَّلالِ والفساد إلى رُتبة الإضلالِ والإفسادِ .
{ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } بما مِن جُملتِه هاتيك البياناتُ والتَّوفيقُ للتَّوبةِ الماحصةِ للذُّنوبِ ، وشرحُ الحُدودِ المُكفِّرةِ لها { مَا زَكَى } أي ما طهُر من دنسِها . وقُرىء ما زكَّى بالتَّشديدِ أي ما طهَّر الله تعالى . ومِن في قولِه تعالى : { مّنكُمْ } بيانيَّةٌ . وفي قولِه تعالى : { مّنْ أَحَدٍ } زائدةٌ وأحدٌ في حيِّزِ الرَّفعِ على الفاعليَّةِ على القراءةِ الأُولى ، وفي محلِّ النَّصبِ على المفعوليَّةِ على القراءةِ الثَّانيةِ { أَبَدًا } لا إلى نهايةٍ { ولكن الله يُزَكّى } يُطهِّر { مَن يَشَآء } من عبادِه بإفاضة آثارِ فضلِه ورحمتِه عليه ، وحملِه على التَّوبةِ ثمَّ قبولِها منه كما فَعَل بكُم { والله سَمِيعٌ } مبالغٌ في سمعِ الأقوالِ التي مِنْ جُملتِها ما أظهرُوه من التَّوبةِ { عَلِيمٌ } بجميعِ المعلوماتِ التي مِنْ جُملتِها نيَّاتُهم ، وفيه حثٌّ لهم على الإخلاص في التَّوبة . وإظهارُ الاسمِ الجليلِ للإيذانِ باستدعاءِ الأُلوهيَّةِ للسمعِ والعلمِ مع ما فيهِ من تأكيدِ استقلالِ الاعتراضِ التَّذييليِّ .(5/35)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)
{ وَلاَ يَأْتَلِ } أي لا يحلفْ ، افتعالٌ من الأَليّة وقيل : لا يُقصِّرُ من الأَلْوِ . والأولُ هو الأظهرُ لنزولِه في شأنِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه حينَ حلفَ أنْ لا ينفقَ على مِسْطحٍ بعدُ وكانَ ينفقُ عليه لكونِه ابنَ خالتِه وكانَ من فُقراءِ المُهاجرينَ . ويَعضده قراءةُ مَن قرأَ ولا يألُ { أُوْلُو الفضل مِنكُمْ } في الدِّين وكفَى به دليلاً على فضلِ الصِّدِّيقِ رضي الله تعالى عنه { والسعة } في المالِ { أَن يُؤْتُواْ } أيْ على أنْ لا يُؤتوا . وقُرىء بتاءِ الخطابِ على الالتفاتِ { أُوْلِى القربى والمساكين والمهاجرين فِى سَبِيلِ الله } صفاتٌ لموصوفٍ واحدٍ جِيء بها بطريقِ العطفِ تنبيهاً على أنَّ كلاًّ منها علَّة مستقلَّة لاستحقاقِه الأبناءِ ، وقيل : لموصوفاتٍ أقيمتْ هي مقامَها وحُذف المفعولُ الثَّاني لغايةِ ظهورِه أي على أنْ لا يُؤتوهم شيئاً { وَلْيَعْفُواْ } ما فَرَطَ منهم { وَلْيَصْفَحُواْ } بالإغضاءِ عنه . وقد قُرىء الأمرانِ بتاءِ الخطابِ على وفقِ قولِه تعالى : { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ } أي بمقابلة عفوِكم وصفحِكم وإحسانِكم إلى مَن أساءَ إليكُم { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } مبالغٌ في المغفرة والرَّحمةِ مع كمالِ قُدرتِه على المُؤاخذة وكثرةِ ذنوبِ العبادِ الدَّاعيةِ إليها . وفيهِ ترغيبٌ عظيمٌ في العفو ووعدٌ كريمٌ بمقابلتِه كأنَّه قيل : ألا تُحبُّون أنْ يغفرَ الله لكُم فهذا من موجباتِه . رُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قرأَه على أبي بكرٍ رضي الله عنه فقالَ : بل أحبُّ أنْ يغفرَ الله لي فرجع إلى مسطحٍ نفقتَه وقال : والله لا أنزعها أبداً .
{ إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات } أي العفائفَ ممَّا رُمين به من الفاحشةِ { الغافلات } عنها على الإطلاقِ بحيثُ لم يخطرْ ببالهنَّ شيءٌ منها ولا من مُقدِّماتِها أصلاً . ففيها من الدِّلالةِ على كمالِ النَّزاهةِ ما ليس في المحصناتِ أي السليماتِ الصدورِ النقيَّاتِ القلوبِ عن كلِّ سوءٍ { المؤمنات } أي المتصفاتِ بالإيمانِ بكلِّ ما يجبُ أنْ يُؤمن به الواجباتِ والمحظوراتِ وغيرِها إيماناً حقيقياً تفصيلياً كما يُنبىء عنه تأخيرُ المؤمناتِ عمَّا قبلَها من أصالةِ وصفِ الإيمانِ فإنَّه للإيذان بأنَّ المرادَ بها المعنى الوصفيُّ المُعربُ كما ذُكر لا المعنى الاسميُّ المصححُ لإطلاق الاسمِ في الجملةِ كما هو المتبادرُ على تقديرِ التَّقديمِ ، والمرادُ بها عائشةُ الصِّدِّيقةُ رضي الله عنهَا . والجمعُ باعتبارِ أنَّ رميَها رميٌ لسائرِ أمَّهاتِ المُؤمنينَ لاشتراكِ الكلِّ في العصمةِ والنَّزاهةِ والانتسابِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قولِه تعالى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين } ونظائرِه وقيلَ : أمَّهاتُ المؤمنينَ فيدخلُ فيهن الصِّدِّيقةُ دُخولاً أوليًّا وأما ما قيل منْ أنَّ المرادَ هي الصِّدِّيقةُ والجمعُ باعتبارِ استتباعِها للمتَّصفاتِ بالصِّفاتِ المذكورةِ من نساءِ الأمةِ فيأباهُ أنَّ العقوباتِ المترتبةَ على رميِ هؤلاءِ عقوباتٌ مختصَّةٌ بالكفَّارِ والمنافقينِ ولا ريبَ في أنَّ رميَ غيرِ أمَّهاتِ المُؤمنين ليس بكفرٍ فيجبُ أن يكونَ المرادُ إيَّاهُنَّ على أحدِ الوجهينَ فإنهنَّ قد خصصنَّ من بين سائرِ المُؤمناتِ فجعل رميهنَّ كفراً إبرازاً لكرامتهنَّ على الله عزَّ وجلَّ وحمايةً لحمى الرِّسالة مِنْ أنْ يحومَ حوله أحدٌ بسوءٍ حتَّى إنَّ ابنَ عبَّاسٍ رضي الله عنهما جعلَه أغلظَ من سائرِ أفرادِ الكفرِ حينَ سُئل عن هذه الآياتِ فقالَ : مَن أذنبَ ذنباً ثمَّ تابَ منه قُبلت توبتُه إلا مَن خاضَ في أمرِ عائشةَ رضي الله عنها .(5/36)
وهَلْ هُو منه رضي الله عنه إلا لتهويلِ أمرِ الإفكِ والتنبيهِ على أنَّه كفرٌ غليظٌ { لُعِنُواْ } بما قالُوه في حقهنَّ { فِى الدنيا والأخرة } حيثُ يلعنُهم اللاعنونَ من المؤمنينَ والملائكةِ أبداً { وَلَهُمْ } معَ ما ذُكر من اللَّعنِ الأبديِّ { عَذَابٌ عظِيمٌ } هائلٌ لا يُقادر قدرُه لغاية عظمِ ما اقترفُوه من الجنايةِ .(5/37)
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
وقولُه تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ } الخ ، إمَّا متصلٌ بما قبلَه مسوقٌ لتقريرِ العذابِ المذكورِ بتعيينِ وقتِ حلولِه وتهويلِه ببيانِ ظهورِ جنايتِهم الموجبةِ له مع سائرِ جناياتِهم المستتبعةِ لعقوباتِها على كيفيةٍ هائلةٍ وهيئةٍ خارقةٍ للعاداتِ . فيومَ ظرفٌ لما في الجارِّ والمجرورِ المتقدمِ من معنى الاستقرارِ لا لعذابٌ وإنْ أغضينَا عن وصفِه لإخلالِه بجزالةِ المعنى . وإمَّا منقطعٌ عنه مسوقٌ لتهويلِ اليومِ بتهويلِ ما يحويهِ على أنَّه ظرفٌ لفعلٍ مؤخَّرٍ قد ضُرب عنه الذِّكرُ صَفْحاً للإيذانِ بقصورِ العبارةِ عن تفصيلِ ما يقعُ فيه من الطَّامةِ التَّامةِ والدَّاهيةِ العامةِ كأنَّه قيلَ : يومَ تشهدُ عليهم { أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يكونُ من الأحوالِ والأهوالِ ما لا يحيطُ به حيطةَ المقالُ على أنَّ الموصولَ المذكورَ عبارةٌ عن جميعِ أعمالِهم السَّيئةِ وجناياتِهم القبيحةِ لا عن جنايتِهم المعهودةِ فَقَطْ ومعنى شهادةِ الجوارحِ المذكورةِ بها أنَّه تعالى يُنطقها بقدرته فتخبر كلُّ جارحةٍ منها بما صدرَ عنها من أفاعيل صاحبِها لا أنَّ كلاًّ منها يخبرُ بجنايتِهم المعهودةِ فحسب . والموصولُ المحذوفُ عبارةٌ عنها وعن فنونِ العُقوباتِ المترتبةِ عليها كافَّة لا عنْ إحداهما خاصَّة ففيهِ من ضروبِ التَّهويلِ بالإجمالِ والتَّفصيلِ ما لا مزيدَ عليه وجعلُ الموصولِ المذكورِ عبارةً عن خصوصِ جنايتِهم المعهودةِ وحملُ شهادةِ الجوارحِ على إخبارِ الكلِّ بها فَقَط تحجيرٌ للواسعِ وتهوينُ أمرِ الوازعِ والجمعُ بين صيغتي الماضِي والمستقبلِ للدِّلالةِ على استمرارِهم عليها في الدُّنيا . وتقديمُ عليهم على الفاعل للمُسارعةِ إلى بيانِ أنَّ الشَّهادةَ ضارةٌ لهم مع ما فيهِ من التَّشويقِ إلى المؤخرِ كما مرَّ مِراراً .
وقولُه تعالى : { يَوْمَئِذٍ يُوَفّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق } أي يومَ إذْ تشهدُ جوارحُهم بأعمالِهم القبيحةِ يُعطيهم الله تعالى جزاءَهم الثَّابتَ الذي يحقِّقُ أنْ يثبتَ لهم لا محالةَ وافياً كاملاً . كلامٌ مبتدأٌ مسوقٌ لبيانِ ترتيبِ حكمِ الشَّهادةِ عليها متضمنٌ لبيانِ ذلك المهمِّ المحذوفِ على وجهِ الإجمالِ ، ويجوزُ أنْ يكونَ يومَ تشهدُ ظرفاً ليوفِّيهم ، ويومئذٍ بدلاً منه ، وقيلَ : هو منصوبٌ على أنَّه مفعولٌ لفعلٍ مضمرٍ أي اذكُر يومَ تشهدُ . وقُرىء يومَ يشهدُ بالتَّذكير للفصل { وَيَعْلَمُونَ } عند معاينتِهم الأهوالَ والخُطوبَ حسبما نطقَ به القرآنُ الكريم { أَنَّ الله هُوَ الحق } الثَّابتُ الذي يحقُّ أنْ يثبت لا محالة في ذاتِه وصفاتِه وأفعالِه التي من جُملتها كلماتُه التَّاماتُ المنبئة عن الشُّؤونِ التي يُشاهدونها منطقة عليها { المبين } المظهرُ للأشياءِ كما هي في أنفسِها أو الظَّاهرُ أنَّه هو الحقُّ وتفسيرُه بظهورِ ألوهيَّتِه تعالى وعدمِ مشاركةِ الغير له فيها وعدمِ قُدرة ما سواه على الثَّوابِ والعقابِ ليس له كثيرُ مناسبةٍ للمقام كما أنَّ تفسيرَ الحقِّ بذي الحقِّ البيَّنِ العادل الظَّاهر عدلُه كذلك ولو تتبعتَ ما في الفُرقان المجيدِ من آياتِ الوعيدِ الواردةِ في حقِّ كلِّ كَفَّارٍ مريدٍ وجبَّارٍ عَنيدٍ لا تجدُ شيئاً منها فوقَ هاتيك القوارعِ المشحونةِ بفُنون التَّهديدِ والتَّشديدِ ، وما ذاكَ إلاَّ لإظهار منزلةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في عُلُّو الشَّأنِ والنباهةِ وإبرازِ رُتبةِ الصِّدِّيقةِ رضي الله عنها في العِفَّةِ والنَّزاهةِ .(5/38)
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
وقولُه تعالى : { الخبيثات } الخ ، كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ على قاعدةِ السنَّةِ الإلهية الجاريةِ فيما بين الخلقِ على موجب أنَّ لله تعالى مَلَكاً يسوقُ الأهلَ إلى الأهلِ أي الخبيثاتُ من النِّساءِ { لِلْخَبِيثِينَ } من الرِّجال أي مختصَّاتٌ بهم لا يكَدْنَ يتجاوزْنَهم إلى غيرِهم على أنَّ اللامَ للاختصاصِ { والخبيثون } أيضاً { للخبيثات } لأنَّ المُجانسةَ من دَوَاعي الانضمامِ { والطيبات } منهنَّ { لِلطَّيّبِينَ } منهم { والطيبون } أيضاً { للطيبات } منهنَّ بحيثُ لا يكادُون يجاوزوهنَّ إلى من عداهنَّ وحيثُ كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أطيبَ الأطيبينِ وخيرةَ الأوَّلين والآخرين تبين كونُ الصِّدِّيقةِ رضي الله عنها من أطيب الطَّيباتِ بالضَّرورةِ واتَّضح بطلانُ ما قيل في حقِّها من الخُرافاتِ حسبما نطقَ به قولُه تعالى : { أُوْلَئِكَ مُبَرَّءونَ مِمَّا يَقُولُونَ } على أنَّ الإشارةَ إلى أهلِ البيتِ المنتظِمين للصِّدِّيقةِ انتظاماً أوَّليًّا ، وقيل : إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والصِّدِّيقةِ وصفوانَ ، وما في اسمِ الإشارةِ من معنى البُعد للإيذان بعلُّوِ رُتبة المشارِ إليهم وبُعد منزلتِهم في الفضلِ أي أولئك الموصُوفون بعلُّوِ الشَّأنِ مُبرَّءون ممَّا تقوَّله أهلُ الإفكِ في حقِّهم من الأكاذيبِ الباطلةِ . وقيل : الخبيثاتُ من القولِ للخبيثينَ من الرِّجالِ والنِّساءِ أي مختصَّة ولائقة بهم لا ينبغي أنْ تُقال في حقِّ غيرِهم وكذا الخبيثون من الفريقين أحِقَّاءُ بأنْ يُقال في حقِّهم خبائثُ القول والطَّيباتُ من الكلم للطَّيبين من الفريقينِ مختصَّةٌ وحقيقة بهم وهم أحِقَّاءُ بأنْ يُقال في شأنهم طيِّباتُ الكلمِ أولئك الطَّيبون مبرَّءون ممَّا يقول الخبيثون في حقِّهم فمآلُه تنزيهُ الصِّدِّيقةِ أيضاً ، وقيل : خبيثاتُ القول مختصَّةٌ بالخبيثين من فريقَيْ الرِّجالِ والنِّساءِ لا تصدرُ عن غيرِهم والخبيثون من الفريقينِ مختصُّون بخبائث القولِ متعرِّضُون لها والطَّيباتُ من الكلام للطَّيبين من الفريقينِ أي مختصَّةٌ بهم لا تصدرُ عن غيرِهم والطَّيبون من الفريقينِ مختصُّون بطيِّباتِ الكلامِ لا يصدرُ عنهم غيرُها أولئك الطَّيبون مبرَّءون ممَّا يقولُه الخبيثون من الخبائثِ أي لا يصدرُ عنهم مثلُ ذلك فمآلُه تنزيهُ القائلينِ سبحانَك هذا بهتانٌ عظيمٌ { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } عظيمةٌ لما لا يخلُو عنه البشرُ من الذُّنوب { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } هو الجنَّةُ .(5/39)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } إثرَ ما فُصل الزَّواجرُ عن الزِّنا وعن رميِ العفائف عنه شُرع في تفصيل الزَّواجر عمَّا عسى يُؤدِّي إلى أحدهما من مُخالطة الرِّجالِ بالنِّساءِ ودخولِهم عليهنَّ في أوقات الخلوات وتعليمِ الآدابِ الجميلة والأفاعيل المرضيَّة المستتبعة لسعادةِ الدَّارين ووصف البيوت بمغايرة بيوتِهم خارجٌ مخرجَ العادة التي هي سُكنى كلِّ أحدٍ في ملكه وإلا فالمآجر والمُعير أيضاٌ منهيَّانِ عن الدُّخول بغير إذنٍ . وقُرىء بِيوتاً غيرَ بِيوتكم بكسرِ الباءِ لإجلِ الياءِ { حتى تَسْتَأْنِسُواْ } أي تستأذنوا مَن يملكُ الإذن من أصحابها من الاستئناس بمعنى الاستعلام من آنس الشيء إذا أبصره فإن المستأنس مستعلم للحال مستكشف أنه هل يؤذن له أو من الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاشس لما أن المستأذن مستوحش خائف أن لا يؤذن له فإذا أذن له استأنس { وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا } عند الاستئذان . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن التسليم أن يقول : السلام عليكم ، أأدخل؟ ثلاث مرات فإن أذن له دخل وإلا رجع { ذلكم } أي الاستئذان مع التسليم { خَيْرٌ لَّكُمْ } من أن تدخلوا بغتة أو على تحية الجاهلية حيث كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتاً غير بيته يقول : حييتم صباحاً حييتم مساء فيدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف . وروي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أستأذن على أمي؟ قال : « نعم » قال : ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كُلَّما دخلتُ؟ قالَ صلى الله عليه وسلم : « أتحب أن تراها عريانة؟ » قال : لا . قال صلى الله عليه وسلم : « فاستأذن » { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } متعلق بمضمر أي أمرتم به أو قيل لكم هذا كي تتذكروا وتتعظوا وتعملوا بموجبه .
{ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً } أي ممن يملك الإذن على أنَّ مَن لا يملكه من النِّساءِ والولدانُ وُجدانُه كفُقدانِه أو أحداً أصلاً على أنَّ مدلول النصِّ الكريم عبارةٌ هو النَّهي عن دُخول البيوتِ الخاليةِ لما فيه من الاطلاع على ما يعتادُ النَّاسُ إخفاءَه مع أنَّ التَّصرفَ في ملك الغير محظورٌ مطلقاً وأمَّا حُرمة دخول ما فيه للنِّساءِ والولدان فثابتةٌ بدلالة النصِّ لأنَّ الدخول حيث حَرُمَ مع ما ذكر من العلَّة فلأن يحرُمَ عند انضمامِ ما هو أقوى منه إليه أعني الاطِّلاعَ على العَورات أَولى { فَلاَ تَدْخُلُوهَا } واصبروا { حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ } أي من جهة مَن يملكُ الإذنَ عند إتيانه . ومَن فسَّره بقوله : حتَّى يأتي مَن يأذنُ لكم أو حتَّى تجدوا من يأذن لكم فقد أبرز القطعيَّ في معرض الاحتمال ، ولما كان جعلُ النَّهي بالإذنِ ممَّا يُوهم الرُّخصة في الانتظار على الأبواب مُطلقاً بل في تكرير الاستئذانِ ولو بعد الردِّ دُفع ذلك بقولِه تعالى : { وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا } أي إنْ أُمرتم من جهةِ أهلِ البيتِ بالرُّجوع سواء كان الأمرُ ممَّن يملكُ الإذن أو لاَ فارجعُوا ولا تلحّوا بتكرير الاستئذانِ كما في الوجهِ الأول لا تلحوا بالإصرار على الانتظار إلى أنْ يأتيَ الآذنُ كما في الثَّاني فإنَّ ذلك ممَّا يجلبُ الكراهةَ في قلوب النَّاسِ ويقدحُ في المروءةِ أيَّ قدحٍ { هُوَ } أي الرُّجوعُ { أزكى لَكُمْ } أي أطهرُ ممَّا لا يخلُو عنه اللجُّ والعناد والوقوف على الأبواب من دنس الدناءةِ والرَّذالة { والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } فيعلم ما تأتون وما تذرون ممَّا كلفتموه فيجازيكم عليه .(5/40)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
{ لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ } أي بغير استئذانٍ { بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } أي غيرَ موضوعةٍ لسكنى طائفةٍ مخصوصةٍ فقط بل ليتمتَّعَ بها من يُضطر إليها كائناً من كان من غير أنْ يتخذَها سكناً كالرُّبطِ والخَاناتِ والحوانيتِ والحمَّاماتِ ونحوِها فإنَّها معدَّةٌ لمصالح النَّاس كافَّة كما يُنبىء عنه قولُه تعالى : { فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ } فإنَّه صفةٌ للبيوتِ أو استئنافٌ جارٍ مجرى التَّعليلِ لعدم الجُناح أي فيها حقُّ تمتعٍ لكم كالاستكنان من الحرِّ والبردِ وإيواءِ الأمتعةِ والرِّحالِ والشِّراءِ والبيعِ والاغتسالِ وغيرِ ذلك ممَّا يليقُ بحال البُيوت وداخليها فلا بأسَ بدخولها بغير استئذانٍ من داخليها من قبل ولا ممَّن يتولَّى أمرَها ويقومُ بتدبيرها من قوام الرِّباطاتِ والخاناتِ وأصحابِ الحوانيتِ ومتصرِّفي الحمَّاماتِ ونحوِهم . ويُروى أنَّ أبا بكر رضي الله عنه قال : يا رسولَ الله ، إنَّ الله تعالى قد أنزل عليك آيةً في الاستئذان وإنَّا نختلفُ في تجاراتِنا فننزل هذه الخاناتِ أفلا ندخلها إلاَّ بإذنٍ؟ فنزلتْ . وقيل : هي الخَرِباتُ يُتبرَّزُ فيها والمتاع التَّبرزُ . والظَّاهر أنَّها من جُملة ما ينتظمه البيوتُ لا أنها المرادةُ فقط . وقوله تعالى : { والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } وعيدٌ لمن يدخلُ مدخلاً من هذه المداخل لفسادٍ أو اطِّلاعٍ على عوراتٍ .
{ قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ } شروعٌ في بيان أحكام كليَّة شاملة للمؤمنين كافَّة يندرج فيها حكمُ المستأذنين عند دخولِهم البيوت اندراجاً أوليًّا . وتلوينُ الخطاب وتوجيهه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتفويضُ ما في حيِّزِه من الأوامر والنَّواهي إلى رأيِه عليه الصَّلاة والسَّلام لأنَّها تكاليفُ متعلِّقةٌ بأمورٍ جُزئيةٍ كثيرةِ الوقوعِ حقيقةٌ بأنْ يكون الآمرُ بها والمتصدِّي لتدبيرها حافظاً ومُهيمناً عليهم . ومفعولُ الأمر أمرٌ آخرُ قد حُذف تعويلاً على دلالة جوابه عليه أي قُل لهم غُضُّواً { يَغُضُّواْ مِنْ أبصارهم } عمَّا يحرُم ويقتصروا به على ما يحلُّ { وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } إلا على أزواجِهم أو ما ملكتْ أيمانُهم . وتقييدُ الغضِّ بمن التبعيضيَّةِ دونَ الحفظ لما في أمر النَّظر من السَّعةِ . وقيل : المرادُ بالحفظِ هاهنا خاصَّة هو السِّترُ .
{ ذلك } أي ما ذُكر من الغضِّ والحفظ { أزكى لَهُمْ } أي أطهرُ لهم من دنس الرِّيبة { إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } لا يخفى عليه شيءٌ ممَّا يصدرُ عنهم من الأفاعيلِ التي من جُملتِها إحالةُ النَّظرِ واستعمالُ سائرِ الحواس وتحريك الجوارحِ وما يقصدون بذلك فليكونوا على حذرٍ منه في كلِّ ما يأتُون وما يذرُون .(5/41)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
{ وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن } فلا ينظرن إلى ما لا يحلُّ لهنَّ النَّظرُ إليه { وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } بالتَّسترِ أو التَّصونِ عن الزِّنا . وتقديمُ الغضِّ لأنَّ النَّظرَ بريدُ الزِّنا ورائدُ الفسادِ { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } كالحُليِّ وغيرِها ممَّا يُتزين بهِ وفيهِ من المبالغة في النَّهيِ عن إبداءِ مواضعِها ما لا يخفى { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } عند مُزاولةِ الأمورِ التي لا بُدَّ منها عادةً كالخاتمِ والكُحلِ والخضابِ ونحوها فإنَّ في سترِها حَرَجاً بيناً . وقيلَ : المرادُ بالزِّينةِ مواضعُها على حذفِ المضافِ أو ما يعمُّ المحاسنَ الخَلقيةَ والتَّزينيةَ . والمُستثنى هو الوجهُ والكفَّانِ لأنَّها ليستْ بعورةٍ . { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ } إرشادٌ إلى كيفيَّة إخفاءِ بعضِ مواضع الزِّينة بعد النَّهي عن إبدائِها . وقد كانتِ النِّساءُ على عادةِ الجاهليةِ يسدُلْن خُمرَهنَّ من خلفهنَّ فتبدُو نحورُهنَّ وقلائدهُنَّ من جيوبِهنَّ لوسعِها فأُمرن بإرسالِ خمرهنَّ إلى جيوبهنَّ ستراً لما يبدُو منها وقد ضُمِّن الضَّربُ معنى الإلقاءِ فعُدِّي بعَلَى . وقُرىء بكسرِ الجيمِ كما تقدَّم { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } كرر النهي لاستثناء بعضِ موادِّ الرُّخصةِ عنه باعتبار النَّاظرِ بعد ما استُثني عنه بعضُ موادِّ الضَّرورةِ باعتبارِ المنظُور { إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ } فإنَّهم المقصودون بالزِّينة ولهم أنْ ينظرُوا إلى جميع بدنهنَّ حتَّى الموضعِ المعهودِ { أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بني إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ } لكثرةِ المخالطةِ الضَّروريَّةِ بينهم وبينهنَّ وقلة توقع الفتنةِ من قبلهم لما في طباعِ الفريقينِ من النَّفرة عن مماسة القرائبِ ولهم أنْ ينظرُوا منهنَّ ما يبدُو عند المهنةِ والخدمةِ . وعدمُ ذكرِ الأعمامِ والأخوالِ لما أنَّ الأحوطَ أنْ يتسترن عنهم حذاراً من أنْ يصفوهنَّ لأبنائهم { أَوْ نِسَائِهِنَّ } المختصَّات بهن بالصُّحبة والخدمةِ من حرائر المؤمناتِ فإنَّ الكوافرَ لا يتحرجنَّ عن وصفهنَّ للرِّجالِ .
{ أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن } أي من الإماءِ فإنَّ عبدَ المرأةِ بمنزلة الأجنبيِّ منها . وقيل مِن الإماءِ والعَبيدِ لما رُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أتى فاطمة رضي الله عنها بعبدٍ وهبه لها وعليها ثوبٌ إذا قنَّعتْ به رأسَها لم يبلغْ رجليها وإذا غطَّت رجليها لم يبلغْ رأسَها فقال عليه الصَّلاة والسَّلام : « إنَّه ليس عليك بأسٌ إنَّما هو أبوكِ وغلامكِ » { أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِى الإربة مِنَ الرجال } أي أولي الحاجةِ إلى النِّساء وهم الشُّيوخُ الهِمّ والممسوحون . وفي المجبوبِ والخَصيِّ خلافٌ ، وقيل هُم البُله الذين يتتبعون النَّاس لفضل طعامِهم ولا يعرفون شيئاً من أمور النِّساء . وقُرىء غيرَ بالنَّصبِ على الحاليَّةِ { أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عورات النساء } لعدم تمييزهم . من الظُّهور بمعنى الاطِّلاع أو لعدم بلوغهم حدَّ الشَّهوةِ ، من الظُّهور بمعنى الغَلَبة .(5/42)
والطِّفلُ جنسٌ وُضع موضعَ الجمعِ اكتفاءً بدلالةِ الوصفِ . { وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ } أي ما يخفينَه من الرؤيةِ { مِن زِينَتِهِنَّ } أي ولا يضربن بأرجلِهنَّ الأرضَ ليتقعقعَ خلخالهُنَّ فيُعلمَ أنهنَّ ذواتُ الخلخالِ فإنَّ ذلك ممَّا يُورث الرِّجالَ ميلاً إليهنَّ ويُوهم أنَّ لهنَّ ميلاً إيهم . وفي النَّهيِ عن إبداء صوتِ الحُلى بعد النَّهي عن إبداءِ عينها من المبالغةِ في الزَّجرِ عن إبداءِ مواضعها ما لا يخفى { وَتُوبُواْ إِلَى الله جَمِيعاً } تلوينٌ للخطابِ وصرفٌ له عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى الكُلِّ بطريق التَّغليبِ لإبراز كمال العنايةِ بما في حيِّزه من أمرِ النوبةِ وأنَّها من معظمات المهمَّاتِ الحقيقيَّةِ بأنْ يكونَ سبحانَهُ وتعالى هو الآمرَ بها لما أنَّه لا يكادُ يخلُو أحدٌ من المكلَّفين عن نوعِ تفريطٍ في إقامة مواجبِ التَّكاليفِ كما ينبغي . وناهيك بقوله عليه السَّلامُ « شيَّبتني سورةُ هودٍ » لما فيها من قولهِ عزَّ وجلَّ { فاستقم كَمَا أُمِرْتَ } لا سيَّما إذا كانَ المأمورُ به الكفَّ عن الشَّهواتِ . وقيل توبُوا عمَّا كنتُم تفعلونَه في الجاهليَّةِ فإنَّه وإنْ جُبَّ بالإسلامِ لكن يُجبُّ بالندمِ عليه والعزمِ على تركهِ كلَّما خطرَ ببالهِ . وفي تكرير الخطابِ بقوله تعالى : { أَيُّهَ المؤمنون } تأكيدٌ للإيجاب وإيذانٌ بأنَّ وصفَ الإيمانِ موجبٌ للامتثال حتماً . وقُرىء أيّهُ المؤمنون { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } تفوزونَ بذلكَ بسعادةِ الدَّارينِ .(5/43)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
{ وَأَنْكِحُواْ الايامى مِنْكُمْ } بعدما زَجر تعالى عن السِّفاحِ ومباديه القريبةِ والبعيدةِ أمرَ بالنِّكاحِ فإنَّه مع كونهِ مقصُوداً بالذَّات من حيثُ كونُه مناطاً لبقاء النَّوعِ خيرُ مزجرةٍ عن ذلك . وأيامى مقلوبُ أيَايم جمعُ أيِّم وهو مَن لا زوجَ له من الرِّجالِ والنِّساءِ بكراً كان أو ثيِّباً كما يُفصح عنه قولُ من قالَ
فإنْ تَنْكحِي أنكِحْ وإنْ تتأيَّمي ... وإنْ كُنتُ أفتى مِنكُم أتأيَّمِ
أي زَوِّجُوا مَن لا زوجَ له مِن الأحرارِ والحَرَائرِ { والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ } على أنَّ الخطابَ للأولياءِ والسَّاداتِ . واعتبارُ الصَّلاحِ في الأرقَّاءِ لأنَّ من لا صلاحَ له منهم بمعزلٍ مَن أنْ يكون خَليقاً بأن يعتني مولاه بشأنه ويُشفق عليه ويتكلَّفُ في نظمِ مصالحهِ بما لا بدَّ منه شَرعاً وعادةً من بذل المالِ والمنافعِ ، بل حقُّه أنْ لا يستبقيَه عنده وأمَّا عدمُ اعتبار الصَّلاحِ في الأحرارِ والحرائرِ فلأنَّ الغالبَ فيهم الصَّلاحُ على أنَّهم مُستبدُّون في التَّصرفاتِ المتعلِّقةِ بأنفسهِم وأموالهم فإذا عزمُوا النِّكاحَ فلا بدَّ من مساعدةِ الأولياءِ لهم إذ ليسَ عليهم في ذلك غرامةٌ حتَّى يُعتبر في مقابلتها غنيمةٌ عائدةٌ إليهم عاجلةً أو آجلةً . وقيل المرادُ هو الصَّلاحُ للنِّكاحِ والقيامِ بحقوقهِ { إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ } إزاحةً لما عسى يكونُ وازعاً من النِّكاحِ من فقرِ أحدِ الجانبينِ أي لا يمنعنَّ فقرُ الخاطبِ أو المخطوبةِ من المُناكحةِ فإنَّ في فضل اللَّهِ عزَّ وجلَّ غُنيةً عن المالِ فإنَّه غادٍ ورائحٌ يرزق مَن يشاء مِن حيثُ لا يحتسبُ أو وعدٌ منه سبحانه بالإغناءِ لقولهِ عليه الصَّلاة والسَّلامُ « اطلبُوا الغِنى في هذه الآيةِ » لكنَّه مشروطٌ بالمشيئةِ كما في قولهِ تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَاء } { والله واسع } غنيٌّ ذُو سَعةٍ لا يرزؤُه إغناءُ الخلائقِ إذْ لا نفادَ لنعمتهِ ولا غايةَ لقدُرتهِ ومع ذلك { عَلِيمٌ } يبسطُ الرِّزقَ لمن يشاءُ ويقدرُ حسبما تقتضيهِ الحكمةُ والمصلحةُ .(5/44)
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
{ وَلْيَسْتَعْفِفِ } إرشادٌ للعاجزينَ عن مبادِي النِّكاحِ وأسبابِها إلى ما هُو أولى لهم وأحْرى بهم بعدَ بيانِ جوازِ مُناكحةِ الفُقراءِ أي ليجتهدْ في العِفَّةِ وقمعِ الشَّهوةِ { الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } أي أسبابَ نكاحٍ أو لا يتمكَّنون ممَّا يُنكح به من المالِ { حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } عدةٌ كريمةٌ بالتَّفضلِ عليهم بالغِنى ولطفٌ لهم في استعفافِهم وتقويةٌ لقلوبهم وإيذانٌ بأنَّ فضلَه تعالى أولى بالإعفاءِ وأدنى من الصُّلحاءِ { والذين يَبْتَغُونَ الكتاب } بعدما أمرَ بإنكاحِ صَالحي المماليك الأحقَّاءِ بالإنكاح أمرَ بكتابة مَن يستحقُّها منهم . والكتابُ مصدر كاتبَ كالمُكاتبة أي الذين يطلبون المُكاتبةَ { مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم } عبداً كان أو أمةً وهي أنْ يقولَ المولى لمملوكه كاتبتُك على كذا درهماً تؤدِّيه إليَّ وتعتق ، ويقول المملوكُ قبلتُه أو نحوَ ذلك فإنْ أدَّاه إليه عتق قالوا معناه كتبتُ لك على نفسي أنْ تعتق منِّي إذا وفَّيت بالمال وكتبت لي على نفسك أنْ تفيَ بذلك أو كتبت عليك الوفاءَ بالمال وكتبتُ عليَّ العتقَ عنده ، والتَّحقيقُ أنَّ المكاتبةَ اسمٌ للعقد الحاصل من مجموع كلاميهما كسائر العُقودِ الشَّرعيَّةِ المُنعقدةِ بالإيجاب والقبولِ . ولا ريبَ في أنَّ ذلك لا يصدرُ حقيقةً إلا من المتعاقدين وليس وظيفةُ كلِّ منهما في الحقيقةِ إلا الإتيانَ بأحدث شطريه مُعرباً عمَّا يتمُّ من قِبله ويصدر عنه من الفعلِ الخاصِّ به من غير تعرُّضٍ لما يتمُّ من قبل صاحبه ويصدر عنه من فعله الخاصِّ به إلاَّ أنَّ كلاًّ من ذينكَ الفعلينِ لما كان بحيثُ لا يمكن تحقُّقه في نفسهِ إلا منوطاً بتحقُّقِ الآخرِ ضرورةَ أنَّ التزامَ العتقِ بمقابلة البدلِ من جهة المولى لا يُتصور تحقُّقه وتحصُّله إلا بالتزام البدل من طرف العبد كما أنَّ عقدَ البيع الذي هو تمليك المَبيعِ بالثَّمن من جهة البائعِ لا يُمكن تحقُّقه إلا بتملُّكه به من جانب المُشتري لم يكن بدٌّ من تضمينِ أحدهِما الآخر وقت الإنشاء فكما أنَّ قول البائع بعتُ إنشاءٌ لعقد البيع على معنى أنَّه إيقاعٌ لما يتمُّ من قبله أصالةً ولما يتمُّ من قبل المُشتري ضمناً إيقاعاً متوقفاً على رأيهِ توقفاً شبيهاً بتوقُّفِ عقد الفضوليِّ كذلك قولُ المولى كاتبتُك على كذا إنشاء لعقدِ الكتابةِ أي إيقاعٌ لما يتمُّ من قبله من التزام العتقِ بمقابلة البدلِ أصالةً ولما يتمُّ من قبلِ العبدِ من التزامِ البدلِ ضمناً إيقاعاً متوقِّفاً على قبوله فإذا قُبل تمَّ العقدُ ، ومحل الموصولِ الرَّفعُ على الابتداء خبرُه { فكاتبوهم } والفاءُ لتضمُّنهِ معنى الشَّرطِ أو النَّصبُ على أنَّه مفعولٌ لمضمرٍ يفسِّره هذا والأمر فيه للنَّدب لأنَّ الكتابة عقدٌ يتضمَّن الإرفاقَ فلا تجبُ كغيرِها ويجوزُ حالاً ومؤجَّلاً ومنجَّماً وغيرَ منجَّمٍ .(5/45)
وعند الشَّافعيِّ رحمه الله لا يجوزُ إلا مؤجَّلاً منجَّماً وقد فُصِّل في موضعه { إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } أي أمانةً ورُشداً وقدرة على أداء البدلِ بتحصيله من وجهٍ حلالٍ وصلاحاً لا يؤذي النَّاسَ بعد العتق وإطلاق العَنَانِ .
{ وَءَاتُوهُم مِن مَّالِ الله الذى ءاتاكم } أمرٌ للموالي ببذل شيءٍ من أموالهم وفي حكمه حطُّ شيء من مال الكتابة ويكفي في ذلك أقلُّ ما يُتموَّل . وعن عليَ رضي الله عنه : حطُّ الرُّبع وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : الثُّلثُ . وهو للنَّدبِ عندنا وعند الشافعيِّ للوجوبِ ويردُّه قولُه عليه الصَّلاة والسَّلام : « المُكاتَبُ عبدٌ ما بقي عليه درهمٌ » . إذ لو وجب الحطُّ لسقط عنه الباقي حتماً وأيضاً لو وَجَب الحطُّ لكان وجوبُه معلَّقاً بالعقد فيكون العقد مُوجِباً ومُسقِطاً معاً وأيضاً فهو عقدُ مُعاوضةٍ فلا يُجبر على الحَطيطةِ كالبيع وقيل معنى آتُوهم أقرِضُوهم وقيل هو أمرٌ لهم بأنْ يُنفقوا عليهم بعد أنْ يؤدُّوا ويعتقوا . وإضافةُ المال إليه تعالى ووصْفُه بإيتائه إيَّاهم للحثِّ على الامتثال بالأمر بتحقيق المأمور به كما في قوله تعالى : { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } فإنَّ ملاحظة وصولِ المال إليهم من جهته تعالى مع كونه هو المالكَ الحقيقيَّ له من أقوى الدَّواعي إلى صرفه إلى الجهة المأمور بها وقيل هو أمرٌ بإعطاءِ سهمهِم من الصَّدقات ، فالأمرُ للوجوبِ حَتْماً والإضافةُ والوصفُ لتعيين المأخذِ وقيل هو أمرُ ندبٍ لعامَّة المسلمين بإعانة المُكاتبين بالتَّصدق عليهم ، ويحلُّ ذلك للمولى وإنْ كان غنيًّا لتبدل العُنوان حسبما ينطقُ به قولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في حديثِ بَريرةَ : « هو لها صدقةٌ ولنا هديَّةٌ » . { وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم } أي إماءكم فإنَّ كُلاَّ من الفَتَى والفَتاةِ كنايةٌ مشهورةٌ عن العبدِ والأمَةِ وعلى ذلك مبنيٌّ قولُه عليه الصَّلاة والسَّلام : « ليقُلْ أحدُكم فتاي وفتاتي ولا يقُل عبدي وأمَتي » ولهذه العبارةِ في هذا المقامِ باعتبار مفهومِها الأصلي حسنُ موقعٍ ومزيدُ مناسبةٍ لقولهِ تعالى : { عَلَى البغاء } وهو الزِّنا من حيثُ صدورُه عن النساءِ لأنهنَّ اللاَّتي يُتوقَّع منهنَّ ذلك غالباً دُون مَن عداهنَّ من العجائزِ والصَّغائرِ . وقولُه تعالى : { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } ليس لتخصيص النَّهي بصورة إرادتهِنَّ التَّعففَ عن الزِّنا وإخراجِ ما عداها من حُكمه كما إذا كان الإكراه بسبب كراهتهنَّ الزِّنا لخصوصِ الزَّاني أو لخصوصِ الزَّمانِ أو لخصوصِ المكانِ أو لغيرِ ذلكَ من الأُمور المُصحِّحةِ للإكراه في الجُملةِ بل للمحافظةِ على عادتهم المستمرَّة حيثُ كانُوا يكرهونهنَّ على البغاء وهنَّ يُردن التَّعففَ عنه مع وفورِ شهوتهنَّ الآمرةِ بالفُجورِ وقصورهنَّ في معرفةِ الأمورِ الدَّاعيةِ إلى المحاسنِ الزَّاجرةِ عن تَعَاطي القبائحِ فإنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ أُبيَ كانت له ستُّ جوارٍ يُكرههنَّ على الزِّنا وضربَ عليهنَّ ضرائبَ فشكتِ اثنتانِ منهنَّ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فنزلتْ .(5/46)
وفيهِ من زيادةِ تقبيحِ حالهم وتشنيعهِم على ما كانُوا عليه من القبائحِ ما لا يخفى فإنَّ مَن له أدنى مروءةٍ لا يكادُ يرضى بفجور من يحويهِ حرمُه من إمائهِ فضلاً عن أمرهنَّ به أو إكراههنَّ عليه لا سيَّما عند إرادتهنَّ التَّعففَ فتأمَّلْ ودَعْ عنك ما قيلَ مِن أنَّ ذلك لأنَّ الإكراه لا يتأتَّى إلا مع إرادة التَّحصُّنِ وما قيل من أنَّه إنْ جُعل شرطاً للنَّهي لا يلزم من عدمِه جوازُ الإكراه لجوازِ أنْ يكون ارتفاعُ النَّهي لامتناع المنهيِّ عنه فإنَّهما بمعزلٍ من التَّحقيق ، وإيثار كلمةِ إنْ على إذا مع تحقُّق الإرادةِ في موردِ النَّصِّ حتماً للإيذانِ بوجوبِ الانتهاء عن الإكراه عند كونِ إرادةِ التَّحصنِ في حيِّز التَّردد والشَّكِّ فكيفَ إذا كانت مُحقَّقة الوقوع كما هو الواقعُ ، وتعليلُه بأنَّ الإرادةَ المذكورة منهنَّ في حيِّز الشَّاذ النادرِ مع خُلوه عن الجَدْوى بالكُلِّية يأباهُ اعتبارُ تحقُّقِها إباءً ظاهراً . وقولُه تعالى : { لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا } قيدٌ للإكراه لكنْ لا باعتبارِ أنَّه مدارٌ للنَّهي عنه بل باعتبار أنَّه المعتادُ فيما بينهُم كما قبله جيءَ به تشنيعاً لهُم فيما هُم عليه من احتمال الوزرِ الكبيرِ لأجل النَّزْرِ الحقيرِ أي لا تفعلُوا ما أنتُم عليه من إكراههنَّ على البغاءِ لطلب المتاعِ السَّريعِ الزَّوالِ الوشيكِ الاضمحلالِ فالمرادُ بالابتغاء الطَّلبُ المقارنُ لنيل المطلوبِ واستيفائهِ بالفعل إذْ هُو الصَّالحُ لكونه غايةً للإكراهِ مترتِّباً عليه لا المطلقُ المتناولُ للطَّلبِ السَّابقِ الباعثِ عليه { وَمَن يُكْرِههُنَّ } الخ جملةٌ مستأنفةٌ سِيقتْ لتقرير النَّهيِ وتأكيدِ وجوبِ العملِ به ببيان خلاص المُكرهاتِ عن عقوبة المُكره عليه عبارةً ، ورجوعِ غائلة الإكراه إلى المُكرِهين إشارةً ، أي ومَن يكرهنَّ على ما ذُكر من البغاء .
{ فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي لهنَّ كما وقع في مصحف ابن مسعودٍ وعليه قراءةُ ابن عبَّاسً رضي الله تعالى عنهم وكما ينبىءُ عنه قولُه تعالى : { مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ } أي كونهنَّ مكرهاتٍ على أنَّ الإكراه مصدرٌ من المبنيِّ للمفعولِ فإن توسيطَه بين اسمِ إنَّ وخبرِها للإيذانِ بأنَّ ذلك هو السببُ للمغفرةِ والرَّحمةِ . وكان الحسنُ البصريُّ رحمه الله إذا قرأ هذه الآيةَ يقولُ لهنَّ واللَّهِ لهنَّ واللَّهِ . وفي تخصيصهما بهنَّ وتعيين مدارِهما مع سبق ذِكرِ المكرهين أيضاً في الشَّرطيةِ دلالةٌ بينة على كونهم محرومين منهما بالكُلِّية كأنَّه قيل لا للمكره ، ولظهور هذا التَّقديرِ اكتفى به عن العائدِ إلى اسم الشَّرطِ فتجويزُ تعلقهما بهم بشرطِ التَّوبةِ استقلالاً أو معهنَّ إخلالٌ بجزالة النَّظمِ الجليلِ وتهوينٌ لأمر النَّهيِ في مقامِ التَّهويلِ ، وحاجتُهنَّ إلى المغفرةِ المنبئةِ عن سابقةِ الإثمِ إمَّا باعتبار أنهنَّ وإن كنَّ مكرهاتٍ لا يخلون في تضاعيفِ الزِّنا عن شائبة مطاوعةٍ ما بحكم الجبلَّة البشريَّةِ وإمَّا باعتبارِ أنَّ الإكراه قد يكونُ قاصراً عن حدِّ الإلجاءِ المُزيلِ للاختيارِ بالمرَّة وإما لغايةِ تهويلِ أمرِ الزِّنا وحثِّ المكرهاتِ على التثبت في التَّجافي عنه والتَّشديد في تحذيرِ المُكرهين ببيانِ أنهنَّ حيثُ كنَّ عرضةً للعقوبة لولا أن تدارَكَهن المغفرةُ والرَّحمةُ مع قيام العُذر في حقهنَّ فما حالُ من يكرههنَّ في استحقاقِ العذاب؟ .(5/47)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
{ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايات مبينات } كلامٌ مستأنف جيءَ به في تضاعيف ما وردَ من الآيات السَّابقةِ واللاَّحقةِ لبيان جلالةِ شؤونها المستوجبةِ للإقبال الكليِّ على العمليِّ بمضمونِها وصُدِّر بالقسم الذي تُعرب عنه اللاَّمُ لإبراز كمالِ العنايةِ بشأنهِ أي وباللَّهِ لقد أنزلنا إليكم في هذه السورةِ الكريمة آياتٍ مبيِّناتٍ لكلِّ ما بكم حاجةٌ إلى بيانه من الحدود وسائرِ الأحكام والآدابِ وغير ذلك ممَّا هو من مَبادي بيانِها على أنَّ إسنادَ التبيينِ إليها مجازيٌّ . أو آياتٍ واضحاتٍ تصدِّقها الكتبُ القديمةُ والعقولُ السَّليمةُ على أنَّ مبيِّنات من بيَّن بمعنى تبيَّن ومنه المثلُ
قد بَيَّن الصّبحُ لذي عينينِ ... وقُرىء على صيغةِ المفعولِ أي التي بُيِّنتْ وأوضحتْ في هذه السورةِ من معاني الأحكامِ والحدودِ وقد جُوِّز أن يكونَ الأصلُ مبيَّناً فيها الأحكامُ فاتّسع في الظَّرف بإجرائه مُجرى المفعولِ { وَمَثَلاً مّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ } عطفٌ على آياتٍ أي وأنزلنا مثلاً كائناً من قبيل أمثالِ الذين مضوا من قبلِكم من القصصِ العجيبةِ والأمثالِ المضروبة لهم في الكتب السَّابقةِ والكلماتِ الجاريةِ على ألسنة الأنبياءِ عليهم السَّلامُ فينتظمُ قصَّة عائشة رضي الله عنها المحاكية لقصَّةِ يوسفَ عليه السَّلامُ وقصَّةِ مريمَ رضي الله عنها وسائرِ الأمثالِ الواردةِ في السُّورةِ الكريمةِ انتظاماً واضحاً . وتخصيصُ الآياتِ المبيِّناتِ بالسوابقِ وحملُ المثلِ على القصَّة العجيبةِ فَقَط يأباهُ تعيبُ الكلامِ بما سيأتِي من التمثيلاتِ { وَمَوْعِظَةً } تتَّعظِون به وتنزجِرُون عمَّا لا ينبغي من المحرَّمات والمكروهاتِ وسائرِ ما يخلُّ بمحاسنِ الآدابِ فهي عبارةٌ عمَّا سبقَ من الآيات والمثل لظهورِ كونها من المواعظ بالمعنى المذكور . ومدارُ العطف هو التَّغايرُ العنوانيُّ المنزَّلُ منزلة التَّغايرِ الذَّاتيِّ وقد خُصَّت الآياتُ بما يبيِّنُ الحدودَ والأحكامَ والموعظةَ بما وُعظ به من قولهِ تعالى : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ الله } وقوله تعالى : { لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } وغيرِ ذلك من الآياتِ الواردةِ في شأنِ الآدابِ وإنَّما قيل { لّلْمُتَّقِينَ } مع شمولِ الموعظةِ للكلِّ حسب شمول الإنزال لقوله تعالى : { أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ } حثًّا للمُخاطَبين على الاعتناء بالانتظام في سلك المتَّقين ببيان أنَّهم المغتنمون لآثارها المُقتبسون من أنوارها فحسب . وقيل المرادُ بالآيات المبيناتِ والمثلِ والموعظةِ جميعُ ما في القُرآنِ المجيدِ من الآياتِ والأمثالِ والمواعظِ .(5/48)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
فقولُه تعالى : { الله نُورُ السموات والأرض } الخ حينئذٍ استئنافٌ مَسوقٌ لتقريرِ ما فيها من البيانِ مع الإشعارِ بكونه في غاية الكمالِ على الوجه الذي ستعرفُه ، وأمَّا على الأوَّلِ فلتحقيقِ أنَّ بيانه تعالى ليس مقصُوراً على ما وردَ في السُّورة الكريمة بل هو شاملٌ لكلِّ ما يحقُّ بيانُه من الأحكام والشَّرائعِ ومباديها وغاياتها المترتِّبة عليها في الدُّنيا والآخرة وغير ذلك ممَّا له مدخلٌ في البيان وأنَّه واقعٌ منه تعالى على أتمِّ الوجوهِ وأكملِها حيث عبَّر عنه بالتَّنوير الذي هو أقوى مراتب البيانِ وأجلاها وعبَّر عن المنوِّر بنفس النُّور تنبيهاً على قوَّةِ التَّنوير وشدَّةِ التَّأثيرِ وإيذاناً بأنه تعالى ظاهرٌ بذاته ، وكلُّ ما سواه ظاهرٌ بإظهاره ، كما أنَّ النُّور نيِّرٌ بذاته وما عداه مستنير به وأضيف النُّور إلى السَّمواتِ والأرضِ للدِّلالةِ على كمال شيوع البيان المُستعار له وغاية شمولهِ لكلِّ ما يليق به من الأمور التي لها مدخل في إرشاد النَّاسِ بوساطة بيان شمول المُستعار منه لجميع ما يقبله ويستحقُّه من الأجرام العُلويَّةِ والسُّفليَّةِ فإنَّهما قُطرانِ للعالم الجسمانيِّ الذي لا مظهر للنُّور الحسيِّ سواه أو على شمول البيان لأحوالهما وأحوال ما فيهما من الموجُودات ، إذ ما من موجودٍ إلا وقد بُيِّن من أحواله ما يستحقُّ البيانَ إمَّا تفصيلاً أو إجمالاً ، كيف لا ولا ريبَ في بيان كونهِ دليلاً على وجود الصَّانعِ وصفاته وشاهداً بصحَّة البعثِ أو على تعلُّق البيان بأهلهما كما قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : هادي أهلِ السَّمواتِ والأرضِ فهم بنوره يهتدون وبهداه من حَيرة الضَّلالةِ ينجُون ، هذا وأما حملُ التَّنوير على إخراجهِ تعالى للماهيَّاتِ من العدمِ إلى الوجود إذ هو الأصلُ في الإظهار كما أنَّ الإعدامَ هو الأصلُ في الإخفاء أو على تزيينِ السموات بالنيِّرينِ وسائر الكواكب وما يفيضُ عنها من الأنوار أو بالملائكة عليهم السَّلامُ وتزيين الأرض بالأنبياءِ عليهم السَّلامُ والعلماء والمؤمنين أو بالنبات والأشجارِ أو على تدبيره تعالى لأمورهما وأمور ما فيهما فمما لا يلائمُ المقامَ ولا يساعدهُ حسنُ النِّظامِ .
{ مَثَلُ نُورِهِ } أي نورهِ الفائض منه تعالى على الأشياء المُستنيرة به وهو القرآنُ المبينُ كما يعرب عنه ما قبله من وصف آياته بالإنزال والتَّبيينِ وقد صرّح بكونهِ نوراً أيضاً في قوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } وبه قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنهُما والحسنُ وزيدُ بنُ أسلم رحمهم الله تعالى ، وجعلُه عبارةً عن الحقِّ وإن شاع استعارتُه كاستعارة الظُّلمة للباطل يأباه مقامُ بيان شأن الآياتِ ووصفِها بما ذُكر من التَّبيين مع عدم سبق ذكر الحقِّ ولأنَّ المعتبرَ في مفهوم النُّور هو الظُّهورُ والإظهار كما هو شأنُ القُرآن الكريم .(5/49)
وأما الحقُّ فالمعتبر في مفهومِه من حيثُ هو حقٌّ هو الظُّهورُ لا الإظهارُ ، والمراد بالمثل الصِّفةُ العجيبةُ أي صفة نوره العجيبة { كَمِشْكَاةٍ } أي صفة كُوَّة غير نافذةٍ في الجدار في الإنارة والتَّنويرِ { فِيهَا مِصْبَاحٌ } سراجٌ ضخمٌ ثاقبٌ ، وقيل المشكاةُ الأُنبوبةُ في وسطِ القنديلِ والمصباحُ الفتيلةُ المشتعلةُ { المصباح فِى زُجَاجَةٍ } أي قنديلٍ من الزُّجاجِ الصَّافي الأزهرِ . وقُرىء بفتح الزَّاي وكسرِها في الموضعينِ { الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّىٌّ } متلألىءٌ وقَّادٌ شبيه بالدُّرِّ في صفائه وزُهرته . ودراري الكواكب عظامُها المشهورةُ . وقُرىء دِرِّىء بدالٍ مكسورةٍ وراءٍ مشدَّدةٍ وياءٍ ممدودةٍ بعدها همزةٌ ، على أنَّه فِعيلٌ من الدَّرءِ وهو الدَّفعُ أي مبالغٌ في دفعِ الظَّلامِ بضوئهِ أو في دفعِ بعضِ أجزاءِ ضيائهِ لبعضٍ عندَ البريقِ واللَّمعانِ . وقُرىء بضمِّ الدَّال ، والباقي على حالهِ ، وفي إعادةِ المصباحِ والزُّجاجةِ معروفينِ إثرَ سبقهما مُنكرين والإخبار عنهما بما بعدهما مع انتظامِ الكلامِ بأنْ يقالَ كمشكاةٍ فيها مصباحٌ في زجاجةٍ كأنَّها كوكبٌ دُرِّيٌّ من تفخيمِ شأنهما ورفعِ مكانهِما بالتَّفسيرِ إثرَ الإبهامِ والتَّفصيلِ بعدَ الإجمالِ وإثباتِ ما بعدهما لهما بطريقِ الإخبارِ المنبىءِ عن القصثد الأصليِّ دونَ الوصفِ المبنيِّ على الإشارة إلى الثُّبوت في الجملةِ ما لا يخفى . ومحلُّ الجملةِ الأُولى الرَّفعُ على أنَّها صفةٌ لمصباحٌ ، ومحلُّ الثَّانيةِ الجرُّ على أنَّها صفةٌ لزجاجةٍ واللاَّمُ مغنيةٌ عن الرَّابط كأنَّه قيل فيها مصباحٌ هو في زُجاجةٍ هي كأنَّها كوكبٌ دُرِّيٌّ .
{ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ } أي يبتدأُ إيقادُ المصباحِ من شجرةٍ { مباركة } أي كثيرةِ المنافعِ بأنْ رُويت ذبالتُه بزيتها ، وقيلَ إنَّما وُصفتْ بالبركةِ لأنَّها تنبتُ في الأرضِ التي باركَ اللَّهُ تعالى فيها للعالمينَ { زَيْتُونَةٍ } بدلٌ من شجرةٍ وفي إبهامِها ووصفِها بالبركةِ ثم الإبدالِ منها تفخيمٌ لشأنِها . وقُرىء تُوقد بالتَّاء على أنَّ الضَّميرَ القائمَ مقامَ الفاعل للزُّجاجة دون المصباحِ . وقُرىء توقَّدَ على صيغة الماضي من التَّفعُّلِ أي ابتداءُ ثقوب المصباح منها . وقُرىء تَوقَّدُ بحذف إحدى التَّاءين من تتوقدُ على إسناده إلى الزُّجاجةِ { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } تقعُ الشَّمسُ عليها حيناً دُونَ حينٍ بل بحيثُ تقعُ عليها طولَ النَّهار كالتي على قُلَّة أو صحراء واسعةٍ فتقع الشَّمسُ عليها حالتَيْ الطُّلوع والغروب وهذا قولُ ابن عباسٍ رضي الله عنهما ، وسعيد بن جُبير ، وقتادة . وقال الفرَّاءُ والزَّجاجُ : لا شرقيَّة وحدها ولا غربيَّة وحدها لكنَّها شرقيَّةٌ وغربيَّةٌ أي تصيبها الشَّمسُ عند طلوعِها وعند غروبِها فتكون شرقيَّةً وغربيَّةً تأخذ حظَّها من الأمرينِ فيكون زيتُها أضوأ . وقيل لا نابتة في شرقِ المعمُورة ولا في غربِها بل في وسطِها وهو الشَّامُ فإن زيوتَها أجودُ ما يكون وقيل لا في مَضحى تشرقُ الشَّمسُ عليها دائماً فتحرِقُها ولا في مَقْنأةٍ تغيب عنها دائماً فتتركها نيِّئةً . وفي الحديث : « لا خيرَ في شجرةٍ ولا في نباتٍ في مَقْنأةٍ ولا خير فيهما في مَضْحى » .(5/50)
{ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } أي هو في الصَّفاءِ والإنارةِ بحيثُ يكادُ يُضيءُ بنفسِه من غير مساسِ نارٍ أصلاً . وكلمة لو في أمثالِ هذه المواقع ليستْ لبيان انتفاء شيءٍ في الزَّمان الماضي لانتفاء غيره فيه فلا يُلاحظ لها جوابٌ قد حُذف ثقةً بدلالة ما قبلها عليه ملاحظةً قصديةً إلا عند القصدِ إلى بيان الإعرابِ على القواعد الصناعيةِ بل هي لبيان تحقُّقِ ما يفيده الكلامُ السَّابقُ من الحكم الموجبِ أو المنفيِّ على كل حالٍ مفروض من الأحوال المُقارنة له إجمالاً بإدخالِها على أبعدها منه إما لوجودِ المانع كما في قولِه تعالى : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } وإما لعدم الشَّرط كما في هذه الآية الكريمة ليظهر بثبوتِه أو انتفائِه معه ثبوتُه أو انتفاؤُه مع ما عداه من الأحوالِ بطريق الأولويَّةِ لما أنَّ الشيءَ متى تحقَّقَ مع ما ينافيه من وجود المانعِ أو عدم الشَّرطِ فلأنْ يتحققَ بدون ذلك أولى ولذلك لا يُذكر معه شيءٌ آخرُ من سائر الأحوالِ ويكتفى عنه بذكر الواوِ العاطفةِ للجُملة على نظيرتها المقابلةِ لها المتناولة لجميع الأحوالِ المغايرةِ لها عند تعدُّدِها وهذا معنى قولِهم أنها لاستقصاء الأحوالِ على سبيلِ الإجمال وهذا أمر مطَّرد في الخبر الموجب والمنفيِّ فإنَّك إذا قلتَ : فلانٌ جوادٌ يُعطي ولو كان فقيراً أو بخيلٌ لا يُعطي ولو كان غنيًّا تريد بيان تحقُّقِ الإعطاء في الأوَّلِ وعدم تحقُّقِه في الثَّانِي في جميع الأحوال المفروضة والتَّقديرُ يُعطي لو لم يكن فقيراً ، ولا يُعطي لو لم يكن غنيًّا فالجملة مع ما عُطفت هي عليه في حيِّزِ النَّصبِ على الحاليَّةِ من المستكِّنِ في الفعل الموجب أو المنفيِّ أي يُعطي أو لا يُعطي كائناً على جميعِ الأحوال . وتقديرُ الآية الكريمة يكادُ زيتُها يضيءُ لو مسَّته نارٌ ولو لم تمسسه نارٌ أي يضيءُ كائناً على كلِّ حال من وجود الشَّرطِ وعدمه وقد حُذفت الجملةُ الأولى حسبما هو المطَّردُ في الباب لدلالة الثَّانيةِ عليها دلالةً واضحةً { نُورٍ } خبرُ مبتدأ محذوفٍ . وقولُه تعالى : { على نُورٍ } متعلِّق بمحذوفٍ هو صفة له مؤكِّدةٌ لما أفاده التَّنكيرُ من الفخامة . والجملة فَذْلكةٌ للتَّمثيل وتصريحٌ بما حصلَ منه وتمهيدٌ لما يعقبه أي ذلك النُّور الذي عُبِّر به من القرآن ومُثِّلتْ صفتُه العجيبةُ الشَّأنِ بما فُصِّل من صفة المشكاة نورٌ عظيمٌ كائن على نور كذلك لا على أنَّه عبارة عن نورٍ واحدٍ معيَّن ، أو غير معيَّنٍ فوق نور آخرَ مثله ولا عن مجموع نورينِ اثنينِ فقط بل عن نورٍ مُتضاعفٍ من غير تحديد لتضاعفه بحدَ مُعيَّنٍ ، وتحديدُ مراتبِ تضاعُف ما مُثِّل به من نورِ المشكاةِ بما ذُكر لكونِه أقصى مراتب تضاعفِه عادةً فإنَّ المصباحَ إذا كان في مكانٍ متضايق كالمشكاةِ كان أضوأَ له وأجمعَ لنورِه بسبب انضمامِ الشُّعاعِ المنعكس منه إلى أصلِ الشُّعاعِ بخلاف المكان المتَّسعِ فإنَّ الضَّوءَ ينبثُّ فيه وينتشرُ والقنديل أعونُ شيءٍ على زيادة الإنارةِ وكذلك الزَّيت وصفاؤه ، وليس وراء هذه المراتبِ ممَّا يزيد نورَها إشراقاً ويمدُّه بإضاءةٍ مرتبةٌ أُخرى عادةً هذا وجعل النُّورِ عبارةً عن النُّورِ المشبه به مما لا يليق بشأن التَّنزيلِ الجليل { يَهْدِى الله لِنُورِهِ } أي يهدي هدايةً خاصَّةً موصِلةً إلى المطلوب حتماً لذلك النُّور المتضاعف العظيمِ الشَّأنِ .(5/51)
وإظهارُه في مقام الإضمارِ لزيادة تقريرِه وتأكيدِ فخامتِه الذَّاتيَّةِ بفخامتِه الإضافيةِ النَّاشئةِ من إضافتِه إلى ضميره عزَّ وجلَّ { مَن يَشَآء } هدايتَه من عباده بأنْ يوفِّقَهم لفهم ما فيه من دلائلِ حقيقتِه وكونه من عند الله تعالى من الإعجاز والإخبارِ عن الغيبِ وغير ذلك من مُوجباتِ الإيمانِ به وفيه إيذانٌ بأنَّ مناطَ هذه الهدايةِ ومِلاكَها ليس إلا مشيئتَه تعالى وأنَّ تظاهرَ الأسباب بدونها بمعزلٍ من الإفضاء إلى المطالب .
{ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ } في تضاعيف الهداية حسبَما يقتضِي حالُهم فإنَّ له دخلاً عظيماً في باب الإرشاد لأنَّه إبرازٌ للمعقول في هيئة المحسوس وتصويرٌ لأوابدِ المعاني بصورة المأنُوسِ ولذلك مُثّل نورُه المعبَّر به عن القُرآن المُبين بنور المشكاة . وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في مقام الإضمار للإيذانِ باختلاف حال ما أُسند إليه تعالى من الهدايةَ الخاصَّةَ وضربِ الأمثالِ الذي هو من قبيلِ الهداية العامَّةِ كما يُفصح عنه تعليقُ الأُولى بمن يشاءُ والثَّانيةِ بالنَّاس كافَّة { والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ } معقولاً كان أو محسوساً ظاهراً كان أو باطناً ، ومن قضيَّتِه أنْ تتعلقَ مشيئتُه بهداية مَن يليق بها ويستحقُّها مِن النَّاسِ دُونَ مَن عداهم لمخالفتِه الحكمةَ التي عليها مبْنى التَّكوينِ والتَّشريعِ وأنْ تكونَ هدايتُه العامَّة على فنونٍ مختلفةٍ وطرائقَ شتَّى حسبما تقتضيهِ أحوالُهم . والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ لما قبله ، وإظهارُ الاسمِ الجليل لتأكيد استقلالِ الجملة والإشعارِ بعلَّةِ الحكم وبما ذُكر من اختلافِ حال المحكومِ به ذاتاً وتعلُّقاً .(5/52)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)
{ فِى بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه } لمَّا ذُكر شأنُ القرآن الكريم في بيانه للشَّرائع والأحكام ومباديها وغاياتها المترتِّبةِ عليها من الثَّوابِ والعقاب وغير ذلك من أحوال الآخرة وأهوالِها وأُشير إلى كونِه في غاية ما يكونُ من التَّوضيحِ والإظهار حيثُ مُثِّل بما فُصِّل من نور المشكاة ، وأُشير إلى أنَّ ذلك النُّورَ مع كونِه في أقصى مراتبِ الظُّهور إنَّما يهتدي بهداه من تعلَّقتْ مشيئةُ الله تعالى بهدايته دُونَ مَن عداه عقَّب ذلك بذكر الفريقينِ وتصوير بعض أعمالهم المُعربةِ عن كيفيَّةِ حالهم في الاهتداءِ وعدمه . والمرادُ بالبيوتِ المساجدُ كلِّها حسبما رُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما وقيل : هي المساجدُ التي بناها نبيٌّ من أنبياء الله تعالى : الكعبةُ التي بناها إبراهيمُ وإسماعيلُ عليهما السَّلامُ وبيتُ المقدسِ الذي بناه داودُ وسليمانُ عليهما السَّلامُ ومسجدُ المدينةِ ومسجدُ قُباءَ اللذانِ بناهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم . وتنكيرُها للتَّفخيم والمرادُ بالإذنِ في رفعها الأمرُ ببنائها رفيعةً لا كسائر البيوتِ وقيل : هو الأمر برفعِ مقدارها بعبادة الله تعالى فيها فيكونُ عطفُ الذِّكرِ عليه من قبيل العطفِ التفسيريِّ . وأيًّا ما كان ففي التَّعبير عنه بالإذن تلويحٌ بأنَّ اللائقَ بحال المأمور أنْ يكونَ متوجِّهاً إلى المأمور به قبل ورود الأمر به ناوياً لتحقيقِه كأنَّه مستأذنٌ في ذلك فيقع الأمرُ به موقعَ الإذن فيه . والمرادُ بذكر اسمه تعالى ما يعمُّ جميعَ أذكارِه تعالى . وكلمةُ في متعلِّقةٌ بقوله تعالى : { يُسَبّحُ لَهُ } وقولُه تعالى : { فِيهَا } تكريرٌ لها للتَّأكيد والتَّذكيرِ لما بينهما من الفاصلةِ وللإيذانِ بأنَّ التَّقديمَ للاهتمام لا لقصر التَّسبيحِ على الوقوع في البيوت فقط . وأصلُ التَّسبيحِ التَّنزيهُ والتَّقديسُ ، يُستعملُ باللامِ وبدونِها أيضاً كما في قوله تعالى : { سَبِّحِ اسم رَبّكَ الاعلى } قالوا : أُريد به الصَّلواتُ المفروضةُ كما يُنبىء عنه تعيينُ الأوقاتِ بقوله تعالى : { بالغدو والأصال } أي بالغَدَواتِ والعَشَايا على أنَّ الغُدوَّ إمَّا جمعُ غداةٍ كقُنيَ في جمع قَنَاةٍ كما قيل . أو مصدرٌ أُطلق على الوقت حسبما يُشعر به اقترانُه بالآصالِ وهو جمع أَصيلٍ وهو العَشِيُّ وهو شامل لأوقاتِ ما عدا صلاةَ الفجرِ المؤدَّاةَ بالغداةِ ، ويجوزُ أنْ يرادَ به نفسُ التَّنزيه على أنَّه عبارة عمَّا يقعُ منه في أثناء الصَّلواتِ وأوقاتها لزيادةِ شرفِه وإنافتِه على سائر أفراده أو عمَّا يقعُ في جميع الأوقاتِ . وإفرادُ طَرَفي النَّهارِ بالذِّكرِ لقيامِهما مقامَ كلِّها لكونِهما العمدةَ فيها بكونِهما مشهورينَ وكونِهما أشهرَ ما يقعُ فيه المباشرةُ للأعمال والاشتغالُ بالأشغالِ . وقُرىء والإيصالِ وهو الدُّخولُ في الأصيلِ .(5/53)
رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
وقولُه تعالى : { رِجَالٌ } فاعلُ يسبِّح ، وتأخيرُه عن الظُّروفِ لما مرَّ مراراً من الاعتناءِ بالمقدَّم والتَّشويق إلى المؤخَّر ولأنَّ في وصفه نوع طُولٍ فيُخلُّ تقديمُه بحسن الانتظام . وقُرىء يُسبِّح على البناء للمفعول بإسناده إلى أحد الظُّروف . ورجالٌ مرفوعٌ بما ينبىءُ عنه حكايةُ الفعلِ من غير تسميةِ الفاعل على طريقة قوله
ليُبكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ ... كأنه قيل : مَنْ يُسبِّح له؟ فقيل : يُسبِّح له رجالٌ . وقُرىء تُسبِّح بتأنيثِ الفعلِ مبنيًّا للفاعلِ لأنَّ جمعَ التَّكسيرِ قد يُعامل معاملةَ المؤنَّثِ ومبنياً للمفعول على أنْ يُسندَ إلى أوقات العُدوِّ والآصالِ بزيادة الباءِ وتجعلُ الأوقاتُ مسبِّحةً مع كونِها فيها أو يُسند إلى ضميرِ التَّسبيحةِ أي تُسبَّح له التَّسبيحةُ على المجازِ المسوِّغ لإسناده إلى الوقتينِ كما خرَّجُوا قراءة أبي جَعفرٍ ليُجزَى قوماً أي ليُجزَى الجزاءُ قَوْماً بل هذا أولى من ذلك إذْ ليس هنا مفعولٌ صريحٌ { لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة } صفةٌ لرجالٌ مؤكِّدةٌ لما أفادَه التَّنكيرُ من الفخامةِ مفيدةٌ لكمال تبتُّلِهم إلى الله تعالى واتغراقهم فيما حُكي عنهم من التَّسبيحِ من غير صارفٍ يلويهم ولا عاطفٍ يثنيهم كائناً ما كان وتخصيصُ التِّجارةِ بالذِّكرِ لكونِها أقوى الصَّوارفِ عندهم وأشهرَها أي لا يشغلُهم نوعٌ من أنواعِ التِّجارةِ { وَلاَ بَيْعٌ } أي ولا فردٌ من أفراد البياعاتِ وإنْ كان في غايةِ الرِّبحِ . وإفرادُه بالذِّكرِ مع اندراجِه تحت التِّجارة للإيذانِ بإنافتِه على سائرِ أنواعِها لأنَّ ربحَهُ متيقَّنٌ ناجزٌ وربحُ ما عداه متوقَّعٌ في ثاني الحال عند البيع فلم يلزمْ من نفيِ إلهاءِ ما عداه نفيُ إلهائِه ولذلك كُرِّرت كلمةُ لا لتذكيرِ النَّفيِ وتأكيدِه وقد نُقل عن الواقديِّ أنَّ المرادَ بالتِّجارة هو الشِّراءُ لأنَّه أصلُها ومبدؤها . وقيل : هو الجَلَبُ لأنَّه الغالبُ فيها ومنه يُقال : تَجَر في كَذا أي جَلَبه .
{ عَن ذِكْرِ الله } بالتَّسبيحِ والتَّحميدِ { وإِقَامِ الصلاة } أي إقامتِها لمواقيتها من غير تأخيرٍ وقد أُسقطتْ التَّاءُ المُعوِّضةُ عن العينِ السَّاقطةِ بالإعلال وعُوِّض عنها الإضافةُ كما في قوله
وَأَخْلفُوك عِدَ الأَمْرِ الذي وَعدُوا ... أي عدةَ الأمرِ { وَإِيتَآءِ الزكواة } أي المال الذي فُرض إخراجُه للمستحقِّين ، وإيرادُه هاهنا وإنْ لم يكن ممَّا يُفعل في البيوت لكونِه قرينةً لا تُفارق إقامةَ الصَّلاةِ في عامَّة المواضع مع ما فيه من التَّنبيه على أنَّ محاسنَ أعمالِهم غيرُ منحصرةٍ فيما يقعُ في المساجدِ وكذلك قوله تعالى : { يَخَافُونَ } الخ ، فإنه صفةٌ ثانيةٌ لرجالٌ أو حالٌ من مفعول لا تُلهيهم ، وأيًّا ما كان فليس خوفُهم مقصُوراً على كونِهم في المساجد وقوله تعالى : { يَوْماً } مفعولُ ليخافون لا ظرفٌ له . وقولُه تعالى : { تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار } صفةٌ ليوماً أي تضطربُ وتتغيرُ في أنفسها من الهول والفزعِ وتشخصُ كما في قولِه تعالى :(5/54)
{ وَإِذْ زَاغَتِ الابصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } أو تتغيرُ أحوالُها وتتقلَّب فتتفقّه القلوبُ بعد أن كانتْ مطبوعاً عليها وتُبصر الأبصارُ بعد أنْ كانت عمياءَ أو تتقلَّب القلوبُ بين توقُّعِ النَّجاةِ وخوفِ الهلاكِ والإبصار من أيِّ ناحيةٍ يُؤخذ بهم ويُؤتى كتابُهم .
{ لِيَجْزِيَهُمُ الله } متعلِّق بمحذوفٍ يدلُّ عليه ما حُكي من أعمالهم المرضيَّةِ أي يفعلُون ما يفعلُون من المُداومة على التَّسبيح والذِّكرِ وإيتاءِ الزَّكاةِ والخوفِ من غير صارفٍ لهم عن ذلك ليجزيهم الله تعالى { أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } أي أحسنَ جزاءِ أعمالِهم حسبما وعد لهم بمقابلةِ حسنةٍ واحدةٍ عشر أمثالها إلى سبعمائةِ ضعفٍ { وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } أي يتفضَّلُ عليهم بأشياءَ لم تُوعد لهم بخصوصيَّاتِها أو بمقاديرِها ولم تخطُر ببالِهم كيفيَّاتُها ولا كميَّاتُها بل إنَّما وُعدت بطريقِ الإجمالِ في مثل قوله تعالى : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } وقوله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حكايةً عنه عزَّ وجلَّ : « أعددتُ لعبادي الصَّالحينَ ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطَرَ على قلبِ بشرٍ » وغيرِ ذلك من المواعيدِ الكريمةِ التي مِن جُملتِها قولُه تعالى : { والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } فإنَّه تذييلٌ مقرِّرٌ للزيادة ووعدٌ كريم بأنَّه تعالى يُعطيهم غيرَ أجزيةِ أعمالِهم من الخيرات ما لا يفي من الحساب وأما عدمُ سبقِ الوعدَ بالزِّيادة ولو إجمالاً وعدمُ خُطورِها ببالِهم ولو بوجهٍ ما فيأباهُ نظمُها في سلك الغايةِ . والموصولُ عبارةٌ عمَّن ذُكرتْ صفاتُهم الجميلةُ كأنَّه قيل : والله يرزقُهم بغير حسابٍ ، ووضعه موضعَ ضميرهم للتَّنبيه بما في حيِّزِ الصِّلةِ على أنَّ مناطَ الرِّزقِ المذكُور محضُ مشيئتِه تعالى لا أعمالُهم المحكيَّةُ كما أنَّها المناطُ لما سبقَ من الهداية لنوره تعالى لا لتظاهر الأسباب وللإيذان بأنَّهم ممَّن شاءَ الله تعالى أنْ يرزقَهم كما أنَّهم ممَّن شاءَ الله تعالى أنْ يهديَهم لنُوره حسبَما يُعرب عنه ما فُصِّل من أعمالهم الحسنةِ فإنَّ جميعَ ما ذُكر من الذِّكرِ والتَّسبيحِ وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ وخوفِ اليوم الآخرِ وأهوالِه ورجاءِ الثَّوابِ مقتبسٌ من القُرآن الكريم الذي هو المعنيُّ بالنُّور وبه يتمُّ بيانُ أحوالِ مَن اهتدى بهُداه على أوضحِ وجهٍ وأجلاه هذا ، وقد قيل : قوله تعالى : { فِى بُيُوتٍ } الخ ، من تتمة التَّمثيلِ وكلمةُ في متعلَّقةٌ بمحذوفٍ هي صفة لمشكاةٍ أي كائنةٍ في بيوتٍ ، وقيل : لمصباح ، وقيل : لزجاجة ، وقيل : متعلِّقةٌ بيُوقَد والكلُّ مما لا يليقُ بشأن التَّنزيلِ الجليلِ كيف لا وأنَّ ما بعد قولِه تعالى : { وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } على ما هو الحقُّ أو ما بعد قوله تعالى : { نُّورٌ على نُورٍ } على ما قيل إلى قولِه تعالى : { بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } كلامٌ متعلِّقٌ بالمُمَثَّل قطعاً فتوسيطُه بين أجزاءِ التَّمثيل مع كونِه من قبيل الفصل بين الشَّجر ولحائِه بالأجنبيِّ يؤدِّي إلى كون ذكر حال المنتفعين بالتَّمثيلِ المهديِّينَ بنور القُرآن الكريم بطريق الاستتباعِ والاستطرادِ مع كون بيانِ أضدادِهم مقصوداً بالذَّاتِ ، ومثلُ هذا ممَّا لا عهدَ به في كلام النَّاسِ فضلاً أنْ يُحملَ عليه الكلامُ المعجِزُ .(5/55)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
{ والذين كَفَرُواْ } عطف على ما ينساق إليه ما قبله كأنَّه قيل : الذين أمنُوا أعمالُهم حالاً ومآلاً كما وُصفَ والذين كفرُوا { أعمالهم } أي أعمالُهم التي هي من أبواب البِرِّ كصلةِ الأرحامِ وفكِّ العُناةِ وسقاية الحاجِّ وعمارة البيت وإغاثة الملهُوفين وقِرى الأضيافِ ونحوِ ذلك ممَّا لو قارنَه الإيمانُ لاستتبعَ الثوابَ كما في قوله تعالى : { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ } الآيةَ { كَسَرَابٍ } وهو ما يُرى في الفَلَوات من لمَعَانِ الشَّمسِ عليها وقتَ الظَّهيرةِ فيُظنُّ أنه ماءٌ يسرُب أو يجري { بِقِيعَةٍ } متعلِّق بمحذوف هو صفةٌ لسرابٍ أي كائن في قاعٍ وهي الأرضُ المنبسِطةُ المستويةُ ، وقيل : هي جمعُ قاعٍ كجيرة جمعُ جارٍ . وقُرىء بقيعاتٍ بتاء ممدودةٍ كديماتٍ إمَّا على أنَّها جمعُ قيعةٍ أو على أنَّ الأصلَ قيعة قد أُشبعت فتحةُ العينِ فتولَّد منها ألِفٌ { يَحْسَبُهُ الظمان مَاء } صفةٌ أخرى لسرابٍ وتخصيص الحسبان بالظَّمآن مع شموله لكلِّ مَن يراه كائناً من كان من العطشانِ والريَّانِ لتكميل التَّشبيهِ بتحقيق شركة طرفيه في وجه الشَّبهِ الذي هو المطلعُ المطمع والمقطعُ المؤنِسُ { حتى إِذَا جَاء } أي إذا جاءَ العطشانُ ما حَسِبَه ماءً ، وقيل : موضعَه { لَمْ يَجِدْهُ } أي ما حسبَه ماءً وعلَّق به رجاءَهُ { شَيْئاً } أصلاً لا محقَّقاً ، ولا متوهَّماً كما كان يراهُ من قبلُ فضلاً عن وجدانه ماء وبه تمَّ بيانُ أحوالِ الكفرِ بطريق التَّمثيل وقوله تعالى : { وَوَجَدَ الله عِندَهُ فوفاه حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب } بيانٌ لبقيَّة أحوالِهم العارضة لهم بعد ذلك بطريقِ التَّكملة لئلاَّ يتوَّهم أنَّ قُصارى أمرِهم هو الخيبةُ والقُنوط كما هو شأنُ الظَّمآنِ ويظهر أنَّه يعتريهم بعد ذلك من سوءِ الحالِ ما لا قدرَ عنده للخيبةِ أصلاً فليستِ الجملةُ معطوفةً على لم يجدْهُ شيئاً بل على ما يُفهم منه بطريقِ التَّمثيل من عدمِ وجدان الكَفَرةِ من أعمالِهم المذكُورةِ عيناً ولا أثراً كما في قوله تعالى : { وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } كيف لا وأنَّ الحكم بأنَّ أعمالَ الكَفَرة كسرابٍ يحسبه الظمآنُ ماء حتَّى إذا جاءه لم يجدُه شيئاً حكمٌ بأنَّها بحيث يحسبونَها في الدُّنيا نافعةً لهم في الآخرة حتَّى إذا جاءوها لم يجدُوها شيئاً كأنَّه قيل : حتَّى إذا جاء الكَفَرةُ يومَ القيامةِ أعمالَهم التي كانُوا في الدُّنيا يحسبونها نافعةً لهم في الآخرةِ لم يجدُوها شيئاً ووجدُوا الله أي حكمَهُ وقضاءَهُ عند المجيءِ وقيل : عند العملِ فوفَّاهم أي أعطاهُم وافياً كاملاً حسابَهم أي حسابَ أعمالِهم المذكورةِ وجزاءها فإنَّ اعتقادَهم لنفعها بغير إيمانٍ وعملهم بموجبه كفرٌ على كفرٍ موجب للعقاب قطعاً وإفرادُ الضَّميرينِ الرَّاجعينِ إلى الذين كفروا إمَّا لإرادة الجنس كالظَّمآنِ الواقع في التَّمثيلِ وإمَّا للحملِ على كلِّ واحدٍ منهم وكذا إفرادُ ما يرجع إلى أعمالِهم ، هذا وقد قيل : نزلتْ في عُتبةَ بنِ أبي ربيعةَ بنِ أُميَّة كان قد تعبَّد في الجاهليَّةِ ولبس المسوحَ والتمسَ الدِّينَ فلمَّا جاء الإسلامُ كفرَ .(5/56)
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
{ أَوْ كظلمات } عطفٌ على كسرابٍ وكلمةُ أو للتَّنويع إثرَ ما مُثِّلت أعمالُهم التي كانُوا يعتمدونَ عليها أقوى اعتمادٍ ويفتخرون بها في كلِّ وادٍ ونادٍ بما ذُكر من حال السَّرابِ مع زيادةِ حسابٍ وعقابٍ مُثِّلتْ أعمالُهم القبيحةُ التي ليس فيها شائبةٌ خيريَّةٌ يغترُّ بها المغترُّون بظلماتٍ كائنة { فِى بَحْرٍ لُّجّىّ } أي عميقٍ كثيرِ الماءِ منسوبٍ إلى اللُّجِّ وهو معظمُ ماءِ البحرِ وقيل : إلى اللُّجَّةِ وهي أيضاً معظمُه { يغشاه } صفة أُخرى للبحر أي يسترُه ويُغطِّيه بالكُلِّية { مَوْجٍ } وقولُه تعالى : { مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ } جملةٌ مِن مبتدأ وخبرٍ محلُّها الرَّفعُ على أنَّها صفةٌ لموجٌ أو الصِّفةُ هي الجارُّ والمجرورُ وموجٌ الثَّانِي فاعلٌ له لاعتمادِه على الموصوفِ والكلامُ فيهِ كما مرَّ في قولِه تعالى : { نُّورٌ على نُورٍ } أي يغشاهُ أمواجٌ متراكمةٌ متراكبةٌ بعضُها على بعضٍ ، وقوله تعالى : { مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ } صفةٌ لموجٌ الثَّاني على أحد الوجهينِ المذكُورينِ أي من فوق ذلك الموجِ سحابٌ ظلمانيٌّ ستَر أضواءَ النُّجومِ وفيه إيماءٌ إلى غايةِ تراكم الأمواجِ وتضاعفُها حتَّى كأنَّها بلغت السَّحابَ { ظلمات } خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أي هي ظلماتٌ { بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } أي متكاثفة متراكمة وهذا بيان لكمال شدَّةِ الظُّلماتِ كما أنَّ قوله تعالى : { نُّورٌ على نُورٍ } بيانٌ لغاية قُوَّةِ النُّورِ خلا أنَّ ذلك متعلِّق بالمشبَّهِ وهذا بالمشبَّه به كما يُعرِبُ عنه ما بعده . وقُرىء بالجرِّ على الإبدالِ من الأُولى ، وقُرىء بإضافةِ السَّحابِ إليها { إِذَا أَخْرَجَ } أي مَن ابتُليَ بها . وإضمارُه من غير ذكرِه لدلالة المَعْنى عليه دلالةً واضحة { يَدَهُ } وجعلها بمرأى منه قريبةً من عينه لينظرَ إليها { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } وهي أقربُ شيءٍ منه فضلاً عن أنْ يراها { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً } الخ ، اعتراضٌ تذييليٌّ جيء به لتقرير ما أفاده التَّمثيلُ من كون أعمالِ الكَفَرةِ كما فُصِّل ، وتحقيق أنَّ ذلك لعدمِ هدايتِه تعالى إيَّاهم لنورِه ، وإيرادُ الموصولِ للإشارة بما في حيِّزِ الصِّلةِ إلى علَّة الحُكم وأنَّهم ممَّن لم يشأ الله تعالى هدايتَهم أي ومَن لم يشأ الله أنْ يهديَه لنوره الذي هُو القرآنُ هدايةً خاصَّةً مستتبعة للاهتداء حتماً ولم يُوفقه للإيمان به { فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } أي فما له هدايةٌ ما من أحدٍ أصلاً .(5/57)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)
وقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ } الخ ، استئنافٌ خُوطب به النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ للإيذانِ بأنَّه تعالى قد أفاضَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أعلى مراتب النُّور وأجلاها وبيَّن له من أسرار المُلكِ والمَلَكُوت أدقَّها وأخفَاها . والهمزةُ للتَّقرير أي قد علمتَ علماً يقينيّاً شبيهاً بالمشاهدة في القوَّة والرَّصانةِ بالوحي الصَّريحِ والاستدلالِ الصَّحيحِ { أَنَّ الله يُسَبّحُ لَهُ } أي ينزهه تعالى على الدَّوام في ذاته وصفاتِه وأفعاله عن كلِّ ما لا يليقُ بشأنه الجليلِ من نقص أو خللٍ { مَن فِى السموات والأرض } أي ما فيهما إما بطريق الاستقرارِ فيهما من العُقلاء وغيرِهم كائناً ما كان أو بطريق الجُزئية منهما تنزيهاً معنويّاً تفهمه العقولُ السَّليمةُ فإنَّ كلَّ موجود من الموجوداتِ المُمكنة مُركبّاً كان أو بسيطاً فهو من حيثُ ماهيتُه ووجودُه وأحوالُه يدلُّ على وجود صانعٍ واجبِ الوجود متَّصفٌ بصفاتِ الكمال مقدَّسٌ عن كلِّ ما لا يليقُ بشأنٍ من شؤونِه الجليلةِ وقد نبَّه على كمالِ قُوَّةِ تلك الدِّلالةِ وغاية وضوحِها حيثُ عبَّر عنها بما يخصُّ العقلأَ من التَّسبيح الذي هو أقوى مراتب التَّنزيه وأظهرها تنزيلاً للسان الحالِ منزلةَ لسانِ المقالِ وأكَّدَ ذلك بإيثار كلمةِ مَن على مَا كأنَّ كلَّ شيءٍ ممَّا عزَّ وهان وكلَّ فردٍ من أفراد الأعراضِ والأعيان عاقلٌ ناطقٌ ومخبرٌ صادقٌ بعلُّوِ شأنِه تعالى وعزَّةِ سُلطانه ، وتخصيصُ التَّنزيه بالذِّكر مع دلالةِ ما فيهما على اتِّصافِه تعالى بنعوتِ الكمالِ أيضاً لما أنَّ مساقَ الكلامِ لتقبيح حالِ الكَفَرة في إخلالهم بالتَّنزيه بجعلهم الجماداتِ شركاءَ له في الأُلوهيَّةِ ونسبتهم إيَّاه إلى اتخاذ الولد تعالى عن ذلك عُلُّواً كبيراً .
وحملُ التَّسبيح على ما يليقُ بكلِّ نوعٍ من أنواع المخلوقات بأنْ يُرادَ به معنى مجازيٌّ شاملٌ لتسبيحِ العُقلاءِ وغيرهم حسبما هو المتبادَرُ من قوله تعالى : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } يردُّه أنَّ بعضاً من العُقلاءِ وهم الكفرةُ من الثَّقلينِ لا يسبِّحونَهُ بذلك المعنى قطعاً وإنَّما تسبيحُهم ما ذُكر من الدِّلالةِ التي يُشاركهم فيها غيرُ العُقلاءِ أيضاً وفيه مزيدُ تخطئةٍ لهم وتعبيرٌ ببيان أنَّهم يسبِّحونه تعالى باعتبارِ أخسِّ جهاتهم التي هي الجماديَّةُ والجسميَّةُ والحيوانيَّةُ ولا يسبِّحونه باعتبارِ أشرفها التي هي الإنسانيَّةُ { والطير } بالرَّفعِ عطفاً على مَن وتخصيصُها بالذِّكرِ مع اندراجها في جُملة ما في الأرضِ لعدم استمرارِ قرارها فيها واستقلالها بصنعٍ بارعٍ وإنشاءٍ رائعٍ قُصد بيانُ تسبيحها من تلك الجهةِ لوضوح إنبائِها عن كمال قُدرةِ صانعِها ولطفِ تدبير مُبدعِها حسبما يُعرب عنه التَّقييدُ بقوله تعالى : { صافات } أي تُسبِّحه تعالى حال كونِها صافاتٍ أجنحتَها فإنَّ إعطاءه تعالى للأجرام الثَّقيلةِ ما تتمكنُ به من الوقوف في الجوِّ والحركةِ كيف تشاءُ من الأجنحةِ والأذنابِ الخفيفةِ وإرشادها إلى كيفيَّةِ استعمالها بالقبضِ والبسط حجَّةٌ نيِّرةٌ واضحة المكنونِ وآيةٌ بيِّنة لقومٍ يعقلون دالَّةٌ على كمال قُدرة الصَّانعِ المجيد وغايةِ حكمةِ المبدىءِ المُعيدِ ، وقولُه تعالى : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } بيانٌ لكمالِ عراقةِ كلِّ واحدٍ ممَّا ذُكر في التَّنزيه ورسوخ قدمِه فيه بتمثيل حالِه بحالِ مَن يَعلمُ ما يصدرُ عنه من الأفاعيلِ فيفعلها عن قصدٍ ونيَّةٍ لا عن اتفاقٍ بلا رويَّةٍ وقد أدمج في تضاعيفِه الإشارة إلى أنَّ لكلِّ واحدٍ من الأشياء المذكورةِ مع ما ذُكر من التَّنزيه حاجةً ذاتيَّةً إليه تعالى واستفاضة منه لما يهمه بلسان استعدادِه وتحقيقه أنَّ كلَّ واحدٍ من الموجُوداتِ الممكنةِ في حدِّ ذاته بمعزلٍ من استحقاق الوجود لكنَّه مستعدٌّ لأنْ يفيضَ عليه منه تعالى ما يليقُ بشأنه من الوجودِ وما يتبعه من الكمالاتِ ابتداءً وبقاء فهو مستفيضٌ منه تعالى على الاستمرار فيفيض عليه في كلِّ آنٍ من فيوض الفُنونِ المتعلِّقةِ بذاته وصفاته ما لا يحيطُ به نطاقُ البيانِ بحيث لو انقطعَ ما بينه وبين العناية الربَّانيَّةِ من العلاقة لانعدمَ بالمرَّة وقد عبَّر عن تلك الاستفاضةِ المعنويَّةِ بالصَّلاةِ التي هي الدُّعاءُ والابتهالُ لتكميل التَّمثيل وإفادة المزايا المذكُورة فيما مرَّ على التَّفصيلِ وتقديمها على التَّسبيحِ في الذِّكرِ لتقدمها عليه في الرُّتبةِ هذا ويجوز أنْ يكونَ العلمُ على حقيقتِه ويراد به مطلقُ الإدراكِ وبما ناب عنه التَّنوينُ في كلِّ أنواع الطَّيرِ وأفرادها وبالصَّلاة والتَّسبيح ما ألهمه الله تعالى كلَّ واحدٍ منها من الدُّعاءِ والتَّسبيحِ المخصوصينِ به لكن لا على أنْ يكونَ الطَّيرُ معطُوفاً على كلمة مَن مرفوعاً برافعِها فإنَّه يؤدِّي إلى أنْ يُرادَ بالتَّسبيح معنى مجازيٌّ شاملٌ للتَّسبيحِ المقاليِّ والحاليِّ من العُقلاءِ وغيرهم وقد عرفتَ ما فيه ، بل بفعل مُضمرٍ أريد به التَّسبيحُ المخصوص بالطَّيرِ معطوف على المذكور كما مرَّ في قولِه تعالى : { وَكَثِيرٌ مّنَ الناس } أي وتسبيحُ الطَّيرِ تسبيحاً خاصًّا بها حالَ كونِها صافاتٍ أجنحتَها وقوله تعالى : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } أي دعاءَهُ وتسبيحَه اللَّذينِ ألهمهما الله عزَّ وجلَّ إيَّاه لبيان كمال رُسوخه فيهما وأنَّ صدورَهما عنه ليس بطريقِ الإنفاق بلا رويَّةٍ بل عن علمٍ وإيقانٍ من غير إخلالٍ بشيءٍ منهما حسبما ألهمَه الله تعالى فإنَّ إلهامَه تعالى لكلِّ نوعٍ من أنواعِ المخلوقاتِ علوماً دقيقةً لا يكادُ يهتدِي إليه جهابذةُ العُقلاءِ ممَّا لا سبيلَ إلى إنكاره أصلاً ، كيف لا وإنَّ القُنفذَ مع كونه أبعدَ الأشياءِ من الإدراك قالُوا : إنَّه يحسُّ بالشَّمالِ والجَنوبِ قبل هبوبِها فيغير المدخلَ إلى جُحرِه حتَّى رُوي أنَّه كان بقُسطنطينيَّةَ قبل الفتحِ الإسلاميِّ رجلٌ قد أثرى بسببِ أنَّه كان يُنذر النَّاسَ بالرِّياحِ قبل هبوبِها وينتفعون بإنذارِه بتدارُكِ أمورِ سفائنِهم وغيرها وكانَ السَّببُ في ذلك أنَّه كان يقتنِي في دارِه قُنفذاً يستدلُّ بأحوالِه على ما ذُكر ، وتخصيص تسبيحِ الطَّيرِ بهذا المَعْنى بالذِّكرِ لما أنَّ أصواتَها أظهرُ وجُوداً وأقربُ حملاً على التَّسبيحِ وقولُه تعالى : { والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } أي ما يفعلونَهُ اعتراضٌ مقررٌ لمضمون ما قبله ، وما على الوجه الأوَّل عبارةٌ عمَّا ذُكر من الدِّلالة الشَّاملةِ لجميع الموجُوداتِ من العُقلاءِ وغيرِهم والتَّعبيرُ عنها بالفعل مسنداً إلى ضميرِ العُقلاء لما مرَّ غيرَ مرَّةٍ وعلى الثَّاني إمَّا عبارة عنها وعن التَّسبيح الخاصِّ بالطَّير معاً أو عن تسبيح الطَّيرِ فقط فالفعلُ على حقيقته وإسناده إلى ضميرِ العُقلاء لما مرَّ والاعتراضُ حينئذٍ مقررٌ لتسبيح الطَّيرِ فقط وعلى الأوَّلينِ لتسبيح الكلِّ .(5/58)
هذا وقد قيل إنَّ الضَّمير في قوله تعالى : { قَدْ عَلِمَ } لله عزَّ وجلَّ وفي صلاته وتسبيحه لكلٌّ أي قد علَم الله تعالى صلاةَ كلِّ واحدٍ ممَّا في السَّمواتِ والأرضِ وتسبيحه فالاعتراضُ حينئذٍ مقررٌ لمضمونه على الوجهينِ لكن لا على أنْ تكونَ ما عبارةً عمَّا تعلَّق به علمُه تعالى من صلاتِه وتسبيحِه بل عن جميع أحوالِه العارضةِ له وأفعاله الصَّادرةِ عنه وهما داخلتانِ فيها دخولاً أوليًّا .(5/59)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)
{ وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض } لا لغيرِه لأنَّه الخالقُ لهما ولما فيهما من الذَّواتِ والصِّفاتِ وهو المتصرفُ في جميعِها إيجاداً وإعداماً بدءاً وإعادةً . وقولُه تعالى : { وإلى الله } أي إليهِ تعالى خاصَّة لا إلى غيرِه { المصير } أي رجوعُ الكلِّ بالفناء والبعثِ بيانٌ لاختصاصِ المُلك به تعالى في المعادِ إثرَ بيانِ اختصاصِه به تعالى في المبدإِ . وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لتربية المهابةِ والإشعارِ بعلَّةِ الحُكم .
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِى سَحَاباً } الإزجاءُ سوقُ الشَّيءِ برفقٍ وسهولة غلبَ في سوقِ شيءٍ يَسيرٍ أو غيرِ معتدَ به ، ومنه البضاعةُ المُزجاة ففيه إيماءٌ إلى أنَّ السَّحابَ بالنسبة إلى قُدرته تعالى ممَّا لا يعتدُّ به { ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ } أي بين أجزائِه بضمِّ بعضِها إلى بعضٍ . وقُرىء يُوَلِّف بغير همزةٍ { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً } أي مُتراكماً بعضُه فوقَ بعضٍ { فَتَرَى الودق } أي المطرَ إثرَ تراكمِه وتكاثفِه ، وقوله تعالى : { يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } أي من فتوقِه . حالٌ من الوَدْق لأنَّ الرُّؤيةَ بصريَّةٌ وفي تعقيب الجعلِ المذكورِ برؤيته خارجاً لا بخروجه من المبالغةِ في سرعةِ الخُروج على طريقة قوله تعالى : { أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق } ومن الاعتناءِ بتقرير الرُّؤيةِ ما لا يخفى . والخِلالُ جمع خَلَلٍ كجِبَالٍ وجَبَلٍ ، وقيل : مفردٌ كحِجابٍ وحِجاز ويؤيِّده أنَّه قُرىء من خَلَلِه { وَيُنَزّلُ مِنَ السماء } من الغمامِ فإن كلَّ ما علاك سماءٌ { مِن جِبَالٍ } أي من قطعٍ عظامٍ تُشبه الجبالَ في العِظَمِ كائنة { فِيهَا } وقوله تعالى : { مِن بَرَدٍ } مفعولُ ينزل على أنَّ مِن تبعيضيَّةٌ والأُوليانِ لابتداء الغايةِ على أنَّ الثَّانية بدلُ اشتمالٍ من الأُولى بإعادة الجارِّ أي ينزل مبتدئاً من السَّماءِ من جبال فيها بعضُ بَرَدٍ ، وقيل : المفعولُ محذوفٌ ومِن بَرَدٍ بيانٌ للجبال أي ينزل مُبتدئاً من السَّماءِ من جبالٍ فيها من جنس البَرَدِ برداً والأولُ أظهرُ لخُلوهِ عن ارتكاب الحذفِ والتَّصريح ببعضيَّةِ المنزل ، وقيل : المفعولُ مِن جبالٍ على أن مِن تبعيضيَّةٌ ومن بَرَدٍ بيانٌ للجبالِ أي ينزل من السَّماءِ بعضَ جبالٍ كائنة فيها من بَرَدٍ أي مشبهة بالجبالِ في الكثرةِ ، وأيًّا ما كان فتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعول لما مرَّ غيرَ مرَّةٍ من الاعتناء بالمقدَّم والتَّشويق إلى المؤخَّر ، وقيل : المرادُ بالسَّماءِ المظلة وفيها جبال من بَرَد كما أنَّ في الأرض جبالاً من حَجَرٍ وليس في العقل ما ينفيهِ من قاطعٍ والمشهورُ أنَّ الأبخرةَ إذا تصاعدت ولم تحللها حرارةٌ فبلغت الطَّبقةَ الباردةَ من الهواءِ وقوي البردُ اجتمع هناك وصار سَحَاباً وإنْ لم يشتدَّ البردُ تقاطر مطراً وإنِ اشتدَّ فإنْ وصلَ إلى الأجزاء البُخاريَّةِ قبل اجتماعها نزل ثَلْجاً والإنزال بَرَداً وقد يبردُ الهواءُ برداً مُفرطاً فينقبض وينعقدُ سحاباً وينزل منه المطر أو الثلجُ وكلُّ ذلك مستندٌ إلى إرادةِ الله تعالى ومشيئتِه المبنيَّةِ على الحِكَمِ والمَصَالحِ { فَيُصِيبُ بِهِ } أي بما ينزله من البَرَد { مَن يَشَآء } أنْ يصيبَه به فينالُه من ضرر في نفسه وماله { وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء } أنْ يصرفَه عنه فينجُو من غائلتِه { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ } أي ضوءُ برقِ السَّحابِ الموصوفِ بما مرَّ من الإزجاءِ والتَّأليفِ وغيرِهما .(5/60)
وإضافةُ البرقِ إليه قبل الإخبار بوجودِه فيه للإيذانِ بظهور أمرِه واستغنائِه عن التَّصريح به . وقُرىء بالمدِّ بمعنى الرِّفعةِ والعُلو وبإدغامِ الدَّالِ في السِّينِ . وبُرَقه بفتحِ الرَّاءِ على أنَّه جمع بَرْقة وهي مقدارٌ من البرق كالغُرفةِ وبضمِّها للإتباع لضمَّة الباءِ { يَذْهَبُ بالأبصار } أي يخطفُها من فرطِ الإضاءةِ وسرعةِ ورودِها ، وفي إطلاق الأبصارِ مزيدُ تهويلٍ لأمرِه وبيانٌ لشدَّةِ تأثيرِه فيها كأنَّه يكادُ يذهبُ بها ولو عندَ الإغماضِ وهذا مِن أقوى الدَّلائلِ على كمالِ القُدرةِ من حيثُ أنَّه توليدٌ للضدِّ من الضدِّ . وقُرىء يُذهب من الإذهابِ على زيادةِ الباءِ .(5/61)
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
{ يُقَلّبُ الله اليل والنهار } بالمُعاقبة بينهما أو بنقصِ أحدِهما وزيادةِ الآخرِ أو بتغير أحوالهما بالحرِّ والبردِ وغيرهما ممَّا يقعُ فيهما من الأمور التي من جُملتِها ما ذُكر من إزجاءِ السَّحابِ وما ترتَّب عليهِ .
{ إِنَّ فِى ذَلِكَ } إشارةٌ إلى ما فُصِّل آنِفاً ، وما فيه من معنى البُعد مع قُربِ المشارِ إليه للإيذانِ بعلُّوِ رُتبتِه وبُعدِ منزلتِه { لَعِبْرَةً } أي لدلالةً واضحةً على وجود الصَّانعِ القديمِ ووحدتِه وكمال قُدرتِه وإحاطة علمِه بجميعِ الأشياءِ ونفاذِ مشيئتِه وتنزهه عمَّا لا يليقُ بشأنه العليِّ { لأُوْلِى الأبصار } لكلِّ مَن له بصرٌ .
{ والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ } أي كلَّ حيوانٍ يدبُّ على الأرض . وقُرىء خالقُ كلِّ دابةٍ بالإضافة { مِن مَّاء } هو جزءُ مادتِه أو ماءٍ مخصوصٍ هو النُّطفةُ فيكون تنزيلاً للغالب منزلةَ الكلِّ لأنَّ من الحيوانات ما يتولَّد لا عن نُطفةٍ وقيل : من ماءٍ متعلِّق بدابةٍ وليست صلةً لخَلَقَ { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على بَطْنِهِ } كالحيَّةِ وتسمية حركتِها مشياً مع كونِها زَحْفاً بطريقِ الاستعارةِ أو المُشاكلةِ { وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى على رِجْلَيْنِ } كالإنسِ والطَّيرِ { وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على أَرْبَعٍ } كالنَّعمِ والوحش وعدمُ التَّعرضِ لما يمشي على أكثرَ من أربعٍ كالعناكبِ ونحوِها من الحشرات لعدمِ الاعتدادِ بها . وتذكيرُ الضَّميرِ في منهم لتغليبِ العُقلاءِ ، والتَّعبير عن الأصنافِ بكلمة مَن ليوافقَ التَّفصيلُ الإجمالَ ، والتَّرتيبُ لتقديم ما هُو أعرفُ في القُدرةِ { يَخْلُقُ الله مَا يَشَاء } ممَّا ذُكر وممَّا لم يُذكرْ بسيطاً كان أو مركّباً على ما يشاء من الصُّورَ والأعضاء والهيئات والحَرَكات والطَّبائعِ والقُوَى والأفاعيلِ مع اتِّحادِ العُنصرِ . وإظهارُ الاسم الجليل في موضعِ الإضمارِ لتفخيمِ شأنِ الخلقِ المذكورِ والإيذانِ بأنَّه من أحكامِ الأُلوهيَّةِ { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } فيفعل ما يشاءُ كما يشاءُ . وإظهارُ الجلالةِ لما ذُكر مع تأكيد استقلال الاستئنافِ التعليليِّ .(5/62)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
{ لَّقَدْ أَنزَلْنَا ءايات مبينات } أي لكلِّ ما يليقُ بيانُه من الأحكام الدِّينيةِ والأسرار التَّكوينيَّةِ { والله يَهْدِى مَن يَشَاء } أنْ يهديَه بتوفيقِه للنَّظرِ الصَّحيحِ فيها وإرشادِه إلى التَّأملِ في مطاويها { إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } موصل إلى حقيقة الحقِّ والفوز بالجنَّةِ .
{ وَيِقُولُونَ امَنَّا بالله وبالرسول } شروعٌ في بيان أحوالِ بعضِ مَن لم يشأ الله هدايتَه إلى الصِّراطِ المستقيمِ . قال الحسنُ : نزلتْ في المُنافقين الذين كانُوا يُظهرون الإيمانَ ويُسرُّون الكفرَ ، وقيل : نزلتْ في بشرٍ المُنافقِ خاصمَ يهوديّاً فدعاهُ إلى كعبِ بنِ الأشرفِ واليهوديُّ يدعُوه إلى النبي عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ . وقيل : في المغيرةِ بنِ وائلٍ خاصمَ عليًّا رضي الله عنه في أرضٍ وماءٍ فأبَى أنْ يُحاكِم إلى الرَّسُولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ، وأيًّا ما كان فصيغةُ الجمعِ للإيذانِ بأنَّ للقائلِ طائفةً يُساعدونَهُ ويُشايعونَهُ في تلك المقالةِ كما يُقال : بنوُ فلانٍ قتلُوا فُلاناً والقاتلُ واحدٌ منهم { وَأَطَعْنَا } أي أطعناهُما في الأمرِ والنَّهيِ { ثُمَّ يتولى } عن قبول حُكمِه { فَرِيقٌ مّنْهُمْ مّن بَعْدِ ذلك } أي من بعد ما صدرَ عنهم ما صدرَ من ادِّعاءِ الإيمانِ بالله وبالرَّسولِ والطَّاعةِ لهما على التَّفصيلِ ، وما في ذلك من معنى البُعد للإيذانِ بكونه أمراً معتدًّا به واجبَ المُراعاةِ { وَمَا أُوْلَئِكَ } إشارةٌ إلى القائلينَ لا إلى الفريقِ المتولِّي منهم فقط لعدمِ اقتضاءِ نفيِ الإيمانِ عنهم نفيَه عن الأوَّلينَ بخلافِ العكسِ فإنَّ نفيَه عنِ القائلينَ مقتضٍ لنفيِه عنهم على أبلغِ وجهٍ وآكدِه وما فيه مِن مَعْنى البُعد للإشعارِ ببُعد منزلتهم في الكفر والفسادِ أي وما أُولئك الذين يدَّعُون الإيمانَ والطَّاعةَ ثم يتولَّى بعضُهم الذين يُشاركون في العقدِ والعملِ { بالمؤمنين } أي المؤمنينَ حقيقةً كما يُعرب عنه اللامُ أي ليسُوا بالمؤمنينَ المعهودين بالإخلاص في الإيمان والثَّباتِ عليه .
{ وَإِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ } أي الرَّسولُ { بَيْنَهُمْ } لأنَّه المباشرُ حقيقةً للحكمِ وإنْ كانَ ذلك حكمَ الله حقيقةً . وذكرُ الله تعالى لتفخيمه عليه السَّلامُ والإيذانِ بجلالة محلِّه عنده تعالى { إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ } أي فاجأ فريقٌ منهم الإعراضَ عن المحاكمةِ إليه عليه السَّلامُ لكون الحقِّ عليهم وعلمِهم بأنَّه عليه السَّلامُ يحكمُ بالحقِّ عليهم وهو شرح للتَّولِّي ومبالغةٌ فيه .
{ وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق } لا عليهم { يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } مُنقادين لجزمِهم بأنَّه عليه السَّلامُ يحكمُ لهم . وإلى صلةٌ ليأتُوا فإنَّ الإتيانَ والمجيءَ يُعدَّيان بإلى ، أو لمذعنين على تضمينِ معنى الإسراعِ والإقبال كما في قولِه تعالى : { فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ } والتقديمُ للاختصاصِ .(5/63)
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)
{ أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } إنكارٌ واستقباحٌ لإعراضِهم المذكورِ وبيانٌ لمنشئه بعد استقصاء عدَّةٍ من القبائح المحقَّقةِ فيهم والمتوقَّعةِ منهم وترديدِ المنشئية بينها فمدارُ الاستفهام ليس نفسَ ما وليتْه الهمزةُ وأَمْ من الأمورِ الثَّلاثة بل هو منشئيتها له كأنَّه قيل : أذلك أي إعراضُهم المذكورُ لأنَّهم مرضى القلوبِ لكفرِهم ونفاقِهم .
{ أَمْ } لأنَّهم { ارتابوا } في أمر نُبوَّتِه عليه السَّلامُ مع ظهور حقيَّتِها { أَمْ } لأنَّهم { يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } ثمَّ أُضربَ عن الكلِّ وأُبطلت منشئيَّتُه وحُكم بأنَّ المنشأَ شيءٌ آخرُ من شنائعِهم حيثُ قيلَ : { بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون } أي ليسَ ذلك لشيءٍ ممَّا ذُكر ، أمَّا الأوَّلانِ فلأنَّه لو كان لشيءٍ منهما لأعرضُوا عنه عليه السَّلامُ عند كونِ الحقِّ لهم ولمَا أتَوا أليه عليه السَّلامُ مُذعنينَ لحُكمِه لتحقُّقِ نفاقِهم وارتيابِهم حينئذٍ أيضاً وأمَّا الثَّالثُ فلانتفائِه رأساً حيثُ كانُوا لا يخافون الحيفَ أصلاً لمعرفتِهم بتفاصيلِ أحوالِه عليه السَّلامُ في الأمانةِ والثَّباتِ على الحقِّ بل لأنَّهم هم الظالمون يُريدون أنْ يظلمُوا مَن له الحقُّ عليهم ويتمُّ لهم جحودُه فيأبون المحاكمةَ إليه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لعلمِهم بأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يقضي عليهم بالحقِّ فمناطُ النَّفيِ المُستفادِ من الإضراب في الأوَّلينِ هو وصف منشئيَّتِهما للإعراضِ فقط مع تحقُّقِهما في نفسِهما وفي الثَّالثِ هو الأصلُ والوصف جميعاً هذا وقد خُصَّ الارتيابُ بما له منشأٌ مصححٍ لعروضِه لهم في الجُملةِ والمعنى أمِ ارتابُوا بأنْ رَأَوا منه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ تُهمةً فزالتْ ثقتُهم ويقينُهم به عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فمدارُ النَّفيِ حينئذٍ نفسُ الارتيابِ ومنشئيَّتُه معاً فتأمَّل فيما ذُكر على التَّفصيلِ ودَعْ عنك ما قيل وقيل حسبما يقتضيه النَّظرُ الجليلُ .
{ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين } بالنَّصبِ على أنَّه خبرُ كانَ ، وأنْ مع ما في حيِّزِها اسمُها . وقُرىء بالرَّفعِ على العكسِ والأوَّلُ أقوى صناعةً لأنَّ الأَولى للاسميَّةِ ما هُو أوغلُ في التَّعريفِ وذلكَ هو الفعلُ المصدَّرُ بأَنْ إذْ لا سبيلَ إليه للتَّنكيرِ بخلافِ قولَ المُؤمنين فإنَّه يحتملُه كما إذا اعتزلتْ عنه الإضافةُ ، لكن قراءةُ الرَّفعِ أقعدُ بحسب المَعْنى وأوفى لمُقتضى المقام لما أنَّ مصبَّ الفائدةِ وموقعَ البيانِ في الجُملِ هو الخبرُ فالأحقُّ بالخبريَّةِ ما هو أكثرُ إفادةً وأظهرُ دلالةً على الحدوثِ وأوفرُ اشتمالاً على نسبٍ خاصَّةٍ بعيدةٍ من الوقُوع في الخارج وفي ذهن السَّامعِ . ولا ريبَ في أنَّ ذلكَ هاهنا في أنَّ مع ما في حيِّزها أتمُّ وأكملُ فإذا هو أحقُّ بالخبريَّةِ ، وأما ما تفيدُه الإضافةُ من النِّسبةِ المُطلقةِ الإجماليَّةِ فحيث كانتْ قليلةَ الجَدوى سهلةَ الحُصول خارجاً وذهناً كان حقُّها أنْ تُلاحظ ملاحظةً مجملةً وتجعلَ عُنواناً للموضوعِ فالمعنى إنَّما كانَ مطلقُ القولِ الصَّادرِ عن المؤمنين { إِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ } أي الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ { بَيْنَهُمْ } أي وبين خصومِهم سواءً كانُوا منهم أو من غيرِهم { أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أي خصوصية هذا القولِ المحكيِّ عنهم لا قولاً آخرَ أصلاً .(5/64)
وأما قراءةُ النَّصبِ فمعناها إنما كانَ قولُ المؤمنين أي إنما كانَ قولاً لهم عند الدَّعوةِ خصوصية قولهم المحكيِّ عنهم ففيه من جعلِ أخصِّ النِّسبتينِ وأبعدهما وقوعاً وحضُوراً في الأذهانِ وأحقِّهما بالبيان مفروغاً عنها عُنواناً للموضوعِ وإبرازِ ما هو بخلافِها في معرضِ القصدِ الأصليِّ ما لا يَخْفى . وقُرىء ليُحكمَ على بناءِ الفعلِ للمفعولِ مُسنداً إلى مصدرِه مُجاوباً لقوله تعالى : { إِذَا دُعُواْ } أي ليُفعل الحكمُ كما في قولِه تعالى : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } أي وقعَ التَّقطُّعُ بينكم .
{ وَأُوْلئِكَ } إشارةٌ إلى المؤمنينَ باعتبارِ صدورِ القولِ المذكُورِ عنهم ، وما فيه من معنى البُعد للإشعارِ بعلوِّ رُتبتِهم وبُعدِ منزلتِهم في الفضل أي أولئك المنعُوتون بما ذُكر من النَّعتِ الجميلِ { هُمُ المفلحون } أي هم الفَائزون بكلِّ مطلبٍ والنَّاجُون من كلِّ محذورٍ .(5/65)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)
{ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } استئنافٌ جيء به لتقرير مضمونِ ما قبله من حُسنِ حالِ المُؤمنين وترغيب مَن عداهُم في الانتظام في سلكِهم أي ومَن يُطعهما كائناً مَن كان فيما أُمرا به من الأحكامِ الشَّرعيَّةِ اللازمةِ والمتعديَّةِ وقيل : في الفرائضِ والسُّننِ والأوَّلُ هو الأنسبُ بالمقام { وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ } بإسكانِ القافِ المبنيِّ على تشبيهِه بكِتْفٍ . وقُرىء بكسرِ القافِ والهاءِ وبإسكانِ الهاءِ أي ويخشَ الله على ما مَضَى من ذنوبِه ويتقه فيما يستقبلُ { فَأُوْلَئِكَ } الموصُوفون بما ذُكر من الطَّاعةِ والخشية والاتِّقاءِ { هُمُ الفائزون } بالنَّعيم المُقيم لا مَن عداهُم .
{ وَأَقْسَمُواْ بالله } حكايةً لبعضٍ آخرَ من أكاذيبِهم مؤكَّد بالإيمان الفاجرةِ وقوله تعالى : { جَهْدَ أيمانهم } نُصبَ على أنَّه مصدرٌ مؤكِّد لفعله الذي هو في حيِّز النَّصبِ على أنَّه حالٌ من فاعلِ أقسمُوا أي أقسمُوا به تعالى يجهدون أيمانَهم جَهداً ومعنى جَهد اليمينِ بلوغُ غايتِها بطريقِ الاستعارةِ من قولِهم : جهدَ نفسَه إذا بلغَ أقصى وُسعِها وطاقتِها أي جاهدين بالغينَ أقصى مراتبِ اليمينِ في الشدَّةِ والوكادةِ ، وقيل : هو مصدرٌ مؤكِّد لأقسمُوا أي أقسمُوا إقسامَ اجتهادٍ في اليمينِ . قال مقاتلٌ : مَن حلفَ بالله فقدِ اجتهدَ في اليمينِ { لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ } أي بالخروجِ إلى الغزوِ لا عن ديارِهم وأموالِهم كما قيل لأنَّه حكايةٌ لما كانُوا يقولون لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم : أينما كنتَ نكُنْ معك لئن خرجتَ خرجنَا وإنْ أقمتَ أقمنَا وإن أمرتَنا بالجهادِ جاهدنَا وقوله تعالى : { لَيُخْرِجَنَّ } جوابٌ لأقسمُوا بطريقِ حكايةِ فعلِهم لا حكايةِ قولِهم وحيثُ كانتْ مقالتُهم هذه كاذبةً ويمينُهم فاجرةً أُمرَ عليه السَّلامُ بردِّها حيثُ قيل : { قُلْ } أي ردًّا عليهم وزَجْراً لهم عن التَّفوه بها وإظهاراً لعدمِ القَبُول لكونِهم كاذبينَ فيها { لاَّ تُقْسِمُواْ } أي على ما ينبىءُ عنه كلامُكم من الطَّاعةِ وقوله تعالى : { طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } خبرُ مُبتدأٍ محذوفٍ والجملةُ تعليلٌ للنَّهيِ أي لا تقسمُوا على ما تدَّعُون من الطَّاعةِ لأنَّ طاعتَكم طاعةٌ نفاقيةٌ واقعةٌ باللِّسان فَقَط من غيرِ مُواطأةٍ من القلبِ ، وإنَّما عبر عنها بمعروفةٌ للإيذانِ بأنَّ كونَها كذلك مشهورٌ معروفٌ لكلِّ أحدٍ . وقُرىء بالنَّصبِ والمعنى تُطيعون طاعةً معرُوفةً هذا وحملُها على الطَّاعةِ الحقيقيَّةِ بتقديرِ ما يُناسبها من مبتدأ أو خبرٍ أو فعلٍ ، مثلُ الذي يُطلب منكم طاعةٌ معروفةٌ حقيقيةٌ لا نفاقيةٌ أو طاعةٌ معروفةٌ أمثلُ أو ليكُن طاعةً معروفةً أو أطيعوا طاعةً معروفةً ممَّا لا يُساعده المقامُ .
{ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } من الأعمالِ الظَّاهرةِ والباطنةِ التي منْ جُملتِها ما تُظهرونه من الأكاذيب المؤكِّدةِ بالأيمان الفاجرةِ وما تُضمرونه في قلوبكم من الكفرِ والنَّفاقِ والعزيمةِ على مُخادعة المُؤمنين وغيرِها من فُنون الشَّرِّ والفسادِ ، والجملةُ تعليلٌ للحكم بأنَّ طاعتَهم طاعةٌ نفاقيَّةٌ تشعر بأنَّ مدارَ شُهرةِ أمرِها فيما بينَ المُؤمنين إخبارُه تعالى بذلك ووعيدٌ لهم بأنَّه تعالى مجازيهم بجميع أعمالِهم السَّيئةِ التي منها نفاقُهم .(5/66)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
{ قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } كرَّر الأمرَ بالقول لإبراز كمالِ العنايةِ به والإشعارِ باختلافهما من حيثُ أنَّ المقولَ في الأوَّلِ نهيٌ بطريق الردِّ والتَّقريعِ كما في قولِه تعالى : { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ } وفي الثَّاني أمرٌ بطريقِ التَّكليفِ والتَّشريعِ ، وإطلاقُ الطَّاعة المأمورِ بها عن وصفِ الصحَّةِ والإخلاصِ ونحوهما بعد وصف طاعتهم بما ذُكر للتَّنبيه على أنَّها ليستْ من الطَّاعةِ في شيءٍ أصلاً . وقوله تعالى : { فَإِن تَوَلَّوْاْ } خطابٌ للمأمورين بالطَّاعةِ من جهتِه تعالى واردٌ لتأكيد الأمر بها والمبالغةِ في إيجاب الامتثال به والحملِ عليه بالتَّرهيب والتَّرغيبِ لما أنَّ تغييرَ الكلامِ المسوقِ لمعنى من المعاني وصرفِه عن سَننِه المسلوكِ ينبىءُ عن اهتمامٍ جديدٍ بشأنه من المتكلِّم ويستجلبُ مزيدَ رغبةٍ فيه من السَّامعِ كما أُشير إليه في تفسيرِ قولِه تعالى : { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } لا سيَّما إذا كان ذلك بتغيير الخطابِ بالواسطةِ إلى الخطابِ بالذَّاتِ فإنَّ في خطابِه تعالى إيَّاهم بالذَّات بعد أمرِه تعالى إيَّاهم بوساطتِه عليه السَّلامُ وتصدِّيه لبيان حُكمِ الامتثالِ بالأمر والتولِّي عنه إجمالاً وتفصيلاً من إفادةِ ما ذُكر من التَّأكيدِ والمُبالغةِ ما لا غايةَ وراءَهُ وتَوهُّم أنَّه داخل تحت القولِ المأمور بحكايتِه من جهته تعالى وأنَّه أبلغُ في التَّبكيتِ تعكيسٌ للأمرِ والفاء لترتيبِ ما بعدها على تبليغِه عليه السَّلامُ للمأمور به إليهم ، وعدمُ التَّصريحِ به للإيذانِ بغاية ظهورِ مسارعتِه عليه السَّلامُ إلى تبليغ ما أُمرَ به وعدم الحاجةِ إلى الذِّكرِ أي إنْ تتولَّوا عن الطَّاعةِ إثرَ ما أُمرتم بهَا { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ } أي فاعلمُوا أنَّما عليه عليه السَّلام { مَا حُمّلَ } أي أُمر به من التَّبليغِ وقد شاهدتمُوه عند قوله : أطيعوا الله والرسول { وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ } أي ما أُمرتم به من الطَّاعة ، ولعلَّ التَّعبيرَ عنه بالتَّحميل للإشعارِ بثقله وكونِه مُؤنةً باقيةً في عهدتِهم بعدُ ، كأنَّه قيل : وحيثُ توليتُم عن ذلك فقد بقيتم تحت ذلك الحملِ الثَّقيلِ . وقولُه تعالى : { مَا حُمّلَ } محمولٌ على المُشاكلة { وَإِن تُطِيعُوهُ } أي فيما أَمركم به من الطَّاعةِ { تَهْتَدُواْ } إلى الحقِّ الذي هو المقصدُ الأصليُّ المُوصلُ إلى كلِّ خيرٍ والمُنجِّي من كلِّ شرَ ، وتأخيرُه عن بيانِ حكم التَّولِّي لما في تقديم التَّرهيبِ من تأكيد التَّرغيبِ وتقريبه ممَّا هو من بابه من الوعد الكريمِ . وقولُه تعالى : { وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين } اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبله من أنَّ غائلةَ التولِّي وفائدة الإطاعةِ مقصورتانِ عليهم واللامُ إمَّا للجنسِ المُنتظمِ له عليه السَّلامُ انتظاماً أوليًّا أو للعهد أي ما على جنس الرَّسولِ كائناً مَن كان أو ما عليه عليه السَّلامُ إلاَّ التَّبليغُ الموضِّحُ لكلِّ ما يَحتاج إلى الإيضاحِ ، أو الواضحُ على أنَّ المُبينَ مِن أبانَ بمعنى بانَ وقد علمتُم أنَّه قد فعله بما لا مزيدَ عليه وإنما بقيَ ما حُمِّلتم .(5/67)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
وقوله تعالى : { وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ } استئنافٌ مقرِّرٌ لما في قوله تعالى : { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ } من الوعد الكريمِ ومُعربٌ عنه بطريق التَّصريحِ ومبينٌ لتفاصيلِ ما أُجمل فيه من فنون السَّعاداتِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّة التي هي من آثار الاهتداءِ ومتضمِّنٌ لما هو المرادُ بالطَّاعة التي نيطَ بها الاهتداءُ والمرادُ بالذين آمنُوا كلُّ من اتَّصف بالإيمان بعد الكُفر على الإطلاق من أيِّ طائفةٍ كان وفي أيِّ وقتٍ كان لا مَن آمنَ من طائفةِ المُنافقين فقط ولا مَن آمنَ بعد نزولِ الآيةِ الكريمةِ فحسب ضرورةَ عمومِ الوعد الكريم للكلِّ كافَّةً فالخطاب في منكم لعامَّةِ الكَفَرةِ لا للمنافقين خاصَّةً ومِن تبعيضيَّةٌ .
{ وَعَمِلُواْ الصالحات } عطفٌ على آمنُوا داخلٌ معه في حيِّزِ الصِّلةِ وبه يتمُّ تفسيرُ الطَّاعةِ التي أُمر بها ورُتِّب عليها ما نُظم في سلك الوعدِ الكريمِ كما أُشير إليه . وتوسيطُ الظَّرف بين المعطُوفينِ لإظهار أصالةِ الإيمانِ وعراقتِه في استتباع الآثارِ والأحكامِ وللإيذانِ بكونِه أوَّلَ ما يُطلب منهم وأهمَّ ما يجبُ عليهم ، وأمَّا تأخيرُه عنهما في قولِه تعالى : { وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } فلأنَّ مِن هناك بيانيَّةٌ والضَّميرُ للذين معه عليه السَّلامُ من خُلَّصِّ المؤمنين ولا ريبَ في أنَّهم جامعون بين الإيمان والأعمال الصَّالحةِ مثابرون عليهما فلا بُدَّ من ورود بيانِهم بعد ذكر نُعوتهم الجليلة بكمالِها ، هذا ومَن جعلَ الخطابَ للنَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وللأُمةِ عُموماً على أنَّ مِن تبعيضيَّةٌ أوْ له عليهِ السَّلامُ ولمن معه من المُؤمنينَ خُصوصاً على أنَّها بيانيَّةٌ فقد نَأَى عمَّا يقتضيهِ سباقُ النَّظمِ الكريمِ وسياقُه بمنازلَ ، وأبعدَ عمَّا يليقُ بشأنه عليه السَّلامُ بمراحلَ { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرض } جوابٌ للقسم إمَّا بالإضمار أو بتنزيل وعدِه تعالى منزلةَ القسمِ لتحقُّق إنجازِه لا محالةَ أي ليجعلنَّهم خلفاءَ مُتصرِّفين فيها تصرُّفَ الملوكِ في ممالكهم أو خَلَفاً من الذين لم يكونُوا على حالهم من الإيمانِ والأعمالِ الصَّالحةِ .
{ كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ } هم بنوُ إسرائيلَ استخلفهم عزَّ وجلَّ في مصرَ والشَّامَ بعد إهلاكِ فرعونَ والجبابرةِ أو هُم ومَن قبلهم من الأمم المؤمنةِ التي أُشير إليهم في قولِه تعالى : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ } إلى قوله تعالى : { فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ } ومحلُّ الكافِ النَّصبُ على أنَّه مصدرٌ تشبيهيٌّ مؤكِّدٌ للفعل بعد تأكيدِه بالقسم وما مصدريةٌ أي ليستخلفنَّهم استخلافاً كائناً كاستخلافِه للذينَ من قبلِهم . وقُرىء كما استُخلفَ على البناء للمفعول فليس العاملُ في الكاف حينئذٍ الفعل المذكور بل ما يدلُّ هو عليه من فعلٍ مبنيَ هو للمفعول جارٍ منه مجرى المطاوعِ فإنَّ استخلافَه تعالى إيَّاهم مستلزمٌ لكونِهم مستخلَفين لا محالة كأنَّه قيل : ليستخلفنَّهم في الأرض فيُستخلفُنَّ فيها استخلافاً أيْ مستخلفيَّةً كائنةً كمستخلفيَّةِ مَن قبلهم وقد مرَّ تحقيقُه في قوله تعالى :(5/68)
{ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ } ومن هذا القَبيلِ قوله تعالى : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } على أحدِ الوجهينِ أي فنبتتْ نباتاً حسناً وعليه قولُ مَن قال
وعضَّةُ دَهْرٍ يا ابنَ مَرْوَانَ لَم تَدَع ... مِن المَالِ إلا مُسحَتٌ أو مُجلَّفُ
أي فلم يبق إلا مُسحتٌ الخ { وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ } عطفٌ على ليستخلفنَّهم منتظم معه في سلك الجوابِ وتأخيرُه عنه مع كونه أجلَّ الرَّغائبِ الموعودة وأعظمها لما أنَّ النُّفوسَ إلى الحظوظِ العاجلة أميلُ فتصدير المواعيد بها في الاستمالةِ أدخلُ والمعنى ليجعلنَّ دينَهم ثابتاً مُقرَّراً بحيثُ يستمرُّون على العمل بأحكامِه ويرجعون إليهِ في كلِّ ما يأتُون وما يذرُون والتَّعبيرُ عن ذلك بالتَّمكينِ الذي هو جُعل الشَّيءِ مكاناً لآخرَ يُقال : مكَّن له في الأرضِ أي جعلها مقرًّا له ومنه قولُه تعالى : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض } ونظائرُه ، وكلمة في للإيذانِ بأنَّ ما جُعل مقرًّا له قطعةٌ منها لا كلُّها للدِّلالةِ على كمال ثبات الدِّين ورصانةِ أحكامِه وسلامتِه من التَّغييرِ والتَّبديلِ لابتنائه على تشبيهِه بالأرض في الثَّبات والقرار مع ما فيه من مُراعاةِ المُناسبة بينه وبين الاستخلافِ في الأرضِ . وتقديمُ صلةِ التَّمكينِ على مفعوله الصَّريحِ للمُسارعةِ إلى بيان كونِ الموعودِ من منافعِهم تشويقاً لهم إليه وترغيباً لهم في قبوله عند ورودِه ولأنَّ في توسيطها بينَهُ وبينَ وصفِه أعني قوله تعالى : { الذى ارتضى لَهُمْ } وفي تأخيرِها عنه من الإخلالِ بجَزَالةِ النَّظمِ الكريم ما لا يَخْفى وفي إضافة الدِّين إليهم وهو دينُ الإسلامِ ثم وصفُه بارتضائه لهم تأليفٌ لقلوبِهم ومزيدُ ترغيبٍ فيه وفضلُ تثبيتٍ عليه .
{ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ } بالتَّشديدِ وقُرىء بالتَّخفيفِ من الإبدالِ { مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ } أي من الأعداءِ { مِنَ } حيثُ كان أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قبل الهجرةِ عشرَ سنين بل أكثرَ خائفين ثم هاجرُوا إلى المدينةِ وكانوا يُصبحون في السِّلاحِ ويُمسون كذلك حتى قالَ رجلٌ منهم : ما يأتي علينا يومٌ نأمنُ فيه؟ فقالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « لا تعبُرون إلاَّ يسيراً حتى يجلسَ الرَّجلُ منكم في الملإِ العظيمِ مُحتبياً ليس معه حديدةٌ » فأنزل الله عزَّ وجلَّ هذه الآيةَ وأنجز وعدَه وأظهرَهم على جزيرةِ العربِ وفتح لهم بلادَ الشَّرقِ والغربِ وصاروا إلى حالٍ يخافُهم كلُّ مَن عداهُم . وفيه من الدِّلالةِ على صحَّة النُّبوةِ للإخبارِ بالغيبِ على ما هُو عليه قبل وقوعِه ما لا يخفى . وقيل : المرادُ الخوفُ من العذابِ والأمنُ منه في الآخرةِ { يَعْبُدُونَنِى } حالٌ من الموصول الأوَّلِ مفيدةٌ لتقييد الوعد بالثَّباتِ على التَّوحيدِ ، أو استئنافٌ ببيانِ المُقتضي للاستخلافِ وما انتظم معه في سلكِ الوعدِ { لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً } حالٌ من الواوِ أي يعبدوننِي غيرَ مشركين بي في العبادة شيئاً { وَمَن كَفَرَ } أي اتَّصف بالكُفر بأنْ ثبتَ واستمرَّ عليه ولم يتأثَّر بما مرَّ من التَّرهيب والتَّرغيبِ فإنَّ الإصرارَ عليه بعد مُشاهدةِ دلائلِ التَّوحيدِ كفرٌ مستأنفٌ زائدٌ على الأصل ، وقيل : كفرَ بعد الإيمانِ وقيل : كفرَ هذه النِّعمةَ العظيمةَ ، والأوَّلُ هو الأنسبُ بالمقامِ { بَعْدَ ذَلِكَ } أي بعد ذلك الوعدِ الكريمِ بما فُصِّل من المطالب العاليةِ المستوجبةِ لغاية الاهتمامِ بتحصيلها والسعيِ الجميلِ في حيازتِها { فَأُوْلَئِكَ } البُعداءُ عن الحقِّ التائهون في تيهِ الغَواية والضَّلال { هُمُ الفاسقون } الكاملون في الفِسق والخروجِ عن حُدودِ الكُفر والطُّغيانِ .(5/69)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
{ وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة } عطفٌ على مقدَّرٍ ينسحبُ عليه الكلامُ ويستدعيهِ النِّظامُ فإنَّ خطابَه تعالى للمأمورينَ بالطَّاعةِ على طريقِ التَّرهيبِ من التَّولِّي بقوله تعالى : { فَإِن تَوَلَّوْاْ } الخ ، وترغيبَه تعالى إيَّاهم في الطَّاعة بقوله تعالى : { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ } الخ ، ووعدَه تعالى إيَّاهم على الإيمان والعملِ الصَّالحِ بما فُصِّل من الاستخلافِ وما يتلُوه من الرَّغائبِ الموعُودةِ ووعيدَه على الكفرِ ممَّا يوجبُ الأمرَ بالإيمانِ والعملِ الصَّالحِ والنَّهيِ عن الكُفر فكأنَّه قيل : فآمِنُوا واعملُوا صالحاً وأقيمُوا أو فلا تكفرُوا وأقيمُوا ، وعطفُه على أطيعُوا الله مما لا يليقُ بجزالةِ النَّظمِ الكريمِ { وَأَطِيعُواْ الرسول } أمرهم الله سبحانه وتعالى بالذَّاتِ بما أمرَهم به بواسطة الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من طاعتِه التي هي طاعتُه تعالى في الحقيقة تأكيداً للأمرِ السَّابقِ وتقريراٌ لمضمونه على أنَّ المرادَ بالمُطاع فيه جميعُ الأحكامِ الشَّرعيةِ المنتظمةِ للآداب المرضيَّةِ أيضاً أي وأطيعُوه في كلِّ ما يأمرُكم به وينهاكم عنه أو تكميلاً لما قبله من الأمرينِ الخاصَّينِ المتعلِّقينِ بالصَّلاةِ والزَّكاةِ على أنَّ المرادَ بما ذُكر ما عداهما من الشَّرائعِ أي وأطيعُوه في سائر ما يأمرُكم به الخ ، وقوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } متعلِّقٌ على الأوَّلِ بالأمرِ الأخيرِ المُشتمل على جميعِ الأوامرِ وعلى الثَّانِي بالأوامرِ الثَّلاثةِ أي افعلُوا ما ذُكر من الإقامةِ والإيتاءِ والإطاعةِ راجينَ أنْ تُرحموا .(5/70)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
{ لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ } لمَّا بُيِّن حالَ من أطاعَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأُشير إلى فوزِه بالرَّحمةِ المُطلقة المستتبعةِ لسعادةِ الدَّارينِ عُقّب ذلك ببيانِ حالِ مَن عصاهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ومآلِ أمرِه في الدُّنيا والآخرةِ بعد بيانِ تناهيهِ في الفسقِ تكميلاً لأمرِ التَّرغيبِ والتَّرهيبِ والخطاب إما لكلِّ أحد ممَّن يصلح له كائناً من كانَ وإمَّا للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على منهاج قوله تعالى : { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } ونظائرِه للإيذانِ بأنَّ الحُسبانَ المذكورَ من القُبحِ والمحذوريَّةِ بحيث يُنهى عنه مَن يمتنعُ صدورُه عنه فكيف بمَن يمكن ذلك منه؟ ومحلُّ الموصولِ النَّصبُ على أنَّه مفعولٌ أوَّلٌ للحُسبانِ وقوله تعالى : { معاجزين } ثانيهما وقوله تعالى : { فِى الأرض } ظرفٌ لمعجزين لكن لا لإفادةِ كون الإعجاز المنفيّ فيها لا في غيرها فإن ذلك مما لا تحتاج إلى البيان بل لإفادة شمولِ عدم الإعجازِ بجميعِ أجزائِها أي لا تحسبنَّهم مُعجزين الله عزَّ وجلَّ عن إدراكِهم وإهلاكِهم في قطرٍ من أقطارِ الأرضِ بما رحُبتْ وإنْ هربُوا منها كلَّ مهربٍ . وقُرىء لا يَحسَبنَّ بياءِ الغَيبةِ على أنَّ الفاعلَ كلُّ أحدٍ والمعنى كما ذُكر أي لا يَحسبنَّ أحدٌ الكافرينَ معجزين له سبحانَهُ في الأرضِ أو هو الموصولُ والمفعولُ الأوَّلُ محذوفٌ لكونه عبارةً عن أنفسِهم كأنَّه قيل : لا يحسبنَّ الكافرونَ أنفسَهم مُعجزين في الأرضِ وأما جعلُ معجزين مفعولاً أوَّلَ وفي الأرضِ مفعولاً ثانياً فبمعزلٍ من المُطابقة لمقتضى المقامِ ضرورةَ أنَّ مصبَّ الفائدةِ هو المفعولُ الثَّاني ولا فائدةَ في بيانِ كونِ المُعجزين في الأرضِ وقد مرَّ في قولِه تعالى : { إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً } وقولِه تعالى : { وَمَأْوَاهُمُ النار } معطوفٌ على جملة النَّهيِ بتأويلِها بجُملةٍ خبريَّةٍ لأنَّ المقصودَ بالنَّهيِ عن الحُسبان تحقيقُ نفيِ الحُسبانِ كأنَّه قيل : ليسَ الذين كفرُوا مُعجزين ومأواهم الخ ، أو على جملةٍ مقدَّرةٍ وقعتْ تعليلاً للنَّهيِ كأنَّه قيل : لا تحسبنَّ الذين كفرُوا معجزين في الأرضِ فإنَّهم مُدرَكُونَ ومأواهم الخ ، وقيل : الجملةُ المقدَّرةُ بل هم مقهورون فتدبَّرْ { وَلَبِئْسَ المصير } جوابٌ لقسمٍ مقدَّرٍ والمخصوص بالذمِّ محذوفٌ أي وبالله لبئسَ المصيرُ هي أي النَّارُ والجملة اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبله وفي إيراد النَّارِ بعنوان كونها مأوى ومصيراً لهم إثرَ نفيِ فَوتِهم بالهرب في الأرض كلَّ مهرَبٍ من الجَزَالة ما لا غايةَ وراءَهُ فللَّه درُّ شأنِ التَّنزيلِ .(5/71)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ } رجوع إلى بيان تتمةِ الأحكامِ السَّابقةِ بعد تمهيدِ ما يُوجب الامتثالَ بالأوامر والنَّواهي الواردة فيها وفي الأحكام اللاَّحقةِ من التمثيلات والتَّرغيبِ والتَّرهيبِ والوعدِ والوعيدِ . والخطابُ إمَّا للرِّجالِ خاصَّةً ، والنِّساءُ داخلاتٌ في الحكم بدلالة النَّصِّ أو للفريقينِ جميعاً بطريقِ التَّغليبِ . رُوي أنَّ غلاماً لأسماءَ بنتِ أبي مَرْثَدٍ دخل عليها في وقتٍ كرهتْهُ فنزلتْ ، وقيلَ : أرسلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِدْلَجَ بنَ عمروٍ الأنصاريَّ وكان غُلاماً وقتَ الظَّهيرةِ ليدعوَ عُمرَ رضي الله عنه فدخلَ عليه وهو نائمٌ قد انكشفَ عنه ثوبُه ، فقال عمرُ رضي الله عنه : لوددتُ أنَّ الله تعالى نَهَى آباءَنا وأبناءَنا وخدمَنا أنْ لا يدخلوا علينا هذه السَّاعاتِ إلا بإذنٍ ثمَّ انطلقَ معه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فوجدَه وقد أُنزلتْ عليه هذه الآيةُ .
{ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم } من العبيدِ والجَوَاري { والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم } أي الصِّبيانُ القاصرُون عن درجة البلوغِ المعهود . والتَّعبيرُ عنه بالحُلُم لكونِه أظهرَ دلائلِه { مّنكُمْ } أي من الأحرارِ { ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } أي ثلاثةَ أوقاتٍ في اليَّومِ واللَّيلةِ . والتَّعبيرُ عنها بالمرَّات للإيذانِ بأنَّ مدارَ وجوبِ الاستئذانِ مقارنةُ تلك الأوقاتِ لمرور المستأذنينَ بالمخاطبينَ لا أنفسِها { مّن قَبْلِ صلاة الفجر } لظهورِ أنَّه وقتُ القيامِ من المضاجعِ وطرحِ ثيابِ النَّومِ ولبسِ ثيابِ اليقظةِ ، ومحلُّه النَّصبُ على أنَّه بدلٌ من ثلاثَ مرَّاتٍ أو الرَّفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي أحدُها من قبل الخ { وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم } أي ثيابَكم التي تلبسونَها في النَّهارِ وتخلعونَها لأجل القَيلولةِ وقوله تعالى : { مّنَ الظهيرة } وهي شدَّةُ الحرِّ عند انتصافِ النَّهارِ بيانٌ للحينِ . والتَّصريحُ بمدارِ الأمرِ أعني وضعَ الثِّيابِ في هذا الحينِ دُون الأوَّلِ والآخرِ لما أنَّ التَّجردَ عن الثِّيابِ فيه لأجل القيلولةِ لقلَّة زمانِها كما ينبىءُ عنها إيرادُ الحين مُضافاً إلى فعلٍ حادثٍ منقضَ ووقوعُها في النَّهارِ الذي هُو مَئِنَّةٌ لكثرةِ الورودِ والصُّدورِ ومَظِنَّةٌ لظهورِ الأحوالِ وبروزِ الأمورِ ليسَ من التَّحقُّقِ والاطرادِ بمنزلةِ ما في الوقتينِ المذكورينِ فإنَّ تحقُّقَ التَّجردِ واطِّرادَه فيهما أمرٌ معروفٌ لا يحتاجُ إلى التَّصريحِ به { وَمِن بَعْدِ صلاة العشاء } ضرورةَ أنَّه وقتُ التَّجردِ عن اللِّباسِ والالتحافِ باللِّحافِ وليسَ المرادُ بالقبليَّةِ والبعديَّةِ المذكورتينِ مطلقَهُما المتحقِّقَ في الوقتِ الممتدِّ المتخللِ بينَ الصَّلاتينِ كما في قوله تعالى : { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين } وقوله تعالى : { مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى } بل ما يعرض منهما لطرفي ذلك الوقتِ الممتدِّ المتصلين بالصَّلاتينِ المذكورتينِ اتِّصالاً عاديّاً . وقولُه تعالى : { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ } خبرُ مبتدأ محذوفٍ . وقولُه تعالى : { لَكُمْ } متعلِّقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لثلاثُ عوراتٍ أي كائنةٌ لكم والجملةُ استئنافٌ مسوقٌ لبيان علَّةِ وجوبِ الاستئذانِ أي هنَّ ثلاثةُ أوقاتٍ يختلُّ فيها التَّستُّر عادةً .(5/72)
والعورةُ في الأصلِ هو الخللُ غلبَ في الخللِ الواقعِ فيما يهمُّ حفظُه ويُعتنى بسترِه . أُطلقتْ على الأوقاتِ المُشتملةِ عليها مبالغةً كأنَّها نفسُ العورةِ . وقُرىء ثلاثَ عوراتٍ بالنَّصبِ بدلاً من ثلاثَ مرَّاتٍ .
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ } أي على المماليكِ والصِّبيانِ { جُنَاحٌ } أي إثمٌ في الدُّخولِ بغيرِ استئذانٍ لعدمِ ما يُوجبه من مخالفةِ الأمرِ والاطِّلاعِ على العوراتِ { بَعْدَهُنَّ } أي بعد كلِّ واحدةٍ من تلك العوراتِ الثَّلاثِ وهي الأوقاتُ المتخلِّلةُ بين كلِّ اثنتينِ منهنَّ وإيرادُها بعُنوان البعديَّةِ مع أنَّ كلَّ وقتٍ من تلكَ الأوقاتِ قبل عورةٍ من العَورات كما أنَّها بعد أخرى منهنَّ لتوفيةِ حقِّ التَّكليفِ والتَّرخيصِ الذي هو عبارةٌ عن رفعه إذ الرُّخصةُ إنَّما تتصور في فعل يقعُ بعد زمان وقوعِ الفعلِ المكلَّف ، والجملة على القراءتينِ مستأنفةٌ مسوقة لتقرير ما قبلها بالطَّردِ والعكس وقد جُوِّز على القراءة الأولى كونُها في محلِّ رفعٍ على أنَّها صفة أخرى لثلاثُ عوراتٍ وأمَّا على القراءة الثَّانيةِ فهي مستأنفةٌ لا غير إذ لو جُعلت صفةً لثلاثُ عورات وهي بدلٌ من ثلاثَ مرَّاتٍ لكانَ التَّقديرُ ليستأذنكم هؤلاءِ في ثلاث عورات لا إثمَ في ترك الاستئذانِ بعدهنَّ وحيثُ كان انتفاءُ الإثمِ حينئذٍ ممَّا لم يعلمه السَّامعُ إلا بهذا الكلامِ لم يتسنَّ إبرازُه في معرض الصِّفةِ بخلافِ قراءة الرَّفع فإنَّ انتفاءَ الإثمِ حينئذٍ معلومٌ من صدر الكلام وقوله تعالى : { طوافون عَلَيْكُمْ } استئنافٌ ببيان العذر المرخَّص في ترك الاستئذان وهي المخالطةُ الضَّروريةُ وكثرةُ المداخلةِ وفيه دليلٌ على تعليل الأحكامِ وكذا في الفرق بين الأوقات الثَّلاثةِ وبين غيرِها بكونها عَورات .
{ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ } أي بعضكم طائفٌ على بعضٍ طوافاً كثيراً أو بعضُكم يطوفُ على بعضٍ { كذلك } إشارةٌ إلى مصدرِ الفعلِ الذي بعدَه ، وما فيه من معنى البُعد لما مرَّ مراراً من تفخيم شأنِ المشار إليهِ حسّاً أي مثلَ ذلك التَّبيين { يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات } الدَّالة على الأحكامِ أي ينزلها بينةً واضحة الدلالاتِ عليها لا أنَّه تعالى يبينها بعد أنْ لم تكن كذلك والكافُ مقحمةٌ وقد مرَّ تفصيلُه في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا } ولكم متعلِّق بيبين وتقديمُه على المفعول الصَّريحِ لما مرَّ مراراً من الاهتمام بالمقدَّم والتَّشويقِ إلى المؤخَّر وقيل : يبين عللَ الأحكامِ وليس بواضحٍ مع أنَّه مؤدٍ إلى تخصيص الآياتِ مما ذُكر هاهنا { والله عَلِيمٌ } مبالغٌ في العلمِ بجميع المعلوماتِ فيعلم أحوالَكم { حَكِيمٌ } في جميع أفاعيلِه فيشرع لكُم ما فيه صلاحُ أمرِكم معاشاً ومعاداً .(5/73)
وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
{ وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم } لمَّا بيِّن فيما مرَّ آنفاً حكمَ الأطفالِ في أنَّه لا جناح عليهم في ترك الاستئذانِ فيما عدا الأوقاتِ الثلاثة عقب ببيان حالِهم بعد البلوغِ دفعاً لمَا عسى يُتوهم أنَّهم وإنْ كانُوا أجانبَ ليسُوا كسائرِ الأجانبِ بسببِ اعتيادهم الدُّخولَ أي إذا بلغَ الأطفالُ الأحرارُ الأجانبُ { فَلْيَسْتَأْذِنُواْ } إذا أرادُوا الدخولَ عليكم وقوله تعالى : { كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ } في حيِّز النَّصبِ على أنَّه نعتٌ لمصدر مؤكِّد للفعل السَّابقِ والموصول عبارةٌ عمَّن قيل لهم : { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ } الآية ، ووصفهم بكونِهم قبل هؤلاء باعتبار ذكرِهم قبل ذكرِهم لا باعتبار بلوغِهم قبل بلوغِهم كما قيل لما أنَّ المقصودَ بالتشبيه بيانُ كيفيَّةِ استئذان هؤلاءِ وزيادةُ إيضاحِه ولا يتسنَّى ذلك إلا بتشبيهِه باستئذانِ المعهودين عند السَّامعِ ولا ريبَ في أنَّ بلوغهم قبلَ بلوغِ هؤلاءِ مما لا يخطُر ببال أحدٍ وإنْ كان الأمرُ كذلك في الواقع وإنَّما المعهودُ المعروفُ ذكرهم قبلَ ذكرِهم أي فليستأذنُوا استئذاناً كائناً مثل استئذانِ المذكورينَ قبلهم بأنْ يستأذنُوا في جميع الأوقاتِ ويرجعُوا إنْ قيل لهم : ارجعُوا حسبما فُصِّل فيما سلف { كذلك يُبَيّنُ الله لَكُمْ ءاياته والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } الكلامُ فيه كالذي سبقَ والتَّكريرُ للتأكيد والمبالغةِ في الأمر بالاستئذانِ ، وإضافةُ الآياتِ إلى ضمير الجلالةِ لتشريفها .(5/74)
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
{ والقواعد مِنَ النساء } أي العجائزُ اللاتي قعدنَ عن الحيض والحملِ { اللاتى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً } أي لا يطمعنَ فيه لكبرهنَّ { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ } أي الثيابَ الظَّاهرةَ كالجلباب ونحوِه ، والفاءُ فيه لأن اللاَّمَ في القواعدِ بمعنى اللاَّتِي أو للوصفِ بها { غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ } غير مظهراتٍ لزينةٍ ممَّا أمر بإخفائِه في قوله تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } وأصلُ التَّبرجِ التَّكلُّفُ في إظهارِ ما يَخْفى من قولِهم : سفينةٌ بارجةٌ لا غطاءَ عليها والبَرَجُ سعةُ العينِ بحيث يُرى بياضُها محيطاً بسوادِها كلِّه إلا أنَّه خُصَّ بكشفِ المرأةِ زينتَها ومحاسنَها للرِّجال { وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ } بترك الوضعِ { خَيْرٌ لَّهُنَّ } من الوضعِ لبُعده من التُّهمَة { والله سَمِيعٌ } مبالغٌ في سمعِ جميعِ ما يُسمع فيسمعُ ما يَجري بينهنَّ وبين الرِّجالِ من المقاولةِ { عَلِيمٌ } فيعلم مقاصدهنَّ وفيه من التَّرهيبِ ما لا يخفى .
{ لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ } كانت هؤلاء الطوائفُ يتحرَّجُون من مؤاكلةِ الأصحَّاءِ حِذاراً من استقذارِهم إيَّاهم وخَوفاً من تأذِّيهم بأفعالِهم وأوضاعِهم فإنَّ الأعمى رُبَّما سبقتَ يدُه إلى ما سبقتْ إليه عينُ أكيلِه وهو لا يشعرُ به والأعرجُ يتفسَّح في مجلسِه فيأخذُ أكثرَ من موضعِه فيضيقُ على جليسِه والمريضُ لا يخلُو عن حالةٍ تُؤذي قرينَه . وقيل : كانُوا يدخلُون على الرَّجل لطلبِ العلمِ فإذا لم يكُن عنده ما يُطعمهم ذهبَ بهم إلى بيوتِ آبائِهم وأمَّهاتِهم أو إلى بعضِ مَن سمَّاهم الله عزَّ وجلَّ في الآيةِ الكريمةِ فكانُوا يتحرَّجون من ذلكَ ويقولُون : ذهبَ بنا إلى بيتِ غيرِه ولعلَّ أهلَه كارهون لذلكَ وكذا كانُوا يتحرَّجُون من الأكلِ من أموالِ الذينَ كانُوا إذا خرجُوا إلى الغزوِ خلَّفوا هؤلاءِ الضُّعفاءَ في بيوتِهم ودفعُوا إليهم مفاتيحَها وأذنُوا لهم أنْ يأكلُوا مما فيها مخافةَ أنْ لا يكون إذنُهم عن طيبِ نفسٍ منهم وكانَ غيرُ هؤلاء أيضاً يتحرَّجون من الأكلِ في بيوتِ غيرِهم فقيل لهم : ليسَ على الطوائفِ المعدودةِ { وَلاَ على أَنفُسِكُمْ } أي عليكم وعلى مَن يُماثلكم في الأحوالِ من المؤمنينَ حرجٌ { أَن تَأْكُلُواْ } أي تأكلُوا أنتُم وهم معكم . وتعميمُ الخطابِ للطَّوائفِ المذكورةِ أيضاً يأباهُ ما قبله وما بعدَه فإنَّ الخطابَ فيهما لغير أولئكَ الطَّوائفِ حتماً { مِن بُيُوتِكُمْ } أي البيوتِ التي فيها أزواجُكم وعيالُكم فيدخل فيها بيوتُ الأولادِ لأنَّ بيتَهم كبيتِه لقوله عليه الصلاة والسلام : « أنتَ ومالُكَ لأبيكَ » وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام : « إنَّ أطيبَ مالِ الرَّجلِ من كسبِه وإنَّ ولدَه من كسبِه » { أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ } وقُرىء بكسرِ الهمزةِ والميمِ وبكسرِ الأُولى وفتحِ الثَّانيةِ { أَوْ بُيُوتِ إخوانكم أَوْ بُيُوتِ أخواتكم أَوْ بُيُوتِ أعمامكم أَوْ بُيُوتِ عماتكم أَوْ بُيُوتِ أخوالكم أَوْ بُيُوتِ خالاتكم أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ } من البيوتِ التي تملكُون التَّصرفَ فيها بإذنِ أربابِها على الوجهِ الذي مرَّ بيانُه ، وقيل : هي بيوتُ المماليكِ ، والمفاتحُ جمع مِفْتحٍ وجمعُ المفتاحِ مفاتيحُ .(5/75)
وقُرىء مُفتاحَه { أَوْ صَدِيقِكُمْ } أي أو بيوتِ صديقِكم وإنْ لم يكُن بينكم وبينهم قرابةٌ نَسَبيةٌ فإنَّهم أرضى بالتَّبسطِ وأسرُّ به من كثيرٍ من الأقرباءِ . رُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهُما أنَّ الصَّديقَ أكبرُ من الوالدينِ إن الجهنميين لمَّا استغاثُوا لم يستغيثوا بالآباءِ والأمَّهاتِ بل قالُوا : فما لنا من شافعينَ ولا صديقٍ حميم ، والصَّديقُ يقعُ على الواحدِ والجمعِ كالخَليط والقَطينِ وأضرابِهما وهذا فيما إذا عَلم رضَا صاحبِ البيتِ بصريحِ الإذنِ أو بقرينةٍ دالَّةٍ عليه ولذلكَ خُصص هؤلاءِ بالذِّكرِ لاعتيادِهم التَّبسطَ فيما بينُهم وقولُه تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } كلامٌ مستأنفٌ مسوق لبيانِ حكمٍ آخرَ من جنسِ ما بُيِّن قبله حيثُ كان فريقٌ من المؤمنينَ كبني ليثِ بنِ عمروٍ من كِنانةَ يتحرَّجون أنْ يأكلُوا طعامَهم مُنفردين وكانَ الرَّجلُ منهم لا يأكلُ ويمكثُ يومَه حتَّى يجدَ ضيفاً يأكلُ معه فإنْ لم يجدْ من يُؤاكله لم يأكلْ شيئاً ورُبَّما قعدَ الرَّجلُ والطَّعامُ بين يديهِ لا يتناولُه من الصَّباحِ إلى الرَّواحِ ورُبَّما كانتْ معه الإبلُ الحُفّلِ فلا يشربُ من ألبانِها حتَّى يجدَ مَن يُشاربه فإذا أمسى ولم يجدْ أحداً أكلَ ، وقيل : كان الغنيُّ منهم يدخلُ على الفقيرِ من ذوي قرابته وصداقتِه فيدعُوه إلى طعامِه فيقول : إنِّي أتحرَّجُ أنْ آكلَ معك وأنا غنيٌّ وأنت فقيرٌ ، وقيل : كان قومٌ من الأنصار لا يأكلون إذا نزلَ بهم ضيفٌ إلا مع ضيفِهم فرُخِّص لهم في أن يأكلُوا كيف شاءوا ، وقيل : كانوا إذا اجتمعُوا ليأكلوا طعاماً عزلُوا للأعمى وأشباهِه طعاماً على حدةٍ فبيَّن الله تعالى أن ذلك ليس بواجبٍ وقوله تعالى : { جَمِيعاً } حالٌ من فاعلِ تأكلوا وأشتاتاً عطفٌ عليه داخلٌ في حُكمه وهو جمعُ شَتَ على أنَّه صفةٌ كالحقِّ يقال : أمر شتٌّ أي متفرِّقٌ أو على أنه في الأصلِ مصدرٌ وصف به مبالغةً أي ليس عليكم جناحٌ أنْ تأكلوا مجتمعين أو متفرِّقين { فَإِذَا دَخَلْتُمْ } شروع في بيان الآدابِ التي تجب رعايتها عند مباشرةِ ما رُخِّص فيه إثرَ بيان الرُّخصةِ فيه { بُيُوتًا } أي من البيوتِ المذكورة { فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ } أي على أهلِها الذين بمنزلة أنفسِكم لما بينكم وبينهُم من القرابة الدِّينيةِ والنَّسبيةِ الموجبة لذلك { تَحِيَّةً مّنْ عِندِ الله } أي ثابتةً بأمره مشروعةً من لدنه ويجوزُ أنْ يكون صلةً للتَّحية فإنَّها طلبُ الحياة التي هي من عنده تعالى وانتصابُها على المصدريَّةِ لأنَّها بمعنى التَّسليمِ { مباركة } مستتبعة لزيادة الخيرِ والثَّواب ودوامها { طَيّبَةً } تطيبُ بها نفسُ المستمع .(5/76)
وعن أنس رضي الله عنه أنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قال : « متى لقيتَ أحداً من أمَّتي فسلِّم عليه يطُلْ عمرُك وإذا دخلتَ بيتَك فسلِّم عليهم يكثُر خيرُ بيتك وصلِّ صلاةَ الضُّحى فإنَّها صلاةُ الأبرارِ الأوَّابينَ » { كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات } تكرير لتأكيد الأحكامِ المختتمةِ به وتفخيمها { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي ما في تضاعيفها من الشَّرائعِ والأحكامِ وتعملون بموجبها وتحوزُون بذلك سعادةَ الدَّارين ، وفي تعليل هذا التَّبيينِ بهذه الغاية القُصوى بعد تذييل الأولين بما يُوجبهما من الجَزَالةِ ما لا يخفى .(5/77)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
{ إِنَّمَا المؤمنون الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } استئنافٌ جيء به في أواخر الأحكام السَّابقةِ تقريراً لها وتأكيداً لوجوب مراعاتِها وتكميلاً لها ببيانِ بعضٍ آخرَ من جنسها وإنَّما ذكر الإيمان بالله ورسوله في حيِّز الصِّلةِ للموصولِ الواقع خبراً للمبتدأ مع تضمُّنِه له قطعاً تغيراً لما قبله وتمهيداً لما بعده وإيذاناً بأنه حفيفٌ بأن يجعل قريناً للإيمان بهما مُنتظماً في سلكه فقوله تعالى : { وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ } معطوفٌ على آمنُوا داخلٌ معه في حيِّز الصِّلةِ أي إنَّما الكاملون في الإيمانِ الذين آمنُوا بالله ورسولِه عن صميم قلوبهم وأطاعوهُما في جميع الأحكامِ التي من جُملتها ما فُصِّل من قبل من الأحكامِ المتعلِّقةِ بعامة أحوالِهم المطَّردة في الوقوع وأحوالِهم الواقعة بحسب الاتِّفاقِ كما إذا كانُوا معه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على أمر مهمَ يجب اجتماعُهم في شأنه كالجمعةِ والأعيادِ والحروبِ وغيرِها من الأمور الدَّاعيةِ إلى اجتماع أولي الآراءِ والتَّجارِب ، ووصف الأمر بالجمعِ للمبالغة وقُرىء أمرٍ جميعٍ { لَّمْ يَذْهَبُواْ } أي من المجمعِ مع كون ذلك الأمرِ مما لا يوجبُ حضورَهم لا محالةَ كما عند إقامة الجمعةِ ولقاء العدوِّ بل يسوِّغ التَّخلفَ عنه { حتى يَسْتَئذِنُوهُ } عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في الذهابِ لا على أنَّ نفسَ الاستئذانِ غايةٌ لعدم الذَّهاب بل الغاية هي الإذنُ المنوط برأيِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ، والاقتصار على ذكرِه لأنَّه الذي يتمُّ من قبلهم وهو المعتبرُ في كمال الإيمانِ لا الإذنُ ولا الذهابُ المترتِّبُ عليه ، واعتبارُه في ذلك لِما أنَّه كالمصداقِ لصحَّتِه والمميِّز للمخلصِ فيه عن المنافق فإنَّ ديدنه التَّسللُ للفرار ولتعظيم ما في الذهابِ بغير إذنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من الجنايةِ وللتَّنبيهِ على ذلك عقب بقوله تعالى : { إِنَّ الذين يَسْتَئْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ } فقَضَى بأنَّ المستأذنينَ هم المؤمنون بالله ورسولِه كما حكم في الأول بأنَّ الكاملينَ في الإيمان هم الجامعونَ بين الإيمانِ بهما وبين الاستئذانِ وفي أولئك من تفخيم شأنِ المستأذنينَ ما لا يخفى { فَإِذَا استئذنوك } بيانٌ لما هو وظيفتُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في هذا البابِ إثرَ بيانِ ما هو وظيفةُ المؤمنينَ وأن الإذن عند الاستئذانِ ليس بأمرٍ محتومٍ بل هو مفوَّض إلى رأيِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ . والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي بعد ما تحقَّق أنَّ الكاملين في الإيمان هم المستأذنُون فإذا استأذنوك { لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ } أي لبعضِ أمرِهم المهم وخَطبهم المُلِّمِ { فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ } لما علمتَ في ذلك من حكمةٍ ومصلحةٍ { واستغفر لَهُمُ الله } فإنَّ الاستئذانَ وإنْ كان لعذرٍ قويَ لا يخلُو عن شائبةِ تقديمِ أمرِ الدُّنيا على أمرِ الآخرةِ { أَنَّ الله غَفُورٌ } مبالغ في مغفرةِ فرطاتِ العبادِ { رَّحِيمٌ } مبالغ في إفاضةِ آثار الرَّحمةِ عليهم . والجملةُ تعليلٌ للمغفرة الموعودةِ في ضمن الأمرِ بالاستغفار لهم .(5/78)
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
{ لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرسول بَيْنَكُمْ } استئنافٌ مقرر لمضمون ما قبله والالتفاتُ لإبراز مزيدِ الاعتناءِ بشأنه أي لا تجعلُوا دعوتَه عليه الصلاة والسلام إيَّاكم في الاعتقاد والعملِ بها { كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً } أي لا تقيسُوا دعاءَه عليه الصَّلاة والسَّلام إيَّاكُم على دعاء بعضِكم بعضاً في حالٍ من الأحوال وأمرٍ من الأمور التي من جُملتها المساهلةُ فيه والرُّجوعُ عن مجلسه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بغير استئذانٍ فإنَّ ذلكَ من المحرَّماتِ وقيل : لا تجعلُوا دعاءَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ربَّه كدعاءِ صغيرِكم كبيرَكم يجيبه مرَّةً ويردُّه أُخرى فإنَّ دعاءَه مستجابٌ لا مردَّ له عند الله عزَّ وجلَّ وتقريرُ الجملةِ حينئذٍ لما قبلها أما من حيثُ إنَّ استجابتَه تعالى لدعائِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ممَّا يُوجب امتثالَهم بأوامره عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ومتابعتَهم له في الورود والصُّدورِ أكملَ إيجابٍ وأما من حيثُ إنها موجبةٌ للاحتراز عن التَّعرض لسخطه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ المؤدِّي إلى ما يُوجبُ هلاكَهم من دعائه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عليهم ، وأمَّا ما قيل من أنَّ المعنى لا تجعلُوا نداءَه عليه الصَّلاةُ والسلام كنداءِ بعضِكم بعضاً باسمِه ورفع الصَّوتِ والنِّداءِ من وراء الحجراتِ ولكن بلقبِه المعظَّم مثل : يا رسولَ الله يا نبيَّ الله ، مع غايةِ التَّوقيرِ والتَّفخيمِ والتَّواضعِ وخفضِ الصَّوتِ فلا يناسب المقامَ فإن قوله تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ } الخ ، وعيدٌ لمخالفي أمرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فيما ذُكر من قبل فتوسيطُ ما ذكر بينهما ممَّا لا وجهَ له ، والتَّسللُ الخروجُ من البين على التَّدريجِ والخفيةِ وقد للتَّحقيق كما أنَّ رُبَّ تجيء للتَّكثير حسبما بُيِّن في مطلع سورةِ الحجرِ أي يعلمُ الله الذين يخرجُون من الجماعة قليلاٌ قليلاً على خُفيةٍ { لِوَاذاً } أي مُلاوذةً بأن يستترَ بعضُهم ببعضٍ حتَّى يخرجَ أو بأن يلوذَ بمن يخرجُ بالإذنِ إراءةً أنَّه من أتباعِه . وقُرىء بفتحِ اللاَّمِ وانتصابِه على الحاليةِ من ضمير يتسللون أي مُلاوذين أو على أنَّه مصدرٌ مؤكِّد لفعل مضمرٍ هو الحالُ في الحقيقة أي يلوذُون لِواذاً ، والفاء في قوله تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الذين يخالفون عَنْ أَمْرِهِ } لترتيب الحذرِ أو الأمر به على ما قبلها من علمه تعالى بأحوالهم فإنَّه ممَّا يُوجب الحذرَ البتةَ أي يخالفون أمرَه بترك مقتضاه ويذهبونَ سمتاً خلافَ سمتِه إما لتضمُّنه معنى الإعراضِ أو حملِه على معنى يصدُّون على أمره دُون المؤمنين من خالفَه عن الأمر إذا صدَّ عنه دونه ، وحذفُ المفعولِ لما أنَّ المقصودَ بيانُ المُخالِفِ والمُخالَفَ عنه . والضَّميرُ لله تعالى لأنَّه الآمرُ حقيقةً أو للرَّسول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لأنَّه المقصودُ بالذِّكر { أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } أي محنةٌ في الدُّنيا { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي في الآخرةِ وكلمةُ أَوْ لمنع الخلوِّ دون الجمعِ وإعادة الفعلِ صريحاً للاعتناء بالتَّهديد والتَّحذيرِ واستُدلَّ به على أنَّ الأمرَ للإيجاب فإنَّ ترتيب العذابينِ على مخالفته كما يُعرب عنه التَّحذيرُ عن إصابتهما يوجبُ وجوبَ الامتثالِ به حتماً .(5/79)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
{ أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السموات والأرض } من الموجوداتِ بأسرِها خَلْقاً ومُلْكاً وتَصرُّفاً وإيجاداً وإعدَاماً بَدْءاً وإعادةً { قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ } أيُّها المُكلَّفون من الأحوالِ والأوضاعِ التي من جُملتها الموافقةُ والمخالفةُ والإخلاصُ والنِّفاقُ { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ } عطفٌ على ما أنتُم عليه أي يعلمُ يومَ يُرجع المنافقون المخالفون للأمرِ إليه تعالى للجزاءِ والعقابِ وتعليقُ علمِه تعالى بيومِ رجوعِهم لا يرجعهم لزيادةِ تحقيق علمِه تعالى بذلك . وغايةُ تقريرِه لما أنَّ العلمَ بوقت وقوع الشيء مستلزمٌ للعلم بوقوعِه على أبلغِ وجهٍ وآكدِه وفيه إشعارٌ بأنَّ علمَه تعالى لنفسِ رجوعِهم من الظُّهور بحيثُ لا يحتاجُ إلى البيانِ قطعاً . ويجوزُ أن يكونَ الخطابُ أيضاً خاصّاً بالمنافقين على طريقةِ الالتفاتِ . وقُرىء يَرجعون مبنيّاً للفاعلِ { فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ } من الأعمال السَّيئةِ التي من جُملتها مخالفةُ الأمر فيرتِّب عليه ما يليقُ به من التَّوبيخ والجزاء ، وقد مرَّ وجهُ التَّعبيرِ عن الجزاء بالتنبئة في قوله تعالى : { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ } الآيةَ { والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ } لا يعزبُ عنه مثقالُ ذَرَّةٍ في الأرضِ ولا في السَّماءِ .
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : « مَن قرأَ سُورةَ النُّور أُعطي من الأجرِ عشرَ حسناتٍ بعددِ كلِّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ فيما مَضَى وفيما بَقِي » والله سبحانَهُ وتعالَى أعلمُ .(5/80)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
{ تَبَارَكَ الذى نَزَّلَ الفرقان } البركةُ النَّماءُ والزِّيادةُ حسيَّةً كانتْ أو معنويَّةً ، وكثرةُ الخيرِ ودوامُه أيضاً ونسبتُها إلى الله عزَّ وجلَّ على المَعْنى الأوَّل وهُو الأليقُ بالمقام باعتبار تعاليهِ عمَّا سواهُ في ذاته وصفاتِه وأفعالِه التي منْ جُمْلتها تنزيلُ القُرآنِ الكريمِ المُعجزِ النَّاطقِ بعلُوِّ شأنِه تعالى وسموِّ صفاتِه وابتناءِ أفعالِه على أساس الحِكَمِ والمصالحِ وخلوِّها عن شائبة الخَلَلِ بالكُلِّيةِ . وصيغةُ التَّفاعلُ للمبالغةِ فيما ذُكر فإنَّ ما لا يُتصوَّرُ نسبتُه إليهِ سبحانَهُ حقيقةً من الصِّيغ كالتَّكبر ونحوِه لا تُنسب إليه تعالى إلا باعتبار غايتِها . وعلى المعنى الثَّاني باعتبار كثرةِ ما يفيضُ منه على مخلوقاته لا سيَّما على الإنسان من فُنون الخيراتِ التي من جُملتها تنزيلُ القُرآن المنطويِ على جميع الخيراتِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ . والصِّيغةُ حينئذٍ يجوزُ أنْ تكونَ لإفادة نماءِ تلك الخيراتِ وتزايدها شيئاً فشيئاً وآناً فآناً بحسب حدوثِها أو حدوثِ متعلَّقاتِها . ولاستقلالِها بالدِّلالة على غايةِ الكمالِ وتحقُّقِها بالفعلِ والإشعارِ بالتَّعجُّبِ المناسبِ للإنشاءِ والإنباءِ عن نهاية التَّعظيمِ لم يجُز استعمالُها في حقِّ غيرِه تعالى ولا استعمالُ غيرِها من الصِّيغِ في حقِّه تعالى ، والفُرقان مصدرُ فرقَ بينَ الشَّيئينِ أي فصَل بينهُما سمِّيَ به القرآنُ لغاية فرقِه بين الحقِّ والباطلِ بأحكامه أو بينَ المُحقِّ والمبطلِ بإعجازِه أو لكونه مفصولاً بعضِه من بعضٍ في نفسه أو في إنزاله { على عَبْدِهِ } محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وإيرادُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بذلك العُنوانِ لتشريفه والإيذانِ بكونِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في أقصى مراتب العُبوديَّةِ والتنبيهِ على أنَّ الرَّسولَ لا يكونُ إلا عبداً للمرسِل ردًّا على النَّصارى { لِيَكُونَ } غايةٌ للتَّنزيل أي نزَّله عليه ليكونَ هو عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أو الفرقانُ { للعالمين } من الثَّقلينِ { نَذِيراً } أيْ مُنذراً أو إنذاراً مبالغةً أو ليكون تنزيلُه إنذاراً وعدمُ التَّعرضِ للتَّبشير لانسياق الكلامِ على أحوالِ الكَفَرةِ . وتقديمُ اللامِ على عاملِها لمراعاةِ الفواصلِ ، وإبرازُ تنزيل الفرقانِ في معرض الصِّلةِ التي حقُّها أن تكونَ معلومةَ الثُّبوت للموصولِ عند السَّامعِ مع إنكار الكَفَرةِ له لإجرائِه مُجرى المعلومِ المسلَّمِ تنبيهاً على كمال قُوَّةِ دلائلِه وكونِه بحيثُ لا يكادُ يجهلُه أحدٌ كقوله تعالى : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } { الذى لَهُ مُلْكُ السموات والأرض } أي له خاصَّة دُونَ غيرِه لا استقلالاً ولا اشتراكاً للسُّلطان القاهرِ والاستيلاءِ الباهرِ عليهما المستلزمانِ للقدرة التَّامَّةِ والتَّصرفِ الكليِّ فيهما وفيما فيهما إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة وأمراً ونهياً حسبما تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ على الحِكَمِ والمَصَالحِ ، ومحلُّه الرَّفعُ على أنَّه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ ، والجملةُ مستأنفةٌ مقررةٌ لما قبلها أو على أنَّه نعتٌ للموصولِ الأوَّلِ أو بيانٌ له أو بدلٌ منه وما بينهُمَا ليس بأجنبيَ لأنَّه من تمامِ صلتِه ، ومعلوميةُ مضمونِه للكَفرة ممَّا لا ريبَ فيه لقولِه تعالى :(5/81)
{ قُلْ مَن رَّبُّ السموات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } ونظائرِه أو مدحٌ له تعالى بالرَّفع أو بالنَّصب { وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً } كما يزعمُ الذين يقولون في حقِّ المسيحِ والملائكةِ ما يقولُون فسبحان الله عمَّا يصفون وهو معطوفٌ على ما قبلَه من الجملةِ الظَّرفيةِ ، ونظمه في سلك الصِّلةِ للإيذانِ بأنَّ مضمونَهُ من الوضوحِ والظُّهور بحيثُ لا يكادُ يجهله جاهلٌ لا سيَّما بعد تقرير ما قبله .
{ وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الملك } أي مُلكِ السَّمواتِ والأرضِ وهو أيضاً عطفٌ على الصِّلةِ وإفرادُه بالذِّكر مع أنَّ ما ذُكر من اختصاص ملكِهما به تعالى مستلزمٌ له قطعاً للتَّصريح ببُطلان زعم الثَّنويَّةِ القائلينِ بتعددِ الآلهةِ والدَّرءِ في نحورِهم ، وتوسيطُ نفيِ اتِّخاذِ الولدِ بينهُما للتنبيهِ على استقلالِه وأصالتِه والاحترازِ عن توهُّم كونِه تتمة للأوَّلِ { وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء } أي أحدثَ كلَّ موجودٍ من الموجوداتِ إحداثاً جارياً على سَنن التَّقديرِ حسبما اقتضتْهُ إرادتُه المبنيَّةُ على الحكم البالغةِ بأنْ خلقَ كُلاًّ منها من موادَّ مخصوصةٍ على صورٍ معينةٍ ورتَّب فيه قُوى وخواصَّ مختلفةَ الآثارِ والأحكامِ { فَقَدَّرَهُ } أي هيَّأه لما أرادَ به من الخصائص والأفعالِ اللاَّئقةِ به { تَقْدِيراً } بديعاً لا يُقادر قَدرُه ولا يُبلغ كُنهُه كتهيئة الإنسانِ للفهمِ والإدراكِ والنَّظرِ والتَّدبرِ في أمور المعاشِ والمعادِ واستنباطِ الصَّنائعِ المتنوعةِ ومزاولةِ الأعمالِ المختلفةِ وهكذا أحوالُ سائرِ الأنواعِ . وقيل : أُريد بالخَلْقِ مطلقَ الإيجادِ والإحداثِ مجازاً من غيرِ ملاحظةِ معنى التَّقديرِ وإنْ لم يخلُ عنه في نفس الأمر فالمعنى أوجدَ كلَّ شيء فقدَّره في ذلك الإيجاد تقديراً وأما ما قيل من أنَّه سَمَّى إحداثه تعالى خَلْقاً لأنَّه تعالى لا يُحدث شيئاً إلاَّ على وجه التَّقديرِ من غير تفاوت ففيه أنَّ ارتكابَ المجاز بحملِ الخلقِ على مُطلق الإحداثِ لتجريده عن معنى التَّقديرِ فاعتباره فيه بوجهٍ من الوجوه مخلٌّ بالمرام قطعاً ، وقيل : المراد بالتَّقدير الثَّانِي هو التَّقديرُ للبقاء إلى الأجل المُسمَّى وأيًّا ما كان فالجُملة جاريةٌ مجرى التَّعليلِ لما قبلها من الجُمل المنتظمةِ مثلَها في سلك الصِّلةِ فإنَّ خلقَهُ تعالى لجميع الأشياء على ذلك النَّمطِ البديعِ كما يقتضي استقلاله تعالى باتِّصافه بصفات الأُلوهيَّةِ يقتضي انتظامَ كلِّ ما سواه كائناً ما كان تحت ملكوتِه القاهر بحيثُ لا يشذُّ عنها شيء من ذلك قطعاً وما كان كذلك كيف يُتوهَّم كونه ولداً له سبحانه أو شريكاً في ملكه .(5/82)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
{ واتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً } بعدما بيَّن حقيقةَ الحقِّ في مطلع السُّورةِ الكريمة بذكر تنزيله تعالى للفُرقان العظيم على رسولِه صلى الله عليه وسلم ووصفِه تعالى بصفاتِ الكمال وتنزيهه عمَّا لا يليقُ بشأنه الجليل عقَّب ذلك بحكايةِ أباطيلِ المُشركين في حقِّ المنزِّل سبحانَهُ والمنزَّلِ والمُنزَلِ عليه على التَّرتيب وإظهارِ بُطلانها . والإضمارُ من غير جريان ذكرِهم للثقة بدلالة ما قبله من نفيِ الشَّريكِ عليهم أي اتَّخذوا لأنفسِهم متجاوزين الله تعالى الذي ذُكر بعضُ شؤونِه الجليلةِ من اختصاصِ مُلكِ السَّمواتِ والأرضِ به تعالى وانتفاءِ الولد والشَّريكِ عنه وخلقِ جميعِ الأشياء وتقديرِها أبدعَ تقديرٍ آلهة { لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا } أي لا يقدرون على خلق شيءٍ من الأشياءِ أصلاً { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } كسائر المخلوقاتِ وقيل : لا يقدرُون على أنْ يختلقُوا شيئاً وهم يُختلقون حيث تختلقهم عبدتُهم بالنَّحت والتَّصويرِ . وقولُه تعالى : { وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } لبيان ما لم يدلَّ عليه ما قبله من مراتبِ عجزِهم وضعفِهم فإنَّ بعضَ المخلوقين العاجزينَ عن الخلقِ رُبَّما يملك دفعَ الضُّرِّ وجلبَ النَّفعِ في الجملة كالحيوان وهؤلاءِ لا يقدرونَ على التَّصرفِ في ضُرَ ما ليدفعُوه عن أنفسِهم ولا في نفعٍ ما حتَّى يجلبوه إليهم فكيف يملكون شَيئاً منهما لغيرِهم . وتقديمُ ذكرِ الضُّرِّ لأنَّ دفعَه مع كونِه أهمَّ في نفسه أوَّلُ مراتبِ النَّفعِ وأقدمُها . والتَّنصيصُ على قولِه تعالى : { وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةًَ وَلاَ نُشُوراً } أي لا يقدرون على التَّصرفِ في شيءٍ منها بإماتةِ الأحياءِ وإحياءِ المَوْتى وبعثِهم بعد بيانِ عجزِهم عمَّا هو أهونُ من هذه الأمور من دفع الضُّرِّ وجلب النَّفعِ للتَّصريحِ بعجزهم عن كلَّ واحدٍ ممَّا ذُكر على التَّفصيلِ والتَّنبيهِ على أنَّ الإله يجبُ أنْ يكونَ قادراً على جميعِ ذلك . وفيه إيذانٌ بغايةِ جهلهِهم وسَخافةِ عقولِهم كأنَّهم غيرُ عارفين بانتفاء ما نُفي عن آلهتِهم من الأمورِ المذكُورةِ مفترقون إلى التَّصريح بذلك .(5/83)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ } شروعٌ في حكاية إباطيلِهم المتعلِّقةِ بالمنزَّلِ والمنزَّل عليه معاً وإبطالِها . والموصولُ إمَّا عبارةٌ عن غُلاتِهم في الكفر والطُّغيانِ وهم النَّضرُ بنُ الحارث ، وعبدُ اللَّهِ بنُ أُميَّةَ ، ونوفلُ بنُ خُويلدٍ ، ومَن ضامّهم . ورُوي عن الكَلْبيِّ ومُقاتلٍ أنَّ القائلَ هُو النَّضرُ بنُ الحارث . والجمعُ لمشايعةِ الباقين له في ذلك وإمَّا عن كلِّهم ، ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهم لذمِّهم بما في حيِّز الصِّلةِ والإيذانِ بأنَّ ما تفوَّهوا به كفرٌ عظيمٌ وفي كلمةِ ( هذا ) حطٌّ لرتبة المشارِ إليه أي ما هذا إلا كذبٌ مصروفٌ عن وجهِه { افتراه } يريدون أنَّه اختلقَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ } أي على اختلاقِه { قَوْمٌ ءاخَرُونَ } يعنُون اليَّهودَ بأنْ يُلقوا إليه أخبار الأممِ الدَّارجةِ وهو يعبِّر عنها بعبارتِه . وقيل : هما جبرٌ ويسارٌ كانا يصنعانِ السَّيفَ بمكَّةَ ويقرآنِ التَّوراةَ والإنجيلَ . وقيل : هو عابسٌ وقد مرَّ تفصيلُه في سورة النَّحلِ { فَقَدْ جاءُوا ظُلْماً } منصوبٌ بجاءوا فإنَّ جاءَ وأَتَى يستعملانِ في معنى فَعَل فيُعدَّيانِ تعديتَه أو بنزعِ الخافضِ أي بظلمٍ قاله الزَّجَّاجُ . والتَّنوينُ للتَّفخيمِ أي جَاءوا بما قالُوا ظلماً هائلاً عظيماً لا يُقادر قَدرُه حيث جعلُوا الحقَّ البحتَ الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديهِ ولا من خلفِه إفكاً مُفترى من قبل البشرِ وهو من جهة نظمِه الرَّائقِ وطرزه الفائقِ بحيث لو اجتمعتِ الإنسُ والجنُّ على مباراتِه لعجزُوا عن الإتيان بمثل آيةٍ من آياتِه ومن جهة اشتمالِه على الحِكَمِ الخفيَّةِ والأحكامِ المستتبعةِ للسَّعاداتِ الدِّينيةِ والدُّنيويَّةِ والأمور الغيبيَّةِ بحيثُ لا يناله عقولُ البشرِ ولا يفي بفهمه القُوى والقُدر { وَزُوراً } أي كذباً كبيراً لا يُبلغ غايتُه حيث نسبوا إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما هو بريءٌ منه . والفاء لترتيبِ ما بعدها على ما قبلها لكن لا على أنَّهما أمرانِ مُتغايرانِ حقيقة يقع أحدُهما عقيب الآخرِ أو يحصل بسببه بل على أنَّ الثَّانِي هو عينُ الأوَّلِ حقيقة وإنَّما التَّرتيبُ بحسب التَّغايرِ الاعتباريِّ . وقد لتحقيقِ ذلك المعنى فإنَّ ما جاءوه من الظَّلمِ والزُّورِ هو عينُ ما حُكي عنهم لكنه لما كان مُغايراً له في المفهوم وأظهرَ منه بُطلاناً رُتِّب عليه بالفاء ترتيبَ اللازم على الملزوم تَهويلاً لأمره .(5/84)
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)
{ وَقَالُواْ أساطير الأولين } بعد ما جعلوا الحقَّ الذي لا محيدَ عنه إفكاً مختلَقاً بإعانة البشرِ بيَّنوا على زعمهم الفاسدِ كيفيَّةَ الإعانةِ . والأساطيرُ جمع أسطارٍ أو أُسطورةٍ كأُحدوثةٍ وهي ما سطرَه المتقدِّمون من الخُرافاتِ { اكتتبها } أي كتبها لنفسِه على الإسناد المجازيِّ أو استكتبَها . وقُرىء على البناءِ للمفعولِ لأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أُميٌّ . وأصله اكتتبها له كاتبٌ فحذف اللامُ وأُفضيَ الفعلُ إلى الضَّميرِ فصار اكتتبَها إيَّاه كاتبٌ ثم حُذف الفاعلُ لعدم تعلُّقِ الغرضِ العلميِّ بخصوصِه وبُني الفعلُ للضَّميرِ المنفصلِ فاستترَ فيه { فَهِىَ تملى عَلَيْهِ } أي تُلقي عليه تلك الأساطيرُ بعد اكتتابِها ليحفظَها من أفواهِ مَن يُمليها عليه من ذلك المكتتب لكونِه أميّاً لا يقدرُ على أنْ يتلقَّاها منه بالقراءةِ أو تملي على الكاتب على أنَّ معنى اكتتبها أرادَ اكتتابَها أو استكتابَها . ورجعُ الضَّميرِ المجرورِ إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لإسنادِ الكتابةِ في ضمن الاكتتابِ إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ . { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي دائماً أو خُفية قبل انتشارِ النَّاسِ حين يأوون إلى مساكنِهم . انظُر إلى هذهِ الرُّتبةِ من الجراءةِ العظيمةِ قاتلهم الله أنَّى يُؤفكون .
{ قُلْ } لهم ردًّا عليهم وتحقيقاً للحقِّ { أَنزَلَهُ الذى يَعْلَمُ السر فِى السموات والأرض } وصفه تعالى بإحاطةِ علمِه بجميع المعلومات الجليَّةِ والخفيَّةِ للإيذان بانطواءِ ما أنزله على أسرارٍ مطويَّةٍ عن عقول البشر مع ما فيه من التَّعريضِ بمجازاتِهم بجناياتهم المحكيَّةِ التي هي من جُملة معلوماتِه تعالى أي ليس ذلك ممَّا يُفترى ويُفتعل بإعانة قومٍ وكتابة آخرين من الأحاديثِ المُلفَّقة وأساطيرِ الأوَّلينَ بل هو أمر سماويٌّ أنزله الله الذي لا يعزبُ عن علمه شيءٌ من الأشياءِ وأودع فيه فنونَ الحكمِ والأسرارِ على وجهٍ بديعٍ لا يحومُ حوله الأفهامُ حيث أعجزَكم قاطبةً بفصاحتِه وبلاغتِه وأخبركم بمغيَّباتٍ مستقبلةٍ وأمورٍ مكنونةٍ لا يُهتدى إليها ولا يُوقف عليها إلا بتوفيق العليم الخبيرِ وقد جعلتمُوه إفكاً مُفترى من قبيل الأساطير واستوجبتُم بذلك أنُ يُصَبَّ عليكم سوطُ العذابِ صبّاً . فقولُه تعالى : { إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } تعليلٌ لمَا هو المشاهد من تأخير العقوبة أي أنَّه تعالى أزلاً وأبداً مستمرٌّ على المغفرةِ والرَّحمةِ المستتبعين للتَّأخيرِ فلذلك لا يُعجِّلُ بعقوبتِكم على ما تقولون في حقِّه مع كمال استيجابِه إيَّاها وغاية قُدرتِه تعالى عليها .
{ وَقَالُواْ مَّالِ هذا الرسول } شروعٌ في حكاية جنايتهم المتعلِّقة بخصوصيَّةِ المنزَّلِ عليهِ . وما استفهاميَّةٌ بمعنى إنكار الوقوع ونفيه مرفوعةٌ على الابتداءِ خبرُها ما بعدها من الجارِّ والمجرورِ . وفي هذا تصغيرٌ لشأنه عليه الصَّلاة والسَّلام وتسميتُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ رسولاً بطريقِ الاستهزاءِ به عليه الصَّلاة والسَّلام كما قال فرعونُ : «إنَّ رسولَكم الذي أُرسل إليكُم لمجنون» ، وقولُه تعالى : { يَأْكُلُ الطعام } حالٌ من الرَّسولِ ، والعاملُ فيها ما عملَ في الجارِّ من معنى الاستقرارِ أيْ أيُّ شيءٍ وأيُّ سببٍ حصلَ لهذا الذي يدَّعي الرِّسالةَ حالَ كونِه يأكلُ الطَّعامَ كما نأكلُ { وَيَمْشِى فِى الأسواق } لابتغاءِ الأرزاقِ كما نفعلُه ، على توجيه الإنكار والنَّفي إلى السببِ فقط مع تحقُّقِ المُسبَّبِ الذي هو مضمون الجملة الحاليَّةِ كما في قوله تعالى :(5/85)
{ فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } وقوله : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } فكما أنَّ كلاًّ من عدمِ الإيمانِ وعدمِ الرَّجاءِ أمرٌ محقَّقٌ قد استبعد تحقُّقه لانتفاءِ سببِه بل لوجود سبب عدمِه خَلاَ أنَّ استبعادَ المسبَّبِ وإنكارَ السَّببِ ونفيَه في عدم الإيمان وعدم الرجاء بطريق التَّحقيقِ وفي الأكل والمشيِ بطريق التَّهكُّمِ والاستهزاء فإنَّهم لا يستبعدونهما ولا يُنكرون سببَهما حقيقةً بل هم مُعترفون بوجودِهما وتحقُّقِ سببِهما وإنَّما الذي يستبعدونَهُ الرِّسالةَ المُنافيةَ لهما على زعمِهم يعنون أنَّه إنْ صحَّ ما يدَّعيه فما بالُه لم يخالفْ حالُه حالَنا وهل هو إلا لعمهِهم ورَكَاكةِ عقولِهم وقصور أنظارهم على المحسُوسات فإنَّ تميُّزَ الرُّسلِ عمَّن عداهم ليس بأمورٍ جُسمانيَّةٍ وإنما هو بأمورٍ نفسانيَّةٍ كما أُشير إليه بقولِه تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ } { لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ } أي على صورتِه وهيئتِه { فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } تنزُّلٌ منهم من اقتراحِ أنْ يكونَ مَلَكاً مستغنياً عن الأكل والشُّربِ إلى اقتراح أنْ يكونَ معه مَلكٌ يصدِّقه ويكون رِدْءاً له في الإنذار وهو يُعبر عنه ويفسِّر ما يقوله للعامَّةِ .(5/86)
أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)
وقوله تعالى : { أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ } تنزُّلٌ من تلك المرتبةِ إلى اقتراح أنْ يُلقى إليه من السَّماءِ كنزٌ يستظهرُ به ولا يحتاجُ إلى طلب المعاشِ ويكون دليلاً على صدقه . وقولُه تعالى : { أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا } تنزُّلٌ من ذلك إلى اقتراحِ ما هو أيسرُ منه وأقربُ من الوقوع . وقُرىء نأكلُ بنون الحكايةِ وفيه مزيدُ مكابرةٍ وفَرط تَحكُّمٍ . { وَقَالَ الظالمون } هم القائلونَ الأوَّلونَ وإنما وضع المظهرِ موضعَ ضميرِهم تسجيلاً عليهم بالظُّلم وتجاوزِ الحدِّ فيما قالوه لكونه إضلالاً خارجاً عن حدِّ الضَّلالِ مع ما فيه من نسبته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى المَسْحُوريَّةِ أي قالُوا للمؤمنينَ : { إِن تَتَّبِعُونَ } أي ما تتبعون { إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا } قد سُحرَ فغُلبَ على عقلِه وقيل : ذَا سَحْرٍ وهي الرِّئةُ أي بَشراً لا مَلكاً على أنَّ الوصفَ لزيادة التَّقريرِ والأوَّلُ هو الأنسبُ بحالِهم .
{ انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال } استعظامٌ للأباطيل التي اجترؤُا على التَّفوه بها وتعجيبٌ منها أي انظُر كيف قالوا في حقِّك تلكَ الأقاويلَ العجيبةَ الخارجة عن العقول ، الجاريةَ لغرابتها مجرى الأمثالِ واخترعُوا لك تلك الصِّفاتِ والأحوالِ الشَّاذةَ البعيدة من الوقوعِ { فُضّلُواْ } أي عن طريقِ المُحاجّةِ حيث لم يأتُوا بشيءٍ يُمكن صدورُه عمَّن له أدنى عقلٍ وتمييزٍ فبقُوا مُتحيِّزين { فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً } إلى القدح في نبوتك بأنْ يجدوا قولاً يستقرُّون عليه وإنْ كان باطلاً في نفسِه أو فضلُّوا عن الحقِّ ضلالاً مبيناً فلا يجدون طريقاً موصِّلاً إليه فإنَّ مَن اعتاد استعمال أمثال هذه الأباطيلِ لا يكادُ يهتدِي إلى استعمال المقدِّماتِ الحقَّةِ .(5/87)
تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)
{ تَبَارَكَ الذى } أي تكاثرَ وتزايدَ خيرُ الذي { إِن شَاء جَعَلَ لَكَ } في الدُّنيا عاجلاً شيئاً { خَيْرًا } لك { مّن ذلك } الذي اقترحُوه مِن أنْ يكون لك جنَّةٌ تأكل منها بأنْ يجعلَ لك مثل ما وعدك في الآخرةِ . وقولُه تعالى : { جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } بدلٌ من خَيراً ومحقق لخيريتِّةِ مَّما قالُوا لأنَّ ذلك كان مُطلقاً عن قيدِ التَّعددِ وجريان الأنهارِ { وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً } عطفٌ على محلِّ الجزاء الذي هو جعلَ وقُرىء بالرَّفعِ عطفاً على نفسِه لأنَّ الشرَّطَ إذا كان ماضياً جاز في جزائِه الرَّفعُ والجزمُ كما في قولِ القائل
وَإِنْ أَتَاهُ خَليلٌ يَوْمَ مَسْأَلة ... يقُولُ لا غَائبٌ مالِي ولا حرِمُ
ويجوزُ أنْ يكون استئنافاً بوعدِ ما يكون له في الآخرةِ . وقُرىء بالنَّصبِ على أنَّه جوابٌ بالواوِ . وتعليقُ ذلك بمشيئتِه تعالى للإيذانِ بأنَّ عدمَ جعلها بمشيئته المبنيَّةِ على الحِكَمِ والمصالحِ ، وعدمُ التعَّرضِ لجواب الاقتراحينِ الأوَّلينِ للتنبيه على خروجِهما عن دائرة العقل واسغنائِهما عن الجواب لظهورِ بُطلانِهما ومنافاتِهما للحكمة التَّشريعيَّةِ وإنَّما الذي له وجهٌ في الجملة هو الاقتراحُ الأخيرُ فإنَّه غير منافٍ للحكمة بالكلِّيةِ فإنَّ بعضَ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ قد أُوتوا في الدُّنيا مع النُّبوةِ مُلكاً عظيماً .
{ بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة } إضرابٌ عن توبيخهم بحكايةِ جنايتهم السَّابقةِ وانتقالٌ منه إلى توبيخِهم بحكاية جنايايتِهم الأخرى للتَّخلُّص إلى بيان ما لهم في الآخرة بسبها من فُنون العذابِ بقوله تعالى : { وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً } الخ أي أعتدنا لهم ناراً عظيمةً شديدةَ الاشتعالِ شأنُها كيتَ وكيتَ بسبب تكذيبهم بها على ما يُشعر به وضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهم أو لكلِّ مَن كذَّب بها كائناً من كان وهم داخلون في زُمرتهم دخولاً أوليَّا . ووضعُ السَّاعة موضعَ ضميرهِا للمبالغةِ في التَّشنيع ومدارُ اعتياد السَّعيرِ لهم وإنْ لم يكن مجرَّد تكذيبهم بالسَّاعةِ بل مع تكذيبهم بسائر ما جاء به الشَّريفة لكن السَّاعةَ لمَّا كانتْ هي العلَّةَ القريبة لدخولِهم السَّعيرَ أُشير إلى سببيَّةِ تكذيبها لدخولِها . وقيل : هو عطفٌ على وقالُوا ما لهذا الخ على معنى بل أتوا بأعجبَ من ذلك حيثُ كذَّبوا بالسَّاعةِ وأنكروها والحالُ أنَّا قد أعتدنا لكلِّ مَن كذَّب بها سعيراً فإنَّ جراءتَهم على التَّكذيب بها وعدمَ خوفِهم مَّما أُعدَّ لمن كذَّب بها من أنواعِ العذابِ أعجبُ من القولِ السَّابقِ وقيل : هو مُتَّصل بما قبلَه من الجوابِ المبنيِّ على التَّحقيقِ المنبىء عن الوعدِ بالجنَّاتِ في الآخرةِ مسوق لبيان أنَّ ذلك لا يجُدي نفعاً ولا يحلى بطائل على طريقةِ قولِ مَن قال
عُوجُوا لنُعمٍ فَحَيُّوا دِمنَةَ الدَّار ... مَاذَا تُحيُّون مِنْ نُؤيٍ وأحجارِ
والمعنى أنَّهم لا يُؤمنون بالسَّاعةِ فكيفَ يقتنعُون بهذا الجوابِ وكيف يُصدِّقون بتعجيل مثلِ ما وعدك في الآخرةِ وقيل : المعنى بل كذَّبوا بها فقصُرت أنظارُهم على الحظوظِ الدُّنيوَّيةِ وظنُّوا أنَّ الكرامة ليستْ إلا بالمالِ وجعلُوا فقرك ذريعةً إلى تكذيبك .(5/88)
إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
وقولُه تعالى : { إِذَا رَأَتْهُمْ } الخ صفة للسَّعيرِ أي إذا كانت بمرأى الناظرِ في البُعد كقولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « لا تَتَراءَى نارَاهُما » أيْ لا تتقاربانِ بحيثُ تكونُ إحدهُما بمرأى مِن الأُخرى على المجاز كأنَّ بعضَها يرى البعضَ . ونسبةُ الرُّؤيةِ إليها لا إليهم للإيذان بأنَّ التَّغيظَ والزَّفيرَ منها لهيجان غضبِها عليهم عند رُؤيتها إيَّاهم حقيقةً أو تمثيلاً . ومِن في قوله تعالى : { مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ } إشعارٌ بأنَّ بُعدَ ما بينهما وبينهم من المسافة حين رأتهُم خارجٌ عن حدود البُعدِ المعتاد في المسافات المعهودةِ وفيه مزيدُ تهويلٍ لأمرها . قال الكَلْبيُّ والسُّدِّيُّ . من مسيرةِ عامٍ وقيل : من مسيرة مائةِ سنةٍ { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } أي صوتُ تغيظٍ على تشبيه صوتِ غليانها بصوتِ المُغتاظِ وزفيرِه وهو صوتٌ يُسمع من جوفِه . هذا وإن الحياةَ لمَّا لم تكُن مشروطةً عندنا بالبنية أمكن أنْ يخلقَ الله تعالى فيها حياةً فترى وتتغيظُ وتزفرُ ، وقيل : إنَّ ذلك لزبانيتها فنُسب إليها على حذفِ المضافِ .
{ وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً } نُصبَ على الظَّرفَّيةِ ومنها حالٌ منه لأنَّه في الأصلِ صفةٌ له { ضَيّقاً } صفةٌ لمكاناً مفيدةٌ لزيادة شدَّةٍ فإنَّ الكَرْبَ مع الضَّيقِ كما أنَّ الرَّوحَ مع السَّعةِ ، وهو السِّرُّ في وصف الجنَّةِ بأنَّ عرضَها السَّمواتُ الأرضُ . وعن ابن عبَّاس وابنِ عُمر رضي الله تعالى عنهم : تضيقُ جهنَّمُ عليهم كما يضيقُ الزُّجُّ على الرُّمحِ . وسُئل النبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلامُ عن ذلك فقال : « والذي نفسي بيدهِ إنَّهم ليُستكرهون في النَّارِ كما يُستكرِه الوَتِدُ في الحائطِ » . قال الكلبيُّ : الأسفلُون يرفعهم اللَّهبُ والأعْلوَن يحطُّهم الدَّاخلونَ فيزدحمُون فيها . وقُرىء ضَيْقاً بسكون الياء . { مُقْرِنِينَ } حالٌ من مفعول أُلقوا أي أُلقوا منها مكاناً ضَيِّقاً حالَ كونِهم مقرَّنين قد قُرنت أيديهم إلى أعناقهم بالجوامَع وقيل : مقرَّنين مع الشَّياطين في السَّلاسلِ ، كلُّ كافرٍ مع شيطانٍ وفي أرجلهم الأصفادُ { دَعَوْاْ هُنَالِكَ } أي في ذلك المكانِ الهائلِ والحالةِ الفظيعةِ { ثُبُوراً } أي يتمنَّون هلاكاً وينادُونه يا ثبُوراه تعالَ فهذا حِينُك وأوانُك .
{ لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً واحدا } على تقدير قول إمَّا منصوبٌ على أنَّه حالٌ من فاعلِ دَعَوا أي دَعَوه مقُولاً لهم ذلك حقيقة بأنْ يخاطبهم الملائكةُ به لتنبيههم على خلودِ عذابِهم وأنَّهم لا يُجابون إلى ما يَدْعُونه ولا ينالون ما يتمنَّونه من الهلاكِ المنجِّي ، أو تمثيلاً وتصويراً لحالهم بحال مَن يُقال له ذلك من غير أنْ يكونَ هناك قولٌ ولا خطابٌ أي دَعَوه حالَ كونِهم أحِقَّاءَ بأنْ يُقال لهم ذلك . وإمَّا مُستأنفٌ وقع جواباً عن سؤال ينسحبُ عليه الكلامُ كأنَّه قيل : فماذَا يكونُ عند دُعائِهم المذكورِ فقيل يُقال لهم ذلك إقناطاً مَّما علَّقوا به أطماعَهم من الهلاك وتنبيهاً على أنَّ عذابهم الملجيءَ لهم إلى استدعاء الهلاكِ بالمَّرةِ أبديٌّ لا خلاصَ لهم منه أيْ لا تقتصِرُوا على دُعاء ثبورٍ واحدٍ { وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً } أي بحسب كثرة الدُّعاء المتعلِّق به لا بحسب كثرتِه في نفسِه فإنَّ ما يدعونَه ثبورٌ واحدٌ في حدِّ ذاته لكنه كلَّما تعلَّق به دعاءٌ من تلك الأدعية الكثيرةِ صارَ كأنَّه ثبورٌ مغايرٌ لما تعلَّق به دعاءٌ آخرُ منها وتحقيقُه لا تدعُوه دُعاءً واحداً وادعُوه أدعيةً كثيرةً فإنَّ ما أنتُم فيه من العذابِ لغايةِ شدَّتِه وطولِ مُدَّتِه مستوجبٌ لتكرير الدُّعاءِ في كلِّ آنٍ وهذا أدلُّ على فظاعة العذابِ وهوله جعل تعدد الدُّعاءِ وتجدده لتعدد العذاب بتعدد أنواعه وألوانِه أو لتعدُّدِه بتجدُّدِ الجلودِ كما لا يَخْفى .(5/89)
وأمَّا ما قيل : مِن أنَّ المعنى إنَّكم وقعتُم فيما ليس ثبورُكم فيه واحداً إنَّما هو ثبورٌ كثيرٌ ، إمَّا لأنَّ العذابَ أنواعٌ وألوانٌ كلُّ نوعٍ منها ثبورٌ لشدَّتِه وفظاعتِه أو لأنَّهم كلمَّا نضجتْ جلودُهم بُدِّلوا غيرَها فلا غاية لهلاكِهم فلا يلائم المقامَ كيف لا وهُم إنَّما يدعُون هَلاَكاً ينهي عذابَهم ويُنجيِّهم منه فلا بُدَّ أنْ يكونَ الجوابُ إقناطاً لهم من ذلك ببيانِ استحالتِه ودوام ما يوجبُ استدعاءَه من العذاب الشَّديدِ ، وتقييدُ النَّهي والأمر باليوم لمزيد التَّهويل والتَّفظيعِ والتَّنبيهِ على أنَّه ليس كسائر الأيَّامِ المعهُودةِ .(5/90)
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
{ قُلْ } تقريعاً لهم وتهكُّماً بهم وتحسيراً على ما فاتَهم { أذلك } إشارةٌ إلى ما ذُكر من السَّعير باعتبار اتَّصافها بما فُصِّل من الأحوال الهائلة ، وما فيه من معنى البُعد للإشعار بكونها في الغاية القاصيةِ من الهول والفظاعةِ أي قُل لهم أذلك الذي ذُكر من السَّعير التي أعتدت لمن كذَّب بالسَّاعة وشأنُها كيتَ وكيتَ وشأنُ أهلِها ذيتَ وذيتَ { خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد التى وَعِدَ المتقون } أي وُعدها المتَّقون . وإضافةُ الجَّنةِ إلى الخُلد للمدحِ وقيل : للتَّمييز عن جنَّاتِ الدُّنيا . والمرادُ بالمتَّقين المتَّصفون بمطلق التقَّوى لا بالمرتبة الثَّانيةِ أو الثَّالثةِ منها فَقَطْ { كَانَتْ } تلك الجَّنةُ { لَهُمْ } في علم الله تعالى أو في اللَّوح المحفوظِ أو لأنَّ ما وعده الله تعالى فهو كائنٌ لا محالةَ فحُكي تحقُّقه ووقوعُه { جَزَاء } على أعمالِهم حسبما مرَّ من الوعد الكريم { وَمَصِيراً } ينقلبون إليه .
{ لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ } أي ما يشاءونه من فنُون الملاذِّ والمُشتَهيات وأنواع النَّعيمِ كما في قولِه تعالى : { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ } ولعلَّ كلَّ فريقٍ منهم يقتنعُ بما أُتيح له من درجات النَّعيم ولا تمتدُّ أعناقُ هممِهم إلى ما فوق ذلك من المراتبِ العاليةِ فلا يلزم الحرمانُ ولا تساوي مراتبِ أهلِ الجنانِ { خالدين } حالٌ من الضَّمير المستكِّنِ في الجارِّ والمجرورِ لاعتماده على المبتدأ وقيل : من فاعل يشاءون { كَانَ } أي ما يشاؤنه وقيل : الوعدُ المدلولُ عليه بقوله تعالى وُعد المتقَّون { على رَبّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً } أي موعُوداً حقيقيَّا بأنْ يُسألَ ويُطلبَ لكونِه مَّما يتنافسُ فيه المُتنافسون أو مسؤولاً لا يسألُه النَّاسُ في دُعائهم بقولِهم ربنا وآتنا ما وعدتنا على رُسلك أو الملائكة بقولهم ربنا وأدخلهم جنَّاتِ عدن التي وعدتهم ، وما في على من معنى الوجوبِ لامتناع الخُلفِ في وعدِه تعالى ولا يلزم منه الإلجاءُ إلى الإنجازِ فإنَّ تعلَّق الإرادة بالموعودِ متقدِّمٌ على الوعدِ الموجبِ للإنجاز ، وفي التَّعرضِ لعُنوان الرُّبوبِّيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه الصَّلاة والسَّلام من تشريفه والإشعارِ بأنه عليه الصَّلاة والسَّلام هو الفائزُ آثر ذي أثيرٍ بمغانم الوعدِ الكريمِ ما لا يَخفْى .(5/91)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } نُصب على أنَّه مفعول لمضمرٍ مقدَّمٍ معطوف على قولِه تعالى قل أذلك الخ أي لهم بعد التَّقريعِ والتَّحسيرِ يوم يحشرهم الله عزَّ وجلَّ . وتعليقُ التَّذكيرِ باليوم مع أنَّ المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادثِ الهائلةِ قد مرَّ وجُهه غيرَ مرَّةٍ أو على أنَّه ظرفٌ لمضمرٍ مؤخَّرٍ قد حُذف للتَّنبيةِ على كمال هولِه وفظاعةِ ما فيه والإيذانِ بقُصورِ العبارةِ عن بيانِه أي يومَ يحشرُهم يكون من الأحوالِ والأهوالِ ما لا يفي ببيانِه المقالُ . وقُرىء بنونِ العظمةِ بطريقِ الالتفاتِ من الغَيبةِ إلى التَّكلمِ وبكسرِ الشِّينِ أيضاً { وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } أُريد به ما يعمُّ العقلأَ وغيرَهم إمَّا لأنَّ كلمةَ ما موضوعةٌ للكلِّ كما ينبىء عنه أنك إذا رأيت شَبَحاً من بعيدٍ تقولُ ما هو أو لأنَّه أُريد به الوصفُ لا الذَّاتُ كأنَّه قيل : ومعبوديهم أو لتغليب الأصنامِ على غيرِها تنبيهاً على أنَّهم مثلُها في السُّقوطِ عن رُتبةِ المعبودَّيةِ أو اعبتاراً لغلبة عبدتِها أو أُريد به الملائكةُ والمسيحُ وعزيرٌ بقرينةِ السُّؤالِ والجوابِ أو الأصنامُ ينطقها الله تعالى أو تكلُّم بلسانِ الحالِ كما قيل : في شهادةِ الأيدِي والأرجلِ . { فَيَقُولُ } أي الله عزَّ وجلَّ للمعبودينَ إثرَ حشرِ الكلِّ تقريعاً للعَبَدةِ وتبكيتاً لهم . وقُرىء بالنُّون كما عُطف عليه . وقُرىء هذا بالياء والأولُ بالنُّون على طريق الالتفاتِ إلى الغَيْبةِ { ءَأنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَؤُلاَء } بأنْ دعوتُموهم إلى عبادتِكم كما في قوله تعالى : { قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ } { أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل } أي عن السَّبيلِ بأنفسِهم لإخلالِهم بالنَّظر الصَّحيحِ وإعراضهم عن المرشدِ فحذف الجارَّ وأوصل الفعلُ إلى المفعول كقوله تعالى وهو يهدِي السَّبيلَ والأصلُ إلى السَّبيلِ أو للسَّبيلِ وتقديم الضَّميرينِ على الفعلينِ لأنَّ المقصودَ بالسُّؤالِ هو المُتصدَّي للفعل لا نفسُه .
{ قَالُواْ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأَ من حكاية السُّؤالِ كأنَّه قيل : فماذا قالوا في الجواب فقيل قالوا { سبحانك } تعجُّباً ممَّا قيل لهم لأنَّهم إمَّا ملائكةٌ معصومون أو جماداتٌ لا قُدرةَ لها على شيءٍ أو إشعاراً بأنَّهم الموسُومون بتسبيحِه تعالى وتوحيدِه فكيف يتأتَّى منهم إضلالُ عبادِه ، أو تنزيهاً له تعالى عن الأندادِ { مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا } أي ما صحَّ وما استقام لنا { أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ } أي متجاوزينَ إيَّاك { مِنْ أَوْلِيَاء } نعبدُهم لِما بنا من الحالةِ المُنافيةِ له فأنَّى يُتصوَّرُ أنْ نحملَ غيرَها على أنْ يتَّخذَ ولياً غيرَك فضلاً أنْ يتخذنا وليَّاً وأنْ نتخذَ من دونك أولياءَ أي أتباعاً فإنَّ الولي كما يُطلق على المتبوعِ يُطلق على التَّابعِ كالمَوْلى يُطلق على الأَعلى والأسفلِ ومنه أولياءُ الشَّيطانِ أي أتباعُه .(5/92)
وقُرىء على البناءِ للمفعولِ من المتعدِّي إلى مفعولينِ كما في قوله تعالى : { واتخذ الله إبراهيم خَلِيلاً } ومفعوله الثَّاني من أولياء على أنَّ مِن للتبعيضِ أي أنْ نتخذَ بعضَ أولياءٍ وهي على الأول مزيدةٌ . وتنكيرُ أولياء من حيثُ إنَّهم أولياء مخصوصون وهم الجنُّ والأصنام { ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ } استدراك مسوقٌ لبيان أنَّهم هم الضَّالُّون بعد بيان تنزههم عن إضلالهم ، وقد نُعي عليهم سوءُ صنيعِهم حيث جعلُوا أسبابَ الهداية أسباباً للضَّلالة أي ما أضللناهم ولكنَّك متعتهم وآباءَهم بأنواع النِّعم ليعرفوا حقَّها ويشكروها فاستغرقُوا في الشَّهواتِ وانهمكُوا فيها { حتى نَسُواْ الذكر } أي غفَلوا عن ذكرِك أو عن التَّذكرِ في آلائِك والتَّدبرِ في آياتِك فجعلُوا أسبابَ الهداية بسوء اختيارِهم ذريعةً إلى الغَوايةِ { وَكَانُواْ } أي في قضائِك المبنيِّ على علمِك الأزليِّ المتعلق بما سيصدرُ عنهم فيما لا يزال باختيارِهم من الأعمالِ السَّيئةِ { قَوْماً بُوراً } أي هالكين على أنَّ بُوراً مصدرٌ وُصف به الفاعلُ مبالغةً ولذلك يستوى فيه الواحدُ والجمعُ أو جمعُ بائرٍ كعُوذٍ في جمعِ عائذٍ . والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ لمضمونِ ما قبله .(5/93)
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
وقوله تعالى : { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ } حكايةٌ لاحتجاجِه تعالى على العَبَدة بطريق تلوين الخطابِ وصرفه عن المعبودينَ عند تمام جوابِهم وتوجيهه إلى العَبَدة مبالغةٌ في تقريعهم وتبكيتِهم على تقديرِ قولٍ مرتَّبٍ على الجواب أي فقال الله تعالى عند ذلك فقد كذَّبوكم المعبودون أيُّها الكفرةُ { بِمَا تَقُولُونَ } أي في قولِكم إنَّهم آلهةٌ وقيل : في قولكم هؤلاء أضلُّونا ويأباه أنَّ تكذيبَهم في هذا القول لا تعلق له بما بعَدُه من عدم استطاعتِهم للصَّرف والنصر أصلاً ، وإنما الذي يستتبُعه تكذيبُهم في زعمهم أنَّهم آلهتهم وناصروهم ، وأيَّا ما كان فالباءُ بمعنى في أو هي صلةٌ للتكذيب على أنَّ الجارَّ والمجرورَ بدلُ اشتمالٍ من الضَّمير المنصوب . وقُرىء بالياء أي كَذبوكم بقولهم سبحانك الآيةَ { فَمَا تَسْتَطِيعُونَ } أي ما تملكُون { صَرْفاً } أي دفعاً للعذاب عنكم بوجهٍ من الوجوه كما يُعرب عنه التَّنكيرُ أي لا بالذَّاتِ ولا بالواسطة وقيل : حيلةً من قولهم إنَّه ليتصرف في أموره أي يحتالُ فيها وقيل : توبة { وَلاَ نَصْراً } أي فرداً من أفراد النَّصر لا من جهةِ أنفسِكم ولا من جهةِ غيرِكم . والفاءُ لترتيبِ عدمِ الاستطاعةِ على ما قبلها من التَّكذيبِ لكن لا على أنَّه لولاه لوُجدتْ الاستطاعةُ حقيقةً بل في زعمِهم حيثُ كانُوا يزعمون أنَّهم يدفعون عنهم العذابَ وينصرونهم ، وفيه ضربُ تهكُّمٍ بهم . وقُرىء يستطيعون على صيغة الغَيبةِ أي ما يستطيعُ آلهتُكم أنْ يصرفوا عنكم العذابَ أو يحتالُوا لكم ولا أنْ ينصروكم ، وترتب ما بعد الفاء على ما قبلَها كما مرَّ بيانُه { وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ } أيُّها المكلَّفون كدأبِ هؤلاءِ حيث ركبُوا متنَ المُكابرة والعناد واستمرُّوا على ماهم عليه من الفساده وتجاوزوا في اللجاجِ كلَّ حدَ معتادٍ { نُذِقْةُ } في الآخرة { عَذَاباً كَبِيراً } لا يُقادر قدرُه ، وهو عذابُ النَّارِ . وقُرىء يُذقه على أنَّ الضَّمير لله سبحانه وتعالى وقيل لمصدر الفعلِ الواقعِ شرطاً . وتعميمُ الظُّلمِ لا يستلزمُ اشتراكَ الفاسقِ للكافر في إذاقة العذابِ الكبيرِ فإنَّ الشَّرطَ في اقتضاء الجزاءِ مقيَّدٌ بعدمِ المُزاحمِ وفاقاً وهو التَّوبةُ ، والإحباطِ بالطَّاعةِ إجماعاً وبالعفوِ عندنا .(5/94)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)
{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِى الأسواق } جوابٌ عن قولهم : { مَا لهذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى فِى الأسواق } والجملةُ الواقعةُ بعد إلاَّ صفةٌ لموصوفٍ قد حُذف ثقةً بدلالة الجارِّ والمجرورِ عليه وأقيمتْ هي مقامَه كما في قوله تعالى : { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } والمعنى ما أرسلَنا أحداً قبلكَ من المُرسلين إلا آكلينَ وماشينَ وقيل : في حالٌ ، والتَّقديرُ إلاَّ وإنَّهم ليأكلون الخ وقُرىء يُمشَون على البناء للمفعول أي يُمشيهم حوائجُهم أو النَّاسُ . { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ } تلوينٌ للخطاب بتعميمِه لسائر الرُّسلِ عليهم الصَّلاةُ والسلامُ بطريق التَّغليبِ ، والمرادُ بهذا البعضِ كفَّارُ الأممِ فإنَّ اختصاصَهم بالرُّسل وتبعيتهم لهم مصحِّحٌ لأنْ يعدُّوا بعضاً منهم وبما في قوله تعالى : { لِبَعْضٍ } رسلِهم لكن لا على معنى جعلنا مجموعَ البعضِ الأولِ { فِتْنَةً } أي ابتلاءً ومحنةً لمجموعِ البعض الثَّاني ولا على معنى جعلنا كلَّ فردٍ من أفراد البعض الأول فتنةً لكلِّ فردٍ من أفراد البعض الثَّاني ولا على معنى جعلنا بعضاً مُبهماً من الأوَّلينَ فتنةً لبعضٍ مُبهمٍ من الآخرين ضرورةَ أنَّ مجموعَ الرُّسل من حيثُ هو مجموعٌ غيرُ مفتونٍ بمجموعِ الأُممِ ولا كلُّ فردٍ منهم بكلِّ فردٍ من الأمم ولا بعض مبهمٌ من الأوَّلين لبعضِ مُبهمٍ من الآخرينَ بل على معنى جعلنا كلَّ بعضً مُعيَّنٍ من الأُمم فتنةً لبعض معَّين من الرُّسلِ كأنَّه قيل : وجعلنا كلَّ أمَّةٍ مخصوصةٍ من الأُممِ الكافرةِ فتنةً لرسولِها المعيَّنِ المبعوثِ إليها وإنَّما لم يُصرِّح بذلك تعويلاً على شهادةِ الحالِ . هذا وأمَّا تعميمُ الخطابِ لجميع المكلَّفين وإبقاء البعضين على العمومِ والإبهامِ على معنى وجعلنا بعضَكم أيُّها فتنةً لبعضٍ آخرَ منكم فيأباهُ قولُه تعالى : { أَتَصْبِرُونَ } فإنَّه غايةٌ للجعلِ المذكورِ ، ومن البيِّنِ أنْ ليسَ ابتلاءُ كلِّ أحدٍ من آحادِ النَّاسِ مُغيًّا بالصَّبرِ بل بما يناسبُ حالَه على أنَّ الاقتصارَ على ذكرهِ من غير تعرّض لمعالٍ له مما يدلُّ على أنَّ الَّلائقَ بحال المفتونينَ والمتوقع صدورُه عنهم هو الصَّبرُ لا غيرُ ، فلا بُدَّ أنْ يكونَ المرادُ بهم الرُّسلَ فيحصل به تسليتُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فالمعنى جرتْ سُنَّتنا بموجب حكمتِنا على ابتلاءِ المُرسلينَ بأممِهم وبمناصبتهم لهم العداوةَ وإيذائهم لهم وأقاويلِهم الخارجةِ عم حُدودِ الإنصاف لنعلمَ صبرَكم . وقوله تعالى : { وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } وعدٌ كريم للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالأجرِ الجزيلِ لصبرِه الجميلِ مع مزيدِ تشريفٍ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالالتفاتِ إلى اسمِ الرَّبِّ مُضافاً إلى ضميرِه صلى الله عليه وسلم .
{ وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } شروعٌ في حكايةِ بعضٍ آخر من أقاويلِهم الباطلةِ وبيانِ بُطلانِها إثرَ إبطالِ أباطيلهم السَّابقةِ . والجملةُ معطوفةٌ على قولِه تعالى :(5/95)
{ وَقَالُواْ مَا لهذا الرسول } الخ ووضعُ الموصولِ موضعَ الضَّمير للتَّنبيهِ بما في حيِّز الصِّلة على أنَّ ما يُحكى عنهم من الشَّناعةِ بحيثُ لا يصدرُ عمَّن يعتقدُ المصيرَ إلى الله عزَّ وجلَّ . ولقاءُ الشَّيءِ عبارةٌ عن مصادفتهِ من غيرِ أنْ يمنعَ مانعٌ من إدراكِه بوجهٍ من الوجوهِ ، والمرادُ بلقائِه تعالى إمَّا الرُّجوعُ إليه تعالى بالبعثِ والحشرِ أو لقاءُ حسابه تعالى كما في قوله تعالى : { إِنّى ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ } وبعدم رجائِهم إيَّاه عدمُ توقُّعهم له أصلاً لإنكارِهم البعث والحساب بالكليِّة لا عدمُ أملِهم حسنَ اللقاءِ ولا عدمُ خوفِهم سوءَ اللقَّاءِ لأنَّ عدمَهما غيرُ مستلزمٍ لما هم عليه من العُتوِّ والاستكبار وإنكارِ البعثِ والحسابِ رأساً أي وقال الذَين لا يتوقعَّون الرَّجوعَ إلينا أو حسابَنا المؤدِّيَ إلى سُوءِ العذابِ الذي تستوجب . مقالتُهم { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملائكة } أي هلاَّ أُنزلوا علينا بطريق ليخبرونَا بصدقٍ محمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيل : هَلاَّ أُنزلوا علينا الرِّسالةِ وهو الأنسب لقولِهم { أَوْ نرى رَبَّنَا } من حيثُ أنَّ كلا القولينِ ناشىءٌ عن غايةِ غُلوهم في المُكابرةِ والعُتوِّ حسبما يَعربُ عنه قولُه تعالى { لَقَدِ استكبروا فِى أَنفُسِهِمْ } أي في شأنِها حتَّى اجترأوا على التَّفوه بمثل هذه العظيمةِ الشَّنعاءِ { وَعَتَوْا } أي تجاوزُوا الحدَّ في الظُّلم والطُّغيانِ { عُتُوّاً كَبِيراً } بالغاً أقصَى غاياتَه حيثُ أمَّلوا نيلَ مرتبةِ المفاوضةِ الإلهيةِ من غير توسطِ الرَّسولِ والمَلك كما قالوا : { لَوْلاَ يُكَلّمُنَا الله } ولم يكتفُوا بما عاينوا من المعجزاتِ القاهرة التي تخرُّ لها صمُّ الجبالِ فذهبْوا في الاقتراح كلَّ مذهبٍ حتَّى منَّتهم أنفسُهم الخبيثةُ أمانيَّ لا تكادُ ترنو إليها أحداقُ الأممِ ولا تمتدُّ إليها أعناقُ الهمم ولا ينالُها إلا أولُو العزائم الماضيةِ من الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ . واللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي والله لقد استكبروا الآيةَ وفيه من الدِّلالةِ على غايةِ قُبح ما هُم عليه والإشعارِ بالتَّعجبِ من استكبارِهم وعُتوِّهم ما لا يخفى .(5/96)
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)
{ يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة } استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ ما يلقَونه عند مشاهدتِهم لما اقترحُوه من نزول الملائكةِ عليهم السَّلامُ بعد استعظامِه وبيانِ كونِه في غاية ما يكون من الشَّناعة وإنمَّا قيلَ يوم يَرَون دُون أنْ يقالَ يومَ ينزلُ الملائكةُ إيذاناً من أوَّلِ الأمر بأنَّ رؤيتَهم لهم ليست على طريقِ الإجابةِ إلى ما اقترحُوه بل على وجهٍ آخرَ غيرِ معهودٍ . ويومَ منصوبٌ على الظَّرفية بما يدلُّ عليه قولُه تعالى { لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ } فإنَّه في معنى لا يُبشَّر يومئذٍ المُجرمون والعُدولُ إلى نفيِ الجنسِ للمبالغةِ في نفيِ البُشرى . وما قيل : من أنَّه بمعنى يمُنعون البُشرى أو يعُدمونها تهوينٌ للخطيبِ في مقام التَّهويل فإنَّ منعَ البُشرى وفقدانُها مُشعرانِ بأنَّ هناك بُشرى يمنعونَها أو يفقِدونها . وأينَ هذا من نفيها بالكُليِّة وحيثُ كان نفيُها كنايةً عن إثباتِ ضدِّها كما أنَّ نفيَ المحبَّةِ في مثلِ قولِه تعالى : { فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين } كنايةٌ عن البُغض والمَقْتِ دلَّ على ثبوت النَّذرى لهم على أبلغِ وجهٍ وآكدِه وقيل : منصوب بفعلٍ مُقدَّر يُؤكِّده بشرى على أنَّ لا غير نافية للجنسِ وقيل : منصوب على المفعوليَّةِ بمضمرٍ مقدَّمٍ عليه أي اذكُر يومَ رؤيتهم الملائكةَ ويومئذٍ على كلِّ حالٍ تكريرٌ للتأكيد والتَّهويلِ مع ما فيه من الإيذانِ بأنَّ تقديمَ الظَّرفِ للاهتمامِ لا لقصرِ نفيِ البُشرى على ذلك الوقتِ فقط فإنَّ ذلك مخلٌّ بتفظيعِ حالِهم ، وللمجرمين تبيين على أنَّه مظهرٌ وُضع موضعَ الضَّميرِ تسجيلاً عليهم بالإجرام مع ما هم عليه من الكفر وحملُه على العموم بحيثُ يتناول فسَّاقَ المؤمنين ثم الالتجاءُ في إخراجِهم عن الحرمانِ الكليِّ إلى أنَّ نفيَ البُشرى حينئذٍ لا يستلزمُ نفيَه في جميعِ الأوقاتِ فيجوزُ أنْ يُبشَّروا بالعفوِ والشَّفاعةِ في وقتٍ آخرَ بمعزلٍ عن الحقِّ بعيدٍ { وَيَقُولُونَ } عطفٌ على ما ذُكر من الفعلِ المنفيِّ المنبىء عن كمال فظاعة ما يحيق بهم من الشر وغاية هول مطلعه بيان أنهم يقولون عند مشاهدتِهم له { حِجْراً مَّحْجُوراً } وهي كلمةٌ يتكلَّمون بها عند لقاءِ عدوَ موتورٍ وهجومِ نازلةٍ هائلةٍ يضعونها موضعَ الاستعاذةِ حيثُ يطلبون من الله تعالى أن يمنعَ المكروه فلا يلحقهم فكان المَعنى نسألُ الله تعالى أنْ يمنعَ ذلك مَنْعاً ويحجُره حَجْراً و كسرُ الحاءِ تصرفٌ فيه لاختصاصِه بموضعِ واحدٍ كما في قِعدَك وعَمرَك . وقد قُرىء حُجْراً بالضمِّ والمعنى أنَّهم يطلبون نزولَ الملائكةِ عليهم السَّلامُ ويقترحونَه وهم إذا رَأوهم كرِهُوا لقاءهم أشدَّ كراهةٍ وفزعُوا منهم فزعاً شَديداً وقالوا ما كانوا يقولونَه عند نزولِ خطبٍ شنيعٍ وحلولِ بأسٍ شديدٍ فظيعٍ ومحجُوراً صفةٌ لحِجراً وإرادةٌ للتَّأكيدِ كما قالوا ذيلٌ ذَائلٌ وليلٌ أليلُ وقيل : يقولُها الملائكةُ إقناطاً للكَفَرةِ بمعنى حَراماً محرَّماً عليكم الغفرانُ أو الجنَّة أو البُشرى أي جعل الله تعالى ذلك حَرَاماً عليكم وليس بواضح .(5/97)
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
{ وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } بيانٌ لحالِ ما كانُوا يعملونَه في الدُّنيا من صلةِ رحمٍ وإغاثةِ ملهوفٍ . وقرى ضيفٍ ومنَ على أسير وغير ذلك من مكارمِهم ومحاسِنهم التي لو كانُوا عملُوها مع الإيمانِ لنالُوا ثَوابَها بتمثيلِ حالِهم وحالِ أعمالِهم المذكورةِ بحال قومٍ خالفُوا سلطانَهم واستعصَوا عليه فقدمَ إلى أشيائِهم وقصدَ ما تحت أيديهم فأنحى عليها بالإفسادِ والتَّحريقِ ومزَّقها كلَّ تمزيقٍ بحيث لم يَدع لها عيناً ولا أثراً أي عمَدنا إليها وأبطلَناها أي أظهرنا بُطلانَها بالكلِّيةِ من غير أنْ يكونَ هناك قدومٌ ولا شيء يُقصد تشبيهه به والهَبَاءُ شبه غبارٍ يُرى في شعاعِ الشَّمسِ يطلع من الكُوَّة من الهبوةِ وهي الغبارُ ومنثُوراً صفتُه شبه به أعمالَهم المُحبَطةَ في الحقارةِ وعدمِ الجَدوى ثمَّ بالمنثُور منه في الانتشارِ بحيثُ لا يمكن نظمُه أو مفعولٌ ثالثٌ من حيثُ إنَّه كالخبر كما في قوله تعالى : { كَونُواْ قِرَدَةً خاسئين } { أصحاب الجنة } هم المؤمنون المشارُ إليهم في قوله تعالى : قلْ أذلك خيرٌ أو جنَّةُ الخلد التي وُعد المتَّقون الخ { يَوْمَئِذٍ } أي يومَ إذ يكونُ ما ذُكر من عدمِ التَّبشير وقولِهم حِجْراً محجُوراً وجعلِ أعمالِهم هباءً منثُوراً { خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } المستقرُّ المكانُ الذي يُستقرُّ فيه في أكثرِ الأوقاتِ للتَّجالسِ والتَّحادثِ { وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } المقيلُ المكانُ الذي يؤوى إليه للاسترواحِ إلى الأزواجِ والتَّمتعِ بمغازلتهنَّ سُمِّي بذلك لما أنَّ التَّمتعَ به يكون وقتَ القَيلولهِ غالباً وقيل : لأنه يُفرغٍ من الحسابِ في منتصفِ ذلك اليَّوم فقيل أهلُ الجَّنة في الجنَّةِ وأهلُ النَّار في النَّارِ وفي وصفه بزيادةِ الحُسن مع حصولِ الخيرَّيةِ بعطفه على المستقرِّ رمزٌ إلى أنه مزَّينٌ بفنون الزَّينِ والزَّخارفِ والتَّفضيلُ المُعتبر فيهما إمَّا لإرادةِ الزِّيادةِ على الاطلاقِ أي هُم في أقصى ما يكونُ من خيرَّيةِ المُستقرِّ وحسنِ المَقيلِ وإمَّا بالإضافةِ إلى مَا للكَفَرةِ المُتنعِّمينَ في الدُّنيا أو إلى ما لَهُم في الآخرةِ بطريق التَّهكُّمِ بهم كما مرَّ في قوله تعالى : { قُلْ أذلك خَيْرٌ } الآيةَ هذا وقد جُوِّز أنْ يُرادَ بأحدِهما المصدرُ أو الزَّمانُ إشارةً إلى أنَّ مكانَهم وزمانَهم أطيبُ ما يُخيَّلُ من الأمكنةِ والأزمنةِ .(5/98)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)
{ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء } أي تتفتحُ وأصلُه تتشقَّقُ فحُذفتْ إحدى التَّاءينِ كما في تلظَّى . وقُرىء بإدغامِ التَّاءِ في الشِّينِ { بالغمام } بسببِ طلوعِ الغمامِ منها وهو الغَمامُ الذي ذُكر في قوله تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام والملائكة } قيل هو غمامٌ أبيضُ رقيقٌ مثلُ الضَّبابةِ ولم يكُنْ إلاَّ لبني إسرائيلَ { وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً } أي تنزيلاً عجيباً غيرَ معُهودٍ قيل تنشق سماءً سماءً وينزل الملائكةُ خلالَ ذلك الغمامِ بصحائفِ أعمالِ العبادِ وقُرىء ونُزِّلتِ الملائكةُ ونُنْزل ونُنزّل على صيغة المتكلم من الإنزالِ والتَّنزيل ونزَّل الملائكةَ وأنزلَ الملائكةَ وتزِلُ الملائكةُ على حذف النُّون الذي هو فاءُ الفعلِ من تنزل .
{ الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن } أي السَّلطنةُ القاهرِةُ والاستيلاءُ الكليُّ العام الثَّابتُ صورةً ومعنى ظاهراً وباطناً بحيثُ لا زوالَ له أصلاً ثابتٌ الرَّحمِ يومئذٍ فالمُلكُ مبتدأٌ والحقُّ صفتُه وللرَّحمنِ خبرُه ويومنذٍ ظرفٌ لثبُوتِ الخبرِ للمبتدأِ ، وفائدةُ التَّقييدِ أنَّ ثبوت المُلك المذكور له تعالى خاصَّةً يومئذٍ وأمَّا فيما عداهُ من أيَّامِ الدُّنيا فيكون لغيرهِ أيضاً تصرُّفٌ صوريُّ في الجُملةِ وقيل : المُلك مبتدأٌ والحقُّ خبرُه وللرَّحمنُ متعلَّق بالحقِّ أو بمحذوفٍ على التَّبيين أو بمحذوفٍ هو صفةٌ للحقِّ ويومئذٍ معمولٌ للملك وقيلَ الخبرُ يومئذٍ والحقُّ نعتٌ للملكِ وللرحمن على ما ذُكر ، وأيَّاً ما كان فالجملُة بمعناها عاملةٌ في الظَّرفِ أي ينفردُ الله تعالَى بالملكِ يومَ تشقَّقُ وقيل : الظَّرفُ منصوبٌ بما ذُكر فالجملةُ حينئذٍ استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ أحوالِه وأهوالِه وإيرادُه تعالى بعُنوانِ الرَّحمانيةِ للإيذانِ بأنَّ اتصِّافَه تعالى بغايةِ الرَّحمةِ لا يهُوِّنُ الخَطْبَ على الكَفَرةِ لعدمِ استحقاقِهم للرَّحمةِ كما في قولِه تعالى : { ياأيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم } والمعنى أنَّ الملكَ الحقيقيَّ يومئذٍ للرَّحمنِ { وَكَانَ } ذلكَ اليوم مع كونِ المُلكِ فيه لله تعالى المبالغ في الرَّحمةِ لعبادِه { يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً } شَديداً لهُم . وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ لمُراعاةِ الفواصلِ وأمَّا للمُؤمنين فيكون يَسيراً بفضلِ الله تعالى ، وقد جاءَ في الحديثِ أنَّه يُهوَّن يومُ القيامةِ على المؤمنِ حتَّى يكونَ أخفَّ عليه من صلاةٍ مكتوبةٍ صلاَّها في الدّنيا ، والجملةُ اعتراضٌ تذييلىٌّ مقرِّرٌ لما قبله .
{ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ } عضُّ اليدينِ والأناملِ وأكلُ البنانِ وحرقُ الأسنانِ ونحوها كناياتٌ عن الغيظِ والحسرةِ لأنَّها من روادِفهما . والمرادُ بالظَّالمِ إمَّا عقبةُ بنُ أبي مُعيطٍ على ما قيل : من أنَّه كان يُكثر مجالسةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فدعاهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يوماً إلى ضيافتِه فأبى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يأكلَ من طعامِه حتَّى ينطِقَ بالشَّهادتينِ ففعلَ وكان أُبيُّ بنُ خَلَفٍ صديقَه فعاتبَه فقال : صَبأتَ فقال : لا ولكنْ أَبَى أنْ يأكلَ منْ طَعَامي وهو في بيتي فاستحييتُ منه فشهدتُ له فقال : إنيِّ لا أرضى منكَ إلا أنْ تأتيَه فتطأَ قفاهُ وتبزقَ في وجههِ فأتاهُ فوجدَه ساجداً في دارِ النَّدوةِ ففعل ذلك فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ، لا ألقاكَ خارجاً من مكَّةَ إلاَّ علوتُ رأسَك بالسَّيفِ فأُسرَ يوم بدرٍ فأمرَ عليَّاً رضي الله عنه فقتَلَه وقيل : قَتَله عاصمُ بنُ ثابثٍ الأنصاريُّ وطعنَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أُبيَّاً يومَ أُحدٍ في المُبارزة فرجعَ إلى مكَّةَ وماتَ .(5/99)
وإما جنسُ الظَّالم وهو داخلٌ فيه دخولاً أوليَّا . وقولُه تعالى : { يِقُولُ } الخ حالٌ من فاعلِ يعضُّ . وقولُه تعالى : { ياليتنى } الخ محكيٌّ به ويَا إمَّا لمجرَّدِ التَّنبيهِ من غيرِ قَصْدٍ إلى تعيينِ المنبَّهِ أو المُنادي محذوفٌ أي يا هؤلاءِ ليتني { اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً } أي طريقاً واحداً منجياً من هذه الورطاتِ وهو طريقُ الحقِّ ولم تتشعبْ بي طرقُ الضَّلالةِ أو حَصَّلتُ في صحبتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ طريقاً ولم أكُن ضالاَّ لا طريقَ لي قط .(5/100)
يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)
{ ياويلتا } بقلب ياءِ المتكلِّمِ الفاً كما في صحارى ومدارى . وقُرىء على الأصلِ يا ويلتي أي هَلَكتي تعالَيْ واحضريْ فهذا أوانُكِ { لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً } يريدُ مَن أضلَّه في الدُّنيا فإنَّ فُلانا كنايةٌ عن الأعلامِ كما أن الهَنَ كنايةُ عن الأجناسِ . وقيل فُلانٌ كنايةٌ عن علَم ذكورِ مَن يعقلُ ، وفُلانةٌ عن علَم إناثِهم . وقُل كنايةٌ عن نكرةِ مَن يعقلُ من الذكور ، وفُلة عمَّن يعقلُ من الإناثِ ، والفُلانُ والفُلانةُ من غير العاقلِ ويختصُّ فُل بالنِّداءِ إلاَّ في ضرورةٍ كما في قوله
في لُجَّةٍ أَمْسِكْ فُلاناً عن فُلِ ... وقوله
خُذَا حدِّثاني عن فُلٍ وفُلانِ ... وليس فُل مرخَّماً من فُلان خلافاً للفرَّاء واختلفُوا في لامِ فُل وفُلان فقيلَ واوٌ وقيل ياءٌ ، هذا فإنْ أرُيدَ بالظَّالم عقبةُ ففُلان كنايةٌ عن أَبيَ وإنْ أُريدَ بهِ الجنسُ فهوُ كنايةٌ عن علَمِ كلِّ مَن يضلُّه كائناً مَن كان من شياطينِ الإنس والجنِّ وهذا التَّمنِّي منه وإنْ كان مسُوقاً لإبراز النَّدمِ والحسرةِ لكنَّه متضمنٌ لنوعِ تعللٍ واعتذارٍ بتوريك جنايتِه إلى الغيرِ .
وقوله تعالى :
{ لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذكر } تعليلٌ لتمنيه المذكورِ وتوضيحٌ لتعللُّهِ . وتصديُره باللامِ القسميَّةِ للُمبالغةِ في بيانِ خطئِه وإظهارِ ندمهِ وحسرتِه أي واِ لقد أضلَّني عن ذكرِ الله تعالى أو عن القرآنِ أو عن موعظةِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أو كلمةِ الشَّهادةِ { بَعْدَ إِذْ جَاءنِى } وتمكَّنتُ منه وقوله تعالى : { وَكَانَ الشيطان للإنسان خَذُولاً } أي مُبالغاً في الخِذلانِ حيثُ يواليهِ حتَّى يؤدِّيه إلى الهلاكِ ثمَّ يتركُه ولا ينفَعُه اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلَه إما من جهتِه تعالى أو من تمام كلامِ الظَّالمِ على أنَّه سَمَّي خليلَه شيطاناً بعد وصفهِ بالإضلالِ الذي هو أخصُّ الأوصافِ الشَّيطانيَّةِ أو على أنَّه أرادَ بالشَّيطانِ إبليسَ لأنَّه الذي حملَه على مخالَّةِ المُضلِّين ومخالفةِ الرَّسولِ الهادِي عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بوسوستِه وإغوائِه لكن وصفُه بالخِذلانِ يُشعر بأنَّه كانَ يعِدُه في الدُّنيا ويُمنيه بأنَّه ينفعه في الآخرةِ وهو أوفقُ بحالِ إبليسَ .
{ وَقَالَ الرسول } عطفٌ على قوله تعالى : { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } وما بينهما اعتراضٌ مسوقٌ لا ستعظامِ ما قالُوه وبيانِ ما يحيقُ بهم في الآخرةِ من الأهوالِ والخُطوبِ وإبرادُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعُنوانِ الرِّسالةِ لتحقيقِ الحقِّ والردِّ على نحورِهم حيثُ كانَ ما حُكي عنهم قَدحاً في رسالتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أي قالُوا كيتَ وكيتَ وقال الرَّسولُ إثرَ ما شاهدَ منهم غايةَ العُتوِّ ونهايةَ الطُّغيان بطريق البثِّ إلى ربِّه عزَّ وجلَّ { يارب إِنَّ قَوْمِى } يعني الذين حُكي عنهم ما حُكي من الشَّنائعِ { اتخذوا هذا القرءان } الذي من جُملته هذه الآياتُ النَّاطقةُ بما يحيقُ بهم في الآخرة من فُنونِ العقابِ كما ينبىءُ عنه كلمةُ الإشارةِ .(5/101)
{ مَهْجُوراً } أي متروكاً بالكلِّيةِ ولم يُؤمنوا به ولم يرفعوا إليهِ رأساً ولم يتأثَّرُوا بوعيدِه وفيه تلويحٌ بأنَّ من حقِّ المؤمنِ أنْ يكونَ كثيرَ التَّعاهدِ للقرآن كيلا يندرجَ تحت ظاهرِ النَّظمِ الكريمِ فإنَّه رُوي عنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّه قال : « مَن تعلَّم القرآنَ وعلَّق مُصحفاً لم يتعاهدْهُ ولم ينظرْ فيهِ جاءَ يومَ القيامةِ متعلِّقاً به يقولُ يا ربَّ العالمينَ عبدُك هذا اتَّخذِني مهجُوراً اقضِ بيني وبينَهُ » وقيل : هو من هجَر إذا هَذَى أي جعلوه مهجُوراً فيه إمَّا على زعمِهم الباطلِ وإمَّا بأنْ هجَّروا فيه إذا سمعُوه كما يُحكى عنه من قولِهم : { لا تسمعُوا لهذا القُرآنِ والغَوا فيهِ } وقد جُوِّز أنْ يكون المهجورُ بمعنى الهَجْر كالمجلود والمعقولِ فالمعنى اتَّخذُوه هَجْراً وهَذَياناً وفيه من التَّحذيرِ والتَّخويفِ ما لا يَخْفى فإنَّ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ إذا شكَوا إلى الله تعالى قومَهم عجَّل لهم العذابَ ولم يُنظَروا .(5/102)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)
وقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوّاً مّنَ المجرمين } تسليةٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وحملٌ له على الاقتداءِ بمن قبلَه من الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ أي كما جعلنا لك أعداءً من المُشركين يقولُون ما يقولُون ويفعلُون ما يفعلُون من الأباطيلِ جعلنا لكلِّ نبيٌّ من الأنبياءِ الذينَ هم أصحابُ الشَّريعةِ والدّعوة إليها عدوَّاً من مُجرمي قومِهم فاصبرْ كما صبرُوا وقوله تعالى : { وكفى بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً } وعدٌ كريمٌ له عليه الصَّلاةُ والسَّلاوُ بالهدايةِ إلى كافَّةِ مطالبِه والنَّصرِ على أعدائِه أي كَفَاك مالكُ أمرِك ومُبلِّغك إلى الكمالِ هَادياً لك إلى ما يُوصلكَ إلى غايةِ الغاياتِ التي من جُملتها تبليغُ الكتابِ أجلَه وإجراء أحكامِه في أكنافِ الدُّنيا إلى يومِ القيامةِ ونصيراً لك على جميعِ مَن يُعاديك .
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ } حكايةً لاقتراحِهم الخاصِّ بالقُرآن الكريمِ بعد حكايةِ اقتراحِهم في حقِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والقائلون هم القائلونَ أوَّلاً وإيرادُهم بعُنوانِ الكفرِ لذمِّهم به والإشعارِ بعلَّةِ الحُكمِ { لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ القرءان } التَّنزيلُ هَهُنا مجرَّدٌ عن مَعْنى التَّدريجِ كما في قولِه تعالى : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كتابا مّنَ السماء } ويجوز أنْ يرادَ به الدِّلالةُ على كثرةِ المُنزَّلِ في نفسِه أي هلاَّ أُنزل كلُّه { جُمْلَةً واحدة } كالكتب الثَّلاثةِ . وبُطلان هذه الكلمةِ الحمقاءِ ممَّا لا يكادُ يخفى على أحدٍ فإنَّ الكتبَ المتقدِّمةَ لم يكُن شاهدَ صحَّتِها ودليلَ كونَها من عندِ الله تعالى إعجازُها ، وأمَّا القرآنُ الكريمُ فبيِّنةُ صحَّتِه وآيةُ كونِه من عند الله تعالى نظمُه المعجزُ الباقي على مرِّ الدّهورِ المتحقِّقُ في كلِّ جُزءٍ من أجزائِه المقدَّرةِ بمقدار أقصرِ السُّورِ حسبما وقع به التَّحدِّي ولا ريبَ في أنَّ ما يدور عليه فَلَكُ الإعجاز هو المطابقةُ لما تقتضيه الأحوالُ ومن ضرورة تغيّرِها وتجدُّدها تغيُّر ما يُطابقها حتماً على أنَّ فيه فوائدَ جمَّةً قد أُشير إلى بعضٍ منه بقوله تعالى :
{ كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } فإنَّه استئناف واردٌ من جهته تعالى لردِّ مقالتهم الباطلة وبيانِ الحكمة في التَّنزيلِ التَّدريجيِّ . ومحلُّ الكافِ النَّصبُ على أنَّها صفة لمصدرٍ مؤكِّدٍ لمضمر معلَّلٍ بما بعده وذلك إشارة إلى ما يُفهم من كلامِهم أي مثلَ ذلك التَّنزيلِ المُفرَّق الذي قدحُوا فيه واقترحوا خلافَة نزَّلناه لا تنزيلا مُغايراً له لنقويَ بذلك التَّنزيلِ المفرَّقِ فؤادَك فإنَّ فيه تيسيراً لحفظِ النَّظمِ وفهم المعانِي وضبطِ الأحكامِ والوقوفِ على تفاصيلِ ما رُوعي فيها من الحِكَمِ والمصالحِ المبنيَّةِ المُناسبة عل أنَّها منوطةٌ بأسبابها الدَّاعيةِ إلى شَرعها ابتداءً أو تبديلاً بالنَّسخِ من أحوال المكلَّفينَ وكذلك عامة ما ورد في القرآنِ المجيدِ من الأخبار وغيرِها متعلِّقةٌ بأمورٍ حادثةٍ من الأقاويل والأفاعيل ومن قضية تجدُّدِها تجددُ ما يتعلَّقُ بها كالاقتراحاتِ الواقعة من الكَفَرة الدَّاعيةِ إلى حكايتِها وإبطالِها وبيانِ ما يؤول إلي حالُهم في الآخرِة على أنَّهم في هذا الاقتراح كالباحثِ عن حَتْفِه بظلفِه حيثُ أُمروا بالاتيان بمثل نَوبةٍ من نُوبِ التَّنزيل فظهرَ عجزُهم عن المعارضةِ وضاقتْ عليهم الارضُ بما رَحُبتْ فكيف لو تُحدُّوا بكلِّه وقوله تعالى : { وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } عطفٌ على ذلك المُضمر ، وتنكيرُ ترتيلاً للتَّفخيمِ أي كذلك نزَّلناهُ ورتلناهُ تَرتْيلا بديعاً لا يُقادرُ قَدرُه ومعنى ترتيلهِ تفريقُه آيةً بعدَ آيةٍ قالَه النَّخعيُّ والحسنُ وقَتَادةُ .(5/103)
وقال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنُهمَا : بيَّناهُ بياناً فيه ترتيلٌ وتثبيتٌ وقال السُّدِّيُّ فصَّلناهُ تفصيلاً . وقال مجاهُدُ : جعلنا بعضَه في إثر بعضٍ . وقيل هو الأمرُ بترتيلِ قراءتِه بقوله تعالى : { وَرَتّلِ القرءان تَرْتِيلاً } وقيل : قرأناه عليك بلسانِ جبرِيلَ عليه السَّلامُ شيئاً فشيئاً في عشرين أو في ثلاث وعشرين سنة على تُؤَدةٍ وتَمهلٍ .(5/104)
وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)
{ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ } من الأمثالِ التي من جُملتها ما حُكي من اقتراحاتِهم القبيحةِ الخارجةِ عن دائرةِ العقولِ الجاريةِ لذلك مجرى الأمثالِ أي لا يأتونَك بكلامٍ عجيبٍ هو مَثَلٌ في البُطلان يريدون به القَدْحَ في حقِّك وحقِّ القُرآنِ { إِلاَّ جئناك } في مُقابلتِه { بالحق } أي بالجوابِ الحقِّ الثَّابتِ الذي ينْحي عليه بالإبطالِ ويَحسمُ مادَّةَ القِيلِ والقالِ كما مرَّ من الأجوبةِ الحقَّةِ القالعةِ لعروقِ أسئلتِهم الشَّنيعةِ الدَّامغةِ لها بالكُلِّيةِ . وقوله تعالى : { وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } عطفٌ على الحقِّ أي جئناك بأحسنَ تفسيراً أو على محلِّ بالحقِّ أي آتيناك الحقِّ وأحسنَ تفسيراً أي بياناً وتفصيلاً على معنى أنَّه في غاية ما يكونُ من الحُسنِ في حدِّ ذاته لا أنَّ ما يأتون به له حَسنٌ في الجملة وهذا أحسنُ منه كما مرَّ . والاستثناءُ مفرَّغٌ محلُّه النَّصبُ على الحاليَّةِ أي لا يأتونك بمَثَلٍ إلا حال إيتائنا إيَّاك الحقَّ الذي لا محيدَ عنه وفيه من الدَّلالةِ على المُسارعة إلى إبطالِ ما أَتَوا به تثبيت فؤداه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما لا يخفى ، وهذا بعبارته ناطقٌ ببطلان جميع الأسئلة وبصحَّةِ جميع الأجوبة وبإشارته منبىءٌ عن بُطلانِ السُّؤالِ الأخير وصحَّةِ جوابِه إذْ لولا أنَّ تنزيلَ القرآن على التَّدريجِ لما أمكن إبطالُ تلك الاقتراحاتِ الشَّنيعةِ ولما حصل تثبيتُ فؤادِه عليه الصَّلاة والسَّلام من تلك الحيثيَّةِ هذا وقد جُوِّز أن يكون المَثَلُ عبارةً عن الصِّفةِ الغريبةِ التي كانُوا يقترحون كونَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عليها من مقارنة الملكِ والاستغناء عن الأكل والشُّربِ وحيازة الكنز والجنَّة ونزول القرآن عليه جملةً واحدةً على معنى لا يأتونك بحال عجيبة يقترحون اتِّصافك بها قائلين هلاَّ كان على هذه الحالة إلا أعطيناك نحنُ من الأحوال الممكنة ما يحقُّ لك في حكمتِنا ومشيئتنا أنْ تُعطاهُ وما هو أحسنُ تكشيفاً لما بُعثت عليه ودلالةً على صحَّته وهو الذي أنتَ عليه في الذَّاتِ والصِّفاتِ ويأباهُ الاستثناءُ المذكور فإنَّ المتبادر منه أنْ يكون ما أعطاه الله تعالى من الحقِّ مترتباً على ما أتوَا به من الأباطيلِ دامغاً لها ولا ريبَ في أنَّ ما آتاه الله تعالى من المَلَكاتِ السَّنيةِ اللاَّئقةِ بالرَّسالة قد أتاه من أوَّلِ الأمر لا بمقابلة ما حُكي عنهم من الاقتراحات لأجلِ دمغها وإبطالِها .(5/105)
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
{ الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ } أي يُحشرون كائنين على وجوهِهم يُسحبون عليها ويُجرُّون إلى جهنَّمَ وقيل : مقلوبين وجوهُهم على قفاهم وأرجلُهم إلى فوقٍ . رُوي عنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « يُحشر النَّاسُ يومَ القيامةِ على ثلاثةِ أثلاثٍ ثلثٌ على الدَّوابِّ ، وثُلثٌ على وجوهِهم ، وثُلثٌ على أقدامِهم ينسِلون نَسلاً » وأما ما قيل : متعلقةً قلوبهم بالسُّفليَّاتِ متوجِّهةً وجوهُهم إليها فبعيد لأنَّ هول ذلك اليومِ ليس بحيث يبقى لهم عنده تعلُّقٌ بالسُّفليَّاتِ أو توجُّه إليها في الجملة ومحلُّ الموصول إمَّا النَّصبُ أو الرَّفعُ على الذمِّ أو الرَّفعُ على الابتداء وقوله تعالى : { أولئك } بدلٌ منه أو بيانٌ له وقوله تعالى : { شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً } خبر له أو اسم الإشارة مبتدأ ثانٍ وشرُّ خبرُه والجملة خبرٌ للموصول ووصف السَّبيلِ بالضَّلالِ من باب الإسناد المجازيِّ للمبالغة والمفضل عليه الرَّسولُ عليه الصَّلاة والسَّلام على منهاجِ قوله تعالى : { قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ } كأنَّه قيل إنَّ حاملهم على هذه الاقتراحات تحقيرُ مكانِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بتضليل سبيله ولا يعلمون حالَهم ليعلموا أنَّهم شرٌّ مكاناً وأضلُّ سبيلاً وقيل : هو متَّصلٌ بقوله تعالى : { أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب } جملةٌ مستأنفةٌ سيقتْ لتأكيد ما مرَّ من التَّسليةِ والوعد بالهداية والنَّصرِ في قوله تعالى : { وكفى بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً } بحكايةِ ما جرى بينَ مَن ذُكر من الأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وبين قومِهم حكايةً إجماليَّةً كافيةً فيما هو المقصود . واللامُ جوابٌ لقسمٍ محذوفٍ أي وبالله ولقد آتينا مُوسى التَّوراةَ أي أنزلناها عليه بالآخرةِ { وَجَعَلْنَا مَعَهُ } الظَّرف متعلِّق بجعلنا وقوله تعالى : { أَخَاهُ } مفعولٌ أوَّلٌ له وقوله تعالى : { هارون } بدلٌ من أخاه أو عطفُ بيانٍ له على عكس ما وقع في سورةِ طه وقوله تعالى : { وَزِيراً } مفعولٌ ثانٍ له وقد مرَّ ثمَّة معنى الوزير أن جعلناه في أوَّلِ الأمر وزيراً له .
{ فَقُلْنَا } لهما حينئذٍ { اذهبا إِلَى القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } هم فرعونُ وقومه ، والآياتُ هي المعجزات التِّسعُ المفصَّلاتُ الظَّاهرُة على يَدَيْ موسى عليه السَّلامُ ولم يُوصفِ القومُ لهما عند إرسالِهما إليهم بهذا الوصف ضرورةَ تأخُّرِ تكذيب الآيات عن إظهارِها المتأخِّر عن ذهابهما المتأخِّر عن الأمر به بل إنَّما وُصفوا بذلك عند الحكايةِ لرَّسولِ الله صلى الله عليه وسلم بياناً لعلَّة استحقاقِهم لما يُحكى بعده من التَّدميرِ أي فذهبا إليهم فأرياهُم آياتنا كلَّها فكذَّبوها تكذيباً مُستمرَّاً { فدمرناهم } إثرَ ذلك التَّكذيبِ المستمرِّ { تَدْمِيرًا } عجيباً هائلاً لا يُقادرُ قَدرُه ولا يُدرك كُنهُه فاقتصر على حاشيتي القصَّةِ اكتفاءً بما هو المقصودُ وحَملُ قوله تعالى : فدمَّرناهم على معنى فحكمنا بتدميرِهم مع كونِه تعسُّفاً ظاهراً مما لا وجَه له إذ لا فائدةَ يُعتدُّ بها في حكاية الحكم بتدميرِهم قد وقع وانقضى ، والتَّعرضُ في مطلع القصَّةِ لإيتاء الكتاب مع أنَّه كان بعد مهلكِ القوم ولم يكن له مدخلٌ في هلاكهم كسائرِ الأيات للإيذانِ من أوَّلِ الأمر ببلوغِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ غايةَ الكمالِ ونيله نهايةَ الآمالِ التي هي إنجاءُ بني إسرائيلَ من ملكة فرعونَ وإرشادُهم إلى طريق الحقِّ بما في التَّوراة من الأحكام إذ به يحصُلُ تأكيدُ الوعدِ بالهدايةِ على الوجه الذي مرَّ بيانُه .(5/106)
وقُرىء فدمَّرتُهم وفدمَّرنَّاهم على التَّأكيد بالنُّون الثَّقيلةِ .(5/107)
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)
{ وَقَوْمَ نُوحٍ } منصوبٌ بمضمرٍ يدلُّ عليه قوله تعالى : فدمَّرناهم أي ودمَّرنا قومَ نوحٍ وقيل عطف على مفعول فدمَّرناهم وليس من ضرورة ترتُّبِ تدميرهم على ما قبله ترتُّبُ تدميرِ هؤلاء عليه لا سيَّما وقد بُيِّن سببُه بقوله تعالى : { لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل } أي نوحاً ومن قبله من الرُّسل أو نوحاً وحدَهُ لأنَّ تكذيَبُه تكذيبٌ للكُلِّ لاتِّفاقِهم على التَّوحيدِ والإسلامِ وقيل هو منصوبٌ بمضمر يفسِّره قوله تعالى : { أغرقناهم } وإنَّما يتسنَّى ذلك على تقديرِ كونِ كلمة لَّماً ظرفَ زمانٍ وأمَّا على تقدير كونِها حرفَ وجودٍ لوجودٍ فلا لأنَّه حينئذٍ جواب لما لا يفسَّر ما قبله مع أنَّه مخلٌّ بعطف المنصوبات الآتية على قوم نوح لما أنَّ إهلاكَهم ليس بالإغراق فالوجهُ ما تقدَّم وقوله تعالى : أغرقناهم استئنافٌ مبيِّن لكيفيَّةِ تدميرِهم .
{ وجعلناهم } أي جعلنا إغراقَهم أو قصَّتهم { لِلنَّاسِ ءايَةً } أيْ آيةً عظيمةً يعتبرُ بها كلُّ مَن شاهدها أو سمعها وهي مفعول ثانٍ لجعلنا وللنَّاس ظرفٌ لغوٌ له أو متعلِّق بمحذوف وقع حالاً من آيةً إذ لو تأخَّر عنها لكان صفةً لها { وَأَعْتَدْنَا للظالمين } أي لهم ، والإظهارُ في موقع الإضمارِ للإيذانِ بتجاوزهم الحدَّ في الكفر والتَّكذيبِ { عَذَاباً أَلِيماً } هو عذاب الآخرة إذْ لا فائدة في الإخبار باعتاد العذابِ الذي قد أُخبر بوقوعه من قبلُ أو لجميع الظَّالمينَ الباقينَ الذين لم يعتبرُوا بمَا جَرى عليهم من العذاب فيدخل في زُمرتهم قُريشٌ دخولاً أوليَّاً ويحتملُ العذابَ الدُّنيويَّ والأُخرويَّ { وَعَاداً } عطفٌ على قوم نوح وقيل : على المفعول الأول لجعلناهم وقيل : على محلِّ الظَّالمينَ إذ هو في معنى وعدنا الظالمين وكلاهما بعيدٌ { وَثَمُودُ } الكلامُ فيه وفيما بعدَه كما فيما قبلَه . وقُرىء وثموداً على تأويل الحيِّ أو على أنَّه اسمُ الأبِ الأقصى { وأصحاب الرس } هم قومٌ يعبدون الأصنامَ فبعثَ الله تعالى إليهم شُعيباً عليه السَّلامُ فكذَّبُوه فبينما هم حَولَ الرَّسِّ وهي البِئرُ التي لم تُطْوَ بعد إذِ انهارتُ فخُسف بهم وبديارِهم . وقيل : الرَّسُّ قرية بفَلْجِ اليمامةِ كان فيها بقايا ثمودَ فبَعث إليهم نبيٌّ فقتلوه فهلكوا . وقيل : هو الأُخدودُ . وقيل : بئرٌ بأنطاكيَّةَ قتلوا فيها حبيباً النَّجارَ . وقيل : هم أصحابُ حنظلةَ بنِ صفوانَ النبيِّ عليه السَّلامُ ابتلاهم الله تعالى بطيرٍ عظيمٍ كان فيها من كلِّ لون وسمَّوها عنقاءَ لطولِ عُنقِها وكانت تسكنُ جبلَهم الذي يقالُ له فتخ أو دمح فتنقضُّ على صبيانِهم فتخطفُهم إنْ أعوزها الصَّيدُ ولذلك سُمِّيتْ مُغْرِبا فدعا عليها حنظلةُ عليه السَّلامُ فأصابتْها الصَّاعقةُ ثم إنَّهم قتلُوه عليه السَّلامُ فأُهلكوا . وقيل : قومٌ كذَّبُوا رسولَهم فرسُّوه أي دسُّوه في بئرٍ .
{ وَقُرُوناً } أي أهلَ قرونٍ . قيل : القرنُ أربعونَ سنةً وقيل : سبعونَ وقيل : مائةٌ وقيل : مائةٌ وعشرون { بَيْنَ ذلك } أي بين ذلك المذكورِ من الطَّوائفِ والأُمم وقد يذكرُ الذَّاكرُ أشياءَ مختلفةً ثمَّ يشيرُ إليها بذلك ويحسبُ الحاسبُ أعداداً مُتكاثرةً ثمَّ يقولُ فذلك كيتَ وكيتَ على ذلك المذكورِ وذلك المحسوبِ . { كَثِيراً } لا يعلم مقدارَها إلاَّ العليمُ الخبيرُ . ولعلَّ الاكتفاءَ في شؤون تلك القرُونِ بهذا البيان الإجماليِّ لما أنَّ كلَّ قرنٍ منها لم يكن في الشُّهرةِ وغرَابةِ القصَّةِ بمثابة الأُممِ المذكِورةِ .(5/108)
وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
{ وَكُلاًّ } منصوبٌ بمضمرٍ يدلُّ عليه ما بعده فإنَّ ضربَ المثلِ في معنى التَّذكيرِ والتَّحذيرِ . والمحذوفُ الذي عُوِّضَ عنه التَّنوينُ عبارةٌ إمَّا عن الأُممِ التي لم يُذكر أسبابُ إهلاكِهم وإمَّا عن الكلِّ . فإنَّ ما حُكي عن قومِ نوحٍ وقومِ فرعونَ تكذيبُهم للآياتِ والرُّسلِ لا عدمُ التَّأثرِ من الأمثالِ المضروبة أي ذكرنا وأنذرنا كلَّ واحدٍ من المذكورين { ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال } أي بينَّا له القصصَ العجيبةَ الزَّاجرةَ عمَّا هم عليه من الكُفر والمعاصي بواسطةِ الرَّسلِ { وَكُلاًّ } أي كلَّ واحدٍ منهم لا بعضَهم دُون بعضٍ { تَبَّرْنَا تَتْبِيراً } عجيباً هائلاً لما أنَّهم لم يتأثَّروا بذلك ولم يرفعُوا له رأساً وتمادَوا على ما هُم عليه من الكُفرِ والعُدوانِ . وأصلُ التَّتبيرُ التَّفتيتُ . قال الزَّجَّاجُ : كلُّ شيءٍ كسرتَه وفتّتَه فقد تبَّرتَه ومنه التِّبرُ لفُتاتِ الذَّهبِ والفِضَّةِ .
{ وَلَقَدْ أَتَوْا } جملةٌ مستأنفة مسوقة لبيانِ مشاهدتهم لآثارِ هلاك بعض الأُمم المتبَّرةِ وعدم اتِّعاظِهم بها . وتصديرُها بالقسم لمزيدِ تقريرِ مضمونِها ، أي وبالله لقد أتى قُريشٌ في متاجرهم إلى الشَّامِ { عَلَى القرية التى أُمْطِرَتْ } أي أُهلكت بالحجارة وهي قُرى قومِ لوطٍ وكانت خمسَ قُرى ما نجتْ منها إلاَّ واحدةٌ كان أهلُها لا يعملون العملَ الخبيثَ وأمَّا البواقي فأهلكها الله تعالى بالحجارةِ وهي المرادةُ بقوله تعالى : { مَطَرَ السوء } وانتصابُه إمَّا على أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ بحذف الزَّوائد كما قيل في أنبتَه الله تعالى نباتاً حسنَاً أي إمطارَ السَّوءِ ، أو على أنَّه مفعولٌ ثانٍ إذِ المعنى أُعطيت أو وُلِّيتْ مطرَ السَّوءِ { أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا } توبيخ لهم على تركهم التَّذكر عند مُشاهدة ما يُوجبه . والهمزة لإنكار نفي استمرار رؤيتِهم لها وتقريرِ استمرارِها حسب استمرارِ ما يُوجبها من إتيانِهم عليها لا لإنكارِ استمرارِ نفي رؤيتِهم وتقريرِ رؤيتِهم لها في الجُملةِ والفاءُ لعطفِ مدخولِها على مقدَّرٍ يقتضيه المقامُ أي ألم يكونوا ينظرُون إليها فلم يكونُوا يَرونها أو أكانُوا ينظرون إليها فلم يكونُوا يَرونها في مرارِ مرورِهم ليتَّعظِوا بما كانُوا يُشاهدونَهُ من آثارِ العذابِ ، فالمنكر في الأوَّلِ تركُ النَّظرِ وعدمُ الرُّؤيةِ معاً ، وفي الثَّانِي عدمُ الرُّؤيةِ مع تحقُّقِ النَّظرِ الموجبِ لها . وقوله تعالى { بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً } إما إضرابٌ عمَّا قبلَه من عدمِ رؤيتِهم لآثار ما جَرى على أهلِ القُرى من العقوبةِ وبيانٌ لكون عدم اتِّعاظِهم بسبب إنكارِهم لكون ذلك عقوبةً لمعاصيهم لا لعدم رؤيتهم لآثارِها خلا أنَّه اكتفى عن التَّصريحِ بإنكارِهم ذلك بذكرِ ما يستلزمُه من إنكارهم للجزاءِ الأُخرويِّ الذي هو الغاية من خلق العالمِ ، وقد كُني عن ذلك بعدم رجاءِ النُّشورِ أي عدم توقُّعهِ كأنَّه قيل : بل كانُوا ينكرون النُّشورَ المستتبع للجزاءِ الأُخرويِّ ولا يرَون لنفسٍ من النُّفوسِ نُشوراً أصلاً مع تحقُّقهِ حتماً وشمولِه للنَّاسِ عموماً واطِّرادِه وقوعاً فكيف يعترفُون بالجزاء الدٌّنيويِّ في حقِّ طائفةٍ خاصَّةً مع عدم الاطِّرادِ والملازمة بينه وبين المعاصي حتَّى يتذكَّروا ويتَّعظوا بما شاهدوه من آثارِ الهلاك وإنَّما يحملونه على الاتِّفاقِ . وإمَّا انتقالٌ من التَّوبيخِ بما ذُكر من ترك التَّذكرِ إلى التَّوبيخِ بما هو أعظمُ منه من عدمِ توقُّعِ النُّشورِ .(5/109)
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)
{ وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً } أي ما يتَّخذونك إلا مهزُوءاً به على معنى قصرِ معاملتِهم معه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على اتِّخاذِهم إيَّاهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هُزؤاً لا على معنى قصرِ اتِّخاذِهم على كونِه هُزؤاً كما هو المتبادرُ من ظاهر العبارةِ كأنَّه قيل : ما يفعلون بك إلا اتِّخاذَك هزواً وقد مرَّ تحقيقُه في قولِه تعالى : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ } من سورة الأنعام وقوله تعالى : { أهذا الذى بَعَثَ الله رَسُولاً } محكيٌّ بعد قول مضمر هو حالٌ من فاعلِ يتَّخذونك أي يستهزئون بك قائلينَ أهذا الذي الخ والإشارةُ للاستحقارِ وإبراز بعث الله رسولاً في معرض التَّسليمِ بجعله صلةً للموصول الذي هو صفتُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع كونِهم في غاية النَّكيرِ لبعثه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بطريقِ التَّهكُّمِ والاستهزاءِ وإلاَّ لقالُوا أبعثَ الله هذا رسولاً أو أهذا يزعمُ أنَّه بعثه الله رسولاً .
{ إِن كَادَ } إنْ مخففةٌ مِن إنَّ . وضميرُ الشَّأنِ محذوفٌ أيْ إنَّه كادَ . { لَيُضِلُّنَا عَنْ ءالِهَتِنَا } أي ليصرفنا عن عبادتِها صرفاً كليَّاً بحيث يُبعدنا عنها لا عن عبادتِها فقط ، والعدولُ إلى الإضلال لغاية ضلالِهم بادَّعاء أنَّ عبادتَها طريقٌ سويٌّ . { لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا } ثبتْنا عليها واستمسكنَا بعبادتِها . ولولا في أمثال هذا الكلامِ تجري مجَرى التَّقييدِ للحكم المطلقِ من حيثُ المعنى كما أشار إليه في قوله تعالى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } الخ وهذا اعترافٌ منهم بأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قد بلغ من الاجتهادِ في الدَّعوةِ إلى الحقِّ وإظهارِ المعجزاتِ وإقامةِ الحججِ والبيِّناتِ إلى حيثُ شارفُوا أنْ يتركُوا دينَهم لولا فرطُ لجَاجِهم وغايةُ عنادِهم . يُروى أنَّه من قولِ أبي جهلٍ { وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } جوابٌ من جهته تعالى لآخرِ كلامِهم وردٌّ لما ينبىءُ عنه من نسبته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى الضَّلالِ في ضمن الإضلال أي سوف يعلمونَ البتةَ وإنْ تراخى { حِينَ يَرَوْنَ العذاب } الذي يستوجبُه كفرُهم وعنادُهم { مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً } وفيه ما لا يخفى من الوعيدِ والتَّنبيهِ على أنَّه تعالى لا يُهملهم وإنْ أمهلهم .
{ أَرَءيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } تعجيبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم من شناعةِ حالِهم بعد حكاية قبائحِهم من الأقوالِ والأفعالِ وبيانِ ما لهم من المصيرِ والمآلِ وتنبيهٌ على أنَّ ذلك من الغرابةِ بحيث يجبُ أنْ يرى ويتعجَّبَ منه . وإلههَ مفعول ثانٍ لاتَّخذ قُدِّم على الأوَّلِ للاعتناء به لأنَّه الذي يدورُ عليه أمرُ التَّعجيبِ . ومَن توهَّم أنهما على التَّرتيبِ بناء على تساويهما في التَّعريفِ فقد زلَّ منه أنَّ المعفولَ الثَّانِي في هذا الباب هو المتلبِّسُ بالحالة الحادثِة أي أرأيتَ مَن جعلَ هواهُ إلهاً لنفسهِ من غير أنْ يلاحظه وبنى عليه أمرَ دينِه مُعرِضاً عن استماع الحجَّةِ الباهرة والبُرهان النيِّرِ بالكلِّيةِ على معنى انظُر إليه وتعجَّب منه . وقولُه تعالى : { أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً } إنكارٌ واستبعادٌ لكونه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حفيظاً عليه يزجرُه عمَّا هو عليه من الضَّلالِ ويُرشده إلى الحقَ طوعاً أو كَرهاً . والفاءُ لترتيب الإنكارِ على ما قبله من الحالةِ المُوجبةِ له كأنَّه قيل أبعد ما شاهدت غلوَّه في طاعة الهوى وعتوَّه عن اتباع الهُدى تقسره على الإيمان شاء أو أَبَى .(5/110)
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
وقوله تعالى : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ } إضرابٌ وانتقال عن الإنكار المذكُور إلى إنكارِ حُسبانِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لهم ممَّن يسمعُ أو يعقل حسبما ينبىءُ عنه جِدُّه عليه الصَّلاةُ والسلام في الدَّعوةِ واهتمامُه بالإرشاد والتَّذكيرِ لكن لا على أنَّه لا يقعُ كالأوَّلِ بل على أنَّه لا ينبغي أنْ يقعَ أي بل أتحسب أنَّ أكثرهم يسمعون ما تتلُو عليهم من الآيات حقَّ السَّماعِ أو يعقلون ما في تضاعيفها من المواعظ الزَّاجرةِ عن القبائح الدَّاعيةِ إلى المحاسن فتعتنِي بشأنِهم وتطمعُ في إيمانهم . وضميرُ أكثرَهم لمَن ، وجمعُه باعتبارِ معناهَا كما أنَّ الإفرادَ في الضَّمائرِ الأُوَلِ باعتبار لفظِها ، وضميرُ الفعلينِ لأكثرَ لاَ لِمَا أُضيف هُو إليهِ . وقولُه تعالى :
{ إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام } الخ جملةٌ مستأنفة مسوقة لتقرير النَّكيرِ وتأكيدِه وحسم مادة الحُسبانِ بالمرَّةِ أي ما هم في عدم الانتفاعِ بما يقرعُ آذانَهم من قوارع الآياتِ وانتفاء التَّدبرِ فيما يشاهدونَهُ من الدَّلائلِ والمُعجزاتِ إلا كالبهائمِ التي هي مثلٌ في الغفلةِ وعَلَمٌ في الضَّلالةِ { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } منها { سَبِيلاً } لما أنها تنقادُ لصاحبها الذي يعلِفها ويتعهدُّها وتعرف مَن يُحسِن إليها ممَّن يُسيء إليها وتطلبُ ما ينفعها وتجتنبُ ما يضرُّها وتهتدي لمراعيها ومشاربها وتأوِي إلى معاطنِها ، وهؤلاءِ لا ينقادونَ لربِّهم وخالقِهم ورازقِهم ولا يعرفون إحسانَهُ إليهم من إساءةِ الشَّيطانِ الذي هو أعدى عدوِّهم ولا يطلبون الثَّوابَ الذي هو أعظمُ المنافع ولا يتَّقون العقابَ الذي هو أشدُّ المضارِّ والمهالك ولا يهتدون للحقِّ الذي هو المشرب الهنيُّ والمورد العذبُ الرَّويُّ لأنَّها إنْ لم تعتقِد حقَّاً مستتبِعاً لاكتساب الخيرِ لم تعتقد باطلاً مستوجباً لاقترافِ الشَّرِّ بخلاف هؤلاء حيث مهّدوا قواعدَ الباطلِ وفرَّعُوا عليها أحكامُ الشُّرورِ ، ولأنَّ أحكامَ جهالتِها وضلالتها مقصورةٌ على أنفسها لا تتعدَّى إلى أحدٍ وجهالةُ هؤلاء مؤدِّيةٌ إلى ثوران الفتنةِ والفسادِ وصدِّ النَّاسِ عن سَننِ السَّدادِ وهيجان الهَرْجِ والمَرْجِ فيما بين العباد ولأنَّها غيرُ معطلةٍ لقوَّةٍ من القُوى المُودَعة بل صارفة لها إلى ما خُلقت هي له فلا تقصيرَ من قبلها في طلبِ الكمالِ ، وأمَّا هؤلاءِ فهم مُعطِّلون لقواهم العقلية مضيِّعون للفطرةِ الأصليةِ التي فُطر النَّاسُ عليها مستحقُّون بذلك أعظم العقابِ وأشدَّ النَّكالِ .(5/111)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)
{ أَلَمْ تَرَ إلى رَبّكَ } بيانٌ لبعضِ دلائل التَّوحيدِ إثرَ بيانِ جهالةِ المُعرِضينِ عنها وضلالتهم . والخطابُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، والهمزةُ للتَّقريرِ . والتَّعرضُ لعُنوان الرُّبُوبِّيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لتشريفه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وللإيذانِ بأنَّ ما يعقُبه من آثارِ ربوبيَّتِه ورحمتِه تعالى أي ألم تنظُر إلى بديعِ صُنعه تعالى { كَيْفَ مَدَّ الظل } أي كيف أنشأ ظلَّ أيَّ مُظَلَ كان من جبلٍ أو بناءٍ أو شجرةٍ عند ابتداء طلوع الشَّمسِ ممتداً لا أنَّه تعالى مدَّهَ بعد أنْ لم يكن كذلك كما بعدَ نصفِ النهار إلى غروبها فإنَّ ذلك مع خُلوِّه عن التَّصريح بكون نفسه بإنشائه تعالى وإحداثِه يأباهُ سياقُ النَّظمِ الكريمِ . وأما ما قيل من أنَّ المرادَ بالظِّل ما بين طُلوعِ الفجرِ وطُلوع الشَّمسِ وأنه أطيبُ الأوقاتِ فإنَّ الظُّلمةَ الخالصةَ تنفِرُ عنها الطِّباعُ وشعاع الشمس يسخِّنُ الجوَّ ويبهر البصرَ ولذلك وَصَف به الجَّنةَ في قوله تعالى : { وَظِلّ مَّمْدُودٍ } فغيرُ سديد إذ لا ريب في أنَّ المرادَ تنبيهُ النَّاسِ على عظيم قُدرة الله عزَّ وجلَّ وبالغِ حكمتِه فيما يشاهدونَه فلا بدَّ أنْ يُرادُ بالظلِّ ما يتعارفونه من حالةٍ مخصوصةٍ يشاهدونها في موضعٍ يحول بينه وبين الشَّمسِ جسمٌ كثيفٌ مخالفةً لما في جوانبه من مواقعِ ضحِّ الشَّمسِ وما ذُكر وإن كانَ في الحقيقةِ ظلاَّ للأفق الشرقيِّ لكنَّهم لا يعدونه ظلاً ولا يصفونه بأوصافهِ المعهودةِ ولعلَّ توجيه الرُّؤية إليه سبحانه وتعالى مع أنَّ المرادَ تقريرُ رؤيته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لكيفيَّةِ مدِّ الظِّلِّ للتنبيهِ على أنَّ نظرَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ غيرُ مقصورٍ على ما يُطالعه من الآثارِ والصَّنائعِ بل مطمح أنظارِه معرفةُ شؤون الصَّانعِ المجيدِ . وقوله تعالى :
{ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً } جملةٌ اعترضتْ بين المعطوفين للتَّنبيِه من أول الأمرِ على أنَّه لا مدخل فيما ذكر من المدِّ للأسباب العاديَّةِ وإنَّما المؤثر فيها المشيئةُ والقدرةُ ، ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ على القاعدة المستمرَّة من وقوعها شرطاً وكونِ مفعولها مضمونَ الجزاء أي ولو شاء سكونَه لجعله ساكناً أي ثابتاً على حالِه من الطُّولِ والامتدادِ وإنما عُبِّر عن ذلك بالسُّكونِ لما أنَّ مقابلَه الذي هو تغيُّر حاله حسب تغُّيرِ الأوضاعِ بينَ المظلِّ وبين الشَّمسِ يُرَى رأيَ العينِ حركة وانتقالاً وحاصلُه أنه لا يعتريهِ اختلافُ حالٍ بأن لا تنسخه الشَّمسُ ، وأمَّا التَّعليلُ بأنْ يجعل الشَّمسَ مقيمةً على وضع واحد فمداره الغفُول عمَّا سِيق له النَّظمُ الكريم ونطقَ به صريحاً من بيان كمال قُدرته القاهرة وحِكمته الباهرة بنسبة جميعِ الأمور الحادثة إليه تعالى بالذَّاتِ وإسقاط الأسباب العاديَّةِ عن رُتبة السَّببيَّةِ والتَّاثيرِ بالكُلِّيةِ وقصرِها على مجرَّدِ الدِّلالةِ على وجود المسبَّبات لا بذكر قُدرته تعالى على بعض الخوارق كإقامةِ الشَّمسِ في مُقام واحدٍ على أنَّها أعظمُ من إبقاء الظلِّ على حالِه في الدِّلالةِ على ما ذُكر من كمال القُدرةِ والحكمة لكونِه من فُروعها ومُستتبعاتها فهي أَوْلَى وأحقُّ بالإيراد في معرضِ البيانِ .(5/112)
وقولُه تعالى :
{ ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً } عطفٌ على مدَّ داخلٌ في حُكمه أي جعلناها علامةً يستدلُّ بأحوالها المتغيِّرة على أحوالِه من غير أنْ يكونَ بينهما سببيّة وتأثيرٌ قطعاً حسبما نطقَ به الشَّرطيةُ المعترضة . والالتفاتُ إلى نون العظمةِ لما في الجعلِ المذكورِ العاري عن التَّأثيرِ مع ما يشاهد بين الشَّمسِ والظلِّ من الدَّورانِ المُطَّردِ المنبىءِ عن السَّببيّةِ من مزيد دلالة على عظمِ القُدرةِ ودقة الحكمةِ ، وهو السرُّ في إيراد كلمة التَّراخي .(5/113)
ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)
وقولُه تعالى : { ثُمَّ قبضناه } عطف على مدَّ داخل في حكمه وثمَّ للتَّراخي الزَّماني لما أنَّ في بيان كون القبضِ والمدِّ مرتَّبينِ دائرينِ على قطبِ مصالحِ المخلوقاتِ مزيدَ دلالةِ على الحكمة الرَّبانيَّةِ ، ويجوز أنْ تكونَ للتَّراخي الرُّتبي أي أزلناه بعد ما أنشأناهُ ممتدَّاً ومحوناه بمحض قُدرتنا ومشيئتنا عند إيقاعِ شعاعِ الشَّمس موقعَه من غيرِ أنْ يكونَ له تأثيرٌ في ذلك أصلاً ، وإنَّما عبَّر عنه بالقبضِ المُنبىءِ عن جمعِ المنبسطِ وطيِّه لمَا أنَّه قد عبَّر عن إحداثِه بالمدِّ الذي هو البسطُ طولاً وقوله تعالى : { إِلَيْنَا } للتَّنصيصِ على كونِ مرجعِه تعالى كما أنَّ حدوثَه منه عزَّ وجلَّ { قَبْضاً يَسِيراً } أي على مهل قليلاً قليلاً حسب ارتفاعِ دليله على وتيرة معيَّنةٍ مطَّردةٍ مستتبعة لمصالحِ المخلوقاتِ ومرافقها ، وقيل إنَّ الله تعالى حين بنى السَّماءَ كالقُبَّةِ المضروبة ودَحَا الأرضَ تحتها ألقتِ القُبَّةُ ظلَّها على الأرضِ لعدمِ النيِّر وذلك مدُّه تعالى إيَّاه ولو شاء لجعله ساكناً مستقرَّاً على تلك الحالةِ ثم خلق الشَّمسَ وجعلها على ذلك الظلِّ أي سلَّطها عليه ونصَبها دليلاً متبوعاً له كما يتبعُ الدَّليل في الطَّريقِ فهو يزيدُ بها وينقصُ ويمتدُّ ويقلصُ ثم نسخه بها فقبضه قبضاً سهلاً يسيراً غيرَ عسيرٍ أو قبضاً سهلاً عند قيام السَّاعةِ بقبضِ أسبابهِ وهي الأجرامُ التي تلقي الظلَّ فيكون قد ذُكر إعدامُه بإعدامِ أسبابِه كما ذُكر إنشاؤه بإنشائِها ووصفه باليسرِ على طريقةِ قوله تعالى : { ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } وصيغة الماضي للدِّلالةِ على تحقيقِ الوقوع .
{ وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِبَاساً } بيانٌ لبعض بدائعِ آثارِ قُدرته تعالى وحكمتِه وروائعِ أحكامِ رحمتِه ونعمتِه الفائضِة على الخلق . وتلوينُ الخطابِ لتوفيةِ مقامِ الامتنانِ حقَّه . واللامُ متعلِّقةٌ بجعلَ وتقديمُها على مفعولَيْه للاعتناءِ ببيان كونِ ما يعقبه من منافعِهم . وفي تعقيبِ بيانِ أحوالِ الظلِّ بيانَ أحكامِ اللَّيلِ الذي هُو ظلُّ الأرضِ من لُطف المسلكِ ما لا مزيدَ عليه ، أي هو الذي جعلَ لكُم اللَّيلَ كاللِّباسِ يسترُكم بظلامِه كما يسترُكم اللِّباسُ { والنوم سُبَاتاً } أي وجعلَ النَّومَ الذي يقعُ في اللَّيلِ غالباً قطعاً عن الأفاعيل المختصَّة بحال اليقظةِ عبَّر عنه بالسُّباتِ الذي هو الموتُ لما بينها من المُشابهةِ التَّامةِ في انقطاعِ أحكامِ الحياةِ وعليه قوله تعالى : { وَهُوَ الذى يتوفاكم باليل } وقوله تعالى : { الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا } { وَجَعَلَ النهار نُشُوراً } أي زمانَ بعثٍ من ذلك السُّباتِ كبعثِ الموتى على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامَه أو نفسُ البعثِ على طريق المبالغة وفيه إشارةٌ إلى أنَّ النَّومَ واليقظةَ أنموذجٌ للموتِ والنُّشورِ . وعن لُقمانَ عليه السَّلامُ : يا بُنيَّ كما تنامُ فتوقظُ كذلك تموتُ وتنشرُ .(5/114)
{ وَهُوَ الذى أَرْسَلَ الرياح } وقُرىء بالتَّوحيدِ على أنَّ المرادَ هو الجنسُ { بَشَرًا } تخفيفُ بُشُرٍ جمع بَشُورٍ أي مُبشِّرينَ . وقُرىء بُشْرى . وقُرىء نُشْراً بالنُّونِ جمعُ نَشُورٍ أي ناشرات للَّسَّحابِ وقُرىء بالتَّخفيفِ وبفتحِ النُّونِ أيضاً على أنَّه مصدرٌ وُصف به مبالغةً . وقولُه تعالى : { بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ } استعارةٌ بديعةٌ أي قُدامَ المطرِ . والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ في قوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء طَهُوراً } لإبرازِ كمالِ العنايةِ بالإنزالِ لأنَّه نتيجةُ ما ذُكر من إرسالِ الرِّياحِ أي أنزلنا بعظمتِنا بما رتَّبنا من إرسالِ الرِّياح من جهةِ الفوقِ ماءً بليغاً في الطَّهارةِ ، وما قيل إنَّه ما يكون طاهراً في نفسه ومطهراً لغيرهِ فهو شرح لبلاغته في الطَّهارةِ كما ينبُىء عنه قوله تعالى : { وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ } فإنَّ الطَّهورَ في العربيةِ إمَّا صفةٌ كما تقول ماء طهور أو اسمٌ كما في قوله عليه الصَّلاةُ والسلامُ « التُّرابُ طهورُ المؤمنِ » وقد جاء معنى الطَّهارةِ كما في قولك تطهرتُ طَهوراً حسناً كقولك وَضُوءاً حسناً ومنه قوله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « لا صلاةَ إلا بطَهورٍ » ووصف الماءِ به إشعارٌ بتمام النِّعمةِ فيه وتتميم للنِّعمةِ فيما بعده فإنَّ الماءَ الطَّهورَ أهنأُ وأنفعُ ممَّا خالطه ما يزيل طهوريَّتَه وتنبيه على أنَّ ظواهرهم لما كانت ممَّا ينبغي أنْ يطهروها فبواطنُهم أحقُّ بذلك وأولى .(5/115)
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
{ لّنُحْيِىَ بِهِ } أي بما أنزلنا من الماءِ الطَّهورِ { بَلْدَةً مَّيْتاً } بإنبات النَّباتِ ، والتَّذكيرُ لأنَّ البلدة بمعنى البلد ولأنَّه غير جارٍ على الفعل كسائر أبنية المبالغةِ فأُجريَ مُجرى الجامدِ ، والمرادُ به القطعةُ من الأرضِ عامرةً كانت أو غامرةً . { وَنُسْقِيَهِ } أي ذلك الماءُ الطَّهورُ عند جريانه في الأوديةِ أو اجتماعه في الحياضِ والمنافعِ أو الآبارِ { مِمَّا خَلَقْنَا أنعاما وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً } أي أهلَ البَوادي الذي يعيشون بالحَيَا ولذلك نكَّر الأنعامَ والأَناسيَّ ، وتخصيصهم بالذكر لأنَّ أهل القرى والأمصار يقيمون بقُرب الأنهار ، والمنابعُ فيهم وبمالهم من الأنعام غنيةٌ عن سُقيا السَّماءِ ، وسائرُ الحيوانات تبعدُ في طلب الماء فلا يُعوِزُها الشُّربُ غالباً من أنَّ مساق الآيات الكريمة كما هو للدِّلالة على عِظمِ القُدرة فهو لتعدُّدِ أنواع النِّعمةِ ، والأنعامُ حيث كانت قُنيةً للإنسان وعامة منافعهم ومعايشهم مَنوطةٌ بها قُدِّمَ سقيُها على سقيهم كما قُدِّم عليها إحياءُ الأرضِ فإنَّه سببٌ لحياتِها وتعيُّشِها . وقُرىء نُسقيه وأَسْقَى وسَقَى لغتان وقيل : أسقاهُ جعل له سُقيا وأَناسيَّ جمع إنسيَ أو إنسانٍ كظَرابِيّ في ظِربَاء على أنَّ أصله أناسينَ فقُلبت نونُه ياءً وقُرىء أَناسيْ بالتَّخفيفِ بحذف ياءِ أفاعيلَ كأناعمَ في أناعيمَ .(5/116)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
{ ولقد صرفناه } أي وبالله لقد كررنا هذا القول الذي هو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر لما مر من الغايات الجميلة في القرآن وغيره من الكتب السماوية { بينهم } أي بين الناس من المتقدمين والمتأخرين { ليذكروا } ليتفكروا ويعرفوا بذلك كمال قدرته تعالى وواسع رحمته في ذلك ويقوموا بشكر نعمته حق قيام وقيل الضمير للمطر وتصريفه بينهم إنزاله في بعض البلاد دون غيرها أو في بعض الأوقات دون بعض أو جعله تارة وابلا وأخرى طلا وحينا ديمه ووقتا رهمة والأول هو الأظهر { فأبى أكثر الناس } ممن سلف وخلف { إلا كفورا } أي لم يفعل إلا كفران النعمة وقلة الاكتراث لها أو وإلا جحودها بأن يقولوا مطرنا بنوء كذا ولا يذكر وصنع الله تعالى ورحمته ومن لا يرى الأمطار إلا من الأنواء فهو كافر بخلاف من يرى أن الكل يخلق الله تعالى والأنواء أمارات لجعله تعالى(5/117)
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
{ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً } نبيَّاً يُنذرُ أهلَها فيخفف عليك أعباءَ النبوةِ لكن لم نشأْ ذلك فلم نفعلْه بل قصرنا الأمرَ عليك حسبما ينطقُ به قوله تعالى : { لِيَكُونَ للعالمين نَذِيراً } إجلالاً لك وتعظيماً وتفضيلاً لك على سائر الرُّسلِ { فَلاَ تُطِعِ الكافرين } أي فقابل ذلك بالثَّباتِ والاجتهاد في الدَّعوةِ وإظهار الحقِّ والتَّشددِ معهم كأنَّه نهيٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم عن المُداراة معهم والتَّلطفِ في الدَّعوةِ لما أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان يودُّ أنْ يدخلُوا في الإسلام ويجتهدُ في ذلك بتأليفِ قلوبهم أشدَّ الاجتهاد { وجاهدهم بِهِ } أي بالقُرآن بتلاوةِ ما في تضاعيفِه من القوارع والزَّواجرِ والمَواعظِ وتذكير أحوال الأممِ المكذِّبةِ { جِهَاداً كَبيراً } فإنَّ دعوةَ كلِّ العالمينَ على الوجهِ المذكورِ جهادٌ كبيرٌ لا يُقادرُ قدرُه كمًّا وكيفاً وقيل : الضَّميرُ المجرورُ لتِركِ الطَّاعةِ المفهوم من النَّهي عن الطَّاعةِ وأنتَ خبيرٌ بأنَّ مجرَّد تركِ الطَّاعةِ يتحقَّقُ بلا دعوةٍ أصلاً وليس فيه شائبةُ الجهادِ فضلاً عن الجهاد الكبيرِ اللهمَّ إلاَّ أنْ تجعلَ الباء للملابسةِ ليكون المعنى وجاهِدْهم بما ذُكر من أحكامِ القُرآن الكريم ملابَساً بتركِ طاعتِهم كأنَّه قيل : فجاهدْهم بالشِّدَّةِ والعُنفِ لا بالمُلاءمةِ والمُداراةِ كما في قوله تعالى : { ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ } وقد جُعل الضَّميرُ لما دلَّ عليه قولُه تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً } من كونه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ نذيرَ كافَّةِ القُرى لأنَّه لو بُعث في كلِّ قرية نذيراً لوجبَ على كلِّ نذير مجاهدةُ قريتِه فاجتمعتْ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تلك المجاهداتُ كلُّها فكبُر من أجلِ ذلك جهادُه وعظُم فقيل له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وجاهدْهم بسببِ كونِك نذيرَ كافَّةِ القُرى جهاداً كبيراً جامعاً لكلِّ مُجاهدةٍ . وأنت خبيرٌ بأنَّ بيانَ سبب كِبَرِ المُجاهدةِ بحسب الكميَّةِ ليس فيه مزيدُ فائدةٍ فإنَّه بيِّنٌ بنفسِه وإنَّما اللائقُ بالمقامِ بيانُ سببِ كبرِها وعظمِها في الكيفيَّةِ .
{ وَهُوَ الذى مَرَجَ البحرين } أي خلاَّهما متجاورينِ مُتلاصقين بحيثُ لا يتمازجانِ ، من مَرَجَ دابَّته إذا خلاَّها { هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ } قامعٌ للعطشِ لغايةِ عذوبتِه { وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ } بليغُ المُلوحةِ . وقُرىء مَلْحٌ فلعلَّه تخفيفُ مالحٍ كبَرْدٍ في باردٍ { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } حاجزاً غيرَ مرئيَ من قُدرتِه كما في قولِه تعالى : { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } { وَحِجْراً مَّحْجُوراً } وتنافراً مُفرِطاً كأنَّ كلاًّ منهما يتعوَّذُ من الآخرِ بتلك المقالِة وقيل : حَدَّاً محدُوداً وذلك كدجلةَ تدخلُ البحرَ وتشقُّه وتجري في خلالِه فراسخَ لا يتغيَّرُ طعمُها ، وقيل : المرادُ بالبحرِ العذبِ النَّهرُ العظيمُ وبالمالحِ البحرُ الكبيرُ وبالبرزخ ما بينهما من الأرضِ فيكون أثرُ القُدرة في الفصلِ واختلافِ الصِّفةِ ، مع أنَّ مُقتضى طبيعةِ كلِّ عُنصرٍ التَّضامُّ والتَّلاصقُ والتَّشابهُ في الكيفيَّةِ .(5/118)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)
{ وَهُوَ الذى خَلَقَ مِنَ الماء بَشَراً } هو الماءُ الذي خمَّر به طينة آدمَ عليه السَّلامُ أو جعله جُزءاً من مادَّةِ البشر ليجتمع ويسلسَ ويستعدَّ لقبول الأشكال والهيئاتِ بسهولة أو هو النُّطفةُ { فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً } أي قسمه قسمينِ ذوَيْ نسبٍ أي ذكوراً يُنتسبُ إليهم وذوات صهر أي أناثاً يُصاهرُ بهنَّ كقولهِ تعالى : { فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والانثى } { وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } مبالغاً في القُدرة حيث قدرَ على أنْ يخلقَ من مادَّةٍ واحدةٍ بشراً ذَا أعضاءٍ مختلفةٍ وطباعٍ مُتباعدةٍ وجعله قسمينِ مُتقابلينِ ورُبَّما يخلق من نُطفةٍ واحدةٍ تَوأمين ذَكراً وأُثنى .
{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } الذي شأنُه ما ذُكر { مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ } أي ما ليس من شأنِه النَّفعُ والضُّرُّ أصلاً وهو الأصنامُ أو كلُّ ما يُعبدُ من دُنه تعالى إذْ ما من مخلوقٍ يستقلُّ بالنَّفع والضُّرُّ { وَكَانَ الكافر على رَبّهِ } الذي ذُكرتْ آثارُ ربوبَّيتهِ { ظَهِيرًا } يُظاهر الشَّيطانَ بالعداوةِ والشركِ . والمرادُ بالكافر الجنسُ أو أبُو جهلٍ وقيل : هيِّناً مهيناً لا اعتدادَ به عندَه تعالى من قولِهم ظهرتَ به إذا نبدتَه خلفَ ظهرِك فيكون كقولِه تعالى : { وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ } { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا } للمؤمنين { وَنَذِيرًا } للكافرين { قُلْ } لهم { مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ } أي على تبليغِ الرَّسالةِ الذي ينبىءُ عنه الإرسالُ { مِنْ أَجْرٍ } من جهتكم { إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إلى رَبّهِ سَبِيلاً } أي إلاَّ فعلَ من يُريد أنْ يتقرَّبَ إليه تعالى ويطلبَ الزُّلْفى عندَه بالإيمانِ والطَّاعةِ حسبَما أدعُوهم إليهما فصوَّرَ ذلك بصورةِ الأجرِ من حيثُ إنَّه مقصودُ الإتيانِ به واستثنى منه قلعاً كلَّياً لشائبةِ الطَّمعِ وإظهاراً لغاية الشَّفقةِ عليهم حيثُ جعلَ ذلك مع كونِ نفعِه عائداً إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيل الاستثناءُ منقطعٌ أي لكن منَ شاء أنْ يتَّخذَ إلى ربَّه سبيلاً فليفعلْ .
{ وَتَوَكَّلْ عَلَى الحى الذى لاَ يَمُوتُ } في الاستكفاءِ عن شرورِهم والإغناءِ عن أجورِهم فإنَّه الحقيقُ بأنْ يُتوكَّل عليه دون الأحياء الذين من شأنِهم الموتُ فإنَّهم إذا ماتُوا ضاعَ مَن توكَّل عليهم . { وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ } ونزَّهه عن صفاتِ النُّقصانِ مُثنياً عليه بنعوتِ الكمالِ طالباً لمزيدِ الإنعامِ بالشُّكرِ على سوابغِه { وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ } ما ظهرَ منها وما بطنَ { خَبِيراً } أي مُطَّلِعاً عليها بحيثُ لا يخفى عليه شيءٌ منها فيجزيهم جزاءً وفيَّا .
{ الذى خَلَقَ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش } قد سلفَ تفسيرُه . ومحلُّ الموصولِ الجرُّ على أنَّه صفة أُخرى للحيِّ وصف بالصِّفةِ الفعلية بعد وصفهِ بالأبديَّةِ التي هي من الصَّفاتِ الذَّاتيةِ ، والإشارةُ إلى اتَّصافه بالعلمِ الشَّاملِ لتقريرِ وجوبِ التَّوكلِ عليه تعالى وتأكيده فإنَّ من أنشأَ هذه الأجرامَ العظامَ على هذا النمطِ الفائقِ والنَّسقِ الرَّائقِ بتدبيرٍ متينٍ وترتيبٍ رصينٍ في أوقاتٍ معيَّنة مع كمال قُدرتِه على إبداعها دفعةً لحكمِ جليلةٍ وغاياتٍ جميلةٍ لا تقف على تفاصيلِها العقولُ أحقُّ مَن يُتوكَّل عليه وأَولى من يُفوَّضُ الأمرُ إليه { الرحمن } مرفوعٌ على المدحِ أي هو الرحمنُ وهو في الحقيقةِ وصفٌ آخرُ للحيِّ كما قُرىء بالجرِّ مفيد لزيادة تأكيد ما ذُكر من وجوب التَّوكلِ عليه تعالى وإنْ لم يتبْعه في الإعرابِ لما تقرَّر من أنَّ المنصوبَ والمرفوعَ مَدحاً وإنْ خرجَا عن التَّبعيةِ لما قبلهما صورةً حيثُ لم يتبعاهُ في الإعرابِ وبذلك سُمِّيا قطعاً لكنَّهما تابعانِ له حقيقةً ، أَلاَ يُرى كيفَ التزمُوا حذفَ الفعلِ والمبتدأ في النَّصبِ والرَّفعِ رَوْماً لتصوير كلَ منهما بصورةِ متعلَّق من متعلَّقات ما قبلَه وتنبيهاً على شدَّةِ الاتِّصالِ بينهما وقد مرَّ تمامُ التَّحقيق في تفسير قولِه عزَّ وجلَّ :(5/119)
{ الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب } الآيةَ وقيل : الموصولُ مبتدأٌ والرَّحمنُ خبرُه وقيل : الرَّحمنُ بدلٌ من المستكنِّ في استوى { فَاسْأَلْ بِهِ } أي بتفاصيلِ ما ذُكر إجمالاً من الخَلْقِ والاستواءِ لا بنفسِهما فقط إذْ بعد بيانِهما لا يبقى إلى السُّؤالِ حاجةٌ ولا في تعديتهِ بالباءِ فائدةٌ فإنَّها مبنيَّةٌ على تضمينهِ معنى الاعتناءِ المستدعِي لكون المسؤولِ أمراً خطيراً مهتمًّا بشأنِه غيرَ حاصلٍ للسَّائلِ . وظاهرٌ أنَّ نفسَ الخلقِ والاستواءِ بعد الذِّكرِ ليس كذلكَ . وما قيل من أنَّ التَّقديرَ : إنْ شككتَ فيه فاسألْ به خَبيراً على أنَّ الخطابَ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والمرادَ غيرُه بمعزلٍ من السَّدادِ ، بل التَّقديرُ : إنْ شئتَ تحقيقَ ما ذُكر أو تفصيلَ ما ذُكر فاسألْ معنيًّا بهِ { خَبِيراً } عظيمَ الشَّأنِ محيطاً بظواهرِ الأمورِ وبواطِنها وهو الله سبحانَه يُطلعك على جليَّةِ الأمرِ . وقيل : فاسألْ به مَن وجدَهُ في الكتبِ المتقدِّمةِ ليصدُقكَ فيه فلا حاجةَ حينئذٍ إلى ما ذَكرنا . وقيل : الضَّميرُ للرَّحمنِ ، والمعنى إنْ أنكرُوا إطلاقَه على الله تعالى فاسألْ عنه مَن يُخبرك من أهلِ الكتابِ ليعرفُوا مجىءَ ما يُرادفه في كتبِهم ، وعلى هَذا يجوزُ أنْ يكونَ الرَّحمنُ مُبتدأً وما بعدَهُ خَبَراً . وقُرىء فَسَلْ .(5/120)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن قَالُواْ وَمَا الرحمن } قالُوه لما أنَّهم ما كانُوا يُطلقونَهُ على الله تعالى ، أو لأنَّهم ظنُّوا أنَّ المرادَ به غيرُه تعالى ولذلك قالُوا { أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } أي للذي تأمرُنا بسجودِه أو لأمرِك إيَّانا من غيرِ أنْ نعرفَ أنَّ المسجودَ ماذا . وقيل : لأنَّه كانَ مُعرَّباً لم يسمعُوه . وقُرىء يأْمُرنا بياءِ الغَيبةِ على أنَّه قولُ بعضِهم لبعضٍ { وَزَادَهُمْ } أي الأمرُ بسجودِ الرَّحمنِ { نُفُورًا } عن الإيمانِ .
{ تَبَارَكَ الذى جَعَلَ فِى السماء بُرُوجاً } هي البروجُ الاثنا عشرَ ، سُّمِّيتْ به ، وهي القُصور العاليةُ لأنَّها للكواكبِ السَّيارةِ كالمنازلِ الرَّفيعةِ لسُكَّانِها . واشتقاقُه من البُرجِ لظهورِه { وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً } هي الشَّمسُ لقولِه تَعالَى وجعل الشَّمسَ سراجاً . وقُرىء سُرُجاً وهي الشَّمسُ والكواكبُ الكبارُ { وَقَمَراً مُّنِيراً } مُضيئاً بالليَّل وقُرىء قُمْراً أي ذات قمرٍ وهي جمعُ قَمراءَ ولما أنَّ اللَّياليَ بالقمرِ تكونُ قمراءَ أُضيف إليها ثمَّ حُذفَ وأُجريَ حكمُه على المضافِ إليهِ القائمِ مقامَهُ كما في قولِ حسَّانَ رضَي الله عنْهُ
بردى يُصفَّقُ بالرَّحيقِ السَّلسلِ ... أي ماءُ بَردى ويُحتمل أنَّ يكونَ بمعنى القمرِ كالرَّشدِ والرُّشدِ والعَرَبِ والعُرْبِ .(5/121)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)
{ وَهُوَ الذى جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً } أي ذَوَي خلفةٍ يخلفُ كلٌّ منهما الآخرَ بأنْ يقومَ مقامَه فيما ينبغي أنْ يَعملَ فيه أو بأنْ يَعتِقبا كقولِه تعالى : { واختلاف اليل والنهار } وهي اسمٌ للحالةِ من خلفَ كالرِّكبةِ والجِلسةِ من رَكِبَ وجَلَس . { لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ } أي يتذكَّر آلاءَ الله عزَّ وجلَّ ويتفكَّر في بدائعِ صُنَعهِ فيعلم أنَّه لا بُدَّ لها من صانعٍ حكيمٍ واجبِ الذَّاتِ رحيمٍ للعبادِ { أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } أي أنْ يشكَر الله تعالى على ما فيهما من النِّعمِ أو ليكونا وقتينٍ للذَّاكرينَ مَن فاتَهُ وِرْدُه في أحدِهما تدارَكه في الآخرةِ . وقُرىء أنْ يذكُرَ من ذَكَر بمعنى تذكَّر .
{ وَعِبَادُ الرحمن } كلامٌ مستأنف مسوقٌ لبيانِ أوصافِ خلَّصِ عبادِ الرَّحمنِ وأحوالِهم الدَّنيويةِ والأخُروَّيةِ بعد بيان حال النَّافرين عن عبادتِه والسُّجودِ له . والإضافةُ للتَّشريفِ وهو مبتدأٌ خبرُه ما بعدَهُ من الموصولِ وما عُطف عليه ، وقيلَ : هو ما في آخرِ السُّورةِ الكريمةِ من الجُملةِ المصدَّرةِ باسمِ الإشارةِ . وقُرىء عبادُ الرَّحمنِ أي عبادُه المقبُولونَ { الذين يَمْشُونَ على الارض هَوْناً } أي بسكينةٍ وتواضعٍ . وهَوْناً مصدرٌ وُصف به . ونصبُه إمَّا على أنَّه حال من فاعلِ يمشُون أو على أنَّه نعتٌ لمصدرِه أي يمشُون هيِّنين ليِّنيِ الجانبِ من غيرِ فظاظةٍ أو مشياً هيِّنا . وقولُه تعالى : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون } أي السُّفهاءُ كما في قولِ من قال
أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَينا ... فَنَجْهَل فوقَ جهلِ الجَاهِلِيْنا
{ قَالُواْ سَلاَماً } بيانٌ لحالِهم في المُعاملة مع غيرِهم إثرَ بيانِ حالِهم في أنفسِهم أي إذا خاطبُوهم بالسُّوءِ قالوا تسليماً منكمُ ومتاركةً لا خيرَ بيننا وبينَكمُ ولا شرَّ . وقيل : سَداداً من القولِ يسلمُون به من الأذيَّةِ والإثمِ ، وليسَ فيه تعرُّضٌ لمعاملتِهم مع الكَفَرةِ حتَّى يُقالَ نسختها آيةُ القتالِ كما نُقل عن أبي العاليةِ .
وقولُه تعالى { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وقياما } بيانٌ لحالِهم في معاملتِهم مع ربِّهم أي يكونون ساجدين لربِّهم وقائمين أي يُحيون اللَّيلَ كُلاًّ أو بعضاً بالصَّلاةِ . وقيل : من قرأ شيئاً من القُرآنِ في صلاةٍ وإنْ قلَّ فقد باتَ ساجداً وقائماً . وقيل هُما الرَّكعتانِ بعد المغربِ والرَّكعتانِ بعد العشاءِ . وتقديمُ السُّجودِ على القيامِ لرعايةِ الفواصلِ .
{ والذين يَقُولُونَ } أي في أعقابِ صلواتِهم أو في عامَّةِ أوقاتِهم { رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } أي شراً دائماً وهلاكاً لازماً وفيه مزيدُ مدحٍ لهم ببيان أنَّهم مع حُسن معاملتِهم مع الخلقِ واجتهادِهم في عبادةِ الحقِّ يخافُون العذابَ ويبتهلون إلى الله تعالى في صرفِه عنهم غيرَ محتفلين بأعمالِهم كقوله تعالى : { والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون }(5/122)
إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)
{ إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } تعليلٌ لاستدعائِهم المذكورِ بسوءِ حالِها في نفسها إثرَ تعليلهِ بسوء حالِ عذابِها ، وقد جُوِّز أن يكون تعليلاً للأُولى وليس بذاك . وساءتْ في حكم بئستُ وفيها ضميرٌ مبهمٌ يفسِّره مستقرَّاً . والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ معناه ساءتْ مستقرَّاً ومقاماً هَي وهذا الضَّميرُ هو الذي ربطَ الجملة باسمِ إنَّ وجعلَها خبراً لها . قيلَ : ويجوزُ أنْ يكونَ ساءتْ بمعنى أحزنتْ وفيها ضميرُ اسم إنَّ . ومستقرَّاً حالٌ أو تمييزٌ وهو بعيدٌ خالٍ عَّما في الأولِ من المبالغةِ في بيانِ سوءِ حالِها وكذا جعل التعليلينِ من جهتِه تعالى .
{ والذين إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ } لم يجاوزُوا حدَّ الكرمِ { وَلَمْ يَقْتُرُواْ } ولم يضيِّقُوا تضييقَ الشَّحيحِ وقيل : الإسرافُ هو الانفاقُ في المعاصِي والقترُ منعُ الواجباتِ والقُربِ . وقُرىء بكسرِ التَّاءِ مع فتحِ الياءِ وبكسرِها مخفَّفةً ومشدَّدةً مع ضمِّ الياءِ { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ } أي بين ما ذُكر من الإسرافِ والقَترِ { قَوَاماً } وسطاً وعدلاً سُمِّي به لاستقامةِ الطَّرفينِ كما سُمِّيَ به سواءً لاستوائِهما وقُرىء بالكسرِ وهو ما يُقام به الحاجةُ لا يفضلُ عنها ولا ينقصُ وهو خبرٌ ثانٍ أو حالٌ مؤكِّدة أو هو الخبرُ وبين ذلك لغوٌ وقد جُوِّز أنْ يكونَ اسمَ كانَ على أنَّه مبنيٌّ لأضافتِه إلى غيرِ متمكِّن ولا يَخْفى ضعفُه فإنَّه بمعنى القوام فيكون كالإخبارِ بشيءِ عن نفسِه .
{ والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ } شروعٌ في بيان اجتنابِهم عن المعاصي بعد بيانِ إتيانِهم بالطَّاعات . وذكرُ نفيِ الإسرافِ والقَتْرِ لتحقيقِ معنى الاقتصادِ والتَّصريحُ بوصفِهم بنفيِ الإشراكِ مع ظهورِ إيمانِهم لإظهارِ كمالِ الاعتناء بالتَّوحيدِ والإخلاصِ وتهويلِ أمرِ القتلِ والزِّنا بنظمِهما في سلكِه وللتَّعريضِ بما كانَ عليه الكَفَرةُ من قُريشٍ وغيرِهم أي لا يعبدونَ معه تعالى إلهاً آخرَ .
{ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التى حَرَّمَ الله } أي حرَّمها بمعنى حرَّم قتلَها فحُذف المضافُ وأُقيم المضافُ إليهِ مقامَه مبالغةً في التَّحريمِ { إِلاَّ بالحق } أي لا يقتلونَها بسببٍ من الأسبابِ إلا بسببِ الحقِّ المزيلِ لحُرمتِها وعصمتِها أو لا يقتلون قتلاً ما إلا قتلاً ملتبساً بالحقِّ أو لا يقتلونها في حالٍ من الأحوال إلا حالً كونِهم ملتبسين بالحقِّ { وَلاَ يَزْنُونَ } أي الذين لا يفعلُون شيئاً من هذه العظائمِ القبيحةِ التي جمعهنَّ الكفرةُ حيث كانُوا مع إشراكِهم به سبحانه مداومين على قتلِ النُّفوسِ المحرَّمةِ التي من جُملتها الموءودةُ مكبِّين على الزِّنا لا يرعُوون عنه أصلاً { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } أي ما ذُكر كما هو دأبُ الكَفرةِ المذكُورين { يَلْقَ } في الآخرةِ . وقُرىء يلقَّى وقرىء يلقَّ بالتَّشديدِ مجزوماً { أَثَاماً } وهو جزاءُ الإثمِ كالوبال والنِّكال وزناً ومعنى . وقيل : هو الإثم أبي يلقَ جزاءُ الإثم والتَّنوينُ على التَّقديرين للتفخيم . وقُرىء أيَّاماً أي شدائدَ يقال يومٌ ذُو أيَّام لليومِ الصَّعبِ .(5/123)
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)
{ يضاعف لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة } بدلٌ من يلقَ لاتِّحادِهما في المعنى كقوله
متى تأتِنا تُلممْ بنا في ديارِنا ... تجدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تأجَّجاً
وقُرىء بالرَّفع على الاستئنافِ أو على الحالَّيةِ وكذا ما عُطف عليه وقرىء يُضعَّف ونُضعِّف له العذابَ بالنُّون ونصبِ العذابِ { وَيَخْلُدْ فِيهِ } أي في ذلكَ العذابِ المضاعفِ { مُهَاناً } ذليلاً مستحقراً جامعاً للعذاب الجُسمانيِّ والرُّوحانيِّ وقرىء يُخلَد ويُخلَّد مبنياً للمفعول من الإخلاد والتَّخليدِ . وقُرىء تخلُد بالتاء على الالتفات المنبىءِ عن شدَّة الغضبِ ومضاعفةِ العذابِ لانضمامِ المعاصي إلى الكفر كما يفصح عنه قولُه تعالى { إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالحا } وذكر الموصوفِ مع جريانِ الصَّالحِ والصَّالحاتِ مَجرى الاسم للاعتناء به والتنَّصيص على مغايرتهِ للأعمال السَّابقةِ { فَأُوْلَئِكَ } إشارةٌ إلى الموصولِ والجمعُ باعتبارِ معناه كما أنَّ الإفرادَ في الأفعالِ الثَّلاثة باعتبار لفظةِ أي أولئك الموصُوفون بالتَّوبةِ والإيمانِ والعملِ الصَّالحِ { يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات } بأنْ يمحوَ سوابقَ معاصِيهم بالتَّوبةِ ويثبت مكانَها لواحقَ طاعتِهم أو يبدلَ بملكة المعصيةِ ودواعيها في التَّفسِ ملكةَ الطَّاعةِ بأنْ يُزيلَ الأُولى ويأتيَ بالثَّانيةِ وقيل : بأنْ يُوفقَه لأضدادِ ما سلفَ منه أو بأنْ يُثبت له بدَل كلِّ عقابٍ ثواباً وقيل : يبدلهم بالشِّركِ إيماناً وبقتل المسلمينَ قتلَ المشركين وبالزِّنا عفَّةً وإحصاناً { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } اعتراضٌ تذييلىٌّ مقررٌ لما قبله من المحوِ والإثبات .
{ وَمَن تَابَ } أي عن المعاصي بتركها بالكليَّة والنَّدمِ عليها { وَعَمِلَ صالحا } يتلافى به ما فَرَطَ منه أو خرج عن المعاصي ودخل في الطَّاعات { فَإِنَّهُ } بما فعلَ { يَتُوبُ إِلَى الله } أي يرجعُ إليه تعالى : { مَتاباً } أي متاباً عظيمَ الشَّأنِ مرضيّاً عنده تعالى ماحياً للعقاب محصِّلاً للثَّوابِ أو يتوب متاباً إلى الله تعالى الذي يحبُّ التَّوابينَ ويحسن إليهم أو فإنَّه يرجعُ إليه تعالى أو إلى ثوابه مرجعاً حسناً وهذا تعميمٌ بعد تخصيصِ .
{ والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } لا يُقيمون الشَّهادةَ الكاذبةَ أو لا يحضُرون محاضرَ الكذبِ فإنَّ مشاهدةَ الباطل مشاركةٌ فيه { وَإِذَا مَرُّواْ } على طريقِ الاتفاقِ { باللغو } أي ما يجبُ أنْ يُلغى ويُطرحَ مَّما لا خيرَ فيه { مَرُّواْ كِراماً } معرضين عنه مكرِمين أنفسَهم عن الوقوف عليه والخوض فيه ومن ذلك الإغضاءُ عن الفواحش والصَّفحُ عن الذُّنوب والكنايةُ عمَّا يُستهجنُ التَّصريحُ به .(5/124)
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)
{ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بئايات رَبّهِمْ } المنطويةِ على المواعظ والأحكامِ { لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } أي أكبُّوا عليها سامعين بآذانٍ واعيةٍ مجتلين لها بعيون راعية وإنما عبَّر عن ذلك بنفي الضِّدِّ تعريضاً بما يفعله الكفرةُ والمنافقون وقيل الضَّميرُ لمعاصي المدلولِ عليها باللغو .
{ والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أزواجنا وذرياتنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } بتوفيقهم للطَّاعةِ وحيازة الفضائلِ فإنَّ المؤمنَ إذا ساعده أهلُه في طاعةِ الله عزَّ وجلَّ وشاركوه فيها يُسرُّ بهم قلبُه وتقرُّ بهم عينُه لما يشاهدُه من مشايعتهم له في مناهجِ الدِّينِ وتوقُّعِ لحوقِهم به في الجنَّة حسبما وعد بقوله تعالى : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ } ومِن ابتدائيةٌ أو بيانيةٌ وقرىء وذريتِنا . وتنكيرُ الأعينِ لإرادة تنكيرِ القُرَّة تعظيماً . وتقليلُها لأنَّ المرادَ أعينُ المتَّقين ولا ريبَ في قلَّتِها نظراً إلى غيرِها { واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } أي اجعلنا بحيثُ يقتدون بنا في إقامة مراسم الدِّين بإفاضة العلم والتَّوفيقِ للعمل . وتوحيدُه للدِّلالة على الجنس وعدم الالتباس كقوله تعالى : { ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } أو لأنَّ المرادَ واجعلْ كلَّ واحدٍ مَّنا إماماً أو لأنَّهم كنفس واحدةٍ لاتِّحاد طريقتهم واتِّفاق كلمتِهم كذا قالُوا . وأنت خبيرٌ بأن مدارَ الكلِّ صدورُ هذا الدُّعاء إما عن الكلِّ بطريق المعيَّةِ وأنَّه محالٌ لاستحالة اجتماعِهم في عصرٍ واحدٍ فما ظنُّك باجتماعهم في مجلسٍ واحدٍ واتِّفاقِهم على كلمةٍ واحدةَ وإما عن كلَّ واحدٍ بطريق تشريك غيره في استدعاءِ الإمامةِ وأنَّه ليس بثابتٍ جَزْماً بل الظَّاهرُ صدورُه عنهم بطريقِ الانفرادِ وأنَّ عبارةَ كلِّ واحدٍ منهم عند الدُّعاء واجعلني للمتَّقين إماماً خلا أنه حُكيت عباراتُ الكلِّ بصيغة المتكلِّم مع الغيرِ للقصدِ إلى الإنجاز على طريقة قوله تعالى : { يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا } وأُبقي إماماً على حاله ، وقيل : الإمام جمع آمَ بمعنى قاصد كصيام جمع صائم ومعناه قاصدين لهم مُقتدين بهم . وإعادةُ الموصولِ في المواقع السَّبعةِ مع كفايةِ ذكرِ الصِّلات بطريقِ العطفِ على صلةِ الموصولِ الأولِ للإيذانِ بأنَّ كلَّ واحدٍ مما ذُكر في حيَّزِ صلةِ الموصولاتِ المذكورة وصفٌ جليلٌ على حيالهِ شأنٌ خُطيرٌ حقيقٌ بأنْ يُفردَ له موصوفٌ مستقلٌّ ولا يجعل شيءٌ من ذلكَ تتمة لغيرهِ وتوسيط العاطفِ بين الموصولاتِ لتنزيلِ الاختلافِ العنوانيِّ منزلةَ الاختلاف الذاتيِّ كما في قوله
إلى الملكِ القَرمِ وابنِ الهُمَام ... وَلَيْثِ الكَتَائبِ في المُزْدَحمْ
{ أولئك } إشارةٌ إلى المتَّصفين بما فُصِّل في حيِّزِ صلة الموصُولات الثمَّانيةِ من حيثُ اتِّصافُهم به . وفيه دلالةٌ على أنَّهم متميِّزون بذلك أكمل تميُّزٍ منتظِمون بسببه في سلك الأمورِ المُشاهَدة ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعدِ منزلتهم في الفضلِ . وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى : { يُجْزَوْنَ الغرفة } والجملة مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب مبيِّنةٌ لما لهم في الآخرةِ من السَّعادةِ الأبديَّةِ إثرَ بيانِ ما لهمُ في الدُّنيا من الأعمال السَّنيةِ . والغُرفة الدَّرجةُ العاليةُ من المنازل وكلُّ بناءٍ مرتفعٍ عالٍ أي يُثابون أعلى منازل الجنَّةِ وهي اسمُ جنسٍ أُريد به الجمع كقولِه تعالى : { وَهُمْ فِى الغرفات ءامِنُونَ } وقيل : هي اسمٌ من أسماء الجنَّةِ { بِمَا صَبَرُواْ } أي بصبرِهم على المشاقِّ من مضض الطَّاعاتِ ورفض الشَّهواتِ وتحمُّلِ المجاهدات { وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا } من جهةِ الملائكةِ { تَحِيَّةً وسلاما } أي يحييهم الملائكةُ ويدعُون لهم بطول الحياة والسَّلامةِ من الآفاتِ ، أو يُعطون التَّبقيةَ والتَّخليدَ مع السَّلامةِ من كلِّ آفةٍ ، وقيل : يُحيِّي بعضُهم بعضاً ويُسلِّم عليه . وقُرىء يلقَون من لَقِي .(5/125)
خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
{ خالدين فِيهَا } لا يموتُون ولا يُخرجون { حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } الكلام فيه كالذي مرَّ في مقابلة .
{ قُلْ } أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأنْ يبيِّن للنَّاسِ أنَّ الفائزينَ بتلك النَّعماءِ الجليلةِ التي يتنافسُ فيها المتنافسون إنَّما نالُوها بما عُدِّدَ من محاسنِهم ولوها لم يُعتدَّ بهم أصلاً أي قُل لهم كافَّةً مشافِهاً لهم بما صدرَ عن جنسهم من خيرٍ وشرَ { مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ } أيْ أيُّ عبءٍ يُعبأُ بكم وأيُّ اعتدادٍ يُعتدُّ بكم لولا عبادتُكم له تعالى حسبما مرَّ تفصيلُه فإنَّ ما خُلق له الإنسانُ معرفتُه تعالى وطاعتُه وإلاَّ فهو وسائرُ البهائمِ سواءٌ . وقال الزَّجَّاجُ : معناه أيُّ وزنٍ يكون لكم عنده ، وقيل معناه ما يصنع بكم ربي لولا دعاؤه إيَّاكم إلى الإسلامِ وقيل : ما يصنعُ بعذابِكم لولا دعاؤكم معه آلهةً ويجوزُ أنْ تكونَ ما نافيةً ، وقوله تعالى : { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ } بيانٌ لحال الكَفَرةِ من المخاطَبين كما أنَّ ما قبله بيانٌ لحال المُؤمنين منُهم أي فقد كذَّبتُم بما أخبرتُكم به وخالفتمُوه أيُّها الكَفَرةُ ولم تعملوا عملَ أولئك المذكورينَ وقيل : فقد قصَّرتمُ في العبادة من قولهم كذَب القتالُ إذا لم يُبالغ فيه . وقُرىء فقد كذبَ الكافرون أي الكافرون منكُم لعمومِ الخطابِ للفريقينِ وفائدتُه الإيذانُ بأنَّ مناطَ فوزِ أحدِهما وخسرانِ الآخر مع الاتِّحاد الجنسيِّ المصحِّحِ للاشتراكِ في الفوزِ ليس إلا اختلافُهما في الأعمال { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } أي يكون جزاءُ التكذيبِ أو أثرُه لازماً يحيقُ بكم لا محالةَ حتَّى يُكبكم في النَّارِ كما تُعربُ عنه الفاءُ الدَّالَّةُ على لزومِ ما بعدها لما قبلَها ، وإنَّما أُضمر من غير ذكرٍ للإيذان بغاية ظهوره وتهويل أمره وللتنبيه على أنه مَّما لا يُكتنهه البيانُ وقيل : يكون العذابُ لزاماً . وعن مجاهدٍ رحمه الله : هو القتلُ يومَ بدرٍ وأنه لُوزم بين القَتْلى وقُرىء لَزاماً بالفتح بمعنى اللُّزومِ كالثَّباتِ والثُّبوتِ .
عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : « مَن قرأ سورةَ الفرقانِ لقي الله تعالَى وهُو مؤمنٌ بأنَّ السَّاعةَ آتيةٌ لا ريبَ فيها وأُدخلَ الجَنةَ بغيرِ نصبٍ » .(5/126)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)
{ طسم } بتفخيمِ الألف وبإمالتِها وإظهارِ النُّونِ وبإدغامِها في الميمِ ، وهو إمَّا مسرودٌ على نمطِ التَّعديدِ بطريقِ التَّحدِّي على أحدِ الوجهينِ المذكُورينِ في فاتحةِ سُورة البقرةِ فلا محلَّ له من الإعرابِ وإمَّا اسمٌ للسُّورةِ كما عليه إطباقُ الأكثرِ فمحلُّه الرَّفعُ على أنَّه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ وهو أظهرُ من الرَّفع على الابتداءِ وقد مرَّ وجهُه في مطلعِ سُورة يونسَ عليه السَّلامُ . أو النَّصبُ بتقديرِ فعلٍ لائقٍ نحوِ اذكُر أو اقرأْ . وتلكَ في قولِه تعالى : { تِلْكَ ءايَاتُ الكتاب المبين } إشارةٌ إلى السُّورة سواءٌ كانَ طسم مسرُوداً على نمط التَّعديدِ أو اسماً للسُّورة حسبما مرَّ تحقيقُه هناك ، وما في اسمِ الإشارةِ من معنى البُعدِ للتَّنبيهِ على بُعدِ منزلةِ المُشارِ إليه في الفخامةِ ومحلُّه الرَّفعُ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه ما بعَدُه وعلى تقديرِ كونِ طسم مبتدأً فهو مبتدأٌ ثانٍ أو بدلٌ من الأَّولِ ، والمرادُ بالكتابِ القرآنُ وبالمبينِ الظَّاهرُ إعجازُه على أنَّه من أبانَ بمعنى بانَ ، أو المُبينُ للأحكامِ الشَّرعيةِ وما يتعلَّقُ بها أو الفاصلُ بين الحقِّ والباطلِ والمعنى هي آياتٌ مخصُوصةٌ منه مترجمةٌ باسمِ مستقلَ . والمرادُ ببيانُ كونِها بعضاً منُهُ وصفاً بما اشتُهر به الكُلُّ من النُّعوتِ الفاضلةِ .
{ لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ } أي قاتلٌ . وأصلُ البَخعِ أنْ يبلغَ بالذَّبحِ النُّخاعَ ، وهو عرقٌ مستبطنُ الفقارِ وذلك أقصى حدِّ الذَّبحِ . وقُرىء باخِعُ نفسِك على الإضافةِ ولعلَّ للإشفاقِ أي أشفقْ على نفسِك أنْ تقتلَها حسرةً على ما فاتَك من إسلامِ قومِك { أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } أي لعدمِ إيمانِهم بذلكَ الكتابِ المبينِ أو خيفةَ أنْ لا يُؤمنوا به .
وقوله تعالى : { إِن نَّشَأْ } الخ استئنافٌ مسوق لتعليلِ ما يُفهم من الكلام من النَّهي عن التَّحسرِ المذكور ببيانِ أنَّ إيمانَهم ليس ممَّا تعلَّقتْ به مشيئةُ الله تعالى حتماً فلا وجهَ للطَمعِ فيه والتَّألمِ من فواتِه . ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ لكونه مضمونَ الجزاءِ أعني قوله تعالى : { نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السماء ءايَةً } أي ملجئةً لهم إلى الإيمانِ قاسرةً عليه وتقديمُ الظَّرفينِ على المفعول الصَّريحِ لما مرَّ مراراً من الاهتمامِ بالمقدَّمِ والتَّشويقِ إلى المؤخَّرِ { فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين } أي مُنقادين . وأصلُه فظلوا لها خاضعين فأُقحمت الأعناقُ لزيادةِ التَّقريرِ ببيانِ موضعِ الخضوعِ وتُرك الخبرُ على حالِه . وقيل لمَّا وُصفت الأعناقُ بصفاتِ العُقلاء أُجريتْ مجراهم في الصِّيغةِ أيضاً كما في قولِه تعالى : { رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ } وقيل : أُريد بها الرُّؤساءُ والجماعاتُ من قولِهم جاءنا عنقٌ من النَّاسِ أي فوجٌ منهم . وقُرىء خاضعةً . وقولُه تعالى : فظلَّتْ عطفٌ على ننزِّل باعتبارِ محلِّه .(5/127)
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)
وقولُه تعالَى :
{ وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرحمن مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ } بيانٌ لشدَّةِ شكيمتهم وعدمِ ارعوائهم عمَّا كانوا عليه من الكُفر والتَّكذيبِ بغير ما ذُكر من الآيةِ المُلجئةِ لصرف رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عن الحرصِ على إسلامِهم وقطعِ رجائِه عنه . ومِن الأُولى مزيدةٌ لتأكيدِ العُموم والثَّانيةُ لابتداء الغايةِ مجازاً متعلِّقةٌ بيأتيهم أو بمحذوفٍ هو صفةٌ لذكرٍ ، وأيَّاً ما كان ففيهِ دلالةٌ على فضلهِ وشرفهِ وشناعةِ ما فعلُوا به والتَّعرضُ لعنُوان الرَّحمةِ لتغليظِ شناعتِهم وتهويلِ جنايتِهم فإنَّ الإعراضَ عمَّا يأتيهم من جنابِه عزَّ وجلَّ على الإطلاقِ شنيغٌ قبيحٌ وعما يأتيهم بموجبِ رحمتِه تعالى لمحضِ منفعتِهم أشنعُ وأقبحُ أي ما يأتيهم من موعظةٍ من المواعظِ القُرآنيةِ أو من طائفةٍ نازلةٍ من القُرآنِ تذكِّرهم أكملَ تذكيرٍ وتنبِّههم عن الغفلةِ أتمَّ تنبيةِ كأنَّها نفسُ الذِّكرِ من جهتهِ تعالى بمقتضى رحمتِه الواسعةِ مجدد تنزيله حسبما تقتضيه الحكْمةُ والمصلحة إلا جدَّدوا إعراضاً عنه على وجه التَّكذيبِ والاستهزاء وإصراراً على ما كانُوا عليه من الكفرِ والضَّلالِ والاستثناء مفرَّغٌ من أعمِّ الأحوال ، محلُّه النَّصبُ على الحاليَّةِ من مفعول يأتيهم بإضمار قد أو بدونِه على الخلاف المشهورِ أي ما يأتيهم من ذكرٍ في حال من الأحوالِ إلا حالَ كونهم مُعرضين عنه .
{ فَقَدْ كَذَّبُواْ } أي كذَّبوا بالذِّكرِ الذي يأتيهم تكذيباً صَريحاً مُقارناً للاستهزاءِ به ولم يكتفُوا بالإعراضِ عنه حيثُ جعلُوه تارة سحراً وأُخرى أساطيرَ وأُخرى شعراً . والفاءُ في قوله تعالى : { فَسَيَأْتِيهِمْ } لترتيبِ ما بعدها على ما قبلَها . والسِّينُ لتأكيد مضمونِ الجملة وتقريرهِ أي فسيأتيهم البتةَ من غير تخلّفٍ أصلاً { أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِِءُونَ } عدلَ عمَّا يقتضيه سائرُ ما سلف من الإعراض والتَّكذيبِ للإيذان بأنَّهما كانا مقارنين للاستهزاءِ ، كما أشير إليه حسبما وقع في قولِه تعالى : { وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايات رَبّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ } وأنباؤُه ما سيحيقُ بهم من العُقوبات العاجلةِ والآجلةِ عبَّر عنها بذلك إمَّا لكونِها ممَّا أنبأَ بها القُرآنُ الكريمُ وإمَّا لأنَّهم بمشاهدتِها يقفُون على حقيقةِ حالِ القُرآنِ كما يقفُون على الأحوالِ الخافيةِ عنهم باستماعِ الأنباءِ وفيه تهويلٌ له لأنَّ النبأَ لا يُطلق إلا على خبرٍ خطيرٍ له وقعٌ عظيمٌ أي فسيأتيهم لا محالةَ مصداقُ ما كانُوا يستهزئون به قبلُ من غير أنْ يتدَّبروا في أحوالِه ويقفوا عليها .
{ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ } الهمزةُ للإنكار التَّوبيخيِّ والواو للعطف على مقدَّرٍ يقتضيه المقام أي فعلوا ما فعلوا من الإعراضِ عن الآيات والتَّكذيبِ والاستهزاء بها ولم ينظرُوا { إِلَى الأرض } أي إلى عجائبها الزَّاجرةِ عمَّا فعلُوا الدَّاعيةِ إلى الإقبال على ما أعرضُوا عنه وإلى الإيمانِ به .(5/128)
وقولُه تعالى : { كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } استئنافٌ مبيِّن لما في الأرضِ من الآيات الزَّاجرةِ عن الكُفر الدَّاعيةِ إلى الإيمان . وكمْ خبريةٌ منصوبةٌ بما بعدها على المفعوليَّةِ . والجمعُ بينها وبينَ ( كلِّ ) لإفادةِ الإحاطةِ والكثرةِ معاً ومن كلِّ زوجٍ أي صنف تمييز والكريمُ من كلِّ شيءٍ مرضيُّه ومحمودُه أي كثيراً من كلِّ صنفٍ مرضيَ كثير المنافع أنبتنا فيها . وتخصيصُ إنباته بالذِّكر دون ما عداه من الأصنافِ لاختصاصِه بالدِّلالةِ على القُدرة والنعمة معاً . ويُحتمل أنْ يرادَ به جميعُ أصناف النَّباتاتِ نافعِها وضارِّها ويكون وصفُ الكلِّ بالكرمِ للتنبيه على أنَّه تعالى ما أنبتَ شيئاً إلا وفيه فائدةٌ كما نطقَ به قولُه تعالى : { هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً } فإنَّ الحكيمَ لا يكادُ يفعلُ فعلاً إلا وفيه حكمةٌ بالغةٌ وإنْ غفلَ عنها الغافلونَ ولم يتوصَّلْ إلى معرفةِ كُنْهِها العاقلون .(5/129)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
{ إِنَّ فِى ذَلِكَ } إشارةٌ إلى مصدرِ أنبتنا أو إلى كلِّ واحدٍ من تلك الأزواجٍ ، وأيَّا ما كان فما فيه من معنى البُعد للإيذانِ ببُعد منزلتِه في الفضلِ { لآيَةً } أي آيةً عظيمةً دالَّةً على كمالِ قُدرةِ مُنبتها وغايةِ وفُورِ علمهِ وحكمتِه ونهايةِ سعَةِ رحمتِه موجبةً للإيمانِ وازعةً عن الكُفرِ .
{ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ } أي أكثرُ قومِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ { مُّؤْمِنِينَ } قيل أي في علم الله تعالى وقضائِه حيثُ علم أزلاً أنَّهم سيُصرفون فيما لا يزالُ اختيارُهم الذي عليه يدورُ أمر التَّكليفِ إلى جانب الشَّرِّ ولا يتدبَّرون في هذه الآياتِ العظامِ . وقال سيبويِه : كانَ صلةٌ ، والمعنى وما أكثرُهم مؤمنين وهو الأنسبُ بمقامِ بيانِ عُتوِّهم وغلوِّهم في المكابرةِ والعنادِ مع تعاضدِ موجباتِ الإيمانِ من جهتِه تعالى . وأما نسبةُ كفرِهم إلى علمهِ تعالى وقضائِه فرُبَّما يتُوهَّم منها كونُهم معذورينَ فيه بحسبِ الظَّاهرِ لأنَّ ما أُشير إليه من التَّحقيقِ ممَّا خفيَ على مَهَرةِ العُلماء المُتقنين ، كأنَّه قيل : إنَّ في ذلك لآيةً باهرةً موجبةً للإيمانِ وما أكثرُهم مُؤمنين مع ذلكَ لغايةِ تمادِيهم في الكُفرِ والضَّلالةِ وانهماكِهم في الغِيِّ والجَهَالةِ . ونسبةُ عدمِ الإيمانِ إلى أكثرِهم لأنَّ منهم مَن سُيؤمن .
{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز } الغالبُ على كلِّ ما يُريده من الأمورِ التي من جُملتِها الانتقامُ من هؤلاءِ { الرحيم } المبالغُ في الرَّحمةِ ولذلك يُمهلهم ولا يُؤاخذهم بغتةً بما اجتزؤُا عليهِ من العظائمِ المُوجبةِ لفُنون العُقُوباتِ ، وفي التَّعرضِ لوصفِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافةِ إلى ضميرهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من تشريفهِ والعِدَةِ الخفيَّةِ بالانتقامِ من الكَفَرةِ ما لا يَخفْى { وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى } كلامٌ مستأنف مسوق لتقريرِ ما قبله من إعراضِهم عن كلِّ ما يأتيهم من الآيات التنَّزيليةِ وتكذيبِهم بما إثرَ بيانِ إعراضهم عمَّا يُشاهدونه من الآيات التَّكوينَّيةِ . وإذْ منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرٍ خُوطب به النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أي وأذكرُ لأولئك المعرضين المكذِّبين وقت ندائه تعالى إيَّاه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وذكِّرهم بما جَرى على قوم فرعونَ بسبب تكذيبِهم إيَّاه زجراً لهم عمَّا هم عليه من التَّكذيبِ وتحذيراً من أنْ يحيقَ بهم مثلُ ما حاق بأضرابهم المكذِّبين الظَّالمين حتَّى يتَّضحَ لك أنَّهم لا يُؤمنون بما يأتيهم من الآيات ، لكنْ لا بقياس حالِ هؤلاء بحالِ أُولئك فقط بل بمشاهدةِ إصرارهم على ما هُم عليه بعد سماع الوحي النَّاطقِ بقصَّتِهم وعدم اتِّعاظِهم بذلك كما يُلوِّحُ به تكريرُ قولِه تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ } عقيب كلِّ قصَّةٍ ، وتوجيهُ الأمر بالذِّكرِ إلى الوقت مع أن المقصودَ تذكير ما وقع فيه من الحوادث قد مرَّ سردُه مراراً { أَنِ ائت } بمعنى أي ائت على أنّ أنْ مفسِّرة أو بأن ائت على أنَّها مصدريةٌ حُذف منها الجارُّ { القوم الظالمين } أي بالكُفر والمعاصي واستعبادِ بني إسرائيلَ وذبحِ أبنائِهم وليس هذا مطلعَ ما ورد في حيِّزِ النَّداءِ وإنَّما هو ما فُصِّل في سورةِ طه من قوله تعالى : { إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ } إلى قوله : { لِنُرِيَكَ مِنْ ءاياتنا الكبرى } وإيراد ما جرى في قصَّةٍ واحدةٍ من المقالاتِ بعباراتٍ شَتَّى وأساليبَ مختلفةٍ قد مرَّ تحقيقُه في أوائل سورةِ الأعرافِ عند قوله تعالى : { قَالَ أَنظِرْنِى . }(5/130)
قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13)
{ قَوْمِ فِرْعَونَ } بدلٌ من الأَوَّلِ ، أو عطفٌ بيانٍ له جيء به للإيذانِ بأنَّهم عَلَمٌ في الظُّلم كأنَّ معنى القومِ الظَّالمينَ وترجمتَهُ قومُ فرعونَ . والاقتصارُ على ذكرِ قومِه للإيذانِ بشهرةِ أنَّ نفسَه أَوَّلُ داخلٍ في الحُكم { أَلا يَتَّقُونَ } استئنافٌ جيء به إثرَ إرسالِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إليهم للإنذارِ تعجيباً من غُلوِّهم في الظُّلم وإفراطِهم في العُدوان . وقُرىء بتاء الخطابِ على طريقة الالتفاتِ المنبىءِ عن زيادة الغَضَبِ عليهم كأنَّ ذكرَ ظُلمِهم أدَّى إلى مشافهتِهم بذلك وهُم وإن كانُوا حينئذٍ غُيّباً لكنَّهم قد أُجروا مجرى الحاضرين في كلام المُرسل إليهم من حيثُ إنَّه مبلغه إليهم وإسماعُه مبتدأُ إسماعِهم مع ما فيه من مزيد الحثِّ على التقوى لمن تدبَّر وتأمَّل . وقُرىء بكسرِ النُّونِ اكتفاءً به عن ياء المتكلِّم وقد جُوِّزَ أنْ يكونَ بمعنى ألا يا ناسُ اتقَّون نحو ألاّ يسجدُوا .
{ قَالَ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأَ من حكاية ما مَضَى كأنَّه قيل : فماذا قال مُوسى عليه السَّلامُ فقيل قال متضرِّعاً إلى الله عزَّ وجلَّ { رَبّ إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ } من أوَّلِ الأمرِ { وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى } معطوفانِ على أخافُ { فَأَرْسِلْ } أي جبريلَ عليه السَّلامُ { إِلَىَّ هارون } ليكونَ معي وأتعاضدُ به في تبليغِ الرِّسالة رتَّب عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ استدعاءَه ذلك على الأمورِ الثَّلاثةِ : خوفُ التَّكذيبِ وضيقُ الصَّدرِ وازديادُ ما كان فيه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من حَبسةِ اللِّسان بانقباضِ الرُّوحِ إلى باطنِ القلبِ عند ضيقِه بحيث لا ينطقُ لأنَّها إذا اجتمعتْ تمسُّ الحاجةُ إلى معينٍ يُقوِّي قلبه وينوبُ منابَه إذا اعتراهُ حبسةٌ حتَّى لا تختلَّ دعوتُه ولا تنقطعَ حجَّتُه ، وليس هذا من التَّعلل والتَّوقف في تلقِّي الأمرِ في شيءٍ وإنَّما هو استدعاءٌ لما يُعينه على الامتثالِ به وتمهيدُ عذرٍ فيه . وقُرىء ويضيقَ ولا ينطلقَ بالنَّصبِ عطفاً على يكذِّبون فيكونانِ من جملةً ما يَخافُ منه .(5/131)
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)
{ وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ } أي تبعةُ ذنبٍ فحُذف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مقامَه أو سمِّي باسمِه . والمرادُ به قتلُ القِبْطيِّ وتسميتُه ذنباً بحسبِ زعمِهم كما ينبىءُ عنه قولُه لهم وهذا إشارةٌ إلى قصَّةٍ مبسوطةٍ في غيرِ موضعٍ { فَأَخَافُ } أي إنْ أتيتهم وحدي { أَن يَقْتُلُونِ } بمقابلتِه قبل أداءِ الرِّسالةِ كما ينبِغي وليس هذا أيضاً تعلُّلاً وإنما هو استدفاعٌ للبليَّةِ المتوقّعةِ قبل وقوعِها .
وقوله تعالى : { قَالَ كَلاَّ فاذهبا بئاياتنا } حكايةٌ لإجابتِه تعالى إلى الطِّلبتينِ : الدَّفعِ المفهومِ من الرَّدعِ عن الخوفِ وضمِّ أخيهِ المفهومِ من توجيهِ الخطابِ إليهما بطريقِ التَّغليبِ فإنَّه معطوفٌ على مضميرٍ ينبىءُ عنه الرَّدعُ كأنَّه قيل : ارتدِع يا موسى عمَّا تظنُّ فاذهب أنت ومن استدعيته . وفي قوله بآياتنا رمزٌ إلى أنَّها تدفع ما يخافه . وقوله تعالى : { إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ } تعليلٌ للرَّدعِ عن الخوفِ ومزيد تسلية لهما بضمانِ كمالِ الحفظِ والنُّضرةِ كقولِه تعالى : { إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وأرى } وحيثُ كان الموعودُ بمحضرٍ من فرعونَ اعتبر ههنا في المعيَّةِ وقيل : أجريا مجرى الجماعةِ ويأباهُ ما قبله وما بعده من ضميرٍ التَّثنية أي سامعون ما يجري بينكما وبينه فنظهركما عليه ، مثَّل حالَه تعالى بحالِ ذِي شَوكةٍ قد حضَر مجادلَة قومٍ يستمعُ ما يجري بينَهم ليمدَّ أولياءَهُ ويُظهرهم على أعدائِهم مبالغةً في الوعدِ بالإعانةِ أو استعير الاستماع الذي هو بمعنى الإصغاءِ للسَّمعِ الذي هو العلمُ بالحروفِ والأصواتِ وهو خبرٌ ثانٍ أو خبرٌ وحدَهُ ومعكم ظرفُ لغوٍ ، والفاءُ في قوله تعالى :
{ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين } لترتيبِ ما بعدها على ما قبلَها من الوعدِ الكريمِ ، وليس هَذا مجرَّدَ تأكيدٍ للأمرِ بالذِّهابِ لأنَّ معناهُ الوصولُ إلى المأتيِّ لا مجرَّدَ التَّوجهِ إليه كالذِّهابِ ، وإفراد الرَّسول إمَّا باعتبارِ رسالةِ كلَ منهُمَا أو لاتِّحادِ مطلبهما أو لأنَّه مصدرٌ وُصفَ به وأنْ في قولِه تعالى : { أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسراءيل } مفسِّرةٌ لتضمن الإرسالِ المفهومِ من الرَّسولِ معنى القولِ ومعنى إرسالِهم تخليتُهم وشأنَهم ليذهبُوا معهما إلى الشَّامِ .
{ قَالَ } أي فرعونُ لموسى عليه السَّلامُ بعد ما أتياهُ وقالا له ما أُمرا به ، يُروى أنَّهما انطلقا إلى بابِ فرعونَ فلم يُؤذن لهما سنةً حتَّى قال البَّوابُ إنَّ ههنا إنساناً يزعمُ أنَّه رسولُ ربِّ العالمين فقال ائذنْ له لعلَّنا نضحكُ فأدَّيا إليه الرِّسالةَ فعرفَ مُوسى عليه السَّلامُ فقال عند ذلك :
{ أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا } في حِجرِنا ومنازلِنا { وَلِيداً } أي طِفلاً عبر عنه بذلك لقُرب عهده بالولادة { وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } قيل لبثَ فيهم ثلاثين سنةً ثم خرجَ إلى مدينَ وأقام بها عشرَ سنين ثمَّ عاد إليهم يدعُوهم إلى الله عزَّ وجلَّ ثلاثينَ سنة ثم بقي بعدَ الغرقِ خمسينَ سنة وقيل وكز القبطيَّ وهو ابنُ اثنتي عشرةَ سنة وفرَّ منهم على أثرِ ذلك ، والله أعلم .(5/132)
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
{ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التى فَعَلْتَ } يعني قتلَ القبطيِّ بعد ما عدَّد عليه نعمتَهُ من تربيته وتبليغِه مبلغَ الرِّجالِ وبَّخه بَما جَرَى عليه من قتلِ خبَّازِه وعظَّم ذلك وفظَّعه . وقُرىء فِعلتك بكسر الفاء لأنَّها كانتْ نَوْعاً من القتل { وَأَنتَ مِنَ الكافرين } أي بنعمتي حيثُ عمدتَ إلى قتلِ رجلٍ من خواصّي أو أنت حينئذٍ ممَّن تكفِّرهم الآنَ وقد افترى عليهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أو جهلَ أمره عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حيثُ كان يُعايشهم بالتَّقيةِ وإلا فأينَ هُو عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من مشاركتِهم في الدِّينِ فالجملةُ حينئذٍ حالٌ من إحدى التَّاءينِ ويجوزُ أنْ يكونَ حُكماً . مُبتدأ عليه بأنَّه من الكافرينَ بإلهيته أو ممَّن يكفرُون في دينِهم حيثُ كانتْ لهم آلهةٌ يعبدونها أو من الكافرين بالنِّعم المعتادين لغمطها ومنِ اعتادَ ذلك لا يكونُ مثلُ هذه الجنايةِ بدعاً منْهُ .
{ قَالَ } مجُيباً له مصدِّقاً له في القتلِ ومكذِّباً فما نسبه إليه من الكفر { فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين } أي من الجاهلينَ وقد قُرىء كذلك لا من الكافرينَ كما زعمت افتراءً أي من الفاعلين فعلَ الجهالةِ والسُّفهاءِ أو من المخطئين لأنَّه لم يتعمَّد قتلَه بل أرادَ تأديبَه أو الذَّاهبين عمَّا يُؤدِّي إليه الوكز أو الناسين كقوله تعالى : { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى } { فَفَرَرْتُ مِنكُمْ } إلى ربيِّ { لَمَّا خِفْتُكُمْ } أنْ تُصيبوني بمضمرةٍ وتؤاخذوني بما لا أستحقُّه بجنايتي من العقابِ { فَوَهَبَ لِى رَبّى حُكْماً } أي حكمةً أو نبُّوةً { وَجَعَلَنِى مِنَ المرسلين } رد أولاً بذلك ما وبَّخه به قدحاً في نبُّوته ثم كرَّ على ما عده عليه من النِّعمةِ ولم يصرِّحْ بردِّه حيثُ كان صدقاً غيرَ قادحٍ في دعواه بل نبَّه على أنَّ ذلك كان في الحقيقةِ نعمةً فقال : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إسراءيل } أي تلك التربيةُ نعمةٌ تمنُّ بها عليَّ ظاهراً وهي في الحقيقةِ تعبيدُك بني إسرائيلَ وقصدُك إيَّاهم بذبحِ أبنائِهم فإنَّه السببُ في وقوعي عندكَ وحصولي في تربيتِك وقيل : إنه مقدَّرٌ بهمزةِ الإنكار أي : أوَ تلك نعمة تمنُّها عليَّ وهي أنْ عبَّدتَ بني إسرائيلَ ومحلُّ أنْ عبَّدتَ الرُّفعُ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٌ أو بدلٌ من نعمةٌ ، أو الجرُّ بإضمارِ الباءِ ، أو النَّصبُ بحذفهِا وقيل : تلك إشارةٌ إلى خصلةٍ شنعاءَ مبهمةٍ وأنْ عبَّدتَ عطفُ بيانٍ لها والمعنى تعبيدُك بني إسرائيلَ نعمةٌ تمنُّها عليَّ . وتوحيدُ الخطابِ في تمنُّها وجمعه فيما قبلَه لأن المنة منه خاصَّة والخوفُ والفرارُ منه ومن ملئِه .(5/133)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
{ قَالَ فِرْعَوْنُ } لمَّا سمعَ منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تلك المقالةَ المتينةَ وشاهد تصلُّبهَ في أمرِه وعدمَ تأثُّرِه بما قدَّمه من الإبراقِ والإرعاد شرعَ في الاعتراض على دعواهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فبدأ بالاستفسارِ عن المُرْسِل فقال : { وَمَا رَبُّ العالمين } حكايةٌ لما وقع في عبارته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أيْ أيُّ شيءٍ رب العالمينَ الذي أدَّعيتَ أنَّك رسولُه منكراً لأنْ يكون للعالمين ربٌّ سواه حسبما يُعرب عنه قولُه : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الاعلى } وقوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى } وينطق به وعيدُه عند تمام أجوبتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ { قَالَ } موسى عليه السَّلامُ مُجيباً له { رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } بتعيين ما أراد بالعالمين وتفصيله لزيادةِ التَّحقيقِ والتَّقريرِ وحسم مادَّةِ تزويرِ اللَّعينِ وتشكيكهِ بحملِ العالمينَ على ما تحت مملكتِه { إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } أي إنْ كنتُم موقنين بالأشياءِ محقِّقين لها علمتُم ذلك ، أو إنْ كنتُم موقنين بشيءٍ من الأشياءِ فهذا أولى بالإيقانِ لظهورِه وإنارةِ دليله .
{ قَالَ } أي فرعونُ عند سماع جوابِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ خوفاً من تأثيرِه في قلوبِ قومِه وإذعانِهم له { لِمَنْ حَوْلَهُ } من أشراف قومه قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : خمُسمائة عليهم الأساورُ وكانت للملوك خاصَّةً { أَلاَ تَسْتَمِعُونَ } مرائياً لهمَّ أنَّ ما سمعُوه من جوابِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع كونِه ممَّا لا يليقُ بأنْ يتُعجَّب منه كأنَّه قال ألا تستمعُون ما يقولُه فاستمعُوه وتعجَّبوا منه حيثُ يدَّعي خلافَ أمرٍ محقَّقٍ لا اشتباه فيه يُريد به ربوبيةَ نفسِه .
{ قَالَ } عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تصريحاً بما كان مُندرجاً تحت جوابيِه السَّابقينِ { رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الأولين } وحطّاً له من ادِّعاءِ الرُّبوبيَّةِ إلى مرتبةِ المربُوبَّيةِ .
{ قَالَ } أي فرعونُ لمَّا واجهه مُوسى عليه السَّلامُ بما ذُكر غاظه ذلك وخافَ من تأثُّر قومِه منه فأراهُم أنَّ ما قاله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ممَّا لا يصدرُ عن العُقلاء صدَّاً لهمُ عن قبولِه فقال مؤكِّداً لمقالتِه الشَّنعاءِ بحرفَيْ التَّأكيدِ : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } ليفتنهم بذلَك ويصرفهم عن قبولِ الحقِّ وسَّماهُ رسولاً بطريقِ الاستهزاءِ وأضافه إلى مُخاطبيه ترفُّعاً من أنْ يكونَ مُرْسَلاً إلى نفسِه .
{ قَالَ } عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ { رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَا } قاله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تكميلاً لجوابه الأوَّلِ وتفسيراً له وتنبيهاً على جهلِهم وعدمِ فهمِهم لمعنى مقالتِه فإنَّ بيانَ ربوبيَّتهِ تعالى للسَّموات والأرضِ وما بينَهما وإنْ كان متضمِّناً لبيانِ ربوبيَّتِه تعالى للخافقينِ وما بينَهُما لكن لمَّا لم يكُن فيه تصريحٌ بإستناد حركات السَّمواتِ وما فيها وتغيُّراتِ أحوالِها وأوضاعِها وكون الأرض تارةً مظلمةً وأخرى منورةً إلى الله تعالى أرشدَهُم إلى طريقِ معرفةِ ربوبيته تعالى لمَّا ذكر فإن ذكر المشرقِ والمغربِ منبىءٌ عن شروقِ الشَّمسِ وغروبِها المنُوطينَ بحركاتِ السَّمواتِ وما فيها على نمطٍ بديعٍ يترتَّب عليه هذه الأضاعُ الرَّصينةُ ، وكلُّ ذلك أمورٌ حادثةٌ مفتقرةٌ إلى محدثٍ قادرٍ عليمٍ حكيمٍ لا كذواتِ السَّمواتِ والأرضِ التي يتوهَّم جهلةُ المُتوهمينَ باستمرارِها استغناءها عن الموحِّدِ المُتصرِّفِ { إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } أي إنْ كنتُم تعقلون شيئاً من الأشياءِ أو إنْ كنتُم من أهلِ العقلِ علمتُم أنَّ الأمرَ كما قُلته ، وفيه إيذانٌ بغايةِ وضوحِ الأمرِ بحيثُ لا يشتبه على مَن له عقلٌ في الجُملةِ ، وتلويحٌ بأنَّهم بمعزلٍ من دائرةِ العقلِ وأنَّهم المتَّصفون بما رَمَوه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ به من الجنونِ .(5/134)
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)
{ قَالَ } لما سمع اللَّعينُ منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تلك المقالاتِ المبنيةَ على أساسِ الحِكَمِ البالغةِ وشاهدَ شدَّةَ حزمِه وقوَّةَ عزمِه على تمشية أمرِه وأنَّه ممَّن لا يجارى في حلبةِ المحاورةِ ضربَ صَفحاً عن المُقاولةِ بالإنصافِ ونَأَى بجانبه إلى عُدْوةِ الجورِ والاعتسافِ فقال مُظهراً لما كانَ يُضمره عند السُّؤال والجوابِ : { لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِى لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين } لم يقتنْع منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بتركِ دعَوى الرِّسالةِ وعدمِ التَّعرض له حتَّى كلَّفه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يتَّخذَه إلهاً لغايةِ عُتوِّه وغُلوِّه فما فيه من دَعْوى الأُلوهيَّةِ وهذا صريحٌ في أنَّ تعجُّبَه وتعجيبَه من الجوابِ الأوَّلِ ونسبَتُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى الجنُونِ في الجوابِ الثَّاني كان لنسبته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ الرُّبوبَّيةَ إلى غيرِه ، وأما ما قيلَ مِنْ أنَّ سؤالَه كان عن حقيقةِ المُرْسِل وتعجُّبه من جوابِه كان لعدمِ مُطابقتِه له لكونِه يذكرُ أحوالَه فلا يُساعده النَّظم الكريمُ ولا حال فرعونَ ولا مقالُه . واللامُ في المسجونينَ للعهدِ أي لأجعلنَّك ممَّن عرفتَ أحوالَهم في شجونِي حيثُ كان يطرحُهم في هُوَّةٍ عميقة حتَّى يموتُوا ولذلك لم يقُل لأسجنَّنك .
{ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ } أي أتفعلُ بي ذلك ولو جئتُك بشيء مبينٍ أي موضِّحٍ لصدقِ دعواي يريد به المعجزةَ فإنَّها جامعةٌ بين الدِّلالةِ على وجودِ الصَّانعِ وحكمتِه وبين الدِّلالةِ على صدقِ دَعْوى مَن ظهرتْ على يدِه والتَّعبيرُ عنها بالشَّيءِ للتَّهويلِ قالوا الواوُ في أولو جئتُك للحالِ دخلتْ عليها همزةُ الاستفهامِ أي جائياً بشيء مبينٍ وقد سلفَ منَّا مراراً أنَّها للعطفِ وأنَّ كلمةَ لَوْ ليستْ لانتفاءِ الشَّيءِ في الزَّمانِ الماضِي لانتفاء غيرِه فيه فلا يُلاحظ لها جوابٌ قد حُذف تعويلاً على دلالةِ ما قبلها عليه ملاحظة قصديَّة إلا عند القصدِ إلى بيانِ الإعرابِ على القواعدِ الصِّناعيَّةِ بل هي لبيان تحقُّقِ ما يُفيده الكلامُ السَّابقُ من الحكم الموجب أو المنفيِّ على كل حالٍ مفروض من الأحوالِ المقارنةِ له على الإجمال بإدخالِها على أبعدِها منه وأشدِّها منافاةً له ليظهر بثبوتهِ أو انتفائِه معه ثبوتُه وانتفاؤُه مَعَ ما عداهُ من الأحوال بطريق الأولويةِ لما أنَّ الشَّيءَ متى تحقَّقَ مع المنافي القويَّ فلأنْ يتحقَّقَ مع غيره أولى ولذلك لا يذكر معه شيءٌ من سائرِ الأحوالِ ويكتفي عنه بذكر العاطف للجُملة على نظرِتها المقابلة لها الشَّاملة لجيمع الأحوالُ المُغايرة لها عند تعدُّدها ليظهر ما ذكر من تحقُّق الحكم على جميع الأحوال فإنَّك إذا قلتَ فلانٌ جوادٌ يعطي ولو كان فقيراً تُريد بيانَ تحقُّقِ الإعطاءِ منه على كلِّ حالٍ من أحوالِه المفروضةِ فتعلق الحكم بأبعدِها منه ليظهر بتحقُّقهِ معه تحقُّقه معَ ما عداهُ من الأحوالِ التي لا مُنافاة بينها وبينَ الحكم بطريقِ الأولويَّةِ المُصحِّحةِ للاكتفاء بذكرِ العاطفِ عن تفصيلِها كأنَّك قلتَ فلانٌ جوادٌ يُعطي لو لم يكنْ فَقيراً ولو كان فَقيراً أي يُعطى حالَ كونِه فقيراً ، فالحالُ في الحقيقةِ كلتا الجملتينِ المُتعاطفتين لا المذكورةُ على أنَّ الواوُ للحالِ وتصديرُ المجيءِ بما ذُكر من كلمة لَوْ دون أنْ ليس لبيانِ استبعادِه في نفسه بل بالنِّسبة إلى فرعونَ والمعنى أتفعلُ بي ذلك حالَ عدمِ مجيئي بشيءٍ مُبينٍ وحال مجيئي به .(5/135)
قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)
{ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } أي فيما يدل عليه كلامُك من أنكَّ تأتي بشيءٍ مبينٍ موضِّحٍ لصدقِ دَعْواك أو في دَعْوى الرِّسالة ، وجوابُ الشَّرطِ المحذوفُ لدلالةِ ما قبله عليه .
{ فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } أي ظاهرٌ ثعبانيتُه لا أنَّه شيءٌ يُشبهه واشتقاقُ الثُّعبان من ثعبثُ الماءَ فانثعبَ أي فجَّرتُه فانفجرَ وقد مرَّ بيانُ كيفيةِ الحالِ في سوُرة الأعرافِ وسورة طه .
{ وَنَزَعَ يَدَهُ } من جيبِه { فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء للناظرين } قيل لَّما رأى فرعون الآيةَ الأُولى وقال هل لكَ غيرُها فأخرجَ يدَهُ فقال ما هذه قال فرعونُ : يدُك فما فيها؟ فأدخلها في إبطهِ ثمَّ نزَعَها ولها شعاعٌ يكادُ يغشي الأبصارَ ويسدُّ الأفقَ .
{ قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ } أي مستقرِّين حولَه فهو ظرفٌ وقعَ موقعَ الحالِ { إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ } فائقٌ في فنِّ السِّحرِ .
{ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم } قَسْراً { مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } بهره سلطانُ المعجزة وحيرَّه حتَّى حطَّه عن ذروةِ ادَّعاءِ الرُّبوبيةِ إلى حضيضِ الخُضوعِ لعبيدِه في زعمه والامتثالِ بأمرِهم أو إلى مقامِ مؤامرتِهم ومشاورتِهم بعد ما كانَ مستقلاً في الرَّأيِ والتَّدبيرِ وأظهر استشعارُ الخوفِ من استيلائه على مُلكه ، ونسبةُ الإخراج والأرض إليهم لتنفيرهم عن موسى عليه السلام .(5/136)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)
{ قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } أخِّر أمرهما ، وقيل : احبسهُما { وابعث فِى المدائن حاشرين } أي شُرَطاً يحشرُون السَّحرةَ .
{ يَأْتُوكَ } أي الحَاشرون { بِكُلّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ } فائقٍ في فنِّ السِّحرِ ، وقُرىء بكلِّ ساحرٍ .
{ فَجُمِعَ السحرة لميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } هو ما عيَّنه مُوسى عليه السَّلامُ بقوله : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى . } { وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ } قيل لهم ذلك استبطاءً لهم في الاجتماعِ وحثّاً لهم على المُبَادرة إليه .
{ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين } أي نتبعهم في دينِهم إنْ كانُوا هم الغالبين لا مُوسى عليه السَّلامُ وليس مرادُهم بذلك أنْ يتَّبعوا دينَهم حقيقةً وإنَّما هو أنْ لا يتَّبعوا مُوسى عليه السَّلامُ لكنَّهم ساقُوا كلامَهم مساقَ الكنايةِ حَمْلاً لهم على الاهتمامِ والجِدَّ في المُغالبة .
{ فَلَمَّا جَاء السحرة قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ إئِنَّ لَنَا لاجْرًا } أي أجراً عظيماً { إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين } لا مُوسى عليه السَّلامُ .
{ قَالَ نَعَمْ } لكُم ذلك { وَإِنَّكُمْ } مع ذلك { إِذاً لَّمِنَ المقربين } عندي قيل قال لهم تكونُون أوَّلَ من يدخلُ عليَّ وآخرَ مَن يخرجُ عنِّي ، وقُرىء نعِم بكسرِ العين وهُما لغُتانِ .
{ قَالَ لَهُمْ موسى } أي بعدما قالَ له السَّحرةُ إمَّا أنْ تلقيَ وإمَّا أنْ نكونَ أوَّلَ منَ ألقَى . { أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ } ولم يُرد به الأمرَ بالسِّحرِ والتَّمويهَ بل الإذنَ في تقديمِ ما هُم فاعلُوه البتةَ توسُّلاً به إلى إظهارِ الحقِّ وإبطالِ الباطلِ .
{ فَأَلْقَوْاْ حبالهم وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ } أي وقد قالُوا عند الإلقاءِ { بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون } قالُوا ذلك لفرطِ اعتقادِهم في أنفسِهم وإتيانِهم بأقصى ما يُمكن أنْ يُؤتى به من السِّحرِ .(5/137)
فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
{ فألقى موسى عصاه فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ } أي تبتلعُ بسرعةٍ . وقُرىء تلقَّفُ بحذفِ إحدى التاءينِ من تَتَلقَّفُ { مَا يَأْفِكُونَ } أي ما يقلبونَهُ من وجهه وصورتِه بتمويههم وتزويدِهم فيخيِّلُون حبالَهم وعصيَّهم أنَّها حيَّاتٌ تسعى أو إفكهم تسميةً للمأفوكِ به مبالغةً .
{ فَأُلْقِىَ السحرة ساجدين } أي أثرَ ما شاهَدوا وذلك من غيرِ تلعثمٍ وتردُّدٍ غير متمالكينَ كأنَّ مُلقياً ألقاهُم لعلمِهم بأنَّ مثلَ ذلك خارجٌ عن حدودِ السِّحرِ وأنه أمرٌ إلهيٌّ قد ظهر على يدهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لتصديقه ، وفيه دليلٌ على أنَّه قصارَى ما ينتهِي إليه هممُ السَّحرةِ هو التَّمويهُ والتَّزويرُ وتخييلُ شيءٍ لا حقيقةَ له .
{ قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبّ العالمين } بدلُ اشتمالٍ من أُلقي أو حالٌ بإضمارِ قَدْ وقوله تعالى : { رَبّ موسى وهارون } بدلٌ من ربِّ العالمين للتَّوضيحِ ودفعِ توهم إرادةِ فرعونَ حيثُ كان قومُه الجَهَلةُ يسمُّونَهُ بذلك وللإشعارِ بأنَّ الموجبَ لإيمانِهم به تعالى ما أجراهُ على أيديهما من المُعجزةِ القاهرةِ .
{ قَالَ } أي فرعونُ للسَّحرة { ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُم } أي بغيرِ أنْ آذنَ لكُم في قولِه تعالى : { لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى } لا أن الإذن منه ممكنٌ أو متوقَّعٌ { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذى عَلَّمَكُمُ السحر } فتواطأتُم على ما فعلتم أو علَّمكم شيئاً دُونَ شيءٍ فلذلك غلبَكم أرادَ بذلك التَّلبيس على قومِه كيلا يعتقدُوا أنَّهم آمنُوا عن بصيرةٍ وظهورِ حقَ وقُرىء أأمنتُم بهمزتينِ { فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أي وبالَ ما فعلتُم وقوله : { لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلاَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } بيانٌ لما أوعدهم به .
{ قَالُواْ } أي السَّحرةُ { لاَ ضَيْرَ } لا ضررَ فيه علينا وقولُه تعالى : { إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ } تعليلٌ لعدم الضَّيرِ أي لا ضيرَ في ذلك بل لنا فيه نفعٌ عظيمٌ لما يحصلُ لنا في الصَّبرِ عليه لوجهِ الله تعالى من تكفيرِ الخَطَايا والثَّوابِ العظيم ، أو لا ضيرَ علينا فيما تتوعَّدنا به من القتلِ أنه لا بُدَّ لنا من الانقلابِ إلى رَّبنا بسببِ من أسبابِ الموتِ ، والقتلُ أهونُها وأرجاها .
وقولُه تعالى : { إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خطايانا أَن كُنَّا } أي لأن كنا { أَوَّلُ المؤمنين } أي من أتباعِ فرعونَ أو من أهل المشهدِ تعليل ثانٍ لنفي الضَّيرِ أي لا ضيرَ علينا في قتلِك إنَّا نطمعُ أنْ يغفرَ لنا ربُّنا خطايانا لكونِنا أوَّلَ المُؤمنين . وقُرىء إِنْ كُنَّا على الشَّرطِ لهضمِ النَّفسِ وعدم الثَّقةِ بالخاتمة أو على طريقةِ قول المُدلِّ بأمرِه كقول العاملِ لمستأجرٍ أخَّر أجرتَه إنْ كنتُ عملتُ لك فوفِّني حقِّي .(5/138)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)
{ وَأَوْحَيْنَا إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى } وذلك بعد بضعِ سنينَ أقامَ بين أظهُرِهم يدعُوهم إلى الحقِّ ويُظهر لهم الآياتِ فلم يزيدُوا إلاَّ عُتُوَّاً وعناداً حسبما فُصِّل في سورة الاعراف بقوله تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بالسنين } الآيات . وقرىء : بكسر النون ووصل الألف من سرى ، وقرىء : أنْ سِرْ من السير . { إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ } تعليلٌ للأمرِ بالإسراءِ أي يتبعكُم فرعونُ وجنودُه مصبحينَ فأسرِ بمَن معك حتَّى لا يُدركوكم قبل الوصولِ إلى البحرِ فيدخلُوا مداخلَكم فأُطبقَه عليهم فأُغرقَهم .
{ فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ } حين أُخبر بمسيرهم { فِى المدائن حاشرين } جامعينَ للعساكرِ ليتبعُوهم .
{ إِنَّ هَؤُلآء } يريدُ بني إسرائيلَ { لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } استقلَّهم وهم ستمائة ألفٍ وسبعونَ ألفاً بالنسبةِ إلى جُنوده إذْ رُوي أنَّه أرسل في أثرِهم ألفَ ألفَ وخمسمائةِ مَلكٍ مُسوَّرٍ مع كل مَلِكٍ ألفٌ وخرجَ فرعونُ في جمعٍ عظيم وكانت مقدِّمتُه سبعَمائة ألفِ رجلٍ على حصان وعلى رأسِه بيضةٌ وعن ابن عبَّاسٍ رصى الله تعالى عنهما خرجَ فرعونُ في ألفِ ألفِ حصانٍ سوى الإناثِ .
{ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } أي فاعلون ما يغيظُنا .
{ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذرون } يريدُ أنَّهم لقلَّتهم لا يُبالى بهم ولا يتوقَّع غلبتَهم وعلوَّهم ولكنَّهم يفعلون أفعالاً تغيظُنا وتضيق صدورَنا ونحن قومٌ من عادتنا التَّيقُّظُ والحذرُ واستعمالُ الحزمِ في الأمورِ فإذا خرجَ علينا سارعنا إلى إطفاءِ ثائرةِ فسادِه ، وهذه معاذيرُ اعتذر بها إلى أهلِ المدائن لئلاَّ يُظنُّ به ما يكسر من قهرهِ وسلطانه . وقُرىء حَذِرون فالأوَّلُ دالٌّ على التَّجدُّدِ والثَّاني على الثَّباتِ وقيل : الحاذرُ المؤدِّي في السِّلاحِ . وقُرىء حادِرون بالدَّالِ المُهملة أي أقوياءُ وأشدَّاءُ وقيل : مدجَّجون في السِّلاحِ قد أكسبَهم ذلك حدارةً في أجسامِهم .
{ فأخرجناهم } بأن خلقنا فيهم داعيةَ الخروجِ بهذا السَّببِ فحملتهم عليهم { مّن جنات وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } كانت لهم جملة ذلك .(5/139)
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65)
{ كذلك } إمَّا مصدرٌ تشبيهيٌّ لأخرجنا أي مثلَ ذلك الإخراجِ العجيبِ أخرجناهُم أو صفة لمقام كريم أي من مقامٍ كريمٍ كائنٍ كذلك أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي الأمرُ كذلك { وأورثناها بَنِى إسراءيل } أي ملَّكناها إيَّاهم على طريقةِ تمليكِ مالِ المورَّثِ للوارثِ كأنَّهم ملكُوها من حينِ خروجِ أربابِها منها قبل أنْ يقبضُوها ويتسلَّموها { فَأَتْبَعُوهُم } أي فلحقُوهم ، وقُرىء فاتَّبعوهم { مُشْرِقِينَ } داخلينَ في وقتِ شُروق الشَّمسِ أي طُلوعِها .
{ فَلَمَّا تَرَاءا الجمعان } تقارَبا بحيثُ رأى كلُّ واحد منهما الآخرَ وقُرىء تَراءتِ الفئتانِ { قَالَ أصحاب موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } جاءوا بالجملةِ الاسميةِ مؤكَّدة بحرفَيّ التَّأكيدِ للدِّلالةِ على تحقُّقِ الإدراك واللحاقِ وتنجُّزهما . وقُرىء لمدَّركُون بتشديد الدَّالِ من ادَّراك الشَّيءُ إذا تتابعَ ففنيَ أي لمتتابعون في الهلاكِ على أيديهم .
{ قَالَ كَلاَّ } ارتدِعُوا عن ذلك فإنَّهم لا يُدركونكُم { إِنَّ مَعِىَ رَبّى } بالنَّصرةِ والهدايةِ . { سَيَهْدِينِ } البتةَ إلى طريق النَّجاةِ منُهم بالكلَّية . رُوي أَنَّ يُوشعِ عليه السَّلامُ قال يا كليَم الله أين أُمرتَ فقد غشِيَنا فرعونُ والبحرُ أمامَنا قال عليه السَّلامُ ههُنا فخاضَ يوشعُ عليه السَّلامُ الماءَ وضَرب مُوسى عليه السَّلامُ بعصاهُ البحرَ فكانَ ما كانَ . ورُوي أنَّ مؤمناً من آل فرعونَ كان بين يَدَيْ مُوسى عليه السَّلامُ فقال أينَ أُمرت فهذا البحرُ أمامَك وقد غشيك آلُ فرعونَ قال عليه السَّلامُ أُمرتُ بالبحر ولعلي أُومر بما أصنعُ فأمر بما أُمر بهِ . وذلك قولُه تعالى { فَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر } القُلزمِ أو النِّيلَ { فانفلق } الفاء فصيحةٌ أي فضربَ فانفلق فصارَ اثني عشر فِرقاً بعددِ الأسباطِ بينهنّ مسالكُ { فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ } حاصلٍ بالانفلاق { كالطود العظيم } كالجبلِ المُنيف الثَّابتِ مقرِّه فدخلُوا في شعابِها ، كلُّ سِبْطٍ في شعبٍ منها .
{ وَأَزْلَفْنَا } أي قرَّبنا { ثَمَّ الاخرين } أي فرعونَ وقومَه حتَّى دخلُوا على أثرِهم مداخلَهم .
{ وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ } بحفظِ البحرِ على تلك الهيئةِ إلى أنْ عبرُوا إلى البرِّ .(5/140)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
{ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الأخرين } بإطباقِه عليهم .
{ إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي في جميعِ ما فُصِّل ممَّا صدرَ عن مُوسى عليه السَّلامُ وظهر على يديهِ من المعجزاتِ القاهرةِ وممَّا فعلَ فرعونُ وقومُه من الأقوالِ والأفعالِ وما فُعل بهم من العذاب والنَّكالِ . وما في اسم الإشارةِ من معنى البُعد لتهويل أمرِ المُشار إليهِ وتفظيعِه كتنكير الآيةِ في قوله تعالى { لآيَةً } أي أيّة آيةٍ أو أيةً عظيمة لا تكادُ تَوصف موجبة لأنْ يعتبرَ بها المعتبرون ويقيسُوا شأنَ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بشأنِ مُوسى عليه السَّلامُ وحالَ أنفسِهم بحالِ أولئك المُهَلكين ويجتنبُوا تعاطيَ ما كانُوا يتعاطَونه من الكفرِ والمَعَاصي ومخالفةِ الرَّسُولِ ويُؤمنوا بالله تعالى ويُطيعوا رسولَه كيلا يحلَّ بهم مثلُ ما حلَّ بأولئك أو إنَّ فيما فُصِّل من القصَّةِ من حيثُ حكايتُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إيَّاها على ما هيَ عليه من غيرِ أنْ يَسمعها من أحدٍ لآيةً عظيمةً دالَّة على أنَّ ذلك بطريقِ الوحيِ الصَّادقِ موجبةً للإيمانِ بالله تعالى وَحْدَهُ وطاعةِ رسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ } أي أكثرُ هؤلاءِ الذينَ سمعُوا قصَّتهم منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ { مُّؤْمِنِينَ } لا بأنْ يقيسُوا شأنَه بشأن مُوسى عليهما السَّلامُ وحالَ أنفسِهم بحال أولئك المكذِّبين المهلكينَ ولا بأنْ يتدبَّروا في حكايتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لقصتهم من غيرِ أنْ يسمعها من أحدٍ مع كونِ كلَ من الطَّريقينِ مَّما يُؤدِّي إلى الإيمان قطعاً ، ومعنى ما كان أكثرُهم مؤمنين على أنَّ كانَ زائدة كما هو رأيُ سيبويهِ فيكون كقولِه تعالى : { وَمَا أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } وهو إخبارٌ منه تعالى بما سيكونُ من المُشركينَ بعدما سمعُوا الآياتِ النَّاطقةَ بالقصَّة تقريراً لما مرَّ من قولِه تعالى : { مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن الرحمن مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ } الخ وإيثارُ الجملة الاسميَّةِ للدِّلالةِ على استقرارهم على عدمِ الإيمانِ واستمرارهم عليه ويجوزُ أن يجعلَ كان بمعنى صَار كما فعل ذلك في قوله تعالى : { وَكَانَ مِنَ الكافرين } فالمَعْنى وما صار أكثرُهم مؤمنين مع ما سمعُوا من الآية العظيمة الموجبة له بما ذُكر من الطَّريقينِ فيكون الإخبارُ بعدم الصَّيرورةِ قبل الحدوث للدِّلالةِ على كمالِ تحقُّقهِ وتقرّره كقولِه تعالى : { أتى أَمْرُ الله } الآيةَ .
{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز } الغالبُ على كلِّ ما يريدُه من الأمور التي من جُملتها الانتقام من المكذِّبين . { الرحيم } المبالغُ في الرَّحمة ولذلك يُمهلهم ولا يعجَّلُ عقوبتَهم بعدم إيمانهم بعد مُشاهدة هذه الآية العظيمة بطريقِ الوحيِ مع كمال استحقاقِهم لذلك . هذا هو الذي يقتضيهِ جزالةُ النَّظمِ الكريمِ من مطلع السُّورةِ الكريمةِ إلى آخر القِصص السبع بل إلى آخرِ السُّورةِ الكريمةِ اقتضاءً ببِّناً لا ريبَ فيه وأمَّا ما قيل مِنْ أنَّ ضميرَ أكثرُهم لأهل عصرِ فرعونَ من القبطِ وغيرِهم وأنّ المعنى وما كان أكثرُ أهل مصرَ مؤمنين حيثُ لم يؤمن منهم إلا آسيةُ وحِزقيلُ ومريمُ ابنةُ يامُوشاً التي دلَّتْ على تابوتِ يوسفَ عليه السَّلامُ .(5/141)
وبنُو إسرائيلَ بعد ما نجَوا سألُوا بقرةً يعبدونَها واتَّخذوا العجلَ وقالُوا لن نؤمنَ لك حتَّى نرى الله جهرةً فبمعزل من التَّحقيقِ كيف لا ومساقُ كل قصَّةٍ من القصص الواردةِ في السُّورة الكريمة سوى قصَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ إنَّما هو لبيان حال طائفة معيَّنةٍ قد عتَوا عن أمر ربَّهم وعصَوا رسلَه عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ كما يُفصح عنه تصدير القصصِ بتكذيبهم المرسلينَ بعد ما شاهدُوا بأيديهم من الآياتِ العظامِ ما يُوجب عليهم الإيمان ويزجرُهم عن الكفرِ والعصيانِ وأصرُّوا على ما هم عليه من التَّكذيب فعاقبهم الله تعالى لذلك بالعُقوبة الدُّنيويَّةِ وقطع دابَرهم بالكُليَّة فكيف يُمكن أن يخبرَ عنهم بعدم إيمانِ أكثرِهم لاسيَّما بعد الإخبار بإهلاكهم وعدّ المؤمنين من جُملتهم أولاً وإخراجهم منها آخِراً مع عدم مشاركتِهم لهم في شيءٍ مما حُكي عنهم من الجنايات أصلاً مَّما يُوجب تنزيه التَّنزيلِ عن أمثالِه فتدبَّر .(5/142)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72)
{ واتل عَلَيْهِمْ } عطف على المضمرِ المقدَّر عاملاً لإذ نادى الخ أي واتل على المشركينَ { نَبَأَ إبراهيم } أي خبَره العظيمَ الشَّأنِ حسبما أُوحيَ إليك لتقف على ما ذُكر من عدمِ إيمانِهم بما يأتيهم من الآيات بأحد الطَّريقين { إِذْ قَالَ } منصوب إما على الظَّرفيةِ للنبأ أي نبأه وقت قوله { لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ } أي على المفعولية لاتلُ على أنَّه بدلٌ من نبأ أي واتلُ عليهم وقت قوله لهم { مَا تَعْبُدُونَ } على أنَّ المتلو ما قاله لهم في ذلك الوقتِ سألهم عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن ذلك ليبني على جوابِهم أنَّ ما يعبدونَهُ بمعزولٍ من استحقاقِ العبادةِ بالكُلِّية .
{ قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عاكفين } لم يقتصرُوا على الجواب الكافي بأنْ يقولُوا أصناماً كما في قوله تعالى : { يَسْئَلُونَكَ مَاذا يُنْفِقُونَ قُل العفو } وقوله تعالى : { مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا } ونظائرهما ، بل أطنبُوا فيه بإظهار الفعلِ . وعطفُ دوامِ عكوفهم على أصنامِهم قصداً إلى إبرازِ ما في نفوسِهم الخبيثةِ من الابتهاجِ والافتخارِ بذلك ، والمرادُ بالظلول الدَّوامُ وقيل : كانُوا يعبدونَها بالنَّهارِ دُون اللَّيلِ ، وصلة العكوف كلمةُ عَلَى . وإيرادُ اللاَّمِ لإفادةِ معنى زائدٍ كأنَّهم قالوا فنظلُّ لأجلِها مُقبلين على عبادتها أو مستديرين حولَها وهذا أيضاً من جُملة إطنابِهم .
{ قَالَ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالِ نشأ من تفصيلِ جوابهم { هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ } أي هل يسمعُون دعاءَكم على حذف المضافِ أو يسمعونكم تدعُون كقولك سمعتُ زَيْداً يقول كيتَ وكيتَ فخذف لدلالةِ قوله تعالى : { إِذْ تَدْعُونَ } عليه . وقُرىء هل يُسمعونكم من الإسماع أي هل يُسمعونكم شيئاً من الأشياءِ أو الجواب عن دعائكم وهل يقدِرون على ذلك . وصيغةُ المضارعِ من إذ على حكايةِ الحالِ الماضيةِ لاستحضار صُورتِها كأنَّه قيل لهم : استحضُروا الأحوالَ الماضيةَ التي كنتُم تدعونها فيها وأجيبُوا هل سمعُوا أو أسُمعوا قط .(5/143)
أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
{ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ } بسبب عبادتِكم لها { أَوْ يَضُرُّونَ } أي يضرُّونكم بترككم لعبادتها إذ لا بُدَّ للعبادة لا سيَّما عند كونِها على ما وصفتُم من المبالغة فيها من جلب نفعٍ أو دفعِ ضُرَ .
{ قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } اعترفُوا بأنَّها بمعزلٍ مَّما ذكر من السَّمعِ والمنفعةِ والمضرَّةِ بالمرَّة واضطرُّوا إلى إظهار أنْ لا سندَ لهم سوى التَّقليد أي ما علمنا أو ما رأينا منهم ما ذُكر من الأمور بل وجدنا آباءَنا كذلك يفعلُون أي مثلَ عبادِتنا يعبدون فاقتدينا بهم .
{ قَالَ أَفَرَءيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } أي أنظرتُم فأبصرتُم أو أتأمَّلتمُ فعلمتم ما كنتُم تعبدونَهُ .
{ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ الأقدمون } حقَّ الإبصارِ أو حقَّ العلمِ .
وقوله : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى } بيانٌ لحال ما يعبدونَه بعد التَّنبيهِ على عدم علمِهم بذلك أي فاعلموا أنَّهم أعداءٌ لعابديهم الذين يحبُّونهم كحبِّ الله تعالى لما أنهم يتضرَّرون من جهتهم فوق ما يتضرَّر الرَّجلُ من جهة عدوِّه ، أو لأنَّ مَن يُغريهم على عبادتهم ويحملُهم عليها هو الشَّيطانُ الذي هو أعدى عدوِّ الإنسانِ لكنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ صوَّر الأمر في نفسه تعريضاً بهم فإنَّه أنفعُ في النَّصيحة من التَّصريح وإشعاراً بأنَّها نصيحة بدأ بها نفسَه ليكون أدعى إلى القَبولِ . والعدوُّ والصَّديقُ يجيئانِ في معنى الواحدِ والجمعِ . ومنه قوله تعالى : { وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } شبها بالمصادر للموازنةِ كالقبول والولوع والحنين والصَّهيلِ { إِلاَّ رَبَّ العالمين } استئثاء منقطع أي لكن ربُّ العالمينَ ليس كذلك بل هو وليّ في الدُّنيا والآخرة لا يزال يتفضَّلُ عليَّ بمنافعهما حسبما يُعرب عنه ما وصفه تعالى به من أحكام الولايةِ ، وقيل متَّصلٌ ، وهو قولُ الزَّجاجِ على أنَّ الضَّميرَ لكلِّ معبود وكان من آبائِهم من عبدَ الله تعالى .
وقوله تعالى : { الذى خَلَقَنِى } صفةٌ لربِّ العالمينَ . وجعلُه مبتدأً وما بعْدَه خبراً غيرُ حقيقٍ بجزالة التَّنزيلِ وإنَّما وصفه تعالى بذلك وبما عطفه عليهِ مع اندراجِ الكلِّ تحت ربوبيتهِ تعالى للعالمين تصريحاً بالنِّعم الخاصَّةِ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وتفصيلاً لها لكونِها أدخلَ في اقتضاءِ تخصيصِ العبادةِ به تعالى وقصرِ الالتجاء في جلبِ المنافعِ الدِّينيةِ والدُّنيويةِ ودفع المضارِّ العاجلةِ والآجلةِ عليه تعالى . { فَهُوَ يَهْدِينِ } أي هو يهديني وحدَهُ إلى كلِّ ما يُهمني ويُصلحني من أمور الدِّين والدُّنيا هدايةً متصلةً بحين الخلقِ ونفخ الرُّوحِ متجددة على الاستمرار كما ينبىءُ عنه الفاءُ وصيغةُ المضارعِ ، فإنَّه تعالى يهدي كلَّ ما خلقه لما خُلق له من أمور المعاش والمعادِ هدايةً متدرجة من مبدأِ إيجادِه إلى منتهى أجلِه يتمكَّن بها من جلبِ منافعهِ ودفع مضارِّه إمَّا طبعاً وإمَّا اختياراً مبدؤُها بالنَّسبة إلى الإنسان هداية الجنينِ لامتصاص دمِ الطَّمثِ ومنتهاها الهدايةُ إلى طريق الجنَّةِ والتَّنعمِ بنعيمها المقيمِ .(5/144)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
{ والذى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ } عطفٌ على الصِّفة الأولى وتكريرُ الموصولِ في المواقعِ الثَّلاثةِ مع كفاية عطف ما وقع في حيِّز الصِّلةِ من الجُمل السِّتِّ على صلة الموصولِ الأول للإيذانِ بأنَّ كلَّ واحدةٍ من تلك الصِّلاتِ نعتٌ جليلٌ له تعالى مستقلٌّ في استيجاب الحكمِ حقيقٌ بأنْ تجري عليه تعالى بحيالها ولا تجعل من روادِف غيرها .
{ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } عطفٌ على يُطعمني ويسقين نُظم معهما في سلك الصِّلةِ لموصول واحدٍ لما أنَّ الصِّحَّةَ والمرض من متفرِّعاتِ الأكل والشُّرب غالباً ونسبةُ المرضِ إلى نفسه والشِّفاءِ إلى الله تعالى مع أنَّهما منه تعالى لمراعاة حُسنِ الأدبِ كما قال الخَضِرُ عليه السَّلامُ : «فأردتُ أنْ أعيبها» وقال : «فأرادَ ربُّك أنْ يبلُغا أشدَّهما» وأما الإماتُة فحيث كانتْ من معظم خصائصِه تعالى كالإحياءِ بدَءاً وإعادةً وقد نيطتْ أمورُ الآخرةِ جميعاً بها وبما بعدَها من البعث نظمهما في سمطٍ واحدٍ في قوله تعالى : { والذى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ } على أنَّ الموتَ لكونه ذريعةً إلى نيله عليه الصلاةُ والسَّلامُ للحياة الأبديَّةِ بمعزل من أنْ يكون غيرَ مطبوع عنده عليه الصَّلاة والسَّلام .
{ والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين } ذكره عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هضماً لنفسه وتعليماً للأمَّةِ أنْ يجتنبُوا المعاصي ويكونوا على حَذَرٍ وطلب مغفرة لَما يفرطُ منهم وتلافياً لما عَسَى يندرُ منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من الصَّغائر وتنبيهاً لأبيه وقومه على أنْ يتأمَّلوا في أمرهم فيقفُوا على أنَّهم من سوء الحال في درجةٍ لا يُقادر قدرُها فإنَّ حالَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع كونه في طاعة الله تعالى وعبادتِه في الغاية القاصيةِ حيثُ كانت بتلك المثابة فما ظنُّك بحال أولئك المغمُورين في الكُفر وفُنون المعاصي والخطايا . وحملُ الخطيئة على كلماتِه الثَّلاثِ إنِّي سقيمٌ بل فعله كبيرُهم وقوله لسارَّةَ هي أختي مَّما لا سبيلَ إليه لأنَّها مع كونها معاريضَ لامن قبيل الخطايا المفتقرةِ إلى الاستغفار إنَّما صدرتْ عنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعد هذه المقاولةِ الجاريةِ بينه وبين قومه أما الثَّالثةُ فظاهرةٌ لوقوعِها بعد مهاجرتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى الشأمِ وأما الأوليانِ فلأنَّهما وقعتا مكتنفتينِ بكسرِ الأصنامِ ومن البيِّن أنَّ جريانَ هذه المقالاتِ فيما بينهم كان في مبادىءِ الأمرِ ، وتعليقُ مغفرةِ الخطيئةِ بيومِ الدَّينِ مع أنَّها إنَّما تُغفر في الدُّنيا لأنَّ أثرَها يؤمئذٍ يتبيَّن ولأنَّ في ذلك تهويلاً له وإشارةً إلى وقوعِ الجزاءِ فيه إنْ لم تُغفر .(5/145)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)
{ رَبّ هَبْ لِى حُكْماً } بعد ما ذكر عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لهم فنونَ الألطافِ الفائضةِ عليه من الله عزَّ وجلَّ من مبدأِ خلقِه إلى يومِ بعثهِ حمله ذلك على مُناجاتِه تعالى ودعائِه لربط العتيدِ وجلبِ المزيدِ والحكم الحكمة التي هي الكمالُ في العلم والعملِ بحيثُ يتمكَّنُ به من خلافةِ الحقِّ ورياسة الخلقِ { وَأَلْحِقْنِى بالصالحين } ووفقنِي من العُلومِ والأعمالِ والمَلَكاتِ لما يُرشحني للانتظامِ في زُمرةِ الكاملينَ الرَّاسخينَ في الصَّلاحِ المنزَّهينَ عن كبائرِ الذُّنوبِ وصغائِرها أو اجمعْ بيني وبينَهُم في الجنَّة ولقد أجابَه تعالى حيثُ قال : { وَإِنَّهُ فِى الأخرة لَمِنَ الصالحين } { واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الأخرين } أي جاهاً وحسنَ صيت في الدُّنيا بحيثُ يبقى أثرُه إلى يومِ الدِّين ولذلك لا ترى أمةً من الأُمم إلا وهي محبَّةٌ له ومثنيةٌ عليه . أو صادقاً من ذُرِّيتي يجددُ أصلَ ديني ويدعُو النَّاسَ إلى ما كنتُ أدعُوهم إليهِ من التَّوحيدِ وهو النبيُّ صلى الله عليه وسلم ولذلك قال عليه الصَّلاةُ السَّلامُ : أنا دعوةُ أبي إبراهيمَ .
{ واجعلنى } في الآخرةِ { مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم } وقد مرَّ معنى الوراثة في سورةِ مريمَ .
{ واغفر لاِبِى } بالهدايةِ والتَّوفيقِ للإيمان كما يلوحُ به تعليلُه بقوله : { إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين } أي طريقَ الحقَّ وقد مرَّ تحقيقُ المقام في تفسير سورة التَّوبةِ وسورة مريمَ بما لا مزيدَ عليه .
{ وَلاَ تُخْزِنِى } بمعاتبتي على ما فرّطتُ أو بنقصِ رُتبتي عن بعض الورَّاثِ أو بتعذيبي لخفاءِ العاقبةِ وجوازِ التَّعذيبِ عقلاً ، كلُّ ذلك مبنيٌّ على هضمِ النَّفسِ منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أو بتعذيبِ والدِي أو ببعثهِ من عدادِ الضَّالين بعدمِ توفيقِه للإيمانِ وهو من الخِزيِ بمعنى الهوانِ أو من الخزايةِ بمعنى الحياءِ . { يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي النَّاسُ كافَّةً والإضمار قبل الذكرِ لما في عُموم البعثِ من الشُّهرة الفاشيةِ المغنيةِ عنه وتخصيصه بالضَّالِّين مما يخلُّ بتهويلِ اليوم .
{ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ } بدلٌ من يومَ يبعثُون جِيء به تأكيداً للتَّهويلِ وتمهيداً لما يعقبُه من الاستثناءِ من أعمِّ المفاعيلِ أي لا ينفعُ مالٌ وإن كان مصرُوفاً في الدُّنيا إلى وجوهِ البرِّ والخيراتِ ، ولا بنون ، وإن كانُوا صُلحاءَ مستأهلينَ للشَّفاعةِ أحداً .(5/146)
إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)
{ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } أي عن مرض الكُفرِ والنِّفاقِ ضرورةَ اشتراطِ نفع كلَ منهما بالإيمان ، وفيه تأييدٌ لكونِ استغفارِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لأبيه طلباً لهدايتِه إلى الإيمانِ لاستحالةِ طلبِ مغفرتِه بعد موته كافراً مع علمِه عليه الصَّلاةُ والسَّلام بعدم نفعه لأنَّه من باب الشَّفاعةِ وقيل : هو استثناءٌ من فاعلٍ ينفعُ بتقدير المضافِ أي الآمال من أو بنو من أتى الله الآيةَ وقيل : المضاف المحذوف ليس من جنس المُستثنى منه حقيقةً بل بضرب من الاعتبارِ كما في قوله
تحيَّةَ بينهم ضربٌ وجيعُ ... أي إلا حالَ من أتى الله بقلبٍ سليم على أنَّها عبارةٌ عن سلامة القلبِ كأنَّه قيل : إلا سلامةَ قلبِ مَن أتى الله الآيةٍ ، وقيل المضاف المحذوف ما دلَّ عليه المالُ والبنون من الغنى وهو المُستثنى منه كأنَّه قيل : يومَ لا ينفعُ غِنَى إلا غنى من أتى الله الآيةَ لأنَّ غنى المرءِ في دينِه بسلامةِ قلبِه وقيل : الاستثناءُ منقطعُ والمعنى لكن سلامة قلبه تنفعه .
{ وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ } عطف على لا ينفع . وصيغةُ الماضي فيه وفيما بعدَهُ من الجُمل المنتظمةِ معه في سلك العطف للدِّلالة على تحقُّق الوقوعِ وتقرُّره كما أنَّ صيغةَ المضارعِ في المعطوفِ عليه للدِّلالة على استمرار انتفاءِ النَّفع ودوامِه حسبما يقتضيهِ مقامُ التَّهويل والتَّفظيعِ أي قُربتِ الجنَّةُ للمتَّقين عن الكفر والمَعاصي بجيثُ يُشاهدونها من الموقفِ ويقفُون على ما فيها من فنُون المحاسنِ فيبتهجُون بأنَّهم المحشورون إليها .
{ وَبُرّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ } الضَّالِّين عن طريق الحقِّ الذي هو الإيمانُ والتَّقوى أي جُعلت بارزةً لهم بحيث يَرَونها مع ما فيها من أنواع الأحوالِ الهائلةِ ويُوقنون بأنَّهم مواقعوها ولا يجدُون عنها مَصْرفاً { وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } في الدُّنيا { تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } أي أين آلهتكم الذين كنتُم تزعمون في الدُّنيا أنَّهم شفعاؤكم في هذا الموقفِ { هَلْ يَنصُرُونَكُمْ } بدفعِ العذابِ عنكم { أَوْ يَنتَصِرُونَ } بدفعه عن أنفسهم ، وهذا سؤالُ تقريعٍ وتبكيتٍ لا يُتوقَّع له جوابٌ ولذلك قيل : { فَكُبْكِبُواْ فِيهَا } أي أُلقوا في الجحيمِ على وجوهِهم مرَّةً بعد أُخرى إلى أنْ يستقرُّوا في قعرها { هُمْ } أي آلهتُهم { والغاوون } الذين كانُوا يعبدونهم ، وفي تأخير ذكرِهم عن ذكر آلهتكم رمزٌ إلى أنَّهم يؤخَّرون عنها في الكبكبةِ ليُشاهدوا سوءَ حالِها فيزدادوا غمِّاً إلى غمَّهم .(5/147)