وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
{ وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب } كلامٌ مسوقٌ من قِبَله تعالى لبيان هولِ ما سيلقَونه غيرُ داخلٍ تحت القولِ المأمورِ به والتعبيرُ عنهم بالموصول في موقع الإضمارِ لقطع احتمالِ الشق الأولِ من التردد والتسجيلِ عليهم بالافتراء وزيادةِ الكذب مع أن الافتراءَ لا يكون إلا كذباً لإظهار كمالِ قبحِ ما افتعلوا وكونِه كذباً في اعتقادهم أيضاً ، وكلمةُ ( ما ) استفهاميةٌ وقعت مبتدأً وظن خبرُها ومفعولاه محذوفان وقوله عز وجل : { يَوْمُ القيامة } ظرفٌ لنفس الظنِّ ، أي أيُّ شيءٍ ظنُّهم في ذلك اليوم ، يومَ عرضِ الأفعال والأقوالِ والمجازاة عليها مثقالاً بمثقال ، والمرادُ تهويلُه وتفظيعُه بهول ما يتعلق به مما يُصنع بهم يومئذ ، وقيل : هو ظرفٌ لما يتعلق به ظنُّهم اليومَ من الأمور التي ستقع يوم القيامة تنزيلاً له ولِما فيه من الأحوال لكمال وضوحِ أمرِه في التقرير والتحققِ منزلةَ المسلم عندهم أي أيُّ شيء ظنُّهم لما سيقع يوم القيامة؟ أيحسبون أنهم لا يُسألون عن افترائهم أو لا يجازون عليه أو يجازون جزاءً يسيراً ولأجل ذلك يفعلون ما يفعلون؟ كلا إنهم لفي أشدِّ العذاب لأن معصيتَهم أشدُّ المعاصي ، ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً ، وقرىء على لفظ الماضي ، أي أيُّ ظنَ ظنوا يوم القيامة؟ وإيرادُ صيغةِ الماضي لأنه كائنٌ فكأنه قد كان { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ } أي عظيم لا يُكتنه كنهُه { عَلَى الناس } أي جميعاً حيث أنعم عليهم بالعقل المميّز بين الحقِّ والباطلِ والحسَنِ والقبيحِ ورحِمهم بإنزال الكتبِ وإرسالِ الرسلِ وبيّن لهم الأسرارَ التي لا تستقلُ العقولُ في إدراكها وأرشدهم إلى ما يُهمّهم من أمر المعاشِ والمعاد { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } تلك النعمةَ الجليلةَ فلا يصرِفون قُواهم ومشاعرَهم إلى ما خُلقت له ولا يتبعون دليلَ الشرعِ فيما لا يدرك إلا به ، وقد تفضل عليهم ببيان ما سيلقَوْنه يوم القيامة فلا يلتفتون إليه فيقعون فيما يقعون فهو تذييلٌ لما سبق مقرِّرٌ لمضمونه .
{ وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ } أي في أمر ، من شأنْتُ شأْنه أي قصدتُ قصدَه مصدر بمعنى المفعول { وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ } الضميرُ للشأنِ والظرفُ صفةٌ لمصدر محذوفٍ أي تلاوةً كائنةً من الشأن إذ هي معظمُ شؤونِه عليه السلام أو للتنزيل ، والإضمارُ قبل الذكر لتفخيم شأنِه ، ومن ابتدائيةٌ أو تبعيضيةٌ أو لله عز وجل ومن ابتدائيةٌ والتي في قوله تعالى : { مِن قُرْءانٍ } مزيدةٌ لتأكيد النفيِ أو ابتدائيةٌ على الوجه الأول وبيانية أو تبعيضيةٌ على الثاني والثالث { وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ } تعميمٌ للخطاب إثرَ تخصيصِه بمقتضى الكلِّ وقد رُوعي في كل من المقامين ما لا يليق به حيث ذُكر أولاً من الأعمال ما فيه فخامةٌ وجلالةٌ وثانياً ما يتناول الجليلَ والحقيرَ { إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا } استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم أحوال المخاطبين بالأفعال الثلاثة أي ما تلابِسون بشيء منها حال من الأحوال إلا حالَ كونِنا رُقباءَ مطّلعين عليه حافظين له { إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } أي تخوضون وتندفعون فيه ، وأصلُ الإفاضة الاندفاعُ بكثرة أو بقوة ، وحيث أريد بالأفعال السابقةِ الحالةُ المستمرَّةُ الدائمةُ المقارنةُ للزمان الماضي أيضاً أوثر في الاستثناء صيغةُ الماضي وفي الظرف كلمةُ إذ التي تفيد المضارعَ معنى الماضي { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ } أي لا يبعُد ولا يغيب على علمه الشامل ، وفي التعرض لعنوان الربوبيةِ من الإشعار باللطف ما لا يخفى وقرىء بكسر الزاءِ { مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ } كلمةُ مِنْ مزيدةٌ لتأكيد النفي أي ما يعزُب عنه ما يساوي في الثقل نملةً صغيرةً أو هباءً { فِي الارض وَلاَ فِى السماء } أي في دائرة الوجودِ والإمكان فإن العامة لا تعرِف سواهما ممكناً ليس في أحدهما أو متعلِّقاً بهما ، وتقديمُ الأرضِ لأن الكلامَ في حال أهلِها والمقصودُ إقامةُ البرهانِ على إحاطة علمِه تعالى بتفاصيلها وقوله تعالى : { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ } كلامٌ برأسه مقرِّرٌ لما قبله ولا نافيةٌ للجنس وأصغرَ اسمُها وفي كتاب خبرُها وقرىء بالرفع على الابتداء والخبر ( في كتاب ) .(3/280)
ومن عطفَ على لفظ مثقالِ ذرةٍ وجعل الفتحَ بدلَ الكسرِ لامتناع الصرف أو على محله مع الجار جعلَ الاستثناءَ منقطعاً كأنه قيل : لا يعزُب عن ربك شيءٌ ما ، لكنْ جميعُ الأشياء في كتاب مبين فكيف يعزُب عنه شيٌ منها؟ وقيل : يجوز أن يكون الاستثناءُ متصلاً ويعزُب بمعنى يَبينُ ويصدُر والمعنى لا يصدُر عنه تعالى شيءٌ إلا وهو في كتابٌ مبين . والمراد بالكتاب المبين اللوحُ المحفوظ .(3/281)
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
{ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله } بيانٌ على وجه التبشير والوعدِ نتيجةٌ لأعمال المؤمنين وغايةٌ لما ذكر قبله من كونه تعالى مهيمناً على نبيه عليه السلام وأمتِه في كل ما يأتون وما يذرون وإحاطةِ علمه سبحانه بجميع ما في السماء والأرض وكونِ الكلِّ مثبتاً في الكتاب المبين بعد ما أشير إلى فظاعة حالِ المفترين على الله تعالى يوم القيامة وما سيعتريهم من الهول إشارةٌ إجماليةٌ على طريق التهديدِ والوعيد ، وصُدّرت الجملةُ بحرفي التنبيه والتحقيق لزيادة تقريرِ مضمونِها ، والوليُّ لغة القريبُ والمرادُ بأولياء الله خُلّصُ المؤمنين لقربهم الروحاني منه سبحانه وتعالى كما سيفصح عنه تفسيرهم { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } في الدارين من لُحوق مكروه { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } من فواتِ مطلوبِ أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم خوفٌ وحزنٌ أصلاً بل يستمرون على النشاط والسرورِ ، كيف لا واستشعارُ الخوفِ والخشيةِ استعظاماً لجلال الله سبحانه وهيبتِه واستقصاراً للجد والسعي في إقامة حقوقِ العبوديةِ من خصائص الخواصِّ والمقرَّبين ، والمرادُ بيانُ دوامِ انتفائِهما لا بيانُ انتفاءِ دوامِهما كما يوهمه كونُ الخبرِ في الجملة الثانية مضارِعاً لما مر مراراً من أن النفيَ وإن دخل على نفس المضارِع يفيد الاستمرارَ والدوامَ بحسب المقام ، وإنما لا يعتريهم ذلك لأن مقصِدَهم ليس إلا طاعةَ الله تعالى ونيلَ رضوانِه المستتبِعِ للكرامة والزُّلفى ، وذلك مما لا ريب في حصوله ولا احتمالَ لفواته بموجب الوعدِ بالنسبة إليه تعالى ، وأما ما عدا ذلك من الأمور الدنيويةِ المترددةِ بين الحصول والفوات فهي بمعزل من الانتظام في سلك مقصِدهم وجوداً وعدماً حتى يخافوا من حصول ضارِّها أو يحزنوا بفوات نافعِها .(3/282)
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)
وقوله عز وجل :
{ الذين ءامنوا } أي بكل ما جاء من عند الله تعالى : { وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } أي يقون أنفسَهم عما يحِقّ وقايتُها عنه من الأفعال والتروك وقايةً دائمةً حسبما يفيده الجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبلِ ( وهو ) بيانٌ وتفسيرٌ لهم وإشارةٌ إلى ما به نالوا ما نالوا على طريقة الاستئنافِ المبنيِّ على السؤال ، ومحلُّ الموصولِ الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ كأنه قيل : مَنْ أولئك وما سببُ فوزِهم بتلك الكرامةِ؟ فقيل : هم الذين جمعوا بين الإيمانِ والتقوى المُفْضِيَيْن إلى كل خير المُنْحِيَيْن عن كل شر وقيل : محلُّه النصبُ أو الرفعُ على المدح أو على أنه وصفٌ مادحٌ للأولياء ، ولا يقدح في ذلك توسطُ الخبرِ ، والمرادُ بالتقوى المرتبةُ الثالثةُ منها الجامعةُ لما تحتها من مرتبة التوقي عن الشرك التي يفيدها الإيمانُ أيضاً ومرتبةِ التجنبِ عن كل ما يُؤثم من فعل وترك ، أعني تنزهَ الإنسانِ عن كل ما يشغل سرَّه عن الحق والتبتلِ إليه بالكلية وهي التقوى الحقيقيُّ المأمورُ به في قوله تعالى : { مّسْتَقِيمٍ ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } وبه يحصُل الشهودُ والحضورُ والقُرب الذي عليه يدورُ إطلاقُ الاسمِ عليه ، وهكذا كان حالُ كل من دخل معه عليه السلام تحت الخطاب بقوله عز وجل : { وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ } خلا أن لهم في شأن التبتّلِ والتنزّهِ درجاتٍ متفاوتةً حسب تفاوتِ درجاتِ استعدادتِهم الفائضةِ عليهم بموجب المشيئةِ المبنيةِ على الحِكَم الأبيةِ أقصاها ما انتهى إليه هممُ الأنبياءِ عليهم السلام حتى جمعوا بذلك بين رياستي النبوة والولايةِ يعُقْهم التعلقُ بعالم الأشباح عن الاستغراقِ في عالم الأرواح ولم تصُدَّهم الملابسةُ بمصالح الخلقِ عن التبتل إلى جناب الحقِّ لكمال استعدادِ نفوسِهم الزكيةِ المؤيدةِ بالقوة القدسيةِ ، فمَلاكُ أمرِ الولاية هو التقوى المذكورُ فأولياءُ الله هم المؤمنون المتقون ، ويقرُب منه ما قيل من أنهم الذين تولّى الله هدايتَهم بالبرهان وتولَّوُا القيامَ بحق عبوديةِ الله تعالى والدعوةِ إليه ولا يخالفه ما قيل من أنهم الذين يُذكرُ الله برؤيتهم لما رُوي عن سعيد بن جبير أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئل مَنْ أولياءُ الله فقال : « هم الذين يُذكرُ الله برؤيتهم أي بسَمْتهم وإخباتهم وسكينتهم » ، ولا ما قيل من أنهم المتحابّون في الله لما رُوي ( عن عمرَ رضي الله عنه أنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « إن من عبادِ الله عباداً ليسوا بأنبياءَ ولا شهداءَ يغبِطُهم الأنبياءُ والشهداءُ يوم القيامة لمكانهم من الله » قالوا : يا رسولَ الله خبِّرنا من هم وما أعمالُهم فلعلنا نحبّهم ، قال : « هم قوم تحابُّوا في الله على غير أرحامٍ منهم ولا أموالٍ يتعاطَونها فوالله إن وجوهَهم لنورٌ وإنهم لعلى منابرَ من نور لا يخافون إذا خاف الناسُ ولا يحزنون إذا حزِن الناسُ »(3/283)
فإن ما ذكر من حسن السَّمْت والسكينةِ المذكِّرةِ لله تعالى والتحابِّ في الله سبحانه من الأحكام الدنيويةِ اللازمة للإيمان والتقوى والآثارِ الخاصّةِ بهما الحقيقةِ بالتخصيص بالذكر لظهورها وقُربها من أفهام الناسِ قد أورد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كلاًّ من ذلك حسبما يقتضيه مقامُ الإرشادِ والتذكيرِ ترغيباً للسائلين أو غيرِهم من الحاضرين فيما خصه بالذكر هناك من أحكامهم فلعلَّ الحاضرين أولاً كانوا محتاجين إلى إصلاح الحالِ من جهة الأقوالِ والأفعال والملابس ونحو ذلك ، والحاضرين ثانياً مفتقرين إلى تأليف قلوبِهم وعطِفها نحوَ المؤمنين الذين لا علاقة بينهم وبينهم من جهة النسبِ والقرابةِ وتأكيدِ ما بينهم من الأخوة الدينية ببيان عِظَم شأنِها ورفعةِ مكانتها وحُسن عاقبتِها ليُراعوا حقوقَها ويهجُروا من لا يوافقهم في الدين من أرحامهم ، وأما ما ذكر من أنه يغبِطُهم الأنبياءُ فتصويرٌ لحسن حالِهم على طريقة التمثيلِ . قال الكواشي : وهذا مبالغةٌ ، والمعنى لو فُرض قومٌ بهذه الصفة لكانوا هؤلاء وقيل : أولياءُ الله الذين يتولّونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة وجُعل قوله عز وجل : { الذين ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } تفسيرا لتولّيهم إياه تعالى .(3/284)
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
وقوله عز وجل : { لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا وَفِي الاخرة } تفسيراً لتولّيه تعالى إياهم ولا ريب في أن اعتبارَ القيد الأخيرِ في مفهوم الولايةِ عيرُ مناسبٍ لمقام ترغيبِ المؤمنين في تحصيلها والثباتِ عليها وبشارتِهم بآثارها ونتائجها مخِلٌّ بذلك إذ التحصيلُ إنما يتعلق بالمقدور والاستبشارُ لا يحصل إلا بما عُلم بوجود سببِه والقيدُ المذكور ليس بمقدور لهم حتى يحصّلوا الولاية بتحصيله ولا بمعلوم لهم عند حصولِه حتى يعرفوا حصولَ الولايةِ لهم ويستبشروا بمحاسنِ آثارِها بل التولي بالكرامة عينُ نتيجةِ الولاية فاعتبارُه في عنوان الموضوعِ ثم الإخبارُ بعدم الخوفِ والحزنِ مما لا يليق بشأن التنزيلِ الجليلِ ، فالذي يقتضيه نظمُه الكريمُ أن الأولَ تفسيرٌ للأولياء حسبما شُرح والثاني بيانٌ لما أولاهم من خيرات الدارين بعد بيانِ إنجائِهم من شرورهما ومكارههما ، والجملةُ مستأنفةٌ كما سبق كأنه قيل : هل لهم وراء ذلك من نعمة وكرامةٍ؟ فقيل لهم ما يسرّهم في الدارين ، وتقديمُ الأول لما أن التخليةَ سابقةٌ على التحلية مع ما فيه من مراعاة حقِّ المقابلةِ بين حسن حالِ المؤمنين وسوء حالِ المفترين ، وتعجيلُ إدخالِ المسرّةِ بتبشير الخلاصِ عن الأهوال وتوسيطُ البيانِ السابق بين بشارةِ الخلاص عن المحذور وبشارةِ الفوز بالمطلوب لإظهار كمالِ العناية بتفسير الأولياءِ مع الإيذان بأن انتفاءَ الخوف والحزنِ لاتقائهم عما يؤدّي إليهما من الأسباب ، والبُشرى مصدرٌ أريد به المبشَّرُ به من الخيرات العاجلةِ كالنصر والفتحِ والغنيمة وغيرُ ذلك والآجلةِ الغنيةِ عن البيان ، وإيثارُ الإبهام والإجمالِ للإيذان بكونه وراءَ البيان والتفصيلِ ، والظرفان في موقع الحالِ منه والعاملُ ما في الخبر من معنى الاستقرارِ أي لهم البشرى حالَ كونها في الحياة الدنيا وحالَ كونِها في الآخرة أي عاجلةً وآجلةً ، أو من الضمير المجرور أي حالَ كونِهم في الحياة الخ ، ومن البشرى العاجلةِ الثناءُ الحسنُ والذكرُ الجميلُ ومحبةُ الناس .
عن أبي ذر رضي الله عنه قلت : يا رسولَ الله الرجلُ يعمل العملَ لله ويحبه الناسُ فقال عليه السلام : « تلك عاجلُ بشرى المؤمنين » هذا وقيل : البشرى مصدرٌ والظرفان متعلقان به . أما البُشرى في الدنيا فهي البشاراتُ الواقعةُ للمؤمنين المتقين في غير موضع من الكتاب المبين . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « هي الرؤيا الصالحةُ يراها المؤمنُ أو تُرى له » وعنه عليه الصلاة والسلام : « ذهبت النبوةُ وبقيت المبشِّراتُ » وعن عطاء : لهم البشرى عند الموت تأتيهم الملائكةُ بالرحمة قال الله تعالى : { تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ الملئكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة } وأما البشرى في الآخرة فتلقِّي الملائكةِ إياهم مسلمين مبشَّرين بالفوز والكرامة وما يرون من بياض وجوهِهم وإعطاء الصحائفِ بأيْمانهم وما يقرؤون منها وغيرُ ذلك من البشارات فتكون هذه بِشارةً بما سيقع من البشارات العاجلةِ والآجلةِ المطلوبة لغاياتها لا لذواتها ، ولا يخفى أن صرفَ البشارة الناجزةِ عن المقاصد بالذات إلى وسائلها مما لا يساعده جلالةُ شأنِ التنزيل الكريم { لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله } لا تغييرَ لأقواله التي من جملتها مواعيدُه الواردةُ بشارةً للمؤمنين المتقين فتدخل فيها البشاراتُ الواردةُ هاهنا دخولاً أولياً ويثبُت امتناعُ الإخلافِ فيها ثبوتاً قطعياً ، وعلى تقدير كونِ المراد بالبشرى الرؤيا الصالحةَ فالمرادُ بعدم تبديل كلماتهِ تعالى ليس عدَم الخُلفِ بينهما وبين نتائجِها الدنيوية والأخرويةِ بل عدَم الخُلفِ بينهما وبين ما دل على ثبوتها ووقوعِها فيما سيأتي بطريق الوعد من قوله تعالى : { لَهُمُ البشرى } فتدبر .(3/285)
{ ذلك } إشارةٌ إلى ما ذكر من أن لهم البشرى في الدارين { هُوَ الفوز العظيم } الذي لا فوزَ وراءَه وفيه تفسيرٌ فيما سبق ، وهاتيك الجملة والتي قبلها اعتراضٌ لتحقيق المبشَّر وتعظيمٌ شأنه ، وليس من شرطه أن يكون بعده كلامٌ متصل بما قبله ، أو هذه تذييلٌ والسابقة اعتراضٌ .(3/286)
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)
{ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } تسليةٌ للرسول صلى الله عليه وسلم عما كان يلقاه من جهتهم من الأذية الناشئةِ عن مقالاتهم الموحشةِ وتبشيرٌ له عليه الصلاة والسلام بأنه عز وجل ينصُره ويُعزّه عليهم ، إثرَ بيانِ أن له ولأتباعه أمْناً من كل محذورٍ وفوزاً بكل مطلوبٍ ، وقرىء ولا يُحْزِنك من أحزنه وهو في الحقيقة نهيٌ له عليه السلام عن الحزن كأنه قيل : لا تحزنْ بقولهم ولا تُبالِ بتكذيبهم وتشاورِهم في تدبير هلاكِك وإبطالِ أمرِك وسائرِ ما يتفوهون به في شأنك مما لا خيرَ فيه ، وإنما وُجِّه النهيُ إلى قولهم للمبالغة في نهيه عليه السلام عن الحزن لما أن النهيَ عن التأثير نهيٌ عن التأثر بأصله ونفيٌ له بالمرة وقد يوجّه النهيُ إلى اللازم والمرادُ هو النهيُ عن الملزوم كما في قولك : لا أُرَيَّنك هاهنا ، وتخصيصُ النهي عن الحزن بالإيراد مع شمول النفي السابقِ للحزن أيضاً لما أنه لم يكن فيه عليه السلام شائبةُ خوفٍ حتى ينهى عنه وربما كان يعنى به عليه السلام في بعض الأوقاتِ نوعُ حزنٍ فسُلِّيَ عن ذلك ، وقوله تعالى : { إِنَّ العزة } تعليلٌ للنهي على طريقة الاستئنافِ أي الغلبةَ والقهرَ { للَّهِ جَمِيعاً } أي في ملكته وسلطانِه لا يملك أحدٌ شيئاً منها أصلاً لا هم ولا غيرُهم فهو يقهرُهم ويعصِمُك منهم وينصُرك عليهم وقد كان كذلك فهي من جملة المبشرات العاجلة ، وقرىء بفتح ( أن ) على صريح التعليلِ أي لأن العزة لله { هُوَ السميع العليم } يسمع ما يقولون في حقك ويعلم ما يعزمون عليه وهو مكافِئُهم بذلك . { أَلا إِنَّ للَّهِ مَن فِى السموات وَمَن فِى الارض } أي العقلأَ من الملائكة والثقلين ، وتخصيصُهم بالذكر للإيذان بعدم الحاجةِ إلى التصريح بغيرهم فإنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم إذا كانوا عبيداً له سبحانه مقهورين تحت قهرِه وملكته فما عداهم من الموجودات أولى بذلك وهو مع ما فيه من التأكيد لما سبق من اختصاص العزة بالله تعالى الموجبِ لسلوته عليه السلام وعدمِ مبالاتِه بالمشركين وبمقالاتهم تمهيدٌ لما لحِق من قوله تعالى :
{ وَمَا يَتَّبِعُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله شُرَكَاء } وبرهانٌ على بطلان ظنونِهم وأعمالِهم المبنيةِ عليها ، وما إما نافيةٌ وشركاءَ مفعولُ يتّبع ومفعولُ يدْعون محذوفٌ لظهوره أي ما يتّبع الذين يدعون من دون الله شركاءَ شركاءَ في الحقيقة وإن سمَّوْها شركاءَ فاقتُصر على أحدهما لظهور دلالتِه على الآخر ، ويجوز أن يكون المذكورُ مفعولَ يدعون ويكون مفعولُ يتّبع محذوفاً لانفهامه من قوله تعالى : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } أي ما يتبعونه يقيناً إنما يتبعون ظنَّهم الباطلَ ، وإما موصولةٌ معطوفةٌ على مَنْ كأنه قيل : والله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاءَ أي وله شركاؤهم ، وتخصيصُهم بالذكر مع دخولهم فيما سبق عبارةٌ أو دلالةٌ للمبالغة في بيان بطلانِ اتباعِهم وفسادِ ما بنَوْه عليه من ظنهم شركاءَهم معبودين مع كونهم عبيداً له سبحانه ، وإما استفهاميةٌ أي وأيُّ شيءٍ يتّبعون أي لا يتبعون إلا الظنَّ والخيالَ الباطلَ كقوله تعالى :(3/287)
{ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا } الخ ، وقرىء تدعون بالتاء فالاستفهامُ للتبكيت والتوبيخ كأنه قيل : وأي شيءٍ يتّبع الذين تدعونهم شركاءَ من الملائكة والنبيين تقريراً لكونهم متّبعين لله تعالى مطيعين له وتوبيخاً لهم على اقتدائهم بهم في ذلك كقوله تعالى : { أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة } ثم صُرف الكلامُ عن الخطاب إلى الغَيبة فقيل : إنْ يتبعُ هؤلاء المشركون إلا الظنَّ ولا يتبعون ما يتبعه الملائكةُ والنبيون من الحق { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } يكذبون فيما ينسُبونه إليه سبحانه ويحزَرون ويقدّرون أنهم شركاءُ تقديراً باطلاً .(3/288)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)
{ هُوَ الذى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً } تنبيهٌ على تفرّده تعالى بالقدرة الكاملةِ والنعمةِ الشاملة ليدلّهم على توحّده سبحانه باستحقاق العبادة ، وتقريرٌ لما سلف من كون جميعِ الموجوداتِ الممكنةِ تحت قدرتِه وملكته المفصِحِ عن اختصاص العزةِ به سبحانه ، والجعلُ إن كان بمعنى الإبداعِ والخلق فمبصِراً حالٌ وإلا ( فلكم ) مفعولُه الثاني ، أو هو حالٌ كما في الوجه الأولِ والمفعولُ الثاني لتسكنوا فيه ، أو هو محذوفٌ يدل عليه المفعولُ الثاني من الجملة الثانيةِ كما أن العلةَ الغائيّةَ منها محذوفةٌ اعتماداً على ما في الأولى ، والتقديرُ هو الذي جعل لكم الليلَ مظلماً لتسكُنوا فيه والنهارَ مبصِراً لتتحركوا فيه لمصالحكم كما سيجيء نظيره في قوله تعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ } الآية ، فحُذف في كل واحد من الجانبين ما ذكر في الآخر اكتفاءً بالمذكور عن المتروك ، وإسنادُ الإبصار إلى النهار مجازيٌّ كالذي في : نهارُه صائمٌ { إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي في جعل كلَ منهما كما وُصف أو فيهما ، وما في اسم الإشارةِ من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلةِ المشارِ إليه وعلوِّ رتبته { لاَيَاتٍ } عجيبةً كثيرةً أو آياتٍ أُخَرَ غيرَ ما ذكر { لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي هذه الآياتِ المتلوةَ ونظائرَها المنبّهةَ على تلك الآيات التكوينيةِ الآمرةِ بالتأمل فيها سماعَ تدبرٍ واعتبار فيعملون بمقتضاها ، وتخصيصُ الآيات بهم مع أنها منصوبة لمصلحة الكل لما أنهم المنتفعون بها { قَالُواْ } شروعٌ في ذكر ضربٍ آخرَ من أباطيلهم وبيانُ بطلانه { اتخذ الله وَلَدًا } أي تبنّاه { سبحانه } تنزيهٌ وتقديس له عما نسبوا إليه وتعجيبٌ من كلمتهم الحمقاء { هُوَ الغنى } على الإطلاق عن كل شيءٍ في كل شيء وهو علةٌ لتنزيهه سبحانه وإيذانٌ بأن اتخاذَ الولدِ من أحكام الحاجةِ وقوله عز وجل : { لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض } أي من العقلاء وغيرِهم ، تقريرٌ لغناه وتحقيقٌ لمالكيته تعالى لكل ما سواه وقوله تعالى : { إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ } أي حجة { بهذا } أي بما ذكر من قولهم الباطلِ وتوضيحٌ لبطلانه بتحقيق سلامةِ ما أقيم من البرهان الساطِع عن المعارض ، فِمنْ في قوله تعالى : { مّن سلطان } زائدةٌ لتأكيد النفي وهو مبتدأٌ والظرفُ المقدم خبرُه أو مرتفعٌ على أنه فاعلٌ للظرف لاعتماده على النفي وبهذا متعلقٌ إما بسلطان لأنه بمعنى الحجةِ والبرهانِ وإما بمحذوف وقعَ صفةً له وإما بما في ( عندكم ) من معنى الاستقرارِ ، كأنه قيل : إن عندكم في هذا القول من سلطان ، والالتفاتُ إلى الخطاب لمزيد المبالغةِ في الإلزام والإفحام وتأكيدِ ما في قوله تعالى : { أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من التوبيخ والتقريعِ على جهلهم واختلاقِهم ، وفيه تنبيه على أن كل مقالةٍ لا دليلَ عليها فهي جهالةٌ وأن العقائدَ لا بد لها من برهان قطعيَ وأن التقليدَ بمعزل من الاعتداد به .(3/289)
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
{ قُلْ } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين لهم سوءَ مغبّتِهم ووخامةَ عاقبتِهم { إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب } أي في كل أمر فيدخل ما نحن بصدده من الافتراء بنسبة الولدِ والشريكِ إليه سبحانه دخولاً أولياً { لاَ يُفْلِحُونَ } أي لا ينجُون من مكروه ولا يفوزون بمطلوب أصلاً وتخصيصُ عدم النجاةِ والفوز بما يندرج في ذلك من عدم النجاةِ من النار وعدمِ الفوز بالجنة لا يناسب مقامَ المبالغة في الزجر عن الافتراء عليه سبحانه { متاع فِى الدنيا } كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان أن ما يتراءى فيهم بحسب الظاهرِ من نيل المطالبِ والفوزِ بالحظوظ الدنيويةِ على الإطلاق أو في ضمن افترائِهم بمعزل من أن يكون من جنس الفلاحِ كأنه قيل : كيف لا يُفلحون وهم في غِبطة ونعيم؟ فقيل : هو متاعٌ يسير في الدنيا وليس بفوز بالمطلوب ، ثم أشير إلى انتفاء النجاةِ عن المكروه أيضاً بقوله عز وعلا : { ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } أي بالموت . { ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } فيبقَوْن في الشقاء المؤبدِ بسبب كفرِهم المستمرِّ أو بكفرهم في الدنيا فأين هم من الفلاح ، وقيل : المبتدأُ المحذوف حياتُهم أو تقلُّبهم ، وقد قيل : إنه افتراؤُهم ، ولا يخفى أن المتاعَ إنما يطلق على ما يكون مطبوعاً عند النفسِ مرغوباً فيه في نفسه يُتمتع ويُنتفع به ، وإنما عدمُ الاعتدادِ به لسرعة زوالهِ ، ونفسُ الافتراء عليه سبحانه أقبحُ القبائح عند النفس فضلاً عن أن يكون مطبوعاً عندها وعده كذلك باعتبار إجراءِ حكمِ ما يؤدي إليه من رياستهم عليه مما لا وجهَ له ، فالوجهُ ما ذكر أولاً ، وليس ببعيد ما قيل : أن المحذوفَ هو الخبرُ أي لهم متاعُ والآية إما مسوقةٌ من جهة الله تعالى لتحقيق عدم إفلاحِهم غيرُ داخلةٍ في الكلام المأمورِ به كما يقتضيه ظاهرُ قولِه تعالى : { ثُمَّ نُذِيقُهُمُ } وإما داخلةٌ فيه على أن النبي عليه الصلاة والسلام مأمورٌ بنقله وحكايتِه عنه عز وجل .(3/290)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)
{ واتل عَلَيْهِمْ } أي على المشركين من أهل مكةَ وغيرِهم لتحقيق ما سبق من أنهم لا يفلحون وأن ما يتمعون به على جناح الفواتِ وأنهم مشرِفون على العذاب الخالد { نَبَأَ نُوحٍ } أي خبرَه الذي له شأنٌ وخطر مع قومه الذين هم أضرابُ قومِك في الكفر والعنادِ ليتدبروا ما فيه من زوال ما تمتعوا به من النعيم وحلولِ عذابِ الغرق الموصولِ بالعذاب المقيمِ لينزجروا بذلك عما هم عليه من الكفر أو تنكسر شدةُ شكيمتهم أو يعترف بعضُهم بصحة نبوءتِك بأن عرفوا أن ما تتلوه موافقٌ لما ثبت عندهم من غير مخالفةٍ بينهما أصلاً مع علمهم بأنك لم تسمَعْ ذلك من أحد ليس إلا بطريق الوحي ، وفيه من تقرير ما سبق من كون الكلِّ لله سبحانه واختصاصِ العزةِ به تعالى وانتفاءِ الخوفِ والحزن عن أوليائه عز وعلا قاطبةً وتشجيعِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وحملِه على عدم المبالاة بهم وبأقوالهم وأفعالهم ما لا يخفى .
{ إِذْ قَالَ } معمولٌ لنبأَ أو بدلٌ منه بدلَ اشتمالٍ ، وأياً ما كان فالمرادُ بعضُ نَبئِه عليه السلام لا كلُّ ما جرى بينه وبين قومه واللامُ في قوله تعالى : { لِقَوْمِهِ } للتبليغ { ياقوم إِن كَانَ كَبُرَ } أي عظمُ وشقّ { عَلَيْكُمْ مَّقَامِى } أي نفسي كما يقال : فعلتُه لمكان فلان ، أي لفلان ومنه قوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ } أي خاف ربَّه أو قيامي ومُكثي بين ظَهْرانيكم مدةً طويلة أو قيامي { وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ الله } فإنهم كانوا إذا وعَظوا الجماعةَ يقومون على أرجلهم والجماعةُ قعودٌ ليظهر حالُهم ويُسمع مقالُهم { فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ } جوابٌ للشرط أي دمت على تخصيص التوكلِ به تعالى ، ويجوز أن يراد به إحداثُ مرتبةٍ مخصوصة من مراتب التوكل { فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ } عطفٌ على الجواب ، والفاءُ لترتيب الأمرِ بالإجماع على التوكل لا لترتيب نفسِ الإجماعِ عليه أو هو الجوابُ وما سبق جملةٌ معترضةٌ ، والإجماعُ العزم قيل : هو متعدَ بنفسه وقيل : فيه حذفٌ وإيصال . قال السدوسي : أجمعتُ الأمرَ أفصحُ من أجمعت عليه وقال أبو الهيثم : أجمع أمرَه جعله مجموعاً بعد ما كان متفرقاً ، وتفرُّقُه أنه يقول : مرة أفعلُ كذا وأخرى أفعل كذا وإذا عزم على أمر واحدٍ فقد جمعه أي جعله جميعاً { وَشُرَكَاءكُمْ } بالنصب على أن الواو بمعنى مع كما تدل عليه القراءةُ بالرفع عطفاً على الضمير المتصل تنزيلاً للفصل منزلةَ التأكيدِ ، وإسنادُ الإجماعِ إلى الشركاء على طريقة التهكم ، وقيل : إنه عطفٌ على أمرَكم بحذف المضافِ أي أمرَ شركائِكم وقيل : منصوبٌ بفعل محذوفٍ أي وادعوا شركاءَكم وقد قرىء كذلك وقرىء فاجْمعوا من الجمع ، أي فاعزِموا على أمركم الذين تريدون بي من السعي في إهلاكي واحتشِدوا فيه على أي وجه يمكنكم { ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ } ذلك { عَلَيْكُمْ غُمَّةً } أي مستوراً من غمّه إذا ستره ، بل مكشوفاً مشهوراً تجاهرونني به فإن السرَّ إنما يُصار إليه لسد باب تدارُك الخلاصِ بالهرب أو نحوه ، فحيث استحال ذلك في حقي لم يكن للسر وجهٌ وإنما خاطبهم عليه السلام بذلك إظهاراً لعدم المبالاةِ بهم وأنهم لم يجدوا إليه سبيلاً وثقةً بالله سبحانه وبما وعده من عصمته وكَلاءتِه ، فكلمةُ ثمّ للتراخي في الرتبة ، وإظهارُ الأمر في موقع الإضمارِ لزيادة تقريرٍ يقتضيها مقامُ الأمرِ بالإظهار الذي يستلزمه النهيُ عن التستر والإسرار ، قيل : المرادُ بأمرهم ما يعتريهم من جهته عليه السلام من الحال الشديدةِ عليهم المكروهةِ لديهم ، والغُمة والغمّ كالكُربة والكرب وثم للتراخي الزماني ، والمعنى لا يكن حالُكم عليكم غمةً وتخلّصوا بإهلاكي من ثِقَل مقامي وتذكيري ، ولا يخفى أنه لا يساعده قولُه عز وجل { ثُمَّ اقضوا إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونَ } أي أدّوا إليّ أي أحكِمُوا ذلك الأمرَ الذي تريدون بي ولا تمهلوني كقوله تعالى :(3/291)
{ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الامر } أو أدوا إلي ما هو حقٌّ عليكم عندكم من إهلاكي كما يقضي الرجلُ غريمَه ، فإن توسيطَ ما يحصل بعد الإهلاك بين الأمر بالعزم على مباديه وبين الأمر بقضائه من قبيل الفصلِ بين الشجرِ ولِحائِه ، وقرىء أفضوا بالفاء أي انتهوا إليّ بشرّكم أو ابرُزوا إليّ ، من أفضى إذا خرج إلى الفضاء .(3/292)
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
{ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } الفاءُ لترتيب التولِّي على ما سبق فالمرادُ به إما الاستمرارُ عليه وإما إحداثُ التولّي المخصوصِ ، أي إن أعرضتم عن نصيحتي وتذكيري إثرَ ما شاهدتم مني من مخايل صحةِ ما أقول ودلائلِها التي من جملتها دعوتي إياكم جميعاً إلى تحقيق ما تريدون بي من السوء غيرَ مبالٍ بكم وبما يأتي منكم وإحجامُكم من الإجابة علماً منكم بأني على الحق المبين مؤيدٌ من عند الله العزيز { فَمَا سَأَلْتُكُمْ } بمقابلة وعظي وتذكيري { مِنْ أَجْرٍ } تؤدّونه إلي حتى يؤدي ذلك إلى توليكم إما لاتهامكم إياي بالطمع والسؤالِ وإما لثقلِ دفع المسؤولِ عليكم أو حتى يضرّني توليكم المؤدِّي إلى الحرمان ، فالأولُ لإظهار بطلان التولي ببيان عدمِ ما يصححه والثاني لإظهار عدم مبالاتِه عليه السلام بوجوده وعدمه ، وعلى التقديرين فالفاء الجزائيةُ لسببية الشرطِ لإعلام مضمونِ الجزاءِ لا لنفسه ، والمعنى إن توليتم فاعلموا أن ليس في مصحِّح له ولا تأثّرٍ منه وقوله عز وجل : { إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله } ينتظم المعنيين جميعاً خلا أنه على الأول تأكيدٌ وعلى الثاني تعليلٌ لاستغنائه عليه السلام عنه أي ما ثوابي على العِظة والتذكير إلا عليه تعالى يُثيبني به آمنتم أو توليتم { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } المنقادين لحكمه لا أخالف أمرَه ولا أرجو غيرَه أو المستسلمين لكل ما يصيب من البلاء في طاعة الله تعالى { فَكَذَّبُوهُ } فأصروا على ما هم عليه من التكذيب بعدما ألزمهم الحجةَ وبيّن لهم المَحَجّةَ وحقق أن تولّيَهم ليس له سببٌ غيرُ التمردِ والعناد فلا جرم حقت عليهم كلمةُ العذاب { فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الفلك } من المسلمين وكانوا ثمانين { وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ } من الهالكين { وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } أي بالطوفان ، وتأخيرُ ذكره عن ذكر الإنجاءِ والاستخفاف حسبما وقع في قوله عز وعلا : { وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } وغيرِ ذلك من الآيات الكريمة لإظهار كمالِ العناية بشأنِ المقدّمِ ولتعجيل المسرةِ للسامعين وللإيذان بسبق الرحمةِ التي هي من مقتضيات الربوبية على الغضب الذي هو من مستتبعات جرائمِ المجرمين { فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين } تهويلٌ لما جرى عليهم وتحذيرٌ لمن كذب الرسولَ عليه الصلاة والسلام وتسليةٌ له صلى الله عليه وسلم .(3/293)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
{ ثُمَّ بَعَثْنَا } أي أرسلنا { مِن بَعْدِهِ } أي من بعد نوحٍ عليه السلام { رُسُلاً } التنكير للتفخيم ذاتاً ووصفاً أي رسلاً كراماً ذوي عددٍ كثير { إلى قَوْمِهِمْ } أي إلى أقوامهم لكن لا بأن أرسلنا كلَّ رسولٍ منهم إلى أقوام الكل أو إلى قوم ما ، أيَّ قومٍ كانوا بل كلُّ رسولٍ إلى قومه خاصة مثلُ هودٍ إلى عاد وصالحٍ إلى ثمودَ وغير ذلك ممن قُصَّ منهم ومن لم يُقَصّ { فَجَاءوهُم } أي جاء كلُّ رسولٍ قومَه المخصوصين به { بالبينات } أي المعجزات الواضحةِ الدالةِ على صدق ما قالوا والباءُ إما متعلقةٌ بالفعل المذكورِ على أنها للتعدية أو بمحذوف وقع حالاً من ضمير جاءوا أي ملتبسين بالبينات ، لكن لا بأن يأتيَ كلُّ رسولٍ ببينة واحدة بل ببينات كثيرة خاصةٍ به معينةٍ له حسب اقتضاءِ الحِكمة فإنَّ مراعاةَ انقسامِ الآحاد إلى الآحاد إنما هي فيما بين ضميري جاءوهم كما أشير إليه { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } بيانٌ لاستمرار عدمِ إيمانهم في الزمان الماضي لا لعدم استمرارِ إيمانِهم كما مر مثلُه في هذه السورة الكريمة غيرَ مرة أي فما صح وما استقام لقوم من أولئك الأقوامِ في وقت من الأوقات أن يؤمنوا بل كان ذلك ممتنعاً منهم لشدة شكيمتِهم في الكفر والعناد ، ثم إن كان المحكيُّ آخرَ حال كلِّ قومٍ حسبما يدل عليه حكايةُ قوم نوحٍ فالمراد بعدم إيمانِهم المذكورِ هاهنا إصرارُهم على ذلك بعد اللتيا والتي وبما أشير إليه في قوله عز وجل : { بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } تكذيبُهم من حيث مجيءِ الرسلِ إلى زمان الإصرارِ والعناد وإنما لم يُجعل ذلك مقصوداً بالذات كالأول حيث جُعل صلةً للموصول إيذاناً بأنه بيِّنٌ بنفسه غنيٌّ عن البيان ، وإنما المحتاجُ إلى ذلك عدمُ إيمانِهم بعد تواترِ البيناتِ الظاهرةِ وتظاهُرِ المعجزاتِ الباهرةِ التي كانت تَضْطَرُّهم إلى القَبول لو كانوا من أصحاب العقول ، والموصولُ الذي تعلق به الإيمانُ والتكذيب سلباً وإيماناً عبارةٌ عن جميع الشرائعِ التي جاء بها كلُّ رسولٍ أصولِها وفروعِها .
وإن كان المحكيُّ جميعَ أحوالِ كل قومٍ منهم فالمرادُ بما ذُكر أولاً كفرُهم المستمرُّ من حين مجيءِ الرسلِ إلى آخره ، وبما أشير إليه آخراً تكذيبُهم قبل مجيئِهم فلا بد من كون الموصولِ المذكور عبارةً عن أصول الشرائعِ التي أجمعت عليها الرسلُ قاطبةً ودعَوا أممَهم إليها آثرَ ذي أثيرٍ لاستحالة تبدلِها وتغيرها مثلُ ملة التوحيد ولوازمِها ، ومعنى تكذيبهم بها قبل مجيء رسلهم أنهم ما كانوا في زمن الجاهلية بحيث لم يسمعوا بكلمة التوحيد قط بل كان كلُّ قومٍ من أولئك الأقوام يتسامعون بها من بقايا من قبلهم كثمودَ من بقايا عادٍ وعادٍ من بقايا قوم نوحٍ عليه السلام فيكذبونها ثم كانت حالتُهم بعد مجيء الرسلِ كحالتهم قبل ذلك كأن لم يُبعث إليهم أحدٌ ، وتخصيصُ التكذيبِ وعدمِ الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقي بدِلالة النص ، فإنهم حيث لم يؤمنوا بما أجمعت عليه كافةُ الرسلِ فلأَن لا يؤمنوا بما تفرَّد به بعضُهم أولى ، وعدمُ جعل هذا التكذيبِ مقصوداً بالذات لِما أن عليه يدورُ أمرُ العذابِ والعقابِ عند اجتماعِ المكذِّبين هو التكذيبُ الواقعُ بعد الدعوةِ حسبما يُعرب عنه قوله تعالى :(3/294)
{ وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } وإنما ذُكر ما وقع قبلها بياناً لعراقتهم في الكفر والتكذيبِ ، وعلى التقديرين فالضمائرُ الثلاثةُ متوافقةٌ في المرجع ، وقيل : ضميرُ كذبوا راجعٌ إلى قوم نوحٍ عليه السلام ، والمعنى فما كان قومُ الرسلِ ليؤمنوا بما كَذب بمثله قومُ نوح ، ولا يخفى ما فيه من التعسف ، وقيل : الباءُ للسببية أي بسبب تعوُّدِهم تكذيبَ الحقِّ وتمرُّنِهم عليه قبل بعثة الرسلِ ، ولا يخفى أن ذلك يؤدّي إلى مخالفة الجمهورِ من جعل ما المصدريةِ من قبيل الأسماءِ كما هو رأيُ الأخفشِ وابنِ السرّاج ليرجِع إليها الضميرُ وفي إرجاعه إلى الحق بادعاء كونِه مركوزاً في الأذهان ما لا يخفى من التعسف { كذلك } أي مثلَ ذلك الطبعِ المُحكَم { نَطْبَعُ } بنون العظمةِ وقرىء بالياء على أن الضميرَ لله سبحانه { على قُلوبِ المعتدين } المتجاوزين عن الحدود المعهودةِ في الكفر والعناد المتجافين عن قَبول الحق وسلوكِ طريقِ الرشادِ ، وذلك بخذلانهم وتخليتهم وشأنَهم لانهماكهم في الغيّ والضلالِ وفي أمثال هذا دلالةٌ على أن الأفعالَ واقعةٌ بقدرة الله تعالى وكسب العبد .(3/295)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76)
{ ثُمَّ بَعَثْنَا } عطفٌ على قوله تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ } عطفَ قصةٍ على قصة { مّن بَعْدِهِمْ } أي من بعد أولئك الرسلِ عليهم السلام { موسى وهارون } خُصّت بعثتُهما عليهما السلام بالذكر ولم يُكتفَ باندراج خبرِهما فيما أشير إليه إجمالاً من أخبار الرسل عليهم السلام مع أقوامهم وأُوثر في ذلك ضربُ تفصيلٍ إيذاناً بخطر شأنِ القصةِ وعِظَمِ وقعها كما في نبأ نوح عليه السلام { إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ } أي أشرافِ قومِه ، وتخصيصُهم بالذكر لأصالتهم في إقامة المصالحِ والمُهمّات ومراجعةِ الكل إليهم في النوازل والملمات { بئاياتنا } أي ملتبسين بها وهي الآياتُ المفصّلات في الأعراف { فاستكبروا } الاستكبارُ ادعاءُ الكِبْر من غير استحقاقٍ والفاءُ فصيحة أي فأتيَاهم فبلغاهم الرسالةَ فاستكبروا عن اتباعهما وذلك قولُ اللعين لموسى عليه السلام : { أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } الخ ، { وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله أي كانوا معتادين لارتكاب الذنوبِ العظامِ فإن الإجرامَ مؤذنٌ بعظم الذنبِ ومنه الجِرمُ أي الجثة فلذلك اجترأوا على ما اجترأوا عليه من الاستهانة برسالةِ الله تعالى ، وحملُ الاستكبارِ على الامتناع عن قَبول الآيات لا يساعده قولُه عز وعلا : { فَلَمَّا جَاءهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } فإنه صريحٌ في أن المرادَ باستكبارهم ما وقع منهم قبل مجيءِ الحقِّ الذي سمَّوه سحراً أعني العصا واليدَ البيضاءَ كما ينبىء عنه سياقُ النظمِ الكريم وذلك أولُ ما أظهره عليه السلام من الآياتِ العظام والفاء فيه أيضاً فصيحةٌ معربةٌ عما صرّح به في مواضعَ أُخَرَ كأنه قيل : قال موسى : { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ مّن رَّبّكُمْ } إلى قوله تعالى : { فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء للناظرين } فلما جاءهم الحقُّ من عندنا وعرَفوه قالوا من فَرْط عتوِّهم وعِنادِهم : إن هذا لسحرٌ مبين ، أي ظاهرٌ كونُه سحراً ، أو فائقٌ في بابه واضحٌ فيما بين أضرابِه ، وقرىء لساحر .(3/296)
قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)
{ قَالَ موسى } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال تنساق إليه الأذهانُ كأنه قيل : فماذا قال لهم موسى حينئذٍ؟ فقيل : قال على طريقة الاستفهامِ الإنكاريِّ التوبيخيِّ : { أَتقُولُونَ لِلْحَقّ } الذي هو أبعدُ شيءٍ من السحر الذي هو الباطلُ البحتُ { لَمَّا جَاءكُمْ } أي حين مجيئِه إياكم ووقوفِكم عليه أو من أول الأمر من غير تأمل وتدبرٍ ، وكلا الحالين مما ينافي القولَ المذكور ، والمقولُ محذوفٌ ثقةً بدِلالة ما قبله وما بعده عليه وإيذاناً بأنه مما لا ينبغي أن يُتفوَّه به ولو على نهج الحكاية ، أي أتقولون له ما تقولون من أنه سحرٌ يعني به أنه مما لا يمكن أن يقوله قائلٌ ويتكلمَ به متكلمٌ أو القول بمعنى العيب والطعن ، من قولهم : فلان يخاف القالَةَ ، وبين الناسِ تقاولٌ إذا قال بعضهم لبعض ما يسوؤه ونظيرُه الذكرُ في قوله تعالى : { سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ } الخ ، فيُستغنى عن المفعول أي أتعيبونه وتطعنون فيه وعلى الوجهين فقوله عز وجل : { أَسِحْرٌ هذا } إنكارٌ مستأنفٌ من جهته عليه السلام لكونه سحراً وتكذيبٌ لقولهم وتوبيخٌ لهم على ذلك إثرَ توبيخٍ وتجهيلٌ بعد تجهيلٍ ، أما على الأول فظاهرٌ وأما على الثاني فوجهُ إيثارِ إنكارِ كونه سحراً على إنكار كونِه معيباً بأن يقال مثلاً : أفيه عيبٌ حسبما يقتضيه ظاهرُ الإنكارِ السابق التصريحَ بالرد عليهم في خصوصية ما عابوه به بعد التنبيهِ بالإنكار السابقِ على أن ليس فيه شائبةُ عيبٍ ما وما في هذا من معنى القربِ لزيادة تعيينِ المشارِ إليه واستحضارِ ما فيه من الصفات الدالةِ على كونه آيةً باهرةً من آيات الله المناديةِ على امتناع كونِه سحراً أي أسحرٌ هذا الذي أمرُه واضحٌ مكشوفٌ وشأنُه مشاهَدٌ معروفٌ بحيث لا يرتاب فيه أحدٌ ممن له عين مبُصِرةٌ وتقديمُ الخبر للإيذان بأنه مُنْصَبُّ الإنكارِ ولما استلزَم كونُه سحراً كونَ من أتى به ساحراً أكِّد الإنكارُ السابق وما فيه من التوبيخ والتجهيل بقوله عز وجل : { وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون } وهو جملةٌ حالية من ضمير المخاطَبين والرابطُ هو الواو بلا ضمير كما في قول من قال :
جاء الشتاءُ ولست أملِك عُدّةً ... وقولِك : جاء وحده زيدٌ ولم تطلُع الشمس أي أتقولون للحق إنه سحرٌ والحالُ أنه لا يُفلح فاعلُه أي لا يظفَر بمطلوب ولا ينجو من مكروه فكيف يمكن صدورُه من مثلي من المؤيَّدين من عند الله العزيزِ الحكيم الفائزين بكل مطلب الناجين من كل محذورٍ وقوله تعالى : { أَسِحْرٌ هذا } جملةٌ معترضةٌ بين الحال وصاحبِها أكّد بها الإنكارُ السابقُ ببيان استحالةِ كونه سحراً بالنظر إلى ذاته قبل بيانِ استحالتِه بالنظر إلى صدوره عنه عليه السلام هذا ، وأما تجويزُ أن يكون الكلُّ مقولَ القولِ على أن المعنى أجئتما السحر تطلُبان به الفلاحَ ولا يفلح الساحرون؟ فمما لا يساعده النظمُ الكريم أصلاً أما أولاً فلأن ما قالوا هو الحكمُ بأنه سحرٌ من غير أن يكون فيه دِلالةٌ على ما تعسف فيه من المعنى بوجه من الوجوه فصرفُ جوابِه عليه السلام عن صريح ما خاطبوه به إلى ما لا يُفهم منه أصلاً مما يجب تنزيهُ النظمِ التنزيليِّ عن الحمل على أمثاله وأما ثانياً فلأن التعرضَ لعدم إفلاحِ السحرةِ على الإطلاق من وظائف من يتمسك بالحق المبينِ دون الكثرةِ المتشبثين بأذيال بعضٍ منهم في معارضته عليه السلام ولو كان ذلك من كلامهم لناسب تخصيصَ عدم الإفلاح بمن زعموه ساحراً بناءً على غلبة من يأتون به من السحرة وأما ثالثاً فلأن قولَه عز وجل : { قَالُواْ أَجِئْتَنَا } الخ ، مسوقٌ لبيان أنه عليه السلام ألقمهم الحجرَ فانقطعوا عن الإتيان بكلام له تعلقٌ بكلامه عليه السلام فضلاً عن الجواب الصحيحِ واضطروا إلى التشبّث بذيل التقليدِ الذي هو دأبُ كل عاجزٍ محجوجٍ وديدنُ كلِّ عاجزٍ على أنه استئنافٌ وقع جواباً عما قبله من كلامه عليه السلام على طريقة قوله تعالى : { قَالَ موسى } الخ ، حسبما أشير إليه ، كأنه قيل : فماذا قالوا لموسى عليه السلام عندما قال لهم ما قال؟ فقيل : قالوا عاجزين عنه المحاجّة : أجئتنا { لِتَلْفِتَنَا } أي لتصْرِفنا فإن الفتلَ واللفتَ أخوَان { عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا } أي من عبادة الأصنامِ ، ولا ريب في أن ذلك إنما يتسنى بكون ما ذكر من تتمة كلامِه عليه السلام على الوجه الذي شرح إذ على تقدير كونِه محكياً من قِبَلهم يكون جوابُه عليه السلام خالياً من التبكيت الملجىءِ لهم إلى العدول عن سنن المُحاجّة ولا ريب في أنه لا علاقةَ بين قولِهم : أجئتنا الخ ، وبين انكارِه عليه السلام لما حُكيَ عنهم مصححةٌ لكونه جواباً عنه { وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء } أي المُلكُ أو التكبرُ على الناس باستتباعهم وقرىء ويكون بالياء التحتانية .(3/297)
وكلمة «في» في قوله تعالى : { فِى الارض } أي أرض مصرَ متعلقةٌ بتكون أو بالكبرياء أو بالاستقرار في لكما لوقوعه خبراً أو بمحذوف وقع حالاً من الكبرياء أو من الضمير في لكما لتحمُّله إياه { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } أي بمصدّقين فيما جئتما به وتثنيةُ الضمير في هذين الموضعين بعد إفرادِه فيما تقدم من المقامين باعتبار شمولِ الكبرياءِ لهما عليهما السلام واستلزامِ التصديقِ لأحدهما التصديقَ للآخر ، وأما اللفتُ والمجيءُ له فحيث كانا من خصائص صاحب الشريعةِ أسند إلى موسى عليه السلام خاصة { وَقَالَ فِرْعَوْنُ } توحيدُ الفعلِ لأن الأمرَ من وظائف فرعونَ أي قال لملئه يأمرُهم بترتيب مبادي إلزامِهما عليهما السلام الفعل بعد اليأسِ من إلزامهما عليهما السلام بالفعل بعد اليأسِ من إلزامهما بالقول : { ائتونى بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ } بفنون السحر حاذقٍ ماهرٍ فيه ، وقرىء سحار { فَلَمَّا جَاء السحرة } عطف على مقدر يستدعيه المقامُ قد حذف إيذاناً بسرعة امتثالِهم لأمر فرعونَ كما هو شأنُ الفاء الفصيحة في كل مقام أي فأتَوا به فلما جاؤا { قَالَ لَهُمْ موسى } لكن لا في ابتداء مجيئِهم بل بعد ما قالوا له عليه السلام ما حُكي عنهم في السور الأُخَرِ من قولهم :(3/298)
{ إِمَّا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين } ونحو ذلك { أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ } أي ملقون له كائناً ما كان من أصناف السحر { فَلَمَّا أَلْقُوْاْ } ما ألقَوْا من العِصِيّ والحبالِ واسترهبوا الناسَ وجاؤوا بسحر عظيم { قَالَ } لهم { موسى } غيرَ مكترثٍ بهم وبما صنعوا { مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر } ما موصولةٌ وقعت مبتدأ والسحرُ خبرُه أي هو السحرُ لا ما سماه فرعونُ وقومه من آيات الله سبحانه أو هو من جنس السحرِ يُريهم أن حالَه بيِّن لا يُعبأ به كأنه قال : ما جئتم به مما لا ينبغي أن يجاء به ، وقرىء أالسحر على الاستفهام فما استفهاميةٌ أي أيُّ شيء جئتم به أهو السحرُ الذي يعرِف حالَه كلُّ أحدٍ ولا يتصدى له عاقلٌ؟ وقرىء ما جئتم به سحرٌ وقرىء ما أتيتم به سحرٌ ودلالتُهما على المعنى الثاني في القراءة المشهورة أظهرُ { إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ } أي سيمحقه بالكلية بما يُظهره على يدي من المعجزة فلا يبقى له أثرٌ أصلاً أو سيظهر بطلانُه للناس والسين للتأكيد { إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين } أي عملَ جنسِ المفسدين على الإطلاق فيدخل فيه السحرُ دخولاً أولياً أو عملُكم فيكون من باب وضعِ المظهرِ موضعَ المضمرِ للتسجيل عليهم بالإفساد والإشعارِ بعلة الحكم ، وليس المرادُ بعدم إصلاحِ عملِهم عدَم جعل فسادِهم صلاحاً بل عدمَ إثباتِه وإتمامِه أي لا يُثبته ولا يُكمله ولا يُديمه بل يمحقه ويُهلكه ويسلِّط عليه الدمارَ ، والجملةُ تعليلٌ لما سبق من قوله : { إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ } والكلُّ اعتراضٌ تذييليٌّ وفيه دليلٌ على أن السحر إفسادٌ وتمويهٌ لا حقيقةٌ له .(3/299)
وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
{ وَيُحِقُّ الله الحق } عطفٌ على قوله : سيبطله أي يثبته ويقوّيه ، وإظهارُ الاسم الجليلِ في المقامين الأخيرين لإلقاء الروعةِ وتربيةِ المهابةِ { بكلماته } بأوامره وقضاياه وقرىء بكلمته { وَلَوْ كَرِهَ المجرمون } ذلك والمرادُ بهم كلُّ من اتصف بالإجرام من السحَرة وغيرِهم .
{ فَمَا ءامَنَ لموسى } معطوفٌ على مقدر قد فصل في مواقعَ أُخَرَ ، أي فألقى عصاه فإذا هي تلقَف ما يأفِكون الخ ، وإنما لم يذكر تعويلاً على ذلك وإيثاراً للإيجاز وإيذاناً بأن قوله تعالى : { إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ } مما لا يحتمل الخُلفَ أصلاً وعطفُه على ذلك بالفاء مع كونه عدماً مستمراً من قبيل ما في قوله عز وجل : { فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ } وما في قولك : وعظتُه فلم يتعظ وصِحتُ به فلم ينزجِرْ والسرُّ في ذلك أن الإتيانَ بالشيء بعد ورودِ ما يوجب الإقلاعَ عنه وإن كان استمراراً عليه لكنه بحسب العنوانِ فعلٌ جديدٌ وصنعٌ حادثٌ أي فما آمن له عليه السلام بمشاهدة تلك الآياتِ القاهرة { إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ } أي إلا أولادٌ من أولاد قومِه بني إسرائيلَ حيث دعا الآباءَ فلم يجيبوه خوفاً من فرعون وأجابتْه طائفةٌ من شبانهم ، وقيل : الضميرُ لفرعون والذريةُ طائفةٌ من شبانهم آمنوا به عليه السلام أو مؤمنُ آلِ فرعونَ وامرأتُه آسيةُ وخازنُه وامرأتُه وما شطتُه وهو بعيد { على خَوْفٍ } أي كائنين على خوف عظيم { مِن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِم } الضميرُ لفرعون والجمعُ لما هو المعتادُ في ضمائر العظماءِ ولا يأباه مقامُ بيانِ علوِّه في الفساد وغلوِّه في الشر والتسلطِ على العباد ، أو لأن المرادَ به آلُه كما يقال : ربيعةُ ومضرُ أو للذرية أو للقوم أي على خوف من فرعونَ ومن أشراف بني إسرائيلَ حيث كانوا يمنعون أعقابَهم خوفاً من فرعونَ عليهم وعلى أنفسهم { أَن يَفْتِنَهُمْ } أي يعذّبَهم وهو بدلُ اشتمالٍ أو مفعولُ خوفٍ فإن إعمالَ المصدرِ المنكّر كثيرٌ كما في قوله عز وجل : { أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً } أو مفعولٌ له بعد حذفِ اللامِ ، وإسنادُ الفعلِ إلى فرعون خاصةً لأنه الآمرُ بالتعذيب { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الارض } لغالبٌ في أرض مصرَ { وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين } في الظلم والفسادِ بالقتلِ وسفكِ الدماءِ أو في الكبر والعتوِّ حتى ادّعى الربوبيةَ واسترقَّ أسباطَ الأنبياءِ ، والجملتانِ اعتراضٌ تذييليٌّ مؤكدٌ لمضمون ما سبق .(3/300)
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
{ وَقَالَ مُوسَى } لما رأى تخوّفَ المؤمنين منه { ياقوم إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ } أي صدقتم به وبآياته { فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ } وبه ثقِوا ولا تخافوا أحداً غيرَه فإنه كافيكم كلَّ شرَ وضُرّ { إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ } مستسلمين لقضاءِ الله تعالى مخلِصين له ، وليس هذا من تعليق الحُكمِ بشرطين فإن المعلَّقَ بالإيمان وجوبُ التوكلِ عليه تعالى فإنه المقتضي له ، والمشروط بالإسلام وجودُه فإنه لا يتحقق مع التخليد ، ونظيرُه : إنْ أحسنَ إليك زيدٌ فأحسنْ إليه إن قدَرتَ عليه { فَقَالُواْ } مجيبين له عليه السلام من غير تعلثم في ذلك { عَلَى الله تَوَكَّلْنَا } لأنهم كانوا مؤمنين مخلِصين ثم دعَوا ربَّهم قائلين : { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً } أي موقعَ فتنةٍ { لّلْقَوْمِ الظالمين } أي لا تسلِّطْهم علينا حتى يعذّبونا أو يفتنونا عن ديننا أو يُفتَتنوا بنا ويقولوا : لو كان هؤلاء على الحق لَما أصيبوا وقوله تعالى : { وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين } دعاءٌ منهم بالإنجاء من سوء جوارِهم وشؤمِ مصاحبتِهم بعد الإنجاءِ من ظلمهم ، عبّر عنهم بالكفر بعدما وُصفوا بالظلم ، وفي ترتيب الدعاءِ على التوكل تلويحٌ بأن الداعَي حقُّه أن يبنيَ دعاءَه على التوكل على الله تعالى { وَأَوْحَيْنَا إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءا } أنْ مفسرةٌ لأنّ في الوحي معنى القولِ أي اتخذا مَباءةً { لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا } تسكُنون فيها وترجِعون إليها للعبادة { واجعلوا } أنتما وقومكما { بُيُوتِكُمْ } تلك { قِبْلَةَ } مصلّىً وقيل : مساجدَ متوجهةً نحو القِبلة يعني الكعبةَ فإن موسى عليه السلام كان يصلي إليها { وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ } أي فيها ، أُمروا بذلك في أول أمرهم لئلا يظهرَ عليهم الكفرةُ فيؤذوهم ويفتِنوهم عن دينهم { وَبَشّرِ المؤمنين } بالنصرة في الدنيا إجابةً لدعوتهم والجنةِ في العقبى ، وإنما ثُنِّيَ الضميرُ أولاً لأن التبوُّؤَ للقوم واتخاذَ المعابد مما يتولاه رؤساءُ القوم بتشاور ، ثم جُمع لأن جعلَ البيوتِ مساجدَ والصلاةَ فيها مما يفعله كلُّ أحدٍ ، ثم وُحِّد لأن بشارةَ الأمةِ وظيفةُ صاحبِ الشريعة ، ووضعُ المؤمنين موضعَ ضميرِ القوم لمدحهم بالإيمان والإشعار بأنه المدارُ في التبشير .(3/301)
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
{ وَقَالَ موسى رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً } أي ما يُتزَيَّن به من اللباس والمراكبِ ونحوِها { وَأَمْوَالاً } وأنواعاً كثيرةً من المال { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِك } دعاءٌ عليهم بلفظ الأمرِ بما عُلم بممارسة أحوالِهم أنه لا يكون غيرُه ، كقولك : لعن الله إبليسَ ، وقيل : اللامُ للعاقبة وهي متعلقةٌ بآتيتَ أو للعلة لأن إيتاءَ النعم على الكفر استدراجٌ وتثبيت على الضلال ولأنهم لما جعلوها ذريعةً إلى الضلال فكأنهم أُوتوها ليُضلوا فيكون ربَّنا تكريراً للأول تأكيداً أو تنبيهاً على أن المقصودَ عرضُ ضلالِهم وكفرانِهم تقدمةً لقوله تعالى : { رَبَّنَا اطمس على أموالهم } الطمسُ المحوُ وقرىء بضم الميم أي أهلكْها { واشدد على قُلُوبِهِمْ } أي اجعلها قاسيةً واطبَع عليها حتى لا تنشرحَ للإيمان كما هو قضيةُ شأنهم { فَلاَ يُؤْمِنُواْ } جوابٌ للدعاء أو دعاءٌ بلفظ النهي أو عطفٌ على ليضلوا وما بينهما دعاء معترض { حتى يَرَوُاْ العذاب الاليم } أي يعاينوه ويوقنوا به بحيث لا ينفعهم ذلك إذ ذاك { قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا } يعني موسى وهارون عليهما السلام لأنه كان يؤمن كما يشعر به إضافةُ الرب إلى ضمير المتكلم مع الغير في المواقعِ الثلاثةِ { فاستقيما } فاثبُتا على ما أنتما عليه من الدعوة وإلزام الحجةِ ولا تستعجلا فإن ما طلبتما كائنٌ في وقته لا محالة . ( روي أنه مكث فيهم بعد الدعاء أربعين سنة ) .
{ وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } أي بعادات الله سبحانه في تعليق الأمور بالحكم والمصالح أو سبيل الجهلةِ في الاستعجال أو عدمِ الوثوق بوعد الله تعالى وقرىء بالنون الخفيفةِ وكسرِها لالتقاء الساكنين ، ولا تتْبعانِ من تبع ولا تتّبعانِ أيضاً { وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إسراءيل البحر } هو من جاوز المكانَ إذا تخطاه وخلفه والباء للتعدية أي جعلناهم مجاوزين البحرَ بأن جعلناه يبساً وحفِظناهم حتى بلغوا الشط وقرىء جوّزنا وهو من التجويز المرادفِ للمجاوزة لا مما هو بمعنى التنفيذ نحو ما وقع في قول الأعشى :
كما جوّز السّكِّيَّ في الباب فيتقُ ... وإلا لقيل : وجوزنا بني إسرائيلَ في البحر ولخلا النظمُ الكريم عن الإيذان بانفصالهم عن البحر وبمقارنة العنايةِ الإلهية لهم عنَوا الجوازَ كما هو المشهور في الفرق بين أذهبه وذهَب به { فَأَتْبَعَهُمْ } يقال : تبِعتُه حتى أتبعتُه إذا كان سبقك فسبقتَه أي أدركهم ولحِقهم { فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ } حتى تراءت الفئتان وكاد يجتمع الجمعان { بَغْيًا وَعَدْوًا } ظلماً واعتداءً أي باغين وعادين أو للبغي والعدوان وقرىء وعدواً وذلك أن موسى عليه السلام خرج ببني إسرائيلَ على حين غفلةٍ من فرعون فلما سمع به تبِعهم حتى لحِقهم ووصل إلى الساحل وهم قد خرجوا من البحر ومسلُكهم باق على حاله يبَساً فسلكه بجنوده أجمعين فلما دخل آخرُهم وهم أولُهم بالخروج غشِيهم من اليم ما غشيهم { حتى إِذَا أَدْرَكَهُ الغرق } أي لحِقه وألجمه { قَالَ ءامَنتُ أَنَّهُ } أي بأنه والضميرُ للشأن وقرىء أنه على الاستئناف بدلاً من آمنت وتفسيراً له { لا إله إِلاَّ الذى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إسراءيل } لم يقل كما قاله السحرةُ : آمنا بربّ العالمين ربَّ موسى وهارون بل عبر عنه تعالى بالموصول وجعل صلتُه إيمانَ بني إسرائيل به تعالى للإشعار برجوعه عن الاستعصاء وباتباعه لمن كان يستتبعهم طمعاً في القبَول والانتظامِ معهم في سلك النجاة { وَأَنَاْ مِنَ المسلمين } أي الذين أسلموا نفوسَهم لله أي جعلوها سالمةً خالصةً له تعالى وأراد بهم إما بني إسرائيلَ خاصةً وأما الجنسَ وهم داخلون فيه دخولاً أولياً ، والجملةُ على الأول عطفٌ على آمنت ، وإيثار الاسميةِ لادعاء الدوامِ والاستمرارِ وعلى الثاني يحتمل الحاليةَ أيضاً من ضمير المتكلمِ أي آمنتُ مخلصاً لله منتظماً في سلك الراسخين فيه ، ولقد كُرّر المعنى الواحد بثلاث عباراتٍ حرصاً على القبول المفضي إلى النجاة وهيهاتَ هيهاتَ بعد ما فات وأتى ما هو آتٍ .(3/302)
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)
وقوله عز وجل : { الئان } مقولٌ لقول مقدرٍ معطوفٍ على قال أي فقيل : آلآن ، وهو إلى قوله تعالى : { ءايَةً } حكايةٌ لما جرى منه سبحانه من الغضب على المخذول ومقابلة ما أظهره بالرد على وجه الإنكارِ التوبيخيَّ على تأخيره وتقريعِه بالعصيان والإفساد وغير ذلك وفي حذف الفعل المذكورِ وإبرازِ الخبرِ المحكيِّ في صورة الإنشاءِ من الدِلالة على عظم السخطِ وشدةِ الغضبِ ما لا يخفى كما يُفصح عنه ما روي من أن جبريل دس فاه عند ذلك بحال البحر وسده به فإنه تأكيدٌ للرد القوليّ بالرد الفعليِّ ولا ينافيه تعليلُه بمخافة إدراكِ الرحمةِ فيما نقل أنه قال للنبي عليهما السلام : فلو رأيتَني يا محمدُ وأنا آخذٌ من حال البحرِ فأدُسّه في فيه مخافةَ أن تدركه الرحمةُ إذ المرادُ بها الرحمةُ الدنيويةُ أي النجاة التي هي طِلْبةُ المخذولِ وليس من ضرورة إدراكِها صحةُ الإيمان كما في إيقان قومِ يونسَ عليه السلام حتى يلزمَ كراهتُه ما لا يتصور في شأن جبريلَ عليه السلام من الرضا بالكفر إذ لا استحالةَ في ترتيب هذه الرحمةِ على مجرد التفوّه بكلمة الإيمانِ وإن كان ذلك في حالة البأسِ واليأس فيحمل دسُّه عليه السلام على سد باب الاحتمالِ البعيد لكمال الغيظِ وشدةِ الحرْدِ فتدبر والله الموفق ، وحقُّ العاملِ في الظرف أن يقدر مؤخراً ليتوجه الإنكارُ والتوبيخُ إلى تأخير الإيمانِ إلى حد يمتنعُ قبولُه فيه أي آلآن نؤمن حين يئستَ من الحياة وأيقنتَ بالممات وقوله عز وعلا : { وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ } حال من فاعل الفعل المقدَّر جيء به لتشديد التوبيخِ والتقريعِ على تأخير الإيمانِ إلى هذا الآن ببيان أنه لم يكن تأخيرُه لعدم بلوغِ الدعوةِ إليه ولا للتأمل والتدبر في دلائله وآياتِه ولا لشيء آخرَ مما عسى يُعدُّ عذراً في التأخير بل كان ذلك على طريقة الردِّ والاستعصاءِ والإفساد فإن قوله تعالى : { وَكُنتَ مِنَ المفسدين } عطفٌ على عصيت داخلٌ في حيز الحال أي وكنت من الغالين في الضلال والإضلالِ عن الإيمانِ كقوله تعالى : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } فهذا عبارةٌ عن فساده الراجعِ إلى نفسه والساري إلى غيره من الظلم والتعدي وصدِّ بني إسرائيلَ عن الإيمان والأولُ عن عصيانه الخاصِّ به .(3/303)
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
{ فاليوم نُنَجّيكَ } أي نخرجك مما وقع فيه قومُك من قعر البحرِ ونجعلك طافياً وفي التعبير عنه بالتنجية تلويحٌ بأن مرادَه بالإيمان هو النجاةُ كما مر وتهكمٌ به ، أو نلقيك على نجوة من الأرض ليراك بنو إسرائيلَ وقرىء نُنْجيك من الإنجاء ونُنَحِّيك بالحاء من التنحية أو نلقيك بناحية الساحل { بِبَدَنِكَ } في موضع الحالِ من ضمير المخاطَب أي ننجيك ملابساً ببدنك فقط لا مع روحك كما هو مطلوبُك فهو تخييبٌ له وحسمٌ لأطماعه بالمرة أو عارياً عن اللباس أو كاملاً سوياً أو بدِرْعك وكانت له دروعٌ من الذهب يعرف بها وقرىء بأبدانك أي بأجزاء بدنك كلها كقولهم : هوى بأجرامه أو بدروعك كأنه كان مُظاهِراً بينها { لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَةً } لمن وراءك علامةً وهم بنو إسرائيلَ إذ كان في نفوسهم من عظمته ما خُيِّل أنه لا يهلِك حتى يُروى أنهم لم يصدقوا موسى عليه السلام حين أخبرهم بغرقه إلى أن عاينوه مطروحاً على ممرهم من الساحل أو تكون لمن يأتي بعدك من الأمم إذا سمعوا مآلَ أمرِك ممن شاهدك عبرةً ونكالاً من الطغيان أو حجةً تدلهم على أن الإنسانَ وإن بلغ الغايةَ القصوى من عظم الشأنِ وعلوِّ الكبرياء وقوةِ السلطان فهو مملوكٌ مقهورٌ بعيد عن مظانّ الربوبيةِ وقرىء لمن خَلَفك فعلاً ماضياً أي لمن خلفك من الجبابرة ، وقرىء لمن خلقك بالقاف أي لتكون لخالقك آيةً كسائر الآيات فإن إفرادَه سبحانه إياك بالإلقاء إلى الساحل دليلٌ على أنه قصد منه كشفَ تزويرِك وإماطةَ الشبهةِ في أمرك وبرهانٌ نيِّرٌ على كمال علمِه وقدرتِه وحكمتِه وإرادتِه ، وهذا الوجهُ محتملٌ على القراءة المشهورة أيضاً وفي تعليل تنجيته بما ذكر إيذانٌ بأنها ليست لإعزازه أو لفائدة أخرى عائدةٍ إليه بل لكمال الاستهانة به وتفضيحِه على رؤوس الأشهاد وزيادةِ تفظيعِ حالِه كمن يُقتل ثم يُجرُّ جسدُه في الأسواق أو يدار برأسه في البلاد ، واللامُ الأولى متعلقةٌ بننجّيك والثانيةُ بمحذوف وقع حالاً من آية أي كائنةً لمن خلفك { وَإِن كثيراً مِنَ النَّاسِ عَن آيَاتِنَا لَغَافِلُون } لا يتفكرون بها ولا يعتبرون بها وهو اعتراضٌ تذييليٌّ جيء به عند الحكايةِ تقريراً لفحوى الكلامِ المحكيِّ { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إسراءيل } كلامٌ مستأنَفٌ سيق لبيان النعم الفائضةِ عليهم إثرَ نعمةِ الإنجاء على الإجمال وإخلالهم بشكرها وأداءِ حقوقها أي أسكناهم وأنزلناهم بعدما أنجيناهم وأهلكنا أعداءَهم { مُبَوَّأَ صِدْقٍ } أي منزِلاً صالحاً مرْضياً وهو الشامُ ومصرُ ملكوهما بعد الفراعنةِ والعمالقةِ وتمكنوا في نواحيهما حسبما نطقَ به قولهُ تعالى : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الارض ومغاربها التى بَارَكْنَا فِيهَا } { وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات } أي اللذائذ { فَمَا اختلفوا } في أمر دينهم { حتى جَاءهُمُ العلم } أي إلا بعد ما جاءهم العلم بقراءتهم التوراةَ وعلمِهم بأحكامها أو في أمر محمدٍ عليه الصلاة والسلام { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } فيميزُ بين المُحِق والمبطل بالإثابة والتعذيب .(3/304)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96)
{ فَإِن كُنتَ فِي شَكّ } أي في شك ما يسير على الفرْض والتقدير ، فإن مضمونَ الشرطيةِ إنما هو تعليقُ شيءٍ بشيء من غير تعرُّضٍ لإمكان شيءٍ منهما كيف لا وقد يكون كلاهما ممتنعاً كقوله عز وجل : { قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } وقوله تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } ونظائرِهما { مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ } من القصص التي من جملتها قصةُ فرعون وقومِه وأخبارُ بني إسرائيلَ { فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ } فإن ذلك محققٌ عندهم ثابتٌ في كتبهم حسبما ألقَينا إليك والمرادُ إظهارُ نبوتِه عليه السلام بشهادة الأحبارِ حسبما هو المسطورُ في كتبهم وإن لم يكن إليه حاجة أصلاً أو وصفُ أهلِ الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة نبوتِه عليه السلام أو تهييجه عليه السلام وزيادةِ تثبيتِه على ما هو عليه من اليقين لا تجويزِ صدورِ الشك منه عليه السلام ولذلك قال عليه السلام : « لا أشُكُّ ولا أسأَلُ » وقيل : المرادُ بالموصول مؤمنو أهلِ الكتاب كعبد اللَّه بن سلام وتميمٍ الداري وكعبٍ وأضرابِهم وقيل : الخطابُ للنبي عليه السلام والمرادُ أمتُه أو لكل من يسمع أي إن كنت أيها السامعُ في شك مما أنزلنا إليك على لسان نبيِّنا ، وفيه تنبيهٌ على أن من خالجتْه شبهةٌ في الدين ينبغي أن يسارِعَ إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلمِ فاسأل الذين يقرؤون الكتاب { لَقَدْ جَاءكَ الحق } الذي لا محيدَ عنه ولا ريبَ في حقيته { مِن رَبّكَ } وظهرَ ذلك بالآيات القاطعةِ التي لا يحوم حولَها شائبةُ الارتيابِ ، وفي التعرّض لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام من التشريف ما لا يخفى { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } بالتزلزل عما أنت عليه من الجزم واليقينِ ودُمْ على ذلك كما كنت من قبل { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بآيات الله } من باب التهييج والإلهابِ ، والمرادُ به إعلامُ أن التكذيبَ من القبح والمحذوريةِ بحيث ينبغي أن يُنهى عنه من لا يُتصورُ إمكانُ صدورِه عنه فكيف بمن يمكن اتصافُه به وفيه قطعٌ لأطماع الكفرة { فَتَكُونَ } بذلك { مّنَ الخاسرين } أنفساً وأعمالاً { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ } شروعٌ في بيان سرِّ إصرارِ الكفرة على ما هم عليه من الكفر والضلالِ أي ثبتت ووجبتْ بمقتضى المشيئةِ على الحكمة البالغة { كَلِمَةُ رَبِّكَ } حكمُه وقضاؤه بأنهم يموتون على الكفر ويخلدون في النار كقوله تعالى : { ولكن حَقَّ القول مِنْى لاَمْلانَّ جَهَنَّمَ } إلى آخره { لاَ يُؤْمِنُونَ } أبداً إذ لا كذِبَ لكلامه ولا انتقاضَ لقضائه أي لا يؤمنون إيماناً نافعاً واقعاً في أوانه فيندرج فيهم المؤمنون عند معاينةِ العذابِ مثلَ فرعونَ باقياً عند الموتِ فيدخل فيهم المرتدون .(3/305)
وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
{ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ } واضحةُ المدلولِ مقبولةٌ لدى العقولِ لأن سببَ إيمانِهم وهو تعلقُ إرادته تعالى به مفقودٌ لكنّ فقدانَه ليس لمنعٍ منه سبحانه مع استحقاقهم له بل لسوء اختيارِهم المتفرِّعِ على عدم استعدادِهم لذلك { حتى يَرَوُاْ العذاب الاليم } كدأب آلِ فرعونَ وأضرابهم { فَلَوْلاَ كَانَتْ } كلامٌ مستأنفٌ لتقرير ما سبق من استحالة إيمانِ من حقت عليهم كلمتُه تعالى لسوءِ اختيارِهم مع تمكنهم من التدارك فيكونُ الاستثناءُ الآتي بياناً لكون قومِ يونسَ عليه السلام ممن لم يحِقَّ عليه الكلمةُ لاهتدائهم إلى التدارك في وقته ولولا بمعنى هلاّ وقرىء كذلك أي فهلاّ كانت { قَرْيَةٌ } من القرى المهلَكة { ءامَنتْ } قبل معاينةِ العذابِ ولم تؤخِّرْ إيمانَها إلى حين معاينتِه كما فعل فرعونُ وقومُه { فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا } بأن يقبَله الله تعالى منها ويكشِفَ بسببه العذابَ عنها { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ } استثناءٌ منقطعٌ أي لكن قومُ يونسَ { لَمَّا ءامَنُواْ } أولَ ما رأوا أمارةَ العذابِ ولم يؤخِّروا إلى حلوله { كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزى فِى الحياة الدنيا } بعد ما أظلهم وكاد يحِلّ بهم ويجوز أن تكونَ الجملةُ في معنى النفي كما يُفصح عنه حرفُ التحضيض فيكون الاستئناءُ متصلاً إذِ المرادُ بالقرى أهاليها كأنه قيل : ما آمنت طائفةٌ من الأمم الماضيِة فينفعهم إيمانُهم إلا قومَ يونَس عليه السلام فيكون قوله تعالى : { لَمَّا ءامَنُواْ } استئنافاً لبيان نفعِ إيمانِهم ويؤيده قراءةُ الرفعِ على البدلية { وَمَتَّعْنَاهُمْ } بمتاع الدنيا بعد كشفِ العذاب عنهم { إلى حِينٍ } مقدرٍ لهم في علم الله سبحانه . رُوي أن يونسَ عليه السلام بُعث إلى نينوى من أرض الموْصِل فكذبوه فذهب عنهم مغاضباً فلما فقَدوه خافوا نزولَ العذاب فلبِسوا المُسوحَ وعجّوا أربعين ليلةً وقيل : قال لهم يونسُ عليه السلام : أجلُكم أربعون ليلةً فقالوا : إن رأينا أسبابَ الهلاك آمنّا بك فلما مضَتْ خمسٌ وثلاثون أغامت السماء غيماً أسودَ هائلاً يدخّن دُخاناً شديداً ثم يهبِط حتى يغشى مدينتَهم ويسودّ سطوحُهم فلبِسوا المسوحَ وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائِهم وصِبيانهم وداوبّهم وفرقوا بين النساء والصبيان والدواب وأولادِها فحنّ بعضُها إلى بعض وعلت الأصواتُ والعجيجُ وأظهروا الإيمانَ والتوبةَ وتضرَّعوا إلى الله تعالى فرحمهم وكشف عنهم وكان ذلك يومَ عاشوراءَ يومَ الجمعة . وعن ابن مسعود رضي الله عنه بلغ من توبتهم أن ترادّوا المظالمَ حتى إن الرجل كان يقتلع الحجرَ وقد وضع عليه أساسَ بنائه فيرده إلى صاحبه وقيل : خرجوا إلى شيخ من بقية علمائِهم فقالوا : قد نزل بنا العذابُ فما ترى فقال لهم : قولوا : يا حيُّ حين لا حيَّ ويا حيُّ محييَ الموتى ويا حيُّ لا إله إلا أنت فقالوا ، فكشف عنهم . وعن الفضيل بن عياض قالوا : إن ذنوبَنا قد عظُمت وجلّت وأنت أعظمُ منها وأجلُّ افعل بنا ما أنت أهلُه ولا تفعلْ بنا ما نحن أهلُه .(3/306)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الارض } تحقيقٌ لدروان إيمانِ كافةِ المكلفين وجوداً وعدماً على قُطب مشيئتِه تعالى مطلقاً إثرَ بيانِ تبعيةِ كفرِ الكفرةِ لكلمته ومفعولُ المشيئة محذوفٌ لوجود ما يقتضيه من وقوعها شرطاً وكونِ مفعولها مضمونَ الجزاء وأن لا يكونَ في تعلقها به غرابةٌ كما هو المشهورُ أي لو شاء سبحانه إيمانَ من في الأرض من الثقلين لآمن { كُلُّهُمْ } بحيث لا يشِذّ عنهم أحد { جَمِيعاً } مجتمعين على الإيمان لا يختلفون فيه لكنه لا يشاؤه لكونه مخالفاً للحِكمة التي عليها بُنيَ أساسُ التكوين والتشريع وفيه دِلالةٌ على أنه من شاء الله إيمانَه يؤمن لا محالة { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس } على ما لم يشأ الله منهم حسبما ينبىء عنه حرفُ الامتناعِ في الشرطية والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل : أربُّك لا يشاء ذلك فأنت تُكرههم { حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } فيكون الإنكارُ متوجهاً إلى ترتيب الإكراهِ المذكورِ على عدم مشيئته تعالى ويجوز أن تكون الفاء لترتيب الإنكارِ على عدم مشيئته تعالى بناء على أن الهمزة متأخرة في الاعتبار وإنما قدمت لاقتضائها الصدارة كما هو رأيُ الجمهورِ وأياً ما كان فالمشيئةُ على إطلاقها إذ لا فائدةَ بل لا وجهَ لاعتبار عدمِ مشيئة الإلجاءِ خاصة في إنكار الترتيبِ عليه أو ترتيب الإنكارِ عليه وفي إيلاء الاسم حرف الاستفهام إيذان بأن الإكراهَ أمرٌ ممكنٌ لكن الشأنَ في المكرَه مَنْ هو وما هو إلا هو وحده لا يشارك فيه لأنه القادرُ على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرهم إلى الإيمان وذلك غيرُ مستطاعٍ للبشر وفيه إيذانٌ باعتبار الإلجاءِ في المشيئة كما أشير إليه { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ } بيانٌ لتبعية إيمانِ النفوس المؤمنةِ لمشيئته تعالى وجوداً بعد بيانِ الدوران الكليِّ عليها وجوداً وعدماً أي ما صح وما استقام لنفس من النفوس التي علم الله تعالى أنها تؤمنُ { أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أي بتسهيله ومنحِه للألطاف وإنما خُصت النفسُ بمن ذُكر ولم يُجعل من قبيل قولِه تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } لأن الاستثناءَ مفرَّغٌ من أعم الأحوال أي ما كان لنفس أن تؤمن في حال من أحوالها إلا حالَ كونِها ملابسةً بإذنه تعالى فلا بد من كون الإيمانِ مما يؤول إليه حالُها كما أن الموتَ مآلٌ لكل نفس بحيث لا محيصَ لها عنه فلا بد من تخصيص النفسِ بمن ذكر فإن النفوسَ التي علم الله أنها لا تؤمنُ ليس لها حالٌ تؤمن فيها حتى يستثنى تلك الحال من غيرها { وَيَجْعَلُ الرجس } أي الكفر بقرينة ما قبله عبر عنه بالرجس الذي هو عبارةٌ عن القبيح المستقذَر المستكرَه لكونه علماً في القبح والاستكراه وقيل : هو العذاب أو الخِذلان المؤدي إليه وقرىء بنون العظمة وقرىء بالزاي أي يجعل الكفرَ ويبقيه { عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ } لا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات أو لا يعقلون دلائله وأحكامه لما على قلوبهم من الطبع فلا يحصُل لهم الهدايةُ التي عبّر عنها بالإذن فيبقَون مغمورين بقبائح الكفرِ والضلال أو مقهورين بالعذاب والنَّكال والجملةُ معطوفةٌ على مقدر ينسحب عليه النظمُ الكريم كأنه قيل : فيأذن لهم بمنح الألطافِ ويجعل الخ .(3/307)
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
{ قُلْ } مخاطِباً لأهل مكةَ بعثاً لهم على التدبر في ملكوت السمواتِ والأرض وما فيهما من تعاجيب الآياتِ الأنفسية والآفاقية ليتضحَ لك أنهم من الذين لا يعقِلون وحقّت عليهم الكلمة { انظروا } أي تفكروا وقرىء بنقل حركةِ الهمزةِ إلى لام قل { مَاذَا فِى السموات والارض } أي أيُّ شيءٍ بديعٍ فيهما من عجائب صُنعه الدالةِ على وحدته وكمالِ قدرتِه على أن ماذا جعل بالتركيب اسماً واحداً مغلّباً فيه الاستفهامُ على اسم الإشارةِ فهو مبتدأٌ خبرُه الظرفُ ويجوز أن يكون ( ما ) مبتدأ وذا بمعنى الذي والظرفُ صلته والجملةُ خبرٌ للمبتدأ وعلى التقديرين فالمبتدأ والخبرُ في محل النصبِ بإسقاط الخافضِ وفعلُ النظر معلقٌ بالاستفهام { وَمَا تُغْنِى } أي ما تنفع وقرىء بالتذكير { الايات } وهي التي عبر عنها بقوله تعالى : { مَاذَا فِى السموات والارض } { والنذر } جمع نذير على أنه فاعل بمعنى منذر أو على أنه مصدر أي لا تنفع الآيات والرسل المنذرون أو الإنذارات { عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } في علم الله تعالى وحكمه فما نافية والجملة إما حالية أو اعتراضية ويجوز كون ما استفهاميةً إنكاريةً في موضع النصبِ على المصدرية أي أي إغناء تغني الخ ، فالجملة حينئذ اعتراضية { فَهَلْ يَنتَظِرُونَ } أي مشركوا مكة وأضرابهم { إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ } أي إلا يوماً مثل أيام الذين خلوا { مِن قَبْلِهِمُ } من مشركي الأممِ الماضية أي مثل وقائعهم ونزول بأس الله بهم إذ لا يستحقون غيره من قولهم أيام العرب لوقائعها { قُلْ } تهديداً لهم { فانتظروا } ما هو عاقبتكم { إِنّى مَعَكُم مّنَ المنتظرين } لذلك { ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا } بالتشديد وقرىء بالتخفيف وهو عطفٌ على مقدر يدل عليه قوله : مثل أيام الذين خلَوا وما بينهما اعتراضٌ جيء به مسارعةً إلى التهديد ومبالغة في تشديد الوعيد كأنه قيل : أهلكنا الأمم نجينا رسلنا المرسلة إليهم .
{ والذين ءامَنُواْ } وصيغةُ الاستقبالِ لحكاية الأحوالِ الماضية لتهويل أمرها باستحضار صورِها وتأخيرُ حكايةِ التنجيةِ عن حكاية الإهلاكِ على عكس ما في قوله تعالى : { فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الفلك } الخ ، ونظائِره الواردةِ في مواقعَ عديدة ليتصل به قولُه عز وجل : { كذلك } أي مثل ذلك الإنجاء { حَقّاً عَلَيْنَا } اعتراض بين العامل والمعمول أي حق ذلك حقاً وقيل : بدل من المحذوف الذي ناب عنه كذلك أي إنجاء مثل ذلك حقاً والكاف متعلقة بقوله تعالى : { نُنَجِّى المؤمنين } أي من كل شدة وعذاب والجملة تذييل لما قبلها مقرر لمضمونه والمرادُ بالمؤمنين إما الجنسُ المتناول للرسل عليهم السلام وإما الأتباعُ فقط وإنما لم يذكر إنجاء الرسل إيذاناً بعدم الحاجة إليه وأياً ما كان ففيه تنبيهٌ على أن مدارَ النجاة هو الإيمان .(3/308)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
{ قُلْ } لجمهور المشركين { يأَيُّهَا الناس } أوثر الخطاب باسم الجنس مصدراً بحرف التنبيه تعميماً للتبليغ وإظهاراً لكمال العناية بشأن ما بلغ إليهم { إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى } الذي أتعبّد الله عز وجل به وأدعوكم إليه ولم تعلموا ما هو وما صفتُه { فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } في وقت من الأوقات { ولكن أَعْبُدُ الله الذى يَتَوَفَّاكُمْ } ثم يَفعل بكم ما يفعل من فنون العذاب أي فاعلموا أنه تخصيصُ العبادةِ به ورفضُ عبادةِ ما سواه من الأصنام وغيرِها مما تعبدونه جهلاً ، وتقديمُ تركِ عبادةِ الغير على عبادته تعالى لتقدم التخليةِ على التحلية كما في كلمة التوحيد ، وللإيذان بالمخالفة من أول الأمر أو إن كنتم في شك من صحة ديني وسَدادِه فاعلموا أن خلاصتَه إخلاصُ العبادة لمن بيده الإيجادُ والإعدام دون ما هو بمعزل منهما من الأصنام فاعِرضوها على عقولكم وأجيلوا فيها أفكارَكم وانظُروا فيها بعين الإنصافِ لتعلموا أنه حقٌّ لا ريب فيه بالشك مع كونهم قاطعين بعدم الصحةِ للإيذان بأن أقصى ما يمكن عروضُه للعاقل في هذا الباب هو الشكُّ في صحته ، وأما القطعُ بعدمها فمما لا سبيلَ إليه وإن كنتم في شك من ثباتي على الدين فاعلموا أني لا أتركه أبداً { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين } بما دل عليه العقلُ ونطق به الوحيُ وهو تصريحٌ بأن ما هو عليه من دين التوحيدِ ليس بطريق العقلِ الصِّرْفِ بل بالإمداد السماويِّ والتوفيق الإلهي ، وحذفُ حرفِ الجر من ( أن ) يجوز أن يكون من باب الحذفِ المطردِ مع أنْ وأنّ ، وأن يكون خاصاً بفعل الأمرِ كما في قوله :
أمرتُك الخيرَ فافعلْ ما أُمِرْت به ... { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ } عطفٌ على أن أكونَ خلا أن صلةَ أن محكيةٌ بصيغة الأمرِ ولا ضيرَ في ذلك لأن مناطَ جوازِ وصلها بصيغ الأفعال دلالتُها على المصدر ، وذلك لا يختلف بالخبرية والطلبيةِ ، ووجوبُ كونِ الصلةِ خبريةً في الموصول الاسميِّ إنما هو للتوصل إلى وصف المعارفِ بالجمل وهي لا توصف إلا بالجمل الخبرية ، وليس الموصولُ الحرفيُّ كذلك أي وأُمرتُ بالاستقامة في الدين والاستبدادِ فيه بأداء المأمورِ به والانتهاءِ عن المنهيِّ عنه أو باستقبال القبلةِ في الصلاة وعدمِ الالتفات إلى اليمين والشمال { حَنِيفاً } حالٌ من الدين أو الوجه أي مائلاً عن الأديان الباطلة { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } عطفٌ على أقم داخلٌ تحت الأمرِ أي لا تكونن منهم اعتقاداً ولا عملاً وقوله عز وعلا : { وَلاَ تَدْعُ } عطف على قوله تعالى : { قُلْ ياأيها الناس } غير داخل تحت الأمر وقيل : على ما قبله من النهي والوجهُ هو الأولُ لأن ما بعده من الجمل إلى آخر الآيتين متسقةٌ لا يمكن فصلُ بعضِها عن بعض كما ترى ولا وجهَ لإدراج الكلِّ تحت الأمرِ ، وهو تأكيدٌ للنهي المذكورِ وتفصيلٌ لما أجمل فيه إظهاراً لكمال العنايةِ بالأمر وكشفاً عن وجه بُطلان ما عليه المشركون أي لا تدْعُ { مِن دُونِ الله } استقلالاً ولا اشتراكاً { مَا لاَ يَنفَعُكَ } إذا دعوتَه بدفع مكروهٍ أو جلبِ محبوب { وَلاَ يَضُرُّكَ } إذا تركتَه بسلب المحبوبِ دفعاً أو رفعاً أو بإيقاع المكروهِ ، وتقديمُ النفعِ على الضرر غنيٌّ عن بيان السبب { فَإِن فَعَلْتَ } أي ما نُهيتَ عنه من دعاء ما لا ينفع ولا يضر ، كنّى به عنه تنويهاً لشأنه عليه السلام وتنبيهاً على رفعة مكانِه من أن يُنسَب إليه عبادةُ غير الله سبحانه ولو في ضمن الجملةِ الشرطية { فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظالمين } جزاءٌ للشرط وجوابٌ لسؤال من يسأل عن تَبِعة ما نُهي عنه .(3/309)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)
{ وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ } تقريرٌ لما أورد في حيز الصلة من سلب النفعِ من الأصنام وتصويرٌ لاختصاصه به سبحانه { فَلاَ كاشف لَهُ } عنك كائناً من كان وما كان { إِلاَّ هُوَ } وحده فيثبت عدمُ كشفِ الأصنامِ بالطريق البرهاني وهو بيانٌ لعدم النفعِ برفع المكروهِ المستلزِمِ لعدم النفعِ بجلب المحبوبِ استلزاماً ظاهراً فإن رفعَ المكروهِ أدنى مراتبِ النفعِ فإذا انتفى انتفى النفعُ بالكلية .
{ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ } تحقيقٌ لسلب الضررِ الواردِ في حيز الصلةِ ، أي إن يُرِدْ أن يصيبَك بخير { فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ } الذي من جملته ما أرادك به من الخير فهو دليلٌ على جواب الشرطِ لا نفسُ الجواب ، وفيه إيذانٌ بأن فيضانَ الخير منه تعالى بطريق التفضّل من غير استحقاقٍ عليه سبحانه أي لا أحدَ يقدِر على رده كائناً ما كان فيدخل فيه الأصنامُ دخولاً أولياً وهو بيانٌ لعدم ضُرِّها بدفع المحبوبِ قبلَ وقوعِه المستلزمِ لعدم ضُّرِّها برفعه أو بإيقاع المكروهِ استلزاماً جلياً ، ولعل ذكرَ الإرادةِ مع الخير والمسِّ مع الضر مع تلازم الأمرين للإيذان بأن الخيرَ مُراد بالذات وأن الضُرَّ إنما يَمسُّ من يَمَسّه لما يوجبه من الدواعي الخارجيةِ لا بالقصد الأوليّ أو أريد معنى الفعلين في كلَ من الضر والخير وأنه لا رادَّ لما يريد منهما ولا مزيلَ لما يصيب به منهما فأوجزَ الكلامَ بأن ذكرَ في أحدهما المسَّ وفي الآخر الإرادةَ ليدل بما ذكر في كل جانبٍ على ما تُرك في الجانب الآخر على أنه قد صرّح بالإصابة حيث قيل : { يُصَيبُ بِهِ } إظهاراً لكمال العنايةِ بجانب الخير كما ينبىء عنه تركُ الاستثناءِ فيه أي يصيب بفضله الواسعِ المنتظمِ لما أرادك به من الخير ، وجعلُ الفضلِ عبارةً عن ذلك الخير بعينه على أن يكون من باب وضعِ المُظهرِ في موضع المُضمَرِ لما ذُكر من الفائدة يأباه قوله عز وجل : { مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } فإن ذلك ينادي بعموم الفضل ، وقوله عز قائلاً : { وَهُوَ الغفور الرحيم } تذييلٌ لقوله تعالى : { يُصَيبُ بِهِ } الخ ، مقرِّرٌ لمضمونه ، والكلُّ تذييلٌ للشرطية الأخيرةِ محققٌ لمضمونها .
{ قُلْ } مخاطباً لأولئك الكفرةِ بعد ما بلّغتهم ما أوحيَ إليك { ياأيها الناس قَدْ جَاءكُمُ الحق مِن رَّبّكُمْ } وهو القرآنُ العظيمُ المشتمِلُ على محاسن الأحكامِ التي من جملتها ما مر آنفاً من أصول الدينِ واطلعتم على ما في تضاعيفه من البينات والهدى ولم يبقَ عذرٌ { فَمَنُ اهتدى } بالإيمان به والعملِ بما في مطاويه { فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ } أي منفعةُ اهتدائِه لها خاصة { وَمَن ضَلَّ } بالكفر به والإعراض عنه { فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } أي فوبالُ الضلالِ مقصورٌ عليها ، والمرادُ تنزيهُ ساحةِ الرسالةِ عن شائبة غرضٍ عائد إليه عليه السلام من جلب نفعٍ أو دفع ضرَ كما يلوح به إسنادُ المجيء إلى الحق من غير إشعارٍ بكون ذلك بواسطته { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } بحفيظ موصولٍ إلى أمركم وإنما أنا بشيرٌ ونذير .(3/310)
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
{ واتبع } اعتقاداً وعملاً وتبليغاً { مَا يوحى إِلَيْكَ } على نهج التجددِ والاستمرارِ من الحق المذكورِ المتأكِّدِ يوماً فيوماً ، وفي التعبير عن بلوغه إليهم بالمجيء وإليه عليه السلام بالوحي تنبيهٌ على ما بين المرتبتين من التنائي { واصبر } على ما يعتريك من مشاقِّ التبليغِ { حتى يَحْكُمَ الله } بالنُصرة عليهم أو بالأمر بالقتال { وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } إذ لا يمكن الخطأ في حكمه لاطّلاعه على السرائر اطّلاعَه على الظواهر . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ سورةَ يونُسَ أُعطيَ له من الأجر عشرَ حسناتٍ بعدد من صَدَّقَ بيونُسَ وكذّب به وبعدد مَنْ غرِق مع فرعونَ » والحمدُ لله وحده .(3/311)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
( سورة هود عليه السلام )
( مكية وهى مائة وثلاث وعشرون آية )
{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم } { الر } محلُّه الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، وقيل : على أنه مبتدأٌ والأولُ هو الأظهرُ كما أشير إليه في سورة يونُسَ ، أو النصبُ بتقدير فعلٍ يناسب المقامَ نحو اذكُر أو اقرأ على تقدير كونِه اسماً للسورة على ما عليه إطباقُ الأكثرِ ، أو لا محلَّ له من الإعراب مسرودٌ على نمط التعديدِ حسبما فُصِّل في أخوَاته ، وقوله تعالى : { كِتَابٌ } خبرٌ له على الوجه الثاني ، ولمبتدأ محذوفٍ على الوجوه الباقيةِ { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } نُظمت نظماً مُتْقناً لا يعتريه خللٌ بوجه من الوجوه أو جُعلت حكيمةً لانطوائها على جلائل الحِكَم البالغةِ ودقائِقها أو مُنعت من النسخ بمعنى التغييرِ مطلقاً أو أُيّدت بالحُجج القاطعةِ الدالةِ على كونها من عند الله عز وجل أو على ثبوتِ مدلولاتِها فالمرادُ بالآيات جميعُها أو على حقية ما تشتمل عليه من الأحكام الشرعيةِ فالمرادُ بها بعضُها المشتملُ عليها كما إذا فُسِّر الأحكامُ بالمنع من النسخ بمعنى تبديلِ الحُكمِ الشرعيِّ خاصةً ، وأما تفسيرُه بالمنع من الفساد أخذاً من قولهم : أحكمتَ الدابة إذا وضعتَ عليها الحَكَمة لتمنعَها من الجِماح ففيه إيهامُ ما لا يكاد يليقُ بشأن الآياتِ الكريمةِ من التداعي إلى الفساد لولا المانع ، وفي إسناد الإحكامِ على الوجوه المذكورةِ إلى آيات الكتابِ دون نفسِه لا سيما على الوجوه الشاملةِ لكل آية منه من حسن الموقعِ والدِلالة على كونه في أقصى غاية منه ما لا يخفى { ثُمَّ فُصّلَتْ } أي جُعلت فصولاً من الأحكام والدلائل والمواعظِ والقِصصِ أو فُصّل فيها مَهمّاتُ العبادِ في المعاش والمعادِ على الإسناد المجازيِّ والتفسيرُ بجعلها آيةً آيةً لا يساعده ، لأن ذلك من الأوصاف الأوليةِ فلا يناسب عطفُه على أحكامها بكلمة التراخي ، وأما المعنيان الأوّلانِ فهما وإن كانا مع الأحكام زماناً حيث لم تزَل الآياتُ مُحكمةً مفصّلة لا أنها أُحكِمَتْ أو فُصِّلَت بعد أن لم تكن كذلك ، إذ الفعلانِ من قَبيل قولِهم : سبحان من صغّر البَعوضَ وكبّر الفيلَ ، إلا أنهما حيث كانا من صفات الآياتِ باعتبار نسبةِ بعضِها إلى بعض على وجه يستتبِعُ أحكاماً مخصوصةً وآثاراً معتدًّا بها ، وبملاحظة مصالحِ العبادِ ناسبَ أن يشار إلى تراخي رتبتِهما عن رتبة الإحكام ، وإن حُمل جعلُها آية آيةً على معنى تفريقِ بعضِها عن بعض يكونُ من هذا القبيل إلا أنه ليس في مثابته في استتباع ما يستتبعه من الأحكام والآثارِ ، أو فُرّقت في التنزيل منجّمة بحسب المصالحِ فإن أريد تنزيلُها المنجَّمُ بالفعل فالتراخي زمانيٌّ وإن أريد جعلُها في نفسها بحيث يكون نزولُها منجّماً حسبما تقتضيهِ الحِكمةُ والمصلحةُ فهو رُتبيٌّ لأن ذلك وصفٌ لازمٌ لها حقيقٌ بأن يُرتَّبَ على وصف إحكامِها وقرىء أحكمتُ آياتِه ثم فصّلتُ على صيغة التكلم وعن عكرمة والضحاك ثم فصلت أي فرّقت بين الحق والباطل .(3/312)
{ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } صفةٌ للكتاب وُصف بها بعد ما وصُف بإحكام آياتِه وتفصيلِها الدالّين على رتبتِه من حيث الذاتُ إبانةً لجلالة شأنِه من حيث الإضافةُ ، أو خبرٌ للمبتدأ المذكور أو المحذوفِ ، أو صلةٌ للفعلين وفي بنائها للمفعول ثم إيرادِ الفاعلِ بعنوان الحِكمة البالغةِ والإحاطةِ بجلائلها ودقائِقها منكراً بالتنكير التفخيميّ وربطِهما به لا على النهج المعهودِ في إسناد الأفاعيلِ إلى فواعلها مع رعاية حسنِ الطباقِ من الجزالة والدلالة على فخامتهما وكونِهما على أكمل ما يكون ما لا يُكتنه كُنهُه .(3/313)
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
{ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله } مفعولٌ له حُذف عنه اللامُ مع فقدان الشرطِ ، أعني كونَه فعلاً لفاعل الفعلِ المعللِ جرياً على سنن القياسِ المطّردِ في حذف حرفِ الجرِّ مع أن المصدريةِ ، كأنه قيل : كتابٌ أُحكمت آياتُه ثم فُصّلت لئلا تعبدوا إلا الله ، أي لتترُكوا عبادةَ غيرِ الله عز وجل وتتمحّضوا في عبادته ، فإن الإحكامَ والتفصيلَ على ما فُصّل من المعاني مما يدعوهم إلى الإيمان والتوحيدِ وما يتفرع عليه من الطاعات قاطبةً . وقيل : أنْ مفسرةٌ لما في التفصيل من معنى القولِ أي قيل : لا تعبدوا إلا الله { إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ } من جهة الله تعالى { نَّذِيرٌ } أُنذركمَ عذابَه إن لم تتركو ما أنتم عليه من الكفر وعبادةِ غيرِ الله تعالى { وَبَشِيرٌ } أبشركم بثوابه إن آمنتم به وتمحّضتم في عبادته ، ولمّا ذُكر شؤون الكتابِ من إحكام آياتهِ وتفصيلِها وكونِ ذلك من قِبَل الله تعالى وأُورد معظمُ ما نُظم في سلك الغايةِ والأمرِ من التوحيد وتركِ الإشراك وُسِّط بينه وبين قرينيه أعني الاستغفارَ والتوبة ذِكرُ أن من نُزّل عليه ذلك الكتابُ مرسَلٌ من عند الله تعالى لتبليغ أحكامِه وترشيحِها بالمؤيدات من الوعد والوعيدِ للإيذان بأن التوحيدَ في أقصى مراتبِ الأهمية حتى أُفرد بالذكر وأُيِّد إيجابُه بالخطاب غِبَّ الكتابِ مع تلويح بأنه كما لا يتحقق في نفسه إلا مقارِناً للحُكم برسالته عليه السلام كذلك في الذكر لا ينفكّ أحدُهما عن الآخر ، وقد رُوعيَ في سَوق الخطابِ بتقديم الإنذار على التبشير ما رُوعيَ في الكتاب من تقديم النفي على الإثبات والتخليةِ على التحليةِ لتجاوب أطرافِ الكلامِ ، ويجوز أن يكون قوله تعالى : { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله } كلاماً منقطعاً عما قبله وارداً على لسانه عليه السلام إغراءً لهم على اختصاصه تعالى بالعبادة كأنه عليه السلام قال : « تركَ عبادةِ غيرِ الله » أي الزموه ، على معنى اترُكوا عبادةَ غيرِ الله تركاً مستمراً إنني لكم من جهة الله تعالى نذيرٌ وبشير ، أي نذير أنذرُكم من عقابه على تقدير استمرارِكم على الكفر وبشيرٌ أبشرّكم بثوابه على تقدير تركِكم له وتوحيدِكم ، ولما سيق إليهم حديثُ التوحيدِ وأُكد ذلك بخطاب الرسولِ صلى الله عليه وسلم على وجه الإنذارِ والتبشيرِ شُرع في ذكر ما هو من تتماته على وجه يتضمّن تفصيلَ ما أجمل وصف البشير والنذير فقيل :
{ وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ } وهو معطوفٌ على أن لا تعبدوا على ما ذكر من الوجهين فعلى الأول أنْ مصدريةٌ لجواز كون صلتِها أمراً أو نهياً كما في قوله تعالى : { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا } لأن مدارَ جوازِ كونِها فعلاً إنما هو دلالتُه على المصدر وهو موجودٌ فيهما ، ووجوبِ كونِها خبريةً في صلة الموصول الاسميِّ إنما هو للتوصل إلى وصف المعارفِ بالجمل وهي لا توصف بها إلا إذا كانت خبريةً ، وأما الموصولُ الحرفيُّ فليس كذلك ، ولما كان الخبرُ والإنشاءُ في الدلالة على المصدر سواءً ساغ وقوعُ الأمرِ والنهي صلةً حسبما ساغ وقوعُ الفعلِ فيتجرد عند ذلك عن معنى الأمر والنهي نحوُ تجرّدِ الصلةِ الفعليةِ عن معنى المضيِّ والاستقبال { ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } عطف على استغفروا والكلامُ فيه كالكلام فيه والمعنى فُعل ما فُعل من الإحكام والتفصيلِ لتخصّوا الله تعالى بالعبادة وتطلُبوا منه سَتر ما فرَط منكم من الشرك ثم ترجِعوا إليه بالطاعة أو تستمرّوا على ما أنتم عليه من التوحيد والاستغفارِ أو تستغفروا من الشرك وتتوبوا من المعاصي ، وعلى الثاني أنْ مفسرةٌ أي قيل في أثناء تفصيلِ الآياتِ : لا تعبدوا إلا الله واستغفِروه ثم توبوا إليه ، والتعرّضُ لوصف الربوبيةِ تلقينٌ للمخاطَبين وإرشادٌ لهم إلى طريق الابتهالِ في السؤال وترشيحٌ لما يعقُبه من التمتيع وإيتاءِ الفضلِ بقوله تعالى : { يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا } أي تمتيعاً ، وانتصابُه على أنه مصدرٌ حذف منه الزوائدُ كقوله تعالى :(3/314)
{ أَنبَتَكُمْ مّنَ الارض نَبَاتاً } أو على أنه مفعولٌ به وهو اسمٌ لما يُتمتّع به من منافع الدنيا من الأموال والبنينَ وغيرِ ذلك ، والمعنى يُعِيْشُكم عَيشاً مرضياً لا يفوتكم فيه شيءٌ مما تشتهون ولا ينغصُه شيءٌ من المكدرات { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } مقدّرٍ عند الله عز وجل وهو آخرُ أعمارِكم ، ولما كان ذلك غايةً لا يطمح وراءَها طامحٌ جرى التمتيعُ إليها مجرى التأييدِ عادةً أو لا يهلككم بعذاب الاستئصال { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ } في الطاعة والعملِ { فَضْلَهُ } جزاءَ فضلِه إما في الدنيا أو في الآخرة ، وهذه تكملةٌ لما أُجمل من التمتيع إلى أجل مسمًّى وتبيينٌ لما عسى يعسُر فهمُ حكمتِه من بعض ما يتفق في الدنيا من تفاوت الحالِ بين العاملين ، فرب إنسانٍ له فضلٌ طاعةٌ وعملٌ لا يُمتّع في الدنيا أكثرَ مما مُتِّع آخرُ دونه في الفضل ، وربما يكون المفضولُ أكثرَ تمتيعاً فقيل : ويُعطِ كلَّ فاضلٍ جزاءَ فضلِه ، إما في الدنيا كما يتفق في بعض المواد وإما في الآخرة ، وذلك مما لا مرد له وهذا ضربُ تفصيلٍ لما أُجمل فيما سبق من البشارة ، ثم شرُع في الإنذار فقيل : { وَإِن تَوَلَّوْاْ } أي تتولوا عما أُلقي إليكم من التوحيد والاستغفار والتوبةِ ، وإنما أُخّر عن البشارة جرياً على سنن تقدمِ الرحمةِ على الغضب أو لأن العذابَ قد علّق بالتولي عما ذكر من التوحيد والاستغفارِ والتوبةِ وذلك يستدعي سابقةَ ذكرِه ، وقرىء تُوَلّوا من ولى { فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ } بموجب الشفقة والرأفةِ أو أتوقع { عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } هو القيامةُ وُصف بالكِبَر كما وصف بالعِظَم في قوله تعالى : { أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ } إما لكونه كذلك في نفسه أو وُصف بوصف ما يكون فيه كما وُصفَ بالثقل في قوله تعالى : { ثَقُلَتْ فِى السموات والارض } وقيل : يوُم الشدائد وقد ابتلُوا بقَحطٍ أكلوا فيه الجيَفَ ، وأياً ما كان ففي إضافةِ العذابِ إليه تهويلٌ وتفظيعٌ له .(3/315)
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
{ إلى الله مَرْجِعُكُمْ } رجوعُكم بالموت ثم البعثِ للجزاء في مثل ذلك اليومِ لا إلى غيره { وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } فيندرج في تلك الكلية قدرتُه على إماتتكم ثم بعثِكم وجزائِكم فيعذبكم بأفانينِ العذابِ وهو تقريرٌ لما سلف من كِبر اليوم وتعليلٌ للخوف ، ولمّا أُلقيَ إليهم فحوى الكتابِ على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وسيق إليهم ما ينبغي أن يُساقَ من الترغيب والترهيبِ وقع في ذهن السامعِ أنهم بعدما سمِعوا مثلَ هذا المقالِ الذي تخِرُّ له صمُّ الجبالِ هل قابلوه بالإقبال أم تمادَوا فيما كانوا عليه من الإعراض والضلالِ ، فقيل مصدّراً بكلمة التنبيهِ إشعاراً بأن ما يعقُبها من هَناتهم أمرٌ يجب أن يُفهم ويتعجَّبَ منه .(3/316)
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
{ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } يزْورُّون عن الحق وينحرفون عنه أي يستمرون على ما كانوا عليه من التولّي والإعراضِ لأن مَنْ أعرض عن شيء ثنى عنه صدرَه وطوى عنه كشحَه ، وهذا معنىً جزْلٌ مناسبٌ لما سبق ، وقد نحا نحوَه العلامةُ الزَّمَخْشَريُّ ولكن حيث لم يصلُح التولي سبيلاً للاستخفاء في قوله عز وجل : { لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ } التَجأ إلى إضمار الإرادةِ حيث قال : ويريدون ليستخفوا من الله تعالى فلا يُطْلِعَ رسولَه والمؤمنين على إعراضهم ، وجعلُه في قَوْد المعنى إليه من قبيل الإضمارِ في قوله تعالى : { اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق } أي فضرب فانفلق ، ولا يخفى أن انسياقَ الذهنِ إلى توسيط الإرادةِ بين ثنْيِ الصدورِ وبين الاستخفاءِ ليس كانسياقِه إلى توسيط الضربِ بين الأمرِ به وبين الانفلاقِ ، ولعل الأظهرَ أن معناه يعطِفون صدورَهم على ما فيها من الكفر والإعراضِ عن الحق وعداوةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بحيث يكون ذلك مخفياً مستوراً فيها كما تُعطف الثيابَ على ما فيها من الأشياء المستورةِ ، وإنما لم يذكرْ ذلك استهجاناً بذكره أو إيماءً إلى أن ظهورَه مغنٍ عن ذكره أو ليذهبَ ذهنُ السامعِ إلى كل ما لا خيرَ فيه من الأمور المذكورةِ ، فيدخلُ فيه ما ذكر من تولّيهم عن الحق الذي أُلقيَ إليهم دخولاً أولياً ، فحينئذ يظهر وجهُ كونِ ذلك سبباً للاستخفاء ، ويؤيده ما رُوي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنها نزلت في الأخنس بنِ شُرَيقٍ وكان رجلاً حلوَ المنطِق حسنَ السياقِ للحديث يُظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المحبةَ ويُضمِرُ في قلبه ما يضادُّها وقال ابن شداد إنها نزلتْ في بعض المنافقين كان إذا مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى صدرَه وظهرَه وطأطأ رأسَه وغطَّى وجهَه كيلا يراه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فكأنه إنما كان يصنع ما يصنع لأنه رآه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يمكِنْه التخلّفُ عن حضور مجلِسه والمصاحبةِ معه ، وربما يؤدّي ذلك إلى ظهور ما في قلبه من الكفر والنفاقِ ، وقرىء يَثْنَوْني صدورُهم بالياء والتاء من اثنونى افعوعل من الثَنْي كاحلولي من الحلاوة ، وهو بناءُ مبالغةٍ ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما لَتثْنَوني ، وقرىء تثنون وأصله تَثَّنْوِنُ من تفْعَوعِلُ من الثِّنِّ وهو ما هشّ من الكلأ وضعُف يريد مطاوعةَ صدورِهم للثني كما يثنى الهشُّ من النبات ، أو أراد ضعفَ إيمانِهم ورَخاوةَ قلوبِهم ، وقرىء تثْنِئنّ من اثنانّ افعالَّ منه ثم همزٌ ، كما قيل : ابياضّت وادهامّت وقرىء تثْنوِي بون ترعوي .
{ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } أي يتغطَّوْن بها للاستخفاء على ما نقل عن ابن شداد ، أو حين يأوون إلى فُرُشِهم ويتدثّرون بثيابهم فإن ما يقع حينئذٍ حديثُ النفس عادةً ، وقيل : كان الرجلُ من الكفار يدخُل بيته ويُرخي سِتره ويحْني ظهرَه ويتغشّى بثوبه ويقول : هل يعلم الله ما في قلبي؟ { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ } أي يُضمِرون في قلوبهم { وَمَا يُعْلِنُونَ } أي يستوي بالنسبة إلى علمه المحيطِ سِرُّهم وعلنُهم فكيف يخفى عليه ما عسى يُظهرونه وإنما قدم السرُّ على العلن نعياً عليهم من أول الأمر ما صنعوا وإيذاناً بافتضاحهم ووقوعِ ما يحذَرونه وتحقيقاً للمساواة بين العِلْمين على أبلغ وجهٍ فكأن علمَه بما يسّرونه أقدمُ منه بما يعلنونه ، ونظيرُه قوله تعالى :(3/317)
{ قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله } حيث قدّم فيه الإخفاءُ على الإبداء على عكس ما وقع في قوله تعالى : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله } إذ لم يتعلق بإشعار أن المحاسبةَ بما يُخفونه أولى منها بما يُبْدونه غرضٌ ، بل الأمرُ بالعكس ، وأما هاهنا فقد تعلق بإشعار كونِ تعلقِ علمِه تعالى بما يُسرّونه أولى منه بما يعلنونه غرضٌ مُهِمٌّ مع كونهما على السوية ، كيف لا وعلمُه تعالى بمعلوماته ليس بطريق حصولِ الصورةِ بل وجودُ كلِّ شيءٍ في نفسه علمٌ بالنسبة إليه تعالى ، وفي هذا المعنى لا يختلف الحالُ بين الأشياء البارزةِ والكامنةِ ، وأما قوله تعالى : { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } فحيث كان وارداً بصدد الخطابِ مع الملائكة عليهم السلام المنزهِ مقامُهم عن اقتضاء التأكيدِ والمبالغةِ في الإخبار بإحاطة علمِه تعالى بالظاهر والباطن لم يُسلَكْ فيه ذلك المسلكُ مع أنه وقع الغُنيةُ عنه بما قبله من قوله عز وجل : { إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والارض } ويجوز أن يكون ذلك باعتبار أن مرتبةَ السرِّ متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يُعلن إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمرٌ في القلب ، فتعلقُ علمِه سبحانه بحالته الأولى متقدمٌ على تعلقه بحالته الثانية { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } تعليلٌ لما سبق وتقريرٌ له واقع موقعَ الكبرى من القياس ، وفي صيغة الفعيلِ وتحليةِ الصدورِ بلام الاستغراقِ والتعبيرِ عن الضمائر بعنوان صاحبيها من البراعة ما لا يصفه الواصفون كأنه قيل : إنه مبالغٌ في الإحاطة بمضمرات جميعِ الناسِ وأسرارِهم الخفيةِ المستكنّةِ في صدورهم بحيث لا تفارقها أصلاً ، فكيف يخفى عليه ما يُسرّون وما يعلنون ، ويجوز أن يُراد بذات الصدورِ القلوبُ من قوله تعالى : { ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور } والمعنى أنه عليمٌ بالقلوب وأحوالِها فلا يخفى عليه سرٌّ من أسرارها .(3/318)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
{ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الارض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } غذاؤُها اللائقُ بها من حيث الخلقُ ومن حيث الإيصالُ إليها بطريق طبيعيَ أو إراديَ لتكفّله إياه تفضلاً ورحمةً ، وإنما جيء به على طريق الوجوبِ اعتباراً لسبق الوعدِ وتحقيقاً لوصوله إليها البتة ، وحملاً للمكلّفين على الثقة به تعالى والإعراضِ عن إتعاب النفس في طلبه { وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا } محلَّ قرارِها في الأصلاب { وَمُسْتَوْدَعَهَا } موضعَها في الأرحام وما يجري مجراها من البيض ونحوِها ، وإنما خُصَّ كلٌّ من الاسمين بما خُصَّ به من المحلَّين لأن النطفةَ بالنسبة إلى الأصلاب في حيزها الطبيعيِّ ومنشئِها الخلقيِّ ، وأما بالنسبة إلى الأرحام وما يجري مجراها فهي مُودعةٌ فيها إلى وقت معين ، أو مسكنَها من الأرض حين وُجدت بالفعل ومُودَعها من الموادّ والمقارِّ حين كانت بعدُ بالقوة ، ولعل تقديمَ محلِّها باعتبار حالتِها الأخيرةِ لرعاية المناسبةِ بينها وبين عنوانِ كونِها دابةً في الأرض والمعنى ما من دابة في الأرض إلا يرزُقها الله تعالى حيث كانت من أماكنها يسوقُه إليها ويعلم موادَّها المتخالفةَ المتدرِّجة في مراتب الاستعداداتِ المتفاوتةِ المتطورةِ في الأطوارِ المتباينة ومقارَّها المتنوعةَ ويُفيض عليها في كل مرتبةٍ ما يليق بها من مبادي وجودِها وكمالاتِها المتفرِّعةِ عليه ، وقد فُسر المستودَعُ بأماكنها في الممات ، ولا يلائمه مقامُ التكفّل بأرزاقها { كُلٌّ } من الدواب ورزقِها ومستقرِّها ومستودعِها { فِى كتاب مُّبِينٍ } أي مُثْبتٍ في اللوح المحفوظِ البيِّن لمن ينظر فيه من الملائكة عليهم السلام أو المُظهِرِ لما أُثبت فيه للناظرين ، ولمّا انتهى الأمرُ إلى أنه سبحانه محيطٌ بجميع أحوالِ ما في الأرض من المخلوقات التي لا تكاد تحصى من مبدأ فطرتِها إلى منتهاها اقتضى الحالُ التعرّضَ لمبدأ خلقِ السمواتِ والأرضَ والحكمةِ الداعية إلى ذلك فقيل :(3/319)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
{ وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والارض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } السمواتِ في يومين والأرضَ في يومين وما عليها من أنواع الحيواناتِ والنباتِ وغيرِ ذلك في يومين حسبما فُصِّل في سورة حم السجدةُ ولم يُذكر خلقُ ما في الأرض لكونه من تتمات خلقِها وهو السرُّ في جعل زمان خلقِه تتمةً لزمان خلقِها في قوله تعالى : { فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } أي في تتمة أربعةِ أيام . والمرادُ بالأيام الأوقاتُ كما في قوله تعالى : { مِنْ * يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } أي في ستة أوقاتٍ أو مقدارِ ستةِ أيامٍ فإن اليومَ في المتعارَف زمانُ كونِ الشمسِ فوق الأرضِ ، ولا يُتصوَّر ذلك حين لا أرضَ ولا سماءَ ، وفي خلقها مدرجاً مع القدرة التامةِ على خلقها دفعةً دليلٌ على أنه قادرٌ مختارٌ واعتبارٌ للنُظّار وحثٌّ على التأنّي في الأمور . وأما تخصيصُ ذلك بالعدد المعيَّنِ فأمرٌ استأثر بعلم ما يقتضيه علامُ الغيوب جلت حِكمتُه ، وإيثارُ صيغةِ الجمعِ في السموات لما هو المشهورُ من الإشارة إلى كونها أجراماً مختلفةَ الطبائعِ ومتفاوتةَ الآثارِ والأحكام { وَكَانَ عَرْشُهُ } قبل خلقِهما { عَلَى الماء } ليس تحته شيءٌ غيرُه سواءٌ كان بينهما فُرجةٌ أو كان موضوعاً على متنه كما ورد في الأثر ، فلا دلالةَ فيه على إمكان الخلاء ، كيف لا ولو دلّ لدلّ على وجوده لا على إمكانه فقط ولا على كون الماءِ أولَ ما حدث في العالم بعد العرش ، وإنما يدلّ على أن خلقَهما أقدمُ من خلق السموات والأرضِ من غير تعرضٍ للنسبة بينهما { لِيَبْلُوَكُمْ } متعلقٌ بخلق أي خلق السمواتِ والأرضَ وما فيهما من المخلوقات التي من جملتها أنتم ورتب فيهما جميع ما تحتاجون إليه من مبادي وجودِكم وأسبابِ معايشِكم وأودع في تضاعيفهما من تعاجيب الصنائعِ والعبرِ ما تستدلون به على مطالبكم الدينيةِ ليعاملَكم معاملةَ من يبتليكم { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } فيحازيَكم بالثواب والعقاب غِبّ ما تبين المحسنُ من المسيء وامتازت درجاتُ أفرادِ كلَ من الفريقين حسب امتيازِ طبقاتِ علومِهم واعتقاداتِهم المترتبة على أنظارهم فيما نُصب من الحُجج والدلائل والأماراتِ والمخايلِ ومراتب أعمالِهم المتفرِّعة على ذلك فإن العملَ غيرُ مختصَ بعمل الجوارح ، ولذلك فسره عليه السلام بقوله : « أيكم أحسنُ عقلاً وأورعُ عن محارم الله وأسرعُ في طاعة الله؟ » فإن لكل من القلب والقالَبِ عملاً مخصوصاً به فكما أن الأولَ أشرفُ من الثاني فكذا الحالُ في عمله كيف لا ولا عملَ بدون معرفةِ الله عز وجل الواجبةِ على العباد آثرَ ذي أثيرٍ وإنما طريقُها النظريُّ التفكرُ في بدائع صنائعِ الملِكِ الخلاقِ والتدبّرِ في آياتة البيناتِ المنصوبةِ في الأنفس والآفاق ، ولا طاعة بدون فهم ما في مطاوي الكتابِ الحكيم من الأوامر والنواهي وغيرِ ذلك مما له مدخلٌ في الباب .(3/320)
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا تفضلوني على يونس بنِ متى فإنه كان يُرفع له كلَّ يومٍ مثلُ عملِ أهلِ الأرض » قالوا : وإنما كان ذلك التفكرَ في أمر الله عز وجل الذي هو عملُ القلبِ لأن أحداً لا يقدر على أن يعملَ في اليوم بجوارحه مثلَ عملِ أهلِ الأرض ، وتعليقُ فعلِ البلوى أي تعقيبُه بحرف الاستفهام لا التعليقُ المشهورُ الذي يقتضي عدمَ إيرادِ المفعولِ أصلاً مع اختصاصه بأفعال القلوبِ لما فيه من معنى العلمِ باعتبار عاقبتِه كالنظرِ ونظائرِه ، ولذلك أُجريَ مُجراه بطريق التمثيلِ أو الاستعارةِ التبعية ، وإيرادُ صيغةِ التفضيلِ مع أن الابتلأَ شاملٌ للفريقين باعتبار أعمالهِم المنقسمةِ إلى الحسن والقبيحِ أيضاً لا إلى الحسن والأحسنِ فقط للإيذان بأن المرادَ بالذات والمقصودَ الأصليَّ مما ذكر من إبداع تلك البدائعِ على ذلك النمطِ الرائعِ إنما هو ظهورُ كمالِ إحسانِ المحسنين وأن ذلك لكونه على أتم الوجوهِ اللائقةِ وأكملِ الأساليب الرائقةِ يوجب العملَ بموجبه بحيث لا يَحيدُ أحدٌ عن سَننه المستبينِ بل يهتدي كلُّ فردٍ إلى ما يُرشد إليه من مطلق الإيمانِ والطاعةِ ، وإنما التفاوتُ بينهم في مراتبهما بحسب القوةِ والضَّعفِ والكثرةِ والقلة ، وأما الإعراضُ عن ذلك والوقوعُ في مهاوي الضلالِ فبمعزلٍ من الاندراج تحت الوقوعِ فضلاً عن أن ينتظِم ظهورُه في سلك العلةِ الغائيةِ لذلك الصنعِ البديعِ ، وإنما هو عملٌ يصدُر عن عامله بسوء اختيارِه من غير مصحِّحٍ له ولا تقريب ، ولا يخفى ما فيه من الترغيب في الترقي إلى معارج العلومِ ومدارجِ الطاعات والزجرِ عن مباشرة نقائضِها والله تعالى أعلم . { وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت } على ما يوجبه قضيةُ الابتلاءِ ليترتبَ عليه الجزاءُ المتفرِّعُ على ظهور مراتبِ الأعمال { لَّيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ } إن وُجِّه الخطاب في قوله تعالى : { إِنَّكُمْ } إلى جميع المكلّفين بالموصول مع صلته للتخصيص أي ليقولَن الكافرون منهم ، وإن وجِّه إلى الكافرين منهم فهو واردٌ على طريقة الذم .
{ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي مثلُه في الخديعة أو البطلان ، وهذا إشارةٌ إلى القول المذكورِ أو إلى القرآن فإن الإخبارَ عن كونهم مبعوثين وإن لم يجب كونُه بطريق الوحي المتلوِّ إلا أنهم عند سماعِهم ذلك تخلّصوا إلى القرآن لإنبائه عنه في كل موضعٍ ، وكونِه علَماً عندهم في ذلك فعمَدوا إلى تكذيبه وتسميتِه سحراً تمادياً منهم في العناد وتفادياً عن سَنن الرشاد ، وقيل : هو إشارةٌ إلى نفس البعثِ ولا يلائمه التسميةُ بالسحر ، فإنه إنما يُطلقُ على شيء موجودٍ ظاهراً لا أصلَ له في الحقيقة ، ونفسُ البعثِ عندهم معدومٌ بحتٌ ، وتعلّقُ الآيةِ الكريمةِ بما قبلها إما من حيث إن البعثَ كما أشير إليه من تتمات الابتلاءِ المذكورِ فكأنه قيل : الأمرُ كما ذكر ومع ذلك إن أخبرتهم بمقدمة فذّةٍ من مقدماته وقضيةٍ فردةٍ من تتماته لا يتلعثمون في الرد ويعدّون ذلك من قبيل ما لا صِحةَ له أصلاً فضلاً عن تصديق ما هذه من تتماته ، وإما من حيث إن البعثَ خلقٌ جديد فكأنه قيل : وهو الذي خلق جميعَ المخلوقاتِ ابتداءً لهذه الحكمة البالغةِ ومع ذلك إن أخبرتهم بأنه يعيدهم تارةً أخرى وهو أهونُ عليه يقولون ما يقولون فسبحان الله عما يصفون ، وقرأ حمزةُ والكسائيُّ إلا ساحرٌ على أن الإشارةَ إلى القائل أو إلى القرآن على أسلوب شعرٌ شاعرٌ وقرىء بالفتح على تضمين قلتَ معنى ذكرتَ أو على أن أنك بمعنى عنك في علّك ، أي ولئن قلتَ : لعلكم مبعوثون على أن الرجاءَ والتوقعَ باعتبار حالِ المخاطبين أي توقّعوا ذلك ولا تبُتّوا القولَ بإنكاره أو على أنه مجاراةٌ معهم في الكلام على نهج المساعدةِ لئلا يسارعوا إلى اللَّجاج والعِنادِ ريثما قَرعَ أسماعَهم بتُّ القولِ بخلاف ما ألِفوا وألفَوْا عليه آباءَهم من إنكار البعثِ ويكون ذلك أدعى لهم إلى التأمل والتدبّر وما فعلوه قاتلهم الله أنى يؤفكون .(3/321)
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)
{ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب } المترتِّبَ على بعثهم أو العذابَ الموعود في قوله تعالى : { وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } وقيل : عذابُ يومِ بدر ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قتلُ جبريلَ عليه السلام للمستهزِئين ، والظاهرُ أن المرادَ به العذابُ الشاملُ للكفرة دون ما يُخَصّ ببعض منهم ، على أنه لم يكن موعوداً يستعجل منه المجرمون { إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } إلى طائفة من الأيام قليلةٍ لأن ما يحصُره العدُّ قليلٌ { لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ } أي أيُّ شيءٍ يمنعه من المجيء فكأنه يريده فيمنعه مانعٌ وإنما كانوا يقولونه بطريق الاستعجالِ استهزاءً لقوله تعالى : { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } ومرادُهم إنكارُ المجيءِ والحبْسِ رأَساً لا الاعترافُ به والاستفسارُ عن حابسه { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ } ذلك { لَيْسَ مَصْرُوفاً } محبوساً { عَنْهُمْ } على معنى أنه لا يرفعه رافعٌ أبداً إن أريد به عذابُ الآخرة أو لا يدفعه عنكم دافعٌ بل هو واقعٌ بكم إن أريد به عذابُ الدنيا ، ويومَ منصوبٌ بخبر ليس مقدماً عليه ، واستدل به البصريون على جواز تقديمِه على ليس إذ المعمولُ تابعٌ للعامل فلا يقع إلا حيث يقعُ متبوعُه ، ورُدَّ بأن الظرفَ يجوز فيه ما لا يجوز في غيره توسّعاً وبأنه قد يُقدّم المعمولُ حيث لا مجالَ لتقدم العامِلِ كما في قوله تعالى : { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمَّا السائل فَلاَ تَنْهَرْ } فإن اليتيمَ والسائلَ مع كونهما منصوبين بالفعلين المجزومين قد تقدما على لا الناهيةِ مع امتناع تقدمِ الفعلين عليهما . قال أبو حيان : وقد تتبعتُ جملةً من دواوين العربِ فلم أظفَرْ بتقديم خبرِ ليس عليها ولا بتقديمِ معمولِه إلا ما دل عليه ظاهرُ هذه الآيةِ الكريمةِ وقولُ الشاعر :
فيأبى فما يزدادُ إلا لجاجة ... وكنتُ أبياً في الخنا لست أُقدِمُ
{ وَحَاقَ بِهِم } أي أحاط بهم { مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } أي العذابُ الذي كانوا يستعجلون به استهزاءً ، وفي التعبير عنه بالموصول تهويلٌ لمكانه وإشعارٌ بعليّة ما ورد في حيز الصلةِ من استهزائهم به لنزوله وإحاطتِه ، والتعبيرُ عنها بالماضي واردٌ على عادة الله تعالى في أخباره لأنها في تحققها وتيقُّنها بمنزلة الكائنةِ الموجودةِ ، وفي ذلك من الفخامة والدلالةِ على علو شأنِ المُخْبَرِ به ما لا يخفى . { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً } أي أعطيناه نعمةً من صحة وأمْنٍ وجِدَةٍ وغيرها وأوصلناها إليه بحيث يجد لذّتها { ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ } أي سلبناه إياها ، وإيرادُ النزعِ للإشعار بشدة تعلُّقِه بها وحِرْصِه عليها { أَنَّهُ } شديدُ القنوطِ من رَوْح الله قَطوعٌ رجاءَه من عَود أمثالِها عاجلاً أو آجلاً بفضل الله تعالى لقلة صبرِه وعدمِ توكلِه عليه وثقتِه به { لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } عظيمُ الكُفرانِ لِما سلف من النعم ، وفيه إشارةٌ إلى أنّ النزْعَ إنما كان بسبب كفرانِهم بما كانوا يتقلّبون فيه من نعم الله عز وجل ، وتأخيره عن وصف يأسِهم مع تقدمه عليه لرعاية الفواصلِ على أن اليأسَ من فضل الله سبحانه وقطعَ الرجاءِ عن إفاضة أمثالِه في العاجل وإيصالِ أجرِه في الآجل من باب الكُفران للنعمة السالفة أيضاً .(3/322)
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ } كصِحّة بعد سَقَم وجِدَةٍ بعد عدمٍ وفرجٍ بعد شدة ، وفي التعبير عن ملابسة الرحمةِ والنعماءِ بالذوق المُؤْذِنِ بلذتهما وكونِهما مما يُرْغب فيه ، وعن ملابسة الضراءِ بالمسِّ المُشْعِرِ بكونها في أدنى ما ينطلق عليه اسمُ الملاقاة من مراتبها ، وإسنادُ الأولِ إلى الله عز وجل دون الثاني ، ما لا يخفى من الجزالة والدِلالةِ على أن مرادَه تعالى إنما هو إيصالُ الخير المرغوبِ فيه على أحسن ما يكون ، وأنه إنما يريد بعباده اليُسرَ دون العسرِ وإنما ينالهم ذلك بسوء اختيارِهم نيلاً يسيراً كأنما يلاصقُ البشرَةَ من غير تأثيرٍ ، وأما نزعُ الرحمةِ فإنما صدَر عنه بقضية الحِكمةِ الداعية إلى ذلك وهي كفرانُهم بها كما سبق ، وتنكيرُ الرحمة باعتبار لحُوقِ النزْعِ بها { لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عَنّي } أي المصائبُ التي تسوءني ولن يعترِيَني بعدُ أمثالُها كما هو شأنُ أولئك الأشرارِ ، فإن الترقّبَ لورود أمثالِها مما يكدّر السرورَ وينغّص العيش { إِنَّهُ لَفَرِحٌ } بطِرٌ وأشِرٌ بالنعم مغترٌّ بها { فَخُورٌ } على الناس بما أوتيَ من النعم مشغولٌ بذلك عن القيام بحقها ، واللامُ في لئن في الآيات الأربعِ موطّئةٌ للقسم ، وجوابُه سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرط .
{ إِلاَّ الذين صَبَرُواْ } على ما أصابهم من الضراء سابقاً أو لاحقاً إيماناً بالله واستسلاماً لقضائه { وَعَمِلُواْ الصالحات } شكراً على آلائه السالفةِ والآنفةِ ، واللامُ في الإنسان إما لاستغراق الجنسِ فالاستثناءُ متصلٌ أو للعهد فمُنقطعٌ { أولئك } إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتّصافِه بما في حيز الصلة ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلوّ درجتِهم وبُعدِ منزلِتهم في الفضل أي أولئك الموصوفون بتلك الصفاتِ الحميدة { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } عظيمةٌ لذنوبهم وإن جمّت { وَأَجْرٌ } ثوابٌ لأعمالهم الحسنة { كَبِيرٌ } ووجهُ تعلّقِ الآياتِ الثلاثِ بما قبلهن من حيث إن إذاقةَ النَّعماءِ ومِساسَ الضّراءِ فصلٌ من باب الابتلاءِ واقعٌ موقعَ التفصيلِ من الإجمال الواقعِ في قوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } والمعنى أن كلاًّ من إذاقة النَّعماءِ ونزعِها مع كونه ابتلاءً للإنسان أيشكُر أم يكفُر لا يهتدي إلى سنن الصواب بل يحَيد في كلتا الحالتين عنه إلى مهاوي الضلالِ فلا يَظهرُ منه حسنُ عملٍ إلا من الصابرين الصالحين أو من حيث إن إنكارَهم بالبعث واستهزاءَهم بالعذاب بسبب بطرِهم وفخرِهم كأنه قيل : إنما فعلوا ما فعلوا لأن طبيعةَ الإنسانِ مجبولةٌ على ذلك .(3/323)
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)
{ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ } من البينات الدالةِ على حقية نبوَّتِك المناديةِ بكونها من عند الله عز وجل لمن له أُذنٌ واعية { وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } أي عارضٌ لك ضِيقُ صَدرٍ بتلاوته عليهم وتبليغِه إليهم في أثناء الدعوةِ والمُحاجّة { أَن يَقُولُواْ } لأن يقولوا تعامِياً عن تلك البراهينِ التي لا تكاد تخفى صحّتُها على أحد ممن له أدنى بصيرةٍ ، وتمادياً في العِناد على وجه الاقتراح { لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ } مالٌ خطيرٌ مخزونٌ يدل على صدقه { أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ } يصدّقه . قيل : قاله عبدُ اللَّه بنُ أميةَ المخزوميُّ ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رؤساءَ مكةَ قالوا : يا محمد اجعل لنا جبالَ مكةَ ذهباً إن كنت رسولاً ، وقال آخرون : ائتِنا بالملائكة يشهدوا بنبوتك فقال : «لا أقدِر على ذلك» فنزلت فكأنه عليه الصلاة والسلام لما عاين اجتراءَهم على اقتراح مثلِ هذه العظائمِ ، غيرَ قانعين بالبينات الباهرةِ التي كانت تَضْطرّهم إلى القَبول لو كانوا من أرباب العقولِ وشاهدَ ركوبَهم من المكابرة مَتنَ كلِّ صَعْبٍ وذَلولٍ مسارعين إلى المقابلة بالتكذيب والاستهزاءِ وتسميتِها سحراً مُثّل حالُه عليه الصلاة والسلام بحال من يُتوقّع منه أن يضيقَ صدرُه بتلاوة تلك الآيات الساطعةِ عليهم وتبليغِها إليهم فحُمل على الحذر منه بما في لعل من الإشفاق فقيل : { إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ } ليس عليك إلا الإنذارُ بما أوحي إليك غيرَ مبالٍ بما صدر عنهم من الرد والقَبولِ { والله على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ } يحفَظ أحوالَك وأحوالَهم فتوكلْ عليه في جميع أمورِك فإنه فاعلٌ بهم ما يليق بحالهم ، والاقتصار على النذير في أقصى غايةٍ من إصابة المَحزّ { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } إضرابٌ بأمْ المنقطعةِ عن ذكر تركِ اعتدادِهم بما يوحى وتهاونِهم به وعدمِ اقتناعِهم بما فيه من المعجزات الظاهرةِ الدالةِ على كونه من عند الله عز وجل وعلى حقية نبوتِه عليه الصلاة والسلام وشروعٌ في ذكر ارتكابِهم لما هو أشدُّ منه وأعظمُ ، وما فيها من معنى الهمزةِ للتوبيخ والإنكارِ والتعجيب ، والضميرُ المستكنُّ في افتراه للنبي صلى الله عليه وسلم والبارزُ لما يوحى أي بل أيقولون افتراه وليس من عند الله .
{ قُلْ } إن كان الأمرُ كما تقولون { فَاتُواْ } أنتم أيضاً { بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ } في البلاغة وحُسنِ النظمِ وهو نعتٌ لسُوَر أي أمثالِه ، وتوحيدُه إما باعتبار مماثلةِ كلِّ واحدةٍ منها أو لأن المطابقةَ ليست بشرط ، حتى يوصَفُ المثنى بالمفرد كما في قوله تعالى : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } أو للإيماء إلى أن وجهَ الشبهِ ومدارَ المماثلةِ في الجميع شيءٌ واحدٌ هو البلاغةُ المؤديةُ إلى مرتبة الإعجازِ فكأن الجميعَ واحدٌ { مُفْتَرَيَاتٍ } صفةٌ أخرى لسُور أُخِّرت عن وصفها بالمماثلة لما يوحى لأنها الصفةُ المقصودةُ بالتكليف إذ بها يظهر عجزُهم وقعودُهم عن المعارضة ، وأما وصفُ الافتراء فلا يتعلق به غرضٌ يدور عليه شيءٌ في مقام التحدِّي وإنما ذُكر على نهج المساهلةِ وإرخاءِ العِنانِ ، ولأنه لو عُكس الترتيبُ لربما تُوُهّم أن المرادَ هو المماثلةُ في الافتراء ، والمعنى فأتوا بعشر سورٍ مماثلةٍ له في البلاغة مختلفاتٍ من عند أنفسِكم إن صحّ أني اختلقتُه من عندي ، فإنكم أقدرُ على ذلك مني لأنكم عرَبٌ فصحاءُ بلغاءُ قد مارستم مبادىءَ ذلك من الخُطَب والأشعارِ وحفِظتم الوقائعَ والأيامَ وزاولتم أساليبَ النظْمِ والنثر .(3/324)
{ وادعوا } للاستظهار في المعارضة { مَنِ استطعتم } دعاءَه والاستعانةَ به من آلهتكم التي تزعُمون أنها مُمِدّةٌ لكم في كل ما تأتون وما تذرون ، والكهنةِ ومَدارِهِكم الذين تلجأون إلى آرائهم في المُلمّات ليُسعدوكم فيها { مِن دُونِ الله } متعلق بادعوا أي متجاوزين الله تعالى { إِن كُنتُمْ صادقين } في أني افتريتُه فإن ذلك يستلزِمُ إمكانَ الإتيانِ بمثله وهو أيضاً يسلِزمُ قدرتَكم عليه ، والجوابُ محذوفٌ يدل عليه المذكور .(3/325)
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
{ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } أي لم يفعلوا ما كُلِّفوه من الإتيان بمثله كقوله تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } وإنما عُبِّر عنه بالاستجابة إيماءً إلى أنه عليه الصلاة والسلام على كمال أمنٍ من أمره ، كأن أمرَه لهم بالإتيان بمثله دعاءٌ لهم إلى أمر يريد وقوعَه ، والضميرُ في لكم للرسول عليه الصلاة والسلام والجمعُ للتعظيم كما في قول من قال :
وإن شئتِ حرمتُ النساءَ سواكمُ ... أوْ له وللمؤمنين لأنهم أتباعٌ له عليه الصلاة والسلام في الأمر بالتحدّي ، وفيه تنبيهٌ لطيفٌ على أن حقَّهم ألا ينفكوا عنه عليه الصلاة والسلام ويناصِبوا معه لمعارضة المعارِضين كما كانوا يفعلونه في الجهاد وإرشادٌ إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخَ في الإيمان والطُمأنينةَ في الإيقان ، ولذلك رُتّب عليه قولُه عز وجل : { فاعلموا } أي اعلموا حين ظهر لكم عجزُهم عن المعارضة مع تهالُكهم عليها علماً يقيناً متاخِماً لعين اليقينِ بحيث لا مجالَ معه لشائبة ريبٍ بوجه من الوجوه ، كأن ما عداه من مراتب العلمِ ليس بعلم لكن لا للإشعار بانحطاطِ تلك المراتبِ بل بارتفاع هذه المرتبةِ وبه يتّضح سرُّ إيرادِ كلمةِ الشكِّ مع القطعِ بعدم الاستجابةِ فإن تنزيلَ سائرِ المراتبِ منزلةَ العدمِ مستتبِعٌ لتنزيل الجزْمِ بعدم الاستجابةِ منزلةَ الشكِّ فيه ، أو اثبُتوا واستمِرّوا على ما كنتم عليه من العلم { إِنَّمَا أُنزِلَ } ملتبساً { بِعِلْمِ الله } المخصوصِ به بحيث لا تحوم حوله العقولُ والأفهامُ مستبداً بخصائصِ الإعجازِ من جهتي النظمِ الرائقِ والإخبار بالغيب { وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } أي واعلموا أيضاً ألا شريكَ له في الألوهية وأحكامِها ولا يقدِر على ما يقدر عليه أحدٌ { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } أي مخلصون في الإسلام أو ثابتون عليه؟ وهذا من باب التثبيتِ والترقيةِ إلى معارج اليقينِ ، ويجوز أن يكونَ الخطابُ في الكل للمشركين من جهة الرسولِ صلى الله عليه وسلم داخلاً تحت الأمر بالتحدّي ، والضميرُ في لم يستجيبوا لمن استطعتم أي فإن لم يستجبْ لكم آلهتُكم وسائرُ مَنْ إليهم تجأرون في مُهمّاتكم ومُلماتكم إلى المعاونة والمظاهَرَةِ فاعلموا أن ذلك خارجٌ عن دائرة قُدْرةِ البشر وأنه مُنزّلٌ من خالق القُوى والقدر ، فإيرادُ كلمةِ الشكِّ حينئذ مع الجزم بعدمِ الاستجابة من جهة آلهتِهم تهكّمٌ بهم وتسجيلٌ عليهم بكمال سخافةِ العقلِ ، وترتيبُ الأمرِ بالعلم على مجرد عدمِ الاستجابة من حيث إنه مسبوقٌ بالدعاء المسبوقِ بعجزهم واضطرارِهم فكأنه قيل : فإن لم يستجيبوا لكم عند التجائِكم إليهم بعد ما اضطُررتم إلى ذلك وضاقت عليكم الحيلُ وعيَّتْ بكم العللُ أو من حيث إن مَنْ يستمدّون بهم أقوى منهم في اعتقادهم ، فإذا ظهر عجزُهم بعدم استجابتِهم وإن كان ذلك قبلَ ظهورِ عجزِ أنفِسهم يكون عجزُهم أظهرَ وأوضحَ ، واعلموا أيضاً أن آلهتَكم بمعزل عن رتبة الشِرْكة في الألوهية وأحكامِها فهل أنتم داخلون في الإسلام إذْ لم يبْقَ بعدُ شائبةُ شبهةٍ في حقِّيته وفي بُطلان ما كنتم فيه من الشرك فيدخُلُ فيه الإذعانُ لكون القرآنِ من عند الله تعالى دخولاً أولياً أو منقادون للحق الذي هو كونُ القرآنِ من عند الله تعالى وتاركون لما كنتم فيه من المكابرة والعِناد ، وفي هذا الاستفهامِ إيجابٌ بليغٌ لما فيه من معنى الطلب والتنبيهِ على قيام الموجبِ وزوالِ العذر وإقناطٌ من أن يجبُرَهم آلهتُهم من بأس الله عز سلطانُه ، هذا والأول أنسبُ لما سلف من قوله تعالى :(3/326)
{ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } ولما سيأتي من قوله تعالى : { فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ } وأشدُّ ارتباطاً بما يعقُبه كما ستحيط به خُبراً .(3/327)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
{ مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا } أي ما يزيِّنها ويحسِّنها من الصحة والأمنِ والسعةِ في الرزق وكثرةِ الأولادِ والرياسةِ وغيرِ ذلك ، والمرادُ بالإرادة ما يحصُل عند مباشرةِ الأعمالِ لا مجردُ الإرادةِ القلبية لقوله تعالى : { نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } وإدخالُ كان عليها للدِلالة على استمرارها منهم بحيث لا يكادون يريدون الآخِرةَ أصلاً ، وليس المرادُ بأعمالهم أعمالَ كلِّهم فإنه لا يجد كلُّ متمنَ ما يتمناه ولا كلُّ أحدٍ ينال كلَّ ما تهواه ، فإن ذلك منوطٌ بالمشيئة الجاريةِ على قضية الحِكمة كما نطَق به قولُه تعالى : { مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ } ولا كلَّ أعمالِهم بل بعضَها الذي يترتب عليه الأمورُ المذكورةُ بطريق الأجرِ والجزاءِ من أعمال البرِّ وقد أُطلقت وأريد بها ثمراتُها ، فالمعنى نوصِلُ إليهم ثمراتِ أعمالِهم في الحياة الدنيا كاملةً ، وقرىء يُوفِّ على الإسناد إلى الله عز وجل وتُوَفَّ بالفوقانية على البناء للمفعول ورفعِ أعمالَهم ، وقرىء نُوْفي بالتخفيف والرفع لكون الشرط ماضياً كقوله :
وإن أتاه خليلٌ يومَ مسغَبة ... يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حرِمُ
{ وَهُمْ فِيهَا } أي في ( الحياة ) الدنيا { لاَ يُبْخَسُونَ } أي لا يُنقَصون ، وإنما عبّر عن ذلك بالبخْس الذي هو نقصُ الحقِّ مع أنه ليس لهم شائبةُ حقَ فيما أوتوه كما عبّر عن إعطائه بالتوفية التي هي إعطاءُ الحقوقِ مع أن أعمالَهم بمعزل من كونها مستوجبةً لذلك بناءً للأمر على ظاهر الحالِ ومحافظةً على صور الأعمالِ ومبالغةً في نفي النقص ، كأن ذلك نقصٌ لحقوقهم فلا يدخُل تحت الوقوعِ والصدورِ عن الكريم أصلاً ، والمعنى أنهم فيها خاصةً لا يُنقصون ثمراتِ أعمالِهم وأجورَها نقصاً كلياً مطرداً ولا يُحرَمونها حِرماناً كلياً ، وأما في الآخرة فهم في الحِرمان المطلقِ واليأسِ المحقق كما ينطِق به قوله تعالى : { أولئك } فإنه إشارةٌ إلى المذكورين باعتبار إرادتِهم الحياةَ الدنيا أو باعتبار توْفيتِهم أجورَهم من غير بخسٍ أو باعتبارهما معاً . وما فيه من معنى البُعدِ للإيذان ببُعد منزلتِهم في سوء الحالِ أي أولئك المُريدون للحياة الدنيا وزينتِها المُوَفَّوْن فيها ثمراتِ أعمالِهم من غير بخس { الذين لَيْسَ لَهُمْ فِى الاخرة إِلاَّ النار } لأن هِممَهم كانت مصروفةً إلى الدنيا وأعمالَهم مقصورةً على تحصيلها وقد اجتنَوْا ثمرتَها ولم يكونوا يريدون بها شيئاً آخرَ ، فلا جرمَ لم يكن لهم في الآخرة إلا النارُ وعذابُها المخلّد { وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا } أي ظهر في الآخرة حُبوطُ ما صنعوه من الأعمال التي كانت تؤدِّي إلى الثواب لو كانت معمولةً للآخرة أو حبط ما صنعوه في الدنيا من أعمال البِرِّ إذ شرْطُ الاعتدادِ بها الإخلاصُ { وباطل } أي في نفسه { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } في أثناء تحصيلِ المطالبِ الدنيويةِ ، ولأجل أن الأولَ من شأنه استتباعُ الثوابِ والأجرِ وأن عدمَه لعدم مقارنتِه للإيمان والنيةِ الصحيحةِ وأن الثانيَ ليس له جهةٌ صالحة قطُّ عُلّق بالأول الحُبوطُ المؤذِنُ بسقوط أجرِه بصيغة الفِعل المنبىءِ عن الحدوث وبالثاني البُطلانُ المُفصِحُ عن كونه بحيث لا طائلَ تحته أصلاً بالاسمية الدالةِ على كون ذلك وصفاً لازماً له ثابتاً فيه ، وفي زيادة كان في الثاني دون الأول إيماءٌ إلى أن صدورَ البرِّ منهم وإن كان لغرض فاسدٍ ليس في الاستمرار والدوامِ كصدور الأعمالِ التي هي من مقدّمات مطالبِهم الدنية ، وقُرىء وبطَل على الفعل أي ظهر بطلانُه حيث علم هناك أن ذلك وما يستتبعه من الحظوط الدنيويةِ مما لا طائلَ تحته أو انقطع أثرُه الدنيويُّ فبطَل مطلقاً ، وقرىء وباطلاً ما كانوا يعملون على أن ما إبهاميةٌ أو في معنى المصدر كقوله :(3/328)
ولا خارجاً مِنْ فِيَّ زورُ كلامِ ... وعن أنس رضي الله عنه أن المرادَ بقوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ } الخ اليهودُ والنصارى إن أعطَوا سائلاً أو وصَلوا رحِماً عُجّل لهم جزاءُ ذلك بتوسعة في الرزق وصِحةٍ في البدن ، وقيل : هم الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسْهم لهم في الغنائم ، وأنت خبيرٌ بأن ذلك إنما كان بعد الهجرةِ ، والسورةُ مكيةٌ ، وقيل : هم أهلُ الرياءِ . يقال للقرّاء منهم : أردتَ أن يقال فلانٌ قارىءٌ فقد قيل ذلك وهكذا لغيره ممن يعمل أعمالَ البِرِّ لا لوجه الله تعالى فعلى هذا لا بد من تقييد قوله : { لَيْسَ لَهُمْ إِلاَّ النار } بأنْ ليس لهم بسبب أعمالِهم الريائيةِ إلا ذلك ، والذي تقتضيه جزالةُ النظمِ الكريمِ أن المرادَ به مطلقُ الكفَرة بحيث يندرِجُ فيهم القادحون في القرآن العظيمِ اندراجاً أولياً فإنه عز وعلا لما أمر نبيَّه عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بأن يزدادوا علماً ويقيناً بأن القرآنَ منزلٌ بعلم الله وبأن لا قُدرةَ لغيره على شيء أصلاً وهيّجهم على الثبات على الإسلام والرسوخِ فيه عند ظهورِ عجزِ الكفرةِ وما يدْعون من دون الله عن المعارضة وتبيّن أنهم ليسوا على شيء أصلاً اقتضى الحالُ أن يتعرّض لبعض شؤونِهم الموهمةِ لكونهم على شيء في الجملة من نيلهم الحظوظَ العاجلةَ واستيلائهم على المطالب الدنيويةِ وبيانِ أن ذلك بمعزل عن الدلالة عليه ، ولقد بُيِّن ذلك أيَّ بيانٍ ثم أعيد الترغيبُ فيما ذكر من الإيمان بالقرآن والتوحيدِ والإسلام فقيل :(3/329)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
{ أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ } أي برهانٍ نيِّرٍ عظيمِ الشأنِ يدل على حقية ما رَغّب في الثبات عليه من الإسلام وهو القرآنُ ، وباعتباره أو بتأويل البرهانِ ذُكر الضميرُ الراجعُ إليها في قوله تعالى : { وَيَتْلُوهُ } أي يتبعه { شَاهِدٌ } يشهد بكونه من عند الله تعالى وهو الإعجازُ في نظمه المطّردِ في كل مقدارِ سورةٍ منه أو ما وقع في بعض آياتِه من الإخبار بالغيب ، وكلاهما وصفٌ تابعٌ له شاهدٌ بكونه من عند الله عز وجل غيرَ أنه على التقدير الأولِ يكون في الكلامِ إشارةٌ إلى حال رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في تمسّكهم بالقرآن عند تبيُّنِ كونِه منزلاً بعلم الله بشهادة الإعجاز { مِنْهُ } أي من القرآنِ غيرَ خارجٍ عنه أو من جهة الله تعالى فإن كلاًّ منهما واردٌ من جهته تعالى للشهادة ، ويجوز على هذا التقديرِ أن يراد بالشاهد المعجزاتُ الظاهرةُ على يدَيْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك أيضاً من الشواهد التابعةِ للقرآن الواردةِ من جهته تعالى ، فالمرادُ بَمنْ في قوله تعالى : { أَفَمَنِ } كلُّ من اتصف بهذه الصفةِ الحميدةِ فيدخُل فيه المخاطَبون بقوله تعالى { فاعلموا *** فَهَلْ أَنتُمْ } دخولاً أولياً وقيل : هو النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، وقيل : مؤمنو أهلِ الكتاب كعبد اللَّه بن سلام وأضرابِه ، وقيل : المرادُ بالبينة دليلُ العقلِ وبالشاهد القرآنُ فالضمير في منه لله تعالى ، أو البينةُ القرآنُ ويتلوه من التلاوة والشاهدُ جبريلُ أو لسانُ النبي صلى الله عليه وسلم على أن الضميرَ له أو من التُّلُوّ والشاهدُ مَلَكٌ يحفظ ، والأَوْلى هو الأولُ ، ولما كان المرادُ بتلوّ الشاهدِ للبرهان إقامةَ الشهادة بصحته وكونِه من عند الله تابعاً له بحيث لا يفارقه في مشهد من المشاهد فإن القرآنَ بيِّنةٌ باقيةٌ على وجه الدهرِ مع شاهدها الذي يشهد بأمرها إلى يوم القيامةِ عند كلِّ مؤمنٍ وجاحدٍ عُطف كتابُ موسى في قوله عز قائلاً : { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى } على فاعله مع كونه مقدَّماً عليه في النزول فكأنه قيل : أفمن كان على بينةٍ من ربه ويشَهد به شاهدٌ منه وشاهدٌ آخرُ مِنْ قبله هو كتابُ موسى ، وإنما قُدّم في الذكر المؤخَّرِ في النزول لكونه وصفاً لازماً له غيرَ مفارِقٍ عنه ولعراقته في وصف التلوِّ ، والتنكيرُ في ( بينةٍ ) و ( شاهدٌ ) للتفخيم { إِمَاماً } أي مؤتماً به في الدين ومقتدىً ، وفي التعرض لهذا الوصفِ بصدد بيانِ تلوِّ الكتابِ ما لا يخفى من تفخيم شأنِ المَتْلوِّ { وَرَحْمَةً } أي نعمةً عظيمة على من أُنزل إليهم ومَنْ بعدهم إلى يوم القيامة باعتبار أحكامِه الباقيةِ المؤيَّدةِ بالقرآن العظيمِ وهما حالان من الكتاب .
{ أولئك } الموصوفون بتلك الصفةِ الحميدةِ وهو الكونُ على بينة من الله ، ولِما أن ذلك عبارةٌ عن مطلق التمسكِ بها وقد يكون ذلك بطريق التقليدِ لمن سلف من عظماء الدين من غير عُثورٍ على دقائق الحقائقِ وصفهم بأنهم { يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي يصدقونه حقَّ التصديقِ حسبما تشهد به الشواهدُ الحقّة المعربةُ عن حقيته { وَمن يَكْفُرْ بِهِ } أي بالقرآن ولم يصدِّق بتلك الشواهد الحقَّةِ { مّن الاحزاب } من أهل مكةَ ومن تحزّب معهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم { فالنار مَوْعِدُهُ } يردّها لا محالة حسبما نطَق به قوله تعالى :(3/330)
{ لَيْسَ لَهُمْ فِى الاخرة إِلاَّ النار } وفي جعلها موعداً إشعارٌ بأن له فيها ما لا يوصف من أفانين العذابِ { فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ } أي في شك من أمر القرآنِ وكونِه من عند الله عز وجل حسبما شهِدت به الشواهدُ المذكورةُ وظهر فضلُ من تمسك به { أَنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ } الذي يربِّيك في دينك ودنياك { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ } بذلك إما لقصور أنظارِهم واختلالِ أفكارِهم وإما لعنادهم واستكبارِهم ، فمَنْ في قوله تعالى : { أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ } مبتدأٌ حُذف خبرُه لإغناء الحالِ عن ذكره وتقديرُه أفمن كان على بينة من ربه كأولئك الذين ذُكرت أعمالَهم وبُيِّن مصيرُهم ومآلُهم ، يعني أن بينهما اتفاقاً عظيماً بحيث لا يكاد يتراءى ناراهما ، وإيرادُ الفاءِ بعد الهمزةِ لإنكار ترتّبِ توهّم المماثلةِ على ما ذكر من صفاتهم وعُدّد من هَناتهم كأنه قيل : أبعدَ ظهورِ حالِهم في الدنيا والآخرة كما وُصف يُتوهم المماثلةُ بينهم وبين مَنْ كان على أحسن ما يكون في العاجل والآجل كما في قوله تعالى : { أفاتخذتم مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء } أي أبعدَ أن علمتموه ربَّ السمواتِ والأرض اتخذتم من دونه أولياءَ وقولِه تعالى : { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى }(3/331)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } بأن نسَب إليه ما لا يليق به كقولهم للملائكة بناتُ الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وقولِهم لآلهتهم : { هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله } يعني أنهم مع كفرهم بآيات الله تعالى مفترون عليه كذباً ، وهذا التركيُب وإن كان سبكُه على إنكار أن يكون أحدٌ أظلمَ منهم من غير تعرضٍ لإنكار المساواةِ ونفيِها ولكنّ المقصودَ به قصداً مطرداً إنكارُ المساواةِ ونفيُها وإفادةُ أنهم أظلم من كل ظالمٍ كما ينبىء عنه ما سيتلى من قوله عز وجل : { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاخرة هُمُ الاخسرون } فإذا قيل : مَنْ أكرمُ من فلان أو لا أفضلَ منه فالمرادُ منه حتماً أنه أكرمُ من كل كريمٍ وأفضلُ من كل فاضل { أولئك } الموصوفون بالظلم البالغِ الذي هو الافتراءُ على الله تعالى ، وبهذه الإشارة حصَلت الغُنيةُ عن إسناد العَرضِ إلى أعمالهم واكتُفي بإسناده إليهم حيث قيل : { يُعْرَضُونَ } لأن عرضَهم من تلك الحيثيةِ وبذلك العنوانِ عرضٌ لأعمالهم على وجهٍ أبلغَ فإن عرضَ العاملِ بعمله أفظعُ من عرض عملِه مع غَيْبته { على رَبّهِمْ } الحقِّ ، وفيه إيماءٌ إلى بطلان رأيِهم في اتخاذهم أرباباً من دون الله عز وجل { وَيَقُولُ الاشهاد } عند العَرْض من الملائكة والنبيين أو من جوارحهم وهو جمعُ شاهد أو شهيد كأصحاب وأشراف { هَؤُلاء الذين كَذَبُواْ على رَبّهِمْ } بالافتراء عليه كأن ذلك أمرٌ واضحٌ غنيٌّ عن الشهادة بوقوعه ، وإنما المحتاجُ إلى الشهادة تعيينُ مَنْ صدر عنه ذلك فلذلك لا يقولون : هؤلاء كذبوا على ربهم ويجوز أن يكون المرادُ بالأشهاد الحضّارَ وهم جميعُ أهلِ الموقفِ على ما قاله قتادة ومقاتل ويكون قولُهم : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ذماً لهم بذلك لا شهادةً عليهم كما يُشعر به قوله تعالى : { وَيَقُولُ } دون { وَيُشْهِدُ } الخ ، وتوطئةً لما يعقُبه من قوله تعالى : { أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } بالافتراء المذكورِ ويجوز أن يكون هذا على الوجه الأولِ من كلام الله تعالى وفيه تهويلٌ عظيمٌ لما يحيق بهم من عاقبة ظلمِهم اللهم إنا نعوذُ بك من الخِزْي على رؤوس الأشهادِ { الذين يَصُدُّونَ } أي كلَّ من يقدِرون على صدّه أو يفعلون الصد { عَن سَبِيلِ الله } عن دينه القويمِ { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } انحرافاً أي يصفونها بذلك وهي أبعدُ شيءٍ منه أو يبغون أهلَها أن ينحرفوا عنها يقال : بغَيتك خيراً أو شراً أي طلبتُ لك ، وهذا شاملٌ لتكذيبهم بالقرآن وقولِهم إنه ليس من عند الله { وَهُمْ بالاخرة هُمْ كافرون } أي يصِفونها بالعِوَج والحالُ أنهم كافرون بها لا أنهم يؤمنون بها ويزعُمون أن لها سبيلاً سوياً يهدون الناسَ إليه ، وتكريرُ الضمير لتأكيد كفرِهم واختصاصِهم به كأن كفرَ غيرِهم ليس بشيء عند كفرهم { أولئك } مع ما وُصف من أحوالهم الموجيةِ للتدمير { لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ } الله تعالى مُفْلِتين بأنفسهم من أخذه لو أراد ذلك { فِى الارض } مع سَعتها وإن هربوا منها كل مَهْرب .(3/332)
{ وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء } ينصُرونهم من بأسه ولكن أُخِّر ذلك لحكمة تقتضيه ، والجمعُ إما باعتبار أفراد الكفَرة كأنه قيل : وما كان لأحد منهم من وليَ أو باعتبار تعدّدِ ما كانوا يدعون من دونه الله تعالى فيكون ذلك بياناً لحال آلهتِهم من سقوطها عن رتبة الولاية { يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب } استئنافٌ يتضمن حكمةَ تأخيرِ المؤاخذة وقرأ ابنُ كثير ، وابنُ عامرٍ ، ويعقوبُ بالتشديد { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع } لفَرْط تصامِّهم عن الحق وبُغضِهم له كأنهم لا يقدرون على السمع ، ولما كان قبحُ حالِهم في عدم إذعانِهم للقرآن الذي طريقُ تلقّيه السمعُ أشدَّ منه في عدم قَبولِهم لسائر الآياتِ المنوطةِ بالإبصار ، بالغَ في نفي الأولِ عنهم حيث نفى عنهم الاستطاعةَ واكتفى في الثاني بنفي الإبصارِ فقال تعالى : { وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } لتعاميهم عن آيات الله المبسوطةِ في الأنفس والآفاقِ وهو استئنافٌ وقع تعليلاً لمضاعفة العذابِ وقيل : هو بيانٌ لما نُفي من ولاية الآلهةِ فإن ما لا يسمع ولا يُبصر بمعزل من الولاية ، وقوله تعالى : { يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب } اعتراضٌ وسِّط بينهما نعياً عليهم من أول الأمرِ سوءَ العاقبة .(3/333)
أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)
{ أولئك } المنعوتون بما ذكر من القبائح { الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } باشتراء عبادةِ الآلهةِ بعبادة الله عز سلطانُه { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من الآلهة وشفاعتِها أو خسِروا ما بذلوا وضاع عنهم ما حصَلوا فلم يبقَ معهم سوى الحسرةِ والندامة { لاَ جَرَمَ } فيه ثلاثةُ أوجةٍ : ( الأولُ ) أن لا نافيةٌ لما سبق وجَرَم فعلٌ بمعنى حقَّ وأن مع ما في حيزه فاعلُه والمعنى لا ينفعهم ذلك الفعلُ حقَّ { أَنَّهُمْ فِى الاخرة هُمُ الاخسرون } وهذا مذهبُ سيبويه ، ( والثاني ) جرَمَ بمعنى كسب وما بعده مفعولُه ، وفاعلُه ما دل عليه الكلامُ أي كسب ذلك خُسرانَهم فالمعنى ما حصل من ذلك إلا ظهورُ خُسرانِهم ( والثالثُ ) أن لا جرم بمعنى لا بد أنهم في الآخرة هم الأخسرون ، وأياً ما كان فمعناه أنهم أخسرُ من كل خاسر فتبين أنهم أظلمُ من كل ظالم ، وهذه الآياتُ الكريمة كما ترى مقرِّرةٌ لما سبق من إنكار المماثلةِ بين مَنْ كان على بينة من ربه وبين مَنْ كان يريد الحياةَ الدنيا أبلغَ تقريرٍ فإنهم حيث كانوا أظلمَ من كل ظالمٍ وأخسَر من كل خاسرٍ لم يُتصوَّرْ مماثلةٌ بينهم وبين أحدٍ من الظَّلَمةِ الأخسرين فما ظنُّك بالمماثلة بينهم وبين مَنْ هو في أعلى مدارجِ الكمالِ ولما ذُكر فريقُ الكفارِ وأعمالُهم وبيّن مصيُرهم ومآلُهم شُرع في بيان حالِ أضدادِهم أعني فريقَ المؤمنين وما يؤول إليه أمرُهم من العواقب الحميدةِ تكملةً لما سلف من محاسنهم المذكورة في قوله تعالى : { أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ } الآية ، ليتبينَ ما بينهما من التباين البيِّنِ حالاً ومآلاً فقيل : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ } أي بكل ما يجب أن يؤمَن به فيندرج تحتَه ما نحن بصدده من الإيمان بالقرآن الذي عبّر عنه بالكون على بينة من الله وإنما يحصُل ذلك باستماع الوحي والتدبرِ فيه ومشاهدةِ ما يؤدِّي إلى ذلك في الأنفس والآفاقِ ، أو فعلوا الإيمان كما في يُعطي ويمنع { وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَخْبَتُواْ إلى رَبّهِمْ } أي اطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخضوع والتواضعِ من الخَبْت وهي الأرضُ المطمئنة ومعنى أخبت دخل في الخَبْت . وأنجدَ دخلَ في تِهامةَ ونجدٍ { أولئك } المنعوتون بتلك النعوتِ الجميلة { أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون } دائمون وبعد بيانِ تباينِ حاليهما عقلاً أريد بيانُ تبايُنِهما حِساً فقيل :(3/334)
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
{ مَثَلُ الفريقين } المذكورين أي حالُهما العجيبُ لأن المثَلَ لا يُطلق إلا على ما فيه غرابةٌ من الأحوال والصفات { كالاعمى والاصم والبصير والسميع } أي كحال هؤلاءِ فيكون ذواتُهم كذواتهم ، والكلامُ وإن أمكن أن يُحمَلَ على تشبيه الفريقِ الأولِ بالأعمى وبالأصمِّ وتشبيهِ الفريقِ الثاني بالبصير وبالسميع لكن الأدخلَ في المبالغة والأقربَ إلى ما يشير إليه لفظُ المثل والأنسبَ بما سبق من وصف الكفرةِ بعدم استطاعةِ السمع وبعدم الإبصارِ ، أن يُحمل على تشبيه الفريقِ الأولِ بمن جمع بين العَمى والصمَم ، وتشبيهُ الفريقِ الثاني بمَن جمع بين البصر والسمع على أن تكون الواوُ في قوله تعالى : { والاصم } وفي قوله : { والسميع } لعطف الصفةِ على الصفة كما في قول من قال :
إلى الملك القَرْمِ وابنِ الهُمام ... وليثِ الكتبيةِ في المُزْدَحَمْ
وأياً ما كان فالظاهرُ أن المرادَ بالحال المدلولِ عليها بلفظ المَثَل وهي التي يدور عليها أمرُ التشبيهِ ما يلائم الأحوالَ المذكورةَ المعتبرةَ في جانب المشبهِ به من تعامي الفريقِ الأولِ عن مشاهدة آياتِ الله المنصوبةِ في العالم والنظرِ إليها بعين الاعتبارِ وتصامِّهم عن استماع آياتِ القرآنِ الكريم وتلقّيها بالقبول حسبما ذكر في قوله تعالى : { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } وإنما لم يُراعَ هذا الترتيبُ هنا لكون الأعمى أظهرَ وأشهرَ في سوء الحالِ من الأصم ، ومن استعمال الفريقِ الثاني لكل من أبصارهم وأسماعِهم فيما ذكر كما ينبغي المدلولُ عليه بما سبق من الإيمان والعملِ الصالحِ والإخبات حسبما فسر به فيما مر فلا يكون التشبيهُ تمثيلياً لا جميع الأحوال المعدودةِ لكل من الفريقين مما ذكر وما يؤدي إليه من العذاب المضاعَف والخسران البالغِ في أحدهما ومن النعيم المقيم في الآخر ، فإن اعتبارَ ذلك ينزِعُ إلى كون التشبيهِ تمثيلياً بأن يُنتزَعَ من حال الفريقِ الأول في تصامّهم وتعاميهم المذكورَيْن ووقوعِهم بسبب ذلك في العذاب المضاعفِ والخُسران الذي لا خسرانَ فوقه هيئةٌ فتشبّه بهيئة منتزَعةٍ ممن فقَد مَشْعَرَيْ البصر والسمعِ فتخبَّط في مسلَكه فوقع في مهاوي الردى ولم يجِدْ إلى مقصِده سبيلاً وينتزَعَ من حال الفريق الثاني في استعمال مشاعرِهم في آيات الله تعالى حسبما ينبغي وفوزِهم بدار الخلودِ هيئةٌ فتشبّه بهيئة متنزَعةٍ ممن له بصَرٌ وسمع يستعملهما في مَهمّاته فيتهدي إلى سبيله وينال مَرامه { هَلْ يَسْتَوِيَانِ } يعني الفريقين المذكورين والاستفهامُ إنكاريٌّ مذكّر لما سبق من إنكار المماثلةِ في قوله عز وجل : { أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ } الآية { مَثَلاً } أي حالاً وصفةً وهو تمييزٌ من فاعل يستويان { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي أتشكّون في عدم الاستواءِ وما بينهما من التباين أو أتغفُلون عنه فلا تتذكرونه بالتأمل فيما ضُرب لكم من المثل فيكون الإنكارُ وارداً على المعطوفَيْن معاً أو أتسمعون هذا فلا تتذكرون فيكون راجعاً إلى عدم التذكر بعد تحققِ ما يوجب وجودَه وهو المثل المضروبُ كما في قوله تعالى :(3/335)
{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن } فإن الفاءَ لإنكار الانقلابِ بعد تحقق ما يوجب عدمَه من علمهم بخلوّ الرسلِ قبل رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو أفلا تفعلون التذكرَ أو أفلا تعقِلون ومعنى الهمزةِ إنكارُ عدمِ التذكرِ واستبعادُ صدوره عن المخاطبين وأنه ليس مما يصح أن يقع لا من قبيل الإنكارِ في قوله تعالى : { أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ } وقولِه تعالى : { هَلْ يَسْتَوِيَانِ } فإن ذلك لنفي المماثلة ونفي الاستواء . ولما بيَّن من فاتحة السورةِ الكريمةِ إلى هذا المقامِ أنها كتابٌ محكمُ الآياتِ مفصَّلُها نازلٌ في شأن التوحيدِ وتركِ عبادةِ غيرِ الله سبحانه وأن الذي أنزل عليه نذيرٌ وبشيرٌ من جهته تعالى وقرر في تضاعيف ذلك ما له مدخَلٌ في تحقيق هذا المرامِ من الترغيب والترهيبِ وإلزامِ المعاندين بما يقارنه من الشواهد الحقةِ الدالةِ على كونه من عند الله تعالى وتسليةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم مما عراه من ضيق الصدرِ العارضِ له من اقتراحاتهم الشنيعةِ وتكذيبِهم له وتسميتِهم للقرآن تارةً سحراً وأخرى مفترًى وتثبيتِه عليه الصلاة والسلام والمؤمنين على التمسك به والعملِ بموجبه على أبلغِ وجهٍ وأبدعِ أسلوبٍ شَرع في تحقيق ما ذُكر وتقريرِه بذكر قصصِ الأنبياءِ صلواتُ الله عليهم أجمعين المشتملةِ على ما اشتمل عليه فاتحةُ السورةِ الكريمةِ ليتأكد ذلك بطريقين ( أحدُهما ) أن ما أُمر به من التوحيد وفروعِه مما أطبق عليه الأنبياءُ قاطبةً ، ( والثاني ) أن ذلك إنما علِمه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي فلا يبقى في حقيته كلامٌ أصلاً وليتسلّى بما يشاهده من معاناة الرسلِ قبله من أممهم ومقاساتِهم الشدائدَ من جهتهم فقيل :(3/336)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25)
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ } الواوُ ابتدائيةٌ واللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ وحرفُه الباءُ لا الواو كما في سورة الأعراف لئلا يجتمعَ واوان ، ولا يكاد تُطلق هذه اللامُ إلا مع قد لأنها مظِنّةُ التوقعِ وأن المخاطبَ إذا سمِعها توقع وقوعَ ما صُدّر بها ، ونوحٌ هو ابن لمك بن متوشلخ بن إدريسَ عليهما السلام وهو أولُ نبي بُعث بعده . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : بعث عليه الصلاة والسلام على رأس أربعين من عُمره ولبث يدعو قومَه تسعمائة وخمسين سنةً وعاش بعد الطوفانِ ستين سنةً وكان عمرُه ألفاً وخمسين سنة ، وقال مقاتل : بعث وهو ابنُ مائةِ سنةٍ ، وقيل : وهو ابنُ خمسين سنة ، وقيل : وهو ابنُ مائتين وخمسين سنةً ومكث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة { إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ } بالكسر على إرادة القولِ أي فقال أو قائلا ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمْروٍ ، والكسائيُّ ، بالفتح على إضمار حرف الجرِّ أي أرسلناه ملتبساً بذلك الكلامِ وهو إني لكم نذيرٌ بالكسر فلما اتصل به الجارُّ فُتح كما فُتح في كأن والمعنى على الكسر وهو قولك : إن زيداً كالأسد واقتُصر على ذكر كونِه عليه الصلاة والسلام نذيراً لا لأن دعوتَه عليه الصلاة والسلام كانت بطريق الإنذارِ فقط ، ألا يُرى إلى قوله تعالى : { فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً } الخ ، بل لأنهم لم يغتنموا مغانمَ إبشارِه عليه الصلاة والسلام { مُّبِينٌ } أبيِّن لكم موجباتِ العذابِ ووجهَ الخلاصِ منه لأن الإنذارَ إعلامُ المحذورِ لا لمجرد التخويفِ والإزعاجِ بل للحذر منه فيتعلق صفتُه بكلا وصفَيه .(3/337)
أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
{ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله } أي بألا تعبدوا على أنّ أنْ مصدريةٌ والباءُ متعلقةٌ بأرسلنا ولا ناهية أي أرسلناه ملتبساً بنهيهم عن الشرك إلا أنه وُسّط بينهما بيانُ بعضِ أوصافِه وأحوالِه عليه الصلاة والسلام وهو كونه نذيراً مبيناً ليكون أدخلَ في القَبول ولم يُفعلْ ذلك في صدر السورة لئلا يُفرَّقَ بين الكتاب ومضمونِه بما ليس من أوصافه وأحوالِه ، أو مفسرةٌ متعلقةٌ به أو بنذير أو مفعولٌ لمبين وعلى قراءة الفتح بدلٌ من أني لكم نذيرٌ مبينٌ وتعيينٌ لما يوجب وقوعَ المحذورِ وتبيينٌ لوجه الخلاصِ وهو عبادةُ الله تعالى وقوله تعالى : { إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } تعليلٌ لموجب النهي وتصريحٌ بالمحذور وتحقيقٌ للإنذار ، والمرادُ به يومُ القيامةِ أو يومُ الطوفان ، ووصفُه بالأليم على الإسناد المجازي للمبالغةِ ، كما في : نهارُه صائمٌ ، وهذه المقالةُ وما في معناها مما قاله عليه الصلاة والسلام في أثناء الدعوةِ على ما عُزِي إليه في سائر السور لما لم تصدر عنه عليه الصلاة والسلام مرةً واحدة بل كان يكرّرها عليهم في تلك المدةِ المتطاولةِ على ما نظق به قولُه تعالى : { رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً } الآيات . . . عطفٌ على فعل الإرسالِ المقارِن لها أو القولِ المقدّرِ بعده جوابُهم المتعرِّضُ لأحوال المؤمنين الذين اتبعوه عليه الصلاة والسلام بعد اللتيا والتي بالفاء التعقيبيةِ فقيل : { فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ } أي الأشرافُ منهم من قولهم : فلانٌ مليءٌ بكذا أي مُطيقٌ له لأنهم مُلِئوا بكفايات الأمورِ أو لأنهم ملأوا القلوبَ هيبةً والمجالسَ أُبّهةً أو لأنهم مُلئوا بالأحلام والآراءِ الصائبةِ ، ووصفُهم بالكفر لذمهم والتسجيلِ عليهم بذلك من أول الأمر لا لأن بعضَ أشرافِهم ليسوا بكفرة { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا } مُرادُهم ما أنت إلا بشرٌ مثلُنا ليس فيك مزيةٌ تخصُّك من دوننا بما تدعيه من النبوة ولو كان كذلك لرأيناه لا أن ذلك محتملٌ ولكن لا نراه وكذا الحالُ في قولهم : { وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرأى } فالفعلان من رؤية العينِ وقوله تعالى : { إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا } حالٌ من المفعول وكذا قوله : { اتبعك } في موضع الحالِ منه إما على حاله أو بتقدير قد عند من يشترط ذلك ، ويجوز أن يكون من رؤية القلبِ وهو الظاهرُ فهما المفعولُ الثاني وتعلُّقُ الرأي في الأول بالمثلية لا بالبشرية فقط ، وإنما لم يبتّوا القول بذلك مع جزمهم به وإصرارِهم عليه إراءةً بأن ذلك لم يصدُر عنه جُزافاً بل بعد التأملِ في الأمر والتدبرِ فيه ولذلك اقتَصروا على ذكر الظن فيما سيأتي وتعريضاً من أول الأمرِ برأي المتبعين فكأن قولَهم : { وَمَا نَرَاكَ } جوابٌ عما يرِد عليهم من أنه عليه الصلاة والسلام ليس مثلَهم حيث عاين دلائلَ نبوته واغتنم اتباعُه مَنْ له عينٌ تُبصر وقلبٌ يدرك فزعَموا أن هؤلاء أراذلُنا أي أخِسّاؤنا وأدانينا جمعُ أرذلٍ فإنه صار بالغلبة جارياً مجرى الاسم كالأكبر والأكابر أو جمعُ أرذُلٍ جمعُ رَذْلٍ كأكالِب وأكلُب وكلْب يعنون أنه لا عبرة باتباعهم لك إذ ليس لهم رزانةُ عقل ولا أصالةُ رأيٍ وقد كان ذلك منهم في بادي الرأي أي ظاهرِه من تعمّق ، من مَبْدُوّ أو في أوله من البدء والياء مبدلةٌ من الهمزة لانكسار ما قبلها وقد قرأه أبو عمرو بها وانتصابُه على الظرفية على حذف المضافِ أي وقتَ حدوثِ بادي الرأي والعاملُ فيه اتبعك وإنما استرذلوهم مع كونهم أولي الألبابِ الراجحةِ لفقرهم فإنهم لما لم يعلموا إلا ظاهرَ الحياةِ الدنيا كان الأشرفُ عندهم الأكثرَ منها حظاً والأرذلُ من حُرمها ولم يفقَهوا أن ذلك لا يزن عند الله جناحَ بعوضةٍ وأن النعيم إنما هو نعيمُ الآخرة والأشرفُ من فاز به والأرذلُ من حُرمه نعوذ بالله تعالى من ذلك .(3/338)
{ وَمَا نرى لَكُمْ } أي لك ولمتّبعيك فغلّب المخاطَب على الغائبين { عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } يعنون أن اتباعَهم لك لا يدل على نبوتك ولا يُجديهم فضيلةً تَستتبع اتباعَنا لكم واقتصارَهم هاهنا على ذكر عدمِ رؤيةِ الفضلِ بعد تصريحِهم برذالتهم فيما سبق باعتبار حالِهم السابقِ واللاحقِ ، ومرادُهم أنهم كانوا أراذلَ قبل اتباعهم لك ولا نرى فيهم وفيك بعد الاتباع فضيلةً علينا { بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين } جميعاً لكون كلامكم واحداً ودَعْواكم واحدةً ، أو إياك في دعوى النبوةِ وإياهم في تصديقِك واقتصارُهم على الظنّ احترازٌ منهم عن نسبتهم إلى المجازفة ومجاراةٌ معه عليه الصلاة والسلام بطريق الإرادة على نهج الإنصاف .(3/339)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَءيْتُمْ } أي أخبروني وفيه إيماءٌ إلى ركاكة رأيِهم المذكور { إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ } برهانٍ ظاهر { مّن رَّبّى } وشاهدٍ يشهد بصِحّة دعواي { وَآتَانِى رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } هي النبوةُ ، ويجوز أن تكون هي البينةَ نفسَها جيء بها إيذاناً بأنها مع كونها بينةً من الله تعالى رحمةٌ ونعمةٌ عظيمة من عنده ، فوجْهُ إفرادِ الضمير في قوله تعالى : { فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ } حينئذ ظاهرٌ وإن أريد بها النبوةُ وبالبينة البرهانُ الدالُّ على صحتها فالإفرادُ لإرادة كلِّ واحدةٍ منهما أو لكون الضميرِ للبينة والاكتفاءِ بذلك لاستلزام خفائِها خفاءَ النبوةِ ، أو لتقدير فعلٍ آخرَ بعد البينة ، ومعنى عُمِّيت أُخفيت ، وقرىء عمِيَت ومعناه خَفِيت ، وحقيقتُه أن الحجةَ كما تجعل مُبصِرة وبصيرةً تجعلُ عمياءَ ، لأن الأعمى لا يهتدي ولا يهدي غيرَه ، وفي قراءة أُبيّ فعمّاهما عليكم على الإسناد إلى الله عز وجل { أَنُلْزِمُكُمُوهَا } أي أنُكرِهُكم على الاهتداء بها ، وهو جوابُ أرأيتم وسادٌّ مسدَّ جوابِ الشرطِ ، وقرأ أبو عمرو بإخفاء حركةِ الميمِ ، وحيث اجتمع ضميران منصوبان وقد قُدِّم أعرفُهما جاز في الثاني الوصلُ والفصلُ ، فوصل كما في قوله تعالى : { فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } { وَأَنتُمْ لَهَا كارهون } لا تختارونها ولا تتأملون فيها ، ومحصولُ الجوابِ أخبروني إن كنتُ على حجة ظاهرةِ الدِلالة على صِحّة دعواي إلا أنها خافيةٌ عليكم غيرُ مُسلَّمةٍ عندكم ، أيمكنُنا أن نكرِهَكم على قَبولها وأنتم معرضون عنها غيرَ متدبِّرين فيها أي لا يكون ذلك ، وظاهرُه مُشعِرٌ بصدوره عنه عليه الصلاة والسلام بطريق إظهارِ اليأسِ عن إلزامهم القعودَ عن مُحاجَّتهم كقوله تعالى : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى } الخ ، لكنه محمولٌ على أن مرادَه عليه الصلاة والسلام ردُّهم عن الإعراض عنها وحثُّهم على التدبّر فيها بصرف الإنكارِ إلى الإلزام حالَ كراهتِهم لها لا إلى الإلزام مطلقاً ، هذا ويجوز أن يكون المرادُ بالبينة دليلَ العقلِ الذي هو ملاكُ الفضل ، وبحسبه يمتاز أفرادُ البشرِ بعضُها من بعض وبه يناط الكرامةُ عند الله عز وجل والاجتباءُ للرسالة ، وبالكون عليها التسمكُ به والثباتُ عليه وبخفائها على الكفرة على أن الضميرَ للبينة عدمُ إدراكِهم لكونَه عليه الصلاة والسلام عليها وبالرحمة النبوةُ التي أنكروا اختصاصَه عليه السلام بها بين ظَهرانيهم ، والمعنى أنكم زعمتم أن عهدَ النبوةِ لا يناله إلا من له فضيلةٌ على سائر الناسِ مستتبِعةٌ لاختصاصه به دونهم ، أخبروني إن امتزتُ عنكم بزيادة مزيةٍ وحيازةِ فضيلةٍ من ربي وآتاني بحسبها نبوةً منه فخفِيَتْ عليكم تلك البينةُ ولم تُصيبوها ولم تنالوها ولم تعلموا حيازتي لها وكوني عليها إلى الآن حتى زعمتم أني مثلُكم وهي متحققةٌ في نفسها أنلزمكم قبولَ نبوتي التابعةِ لها والحالُ أنكم كارهون لذلك فيكون الاستفهامُ للحمل على الإقرار ، وهو الأنسبُ بمقام المُحاجّةِ وحينئذٍ يكون كلامُه عليه الصلاة والسلام جواباً عن شُبَههم التي أدرجوها في خلال مقالِهم من كونه عليه السلام بشراً ، قصارى أمره أن يكون مثلَهم من غير فضلٍ له عليهم وقطعاً لشأفة آرائِهم الركيكة .(3/340)
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)
{ وَيَا قَوْمِ لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ } أي على ما قلته في أثناء دعوتِكم { مَالاً } تؤدّونه إليّ بعدِ إيمانِكم واتباعِكم لي فيكونَ ذلك أجراً لي في مقابلة اهتدائِكم { إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله } الذي يُثيبني في الآخرة ، وفي التعبير عنه حين نُسب إليهم بالمال ما لا يخفى من المزية { وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ءامَنُواْ } جوابٌ عما لوّحوا به بقولهم : { وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا } من أنه لو اتبعه الأشرافُ لوافقوهم وأن اتّباعَ الفقراءِ مانعٌ لهم عن ذلك كما صرّحوا به في قولهم : { أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الارذلون } فكان ذلك التماساً منهم لطردهم وتعليقاً لإيمانهم به عليه الصلاة والسلام بذلك أنفَةً من الانتظام معهم في سلك واحد { إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبّهِمْ } تعليلٌ لامتناعه عليه السلام عن طردهم أي إنهم فائزون في الآخرة بلقاء الله عز وجل كأنه قيل : لا أطرُدهم ولا أُبعِدُهم عن مجلسي لأنهم مقرَّبون في حضرة القدسِ ، والتعرّضُ لوصف الربوبيةِ لتربية وجوبِ رعايتِهم وتحتّمِ الامتناعِ عن طردهم ، أو مصدِّقون في الدنيا بلقاء ربِّهم موقنون به عالِمون أنهم ملاقوه لا محالة فكيف أطرُدهم . وحملُه على معنى أنهم يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيحٍ ثابتٍ كما ظهر لي أو على خلاف ذلك مما تعرِفونهم به من بناء إيمانِهم على بادي الرأي من غير نظرٍ وتفكّر ، وما عليّ أن أشقَّ عن قلوبهم وأتعرَّفَ سرَّ ذلك منهم حتى أطرُدَهم إن كان الأمرُ كما تزعُمون يأباه الجزمُ بترتّب غضب الله عز وجل على طردهم كما سيأتي وأيضاً فهم إنما قالوا إن اتباعَهم لك إنما هو بحسب بادي الرأي بلا تأمل وتفكرٍ ، وهذا لا يكاد يصلُح مداراً للطرد في الدنيا ولا للمؤاخذة في الآخرة ، غايتُه أن لا يكونوا في مرتبة الموقنين ، وادعاءُ أن بناءَ الإيمانِ على ظاهر الرأي يؤدّي إلى الرجوع عنه عند التأملِ فكأنهم قالوا إنهم اتبعوك بلا تأمل فلا يثبُتون على دينك بل يرتدون عنه تعسفٌ لا يخفى .
{ ولكنى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ } بكل ما ينبغي أن يُعلم ، ويدخُلُ فيه جهلُهم بلقاء الله عز وجل وبمنزلتهم عنده وباستيجاب طردِهم لغضب الله كما سيأتي وبركاكة رأيِهم في التماس ذلك وتوقيفِ إيمانهم عليه أنفةً عن الانتظام معهم في سلك واحدٍ وزعماً منهم أن الرذالة بالفقر والشرفَ بالغنى . وإيثارُ صيغةِ الفعلِ للدلالة على التجدد والاستمرارِ ، أو تتسافهون على المؤمنين بنسبتهم إلى الخَساسة .(3/341)
وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
{ وياقوم مَن يَنصُرُنِى مِنَ الله } بدفْع حلولِ سخطِه عني { إِن طَرَدتُّهُمْ } فإن ذلك أمرٌ لا مردَّ له لكون الطرد ظلماً موجباً لحلول السّخط قطعاً ، وإنما لم يُصرَّح به إشعاراً بأنه غنيٌّ عن البيان لا سيما غِبَّ ما قُدّم ما يلوحُ به من أحوالهم فكأنه قيل : مَنْ يدفعُ عني غضبَ الله تعالى إن طردتُهم وهم بتلك المثابةِ من الكرامة والزُلفى كما ينبىء عنه قوله تعالى : { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي أتستمرّون على ما أنتم عليه من الجهل المذكورِ فلا تتذكرون ما ذُكر من حالهم حتى تعرِفوا أن ما تأتونه بمعزل عن الصواب ، ولكون هذه العلةِ مستقلةً بوجه مخصوصٍ ظاهر الدلالةِ على وجوب الامتناعِ عن الطرد أُفردت عن التعليل السابقِ وصُدّرت بيا قوم { وَلا أَقُولُ لَكُمْ } حين أدّعي النبوة { عِندِى خَزَائِنُ الله } أي رزقُه وأموالُه حتى تستدلوا بعدمها على كذبي بقولكم : { وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين } فإن النبوةَ أعزُّ من أن تنال بأسباب دنيويةٍ ودعواها بمعزل عن ادعاء المالِ والجاه { وَلا أَعْلَمُ الغيب } أي لا أدعي في قولي : { إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } { إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } علمَ الغيبِ حتى تسارعوا إلى الإنكار والاستبعاد .
{ وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ } حتى تقولوا : { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا } فإن البشريةَ ليست من موانع النبوةِ بل من مباديها يعني أنكم اتخذتم فُقدانَ هذه الأمورِ الثلاثة ذريعةً إلى تكذيبي والحال أني لا أدعي شيئاً من ذلك ولا الذي أدّعيه يتعلق بشيء منها وإنما يتعلق بالفضائل النفسانيةِ التي بها تتفاوت مقاديرُ البشرِ { وَلا أَقُولُ } مساعدةً لكم كما تقولون { لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ } أي تقتحِمهم وتحتقرِهم من زراه إذا عابه ، وإسنادُ الازدراءِ إلى أعينهم ( إما ) بالنظر إلى قولهم : { وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا } وإما للإشعار بأن ذلك لقصور نظرِهم ولو تدبروا في شأنهم ما فعلوا ذلك أي لا أقول في شأن الذين استرذلتموهم لفقرهم من المؤمنين { لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا } في الدنيا أو في الآخرة فعسى الله أن يُؤتيهَم خيري الدارين .
إن قلتَ : هذا القولُ ليس مما تستنكره الكفرةُ ولا مما يتوهمون صدورَه عنه عليه السلام أصالةً أو استتباعاً كادعاء المِلْكية وعلمِ الغيب وحيازة الخزائنِ مما نفاه عليه الصلاة والسلام عن نفسه بطريق التبرؤ والتنزه عنه فمِنْ أيِّ وجه عطُف نفيُه على نفيها؟ قلتُ : من جهة أن كِلا النفيَيْن ردٌّ لقياسهم الباطلِ الذي تمسّكوا به فيما سلف فإنهم زعَموا أن النبوةَ تستتبع الأمورَ المذكورةَ وأنها لا تتسنى ممن ليس على تلك الصفات فإن العثورَ على مكانها واغتنامَ مغانمِها ليس من دأب الأراذلِ فأجاب عليه الصلاة والسلام بنفي ذلك جميعاً فكأنه قال : «لا أقول وجودُ تلك الأشياءِ من مواجب النبوةِ ولا عدمُ المالِ والجاهِ من موانع الخير» { الله أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ } من الإيمان ، وإنما اقتُصر على نفي القولِ المذكورِ من أنه عليه الصلاة والسلام جازمٌ بأن الله سبحانه سيؤتيهم خيراً عظيماً في الدارين وأنهم على يقين راسخٍ في الإيمان جرياً على سنن الإنصافِ من القوم واكتفاءً بمخالفة كلامِهم وإرشاداً لهم إلى مسلك الهدايةِ بأن اللائقَ لكل أحدٍ أن لا يبُتَّ القولَ إلا فيما يعلمه يقيناً ويبني أمورَه على الشواهد الظاهرةِ ولا يجازف فيما ليس فيه على بينة ظاهرة { إِنّى إِذاً } أي إذا قلتُ ذلك { لَّمِنَ الظالمين } لهم بحطِّ مرتبتِهم ونقصِ حقوقِهم أو من الظالمين لأنفسهم بذلك فإن وبالَه راجعٌ إلى أنفسهم وفيه تعريضٌ بأنهم ظالمون في ازدرائهم واسترذالِهم ، وقيل : إذا قلتُ شيئاً مما ذكر من ادّعاء المِلْكية وعلمِ الغيب وحيازةِ الخزائن ، وهو بعيدٌ لأن تبعةَ تلك الأقوالِ مغنيةٌ عن التعليل بلزوم الانتظامِ في زمرة الظالمين .(3/342)
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
{ قَالُواْ يا نُوحٌ قَدْ جَادَلْتَنَا } خاصمتنا { فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } أي أطَلْته أو أتيتَه بأنواعه فإن إكثارَ الجدالِ يتحقق بعد وقوعِ أصلِه فلذلك عُطف عليه بالفاء أو أردتَ ذلك فأكثرتَه كما في قوله تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله } ولما حجّهم عليه الصلاة والسلام وأبرز لهم بيناتٍ واضحةَ المدلولِ وحُججاً تتلقاها العقولُ بالقَبول وألقمهم الحجرَ برد شُبهِهم الباطلةِ ضاقت عليهم الحيلُ وعيّت بهم العللُ وقالوا : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } من العذاب المعجّلِ أو العذابِ الذي أشير إليه في قوله : { إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } على تقدير أن لا يكون المرادُ باليوم يومَ القيامة { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } فيما تقول { قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء } يعني أن ذلك ليس موكولاً إليّ ولا هو مما يدخُل تحت قدرتي وإنما يتولاه الله الذي كفرتم به وعصيتموه يأتيكم به عاجلاً أو آجلاً إنْ تعلَّق به مشيئتُه التابعةُ للحكمة ، وفيه ما لا يخفى من تهويل الموعودِ فكأنه قيل : الإتيانُ به أمرٌ خارجٌ عن دائرة القُوى البشرية وإنما يفعله الله عز وجل .
{ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } بالهرب أو بالمدافعة كما تدافعونني في الكلام { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى } النُصحُ كلمةٌ جامعةٌ لكل ما يدور عليه الخيرُ من قول أو فعل ، وحقيقتُه إمحاضُ إرادةِ الخيرِ والدِلالةِ عليه ، ونقيضُه الغشُّ وقيل : هو إعلامُ موقع الغَيِّ ليُتّقى وموضعِ الرشد ليقتفى { إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ } شرطٌ حذف جوابُه لدلالة ما سبق عليه ، والتقديرُ إن أردتُ أن أنصحَ لكم لا ينفعُكم نُصحي وهذه الجملةُ دليلٌ على ما حذف من جواب قولِه تعالى : { إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } والتقديرُ إن كان يريد أن يُغوِيَكم فإن أردتُ أن أنصحَ لكم لا ينفعكم نصحي ، هذا على ما ذهب إليه البصريون من عدم تقديم الجزاءِ على الشرطِ ، وأما على ما ذهب إليه الكوفيون من جوازه فقوله عز وعلا : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى } جزاءٌ للشرط الأولِ ، والجملةُ جزاءٌ للشرط الثاني وعلى التقديرين فالجزاءُ متعلّقٌ بالشرط الأولِ وتعلّقه به معلّقٌ بالشرط الثاني ، وهذا الكلامُ متعلِّقٌ بقولهم : { قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } صدر عنه عليه الصلاة والسلام إظهاراً للعجز عن إلزامهم بالحجج والبيناتِ لتماديهم في العناد ، وإيذاناً بأن ما سبق منه ليس بطريق الجدالِ والخصامِ بل بطريق النصيحةِ لهم والشفقةِ عليهم وبأنه لم يألُ جهداً في إرشادهم إلى الحق وهدايتِهم إلى سبيله المستبينِ وإمحاضِ النصحِ لهم ولكن لا ينفعهم ذلك عند إرادة الله تعالى لإغوائهم ، وتقييدُ عدمِ نفع النصحِ بإرادته مع أنه محققٌ لا محالة للإيذان بأن ذلك النصحَ منه مقارِنٌ للإرادة والاهتمامِ به ولتحقيق المقابلةِ بين ذلك وبين ما وقع بإزائه من إرادته تعالى لإغوائهم ، وإنما اقتُصر في ذلك على مجرد إرادةِ الإغواءِ دون نفسِه حيث لم يقل : إن كان الله يغويكم مبالغةً في بيان غلبةِ جنابِه عز وعلا حيث دل ذلك على أن نُصحَه المقارِنَ للاهتمام به لا يُجديهم عند مجردِ إرادةِ الله سبحانه لإغوائهم ، فكيف عند تحقيقِ ذلك وخلقِه فيهم .(3/343)
وزيادةُ كان للإشعار بتقدم إرادتِه تعالى زماناً كتقدّمها رتبةً وللدلالة على تجدّدها واستمرارِها ، وإنما قُدّم على هذا الكلامِ ما يتعلق بقولهم : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } من قوله تعالى : { إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء } رداً عليهم من أول الأمرِ وتسجيلاً عليهم بحلول العذابِ مع ما فيه من اتصال الجوابِ بالسؤال ، وفيه دليلٌ على أن إرادتَه تعالى يصِحّ تعلقُها بالإغواء وأن خلافَ مرادِه غيرُ واقع ، وقيل : معنى أن يغويَكم يُهلكَكم ، من غوَى الفصيلُ غوًى إذا بشِم وهلك { هُوَ رَبُّكُمْ } خالقُكم ومالكُ أمركم { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فيجازيكم على أعمالكم لا محالة .(3/344)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
{ أَمْ يَقُولُونَ افتراه } قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني نوحاً عليه الصلاة والسلام ، ومعناه بل أيقولُ قومُ نوحٍ إن نوحاً افترى ما جاء به مسنِداً إياه إلى الله عز وجل { قُلْ } يا نوح { إِنِ افتريته } بالفرض البحْت { فَعَلَىَّ إِجْرَامِى } إثمي ووبالُ إجرامي وهو كسبُ الذنب وقرىء بلفظ الجمع ، وينصُره أن فسّره الأولون بآثامي { وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تُجْرَمُونَ } من إجرامكم في إسناد الافتراءِ إليّ ، فلا وجهَ لإعراضكم عني ومعاداتِكم لي . وقال مقاتلٌ : يعني محمداً عليه الصلاة والسلام ومعناه بل أيقولُ مشركو مكةَ افترى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خبرَ نوحٍ فكأنه إنما جيء به في تضاعيف القصةِ عند سَوْق طرفٍ منها تحقيقاً لحقيتها وتأكيداً لوقوعها وتشويقاً للسامعين إلى استماعها ، لا سيما وقد قُصَّ منها طائفةٌ متعلقةٌ بما جرى بينه عليه السلام وبين قومِه من المُحاجَّة وبقِيَتْ طائفةٌ مستقلّةٌ متعلقةٌ بعذابهم .
{ وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ } أي المُصِرِّين على الكفر وهو إقناطٌ له عليه السلام من إيمانهم وإعلامٌ لكونه كالمُحال الذي لا يصِحّ توقّعُه { إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ } إلا من قد وُجد منه ما كان يُتوقَّع من إيمانه ، وهذا الاستثناءُ على طريقة قولِه تعالى : { إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } { فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } أي لا تحزَنْ حزْنَ بائسٍ مستكينٍ ولا تغتمَّ بما كانوا يتعاطَوْنه من التكذيب والاستهزاء والإيذاءِ في هذه المدة الطويلةِ فقد انتهى أفعالُهم وحان وقتُ الانتقامِ منهم { واصنع الفلك } ملتبساً { بِأَعْيُنِنَا } أي بحفظنا وكلاءتِنا كأن معه من الله عز وجل حُفّاظاً وحرّاساً يكلؤنه بأعينهم من التعدّي من الكفرة ومن الزيغ في الصنعة { وَوَحْيِنَا } إليك كيف تصنعُها وتعليمِنا وإلهامِنا . عن ابن عباس رضي الله عنهما لم يعلمْ كيف صنعةُ الفُلك ، فأوحى الله تعالى إليه أن يصنعَها مثلَ جُؤجُؤ الطائر ، والأمرُ للوجوب إذ لا سبيل إلى صيانة الروحِ من الغرق إلا به فيجب كوجوبها ، واللامُ إما للعهد بأن يُحملَ على أن هذا مسبوقٌ بوحي الله تعالى إليه عليه السلام أنه سيهلكهم بالغرق وينجّيه ومَنْ معه بشيء سيصنعه بأمره تعالى ووحيِه ، مِنْ شأنه كيتَ وكيت واسمُه كذا ، وإما للجنس . قيل : صنعها عليه الصلاة والسلام في سنتين ، وقيل : في أربعمائة سنة ، وكانت من خشب الساج وجُعلت ثلاثةَ بطونٍ حُمل في البطن الأول الوحوشُ والسباعُ والهوامُّ ، وفي البطن الأوسطِ الدوابُّ والأنعام ، وفي البطن الأعلى جنسُ البشر هو ومَنْ معه مع ما يحتاجون إليه من الزاد ، وحَمل معه جسدَ آدمَ عليه الصلاة والسلام ، وقيل : جَعل في الأول الدوابَّ والوحوشَ وفي الثاني الإنسَ وفي الأعلى الطيرَ ، قيل : كان طولُها ثلاثمائة ذراعٍ وعَرْضُها خمسين ذراعاً وسَمْكُها ثلاثين ذراعاً .(3/345)
وقال الحسنُ : كان طولُها ألفاً ومائتي ذراعٍ وعَرضُها ستَّمائةِ ذراعٍ . وقيل : إن الحَواريين قالوا لعيسى عليه الصلاة والسلام : لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينةَ يحدثنا عنها ، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفاً من ذلك الترابِ فقال : أتدرون مَنْ هذا؟ قالوا : الله ورسولُه أعلم ، قال هذا كعبُ بنُ حام قال : فضرب بعصاه فقال : قم بإذن الله فإذا هو قائمٌ ينفض التراب عن رأسه وقد شاب ، فقال له عيسى عليه الصلاة والسلام : أهكذا هلكْتَ؟ قال : لا ، متُّ وأنا شابٌّ ولكني ظننتُ أنها الساعة فمِنْ ثَمَّةَ شِبْتُ ، فقال : حدثنا عن سفينة نوحٍ ، قال : كان طولُها ألفاً ومائتي ذراعٍ وعَرضُها ستمائة ذراع ، وكانت ثلاثَ طبقاتٍ طبقةٌ للدواب والوحش وطبقةٌ للإنس وطبقةٌ للطير ، ثم قال : عُدْ بإذن الله تعالى كما كنت فعاد تراباً .
{ وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ } أي لا تراجِعْني فيهم ولا تدعُني ياستدفاع العذابِ عنهم وفيه من المبالغة ما ليس فيما لو قيل : ولا تدعُني فيهم ، وحيث كان فيه ما يلوح بالسبيبة أُكّد التعليلُ فقيل : { إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } أي محكومٌ عليهم بالإغراق قد مضى به القضاءُ وجفّ القلمُ فلا سبيل إلى كفه ولزِمتْهم الحُجةُ فلم يبقَ إلا أن يُجعلوا عِبرةً للمعتبرين ومثلاً للآخرين .(3/346)
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
{ وَيَصْنَعُ الفلك } حكايةُ حالٍ ماضيةٍ لاستحضار صورتِها العجيبةِ ، وقيل : تقديرُه وأخذ يصنع الفلكَ أو أقبل بصنعها فاقتصر على يصنع ، وأياً ما كان ففيه ملاءمةٌ للاستمرار المفهومِ من الجملة الواقعةِ حالاً من ضميره ، أعني قوله تعالى : { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ } استهزأوا به لعمله السفينةَ إما لأنهم ما كانوا يعرِفونها ولا كيفيةَ استعمالِها والانتفاعِ بها فتعجبوا من ذلك وسخِروا منه ، وإما لأنه كان يصنعها في برّية بهماءَ في أبعد موضعٍ من الماء وفي وقت عزَّتْه عِزَةٌ شديدة وكانوا يتضاحكون ويقولون : يا نوحُ صرتَ نجاراً بعد ما كنت نبياً ، وقيل : لأنه عليه الصلاة والسلام كان يُنذرهم الغرقَ فلما طال مكثُه فيهم ولم يشاهِدوا منه عيناً ولا أثراً عدّوه من باب المُحال ثم لما رأوا اشتغالَه بأسباب الخلاصِ من ذلك فعلوا ما فعلوا ، ومدارُ الجميعِ إنكارُ أن يكون لعمله عليه الصلاة والسلام عاقبةٌ حميدةٌ مع ما فيه من تحمل المشاقِّ العظيمة التي لا تكاد تُطاق واستجهالِه عليه السلام في ذلك { قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا } مستجهلين لنا فيما نحن فيه { فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ } أي نستجهلكم فيما أنتم عليه ، وإطلاقُ السخريةِ عليه للمشاكلة ، وجمعُ الضمير في منا إما لأن سخريتَهم منه عليه الصلاة والسلام سخريةٌ من المؤمنين أيضاً أو لأنهم كانوا يسخرون منهم أيضاً إلا أنه اكتُفيَ بذكر سُخريتِهم منه عليه الصلاة والسلام ، ولذلك تعرض الجميعُ للمجازاة في قوله تعالى : { فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ } الخ ، فتكافأ الكلامُ من الجانبين ، وتعليقُ استجهالِه عليه الصلاة والسلام إياهم بما فعلوا من السُّخرية باعتبار إظهارِه ومشافهتِه عليه الصلاة والسلام إياهم بذلك وإلا فعَدُّه عليه الصلاة والسلام إياهم جاهلين فيها يأتون ويذرون أمرٌ مطّردٌ لا تعلُّق له بسخريتهم منهم لكنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يتصدى لإظهاره جرياً على نهج الأخلاقِ الحميدةِ ، وإنما أظهره جزاءً بما صنعوا بعد اللتيا والتي ، فإن سخريتَهم كانت مستمرةً ومتجدّدةً حسب تجدُّدِ مرورِهم عليه ، ولم يكن يُجيبهم في كل مرة ، وإلا لقيل : ويقول إن تسخروا منّا الخ ، بل إنما أجابهم بعد بلوغِ أذاهم الغايةَ كما يؤذِن به الاستئنافُ ، فكأن سائلاً سأل فقال : فما صنع نوحٌ عند بلوغِهم منه هذا المبلغ؟ فقيل : قال : إن تسخروا منا أي إن تنسُبونا فيما نحن بصدده من التأهب والمباشرةِ لأسباب الخلاصِ من العذاب إلى الجهل وتسخَروا منا لأجله فإنا ننسُبكم إليه فيما أنتم فيه من الإعراض عن استدفاعه بالإيمان والطاعة ، ومن الاستمرار على الكفر والمعاصي والتعّرضِ لأسباب حلولِ سخطِ الله تعالى التي من جملتها استجهالُكم إيانا وسخريتُكم منا .
والتشبيهُ في قوله تعالى : { كَمَا تَسْخَرُونَ } إما في مجرد التحققِ والوقوعِ أو في التجدد والتكررِ حسبما صدر عن ملإٍ غبَّ ملإٍ لا في الكيفيات والأحوالِ التي لا تليق بشأن النبيِّ عليه الصلاة والسلام فكلا الأمرَين واقعٌ في الحال ، وقيل : نسخر منكم في المستقبل سُخريةً مثلَ سُخريتِكم إذا وقع عليكم الغرقُ في الدنيا والحرقُ في الآخرة ، ولعل مرادَه نعاملُكم معاملةَ مَنْ يفعل ذلك لأن نفسَ السُّخرية مما لا يكاد يليق بمنصِب النبوةِ ، ومع ذلك لا سَدادَ له لأن حالَهم إذ ذاك ليس مما يلائمه السُّخريةُ أو ما يجري مجراها فتأمّلْ .(3/347)
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
{ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } وهو عذابُ الغَرَقِ { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ } حلولَ الدَّيْن المؤجل { عَذَابٌ مُّقِيمٌ } هو عذابُ النارِ الدائمُ وهو تهديدٌ بليغٌ ، و ( مَنْ ) عبارةٌ عنهم ، وهي إما استفهاميةٌ في حيز الرفعِ أو موصولةٌ في محل النصبِ بتعلمون وما في حيِّزها سادٌّ مسدَّ مفعولين أو مفعولٍ واحدٍ إن جُعل العلمُ بمعنى المعرفةِ ، ولما كان مدارُ سخريتِهم استجهالَهم إياه عليه الصلاة والسلام في مكابدة المشاقِّ الفادحةِ لدفع ما لا يكاد يدخُل تحت الصِّحةِ على زعمهم من الطوفان ومقاساةِ الشدائِد في بناء السفينةِ وكانوا يعدّونه عذاباً قيل بعد استجهالِهم فسوف تعلمون مَنْ يأتيه العذابُ يعني أن أُباشرُه ليس فيه عذابٌ لاحقٌ بي فسوف تعلمون مَنِ المعذَّبُ ، ولقد أصاب العلمُ بعد استجهالِهم محزّه ، ووصفُ العذاب بالإخزاء لما في الاستهزاء والسخريةِ من لُحوق الخِزْي والعارِ عادة ، والتعرُّضُ لحلول العذاب المقيمِ للمبالغة في التهديد ، وتخصّصُه بالمؤجل وإيرادُ الأول بالإتيان في غاية الجزالة .
{ حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا } حتى هي التي يُبتدأ بها الكلامُ دخلت على الجملة الشرطيةِ وهي مع ذلك غايةٌ لقوله : { وَيَصْنَعُ } وما بينهما حالٌ من الضمير فيه ، وسخِروا منه جوابٌ لكلما ، وقال استئنافٌ على تقدير سؤال سائلٍ كما ذكرناه وقيل : هو الجوابُ وسِخروا منه بدلٌ من مرّ أو صفةٌ لملأ وقد عرفت أن الحقَّ هو الأولُ لأن المقصودَ بيانُ تناهيهم في إيذائه عليه الصلاة والسلام وتحمُّلِه لأذيَّتهم لا مسارعتُه عليه الصلاة والسلام إلى جوابهم كلما وقع منهم ما يؤذيه من الكلام { وَفَارَ التنور } نبعَ منه الماءُ وارتفع بشدة كما تفور القِدْرُ بغَليانها ، والتنّورُ تنّورُ الخبز ، وهو قول الجمهور . روي أنه قيل لنوح عليه الصلاة والسلام : إذا رأيتَ الماءَ يفورُ من التنور فاركبْ ومن معك في السفينة فلما نبع الماءُ أخبرتْه امرأتُه فركب ، وقيل : كان تنورَ آدمَ عليه الصلاة والسلام وكان من حجارة فصار إلى نوح ، وإنما نبع منه وهو أبعدُ شيء من الماء على خرق العادةِ وكان في الكوفة في موضع مسجدها عن يمين الداخلِ مما يلي باب كِنْدة ، وكان عملُ السفينةِ في ذلك الموضع ، أو في الهند أو في موضع بالشام يقال له عين وردة ، وعن ابن عباس رضى الله عنهما وعِكرمةَ والزُّهري أن التنورَ وجهُ الأرض ، وعن قتادةَ أشرفُ موضع في الأرض أي أعلاه ، وعن علي رضى الله تعالى عنه فار التنور طلع الفجرُ { قُلْنَا احمل فِيهَا } أي في السفينة وهو جوابُ إذا { مِن كُلّ } أي من كل نوعٍ لا بد منه في الأرض { زَوْجَيْنِ } الزوجُ ما له مشاكلٌ من نوعه فالذكرُ زوجٌ للأنثى كما هي زوجٌ له وقد يُطلق على مجموعهما فيقابل الفرد ، ولإزالة ذلك الاحتمالِ قيل : { اثنين } كلٌّ منهما زوجٌ للآخر وقرىء على الإضافة ، وإنما قُدم ذلك على أهله وسائرِ المؤمنين لكونه عريقاً فيما أُمر به من الحمل لأنه يحتاج إلى مزاولة الأعمالِ منه عليه الصلاة والسلام في تمييز بعضِه من بعض وتعيينِ الأزواج ، فإنه رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قال : يا رب كيف أحْمل من كلَ زوجين اثنين فحشر الله تعالى إليه السباعَ والطيرَ وغيرَهما فجعل يضرِب بيديه في كل جنس فيقع الذكرُ في يده اليمنى والأنثى في اليسرى فيجعلهما في السفينة ، وأما البشرُ فإنما يدخلُ الفُلكَ باختياره فيخِفّ فيه معنى الحَمْل ، أو لأنها إنما تحمِلُ بمباشرة البشر وهم إنما يدخُلونها بعد حلمهم إياها .(3/348)
{ وَأَهْلَكَ } عطفٌ على زوجين أو على اثنين والمرادُ امرأتُه وبنوه ونساؤهم { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } بأنه من المغرَقين بسبب ظلمِهم في قوله تعالى : { وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ } الآية ، والمرادُ به ابنُه كنعان وأمُّه واعلةُ فإنهما كانا كافرين والاستثناءُ منقطِعٌ إن أريد بالأهل الأهلُ إيماناً وهو الظاهرُ كما ستعرفه أو متصلٌ إن أريد به الأهلُ قرابة ويكفي في صحة الاستثناءِ المعلوميةُ عند المراجعةِ إلى أحوالهم والتفحّصُ عن أعمالهم ، وجيء بعلى لكون السابقِ ضارًّا لهم كما جيء باللام فيما هو نافعٌ لهم من قوله عز وجل : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين } وقوله : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى } { وَمَنْ ءامَنَ } من غيرهم ، وإفرادُ الأهلِ منهم للاستثناءِ المذكورِ ، وإيثارُ صيغةِ الإفراد في آمن محافظةً على لفظ مَنْ للإيذان بقلتهم كما أعرب عنه قولُه عز قائلاً : { وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } قيل : كانوا ثمانيةً ، نوحٌ عليه الصلاة والسلام وأهلُه وبنوه الثلاثةُ ونساؤُهم . وعن ابن إسحاقَ كانوا عشرةً ، خمسةَ رجالٍ وخمسَ نسوةٍ ، وعنه أيضاً أنهم كانوا عشرةً سوى نسائِهم وقيل : كانوا اثنين وسبعين رجلاً وامرأةً ، وأولادُ نوحٍ سامٌ وحامٌ ويافث ونساؤُهم فالجميع ثمانيةٌ وسبعون نصفُهم رجالٌ ونصفُهم نساء ، واعتبارُ المعيةِ في إيمانهم للإيماء إلى المعية في مقرّ الأمانِ والنجاة .(3/349)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)
{ وَقَالَ } أي نوحٌ عليه الصلاة والسلام لمن معه من المؤمنين كما ينبىء عنه قوله تعالى : { إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } ولو رجع الضميرُ إلى الله تعالى لناسب أن يقال : إن ربكم ، ولعل ذلك بعد إدخالِ ما أُمر بحمله في الفلك من الأزواج كأنه قيل : فحمَلَ الأزواجَ أو أدخلها في الفلك وقال للؤمنين : { اركبوا فِيهَا } كما يأتي مثلُه في قوله تعالى : { وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ } والركوبُ العلوُّ على شيء متحرّكٍ ، ويتعدّى بنفسه ، واستعمالُه هاهنا بكلمة في ليس لأن المأمورَ به كونُهم في جوفها لا فوقَها كما ظُن فإن أظهرَ الروايات أنه عليه السلام جعل الوحوشَ ونظائرَها في البطن الأسفلِ والأنعامَ في الأوسطِ وركب هو ومن معه في الأعلى بل لرعاية جانبِ المحلية والمكانيةِ في الفلك ، والسرُّ فيه أن معنى الركوبِ العلوُّ على شيء له حركةٌ إما إراديةٌ كالحيوان أو قسريةٌ كالسفينة والعجَلة ونحوهما ، فإذا استُعمل في الأول يوفر له حظُّ الأصل فيقال : ركبتُ الفرسَ ، وعليه قوله عز من قائل : { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا } وإن استُعمل في الثاني يلوح بمحلية المفعول بكلمة في فيقال : ركبت في السفينة ، وعليه الآيةُ الكريمة وقولُه عز قائلاً : { فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك } وقوله تعالى : { فانطلقا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السفينة خَرَقَهَا } { بِسْمِ اللَّهِ } متعلقٌ باركبوا حالٌ من فاعله أي اركبوا مسمِّين الله تعالى ، أو قائلين : بسم الله { مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } نصبٌ على الظرفية أي وقتَ إجرائِها وإرسائِها على أنهما اسما زمانٍ أو مصدران كالإجراء والإرساءِ بحذف الوقتِ كقولك : آتيك خفوقَ النجمِ أو اسما مكانٍ انتصبا بما في { بِسْمِ اللَّهِ } من معنى الفعل أو إرادةِ القول ، ويجوز أن يكون { بِسْمِ اللَّهِ * مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } مستقلةً من مبتدأ وخبر في موضع الحالِ من ضمير الفلك أي اركبوا فيها مُجراةً ومُرساةً باسم الله بمعنى التقدير كقوله تعالى : { ادخلوها *** خالدين } أو جملةٌ مقتضبةٌ على أن نوحاً أمرهم بالركوب فيها ثم أخبرهم بأن إجراءَها وإرساءَها باسم الله تعالى فيكونان كلامين له عليه الصلاة والسلام . قيل : كان عليه السلام إذا أراد أن يُجرِيَها يقول : بسم الله فتجري وإذا أراد أن يرسيَها يقول : بسم الله فترسو ، ويجوز أن يكون الاسمُ مقْحماً كما في قوله :
إلى الحولِ ثم اسمُ السلامِ عليكما ... ويراد بالله إجراؤُها وإرساؤُها أي بقدرته وأمرِه ، وقرىء مُجرِيها على صيغة الفاعل مجرورَي المحلِّ صفتين لله عز وجل ومَجراها ومَرْساها بفتح الميم مصدرين أو زمانين أو مكانين من جرى ورسا { إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ } للذنوب والخطايا { رَّحِيمٌ } بعباده ولذلك نجاكم من هذه الطآمّة والداهية العامّة ، ولولا ذلك لما فعله وفيه دِلالةٌ على أن نجاتَهم ليست بسبب استحقاقِهم لها بل بمحض فضلِ الله سبحانه وغفرانِه ورحمتِه على ما عليه رأيُ أهل السنة .(3/350)
{ وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ } متعلقٌ بمحذوف دلّ عليه الأمرُ بالركوب أي فركِبوا فيها مُسمّين وهي تجري ملتبسةً بهم { فِى مَوْجٍ كالجبال } وهو ما ارتفع من الماء عند اضطرابِه ، كلُّ موجةٍ من ذلك كجبل في ارتفاعها وتراكُمِها ، وما قيل من أن الماءَ طبّق ما بين السماء والأرضِ وكانت السفينةُ تجري في جوفه كالحوت فغيرُ ثابتٍ ، والمشهورُ أنه علا شوامخَ الجبالِ خمسة عشرَ ذراعاً أو أربعين ذراعاً ، ولئن صح ذلك فهذا الجريانُ إنما هو قبل أن يتفاقم الخطبُ كما يدل عليه قوله تعالى :
{ ونادى نُوحٌ ابنه } فإن ذلك إنما يُتصوَّر قبل أن تنقطِعَ العلاقةُ بين السفينةِ والبرِّ ، إذ حينئذ يمكن جرَيانُ ما جرى بين نوحٍ عليه الصلاة والسلام وبين ابنِه من المفاوضة بالاستدعاء إلى السفينة والجوابِ باعتصامٍ بالجبل ، وقرىء ابنَها وابنَه بحذف الألفِ على أن الضميرَ لأمرأته وكان ربيبَه وما يقال من أنه كان لغير رِشدةٍ لقوله تعالى : { فَخَانَتَاهُمَا } فارتكابُ عظيمةٍ لا يقادر قدرُها فإن جنابَ الأنبياءِ صلواتُ الله تعالى عليهم وسلامُه أرفعُ من أن يشارَ إليه بأصبَع الطعنِ وإنما المرادُ بالخيانة الخيانةُ في الدين ، وقرىء ابناهْ على الندبة ولكونها حكايةً سُوّغ حذفُ حرفها . وأنت خبيرٌ بأنه لا يلائمه الاستدعاءُ إلى السفينة فإنه صريحٌ في أنه لم يقع في حياته يأسٌ بعْدُ { وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ } أي في كان عزَل فيه نفسَه عن أبيه وإخوتِه وقومِه بحيث لم يتناولْه الخطابُ باركبوا ، واحتاج إلى النداء المذكورِ ، وقيل : في معزل عن الكفار قد انفرد عنهم وظن نوحٌ أنه يريد مفارقتَهم ولذلك دعاه إلى السفينة ، وقيل : كان ينافق أباه فظن أنه مؤمنٌ ، وقيل : كان يعلم أنه كافرٌ إلى ذلك الوقتِ لكنه عليه الصلاة والسلام ظن أنه عند مشاهدةِ تلك الأهوالِ ينزجرُ عما كان عليه ويقبل الإيمانَ ، وقيل : لم يكن الذي تقدّم من قوله تعالى : { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } نصاً في كون ابنِه داخلاً تحته بل كان كالمُجمل فحملتْه شفقةُ الأبوة على ذلك { أَوْ بَنِى } بفتح الياء اقتصاراً عليه من الألف المُبْدلةِ من ياء الإضافةِ في قولك : يا بنيا وقرىء بكسر الياء اقتصاراً عليه من ياء الإضافة أو سقطت الياءُ والألفُ لالتقاء الساكنين لأن الراءَ بعدهما ساكنة { اركب مَّعَنَا } قرأ أبو عمْرو ، والكسائيُّ ، وحفص ، بإدغام الباء في الميم لتقاربهما في المخرج ، وإنما أطلق الركوبُ عن ذكر الفُلك لتعينها وللإيذان بضيق المقامِ حيث حال الجريضُ دون القريض مع إغناء المعيةِ عن ذلك { وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين } أي في المكان وهو وجهُ الأرض خارجَ الفلك لا في الدين وإن كان ذلك مما يوجبه كما يوجب ركوبُه معه عليه الصلاة والسلام كونَه معه في الإيمان لأنه عليه الصلاة والسلام بصدد التحذيرِ عن الهَلَكة فلا يلائمه النهيُ عن الكفر .(3/351)
قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
{ قَالَ سَآوِى إلى جَبَلٍ } من الجبال { يَعْصِمُنِى } بارتفاعه { مِنَ الماء } زعماً منه أن ذلك كسائر المياهِ في أزمنة السيولِ المعتادةِ التي ربما يُتّقى منها بالصعود إلى الرُّبى ، وأنى له ذلك وقد بلغ السيلُ الزبى وجهلاً بأن ذلك إنما كان لإهلاك الكفرةِ وألاّ محيصَ من ذلك الفكر المُحالِ ، وكان مقتضى الظاهرِ أن يجيب بما ينطبقُ عليه كلامُه ويتعرّضَ لنفي ما أثبته للجبل من كونه عاصماً له من الماء بأن يقولَ : لا يعصِمُك منه مفيداً لنفي وصفِ العصمةِ عنه فقط من غير تعرضٍ لنفيه عن غيره ولا لنفي الموصوف ( بالعصمة ) أصلاً لكنه عليه الصلاة والسلام حيث { قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله } سلك طريقةَ نفي الجنسِ المنتظِمِ لنفي جميعِ أفرادِ العاصمِ ذاتاً وصفةً كما في قولهم : ليس فيه داعٍ ولا مجيبٌ أي أحدٌ من الناس للمبالغة في نفي كونِ الجبلِ عاصماً بالوجهين المذكورَين وزادَ اليومَ للتنبيه على أنه ليس كسائر الأيامِ التي تقع فيها الوقائعُ وتُلِمُّ فيها المُلِماتُ المعتادةُ التي ربما يُتخلّص من ذلك بالالتجاء إلى بعض الأسبابِ العادية ، وعبّر عن الماء في محلّ إضمارِه بأمرِ الله أي عذابِه الذي أشير إليه حيث قيل : حتى إذا جاء أمرُنا تفخيماً لشأنه وتهويلاً لأمره وتنبيهاً لابنه على خطئه في تسميته ماءً ويوهم أنه كسائر المياهِ التي يُتفصَّى منها بالهرب إلى بعض المهاربِ المعهودةِ وتعليلاً للنفي المذكورِ فإن أمرَ الله لا يغالَب وعذابَه لا يُرَدّ وتمهيداً لحصر العِصمةِ في جناب الله عز جارُه بالاستثناء كأنه قيل : لا عاصمَ من أمر الله إلا هو إنما قيل : { إِلاَّ مَن رَّحِمَ } تفخيماً لشأنه الجليلِ بالإبهام ثم التفسيرِ وبالإجمال ثم التفصيل ، وإشعاراً بعلّية رحمتِه في ذلك بموجب سبقِها على غضبه وكلُّ ذلك لكمال عنايتِه عليه الصلاة والسلام بتحقيق ما يتوخاه من نجاة ابنِه ببيان شأنِ الداهيةِ وقطعِ أطماعِه الفارغةِ وصرفِه عن التعليل بما لا يغني عنه شيئاً وإرشادِه إلى العياذ بالمَعاذ الحقِّ عزَّ حِماهُ وقيل : لا مكانَ يعصِم من أمر الله إلا مكانُ من رحمه الله وهو الفُلك ، وقيل : معنى لا عاصم لا ذا عصمةٍ إلا من رحمه الله تعالى { وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج } أي بين نوحٍ وبين ابنِه فانقطع ما بينهما من المجاوبة لا بين ابنِه وبين الجبل لقوله تعالى : { فَكَانَ مِنَ المغرقين } إذ هو إنما يتفرع على حيلولة الموجِ بينه عليه الصلاة والسلام وبين ابنه لا بينه وبين الجبلِ لأنه بمعزل من كونه عاصماً وإن لم يحُلْ بينه وبين الملتِجىءِ إليه موجٌ ، وفيه دِلالةٌ على هلاك سائرِ الكفرةِ على أبلغ وجهٍ فكان ذلك أمراً مقرَّرَ الوقوعِ غيرَ مفتقِرٍ إلى البيان ، وفي إيراد كان دون صار مبالغةٌ في كونه منهم .(3/352)
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
{ وَقِيلَ ياأرض ابلعى } أي انشَفي ، استُعير له من ازدراد الحيوان ما يأكلُه للدِلالة على أن ذلك ليس كالنشف المعتادِ التدريجيّ { مَاءكِ } أي ما على وجهك من ماء الطوفانِ دون المياهِ المعهودةِ فيها من العيون والأنهارِ ، وعبّر عنه فيما سلف بأمر الله تعالى لأن المقامَ مقامُ النقص والتقليلِ لا مقامُ التفخيمِ والتهويلِ { وياسماء أَقْلِعِى } أي أمسِكي عن إرسال المطرِ ، يقال : أقلعت السماءُ إذا انقطع مطرُها وأقلعت الحُمّى أي كفّت { وَغِيضَ الماء } أي نقص ما بين السماءِ والأرضِ من الماء { وَقُضِىَ الامر } أي أُنجز ما وعد الله تعالى نوحاً من إهلاك قومِه وإنجائِه بأهله أو أُتِمَّ الأمر { واستوت } أي استقرّت الفلكُ { عَلَى الجودى } هو جبلٌ بالمَوْصِل أو بالشام أو بآمل . روي أنه عليه الصلاة والسلام ركب في الفلك في عاشر رجبٍ ونزل عنها في عاشر المحرَّم فصام ذلك اليوم شكراً فصار سُنّةً { وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ الظالمين } أي هلاكاً لهم ، والتعرضُ لوصف الظلمِ للإشعار بعليته للهلاك ولتذكيره ما سبق من قوله تعالى : { وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } ولقد بلغت الآيةُ الكريمةُ من مراتب الإعجازِ قاصيتَها وملكت من غُرر المزايا ناصيتَها وقد تصدّى لتفصيلها المتقنون ، ولعمري إن ذلك فوق ما يصفه الواصفون فحريٌّ بنا أن نوجزَ الكلامَ في هذا البابِ ونفوّضَ الأمر إلى تأمل أولي الألباب ، والله عنده علم الكتاب .(3/353)
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
{ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ } أي أراد ذلك بدليل الفاء في قوله تعالى : { فَقَالَ رَبّ إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى } وقد وعدتني إنجاءَهم في ضمن الأمرِ بحملهم في الفلك أو النداءُ على الحقيقة والفاءُ لفتصيل ما فيه من الإجمال ، { وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق } أي وعدَك ذلك ، أو إنّ كلَّ وعدِه حقٌّ لا يتطرق إليه خُلْفٌ فيدخل فيه الوعدُ المعهُود دخولاً أولياً { وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين } لأنك أعلمُهم وأعدلُهم أو أنت أكثرُ حكمةً من ذوي الحِكَم على أن الحاكمَ من الحِكمة كالدارع من الدِرْع ، وهذا الدعاءُ منه عليه الصلاة والسلام على طريقة دعاءِ أيوبَ عليه الصلاة والسلام : { إِذْ نادى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين } { قَالَ يَا نُوحٌ } لما كان دعاؤه عليه الصلاة والسلام بتذكير وعدِه جل ذكرُه مبنياً على كون كنعانَ من أهله نُفيَ أولاً كونُه منهم بقوله تعالى : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } أي ليس منهم أصلاً لأن مدار الأهليةِ هو القرابةُ الدينية ولا علاقةَ بين المؤمن والكافرِ أو ليس من أهلك الذين أمرتُك بحملهم في الفلك لخروجه عنهم بالاستثناء ، وعلى التقديرين ليس هو من الذين وُعد بإنجائهم ثم علل عدمُ كونِه منهم على طريقة الاستئنافِ التحقيقي بقوله تعالى : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح } أصله إنه ذو عملٍ غيرِ صالح فجُعل نفسَ العملِ مبالغةً كما في قول الخنساء :
فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ ... وإيثارُ غيرُ صالحٍ على فاسد إما لأن الفاسدَ ربما يطلق على ما فسد ومن شأنُه الصلاحُ فلا يكون نصاً فيما هو من قبيل الفاسدِ المحضِ كالقتل والمظالم ، وإما للتلويح بأن نجاةَ من نجا إنما هي لصلاحه ، وقرأ الكسائي ، ويعقوب ، إنه عمِلَ غيرَ صالحٍ أي عملاً غيرَ صالح ، ولما كان دعاؤه عليه الصلاة والسلام مبنياً على ما ذكر من اعتقاد كونِ كنعانَ من أهله وقد نُفيَ ذلك وحُقّق ببيان عِلّته فُرّع على ذلك النهيُ عن سؤال إنجائِه ، إلا أنه جيء بالنهي على وجه عامٍ يندرجُ فيه ذلك اندراجاً أولياً فقيل : { فَلاَ تَسْأَلْنى } أي إذا وقفتَ على جلية الحالِ فلا تطلُب مني { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أي مطلباً لا تعلم يقيناً أن حصولَه صوابٌ وموافقٌ للحكمة على تقدير كونِ ( ما ) عبارةً عن المسؤول الذي هو مفعولٌ للسؤال أو طلباً لا تعلم أنه صوابٌ على تقدير كونِه عبارةً عن المصدر الذي هو مفعولٌ مطلقٌ فيكون النهيُ وارداً بصريحه في كلَ من معلوم الفسادِ ومشتبِهِ الحالِ ويُفهم ، ويجوز أن يكون المعنى ما ليس لك علمٌ بأنه صوابٌ أو غيرُ صوابٍ فيكون النهيُ وارداً في مشتبِهِ الحالِ ويُفهمُ منه حالُ معلوم الفساد بالطريق الأولى ، وعلى التقديرين فهو عامٌ يندرج تحته ما نحن فيه كما ذكرناه ، وهذا كما ترى صريحٌ في أن نداءَه عليه الصلاة والسلام ربَّه عز وعلا ليس استفساراً عن سبب عدمِ إنجاءِ ابنِه مع سبق وعدِه بإنجاء أهلِه وهو منهم كما قيل ، فإن النهيَ عن استفسار ما لم يُعلم غيرُ موافقٍ للحكمة ، إذا عدمُ العلمِ بالشيء داعٍ إلى الاستفسار عنه لا إلى تركه بل هو دعاءٌ منه لإنجاء ابنِه حين حال الموجُ بينهما ولم يَعلم بهلاكه بعدُ ، إما بتقريبه إلى الفُلك بتلاطم الأمواجِ أو بتقريبها إليه ، وقيل : أو بإنجائه في قُلّة الجبل ، ويأباه تذكيرُ الوعدِ في الدعاء فإنه مخصوصٌ بالإنجاء في الفلك وقوله تعالى :(3/354)
{ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ } ومجرّدُ حيلولةِ الموجِ بينهما لا يستوجب هلاكَه فضلاً عن العلم به لظهور إمكانِ عصمةِ الله تعالى إياه برحمته وقد وعد بإنجاء أهلِه ولم يكن ابنُه مجاهراً بالكفر كما ذكرناه حتى لا يجوز عليه السلام أن يدعوَه إلى الفُلك أو يدعوَ ربّه لإنجائه ، واعتزالُه عنه عليه الصلاة والسلام وقصدُه الالتجاء إلى الجبل ليس بنص في الإصرار على الكفر لظهور جوازِ أن يكون ذلك لجهله بانحصار النجاة في الفُلك وزعمِه أن الجبلَ أيضاً يجري مجراه أو لكراهة الاحتباسِ في الفلك بل قوله : { سَآوِى إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الماء } بعد ما قال نوحٌ عليه الصلاة والسلام : { وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين } ربما يُطمعه عليه السلام في إيمانه حيث لم يقل : أكونُ معهم أو سنأوي أو يعصمنا ، فإن إفرادَ نفسه بنسبة الفعلين المذكورَيْن بما يشعر بانفراده من الكافرين واعتزالِه عنهم وامتثالِه ببعض ما أمره به نوحٌ عليه الصلاة والسلام ، إلا أنه عليه الصلاة والسلام لو تأمل في شأنه حقَّ التأملِ وتفحّص عن أحواله في كل ما يأتي ويذر لما اشتبه عليه أنه ليس بمؤمن وأنه المستثنى من أهله ، ولذك قيل : { إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين } فعبّر عن ترك الأولى بذلك ، وقرىء فلا تسألنِ بغير ياءِ الإضافةِ وبالنون الثقيلة بياء وبغير ياء .(3/355)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)
{ قَالَ رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ } أي أطلب منك من بعدُ { مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ } أي مطلوباً لا أعلم أن حصولَه مقتضي الحِكمة أو طلباً لا أعلم أنه صوابٌ سواءٌ كان معلومَ الفسادِ أو مشتبِهَ الحالِ أو لا أعلمُ أنه صوابٌ أو غيرُ صوابٍ على ما مر ، وهذه توبةٌ منه عليه السلام مما وقع منه وإنما لم يقُلْ : أعوذ بك منه أو من ذلك مبالغةً في التوبة وإظهاراً للرغبة والنشاطِ فيها وتبركاً بذكر ما لقّنه الله تعالى ، وهو أبلغُ من أن يقول : أتوبُ إليك أن أسألَك لما فيه من الدِلالة على كون ذلك أمراً هائلاً محذوراً لا محيصَ منه إلا بالعوذ بالله تعالى وأن قدرتَه قاصرةٌ عن النجاة من المكاره إلا بذلك { وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى } ما صدر عني من السؤال المذكورِ { وَتَرْحَمْنِى } بقَبول توبتي { أَكُن مّنَ الخاسرين } أعمالاً بسبب ذلك ، فإن الذهولَ عن شكر الله تعالى لا سيما عند وصولِ مثلِ هذه النعمةِ الجليلةِ التي هي النجاةُ وهلاكُ الأعداءِ والاشتغالَ بما لا يعني خصوصاً بمبادي خلاصِ من قيلَ في شأنه إنه عملٌ غيرُ صالحٍ والتضرّعَ إلى الله تعالى في أمره معاملةٌ غيرُ رابحةٍ أو خسرانٌ مبينٌ .
وتأخيرُ ذكرِ هذا النداءِ عن حكاية الأمرِ الواردِ على الأرض والسماءِ وما يتلوه من زوال الطوفانِ وقضاءِ الأمر واستواءِ الفُلك على الجوديّ والدعاءِ بالهلاك على الظالمين مع أن حقَّه أن يُذكر عَقيبَ قوله تعالى : { فَكَانَ مِنَ المغرقين } حسبما وقع في الخارج إذ حينئذ يُتصوّر الدعاءُ بالإنجاء لا بعد العلمِ بالهلاكِ ليس لما قيل من استقلاله بغرض مُهمَ هو جعلُ قرابةِ الدين غامرةً لقرابة النسبِ ، وأن لا يقدّم في الأمور الدينيةِ الأصوليةِ إلا بعد اليقينِ قياساً على ما وقع في قصة البقرةِ من تقديم ذكرِ الأمرِ بذبحها على ذكر القتيلِ الذي هو أولُ القصةِ وكان حقُّها أن يقالَ : وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها فقلنا : اذبحوا بقرةً فاضرِبوه ببعضها كما قُرّر في موضعه فإن تغييرَ الترتيبِ هناك للدِلالة على كمال سوءِ حالِ اليهودِ بتعديد جناياتِهم المتنوعةِ وتثنية التقريعِ عليهم بكل نوع على حدة فقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } الخ ، لتقريعهم على الاستهزاء وتركِ المسارعةِ إلى الامتثال وما يتبع ذلك وقوله تعالى : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا } الخ ، للتقريع على قتل النفسِ المحرمةِ وما يتبعه من الأمور العظيمةِ ، ولو قُصت القِصةُ على ترتيبها لفات الغرضُ الذي هو تثنيةُ التقريعِ ولظُن أن المجموعَ تقريعٌ واحدٌ وأما ما نحن فيه فليس مما يمكن أن يراعى فيه مثلُ تلك النكتةِ أصلاً ، وما ذكر من جعل القرابةِ الدينيةِ غامرةً للقرابة النسبية الخ ، لا يفوت على تقدير سَوْقِ الكلامِ على ترتيب الوقوعِ أيضاً بل لأن ذكرَ هذا النداءِ كما ترى مستدعٍ لذكر ما مر من الجواب المستدعي لذكر ما مر من توبته عليه الصلاة والسلام المؤدِّي ذكرُها إلى ذكر قَبولها في ضمن الأمرِ الواردِ بنزوله عليه الصلاة والسلام من الفلك بالسلام والبركاتِ الفائضةِ عليه وعلى المؤمنين حسبما سيجيء مفصلاً ، ولا ريب في أن هذه المعانيَ آخذٌ بعضُها بحُجْزةِ بعض بحيث لا يكاد يُفرَّق الآياتُ الكريمة المنطويةُ عليها بعضُها من بعض وأن ذلك إنما يتم بتمام القِصّة ، ولا ريب أن ذلك إنما يكون بتمام الطوفانِ فلا جرم اقتضى الحالُ ذكرَ تمامِها قبلَ هذا النداءِ وذلك إنما يكون عند ذكرِ كونِ كنعانَ من المغرَقين ولهذه النكتة ازداد حسنُ موقعِ الإيجاز البليغِ وفيه فائدةٌ أخرى هي التصريحُ بهلاكه من أول الأمرِ إلى أن يرِد قولُه : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } أنه ينجو بدعائه عليه الصلاة والسلام فنُص على هلاكه من أول الأمرِ ثم ذُكر الأمرُ الواردُ على الأرض والسماءِ الذي هو عبارةٌ عن تعلق الإرادةِ الربانيةِ الأزليةِ بما ذُكر من الغيض والإقلاعِ وبين بلوغِ أمرِ الله محلَّه وجريانِ قضائِه ونفوذ حُكمِه عليهم بهلاك من هلك ونجاةِ من نجا بتمام ذلك الطوفانِ واستواءِ الفُلكِ على الجوديِّ فقُصّت القِصةُ إلى هذه المرتبةِ وبُيّن ذلك أيَّ بيانٍ ثم تعرض لما وقع في تضاعيف ذلك مما جرى بين نوحٍ عليه السلام وبين ربِّ العزة جلت حكمتُه فذُكر بعد توبتِه عليه الصلاة والسلام قبولُها بقوله :(3/356)
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
{ قِيلَ يانوح اهبط } أي انزل من الفُلك وقرىء بضم الباء { بِسَلامٍ } ملتبساً بسلامة من المكاره كائنةٍ { مِنَّا } أو بسلام وتحيةٍ منا عليك كما قال : سلامٌ على نوح في العالمين { وبركات عَلَيْكَ } أي خيراتٍ ناميةٍ في نسلك وما يقوم به معاشُك ومعاشُهم من أنواع الأرزاق ، وقرىء بركةٍ ، وهذا إعلامٌ وبشارةٌ من الله تعالى بقَبول توبتِه وخلاصِه من الخسران بفيضان أنواعِ الخيراتِ عليه في كل ما يأتي وما يذر { وعلى أُمَمٍ } ناشئةٍ { مّمَّن مَّعَكَ } إلى يوم القيامة متشبعةٍ منهم ، فمن ابتدائيةٌ ، والمرادُ الأممُ المؤمنةُ المتناسلةُ ممن معه إلى يوم القيامة { وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ } أي ومنهم على أنه خبرٌ حذف لِدلالة ما سبق عليه ، فإن إيرادَ الأممِ المبارَكِ عليهم المتشعبةِ منهم نكرةٌ يدل على أن بعضَ مَنْ يتشعّب منهم ليسوا على صفتهم يعني ليس جميعُ من تشعّب منهم مسلماً ومباركاً عليه بل منهم أممٌ ممتّعون في الدنيا معذّبون في الآخرة ، وعلى هذا لا يكون الكائنون مع نوح عليه السلام مسلماً ومبارَكاً عليهم صريحاً وإنما يفهم ذلك من كونهم مع نوح عليه الصلاة والسلام ومن كون ذريّاتِهم كذلك بدلالة النصِّ ، ويجوز أن تكون ( من ) بيانيةً أي وعلى أمم هم الذين معك وإنما سُمّوا أمماً لأنهم أممٌ متحزِّبةٌ وجماعاتٌ متفرِّقةٌ ، أو لأن جميعَ الأممِ إنما تشعّبت منهم فحينئذ يكون المرادُ بالأمم المشارِ إليهم في قوله تعالى : { وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ } بعضَ الأممِ المتشعبةِ منهم وهي الأممُ الكافرةُ المتناسلةُ منهم إلى يوم القيامة ، ويبقى أمرُ الأممِ المؤمنةِ الناشئةِ منهم مبهماً غيرَ متعرّضٍ له ولا مدلولٍ عليه ، ومع ذلك ففي دِلالة المذكورِ على خبره المحذوفِ خفاءٌ لأن ( من ) المذكورةَ بيانيةٌ والمحذوفةَ تبعيضيةٌ أو ابتدائيةٌ فتأمل { ثُمَّ يَمَسُّهُمْ } إما في الأخرة أو في الدنيا أيضاً { مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } . عن محمد بن كعب القرظي دخل في ذلك السلامِ كلُّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ إلى يوم القيامة ، وفيما بعده من المتاع والعذابِ كلُّ كافر ، وعن ابن زيد هبطوا والله عنهم راضٍ ثم أَخرج منهم نسلاً منهم من رَحِم ومنهم من عذّب . وقيل : المرادُ بالأمم الممتَّعةِ قومُ هودٍ وصالحٍ ولوطٍ وشعيبٍ عليهم السلام وبالعذاب ما نزل بهم .(3/357)
تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
{ تِلكَ } إشارةٌ إلى ما قُصّ من قصة نوحٍ عليه الصلاة والسلام إما لكونها بتقضّيها في حكم البعيدِ أو للدِلالة على بُعد منزلِتها ، وهي مبتدأٌ خبرُه { مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيبِ } أي من جنسها ، أي ليست من قبيل سائرِ الأنباءِ بل هي نسيجُ وحدِها منفردةٌ عما عداها أو بعضِها { نُوحِيهَا إِلَيكَ } خبرٌ ثانٍ والضمير لها أي مُوحاةٌ إليك أو هو الخبرُ ، ومن أنباء متعلِّقٌ به ، فالتعبير بصيغة المضارع لاستحضار الصورة أو حال من أنباء الغيب أي مُوحاةً إليك { مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ } خبرٌ آخرُ أي مجهولةٌ عندك وعند قومِك { مِنْ قَبْلِ هَذَا } أي من قبل إيحائِنا إليك وإخبارِك بها أو من قبل هذا العلمِ الذي كسبْتَه بالوحي أو من قبلِ هذا الوقتِ أو حالٌ من الهاء في نُوحيها ، أو الكافِ في إليك ، أي جاهلاً أنت وقومُك بها ، وفي ذكر جهلِهم تنبيهٌ على أنه عليه الصلاة والسلام لم يتعلّمْه ، إذا لم يخالِطْ غيرَهم وأنهم مع كثرتهم لم يعلموه فكيف بواحد منهم { فَاصْبِر } متفرِّعٌ على الإيحاء أو العلمِ المستفادِ منه المدلولِ عليه بقوله : { ما كنت تعلمها أنت ولا قومُك من قبل هذا } أي وإذ قد أوحيناها إليك أو علمْتَها بذلك فاصبِرْ على مشاقّ تبليغِ الرسالةِ وأذيَّةِ قومِك كما صبر نوحٌ على ما سمعته من أنواع البلايا في هذه المدة المتطاولةِ ، وهذا ناظرٌ إلى ما سبق من قوله تعالى : { فلعلك تاركٌ بعضَ مايوحى إليك } الخ { إن العاقبة } بالظفر في الدنيا وبالفوز في الآخرة { للمتقين } كما شاهدْتَه في نوحٍ عليه الصلاة والسلام وقومِه ولك فيه أسوةٌ حسنةٌ فهي تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليلٌ للأمر بالصبر فإن كونَ العاقبةِ الحميدةِ للمتقين وهو في أقصى درجاتِ التقوى والمؤمنون كلُّهم مّتقون مما يسليه عليه الصلاة والسلام ويهوِّن عليه الخطوبَ ويُذهب عنه ما عسى أن يعتريَه من ضيق صدرِه ، وهذا على تقدير أن يرادَ بالتقوى الدرجةُ الأولى منه أعني التوقّي من العذاب المخلدِ بالتبرؤ من الشرك ، وعليه قوله تعالى : { وألزمَهم كلمةَ التقوى } ويجوز أن يراد الدرجةُ الثالثةُ وهو أن يتنزّه عما يشغل سِرَّه عن الحق ويتبتَّلَ إليه بشراشِره وهو التقوى الحقيقيُّ المطلوبُ بقوله تعالى : { اتقوا الله حقَّ تقاتِه } فإن التقوى بهذا المعنى منطوٍ على الصبر المذكورِ فكأنه قيل : فاصبر فإن العاقبةَ للصابرين .(3/358)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
{ وإلى عاد } متعلقٌ بمضمر معطوفٌ على قوله تعالى : { أرسلنا } في قصة نوحٍ وهو الناصبُ لقوله تعالى : { أَخَاهُم } أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم أي واحداً منهم في النسَب كقولهم : يا أخا العرب ، وتقديمُ المجرورِ على المنصوب هاهنا للحِذارِ عن الإضمار قبل الذكر ، وقيل : متعلّقٌ بالفعل المذكورِ فيما سبق وأخاهم معطوفٌ على نوحاً وقد مر في سورة الأعراف وقوله تعالى : { هُوداً } عطفُ بيانٍ لأخاهم وكان عليه الصلاة والسلام من جملتهم فإن هودُ بنُ عبدِ اللَّه بنِ رباحِ بن الخلود بن العوص بن إرمَ بنِ سامِ بنِ نوحٍ عليه الصلاة والسلام ، وقيل : هودُ بنُ شالح بنِ أرفخشذَ بنِ سامِ بن نوحٍ بنِ عمّ أبي عاد ، وإنما جعل منهم لأنهم أفهمُ لكلامه وأعرفُ بحاله وأرغبُ في اقتفائه { قَالَ } لما كان ذكرُ إرسالِه عليه الصلاة والسلام إليهم مظنةً للسؤال عما قال لهم ودعاهم إليه أُجيب عنه بطريق الاستئنافِ فقيل : { يَا قَوْمِ اعْبدُوا الله } أي وحده كما ينبىء عنه قوله تعالى : { مَا لَكُم مِّنْ إله غَيرُهُ } فإنه استئنافٌ يجري مَجرى البيان للعبادة المأمورِ بها ، والتعليلُ للأمر بها كأنه قيل : خُصّوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئاً ، إذ ليس لكم من إله سواه ، وغيرُه بالرفع صفةٌ لإله باعتبار محلِّه وقرىء بالجر حملاً له على لفظه { إِن أَنْتُم } ما أنتم باتخاذكم الأصنامَ شركاءَ له أو بقولكم : إن الله أمرنا بعبادتها { إلاَّ مُفْتَرُون } عليه تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً { يَا قَومِ لاَ أَسْأَلُكُم عَلَيهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي } خاطبَ به كلُّ نبيَ قومَه إزاحةً لما عساهم يتوهّمونه وإمحاضاً للنصيحة فإنها ما دامت مشوبةً بالمطامع بمعزل عن التأثير ، وإيرادُ الموصولِ للتفخيم ، وجعلُ الصلةِ فعلَ الفطرةِ لكونه أقدامَ النعمِ الفائضةِ من جناب الله تعالى المستوجبةِ للشكر الذي لا يتأتى إلا بالجرَيان على موجب أمرِه الغالبِ مُعرِضاً عن المطالب الدنيوية التي من جملتها الأجرُ { أفَلاَ تَعْقِلُون } أي أتغفُلون عن هذه القضيةِ أو ألا تتفكرون فيها فلا تعقِلونها أو أتجهلون كلَّ شيءٍ فلا تعقلون شيئاً أصلاً فإن هذا مما لا ينبغي أن يخفى على أحد من العقلاء .
{ ويَا قَومِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُم } اطلُبوا مغفرتَه لما سلف منكم من الذنوب بالإيمان والطاعة { ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } أي توسّلوا إليه بالتوبة ، وأيضاً التبرُّؤُ من الغير إنما يكون بعد الإيمان بالله تعالى والرغبةِ فيما عنده { يُرْسِلِِ السَّمَاءَ } أي المطرَ { عَلَيكُمْ مِّدْرَاراً } أي كثيرَ الدّرور { ويزدْكُمْ قُوَّةً } مضافةً ومنضمّةً { إِلَى قُوَّتِكُم } أي يضاعفْها لكم ، وإنما رغّبهم بكثرة المطرِ لأنهم كانوا أصحابَ زروعٍ وعمارات ، وقيل : حبس الله تعالى عنهم القطرَ وأعقم أرحامَ نسائِهم ثلاث سنين فوعدهم عليه الصلاة والسلام كثرةَ الأمطارِ وتضاعُفَ القوة بالتناسل ، على الإيمان والتوبة { وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ } أي لا تُعرضوا عما دعوتُكم إليه { مُجْرِمِينَ } مصِرِّين على ما كنتم عليه من الإجرام .(3/359)
قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)
{ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ } أي بحجة تدل على صحة دعواك وإنما قالوه لفَرْط عنادِهم وعدمِ اعتدادِهم بما جاءهم من البينات الفائتةِ للحصر .
{ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا } أي بتاركي عبادتِها { عَنْ قَوْلِكَ } أي صادرين عنه أي صادراً تركُنا عن ذلك بإسناد حالِ الوصفِ إلى الموصوف ومعناه التعليلُ على أبلغ وجهٍ لِدلالته على كونه علةً فاعليةً ، ولا يفيده الباءُ واللام وهذا كقولهم المنقولِ عنهم في سورة الأعراف { أجئتَنا لنعبُدَ الله وحدَه ونذرَ ما كان يعبُد آباؤُنا } { وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِين } أي بمصدقين في شيء مما تأتي وتذر فيندرج تحته ما دعاهم إليه من التوحيد وتركِ عبادةِ الآلهةِ ، وفيه من الدلالة على شدة الشكيمة وتجاوزِ الحدِّ في العتو ما لا يخفى { إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ } أي ما نقول إلا قولَنا اعتراك أي أصابك { بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ } بجنون لِسبِّك إياها وصدِّك عن عبادتها وحطِّك لها عن رتبة الألوهيةِ والمعبوديةِ بما مر من قولِك : { ما لكم من إله غيرُه إن أنتم إلا مفترون } ، والتنكيرُ في سوءٍ للتقليل كأنهم لم يبالغوا في السوء كما ينبىء عنه نسبةُ ذلك إلى بعض آلهتِهم دون كلِّها ، والجملةُ مقولُ القولِ وإلا لغوٌ لأن الاستثناءَ مفرَّغٌ ، وهذا الكلامُ مقرِّرٌ لما مر من قولهم : { وما نحن بتاركي آلهتِنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين } فإن اعتقادَهم بكونه عليه الصلاة والسلام كما قالوا وحاشاه عن ذلك يوجب عدمَ الاعتدادِ بقوله وعدِّه من قبيل الخُرافاتِ فضلاً عن التصديق والعملِ بمقتضاه ، يعنون إنا لا نعُدّ كلاَمك إلا من قبيل ما لا يحتمل الصِّدقَ والكذِبَ من الهذَيانات الصادرةِ عن المجانين فكيف نصدِّقه ونؤمن به ونعمل بموجبه ، ولقد سلكوا في طريقة المخالفةِ والعناد إلى سبيل الترقّي من الأدنى إلى الأعلى حيث أَخبَروا أولاً عن عدم مجيئِه بالبينة مع احتمال كونِ ما جاء به عليه الصلاة والسلام حجةً في نفسه وإن لم تكن واضحةَ الدِلالة على المراد ، وثانياً عن ترك الامتثالِ بقوله عليه الصلاة والسلام بقولهم : { وما نحن بتاركي آلهتِنا عن قولك } مع إمكان تحققِ ذلك بتصديقهم له عليه الصلاة والسلام في كلامه ثم نفَوا تصديقَهم له عليه الصلاة والسلام بقولهم : { وما نحن لك بمؤمنين } مع كون كلامِه عليه الصلاة والسلام مما يقبل التصديقَ ثم نفَوْا عنه تلك المرتبةَ أيضاً حيث قالوا ما قالوا قاتلهم الله أنى يؤفكون { قَالَ إِنِّي أَُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } .(3/360)
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
{ مِن دُونِهِ } أي من إشراككم من دون الله أي من غير أن ينزِّل به سلطاناً كما قال في سورة الأعراف : { أتجادِلونني في أسماءٍ سمّيتموها أنتم وآباؤكم ما نزّل الله بها من سلطان } أو مما تشركونه من آلهة غيرِ الله ، أجاب به عن مقالتهم الحمقاءِ المبنيةِ على اعتقاد كونِ آلهتِهم مما يضُرُّ أو ينفع وأنها بمعزل من ذلك ، ولما كان ما وقع أولاً منه عليه الصلاة والسلام في حق آلهتِهم من كونها بمعزل عن الألوهية إنما وقع في ضمن الأمرِ بعبادة الله تعالى واختصاصِه بها وقد شق عليهم ذلك وعدّوه مما يورِث شيْناً حتى زعَموا أنها تصيبُه عليه الصلاة والسلام بسوء مجازاةٍ لصنيعه معها صرّح عليه الصلاة والسلام بالحق وصدَع به حيث أُخبر ببراءته القديمةِ عنها بالجملة الاسميةِ المصدّرةِ بإنّ وأَشهد الله على ذلك وأمرهم بأن يسمعوا ذلك ويشهدوا به استهانةً بهم ثم أمرهم بالاجتماع والاحتشادِ مع آلهتهم جميعاً دون بعضٍ منها حسبما يُشعر به قولُهم : { بعضُ آلهتنا } والتعاونِ في إيصال الكيدِ إليه عليه الصلاة والسلام ونهاهم عن الإنظار والإمهالِ في ذلك فقال : { فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظرون } أي إن صح ما لو حتم به من كون آلهتِكم مما يقدِر على إضرار مَنْ ينال منها ويصُدّ عن عبادتها ولو بطريق ضِمنيَ فإني بريءٌ منها فكونوا أنتم معها جميعاً وباشروا كيدي ثم لا تُمهلوني ولا تسامحوني في ذلك ، فالفاءُ لتفريع الأمرِ على زعمهم في قدرة آلهتِهم على ما قالوا وعلى البراءة كليهما ، وهذا من أعظم المعجزاتِ ، فإنه عليه الصلاة والسلام كان رجلاً مفْرَداً بين الجمِّ الغفير والجمعِ الكثير من عُتاة عادٍ الغلاظِ الشِّدادِ ، وقد خاطبهم بما خاطبهم وحقّرهم وآلهتَهم وهيَّجهم على مباشرة مبادىءِ المُضارّة وحثّهم على التصدِّي لأسباب المُعازّة والمعارّة فلم يقدروا على مباشرة شيءٍ مما كلفوه وظهر عجزُهم عن ذلك ظهوراً بيناً كيف لا وقد التجأ إلى ركن منيعٍ رفيعٍ واعتصم بحبل متينٍ حيث قال :
{ إنِّي تَوَكَّلْتُ على الله ربِّي ورَبِّكُم } يعني أنكم وإن بذلتم في مُضارّتي مجهودَكم لا تقدرون على شيء مما تريدون بي فإني متوكلٌ على الله تعالى ، وإنما جيء بلفظ الماضي لكونه أدلَّ على الإنشاء المناسبِ للمقام ، وواثقٌ بكلاءتي وحفظي عن غوائلكم وهو مالكي ومالكُكم لا يصدُر عنكم شيءٌ ولا يصيبني أمرٌ إلا بإرادته ومشيئتِه ثم برهن عليه بقوله : { مَا مِن دَابَّةٍ إلاَّ هُو آخِذٌ بِناصِيتِهَا } أي إلا هو مالكٌ لها قادرٌ عليها يُصرِّفها كيف يشاء غيرَ مستعْصيةٍ عليه فإن الأخذَ بالناصية تمثيلٌ لذلك { إنَّ ربِّي عَلى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ } تعليلٌ لما يدل عليه التوكلُ من عدم قدرتِهم على إضراره أي هو على الحقّ والعدلِ فلا يكاد يسلِّطكم عليّ إذ لا يَضيعُ عنده معتصِمٌ ولا يفتاتُ عليه ظالمٌ . والاقتصارُ على إضافة الربِّ إلى نفسه إما بطريق الاكتفاءِ لظهور المرادِ وإما لأن فائدةَ كونِه تعالى مالكاً لهم أيضاً راجعةٌ إليه عليه الصلاة والسلام .(3/361)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي تتولَّوا بحذف إحدى التاءين أي أن تستمرّوا على ما كنتم عليه من التولي والإعراض { فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ } أي لم أعاتَبْ على تفريط في الإبلاغ وكنتم محجوجين بأن بلّغتكم الحقَّ فأبيتم إلا التكذيبَ والجحود { وَيَسْتَخْلِف رَبِّي قَوماً غَيرَكُم } استئنافٌ بالوعيد لهم بأن الله تعالى يهلكهم ويستخلف في ديارهم وأموالِهم قوماً آخرين ، أو عطفٌ على الجواب بالفاء ، ويؤيده قراءةُ ابنِ مسعود رضي الله عنه بالجزْم عطفاً على الموضع ، كأنه قيل : فإن تولّوا يعذُرْني ويُهلكْكم ويستخلفْ مكانكم آخرين ، وفي اقتصار إضافةِ الربِّ عليه عليه السلام رمزٌ إلى اللطف به والتدميرِ للمخاطبين { وَلاَ تَضُرُّونَهُ } بتولّيكم { شَيئاً } من الضرر لاستحالة ذلك عليه ، ومن جَزَمَ ( وَيَسْتخْلفْ ) أسقطت منه النون { إنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيءٍ حَفِيظٌ } أي رقيبٌ مهيمنٌ فلا تخفى عليه أعمالُكم فيجازيكم بحسبها أو حافظٌ مستولٍ على كل شيء فكيف يضُرّه شيءٌ وهو الحافظُ للكل { وَلَمَّا جَاءَ أَمرُنَا } أي نزل عذابُنا ، وفي التعبير عنه بالأمر مضافاً إلى ضميره جل جلاله وعن نزوله بالمجيء ما لا يخفى من التفخيم والتهويلِ أو ورد أمرُنا بالعذاب { نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ } وكانوا أربعةَ آلافٍ { بِرَحْمَةٍ } عظيمةٍ كائنةٍ لهم { مِنَّا } وهي الإيمانُ الذي أنعمنا به عليهم بالتوفيق له والهدايةِ إليه { وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } أي كانت تلك التنجيةُ تنجيةً من عذاب غليظ وهي السَّمومُ التي كانت تدخل أنوفَ الكفرة وتخرج من أدبارهم فتقطعهم إرْباً إرْباً ، وقيل : أريد بالثانية التنجيةُ من عذاب الآخرةِ ولا عذابَ أغلظُ وأشدُّ ، وهذه التنجيةُ وإن لم تكن مقيدةً بمجيء الأمرِ لكن جيء بها تكملةً للنعمة عليهم وتعريضاً بأن المهلَكين كما عُذّبوا في الدنيا بالسَّموم فهم معذبون في الآخرة بالعذاب الغليظ { وَتِلك عَادٌ } أُنّث اسمُ الإشارةِ باعتبار القبيلةِ أو لأن الإشارةَ إلى قبورهم وآثارهِم { جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِم } كفروا بها بعد ما استيقنوها { وَعَصَوْا رُسُلَهُ } جمعَ الرسلَ مع أنه لم يرسِلْ إليهم غيرَ هودٍ عليه الصلاة والسلام تفظيعاً لحالهم وإظهاراً لكمال كفرِهم وعنادِهم ببيان أن عصيانَهم له عليه الصلاة والسلام عصيانٌ لجميع الرسلِ السابقين واللاحقين لاتفاق كلمتِهم على التوحيد { لا نفرِّق بين أحد من رسله } فيجوز أن يراد بالآت ما أتى به هودٌ وغيرُه من الأنبياء عليهم السلام ، وفيه زيادةُ ملاءمةٍ لما تقدم من جميع الآياتِ وما تأخر من قوله : { وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } من كبرائهم ورؤسائِهم الدعاةِ إلى الضلال وإلى تكذيب الرسلِ فكأنه قيل : عصَوا كلَّ رسولٍ واتبعوا أمرَ كلِّ جبارٍ ، وهذا الوصفُ ليس كما سبق من جحود الآياتِ وعصيانِ الرسلِ في الشمول لكل فردٍ فردٌ منهم فإن الاتباعَ للأمر من أوصاف الأسافلِ دون الرؤساءِ ، وعنيدٌ فعيلٌ من عنَد عِنْداً وعنَداً إذا طغى والمعنى عصَوا مَنْ دعاهم إلى الهدى وأطاعوا من حداهم إلى الردى .(3/362)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)
{ وأُُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً } إبعاداً عن الرحمة وعن كل خير ، أي جُعلت اللعنةُ لازمةً لهم ، وعبّر عن ذلك بالتبعية للمبالغة فكأنها لا تفارقهم وإن ذهبوا كلَّ مذهبٍ بل تدور معهم حيثما داروا ، ولوقوعه في صحبة اتباعهم رؤساءهم يعني أنهم لما اتّبعوهم أُتبعوا ذلك جزاءً لصنيعهم جزاءً وفاقاً { وَيومَ الْقِيَامَةِ } أي أُتبعوا يوم القيامة أيضاً لعنةً وهي عذابُ النارِ المخلد حُذفت لدِلالة الأولى عليها ، وللإيذان بكون كلَ من اللغتين نوعاً برأسه لم تُجمعا في قرن واحد بأن يقال : وأتبعوا في هذه الدنيا ويومَ القيامة لعنةً كما في قوله تعالى : { واكتبْ لنا في هذه الدنيا حسنةً وفي الآخرة } إيذاناً باختلاف نوعي الحسنتين ، فإن المرادَ بالحسنة الدنيويةِ نحوُ الصحةِ والكفافِ والتوفيقِ للخير وبالحسنة الأخروية الثوابُ والرحمةُ { أَلَا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُم } أي بربهم أو نعمةَ ربهم حملاً له على نقيضه الذي هو الشكرُ ، أو جحدوه { ألاَ بُعْداً لِعَادٍ } دعاءٌ عليهم بالهلاك مع كونهم هالكين أيَّ هلاك ، تسجيلاً عليهم باستحقاق الهلاكِ واستيجابِ الدمار ، وتكريرُ حرفِ التنبيهِ وإعادةُ عادٍ للمبالغة في تفظيع حالِهم والحثِّ على الاعتبار بقصتهم { قومِ هُود } عطفُ بيانٍ لعاد فائدتُه التمييزُ عن عادِ إرمَ ، والإيماءُ إلى أن استحقاقَهم للبعد بسبب ما جرى بينهم وبين هودٍ عليه الصلاة والسلام وهم قومُه .
{ وإلى ثمود أخاهُم صالحاً } عطفٌ على ما سبق من قوله تعالى : { وإلى عادٍ أخاهُم هُوداً } وثمودٌهي قبيلةٌ من العرب سُمّوا باسم أبيهم الأكبرِ ثمودَ بنِ عابر بن إرمَ بنِ سام وقيل : إنما سُمّوا بذلك لقلة مائِهم من الثَّمْد وهو الماءُ القليل ، وصالح عليه الصلاة والسلام هو ابنُ عبيدِ بنِ آسف بنِ ماشج بن عبيدِ بن جادر بن ثمودَ ، ولما كان الإخبارُ بإرساله إليهم مظِنّةً لأن يسأل ويقال : ماذا قال لهم؟ قيل جواباً عنه بطريق الاستئنافِ : { قالَ يَا قوم اعْبدُوا الله } أي وحدَه وعلل ذلك بقوله : { مَا لَكُم مِّن إله غيرُهُ } ثم زيد فيما يبعثهم على الإيمان والتوحيدِ ويحثّهم على زيادة الإخلاصِ فيه بقوله : { هُو أنشَأَكُم مِّن الأَرْضِ } أي هو كوّنكم وخلقَكم منها لا غيرُه ، قصرُ قلبٍ أو قصرُ إفرادٍ فإن خلق آدمَ عليه الصلاة والسلام منها خلقٌ لجميع أفرادِ البشر منها لما مر مراراً من أن خِلقتَه عليه الصلاة والسلام لم تكن مقصورةً على نفسه بل كانت أُنموذجاً منطوياً على خلق جميعِ ذرياتِه التي ستوجد إلى يوم القيامة انطواءً إجمالياً ، وقيل : إن خلقَ آدمَ عليه الصلاة والسلام وإنشاءَ موادِّ النطَفِ التي منها خُلق نسلُه من التراب إنشاءٌ لجميع الخلقِ من الأرض فتدبر { واسْتَعمرَكُم } من العمر أي عمّركم واستبقاكم { فِيهَا } أو من العِمارة أي أقدركم على عِمارتها أو أمركم بها ، وقيل : هو من العمرى بمعنى أعمرَكم فيها ديارَكم ويرِثها منكم بعد انصرامِ أعمارِكم أو جعلكم معمِّرين ديارَكم تسكُنونها مدةَ عمرِكم ثم تتركونها لمثلكم { فاسْتغفِرُوه ثُمَّ تُوبُوا إِلَيه } فإن ما فُصل من فنون الإحسانِ داعٍ إلى الاستغفار عما وقع منهم من التفريط والتوبةِ عما كانوا يباشرونه من القبائح ، وقد زيد في بيان ما يوجب ذلك فقيل : { إنَّ رَبِّي قَرِيب } أي قريبُ الرحمةِ كقوله تعالى :(3/363)
{ إن رحمةَ الله قريبٌ من المحسنين } { مُّجِيبٌ } لمن دعاه وسأله ، وقد روعيَ في النظم الكريمِ نكتةٌ حيث قُدّم ذكرُ العلةِ الباعثةِ المتقدمةِ على الأمر بالاستغفار والتوبةِ وأُخّر عنه ذكرُ الغائيةِ المتأخرةِ عنهما في الوجود أعني الإجابة .(3/364)
قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
{ قَالُوا يا صَالِحُ قد كُنتَ فينَا مَرْجُوّاً } أي كنا نرجو منك لِما كنا نرى منك من دلائل السَّداد ومخايلِ الرشاد أن تكون لنا سيداً ومستشاراً في الأمور . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : فاضلاً خيّراً نقدّمك على جميعنا . وقيل : كنا نرجو أن تدخُلَ في ديننا وتوافقَنا على ما نحن عليه . { قَبْلَ هَذَا } الذي باشرتَه من الدعوة إلى التوحيد وتركِ عبادةِ الآلهة ، أو قبل هذا الوقتِ فكأنهم لم يكونوا إلى الآن على يأس من ذلك ولو بعد الدعوةِ إلى الحق فالآن قد انصرَم عنك رجاؤُنا . وقرأ طلحةُ مرجُوءاً بالمد والهمزة { أَتَنْهَانا أَن نَعْبُد مَا يَعبد آبَاؤنا } أي عبَدوه ، والعدولُ إلى صيغة المضارعِ لحكاية الحالِ الماضية { وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيهِ } من التوحيد وتركِ عبادةِ الأوثانِ وغيرِ ذلك من الاستغفار والتوبة { مُرِيبٍ } أي مُوقعٌ في الريبة ، مِنْ أرابه أي أوقعه في الريبة ، أي قلقِ النفسِ وانتفاءِ الطمُأنينة أو من أراب إذا كان ذا رِيبةٍ وأيَّهما كان فالإسنادُ مجازيٌّ والتنوينُ فيه وفي ( شك ) للتفخيم .
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَءيْتُمْ } أي أخبروني { إِن كُنتُ } في الحقيقة { على بَيّنَةٍ } أي حجةٍ ظاهرةٍ وبرهانٍ وبصيرة { مّن رَّبّى } مالكي ومتولّي أمري { وَآتَانِى مِنْهُ } من جهته { رَحْمَةً } نبوّةً ، وهذه الأمورُ وإن كانت محقّقة الوقوعِ لكنها صُدّرت بكلمة الشك اعتباراً لحال المخاطبين ورعايةً لحسن المحاوَرةِ لاستنزالهم عن المكابرة { فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ الله } أي ينجِّيني من عذابه ، والعدولُ إلى الإظهار لزيادة التهويلِ والفاءُ لترتيب إنكارِ النُّصرةِ على ما سبق من إيتاء النبوةِ وكونِه على بينة من ربه على تقدير العصيانِ حسبما يُعرب عنه قوله تعالى : { إِنْ عَصَيْتُهُ } أي بالمساهلة في تبليغ الرسالةِ والمجاراةِ معكم فيما تأتون وتذرون فإن العصيانَ ممنْ ذلك شأنُه أبعدُ والمؤاخذةَ عليه ألزمُ وإنكارَ نُصرتِه أدخل { فَمَا تَزِيدُونَنِى } إذن باستتباعكم إيايَ كما ينبىء عنه قولُهم : { قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هذا } أي لا تفيدونني إذ لم يكن فيه أصلُ الخُسران حتى يزيدوه { غَيْرَ تَخْسِيرٍ } أي غيرَ أن تجعلوني خاسراً بإبطال أعمالي وتعريضي لسخط الله تعالى أو فما تزيدونني بما تقولون غيرَ أن أنسُبَكم إلى الخسران وأقولَ لكم : إنكم الخاسرون ، فالزيادةُ على معناه ، والفاءُ لترتيب عدمِ الزيادةِ على انتفاء الناصِرِ المفهومِ من إنكاره على تقدير العصيان مع تحقق ما ينفيه من كونه عليه الصلاة السلام على بينة من ربه وإيتائِه النبوةَ .(3/365)
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
{ وَيَا قَومِ هذه نَاقَةُ الله } الإضافةُ للتشريف والتنبيهِ على أنها مفارقةٌ لسائر ما يجانسها من حيث الخِلْقةُ ومن حيث الخلق { لَكُم آية } معجزةً دالّةً على صدق نبوّتي وهي حالٌ من ناقةُ الله والعاملُ ما في هذه من معنى الفعلِ ولكم حالٌ من آيةً متقدمةٌ عليها لكونها نكرةً ، ولو تأخرت لكانت صفةً لها ويجوز أن يكون ناقةُ الله بدلاً من هذه أو عطفَ بيان ولكم خبراً وعاملاً في آية { فَذَرُوهَا } خلّوها وشأنَها { تَأْكُلْ فِى أَرْضِ الله } ترعى نباتَها وتشرب ماءَها ، وإضافةُ الأرضِ إلى الله تعالى لتربية استحقاقِها لذلك وتعليلِ الأمرِ بتركها وشأنَها { وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء } بولغ في النهي عن التعرّض لها بما يضرها حيث نُهيَ عن المس الذي هو من مبادىء الإصابةِ ونُكر السوءِ أي لا تضرِبوها ولا تطرُدوها ولا تقرَبوها بشيء من السوء فضلاً عن عَقرها وقتلِها { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ } أي قريبُ النزول . ورُوي أنهم طلبوا منه أن يُخرج من صخرة تسمّى الكائبةَ ناقةً عُشَراءَ مخترِجةً جوفاءَ وبَراءً ، وقالوا : إن فعلتَ ذلك صدقناك فأخذ صالحٌ عليه الصلاة والسلام عليهم مواثيقَهم : لئن فعلتُ ذلك لتؤمِنُنّ؟ فقالوا : نعم ، فصلى ودعا ربَّه فتمخَّضت الصخرةُ تمخّضَ النَّتوجِ بولدها فانصدعت عن ناقة عُشراءَ كما وصفوا وهم ينظُرون ثم أنتجت ولداً مثلَها في العِظَم فآمن به جُندُعُ بنُ عمْروٍ في جماعة ، ومَنَع الباقين من الإيمان دوأبُ بنُ عمرو والحُبابُ صاحبُ أوثانهم وربابُ كاهنُهم فمكثت الناقةُ مع ولدها ترعى الشجرَ وتردُ الماءَ غِبًّا فما ترفع رأسَها من البئر حتى تشربَ كلَّ ما فيها ثم تتفحّج فيحلُبون ما شاءوا حتى تمتلىء أوانيهم فيشربون ويدّخرون وكانت تصيِّف بظهر الوادي فتهرُب منها أنعامُهم إلى بطنه وتشتو ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشق عليهم ذلك .
{ فَعَقَرُوهَا } قيل : زَيَّنت عقرَها لهم عُنيزةُ أمُّ غَنَم وصدَقةُ بنتُ المختارِ فعقروها واقتسموا لحمها فرقِيَ سَقْبُها جبلاً اسمه قارة فرَغاً ثلاثاً ، فقال صالح لهم : أدرِكوا الفصيلَ عسى أن يرفعَ عنكم العذاب فلم يقدِروا عليه وانفجرت الصخرةُ بعد رغائِه فدخلها { فَقَالَ } لهم صالح { تَمَتَّعُواْ } أي عيشوا { فِى دَارِكُمْ } أي في منازلكم أو في الدنيا { ثلاثة أَيَّامٍ } قيل : قال لهم : تصبح وجوهُكم غداً مصفرّةً وبعد غدٍ مُحمرَّةً واليومَ الثالثَ مُسودةً ثم يصبّحكم العذابُ { ذلك } إشارةٌ إلى ما يدل عليه الأمرُ بالتمتع ثلاثةَ أيامٍ من نزول العذاب عَقيبَها ، والمرادُ بما فيه من معنى البُعد تفخيمُه { وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } أي غيرُ مكذوبٍ فيه فخُذف الجارُّ للاتساع المشهور كقوله :
ويومٍ شهِدناه سليماً وعامراً ... أو غيرُ مكذوب ، كأن الواعدَ قال له : أفي بك فإن وفى به صدّقه وإلا كذّبه ، أو وعدٌ غيرُ كذِبٍ على أنه مصدرٌ كالمجلود والمعقول .(3/366)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
{ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا } أي عذابُنا أو أمرُنا بنزوله وفيه ما لا يخفى من التهويل { نَجَّيْنَا صالحا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ } متعلقٌ بنجينا أو بآمنوا { بِرَحْمَةٍ } بسبب رحمةٍ عظيمة { مِنَّا } وهي بالنسبة إلى صالح النبوةُ وإلى المؤمنين الإيمانُ كما مر أو ملتبسين برحمة ورأفةٍ منا { وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ } أي ونجيناهم من خزي يومِئذٍ ، وهو هلاكُهم بالصيحة كقوله تعالى : { وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } على معنى أنه كانت تلك التنجيةُ تنجيةً من خزي يومئذ ، أي من ذِلته ومهانتِه أو ذلِّهم وفضيحتِهم يومَ القيامة كما فسر به العذابُ الغليظُ فيما سبق فيكون المعنى ونجيناهم من عذاب يومِ القيامةِ بعد تنجيتِنا إياهم من عذاب الدنيا ، وعن نافع بالفتح على اكتساب المضافِ البناءَ من المضاف إليه هنا وفي المعارج في قوله تعالى : { مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ } وقرىء بالتنوين ونصبِ يومئذ { إِنَّ رَبَّكَ } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم { هُوَ القوى العزيز } القادر على كل شيء والغالبُ عليه لا غيرُه ولكون الإخبارِ بتنجية الأولياءِ لا سيما عند الإنباءِ بحلول العذابِ أهمَّ ذكَرَها أولاً ثم أخبر بهلاك الأعداءِ فقال : { وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ } عدل عن المضمر إلى المظهر تسجيلاً عليهم بالظلم وإشعاراً بعلّيته لنزول العذابِ بهم { الصيحة } أي صيحةُ جبريلَ عليه الصلاة والسلام ، وقيل : أتتهم من السماء صحيةٌ فيها صوتُ كلِّ صاعقةٍ وصوتُ كلِّ شيء في الأرض فتقطعت قلوبُهم في صدورهم وفي سورة الأعراف : { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } ولعلها وقعت عَقيبَ الصيحةِ المستتبِعةِ لتموُّج الهواء { فَأَصْبَحُواْ } أي صاروا { فِى دِيَارِهِمْ } أي بلادهم أو مساكنِهم { جاثمين } هامدين موتى لا يتحركون ، والمرادُ كونُهم كذلك عند ابتداءِ نزولِ العذابِ بهم من غير اضطرابٍ وحركةٍ كما يكون ذلك عند الموتِ المعتاد ولا يخفى ما فيه من الدلالة على شدة الأخذِ وسرعتِه ، اللهم إنا نعوذ بك من حلول غضبِك .
قيل : لما رأوا العلاماتِ التي بيّنها صالحٌ من اصفرار وجوهِهم واحمرارِها واسودادِها عمَدوا إلى قتله عليه الصلاة والسلام فنجاه الله تعالى إلى أرض فلسطين ولما كان ضحوةُ اليوم الرابع وهو يوم السبت تحنّطوا وتكفّنوا بالأنطاع فأتتهم الصيحةُ فتقطعت قلوبُهم فهلكوا { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ } أي كأنهم لم يقيموا { فِيهَا } في بلادهم أو في مساكنهم ، وهو في موقع الحالِ أي أصبحوا جاثمين مماثلين لمن لم يوجَدْ ولم يُقِمْ في مقام قطُّ { أَلا إِنَّ ثَمُودَ } وُضع موضعَ الضمير لزيادة البيانِ ، ونوّنه أبو بكرٍ هنا وفي النجم وقرأ حفصٌ هنا وفي الفرقان والعنكبوت بغير تنوين { كَفرُواْ رَبَّهُمْ } صرح بكفرهم مع كونه معلوماً مما سبق من أحوالهم تقبيحاً لحالهم وتعليلاً لاستحقاقهم بالدعاء عليهم بالبعد والهلاكِ في قوله تعالى : { أَلاَ بُعْدًا لّثَمُودَ } وقرأ الكسائي بالتنوين .(3/367)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)
{ وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إبراهيم } وهم الملائكةُ . عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم جبريلُ وملكانِ . وقيل : هم جبريلُ وميكائيلُ وإسرافيلُ عليهم السلام . وقال الضحاك : كانوا تسعةً ، وعن محمد بن كعب جبريلُ ومعه سبعةٌ . وعن السدي أحدَ عشرَ على صور الغلمان الوِضاءِ وجوهُهم . وعن مقاتل كانوا اثني عشر ملَكاً وإنما أسند إليهم مطلقُ المجيءِ بالبشرى دون الإرسالِ لأنهم لم يكونوا مرسَلين إليه عليه السلام بل إلى قوم لوطٍ لقوله تعالى : { إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ } ، وإنما جاؤوه لداعية البُشرى ولما كان المقصودُ في السورة الكريمةِ ذكرَ سوءِ صنيعِ الأممِ السالفةِ مع الرسل المرسلةِ إليهم ولحوقِ العذابِ بهم بسبب ذلك ولم يكن جميعُ قومِ إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام ممن لحق بهم العذابُ بل إنما لحِق بقوم لوطٍ منهم خاصةً غيّر الأسلوبُ المطردُ فيما سبق من قوله تعالى : { وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا } { وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا } ثم رُجع إليه حيث قيل : { وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً } { بالبشرى } أي ملتبسين بها قيل : هي مطلقُ البشرى المنتظمةِ للبشارة بالولد من سارَةَ لقوله تعالى : { فبشرناها بإسحاق } الآية ، وقولِه تعالى : { فبشرناه بغلام حَلِيمٍ } وقوله : { وَبَشَّرُوهُ بغلام عَلَيمٍ } وللبشارة بعدم لحوقِ الضررِ به لقوله تعالى : { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الروع وَجَاءتْهُ البشرى } لظهور تفرّعِ المجادلةِ على مجيئها كما سيأتي وقيل : هي البشارةُ بهلاك قوم لوطٍ ويأباه مجادلتُه عليه الصلاة والسلام في شأنهم ، والأظهرُ أنها البشارةُ بالولد وستعرِف سرَّ تفرُّعِ المجادلةِ على ذلك ولما كان الإخبارُ بمجيئهم بالبشرى مظِنةً لسؤال السامِع بأنهم ما قالوا أجيب بأنهم { قَالُواْ سَلاَماً } أي سلّمنا أو نسلّم عليك سلاماً ويجوز أن يكون نصبُه بقالوا أي قالوا قولاً ذا سلامٍ أو ذكروا سلاماً { قَالَ سلام } أي عليكم سلامٌ أو سلامٌ عليكم حياهم بأحسن من تحيتهم وقرىء سَلِم كحَرِم في حرام ، وقرأ ابن أبي عبلة قال : سلاماً وعنه أنه قرأ بالرفع فيهما { فَمَا لَبِثَ } أي إبراهيم { أَن جَاء بِعِجْلٍ } أي في المجيء به أو ما لبث مجيئَه بعجل { حَنِيذٍ } أي مشويٌّ بالرَّضْف في الأُخدود وقيل : سمين يقطُر وَدَكُه لقوله : بعجل سمين من حنذت الفرس إذا عرقته بالجِلال .
{ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ } لا يُمدون إليه أيديَهم للأكل { نَكِرَهُمْ } أي أنكرهم يقال : نكِرَه وأنكره واستنكره بمعنى ، وإنما أنكرهم لأنهم كانوا إذا نزل بهم ضيفٌ ولم يأكُلْ من طعامهم ظنوا أنه لم يجىء بخير ، وقد روي أنهم كانوا ينكُتون بقداح كانت في أيديهم في اللحم ولا تصل إليه أيديهم وهذا الإنكارُ منه عليه الصلاة والسلام راجعٌ إلى فعلهم المذكور وأما إنكارُه المتعلقُ بأنفسهم فلا تعلقَ له برؤية عدمِ أكلِهم ، وإنما وقع ذلك عند رؤيتِه لهم لعدم كونِهم من جنس ما كان يعهده من الناس ، ألا يُرى إلى قوله تعالى في سورة الذاريات :(3/368)
{ سلام قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } { وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ } أي أحسّ أو أضمَر من جهتهم { خِيفَةً } لما ظُنّ أن نزولَهم لأمر أنكره الله تعالى عليه أو لتعذيب قومِه ، وإنما أُخّر المفعولُ الصريحُ على الظرف ، لأن المرادَ الإخبارُ بأنه عليه الصلاة والسلام أوجس من جهتهم شيئاً هو الخيفةُ لا أنه أوجس الخِيفةَ من جهتهم لا من جهة غيرِهم ، وتحقيقُه أن تأخيرَ ما حقُّه التقديمُ يوجب ترقّبَ النفسِ إليه فيتمكن عند ورودِه عليها فضلُ تمكن { قَالُواْ لاَ تَخَفْ } ما قالوه بمجرد ما رأوا منه مخايلَ الخوفِ إزالةً له منه بل بعد إظهارِه عليه الصلاة والسلام له قال تعالى في سورة الحِجر : { قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ } ولم يُذكر ذلك هاهنا اكتفاءً بذلك { إِنَّا أُرْسِلْنَا } ظاهرُه أنه استئنافٌ في معنى التعليلِ للنهي المذكورِ كما أن قولَه تعالى : { إِنَّا نُبَشّرُكَ } تعليلٌ لذلك فإن إرسالَهم إلى قوم آخرين يوجب أمنَهم من الخوف أي أُرسلنا بالعذاب { إلى قَوْمِ لُوطٍ } خاصةً إلا أنه ليس كذلك فإن قوله تعالى : { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } صريحٌ في أنهم قالوه جواباً عن سؤاله عليه الصلاة والسلام ، وقد أُوجز الكلامُ اكتفاء بذلك .(3/369)
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
{ وامرأته قَائِمَةٌ } وراءَ الستر بحيث تسمع محاورتَهم أو على رؤوسهم للخدمة حسبما هو المعتادُ ، والجملةُ حالٌ من ضمير قالوا أي قالوه وهي قائمةٌ تسمع مقالتَهم { فَضَحِكَتْ } سروراً بزوال الخوفِ أو بهلاك أهلِ الفساد أو بهما جميعاً ، وقيل : بوقوع الأمرِ حسبما كانت تقولُ فيما سلف ، فإنها كانت تقولُ لإبراهيمَ اضمُمْ إليك لوطاً فإني أرى أن العذابَ نازلٌ بهؤلاء القوم ، وقيل : ضحكت حاضَتْ ، ومنه ضحِكت الشجرةُ إذا سال صمغُها وهو بعيد ، وقرىء بفتح الحاء { فبشرناها بإسحاق } أي عقّبنا سرورَها بسرور أتمَّ منه على ألسنة رسلِنا { وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ } بالنصب على أنه مفعولٌ لما دل عليه قولُه : بشرناها أي ووهبنا لها من وراء إسحاقَ يعقوبَ ، وقرىء بالرفع على الابتداء خبرُه الظرف أي من بعد إسحاقَ يعقوبُ مولودٌ أو موجودٌ ، وكلا الاسمين داخلٌ في البشارة كيحيي أو واقعٌ في الحكاية بعد أن وُلدا فسمِّيا بذلك ، وتوجيهُ البِشارة هاهنا إليها مع أن الأصلَ في ذلك إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام وقد وُجِّهت إليه حيث قيل : { فبشرناه بغلام حَلِيمٍ } { وَبَشَّرُوهُ بغلام عَلَيمٍ } للإيذان بأن ما بُشّر به يكون منهما ولكونها عقيمةً حريصةً على الولد .
{ قَالَتْ } استئنافٌ وردَ جواباً عن سؤال مَنْ سأل وقال : فما فعلت إذ بُشِّرت بذلك؟ فقيل : قالت : { ياويلتا } أصلُ الويلِ الخزيُ ثم شاع في كل أمرٍ فظيع ، والألفُ مُبْدلةٌ من ياء الإضافةِ كما في يا لهفا ويا عجَبا ، وقرأ الحسن على الأصل ، وأمالها أبو عمرو ، وعاصمٌ ، في رواية ومعناه يا ويلتي احضُري فهذا أوانُ حضورِك وقيل : هي ألفُ النُّدبةِ ويوقف عليها بهاء السكْت { ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ } بنتُ تسعين أو تسعٍ وتسعين سنةً { وهذا } الذي تشاهدونه { بَعْلِى } أي زوجي ، وأصلُ البعلِ القائمُ بالأمر { شَيْخًا } وكان ابنَ مائةٍ وعشرين سنةً ، ونصبُه على الحال والعاملُ معنى الإشارةِ وقرىء بالرفع على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي هو شيخٌ أو خبرٌ بعد خبرٍ ، أو هو الخبرُ وبعلي بدلٌ من اسمِ الإشارةِ أو بيانٌ له ، وكلتا الجملتين وقعت حالاً من الضمير في أألد لتقرير ما فيه من الاستبعاد وتعليلِه ، أي أألد وكلانا على حالة منافيةٍ لذلك ، وإنما قُدّمت بيانُ حالِها على بيان حالِه عليه الصلاة والسلام لأن مُباينةَ حالِها لما ذُكر من الولادة أكثرُ ، إذ ربما يولد للشيوخ من الشوابِّ ، أما العجائزُ داؤُهن عَقامٌ ولأن البشارةَ متوجهةٌ إليها صريحاً ، ولأن العكسَ في البيان ربما يُوهم من أول الأمر نسبةَ المانِع من الولادة إلى جانب إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام وفيه ما لا يخفى من المحذور ، واقتصارُ الاستبعادِ على ولادتها من غير تعرضٍ لحال النافلةِ لأنها المستبعَد ، وأما ولادةُ ولدِها فلا يتعلق بها استبعادٌ { إِنَّ هَذَا } أي ما ذُكر من حصول الولد من هَرِمَين مثلِنا { لَشَىْء عَجِيبٌ } بالنسبة إلى سنة الله تعالى المسلوكةِ فيما بين عباده ، وهذه الجملةُ لتعليل الاستبعادِ بالنسبة إلى قُدرته سبحانه وتعالى .(3/370)
قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)
{ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله } أي قدرتِه وحكمتِه أو تكوينه أو شأنِه أنكروا عليها تعجيباً من ذلك لأنها كانت ناشئةً في بيت النبوة ومهبِطِ الوحي والآيات ، ومظهَرِ المعجزة والأمورِ الخارقةِ للعادات فكان حقُّها أن تتوقرَ ولا يزدهِيَها ما يزدهي سائرَ النساء من أمثال هذه الخوارقِ من ألطاف الله تعالى الخفيةِ ولطائفِ صنعِه الفائضةِ على كل أحدٍ مما يتعلق بذلك مشيئتُه الأزليةُ لا سيما على أهل بيتِ النبوة الذين ليست مرتبتُهم عند الله سبحانه كمراتب سائرِ الناس وأن تسبحَ الله تعالى وتحمَدَه وتمجِّدَه وإلى ذلك أشاروا بقوله تعالى : { رَّحْمَةِ الله } التي وسِعتْ كلَّ شيءٍ واستتبعت كلَّ خير ، وإنما وُضع المظهرُ موضعَ المضمر لزيادة تشريفِها { وبركاته } أي خيراتُه الناميةُ المتكاثرةُ في كل بابٍ التي من جملتها هبةُ الأولادِ ، وقيل : الرحمةُ النبوةُ والبركاتُ الأسباطُ من بني إسرائيلَ لأن الأنبياءَ منهم وكلُّهم من ولد إبراهيمَ عليهم الصلاة والسلام { عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت } نصبَ على المدح أو الاختصاصِ لأنهم أهلُ بيتِ خليلِ الرحمن ، وصرفُ الخطاب من صيغة الواحدة إلى جمع المذكر لتعميم حكمِه لإبراهيمَ عليه الصلاة والسلام أيضاً ليكون جوابُهم لها جواباً له أيضاً إن خطر بباله مثلُ ما خطر ببالها ، والجملة كلامٌ مستأنَفٌ عُلّل به إنكارُ تعجُّبها كأنه قيل : ليس المقامُ مقامَ التعجيبِ فإن الله تعالى على كل شيء قديرٌ ولستم يا أهل بيتِ النبوةِ والكرامةِ والزلفى كسائر الطوائفِ بل رحمتُه المستتبِعةُ لكل خيرٍ الواسعةُ لكل شيء ، وبركاتُه أي خيراتُه الناميةُ الفائضةُ منه بواسطة تلك الرحمةِ الواسعةِ لازمةٌ لكم لا تفارقكم { إِنَّهُ حَمِيدٌ } فاعلٌ ما يستوجب الحمدَ { مَّجِيدٌ } كثيرُ الخير والإحسان إلى عباده . والجملةُ لتعليل ما سبق من قوله : { قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ }
{ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الروع } أي ما أوجس منهم من الخِيفه واطمأن قلبُه بعِرفانهم وعرفانِ سببِ مجيئِهم ، والفاءُ لربط بعض أحوالِ إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام ببعضٍ غِبَّ انفصالِها بما ليس بأجنبي من كل وجهٍ بل له مدخلٌ تامٌّ في السباق والسياق ، وتأخيرُ الفاعلِ عن الظرف لأنه مصبُّ الفائدةِ ، فإن بتأخير ما حقُّه التقديمُ تبقى النفسُ منتظرةً إلى وروده فيتمكن فيها عند ورودِه إليها فضلُ تمكّنٍ { وَجَاءتْهُ البشرى } إن فُسِّرت البُشرى بقولهم : لا تخف فسببيّهُ ذهابِ الخوفِ ومجيءِ السرور للمجادلة المدلولِ عليها بقوله تعالى : { يجادلنا فِى قَوْمِ لُوطٍ } أي جادل رسلَنا في شأنهم . وعُدل إلى صيغة الاستقبالِ لاستحضار صورتِها أو طفِقَ يجادلنا ظاهرةٌ ، وأما إن فُسّرت ببشاره الولدِ أو بما يعُمها فلعل سببيّتَها لها من حيث إنها تفيد زيادةَ اطمئنانِ قلبه بسلامته وسلامةِ أهلهِ كافةً ، ومجادلتُه إياهم أنه قال لهم حين قالوا له : إنا مُهلكو أهلِ هذه القريةِ : أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلاً من المؤمنين أتُهلكونها؟ قالوا : لا ، قال : فأربعون؟ قالوا : لا ، فثلاثون؟ قالوا : لا ، حتى بلغ العشرةَ قالوا : لا ، قال : أرأيتم إن كان فيها رجلٌ مسلمٌ أتهلكونها؟ قالوا : لا ، فعند ذلك قال : إن فيها لوطاً قالوا : نحن أعلمُ بمن فيها لنُنجِّينه وأهلَه .(3/371)
إن قيل : المتبادرُ من هذا الكلامِ أن يكون إبراهيمُ عليه السلام قد علِم أنهم مرسَلون لإهلاك قومِ لوطٍ قبل ذهابِ الرَّوع عن نفسه ولكن لم يقدِر على مجادلتهم في شأنهم لاشتغاله بشأن نفسِه فلما ذهب عنه الروعُ فرَغ لها مع أن ذهابَ الروعِ إنما هو قبل العِلم بذلك لقوله تعالى : { قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ } قلنا : كان لوطٌ عليه السلام على شريعة إبراهيمَ عليه السلام وقومُه مكلّفين بها فلما رأى من الملائكة ما رأى خاف على نفسه وعلى كافة أمتِه التي من جملتهم قومُ لوط ، ولا ريب في تقدم هذا الخوفِ على قولهم : لا تخف ، وأما الذي علمه عليه السلام بعد النهي عن الخوف فهو اختصاصُ قومِ لوطٍ بالهلاك لا دخولُهم تحت العموم فتأملْ والله الموفق .(3/372)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
{ إِنَّ إبراهيم لَحَلِيمٌ } غيرُ عَجولٍ على الانتقام ممن أساء إليه { أَوَّاهٌ } كثيرُ التأوّه على الذنوب والتأسفِ على الناس { مُّنِيبٌ } راجعٌ إلى الله تعالى والمقصودُ بتعداد صفاتِه الجميلةِ المذكورةِ بيانُ ما حَمله عليه السلام على ما صدر عنه من المجادلة .
{ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } أي قالت الملائكةُ : يا إبراهيمُ { أَعْرِضْ عَنْ هذا } الجدالِ { إِنَّهُ } أي الشأنَ { قَدْ جَاء أَمْرُ رَبّكَ } أي قَدَرُه الجاري على وفق قضائِه الأزليِّ الذي هو عبارةٌ عن الإرادة الأزليةِ والعنايةِ الإلهية المقتضيةِ لنظام الموجوداتِ على ترتيب خاصَ حسب تعلُّقِها بالأشياء في أوقاتها ، وهو المعبّر عنه بالقدر { وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } لا بجدال ولا بدعاء ولا بغيرهما . { وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً } قال ابن عباس رضي الله عنهما : انطلَقوا من عند إبراهيمَ عليه السلام إلى لوط عليه السلام وبين القريتين أربعةُ فراسخَ ودخلوا عليه في صور غِلمانٍ مُرْدٍ حسانِ الوجوه فلذلك { سِىء بِهِمْ } أي ساءه مجيئُهم لظنه أنهم أناسٌ فخاف أن يقصِدهم قومُه ويعجِزَ عن مدافعتهم ، وقرأ نافعٌ وابن عامر ، والكسائي وأبو عمرو : سيء وسيئت بإشمام السينِ الضمَّ . روي أن الله تعالى قال للملائكة : «لا تُهلكوهم حتى يشهد عليهم لوطٌ أربعَ شهادات» فلما مشى معهم منطلقاً بهم إلى منزله قال لهم : أما بلغكم أمرُ هذه القريةِ؟ قالوا : وما أمرُها؟ قال : أشهد بالله إنها لشرُّ قريةٍ في الأرض عملاً ، يقول ذلك أربعَ مراتٍ فدخلوا معه منزلَه ولم يعلم بذلك أحدٌ فخرجت امرأتُه فأخبرت به قومَها وقالت : إن في بيت لوطٍ رجالاً ما رأيتُ مثلَ وجوهِهم قط { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا } أي ضاق بمكانهم صدرُه أو قلبُه أو وسعُه وطاقتُه وهو كنايةٌ عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروهِ والاحتيال فيه ، وقيل : ضاقت نفسُه عن هذا الحادثِ ، وذِكرُ الذرعِ مثلٌ وهو المساحة ، وكأنه قدْرُ البدنِ مجازاً أي إن بدنَه ضاق قدرُه من احتمال ما وقع ، وقيل : الذراعُ اسمٌ للجارحة من المِرْفق إلى الأنامل ، والذرْعُ مدُّها ، ومعنى ضيقِ الذرع في قوله تعالى : { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا } قصرُها كما أن معنى سعتِها وبسطتها طولُها ، ووجهُ التمثيلِ بذلك أن القصيرَ الذراعِ إذا مدها ليتناول ما يتناول الطويلُ الذراعِ تقاصر عنه وعجِز عن تعاطيه ، فضُرب مثلاً للذي قصُرت طاقتُه دون بلوغِ الأمر { وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ } شديدٌ ، من عصَبه إذا شدّه .(3/373)
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
{ وَجَاءهُ } أي لوطاً وهو في بيته مع أضيافه { قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ } أي يسرعون كأنما يُدفعون دفعاً لطلب الفاحشة من أضيافه ، والجملةُ حالٌ من قومه وكذا قوله تعالى : { وَمِن قَبْلُ } أي من قبلِ هذا الوقت { كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات } أي جاءوا مسرعين والحال أنهم كانوا منهمكين في علم السيئات فضَرُوا بها وتمرّنوا فيها حتى لم يبقَ عندهم قباحتُها ولذلك لم يستحيُوا مما فعلوا من مجيئهم مهرِعين مجاهرين { قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } فتزوّجُوهن وكانوا يطلُبونهن من قبلُ ولا يُجيبهم لخبثهم وعدمِ كفاءتِهم لا لعدم مشروعيتِه فإن تزويجَ المسلماتِ من الكفار كان جائزاً وقد زوج النبيُّ عليه الصلاة والسلام ابنتيه من عُتبةَ بنِ أبي لهبٍ ، وأبي العاص بنِ الربيع قبل الوحي وهما كافران ، وقيل : كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجَهما ابنتيه وأيا ما كان فقد أراد به وقايةَ ضيفِه وذلك غايةُ الكرم ، وقيل : ما كان ذلك القولُ منه مُجرًى على الحقيقة من إرادة النكاحِ بل كان ذلك مبالغةً في التواضع لهم وإظهاراً لشدة امتعاضِه مما أرادوه عليه طمعاً في أن يستحيوا منه ويرِقّوا له إذا سمعوا ذلك فينزجروا عما أقدموا عليه مع ظهور الأمر واستقرارِ العلم عنده وعندهم بأن لا مناكحةَ بينهم وهو الأنسبُ بقولهم : لقد علمتَ ما لنا في بناتك من حق كما ستقف عليه { فاتقوا الله } بترك الفواحش أو بإيثارهن عليهم { وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى } أي لا تفضحوني في شأنهم فإن إخزاءَ ضيفِ الرجل وجارِه إخزاءٌ له أو لا تخجلوني من الخَزاية وهي الحياء { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } يهتدي إلى الحق الصريح ويرعوي عن الباطل القبيح .
{ قَالُواْ } معرضين عما نصحهم به من الأمر بتقوى الله والنهي عن إخزائه مجيبين عن أول كلامه { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ } مستشهدين بعلمه بذلك يعنون إنك قد علمتَ ألا سبيلَ إلى المناكحة بيننا وبينك وما عرْضُك إلا عرضٌ سابرِيّ ولا مطمعَ لنا في ذلك { وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } من إتيان الذُكرانِ ، ولما يئس عليه السلام من ارعوائهم عما هم عليه من الغي { قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً } أي لفعلتُ بكم ما فعلت وصنعتُ ما صنعت كقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الارض أَوْ كُلّمَ بِهِ الموتى } { أَوْ اوِى إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ } عطفٌ على أن لي بكم إلى آخره لما فيه من معنى الفعلِ أي لو قوِيتُ على دفعكم بنفسي أو أويت إلى ناصر عزيزٍ قويّ أتمنّع به عنكم ، شَبّهه بركن الجبل في الشدة والمنعة . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : « رحِم الله أخي لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد » روي أنه عليه السلام أغلق بابَه دون أضيافِه وأخذ يجادلهم من وراء الباب فتسوّروا الجدارَ فلما رأت الملائكةُ ما على لوط من الكرب .(3/374)
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
{ قَالُواْ } أي الرسل لمّا شاهدوا عجزَه عن مدافعة قومِه { يالوط إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ } بضرر ولا مكروهٍ فافتح الباب ودعنا وإياهم ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريلُ عليه السلام ربَّه ربَّ العزة جل جلاله في عقوبتهم فأذِن له فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحَه وله جناحان وعليه وشاح من دُرّ منظوم وهو برّاقُ الثنايا فضرب بجناحه وجوهَهم فطمَس أعينَهم وأعماهم كما قال عز وعلا : { فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ } فصاروا لا يعرِفون الطريق فخرجوا وهم يقولون : النجاءَ فإن في بيت لوطٍ قوماً سحَرة { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ } بالقطع ، من الإسراء ، وقرأ ابن كثير ، ونافع ، بالوصل حيث جاء في القرآن من السُّرى ، والفاءُ لترتيب الأمر بالإسراءِ على الإخبار برسالتهم المؤذنِة بورود الأمرِ والنهي من جنابه عز وجل إليه عليه السلام { بِقِطْعٍ مّنَ اليل } في طائفة منه .
{ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ } أي لا يتخلفْ أو لا ينظُرْ إلى ورائه { أَحَدٌ } منك ومن أهلك ، وإنما نُهوا عن ذلك ليجدّوا في السير فإن من يلتفتُ إلى ما وراءه لا يخلو عن أدنى وقفةٍ أو لئلا ترَوا ما ينزل من العذاب فترِقّوا لهم { إِلاَّ امرأتك } استثناءٌ من قوله تعالى : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ } ويؤيده أنه قرىء فأسرِ بأهلك بِقطْع من الليل إلا امرأتَك ، وقرىء بالرفع على البدل من أحدٌ ، فالالتفاتُ بمعنى التخلف ، لا بمعنى النظر إلى الخَلف كيلا يلزمَ التناقضُ بين القراءتين المتواترتين فإن النصبَ يقتضي كونَه عليه السلام غيرَ مأمورٍ بالإسراء بها ، والرفعَ كونَه مأموراً بذلك ، والاعتذارُ بأن مقتضى الرفعِ إنما هو مجردُ كونِها معهم وذلك لا يستدعي الأمرَ بالإسراء بها حتى يلزمَ المناقضةَ لجواز أن تسريَ هي بنفسها كما يُرى أنه عليه السلام لما أَسْرى بأهله تبِعَتْهم فلما سمعت هدّة العذابِ التفتت وقالت : يا قوماه فأدركها حجرٌ فقتلها وأن يسرِيَ بها عليه السلام من غير أمرٍ بذلك إذ موجبُ النصبِ إنما هو عدمُ الأمر بالإسراء بها لا النهيُ عن الإسراء بها حتى يكونَ عليه السلام بالإسراء بها مخالفاً للنهي لا يجدي نفعاً لأن انصرافَ الاستثناءِ إلى الالتفات يستدعي بقاءَ الأهل على العموم فيكون الإسراءُ بها مأموراً به قطعاً ، وفي حمل الأهليةِ في إحدى القراءتين على الأهلية الدينية وفي الأخرى على النسَبية مع أن فيه ما لا يخفى من التحكم والاعتساف كرٌّ على ما فُرّ منه من المناقضة ، فالأَولى حينئذ جعلُ الاستثناءِ على القراءتين من قوله : { لا يَلْتَفِتْ } مثلَ الذي في قوله تعالى : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ } فإن ابنَ عامر قرأه بالنصب وإن كان الأفصحَ الرفعُ على البدل ، ولا بُعد في كون أكثرِ القراءِ على غير الأفصح ولا يلزم من ذلك أمرُها بالالتفات بل عدمُ نهيِها عنه بطريق الاستصلاح ولذلك علله على طريقة الاستئنافِ بقوله : { إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ } من العذاب ، وهو إمطارُ الأحجار وإن لم يصبْها الخسفُ ، والضميرُ في إنه للشأن وقوله تعالى : { مُصِيبُهَا } خبرٌ وقوله : { مَا أصابهم } مبتدأٌ والجملةُ خبرٌ لإن الذي اسمُه ضميرُ الشأنِ ، وفيه ما لا يخفى من تفخيم شأنِ ما أصابهم ، ولا يحسُن جعلُ الاستثناءِ منقطعاً على قراءة الرفع .(3/375)
{ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح } أي موعدَ عذابِهم وهلاكهم ، تعليلٌ للأمر بالإسراء والنهيِ عن الالتفات المُشعرِ بالحث على الإسراع { أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ } تأكيد للتعليل فإن قربَ الصبح داعٍ إلى الإسراع في الإسراء للتباعد عن مواقع العذاب ، وروي أنه قال للملائكة : متى موعدُ هلاكِهم؟ قالوا : الصبحُ ، قال : أريد أسرعَ من ذلك فقالوا ذلك . وإنما جُعل ميقاتُ هلاكِهم الصبحَ لأنه وقتُ الدعةِ والراحةِ فيكون حلولُ العذاب حينئذ أفظعَ ولأنه أنسبُ بكون ذلك عبرةً للناظرين .(3/376)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
{ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا } أي وقتُ عذابِنا وموعدُه وهو الصبح { جَعَلْنَا عاليها } أي عاليَ قُرى قومِ لوطٍ وهي التي عبّر عنها بالمؤتفكات ، وهي خمسُ مدائنَ فيها أربعُمائةِ ألفِ ألفٍ { سَافِلَهَا } أي قلبناها على تلك الهيئةِ وجُعل عالِيها مفعولاً أولَ للجعل وسافلَها مفعولاً ثانياً له وإن تحقق القلبُ بالعكس أيضاً لتهويل الأمرِ وتفظيعِ الخطبِ لأن جعلَ عالِيها الذي هو مَقارُّهم ومساكنُهم سافلَها أشدُّ عليهم وأشقُّ من جعل سافِلها عاليَها وإن كان مستلزِماً له . روي أنه جعلَ جبريلُ عليه السلام جناحَه في أسفلها ثم رفعها إلى السماء حتى سمع أهلُ السماء نُباحَ الكلاب وصياحَ الديَكةِ ثم قلبها عليهم ، وإسنادُ الجعلِ والإمطار إلى ضميره سبحانه باعتبار أنه المسبّبُ لتفخيم الأمرِ وتهويلِ الخطب { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا } على أهل المدائنِ أو شُذّاذهم { حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ } من طين متحجّر كقوله : { حِجَارَةً مّن طِينٍ } وأصله سنك كل فعُرّب وقيل : هو من أسْجله إذا أرسله أو أدرّ عطيتَه والمعنى : منْ مثْلِ الشيءِ المرسَل أو مثلَ العطيةِ في الإدرار أو من السِّجِلّ أي مما كتب الله تعالى أن يعذبهم به ، وقيل : أصله من سِجّينٍ أي من جهنم فأبدلت نونه لاماً { مَّنْضُودٍ } نُضِد في السماء نضْداً معدًّا للعذاب ، وقيل : يُرسَل بعضُه إثرَ بعضٍ كقِطار الأمطار { مُّسَوَّمَةً } مُعْلمةً للعذاب . وقيل : معلمةً ببياض وحُمرة أو بسِيما تتميز به عن حجارة الأرض أو باسم مَنْ ترمى به { عِندَ رَبّكَ } في خزائنه التي لا يتصرّف فيها غيرُه عز وجل { وَمَا هِىَ } أي الحجارةُ الموصوفة { مِنَ الظالمين } من كل ظالمٍ { بِبَعِيدٍ } فإنهم بسبب ظلمِهم مستحقون لها وملابَسون بها ، وفيه وعيدٌ شديد لأهل الظلمِ كافةً . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريلَ عليه السلام فقال : يعني ظالمي أمتِك ما من ظالم منهم إلا وهو بمعرض حجرٍ يسقط عليه من ساعة إلى ساعة . وقيل : الضميرُ للقُرى أي هي قريبةُ من ظالمي مكةَ يمرّون بها في مسايرهم وأسفارِهم إلى الشام ، وتذكيرُ البعيدِ على تأويل الحجارة بالحجر أو إجرائه على موصوف مذكّرٍ أي بشي بعيد أو بمكان بعيد فإنها وإن كانت في السماء وهي في غاية البُعد من الأرض إلا أنها حين هَوَت منها فهي أسرعُ شيء لحُوقاً بهم فكأنها بمكان قريبٍ منهم . أو لأنه على زِنة المَصْدرِ كالزفير والصهيل والمصادر يستوي في الوصف بها المذكرُ والمؤنث .(3/377)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)
{ إلى مَدْيَنَ } أي أولاد مدينَ بنِ إبراهيم عليه السلام أو جعل اسماً للقبيلة بالغلبة أو أهلِ مدينَ وهو بلدٌ بناه مدينُ فسُمّي باسمه { أخاهم } أي نسيبَهم { شُعَيْبًا } وهو ابن ميكيلَ بنِ يشجُرَ بنِ مدينَ وكان يقال له خطيبُ الأنبياءِ لحسن مراجعتِه قومَه ، والجملةُ معطوفةٌ على قوله تعالى : { إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا } أي وأرسلنا إلى مدينَ أخاهم شعيباً { قَالَ } استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال نشأ عن صدر الكلام فكأنه قيل : فماذا قال لهم؟ فقيل : قال كما قال مَنْ قبله من الرسل عليهم السلام { يَا قَومِ اعبدوا الله } وحدَه ولا تشركوا به شيئاً { مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ } تحقيقٌ للتوحيد وتعليلٌ للأمر به وبعد ما أمرهم بما هو مَلاكُ أمر الدينِ وأولُ ما يجب على المكلّفين نهاهم عن ترتيب مبادىءِ ما اعتادوه من البَخْس والتطفيف عادةً مستمرةً فقال : { وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان } كي تتوسلوا بذلك إلى بخس حقوقِ الناس { إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } أي ملتبسين بثروة واسعةٍ تُغنيكم عن ذلك أو بنعمة من الله تعالى حقها أن تقابل بغير ما تأتونه من المسامحة والتفضل على الناس شكراً عليها أو أراكم بخير فلا تُزيلوه بما أنتم عليه من الشر على كل حال ، علةٌ للنهي عُقّبت بعلة أخرى أعني قولَه عز وجل : { وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ } إن لم تنتهوا عن ذلك { عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } لا يشِذّ منه شاذٌّ منكم ، وقيل : عذابَ يومٍ مُهلك من قوله تعالى : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } وأصلُه من إحاطة العدو ، والمرادُ عذابُ يومِ القيامة أو عذابُ الاستئصالِ ، ووصفُ اليومِ بالإحاطة وهي حالُ العذاب على الإسناد المجازيِّ وفيه من المبالغة ما لا يخفى ، فإن اليومَ زمانٌ يشتمل على ما وقع فيه من الحوادث فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذَّب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه ، ويجوز أن يكون هذا تعليلاً للأمر والنهي جميعاً { وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط } أي بالعدل من غير زيادةٍ ولا نقصانٍ فإن الزيادةَ في الكيل والوزنِ وإن كان تفضّلاً مندوباً إليه لكنها في الآلة محظورةٌ كالنقص ، فلعل الزائدَ للاستعمال عند الاكتيالِ والناقصَ للاستعمال وقت الكيل ، وإنما أُمر بتسويتهما وتعديلِهما صريحاً بعد النهي عن نقصهما مبالغةً في الحمل على الإيفاء والمنعِ من البخس وتنبيهاً على أنه لا يكفيهم مجردُ الكفِّ عن النقص والبخسِ بل يجب عليهم إصلاحُ ما أفسدوه وجعلوه معياراً لظلمهم وقانوناً لعدوانهم { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس } بسبب نقصِهما وعدم اعتدالِهما { أَشْيَاءهُمْ } التي يشترونها بهما ، وقد صرّح بالنهي عن البخس بعد ما عُلم ذلك في ضمن النهي عن نقص المعيار والأمرِ بإيفائه اهتماماً بشأنه وترغيباً في إيفاء الحقوقِ بعد الترهيبِ والزجر عن نقصها ، ويجوز أن يكون المرادُ بالأمر بإيفاء المكيالِ والميزان الأمرَ بإيفاء المَكيلاتِ والموزوناتِ ، ويكونُ النهيُ عن البخس عاماً للنقص في المقدار وغيره تعميماً بعد التخصيص كما في قوله تعالى : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الارض مُفْسِدِينَ } فإن العَثَى يعم نقصَ الحقوقِ وغيرَه من أنواع الفسادِ ، وقيل : البخسُ المكسُ كأخذ العشورِ في المعاملات . قال زهير بن أبي سلمى :
أفي كل أسواقِ العراقِ إتاوة ... وفي كل ما باع امرؤٌ مَكْسُ دِرهمِ
والعثى في الأرض السرقةُ وقطعُ الطريق والغارةُ ، وفائدةُ الحال إخراجُ ما يُقصد به الإصلاحُ كما فعله الخضرُ عليه السلام من خرق السفينةِ وقتلِ الغلام ، وقيل : معناه ولا تعثَوا في الأرض مفسدين أمْرَ آخرتِكم ومصالحَ دينكم .(3/378)
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
{ بَقِيَّتُ الله } أي ما أبقاه لكم من الحلال بعد التنزّةِ عن تعاطي المحرمات { خَيْرٌ لَّكُمْ } مما تجمعون بالبخس والتطفيفِ فإن ذلك هباءٌ منثور بل شرٌّ محض وإن زعمتم أن فيه خيراً كقوله تعالى : { يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِى الصدقات } { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } بشرط أن تؤمنوا فإن خيريّتَها باستتباع الثوابِ مع النجاة ، وذلك مشروطٌ بالإيمان لا محالة أو إن كنتم مصدقين لي في مقالتي لكم ، وقيل : الطاعاتُ كقوله عز وجل : { والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ } وقرىء تقيةُ الله بالفوقانية وهي تقواه عن المعاصي { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أحفظكم من القبائح أو أحفظ عليكم أعمالَكم فأجازيَكم وإنما أنا ناصحٌ مبلِّغٌ وقد أعذرتُ إذ أنذرتُ ولم آلُ في ذلك جهداً أو ما أنا بحافظ ومستبْقٍ عليكم نِعمَ الله تعالى إن لم تتركوا ما أنتم عليه من سوء الصنيع .
{ قَالُواْ ياشعيب أصلواتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا } من الأوثان أجابوا بذلك أمرَه عليه السلام إياهم بعبادة الله وحدَه المتضمنَ لنهيهم عن عبادة الأصنامِ ولقد بالغوا في ذلك وبلغوا أقصى مراتبِ الخلاعة والمُجون والضلال حيث لم يكتفوا بإنكار الوحي الآمرِ بذلك حتى ادّعَوا أن لا أمرَ به من العقل واللُّب أصلاً وأنه من أحكام الوسوسةِ والجنون ، وعلى ذلك بنوا استفهامَهم وقالوا بطريق الاستهزاءِ : أصلاتُك التي هي من نتائج الوسوسةِ وأفاعيلِ المجانين تأمُرك بأن نترك عبادةَ الأوثانِ التي توارَثْناها أباً عن جد؟ وإنما جعلوه عليه السلام مأموراً مع أن الصادرَ عنه إنما هو الأمرُ بعبادة الله وغيرُ ذلك من الشرائع ، لأنه عليه السلام لم يكن يأمرهم بذلك من تلقاء نفسه بل من جهة الوحي وأنه كان يعلمهم بأنه مأمورٌ بتبليغه إليهم ، وتخصيصُهم بإسناد الأمر إلى الصلاة من بين سائر أحكامِ النبوة لأنه عليه الصلاة والسلام كان كثيرَ الصلاةِ معروفاً بذلك ، وكانوا إذا رأوه يصلي يتغامزون ويتضاحكون فكانت هي من بين سائر شعائرِ الدينِ ضِحْكةً لهم وقرىء أصلواتُك { أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِى أَمْوَالِنَا مَا نَشَآء } جوابٌ عن أمره عليه السلام بإيفاء الحقوقِ ونهيِه عن البخس والنقصِ معطوفٌ على ما ، أي أو أن نتركَ أن نفعلَ في أموالنا ما نشاء من الأخذ والإعطاءِ والزيادةِ والنقصِ ، وقرىء بالتاء في الفعلين عطفاً على مفعول تأمُرك أي أصلاتك تأمرك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء ، وتجويزُ العطفِ على ما قيل يستدعي أن يراد بالترك معنيان متخالفان ، والمرادُ بفعله عليه السلام إيحابُ الإيفاءِ والعدلِ في معاملاتهم لا نفسُ الأيفاء ، فإن ذلك ليس من أفعاله عليه السلام بل من أفعالهم ، وإنما لم نقُلْ عطفاً على أن نترُك لأن الترك ليس مأموراً به على الحقيقة ، بل المأمورُ به تكليفُه عليه السلام إياهم وأمرُه بذلك ، والمعنى أصلاتُك تأمرُك أن تكلِّفَنا أن نترك ما يعبدُ آباؤُنا ، وحملُه على معنى أصلاتُك تأمرك بما ليس في وُسعك وعُهدتك من أفاعيل غيرِك ليكون ذلك تعريضاً منهم بركاكة رأيِه عليه السلام واستهزاءً به من تلك الجهةِ يأباه دخولُ الهمزةِ على الصلاة دون الأمرِ ويستدعي أن يصدُر عنه عليه السلام في أثناء الدعوةِ ما يدل على ذلك أو يوهمه وأبى ذلك فتأمل .(3/379)
وقرىء بالنون في الأول والتاء في الثاني عطفاً على أن نترك أي أو أن نفعل نحن في أموالنا عند المعاملةِ ما تشاء أنت من التسوية والإيفاء
{ إِنَّكَ لاَنتَ الحليم الرشيد } وصفوه عليه السلام بالوصفين على طريقة التهكم ، وإنما أرادوا بذلك وصفَه بضدّيهما كقول الخزَنة : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } ويجوز أن يكون تعليلاً لما سبق من استبعاد ما ذكروه على معنى إنك لأنت الحليمُ الرشيد على زعمك ، وأما وصفُه بهما على الحقيقة فيأباه مقامُ الاستهزاء ، اللهم إلا أن يُراد بالصلاة الدينُ كما قيل .(3/380)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ } أي حجة واضحةٍ وبرهانٍ نيِّر ، عبّر عما آتاه الله تعالى من النبوة والحكمة رداً على مقالتهم الشنعاءِ في جعلهم أمرَه ونهيَه غيرَ مستندٍ إلى سند { مّن رَّبّى } ومالكِ أموري ، وإيرادُ حرفِ الشرط مع جزمه عليه السلام بكونه على ما هو عليه من البينات والحججِ لاعتبار حال المخاطَبين ومراعاةِ حُسنِ المحاورةِ معهم كما ذكرناه في نظائره { وَرَزَقَنِى مِنْهُ } أي من لديه { رِزْقًا حَسَنًا } هو النبوةُ والحِكمةُ أيضاً عبّر عنهما بذلك تنبيهاً على أنهما مع كونهما بينةً رزقٌ حسنٌ ، كيف لا وذلك مناطُ الحياةِ الأبديةِ له ولأمته ، وجوابُ الشرط محذوفٌ يدل عليه فحوى الكلامِ أي أتقولون والمعنى إنكم نظمتموني في سلك السفهاءِ والغُواةِ وعددتم ما صدر عني من الأوامر والنواهي من قبيل ما لا يصِح أن يتفوّه به عاقل وجعلتموه من أحكام الوسوسةِ والجنون واستهزأتم بي وبأفعالي حتى قلتم إن أمرتُكم به من التوحيد وتركِ عبادة الأصنامِ والاجتنابِ عن البخس والتطفيفِ ليس مما يأمر به آمرُ العقلِ ويقضي به قاضي الفِطنة ، وإنما تأمُر به صلاتُك التي هي من أحكام الوسوسةِ والجنون فأخبروني إن كنت من جهة ربي ومالكِ أمورِي ثابتاً على النبوة والحِكمةِ التي ليس وراءَها غايةٌ للكمال ولا مطمَحٌ لطامح ورزقني بذلك رزقاً حسناً أتقولون في شأني وشأنِ أفعالي ما تقولون مما لا خيرَ فيه ولا شرَّ وراءه هذا هو الجوابُ الذي يستدعيه السباقُ والسياقُ ويساعده النظمُ الكريمُ .
وأما ما قيل من أن المحذوفَ أيصِحّ لي أن لا آمرَكم بترك عبادةِ الأوثانِ والكفِّ عن المعاصي ، أو أهل يسعْ لي مع هذا الإنعام الجامعِ للسعادات الروحانيةِ والجُسمانية أن أخونَ في وحيه وأخالفَه في أمره ونهيِه فبمعزل من ذلك ، وإنما يناسب تقديرُه إن حمل كلامُهم على الحقيقة وأريد بالصلاة الدينُ على معنى : أدينُك يأمرُك أن تكلفنا بترك عبادةِ آلهتِنا القديمة وتركِ التصرّفِ المطلق في أموالنا وتخالفنا في ذلك وتشُقَّ عصانا ، وهذا مما لا ينبغي أن يصدُر عنك فإنك أنت المشهورُ بالحلم الفاضلِ والرشدِ الكاملِ فيما بيننا كما كان قولُ قومِ صالح { قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هذا } مسروداً على ذلك النمطِ فأُجيبوا بما أجيبوا به ، وعلى هذا الوجهِ يكون المرادُ بالرزق الحسنِ الحلالَ الذي آتاه الله تعالى ، والمعنى حينئذ أخبروني إن كنت نبياً من عند الله تعالى ورزقني مالاً حلالاً أستغني به عن العالمين أيصِحّ أن أخالف أمرَه وأوافقَكم فيما تأتون وما تذرون .
{ وَمَا أُرِيدُ } بنهيي إياكم عما أنهاكم عنه من البخس والتطفيف { أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ } أي أقصِدَه بعد ما ولَّيتم عنه وأستبِدَّ به دونكم .(3/381)
يقال : خالفت زيداً إلى كذا إذا قصدتُه وهو مولَ عنه وخالفتُه عن كذا إذا كان الأمرُ على العكس { إِنْ أُرِيدُ } بما أباشره من الأمر والنهي { إِلاَّ الإصلاح } إلا أن أُصلِحَكم بالنصيحة والموعظة { مَا استطعت } أي مقدارَ ما استطعتُه من الإصلاح ، والتقييدُ به للاحتراز عن الاكتفاء بالإصلاح في الجملة لا عن إرادة ما ليس في وُسعه منه { وَمَا تَوْفِيقِى } أي كوني موفقاً لتحقيق ما أنتحيه من إصلاحكم { إِلاَّ بالله } أي بتأييده ومعونتِه بل الإصلاحُ من حيث الخلقُ مستندٌ إليه سبحانه وإنما أنا من مباديه الظاهرةِ قاله عليه السلام تحقيقاً للحق وإزاحةً لما عسى يوهمه إسنادُ الاستطاعةِ إليه بإرادته من استبداده بذلك { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } في ذلك مُعرِضاً عما عداه فإنه القادرُ على كل مقدورٍ وما عداه عاجزٌ محْضٌ في حد ذاتِه بل معدومٌ ساقطٌ عن درجة الاعتبار بمعزل عن مرتبة الاستمدادِ به والاستظهار { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي أرجِعُ فيما أنا بصدده ، ويجوز أن يكون المرادُ وما كوني موفقاً لإصابة الحقِّ والصوابِ في كل ما آتي وأذر إلا بهدايته ومعونتِه عليه توكلتُ ، وهو إشارةٌ إلى محض التوحيدِ الذاتي والفعليِّ وإليه أنيب ، أي عليه أقبل بشراشِر نفسي في مجامع أموري . وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ على الماضي الأنسبِ للتقرر والتحقّقِ كما في التوكل لاستحضار الصورةِ والدلالةِ على الاستمرار ، ولا يخفى ما في جوابه عليه السلام من مراعاة لطفِ المراجعةِ ورِفق الاستنزالِ والمحافظةِ على قواعد حسنِ المجاراة والمحاورَة وتمهيدِ معاقدِ الحقِّ بطلب التوفيقِ من جناب الله تعالى والاستعانةِ في أموره ، وحسمِ أطماعِ الكفار وإظهار الفراغِ عنهم وعدمِ المبالاة بمعاداتهم ، وأما تهديدُهم بالرجوع إلى الله تعالى للجزاء كما قيل فلا لأن الإنابةَ إنما هي الرجوعُ الاختياريُّ بالفعل إلى الله تعالى لا الرجوعُ الاضطراريُّ للجزاء أو ما يعمه .(3/382)
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
{ وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } أي لا يَكسِبنّكم ، من جرَمتُه ذنباً مثلُ كسبته مالاً { شِقَاقِى } معاداتي وأصلُهما أن أحد المتعادِيَين يكون في عُدوةٍ وشقَ والآخرُ في آخرَ { أَن يُصِيبَكُمُ } مفعولٌ ثانٍ ليجرمنكم أي لا تكسِبْكم معاداتُكم لي أن يصيبكم { مّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ } من الغرق { أَوْ قَوْمَ هُودٍ } من الريح { أَوْ قَوْمَ صالح } من الصيحة والرجفةِ ، وقرأ ابن كثير بضم الياء من أجرمتُه ذنباً إذا جعلته جارِماً له أي كاسباً وهو منقول من جرم المتعدي إلى مفعول واحد كما نقل أكسبه المالَ من كسب المالَ فكما لا فرق بين كسبته مالاً وأكسبته إياه لا فرق جرَمته ذنباً وأجرمتُه إياه في المعنى ، إلا أن الأولَ أصحُ وأدور على ألسنة الفصحاءِ وقرأ أبو حيوة مثلَ ما أصاب بالفتح لإضافته إلى غير متمكن كقوله :
لم يمنع الشربَ منها غير أن نطَقت ... حمامةٌ في غصون ذاتُ أوقالِ
وهذا وإن كان بحسب الظاهرِ نهياً للشقاق عن كسب إصابةِ العذابِ لكنه في الحقيقة نهيٌ للكفرة عن مشاقّته عليه السلام على ألطف أسلوبٍ وأبدعِه كما مر في سورة المائدة عند قوله تعالى : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ } الآية { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ } زماناً أو مكاناً ، فإن لم تعتبروا بمن قبلَهم من الأمم المعدودةِ فاعتبروا بهم ، فكأنه إنما غير أسلوبَ التحذيرِ بهم ولم يصرِّح بما أصابهم بل اكتفى بذكر قربِهم إيذاناً بأن ذلك مغنٍ عن ذكره لشهرة كونِه منظوماً في سِمْطِ ما ذُكر من دواهي الأممِ المرقومة أو ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمعاصي فلا يبعُد أن يُصيبَكم مثلُ ما أصابكم ، وإفرادُ البعيدِ مع تذكيره لأن المراد وما إهلاكُهم على نية المضافِ أو وما هم بشيء بعيد ، لأن المقصودَ إفادةُ عدم بعدِهم على الإطلاق لا من حيث خصوصيةُ كونِهم قوماً أو ما هم في زمان بعيد أو مكان بعيد ، ولا يبعُد أن يكون ذلك لكونه على زنة المصادر كالنهيق والشهيق ، ولما أنذرهم عليه السلام بسوء عاقبة صنيعِهم عقّبه طمعاً في ارعوائهم عما كانوا فيه يعمهون من طغيانهم بالحمل على الاستغفار والتوبة فقال :(3/383)
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)
{ واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } مر تفسيرُ مثله في أول السورة { إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ } عظيمُ الرحمة للتائبين { وَدُودٌ } مبالِغٌ في فعل ما يفعل البليغُ المودةَ بمن يودّه من اللطف والإحسانِ ، وهذا تعليلٌ للأمر بالاستغفار والتوبةِ وحثٌّ عليهما { قَالُواْ يَا شُعَيْبٌ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ } الفِقهُ غرضِ المتكلّم من كلامه أي ما نفهم مرادَك ، وإنما قالوه بعد ما سمعوا منه دلائلَ الحقِّ المبينِ على أحسن وجهٍ وأبلغِه وضاقت عليهم الحيلُ وعيّتْ بهم العلل ، فلم يجدوا إلى محاورته سبيلاً سوى الصدودِ عن منهاج الحقِّ والسلوكِ إلى سبيل الشقاءِ كما هو ديدَنُ المُفحَمِ المحجوجِ يقابل البيناتِ بالسبّ والإبراق والإرعاد ، فجعلوا كلامَه المشتملَ على فنون الحِكَم والمواعظِ وأنواعِ العلومِ والمعارفِ من قبيل ما لا يُفقه معناه ولا يُدرك فحواه وأدمجوا في ضمن ذلك أن في تضاعيفه ما يستوجب أقصى ما يكون من المؤاخذة والعقاب ، ولعل ذلك ما فيه من التحذير من عواقب الأممِ السالفة ولذلك قالوا : { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا } فيما بيننا { ضَعِيفاً } لا قوة لك ولا قدرةَ على شيء من الضر والنفعِ والإيقاعِ والدفع { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ } لولا مراعاةُ جانبِهم لا لولاهم يمانعوننا ويدافعوننا { لرجمناك } فإن ممانعةَ الرهطِ وهو اسمٌ للثلاثة إلى السبعة أو إلى العشرة لهم وهم ألوفٌ مؤلفةٌ مما لا يكاد يُتوّهم وقد أيد ذلك بقوله عز وجل : { وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } مُكْرمٌ محْترمٌ حتى نمتنع من رجمك ، وإنما نكفُ عنه للمحافظة على حرمة رهطِك الذين ثبتوا على ديننا ولم يختاروك علينا ولم يتبعوك دوننا ، وإيلاءُ الضميرِ حرفَ النفي وإن لم يكن الخبرُ فعلياً غيرَ خالٍ عن الدِلالة على رجوع النفي إلى الفاعل دون الفعلِ لا سيما قرينة قولِه : ولولا رهطُك كأنه قيل : وما أنت علينا بعزيز بل رهطُك هم الأعزةُ علينا وحيث كان غرضُهم من عظيمتهم هذه عائداً إلى نفي ما فيه عليه السلام من القوة والعزةِ الربّانيّتين حسبما يوجبه كونُه على بينة من ربه مؤيَّداً من عنده ويقتضيه قضيةُ طلبِ التوفيقِ منه والتوكلِ عليه والإنابةِ إليه وإلى إسقاط ذلك كلِّه عن درجة الاعتدادِ به والاعتبار .(3/384)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
{ قَالَ } عليه السلام في جوابهم { ياقوم أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله } فإن الاستهانةَ بمن لا يَتعزّز إلا به عز وجل استهانةٌ بجنابه العزيز وإنما أنكر عليهم أعزِّيّةَ رهطِه منه تعالى مع أن ما أثبتوه هو مطلقُ عزةِ رهطِه لا أعزّيتُهم منه عز وجل مع الاشتراك في أصل العزةِ لتثنية التقريعِ وتكريرِ التوبيخِ حيث أنكر عليهم أولاً ترجيح جنب الرهطِ على جنبة الله تعالى حظاً من العزة أصلاً { واتخذتموه } بسبب عدم اعتدادِكم بمن لا يرِدُ ولا يصدُر إلا بأمره { وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً } أي شيئاً منبوذاً وراء الظهر منسياً لا يبالى به ، منسوبٌ إلى الظهر ، والكسر لتغيير النسب كالإِمسيّ في النسبة إلى الأمس { إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ } من الأعمال السيئة التي من جملتها عدمُ مراعاتِكم لجانبه { مُحِيطٌ } لا يخفى عليه منها خافيةٌ وإن جعلتموه منسياً فيجازيكم عليها . ويحتمل أن يكون الإنكارُ للرد والتكذيب فإنهم لما ادَّعَوا أنهم لا يكفّون عن رجمه عليه السلام لقوته وعزّتِه بل لمراعاة جانب رهطِه ردّ عليهم ذلك بأنكم ما قدَّرتم الله حقَّ قدرِه العزيزِ ولم تراعوا جنابَه القويَّ فكيف تراعون جانبَ رهطي الأذلة { وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا } لما رأى عليه السلام إصرارَهم على الكفر وأنهم لا يرعوون عما هم عليه من المعاصي حتى اجترأوا على العظيمة التي هي الاستهانةُ به والعزيمةُ على رجمه لولا حُرمةُ رهطِه ، قال لهم على طريقة التهديد : اعملوا { على مَكَانَتِكُمْ } أي على غاية تمكّنِكم واستطاعتِكم يقال : مكُن مكانةً إذا تمكّن أبلغَ التمكّن وإنما قاله عليه السلام رداً لما ادَّعَوا أنهم أقوياءُ قادرون على رجمه وأنه ضعيفٌ فيما بينهم لا عزةَ له ، أو على ناحيتكم وجِهَتكم التي أنتم عليها من قولهم : مكانٌ ومكانة كمقام ومقامة ، والمعنى اثبُتوا على ما أنتم عليه من الكفر والمشاقّةِ لي وسائرِ ما أنتم عليه مما لا خيرَ فيه وابذُلوا جهدكم في مضارّتي وإيقافي ما في نيتكم وإخراج ما في أمنيتكم من القوة إلى الفعل { إِنّى عامل } على مكانتي حسبما يؤيدني الله ويوفقني بأنواع التأييدِ والتوفيق { سَوْفَ تَعْلَمُونَ } لما هدّدهم عليه السلام بقوله : اعمَلوا على مكانتكم إني عاملٌ كان مظِنّةَ أن يسألَ منهم سائلٌ فيقولَ : فماذا يكون بعد ذلك؟ فقيل : سوف تعلمون { مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } وصَف العذابَ بالإخزاء تعريضاً بما أوعدوه عليه السلام به من الرجم فإنه مع كونه عذاباً فيه خِزيٌ ظاهرٌ حيث لا يكون إلا بجناية عظيمةٍ توجبه { وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ } عطفٌ على مَنْ يأتيه لا على أنه قسيمُه بل حيث أوعدوه بالرجم وكذبوه قيل : سوف تعلمون مَن المعذَّبُ ومن الكاذب ، وفيه تعريضٌ بكذبهم في ادعائهم القوةَ والقُدرةَ على رجمه عليه السلام وفي نسبته إلى الضعف والهوانِ وفي ادعائهم الإبقاءَ عليه جانبِ الرهطِ ، والاختلافُ بين المعطوفَين بالفعلية والاسميةِ لأن كذبَ الكاذبِ بمرتقَبٍ كإتيان العذاب بل إنما المرتقَبُ ظهورُ الكذبِ السابق المستمرّ . و ( من ) إما استفهاميةٌ معلِّقةٌ للعلم عن العمل كأنه قيل : سوف تعلمون أيُّنا يأتيه عذابٌ يُخزيه وأيُّنا كاذبٌ ، وإما موصولةٌ أي سوف تعرِفون الذي يأتيه عذابٌ والذي هو كاذب { وارتقبوا } وانتظروا مآلَ ما أقول . { إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ } منتظرٌ ، فعيل بمعنى الراقب كالصريم ، أو المراقب كالشعير أو المرتقب كالرفيع وفي زيادة معكم إظهارٌ منه عليه السلام لكمال الوثوق بأمره .(3/385)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
{ وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا } أي عذابُنا كما ينبىء عنه قوله تعالى : { سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } أو وقتُه فإن الارتقابَ مؤذِنٌ بذلك { نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا } وهي الإيمانُ الذي وفقناهم له أو بمرحمة كائنةٍ منّا لهم ، وإنما ذكر بالواو كما في قصة عاد لِما أنه لم يسبِقْه فيها ذكرُ وعدٍ يجري مجرى السببِ المقتضي لدخول الفاءِ في معلوله كما في قصتي صالحٍ ولوط . فإنه قد سبق هنالك سابقةُ الوعد بقوله : { ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } وقوله : { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح } { وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ } عدل إليه عن الضمير تسجيلاً عليهم بالظلم وإشعاراً بأن ما أخذهم إنما أخذهم بسبب ظلمِهم الذي فُصّل فيما سبق فنونُه { الصيحة } قيل : صاح بهم جبريلُ عليه السلام فهلكوا ، وفي سورة الأعراف { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } ، وفي سورة العنكبوت { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } أي الزلزلة ، ولعلها من روادف الصيحةِ المستتبِعة لتموّج الهواء المفضي إليها كما مر فيما قبل { فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جاثمين } ميتين لازمين لأماكنهم لا بَراحَ لهم منها ، ولمّا لم يُجعل متعلَّقُ العلمِ في قوله تعالى : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ } الخ ، نفسَ مجيءِ العذابِ بل من يجيئه ذلك جُعل مجيئُه بعد ذلك أمراً مسلَّمَ الوقوعِ غنياً عن الإخبار به حيث جعل شرطاً وجُعل تنجيةُ شعيبٍ عليه السلام وإهلاكُ الكفرة جواباً له ومقصودَ الإفادة ، وإنما قدّم تنجيتُه اهتماماً بشأنها وإيذاناً بسبق الرحمةِ التي هي مقتضى الربوبيةِ على الغضب الذي يظهر أثرُه بموجب جرائرِهم وجرائمهم { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ } أي لم يقيموا { فِيهَا } متصرفين في أطرافها متقلبين في أكنافها { أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } العدولُ عن الإضمار إلى الإظهار ليكون أدلَّ على طغيانهم الذي أدّاهم إلى هذه المرتبةِ وليكون أنسبَ بمن شُبّه هلاكُهم بهلاكهم أعني ثمود ، وإنما شُبّه هلاكُهم بهلاكهم لأنهما أُهلكتا بنوع من العذاب وهو الصيحة ، غير أن هؤلاءِ صيح بهم من فوقهم وأولئك من تحتهم وقرىء بعُدت بالضم على الأصل فإن الكسرَ تغييرٌ لتخصيص معنى البُعد بما يكون سببَ الهلاك والبعدُ مصدرٌ لهما والبُعدُ مصدرٌ للمكسور .(3/386)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا } وهي الآياتُ التسعُ المفصّلاتُ التي هي العصا واليدُ البيضاءُ والطوفانُ والجرادُ والقُمّلُ والضفادعُ والدمُ ونقصُ الثمراتِ والأنفسِ ومن جعلهما آيةً واحدةً وعدّ منها إظلالَ الجبل وليس كذلك فإنه لقبول أحكامِ التوراةِ حين أباه بنو إسرائيلَ ، والباءُ متعلقةٌ بمحذوف وقع حالاً من مفعول أرسلنا أو نعتاً لمصدره المؤكّد أي أرسلناه حال كونِه ملتبساً بآياتنا أو أرسلناه إرسالاً ملتبساً { وسلطان مُّبِينٍ } هو المعجزاتُ الباهرةُ منها أو هو العصا ، والإفرادُ بالذكر لإظهار شرفِها لكونها أبهرَها أو المرادُ بالآيات ما عداها أو هما عبارتان عن شيء واحد ، أي أرسلناه بالجامع بين كونِه آياتِنا وبين كونِه سلطاناً له على نبوّته واضحاً في نفسه أو موضّحاً إياها ، من أبان لازماً ومتعدّياً ، أو هو الغلبةُ والاستيلاءُ كقوله تعالى : { وَنَجْعَلُ لَكُمَا سلطانا } ويجوز أن يكون المرادُ ما بيّنه عليه السلام في تضاعيف دعوتِه حين قال له فرعونُ : { مِنْ * رَبّكُمَا } { فَمَا بَالُ القرون الاولى } من الحقائق الرائقةِ والدقائقِ اللائقةِ وجعلُه عبارةً عن التوراة وإدراجُها في جملة الآيات يردّه قولُه عز وجل : { إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } فإن نزولَها إنما كان بعد مهلِك فرعونَ وقومِه قاطبةً ليعمل بها بنو إسرائيلَ فيما يأتون وما يذرون ، وأما فرعونُ وقومُه فإنما كانوا مأمورين بعبادة ربِّ العالمين عزَّ سلطانُه وتركِ العظيمةِ الشنعاءِ التي كان يدعيها الطاغيةُ وتقبلها منه فئتُه الباغية ، وبإرسال بني إسرائيلَ من الأسر والقسْرِ ، وتخصيصُ ملئه بالذكر مع عموم رسالتِه عليه السلام لقومه كافة لأصالتهم في الرأي وتدبيرِ الأمور واتباعِ غيرِهم لهم في الورود والصدور ، وإنما لم يصرَّح بكفر فرعونَ بآيات الله تعالى وانهماكه فيما كان عليه من الضلال والإضلال بل اقتصر على ذكر شأن ملئِه فقال : { فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ } أي أمرَه بالكفر بما جاء به موسى عليه السلام من الحق المبين للإيذان بوضوح حالِه فكأن كفرَه وأمْرَ ملئِه بذلك أمرٌ محققُ الوجودِ غيرُ محتاجٍ إلى الذكر صريحاً ، وإنما المحتاجُ إلى ذلك شأن ملئِه المترددين بين هادٍ إلى الحق وداعٍ إلى الضلال فنعى عليهم سوءَ اختيارِهم ، وإيرادُ الفاء في اتّباعهم المترتبِ على أمر فرعونَ المبنيِّ على كفره المسبوقِ بتبليغ الرسالةِ للإشعار بمفاجأتهم في الاتباع ومسارعةِ فرعونَ إلى الكفر وأمرِهم به ، فكأن ذلك كلّه لم يتراخَ عن الإرسال والتبليغِ بل وقع جميعُ ذلك في وقت واحد فوقع إثرَ ذلك اتباعُهم . ويجوز أن يرادَ بأمر فرعونَ شأنُه المشهورُ وطريقتُه الزائغةُ فيكون معنى فاتبعوا فاستمرّوا على الاتّباع ، والفاءُ مثلُ ما في قولك : وعظتُه فلم يتعظْ وصِحْتُ به فلم ينزجِرْ ، فإن الإتيانَ بالشيء بعد ورودِ ما يوجب الإقلاعَ عنه وإن كان استمراراً عليه لكنه بحسب العُنوانِ فعلٌ جديدٌ وصنعٌ حادثٌ فتأمل . وتركُ الإضمارِ لدفع توهُّمِ الرجوعِ إلى موسى عليه السلام من أول الأمرِ ولزيادة تقبيحِ حال المتبعين ، فإن فرعونَ علَمٌ في الفساد والإفساد والضلالِ والإضلال فاتباعُه لفَرْط الجهالِة وعدمِ الاستبصار ، وكذا الحالُ في قوله تعالى : { وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } الرُّشدُ ضدُّ الغِيّ وقد يراد به محموديّةُ العاقبةِ فهو على الأول بمعنى المُرشد حقيقةٌ لغويةٌ والإسنادُ مجازيٌّ وعلى الثاني مجازٌ والإسناد حقيقيٌّ .(3/387)
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)
{ يَقْدُمُ قَوْمَهُ } جميعاً من الأشراف وغيرِهم { يَوْمُ القيامة } أي يتقدّمهم ، من قدَمه بمعنى تقدّمه وهو استئنافٌ لبيان حالِه في الآخرة أي كما كان قدوةً لهم في الضلال كذلك يتقدمهم إلى النار وهم يتبعونه ، أو لتوضيح عدمِ صلاحِ مآلِ أمرِه وسوءِ عاقبتِه { فَأَوْرَدَهُمُ النار } أي يوردهم ، وإيثارُ صيغةِ الماضي للدلالة على تحقق الوقوعِ لا محالة ، شُبّه فرعونُ بالفارط الذي يتقدم الواردةَ إلى الماء ، وأتباعُه بالواردة ، والنارُ بالماء الذي يرِدُونه ثم قيل : { وَبِئْسَ الورد المورود } أي بئس الوردُ الذي يرِدونه النارُ ، لأن الورد إنما يراد لتسكين العطشِ وتبريدِ الأكباد والنارُ على ضد ذلك .
{ واتبعوا } أي الملأُ الذين اتّبعوا أمرَ فرعون { فِى هذه } أي في الدنيا { لَّعْنَةُ } عظيمةً حيث يلعنهم مَنْ بعدهم من الأمم إلى يوم القيامة { وَيَوْمَ القيامة } أيضاً حيث يلعنهم أهلُ الموقفِ قاطبةً فهي تابعةٌ لهم حيثما ساروا دائرةٌ معهم أينما داروا في الموقف ، فكما اتّبعوا فرعونَ اتّبعتْهم اللعنةُ في الدارين جزاء وفاقاً ، واكتُفي ببيان حالِهم الفظيعِ وشأنِهم الشنيعِ عن بيان حالِ فرعونَ إذ حين كان حالُهم هكذا فما ظنُّك بحال مَن أغواهم وألقاهم في هذا الضلال البعيد وحيث كان شأنُ الأتباع أن يكونوا أعواناً للمتبوع جُعلت اللعنةُ رِفداً لهم على طريقة التهكّم فقيل : { بِئْسَ الرفد المرفود } أي بئس العونُ المُعانُ ، وقد فُسر الرفدُ بالعطاء ولا يلائمه المقام ، وأصلُه ما يضاف إلى غيره ليُعمِّده والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي رفدُهم وهي اللعنةُ في الدارين ، وكونُه مرفوداً من حيث أن كلَّ لعنة منها مُعِيْنةٌ ومُمِدّةٌ لصاحبتها ومؤيدةٌ لها .
{ ذلك } إشارةٌ إلى ما قُص من أنباء الأممِ وبعده باعتبار تقضّيه في الذكر والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مبتدأٌ خبرُه { مِنْ أَنْبَاء القرى } المهلَكة بما جنتْه أيدي أهلِها { نَقُصُّهُ عَلَيْكَ } خبرٌ بعد خبرٍ أي ذلك النبأُ بعضُ أنباءِ القرى مقصوصٌ عليك { مِنْهَا } أي من تلك القرى { قَائِمٌ وَحَصِيدٌ } أي ومنها حصيد ، حُذف لدلالة الأولِ عليه ، شُبّه ما بقيَ منها بالزرع القائمِ على ساقه وما عفا وبطَل بالحصيد ، والجملةُ مستأنفةٌ لا محل لها من الإعراب .(3/388)
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)
{ وَمَا ظلمناهم } بأن أهلكناهم { ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } بأن جعلوها عُرضةً للهلاك باقتراف ما يوجبه { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ } فما نفعتهم ولا دفعتْ بأسَ الله تعالى عنهم { التى يَدْعُونَ مِن } أي يعبدونها { دُونِ الله } أُوثر صيغةُ المضارعِ حكايةً للحال الماضيةِ أو دِلالةً على استمرار عبادتِهم لها { مِن شَىْء } في موضع المصدرِ أي شيئاً من الإغناء { لَّمَّا جَاء أَمْرُ رَبّكَ } أي حين مجيءِ عذابِه وهو منصوبٌ بأغنت ، وقرىء آلهتُهم اللاتي ويُدْعَون على البناء للمجهول { وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } أي إهلاك وتخسير فإنهم إنما هلكوا وخسِروا بسبب عبادتِهم لها .
{ وكذلك } أي ومثلَ ذلك الأخذِ الذي مر بيانُه ، وهو رفعٌ على الابتداء وخبرُه قوله : { أَخْذُ رَبّكَ } وقرىء أخذَ ربُّك فمحلُّ الكافِ النصبُ على أنه مصدرٌ مؤكد { إِذَا أَخَذَ القرى } أي أهلَها وإنما أُسند إليها للإشعار بَسَريان أثرِه إليها حسبما ذُكر ، وقرىء إذْ أخذ { وَهِىَ ظالمة } حالٌ من القرى وهي في الحقيقة لأهلها لكنها لما أُقيمت مُقامَهم في الأخذ أُجريت الحالُ عليها وفائدتُها الإشعارُ بأنهم إنما أُخذوا بظلمهم ليكون ذلك عبرةً لكل ظالم { إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } وجميع صعب على المأخوذ لا يرجى منه الخلاص وفيه ما لا يخفى من التهديد والتحذير { إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي في أخذه تعالى للأمم الغابرةِ أو في قصصهم { لآيَةً } لعبرةً { لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الاخرة } فإنه المعتبرُ به حيث يُستدل بما حاق بهم من العذاب الشديد بسبب ما عملوا من السيئات على أحوال عذابِ الآخرة ، وأما من أنكر الآخرةَ وأحال فناءَ العالم وزعم أن ليس هو ولا شيءٌ من أحواله مستنداً إلى الفاعل المختارِ وأن ما يقع فيه من الحوادث فإنما يقع لأسباب تقتضيه من أوضاع فلكيةٍ تتفق في بعض الأوقاتِ لا لما ذُكر من المعاصي التي يقترفها الأممُ الهالكة فهو بمعزل من هذا الاعتبارِ ، تباً لهم ولما لهم من الأفكار { ذلك } إشارةٌ إلى يوم القيامةِ المدلول عليه بذكر الآخرة { يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس } للمحاسبة والجزاءِ ، والتغييرُ للدلالة على ثبات معنى الجمعِ وتحقق وقوعِه لا محالة وعدم انفكاك الناس عنه فهو أبلغ من قوله تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع } { وَذَلِكَ } أي يومُ القيامة مع ملاحظة عنوانِ جمعِ الناس له { يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } أي مشهود فيه حيث يشهد فيه أهلُ السموات والأرضين فاتُسع فيه بإجراء الظرفِ مُجرى المفعولِ به كما في قوله :
في محفل من نواصي الناس مشهود ... أي كثيرٌ شاهدوه ولو جُعل نفسُ اليوم مشهوداً لفات ما هو الغرضُ من تعظيم اليومِ وتهويلِه وتمييزِه عن غيره فإن سائرَ الأيام أيضاً كذلك { وَمَا نُؤَخّرُهُ } أي ذلك اليومَ الملحوظَ بعُنوانيْ الجمعِ والشهود { إِلاَّ لاِجَلٍ مَّعْدُودٍ } إلا لانقضاء مدةٍ قليلةٍ مضروبةٍ حسبما تقتضيهِ الحكمة .(3/389)
يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
{ يَوْمَ يَأْتِ } أي حين يأتي ذلك اليومُ المؤخَّرُ بانقضاء أجلِه كقوله تعالى : { أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة } وقيل : يومَ يأتي الجزاءُ الواقعُ فيه ، وقيل : أي الله عز وجل فإن المقام مقامُ تفخيمِ شأنِ اليوم وقرىء بإثبات الياء على الأصل { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ } أي لا تتكلم بما ينفع وينجّي من جواب أو شفاعةٍ ، وهو العاملُ في الظرف أو الانتهاء المحذوفِ في قوله تعالى : { إِلاَّ لاِجَلٍ مَّعْدُودٍ } أي ينتهي الأجل يوم يأتي أو المضمر المعهود أعني أذكر { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } عز سلطانه في التكلم كقوله تعالى : { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن } وهذا في موطن من مواطنِ ذلك اليومِ وقولُه عز وجل : { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } في موقف آخرَ من مواقفه كما أن قولَه سبحانه : { يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تجادل عَن نَّفْسِهَا } في آخرَ منها أو المأذونُ فيه الجواباتُ الحقةُ والممنوعُ عنه الأعذار الباطلةُ ، نعم قد يُؤذن فيها أيضاً لإظهار بطلانِها كما في قول الكفرة : { والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ونظائرِه { فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ } وجبت له النارُ بموجب الوعيد { وَسَعِيدٌ } أي ومنهم سعيدٌ ، حُذف الخبرُ لِدلالة الأولِ عليه وهو من وجبت له الجنةُ بمقتضى الوعد ، والضميرُ لأهل الموقفِ المدلولِ عليهم بقوله : { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ } أو للناس ، وتقديمُ الشقيِّ على السعيد لأن المقامَ مقامُ التحذير والإنذار .
{ فَأَمَّا الذين شَقُواْ } أي سبَقَت لهم الشقاوةُ { فَفِى النار } أي مستقرّون فيها { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } الزفيرُ إخراجُ النفَسِ والشهيقُ ردُّه وجاء استعمالُهما في أول النهيق وآخرِه قال الشماخ يصف حمارَ الوحش :
بعيدُ مدى التطريب ، أولُ صوتِه ... زفيرٌ ويتلوه شهيقٌ مُحشرَجُ
والمرادُ بهما وصفُ شدةِ كربِهم وتشبيهُ حالِهم بحال من استولت على قلبه الحرارةُ وانحصر فيه روحُه أو تشبيهُ صراخِهم بأصواتِ الحميرِ وقرىء شقوا بالضم والجملةُ مستأنفةٌ كأن سائلاً قال : ما شأنُهم فيها؟ فقيل : لهم فيها كذا وكذا ، أو منصوبةُ المحلِّ على الحالية من النار أو من الضمير في الجار والمجرور كقوله عز اسمُه : { خالدين فِيهَا } خلا أنه إن أريد حدوثُ كونِهم في النار فالحالُ مقدرةٌ { مَا دَامَتِ السموات والارض } أي مدةَ دوامِها وهذا التوقيتُ عبارةٌ عن التأبيد ونفيِ الانقطاع بناءً على منهاج قولِ العرب : ما دام تعار وما أقام ثَبيرٌ وما لاح كوكب وما اختلف الليلُ والنهار وما طما البحرُ وغيرُ ذلك من كلمات التأبيد لا تعليقِ قرارِهم فيها بدوام هذه السمواتِ والأرض فإن النصوصَ القاطعةَ دالةٌ على تأبيد قرارِهم فيها وانقطاعِ دوامِهما وإن أريد التعليقُ فالمراد سمواتُ الآخرة وأرضُها كما يدل على ذلك النصوصُ كقوله تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الارض غَيْرَ الارض } وقولِه تعالى : { وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الارض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء } وجزم كلُّ أحدٍ بأن أهلَ الآخرةِ لا بد لهم من مِظلّة ومِقلّة دائمتين يكفي في تعليق دوامِ قرارِهم فيها بدوامهما ، ولا حاجة إلى الوقوف على تفاصيل أحوالِهما وكيفياتهما { إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } استثناءٌ من الخلود على طريقة قوله تعالى :(3/390)
{ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الاولى } وقوله : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } وقولِه تعالى : { حتى يَلِجَ الجمل فِى سَمّ الخياط } غير أن استحالة الأمورِ المذكورةِ معلومةٌ بحكم العقلِ ، واستحالةَ تعلّق المشيئةِ بعدم الخلودِ معلومةٌ بحكم النقل يعني أنهم مستقرّون في النار في جميع الأزمنةِ إلا في زمان مشيئةِ الله تعالى لعدم قرارِهم فيها وإذ لا إمكان لتلك المشيئةِ ولا لزمانها بحكم النصوصِ القاطعة الموجبةِ للخلود فلا إمكانَ لانتهاء مدةِ قرارِهم فيها ولدفع ما عسى يُتوّهم من كون استحالةِ تعلق مشيئةِ الله تعالى بعدم الخلود بطريق الوجوبِ على الله تعالى قال : { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ } يعني أنه في تخليد الأشقياءِ في النار بحيث يستحيل وقوعُ خلافةِ فعالٌ بموجب إرادته قاضٍ بمقتضى مشيئتِه الجارية على سنن حكمته الداعيةِ إلى ترتيب الأجزيةِ على أفعال العبادِ ، والعدولُ من الإضمار إلى الإظهار لتربية المهابةِ وزيادةِ التقريرِ ، وقيل : هو استثناءُ من الخلود في عذاب النار فإنهم لا يخلّدون فيه بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع أُخَرَ من العذاب وبما هو أغلظُ منها كلِّها وهو سَخَطُ الله تعالى عليهم وخَسْؤه لهم وإهانتُه إياهم ، وأنت تدري أنا وإن سلّمنا أن المرادَ بالنار ليس مطلقَ دارِ العذاب المشتملةِ على أنواع العذابِ بل نفسَ النار فما خلا عذابَ الزمهريرِ من تلك الأنواعِ مقارِنٌ لعذاب النار فلا مِصداقَ في ذلك للاستثناء ، ولك أن تقول إنهم ليسوا بمخلدين في العذاب الجُسماني الذي هو عذابُ النار بل لهم من أفانين العذاب ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وهي العقوباتُ والآلامُ الروحانية التي لا يقف عليها في هذه الحياة الدنيا المنغمِسون في أحكام الطبيعةِ المقصورُ إدراكُهم على ما ألِفوا من الأحوال الجُسمانية ، وليس لهم استعدادٌ لتلقّي ما وراء ذلك من الأحوال الروحانيةِ إذا ألقيَ إليهم ، ولذلك لم يتعرّض لبيانه واكتُفي بهذه المرتبةِ الإجماليةِ المنبئةِ عن التهويل ، وهذه العقوباتُ وإن كانت تعتريهم وهم في النار لكنهم ينسَوْن بها عذابَ النارِ ولا يُحِسّون به ، وهذه المرتبةُ كافيةٌ في تحقيق معنى الاستثناءِ هذا ، وقد قيل : إلا بمعنى سوى وهو أوفقُ بما ذكر وقيل : ما بمعنى مَنْ على إرادة معنى الوصفيةِ فالمعنى إن الذين شقُوا في النار مقدرين الخلود فيها إلا الذين شاء الله عدم خلودِهم فيها وهم عصاةُ المؤمنين .(3/391)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
{ وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِى الجنة خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والارض } الكلامُ فيه كالكلام فيما سبق خلا أنه لم يُذكر هاهنا أن لهم فيها بهجةً وسروراً كما ذكر في أهل النارِ من أنه لهم فيها زفيرٌ وشهيق لأن المقام مقامُ التحذيرِ والإنذار { إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } إنْ حمل على طريقة التعليقِ بالمُحال فقوله سبحانه : { عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ } نُصب على المصدرية من معنى الجملة لأن قوله تعالى : { فَفِى الجنة خالدين فِيهَا } يقتضي إعطاءً وإنعاماً فكأنه قيل : يعطيهم عطاءً وهو إما اسمُ مصدرٍ هو الإعطاءُ أو مصدرٌ بحذف الزوائدِ كقوله تعالى : { أَنبَتَكُمْ مّنَ الارض نَبَاتاً } وإن حُمل على ما أعد الله لعباده الصالحين من النعيم الروحاني الذي عبّر عنه بما لا عينٌ رأت ولا أذن سمِعت ولا خطَر على قلب بشر فهو نصبٌ على الحالية من المفعول المقدر للمشيئة ، أو تمييزٌ فإن نسبةَ مشيئةِ الخروج إلى الله تعالى يحتمل أن تكون على جهة عطاءٍ مجذوذ وعلى جهة عطاءٍ غيرِ مجذوذ فهو رافعٌ للإبهام عن النسبة . قال ابن زيد : أخبرنا الله تعالى بالذي يشاء لأهل الجنةِ فقال : { عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ } ولم يُخبرنا بالذي يشاء لأهل النارِ ويجوز أن يتعلق بكلا النعيمين أو بالأول دفعاً لما يتوهم من ظاهر الاستثناءِ من انقطاعه .(3/392)
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)
{ فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ } أي في شك ، والفاءُ لترتيب النهي على ما قُصّ من القصص وبُيّن في تضاعيفها من العواقب الدنيوية والأخروية { مّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء } أي من جهة عبادةِ هؤلاء المشركين وسوءِ عاقبتها أو من حال ما يعبُدونه من الأوثان في عدم نفعِه لهم . ولمّا كان مَساقُ النظمِ الكريم قبيل الشروعِ في القصص لبيان غايةِ سوءِ حال الكفرةِ وكمالِ حسنِ حال المؤمنين ، وقد ضُرب لهم مثلُ فقيل : { مَثَلُ الفريقين كالاعمى والاصم والبصير والسميع هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } وقد قُص عَقيبَ ذلك من أنباء الأممِ السالفة مع رسلهم المبعوثةِ إليهم ما يتذكر به المتذكِّرُ نُهي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن كونه في شك من مصير أمرِ هؤلاءِ المشركين في العاجل والآجلِ ثم علل ذلك بطريق الاستئناف فقيل : { مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءابَاؤهُم } الذين قُصّت عليك قصصُهم { مِن قَبْلُ } أي هم وآباؤُهم سواءٌ في الشرك ، ما يعبدون عبادةً إلا كعبادتهم أو ما يعبدون شيئاً إلا مثلَ ما عبدوه من الأوثان ، والعدولُ إلى صيغة المضارعِ لحكاية الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتِها ، أو مثلَ ما كانوا يعبدونه فحُذف كان لِدلالة قولهِ : ( من قبل ) عليه ، ولقد بلغك ما لحق بآبائهم فسيلحقهم مثلُ ذلك فإن تماثلَ الأسبابِ يقتضي تماثل المسبَّبات { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ } أي هؤلاء الكفرة { نَصِيبَهُمْ } أي حظَّهم المعيَّنَ لهم حسب جرائمِهم وجرائرِهم من العذاب عاجلاً وآجلاً كما وفّينا آباءَهم أنصباءَهم المقدّرة لهم ، أو من الرزق المقسومِ لهم فيكون بياناً لوجه تأخُّرِ العذاب عنهم مع تحقق ما يوجبه { غَيْرَ مَنقُوصٍ } حالٌ مؤكدة من النصيب كقوله تعالى : { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } وفائدتُه دفعُ توهّم التجوّزِ وجعلُها مقيدةً له لدفع احتمالِ كونِه منقوصاً في حد نفسه مبنيٌّ على الذهول عن كون العاملِ هو التوفيةَ فتأمل .
{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب } أي التوراةَ { فاختلف فِيهِ } أي في شأنه وكونِه من عند الله تعالى فآمن به قومٌ وكفر به آخرون فلا تبالِ باختلاف قومِك فيما آتيناك من القرآن وقولِهم : { لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ } وزعمِهم أنك افتريتَه { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ } وهي كلمةُ القضاءِ بإنظارهم إلى يوم القيامةِ على حسب الحِكمةِ الداعيةِ إلى ذلك { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي لأوقع القضاءَ بين المختلفين من قومك بإنزال العذابِ الذي يستحقه المبطِلون ليتميّزوا به عن المُحِقّين ، وقيل : بين قوم موسى وليس بذاك { وَإِنَّهُمْ } أي وإن كفارَ قومِك أريد به بعضُ من رجع إليهم ضميرُ بينهم للأمن من الإلباس { لَفِى شَكّ } عظيم { مِنْهُ } أي من القرآن وإن لم يجْرِ له ذكر ، فإن ذكرَ إيتاءِ كتابِ موسى ووقوعِ الاختلافِ فيه لا سيما بصدد التسليةِ ينادي به نداءً غيرَ خفي { مُرِيبٍ } مُوقِع في الريبة .(3/393)
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
{ وَإِنَّ كُلاًّ } التنوينُ عوضٌ عن المضاف إليه أي وإن كلَّ المختلِفين فيه المؤمنين منهم والكافرين ، وقرأ ابنُ كثير ، ونافعٌ ، وأبو بكر ، بالتخفيف مع الإعمال اعتباراً للأصل { لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ } أي أجزيةَ أعمالِهم ، واللامُ الأولى موطئةٌ للقسم والثانيةُ جوابٌ للقسم المحذوف ، ولما مركبةٌ من مِنْ الجارة وما الموصولة أو الموصوفة وأصلها لمِن فقلبت النون ميماً للإدغام فاجتمع ثلاث ميماتٍ فحُذفت أولاهن ، والمعنى لَمِن الذي أو لمِنْ خلْقٍ أو لمن فريقٍ والله ليوفينهم ربك وقرىء لما بالتخفيف على أن ما مزيدةٌ للفصل بين اللامين والمعنى إن جميعَهم والله ليوفينهم الآية وقرىء لمًّا بالتنوين أي جميعاً كقوله سبحانه : { أَكْلاً لَّمّاً } وقرأ أبي وإنْ كلٌّ لمّا ليوفينهم على أن نافية ولما بمعنى إلا وقد قرىء به { إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي بما يعمله كلُّ فردٍ من المختلفين من الخير والشر { خَبِيرٌ } بحيث لا يخفى عليه شيءٌ من جلائله ودقائقه ، وهو تعليلٌ لما سبق من توفية أجزيةِ أعمالِهم فإن الإحاطةَ بتفاصيل أعمالِ الفريقين وما يستوجبه كلُّ عمل بمقتضى الحكمةِ من الجزاء المخصوصِ توجب توفيةَ كلِّ ذي حقٍ حقَّه إن خيراً فخيرٌ وإن شراً فشر .
{ فاستقم كَمَا أُمِرْتَ } لما بيّن في تضاعيف القصص المَحْكية عن الأمم الماضيةِ سوءُ عاقبة الكفرِ وعصيانِ الرسل وأُشير إلى أن حالَ هؤلاء الكفرةِ في الكفر والضلالِ واستحقاق العذابِ مثلُ أولئك المعذبين وأن نصيبَهم من العذاب واصلٌ إليهم من غير نقص وأن تكذيبَهم للقرآن مثلُ تكذيبِ قوم موسى عليه السلام للتوراة وأنه لو لم تسبِقْ كلمةُ القضاءِ بتأخير عقوبتِهم العامةِ ومؤاخذتِهم التامّةِ إلى يوم القيامة لفُعل بهم ما فُعل بآبائهم من قبلُ وأنهم يُوفَّوْن نصيبَهم غيرَ منقوص وأن كل واحدٍ من المؤمنين والكافرين يوفى جزاءَ عملِه أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالاستقامة كما أمر به في العقائد والأعمالِ المشتركة بينه وبين سائِر المؤمنين ولا سيما الأعمالُ الخاصةُ به عليه السلام من تبليغ الأحكامِ الشرعية والقيامِ بوظائف النبوةِ وتحمّل أعباءِ الرسالةِ بحيث يدخُل تحته ما أمر به فيما سبق من قوله تعالى : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } الآية ، وبالجملة فهذا الأمرُ منتظمٌ لجميع محاسنِ الأحكامِ الأصليةِ والفرعية والكمالاتِ النظريةِ والعملية والخروجُ من عُهدته في غاية ما يكون من الصعوبة ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « شيبتْني سورةُ هود » { وَمَن تَابَ مَعَكَ } أي تاب من الشرك والكفرِ وشاركك في الإيمان وهو المعنيُّ بالمعية وهو معطوفٌ على المستكنّ في قوله : فاستقم ، وحسُن من غير تأكيدٍ لمكان الفاصل القائمِ مَقامَه ، وفي الحقيقة هو مِن عطف الجملةِ على الجملة إذ المعنى وليستقم مَنْ تاب معك ، وقيل : هو منصوبٌ على أنه مفعولٌ معه كما قاله أبو البقاء ، والمعنى استقم مصاحباً لمن تاب معك { وَلاَ تَطْغَوْاْ } ولا تنحرفوا عما حُدّ لكم بإفراط أو تفريط ، فإن كِلا طرفي قصدِ الأمور ذميمٌ ، وإنما سُمّي ذلك طغياناً وهو تجاوزُ الحدِّ تغليظاً أو تغليباً لحال سائرِ المؤمنين على حاله عليه السلام { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فيجازيكم على ذلك وهو تعليلٌ للأمر والنهي ، وفي الآية دِلالةٌ على وجوب اتباعِ المنصوص عليه من غير انحرافٍ بمجرد الرأي فإنه طغيانٌ وضلالٌ ، وأما العملُ بمقتضى الاجتهادِ التابعِ لعلل النصوصِ فذلك من باب الاستقامةِ كما أمر على موجب النصوصِ الآمرةِ بالاجتهاد .(3/394)
وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
{ وَلاَ تَرْكَنُواْ } أي لا تميلوا أدنى ميلٍ { إِلَى الذين ظَلَمُواْ } أي إلى الذين وُجد منهم الظلمُ في الجملة ، ومدارُ النهي هو الظلمُ ، والجمعُ باعتبار جمعيةِ المخاطَبين وما قيل من أن ذلك للمبالغة في النهي من حيث إن كونهم جماعةً مظِنةُ الرخصةِ في مداهنتهم إنما يتم لو كان المرادُ النهيَ عن الركون إليهم من حيث أنهم جماعةٌ وليس كذلك { فَتَمَسَّكُمُ } بسبب ذلك { النار } وإذا كان حالُ الميل في الجملة إلى مَنْ وُجد منه ظلمٌ ما في الإفضاء إلى مِساس النارِ هكذا فما ظنُّك بميل من يميل إلى الراسخين في الظلم والعُدوان ميلاً عظيماً ، ويتهالك على مصاحبتهم ومنادمتِهم ويُلقي شراشِرَه على مؤانستهم ومعاشرتهم ، ويبتهج بالتزيّي بزِيّهم ويمُدّ عينيه إلى زهرتهم الفانية ويغبِطُهم بما أوتوا من القطوف الدانية وهو في الحقيقة من الحبة طفيف ومن جناح البعوض خفيف بمعزل عن أن تميل إليه القلوب ضعُف الطالبُ والمطلوب ، والآيةُ أبلغُ ما يتصور في النهْي عن الظلم والتهديدِ عليه . وخطابُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم ومَنْ معه من المؤمنين للتثبيت على الاستقامة التي هي العدلُ فإن الميلَ إلى أحد طرفي الإفراطِ والتفريطِ ظلمٌ على نفسه أو على غيره . وقرىء تركنوا على لغة تميم وتُركَنوا على صيغة البناء للمفعول من أركنه { وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء } أي من أنصار يُنقِذونكم من النار ، والجملةُ نصبٌ على الحاليه من قوله : فتمسكم النار ، ونفيُ الأولياءِ ليس بطريق نفي أن يكون لكل واحدٍ منهم أولياءُ حتى يصدُقَ أن يكون له وليٌّ بل لمكان ( لكم ) بطريق انقسامِ الآحادِ على الآحاد لكن لا على معنى نفي استقلالِ كلَ منهم بنصير ، بل على معنى نفيِ أن يكون لواحد منهم نصيرٌ بقرينة المقام { ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } من جهة الله سبحانه إذ قد سبق في حكمه أن يعذبَكم بركونكم إليهم ولا يُبقيَ عليكم ، وثم لتراخي رتبةِ كونِهم غيرَ منصورين من جهة الله بعدما أوعدهم بالعذاب وأوجبه عليهم ، ويجوز أن يكون منزلاً منزلة الفاءِ بمعنى الاستبعادِ فإنه لما بيّن أن الله تعالى معذبُهم وأن غيرَه لا ينقذهم أنتج أنهم لا يُنصرون أصلاً .
{ وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار } أي غدوةً وعشيةً ، وانتصابُه على الظرفيه لكونه مضافاً إلى الوقت { وَزُلَفاً مِّنَ اليل } أي ساعاتٍ منه قريبةً من النهار ، فإنه مِنْ أزلفه إذا قرّبه جمع زُلفة ، عطفٌ على طرفي النهار والمرادُ بصلاتهما صلاةُ الغداة والعصرِ ، وقيل : الظُهر موضعَ العصر لأن ما بعد الزوال عشيٌّ ، وبصلاة الزُلَف المغربُ والعشاء ، وقرىء زُلُفاً بضمتين وضمة وسكون كبُسْر وبُسُر وزُلفى بمعنى زُلفة كقربى بمعنى قربة { إِنَّ الحسنات } التي من جملتها بل عُمدتُها ما أمِرْت به من الصلوات { يُذْهِبْنَ السيئات } التي قلما يخلو منها البشر ، أي يكفرنها وفي الحديث " إن الصلاة إلى الصلاة كفارةٌ لما بينهما ما اجتُنبت الكبائر " وقيل : نزلت في أبي اليَسَر الأنصاريِّ إذ قبّل امرأةً ثم ندِم فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما فعل فقال عليه الصلاة والسلام : «أنتظرُ أمرَ ربي» فلما صلى صلاةَ العصر نزلت قال عليه السلام : " نعم اذهب فإنها كفارةٌ لما عمِلْت " أو يمنعْن من اقترافها كقوله تعالى : { اتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب } { ذلك } إشارةٌ إلى قوله تعالى : { فاستقم } فما بعده وقيل : إلى القرآن { ذكرى لِلذكِرِينَ } أي عظةٌ للمتعظين .(3/395)
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
{ واصبر } على مشاقّ ما أُمِرْت به في تضاعيف الأوامرِ السابقةِ وأما ما نُهيَ عنه من الطغيان والركون إلى الذين ظلموا فليس في الانتهاء عنه مشقةٌ فلا وجهَ لتعميم الصبرِ له ، اللهم إلا أن يُراد به ما لا يمكن عادة خلوُّ البشرِ عنه من أدنى ميلٍ بحكم الطبيعةِ عن الاستقامة المأمورِ بها ، ومن يسير ميلٍ بحكم البشرية إلى من وُجد منه ظلمٌ ما فإن في الاحتراز عن أمثاله من المشقة ما لا يخفى { فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } أي يوفيهم أجورَ أعمالهم من غير بخسٍ أصلاً ، وإنما عبِّر عن ذلك بنفي الإضاعةِ مع أن عدمَ إعطاءِ الأجرِ ليس بإضاعةٍ حقيقةً ، كيف لا والأعمالُ غيرُ موجبةٍ للثواب حتى يلزَم من تخلفه عنها ضياعُها ، لبيان كمالِ نزاهتِه تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يمتنع صدورُه عنه سبحانه من القبائح وإبرازِ الإثابةِ في معرض الأمورِ الواجبة عليه ، وإنما عدل عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود مع إفادة فائدةٍ عامةٍ لكل من يتصف به ، وهو تعليلٌ للأمر بالصبر ، وفيه إيماءٌ إلى أن الصبرَ على ما ذكر من باب الإحسان .
{ فَلَوْلاَ كَانَ } فهلا كان { مّنَ القرون } الكائنةِ { مِن قَبْلِكُمْ } على رأي من جوّز حذفَ الموصولِ مع بعض صلتِه أو كائنةً من قبلكم { أُوْلُو بَقِيَّةٍ } من الرأي والعقلِ أو أولو فضلٍ وخير ، وسُمّيا بها لأن الرجلَ إنما يستبقي مما يخرجه عادة أجودَه وأفضلَه ، فصار مثلاً في الجودة والفضلِ ويقال : فلان من بقيةِ القومِ أي من خيارِهم ، ومنه ما قيل : «في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا» ، ويجوز أن تكون البقيةُ بمعنى البقوى كالتقية من التقوى ، أي فهلا كان منهم ذوو إبقاءٍ على أنفسهم وصيانةٍ لها من سخط الله تعالى وعقابه ، ويؤيده أنه قرىء أولو بقْيةٍ وهي المرّةُ من مصدر بقاه يَبقيه إذا راقبه وانتظره أي أولو مراقبةِ وخشيةٍ من عذاب الله تعالى كأنهم ينتظرون نزولَه لإشفاقهم { يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِى الارض } الواقعِ منهم حسبَ ما حُكي عنهم { إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ } استثناءٌ منقطعٌ أي لكن قليلاً منهم أنجيناهم لكونهم على تلك الصفةِ على أن مِنْ للبيان لا للتبعيض لأن جميعَ الناجين ناهون ، ولا صحة للاتصال على ظاهر الكلامِ لأنه يكون تحضيضاً لأولي البقية على النهي المذكورِ إلا للقليل من الناجين منهم كما إذا قلت هلاّ قرأ قومُك القرآن إلا الصلحاءَ منهم مريداً لاستثناء الصلحاءِ من المُحضَّضين على القراءة نعم يصح ذلك إن جعل استثناءً من النفي اللازمِ للتحضيض ، فكأنه قيل : ما كان من القرون أولو بقيةٍ إلا قليلاً منهم ، لكنَّ الرفعَ هو الأفصحُ حينئذ على البدلية { واتبع الذين ظَلَمُواْ } بمباشرة الفسادِ وتركِ النهي عنه { مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ } أي أُنعموا من الشهوات واهتموا بتحصيلها ، وأما المباشرون فظاهرٌ وأما المساهلون فلِما لهم في ذلك من نيل حظوظِهم الفاسدة .(3/396)
وقيل : المرادُ بهم تاركو النهي ، وأنت خبيرٌ بأنه يلزم منه عدمُ دخولِ مباشري الفسادِ في الظلم والإجرام عبارةً { وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } أي كافرين فهو بيانٌ لسبب استئصالِ الأمم المُهلَكة وهو فشوُّ الظلمِ واتباعُ الهوى فيهم وشيوعُ ترك النهي عن المنكرات مع الكفر ، وقوله : واتّبع عطفٌ على مضمر دل عليه الكلامُ ، أي لم ينهَوا واتبع الخ فيكون العدولُ إلى المظهر لإدراج المباشرين معهم في الحكم والتسجيلِ عليهم بالظلم ، وللإشعار بعلية ذلك لما حاق بهم من العذاب ، أو على استئنافٍ يترتب على قوله : إلا قليلاً أي إلا قليلاً ممن أنجينا منهم نهَوا عن الفساد وتاركي النهي عنه ، فيكون الإظهارُ مقتضى الظاهِرِ ، وقوله : وكانوا مجرمين عطفٌ على أترفوا أي اتبعوا الإتراف ، وكونُهم مجرمين لأن تابعَ الشهواتِ مغمورٌ بالآثام ، أو أريد بالإجرام إغفالُهم للشكر ، أو على اتبع أي اتبعوا شهواتِهم وكانوا بذلك الاتباعِ مجرمين ، ويجوز أن يكون اعتراضاً وتسجيلاً عليهم بأنهم قومٌ مجرمون ، وقرىء وأُتْبع أي أُتبعوا جزاءَ ما أُترفوا فتكون الواو للحال ويجوز أن يُفسَّر به المشهورةُ ، ويعضُده تقدم الإنجاء .(3/397)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى } أي ما صح وما استقام بل استحال في الحكمةِ أن يُهلك القرى التي أهلكها حسب ما بلغك أنباؤها ويُعلم من ذلك حالُ باقيها من القرى الظالمةِ واللام لتأكيد النفي وقوله : { بِظُلْمٍ } أي ملتبساً به ، قيل : هو حالٌ من الفاعل أي ظالماً لها والتنكيرُ للتفخيم والإيذانِ بأن إهلاكَ المصلحين ظلمٌ عظيم والمرادُ تنزيهُ الله تعالى عن ذلك بالكلية بتصويره بصورة ما يستحيل صدورُه عنه تعالى وإلا فلا ظلمَ فيما فعله الله تعالى بعباده كائناً ما كان لِما تقرّر من قاعدة أهلِ السنة وقد مر تفصيلُه في سورة آل عمرانَ عند قولِه تعالى : { وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ } وقوله تعالى : { وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } حالٌ من المفعول والعاملُ عامله ولكن لا باعتبار تقيّدِه بما وقع حالاً من فاعله أعني بظلم لدلالته على تقيد نفي الإهلاكِ ظلماً بحال كونِ أهلِها مصلحين ، ولا ريب في فساده بل مطلقاً عن ذلك ، وقيل : المرادُ بالظلم الشركُ والباء للسببية أي لا يُهلك القرى بسبب إشراك أهلِها وهم مُصلِحون يتعاطَوْن الحقَّ فيما بينهم ولا يضمُّون إلى شركهم فساداً آخرَ ، وذلك لفرط رحمتِه ومسامحتِه في حقوقه تعالى ، ومن ذلك قدَّم الفقهاءُ عند تزاحم الحقوقِ حقوقَ العبادِ الفقراءِ على حقوق الله تعالى الغنيِّ الحميد ، وقيل : المُلكُ يبقى مع الشرك ولا يبقى مع الظلم ، وأنت تدري أن مقامَ النهي عن المنكرات التي أقبحُها الإشراكُ بالله لا يلائمه ، فإن الشركَ داخلٌ في الفساد في الأرض دخولاً أولياً ، ولذلك كان ينهي كلٌّ من الرسل الذين قُصّت أنباؤهم أمتَه أولاً عن الإشراك ثم عن سائر المعاصي التي كانوا يتعاطَونها ، فالوجهُ حملُ الظلمِ على مطلق الفسادِ الشاملِ للشرك وغيرِه من أصناف المعاصي ، وحملُ الإصلاحِ على إصلاحه والإقلاعِ عنه بكون بعضهم متصدّين للنهي عنه وبعضِهم متوجّهين إلى الاتعاظ غيرَ مُصرِّين على ما هم عليه من الشرك وغيرِه من أنواع الفساد .(3/398)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً } مجتمعةً على الحق ودين الإسلام بحيث لا يكاد يختلف فيه أحدٌ ولكن لم يشأ ذلك فلم يكونوا متفقين على الحق { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } في الحق أي مخالفين له كقوله تعالى : { وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات بَغْيًا بَيْنَهُمْ } { إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } إلا قوماً قد هداهم الله تعالى بفضله إلى الحق فاتفقوا عليه ولم يختلفوا فيه أي لم يخالفوه ، وحملُه على مطلق الاختلاف الشاملِ لِما يصدر من المُحق والمُبطل يأباه الاستثناءُ المذكور { ولذلك } أي ولما ذكر من الاختلاف { خَلْقَهُمْ } أي الذين بقُوا بعد الثنيا وهو المختلِفون ، فاللامُ للعاقبة أو للترحم فالضميرُ لمن واللام في معناها أو لهما معاً فالضميرُ للناس كافةً واللام بمعنى مجازيَ عامّ لكلا المعنيين { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ } أي وعيدُه أو قولُه للملائكة { لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } أي من عُصاتهما أجمعين أو منهما أجمعين لا من أحدهما ، { وَكُلاًّ } أي وكلَّ نبأ فالتنوينُ عوضٌ عن المضاف إليه { نَقُصُّ عَلَيْكَ } نجبرك به وقوله تعالى : { مِنْ أَنْبَاء الرسل } بيانٌ لكُلاًّ وقوله تعالى : { مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } بدلٌ منه والأظهر أن يكون المضافُ إليه المحذوفُ في كلاًّ المفعولَ المطلق لنقصُّ أي كلَّ أسلوبٍ من أساليبه نقصُّ عليك من أنباء الرسل ، وقوله تعالى : { مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } مفعولُ نقصّ وفائدتُه التنبيهُ على أن المقصودَ بالاقتصاص زيادةُ يقينه عليه السلام وطُمأنينةُ قلبه وثباتُ نفسه على أداء الرسالة واحتمالِ أذية الكفارِ بالوقوف على تفاصيل أحوالِ الأممِ السالفة في تماديهم في الضلال وما لقيَ الرسلُ من جهتهم من مكابدة المشاقّ { وَجَاءكَ فِى هذه } السورة أو الأنباءِ المقصوصة عليك { الحق } الذي لا محيد عنه { وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ } أي الجامعُ بين كونه حقاً في نفسه وكونهِ موعظةً وذكرى للمؤمنين ولكون الوصفِ الأولِ حالاً له في نفسه حُلّي باللام دون ما هو وصفٌ له بالقياس إلى غيره ، وتقديمُ الظرفِ أعني ( في هذه ) على الفاعل لأن المقصودَ بيانُ منافعِ السورةِ أو الأنباءِ المقصوصةِ فيها واشتمالِها على ما ذكر من المنافع المفصلةِ لا بيانُ كونِ ذلك فيها لا في غيرها ولأن عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ تبقى النفسُ مترقبةً إليه فيتمكن فيها عند الورودِ فضلُ تمكّنٍ ولأن في المؤخَّر نوعَ طولٍ يُخِلُّ تقديمُه بتجاوب أطرافِ النظمِ الكريم .(3/399)
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
{ وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } بهذا الحقِّ ولا يتعظون به ولا يتذكرون { اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } على حالكم وجِهتِكم التي هي عدمُ الإيمان { إِنَّا عَامِلُونَ } على حالنا وهو الإيمانُ به والاتعاظُ والتذكرُ به { وانتظروا } بنا الدوائرَ { إِنَّا مُنتَظِرُونَ } أن ينزل بكم نحوُ ما نزل بأمثالكم من الكفرة { وَللَّهِ غَيْبُ السموات والارض وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الامر كُلُّهُ } فيرجع لا محالة أمرُك وأمرُهم إليه وقرىء على البناء للفاعلِ من رجع رجوعاً { فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } فإنه كافيك ، والفاءُ لترتيب الأمرِ بالعبادة والتوكلِ على كون مرجعِ الأمور كلِّها إلى الله تعالى ، وفي تأخير الأمرِ بالتوكل عن الأمر بالعبادة إشعارٌ بأنه لا ينفع دونها { وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ } فيجازيهم بموجبه وقرىء تعملون على تغليب المخاطَب أي أنت وهم فيجازي كلاًّ منك ومنهم بموجب الاستحقاق . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ سورةَ هودٍ أُعطيَ من الأجر عشرُ حسناتٍ بعدد مَنْ صدّق كلَّ واحدٍ من الأنبياء المعدودين فيها عليهم الصلاة والسلام وبعدد مَنْ كذّبهم وكان يوم القيامة من السعداء بفضل الله سبحانه وتعالى »(3/400)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
( سورة يوسف عليه السلام مكية إلا الآيات 1 و 2 و 3 و 7 فمدنية وآياتها 111 )
{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم } { الر } الكلامُ فيه وفي محله وفيما أريد بالإشارة والآياتِ والكتابِ في قوله تعالى : { تِلْكَ ءايات الكتاب } عيْنُ ما سلف في مطلع سورةِ يونسَ { المبين } من أبان بمعنى بان أي الظاهرِ أمرُه في كونه من عند الله تعالى وفي إعجازه بنوعيه لا سيما الإخبارُ عن الغيب ، أو الواضحِ معانيه للعرب بحيث لا يشتبه عليهم حقائقُه ولا يلتبس لديهم دقائقُه لنزوله على لغتهم أو بمعنى بيّن أي المبين لِما فيه من الأحكام والشرائعِ وخفايا المُلكِ والملكوتِ وأسرارِ النشأتين في الدارين وغيرِ ذلك من الحِكَم والمعارف والقصص ، وعلى تقدير كونِ الكتاب عبارةً عن السورة فإبانتُه إنباؤُه عن قصة يوسفَ عليه السلام ، فإنه قد رُوي أن أحبارَ اليهودِ قالوا لرؤساء المشركين : سلوا محمداً صلى الله عليه وسلم لماذا انتقل آلُ يعقوبَ من الشام إلى مصر ، وعن قصة يوسفَ عليه السلام ففعلوا ذلك . فيكون وصفُ الكتابِ بالإبانة من قبيل براعةِ الاستهلالِ لما سيأتي ولمّا وُصف الكتابُ بما يدل على الشرف الذاتي عُقِّب ذلك بما يدل على الشرف الإضافي فقيل : { إِنَّا أنزلناه } أي الكتابَ المنعوتَ بما ذكر من النعوت الجليلةِ ، فإن كان عبارةً عن الكل وهو الأظهرُ الأنسبُ بقوله تعالى : { قُرْءاناً عَرَبِيّاً } إذ هو المشهورُ بهذا الاسم المعروفِ بهذا النعت المتسارعِ إلى الفهم عند إطلاقِهما فالأمرُ ظاهرٌ ، وإنْ جُعل عبارةً عن السورة فتسميتُها قرآناً لما عَرفته فيما سلف ، والسرُّ في ذلك أنه اسمُ جنسٍ في الأصل يقع على الكل والبعضِ كالكتاب ، أو لأنه مصدرٌ بمعنى المفعول أي أنزلناه حالَ كونِه مقروءاً بلغتكم { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي لكي تفهموا معانيَه طراً وتحيطوا بما فيه من البدائع خُبْراً وتطّلعوا على أنه خارجٌ عن طوق البشر منزَّلٌ من عند خلاق القُوى والقدر . { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ } أي نخبرك ونحدّثك ، واشتقاقُه من قصَّ أثرَه إذا اتّبعه لأن مَنْ يقُصّ الحديثَ يتْبع ما حفِظ منه شيئاً فشيئاً كما يقال : تلا القرآن لأنه يتْبع ما حفِظ منه آيةً بعد آية { أَحْسَنَ القصص } أي أحسن الاقتصاص فنصبُه على المصدريه وفيه مع بيان الواقعِ إيهامٌ لما في اقتصاص أهلِ الكتاب من القُبح والخلل ، وتركُ المفعولِ إما للاعتماد على انفهامه من قوله عز وجل : { بِمَا أَوْحَيْنَا } أي بإيحائنا { إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } أي هذه السورةَ فإن كونَها مُوحاةً منبىءٌ عن كون ما في ضمنها مقصوصاً ، والتعرضُ لعنوان قرآنيتِها لتحقيق أن الاقتصاصَ ليس بطريق الإلهامِ أو الوحي غيرَ المتلوِّ وإما لظهوره من سؤال المشركين بتلقين علماءِ اليهودِ ، وأحسنيّتُه لأنه قد اقتُصّ على أبدع الطرائق الرائعةِ الرائقةِ وأعجبِ الأساليب الفائقةِ اللائقةِ كما لا يكاد يخفى على من طالع القصةَ من كتب الأولين والآخرين وإن كان لا يميز الغثّ من السمين ، ولا يفرّق بين الشمال واليمين ، وفي كلمة هذا إيماءٌ إلى مغايرة هذا القرآنِ لما في قوله تعالى : { قُرْءاناً عَرَبِيّاً } بأن يكون المرادُ بذلك المجموعَ فتأمل .(3/401)
أو نقص عليك أحسنَ ما نقص من الأنباء وهو قصةُ آلِ يعقوبَ عليه السلام على أن القَصصَ فَعَلٌ بمعنى المفعول كالنبأ والخبر ، أو مصدرٌ سُمّي به المفعولُ كالخلْق والصيد ، ونصبُ أحسنَ على المفعولية وأحسنيتُها لتضمنها من الحِكم والعِبر ما لا يخفى كمالُ حسنه { وَإِن كُنتُ } إن مخففةٌ من الثقيلة ، وضميرُ الشأنِ الواقعُ اسماً لها محذوفٌ واللامُ فارقةٌ والجملةُ خبرٌ والمعنى وإنّ الشأن { مِن قَبْلِهِ } من قبل إيحائِنا إليك هذه السورةَ { لَمِنَ الغافلين } عن هذه القصة لم تخطُر ببالك ولم تقرَعْ سمعَك قطُّ ، وهو تعليلٌ لكونه مُوحى ، والتعبيرُ عن عدم العلم بالغفلة لإجلال شأنِ النبيِّ عليه السلام وإن غفَل عنه بعضُ الغافلين .(3/402)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
{ إِذْ قَالَ يُوسُفُ } نُصب بإضمار اذكرْ وشروعٌ في القصة إنجازاً للوعد بأحسنِ الاقتصاصِ ، أو بدلٌ من أحسنَ القصصِ على تقدير كونِه مفعولاً بدلَ اشتمالٍ فإن اقتصاصَ الوقتِ المشتملِ على المقصوص من حيث اشتمالُه عليه اقتصاصٌ للمقصوص ، ويوسُفُ اسمٌ عبريٌّ لا عربيٌّ لخلوّه عن سبب آخرَ غيرِ التعريف ، وفتح السين وكسرها على بعض القراءات بناءً على التلعّب به لا على أنه مضارعٌ بُني للمفعول أو الفاعلِ من آسَف لشهادة المشهورة بعجمته { لأَبِيهِ } يعقوبَ بنِ إسحاقَ بن إبراهيمَ عليهم الصلاة والسلام ، وقد روي عنه عليه السلام : « إن الكريمَ بنَ الكريمِ بنِ الكريمِ بن الكريم يوسفُ بنُ يعقوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ » { يا أبت } أصله يا أبي فعوِّض عن الياء تاءُ التأنيثِ لتناسُبهما في الزيادة فلذلك قُلبت هاءً في الوقف على قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو ، ويعقوبَ ، وكسرتُها لأنها عوضٌ عن حرف يناسبها وفتحها ابنُ عامر في كل القرآن لأنها حركةُ أصلها ، أو لأن الأصلَ يا أبتا فحُذف الألفُ وبقيت الفتحة ، وإنما لم يُجز يا أبتي لأنه جمعٌ بين العِوض والمعوَّض ، وقرىء بالضم إجراءً لها مُجرى الألفاظِ المؤنثة بالتاء من غير اعتبار التعويضِ وعدم تسكينها كأصلها لأنها حرفٌ صحيحٌ منزلٌ منزلةَ الاسمِ فيجب تحريكها ككاف الخطاب .
{ إِنّى رَأَيْتُ } من الرؤيا لا من الرؤية لقوله : { لاَ تَقْصُصْ رُءيَاكَ } { هذا تَأْوِيلُ رؤياى } ولأن الظاهرَ أن وقوعَ مثلِ هذه الأمور البديعةِ في عالم الشهادةِ لا يختص برؤية راءٍ دون راءٍ فيكون طامّةً كبرى لا يخفى على أحد من الناس { أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا والشمس والقمر } روي عن جابر رضي الله عنه : ( أن يهودياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أخبرني يا محمد عن النجوم التي رآهن يوسُف عليه السلام ، فسكت النبيُّ عليه السلام فنزل جبريلُ عليه السلام فأخبره بذلك فقال عليه السلام : « إذا أخبرتك بذاك هل تسلم؟ » فقال : نعم ، قال عليه السلام : « جريانُ والطارقُ والذيال وقابسُ وعمودان والفليقُ والمصبحُ والضّروحُ والفرعُ ووثّابُ وذو الكتفين ، رآها يوسف عليه السلام والشمس والقمر ونزلن من السماء وسجَدْن له » فقال اليهوديُّ : إي والله إنها لأسماؤها ) وقيل : الشمس والقمرُ أبواه ، وقيل : أبواه ، وقيل : أبوه وخالتُه والكواكبُ إخوتُه ، وإنما أُخِّر الشمسُ والقمر عن الكواكب لإظهار مزيتِهما وشرفِهما على سائر الطوالعِ بعطفهما عليهما كما في عطف جبريلَ وميكائيلَ على الملائكة عليهم السلام وقد جُوِّز أن تكون الواو بمعنى مع أي رأيت الكواكبَ مع الشمس والقمر ، ولا يبعُد أن يكون ذلك إشارةً إلى تأخر ملاقاتِه عليه السلام لهما عن ملاقاته لإخوته . وعن وهب أن يوسفَ عليه السلام رأى وهو ابنُ سبعِ سنين أن إحدى عشرةَ عصاً طِوالاً كانت مركوزة في الأرض كهيئة الداوة وإذا عصاً صغيرةٌ تثب عليها حتى اقتلعتْها وغلبتْها فوصف ذلك لأبيه فقال : إياك أن تذكرَ هذا لإخوتك ، ثم رأى وهو ابن ثنتي عشرةَ سنةً الشمسَ والقمرَ والكواكبَ تسجُد له فقصّها على أبيه ، فقال : لا تقصَّها عليهم فيبغوا لك الغوائل ، وقيل : كان بين رؤيا يوسفَ ومصير إخوتِه إليه أربعون سنةً ، وقيل : ثمانون { رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ } استئنافٌ ببيان حالِهم التي رآهم عليها كأن سائلاً سأل فقال : كيف رأيتهم؟ فأجاب بذلك ، وإنما أُجريت مُجرى العقلاءِ في الضمير لوصفها بوصف العقلاءِ السجود ، وتقديمُ الجار والمجرور لإظهار العنايةِ والاهتمام بما هو الأهمُّ مع ما في ضمنه من رعاية الفاصلة .(3/403)
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
{ قَالَ يَابُنَىَّ } صغّره للشفقه ، أو لها ولصِغَر السن وهو أيضاً استئنافٌ مبنيٌ على سؤال من قال : فماذا قال يعقوبُ بعد سماعِ هذه الرؤيا العجيبةِ؟ ولمّا عرَف يعقوبُ عليه السلام من هذه الرؤيا أن يوسفَ يبلّغه الله تعالى مبلغاً جليلاً من الحكمة ويصطفيه للنبوة وينعم عليه بشرف الدارين كما فعل بآبائه الكرامِ خاف عليه حسَدَ الإخوة وبغيَهم فقال صيانةً لهم من ذلك وله من معاناة المشاقِّ ومقاساةِ الأحزان ، وإن كان واثقاً بأن الله تعالى سيحقق ذلك لا محالة وطمعاً في حصوله بلا مشقة : { لاَ تَقْصُصْ رُءيَاكَ } هي ما في المنام كما أن الرؤيةَ ما في اليقظة ، فُرّق بينهما بحرفي التأنيث كما في القربى والقربة ، وحقيقتُها ارتسامُ الصورةِ المنحدرة من أفق المُتخيّلة إلى الحس المشترك ، والصادقةُ منها إنما تكون باتصال النفسِ بالملكوت لما بينهما من التناسب عند فراغِها من تدبير البدنِ أدنى فراغٍ فتتصور بما فيها مما يليق من المعاني الحاصلةِ هناك ثم إن المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبه فترسلها إلى الحس المشتركِ فتصير مشاهِدةً ثم إذا كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوتُ إلا بالكلية والجزئية استغنت الرؤيا عن التعبير وإلا احتاجت إليه { على إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ } نصب بإضمار أن أي فيفعلوا { لَكَ } أي لأجلك ولإهلاكك { كَيْداً } متيناً راسخاً لا تقدر على التفصّي عنه ، أو خفياً عن فهمك لا تتصدى لمدافعته وهذا أوفقُ بمقام التحذير وإن كان يعقوبُ عليه السلام يعلم أنهم ليسوا بقادرين على تحويل ما دلت الرؤيا على وقوعه ، وهذا الأسلوبُ آكدُ من أن يقال : فيكيدوك كيداً ، إذ ليس فيه دِلالةٌ على كون نفس الفعلِ مقصودَ الإيقاع ، وقد قيل : إنما جيء باللام لتضمينه معنى الاحتيالِ المتعدِّي باللام ليفيد معنى المضمَّنِ والمضمّن فيه للتأكيد أي فيحتالوا لك ولإهلاكك حيلةً وكيداً ، والمرادُ بإخوته هاهنا الذين يَخشى غوائلَهم ومكايدَهم بنو عَلاّته الأحدَ عشرَ ، وهم يهوذا وروبيلُ وشمعونُ ولاوي وربالون ويشجُرُ ودينة بنو بعقوب من ليا بنت خالته ودان ونفتالي وجاد وآشر بنوه من سريّتين زلفة وبلهة وهؤلاء هم المشارُ إليهم بالكواكب الأحدَ عشر وأما بنيامين الذي هو شقيقُ يوسفَ عليه السلام وأمُّهما راحيل التي تزوجها يعقوبُ عليه السلام بعد وفاة أختها ليّا أو في حياتها إذ لم يكن جمعُ الأختين إذ ذاك محرماً فليس بداخل تحت هذا النهي إذ لا يتوهم مضرّتُه ولا يُخشى معرّتُه ولم يكن معدوداً معهم في الرؤيا إذ لم يكن معهم في السجود ليوسف والمرادُ نهيُه عن اقتصاص الرؤيا عليهم كلاًّ أو بعضاً .
{ إِنَّ الشيطان للإنسان عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ظاهرُ العداوة فلا يألو جهداً في إغواء إخوتِك وإضلالِهم وحملهم على ما لا خير فيه ، وهو استئنافٌ كأن يوسف عليه السلام قال : كيف يصدر ذلك عن إخوتي الناشئين في بيت النبوة؟ فقيل : إن الشيطان يحمِلهم على ذلك ، ولما نبهه عليهما السلام على أن لرؤياه شأناً عظيماً يستتبع منافعَ وحذّره إشاعتَها المؤديةَ إلى أن يحول إخوتُه بينها وبين ظهورِ آثارِها وحصولِها أو يُوعروا سبيلَ وصولِها شرع في تعبيرها وتأويلها على وجه إجمالي فقال :(3/404)
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
{ وكذلك } أي ومثلَ ذلك الاجتباءِ البديعِ الذي شاهدتَ آثارَه في عالم المثالِ من سجود تلك الأجرامِ العلوية النيِّرةِ لك ، وبحسَبه وعلى وَفْقه { يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } يختارك لجناب كبريائِه ويستنبئك افتعال من جباه إذا جمعه ، ويصطفيك على أشراف الخلائقِ وسَراةِ الناس قاطبةً ويُبرز مصداق تلك الرؤيا في عالم الشهادة حسب ما عاينته من غير قصور ، والمرادُ بالتشبيه بيانُ المضاهاةِ المتحققةِ بين الصور المرئيةِ في عالم المثالِ وبين ما وقعت هي صوراً وأشباحاً له من الكائنات الظاهرةِ بحسبها في عالم الشهادة أي كما سُخّرت لك تلك الأجرامُ العظامُ يسخِّرْ لك وجوهَ الناس ونواصيَهم مذعنين لطاعتك خاضعين لك على وجه الاستكانة ، ومرادُه بيانُ إطاعةِ أبويه وإخوتِه له لكنه إنما لم يصرّح به حذراً من إذاعته { وَيُعَلّمُكَ } كلامٌ مبتدأٌ غيرُ داخل تحت التشبيه أراد به عليه السلام تأكيدَ مقالته وتحقيقَها وتوطينَ نفسِ يوسفَ عليه السلام بما أخبر به على طريقة التعبيرِ والتأويل ، كأنه قال وهو يعلمك { مِن تَأْوِيلِ الاحاديث } أي ذلك الجنسِ من العلوم أو طرفاً صالحاً منه فتطلّع على حقيّة ما أقول ، ولا يخفى ما فيه من تأكيد ما سبق والبعثِ على تلقي ما سيأتي بالقبول ، والمرادُ بتأويل الأحاديث تعبيرُ الرؤيا إذ هي أحاديثُ الملَكِ إن كانت صادقةً أو أحاديثُ النفس أو الشيطان إن لم تكن كذلك ، والأحاديثُ اسم جمعٍ للحديث كالأباطيل اسم جمع للباطل لا جمع أُحدوثة ، وقيل : كأنهم جمعوا حديثاً على أحْدِثة ثم جمعوا الجمعَ على أحاديث كقطيع وأقطِعة وأقاطيع ، وقيل : هو تأويلُ غوامضِ كتب الله تعالى وسنن الأنبياء عليهم السلام ، والأولُ هو الأظهرُ ، وتسميةُ التعبير تأويلاً لأنه جُعل المرئيُّ آيلاً إلى ما يذكره المعبِّرُ بصدد التعبير ورجْعِه إليه فكأنه عليه الصلاة والسلام أشار بذلك إلى ما سيقع من يوسف عليه السلام من تعبيره لرؤيا صاحبَيْ السجنِ ورؤيا الملِك وكون ذلك ذريعةً إلى ما يبلّغه الله تعالى إليه من الرياسة العظمى التي عبر عنها بإتمام النعمة ، وإنما عرَف يعقوبُ عليه السلام ذلك منه من جهة الوحي ، أو أراد كونَ هذه الخَصلةِ سبباً لظهور أمرِه عليه السلام على الإطلاق فيجوز حينئذ أن تكون معرفتُه عليه السلام لذلك بطريق الفِراسةِ والاستدلال من الشواهد والدلائل والأَمارات والمخايل بأن مَن وفقه الله تعالى لمثل هذه الرؤيا لا بد من توفيقه لتعبيرها وتأويل أمثالِها وتمييز ما هو آفاقيٌّ منها مما هو أنفُسيٌّ . كيف لا وهي تدل على كمال تمكّن نفسِه عليه السلام في عالم المثال وقوةِ تصرفاتِها فيه فيكون أقبلَ لفيضان المعارفِ المتعلّقة بذلك العالم وبما يحاكيه من الأمور الواقعةِ بحسبها في عالم الشهادةِ وأقوى وقوفاً على النِّسب الواقعة بين الصور المعاينةِ في أحد ذينك العالمين وبين الكائنات الظاهرةِ على وفقها في العالم الآخر ، وأن هذا الشأنَ البديلَ لا بد أن يكون أنموذجاً لظهور أمرِ من اتصف به ومداراً لجريان أحكامِه فإن لكل نبيَ من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معجزةً بها تظهر آثارُه وتجري أحكامُه { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } بأن يضم إلى النبوة المستفادةِ من الاجتباء المُلكَ ويجعله تتمة لها ، وتوسيطُ ذكر التعليم المذكور بينهما لكونه من لوازم النبوةِ والاجتباءِ ولرعاية ترتيبِ الوجود الخارجي ولِما أشرنا إليه من كون أثرِه وسيلةً إلى تمام النعمةِ ويجوز أن يعدّ نفسُ الرؤيا من نعم الله تعالى عليه فيكون جميعُ النعم الواصلة إليه من كون أثرِه وسيلةً إلى تمام النعمةِ ، ويجوز أن يُعدَّ نفس الرؤيا من نعم الله تعالى عليه فيكون جميع النعم الواصلة إليه بحسبها مصداقاً لها تماماً لتلك النعمة .(3/405)
{ وعلى ءالِ يَعْقُوب } وهم أهلُه من بنيه وغيرهم فإن رؤيةَ يوسفَ عليه السلام إخوتَه كواكبَ يهتدى بأنوارها من نعم الله تعالى عليهم لدِلالتها على مصير أمرِهم إلى النبوة فيقع كلُّ ما يخرج من القوة إلى الفعل من كمالاتهم بحسب ذلك تماماً لتلك النعمةِ لا محالة ، وأما إذا أريد بتمام تلك النعمةِ المُلكُ فكونُه كذلك بالنسبة إليهم باعتبار أنهم يغتنمون آثارَه من العزِ والجاهِ والمال ، { كَمَا أَتَمَّهَا على أَبَوَيْكَ } نصبٌ على المصدرية أي ويتم نعمتَه عليك إتماماً كائناً كإتمام نعمتِه على أبويك وهي نعمةُ الرسالةِ والنبوةِ وإتمامُها على إبراهيمَ عليه السلام باتخاذه خليلاً وإنجائه من النار ومن ذبح الولدِ ، وعلى إسحاقَ بإنجائه من الذبح وفدائِه بذِبْحٍ عظيم وبإخراج يعقوبَ والأسباطِ من صُلبه وكلُّ ذلك نعمٌ جليلة وقعت تتمةً لنعمة النبوة . ولا يجب في تحقيق التشبيهِ كونُ ذلك في جانب المشبّه به مثلَ ما وقع في جانب المشبه من كل وجه { مِن قَبْلُ } أي من قبل هذا الوقت أو من قبلك { إِبْرَاهِيمَ * وإسحاق } عطفُ بيانٍ لأبويك ، والتعبيرُ عنهما بالأب من كونهما أبا جدِّه وأبا أبيه للإشعار بكمال ارتباطِه بالأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام وتذكيرِ معنى : الولدُ سرُّ أبيه ليطمئن قلبُه بما أخبر به في ضمن التعبيرِ الإجمالي لرؤياه ، والاقتصارُ في المشبه به على ذكر إتمام النعمةِ من غير تعرض للاجتباء من باب الاكتفاء فإن إتمامَ النعمةِ يقتضي سابقةَ النعمة المستدعيةِ للاجتباء لا محالة { إِنَّ رَبَّكَ } استئنافٌ لتحقيق مضمونِ الجُمل المذكورةِ أي يفعل ما ذكر لأنه { عَلِيمٌ } بكل شيءٍ فيعلم من يستحق الاجتباءَ وما يتفرَّع عليه من التعليم المذكورِ وإتمامِ النعمةِ العامة على الوجه المذكور { حَكِيمٌ } فاعلٌ لكل شيءٍ حسبما تقتضيه الحكمةُ والمصلحة فيفعل ما يفعل كما يفعل جرياً على سنن علمِه وحكمتِه ، والتعرضُ لعنوان الربوبيةِ في الموضعين لتربية تحققِ وقوعِ ما ذكر من الأفاعيل . هذا وقد قيل في تفسير الآية الكريمةِ : أي وكما اجتباك لمثل هذه الرؤيا الدالةِ على شرف وعزَ وكمالِ نفس يجتبيك ربُّك للنبوة والمُلك أو لأمور عِظامٍ ويُتمُّ نعمتَه عليك بالنبوة أو بأن يصل نعمةَ الدنيا بنعمة الآخرة حيث جعلهم في الدنيا أنبياءَ وملوكاً ونقلهم عنها إلى الدرجات العلا في الجنة كما أتمها على أبويك بالرسالة فتأمل والله الهادي .(3/406)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)
{ لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ } أي في قصتهم والمرادُ بهم هاهنا إما جميعُهم فإن لبنيامينَ أيضاً حصةً من القصة أو بنو عَلاّته المعدودون فيما سلف إذ عليهم يدور رحاها { ءايات } علاماتٌ عظيمةُ الشأنِ دالةٌ على قدرة الله تعالى القاهرة { لّلسَّائِلِينَ } لكل من سأل عن قصتهم وعرفها أو الطالبين للآيات المعتبرين بها فإنهم الواقفون عليها والمنتفعون بها دون مَنْ عداهم ممن اندرج تحت قوله تعالى : { وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ فِى السموات والارض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } فالمرادُ بالقصة نفسُ المقصوص أو على نبوته عليه السلام لمن سأله من المشركين أو اليهود عن قصتهم فأخبرهم بذلك على ما هي عليه من غير سماعٍ من أحد ولا ممارسةِ شيء من الكتب فالمرادُ بها اقتصاصُها ، وجمعُ الآيات حينئذ للإشعار بأن اقتصاصَ كلِّ طائفةٍ من القصة آيةٌ بينةٌ كافيةٌ في الدلالة على نبوته عليه السلام على نحو ما ذكر في قوله تعالى : { مَّقَامِ إبراهيم } على تقدير كونِه عطفَ بيان لقوله تعالى : { آيَات بَيّنَات } لا لما قيل من أنه لتعدد جهةِ الإعجاز لفظاً ومعنى ، وقرأ ابن كثير آيةٌ وفي بعض المصاحف عبرةٌ وقيل : إنما قص الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم خبرَ يوسفَ وبغْيَ إخوتِه عليه لِما رأى من بغْي قومه عليه ليتأسّى به { إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ } أي شقيقُه بنيامينُ وإنما لم يذكَرْ باسمه تلويحاً بأن مدار المحبةِ أُخوّتُه ليوسف من الطرفين ، ألا يُرى إلى أنهم كيف اكتفَوا بإخراج يوسفَ من البين من غير تعرُّضٍ له حيث قالوا : اقتلوا يوسف { أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا } وحّد الخبر مع تعدد المبتدأ لأن أفعل من كذا لا يفرّق فيه بين الواحدِ وما فوقه ، ولا بين المذكر والمؤنث ، نعم إذا عُرّف وجب الفرقُ وإذا أضيف جاز الأمران ، وفائدةُ لام الابتداءِ في يوسف تحقيقُ مضمونِ الجملة وتأكيدُه { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } أي والحالُ أنا جماعةٌ قادرون على الحل والعقد أحقاءُ بالمحبة ، والعُصبة والعِصابة العشَرةُ من الرجال فصاعداً سُمّوا بذلك لأن الأمورَ تُعصَب بهم { إِنَّ أَبَانَا } في ترجيحهما علينا في المحبة مع فضلنا عليهما وكونهما بمعزل من كفاية الأمورِ بالصِّغر والقلة { لَفِى ضلال } أي ذهب عن طريق التعديلِ اللائقِ وتنزيلِ كلَ منا منزلتَه { مُّبِينٍ } ظاهرِ الحال . روي أنه كان أحبَّ إليه لما يرى فيه من مخايل الخيرِ وكان إخوتُه يحسُدونه فلما رأى الرؤيا ضاعف له المحبة بحيث لم يصبِر عنه فتضاعف حسدُهم حتى حملهم على مباشرة ما قُص عنهم .(3/407)
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
{ اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضًا } من جملة ما حُكي بعد قوله إذا قالوا وقد قاله بعضٌ منهم مخاطباً للباقين بقضية الصيغة فكأنهم رضُوا بذلك كما يروى أن القائلَ شمعونُ أو دان ، والباقون كانوا راضين إلا من قال : لا تقتلوا الخ ، فجعلوا كأنهم القائلون وأُدرجوا تحت القولِ المسندِ إلى الجميع أو قاله كلُّ واحدٍ منهم مخاطباً للبقية وهو أدلُّ على مسارعتهم إلى ذلك القولِ . وتنكيرُ أرضاً وإخلاؤها من الوصف للإبهام أي أرضاً منكورةً مجهولة بعيدةً من العُمران ولذلك نصبت نصبَ الظروفِ المُبهمة { يَخْلُ } بالجزم جوابٌ للأمر أي يخلُصْ { لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } فيُقبل عليكم بكلّيته ولا يلتفتْ عنكم إلى غيركم ولا يساهمكم في محبته أحدٌ فذكرُ الوجه لتصوير معنى إقبالِه عليهم { وَتَكُونُواْ } بالجزم عطفاً على يخْلُ أو بالنصب على إضمار أنْ أو الواو بمعنى مع مثل قوله : { وَتَكْتُمُواْ الحق } وإيثارُ الخطابِ في لكم وما بعده للمبالغة في حملهم على القبول فإن اعتناءَ المرءِ بشأن نفسِه واهتمامَه بتحصيل منافعِه أتمُّ وأكمل { مِن بَعْدِهِ } من بعد يوسفَ أي من بعد الفراغِ من أمره أو طرحه { قَوْمًا صالحين } تائبين إلى الله تعالى عما جنيتم أو صالحين مع أبيكم بإصلاح ما بينكم وبينه بعذر تمهّدونه أو صالحين في أمور دنياكم بانتظامها بعده بخلُوّ وجه أبيكم { قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ } هو يهوذا وكان أحسنَهم فيه رأياً وهو الذي قال : { فَلَنْ أَبْرَحَ الارض } الخ ، وقيل : روبيل وهو استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال من سأل وقال : اتفقوا على ما عُرض عليهم من خصلتي الضّيْع أم خالفهم في ذلك أحدٌ فقيل : قال قائل منهم : { لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ } أظهره في مقام الإضمار استجلاباً لشفقتهم عليه أو استعظاماً لقتله وهو هو ، فإنه يروى أنه قال لهم : القتلُ عظيمٌ ولم يصرّح بنهيهم عن الخَصلة الأخرى وأحاله على أولوية ما عرضه عليهم بقوله : { وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَةِ الجب } أي في قعره وغوره . سُمِّي بها لغَيبته عن عين الناظرِ ، والجبّ البئرُ التي لم تُطْوَ بعدُ لأنها أرضٌ جُبّت جباً من غير أن يُزاد على ذلك شيءٌ ، وقرأ نافعٌ في غيابات الجب في الموضعين كأن لتلك الجبّ غياباتٍ أو أراد بالجب الجنسَ أي في بعض غيابات الجبِّ وقرىء غيابات وغيبة { يَلْتَقِطْهُ } يأخذْه على وجه الصيانة عن الضياع والتلف فإن الالتقاطَ أخذُ شيءٍ مشرف على الضياع { بَعْضُ السيارة } أي بعض طائفةٍ تسير في الأرض واللام في السيارة كما في الجب وما فيهما وفي البعض من الإبهام لتحقيق ما يتوخاه من ترويج كلامِه بموافقته لغرضهم الذي هو تنائي يوسفَ عنهم بحيث لا يدرى أثرُه ولا يروى خبرُه وقرىء تلتقطْه على التأنيث لأن بعضَ السيارة سيارةٌ كقوله :
كما شرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدمِ ... ومنه قُطعت بعضُ أصابعه { إِن كُنتُمْ فاعلين } بمشورتي ، لم يبُتَّ القول عليهم بل إنما عرض عليهم ذلك تألفاً لقلبهم وتوجيهاً لهم إلى رأيه وحذراً من نسبتهم له إلى التحكم والافتيات ، أو إن كنتم فاعلين ما أزمعتم عليه من إزالته من عند أبيه لا محالة ولما كان هذا مظنةً لسؤال سائل يقول : فما فعلوا بعد ذلك قبِلوا ذلك منه أو لا؟ أجيب بطريق الاستئناف على وجه أُدرج في تضاعيفه قبولُهم له بما سيجيء من قوله : { وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَةِ الجب } فقيل :(3/408)
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
{ قَالُواْ يا أَبَانَا } خاطبوه بذلك تحريكاً لسلسلة النسبِ بينه وبينهم وتذكيراً لرابطة الأخوّة بينهم وبين يوسفَ عليه الصلاة والسلام ليتسببوا بذلك إلى استنزاله عليه السلام عن رأية في حفظه منهم لمّا أحس منه بأمارات الحسد والبغي فكأنهم قالوا : { مَا لَكَ } أي أيُّ شيء لك { لاَ تَأْمَنَّا } أي لا تجعلنا أمناءَ { على يُوسُفَ } مع أنك أبونا ونحن بنوك وهو أخونا { وَإِنَّا لَهُ لناصحون } مريدون له الخيرَ ومشفقون عليه ليس فينا ما يُخلُّ بالنصيحة والمِقَة قطُّ والقراءة المشهورةُ بالإدغام والإشمام . وعن نافع رضي الله عنه تركُ الإشمام ومن الشواذ ترك الإدغام { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً } إلى الصحراء { يَرْتَعْ } أي يتسعْ في أكل الفواكه ونحوها فإن الرتع هو الاتساعُ في الملاذ { وَيَلْعَبْ } بالاستباق والتناضل ونظائرِهما مما يُعد من باب التأهّب للغزو ، وإنما عبروا عن ذلك باللعب لكونه على هيئته تحقيقاً لما راموه من استصحاب يوسفَ عليه السلام بتصويرهم له بصورة ما يلائم حاله عليه السلام ، وقرىء نرتعْ ونلعبْ بالنون ، وقرأ ابن كثير نرتِع من ارتعى ونافع بالكسر والياء فيه وفي يلعب وقرىء يُرتِعْ من أرتع ماشيتَه ويرتعِ بكسر العين ويلعبُ بالرفع على الابتداء { وَإِنَّا لَهُ لحافظون } من أن يناله مكروهٌ أكدوا مقالتَهم بأصناف التأكيدِ من إيراد الجملة اسميةً وتحليتها بإنّ واللام وإسنادُ الحفظ إلى كلهم وتقديمُ له على الخبر احتيالاً في تحصيل مقصدهم .
{ قَالَ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال من يقول : فماذا قال يعقوبُ عليه السلام؟ فقيل : قال : { إِنّى لَيَحْزُنُنِى } اللامُ للابتداء كما في قوله عز وجل : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } { أَن تَذْهَبُواْ بِهِ } لشدة مفارقتِه عليّ وقلة صبري عنه { و } مع ذلك { أَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذئب } لأن الأرض كانت مَذأبة والحزنُ ألمُ القلب بفوت المحبوبِ والخوفُ انزعاجُ النفسِ لنزول المكروهِ ولذلك أُسند الأولُ إلى الذهاب به المفوِّتِ لاستمرار مصاحبتِه ومواصلتِه ليوسف والثاني إلى ما يُتوقع نزولُه من أكل الذئبِ ، وقيل : رأى في المنام أنه قد شد عليه عليه السلام ذئبٌ وكان يحذَره فقال ذلك ، وقد لقنهم للعلة
إن البلاء موكل بالمنطق ... وقرأ ابن كثير ، ونافع ، في رواية البزي بالهمزة على الأصل ، وأبو عمرو به وقفاً . وعاصم ، وابنُ عامر ، وحمزةُ درجاً وقيل : اشتقاقه من تذاءبت الريحُ إذا هاجت من كل جانب ، وقال الأصمعي : الأمرُ بالعكس وهو أظهر لفظاً ومعنى { وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافلون } لاشتغالكم بالرتع واللِّعْب أو لقلة اهتمامِكم بحفظه .(3/409)
قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
{ قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } أي والحالُ أنا جماعةٌ كثيرةٌ جديرةٌ بأن تُعصَّب بنا الأمورُ العظام وتُكفى الخطوبُ بآرائنا وتدبيراتِنا واللام الداخلةُ على الشرط موطئةٌ للقسم وقوله : { إِنَّا إِذَا لخاسرون } جوابٌ مُجزىءٌ عن الجزاء أي لها لكون ضعفاً وخوَراً وعجزاً أو مستحقون للهلاك إذ لا غَناء عندنا ولا جدوى في حياتنا أو مستحقون لأن يدعى علينا بالخَسار والدمار ويقال : خسّرهم الله تعالى ودمّرهم حيث أكل الذئبُ بعضهم وهم حضور ، وقيل : إن لم نقدِر على حفظه وهو أعزُّ شيء عندنا فقد هلكت مواشينا إذن وخسِرناها ، وإنما اقتصروا على جواب خوف يعقوبَ عليه السلام من أكل الذئب لأنه السببُ القوي في المنع دون الحزن لِقصر مدّته بناء على أنهم يأتون به عن قريب { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ } أي أزمعوا { أَن يَجْعَلُوهُ } مفعولٌ لأجمعوا يقال : أجمع الأمرَ ومنه { فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ } ولا يستعمل ذلك إلا في الأفعال التي قوِيت الدواعي إلى فعلها { فِى غَيَابَةِ الجب } قيل : هي بئرٌ بأرض الأردنّ ، وقيل : بين مصرَ ومدينَ ، وقيل : على ثلاثة فراسخَ من منزل يعقوبَ عليه السلام بكنعانَ التي هي من نواحي الأردنّ كما أن مدينَ كذلك ، وأما ما يقال من أنها بئرُ بيتِ المقدس فيردّه التعليلُ بالتقاط السيارةِ ومجيئهم أباهم عشاءَ ذلك اليومِ فإن بين منزل يعقوبَ عليه السلام وبين بيت المقدس مراحل . وجوابُ لما محذوفٌ إيذاناً بظهوره وإشعاراً بأن تفصيلَه مما لا يحويه فلكُ العبارة ، ومجملُه فعلوا به من الأذية ما فعلوا . يروى أنهم لما برزوا إلى الصحراء أخذوا يُؤْذونه ويضرِبونه حتى كادوا يقتلونه ، فجعل يصيح ويستغيث ، فقال يهوذا : أما عاهدتموني ألا تقتلوه ، فأتَوا به إلى البئر فتعلق بثيايهم فنزعوها من يديه فدلّوه فيها فتعلق بشفيرها فربطوا يديه ، ونزعوا قميصَه لِما عزموا عليه من تلطيخه بالدم احتيالاً لأبيه ، فقال : يا إخوتاه ردوا عليّ قميصي أتوارى به فقالوا : ادعُ الشمسَ والقمرَ والأحدَ عشر كوكباً تؤنسك ، فدلوه فيها ، فلما بلغ نصفها ألقَوْه ليموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وهو يبكي ، فنادَوه وظن أنها رحمةٌ أدركتهم . فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه فمنعهم يهوذا ، وكان يأتيه بالطعام كلَّ يوم . ويروى أن إبراهيمَ عليه السلام حين ألقي في النار وجُرِّد عن ثيابه أتاه جبريلُ عليه السلام بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فدفعه أبراهيمُ إلى إسحاقَ وإسحاقُ إلى يعقوبَ فجعله يعقوبُ في تميمة وعلقها في عنق يوسفَ ، فجاءه جبريل عليه السلام فأخرجه من التميمة فألبسه إياه .
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ } عند ذلك تبشيراً له بما يؤول إليه أمره وإزالةً لوحشته وإيناساً له ، قيل : كان ذلك قبل إدراكِه كما أوحي إلى يحيى وعيسى ، وقيل : كان إذ ذاك مدركاً ، قال الحسن رضي الله عنه : كان له سبعَ عشرةَ سنة { لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا } أي لتَتخَلّصن مما أنت فيه من سوء الحالِ وضيقِ المجال ولتُحدِّثن إخوتَك بما فعلوا بك { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } بأنك يوسفُ لتبايُن حالَيك : حالِك هذا وحالِك يومئذ لعلو شأنِك وكبرياءِ سلطانِك وبُعد حالِك عن أوهامهم ، وقيل : لبعد العهد المبدِّلِ للهيئات المغيِّرِ للأشكال ، والأولُ أدخلُ في التسلية ، روي أنهم حين دخلوا عليه ممارين فعرفهم وهم له منكرون دعا بالصُّواع فوضعه على يده ثم نقره فطنّ ، فقال : إنه ليُخبرني هذا الجامُ أنه كان لكم أخٌ من أبيكم يقال له يوسفُ وكان يُدْنيه دونكم أونكم انطلقتم به وألقَيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيكم أكله الذئبُ وبعتموه بثمن بخس ، ويجوز أن يتعلق ( وهم لا يشعرون ) بالإيحاء على معنى أنا آنسناه بالوحي وأزلنا عن قلبه الوحشةَ التي أورثوه إياها وهم لا يشعرون بذلك ويحسبون أنه مرهَقٌ مستوحِشٌ لا أنيس له .(3/410)
وقرىء لننبئنّهم بالنون على أنه وعيدٌ لهم فقوله تعالى : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } متعلق بأوحينا لا غيرُ .(3/411)
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
{ وَجَاءوا أَبَاهُمْ عِشَاءً } آخر النهار وقرىء عُشِيّا وهو تصغير عشى وعُشىً بالضم والقصر جمع أعشى أي عَشْواً من البكاء { يَبْكُونَ } متباكين . روي أنه لما سمع يعقوبُ عليه السلام بكاءهم فزع وقال : ما لكم يا بَنيّ وأين يوسف؟ { قَالُواْ يأَبَانَا إنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } أي متسابقين في العدْو والرمي وقد يشترك الافتعال والتفاعل كالانتضال والتناضل ونظائرهما { وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ متاعنا } أي ما نتمتع به من الثياب والأزواد وغيرِهما { فَأَكَلَهُ الذئب } عَقيبَ ذلك من غير مُضيِّ زمانٍ يعتاد فيه التفقدُ والتعهدُ . وحيث لا يكاد يُطرح المتاعُ عادة إلا في مقام يُؤْمن فيه الغوائلُ لم يعُدْ تركُه عليه السلام عنده من باب الغفلة وتركِ الحظ الملتزَم لا سيما إذا لم يبرحوه ولم يغيبوا عنه ، فكأنهم قالوا : إنا لم نقصِّر في محافظته ولم نغفُلْ عن مراقبته بل تركناه في مأمننا ومجمعنا بمرأىً منا لأن ميدانَ السباق لا يكون عادة إلا بحيث يتراءى غايتاه وما فارقناه إلا ساعةً يسيرةً بيننا وبينه مسافةٌ قصيرة فكان ما كان { وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } بمصدّق لنا في هذه المقالة الدالةِ على عدم تقصيرِنا في أمره { وَلَوْ كُنَّا } عندك وفي اعتقادك { صادقين } موصوفين بالصدق والثقةِ لشدة محبتك ليوسف فكيف وأنت سيّءُ الظن بنا غيرُ واثقٍ بقولنا ، وكلمة لو في أمثال هذه المواقعِ لبيان تحقق ما يفيده الكلامُ السابق من الحكم الموجَبِ أو المنفيِّ على كل حال مفروض من الأحوال المقارنةِ له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدِّها منافاةً له ليظهر بثبوته أو انتفائِه معه ثبوتُه أو انتفاؤه مع غيره من الأحوال بطريق الأولوية ، لِما أن الشيءَ متى تحقق مع المنافي القويِّ فلأَنْ يتحققَ مع غيره أولى ، ولذلك لا يُذكر معه شيٌ من سائر الأحوال ويكتفى عنه بذكر الواوِ العاطفةِ للجملة على نظيرتها المقابلةِ لها الشاملةِ لجميع الأحوال المغايرة لها عند تعدّدِها ، وقد مرَّ تفصيله في سورة البقرة عند قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله قَالُواْ } وفي سورة الأعراف عند قوله تعالى : { أَوَلَوْ كُنَّا كارهين }(3/412)
وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
{ وَجَاءوا على قَمِيصِهِ } محلُّه النصبُ على الظرفية من قوله : { بِدَمٍ } أي جاءوا فوق قميصِه بدم كما تقول : جاء على جِماله بأحمال ، أو على الحالية منه والخلاف في تقدم الحال على المجرور فيما إذا لم يكن الحالُ ظرفاً { كَذِبٍ } مصدرٌ وصف به الدمُ مبالغةً ، أو مصدرٌ بمعنى المفعول أي مكذوبٍ فيه أو بمعنى ذي كذب أي ملابِسٍ لكذب ، وقرىء كذباً على أنه حالٌ من الضمير ، أي جاءوا كاذبين أو مفعولٌ له ، وقرأت عائشة رضي الله تعالى عنها بغير المعجمة أي كدر ، وقيل : طريّ ، قال ابن جني : أصلُه من الكدب وهو الفُوف أي البياض الذي يخرج على أظفار الأحداث كأنه دم قد أثر في قميصه . روي أنهم ذبحوا سَخْلةً ولطّخوه بدمها وزلّ عنهم أن يمزقوه ، فلما سمع يعقوبُ بخبر يوسف عليهما السلام صاح بأعلى صوته وقال : أين القميصُ؟ فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضَب وجهَه بدم القميص وقال : تالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلمَ من هذا ، أكل ابني ولم يمزِّقْ عليه قميصه . وقيل : كان في قميص يوسف عليه السلام ثلاثُ آياتٍ كان دليلاً ليعقوب على كذبهم وألقاه على وجهه فارتد بصيراً ودليلاً على براءة يوسف عليه السلام حين قُدّ مِنْ دُبر { قَالَ } استئنافٌ مبني على سؤال فكأنه قيل : ما قال يعقوبُ هل صدقهم فيما قالوا أو لا؟ فقيل : لم يكن ذلك { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ } أي زينت وسهّلت قاله ابن عباس رضي الله عنهما والتسويلُ تقديرُ شيءٍ في النفس مع الطمع في إتمامه . قال الأزهري : كأنّ التسويلَ تفعيلٌ من سُؤل الإنسان وهو أمنيتُه التي يطلبها فتزين لطالبها الباطلَ وغيرَه ، وأصله مهموز ، وقيل : من السَّوَل وهو الاسترخاء { أمْراً } من الأمور منْكراً لا يوصف ولا يعرف { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } أي فأمري صبرٌ جميلٌ أو فصبرٌ أجملُ أو أمثلُ . وفي الحديث : " الصبرُ الجميلُ الذي لا شكوى فيه " أي إلى الخلق وإلا فقد قال يعقوبُ عليه السلام : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ، وقيل : سقط حاجباه على عينيه فكان يرفعهما بعصابة ، فقيل له : ما هذا؟ قال : طولُ الزمان وكثرةُ الأحزان فأوحى الله عز وجل إليه : «يا يعقوبُ أتشكوني؟» قال : يا رب خطيئةٌ فاغفِرها لي ، وقرأ أُبيّ فصبراً جميلاً { والله المستعان } أي المطلوبُ منه العونُ وهو إنشاءٌ منه عليه السلام للاستعانة المستمرة { على مَا تَصِفُونَ } على إظهار حال ما تصفون وبيانِ كونِه كذباً ، وإظهارِ سلامتِه فإنه عَلَم في الكذب قال سبحانه : { سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ } وهو الأليقُ بما سيجيء من قوله تعالى : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا } وتفسيرُ المستعانِ عليه باحتمال ما يصفون من هلاك يوسفَ والصبرِ على الرزء فيه يأباه تكذيبُه عليه السلام لهم في ذلك ، ولا تساعدُه الصيغةُ فإنها قد غلَبت في وصف الشيء بما ليس فيه كما أشير إليه .(3/413)
{ وَجَاءتْ } شروعٌ في بيان ما جرى على يوسف في الجب بعد الفراغِ من ذكر ما وقع بين إخوتِه وبين أبيه ، والتعبيرُ بالمجيء ليس بالنسبة إلى مكانهم فإن كنعانَ ليس بالجانب المصريِّ من مدينَ بل إلى مكان يوسف وفي إيثاره على المرور أو الإتيانِ أو نحوهما إيماءٌ إلى كونه عليه السلام في الكرامة والزلفى عند مليكٍ مقتدرٍ والظاهر أن الجب كان في الأمم المئتاء فإن المتبادر من إسناد المجيء إلى السيارة مطلقاً في قوله عز وجل : { سَيَّارَةٌ } أي رفقةٌ تسير من جهة مدينَ إلى مصرَ وقوعُه باعتبار سيرِهم المعتادِ وهو الذي يقتضيه قوله تعالى فيما سلف : { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة } وقد قيل إنه كان في قفرة بعيدةٍ من العُمران لم تُمكن إلا للرعاة فأخطأوا الطريقَ فنزلوا قريباً منه ، وقيل : كان ماؤه مِلْحاً فعذُبَ حين ألقي فيه عليه السلام { فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ } الذي يرد الماءَ ويستقي لهم وكان ذلك مالك بنُ ذعر الخزاعيّ وإنما لم يُذكر منتهى الإرسالِ كما لم يذكر منتهى المجيءِ أعني الجب للإيذان بأن ذلك معهودٌ لا يُضرب عنه الذكرُ صفحاً { فأدلى دَلْوَهُ } أي أرسلها إلى الجب والحذفُ لما عرفتَه فتدلى بها يوسف فخرج .
{ قَالَ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال يقتضيه الحال { يابشرى هذا غُلاَمٌ } كأنه نادى البُشرى وقال : تعالَيْ ، فهذا أوانُك حيث فاز بنعمة باردةٍ وأيِّ نعمةٍ مكانَ ما يوجد مباحاً من الماء . وقيل : هو اسمُ صاحبٍ له ناداه ليُعينَه على إخراجه ، وقرأ غيرُ الكوفيين يا بشرايَ وأمال فتحةَ الراءِ حمزةُ والكِسائيُّ وقرأ ورشٌ بين اللفظين يا بُشْرَيَّ بالإدغام وهي لغة ، وبشرايْ على قصد الوقف { وَأَسَرُّوهُ } أي أخفاه الواردُ وأصحابُه عن بقية الرفقة ، وقيل : أخفَوا أمرَه ووجدانَهم له في الجب وقالوا لهم : دفعَه إلينا أهلُ الماء لنبيعه لهم بمصرَ ، وقيل : الضميرُ لإخوة يوسفَ وذلك أن يهوذا كان يأتيه كلَّ يوم بطعام فأتاه يومئذ فلم يجدْه فيها فأخبر إخوتَه فأتَوا الرفقةَ وقالوا : هذا غلامُنا أبَقَ منا فاشترَوه منهم وسكت يوسفُ مخافةَ أن يقتُلوه ولا يخفى ما فيه من البعد { بضاعة } نُصب على الحالية أي أخفَوه حالَ كونِه بضاعةً أي متاعاً للتجارة فإنها قطعةٌ من المال بُضعت عنه أي قطعت للتجارة { والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } وعيدٌ لهم على ما صنعوا من جعلهم مثلَ يوسفَ وهو هو عرضةً للابتذال بالبيع والشراءِ وما دبروا في ذلك من الحيل .(3/414)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
{ وَشَرَوْهُ } أي باعوه والضمير للوارد وأصحابه { بِثَمَنٍ بَخْسٍ } زيْفٍ ناقصِ العيار { دراهم } بدل من ثمن أي لا دنانير { مَّعْدُودَةٍ } أي غيرِ موزونة فهو بيانٌ لقلته ونقصانِه مقدا6راً بعد بيان نقصانِه في نفسه إذ المعتادُ فيما لا يبلغ أربعين العدُّ دون الوزن ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها كانت عشرين درهماً وعن السدي رضي الله عنه أنها كانت اثنين وعشرين درهماً { وَكَانُواْ } أي البائعون { فِيهِ } في يوسف { مِنَ الزهدين } من الذين لا يرغبون فيما بأيديهم فلذلك باعوه بما ذكر من الثمن البخْسِ ، وسببُ ذلك أنهم التقطوه ، والملتقطُ للشيء متهاونٌ به ، أو غيرُ واثق بأمره يخاف أن يظهر له مستحِقٌّ فينتزعه منه فيبيعه من أول مُساومٍ بأوكسِ ثمن ، ويجوز أن يكون معنى شرَوه اشتروه من إخوته على ما حُكي وهم غير راغبين في شِراه خشية ذهابِ مالِهم لِما ظنّ في آذانهم من الإباق ، والعدولُ على صيغة الافتعال المنبئةِ عن الاتخاذ لما مر من أن أخذَهم إنما كان بطريق البضاعةِ دون الاجتباء والاقتناءِ ، وفيه متعلِّق بالزاهدين إن جُعل اللامُ للتعريف وبيانٌ لما زهدوا فيه إن جُعلت موصولة ، كأنه قيل : في أي شيء زهِدوا؟ فقيل : زهدوا فيه ، لأن ما يتعلق بالصلة لا يتقدم على الموصول .(3/415)
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
{ وَقَالَ الذى اشتراه مِن مّصْرَ } وهو العزيز الذي كان على خزانته واسمُه قطفيرُ أو إطفير ، وبيانُ كونِه من مصرَ لتربية ما يفرّع عليه من الأمور مع الإشعار بكونه غيرَ من اشتراه من الملتقطين بما ذكر من الثمن البخس ، وكان الملكَ يومئذ الريانُ بنُ الوليد العمليقي ومات في حياة يوسفَ عليه السلام بعد أن آمن به فملَك بعده قابوسُ بنُ مصعب فدعاه إلى الإسلام فأبى ، وقيل : كان الملكُ في أيامه فرعونَ موسى عليه السلام عاش أربعَمائة سنةٍ لقوله عز وجل : { وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات } وقيل : فرعونُ موسى من أولاد فرعونِ يوسف ، والآية من قبيل خطاب الأولادِ بأحوال الآباء ، واختلف في مقدار ما اشتراه به العزيز فقيل : بعشرين ديناراً وزوجَيْ نعل وثوبين أبيضين . وقيل : أدخلوه في السوق يعرِضونه فترافعوا في ثمنه حتى بلغ ثمنُه وزنَه مِسْكاً ووزنَه حريراً فاشتراه قطفيرُ بذلك المبلغ وكان سنه إذ ذاك سبعَ عشرةَ سنة وأقام في منزله مع ما مر عليه من مدة لبثه في السجن ثلاثَ عشرةَ سنةً واستوزره الريانُ وهو ابن ثلاثين سنة وآتاه الله العلم والحكمة وهو ابن ثلاثٍ وثلاثين سنة وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة { لاِمْرَأَتِهِ } راعيل أو زليخا ، وقيل : اسمُها هو الأول والثاني لقبُها واللامُ متعلقةٌ بقال لا باشتراه { أَكْرِمِى مَثْوَاهُ } اجعلي محلَّ إقامتِه كريماً مرضياً والمعنى أحسني تعهّده { عسى أَن يَنفَعَنَا } في ضِياعنا وأموالِنا ونستظهر به في مصالحنا { أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } أي نتبنّاه وكان ذلك لِما تفرّس فيه من مخايل الرشد والنجابة ، ولذلك قيل : ( أفرسُ الناسِ ثلاثةٌ عزيزُ مصرَ وابنةُ شعيبِ التي قالت : { إِحْدَاهُمَا ياأبت استجره } وأبو بكر حين استخلف عمرَ رضي الله عنهما ) .
{ وكذلك } نُصب على المصدرية وذلك إشارةٌ إلى ما يفهم من كلام العزيزِ ، وما فيه من معنى البُعد لتفخيمه أي مثلَ ذلك التمكينِ البديع { مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الارض } أي جعلنا له فيها مكاناً ، يقال : مكّنه فيه أي أثبته فيه ومكّن له فيه ، أي جعل له فيه مكاناً ، ولتقاربهما وتلازُمهما يُستعمل كلٌّ منهما في محل الآخر ، قال عز وجل : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مكناهم فِى الارض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ } أي ما لم نمكنْكم فيها أو مكنّا لهم في الأرض الخ ، والمعنى كما جعلنا له مثوى كريماً في منزل العزيزِ أو مكاناً علياً في قبله حتى أمرَ امرأتَه دون سائر حواشيه بإكرام مثواه جعلنا له مكانةً رفيعة في أرض مصر ، ولعله عبارةٌ عن جعله وجيهاً بين أهلها ومحبباً في قلوبهم كافة كما في قلب العزيزِ لأنه الذي يؤدّي إلى الغاية المذكورة في قوله تعالى : { وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاحاديث } أي نوفقه لتعبير بعضِ المنامات التي عُمدتُها رؤيا الملِك وصاحبَي السجنِ لقوله تعالى :(3/416)
{ ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى } سواءٌ جعلناه معطوفاً على غاية مقدرة ينساق إليها الكلامُ ويستدعيها النظامُ كأنه قيل : ومثلَ ذلك التمكينِ مكنّا ليوسف في الأرض وجعلنا قلوبَ أهلِها كافة مجالَ محبتِه ليترتب عليه ما ترتب مما جرى بينه وبين امرأةِ العزيز ولنعلمه بعضَ تأويل الأحاديثِ وهو تأويلُ الرؤيا المذكورة فيؤدّي ذلك إلى الرياسة العُظمى ، ولعل ترك المعطوفِ عليه للإشعار بعدم كونه مراداً بالذات أو جعلناه علةً لمعلل محذوفٍ كأنه قيل : ولهذه الحكمةِ البالغةِ فعلنا ذلك التمكينَ دون غيرها مما ليس له عاقبةٌ حميدة . هذا ولا يخفى عليك أن الذي عليه تدور هذه الأمورُ إنما هو التمكينُ في جانب العزيز .
وأما التمكينُ في جانب الناسِ كافةً فتأديتُه إلى ذلك إنما هي باعتبار اشتمالِه على ذلك التمكينِ فإذن الحق أن يكون ذلك إشارةً إلى مصدر قوله تعالى : { مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } على أن يكون هو عبارةً عن التمكين في قلب العزيزِ أو في منزله ، وكونُ ذلك تمكيناً في الإرض بملابسة أنه عزيزٌ فيها لا عن تمكين آخرَ يُشبه به كما مر في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا } من أن ذلك إشارةٌ إلى مصدر الفعل المذكورِ بعده لا إلى جعل آخرَ يُقصد تشبيهُ هذا الجعْل به فالكاف مقحم للدلالة على فخامة شأن المشار إليه إقحاماً لا يكاد يترك في لغة العرب ولا في غيرها .
ومن ذلك قولُهم : مثلُك لا يبخل ، وهكذا ينبغي أن يُحقق المقامُ ، وأما التمكينُ بمعنى جعلِه مالكاً يتصرف في أرض مصرَ بالأمر والنهي فهو من آثار ذلك التعليم ونتائجِه المتفرِّعةِ كما عرفته لا من مباديه المؤديةِ إليه ، فلا سبيل إلى جعله غايةً له ولم يُعهد منه عليه السلام في تضاعيف قضاياه العملُ بموجب المناماتِ المنبّهة على الحوادث قبل وقوعِها عهداً مصححاً لجعله غايةً لولايته ، وما وقع من التدارك في أمر السنين فإنما هو عملٌ بموجب الرؤيا السابقةِ المعهودة اللهم إلا أن يراد بتعليم تأويلِ الأحاديث ما سبق من تفهيم غوامضِ أسرارِ الكتبِ الإلهية ودقائقِ سننِ الأنبياء عليهم السلام فيكون المعنى حينئذ مكنا له أرضَ مصر ليتصرف فيها بالعدل ولنعلمه معانيَ كتب الله تعالى وأحكامَها ودقائقَ سنن الأنبياء عليهم السلام فيقضي بها فيما بين أهلها ، والتعليمُ الإجماليُّ لتلك المعاني والأحكام وإن كان غيرَ متأخرٍ عن تمكنه بذلك المعنى ألا أن تعليمَ كلِّ معنى شخصيَ يتفق في ضمن الحوادثِ والإرشادِ إلى الحق في كل نازلةٍ من النوازل متأخرٍ عن ذلك صالحٍ لأن يكون غاية له { والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ } لا يستعصى عليه أمرٌ ولا يمانعه شيءٌ بل إنما أمرُه لشيء إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكونُ فيدخل في ذلك شؤونُه المتعلقةُ بيوسف دخولاً أولياً ، أو متولَ على أمر يوسفَ لا يكِله إلى غيره وقد أريد به من الفتنة ما أريد مرة غِبَّ مرة فلم يكن إلا ما أراد الله له من العاقبة الحميدة { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أن الأمرَ كذلك فيأتون ويذرون زعماً منهم أن لهم من الأمر شيئاً وأنى لهم ذلك ، وإن الأمرَ كلَّه لله عز وجل ، أو لا يعلمون لطائفَ صنعِه وخفايا فضله .(3/417)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } أي منتهى اشتدادِ جسمه وقوتِه وهو سنُّ الوقوف ما بين الثلاثين إلى الأربعين ، وقيل : سنُّ الشباب ومبدأ بلوغِ الحُلُم والأولُ هو الأظهرُ لقوله تعالى : { اتَيْنَاهُ حُكْمًا } حِكمةً وهو العلم المؤيَّدُ بالعمل أو حكماً بين الناس وفقهاً أو نبوة { وَعِلْماً } أي تفقهاً في الدين ، وتنكيرُهما للتفخيم أي حكماً وعلماً لا يُكتنه كُنهُهما ولا يقادَرُ قدرُهما فهما ما آتاه الله تعالى عند تكاملِ قُواه سواءٌ كانا عبارةً عن النبوة والحُكم بين الناس أو غيرِهما ، كيف لا وقد جُعل إيتاؤهما جزاءً لعمله عليه السلام حيث قيل : { وكذلك } أي مثلَ الجزاءِ العجيب { نَجْزِى المحسنين } أي كلَّ من يُحسِن في عمله فيجب أن يكون ذلك بعد انقضاءِ أعمالِه الحسنةِ التي من جملتها معاناةُ الأحزان والشدائدِ ، وقد فُسّر العلمُ بعلم تأويلِ الأحاديث ، ولا صحةَ له إلا أن يُخَصَّ بعلم تأويلِ رؤيا الملِك فإن ذلك حيث كان عند تناهي أيامِ البلاءِ صحّ أن يُعدَّ إيتاؤُه من جملة الجزاء ، وأما رؤيا صاحبَي السجن فقد لبث عليه السلام بعد تعبيرِها في السجن بضعَ سنين . وفي تعليق الجزاءِ المذكورِ بالمحسنين إشعارٌ بعلّية الإحسان له وتنبيهٌ على أنه سبحانه إنما آتاه ما آتاه لكونه محسناً في أعماله متّقياً في عنفوان أمرِه { هَلْ جَزَاء الإحسان إِلاَّ الإحسان }(3/418)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
{ وَرَاوَدَتْهُ التى هُوَ فِى بَيْتِهَا } رجوعٌ إلى شرح ما جرى عليه في منزل العزيزِ بعد ما أمر امرأتَه بإكرام مثواه . وقوله تعالى : { وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } إلى هنا اعتراضٌ جيء به أُنموذجاً للقصة ليعلم السامعُ من أول الأمر أن ما لقِيه عليه السلام من الفتن التي ستحكى بتفاصيلها له غايةٌ جميلةٌ وعاقبةٌ حميدةٌ وأنه عليه السلام محسِنٌ في جميع أعمالِه لم يصدُر عنه في حالتي السراءِ والضراءِ ما يُخِلُّ بنزاهته ، ولا يخفى أن مدارَ حسنِ التخلصِ إلى هذا الاعتراضِ قبل تمام الآيةِ الكريمةِ إنما هو التمكينُ البالغُ المفهومُ من كلام العزيز ، فإدراجُ الإنجاءِ السابق تحت الإشارةِ بذلك في قوله تعالى : { وكذلك مَكَّنَّا } كما فعله الجمهورُ ناءٍ من التقريب فتأملْ . والمراودةُ المطالبةً من راد يرود إذا جاء وذهب لطلب شيءٍ ومنه الرائدُ لطالب الماءِ والكلأ ، وهي مفاعلةٌ من واحد نحوُ مطالبةِ الدائنِ ومماطلةِ المديونِ ومداواةِ الطبيب ونظائِرها مما يكون من أحد الجانبين الفعلُ ومن الآخر سببُه فإن هذه الأفعالَ وإن كانت صادرةً عن أحد الجانبين لكن لما كانت أسبابُها صادرةً عن الجانب الآخر جُعلت كأنها صادرةٌ عنهما وهذا بابٌ لطيفُ المسلك مبنيٌّ على اعتبار دقيقٍ ، تحقيقُه أن سببَ الشيء يقام مُقامَه ويطلق عليه اسمُه كما في قولهم : كما تدين تدان أي كما تجزي تجزى ، فإن فعل البادي وإن لم يكن جزاءً لكنه لكونه سبباً للجزاء أُطلق عليه اسمُه وكذلك إرادةُ القيامِ إلى الصلاة وإرادةُ قراءةِ القرآنِ حيث كانتا سبباً للقيام والقراءة عُبّر عنهما بهما فقيل : { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا } { فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان } وهذه قاعدةٌ مطردةٌ مستمرة ، ولمّا كانت أسبابُ الأفعالِ المذكورة فيما نحن فيه صادرةً عن الجانب المقابلِ لجانب فاعلِها فإن مطالبةَ الدائنِ للمماطلة التي هي من جانب الغريم وهي منه للمطالبة التي هي من جانب الدائنِ وكذا مداواةُ الطبيب للمرض الذي هو من جانب المريض وكذلك مراودتُها فيما نحن فيه لجمال يوسفَ عليه السلام ، نُزّل صدورُها عن محالها بمنزلة صدور مسبباتِها التي هي تلك الأفعالُ فبُني الصيغةُ على ذلك وروعيَ جانبُ الحقيقةِ بأن أُسند الفعلُ إلى الفاعل وأُوقع على صاحب السبب فتأملِ ، ويجوز أن يراد بصيغة المغالبةِ مجردُ المبالغة ، وقيل : الصيغةُ على بابها بمعنى أنها طَلبت منه الفعلَ وهو منها التركَ ، ويجوز أن يكون من الرُوَيد وهو الرفقُ والتحمّلُ ، وتعديتُها بعن لتضمينها معنى المخادعة فالمعنى خادعته .
{ عَن نَّفْسِهِ } أي فعلت ما يفعل المخادِع لصاحبه عن شيء لا يريد إخراجَه من يده وهو يحتال أن يأخذه منه وهي عبارةٌ عن التمحّل في مواقعته إياها ، والعدولُ عن التصريح باسمها للمحافظة على السر أو للاستهجان بذكره ، وإيرادُ الموصول لتقرير المراودةِ فإن كونَه في بيتها مما يدعو إلى ذلك ، قيل لواحدةٍ : ما حملك على ما أنت عليه مما لا خيرَ فيه؟ قالت : قربُ الوساد وطولُ السواد ، ولإظهار كمالِ نزاهته عليه السلام فإن عدمَ ميلِه إليها مع دوام مشاهدتِه لمحاسنها واستعصاءه عليها مع كونه تحت ملَكتِها ينادي بكونه عليه السلام في أعلى معارج العفة والنزاهة { وَغَلَّقَتِ الابواب } قيل : كانت سبعةً ولذلك جاء الفعل بصيغة التفعيل دون الإفعال ، وقيل : للمبالغة في الإيثاق والإحكام { وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } قرىء بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء وبناؤه كبناء أينَ وعيط ، وهيتِ كجَيرِ وهَيتُ كحيث اسم فعل معناه أَقبلْ وبادر ، واللام للبيان أي لك أقول هذا كاللام في هلم لك وقرىء هِئتُ لك على صيغة الفعل بمعنى تهيأتُ ، يقال : هاء يهييءُ كجاء يجيء إذا تهيأ وهُيِّئْتُ لك واللام صلة للفعل { قَالَ مَعَاذَ الله } أي أعوذ بالله مَعاذاً مما تدعينني إليه وهذا اجتنابٌ منه على أتم الوجوه وإشارةٌ إلى التعليل بأنه منكَرٌ هائلٌ يجب أن يُعاذ بالله تعالى للخلاص منه وما ذاك إلا لأنه عليه السلام قد شاهده بما أراه الله تعالى من البرهان النيّر على ما هو عليه في حد ذاتِه من غاية القُبح ونهايةِ السوء ، وقولُه عز وجل : { إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَ } تعليلٌ للامتناع ببعض الأسباب الخارجيةِ مما عسى يكون مؤثراً عندها وداعياً لها إلى اعتباره بعد التنبيهِ على سببه الذاتي الذي لا تكاد تقبله لما سوّلتْه لها نفسُها ، والضميرُ للشأن ومدارُ وضعه موضعَه ادعاءُ شهرتِه المُغْنيةِ عن ذكره ، وفائدةُ تصدير الجملةِ به الإيذانُ بفخامة مضمونها مع ما فيه من زيادة تقريرِه في الذهن ، فإن الضميرَ لا يفهم منه من أول الأمر إلا شأنٌ مبهمٌ له خطرٌ فيبقى الذهنُ مترقباً لما يعقُبه فيتمكن عند ورودِه له فضلُ تمكّنٍ ، فكأنه قيل : إن الشأنَ الخطيرَ هذا وهو ربي أي سيدي العزيزُ أحسنَ مثواي أي أحسن تعهّدي حيث أمرك بإكرامي فكيف يمكن أن أُسيء إليه بالخيانة في حَرَمه وفيه إرشادٌ لها إلى رعاية حقِّ العزيزِ بألطف وجهٍ ، وقيل : الضميرُ لله عز وجل وربي خبرُ إن وأحسن مثواي خبرٌ ثانٍ أو هو الخبرُ والأولُ بدلٌ من الضمير ، والمعنى أن الحالَ هكذا فكيف أعصيه بارتكاب تلك الفاحشةِ الكبيرةِ وفيه تحذيرٌ لها من عقاب الله عز وجل ، وعلى التقديرين ففي الاقتصار على ذكر هذه الحالةِ من غير تعرّضٍ لاقتضائها الامتناعَ عما دعته إليه إيذانٌ بأن هذه المرتبةَ من البيان كافيةٌ في الدلالة على استحالته وكونه مما لا يدخل تحت الوقوع أصلاً وقوله تعالى : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } تعليلٌ للامتناع المذكورِ غِبَّ تعليل ، والفلاحُ الظفرُ وقيل : البقاءُ في الخير ومعنى أفلح دخل فيه كأصبح وأخواتِه ، والمرادُ بالظالم كلُّ من ظلم كائناً من كان فيدخل في ذلك المجازون للإحسان بالإساءة والعصاةُ لأمر الله تعالى دخولاً أولياً ، وقيل : الزناةُ لأنهم ظالمون لأنفسهم وللمَزْنيِّ بأهله .(3/419)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } بمخالطته إذِ الهمُّ لا يتعلق بالأعيان أي قصدتْها وعزمت عليها عزماً جازماً لا يَلويها عنه صارفٌ بعد ما باشرت من مباديها وفعلت ما فعلت من المراودة وتغليقِ الأبواب ودعوتِه عليه السلام إلى نفسها بقولها : هيتَ لك ، ولعلها تصدّت هنالك لأفعال أُخَرَ من بسط يدِها إليه وقصدِ المعانقة وغير ذلك مما يَضْطره عليه السلام إلى الهرب نحوَ الباب ، والتأكيدُ لدفع ما عسى يُتوهم من احتمال إقلاعِها عما كانت عليه بما في مقالته عليه السلام من الزواجر { وَهَمَّ بِهَا } بمخالطتها أي مال إليها بمقتضى الطبيعةِ البشرية وشهوةِ الشباب وكونه ميلاً جبلياً لا يكاد يدخل تحت التكليفِ لا أنه قصدها قصداً اختيارياً ، ألا يُرى إلى ما سبق من استعصامه المُنْبىءِ عن كمال كراهيتِه له ونفرتِه عنه وحُكمه بعدم إفلاح الظالمين وهل هو إلا تسجيلٌ باستحالة صدور الهمِّ منه عليه السلام تسجيلاً محكماً وأنه عبر عنه بالهمّ لمجرد وقوعِه في صحبة همِّها في الذكرِ بطريق المشاكلة لا لشَبَهه به كما قيل ، ولقد أشير إلى تباينهما حيث لم يُلَزّا في قَرن واحد من التعبير بأن قيل : ولقد همّا بالمخالطة أو همّ كلٌّ منهما بالآخر ، وصُدّر الأولُ بما يقرر وجودَه من التوكيد القسمي وعُقّب الثاني بما يعفو أثرَه من قوله عز وجل : { لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ } أي حجتَه الباهرةَ الدالة على كمال قبحِ الزنى وسوءِ سبيله ، والمرادُ برؤيته لها كمالُ إيقانِه بها ومشاهدتِه لها مشاهدةً واصلة إلى مرتبة عينِ اليقين الذي تتجلى هناك حقائقُ الأشياء بصورها الحقيقيةِ وتنخلع عن صورها المستعارة التي بها تظهر في هذه النشأة على ما نطق به قولُه عليه السلام : « حُفّت الجنةُ بالمكاره وحفت النار بالشهوات » وكأنه عليه السلام قد شاهد الزنى بموجب ذلك البرهانِ النيّر على ما هو عليه في حد ذاتِه أقبحَ ما يكون وأوجبَ ما يجب أن يُحذر منه ولذلك فعل ما فعل من الاستعصام والحُكمِ بعدم إفلاحِ من يرتكبه ، وجوابُ لولا محذوفٌ يدل عليه الكلام أي لولا مشاهدتُه برهانَ ربه في شأن الزنى لجَرى على موجب ميلِه الجِبليِّ ولكنه حيث كان مشاهداً له من قبلُ استمر على ما هو عليه من قضية البرهان ، وفائدةُ هذه الشرطيةِ بيانُ أن امتناعَه عليه السلام لم يكن لعدم مساعدةٍ من جهة الطبيعة بل لمحض العفةِ والنزاهة مع وفور الدواعي الداخلية وترتبِ المقدّمات الخارجيةِ الموجبةِ لظهور الأحكام الطبيعية .
هذا وقد نص أئمةُ الصناعة على أن لولا في أمثال هذه المواقعِ جارٍ من حيث المعنى لا من حيث الصيغةُ مَجرى التقييدِ للحُكم المطلقِ كما في مثل قوله تعالى : { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا }(3/420)
فلا يتحقق هناك همٌّ أصلاً . وقد جوز أن يكون ( وهم بها ) جوابَ لولا جرياً على قاعدة الكوفيين في جواز التقديم فالهمُّ حينئذ على معناه الحقيقي ، فالمعنى لولا أنه قد شاهد برهانَ ربه لهمَّ بها كما همت به ولكن حيث انتفى عدم المشاهدة بدليل استعصامِه وما يتفرع عليه انتفى الهمُّ رأساً ، هذا وقد فُسّر همُّه عليه السلام بأنه عليه السلام حلّ الهَمَيان وجلس مجلسَ الخِتان وبأنه حل تِكّة سراويلِه وقعد بين شُعَبها ، ورؤيتُه للبرهان بأنه سمع صوتاً : إياك وإياها فلم يكترثْ ثم وثم إلى أن تمثّل له يعقوبُ عليه السلام عاضًّا على أنملته وقيل : ضرب على صدره فخرجت شهوتُه من أنامله ، وقيل : بدت كفٌّ فيما بينهما ليس فيها عضُدٌ ولا مِعصمٌ مكتوبٌ فيها : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين * كِرَاماً كاتبين } فلم ينصرف ، ثم رأى فيها : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً } فلم ينتهِ ثم رأى فيها : { واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله } فلم يَنْجَع ، فقال الله عز وجل لجبريل : «أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة» فانحط جبريل عليه السلام وهو يقول : يا يوسفُ أتعملُ عملَ السفهاء وأنت مكتوبٌ في ديوان الأنبياء؟ وقيل : رأى تمثال العزيزِ ، وقيل : إنْ كلَّ ذلك إلا خرافاتٌ وأباطيلُ تمجُّها الآذانُ وتردُّها العقول والأذهانُ ويلٌ لمن لاكها ولفّقها أو سمعها وصدّقها .
{ كذلك } الكافُ منصوبُ المحلِّ وذلك إشارةٌ إلى الإراءة المدلولِ عليها بقوله تعالى : { لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ } أي مثلَ ذلك التبصيرِ والتعريفِ عرفناه برهاننا فيما قبل ، أو إلى التثبيت اللازمِ له أي مثلَ ذلك التثبيتِ ثبتناه { لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء } على الإطلاق فيدخل فيه خيانةُ السيِّد دخولاً أولياً { والفحشاء } والزنى لأنه مفْرِطٌ في القبح وفيه آيةٌ بينةٌ وحجةٌ قاطعةٌ على أنه عليه السلام لم يقع منه همٌّ بالمعصية ولا توجَّه إليها قط ، وإلا لقيل : لنصرِفَه عن السوء والفحشاء ، وإنما توجه إليه ذلك من خارجٍ فصرَفه الله تعالى عنه بما فيه من موجبات العفةِ والعصمةِ فتأمل . وقرىء ليَصرِف على إسناد الصرْف إلى ضمير الرب { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين } تعليلٌ لما سبق من مضمون الجملةِ بطريق التحقيقِ ، والمخلصون هم الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته بأن عصمهم عما هو قادحٌ فيها ، وقرىء على صيغة الفاعل وهم الذين أخلصوا دينهم لله سبحانه وعلى كلا المعنيين فهو منتظَمٌ في سلكهم داخلٌ في زمرتهم من أول أمره بقضية الجملةِ الاسميةِ لا أن ذلك حدث له بعد أن لم يكن كذلك فانحسم مادةُ احتمالِ صدورِ الهمِّ بالسوء منه عليه السلام بالكلية .(3/421)
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
{ واستبقا الباب } متصلٌ بقوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ } وقولُه : كذلك إلى آخره ، اعتراضٌ جيء به بين المعطوفَيْن تقريراً لنزاهته عليه السلام كقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم مَلَكُوتَ السموات والارض } والمعنى لقد همت به وأبى هو واستبقا الباب أي تسابقا إلى الباب البراني الذي هو المخلص ، ولذلك وُحّد بعد الجمعِ فيما سلف وحُذف حرفُ الجر وأوصل الفعلُ إلى المجرور نحو وإذا كالوهم ، أو ضُمِّن الاستباقُ معنى الابتدارِ ، وإسناد السبق في ضمن الاستباق إليها مع أن مرادَها مجردُ منعِ يوسف وذا لا يوجب الانتهاء إلى الباب لأنها لما رأته يسرع إلى الباب ليتخلص منها أسرعت هي أيضاً لتسبِقَه إليه وتمنعه عن الفتح والخروج ، أو عبر عن إسراعها إثْرَه بذلك مبالغة .
{ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ } اجتذبتْه من ورائه فانشق طولاً وهو القَدُّ كما أن الشقّ عرضاً هو القَطُّ ، وقد قيل في وصف عليّ رضي الله عنه : «إنه كان إذا اعتلى قدّ وإذا اعترض قطّ» وإسنادُ القدِّ إليها خاصة مع أن لقوة يوسفَ أيضاً دخلاً فيه إما لأنها الجزءُ الأخيرُ للعلة التامةِ وإما للإيذان بمبالغتها في منعه عن الخروج وبذلِ مجهودِها في ذلك لفَوْت المحبوب أو لخوف الافتضاح { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا } أي صادفا زوجَها وإذْ لم يكن مُلكُه ليوسف عليه السلام صحيحاً لم يقل سيدهما . قيل : ألفياه مقبلاً وقيل : كان جالساً مع ابن عمَ للمرأة { لدى الباب } أي البراني كما مر . روى كعب رضي الله عنه أنه لما هرب يوسفُ عليه السلام جعل فَراشُ القُفلِ يتناثر ويسقط حتى خرج من الأبواب { قَالَتْ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال سائل يقول : فماذا كان حين ألفَيا العزيزَ عند الباب؟ فقيل : قالت : { مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا } من الزنى ونحوه { إِلا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ما نافية أي ليس جزاؤُه إلا السجنُ أو العذابُ الأليم ، قيل : المرادُ به الضربُ بالسياط ، أو استفهاميةٌ أي أيُّ شيءٍ جزاؤُه غيرُ ذاك أو ذلك ، ولقد أتت في تلك الحالةِ التي تُدهش فيها الفَطِنَ حيث شاهدها العزيزُ على تلك الهيئة المُريبة بحيلة جمعت فيها غرضيها وهما تبرئةُ ساحتِها مما يلوح من ظاهر الحالِ واستنزالُ يوسف عن رأيه في استعصائه عليها وعدمِ مواتاتِه على مرادها بإلقاء الرعبِ في قلبه من مكرها طمعاً في مواقعته لها كرهاً عند يأسِها عن ذلك اختياراً كما قالت : { وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلْيَكُوناً مِّنَ الصاغرين } ثم إنها جعلت صدورَ الإرادة المذكورةِ عن يوسف عليه السلام أمراً محققاً مفروغاً عنه غنياً عن الإخبار بوقوعه وأن ما هي عليه من الأفاعيل لأجل تحقيق جزائِها فهي تريد إيقاعَه حسبما يقتضيه قانونُ الإيالة ، وفي إبهام المُريد تهويلٌ لشأن الجزاء المذكورِ بكونه قانوناً مطرداً في حق كل أحدٍ كائناً من كان ، وفي ذكر نفسها بعنوان أهلية العزيزِ إعظامٌ للخطب وإغراءٌ له على تحقيق ما تتوخاه بحكم الغضب والحمية .(3/422)
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)
{ قَالَ } استئنافٌ وجوابٌ عما يقال : فماذا قال يوسفُ حينئذ؟ فقيل : قال : { هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى } أي طالبتني للمواتاة لا أني أردتُ بها سوءاً كما قالت وإنما قاله عليه السلام لتنزيه نفسِه عما أُسند إليه من الخيانة وعدم معرفة حقِّ السيد ودفعِ ما عرضَتْه له من الأمرين ، وفي التعبير عنها بضمير الغَيبة دون الخطاب أو اسم الإشارةِ مراعاةٌ لحسن الأدبِ مع الإيماء إلى الإعراض عنها { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا } قيل : هو ابنُ عمها ، وقيل : هو الذي كان جالساً مع زوجها لدى الباب ، وقيل : كان حكيماً يرجِعُ إليه الملكُ ويستشيره ، وقد جُوّز أن يكون بعضُ أهلها قد بصُر بها من حيث لا تشعُر فأغضبه الله تعالى ليوسف عليه السلام بالشهادة له والقيامِ بالحق ، وإنما ألقى الله سبحانه الشهادةَ إلى من هو من أهلها ليكون أدلَّ على نزاهته عليه السلام وأنفى للتُّهمة ، وقيل : كان الشاهدُ ابنَ خالٍ لها صبياً في المهد أنطقه الله تعالى ببراءته وهو الأظهر ، فإنه رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « تكلم أربعةٌ وهم صغار ، ابنُ ماشطةَ بنتِ فرعون ، وشاهدُ يوسف ، وصاحبُ جريج ، وعيسى عليه السلام » رواه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه وقال : صحيح على شرط الشيخين ، وذكر كونَه من أهلها لبيان الواقع إذ لا يختلف الحالُ في هذه الصورة بين كون الشاهدِ من أهلها أو من غيرهم .
{ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ } أي إن عُلم أنه قدّ من قبُلُ ، ونظيره إن أحسنتَ إلى فقد أحسنتُ إليك فيما قبلُ ، فإن معناه : إن تعتدَّ بإحسانك إلي فأعتدُّ بإحساني السابقِ إليك { فَصَدَقَتْ } بتقدير قد ، لأنها تقرب الماضي إلى الحال أي فقد صدقت ، وكذا الحال في قوله : { فَكَذَّبْتَ } وهي وإن لم تصرِّح بأنه عليه السلام أراد بها سوءاً إلا أن كلامَها حيث كان واضحَ الدِلالة عليه ، أُسند إليها الصدقُ والكذب بذلك الاعتبار ، فإنها كما يعرِضان الكلامَ باعتبار منطوقِه يعرضان له باعتبار ما يستلزمه ، وبذلك الاعتبار يعرضان للإنشاءات { وَهُوَ مِنَ الكاذبين } وهذه الشرطية حيث لا ملازمةَ عقليةً ولا عاديةً بين مقدِّمها وتاليها ليست من الشهادة في شيء وإنما ذُكرت توسيعاً للدائرة وإرخاءً للعِنان إلى جانب المرأة بإجراء ما عسى يحتمله الحالُ في الجملة بأن يقع القدُّ من قُبُل بمدافعتها له عليه السلام عن نفسها عند إرادتِه المخالطةَ والتكشفَ مُجرى الظاهرِ الغالبِ الوقوعِ تقريباً لما هو المقصودُ بإقامة الشهادة ، أعني مضمونَ الشرطية الثانية التي هي قوله عز وجل :(3/423)
وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
{ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصادقين } إلى التسليم والقَبول عند السامع لكونه أقربَ إلى الوقوع وأدلَّ على المطلوب وإن لم يكن بين طرفيها أيضاً ملازمةٌ ، وحكايةُ الشرطيةِ بعد فعل الشهادةِ لكونها من قبيل الأقوال أو بتقدير القول . أي شهد قائلاً الخ وتسميتُها شهادةً مع أنه لا حكمَ فيها بالفعل بالصدق والكذب لتأديتها مؤداها ، بل لأنها شهادةٌ على الحقيقة ، وحُكمٌ بصدقه وكذبها أما على تقدير كونِ الشاهدِ هو الصبيُّ فظاهرٌ إذ هو إخبارٌ بهما من قِبَل علامِ الغيوب ، والتصويرُ بصورة الشرطية للإيذان بأن ذلك ظاهرٌ من العلائم أيضاً وأما على تقدير كونِه غيرَه فلأن الظاهرَ أن صورةَ الحالِ معلومةٌ له على ما هي عليه إما مشاهدةً أو إخباراً فهو متيقّنٌ بعدم مقدَّم الشرطيةِ الأولى ، وبوجود مقدمِ الشرطيةِ الثانية ومن ضرورته الجزمُ بانتفاء تالي الأولى وبوقوع تالي الثانية ، فإذن هو إخبارٌ بكذبها وصدقِه عليه السلام ولكنه ساق شهادتَه مساقاً مأموناً من الجَرْح والطعن حيث صورها بصورة الشرطية المترددةِ ظاهراً بين نفعها ونفعِه ، وأما حقيقةً فلا تردد فيها قطعاً . لأن الشرطية الأولى تعليقٌ لصدقها بما يستحيل وجودُه من قدّ القميص من قُبُل فيكون مُحالاً لا محالة ، ومن ضرورته تقررُ كذبها ، والثانية تعليقٌ لصدقه عليه السلام بأمر محققِ الوجود وهو القدُّ من دبر فيكون محققاً البتةَ ، وهذا كما قيل فيمن قال لامرأة : زوجيني نفسك ، فقالت : لي زوجٌ فكذبها في ذلك فقالت : إن لم يكن لي زوجٌ فقد زوجتُك نفسي ، فقبل الرجلُ فإذا لا زوج لها فهو نكاحٌ ، إذ تعليقُ الشيء بأمر مقرَّرٍ تنجيزٌ له . وقرىء منْ قُبلُ ومن دُبرُ بالضم لأنهما قطعا عن الإضافة كقبلُ وبعدُ وبالفتح كأنهما جعلا علمين للجهتين فمنعا الصرفَ للتأنيث والعلمية وقرىء بسكون العين .
{ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ } كأنه لم يكن رأى ذلك بعدُ أو لم يتدبَّرْه فلما تنبه له وعلم حقيقةَ الحال { قَالَ إِنَّهُ } أي الأمرَ الذي وقع فيه التشاجرُ وهو عبارةٌ عن إرادة السوءِ التي أُسندت إلى يوسف وتدبيرِ عقوبته بقولها : ما جزاءُ من أراد بأهلك سوءاً إلى آخره لكن لا من حيث صدورُ تلك الإرادةِ والإسنادُ عنها بل مع قطع النظرِ عن ذلك لئلا يخلُوَ قوله تعالى { مِن كَيْدِكُنَّ } أي من جنس حيلتِكن ومكرِكن أيتها النساءُ لا من غيركن عن الإفادة وتدبيرِ العقوبة وإن لم يمكن تجريدُه عن الإضافة إليها إلا أنها لما صوّرته بصورة الحق أفاد الحكمَ بكونه من كيدهن إفادةً ظاهرةً فتأمل . وتعميمُ الخطاب للتنبيه على أن ذلك خُلُق لهن عريق :
ولا تحسَبا هنداً لها الغدرُ وحدها ... سجيةُ نفسٍ ، كلُّ غانيةٍ هندُ(3/424)
ورجْعُ الضميرِ إلى قولها : ما جزاءُ من أراد بأهلك سوءاً فقط عدولٌ عن البحث عن أصل ما وقع فيه النزاعُ من أن إرادةَ السوءِ ممن هي إلى البحث عن شُعبة من شُعَبه ، وجعلُه للسوء أو للأمر المعبّر به عن طمعها في يوسف عليه السلام يأباه الخبرُ فإن الكيدَ يستدعي أن يعتبر مع ذلك هَناتٌ أُخرُ من قِبلها كما أشرنا إليه { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } فإنه ألطفُ وأعلقُ بالقلب وأشدُّ تأثيراً في النفس . وعن بعض العلماء إني أخاف من النساء ما لا أخاف من الشيطان فإنه تعالى يقول : { إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً } وقال للنساء : { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } ولأن الشيطان يوسوس مُسارقةً وهن يواجِهْن به الرجال .(3/425)
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)
{ يُوسُفَ } حُذف منه حرفُ النداء لقربه وكمالِ تفطُّنه للحديث وفيه تقريبٌ له وتلطيفٌ لمحله { أَعْرِضْ عَنْ هذا } أي عن هذا الأمرِ وعن التحديث به واكتُمْه فقد ظهر صدقُك ونزاهتُك { واستغفرى } أنت يا هذه { لِذَنبِكِ } الذي صدر عنك وثبَتَ عليك { إِنَّكَ كُنتَ } بسبب ذلك { مِنَ الخاطئين } من جملة القوم المتعمّدين للذنب أو من جنسهم ، يقال : خطِىء إذا أذنب عمداً ، وهو تعليلٌ للأمر بالاستغفار ، والتذكيرُ لتغليب الذكورِ على الإناث وكان العزيزُ رجلاً حليماً فاكتفى بهذا القدرِ من مؤاخذتها ، وقيل : كان قليلَ الغَيرة .
{ وَقَالَ نِسْوَةٌ } أي جماعةٌ من النساء وكنّ خمساً : امرأةُ الساقي وامرأةُ الخبّاز وامرأةُ صاحب الدوابِّ وامرأةُ صاحبِ السجنِ وامرأةُ الحاجب ، والنسوةُ اسمٌ مفردٌ لجمع المرأةِ وتأنيثُه غير حقيقي كتأنيث اللُّمَة وهي اسمٌ لجماعة النساء والثُبَة وهي اسم لجماعة الرجال ، ولذلك لم يلحَق فعلَه تاءُ التأنيث { فِى المدينة } ظرفٌ لقال أي أشعْن الأمرَ في مصر أو صفةٌ النسوة { امْرَأَةُ الْعَزِيزِ } أي الملك ، يُرِدْن قطفير ، وإضافتُهن لها إليه بذلك العنوانِ دون أن يصرِّحن باسمها أو اسمِه ليست لقصد المبالغةِ في إشاعة الخبر بحكم أن النفوسَ إلى سماع أخبارِ ذوي الأخطارِ أميلُ كما قيل ، إذ ليس مرادُهن تفضيحَ العزيز بل هي لقصد الإشباعِ في لومها بقولهن : { تُرَاوِدُ فتاها } أي تطالبه بمواقعته لها وتتحمل في ذلك وتخادعه { عَن نَّفْسِهِ } وقيل : تطلب منه الفاحشة ، وإيثارُهن لصيغة المضارع للدلالة على دوام المراودةِ والفتى من الناس الشابُّ وأصله فتيٌ لقولهم : فتيان والفتوة شاذة وجمعه فتية وفتيان ويستعار للمملوك وهو المراد هاهنا وفي الحديث : « لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي » ، وتعبيرُهن عن يوسف عليه السلام بذلك مضافاً إليها لا إلى العزيز الذي لا تستلزم الإضافةُ إليه الهوان بل ربما يشعر بنوع عزةٍ لإبانة ما بينهما من التبايُن البيِّن الناشىءِ عن المالكية والمملوكية ، وكلُّ ذلك لتربية ما مر من المبالغة والإشباعِ في اللوم فإن من لا زوج لها من النساء أو لها زوجٌ دنيءٌ قد تُعذر في مراودة الأخدان لا سيما إذا كان فيهم علوُّ الجناب ، وأما التي لها زوجٌ وأيُّ زوج ، عزيزُ مصرَ فمراودتُها لغيره لا سيما لعبدها الذي لا كفاءةَ بينها وبينه أصلاً وتماديها في ذلك غايةُ الغي ونهايةُ الضلال .
{ قَدْ شَغَفَهَا حُبّا } أي شق حبُّه شَغافَ قلبها وهو حجابُه أو جلدةٌ رقيقةٌ يقال لها لسانُ القلبِ حتى وصل إلى فؤادها ، وقرىء شعَفها بالعين من شعف البعيرَ إذا هنَأَه فأحرقه بالقطِران . وعن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما الشغَفُ الحبُّ القاتل والشعف حبٌّ دون ذلك ، وكان الشعبي يقول : الشغفُ حبٌّ والشعفُ جنون والجملةُ خبرٌ ثانٍ أو حال من فاعل تُراود أو من مفعوله ، وأياً ما كان فهو تكريرٌ لِلّوم وتأكيدٌ للعذْل ببيان اختلالِ أحوالِها القلبية كأحوالها القالَبية ، وجعلُها تعليلاً لدوام المراودةِ من حيث الإنية مصيرٌ إلى الاستدلال على الأجلي بالأخفى ، ومن حيث اللُمية ميلٌ إلى تمهيد العذر من قِبلها ولسْن بذلك المقام ، وانتصابُ حباً على التمييز لنقله عن الفاعلية إذ الأصل قد شغفها حبُّه كما أشير إليه { إِنَّا لَنَرَاهَا } أي نعلمها علماً متاخماً للمشاهدة والعِيان فيما صنعت من المراودة والمحبة المفْرِطة مستقرةً { فِى ضلال } عن طريق الرشد والصوابِ أو عن سنن العقل { مُّبِينٌ } واضح لا يخفى كونُه ضلالاً على أحد أو مُظهرٍ لأمرها بين الناس ، فالجملةُ مقرِّرةٌ لمضمون الجملتين السابقتين المسوقتين للوم والتشنيع وتسجيلٌ عليها بأنها في أمرها على خطأ عظيم ، وإنما لم يقُلن إنها لفي ضلال مبين إشعاراً بأن ذلك الحكمَ غيرُ صادر عنهن مجازفةً بل عن علم ورأي مع التلويح بأنهن متنزّهاتٌ عن أمثال ما هي عليه .(3/426)
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
{ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ } باغتيابهن وسوءِ قالتِهن وقولِهن : امرأةُ العزيز عشِقت عبدَها الكنعاني وهو مَقَتها ، وتسميتُه مكراً لكونه خفيةً منها كمكر الماكر ، وإن كان ظاهراً لغيرها . وقيل : استكْتَمَتْهن سِرَّها فأفشَيْنه عليها ، وقيل : إنما قلن ذلك لتُرِيَهُنّ يوسف عليه السلام { أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } تدعوهن ، قيل : دعت أربعين امرأةً منهن الخمسُ المذكورات { وَأَعْتَدَت } أي أحضرت وهيأت { لَهُنَّ } أي ما يتكئن عليه من النمارق والوسائد ، أو رتّبت لهن مجلسَ شرابٍ لأنهم كانوا يتكئون للطعام والشراب والحديث كعادة المترَفين ، ولذلك نُهي الرجلُ أن يأكل متّكِئاً . وقيل : متّكأ طعاماً من قولهم : تكأنا عند فلان أي طعِمنا ، قال جميل :
فظلِلْنا بنعمةٍ واتكأنا ... وشرِبْنا الحلالَ من قُلَلِهْ
وعن مجاهد متّكأً طعاماً يُحَزّ حزاً ، كأن المعنى يُعتمد بالسكين عند القطع لأن القاطعَ يتكىء على المقطوع بالسكين ، وقرىء بغير همز وقرىء بالمد بإشباع حركة الكاف كمُنتَزاح في مُنتزَح ويَنْباع في ينبَع وقرىء مُتُكاً وهو الأُترُجّ وأنشدوا :
وأهدت مُتْكةً لبني أبيها ... تخُب بها العَثَمْثمَةُ الوَقاحُ
أو ما يقطع من متَك الشيءَ إذا بتكه إذا تكى { وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً } لتستعمله في قطع ما يُعهد قطعُه مما قدّم بين أيديهن وقرِّب إليهن من اللحوم والفواكه ونحوها وهن متّكئات وغرضُها من ذلك ما سيقع من تقطيع أيديهن { وَقَالَتِ } ليوسف وهن مشغولاتٌ بمعالجة السكاكين وإعمالِها فيما بأيديهن من الفواكه وأضرابها ، والعطفُ بالواو ربما يشير إلى أن قولها : { اخرج عَلَيْهِنَّ } أي ابرُزْ لهن لم يكن عَقيب ترتيب أمورِهن ليتم غرضُها من استغفالهن { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ } عطفٌ على مقدر يستدعيه الأمرُ بالخروج وينسحب عليه الكلام أي فخرج عليهن فرأينه وإنما حذف تحقيقاً لمفاجأة رؤيتِهن كأنها تفوت عند ذكرِ خروجِه عليهن كما حُذف لتحقيق السُّرعةِ في قوله عز وجل : { فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } بعد قوله : { قَالَ الذى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب أَنَاْ ءاتِيكَ } وفيه إيذانٌ بسرعة امتثالِه عليه السلام بأمرها فيما لا يشاهد مضرَّتَه من الأفاعيل { أَكْبَرْنَهُ } عظّمنه وهِبْن حسنَه الفائقَ وجماله الرائعَ الرائقَ فإن فضلَ جمالِه على جمال كلِّ جميلٍ كان كفضل القمرِ ليلة البدرِ على سائر الكواكب . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « رأيتُ يوسفَ ليلةَ المعراج كالقمر ليلةَ البدر » وقيل : كان يُرى تلألؤُ وجهِه على الجُدران كما يُرى نورُ الشمس على الماء ، وقيل : معنى أكبرْنَ حِضْن والهاء للسكت أو ضمير راجع إلى يوسف عليه السلام على حذف اللام أي حضْن له من شدة الشبَق كما قال المتنبي :
خفِ الله واستُر ذا الجمالَ ببرقع ... فإن لُحْتَ حاضتْ في الخدور العواتقُ
{ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } أي جرَحْنها بما في أيديهن من السكاكين لفرْط دهشتِهن وخروجِ حركات جوارحِهن ومع ذلك لم يبالين بذلك ولم يشعُرْن به { وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ } تنزيهاً له سبحانه عن صفات النقصِ والعجزِ وتعجباً من قدرته على مثل ذلك الصنعِ البديعِ ، وأصلُه حاشا كما قرأه أبو عمرو في الدرج فحُذفت ألفُه الأخيرةُ تخفيفاً وهو حرفُ جر يفيد معنى التنزيهِ في باب الاستثناء فلا يُستثنى به إلا ما يكون موجباً للتنزيه فوضع موضعَه ، فمعنى حاشا الله تنزيهُ الله وبراءةُ الله وهي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه ، واللام لبيان المنزَّه والمبرَّأ عز وجل كما في سُقياً لك ، والدليلُ على وضعه موضعَ المصدر قراءةُ أبي السمال حاشاً بالتنوين وقراءةُ أبي عمرو بحذف الألف الأخيرة وقرأةُ الأعمش بحذف الأولى فإن التصرّفَ من خصائص الاسمِ فيدل على تنزيله منزلتَه ، وعدمُ التنوين لمراعاة أصلِه كما في قولك : جلست مِنْ عن يمينه .(3/427)
وقولُه : غدت مِنْ عليه منقلبُ الألف إلى الياء مع الضمير وقرىء حاش لله بسكون الشين إتباعاً للفتحة الألفَ في الإسقاط وحاش الإله ، وقيل : حاشا فاعلٌ من الحشا الذي هو الناحية وفاعلُه ضميرُ يوسف أي صار في ناحية من أن يقارف ما رمتْه به لله أي لطاعته أو لمكانه أو جانبَ المعصية لأجل الله { مَا هذا بَشَرًا } على إعمال ما بمعنى ليس وهي لغةُ أهلِ الحجازِ لمشاركتهما في نفي الحالِ وقرىء بشرٌ على لغة تميم وبِشِرًى أي بعبد مشترى لئيم ، نفَين عنه البَشَرية لما شاهدْن فيه من الجمال العبقري الذي لم يُعهدْ مثالُه في البشر وقصَرْنه على الملَكية بقولهن : { إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } بناءً على ما ركَز في العقول مِنْ ألاّ حيَّ أحسنُ من الملك كما ركب فيها أن لا أقبحُ من الشيطان ولذلك لا يزال يُشبَّه بهما كلُّ متناهٍ في الحسن والقبح وغرضُهن وصفُه بأقصى مراتبِ الحسن والجمال .(3/428)
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
{ قَالَتْ فذلكن } الفاء فصيحةٌ والخطابُ للنسوة والإشارةُ إلى يوسف بالعنوان الذي وصفْنه به الآن من الخروج في الحسن والجمالِ عن المراتب البشريةِ والانتصار على الملَكية ، فاسمُ الإشارة مبتدأٌ والموصولُ خبرُه والمعنى إن كان الأمرُ قلتنّ فذلكنّ الملكُ الكريمُ النائي عن المراتب البشريةِ هو { الذى لُمْتُنَّنِى فِيهِ } أي عيَّرْتُنّني في الافتتان به حيث رَبَأْتُن بمحلِّي بنسبتي إلى العزيز ووضعتُنَّ قدرَه بكونه من المماليك أو بالعنوان الذي وصفْنه به فيما سبق بقولهن : امرأةُ العزيز عشِقت عبدَها الكَنعاني فهو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي فهو ذلك العبدُ الكنعانيُّ الذي صورتُنّ في أنفسكن وقلتنّ فيه وفيَّ ما قلتن فالآن قد علمتُنّ من هو وما قولُكن فينا ، وأما ما يقال تعني أنكن لم تصوِّرْنه بحقِّ صورتِه ولو صوّرتُنّه بما عاينتُنّ لعذرتُنّني في الافتتان به فلا يلائمُ المقام فإن مرادَها بدعوتهن وتمهيدِ ما مهَّدَتْه لهن تبكيتُهن وتنديمُهن على ما صدر عنهن من اللوم وقد فعلت ذلك بما لا مزيدَ عليه ، وما ذكر من المقال فحقُّ المعتذر قبل ظهور معذرتِه وقد قيل في تعليل الملَكية : أن الجمعَ بين الجمال الرائقِ والكمال الفائق والعصمةِ البالغةِ من الخواصِّ الملكية وهو أيضاً لا يلائم قولها : { فذلكن الذى لُمْتُنَّنِى فِيهِ } فإن عنوانَ العصمةِ مما ينافي تمشيةَ مرامِها ثم بعدما أقامت عليهن الحجة وأوضحت لديهن عذرَها وقد أصابهن من قِبله عليه السلام ما أصابها باحت لهن ببقية سرِّها فقالت :
{ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ } حسبما قلتنّ وسمعتن { فاستعصم } امتنع طالباً للعصمة وهو بناءُ مبالغةٍ يدل على الامتناع البليغِ والتحفّظ الشديد كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها كما في استمسك واستجمع الرأيَ وفيه برهانٌ نيِّر على أنه لم يصدُر عنه عليه السلام شيء مُخِلٌّ باستعصامه بقوله : معاذ الله من الهمّ وغيرِه . اعترفت لهن أولاً بما كن يسمعنْه من مراودتها له وأكدتْه إظهاراً لابتهاجها بذلك ثم زادت على ذلك أنه أعرض عنها على أبلغ ما يكون ولم يَمِلْ إليها قط ثم زادت عليه أيضاً أنها مستمرةٌ على ما كانت عليه غير مرغوبة عنه لا بلوم العواذل ولا بإعراض الحبيب فقالت :
{ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ } أي آمرُ به فيما سيأتي كما لم يفعل فيما مضى فحُذف الجارُّ وأوصل الفعلُ إلى الضمير كما في أمرتك الخيرَ فالضميرُ للموصول أو أمري إياه أي موجبَ أمري ومقتضاه ، فما مصدرية والضميرُ ليوسف وعبّرت عن مراودتها بالأمر إظهاراً لجريان حكومتِها عليه واقتضاءً للامتثال بأمرها { لَيُسْجَنَنَّ } بالنون المثقلة آثرت بناءَ الفعل للمفعول جرياً على رسم الملوكِ أو إيهاماً لسرعة ترتبِ ذلك على عدم امتثالِه لأمرها كأنه لا يدخُل بينهما فعلُ فاعل { وَلَيَكُونًا } بالمخففة { مِنَ الصاغرين } أي الأذلاء في السجن وقد قرىء الفعلان بالتثقيل ولكن المشهورةَ أولى لأن النونَ كُتبت في المصحف ألفاً على حكم الوقف ، واللامُ الداخلة على حرف الشرطِ موطئةٌ للقسم وجوابُه سادٌّ مسدَّ الجوابين ولقد أتتْ بهذا الوعيدِ المنطوي على فنون التأكيدِ بمحضر منهن ليعلم يوسفُ عليه السلام أنها ليست في أمرها على خُفية ولا خفية من أحد فتضيقَ عليه الحيلُ وتعيا به العللُ وينصحن له ويُرشِدْنه إلى موافقتها . ولما كان هذا الإبراقُ والإرعادُ منها مظِنةً لسؤال سائل يقول : فما صنع يوسفُ حينئذ؟ قيل :(3/429)
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)
{ قَالَ } مناجياً لربه عزَّ سلطانُه { رَبّ السجن } الذي أوعَدَتْني بالإلقاء فيه وقرأ يعقوبُ بالفتح على المصدر { أَحَبُّ إِلَىَّ } أي آثَرُ عندي لأنه مشقةٌ قليلةٌ نافذةٌ إثرَها راحاتٌ جليلةٌ أبديةٌ { مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ } من مؤاتاتها التي تؤدي إلى الشقاء والعذابِ الأليم ، وهذا الكلامُ منه عليه السلام مبنيٌّ على ما مر من انكشاف الحقائقِ لديه وبروزِ كلَ منها بصورتها اللائقةِ بها ، فصيغةُ التفضيلِ ليست على بابها إذ ليس له شائبةُ محبةٍ لما دعتْه إليه ، وإنما هو والسجنُ شران أهونُهما وأقربُهما إلى الإيثار السجنُ . والتعبيرُ عن الإيثار بالمحبة لحسم مادةِ طمعِها عن المساعدة خوفاً من الحبس والاقتصار على ذكر السجنِ من حيث إن الصَّغارَ من فروعه ومستتبعاتِه ، وإسنادُ الدعوةِ إليهن جميعاً لأن النسوة رغّبْنه في مطاوعتها وخوَّفْنه من مخالفتها ، وقيل : دعَوْنه إلى أنفسهن ، وقيل : إنما ابتُلي عليه السلام بالسجن لقوله هذا ، وكان الأولى به أن يسألَ الله تعالى العافية ، ولذلك ردّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على من كان يسأل الصبرَ { وَإِلاَّ تَصْرِفْ } أي إن لم تصرف { عَنّى كَيْدَهُنَّ } في تحبيب ذلك إليّ وتحسينه لديّ بأن تُثبِّتَني على ما أنا عليه من العِصمة والعِفة { أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } أي أمِلْ إلى إجابتهن أو إلى أنفسهن على قضية الطبيعةِ وحكم القوةِ الشهوية ، وهذا فزعٌ منه عليه السلام إلى ألطاف الله تعالى جرياً على سُنن الأنبياءِ والصالحين في قصر نيلِ الخيراتِ والنجاة عن الشرور على جناب الله عز وجل وسلبِ القوى والقدر عن أنفسهم ، ومبالغةٌ في استدعاء لطفِه في صرف كيدِهن بإظهار أن لا طاقةَ له بالمدافعة كقول المستغيثِ : أدركْنى وإلا هلكتُ لا أنه يطلب الإجبارَ والإلجاءَ إلى العصمة والعفةِ وفي نفسه داعيةٌ تدعوه إلى هواهن ، والصبْوةُ الميلُ إلى الهوى ومنه الصَّبا لأن النفوسَ تصبو إليها لطيب نسيمِها ورَوْحِها . وقرىء أصبّ إليهن من الصبابة وهي رقةُ الشوق { وَأَكُن مّنَ الجاهلين } الذين لا يعملون بما يعلمون لأن من لا جدوى لعلمه فهو والجاهل سواءٌ أو من السفهاء بارتكابِ ما يدعونني إليه من القبائح لأن الحكيمَ لا يفعل القبيح .(3/430)
فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
{ فاستجاب لَهُ رَبُّهُ } دعاءَه الذين تضمنه قولُه : وإلا تصرف عني كيدهن الخ ، فإن فيه استدعاءً لصرف كيدِهن على أبلغ وجهٍ وألطفِه كما مر ، وفي إسناد الاستجابة إلى الرب مضافاً إليه عليه السلام ما لا يخفى من إظهار اللطف { فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ } حسب دعائِه وثبّته على العصمة والعفة { إِنَّهُ هُوَ السميع } لدعاء المتضرعين إليه { العليم } بأحوالهم وما يصلحهم .
{ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ } أي ظهر للعزيز وأصحابه المتصدّين للحل والعقد ريثما اكتفَوا بأمر يوسف بالكتمان والإعراض عن ذلك { مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات } الصارفةَ لهم عن ذلك البداءِ وهي الشواهدُ الدالة على براءته عليه السلام ، وفاعل بدا إما مصدرُه أو الرأي المفهوم من السياق أو المصدر المدلول عليه بقوله : { لَيَسْجُنُنَّهُ } والمعنى بدا لهم بداءٌ أو رأيٌ أو سَجنُه المحتومُ قائلين : والله ليسجُنُنّه فالقسم المحذوف وجوابه معمول للقول المقدر حالاً من ضميرهم ، وما كان ذلك البداءُ إلا باستنزال المرأةِ لزوجها وقتلها منه في الذروة والغارب وكان مطواعةً لها تقوده حيث شاءت ، قال السدي إنها قالت للعزيز : إن هذا العبدَ العبراني فد فضحني في الناس يخبرهم بأني راودتُه عن نفسه فإما أن تأذن لي فأخرجَ فأعتذرَ إلى الناس وإما أن تحبِسه فحبسه ، ولقد أرادت بذلك تحقيقَ وعيدِها لتُلين به عريكتَه وتنقادَ لها قرونته لمّا انصرمت حبالُ رجائها عن استتباعه بعرض الجمالِ والترغيبِ بنفسها وبأعوانها . وقرىء لتسجُنُنه على صيغة الخطاب بأن خاطب بعضُهم العزيزَ ومن يليه أو العزيزَ وحده على وجه التعظيم أو خاطب العزيزَ ومَن عنده مِن أصحاب الرأي المباشرين للسجن والحبس { حتى حِينٍ } إلى حين انقطاعِ قالةِ الناسِ وهذا بادي الرأي عند العزيز وذويه ، وأما عندها فحتى يذلِّلَه السجنُ ويسخره لها ويحسبَ الناسُ أنه المجرمُ وقرىء عتى حين بلغة هذيل .(3/431)
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
{ وَدَخَلَ مَعَهُ } أى فى صحبته { السجن فَتَيَانَ } من فتيان الملك ومماليكه أحدهما شرابيه والآخر خبازه . روى أن جماعة من أهل مصر ضمنوا لهما مالا ليسما الملك فى طعامه وشرابه فأجابهم إلى ذلك ثم إن الساقى نكل عن ذلك ومضى عليه الخباز فسم الخبز فلما حضر الطعام قال الساقى لا تأكل أيها الملك فإن الخبز مسموم وقال الخباز لا تشرب أيها الملك فإن الشراب مسموم فقال الملك للساقى اشربه فشربه فلم يضره وقال للخباز كله فأبى فجرب بدابة فهلكت فأمر بحبسهما فانفق أن أدخلاه معه وتأخير الفاعل عن المفعول لما مر غير مرة من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ليتمكن عند النفس حين وروده عليها فضل تمكن ونظيره تقديم الظرف على المفعول الصريح فى قوله تعالى { فأوجَسَ فى نفسه خِيفة } وتأخير السجن عن الظرف لإيهام العكس أن يكون الظرف خبراً مقدما على المبتدأ وتكون الجملة حالا من فاعل دخل فتأمل { قَالَ أَحَدُهُمَآ } استئناف مبنى على سؤال من يقول ما صنعا بعد ما دخلا معه السجن فأجيب بأنه قال أحدهما وهو الشرابى { إني أرانيا } أى رأيتنى والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة الماضية { أَعْصِرُ خَمْراً } أى عنباً سماه بما يؤول إليه لكونه المقصود من العصر وقيل الخبر بلغة عمان اسم للعنب وفى قراءة ابن مسعود رضى الله عنه أعصر عنباً { وَقَالَ الآخر } وهو الخباز { إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً } تأخير المفعول عن الظرف لما مر آنفاً وقوله { تَأْكُلُ الطير مِنْهُ } أى تنهس منه صفة للخبز أو استئناف مبنى على السؤال { نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } بتأويل ما ذكر من الرؤ بين أو ما رئى بإجراء الضمير مجرى ذلك بطريق الاستعارة فإن اسم الإشارة يشار به إلى متعدد كما فى قوله
فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه فى الجلد توليع البهق
أى كائن ذلك والسر فى المصير إلى إجراء الضمير مجرى اسم الإشارة مع أنه لا حاجة إليه بعد تأويل المرجع بما ذكر أو بما رئى أن الضمير إنما يتعرض لنفس المرجع من حيث هو من غير تعرض لحال من أحواله فلا يتسنى تأويله بأحد الاعتبارين إلا بإجرائه مجرى اسم الإشارة الذى يدل على المشار إليه بالاعتبار الذى جرى عليه فى الكلام فتأمل هذا إذا قالاه معاً أو قاله أحدهما من جهتهما ليتعدد المرجع بل عبارة كل منهما نبئنى بتأويله مستفسراً لما رآه وصيغة المتكلم مع الغير واقعة فى الحكاية دون المحكى على طريقة قوله عز وجل { يَأيُّها الرُّسل كُلُوا من الطيبات } فإنَّهم لم يخاطبوا بذلك دفعة بل خوطب كل منهم فى زمانه بصيغة مفردة خاصة به { إِنَّا نَرَاكَ } تعليل لعرض رؤياهما عليه واستفسارها منه عليه السلام { مِنَ المحسنين } من الذين يحيدون عبارة الرؤيا لما رأياه يقص عليه بعض أهل السجن رؤياه فيؤو لها له تأويلا حسناً أو من العلماء لما سمعاه يذكر للناس ما يدل على علمه وفضله أو من المحسنين إلى أهل السجن أى فأحسن إلينا بكشف غمتنا إن كنت قادراً على ذلك .(3/432)
روى أنه عليه السلام كان إذا مرض منهم رجل قام عليه وإذا ضاق مكانه أوسع له وإذا احتاج جمع له وعن قتادة رضى الله عنه كان فى السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول أبشروا واصبروا تؤجروا فقالوا بارك الله عليك ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك لقد بورك لنا فى جوارك فمن أنت يا فتى فقال أنا يوسف بن صفى الله يعقوب بن ذبيح الله إسحق بن خليل الله إبراهيم فقال له عامل السجن لو استطعت خليت سبيلك ولكنى أحسن جوارك فكن فى أى بيوت السجن شئت وعن الشعبى أنهما تحالما له ليمتحناه فقال الشرابى أرانى فى بستان فإذا بأصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد من عنب فقطعتها وعصرتها فى كأس الملك وسقيته وقال الخباز إنى أرانى وفوق رأسى ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة وإذا سباع الطير تنهس منها .(3/433)
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
{ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } في مقامكما هذا حسب عادتِكما المطردةِ { إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ } استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوال أي لا يأتيكما طعامٌ في حال من الأحوال إلا حالَ ما نبأتكما به بأن بينتُ لكما ماهيّتَه وكيفيته وسائرَ أحواله { قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا } وإطلاقُ التأويل عليه إما بطريق الاستعارةِ فإن ذلك بالنسبة إلى مطلق الطعامِ المُبهمِ بمنزلة التأويلِ بالنظر إلى ما رُئيَ في المنام وشبيهٌ له ، وإما بطريق المشاكلة حسبما وقع في عبارتهما من قولهما : { نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } ولا يبعُد أن يراد بالتأويل الشيءُ الآئلُ لا المآلُ فإنه في الأصل جعلُ شيءٍ آئلاً إلى شيء آخرَ فكما يجوز أن يراد به الأولُ فالمعنى إلا نبأتُكما بما يؤول إليه من الكلام والخبرِ المطابق للواقع وكان عليه السلام يقول لهما : اليوم يأتيكما طعامٌ صفتُه كيتَ وكيت فيجدانه كذلك ، ومرادُه عليه السلام بذلك بيانُ كلِّ ما يُهمّهما من الأمور المترقَّبة قبل وقوعِها ، وإنما تخصيصُ الطعام بالذكر لكونه عريقاً في ذلك بحسب الحال مع ما فيه من مراعاة حسنِ التخلص إليه مما استعبراه من الرؤيَيَيْن المتعلقتين بالشراب والطعام ، وقد جعل الضميرُ لما قصا من الرؤييين على معنى لا يأتيكما طعامٌ ترزقانِه حسب عادتِكما إلا أخبرتكما بتأويل ما قصصتما عليَّ قبل أن يأتيكما ذلك الطعامُ الموقت مراداً به الإخبارُ بالاستعجال في التنبئة . وأنت خبيرٌ بأن النظم الكريمَ ظاهرٌ في تعدد إتيانِ الطعام والإخبار بالتأويل وتجدُّدِهما وأن المقام مقامُ إظهارِ فضلِه في فنون العلومِ بحيث يدخل في ذلك تأويلُ رؤياهما دخولاً أولياً ، وإنما لم يكتفِ عليه السلام بمجرد تأويلِ رؤياهما مع أن فيه دِلالةً على فضلة لأنهما لما نعتاه عليه السلام بالانتظام في سِمْط المحسنين وأنهما قد علما ذلك حيث قالا : إنا نراك من المحسنين توسّم عليه السلام فيهما خيراً وتوجّهاً إلى قَبول الحق فأريد أن يخرُجَ آثرَ ذي أثيرٍ عما في عُهدته من دعوة الخلقِ إلى الحق فمهّد قبل الخوضِ في ذلك مقدمةً تزيدهما علماً بعظم شأنِه وثقةً بأمره ووقوفاً على طبقته في بدائع العلومِ توسلاً بذلك إلى تحقيق ما يتوخاه ، وقد تخلّص إليها من كلامهما فكأنه قال : تأويلُ ما قصصتماه عليّ في طرف التمام حيث رأيتما مثاله في المنام وإني أبيّن لكما كلَّ جليل ودقيق من الأمور المستقبلة وإن لم يكن هناك مقدمةُ إلمامٍ حتى إن الطعام الموظفَ الذي يأتيكما كلَّ يوم أبيّنه قبل إتيانه ، ثم أخبرهما بأن عمله ذلك ليس من قبيل علوم الكهنةِ والعرّافين ، بل هو فضلٌ إلهيٌّ يؤتيه من يشاء ممن يصطفيه للنبوة فقال :
{ ذلكما } أي ذلك التأويلُ والإخبارُ بالمغيّبات ومعنى البُعد في ذلك للإشارة إلى علو درجتِه وبُعد منزلتِه { مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى } بالوحي والإلهامِ أي بعضٌ منه أو من ذلك الجنسِ الذي لا يحوم حولَ إدراكِه العقولُ ، ولقد دلهما بذلك على أن له علوماً جمةً ، ما سمعاه قطعةٌ من جملتها وشُعبةٌ من دوحتها ، ثم بين أن نيل تلك الكرامةِ بسبب اتباعِه ملةَ آبائِه الأنبياءِ العظامِ وامتناعِه عن الشرك فقال : { إِنّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله } وهو استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال نشأ من قوله : ذلكما مما علمني ربي وتعليلاً له لا للتعليم الواقع صلةً للموصول لتأديته إلى معنى أنه مما علمني ربي لهذا السبب دون غيرِه ، ولا لمضمون الجملةِ الخبرية لأن ما ذُكر بصدد التعليلِ ليس بعلةٍ لكون التأويلِ المذكورِ بعضاً مما علمه ربُّه أو لكونه من جنسه بل لنفس تعليمِ ما علمه فكأنه قيل : لماذا علمك ربُّك تلك العلومَ البديعة؟ فقيل : لأني تركت ملة الكفرةِ أي دينَهم الذي اجتمعوا عليه من الشرك وعبادةِ الأوثان ، والمراد بتركها الامتناعُ عنها رأساً كما يفصح عنه قوله :(3/434)
{ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَىْء } لا تركُها بعد ملابستها ، وإنما عبّر عنه بذلك لكونه أدخلَ بحسب الظاهرِ في اقتدائهما به عليه السلام ، والتعبيرُ عن كفرهم بالله تعالى بسلب الإيمان به للتنصيص على أن عبادتَهم له تعالى مع عبادة الأوثانِ ليست بإيمان به تعالى كما هو زعمُهم الباطلُ على ما مر في قوله تعالى : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح } { وَهُم بالاخرة } وما فيها من الجزاء { هُمْ كافرون } على الخصوص دون غيرِهم لإفراطهم في الكفر .(3/435)
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
{ واتبعت مِلَّةَ ءابَاءي إبراهيم * وإسحاق وَيَعْقُوبَ } يعني أنه إنما حاز هذه الكمالاتِ وفاز بتلك الكراماتِ بسبب أنه اتبع ملةَ آبائِه الكرامِ ولم يتبع ملةَ قومٍ كفروا بالمبدأ والمعاد وإنما قاله عليه السلام ترغيباً لصاحبيه في الإيمان والتوحيدِ وتنفيراً لهما عما كانا عليه من الشرك والضلالِ ، وقُدّم ذكرُ تركِه لملّتهم على ذكر اتباعِه لملة آبائِه لأن التخليةَ متقدمةٌ على التحلية { مَا كَانَ } أي ما صح وما استقام فضلاً عن الوقوع { لَنَا } معاشرَ الأنبياءِ لقوة نفوسِنا ونور علومِنا { أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَىْء } أيَّ شيءٍ كان من ملك أو جنّي أو إنسي فضلاً عن الجماد البحت { ذلك } أي التوحيدُ المدلولُ عليه بقوله : ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء { مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا } أي ناشىءٌ من تأييده لنا بالنبوة وترشيحِه إيانا لقيادة الأمةِ وهدايتِهم إلى الحق وذلك مع كونه من التوحيد ودواعيه نعمةٌ جليلةٌ وفضلٌ عظيم علينا بالذات { وَعَلَى الناس } كافةً بواسطتنا وحيث عبّر عن ذلك بذلك العنوان عبّر عن التوحيد الذي يوجبه بالشكر فقيل : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } أي لا يوحّدون فإن التوحيدَ مع كونه من آثار ما ذُكر من التأييد شكرٌ لله عز وجل على تلك النعمةِ وإنما وُضع الظاهرُ موضع الضمير الراجعِ إلى الناس لزيادة توضيحٍ وبيانٍ ولقطع توهمِ رجوعِه إلى المجموع المُوهمِ لعدم اختصاصِ غير الشاكرِ بالناس ، وقيل : ذلك التوحيدُ من فضل الله علينا حيث نصَب لنا أدلةً ننظر فيها ونستدلّ بها على الحق . وقد نصَب مثلَ تلك الأدلةِ لسائر الناس أيضاً ولكن أكثرَهم لا ينظرون ولا يستدلون بها اتّباعاً لأهوائهم فيبقَوْن كافرين غيرَ شاكرين ولك أن تقول : ذلك التوحيدُ من فضل الله علينا حيث أعطانا عقولاً ومشاعرَ نستعملها في دلائلِ التوحيد التي مهدها في الأنفس والآفاقِ وقد أعطى سائرَ الناس أيضاً مثلها ولكن أكثرَهم لا يشكرون أي لا يصرِفون تلك القُوى والمشاعرَ إلى ما خُلقت هي له ولا يستعملونها فيما ذكر من أدلة التوحيدِ الآفاقيةِ والأنفُسية والعقليةِ والنقلية .(3/436)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
{ ياصاحبى السجن } أي يا صاحبيَّ في السجن كما تقول : يا سارق الليلةِ ناداهما بعنوان الصحبة في مدار الأشجانِ ودارِ الأحزان التي تصفو فيها المودةُ وتخلُص النصيحةُ ليُقبِلا عليه ويَقبَلا مقالتَه وقد ضرب لهما مثلاً يتضح به الحقُّ عندهما حقَّ اتضاحٍ فقال : { أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ } لا ارتباطَ بينهم ولا اتفاقَ يستعبدُ كما كلٌّ منهم حسبما أراد غيرَ مراقب للآخَرين مع عدم استقلاله { خَيْرٌ } لكما { أَمِ الله } المعبودُ بالحق { الواحد } المتفرد بالألوهية { القهار } الغالبُ الذي لا يغالبه أحدٌ . وبعد ما نبههما على فساد تعددِ الأرباب بين لهما سقوطَ ألهتِهما عن درجة الاعتبار رأساً فضلاً عن الألوهية فقال معمّماً للخطاب لهما ولمن على دينهما : { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ } أي من دون الله شيئاً { إِلاَّ أَسْمَاءً } فارغةً لا مطابقَ لها في الخارج لأن ما ليس فيه مصداقُ إطلاقِ الاسم عليه لا وجودَ له أصلاً فكانت عبادتُهم لتلك الأسماء فقط { سَمَّيْتُمُوهَا } جعلتموها أسماءً وإنما لم يَذكُر المسمَّياتِ تربيةً لما يقتضيه المقامُ من إسقاطها عن مرتبة الوجودِ وإيذاناً بأن تسميتهم في البطلان حيث كانت بلا مسمّى كعبادتهم حيث كانت بلا معبود { أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ } بمحض جهلِكم وضلالتِكم { مَّا أَنزَلَ الله بِهَا } أي بتلك التسميةِ المستتبِعة للعبادة { مّن سلطان } من حجة تدل على صحتها { إِنِ الحكم } في أمر العبادة المتفرعةِ على تلك التسمية { إِلاَ لِلَّهِ } عز سلطانُه لأنه المستحقُّ لها بالذات إذ هو الواجبُ بالذات الموجدُ للكل والمالكُ لأمره { أَمَرَ } استئنافٌ مبني على سؤال ناشىءٍ من قوله : إن الحكم إلا لله فكأنه قيل : فماذا حكم الله في هذا الشأن؟ فقيل : أمر على ألسنة الأنبياءِ عليهم السلام { أَلاَّ تَعْبُدُواْ } أي بأن لا تعبُدوا { إِلاَّ إِيَّاهُ } حسبما تقضي به قضيةُ العقل أيضاً { ذلك } أي تخصيصُه تعالى بالعبادة { الدين القيم } الثابتُ المستقيم الذي تعاضدت عليه البراهينُ عقلاً ونقلاً { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أن ذلك هو الدينُ القيم لجهلهم بتلك البراهينِ أو لا يعلمون شيئاً أصلاً فيعبدون أسماءً سمَّوها من تلقاء أنفسِهم معْرِضين عن البرهان العقليِّ والسلطانِ النقليِّ .
وبعد تحقيقِ الحقِّ ودعوتِهما إليه وبيانِه لهما مقدارَه الرفيعَ ومرتبةَ علمِه الواسِع شرع في تفسير ما استعبراه ولكونه بحثاً مغايِراً لما سبق فصلُه عنه بتكرير الخطاب فقال :(3/437)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
{ ياصاحبى السجن أَمَّا أَحَدُكُمَا } وهو الشرابيُّ وإنما لم يعيّنه ثقةً بدلالة التعبير وتوسلاً بذلك إلى إبهام أمرِ صاحبِه حِذارَ مشافهتِه بما يسوءه { فَيَسْقِى رَبَّهُ } أي سيدَه { خَمْرًا } روي أنه عليه السلام قال له : ما رأيت من الكرمة وحسنها فالملكُ وحسنُ حالك عنده وأما القضبان الثلاثة فثلاثةُ أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه . وقرأ عكرمة فيسقى ربُّه على البناء للمفعول أي يُسقى ما يروى به { وَأَمَّا الاخر } وهو الخباز { فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطير مِن رَّأْسِهِ } روي أنه عليه السلام قال له : ما رأيت من السلال ثلاثةُ أيام تمرّ ثم تخرج فتقتل { قُضِىَ } أي تم وأحكم { الامر الذى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } وهو ما رأياه من الرؤييين قطعاً لا مآلُه الذي هو عبارة عن نجاة أحدِهما وهلاكِ الآخر كما يوهمه إسنادُ القضاء إليه إذ الاستفتاءُ إنما يكون في الحادثة لا في حكمِها يقال : استفتى الفقيهَ في الحادثة أي طلب منه بيانَ حكمِها ولا يقال استفتاه في حكمها ، وكذا الإفتاءُ فإنه يقال : أفتى فلانٌ في الواقعة الفلانية بكذا ولا يقال أفتى في حكمها أو جوابها بكذا ، ومما هو علَمٌ في ذلك قولُه تعالى : { يأَيُّهَا الملأ أَفْتُونِى فِى رؤياى } ومعنى استفتائهما فيه طلبُهما لتأويله بقولهما : نبئنا بتأويله وإنما عبر عن عن ذلك بالأمر وعن طلب تأويلِه بالاستفتاء تهويلاً لأمره وتفخيماً لشأنه إذ الاستفتاءُ إنما يكون في النوازل المشكِلة والحُكمِ المبهم الجواب ، وإيثارُ صيغة الاستقبالِ مع سبق استفتائِهما في ذلك لما أنهما بصدده إلى أن يقضيَ عليه السلام من الجواب وطرَه ، وإسنادُ القضاءِ إليه مع أنه من أحوال مآلِه لأنه في الحقيقة عينُ ذلك المآلِ وقد ظهر في عالم المثالِ بتلك الصورةِ ، وأما توحيدُه مع تعدد رؤياهما فواردٌ على حسب ما وحّداه في قولهما : نبئنا بتأويله لا لأن الأمرَ ما اتُّهما به وسُجنا لأجله من سَمِّ الملكِ فإنهما لم يستفتيا فيه ولا فيما هو صورتُه بل فيما هو صورةٌ لمآله وعاقبتِه فتأمل . وإنما أخبرهما عليه السلام بذلك تحقيقاً لتعبيره وتأكيداً له ، وقيل : لما عبّر رؤياهما جحَدا وقالا : ما رأينا شيئاً فأخبرهما إن ذلك كائنٌ أصدقتما أو كذبتما ، ولعل الجحودَ من الخبّاز إذ لا داعيَ إلى جحود الشرابيِّ إلا أن يكون ذلك لمراعاة جانبه .
{ وَقَالَ } أي يوسف عليه السلام { لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ } أُوثر على صيغة المضارعِ مبالغةً في الدلالة على تحقق النجاةِ حسبما يفيده قوله تعالى : { قُضِىَ الامر الذى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } وهو السرُّ في إيثار ما عليه النظمُ الكريم على أن يقال للذي ظنه ناجياً { مِنْهُمَا } من صاحبيه ، وإنما ذكر بوصف النجاةِ تمهيداً لمناط التوصيةِ بالذكر عند الملكِ وعنوانِ التقربِ المفهوم من التعبير المذكورِ وإن كان أدخلَ في ذلك وأدعى إلى تحقيق ما وصّاه به لكنه ليس بوصف فارقٍ يدور عليه الامتيازُ بينه وبين صاحبه المذكورِ بوصف الهلاكِ ، والظانُّ هو يوسفُ عليه السلام لا صاحبُه لأن التوصيةَ المذكورة لا تدور على ظن الناجي بل على ظن يوسفَ وهو بمعنى اليقينِ كما في قوله تعالى :(3/438)
{ ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ } فالتعبيرُ بالوحي كما ينبىء عنه قوله تعالى : { قُضِىَ الامر } الخ ، وقيل : هو بمعناه والتعبيرُ بالاجتهاد والحكمُ بقضاء الأمر أيضاً اجتهاديٌّ { اذكرنى } بما أنا عليه من الحال والصفة { عِندَ رَبّكَ } سيّدِك وصِفْني له بصفتي التي شاهدتَها { فَأَنْسَاهُ الشيطان } أي أنسى الشرابيَّ بوسوسته وإلقائه في قلبه أشغالاً تعوقه عن الذكر وإلا فالإنساءُ في الحقيقة لله عز وجل والفاءُ للسببية فإن توصيتَه عليه السلام المتضمنةَ للاستعانة بغيره سبحانه كانت باعثةً لما ذكر من الإنساء { ذِكْرَ رَبّهِ } أي ذكرَ الشرابيِّ له عليه السلام عند الملِك ، والإضافة لأدنى ملابسةٍ ، أو ذكرَ إخبارِ ربِّه { فَلَبِثَ } أي يوسف عليه السلام بسبب ذلك الإنساءِ أو القول { فِى السجن بِضْعَ سِنِينَ } البِضْعُ ما بين الثلاث إلى التسع من البَضْع وهو القطعُ ، وأكثرُ الأقاويل أنه لبث فيه سبعَ سنين ، وروي عن النبي عليه السلام : « رحم الله أخي يوسفَ لو لم يقُل اذكُرْني عند ربِّك لما لبث في السجن سبعاً بعد الخمس » والاستعانةُ بالعباد وإن كانت مرخصةً لكن اللائقَ بمناصب الأنبياءِ عليهم السلام الأخذُ بالعزائم .(3/439)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
{ وَقَالَ الملك } أي الريّانُ { إِنّى أرى } أي رأيت وإيثارُ صيغة المضارعِ لحكاية الحالِ الماضية { سَبْعَ بقرات سِمَانٍ } جمعُ سمينٍ وسمينة ككرام في جمع كريم وكريمة ، يقال : رجالٌ كرام ونسوةٌ كِرامٌ { يَأْكُلُهُنَّ } أي أكلهن والعدولُ إلى المضارع لاستحضار الصورةِ تعجيباً والجملةُ حالٌ من البقرات أو صفةٌ لها { سَبْعٌ عِجَافٌ } أي سبعُ بقراتٍ عجافٍ وهي جمعُ عجفاءَ والقياس عُجْفٌ لأن فعلاء وأفعل لا يجمع على فِعال ولكن عُدل به عن القياس حملاً لأحد النقيضين على الآخر وإنما لم يقل سبعُ عجافٍ بالإضافة لأن التمييزَ موضوعٌ لبيان الجنس والصفةُ ليست بصالحة لذلك فلا يقال ثلاثةُ ضخامٍ وأربعةُ غلاظٍ ، وأما قولُك : ثلاثةُ فرسانٍ وخمسةُ ركبانٍ فلجرَيان الفارسِ والراكب مَجرى الأسماءِ . روي أنه رأى سبعَ بقراتٍ سمان خرجن من نهر يابسٍ وخرج عَقيبَهن سبعُ بقراتٍ عجافٍ في غاية الهُزال فابتلعت العجافُ السمانَ { وَسَبْعَ سنبلات خُضْرٍ } قد انعقد حبُّها { وَأُخَرَ يابسات } أي وسبعاً أخَرَ يابساتٍ قد أدركت والْتَوَتْ على الخضر حتى غلبتها على ما روي ، ولعل عدمَ التعرضِ لذكره للاكتفاء بما ذكر من حال البقرات { ياأيها الملأ } خطابٌ للأشراف من العلماء والحكماء { أَفْتُونِى فِى رؤياى } هذه أي عبِّروها وبيِّنوا حكمَها وما تؤول إليه من العاقبة والتعبير عن التعبير بالإفتاء لتشريفهم وتفخيمِ أمر رؤياه { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } أي تعلمون عبارةَ جنسِ الرؤيا علماً مستمراً وهي الانتقالُ من الصور الخيالية المشاهدةِ في المنام إلى ما هي صورٌ وأمثلةٌ لها من الأمور الآفاقيةِ أو الأنفسيةِ الواقعةِ في الخارج من العبور وهو المجاوزةُ ، تقول : عبَرْتُ النهرَ إذا قطعتُه وجاوزتُه ونحوه أوّلتها أي ذكرتُ مآلَها وعَبْرتُ الرؤيا عبارةً أثبتُ من عبّرتها تعبيراً ، والجمعُ بين الماضي والمستقبلِ للدلالة على الاستمرار كما أشير إليه ، واللامُ للبيان أو لتقوية العاملِ المؤخَّرِ لرعاية الفواصِلِ أو لتضمين تعبُرون معنى فعلٍ متعدَ باللام كأنه قيل : إن كنتم تنتدِبون لعبارتها ويجوز أن يكون للرؤيا خبر كان كما يقال : فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلاً به متمكناً منه وتعبرون خبرٌ آخر .(3/440)
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
{ قَالُواْ } استئنافٌ مبني على السؤال كأنه قيل : فماذا قال الملأُ للملك؟ فقيل : قالوا : هي { أضغاث أَحْلاَمٍ } أي تخاليطُها جمع ضِغْث وهو في الأصل ما جمع من أخلاط النبات وحُزِم ثم استعير لما تجمعه القوةُ المتخيِّلة من أحاديث النفس ووساوسِ الشيطان وتريها في المنام ، والأحلامُ جمع حلُم وهي الرؤيا الكاذبةُ التي لا حقيقةَ لها والإضافةُ بمعنى مِنْ أي هي التي أضغاثٌ من أحلام ، أخرَجوها من جنس الرؤيا التي لها عاقبةٌ تؤول إليها ويعتنى بأمرها وجمعوها وهي رؤيا واحدةٌ مبالغةً في وصفها بالبطلان كما في قولهم : فلانٌ يركبُ الخيلَ ويلبَس العمائم لمن لا يملِك إلا فرساً واحداً وعمامة فردةً ، أو لتضمّنها أشياءَ مختلفةً من البقرات السبعِ السمانِ العجاف والسنابل السبعِ الخُضر والأُخَرِ اليابسات فتأمل حسنَ موقعِ الأضغاثِ مع السنابل فللَّه درُّ شأنِ التتزيل { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الاحلام } أي المنامات الباطلةِ التي لا أصل لها { بعالمين } لا لأن لها تأويلاً ولكن لا نعلمه بل لأنه لا تأويلَ لها وإنما التأويلُ للمنامات الصادقةِ ويجوز أن يكون ذلك اعترافاً منهم بقصور علمِهم وأنهم ليسوا بنحاريرَ في تأويل الأحلامِ مع أن لها تأويلاً كما يُشعر به عدولُهم عما وقع في كلام الملك من العبارة المُعْربة عن مجرد الانتقالِ من الدالّ إلى المدلول حيث لم يقولوا بتعبير الأحلام أو عبارتها إلى التأويل المنبىءِ عن التصرُّف والتكلّف في ذلك لما بين الآئلِ والمآلِ من البُعد ، ويؤيده قولُه عز وجل : { أَنَاْ أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِه } .
{ وَقَالَ الذى نَجَا مِنْهُمَا } أي من صاحبَيْ يوسف وهو الشرابيّ { وادكر } بغير المعجمة وهو الفصيحُ ، وعن الحسن بالمعجمة أي تذكر يوسفَ عليه السلام وشؤونَه التي شاهدها ووصيته بتقريب رؤيا الملك وإشكال تأويلِها على الملأ { بَعْدَ أُمَّةٍ } أي مدة طويلةٍ وقرىء إمةٍ بالكسر وهي النعمةُ أي بعد ما أنعم عليه بالنجاة وأمة أي نسيان والجملةُ حالٌ من الموصول أو من ضميره في الصلة ، وقيل : معطوفةٌ على نجا وليس ذلك لأن حق كلَ من الصفة والصلةِ أن تكون معلومة الانتسابِ إلى الموصوف والموصولِ عند المخاطبِ كما عند المتكلم ، ولذلك قيل : إن الصفاتِ قبل العلم بها أخبارٌ والأخبار بعد العلم بها صفاتٌ ، وأنت تدري أن تذكّره بعد أمةٍ إنما عُلم بهذه الجملة فلا مجال لنظمه مع نجاته المعلومةِ قبلُ في سلك الصلة { أَنَاْ أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ } أي أخبركم به بالتلقي عمن عنده علمُه لا من تلقاء نفسي ولذلك لم يقل أنا أفتيكم فيها وعقبّه بقوله : { فَأَرْسِلُونِ } أي إلى يوسفَ وإنما لم يذكُرْه ثقةً بما سبق من التذكر وما لحِق من قوله :(3/441)
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)
{ يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق } أي أُرسل إليه فأتاه فقال : يا يوسف ووصفَه بالمبالغة في الصدق حسبما شاهده وذاق أحوالَه وجرّبها لكونه بصدد اغتنامِ آثارِه واقتباس أنوارِه فهو من باب براعة الاستهلال { أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بقرات سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سنبلات خُضْرٍ وَأُخَرَ يابسات } أي في رؤيا ذلك وإنما لم يصرّح به لوضوح مرامِه بقرينة ما سبق من معاملتهما ولدَلالة مضمونِ الحادثة عليه حيث لا إمكان لوقوعه في عالم الشهادةِ ، أي بيِّنْ لنا مآلَها وحكمَها ، وحيث عاين علوَّ رتبتِه عليه السلام في الفضل عبّر عن ذلك بالإفتاء ولم يقل كما قال هو وصاحبُه أولاً : نبّئنا بتأويله وفي قوله : أفتنا مع أنه المستفتي وحده وإشعارٌ بأن الرؤيا ليست له بل لغيره ممن له ملابسةٌ بأمور العامة وأنه في ذلك مَعْبرٌ وسفيرٌ كما آذن بذلك حيث قال : { لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى الناس } أي إلى الملك ومن عنده أو إلى أهل البلد إن كان السجنُ في الخارج كما قيل فأُنبّئهم بذلك { لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } ذلك ويعملون بمقتضاه أو يعلمون فضلَك ومكانك مع ما أنت فيه من الحال فتتخلّصَ منه وإنما لم يبُتَّ القولَ في ذلك مجاراةً معه على نهج الأدب واحترازاً عن المجازفة إذ لم يكن على يقين من الرجوع فربما اختُرم دونه أو لعل المنايا دون ما تعدّاني ، ولا مِنْ علمهم بذلك فربما لم يعلموه .
{ قَالَ } استئنافٌ مبني على السؤال كأنه قيل : فماذا قال يوسفُ عليه السلام في التأويل؟ فقيل : قال : { تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا } قرىء بفتح الهمزة وسكونِها وكلاهما مصدرُ دأب في العمل إذ جدّ فيه وتعِب ، وانتصابُه على الحالية من فاعل تزرعون أي دائبين أو تدأبون دأباً على أنه مصدرٌ مؤكدٌ لفعل هو الحال .
أوّلَ عليه السلام البقراتِ السمانَ والسنبلاتِ الخضْرَ بستينَ مخاصيبَ والعجافَ واليابساتِ بسنينَ مُجدبةٍ فأخبرهم بأنهم يواظبون سبعَ سنين على الزراعة ويبالغون فيها إذ بذلك يتحقق الخِصْبُ الذي هو مصداقُ البقراتِ السمان وتأويلُها ، ودلهم في تضاعيف ذلك على أمر نافعٍ لهم فقال : { فَمَا حَصَدتُّمْ } أي في كل سنة { فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ } ولا تَذْروه كيلا يأكلَه السوسُ كما هو شأنُ غلالِ مصرَ ونواحيها ، ولعله عليه السلام استدل على ذلك بالسنبلات الخُضرِ وإنما أمرهم بذلك إذ لم يكن معتاداً فيما بينهم ، وحيث كانوا معتادين للزراعة لم يأمرهم بها وجعلَها أمراً محققَ الوقوع وتأويلاً للرؤيا مصداقاً لما فيها من البقرات السمان { إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تَأْكُلُونَ } في تلك السنسن وفيه إرشادٌ منه عليه السلام لهم إلى التقليل في الأكل والاقتصارِ على استثناء المأكولِ دون البَذْر لكون ذلك معلوماً من قوله : تزرعون سبعَ سنين ، وبعد إتمام ما أمرهم به شرَع في بيان بقيةِ التأويلِ التي يظهر منها حكمةُ الأمر المذكور فقال :(3/442)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
{ ثُمَّ يَأْتِى } وهو عطفٌ على تزرعون فلا وجه لجعله بمعنى الأمر حثاً لهم على الجد والمبالغة في الزراعة ، على أنه يحصل بالإخبار بذلك أيضاً { مِن بَعْدِ ذلك } أي من بعد السنين السبعِ المذكوراتِ وإنما لم يقل من بعدهن قصداً إلى الإشارة إلى وصفهن فإن الضمير ساكتٌ عن أوصاف المرجعِ بالكلية { سَبْعٌ شِدَادٌ } أي سبعُ سنينَ صعابٌ على الناس { يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ } من الحبوب المتروكةِ في سنابلها ، وفيه تنبيهٌ على أن أمرَه عليه السلام بذلك كان لوقت الضرورة وإسنادُ الأكل إليهن مع أنه حالُ الناس فيهن مجازيٌّ كما في نهارُه صائمٌ ، وفيه تلويحٌ بأنه تأويلٌ لأكل العجافِ السمانَ واللام في لهن ترشيحٌ لذلك فكأن ما ادُّخر في السنابل من الحبوب شيءٌ قد هُيِّيء وقُدِّم لهن كالذي يقدَّم للنازل وإلا فهو في الحقيقة مقدَّمٌ للناس فيهن { إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تُحْصِنُونَ } تُحرِزون مبذوراً للزراعة .
{ ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك } أي من بعد السنين الموصوفةِ بما ذكر من الشدة وأكلِ الغلال المدَّخرة { عَامٌ } لم يعبّر عنه بالسنة تحاشياً عن المدلول الأصليِّ لها من عام القحط وتنبيهاً من أول الأمرِ على اختلاف الحالِ بينه وبين السوابق { فِيهِ يُغَاثُ الناس } من الغيث أي يُمطَرون يقال : غِيثت البلادُ إذا مُطرت في وقت الحاجة أو من الغوث ، يقال : أغاثنا الله تعالى أي أمدنا برفع المكاره حين أظلّتنا { وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } أي ما مِن شأنه أن يُعصر من العنب والقصَب والزيتون والسمسم ونحوِها من الفواكة لكثرتها . والتعرضُ لذكر العصر مع جواز الاكتفاءِ عنه بذكر الغيث المستلزمِ له عادة كما اكتُفي به عن ذكر تصرِفهم في الحبوب إما لأن استلزامَ الغيثِ له ليس كاستلزامه للحبوب إذ المذكوراتُ يتوقف صلاحُها على مبادٍ أخرى غيرِ المطر ، وإما لمراعاة جانبِ المستفتي باعتبار حالتِه الخاصة به بشارةً له وهي التي يدور عليها حسنُ موقع تغليبِه على الناس في القراءة بالفوقانية ، وقيل : معنى يعصرون يحلبون الضروعَ ، وتكريرُ فيه إما للإشعار باختلاف أوقاتِ ما يقع فيه من الغيث والعصر زماناً وهو ظاهرٌ وعنواناً فإن الغيثَ والغوثَ من فضل الله تعالى والعصرُ من فعل الناس ، وإما لأن المقام مقامُ تعداد منافعِ ذلك العام ولأجله قُدّم في الموضعين على الفعلين فإن المقصودَ الأصليَّ بيان أنه يقع في ذلك العام هذا النفعُ وذاك النفعُ لا بيانُ أنهما يقعان في ذلك العام يفيده التأخير ، ويجوز أن يكون التقديمُ للقصر على معنى أن غيثهم وعصرَهم في سائر السنين بمنزلة العدمِ بالنسبة إلى عامهم ذلك وأن يكون ذلك في الأخير لمراعاة الفواصلِ وفي الأول لرعاية حالِه ، وقرىء يُعصَرون على البناء للمفعول من عصره إذا أنجاه وهو المناسبُ للإغاثة ويجوز أن يكون المبنيُّ للفاعل أيضاً منه كأنه قيل : فيه يغاث الناسُ وفيه يُغيثون أي يغيثهم الله ويغيثُ بعضُهم بعضاً ، وقيل : معنى يُعصَرون يمطَرون من أعصرت السحابةُ إما بتضمين أعصرت معنى مطرَت وتعديتِه وإما بحذف الجارِّ وإيصالِ الفعل ، على أن الأصلَ أعصرت عليهم ، وأحكامُ هذا العام المبارك ليست مستنبَطةً من رؤيا الملكِ وإنما تلقاها عليه السلام من جهة الوحي فبشَّرهم بها بعد ما أوّل الرؤيا بما أول وأمرَهم بالتدبير اللائقِ في شأنه إبانةً لعلو كعبِه ورسوخِ قدمِه في الفضل وأنه محيطٌ بما لم يخطُر ببال أحدٍ فضلاً عما يُرى صورتُه في المنام على نحو قوله لصاحبيه عند استفتائِهما في منامهما :(3/443)
{ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ } وإتماماً للنعمة عليهم حيث لم يشاركه عليه السلام في العلم بوقوعها أحدٌ ولو برؤية ما يدل عليها في المنام .(3/444)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
{ وَقَالَ الملك } بعد ما جاءه السفيرُ بالتعبير وسمع منه ما سمع من نقير وقِطمير { ائتونى بِهِ } لِما علم من علمه وفضله { فَلَمَّا جَاءهُ } أي يوسفَ { الرسول } واستدعاه إلى الملك { قَالَ ارجع إلى رَبّكَ } أي سيدك { فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } أي ففتشه عن شأنهن وإنما لم يقل : فاسأله أن يفتش عن ذلك حثاً للملك على الجد في التفتيش ليتبين براءتُه ويتضح نزاهتُه إذ السؤالُ مما يهيج الإنسانَ على الاهتمام في البحث للتفصّي عما توجه إليه وأما الطلب فمما قد يتسامح ويُتساهل فيه ولا يبالى به وإنما لم يتعرض لامرأة العزيزِ مع ما لقِيَ من مقاساة الأحزان ومعاناة الأشجانِ محافظةً على مواجب الحقوق واحترازاً عن مكرها حيث اعتقدها مقيمةً في عُدوة العداوة ، وأما النسوةُ فقد كان يطمع في صَدْعهن بالحق وشهادتِهن بإقرارها بأنها راودتْه عن نفسه فاستعصم ولذلك اقتصر على وصفهن بتقطيع الأيدي ولم يصرّح بمراودتهن له وقولِهن : أطع مولاتك واكتفي بالإيماء إلى ذلك بقوله : { إِنَّ رَبّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } مجاملةً معهن واحترازاً عن سوء قالتِهن عند الملكِ وانتصابِهن للخصومة مدافعةً عن أنفسهن متى سمعن بنسبته لهن إلى الفساد { قَالَ } استئنافٌ مبني على السؤال كأنه قيل : فماذا كان بعد ذلك؟ فقيل : قال الملكُ إثَر ما بلّغه الرسولُ الخبر وأحضرهن : { مَا خَطْبُكُنَّ } أي شأنكن وهو الأمرُ الذي يحِق لعُظْمه أن يخاطِبَ المرءُ فيه صاحبه { إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ } وخادعتُنّه { عَن نَّفْسِهِ } ورغبتُنّه في إطاعة مولاته هل وجدتُن فيه شيئاً من سوء وريبة؟ { قُلْنَ حَاشَ للَّهِ } تنزيهاً له وتعجباً من نزاهته وعفته { مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء } بالغْن في نفي جنس السوءِ عنه بالتنكير وزيادة من { قَالَتِ امرأت العزيز } وكانت حاضرةً في المجلس وقيل : أقبلت النسوةُ عليها يقرِّرنها ، وقيل : خافت أن يشهَدْن عليها بما قالت لهن : { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مّن الصاغرين } فأقرت قائلة : { الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ } أي ثبت واستقرَّ أو تبيّن وظهر بعد خفاء ، قاله الخليل ، وقيل : هو مأخوذ من الحِصة وهي القطعة من الجملة أي تبين حصةُ الحقِّ من حصة الباطل كما تتبين حِصصُ الأراضي وغيرها ، وقيل : بان وظهر من حصّ شعرَه إذا استأصله بحيث ظهرت بشرةُ رأسه ، وقرىء على البناء للمفعول من حَصحَص البعيرُ مباركَه أي ألقاها في الأرض للإناخة قال :
فحصحَص في صُمّ الصفا ثفَناتِه ... وناء بسلمى نوأةً ثم صمّما
والمعنى أُقرَّ الحقُّ في مقرّه ووُضع في موضعه ولم ترِدْ بذلك مجردَ ظهور ما ظهر بشهادتهن من مطلق نزاهتِه عليه السلام فيما أحاط به علمُهن من غير تعرض لنزاهته في سائر المواطنِ خصوصاً فيما وقع فيه التشاجرُ بمحضر العزيز ، ولا بحثٍ عن حال نفسها وما صنعت في ذلك بل أرادت ظهورَ ما هو متحققٌ في نفس الأمر وثبوتِه من نزاهته عليه السلام في محل النزاعِ وخيانتِها فقالت : { أَنَاْ راودته عَن نَّفْسِهِ } لا أنه راودني عن نفسي { وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين } أي في قوله حين افتريت عليه هي راودتني عن نفسي وأرادت بالآن زمانَ تكلّمها بهذا الكلام لا زمانَ شهادتِهن فتأمل أيها المنصفُ هل ترى فوق هذه المرتبةِ نزاهةً حيث لم تتمالك الخُصماء من الشهادة بها ، والفضلُ ما شهدت بهِ الخصماءُ وإنما تصدى عليه السلام لتمهيد هذه المقدمة قبل الخروج ليُظهر براءةَ ساحتِه مما قُذف به لا سيما عند العزيزِ قبل أن يحُلّ ما عقَده كما يُعرب عنه قوله عليه السلام لما رجع إليه الرسولُ وأخبره بكلامهن .(3/445)
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
{ ذلك } أي ذلك التثبيتُ المؤدي إلى ظهور حقيقة الحال { لِيَعْلَمَ } أي العزيز { أَنّى لَمْ أَخُنْهُ } في حرمته كما زعمه لا علماً مطلقاً فإن ذلك لا يستدعي تقديمَ التفتيشِ على الخروج من السجن بل قبل ما ذكر من نقص ما أبرمه ولعله لمراعاة حقوقِ السيادةِ لأن المباشرَة للخروج من حبسه قبل ظهورِ بُطلانِ ما جعله سبباً له وإن كان ذلك بأمر الملك مما يوهم الافتياتَ على رأيه ، وأما أن يكون ذلك لئلا يُتمكن من تقبيح أمرِه عند ذلك تمحلاً لإمضاء ما قضاه فلا يليق بشأنه عليه السلام في الوثوق بأمره والتوكل على ربه جل جلاله { بالغيب } أي بظهر الغيبِ وهو حالٌ من الفاعل أو المفعول أي لم أخُنه وأنا غائبٌ عنه أو وهو غائبٌ عني أو ظرف أي بمكان الغيب وراءَ الأستار والأبوابِ المغلقة ، وأياً ما كان فالمقصودُ بيانُ كمالِ نزاهتِه عن الخيانة وغايةِ اجتنابه عنها عند تعاضد أسبابِها { وَأَنَّ الله } أي وليعلم أنه تعالى { لاَ يَهْدِى كَيْدَ الخائنين } أي لا يُنفِذه ولا يسدّده بل يُبطله ويُزهِقه أو لا يهديهم في كيدهم إيقاعاً للفعل على الكيد مبالغة كما في قوله تعالى : { يضاهئون قَوْلَ الذين كَفَرُواْ } أي يضاهئونهم في قولهم ، وفيه تعريضٌ بامرأته في خيانتها أمانتَه وبه في خيانته أمانةَ الله تعالى حين ساعدها على حبسه بعد ما رأوا آياتِ نزاهتِه عليه السلام ويجوز أن يكون ذلك لتأكيد أمانته وأنه لو كان خائناً لما هدى الله عز وجل أمره وأحسن عاقبتَه .
{ وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى } أي لا أنزّهها عن السوء قاله عليه السلام هضماً لنفسه الكريمة البريئةِ عن كل سوء وربأً بمكانها عن التزكية والإعجاب بحالها عند ظهورِ كمالِ نزاهتِها على أسلوب قوله عليه السلام : « أنا سيد ولد آدم ولا فخر » أو تحديثاً بنعمة الله عز وجل عليه وإبرازاً لسره المكنونِ في شأن أفعال العبادِ أي لا أنزهها عن السوء من حيث هي هي ، ولا أُسند هذه الفضيلةَ إليها بمقتضى طبعِها من غير توفيقٍ من الله عز وعلا { أَنَّ النفس } البشريةَ التي من جملتها نفسي في حد ذاتِها { لامَّارَةٌ بالسوء } مائلةٌ إلى الشهوات مستعمِلةٌ للقوى والآلاتِ في تحصيلها بل إنما ذلك بتوفيق الله وعصمته ورحمتِه كما يفيده قوله : { إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى } من النفوس التي يعصمها من الوقوع في المهالك ومن جملتها نفسي أو هي أمارةٌ بالسوء في كل وقت إلا وقتَ رحمةِ ربي وعصمتِه لها ، وقيل : الاستثناءُ منقطعٌ أي لكنْ رحمةٌ بي هي التي تصرِف عنها السوء كما في قوله تعالى : { وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً } { إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ } عظيمُ المغفرة لما يعتري النفوسَ بموجب طباعِها ومبالِغٌ في الرحمة لها بعصمتها من الجريان بمقتضى ذلك ، وإيثارُ الإظهار في مقام الإضمارِ مع التعرض لعنوان الربوبيةِ لتربية مبادىءِ المغفرةِ والرحمة ، وقيل : إلى هنا من كلام امرأةِ العزيز ، والمعنى ذلك الذي قلتُ ليعلم يوسفُ عليه السلام أني لم أخُنه ولم أكذِب عليه في حال الغَيبة وجئت بما هو الحقُّ الواقعُ وما أبرىء نفسي مع ذلك من الخيانة حيث قلت في حقه ما قلت وفعلتُ به ما فعلت ، إن كل نفس لأمارةٌ بالسوء إلا ما رحم ربي أي إلا نفساً رحِمها الله بالعصمة كنفس يوسفَ إن ربي غفورٌ لمن استغفر لذنبه واعترف به رحيمٌ له ، فعلى هذا يكون تأنّيه عليه السلام في الخروج من السجن لعدم رضاه عليه السلام بملاقاة الملكِ وأمرُه بَيْنَ بينَ ففعل ما فعل حتى يتبين نزاهتُه وأنه إنما سجن بظلم عظيم مع ما له من الفضل ونباهةِ الشأن ليتلقاه الملك بما يليق به من الإعظام والإجلال وقد وقع .(3/446)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
{ وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ } أجعله خالصاً { لِنَفْسِى } وخاصاً بي { فَلَمَّا كَلَّمَهُ } أي فأتَوا به ، فحُذف للإيذان بسرعة الإتيانِ به فكأنه لم يكن بين الأمرِ بإحضاره والخطابِ معه زمانٌ أصلاً ، والضميرُ المستكنُّ في ( كلّمه ) ليوسف ، والبارزُ للملك أي فلما كلّمه يوسفُ إثرَ ما أتاه فاستنطقه وشاهد منه ما شاهد { قَالَ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ } ذو مكانةٍ ومنزلةٍ رفيعة { أَمِينٌ } مؤتمنٌ على كل شيء ، ( واليومَ ) ليس بمعيار لمدة المكانةِ والأمانةِ بل هو آنُ التكلم والمرادُ تحديد مبدئهما احترازاً عن احتمال كونِهما بعد حين . روي أنه عليه السلام لما جاءه الرسولُ خرج من السجن ودعا لأهله واغتسل ولبِس ثياباً جُدُداً فلما دخل على الملك قال : «اللهم إني أسألك بخيرك من خيره ، وأعوذ بعزتك وقدرتِك من شرّه وشرِّ غيره» ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال : ما هذا اللسانُ؟ قال : لسانُ آبائي ، وكان الملك يعرف سبعين لساناً فكلّمه بها فأجابه بجميعها فتعجّب منه فقال : أحب أن أسمعَ منك رؤياي فحكاها ونعت له البقراتِ والسنابلَ وأماكنَها على ما رآها فأجلسه على السرير وفوّض إليه أمرَه ، وقيل : توفي قطفيرُ في تلك الليالي فنصّبه منصِبه وزوجه راعيل فوجدها عذراءَ وولدت له إفراييم وميشا ولعل ذلك إنما كان بعد تعيينِه عليه السلام لِما عُيّن له من أمر الخزائنِ كما يعرب عنه قوله عز وجل : { قَالَ اجعلنى على خَزَائِنِ الارض } أي أرض مصرَ أي ولِّني أمرَها من الإيراد والصرف { إِنّى حَفِيظٌ } لها ممن لا يستحقها { عَلِيمٌ } بوجوه التصرّفِ فيها ، وفيه دليل على جواز طلبِ الولايةِ إذا كان الطالبُ ممن يقدر على إقامة العدلِ وإجراءِ أحكامِ الشريعة وإن كان من يد الجائرِ أو الكافر .
وعن مجاهد أنه أسلم الملكُ على يده عليه السلام ، ولعل إيثارَه عليه السلام لتلك الولايةِ خاصة إنما كان للقيام بما هو أهمُّ أمورِ السلطنة إن ذاك من تدبير أمرِ السنين حسبما فُصل في التأويل لكونه من فروع تلك الولايةِ لا لمجرد عمومِ الفائدة كما قيل ، وإنما لم يُذكر إجابةُ الملكِ إلى ما سأله عليه السلام من جعله على خزائن الأرضِ إيذاناً بأن ذلك أمرٌ لا مردَّ له غنيٌّ عن التصريح به لا سيما بعد تقديمِ ما يندرج تحته من أحكام السلطنةِ بحذافيرها من قوله : إنك اليوم لدينا مكين أمين للتنبه على أن كلَّ ذلك من الله عز وجل وإنما الملكُ آلة في ذلك كما قيل .(3/447)
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
{ وكذلك } أي مثلَ ذلك التمكينِ البليغ { مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } أي جعلنا له مكاناً { فِى الارض } أي أرض مصرَ . روي أنها كانت أربعين فرسخاً في أربعين وفي التعبير عن الجعل المذكورِ بالتمكين في الأرض مسنداً إلى ضميره عزّ سلطانُه من تشريفه عليه السلام والمبالغة في كمال ولايتِه ، والإشارةِ إلى حصول ذلك من أول الأمرِ لا أنه حصل بعد السؤال ما لا يخفى { يَتَبَوَّأُ مِنْهَا } ينزل من بلادها { حَيْثُ يَشَاء } ويتخذه مباءةً وهو عبارةٌ عن كمال قدرته على التصرف فيها ودخولها تحت ملكتِه وسلطانه فكأنها منزلُه يتصرف فيها كما يتصرف الرجل في منزله . وقرأ ابن كثير بالنون . روي أن الملك توّجهُ وختمه بخاتمه وردّاه بسيفه ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت فقال عليه السلام : أما السريرُ فأشدُّ به مُلكك ، وأما الخاتمُ فأدبّر به أمرك ، وأما التاجُ فليس من لباسي ولا لباس آبائي ، فقال : قد وضعتُه إجلالاً لك وإقراراً بفضلك فجلس على السرير ودانت له الملوكُ وفوّض إليه الملكُ أمرَه وأقام العدلَ بمصر وأحبتْه الرجالُ والنساء وباع من أهل مصر في سِني القحطِ الطعامَ في السنة الأولى بالدنانير والدراهم ، وفي الثانية بالحِليِّ والجواهر ، وفي الثالثة بالدوابّ ثم بالضِّياع والعَقار ثم برقابهم حتى استرقّهم جميعاً فقالوا : ما رأينا كاليوم ملكاً أجلَّ وأعظمَ منه ثم أعتقهم وردّ إليهم أموالَهم وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثرَ من حمل بعير تقسيطاً بين الناس { نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا } بعطائنا في الدنيا من المُلك والغِنى وغيرهما من النعم { مَّن نَّشَاء } بمقتضى الحكمةِ الداعية إلى المشيئة { وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } بل نوفّيه بكماله ، وفيه إشعارٌ بأن مدارَ المشيئةِ المذكورةِ إحسانُ مَنْ تصيبه الرحمة المرموقةُ وأنها أجرٌ له ولدفع توهم انحصارِ ثمرات الإحسانِ فيما ذكر من الأجر ، قيل على سبيل التوكيد : { وَلأَجْرُ الاخرة } أي أجرهم في الآخرة فالإضافة للملابسة وهو النعيمُ المقيم الذي لا نفاد له { خَيْرٌ } لهم أي للمحسنين المذكورين وإنما وضع موضعَه الموصولُ فقيل : { لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } تنبيهاً على أن المراد بالإحسان إنما هو الإيمانُ والثباتُ على التقوى المستفادُ من جمع صيغتي الماضي والمستقبل .
{ وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ } ممتارين لما أصاب أرضَ كنعانَ وبلادَ الشام ما أصاب أرضَ مصر وقد كان أرسلهم يعقوبُ عليه السلام جميعاً غيرَ بنيامين { فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ } أي على يوسف وهو في مجلس ولايته { فَعَرَفَهُمْ } لقوة فهمِه وعدم مباينةِ أحوالِهم السابقة لحالهم يومئذ لمفارقته إياهم وهم رجالٌ وتشابُه هيئاتهم وزِيِّهم في الحالين ولكون هِمَّته معقودةً بهم وبمعرفة أحوالهم لا سيما في زمن القحط ، وعن الحسن ما عرفهم حتى تعرّفوا له { وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } أي والحالُ أنهم منكرون له لطول العهدِ وتبايُنِ ما بين حاليه عليه السلام في نفسه ومنزلته وزِيِّه ولاعتقادهم أنه هلك وحيث كان إنكارُهم له أمراً مستمراً في حالتي المحضَر والمَغيب أُخبر عنه بالجملة الاسميةِ بخلاف عرفانِه عليه السلام إياهم .(3/448)
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)
{ وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ } أي أصلحهم بعدّتهم من الزاد وما يحتاج إليه المسافر وأوْقَر ركائبَهم بما جاءوا له من المِيرة وقرىء بكسر الجيم { قَالَ ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ } لم يقل بأخيكم مبالغةً في إظهار عدم معرفتِه لهم ولعله عليه السلام إنما قاله لِما قيل من أنهم سألوه عليه السلام جَملاً زائداً على المعتاد لبنيامين فأعطاهم ذلك وشرطهم أن يأتوا به لا لما قيل من أنه لما رأَوْه وكلموه بالعبرية قال لهم : من أنتم فإني أنكركم؟ فقالوا له : نحن قومٌ من أهل الشام رعاةٌ أصابنا الجَهدُ فجئنا نمتار ، فقال لهم : لعلكم جئتم عُيوناً؟ فقالوا : معاذ الله نحن إخوةٌ بنو أبٍ واحد وهو شيخٌ كبيرٌ صدّيق نبيٌّ من الأنبياء اسمُه يعقوبُ ، قال : كم أنتم؟ قالوا : كنا اثني عشر فهلك منا واحدٌ ، فقال : كم أنتم هاهنا؟ قالوا : عشرة ، قال : فأين الحادي عشر؟ قالوا : هو عند أبيه يتسلّى به عن الهالك ، قال : فمن يشهدُ لكم أنكم لستم عيوناً وأن ما تقولون حقٌ؟ قالوا : نحن ببلاد لا يعرِفنا فيها أحد فيشهدَ لنا ، قال : فدعُوا بعضَكم عندي رهينةً وائتوني بأخيكم من أبيكم وهو يحمل رسالةً من أبيكم حتى أصدِّقَكم ، فاقترعوا فأصاب القرعةُ شمعونَ فخلّفوه عنده . . . إذ لا يساعده ورودُ الأمر بالإتيان به عند التجهيزِ ولا الحثُّ عليه بإيفاء الكيل ولا الإحسانُ في الإنزال ولا الاقتصارُ على منع الكيل على تقدير عدمِ الإتيان به ولا جعلُ بضاعتهم في رحالهم لأجل رجوعِهم ولا عِدَتُهم بالإتيان به بطريق المراودة ولا تعليلُهم عند أبيهم إرسالَ أخيهم بمنع الكيل من غير ذكر الرسالةِ على أن استبقاء شمعونَ لو وقع لكان ذلك طامةً ينسى عندها كل قيل وقال .
{ أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الكيل } أُتمُّه لكم ، وإيثارُ صيغة الاستقبالِ مع كون هذا الكلامِ بعد التجهيز للدِلالة على أن ذلك عادةٌ له مستمرَّة { وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين } جملة حالية أي ألا ترون أني أوفي الكيلَ لكم إيفاءً مستمراً والحالُ أني في غاية الإحسانِ في إنزالكم وضيافتِكم وقد كان الأمرَ كذلك ، وتخصيصُ الرؤية بالإيفاء لوقوع الخطابِ في أثنائه ، وأما الإحسانُ في الإنزال فقد كان مستمراً فيما سبق ولحِق ولذلك أُخبر عنه بالجملة الاسميةِ ولم يقل عليه السلام بطريق الامتنانِ بل لحثّهم على تحقيق ما أمرهم به ، والاقتصارُ في الكيل على ذكر الإيفاءِ لأن معاملته عليه السلام معهم في ذلك كمعاملته مع غيرهم في مراعاة مواجبِ العدل ، وأما الضيافةُ فليس للناس فيها حقٌّ فخصهم في ذلك بما شاء .(3/449)
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)
{ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى } ( من بعدُ ) فضلاً عن إيفائه { وَلاَ تَقْرَبُونِ } بدخول بلادي فضلاً عن الإحسان في الإنزال والضيافةِ وهو إما نهيٌ أو نفيٌ معطوفٌ على محل الجزاءِ ، وفيه دليلٌ على أنهم كانوا على نية الامتيازِ مرة بعد أخرى وأن ذلك كان معلوماً له عليه السلام { قَالُواْ سنراود عَنْهُ أَبَاهُ } أي سنخادعه عنه ونحتال في انتزاعه من يده ونجتهد في ذلك ، وفيه تنبيهٌ على عزة المطلبِ وصعوبةِ مناله { وَإِنَّا لفاعلون } ذلك غيرَ مفرِّطين فيه ولا متوانين أو لقادرون عليه لا تتعانى به .
{ وَقَالَ } يوسف { لِفِتْيَانِهِ } غلمانه الكيالين جمع فتى وقرىء لفِتيته وهي جمعُ قلةٍ له { اجعلوا بضاعتهم فِى رِحَالِهِمْ } فإنه وكّل بكل رجل رجلاً يعبِّىء فيه بضاعتَهم التي شرَوا بها الطعامَ وكانت نعالاً وأدَماً وإنما فعله عليه السلام تفضّلاً عليهم وخوفاً من أن لا يكون عند أبيه ما يرجِعون به مرة أخرى وكل ذلك لتحقيق ما يتوخاه من رجوعهم بأخيه كما يُؤذن به قوله : { لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا } أي يعرِفون حقَّ ردِّها والتكرم في ذلك أو لكي يعرِفوها وهو ظاهرُ التعلق بقوله : { إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ } فإن معرفتَهم لها مقيّدةٌ بالرجوع وتفريغِ الأوعية قطعاً ، وأما معرفةُ حقِّ التكرم في ردها فهي وإن كانت في ذاتها غيرَ مقيدةٍ بذلك لكن لما كان ابتداؤها حينئذ قُيّدت به { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } حسبما أمرتهم به فإن التفضلَ عليهم بإعطاء البدلين ولا سيما عند إعوازِ البِضاعةِ من أقوى الدواعي إلى الرجوع ، وما قيل إنما فعله عليه السلام لما لم يرَ من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمناً فكلامٌ حقٌّ في نفسه ولكن يأباه التعليلُ المذكور ، وأما أن عِلّية الجعل المذكورِ للرجوع من حيث أن ديانتَهم تحمِلُهم على رد البضاعةِ لأنهم لا يستحِلّون إمساكها فمدارُه حُسبانُهم أنها بقِيت في رحالهم نسياناً وظاهرٌ أن ذلك مما لا يخطر ببال أحد أصلاً فإن هيئة التعبيةِ تنادي بأن ذلك بطريق التفضّل ، ألا يرى أنهم كيف جزموا بذلك حين رأوها وجعلوا ذلك دليلاً على التفضلات السابقة كما ستحيط به خبراً
{ فَلَمَّا رَجِعُوا إلى أَبِيهِمْ قَالُواْ } قبل أن يشتغلوا بفتح المتاع { قَالُواْ يأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الكيل } أي فيما بعد ، وفيه ما لا يخفى من الدلالة على كون الامتيار مرةً بعد مرة معهوداً فيما بينهم وبينه عليه السلام { فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا } بنيامين إلى مصر وفيه إيذانٌ بأن مدارَ المنع عدمُ كونِه معهم { نَكْتَلْ } بسببه من الطعام ما نشاء . وقرأ حمزةُ والكسائي بالياء على إسناده إلى الأخ لكونه سبباً للاكتيال أو يكتلْ لنفسه مع اكتيالنا { وَإِنَّا لَهُ لحافظون } من أن يصيبَه مكروهٌ .(3/450)
قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
{ قَالَ هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ } يوسف { مِن قَبْلُ } وقد قلتم في حقه أيضاً ما قلتم ثم فعلتم به ما فعلتم فلا أثق بكم ولا بحفظكم وإنما أفوّض الأمر إلى الله { فالله خَيْرٌ حافظا } وقرىء حِفظاً ، وانتصابُهما على التمييز ، والحالية على القراءة الأولى توهم تقيّد الخيريةِ بتلك الحالة { وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين } فأرجو أن يرحمني بحفظه ولا يجمعَ عليّ مصيبتين ، وهذا كما ترى ميلٌ منه عليه السلام إلى الإذن والإرسالِ لما رأى فيه من المصلحة .
{ وَلَمَّا فَتَحُواْ متاعهم وَجَدُواْ بضاعتهم رُدَّتْ إِلَيْهِمْ } أي تفضّلاً وقد علموا ذلك بما مر من دَلالة الحال وقرىء بنقل حركةِ الدالِ المدغمة إلى الراء كما قيل في قيل وكيل { قَالُواْ } استئنافٌ مبني على السؤال كأنه قيل : ماذا قالوا حينذ؟ فقيل : قالوا لأبيهم ولعله كان حاضراً عند الفتح : { يأَبَانَا مَا نَبْغِى } إذا فُسّر البغيُ بالطلب فما إما استفهاميةٌ منصوبةٌ به فالمعنى ماذا نبتغي وراء ما وصفنا لك من إحسان الملِك إلينا وكرمِه الداعي إلى امتثال أمرِه والمراجعةِ إليه في الحوايج وقد كانوا أخبروه بذلك وقالوا له : إنا قدِمنا على خير رجلٍ أنزلنا وأكرَمنا كرامةً لو كان رجلاً من آل يعقوبَ ما أكرمْنا كرامتَه ، وقوله تعالى : { هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا } جملةٌ مستأنفةٌ موضِّحةٌ لما دل عليه الإنكارُ من بلوغ اللطفِ غايتَه كأنهم قالوا : كيف لا وهذه بضاعتُنا ردّها إلينا تفضلاً من حيث لا ندري بعد ما منّ عليها من المنن العظامِ هل من مزيد على هذا فنطلبَه؟ ولم يريدوا به الاكتفاءَ بذلك مطلقاً أو التقاعدَ عن طلب نظائرِه بل أرادوا الاكتفاءَ به في استيجاب الامتثالِ لأمره والالتجاءِ إليه في استجلاب المزيدِ كما أشرنا إليه وقوله تعالى : { رُدَّتْ إِلَيْنَا } حالٌ من بضاعتُنا والعامل معنى الإشارةِ وإيثار صيغةِ البناءِ للمفعول للإيذان بكمال الإحسانِ الناشىءِ عن كمال الإخفاءِ المفهومِ من كمال غفلتهم عنه بحيث لم يشعُروا به ولا بفاعله ، وقوله عز وجل : { وَنَمِيرُ أَهْلَنَا } أي نجلُب إليهم الطعامَ من عند الملكِ ، معطوفٌ على مقدَّر ينسحب عليه ردُّ البضاعة أي فنستظهر بها ونمير أهلنا { وَنَحْفَظُ أَخَانَا } من المكاره حسبما وعدْنا فما يصيبه من مكروه { وَنَزْدَادُ } أي بواسطته ، ولذلك وُسّط الإخبارُ بحفظه بين الأصلِ والمزيد { كَيْلَ بَعِيرٍ } أي وُسْقَ بعيرٍ زائداً على أوساق أباعِرِنا على قضية التقسيط .
{ ذلك } أي ما يحمِله أباعرُنا { كَيْلٌ يَسِيرٌ } أي مكيلٌ قليلٌ لا يقوم بأَوْدنا فهو استئنافٌ ، وقيل : تعليل لما سبق ، كأنه قيل : أيُّ حاجة إلى الازدياد؟ فقيل ما قيل ، أو ذلك الكيلُ الزائد شيءٌ قليلٌ لا يضايقنا فيه الملِكُ أو سهلٌ عليه لا يتعاظمه أو أيُّ مطلب نطلُب من مهماتنا ، والجملةُ الواقعة بعده توضيحٌ وبيانٌ لما يُشعِرُ به الإنكارُ من كونهم فائزين ببعض المطالبِ أو متمكنين من تحصيله فكأنهم قالوا : بضاعتُنا حاضرةٌ فنستظهر بها ونمير أهلَنا ونحفظ أخانا فما يصيبه شيءٌ من المكاره ونزداد بسببه غيرَ ما نكتاله لأنفسنا كيلَ بعير فأيَّ شيء نبتغي وراءَ هذه المباغي ، وقرىء ما تبغي على خطاب يعقوبَ عليه السلام أي أيَّ شيء تبغي وراء هذه المباغي المشتملةِ على سلامة أخينا وسَعة ذاتِ أيدينا أو وراءَ ما فعل بنا الملكُ من الإحسان داعياً إلى التوجّه إليه ، والجملةُ الاستئنافيةُ موضحةٌ لذلك أو أيَّ شيء تبغي شاهداً على صدقنا فيما وصفنا لك من إحسانه ، والجملةُ المذكورةُ عبارةٌ عن الشاهد المدلولِ عليه بفحوى الإنكارِ .(3/451)
وإما نافية فالمعنى ما نبغي شيئاً غيرَ ما رأينا من إحسان الملِك في وجوب المراجعةِ إليه ، أو ما نبغي غيرَ هذه المباغي ، وقيل : ما نطلب منك بضاعةً أخرى والجملة المستأنفةُ تعليلٌ له . وأما إذا فُسِّر البغيُ بمجاوزة الحدِّ فما نافيةٌ فقط والمعنى ما نبغي في القول وما نتزيّد فيما وصفْنا من إحسان الملك إلينا وكرمِه الموجبِ لما ذكر ، والجملةُ المستأنفةُ لبيان ما ادّعَوْا من عدم البغي ، وقوله : ونمير أهلَنا عطفٌ على ما نبغي أي ما نبغي فيما ذكرنا من إحسانه وتحصيلِ أمثالِه من مَيْر أهلِنا وحفظِ أخينا فإن ذلك أهونُ شيء بواسطة إحسانِه ، وقد جوز أن يكون كلاماً مبتدأً أي جملةً اعتراضيةً تذييليةً على معنى وينبغي أن نميرَ أهلَنا ، وشبّه ذلك بقولك : سعَيْتُ في حاجة فلان ويجب أن أسعى . وأنت خبيرٌ بأن شأن الجملِ التذييلية أن تكون مؤكّدةً لمضمون مصدرٍ ومقرِّرةً له كما في المثال المذكورِ ، وقولِك : فلانٌ ينطِق بالحق فالحقُّ أبلجُ ، وأن قوله : ونمير الخ ، وإن ساعدَنا في حمله على معنى ينبغي أن نمير أهلَنا بمعزل من ذلك أو ما نبغي في الرأي وما نعدل عن الصواب فيما نشير به عليك من إرسال أخينا معنا ، والجملُ إلى آخرها تفصيلٌ وبيانٌ لعدم بغيهم وإصابةِ رأيهم ، أي بضاعتُنا حاضرةٌ نستظهر بها ونمير أهلنا ونصنع كيت وذيت فتأمل .(3/452)
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
{ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ } بعد ما عاينْتُ منكم ما عاينت { حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مّنَ الله } أي ما أتوثق به من جهة الله عز وجل ، وإنما جعله مَوثِقاً منه تعالى لأن تأكيدَ العهود به مأذونٌ فيه من جهته تعالى فهو إذن منه عز وجل { لَتَأْتُنَّنِى بِهِ } جوابُ القسم إذ المعنى حتى تحلِفوا بالله لتأتنني به { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } أي إلا أن تُغلبوا فلا تطيقوا به أو إلا أن تهلِكوا وأصلُه من إحاطة العدوِّ فإن مَنْ أحاط به العدوُّ فقد هلك غالباً وهو استئناءٌ من أعم الأحوال أو أعمِّ العلل على تأويل الكلامِ بالنفي الذي ينساق إليه أي لتأتُنني به ولا تمتنِعُنَّ منه في حال من الأحوال أو لعلة من العلل إلا حالَ الإحاطة بكم ، ونظيرُه قولُهم : أقسمت عليك لَما فعلْتَ وإلا فعلتَ أي ما أريد منك إلا فعلَك ، وقد جُوز الأولُ بلا تأويل أيضاً أي لتأتُنني به على كل حالٍ إلا حال الإحاطةِ بكم . وأنت تدري أنه حيث لم يكن الإتيانُ به من الأفعال الممتدة الشاملةِ للأحوال على سبيل المعيةِ كما في قولك : لألزَمنّك إلا أن تُعطِيني حقي ، ولم يكن عليه السلام يريد مقارنته على سبيل البدلِ لما عدا الحالِ المستثناة كما إذا قلت : صَلِّ إلا أن تكون محدِثاً بل مجرد تحققِه ووقوعِه من غير إخلال به كما في قولك : لأحُجنَّ العامَ إلا أن أُحصر فإن مرادَك إنما هو الإخبار بعدم منعِ ما سوى حالِ الإحصار عن الحج لا الإخبارُ بمقارنته لتلك الأحوالِ على سبيل البدلِ كما هو مرادُك في مثال الصلاة كأن اعتبارَ الأحوالِ معه من حيث عدمُ منعها منه ، فآل المعنى إلى التأويل المذكور { فَلَمَّا ءاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ } عهدهم من الله حسبما أراد يعقوبُ عليه السلام { قَالَ الله على مَا نَقُولُ } أي على ما قلنا في أثناء طلب الموْثِق وإيتائه من الجانبين . وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ لاستحضار صورتِه المؤدّي أي تثبتهم ومحافظتِهم على تذكّره ومراقبتِه { وَكِيلٌ } مطلعٌ رقيبٌ يريد به عرضَ ثقتِه بالله تعالى وحثَّهم على مراعاة ميثاقهم .(3/453)
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
{ وَقَالَ } ناصحاً لهم لمّا أزمع على إرسالهم جميعاً { الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ } مصر { مِن بَابٍ وَاحِدٍ } نهاهم عن ذلك حِذاراً من إصابة العين ، فإنهم كانوا ذوي جمالٍ وشارةٍ حسنة وقد كانوا تجمّلوا في هذه الكرّة أكثرَ مما في المرة الأولى وقد اشتهروا في مصر بالكرامة والزلفى لدى الملِك بخلاف النَّوْبة الأولى فكانوا مَئِنّةً لدنوّ كل ناظر وطُموح كل طامح ، وإصابةُ مُعْين بتقدير العزيز الحكيم ليست مما يُنكر وقد ورد عنه عليه السلام : « إن العينَ حق » وعنه عليه السلام : « إنَّ العينَ لتُدخِلُ الرجلَ القبرَ والجملَ القِدْرَ » وقد كان عليه السلام يعوّذ الحسنين رضي الله عنهما بقوله : « أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطانٍ وهامّة ومن كل عين لامّة » وكان عليه السلام يقول : « كان أبوكما يعوّذ بها إسماعيلَ وإسحاقَ عليهم السلام » رواه البخاري في صحيحه وقد شهدت بذلك التجارِبُ .
ولمّا لم يكن عدمُ الدخول من باب واحد مستلزماً للدخول من أبواب متفرّقة وكان في دخولهم من بابين أو ثلاثةٍ بعضُ ما في الدخول من باب واحد من نوع اجتماعٍ مصحِّحٍ لوقوع المحذورِ قال : { وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ } بياناً لِما المرادُ بالنهي وإنما لم يكتف بهذا الأمر مع كونه مستلزماً له إظهاراً لكمال العنايةِ وإيذاناً بأنه المرادُ بالأمر المذكور لا تحقيقاً لشيء آخر { وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ } أي لا أنفعكم ولا أدفع عنكم بتدبيري { مّنَ الله مِن شَىْء } أي شيئاً مما قضى عليكم فإن الحذرَ لا يمنع القدَر ولم يرد به عليه السلام إلغاءَ الحذر بالمرة كيف لا وقد قال عز قائلاً : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } وقال : { خُذُواْ حِذْرَكُمْ } بل أراد بيانَ أن ما وصاهم به ليس مما يستوجب المرادَ لا محالة بل هو تديبرٌ في الجملة وإنما التأثيرُ وترتُّبُ المنفعةِ عليه من العزيز القدير وأن ذلك ليس بمدافعة للقدر بل هو استعانةٌ بالله تعالى وهربٌ منه إليه .
{ إِنِ الحكم } مطلقاً { أَلاَ لِلَّهِ } لا يشاركه أحد ولا يمانعه شيء { عَلَيْهِ } لا على أحد سواه { تَوَكَّلْتُ } في كل ما آتي وأذر ، وفيه دَلالةٌ على أن ترتيبَ الأسباب غيرُ مُخلَ بالتوكل { وَعَلَيْهِ } دون غيره { فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون } جُمع بين الحرْفين في عطف الجملةِ على الجملة مع تقديم الصلة للاختصاص مقيَّداً بالواو عطف فعلٍ غيرِه من تخصيص التوكل بالله عز وجل على فعل نفسه وبإلقاء سببية فعلِه لكونه نبياً لفعل غيره من المقتدين به فيدخل فيهم بنوه دخولاً أولياً وفيه ما لا يخفى من حسن هدايتِهم وإرشادِهم إلى التوكل فيما هم بصدده على الله عز وجل غيرَ مغترّين بما وصاهم من التدبير .(3/454)
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
{ وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم } من الأبواب المتفرقة من البلد ، قيل : كانت له أربعةُ أبوابٍ فدخلوا منها وإنما اكتُفى بذكره لاستلزامه الانتهاءَ عما نُهوا عنه { مَا كَانَ } ذلك الدخولُ { يُغْنِى } فيما سيأتي عند وقوعِ ما وقع { عَنْهُمْ } عن الداخلين لأن المقصودَ به استدفاعُ الضرر عنهم ، والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل لتحقيق المقارنةِ الواجبةِ بين جوابِ لمّا ومدخولِه فإن عدمَ الإغناءِ بالفعل إنما يتحقق عند نزولِ المحذورِ لا وقت الدخول ، وإنما المتحققُ حينئذ ما أفاده الجمعُ المذكور من عدم كونِ الدخولِ المذكورِ مغْنياً فيما سيأتي فتأمل { مِنَ الله } من جهته { مِن شَىْءٍ } أي شيئاً مما قضاه مع كونه مَظِنةً لذلك في بادي الرأي حيث وصّاهم به يعقوبُ عليه السلام وعمِلوا بموجبه واثقين بجدواه من فضل الله تعالى ، فليس المرادُ بيانَ سببية الدخولِ المذكور لعدم الإغناءِ كما في قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } فإن مجيءَ النذير هناك سببٌ لزيادة نفورِهم بل بيانُ عدم سببيته للإغناء مع كونها متوقعةً في بادي الرأي كما في قولك : حلف أن يُعطيَني حقي عند حلولِ الأجلِ فلما حل لم يُعطني شيئاً ، فإن المرادَ بيانُ عدمِ سببية حلولِ الأجلِ للإعطاء مع كونها مرجُوّةً بموجب الحلِف لا بيانُ سببيته لعدم الإعطاءِ فالمآلُ بيانُ عدمِ ترتبِ الغرضِ المقصود على التدبير المعهودِ مع كونه مرجوَّ الوجود لا بيانُ ترتبِ عدمِه عليه ، ويجوز أن يراد ذلك أيضاً بناءً على ما ذكره عليه السلام في تضاعيف وصيّتِه من أنه لا يُغني عنهم من الله شيئاً فكأنه قيل : ولمّا فعلوا ما وصاهم به لم يُفِدْ ذلك شيئاً ووقع الأمر حسبما قال عليه السلام فلقُوا ما لقُوا فيكون من باب وقوعِ المتوقع فتأمل .
{ إِلاَّ حَاجَةً } استثناءٌ منقطعٌ أي ولكنْ حاجةً وحرازةً كائنة { فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا } أي أظهرها ووصّاهم بها دفعاً للخاطرة غيرَ معتقدٍ أن للتدبير تأثيراً في تغيير التقديرِ ، وقد جعل ضميرُ الفاعل في قضاها للدخول على معنى أن ذلك الدخولَ قضى حاجةً في نفس يعقوبَ وهي إرادتُه أن يكون دخولُهم من أبواب متفرقةٍ ، فالمعنى ما كان ذلك الدخولُ يغني عنهم من جهة الله تعالى شيئاً ولكن قضى حاجةً حاصلةً في نفس يعقوبَ بوقوعه حسب إرادتِه فالاستثناءُ منقطعٌ أيضاً وعلى التقديرين لم يكن للتدبير فائدةٌ سوى دفعِ الخاطرة ، وأما إصابةُ العين فإنما لم تقع لكونها غيرَ مقدّرةٍ عليهم لا لأنها اندفعت بذلك مع كونها مقضيّةً عليهم { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ } جليلٍ { لّمَا عَلَّمْنَاهُ } لتعليمنا إياه بالوحي ونصْبِ الأدلةِ لم يعتقِدْ أن الحذرَ يدفع القَدر وأن التديبرَ له حظٌ من التأثير حتى يتبينَ الخللُ في رأيه عند تخلفِ الأثر أو حيث بتّ القولَ بأنه لا يغني عنهم من الله شيئاً فكان الحالُ كما قال . وفي تأكيد الجملةِ بإن واللامِ وتنكيرِ العلْم وتعليلِه بالتعليم المسند إلى ذاته سبحانه من الدلالة على جلالة شأنِ يعقوبَ عليه السلام وعلوِّ مرتبة علمِه وفخامته ما لا يخفى { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أسرارَ القدر ويزعمُون أنه يغني عنه الحذرُ ، وأما ما يقال من أن المعنى لا يعلمون إيجابَ الحذر مع أنه لا يغني شيئاً من القدر فيأباه مقام بيان تخلّفِ المطلوب عن المبادىء .(3/455)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71)
{ وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ اوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ } بنيامينَ أي ضمه إليه في الطعام أو في المنزل أو فيهما . روي أنهم لما دخلوا عليه قالوا له : هذا أخونا قد جئناك به ، فقال لهم : أحسنتم وستجدون ذلك عندي فأكرمهم ثم أضافهم وأجلسهم مثنى مثنى فبقي بنيامين وحيداً فبكى وقال : لو كان أخي يوسفُ حياً لأجلسني معه ، فقال يوسف : بقيَ أخوكم فريداً وأجلسه معه على مائدته وجعل يؤاكله ثم أنزل كلَّ اثنين منهم بيتاً فقال : هذا لا ثانيَ معه فيكون معي فبات يوسف يضمه إليه ويَشمُّ رائحته حتى أصبح وسأله عن ولده فقال : لي عشرةُ بنينَ اشتققْتُ أسماءهم من اسم أخٍ لي هلك ، فقال له : أتُحِب أن أكون أخاك بدلَ أخيك الهالِك؟ قال : من يجدُ أخاً مثلك ولكن لم يلدْك يعقوبُ ولا راحيل ، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وتعرف إليه وعند ذلك { قَالَ إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ } يوسف { فَلاَ تَبْتَئِسْ } أي فلا تحزن { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } بنا فيما مضى فإن الله تعالى قد أحسن إلينا وجمعنا بخير ولا تُعلِمْهم بما أعلمتك ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وعن وهْبٍ أنه لم يتعرّف إليه بل قال له : أنا أخوك بدل أخيك المفقودِ ومعنى فلا تبتئس لا تحزنْ بما كنت تلقى منهم من الحسد والأذى فقد أمِنْتَهم . وروي أنه قال له : فأنا لا أفارقك ، قال : قد علمتُ باغتمام والدي بي فإذا حبستُك يزاد غمُّه ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسُبَك إلى ما لا يجمُل ، قال : لا أبالي فافعل ما بدا لك ، قال : أدُسّ صاعي في رَحْلك ثم أنادي عليك بأنك سرقتَه ليتهيّأ لي ردُّك بعد تسريحِك معهم ، قال : افعلْ .
{ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية } أي المشرَبةَ ، قيل : كانت مشربة جعلت صاعاً يكال به ، وقيل : كانت تسقى بها الدوابُّ ويكال بها الحبوب وكانت من فضة ، وقيل : من ذهب ، وقيل : من فضة مموّهة بالذهب ، وقيل : كانت إناءً مستطيلاً تشبه المكّوك الفارسيَّ الذي يلتقي طرفاه يستعمله الأعاجم ، وقيل : كانت مرصّعة بالجواهر { فِى رَحْلِ أَخِيهِ } بنيامين وقرىء وجعل على حذف جواب لما تقديره أمهلهم حتى انطلقوا { ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ } نادى منادٍ { أَيَّتُهَا العير } وهي الإبلُ التي عليها الأحمالُ لأنها تعير أي تذهب وتجيءُ ، وقيل : هي قافلة الحمير ثم كثُر حتى قيل لكل قافلة عِيرٌ كأنها جمع عَيْر وأصلها فعل مثل سَقْف وسُقُف ففعل به ما فعل ببِيض وغِيد ، والمراد أصحابُها كما في قوله عليه السلام : «يا خيلَ الله اركبي» ، روي أنهم ارتحلوا وأمهلهم يوسفُ حتى انطلقوا منزلاً ، وقيل : خرجوا من العمارة ثم أمر بهم فأُدرِكوا ونودوا { إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } هذا الخطابُ إن كان بأمر يوسف فلعله أريد بالسرقة أخذُهم له من أبيه ودخول بنيامين فيه بطريق التغليب وإلا فهو من قبل المؤذّن بناء على زعمه والأولُ هو الأظهرُ الأوفق للسياق ، وقرأ اليماني سارقون بلا لام { قَالُواْ } أي الإخوة { وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ } جملةٌ حالية من ضمير قالوا جيء بها للدلالة على انزعاجهم مما سمعوه لمباينته لحالهم { مَّاذَا تَفْقِدُونَ } أي تعدَمون ، تقول : فقَدت الشيء إذا عدِمته بأن ضل عنك لا بفعلك والمآل ماذا ضاع عنكم ، وصيغة المستقبل لاستحضار الصورة وقرىء تُفقِدون من أفقدته إذا وجدته فقيداً وعلى التقديرين فالعدولُ عما يقتضيه الظاهرُ من قولهم : ماذا سُرق منكم لبيان كمال نزاهتِهم بإظهار أنه لم يُسْرق منهم شيء فضلاً أن يكونوا هم السارقين له وإنما الممكنُ أن يضيع منهم شيء فيسألوهم أنه ماذا ، وفيه إرشادٌ لهم إلى مراعاة حسنِ الأدب والاحتراز عن المجازفة ونسبة البُرَآء إلى ما لا خير فيه لا سيما بطريق التوكيد فلذلك غيروا كلامهم حيث(3/456)
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)
{ قَالُواْ } فى جوابهم { نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك } ولم يقولوا سرقتموه أو سرق وقرئ صاع وصوع وصوع بفتح الصاد وضمها وبإهمال العين وإعجامها من الصياغة ثم قالوا تربية لما تلقوه من قبلهم وإراءة لاعتقاد أنه إنما بقى فى رحلهم اتفاقا { وَلِمَن جَآءَ بِهِ } من عند نفسه مظهراً له قبل التفتيش { حِمْلُ بَعِيرٍ } من الطعام جعلا له لا على نية تحقيق الوعد لجزمهم بامتناع وجود الشرط وعزمهم على ما لا يخفى من أخذ من وجد فى رحله { وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } كفيل أؤديه إليه وهو قول المؤذن { قَالُواْ تالله } الجمهور على أن التاء بدل من الواو ولذلك لا تدخل إلا على الجلالة المعظمة أو الرب المضاف إلى الكعبة أو الرحمن فى قول ضعيف ولو قلت تالرحيم لم يجز وقيل من الباء وقيل أصل بنفسها وأياً ما كان ففيه تعجب { لَقَدْ عَلِمْتُمْ } علماً جازماً مطابقاً للواقع { مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض } أى لنسرق فإنه من أعظم أنواع الإفساد أو لنفسد فيها أى إفساد كان مما عز أو هان فضلا عما نسبتمونا إليه من السرقة ونفى المجئ للإفساد وإن لم يكن مستلزماً لما هو مقتضى المقام من نفى الإفساد مطلقاً لكنهم جعلوا المجئ الذى يترتب عليه ذلك ولو بطريق الاتفاق مجيئاً لغرض الإفساد مفعولا لأجله ادعاء إظهار لكمال قبحه عندهم وتربية لاستحالة صدوره عنهم كما قيل فى قوله تعالى { ما يبدل القول لدى وما أنا بظلاَّمٍ للعبيد } الدال بظاهره على نفى المبالغة فى الظلم دون نفى الظلم فى الجملة الذى هو مقتضى المقام من أن المعنى إذا عذبت من لا يستحق التعذيب كنت ظلاماً مفرطاً فى الظلم فكأنهم قالوا إن صدر عنا إفساد كان مجيئنا لذلك مريدين به تقبيح حاله وإظهار كمال نزاهتهم عنه يعنون أنه قد شاع بينكم فى كرتى مجيئنا ما نحن عليه وقد كانوا على غاية ما يكون من الديانة والصيانة فيما يأتون ويذرون حتى روى أنهم دخلوا مصر وأفواه رواحلهم مكمومة لئلا تتناول زرعا أو طعاماً لأحد وكانوا مثابرين على فنون الطاعات وعلمتم بذلك أنه لا يصدر عنا إفساد { وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ } أى ما كنا نوصف بالسرقة قط وإنما حكموا بعلمهم ذلك لأن العلم بأحوالهم الشاهدة يستلزم العلم بأحوالهم الغائبة وإنما لم يكتفوا بنفى الأمرين المذكورين بل استشهدوا بعلمهم بذلك إلزاماً للحجة عليهم وتحقيقاً للتعجب المفهوم من تاء القسم .(3/457)
قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
{ قَالُواْ } أي أصحاب يوسف عليه السلام { فَمَا جَزَاؤُهُ } الضمير للصُّواع على حذف المضاف أي فما جزاء سرقتِه عندكم وفي شريعتكم { إِن كُنتُمْ كاذبين } لا في دعوى البراءةِ عن السرقة فإنهم صادقون فيها بل فيما يستلزمه ذلك من نفي كون الصواعِ فيهم كما يؤذِن به قوله عز وجل : { قَالُواْ جَزؤُهُ مَن وُجِدَ } أي أخْذُ مَنْ وُجد الصواع { فِى رَحْلِهِ } حيث ذكر بعنوان الوُجدان في الرحل دون عنوان السرقةِ وإن كان مستلزِماً لها في اعتقادهم المبنيِّ على قواعد العادة ، ولذلك أجابوا بما أجابوا فإن الأخذَ والاسترقاقَ سنةً إنما هو جزاءُ السارقِ دون من وُجد في يده مالُ غيره كيفما كان فتأمل واحمِلْ كلام كل فريقٍ على ما لا يزاحِم رأيَه فإنه أقربُ إلى معنى الكيد وأبعدُ من الافتراء ، وقوله تعالى : { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } تقريرٌ لذلك الحكمِ أي فأخذُه جزاؤه كقولك : حقُّ الضيف أن يكرم فهو حقه ، ويجوز أن يكون جزاؤه مبتدأً والجملة الشرطية كما هي خبرُه على إقامة الظاهر مُقامَ المضمر ، والأصل جزاؤُه من وجد في رحله ، فهو على أن الأول لمن والثاني للظاهر الذي وضع موضعه { كذلك } أي مثل ذلك الجزاءِ الأوفى { نَجْزِى الظالمين } بالسرقة ، تأكيدٌ للحكم المذكور غِبَّ تأكيدٍ وبيانٌ لقبح السرقة ولقد فعلوا ذلك ثقةً بكمال براءتِهم عنها وهم عما فُعل غافلون .
{ فَبَدَأَ } يوسف بعد ما رجَعوا إليه للتفتيش { بِأَوْعِيَتِهِمْ } بأوعية الإخوةِ العشرةِ أي بتفتيشها { قَبْلَ } تفتيش { وِعَاء أَخِيهِ } بنيامين لنفي التهمة . روي أنه لما بلغت النوبةُ إلى وعائه قال : ما أظن هذا أخذ شيئاً ، فقالوا : والله لا نترُكه حتى تنظرَ في رحله فإن أطيبُ لنفسك وأنفسنا { ثُمَّ استخرجها } أي السقاية أو الصُّواعَ فإنه يذكر ويؤنث { مِن وِعَاء أَخِيهِ } لم يقل منه على رجع الضميرِ إلى الوعاء أو من وعائه على رجعه إلى أخيه قصداً إلى زيادة كشفٍ وبيان ، وقرىء بضم الواو بقلبها همزة كما في أشاح في وشاح { كذلك } نُصب على المصدرية والكافُ مقحمةٌ للدَلالة على فخامة المشارِ إليه وكذا ما في ذلك من معنى البُعد أي مثلَ ذلك الكيدِ العجيبِ وهو عبارةٌ عن إرشاد الإخوةِ إلى الإفتاء المذكورِ بإجرائه على ألسنتهم وبحملهم عليه بواسطة المستفتين من حيث لم يحتسبوا فمعنى قوله عز وجل : { كِدْنَا لِيُوسُفَ } صنعنا له ودبّرنا لأجل تحصيل غرضِه من المقدمات التي رتبها من دس الصُواعِ وما يتلوه ، فاللام ليست كما في قوله : { فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا } فإنها داخلة على المتضرِّر على ما هو الاستعمالُ الشائع وقوله تعالى : { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الملك } استئنافٌ وتعليلٌ لذلك الكيدِ وصُنعه لا تفسيرٌ وبيانٌ له كما قيل ، كأنه قيل : لماذا فعل ذلك؟ فقيل : لأنه لم يكن ليأخذ أخاه بما فعله في دين الملِكِ في أمر السارق أي في سلطانه ، قاله ابن عباس ، أو في حكمه وقضائِه ، قاله قتادة ، إلا به لأن جزاءَ السارقِ في دينه إنما كان ضربَه وتغريمَه ضعفَ ما أخذ دون الاسترقاق والاستعباد كما هو شريعةُ يعقوبَ عليه السلام فلم يكن يتمكن بما صنعه من أخذ أخيه بالسرقة التي نسبها إليه حال من الأحوال { إِلاَّ أَن يَشَاء الله } أي إلا حالَ مشيئتِه التي هي عبارةٌ عن إرادته لذلك الكيدِ أو إلا حالَ مشيئتِه للأخذ بذلك الوجهِ ، ويجوز أن يكون الكيدُ عبارةً عنه وعن مباديه المؤدِّية إليه جميعاً من إرشاد يوسفَ وقومِه إلى ما صدر عنهم من الأفعال والأقوالِ حسبما شرح مرتباً لكن لا على أن يكون القصرُ المستفادُ من تقديم المجرورِ مأخوذاً بالنسبة إلى غيره مطلقاً على معنى مثلَ ذلك الكيدِ كدنا لا كيداً آخرَ إذ لا معنى لتعليله بعجز يوسفَ عن أخذ أخيه في دين الملكِ في شأن السارقِ قطعاً إذ لا علاقة بين مطلقِ الكيد ودينِ الملك في أمر السارق أصلاً بالنسبة إلى بعضه على معنى مثلَ ذلك الكيدِ البالغ إلى هذا الحد كدنا له ولم نكتف ببعض من ذلك لأنه لم يكن يأخذ أخاه في دين الملك به إلا حالَ مشيئتِنا له بإيجاد ما يجري مجرى الجزءِ الصّوري من العلة التامة وهو إرشادُ إخوتِه إلى الإفتاء المذكور ، وعلى هذا ينبغي أن يحمل القصرُ في تفسير من فسر قوله تعالى : { كِدْنَا لِيُوسُفَ } بقوله : علّمناه إياه وأوحينا به إليه أي مثلَ ذلك التعليم المستتبعِ لما شرح مرتباً علّمناه دون بعض من ذلك فقط الخ ، وعلى كل حال فالاستئناءُ من أعم الأحوال كما أشير إليه ، ويجوز أن يكون من أعم العلل والأسبابِ أي لم يكن يأخذ أخاه لعلة من العلل أو بسبب من الأسباب إلا لعلة مشيئتِه تعالى أو إلا بسبب مشيئتِه تعالى ، وأياً ما كان فهو متصلٌ لأن أخذَ السارق إذا كان ممن يرى ذلك ويعتقده ديناً لا سيما عند رضاه وإفتائِه به ليس مخالفاً لدين الملِك ، وقد قيل : معنى الاستئناءِ إلا أن يشاء الله أن يجعل ذلك الحكمَ حكمَ الملكِ .(3/458)
وأنت تدري أن المرادَ بدينه ما عليه حينئذ فتغييرُه مُخِلٌّ بالاتصال وإرادةُ مطلقِ ما يتدين به أعمّ منه ومما يحدث تفضي إلى كون الاستثناءِ من قبيل التطبيقِ بالمحال إذ المقصودُ بيانُ عجزِ يوسفَ عليه السلام عن أخذ أخيه حينئذ ولم تتعلق المشيئةُ بالجعل المذكورِ إذ ذاك وإرادةُ عجزِه مطلقاً تؤدي إلى خلاف المراد فإن استثناءَ حال المشيئةِ المذكورة من أحوال عجزه عليه السلام مما يُشعر بعدم الحاجةِ إلى الكيد المذكور فتدبر . وقد جُوّز الانقطَاعُ أي لكنْ أخذُه بمشيئة الله تعالى وإذنِه في دين غيرِ دينِ الملك .(3/459)
{ نَرْفَعُ درجات } أي رتباً كثيرةً عاليةً من العلم وانتصابُها على المصدرية أو الظرفية أو على نزع الخافضِ أي إلى درجات والمفعول قوله تعالى : { مَّن نَّشَاء } أي نشاء رفعَه حسبما تقتضيه الحكمةُ وتستدعيه المصلحةُ كما رفعنا يوسف ، وإيثارُ صيغة الاستقبالِ للإشعار بأن ذلك سنةٌ مستمرةٌ غيرُ مختصةٍ بهذه المادة والجملةُ مستأنفةٌ لا محل لها من الإعراب { وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ } من أولئك المرفوعين { عَلِيمٌ } لا ينالون شأوَه واعلم أنه إن جعل الكيدُ عبارةً عن المعنيَيْن الأولين فالمرادُ برفع يوسفَ عليه السلام ما اعتُبر فيه بالشرطية أو الشطرية من إرشاده عليه السلام إلى دس الصّواع في رحل أخيه وما يتفرع عليه من المقدمات المرتبة لاستبقاء أخيه مما يتم من قِبَله ، والمعنى أرشدنا إخوته إلى الإفتاء المذكور لأنه لم يكن متمكناً من أخذ أخيه بدونه ، أو أرشدنا كلاًّ منهم ومِنْ يوسف وأصحابه إلى ما صدر عنهم ولم نكتف بما تم من قِبل يوسف فقط لأنه لم يكن متمكناً من أخذ أخيه بذلك فقوله تعالى : { نَرْفَعُ درجات } إلى قوله تعالى : { عَلِيمٌ } توضيحٌ لذلك على معنى أن الرفع المذكورَ لا يوجب تمامَ مرامِه إذ ليس ذلك بحيث لا يعزُب عن علمه شيءٌ بل إنما نرفع كلَّ من نرفع حسب استعدادِه ، وفوق كلِّ واحدٍ منهم عليمٌ لا يقادر علمُه ولا يكتنه كنهُه يَرفع كلاًّ منهم إلى ما يليق به من معارج العلمِ ومدارجِه وقد رَفع يوسفَ إلى ما يليق به من الدرجات العاليةِ وعلم أن ما حواه دائرةُ علمِه لا يفي بمرامه فأرشد إخوتَه إلى الإفتاء المذكورِ فكان ما كان ، وكأنه عليه السلام لم يكن على يقين من صدوره الإفتاء المذكورِ عن إخوته وإن كان على طمع منه فإن ذلك إلى الله عز وجل وجوداً وعلماً ، والتعرضُ لوصف العلم لتعيين جهةِ الفوقية ، وفي صيغة المبالغةِ مع التنكير والالتفاتِ إلى الغَيبة من الدلالة على فخامة شأنِه عز وعلا وجلالةِ مقدارِ علمِه المحيطِ ما لا يخفى . وأما إن جعل عبارةً عن التعليم المستتبعِ للإفتاء المذكور فالرفعُ عبارةٌ عن ذلك التعليم والإفتاءِ وإن لم يكن داخلاً تحت قدرتِه عليه السلام لكنه كان داخلاً تحت علمِه بواسطة الوحي والتعليم ، والمعنى مثلَ ذلك التعليم البالغِ إلى هذا الحد علّمناه ولم نقتصر على تعليمِ ما عدا الإفتاءَ الذي سيصدر عن إخوته إذ لم يكن متمكناً من أخذ أخيه إلا بذلك فقوله : { نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء } توضيحٌ لقوله : كدنا وبيانٌ لأن ذلك من باب الرفعِ إلى الدرجات العاليةِ من العلم ومدحٌ ليوسف برفعه إليها ، وقوله وفوق كل ذي علم عليمٌ تذييلٌ له أي نرفع درجاتٍ عاليةً من العلم من نشاء رفعَه وفوق كلَ منهم عليمٌ هو أعلى درجةً . قال ابن عباس رضي الله عنهما : فوق كلِّ عالمٍ عالمٌ إلى أن ينتهيَ العلم إلى الله تعالى ، والمعنى إن إخوة يوسف عليه السلام كانوا علماءَ إلا أن يوسفَ عليه السلام أفضلُ منهم ، وقرىء درجاتِ مَنْ نشاء بالإضافة ، والأولُ أنسبُ بالتذييل حيث نُسب فيه الرفعُ إلى من نسب إليه الفوقية لا إلى درجتِه ويجوز أن يكون العليمُ في هذا التفسير أيضاً عبارةً عن الله عز وجل أي وفوق كلَ من أولئك المرفوعين عليمٌ يرفع كلاًّ منهم إلى درجته اللائقةِ به والله تعالى أعلم .(3/460)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
{ قَالُواْ إِن يَسْرِقْ } يعنون بنيامين { فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِن قَبْلُ } يريدون به يوسفَ عليه السلام وما جرى عليه من جهة عمّتِه على ما قيل من أنه كانت تحضِنه فلما شب أراد يعقوبُ عليه السلام انتزاعَه منها وكانت لا تصبِر عنه ساعةً وكانت لها منطقةٌ ورثتها من أبيها إسحاقَ عليه السلام فاحتالت لاستبقاء يوسفَ عليه السلام فعمَدت إلى المنطقة فحزمَتْها عليه من تحت ثيابه ثم قالت : فقدتُ منطقة إسحاقَ عليه السلام فانظروا مَنْ أخذها فوجدوها محزومةً على يوسف فقالت : إنه لي سَلَم أفعل به ما أشاء فخلاّه يعقوبُ عليه السلام عندها حتى ماتت ، وقيل : كان أخذ في صِباه صنماً لأبي أمِّه فكسره وألقاه في الجيف ، وقيل : دخل كنيسة فأخذ تمثالاً صغيراً من ذهب كانوا يعبُدونه فدفنه { فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ } أي أكنّ الحزازةَ الحاصلة مما قالوا { فِى نَفْسِهِ } لا أنه أسرّها لبعض أصحابه كما في قوله تعالى : { وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } { وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ } لا قولاً ولا فعلاً صفحاً عنهم وحِلماً وهو تأكيد لما سبق .
{ قَالَ } أي في نفسه وهو استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من الإخبار بالإسرار المذكور كأنه قيل : فماذا قال في نفسه في تضاعيف ذلك الإسرارِ؟ فقيل : قال : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } أي منزلةً حيث سرقتم أخاكم من أبيكم ثم طفِقتم تفترون على البريء ، وقيل : بدل من أسرها والضمير للمقالة المفسرة بقوله : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } { والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ } أي عالمٌ علماً بالغاً إلى أقصى المراتب بأن الأمرَ ليس كما تصفون من صدور السرقةِ منا بل إنما هو افتراءٌ علينا فالصيغةُ لمجرد المبالغة لا لتفضيل علمِه عز وجل على علمهم كيف لا وليس لهم بذلك من علم .(3/461)
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
{ قَالُواْ } عندما شاهدوا مخايلَ أخْذِ بنيامين مستعطِفين { قَالُواْ يأَيُّهَا العزيز إِنَّ لَهُ أَبًا } لم يريدوا بذلك الإخبارَ بأن له أباً ذلك معلومٌ مما سبق وإنما أرادوا الإخبار بأن له أباً { شَيْخًا كَبِيرًا } في السن لا يكاد يستطيع فراقَه وهو عَلالةٌ به يتعلل عن شقيقه الهالك { فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ } فلسنا عنده بمنزلته من المحبة والشفقة { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين } إلينا فأتمم إحسانَك بهذه التتمة أو المتعوّدين بالإحسان فلا تغيّر عادتك .
{ قَالَ مَعَاذَ الله } أي نعوذ بالله معاذاً من { أَن نَّأْخُذَ } فحُذف الفعلُ وأُقيم مُقامَه المصدرُ مضافاً إلى المفعول به بعد حذفِ الجارِّ { إِلاَّ مَن وَجَدْنَا متاعنا عِندَهُ } لأن أخْذنا له إنما هو بقضية فتواكم فليس لنا الإخلالُ بموجبها ، وإيثارُ صيغة التكلم مع الغير كون الخطابِ من جانب إخوتِه على التوحيد من باب السلوكِ إلى سنن الملوك ، أو للإشعار بأن الأخذَ والإعطاءَ ليس مما يُستبدّ به بل هو منوطٌ بآراء أولي الحلِّ والعقد ، وإيثارُ ( مَنْ وجدنا متاعنا عنده ) دون مَنْ سرق متاعنا لتحقيق الحقِّ والاحتراز عن الكذب في الكلام مع تمام المرام فإنهم لا يحمِلون وُجدان الصُّواعِ في الرحل على محمل غيرِ السرقة { إِنَّا إِذَاً } أي إذا أخذنا غيرَ من وجدنا متاعنا عنده ولو برضاه { لظالمون } في مذهبكم وما لنا ذلك ، وهذا المعنى هو الذي أريد بالكلام في أثناء الحوارِ ، وله معنى باطنٌ هو أن الله عز وجل إنما أمرني بالوحي أن آخذَ بنيامينَ لمصالحَ علمها الله في ذلك فلو أخذتُ غيرَه كنت ظالماً وعاملاً بخلاف الوحي .
{ فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ } أي يئسوا من يوسف وإجابتِه لهم أشدَّ يأس بدِلالة صيغة الاستفعال ، وإنما حصَلت لهم هذه المرتبةُ من اليأس لِما شاهدوه من عَوْذه بالله مما طلبوه الدالِّ على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهةِ وأنه مما يجب أن يُحترز عنه ويُعاذَ منه بالله عز وجل ومن تسميته ظلماً بقوله : { إِنَّا إِذًا لظالمون } { خَلَصُواْ } اعتزلوا وانفردوا عن الناس { نَجِيّاً } أي ذوي نجوى على أن يكون بمعنى النجوى والتناجي أو فوجاً نجياً على أن يكون بمعنى المناجى كالعشير والسمير بمعنى المعاشر والمسامر ومنه قوله تعالى : { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } ويجوز أن يقال : هم نَجيٌّ ، كما يقال : هم صديق لأنه بزنة المصادر من الزفير والزئير { قَالَ كَبِيرُهُمْ } في السن وهو روبيلُ أو في العقل وهو يهوذا أو رئيسهم وهو شمعون { أَلَمْ تَعْلَمُواْ } كأنهم أجمعوا عند التناجي على الانقلاب جملةً ولم يرضَ به فقال منكِراً عليهم : ألم تعلموا { أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مّنَ الله } عهداً يوثق به وهو حِلفُهم بالله تعالى ، وكونُه من الله لإذنه فيه وكونِ الحلف باسمه الكريم { وَمِن قَبْلُ } أي ومن قبل هذا { مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ } قصرتم في شأنه ولم تحفظوا عهدَ أبيكم وقد قلتم : وإنا له لناصحون ، وإنا له لحافظون ، وما مزيدةٌ أو مصدرية ، ومحلُّ المصدر النصبُ عطفاً على مفعول تعلموا أي ألم تعلموا أخذَ أبيكم عليكم موثقاً وتفريطَكم السابقَ في شأن يوسف عليه السلام ، ولا ضير في الفصل بين العاطفِ والمعطوفِ بالظرف وقد جوّز النصبُ عطفاً على اسم أن والخبر في يوسف أو من قبل على معنى ألم تعلموا أن تفريطَكم السابق وقع في شأن يوسف عليه السلام أو أن تفريطَكم الكائنَ أو كائناً في شأن يوسف عليه السلام وقع من قبل ، وفيه أن مقتضى المقام إنما هو الإخبارُ بوقوع ذلك التفريطِ لا بكون تفريطِهم السابقِ واقعاً في شأن يوسف كما هو مفادُ الأول ، ولا بكون تفريطِهم الكائنِ في شأنه واقعاً من قبل كما هو مفادُ الثاني على أن الظرفَ المقطوعَ عن الإضافة لا يقع خبراً ولا صفة ولا صلة ولا حالاً عند البعض كما تقرر في موضعه ، وقيل : محلُّه الرفعُ على الابتداء والخبرُ من قبلُ وفيه ما فيه ، وقيل : ما موصولةٌ أو موصوفة ومحلها النصبُ أو الرفعُ والحقُّ هو النصبُ عطفاً على مفعول تعلموا أي ما فرطتموه بمعنى قدمتموه في حقه من الخيانة ، وأما النصبُ عطفاً على اسم أن أو الرفعُ على الابتداء فقد عرفتَ حاله { فَلَنْ أَبْرَحَ الارض } متفرِّعٌ على ما ذكَره وذكره إياهم من ميثاق أبيه وقوله :(3/462)
{ لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } أي فلن أفارق أرضَ مصرَ جارياً على قضية الميثاق { حتى يَأْذَنَ لِى أَبِى } في البَراح بالانصراف إليه وكأن أيمانَهم كانت معقودةً على عدم الرجوعِ بغير إذن يعقوبَ عليه السلام { أَوْ يَحْكُمَ الله لِى } بالخروج منها على وجه لا يؤدّي إلى نقض الميثاقِ أو بخلاص أخي بسبب من الأسباب . روي أنهم كلموا العزيز في إطلاقه فقال روبيلُ : أيها الملك لترُدَّن إلينا أخانا أو لأصِيحن صَيْحةً لا تبقى بمصرَ حاملٌ إلا ألقت ولدها ووقعت كل شعرة في جسده فخرجت من ثيابه وكان بنو يعقوب إذا غضِبوا لا يطاقون خلا أنه إذا مس مَنْ غضب واحدٌ منهم سكن غضبُه ، فقال يوسف لابنه : قم إلى جنبه فَمُسّه فَمَسَّه فقال روبيل : مَنْ هذا؟ إن في هذا البلد بَذْراً من بَذر يعقوب { وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } إذ لا يحكم إلا بالحق والعدل .(3/463)
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)
{ ارجعوا } أنتم { إلى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يأَبَانَا إِنَّ ابنك سَرَقَ } على ظاهر الحالِ وقرىء سُرق أي نسب إلى السرقة { وَمَا شَهِدْنَا } عليه { إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } وشاهدنا أن الصُواعَ استُخرجت من وعائه { وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ } أي باطن الحال { حافظين } فما ندري أن حقيقةَ الأمرِ كما شاهدنا أم بخلافه ، أو وما كنا عالمين حين أعطيناك المَوْثِقَ أنه سيسرِق أو أن نلاقيَ هذا الأمر أو أنك تصاب به كما أُصبت بيوسف .(3/464)
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
{ واسئل القرية التى كُنَّا فِيهَا } أي مصرَ أو قريةً بقربها لحِقهم المنادي عندها أي أرسلْ إلى أهلها واسألهم عن القصة { والعير التى أَقْبَلْنَا فِيهَا } أي أصحابَها فإن القصة معروفةٌ فيما بينهم وكانوا قوماً من كنعان من جيران يعقوبَ عليه السلام ، وقيل : من صنعاء { وِإِنَّا لصادقون } تأكيدٌ في محل القسم { قَالَ } أي يعقوبُ عليه السلام وهو استئنافٌ مبني على سؤال نشأ مما سبق فكأنه قيل : فماذا كان عند قولِ المتوقّف لإخوته ما قال؟ فقيل : قال يعقوبُ عندما رجَعوا إليه فقالوا له ما قالوا وإنما حُذف للإيذان بأن مسارعتَهم إلى قبوله ورجوعَهم به إلى أبيهم أمرٌ مسلَّم غنيٌّ عن البيان ، وإنما المحتاجُ إليه جوابُ أبيهم { بَلْ سَوَّلَتْ } أي زيّنت وسهّلت وهو إضرابٌ لا عن صريح كلامهم فإنهم صادقون في ذلك عما يتضمنه من ادعاء البراءة عن التسبب فيما نزل به وأنه لم يصدرُ عنهم ما يؤدي إلى ذلك من قول أو فعل كأنه قيل : لم يكن الأمرُ كذلك بل زينت { لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا } من الأمور فأتيتموه يريد بذلك فُتياهم بأخذ السارق بسرقته { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } أي فأمري صبرٌ جميل أو فصبرٌ جميل أجملُ { عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا } بيوسف وأخيه والمتوقِّف بمصر { إِنَّهُ هُوَ العليم } بحالي وحالهم { الحكيم } الذي لم يبتلِني إلا لحكمة بالغة .
{ وتولى } أي أعرض { عَنْهُمْ } كراهةً لما سمع منهم { وَقَالَ يَا أَسَفاً على يُوسُفَ } الأسفُ أشدُّ الحزن والحسرةُ ، أضافه إلى نفسه والألفُ بدلٌ من الياء فناداه أي يا أسفي تعالَ فهذا أوانُك وإنما تأسف على يوسف مع أن الحادثَ مصيبةٌ أخويه لأن رُزْأَه كان قاعدةَ الأرزاءِ غضاً عنده وإن تقادم عهده آخذاً بمجامع قلبه لا ينساه ولأنه كان واثقاً بحياتهما عالماً بمكانهما طامعاً في إيابهما ، وأما يوسفُ فلم يكن في شأنه ما يحرك سلسلةَ رجائِه سوى رحمةِ الله وفضلِه .
وفي الخبر : ( لم تُعطَ أمةٌ من الأمم إنا لله وإنا إليه راجعون إلا أمةُ محمدٍ عليه الصلاة والسلام ألا يُرى إلى يعقوبَ حين أصابه ما أصابه لم يسترجِعْ بل قال ما قال ) والتجانسُ بين لفظي الأسَف ويوسف مما يزيد النظمَ الكريم بهجةً كما في قوله عز وجل : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } وقوله : { اثاقلتم إِلَى الارض أَرَضِيتُم } وقوله : { ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ الثمرات } { وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } ونظائرها { وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن } الموجبِ للبكاء فإن العَبْرة إذا كثُرت محقَت سوادَ العين وقلبتْه إلى بياض كدِر . قيل : قد عميَ بصرُه ، وقيل : كان يدرك إدراكاً ضعيفاً . روي أنه ما جفّت عينا يعقوبَ من يوم فراقِ يوسفَ إلى حين لقائه ثمانين عاماً وما على وجه الأرض أكرمُ على الله عز وجل من يعقوب عليه السلام ، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أنه سأل جبريلَ عليه السلام :(3/465)
" ما بلغ من وجد يعقوبَ عليه السلام على يوسف؟» قال : وجْدَ سبعين ثكلى ، قال : «فما كان له من الأجر؟» قال : أجرُ مائةِ شهيد وما ساء ظنُّه بالله ساعةً قط " وفيه دليل على جواز التأسف والبكاءِ عند النوائبِ فإن الكفَّ عن ذلك مما لا يدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد ، ولقد بكى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على ولده آبراهيمَ وقال : " القلبُ يحزن والعين تدمَع ولا نقول ما يُسخِط الربَّ وإنا عليك يا إبراهيمُ لمحزونون " وإنما الذي لا يجوز ما يفعله الجهلةُ من الصياح والنياحة ولطْمِ الخدودِ والصدور وشقِّ الجيوبِ وتمزيقِ الثياب ، وعن النبي عليه السلام أنه بكى على ولد بعضِ بناتِه وهو يجود بنفسه ، فقيل : يا رسول الله تبكي وقد نَهَيتنا عن البكاء؟ فقال : " ما نهيتُكم عن البكاء وإنما نهيتُكم عن صوتين أحمقين صوتٍ عند الفرَح وصوت عند الترَح " { فَهُوَ كَظِيمٌ } مملوءٌ من الغيظ على أولاده مُمسِكٌ له في قلبه لا يُظهره ، فعيل بمعنى مفعول بدليل قوله تعالى : { وَهُوَ مَكْظُومٌ } من كظمَ السِّقاءَ إذا شده على ملئه أو بمعنى فاعل كقوله : { والكاظمين الغيظ } من كظم الغيظَ إذا اجترعه وأصله كظم البعيرُ جِرَّتَه إذا ردها في جوفه .(3/466)
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
{ قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ } أي لا تفتأ ولا تزال { تَذْكُرُ يُوسُفَ } تفجّعاً عليه فحُذف النفي كما في قوله :
فَقُلْتُ يَمينُ الله أَبْرَحُ قَاعِداً ... لعدم الالتباس بالإثبات فإن القسمَ إذا لم يكن معه علامةُ الإثبات يكون على النفي البتةَ { حتى تَكُونَ حَرَضاً } مريضاً مُشْفياً على الهلاك ، وقيل : الحَرضُ مَنْ أذابه هم أو مرض وهو في الأصل مصدرٌ ولذلك لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع والنعت منه بالكسر كدنِف وقد قرىء به وبضمتين كجُنُب وغَرِب { أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين } أي الميتين { قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى } البثّ أصعبُ الهم الذي لا يصبر عليه صاحبُه فيبثّه إلى الناس أي ينشره فكأنهم قالوا له ما قالوا بطريق التسلية والإشكاءِ ، فقال لهم : إني لا أشكو ما بي إليكم أو إلى غيركم حتى تتصدّوا لتسليتي وإنما أشكو همي { وَحُزْنِى إِلَى الله } تعالى ملتجئاً إلى جنابه متضرِّعاً لدى بابه في دفعه وقرىء بفتحتين وضمتين { وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من لطفه ورحمته فأرجو أن يرحمني ويلطُفَ بي ولا يُخيِّب رجائي أو أعلمَ وحياً أو إلهاماً من جهته ما لا تعلمون من حياة يوسف . قيل : رأى ملكَ الموتِ في المنام فسأله عنه فقال : هو حي ، وقيل : علم من رؤيا يوسف عليه السلام أنه سيخرّ له أبواه وإخوتُه سجّداً .
{ يبَنِىَّ اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ } أي تعرّفوا وهو تفعُّلٌ من الحَسّ وقرىء بالجيم من الجسّ وهو الطلب أي تطلبوا { مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ } أي من خبرهما ولم يذكر الثالثِ لأن غَيبته اختياريةٌ لا يعسُر إزالتها { وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ الله } لا تقنَطوا من فرجه وتنفيسه وقرىء بضم الراء أي من رحمته التي يُحيي بها العبادَ وهذا إرشادٌ لهم إلى بعض ما أُبهم في قوله : { وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ثم حذرهم عن ترك العمل بموجب نهيه بقوله : { يبَنِىَّ اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن } لعدم علمِهم بالله تعالى وصفاتِه فإن العارفَ لا يقنط في حال من الأحوال .(3/467)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)
{ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ } أي على يوسف بعد ما رجعوا إلى مصر بموجب أمرِ أبيهم وإنما لم يُذكر ذلك إيذاناً بمسارعتهم إلى ما أمروا به وإشعاراً بأن ذلك أمرٌ محققٌ لا يفتقر إلى الذكر والبيان { قَالُواْ ياأَيُّهَا العزيز } أي الملكُ القادرُ المتمنع { مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر } الهُزالُ من شدة الجوع { وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ } مدفوعةٍ يدفعها كلُّ تاجر رغبةً عنها واحتقاراً لها من أزجَيتُه إذا دفعتُه وطردتُه والريحُ تزجي السحابَ . قيل : كانت بضاعتُهم من متاع الأعراب صوفاً وسمناً ، وقيل : الصنوبرَ وحبةَ الخضراء ، وقيل : سُويقُ المُقْل والأقِطُ ، وقيل : دراهمَ زيوفاً لا تؤخذ إلا بوضيعة وإنما قدّموا ذلك ليكون ذريعةً إلى إسعاف مرامهم ببعث الشفقةِ وهو العطفُ والرأفة وتحريكُ سلسلة المرحمة .
ثم قالوا { فَأَوْفِ لَنَا الكيل } أي أتممْه لنا { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا } بردّ أخينا إلينا ، قاله الضحاك وابن جريج وهو الأنسبُ بحالهم نظراً إلى أمر أبيهم ، أو بالإيفاء أو بالمسامحة وقَبول المُزجاة أو بالزيادة على ما يساويها تفضلاً وإنما سمَّوه تصدقاً تواضعاً أو أرادوا التصدقَ فوق ما يعطيهم بالثمن بناء على اختصاص حُرمة الصدقة بنبينا عليه الصلاة والسلام وإنما لم يبدأوا بما أُمروا به استجلاباً للرأفة وللشفقة ليبعثوا بما قدّموا من رقة الحالِ رقةَ القلب والحنُوَّ على أن ما ساقوه كلامٌ ذو وجهين ، فإن قولهم : وتصدّق علينا { إِنَّ الله يَجْزِى المتصدقين } يحتمل الحملَ على المحملين فلعله عليه السلام حمله على المحمل الأول ولذلك { قَالَ } مجيباً عما عرّضوا به وضمّنوه كلامَهم من طلب ردِّ أخيهم { هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ } وكان الظاهرُ أن يتعرضَ لما فعلوا بأخيه فقط ، وإنما تعرض لما فعلوا بيوسف لاشتراكهما في وقوع الفعلِ عليهما ، فإن المراد بذلك إفرادُهم له عن يوسف وإذلالُه بذلك حتى كان لا يستطيع أن يكلمهم إلا بعجز وذِلةٍ أي هل تُبتم عن ذلك بعد علمِكم بقبحه؟ فهو سؤالٌ عن الملزوم والمرادُ لازمُه { إِذْ أَنتُمْ جاهلون } بقبحه فلذلك أقدمتم على ذلك أو جاهلون عاقبتَه وإنما قاله نصحاً لهم وتحريضاً على التوبة وشفقةً عليهم لمّا رأى عجزَهم وتمسكنَهم لا معاتبةً وتثريباً ، ويجوز أن يكون هذا الكلامُ منه عليه السلام منقطعاً عن كلامهم وتنبيهاً لهم على ما هو حقُّهم ووظيفتهم من الإعراض عن جميع المطالب والتمحضِ في طلب بنيامين بل يجوز أن يقف عليه السلام بطريق الوحي أو الإلهام على وصية أبيه وإرسالِه إياهم للتحسس منه ومن أخيه فلما رآهم قد اشتغلوا عن ذلك قال ما قال ، وقيل : أعطَوه كتابَ يعقوبَ عليه السلام وقد كتب فيه : «كتابٌ من يعقوبَ إسرائيلِ الله بن إسحاقَ ذبيحِ الله بن إبراهيمَ خليل الله إلى عزيز مصرَ أما بعد فإنا أهلُ بيتٍ موكلٍ بنا البلاءُ أما جدّي فشُدت يداه ورجلاه فرُمي به في النار فنجّاه الله تعالى وجُعلت النار له برداً وسلاماً وأما أبي فوُضع السكينُ على قفاه ليُقتل ففداه الله تعالى وأما أنا فكان لي ابنٌ وكان أحبَّ أولادي إلىّ فذهب به إخوتُه إلى البرية ثم أتَوْني بقميصه ملطخاً بالدم فقالوا : قد أكله الذئبُ فذهبت عيناي من بكائي عليه ثم كان لي ابنٌ وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا : إنه سرَق وأنك حبستَه وإنا أهلُ بيت لا نسرِق ولا نلد سارقاً فإن رددتَه عليَّ وإلا دعوتُ عليك دعوةً تُدرك السابعَ من ولدَك والسلام» .(3/468)
فلما قرأه لم يتمالكْ وعيل صبرُه فقال لهم ما قال ، وقيل : لما قرأه بكى وكتب الجواب : اصبِر كما صبروا تظفرْ كما ظفِروا .
{(3/469)
قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
{ قَالُواْ أَءنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ } استفهامُ تقريرٍ ولذلك أكدوه بأن واللام قالوه استغراباً وتعجباً ، وقرىء إنك بالإيجاب ، قيل : عرفوه بروائه وشمائله حين كلمهم به ، وقيل : تبسم فعرفوه بثناياه ، وقيل : رفع التاجَ عن رأسه فرأوا علامةً بقَرنه تشبه الشامة البيضاء وكان لسارةَ ويعقوبَ مثلُها وقرىء أإنك أو أنت يوسف على معنى أئنك يوسف أو أنت يوسف ، فحذف الأولُ لدلالة الثاني عليه وفيه زيادةُ استغراب { قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ } جواباً عن مسألتهم وقد زاد عليه قوله : { وهذا أَخِى } أي من أبويّ مبالغةً في تعريف نفسه وتفخيماً لشأن أخيه وتكملةً لما أفاده قوله : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه؟ حسبما يفيده قولُه : { قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَا } فكأنه قال : هل علمتم ما فعلتم بنا من التفريق والإذلالِ؟ فأنا يوسفُ وهذا أخي قد منّ الله علينا بالخلاص عما ابتُلينا به ، والاجتماعِ بعد الفُرقةِ ، والعزة بعد الذِلة ، والأُنس بعد الوحشة ، ولا يبعد أن يكون فيه إشارةٌ إلى الجواب عن طلبهم لرد بنيامين بأنه أخي لا أخوكم فلا وجهَ لطلبكم ، ثم علل ذلك بطريق الاستئنافِ التعليلي بقوله : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ } أي يفعل التقوى في جميع أحوالِه أو يقِ نفسه عما يوجب سخطَ الله تعالى وعذابه { وَيِصْبِرْ } على المحن أو على مشقة الطاعاتِ أو عن المعاصي التي تستلذها النفس { فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } أي أجرهم ، وإنما وُضع المظهرُ موضع المضمرِ تنبيهاً على أن المنعوتين بالتقوى والصبر موصوفون بالإحسان .
{ قَالُواْ تالله لَقَدْ اثَرَكَ الله عَلَيْنَا } اختارك وفضلك علينا بما ذكرت من النعوت الجليلة { وَإِن كُنَّا } وإن الشأن كنا { لخاطئين } لمتعمِّدين للذنب إذ فعلنا بك ما فعلنا ولذلك أعزك وأذلنا ، وفيه إشعارٌ بالتوبة والاستغفار ولذلك { قَالَ لاَ تَثْرَيبَ } أي لا عتْبَ ولا تأنيب { عَلَيْكُمْ } وهو تفعيل من الثرب وهو الشحمُ الغاشي للكرِش ومعناه إزالته كما أن التجليد إزالةُ الجلد والتقريعُ إزالة القرع لأنه إذا ذهب كان ذلك غايةَ الهُزال فضرب مثلاً للتقريع الذي يذهب بماء الوجوه وقوله عز وعلا : { اليوم } منصوب بالتثريب أو بالمقدر خبراً لِلا أي لا أثر بكم أو لا تثريبَ مستقرٌ عليكم اليوم الذي هو مظنةٌ له فما ظنُّكم بسائر الأيام أو بقوله : { يَغْفِرَ الله لَكُمْ } لأنه حينئذ صفح عن جريمتهم وعفا عن جريرتهم بما فعلوا من التوبة { وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين } يغفر الصغائرَ والكبائرَ ويتفضل على التائب بالقَبول ، ومن كرمه عليه الصلاة والسلام أن إخوتَه أرسلوا إليه إنك تدعونا إلى طعامك بكرةً وعشياً ونحن نستحيي منك بما فرَط منا فيك ، فقال عليه الصلاة والسلام : إن أهلَ مصرَ وإن ملكت فيهم كانوا ينظرون إليّ بالعين الأولى ويقولون : سبحان من بلّغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلّغ ، ولقد شرُفت بكم الآن وعظُمتُ في العيون حيث علم الناسُ أنكم إخوتي وأني من حفدة إبراهيم عليه السلام .(3/470)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)
{ اذهبوا بِقَمِيصِى هذا } قيل : هو الذي كان عليه حينئذ ، وقيل : هو القميصُ المتوارَث الذي كان في التعويذ أمره جبريلُ بإرساله إليه وأوحى إليه أن فيحَ ريحِ الجنةِ لا يقع على مبتلىً إلا عُوفي { فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا } يكن بصيراً أو يأت إليَّ بصيراً ، وينصره قوله : { وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } أي بأبي وغيره ممن ينتظمه لفظُ الأهل جميعاً من النساء والذراري . قيل : إنما حمل القميصَ يهوذا وقال : أنا أحزنتُه بحمل القميصِ ملطخاً بالدم إليه فأُفرِحه كما أحزنته ، وقيل : حمله وهو حافٍ حاسرٌ من مصر إلى كنعان وبينهما مسيرةُ ثمانين فرسخاً .
{ وَلَمَّا فَصَلَتِ العير } خرجت من عريش مصر ، يقال : فصَل من البلد فصولاً إذا انفصل منه وجاوز حيطانَه ، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما انفصل العير { قَالَ أَبُوهُمْ } يعقوبُ عليه الصلاة والسلام لمن عنده { إِنّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } أوجده الله سبحانه ما عبق بالقميص من ريح يوسف من ثمانين فرسخاً حين أقبل به يهوذا { لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ } أي تنسُبوني إلى الفند وهو الخرفُ وإنكارُ العقل وفسادُ الرأي مِنُ هرمٍ ، يقال : شيخٌ مفنّد ولا يقال عجوزٌ مفنّدة إذ لم تكن في شبيبتها ذاتَ رأي فتُفَنّد في كِبَرها ، وجواب لولا محذوف أي لصدقتموني { قَالُواْ } أي الحاضرون عنده { تالله إِنَّكَ لَفِى ضلالك القديم } لفي ذهابك عن الصواب قدُماً في إفراط محبتِك ليوسف ولَهجِك بذكره ورجائِك للقائه وكان عندهم أنه قد مات .
{ فَلَمَّا أَن جَاء البشير } وهو يهوذا { أَلْقَاهُ } أي ألقى البشيرُ القميصَ { على وَجْهِهِ } أي وجه يعقوب أو ألقاه يعقوبُ على وجه نفسه { فارتد } عاد { بَصِيراً } لما انتعش فيه من القوة { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ } يعني قولَه : إني لأجد ريحَ يوسف ، فالخطابُ لمن كان عنده بكنعان أو قولَه : ولا تيأسوا من رَوْح الله فالخطابُ لبنيه وهو الأنسب بقوله : { إِنّى أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } فإن مدارَ النهي المذكورِ إنما هو العلمُ الذي أوتي يعقوبُ من جهة الله سبحانه وعلى هذا يجوز أن يكون هذا مقولَ القولِ أي ألم أقل لكم حين أرسلتكم إلى مصرَ وأمرتُكم بالتحسس ونهيتُكم عن اليأس من رَوْح الله تعالى وأعلم من الله ما لا تعلمون من حياة يوسف عليه الصلاة والسلام . روي أنه سأل البشيرَ : كيف يوسف؟ فقال : هو ملِكُ مصرَ ، قال : ما أصنع بالمُلك ، على أي دينٍ تركتَه؟ قال : على دين الإسلام ، قال : الآن تمت النِّعمة .(3/471)
قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)
{ قَالُواْ يَا أَبَانَا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خاطئين } ومن حق من اعترف بذنبه أن يُصفح عنه ويُستغفرَ له فكأنهم كانوا على ثقة من عفوه عليه الصلاة السلام ولذلك اقتصروا على استدعاء الاستغفار وأدرجوا ذلك في الاستغفار .
{ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } وهذا مُشعرٌ بعفوه ، قيل : أخّر الاستغفارَ إلى وقت السحر ، وقيل : إلى ليلة الجمعة ليتحرّى به وقت الإجابة ، وقيل : أخّره إلى أن يستحِلَّ لهم من يوسف عليه الصلاة والسلام أو يعلم أنه قد عفا عنهم فإن عفوَ المظلوم شرطُ المغفرة ، ويعضُده أنه روي عنه أنه استقبل القِبلة قائماً يدعو وقام يوسفُ خلفه يؤمّن وقاموا خلفَهما أذلةً خاشعين عشرين سنة حتى إذا بلغ جهدَهم وظنوا أنها الهلكة نزل جبريل عليه الصلاة والسلام فقال : إن الله قد أجاب دعوتَك في ولدك وعقدوا مواثيقهم بعدك على النبوة فإن صح ثبتت نبوتُهم وإن ما صدر عنهم إنما صدر قبل الاستنباء . وقيل : المرادُ الاستمرارُ على الدعاء فقد روي أنه كان يستغفر كلَّ ليلةِ جمعةٍ في نيّف وعشرين سنة ، وقيل : قام إلى الصلاة في وقت السحر ، فلما فرَغ رفع يديه فقال : اللهم اغفِرْ لي جزَعي على يوسف وقلةَ صبري عنه واغفِر لولدي ما أتوا إلى أخيهم فأوحى الله إليه أن الله قد غفر لك ولهم أجمعين .
{ فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ } روي أنه وجّه يوسفُ إلى أبيه جَهازاً ومائتي راحلةٍ ليتجهز إليه بمن معه فاستقبله يوسفُ والملكُ في أربعة آلاف من الجند والعُظماء وأهلِ مصرَ بأجمعهم فتلقّوا يعقوبَ عليه الصلاة والسلام وهو يمشي متوكئاً على يهوذا فنظر إلى الخيل والناس فقال : يا يهوذا ، أهذا فرعونُ مصرَ؟ قال : لا بل ولدُك ، فلما لِقيه قال عليه الصلاة والسلام : السلامُ عليك يا مذهبَ الأحزان ، وقيل : قال له يوسف : يا أبت بكَيتَ عليّ حتى ذهب بصرُك ألم تعلم أن القيامةَ تجمعنا؟ فقال : بلى ، ولكني خشِيتُ أن يسلَبَ دينُك فيُحالَ بيني وبينك ، وقيل إن يعقوبَ وولدَه دخلوا مصرَ وهم اثنان وسبعون ما بين رجلٍ وامرأةٍ وكانوا حين خرجوا مع موسى ستَّمائةِ ألفٍ وخمسَمائةٍ وبضعةً وسبعين رجلاً سوى الذرية والهرمى وكانت الذريةُ ألفَ ألفٍ ومائتي ألف .
{ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ } أي أباه وخالتَه وتنزيلُها منزلةَ الأمِّ كتنزيل العمِّ منزلةَ الأب في قوله عز وجل : { وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } أو لأن يعقوبَ عليه الصلاة والسلام تزوّجها بعد أمّه ، وقال الحسن وابنُ إسحاق : كانت أمُّه في الحياة فلا حاجة إلى التأويل ، ومعنى آوى إليه ضمّهما إليه واعتنقهما وكأنه عليه الصلاة والسلام ضَرب في الملتقى مضرباً فنزل فيه فدخلوا عليه فآواهما إليه { وَقَالَ ادخلوا مِصْرَ إِن شَاء الله ءامِنِينَ } من الشدائد والمكاره قاطبةً والمشيئةُ متعلقةٌ بالدخول على الأمن .(3/472)
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ } عند نزولِهم بمصر { عَلَى العرش } على السرير تكرِمةً لهما فوق ما فعله لإخوته { وَخَرُّواْ لَهُ } أي أبواه وإخوتُه { سُجَّدًا } تحية له فإنه كان السجودُ عندهم جارياً مجرى التحيةِ والتكرمةِ كالقيام والمصافحةِ وتقبيلِ اليد ونحوِها من عادات الناس الفاشية في التعظيم والتوقير ، وقيل : ما كان ذلك إلا انحناءً دون تعفيرِ الجباه ، ويأباه الخرُورُ ، وقيل : خروا لأجله سجداً لله شكراً ويرده قوله تعالى : { وَقَالَ يأَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رؤياى } التي رأيتها وقصصتها عليك { مِن قَبْلُ } في زمن الصِّبا { قَدْ جَعَلَهَا رَبّى حَقّا } صدقاً واقعاً بعينه ، والاعتذارُ بجعل يوسفَ بمنزله القِبلة وجعلِ اللام كما في قوله :
أَلَيْسَ أَوَّلَ مَنْ صلى لقبلتكم ... تعسفٌ لا يخفى ، وتأخيرُه عن الرفع على العرش ليس بنص في ذلك لأن الترتيبَ الذكريَّ لا يجب كونُه على وفق الترتيب الوقوعيِّ فلعل تأخيرَه عنه ليصل به ذكرُ كونِه تعبيراً لرؤياه وما يتصل به من قوله : { وَقَدْ أَحْسَنَ بَى } المشهورُ استعمالُ الإحسان بإلى ، وقد يستعمل بالباء أيضاً كما في قوله عز اسمُه : { وبالوالدين إحسانا } وقيل : هذا بتضمين لَطَف وهو الإحسانُ الخفيُّ كما يؤذن به قوله تعالى : { إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء } وفيه فائدة لا تخفى أي لطَف بي محسناً إليَّ غيرَ هذا الإحسان { إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السجن } بعدما ابتُليت به ولم يصرِّح بقصة الجُبّ حِذاراً من تثريب إخوتِه لأن الظاهرَ حضورُهم لوقوع الكلام عَقيب خرورهم سجّداً واكتفاءً بما يتضمنه قوله تعالى : { وَجَاء بِكُمْ مّنَ البدو } أي البادية { مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى } أي أفسد بيننا بالإغواء وأصلُه من نخْس الرائضِ الدابةَ وحملِها على الجري ، يقال : نزَغه ونسَغه إذا نخسَه ولقد بالغ عليه الصلاة والسلام في الإحسان حيث أسند ذلك إلى الشيطان { إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء } أي لطيفُ التدبير لأجله رفيقٌ حتى يجيء على وجه الحِكمة والصواب ، ما من صعبٍ إلا وهو بالنسبة إلى تدبيره سهلٌ { إِنَّهُ هُوَ العليم } بوجود المصالح { الحكيم } الذي يفعل كلّ شيء على قضية الحكمة . روي أن يوسف أخذ بيد يعقوبَ عليهما الصلاة والسلام فطاف به في خزائنه فأدخله في خزائن الورِقِ والذهب وخزائن الحِليّ وخزائن الثياب وخزائنِ السلاح وغيرِ ذلك ، فلما أدخله خزائنَ القراطيس قال : يا بني ما أعقّك ، عندك هذه القراطيسُ وما كتبت إلي على ثماني مراحلَ؟ قال : أمرني جبريلُ ، قال : أو ما تسأله ، قال : أنا أبسطُ إليه مني فسأله قال جبريلُ : الله تعالى أمرني بذلك لقولك : أخاف أن يأكلَه الذئب ، قال : فهلا خِفْتني . ورُوي أن يعقوب عليه الصلاة والسلام أقام معه أربعاً وعشرين سنة ثم مات وأوصى أن يدفِنه بالشام إلى جنب أبيه إسحاقَ فمضى بنفسه ودفنه ثمةَ ثم عاد إلى مصرَ وعاش بعد أبيه ثلاثاً وعشرين سنة فلما تم أمرُه وعلِم أنه لا يدوم له تاقت نفسُه إلى المُلك الدائم الخالد فتمنى الموت فقال :(3/473)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
{ رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الملك } أي بعضاً منه عظيماً وهو ملكُ مصرَ { وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاحاديث } أي بعضاً من ذلك كذلك إن أريد بتعليم تأويلِ الأحاديث تفهيمُ غوامضِ أسرارِ الكتب الإلهية ودقائقِ سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فالترتيبُ ظاهر ، وأما إن أريد به تعليمُ تعبيرِ الرؤيا كما هو الظاهرُ فلعل تقديمَ إيتاءِ الملك عليه في الذكر لأنه بمقام تعدادِ النعم الفائضةِ عليه من الله سبحانه والمُلك أعرقُ في كونه نعمةً من التعليم المذكور وإن كان ذلك أيضاً نعمةً جليلةً في نفسه ، ولا يمكن تمشيةُ هذا الاعتذارِ فيما سبق لأن التعليمَ هناك واردٌ على نهج العلة الغائيةِ للتمكين فإن حُمل على معنى التمليك لزم تأخرُه عنه ، وأما الواقعُ هاهنا فمجردُ التأخيرِ في الذكر والعطفُ بحرف الواو ، ولا يستدعي ذلك الترتيبَ في الوجود { فَاطِرَ السموات وَالأَرْضِ } مُبدعَهما وخالقَهما ، نُصب على أنه صفةٌ للمنادى ، أو منادى آخرُ وصفه تعالى به بعد وصفِه بالربوبية مبالغةً في ترتيب مبادىء ما يعقُبه من قوله : أَنْتَ وَلِيِّي } مالكُ أموري { فِى الدنيا والاخرة } أو الذي يتولاني بالنعمة فيهما وإذ قد أتممتَ عليّ نعمة الدنيا { تَوَفَّنِى } اقبِضْني { مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بالصالحين } من آبائي أو بعامة الصالحين في الرتبة والكرامةِ فإنما تتم النعمةُ بذلك ، قيل : لما دعا توفاه الله عز وجل طيباً طاهراً فتخاصم أهلُ مصرَ في دفنه وتشاحّوا في ذلك حتى همّوا بالقتال فرأوا أن يصنعوا له تابوتاً من مَرمر فجعلوه فيه ودفنوه في النيل ليمُرَّ عليه ثم يصلَ إلى مصر ليكونوا شرعاً واحداً في التبرك به ، ووُلد له أفراييم وميشا ، ولأفراييم نونٌ ، ولنونٍ يوشعُ فتى موسى عليه الصلاة والسلام ولقد توارثت الفراعنة من العمالقة بعده مصر ولم يزل بنو إسرائيلَ تحت أيديهم على بقايا دين يوسفَ وآبائِه إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام .
{ ذلك } إشارةٌ إلى ما سبق من نبأ يوسفَ ، وما فيه من معنى البُعد لما مر مراراً من الدِلالة على بُعد منزلتِه أو كونه بالانقضاء في حكم البعيدِ والخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم وهو مبتدأ خبرُه { مِنْ أَنبَاء الغيب } الذي لا يحوم حوله أحدٌ وقوله : { نُوحِيهِ إِلَيْكَ } خبرٌ بعد خبر أو حال من الضمير في الخبر ويجوز أن يكون ذلك اسماً موصولاً و ( من أبناء الغيب ) صلتَه ويكون الخبرُ نوحيه إليك { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ } يريد إخوةَ يوسف عليه الصلاة والسلام { إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ } وهو جعلهم إياه في غيابة الجب { وَهُمْ يَمْكُرُونَ } به ويبغون له الغوائلَ حتى تقف على ظواهر أسرارِهم وبواطنها وتطّلع على سرائرهم طُراً وتحيط بما لديهم خُبراً ، وليس المرادُ مجردَ نفي حضورِه عليه الصلاة والسلام في مشهد إجماعِهم ومكرِهم فقط ، بل في سائر المشاهدِ أيضاً ، وإنما تخصيصُه بالذكر لكونه مطْلعَ القصة وأخفى أحوالِها كما ينبىء عنه قوله : وهم يمكرون ، والخطابُ وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكنِ المرادُ إلزامُ المكذبين والمعنى ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ، إذ لا سبيل إلى معرفتك إياه سوى ذلك إذ عدمُ سماعِك ذلك من الغير وعدمُ مطالعتِك للكتب أمرٌ لا يشك فيه المكذِّبون أيضاً ولم تكن بين ظَهرانِيهم عند وقوعِ الأمر حتى تعرِفه كما هو فتبلّغَه إليهم ، وفيه تهكم بالكفار فكأنهم يشكون في ذلك فيدفع شكهم ، وفيه أيضاً إيذانٌ بأن ما ذكر من النبأ هو الحقُّ المطابق للواقع ، وما ينقُله أهلُ الكتاب ليس على ما هو عليه يعني أن مثلَ هذا التحقيقِ بلا وحي لا يُتصوّر إلا بالحضور والمشاهدة وإذ ليس ذلك بالحضور فهو بالوحي ، ومثلُه قوله تعالى :(3/474)
{ وَمَا * لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أقلامهم أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } وقولُه : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الامر }(3/475)
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
{ وَمَا أَكْثَرُ الناس } يريد به العمومَ أو أهلَ مكة { وَلَوْ حَرَصْتَ } أي على إيمانهم وبالغت في إظهار الآياتِ القاطعةِ الدالةِ على صدقك { بِمُؤْمِنِينَ } لتصميمهم على الكفر وإصرارِهم على العناد ، روي أن اليهود وقريشاً لما سألوا عن قصة يوسفَ وعدوا أن يُسْلموا فلما أخبرهم بها على موافقة التوراةِ فلم يسلموا حزِن النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقيل له ذلك { وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ } أي على الإنباء أو على القرآن { مِنْ أَجْرٍ } من جُعْل كما يفعله حَمَلةُ الأخبار { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ } عظةٌ من الله تعالى { للعالمين } كافة لا أن ذلك مختصٌّ بهم .
{ وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ } أي كأي عددٍ شئت من الآيات والعلاماتِ الدالةِ على وجود الصانِع ووحدتِه وكمال علمِه وقدرتِه وحكمته غيرِ هذه الآيةِ التي جئتَ بها { فِي السموات والارض } أي كائنةٍ فيهما من الأجرام الفلكية وما فيها من النجوم وتغيّر أحوالها ومن الجبال والبحار وسائرِ ما في الأرض من العجائب الفائتةِ للحصر { يَمُرُّونَ عَلَيْهَا } أي يشاهدونها ولا يعبأون بها ، وقرىء برفع ( الأرضِ ) على الابتداء ويمرّون خبره وقرىء بنصبها على معنى ويطؤون الأرضَ يمرون عليها وفي مصحف عبد اللَّه والارض يَمْشُونَ عَلَيْهَا والمراد ما يرَون فيها من آثار الأمم الهالكةِ وغيرُ ذلك من الآيات والعبر { وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } غيرُ ناظرين إليها ولا متفكّرين فيها { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله } في إقرارهم بوجوده وخالقيته { إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } بعبادتهم لغيره أو باتخاذهم الأحبارَ والرهبانَ أرباباً أو بقولهم باتخاذه تعالى ولداً سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً ، أو بالنور والظلمة ، وهي جملةٌ حالية أي لا يؤمن أكثرُهم إلا في حال شركِهم ، قيل : نزلت الآيةُ في أهل مكة ، وقيل : في المنافقين ، وقيل : في أهل الكتاب .
{ أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مّنْ عَذَابِ الله } أي عقوبةٌ تغشاهم وتشمَلُهم { أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً } فجأةً من غير سابقةِ علامة { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } بإتيانها غير مستعدّين لها .(3/476)
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
{ قُلْ هذه سَبِيلِى } وهي الدعوةُ إلى التوحيد والإيمان بالإخلاص وفسّرها بقوله : { أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ } بيانٍ وحجةٍ واضحةٍ غيرِ عمياءَ أو هي حالٌ من الضمير في سبيلي والعاملُ فيها معنى الإشارة { أَنَاْ } تأكيدٌ للمستكن في أدعو أو على بصيرة لأنه حال منه ، أو مبتدأ خبرُه على بصيرة { وَمَنِ اتبعنى } عطف عليه { وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين } مؤكد لما سبق من الدعوة إلى الله { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً } رد لقولهم { وَلَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة } { نُّوحِى إِلَيْهِمْ } كما أوحينا إليك وقرىء بالياء { مّنْ أَهْلِ القرى } لأنهم أعلمُ وأحلم ، وأهلُ البوادي فيهم الجهلُ والجفاءُ والقسوة .
{ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الارض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ } من المكذبين بالرسل والآياتِ فيحذَروا تكذيبك { وَلَدَارُ الاخرة } أي الساعةُ أو الحياة الآخرة { خَيْرٌ لّلَّذِينَ اتقوا } الشركَ والمعاصيَ { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } فتستعملوا عقولَكم لتعرِفوا خيريةَ دارِ الآخرة ، وقرىء بالياء على أنه غيرُ داخل تحت قل . { حتى إِذَا استيئس الرسل } غايةٌ لمحذوف دل عليه السياقُ أي لا يغُرّنهم تماديهم فيما هم فيه من الدعة والرخاء فإن مَنْ قبلهم قد أُمهلوا حتى أيِسَ الرسل عن النصر عليهم في الدنيا أو عن إيمانهم لانهماكم في الكفر وتماديهم في الطغيان من غير وازع { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } كذَّبتْهم أنفسُهم حين حدثتْهم بأنهم يُنْصرون عليهم أو كذّبهم رجاؤهم فإنه يوصف بالصدق والكذب والمعنى أن مدة التكذيبِ والعداوة من الكفار وانتظارَ النصر من الله تعالى قد تطاولت وتمادت حتى استشعروا القُنوطَ وتوهّموا أن لا نصر لهم في الدنيا { جَاءهُمْ نَصْرُنَا } فجأة ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وظنوا أنهم قد أُخلِفوا ما وعدهم الله من النصر فإن صح ذلك عنه فلعله أراد بالظن ما يخطُر بالبال من شبه الوسوسة وحديثِ النفس ، وإنما عبر عنه بالظن تهويلاً للخطب ، وأما الظنُّ الذي هو ترجّحُ أحدِ الجانبين على الآخر فلا يُتصوّر ذلك من آحاد الأمة فما ظنُّك بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهم هم ومنزلتُهم في معرفة شؤونِ الله سبحانه منزلتُهم ، وقيل : الضميران للمُرسل إليهم . وقيل : الأول لهم ، والثاني للرسل ، وقرىء بالتشديد أي ظن الرسلُ أن القوم كذّبوهم فيما وعدوهم وقرىء بالتخفيف على بناء الفاعل على أن الضميرين للرسل أي ظنوا أنهم كذَبوا عند قومهم فيما حدّثوا به لِما تراخى ولم يرَوا له أثراً أو على أن الأول لقومهم { فَنُجّىَ مَن نَّشَاء } هم الرسلُ والمؤمنون بهم وقرىء فننجّي على لفظ المستقبل بالتخفيف والتشديد وقرىء فنجا { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القوم المجرمين } إذا نزل بهم وفيه بيانٌ لمن تعلق بهم المشيئة .(3/477)
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
{ لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ } أي قَصص الأنبياء وأممِهم ، وينصره قراءةُ من قرأ بكسر القاف أو قصص يوسفَ وإخوتِه { عِبْرَةٌ لاّوْلِى الالباب } لذوي العقول المبرّأةِ عن شوائب أحكام الحِس { مَا كَانَ } أي القرآنُ المدلولُ عليه بما سبق دَلالة واضحةً { حَدِيثًا يفترى ولكن } كان { تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ } من الكتب السماوية ، وقرىء بالرفع على أنه خبرُ مبتدأ محذوف أي ولكن هو تصديقُ الذي بين يديه { وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء } مما يحتاج إليه في الدين إذ ما من أمر دينيّ إلا وهو يستند إلى القرآن بالذات أو بوسط { وهدى } من الضلالة { وَرَحْمَةً } ينال بها خيرُ الدارين { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي يصدّقونه لأنهم المنتفعون به ، وأما مَنْ عداهم فلا يهتدون بهداه ولا ينتفعون بجدواه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « علّموا أرقاءَكم سورةَ يوسف فإنه أيُّما مسلمٍ تلاها وعلّمها أهلَه وما ملكت يمينَه هوّن الله عليه سكراتِ الموتِ وأعطاه القوة أن لا يحسُد مسلماً »(3/478)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)
( سورة الرعد ) { المر } اسمٌ للسورة ومحلُّه إما الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي هذه السورةُ بهذا الاسمِ وهو أظهرُ من الرفع على الابتداء إذ لم يسبِق العلَم بالتسمية كما مر مراراً وقوله تعالى : { تِلْكَ } على الوجه الأول مبتدأ مستقلٌ وعلى الوجه الثاني مبتدأ ثانٍ أو بدل من الأول أشير به إليه إيذاناً بفخامته . وإما النصبُ بتقدير فعلٍ يناسب المقامَ نحوُ اقرأ أو اذكر ، فتلك مبتدأٌ كما إذا جعل آلمر مسروداً على نمط التعديدِ أو بمعنى أنا الله أعلمُ وأرى على ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، والخبر على التقادير قوله تعالى : { آياتِ الكتاب } أي الكتابِ العجيب الكامل الغنيِّ عن الوصف به المعروفِ بذلك من بين الكتب الحقيقِ باختصاص اسم الكتابِ فهو عبارةٌ عن جميع القرآن أو عن الجميع المنزّل حينئذ حسبما مر في مطلع سورةِ يونُسَ إذ هو المتبادرُ من مطلق الكتابِ المستغني عن النعت ، وبه يظهر ما أريد من وصف الآياتِ بوصف ما أضيفت إليه من نعوت الكمالِ بخلاف ما إذا جُعل عبارةً عن السورة فإنها ليست بتلك المثابة من الشهرة في الاتصاف بذلك ، المغنية عن التصريح بالوصف على أنها عبارةٌ عن جميع آياتِها فلا بد من جعل ( تلك ) إشارةً إلى كل واحدةٍ منها ، وفيه ما لا يخفى من التعسف الذي مر تفصيلُه في سورة يونس .
{ والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ } أي الكتابَ المذكور بكماله لا هذه السورةُ وحدها { الحق } الثابتُ المطابق للواقع في كل ما نطق به ، الحقيقُ بأن يُخَصّ به الحقّيةُ لعراقته فيها ، وليس فيه ما يدل على أن ما عداه ليس بحق أصلاً على أن حقّيتَه مستتبِعةٌ لحقية سائرِ الكتبِ السماوية لكونه مصدّقاً لما بين يديه ومهيمِناً عليه ، وفي التعبير عنه بالموصول وإسنادِ الإنزال إليه بصيغة المبنيِّ للمفعول والتعرّضِ لوصف الربوبية مضافاً إلى ضميره عليه السلام من الدلالة على فخامة المنزَّل التابعةِ لجلالة شأنِ المنزَّل وتشريفِ المنزَّل إليه والإيماءِ إلى وجه بناءِ الخبر ما لا يخفى { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ } بذلك الحقِّ المبين ، لإخلالهم بالنظر والتأملِ فيه ، فعدمُ إيمانهم متعلقٌ بعنوان حقّيتِه لأنه المرجِعُ للتصديق والتكذيب لا بعنوان كونِه منزلاً كما قيل ولأنه واردٌ على طريقة الوصفِ دون الإخبار .
{ الله الذى رَفَعَ السموات } أي خلقهن مرتفعاتٍ على طريقة قولِهم : سبحان من كبّر الفيل وصغّر البعوض ، لا أنه رفعها بعد أن لم تكن كذلك ، والجملةُ مبتدأ وخبرٌ كقوله : { وَهُوَ الذى مَدَّ الأرض } { بِغَيْرِ عَمَدٍ } أي بغير دعائمَ جمع عِماد كإهاب وأَهَب وهو ما يُعمَد به أي يُسند ، يقال : عمَدتُ الحائطَ أي أدعمته ، وقرىء عُمُد على جمع عَمود بمعنى عماد كرُسُل ورسول ، وإيرادُ صيغةِ الجمع لجمع السموات ، لا لأن المنفيَّ عن كل واحدة منها عَمدٌ لا عماد { تَرَوْنَهَا } استئنافٌ استُشهد به على ما ذكر من رفع السموات بغير عمد ، وقيل : صفة لعَمَدٍ جيء بها إيهاماً لأن لها عمداً غيرَ مرئيةٍ هي قدرة الله تعالى .(3/479)
{ ثُمَّ استوى } أي استولى { عَلَى العرش } بالحفظ والتدبير أو استوى أمرُه وعن أصحابنا أن الاستواءَ على العرش صفةٌ لله عز وجل بلا كيف ، وأياً ما كان فليس المرادُ به القصدَ إلى إيجاد العرش وخلقِه فلا حاجة إلى جعل كلمة ثم للتراخي في الرتبة { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } ذللهما وجعلهما طائعَين لما أريد منهما من الحركات وغيرها { كُلٌّ } من الشمس والقمر { يَجْرِى } حسبما أريد منها { لاِجَلٍ مُّسَمًّى } لمدة معينةٍ فيها تتم دورتُه كالسنة للشمس والشهر للقمر ، فإن كلاًّ منهما يجري كلَّ يوم على مدار معينٍ من المدارات اليوميةِ أو لمدة ينتهي فيها حركاتُهما ويخرج جميعُ ما أريد منهما من القوة إلى الفعل ، أو لغاية يتم عندها ذلك والجملةُ بيانٌ لحكم تسخيرهما .
{ يُدَبّرُ } بما صنع من الرَّفْع والاستواء والتسخير أي يقضي ويقدّر حسبما تقتضيه الحكمةُ والمصلحة { الأمر } أمرَ الخلق كلَّه وأمرَ ملكوتِه وربوبيتِه { يُفَصّلُ الآيات } الدالةَ على كمال قدرتِه وبالغِ حكمتِه أي يأتي بها مفصلةً وهي ما ذكر من الأفعال العجيبةِ وما يتلوها من الأوضاع الفلكيةِ الحادثةِ شيئاً فشيئاً المستتبعةِ للآثار الغريبة في السُّفليات على موجب التدبيرِ والتقديرِ ، فالجملتان إما حالان من ضمير استوى وقوله : { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } من تتمة الاستواءِ وإما مفسّرتان له أو الأولى حالٌ منه والثانية من الضمير فيه أو كلاهما من ضمائر الأفعالِ المذكورة وقوله : { كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى } من تتمة التسخيرِ أو خبران عن قوله : الله خبراً بعد خبر ، والموصولُ صفةٌ للمبتدأ جيء به للدلالة على تحقيق الخبرِ وتعظيمِ شأنِه كما في قول الفرزدق
إن الذي سمك السماءَ بنى لنا ... بيتاً دعائمُه أعزُّ وأطول
{ لَعَلَّكُمْ } عند معاينتِكم لها وعثورِكم على تفاصيلها { بِلِقَاء رَبّكُمْ } بملاقاته للجزاء { تُوقِنُونَ } فإن من تدبّرها حقَّ التدبر أيقن أن من قدَر على إبداع هذه الصنائعِ البديعةِ على كل شيء قديرٌ وأن لهذه التدبيراتِ المتينة عواقبَ وغاياتٍ لا بد من وصولها وقد بُيّنتْ على ألسنة الأنبياءِ عليهم السلام أن ذلك ابتلاءٌ للمكلفين ثم جزاؤهم حسب أعمالِهم فإذن لا بد من الإيقان بالجزاء ، ولمّا قرر الشواهدَ العلوية أردفها بذكر الدلائلِ السفلية فقال : { وَهُوَ الذى مَدَّ الأرض } أي بسطها طولاً وعَرضاً ، قال الأصم : المد هو البسطُ إلى ما لا يدرك منتهاه فيه دَلالةٌ على بعد مداها وسَعةِ أقطارها { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ } أي جبالاً ثوابتَ في أحيازها من الرُّسوّ وهو ثباتُ الأجسام الثقيلة ، ولم يُذكر الموصوفُ لإغناء غلبة الوصفِ بها عن ذلك ، وانحصارُ مجيءِ فواعل جمعاً لفاعل في فوارسَ وهوالكَ ونواكسَ إنما هو في صفات العقلاءِ وأما في غيرهم فلا يراعى ذلك أصلاً كما في قوله تعالى :(3/480)
{ أَيَّامًا معدودات } وقوله : { الحج أَشْهُرٌ معلومات } إلى غير ذلك ، فلا حاجة إلى أن يُجعل مفردُها صفةً لجمع القلة أعني أجبُلاً ويعتبر في جمع الكثرة أعني جبالاً انتظامُها لطائفة من جموع القلة وتنزيلُ كلَ منها منزلة مفردِها كما قيل على أنه لا مجال لذلك فإن جمعيةَ كلَ من صيغتي الجمعَين إنما هي باعتبار الأفرادِ التي تحتها لا باعتبار انتظام جمعِ القلةِ للأفراد وجمعِ الكثرة لجموع القِلة فكلٌّ منهما جمعُ جبلٍ لا أن جبالاً جمعُ أجبل ، كما أن طوائفَ جمعُ طائفة ولا إلى أن يُلتجأَ إلى جعل الوصفِ المذكور بالغلبة في عداد الأسماءِ التي تُجمع على فواعل كما ظن ، على أنه لا وجه له لما أن الغلبةَ إنما هي في الجمع دون المفردِ ، والتعبيرُ عن الجبال بهذا العنوانِ لبيان تفرّعِ قرارِ الأرض على ثباتها { وأنهارا } مجاريَ واسعةً ، والمرادُ ما يجري فيها من المياه ، وفي نظمها مع الجبال في مفعولية فعلٍ واحد إشارةٌ إلى أن الجبالَ منشأٌ للأنهار وبيانٌ لفائدة أخرى للجبال غيرِ كونها حافظةً للأرض عن الاضطراب المُخِلّ بثبات الأقدام وتقلّب الحيوان متفرّعةً على تمكنه وتقلّبه وهي تعيُّشُه بالماء والكلأ .
{ وَمِن كُلّ الثمرات } متعلقٌ بجعل في قوله تعالى : { جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين } أي اثنيْنيّةً حقيقيةً وهما الفرادنِ اللذان كلٌّ منهما زوجُ الآخر وأكّد به الزوجين لئلا يُفهم أن المرادَ بذلك الشفْعان إذ يطلق الزوجُ على المجموع ولكنْ اثنينيةً اعتبارية ، أي جعل من كل نوع من أنواع الثمرات الموجودة في الدنيا ضربين وصِنفين إما في اللون كالأبيض والأسود أو في الطعم كالحُلو والحامض . أو في القدر كالصغير والكبير ، أو في الكيفية كالحار والبارد وما أشبه ذلك ، ويجوز أن يتعلق بجعَلَ الأولِ ، ويكونَ الثاني استئنافاً لبيان كيفيةِ ذلك الجعْل { يُغْشِى اليل النهار } استعارةٌ تبعيةٌ تمثيليةٌ مبنيَّةٌ على تشبيه إزالةِ نورِ الجو بالظلمة بتغطية الأشياءِ الظاهرةِ بالأغطية ، أي يستر النهارَ بالليل . والتركيب وإن احتمل العكسَ أيضاً بالحمل على تقديم المفعولِ الثاني على الأول فإن ضوء النهار أيضاً ساترٌ لظلمة الليلِ إلا أن الأنسبَ بالليل أن يكون هو الغاشي ، وعدُّ هذا في تضاعيف الآيات السفلية وإن كان تعلقُه بالآيات العلوية ظاهراً باعتبار أن ظهورَه في الأرض فإن الليل إنما هو ظلُّها وفيما فوق موقعِ ظلها لا ليلَ أصلاً ولأن الليل والنهار لهما تعلقٌ بالثمرات من حيث العقدُ والإنضاج على أنهما أيضاً زوجان متقابلان مثلُها وقرىء يُغشّي من التغشية { إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي فيما ذكر من مد الأرضِ وإيتادِها بالرواسي وإجراءِ الأنهار وخلق الثمرات وإغشاءِ الليل النهارَ ، وفي الإشارة بذلك تنبيهٌ على عظم شأنِ المشار إليه في بابه { لاَيَاتٍ } باهرةً وهي آثارُ تلك الأفاعيل البديعةِ جلت حكمةُ صانعِها ، ( ففي ) على معناها فإن تلك الآثارَ مستقرةٌ في تلك الأفاعيل منوطةٌ بها ، ويجوز أن يُشار بذلك إلى تلك الآثار المدلولِ عليها بتلك الأفاعيل ( ففي ) تجريدية { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فإن التفكر فيها يؤدّي إلى الحكم بأن تكوين كلَ من ذلك على هذا النمط الرائِق والأسلوب اللائق لا بد له من مكوّن قادرٍ حكيم يفعل ما يشاء ويختار ما يريد لا معقِّبَ لحكمه وهو الحميد المجيد .(3/481)
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
{ وَفِى الأرض قِطَعٌ } جملةٌ مستأنفة مشتملةٌ على طائفة أخرى من الآيات أي بقاعٌ كثيرةٌ مختلفة في الأوصاف فمن طيِّبة إلى سَبْخة وكريمة إلى زهيدة وصُلبة إلى رِخْوة إلى غير ذلك { متجاورات } أي متلاصقاتٌ وفي بعض المصاحف ( قطعاً متجاوراتٍ ) أي جعل في الأرض قطعاً { وجنات مّنْ أعناب } أي بساتينُ كثيرة منها { وَزَرْعٌ } من كل نوع من أنواع الحبوبِ ، وإفرادُه لمراعاة أصله ، ولعل تقديمَ ذكرِ الجنات عليه مع كونه عمودَ المعاشِ لظهور حالها في اختلافها ومبايَنتِها لسائرها ورسوخ ذلك فيها ، وتأخيرُ قوله تعالى : { وَنَخِيلٌ } لئلا يقعَ بينها وبين صفتها وهي قوله تعالى : { صنوان وَغَيْرُ صنوان } فاصلة ، والصنوان جمع صِنْو كقِنوان وقِنْو وهي النخلةُ التي لها رأسان وأصلُها واحدٌ وقرىء بضم الصاد على لغة بني تميم وقيس ، وقرىء جناتٍ بالنصب عطفاً على زوجين وبالجر على كل الثمرات ، فلعل عدمَ نظمِ قوله تعالى : { وَفِى الأرض قِطَعٌ متجاورات } في هذا السلكِ مع أن اختصاصَ كل من تلك القِطع بما لها من الأحوال والصفات بمحض جعْل الخالقِ الحكيم جلت قدرتُه حين مد الأرضَ ودحاها للإيماء إلى كون تلك الأحوال صفاتٍ راسخةً لتلك القطع ، وقرىء وزرعٍ ونخيلٍ بالجر عطفاً على أعناب أو جناتٍ { يسقى } أي ما ذكر من القِطع والجنات والزرع والنخيل ، وقرىء بالتأنيث مراعاةً للّفظ والأول أوفقُ بمقام بيان اتحادِ الكل في حالة السقْي { بِمَاء واحد } لا اختلاف في طبعه سواءٌ كان السقيُ بماء الأمطار أو بماء الأنهار .
{ وَنُفَضّلُ } مع تآخذ أسبابِ التشابه بمحض قدرتِنا واختيارنا { بَعْضَهَا على بَعْضٍ } آخرَ منها { فِى الأكل } فيما يحصُل منها من الثمر والطعْمِ ، وقرىء بالياء على بناء الفاعل رداً على يدبّر ويفصّلُ ويغشي ، وعلى بناء المفعول وفيه ما لا يخفى من الفخامة والدلالة على أن عدمَ احتمال استنادِ الفعل إلى فاعل آخرَ مغنٍ عن بناء الفعل للفاعل { إِنَّ فِى ذَلِكَ } الذي فُصّل من أحوال القِطع والجنات { لاَيَاتٍ } كثيرةً عظيمةً ظاهرة { لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } يعلمون على قضية عقولِهم ، فإن من عقَل هذه الأحوالَ العجيبةَ لا يتلعثم في الجزم بأن من قدَر على إبداع هذه البدائعِ وخلقَ تلك الثمارَ المختلفة في الأشكال والألوان والطعومِ والروائحِ في تلك القِطع المتباينةِ المتجاورةِ وجعَلَها حدائقَ ذاتَ بهجةٍ قادرٌ على إعادة ما أبداه بل هي أهونُ في القياس وهذه الأحوالُ وإن كانت هي الآياتِ أنفسَها لا أنها فيها إلا أنه قد جُرّدت عنها أمثالُها مبالغةً في كونها آيةً ( ففي ) تجريديةٌ مثلها في قوله تعالى : { لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ } أو المشارُ إليه الأحوالُ الكلية والآياتُ أفرادُها الحادثةُ شيئاً فشيئاً في الأزمنة وآحادُها الواقعةُ في الأقطار والأمكنةِ المشاهدة لأهلها ( ففي ) على معناها وحيث كانت دلالةُ هذه الأحوالِ على مدلولاتها أظهرَ مما سبق علق كونُها آياتٍ بمحض التعقّل ولذلك لم يتعرض لغير تفضيل بعضِها على بعض في الأكُل الظاهرِ لكل عاقلٍ مع تحقق ذلك في الخواصّ والكيفيات مما يتوقع العثورُ عليه على نوع تأملٍ وتفكر كأنه لا حاجة في ذلك إلى التفكر أيضاً وفيه تعريضٌ بأن المشركين غيرُ عاقلين .(3/482)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
{ وَإِن تَعْجَبْ } يا محمد من شيء { فَعَجَبٌ } لا أعجبُ منه حقيقٌ بأن يُقصَرَ عليه التعجب { قَوْلُهُمْ } بعد مشاهدةِ ما عدد لك من الآيات الشاهدةِ بأنه تعالى على كل شيء قدير { أَءذَا كُنَّا تُرَابًا } على طريقة الاستفهامِ الإنكاريِّ المفيدِ لكمال الاستبعادِ والاستنكارِ ، وهو في محل الرفعِ على البدلية من ( قولهم ) على أنه بمعنى المقول أو في محل النصبِ على المفعولية منه على أنه مصدرٌ فالعجبُ على الأول كلامُهم وعلى الثاني تكلّمُهم بذلك والعاملُ في ( إذا ) ما دل عليه قوله : { إِءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ } وهو نُبعث أو نعاد ، وتقديمُ الظرف لتقوية الإنكارِ بالبعث بتوجيهه إليه في حالة منافيةٍ له ، وتكريرُ الهمزة في قولهم : أئنا لتأكيد الإنكارِ ، وليس مدارُ إنكارهم كونَهم ثابتين في الخلق الجديد بالفعل عند كونِهم تراباً بل كونَهم بعريضة ذلك واستعدادِهم له ، وفيه من الدَلالة على عتوّهم وتماديهم في النكير ما لا يخفى ، وقيل : وإن تعجب من قولهم في إنكار البعثِ فعجبٌ قولُهم ، والمآلُ وإن تعجبْ فقد تعجّبت في موضع التعجّبِ ، وقيل : وإن تعجب من إنكارِهم البعثَ فعجبٌ قولُهم الدالُّ عليه فتأمل .
وقد جُوّز كونُ الخطاب لكل من يصلُح له أي إن تعجبْ يا من ينظُر في هذه الآياتِ من قدرة مَنْ هذه أفعالُه فازددْ تعجباً ممن ينكر مع هذه الدلائلِ قدرتَه تعالى على البعث وهو أهونُ من هذه ، والأنسبُ بقوله : ويستعجلونك بالسيئة هو الأولُ وقوله تعالى : { فَعَجَبٌ } خبرٌ قُدّم على المبتدأ للقصر والتسجيل من أول الأمر بكون قولهم ذاك أمراً عجيباً ، ويجوز أن يكون مبتدأً لكونه موصوفاً بالوصف المقدر كما أشير إليه فالمعنى وإن تعجب فالعجب الذي لا عجب وراءه قولُهم هذا فاعجب منه ، وعلى الأول وإن تعجب فقولُهم هذا عجبٌ لا عجبَ فوقه .
{ أولئك } مبتدأٌ والموصولُ خبرُه أي أولئك المنكرون لقدرته تعالى على البعث ريثما عاينوا ما فُصّل من الآيات الباهرةِ المُلْجئة لهم إلى الإيمان لو كانوا يبصرون { الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ } وتمادَوْا في ذلك فإن إنكارَهم لقدرته عز وجل كفرٌ به وأيُّ كفر { وَأُوْلئِكَ } مبتدأ خبرُه قوله : { الأغلال فِى أعناقهم } أي مقيّدون بقيود الضلال لا يرجى خلاصُهم أو مغلولون يوم القيامة { وَأُوْلئِكَ } الموصوفون بما ذكر من الصفات { أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } لا ينفكوّن عنها ، وتوسيطُ ضمير الفصلِ ليس لتخصيص الخلودِ بمنكري البعثِ خاصةً بل بالجمع المدلولِ عليه بقوله تعالى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ } .
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة } بالعقوبة التي أُنذِروها وذلك حين سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيَهم بالعذاب استهزاءً منهم بإنذاره { قَبْلَ الحسنة } أي العافيةِ والإحسانِ إليهم بالإمهال { وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات } أي عقوباتُ أمثالِهم من المكذبين فما لهم لا يعتبرون بها ولا يحترزون حلولَ مثلها بهم والجملة الحاليةُ لبيان ركاكةِ رأيِهم في الاستعجال بطريق الاستهزاءِ أي يستعجلونك بها مستهزئين بإنذارك منكِرين لوقوع ما أنذرتَهم إياه والحالُ أنه قد مضت العقوباتُ النازلةُ على أمثالهم من المكذبين والمستهزئين ، والمُثْلة بوزن السُّمْرة العقوبةُ ، سميت بها لما بينها وبين المعاقَب عليه من المماثلة ومنه المِثال للقِصاص ، وقرىء المُثُلات بضمتين بإتباع الفاء العين ، والمَثْلات بفتح الميم وسكون الثاء كما يقال : السَّمْرة ، والمُثْلات بضم الميم وسكون الثاء تخفيف المُثُلات جمع مُثْلة كرُكبة ورُكْبات { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ } عظيمةٍ { لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } أنفسهم بالذنوب والمعاصي ومحلُّه النصبُ على الحالية أي ظالمين والعاملُ فيه المغفرة والمعنى إن ربك لغفورٌ للناس لا يعجّل لهم العقوبةَ وإن كانوا ظالمين بل يمهلهم بتأخيرها { وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب } يعاقب من يشاء منهم حين يشاء فتأخيرُ ما استعجلوه ليس للإهمال .(3/483)
وعنه عليه الصلاة والسلام : « لولا عفوُ الله وتجاوزُه ما هنأ لأحد العيشُ ولولا وعيدُه وعقابه لأتَّكَلَ كُلُّ أحد » .(3/484)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)
{ وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ } وهم المستعجلون أيضاً ، وإنما عدَل عن الإضمار إلى الموصول ذماً لهم ونعياً عليهم كفرَهم بآيات الله تعالى التي تخِرُّ لها صُمُّ الجبال حيث لم يرفعوا لها رأساً ولم يعُدّوها من جنس الآيات وقالوا : { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } مثلَ آياتِ موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام عناداً ومكابرةً ، وإلا ففي أدنى آيةٍ أُنزلت عليه عليه الصلاة والسلام غُنيةٌ وعِبرةٌ لأولي الألباب { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ } مرسَلٌ للإنذار من سوء عاقبةِ ما يأتون ويذرون كدأب مَنْ قبلك من الرسل وليس عليك إلا الإتيانُ بما يُعلم به نُبوَّتُك ، وقد حصل ذلك بما لا مزيدَ عليه ولا حاجة إلى إلزامهم وإلقامِهم الحجرَ بالإتيان بما اقترحوا من الآيات { وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ } معينٌ لا بالذات بل بعنوان الهدايةِ يعني لكل قوم نبيٌّ مخصوصٌ له هدايةٌ مخصوصةٌ يقتضي اختصاصُ كلَ منهم بما يختص به حكماً لا يعلمها إلا الله أو لكل قوم هادٍ عظيمُ الشأنِ قادرٌ على ذلك هو الله سبحانه وما عليك إلا إنذارُهم فلا يُهِمَنك عنادُهم وإنكارُهم للآيات المنزّلةِ عليك وازدراؤهم بها ثم عقّبه بما يدل على كمال علمِه وقدرتِه وشمولِ قضائِه وقدَره المبنيَّين على الحِكَم والمصالحِ تنبيهاً على أن تخصيصَ كلِّ قومٍ ينبىء بجنس معين من الآيات إنما هو للحِكَم الداعية إلى ذلك إظهاراً لكمال قدرتِه على هدايتهم لكن لا يهدي إلا من تعلّق بهدايته مشيئتُه التابعةُ لِحكَم استأثر بعلمها فقال :
{ الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى } أي تحمِله فما موصولةٌ أريد بها ما في بطنها من حين العُلوقِ إلى زمن الولادةِ لا بعد تكاملِ الخلقِ فقط ، والعلمُ متعدَ إلى واحد ، أو أيَّ شيءٍ تحملُ وعلى أي حال هو من الأحوال المتواردةِ عليه طوراً فطوراً فهي استفهاميةٌ معلقةٌ للعلم أو حملَها فهي مصدرية { وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ } أي تنقُصه وتزداده في الجُثة كالخَديج والتام وفي المدة كالمولود في أقلِّ مدة الحملِ والمولود في أكثرها وفيما بينهما . قيل : إن الضحاك ولد في سنتين ، وهرِمَ ابن حيان في أربع ومن ذلك سُمِّي هرِماً ، وفي العدد كالواحد فما فوقه . يروى أن شريكاً كان رابعَ أربعةٍ ، أو يعلم نقصَها وازديادها لما فيها فالفعلان متعدّيان كما في قوله تعالى : { وَغِيضَ الماء } وقوله تعالى : { وازدادوا تِسْعًا } وقوله : { وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } أو لازمان قد أسندا إلى الأرحام مجازاً وهما لما فيها { وَكُلَّ شىْء } من الأشياء { عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } بقدر لا يمكن تجاوزُه عنه كقوله : { إِنَّا كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ } فإن كل حادثٍ من الأعيان والأعراضِ له في كل مرتبةٍ من مراتب التكوينِ ومباديها وقتٌ معينٌ وحالٌ مخصوص لا يكاد يجاوزه ، والمرادُ بالعندية الحضورُ العلميُّ بل العلمُ الحضوريُّ فإن تحقيقَ الأشياءِ في أنفسها في أي مرتبةٍ كانت مراتبُ الوجود والاستعداد لذلك علمٌ له بالنسبة إلى الله عز وجل .(3/485)
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
{ عالم الغيب } أي الغائبِ عن الحس { والشهادة } أي الحاضرِ له عبر عنهما بهما مبالغةً ، وقيل : أريد بالغيب المعدومُ وبالشهادة الموجودُ وهو خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أو خبرٌ بعد خبر ، وقرىء بالنصب على المدح وهذا كالدليل على ما قبله من قوله تعالى : { الله يَعْلَمُ } الخ { الكبير } العظيمُ الشأنِ الذي كلُّ شيء دونه { المتعال } المستعلي على كل شيء بقدرته أو المنزَّهُ عن نعوت المخلوقات .
وبعد ما بين سبحانه أنه عالم بجميع أحوالِ الإنسان في مراتبِ فطرتِه ومحيطٌ بعالَمي الغيب والشهادة بيّن أنه تعالى عالمٌ بجميع ما يأتون وما يذرون من الأفعال والأقوال وأنه لا فرق بالنسبة إليه بين السرِّ والعلن فقال : { سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول } في نفسه { وَمَنْ جَهَرَ بِهِ } أظهره لغيره { وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ } مبالغٌ في الاختفاء كأنه مختفٍ { باليل } وطالبٌ للزيادة { وَسَارِبٌ } بارزٌ يراه كلُّ أحد { بالنهار } من سرَب سروباً أي برَز وهو عطفٌ على مَنْ هو مستخفٍ أو على مستخف و ( من ) عبارةٌ عن الاثنين كما في قوله
تعالَ فإنْ عاهدتَني لا تخونُني ... نكنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يصطحبانِ
كأنه قيل : سواءٌ منكم اثنان مستخفٍ بالليل وساربٌ بالنهار ، والاستواءُ وإن أسند إلى من أسرّ ومن جهَر وإلى المستخفي والساربِ لكنه في الحقيقة مسنَدٌ إلى ما أسّره وما جهرَ به أو إلى الفاعل من حيث هو فاعلٌ كما في الأخيرين ، وتقديمُ الإسرارِ والاستخفاءِ لإظهار كمالِ علمِه تعالى فكأنه في التعلق بالخفيات أقدمُ منه بالظواهر وإلا فنِسبتُه إلى الكل سواءٌ لما عرَفته آنفاً .
{ لَهُ } أي لكلَ ممن أسرّ أو جهر والمستخفي أو السارب { معقبات } ملائكةٌ تعتقِبُ في حفظه جمعُ معقّبة من عقّبه مبالغةُ عقَبه إذا جاء على عقِبه كأن بعضَهم يعقُب بعضاً أو لأنهم يعقُبون أقوالَه وأفعاله فيكتُبونه أو اعتقب فأُدغمت التاء في القاف والتاء للمبالغة ، أو المرادُ بالمعقّبات الجماعاتُ ، وقرىء معاقيبُ جمع معقب أو معقبة على تعويض الياء من إحدى القافين { مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } من جميع جوانبِه أو من الأعمال ما قدَّم وأخَّر { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } من بأسه حين أذنب بالاستمهال والاستغفارِ له أو يحفظونه من المضارّ أو يراقبون أحوالَه من أجل أمر الله تعالى ، وقد قرىء به وقيل : ( من ) بمعنى الباء ، وقيل : من أمر الله صفةٌ ثانيةٌ لمعقّبات ، وقيل : المعقّبات الحرّاسُ والجلاوِزةُ حولَ السلطان يحفَظونه في توهّمه من قضاء الله تعالى { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ } من النعمة والعافية { حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ } من الأعمال الصالحةِ أو ملَكاتها التي هي فطرةُ الله التي فطرَ الناس عليها إلى أضدادها { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا } لسوء اختيارِهم واستحقاقِهم لذلك { فَلاَ مَرَدَّ لَهُ } فلا ردَّ له ، والعاملُ في ( إذا ) ما دل عليه الجوابُ { وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ } يلي أمرَهم ويدفع عنهم السوءَ الذي أراده الله بهم بما قدمت أيديهم من تغيير ما بهم ، وفيه دِلالةٌ على أن تخلّف مرادِه تعالى مُحالٌ ، وإيذانٌ بأنهم بما باشروه من إنكار البعثِ واستعجال السيئة واقتراحِ الآية قد غيَّروا ما بأنفسهم من الفطرة واستحقوا لذلك حلولَ غضبِ الله تعالى وعذابِه .(3/486)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
{ هُوَ الذى يُرِيكُمُ البرق خَوْفًا } من الصاعقة { وَطَمَعًا } في المطر ، فوجهُ تقديم الخوفِ على الطمع ظاهر لما أن المَخوفَ عليه النفسُ أو الرزق العتيدُ والمطموعُ فيه الرزقُ المترقَّبُ ، وقيل : الخوف أيضاً من المطر لكنْ الخائفُ منه غيرُ الطامع فيه كالخزّاف والحرّاث ، ويأباه الترتيبُ اللهم إلا أن يتكلف ما أشير إليه من أن المَخوفَ عتيدٌ والمطموعَ فيه مترقَّبٌ ، وانتصابُهما إما على المصدرية أي فتخافون خوفاً وتطمعون طمعاً أو على الحالية من البرق أو المخاطبين بإضمار ذوي أو بجعل المصدرِ بمعنى المفعول أو الفاعل مبالغةً أو على العِلّية بتقدير المضاف أي إرادةَ خوفٍ وطمعٍ ، أو بتأويل الإخافة والإطماعِ ليتّحد فاعلُ العِلة والفعل المعلّل . وأما جعلُ المعلل هي الرؤية التي تتضمنها الإرادةُ على طريقة قول النابغة
وحلّت بيوتي في يَفاعٍ ممنَّع ... تَخال به راعي الحَمولةِ طائرا
حِذاراً على أن لا يُنال معاوني ... ولا نِسوتي حتى يمُتْن حرائرا
أي أحللت بيوتي حِذاراً فلا سبيل إليه لأن ما وقع في معرِض العلةِ الغائية لا سيما الخوفُ لا يصلح علةً لرؤيتهم { وَيُنْشِىء السحاب } الغمامَ المنسحبَ في الجو { الثقال } بالماء وهي جمعُ ثقيلةٍ وُصف بها السحابُ لكونها اسمَ جنسٍ في معنى الجمع والواحدةُ سحابة ، يقال : سحابةٌ ثقيلة وسحاب ثِقال ، كما يقال : امرأة كريمة ونسوة كرام .
{ وَيُسَبّحُ الرعد } أي سامعوه من العباد الراجين للمطر ملتبسين { بِحَمْدِهِ } أي يضِجّون بسبحان الله والحمد لله وإسنادُه إلى الرعد لحمله لهم على ذلك أو يسبح الرعدُ نفسه على أن تسبيحه عبارةٌ عن دلالته على وحدانيته تعالى وفضلِه المستوجبِ لحمده . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : « سُبحانَ مَنْ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بحمدِهِ » وإذا اشتد يقول : « اللهم لا تقتُلْنا بغضبك ولا تُهلِكنا بعذابك وعافِنا قبل ذلك » . وعن علي رضي الله عنه : « سبحان من سبَّحْتَ له » . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن اليهود سألت النبيَّ عليه الصلاة والسلام عن الرعد فقال : « ملَكٌ من الملائكة موكلٌ بالسحاب معه مخاريقُ من نار يسوق السحابَ » وعن الحسن : « خلقٌ من خلق الله تعالى ليس بملك » { والملئكة } أي يسبح الملائكة { مِنْ خِيفَتِهِ } من هيبته وإجلالِه جل جلاله ، وقيل : الضمير للرعد .
{ وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء } فيُهلكه بذلك { وَهُمْ } أي الكفرةُ المخاطبون في قوله تعالى : { هُوَ الذى يُرِيكُمُ البرق } وقد التُفت إلى الغَيبة إيذاناً بإسقاطهم عن درجة الخِطاب وإعراضاً عنهم وتعديداً لجناياتهم لدى كلِّ من يستحق الخطابَ كأنه قيل : هو الذي يفعل أمثالَ هذه الأفاعيلِ العجيبةِ من إراءة البرقِ وإنشاء السحابِ الثقالِ وإرسالِ الصواعقِ الدالةِ على كمال علمِه وقدرتِه ويعقِلُها مَنْ يعقِلها من المؤمنين ، أو الرعدُ نفسه أو الملكُ الموكلُ به والملائكةُ ويعملون بموجب ذلك من التسبيح والحمد والخوفِ من هيبته تعالى وهم أي الكفرة الذين حُكيت هَناتُهم مع ذلهم وهوانهم وحقارةِ شأنهم { يجادلون فِى الله } أي في شأنه تعالى حيث يفعلون ما يفعلون من إنكار البعثِ واستعجالِ العذاب استهزاءً واقتراحِ الآيات ، فالواو لعطف الجملةِ على ما قبلها من قوله تعالى :(3/487)
{ هُوَ الذى يُرِيكُمُ البرق } الخ ، أو على قوله : { الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ } الخ ، وأما العطفُ على قوله تعالى : { وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ } كما قيل فلا مجال له لأن قوله تعالى : { الله يَعْلَمُ } الخ ، استئنافٌ لبيان بطلانِ قولهِم ذلك ونظائرِه من استعجال العذابِ وإنكار البعثِ قاطعٌ لعطف ما بعده على ما قبله ، وقيل : للحال أي فيصيب بالصواعق من يشاء وهم في الجدال .
( وقد أريد به ما أصاب «أربدَ بنَ ربيعةَ» أخا لبيد فإنه أقبل مع «عامر بن الطفيل» إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغيانه الغوائلَ فدخلا المسجد وهو عليه الصلاة والسلام جالسٌ في نفر من الأصحاب رضي الله عنهم فاستشرفوا لجمال عامر وكان من أجمل الناسِ وقد كان أوصى إلى أربد أنه إذا رأيتَني أكلم محمداً عليه الصلاة والسلام فدُرْ من خلفه واضرِبْه بالسيف ، فجعل يكلمه عليه الصلاة والسلام فدار أربد من خلفه عليه الصلاة والسلام فاخترط من سيفه شبراً فحبسه الله تعالى فلم يقدِر على سلّه وجعل عامرٌ يومىء إليه فرأى النبيُّ عليه الصلاة والسلام الحالَ ، فقال : " اللهم اكفِنيهما بما شئت " فأرسل الله عز وجل على أربد صاعقةً في يوم صحْوٍ صائفٍ فأحرقتْه وولى عامرٌ هارباً فنزل في بيت امرأة سَلولية فلما أصبح ضم عليه سلاحَه وتغيّر لونُه وركب فرسه فجعل يركُض في الصحراء ويقول : ابرُزْ يا ملكَ الموت ، ويقول الشعر ، ويقول : واللاتِ لئن أصْحر لي محمد وصاحبُه يعني ملك الموت لأنفُذنَّهما برمحي ، فأرسل الله تعالى ملكاً فلطَمه بجناحه فأرداه في التراب فخرجت على ركبته في الوقت غُدةٌ عظيمة فعاد إلى بيت السَّلولية وهو يقول : غُدة كغدة البعير وموتٌ في بيت سَلولية ، ثم عاد بفرسه فركبه فأجراه حتى مات على ظهره ) . وقيل : أريد به ما روي عن الحسن ( أنه كان رجلٌ من طواغيت العرب فبعث النبيُّ عليه الصلاة والسلام نفراً من أصحابه يدعونه إلى الله عز وجل ، فقال لهم : أخبروني عما تدعونني إليه ما هو ومم هو؟ من ذهب ، أم من فضة ، أم من نحاس ، أم من حديد ، أم من دُرّ؟ فاستعظموا مقالتَه فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : ما رأينا رجلاً أكفرَ قلباً ولا أعتى على الله منه ، فقال عليه الصلاة والسلام : " ارجُعوا إليه "(3/488)
فما زاد إلا مقالتَه الأولى وأخبثَ ، فرجعوا إليه عليه الصلاة والسلام وأخبَروه بما صنع ، فقال عليه الصلاة والسلام : « ارجِعوا إليه » فبينما هم عنده ينازعونه إذ ارتفعت سحابةٌ ورعَدت وبرِقت ورمَتْ بصاعقة فاحترق الكافرُ فجاءوا يسعَوْن ليخبروه عليه الصلاة والسلام بالخبر فاستقبلهم الأصحاب فقالوا : احترق صاحبُكم ، قالوا : من أين علمتم؟ قالوا : أُوحيَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ) . { وَهُوَ شَدِيدُ المحال } أي والحالُ أنه شديدُ المماحلة والمماكرةِ لأعدائه من مَحَله إذا كاده وعرّضه للهلاك ، ومنه تمحّل إذا تلكف استعمال الحِيل ، وقيل : هو مُحالٌ من المَحْل بمعنى القوة ، وقيل : مُحوّل من الحول أو الحيلة أُعلَّ على غير قياس ، ويعضُده أنه قرىء بفتح الميم على أنه مَفعَل من حال يحول إذا احتال ويجوز أن يكون بمعنى الفقار فيكون مثلاً في القوة والقدرة كقولهم : فساعدُ الله أشدُّ وموساه أحدّ .(3/489)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
{ لَهُ دَعْوَةُ الحق } أي الدعوةُ الثابتة الواقعة في محلها المجابةُ عند وقوعِها ، والإضافةُ للإيذان بملابستها للحق واختصاصِها به وكونِه بمعزل من شائبة البطلانِ والضَّياع والضلال كما يقال كلمةُ الحق ، وقيل : له دعوةُ الله سبحانه أي الدعوةُ اللائقة بحضرته كما في قوله عليه الصلاة والسلام : « فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله » والتعرضُ لوصف الحقّية لتربية معنى الاستجابةِ ، والأولى هو الأولُ لقوله تعالى : { وَمَا دُعَاء الكافرين إِلاَّ فِى ضلال } وتعلقُ الجملتين بما قبلهما من حيث أن إهلاكَ أربد وعامرٍ مِحالٌ من الله تعالى وإجابةٌ لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما إن كانت الآية نزلت في شأنهما أو من حيث إنه وعيدٌ للكفرة على مجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلول مِحالِه بهم وتحذيرٌ لهم بإجابة دعوتِه عليهم { والذين يَدْعُونَ } أي الأصنامَ الذين يدعوهم المشركون فحُذف العائد { مِن دُونِهِ } من دون الله عز وجل { لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء } من طلباتهم { إِلاَّ كباسط كَفَّيْهِ إِلَى الماء } أي إلا استجابةً كائنة كاستجابه الماء لمن بسَط كفيه إليه من بعيد ، فالاستجابةُ مصدرٌ من المبني للفاعل على ما يقتضيه الفعلُ الظاهر أعني لا يستجيبون ، ويجوز أن يكون من المبنيِّ للمفعول ويُضاف إلى الباسط بناءً على استلزام المصدرِ من المنبي للفاعل للمصدر من المبني للمفعول وجوداً وعدماً ، فكأنه قيل : لا يستجيبون لهم بشيء فلا يستجاب لهم إلا استجابةً كائنة كاستجابة من بسط كفيه إلى الماء كما في قوله
وعضةُ دهرٍ يا ابنَ مروانَ لم تدَع ... من المال إلا مُسْحتٌ أو مجلِّفُ
أي لم تدع فلم يبق إلا مسحتٌ أو مجلِّف { لِيَبْلُغَ } أي الماءُ بنفسه من غير أن يؤخذ بشيء من إناء ونحوه { فَاهُ وَمَا هُوَ } أي الماء { بِبَالِغِهِ } ببالغ فيه أبداً لكونه جماداً لا يشعُر بعطشه ولا ببسط يدِه إليه فضلاً عن الاستطاعة لما أراده من البلوغ إلى فيه ، شبّه حالُ المشركين في عدم حصولهم في دعاء آلهتِهم على شيء أصلاً وركاكةِ رأيهم في ذلك بحال عطشانَ هائمٍ لا يدري ما يفعل قد بسط كفيه من بعيد إلى الماء يبغي وصولَه إلى فيه من غير ملاحظةِ التشبيه في جميع مفرداتِ الأطراف ، فإن الماءَ في نفسه شيءٌ نافع بخلاف آلهتِهم ، والمرادُ نفيُ الاستجابةِ رأساً إلا أنه قد أُخرج الكلامُ مُخرج التهكم بهم فقيل : لا يستجيبون لهم شيئاً من الاستجابة إلا استجابةً كائنة في هذه الصورةِ التي ليست فيها شائبةُ الاستجابة قطعاً فهو في الحقيقة من باب التعليقِ بالمحال ، وقرىء تدعون بالتاء وكباسطٍ بالتنوين { وَمَا دُعَاء الكافرين إِلاَّ فِى ضلال } أي ذهاب وضَياعٍ وخَسار .(3/490)
{ وَللَّهِ } وحده { يَسْجُدُ } يخضع وينقاد لا لشيء غيرِه استقلالاً ولا اشتراكاً فالقصرُ ينتظم القلبَ والإفراد { مَن فِى السموات والأرض } من الملائكة والثقلين { طَوْعًا وَكَرْهًا } أي طائعين وكارهين وانقيادَ طوعٍ وكُرهٍ ، أو حالَ طوعٍ وكره ، فإن خضوعَ الكلّ لعظمة الله عز وجل وانقيادَهم لإحداث ما أراده فيهم من أحكام التكوين والإعدام شاءوا أو أبَوا ، وعدمُ مداخلةِ حكمِ غيره بل غيرِ حكمِه تعالى في تلك الشؤون مما لا يخفى على أحد { وظلالهم } أي وتنقاد له تعالى ظلالُ مَنْ له ظلٌ منهم أعني الإنسَ حيث تتصرف على مشيئته وتتأتّى لإرادته في الامتداد والتقلّص والفيء والزوال { بالغدو والأصال } ظرفٌ للسجود المقدّر أو حالٌ من الظلال ، وتخصيصُ الوقتين بالذكر مع أن انقيادها متحققٌ في جميع أوقات وجودِها لظهور ذلك فيهما ، والغدو جمع غَداة كفتيّ في جمع فتاة والآصالُ جمع أصيل ، وقيل : جمع أُصُل وهو جمعُ أصيل ، وهو ما بين العصر والمغربِ ، وقيل : الغدوّ مصدرٌ ويؤيده أنه قرىء والإيصالِ أي الدخول في الأصيل . هذا وقد قيل إن المرادَ حقيقةُ السجود فإن الكفرة حال الاضطرارِ وهو المعنيُّ بقوله تعالى : { وَكَرْهًا } يخُصّون السجودَ به سبحانه ، قال تعالى : { فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } ولا يبعُد أن يخلُق الله تعالى في الظلال أفهاماً وعقولاً بها تسجُد لله سبحانه كما خلقها للجبال حتى اشتغلت بالتسبيح وظهر فيها آثارُ التجلّي كما قاله ابن الأنباري ، ويجوز أن يراد بسجودها ما يشاهَد فيها من هيئة السجود تبعاً لأصحابها ، وأنت خبير بأن اختصاصَ سجودِ الكافر حالة الضرورةِ والشدة بالله سبحانه لا يُجدي فإن سجودَهم لأصنامهم حالةَ الرخاء مُخِلُّ بالقصر المستفادِ من تقديم الجار والمجرور فالوجهُ حملُ السجودِ على الانقياد ، ولأن تحقيقَ انقيادِ الكل في الإبداع والإعدامِ له تعالى أدخلُ في التوبيخ على اتخاذ أولياءَ من دونه من تحقيق سجودِهم له تعالى ، وتخصيصُ انقيادِ العقلاءِ بالذكر مع كون غيرِهم أيضاً كذلك لأنهم العُمدة وانقيادهم دليل انقيادُ غيرهم على أنه بين ذلك بقوله عز وجل :
{ قُلْ مَن رَّبُّ السموات والأرض } فإنه لتحقيق أن خالقَهما ومتولّيَ أمرهما مع ما فيهما على الإطلاق هو الله سبحانه وقوله تعالى : { قُلِ الله } أمرٌ بالجواب من قِبله عليه الصلاة والسلام إشعاراً بأنه متعيِّن للجوابية فهو والخصمُ في تقريره سواءٌ ، أو أمرٌ بحكاية اعترافِهم إيذاناً بأنه أمرٌ لا بد لهم من ذلك كأنه قيل : احْكِ اعترافَهم فبكِّتْهم بما يلزمهم من الحجة وألقِمْهم الحجَر ، أو أمرٌ بتلقينهم ذلك إن تلعثموا في الجواب حذراً من الإلزام فإنهم لا يتمالكون إذ ذاك ولا يقدرون على إنكاره { قُلْ } إلزاماً لهم وتبكيتاً { أفاتخذتم } لأنفسكم والهمزةُ لإنكار الواقعِ كما في قولك : أضربت أباك؟ لا لإنكار الوقوع كما في قولك : أأضرب أبي؟ والفاء للعطف على مقدر بعد الهمزةِ أي أعلمتم أن ربهما هو الله الذي ينقاد لأمره مَنْ فيهما كافةً فاتخذتم عَقيبَه { مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } عاجزين { لاَ يَمْلِكُونَ لانْفُسِهِمْ نَفْعًا } يستجلبونه { وَلاَ ضَرّا } يدفعونه عن أنفسهم فضلاً عن القدرة على جلب النفعِ لغيره ودفع الضررِ عنه لا على أن يكون الإنكارُ متوجِّهاً إلى المعطوفَين معاً كما في قوله تعالى : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } إذا قُدّر المعطوف عليه ألا تسمعون ، بل إلى ترتب الثاني على الأول مع وجوب أن يترتبَ عليه نقيضُه كما إذا قدّر أتسمعون ، والمعنى أبعد أن علِمتم أن ربَّهما هو الله جل جلاله اتخذتم من دونه أولياءَ عجَزَةً؟ والحال أن قضيةَ العلم بذلك إنما هو الاقتصارُ على تولّيه فعكستم الأمر ، كما في قوله تعالى :(3/491)
{ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى } ووصفُ الأولياء هاهنا بعدم المالكية للنفع والضر في ترشيح الإنكارِ وتأكيدهِ كتقييد الاتخاذِ هناك بالجملة الحالية أعني قولَه تعالى : { وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } فإن كلاًّ منهما مما ينفي الاتخاذَ المذكور ويؤكد إنكاره .
{ قُلْ } تصوير لآرائهم الركيكة بصورة المحسوس { هَلْ يَسْتَوِى الأعمى } الذي هو المشركُ الجاهل بالعبادة ومستحقِها { والبصير } الذي هو الموحِّد العالم بذلك أو الأولُ عبارةٌ عن المعبود الغافل والثاني إشارةٌ إلى المعبود العالمِ بكل شيء { أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظلمات } التي هي عبارةٌ عن الكفر والضلال { والنور } الذي هو عبارةٌ عن التوحيد والإيمان ، وقرىء بالياء .
ولمّا دل النظمُ الكريم على أن الكفرةَ فيما فعلوا من اتخاذ الأصنامِ أولياءَ من دون الله سبحانه في الضلال المحضِ والخطأ البحت بحيث لا يخفى بطلانُه على أحد وأنهم في ذلك كالأعمى الذي لا يهتدي إلى شيء أصلاً وليس لهم في ذلك شبهةٌ تصلح أن تكون منشأً لغلطهم وخطئهم فضلاً عن الحجة أُكّد ذلك فقيل : { أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ } أي بل أجعلوا له { شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } سبحانه ، والهمزةُ لإنكار الوقوعِ مع وقوعه وقوله : { خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } هو الذي يتوجه إليه الإنكار وأما نفسُ الجعل فهو واقعٌ لا يتعلق به الإنكارُ بهذا المعنى والمعنى أنهم لم يجعلوا لله تعالى شركاءَ خلقوا كخلقه { فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ } بسبب ذلك وقالوا : هؤلاء خلقوا كخلقه تعالى فاستحقوا بذلك العبادةَ كما استحقها ليكونَ ذلك منشأً لخطئهم بل إنما جعلوا له شركاءَ ما هو بمعزل من ذلك بالمرة ، وفيه ما لا يخفى من التعريض بركاكة رأيِهم والتهكم بهم { قُلْ } تحقيقاً للحق وإرشاداً لهم إليه { الله خالق كُلّ شَىْء } كافةً لا خالقَ سواه فيشاركَه في استحقاق العبادة { وَهُوَ الواحد } المتوحّدُ بالألوهية المتفرّدُ بالربوبية { القهار } لكل ما سواه فكيف يُتوهّم أن يكون له شريكٌ؟ وبعد ما مُثّل المشركُ والشركُ بالأعمى والظلماتِ ، والموحدُ والتوحيدُ بالبصير والنور مُثّل الحقُّ الذي هو القرآنُ العظيم في فيضانه من جناب القدسِ على قلوب خاليةٍ عنه متفاوتةِ الاستعداد وفي جريانه عليها ملاحظةً وحفظاً وعلى الألسنة مذاكرةً وتلاوةً وفي ثباته فيهما مع كونه مُمِدّاً لحياتها الروحانية وما يتلوها من الملكات السنية والأعمالِ المرضيّة بالماء النازلِ من السماء السائلِ في أودية يابسةٍ لم تجرِ عادتُها بذلك سيلاناً مقدراً بمقدار اقتضتْه الحكمةُ في إحياء الأرضِ وما عليها الباقي فيها حسبما يدور عليه منافعُ الناس ، وفي كونه حليةً تتحلّى به النفوسُ وتصل إلى البهجة الأبدية ومتاعاً يُتمتّع به في المعاش والمعاد بالذهب والفضة وسائر الفلزّات التي يُتخذ منها أنواعُ الآلات والأدواتِ وتبقى منتَفعاً بها مدةً طويلةً ، ومُثّل الباطلُ الذي ابتُليَ به الكفرةُ لقصور نظرِهم بما يظهر فيهما من غير مداخلةٍ له فيهما وإخلالٍ بصفائهما من الزبد الرابي فوقهما المضمحلّ سريعاً فقيل :
{ أَنزَلَ مِنَ السماء } أي من جهتها { مَاء } أي كثيراً أو نوعاً منه وهو ماءُ المطر { فَسَالَتْ } بذلك { أَوْدِيَةٌ } واقعةٌ مواقعه لا جميعُ الأودية إذ الأمطارُ لا تستوعبُ الأقطارَ وهو جمعُ وادٍ وهو مفرَجٌ بين جبال أو تلالٍ أو آكام على الشذوذ كنادٍ وأندية وناج وأنجية ، قالوا : وجهُه أن فاعلا يجيء بمعنى فعيل ، كناصر ونصير ، وشاهد وشهيد ، وعالم وعليم ، وحيث جُمع فعيل على أفعلة كجريب وأجرِبة جُمع فاعلٌ أيضاً على أفعلة ، فإن أريد بها ما يسيل فيها مجازاً فإسنادُ السيلانِ إليها حقيقيٌّ وإن أريد معناها الحقيقيُّ فالإسنادُ مجازيٌّ كما في جرى النهرُ ، وإيثارُ التمثيل بها على الأنهار المستمرةِ الجريانِ لوضوح المماثلةِ بين شأنها وشأنِ ما مُثّل بها كما أشير إليه { بِقَدَرِهَا } أي سالت ملتبسةً بمقدارها الذي عينه الله تعالى واقتضتْه حكمتُه في نفع الناس أو بمقدارها المتفاوتِ قلةً وكثرةً بحسب تفاوتِ محالّها صِغَراً وكِبَراً لا بكونها مالئةً لها منطبقةً عليها بل بمجرد قلّتها بِصغرها المستلزِمِ لقلة مواردِ الماء وكثرتها بكِبَرها المستدعي لكثرة الموارد ، فإن موردَ السيل الجاري في الوادي الصغير أقلُّ من مورد السيل الجاري في الوادي الكبير ، هذا إن أريد بالأودية ما يسيل فيها ، أما إن أريد بها معناها الحقيقيُّ فالمعنى سالت مياهُها بقدر تلك الأوديةِ على نحو ما عرفته آنفاً ، أو يراد بضميرها مياهُها بطريق الاستخدام ويراد بقدَرها ما ذكر أولاً من المعنيين { فاحتمل السيل } الجاري في تلك الأودية أي حملَ معه { زَبَدًا } أي غُثاء ورَغوةً ، وإنما وُصف ذلك بقوله تعالى { رَّابِيًا } أي عالياً منتفخاً فوقه بياناً لما أريد بالاحتمال المحتمَلِ لكون الحميلِ غيرَ طافٍ كالأشجار الثقيلة وإنما لم يُدفع ذلك الاحتمالُ بأن يقال : فاحتمل السيلُ فوقه للإيذان بأن تلك الفوقيةَ مقتضى شأنِ الزبدِ لا من جهة المحتمَل تحقيقاً للمماثلة بينه وبين ما مُثّل به من الباطل الذي شأنُه الظهورُ في بادي الرأي من غير مداخلةٍ في الحق { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النار } أي يفعلون الإيقادَ عليه كائناً في النار والضميرُ للناس أُضمر مع عدم سبق الذكرِ لظهوره وقرىء بالخطاب { ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ متاع } أي لطلب اتخاذِ حليةٍ وهي ما يُتزيّن ويُتجمّل به كالحِليِّ المتخَذَة من الذهب والفضة أو اتخاذِ متاعٍ وهو ما يتمتع به من الأواني والآلات المتخَذةِ من الرصاص والحديد وغيرِ ذلك من الفِلزّات { زَبَدٌ } خبث { مّثْلِهِ } مثلُ ما ذكر من زبد الماء في كونه رابياً فوقه ، فقوله : زبدٌ مبتدأٌ خبرُه الظرفُ المقدم ، ومن ابتدائيه دالةٌ على مجرد كونِه مبتدأ وناشئاً منه لا تبعيضيةٌ معرِبة عن كونه بعضاً منه كما قيل ، لإخلال ذلك بالتمثيل ، وفي التعبير عن ذلك بالموصول والتعرضِ لما في حيّز الصلةِ من إيقاد النار عليه جرْيٌ على سنن الكِبرياء بإظهار التهاونِ به كما في قوله تعالى :(3/492)
{ فَأَوْقِدْ لِى ياهامان ياهامان عَلَى الطين } وإشارةٌ إلى كيفية حصولِ الزبدِ منه بذوبانه ، وفي زيادة ( في النار ) إشعارٌ بالمبالغة في الاعتمال للإذابة وحصولِ الزبد كما أشير إليه ، وعدمُ التعرض لإخراجه من الأرض لعدم دخلِ ذلك العنوانِ في التمثيل كما أن لعنوان إنزالِ الماءِ من السماء دخلاً فيه حسبما فصّل فيما سلف بل له إخلالٌ بذلك .
{ كذلك } أي مثلَ ذلك الضربِ البديعِ المشتملِ على نُكت رائقةٍ { يَضْرِبُ الله الحق والباطل } أي مثَلَ الحق ومثل الباطل ، والحذفُ للإنباء عن كمال التماثل بين الممثَّل والممثلِ به كأنه المثَلَ المضروبَ عينُ الحقِّ والباطلِ ، وبعد تحقيق التمثيلِ مع الإيماء في تضاعيف ذلك إلى وجوه المماثلة على أبدع وجوهٍ وآنقِها حسبما أشير إليه في مواقعها بيِّن عاقبةُ كل من الممثّلين على وجه التمثيل مع التصريح ببعض ما به المماثلة من الذهاب والبقاءِ تتمةً للغرض من التمثيل من الحث على اتباع الحقِّ الثابتِ والردْعِ عن الباطل الزائد فقيل : { فَأَمَّا الزبد } من كلَ منهما { فَيَذْهَبُ جُفَاء } أي مرمياً به ، وقرىء جُفالاً والمعنى واحد { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس } منهما كالماء الصافي والفِلزِّ الخالص { فَيَمْكُثُ فِى الأرض } أما الماء فيثبت بعضُه في مناقعه ويسلك بعضه في عروق الأرضِ إلى العيون والقنا والآبار وأما الفلزُّ فيصاغ من بعضه أنواعُ الحِليِّ ويتخذ من بعضه أصنافُ الآلات والأدوات فيُنتفع بكل من ذلك أنواعَ الانتفاعات مدةً طويلة ، فالمرادُ بالمكث في الأرض ما هو أعمُّ من المكث في نفسها ومن البقاء في أيدي المتقلّبين فيها وتغييرُ ترتيبِ اللفِّ الواقعِ في الفذْلكة الموافقِ للترتيب الواقع في التمثيلِ لمراعاة الملاءمةِ بين حالتي الذهاب والبقاءِ وبين ذكرَيهما فإن المعتبَر إنما هو بقاءُ الباقي بعد ذهاب الذاهبِ لا قبله .(3/493)
{ كذلك يَضْرِبُ الله } أي مثلَ ذلك الضرب العجيبِ يضرب { الأمثال } في كل باب إظهاراً لكمال اللطفِ والعنايةِ في الإرشاد والهداية ، وفيه تفخيمٌ لشأن هذا التمثيلِ وتأكيدٌ لقوله : { كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل } إما باعتبار ابتناءِ هذا التمثيلِ الأول أو بجعل ذلك إشارةً إليهما جميعاً ، وبعد ما بُيِّن شأنُ كل من الحق والباطلِ حالاً ومآلاً أُكملَ بيانٍ شُرع في بيان حالِ أهلِ كل منهما مآلاً تكميلاً للدعوة ترغيباً وترهيباً فقيل :
{ لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبّهِمُ } إذ دعاهم إلى الحق بفنون الدعوةِ التي من جملتها ضربُ الأمثال فإنه ألطفُ ذريعةٍ إلى تفهيم القلوب الغبيةِ وأقوى وسيلةٍ إلى تسخير النفوسِ الأبية ، كيف لا وهو تصويرٌ للمعقول بصورة المحسوسِ وإبرازٌ لأوابد المعاني في هيئة المأنوس فأيُّ دعوةٍ أولى منه بالاستجابة والقَبول { الحسنى } أي المثوبةُ الحسنى وهي الجنة { والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ } وعاندوا الحقَّ الجليَّ { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الأرض } من أصناف الأموال { جَمِيعاً } بحيث لم يشِذَّ منه شاذٌّ في أقطارها أو مجموعاً غيرَ متفرقٍ بحسب الأزمان { وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ } أي بما في الأرض ومثلَه معه جميعاً ليتخلّصوا عما بهم ، وفيه من تهويل ما يلقاهم ما لا يحيط به البيانُ ، فالموصولُ مبتدأٌ والشرطيةُ كما هي خبرُه لكن لا على أنها وضُعت موضِعَ السوآى فوقعت في مقابلة الحُسنى الواقعةِ في القرينة الأولى لمراعاة حسنِ المقابلة فصار كأنه قيل : وللذين لم يستجيبوا له السوآى كما يوهم ، فإن الشرطيةَ وإن دلت على كمال سوءِ حالِهم لكنها بمعزل من القيام مقامَ لفظ السوآى مصحوباً باللام الداخلةِ على الموصول أو ضميرِه ، وعليه يدور حصولُ المرام ، وإنما الواقعُ في تلك المقابلة سوءُ الحساب في قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوء الحساب } وحيث كان اسمُ الإشارة الواقعُ مبتدأً في هذه الجملة عبارةً عن الموصول الواقعِ مبتدأً في الجملة السابقة كان خبرُها أعني الجملةَ الظرفية خبراً عن الموصول في الحقيقة ومبيِّناً لإبهام مضمونِ الشرطيةِ الواقعةِ خبراً عنه أولاً ، ولذلك تُرك العطفُ فصار كأنه قيل : والذين لم يستجيبوا له لهم سوءُ الحساب ، وذلك في قوة أن يقال : وللذين لم يستجيبوا له لهم سوءُ الحساب مع زيادة تأكيدٍ فتم حسنُ المقابلة على أبلغ وجهٍ وآكدِه ، ثم بيِّن مؤدى ذلك فقيل : { وَمَأْوَاهُمُ } أي مرجعهم { جَهَنَّمَ } وفيه نوعُ تأكيد لتفسير الحسنى بالجنة { وَبِئْسَ المهاد } أي المستقرُّ ، والمخصوصُ بالذم محذوفٌ ، وقيل : اللام في قوله تعالى : { لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبّهِمُ } متعلقةٌ بقوله : { يَضْرِبُ الله الامثال } أي الأمثالَ السالفةَ وقوله : { الحسنى } صفةٌ للمصدر أي استجابوا الاستجابةَ الحسنى وقوله : { والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ } معطوفٌ على الموصول الأولِ ، وقوله : لو أن لهم الخ ، كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيان ما أُعدّ لغير المستجيبين من العذاب ، والمعنى كذلك يضرب الله الأمثالَ للمؤمنين المستجيبين والكافرين المعاندين ، أي هما مثلاً الفريقين .(3/494)
وأنت خبير بأن عنوانَ الاستجابة وعدمَها لا مناسبة بينه وبين ما يدور عليه أمرُ التمثيل وأن الاستعمالَ المستفيضَ دخولُ اللامِ على من يُقصد تذكيره بالمثَل ، نعم قد يُستعمل في هذا المعنى أيضاً كما في قوله سبحانه : { ضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ * امرأة فِرْعَوْنَ إِذْ } ونظائرِه ، على أن بعضَ الأمثالِ المضروبة لا سيما المثلُ الأخيرُ الموصول بالكلام ليس مثلَ الفريقين بل مثلٌ للحق والباطل ولا مساغ لجعل الفريقين مضروباً لهم أيضاً بأن يُجعل في حكم أن يقال : كذلك يضربُ الله الأمثالَ للناس إذ لا وجه حينئذ لتنويعهم إلى المستجيبين وغيرِ المستجيبين فتأمل .(3/495)
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)
{ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ } من القرآن الذي مُثّل بالماء المنزل من السماء والإبريز الخالصِ في المنفعة والجدوى { الحق } الذي لا حق وراءه أو الحقُّ الذي أشير إليه بالأمثال المضروبة فيستجيبَ له { كَمَنْ هُوَ أعمى } عمَى القلبِ لا يشاهده وهو نارٌ على علَمٍ ولا يقدر قدرَه وهو في أقصى مراتب العلوِّ والعِظَم فيبقى حائراً في ظلمات الجهلِ وغياهبِ الضلال أو لا يتذكر بما ضرب من الأمثال أي كمن لا يعلم ذلك إلا أنه أريد زيادةُ تقبيحِ حالِه فعبر عنه بالأعمى ، وإيرادُ الفاء بعد الهمزةِ لتوجيه الإنكار إلى ترتيب توهمِ المماثلةِ على ظهور حال كلَ منهما بما ضُرب من الأمثال وبين المصيرِ والمآل ، كأنه قيل : أبعد ما بُين حالُ كل من الفريقين ومآلُهما يُتوهّم المماثلةُ بينهما ثم استؤنف فقيل : { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ } بما ذكر من المذكّرات فيقف على ما بينهما من التفاوت والتنائي { أُوْلُو الألباب } أي العقولِ الخالصةِ المبرّأة من مشايعة الإلْفِ ومعارضةِ الوهم .
{ الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله } بما عقَدوا على أنفسهم من الاعتراف بربوبيته تعالى حين قالوا : بلى ، أو ما عهِد الله عليهم في كتبه { وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق } ما وثّقوه على أنفسهم وقبِلوه من الإيمان بالله وغيرِه من المواثيق بينهم وبين الله وبين العبادِ وهو تعميمٌ بعد تخصيصٍ ، وفيه تأكيدٌ للاستمرار المفهوم من صيغة المستقبل .(3/496)
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
{ والذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } من الرحِم وموالاةِ المؤمنين والإيمانِ بجميع الأنبياء المجمعين على الحق من غير تفريقٍ بين أحد منهم ، ويندرج فيه مراعاةُ جميعِ حقوقِ الناس في حقوق كل ما يتعلق بهم من الهرّ والدَّجاج { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } خشيةَ جلالٍ وهَيْبةٍ فلا يعصونه فيما أمر به { وَيَخَافُونَ سوء الحِسَابِ } فيحاسبون أنفسَهم قبل أن يحاسَبوا ، وفيه دَلالةٌ على كمال فظاعتِه حسبما ذكر فيما قبل .
{ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ } على كل ما تكره النفسُ من الأفعال والتروك { ابتغاء وَجْهِ رَبّهِمْ } طلباً لرضاه خاصة من غير أن ينظروا إلى جانب الخلقِ رياءً وسُمعةً ولا إلى جانب النفس زينةً وعُجْباً ، وحيث كان الصبرُ على الوجه المذكور مَلاكَ الأمرِ في كل ما ذكر من الصلاة السابقة واللاحقةِ أُورد على صيغة الماضي اعتناءً بشأنه ودِلالةً على وجوب تحققِه فإن ذلك مما لا بد منه إما في أنفس الصلات كما فيما عدا الأولى والرابعةِ والخامسةِ أو في إظهار أحكامِها كما في الصلات الثلاثِ المذكورات فإنها وإن استغنت عن الصبر في أنفسها حيث لا مشقةَ على النفس في الاعتراف بالربوبية والخشيةِ والخوف لكن إظهارَ أحكامِها والجريَ على موجبها غيرُ خالٍ عن الاحتياج إليه { وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ } المفروضة { وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } أي بعضَه الذي يجب عليهم إنفاقُه { سِرّا } لمن لم يُعرفْ بالمال أو لمن لا يتهم بترك الزكاةِ أو عند إنفاقِه وإعطائه مَنْ تمنعه المروءةُ من أخذه ظاهراً { وَعَلاَنِيَةً } لمن لم يكن كما ذكر أو الأول في التطوع والثاني في الفرض .
{ وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة } أي يُجازون الإساءةَ بالإحسان أو يُتْبعون الحسنةَ السيئة فتمحوها . عن ابن عباس رضي الله عنهما : يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سييء غيرِهم . وعن الحسن : إذا حُرموا أعطَوا وإذا ظُلموا عفَوا وإذا قُطعوا وصلوا . وعن ابن كيسان : إذا أذنبوا تابوا . وقيل : إذا رأوا منكراً أمروا بتغييره . وتقديمُ المجرور على المنصوب لإظهار كمالِ العنايةِ بالحسنة { أولئك } المنعوتون بالنعوت الجليلةِ والملكات الجميلةِ وهو مبتدأٌ خبُره الجملةُ الظرفية أعني قوله تعالى : { لَهُمْ عقبى الدار } أي عاقبةُ الدنيا وما ينبغي أن يكون مآلُ أمرِ أهلها وهي الجنة ، وقيل : الجارُ والمجرور خبرٌ لأولئك و ( عقبى الدار ) فاعل الاستقرار وأياً ما كان فليس فيه قصرٌ حتى يرِد أن بعضَ ما في حيز الصلةِ ليس من العزائم التي يُخلّ إخلالُها بالموصول إلى حسن العاقبة ، والجملةُ خبرٌ للموصولات المتعاطفةِ ، صفاتٌ لأولي الألباب عن طريقة المدحِ من غير أن يُقصد أن يكون للصلات المذكورة مدخلٌ في التذكر .
{ جنات عَدْنٍ } بدلٌ من عُقبى الدار أو مبتدأٌ خبرُه { يَدْخُلُونَهَا } والعدْنُ الإقامةُ ثم صار علماً لجنة من الجنات أي جناتٌ يقيمون فيها ، وقيل : هو بُطنانُ الجنة { وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ } جمعُ أبَوَيْ كل واحد منهم فكأنه قيل : من آبائهم وأمهاتهم { وأزواجهم وذرياتهم } وهو عطفٌ على المرفوع في يدخلون ، وإنما ساغ ذلك للفصل بالضمير الآخر ، أو مفعولٌ معه ، والمعنى إنه يُلحق بهم مَنْ صلح من أهلهم وإن لم يبلُغْ مبلغَ فضلِهم تبعاً لهم تعظيماً لشأنهم ، وهو دليلٌ على أنه الدرجةَ تعلو بالشفاعة وأن الموصوفَ بتلك الصفات يُقرن بعضُهم ببعض لما بينهم من القرابة والوصلة في دخول الجنةِ زيادةً في أُنسهم ، وفي التقييد بالصلاح قطعٌ للأطماع الفارغة لمن يتمسك بمجرد حبل الأنساب { والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ } من أبواب المنازل أو من أبواب الفتوحِ والتحف قائلين : { سلام عَلَيْكُم } بشارةٌ لهم بدوام السلامة { بِمَا صَبَرْتُمْ } متعلق بعليكم أو بمحذوف أي هذه الكرامةُ العظمى بما صبرتم أي بسبب صبركم أو بدلُ ما احتملتم من مشاقّ الصبرِ ومتاعبِه ، والمعنى لئن تعِبتم في الدنيا لقد استرحتم الساعةَ ، وتخصيصُ الصبر بما ذكر من بين الصلاتِ السابقةِ لما قدّمناه من أن له دخلاً في كل منها ومزيةً زائدةً من حيث إنه ملاكُ الأمر في كل منها وأن شيئاً منها لا يعتد به إلا بأن يكون لابتغاء وجهِ الربّ تعالى وتقدس { فَنِعْمَ عقبى الدار } أي فنعم عقبي الدارِ الجنةُ ، وقرىء بفتح النون والأصل نَعَم فسُكّن العين بنقل حركتها إلى النون تارة وبدونه أخرى .(3/497)
وعن النبي عليه السلام أنه كان يأتي قبورَ الشهداء على رأس كلّ حولٍ فيقول : « سلامٌ عليكم بما صبرتُم فنَعِمَ عُقبى الدَّارِ » وكذا عن الخلفاء الأربعةِ رضوانُ الله عليهم أجمعين .
{ والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله } أريد بهم مَنْ يقابل الأولين ويعاندهم في الاتصاف بنقائض صفاتِهم { مِن بَعْدِ ميثاقه } من بعدما أوثقوه من الاعتراف والقَبول { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } من الأيمان بجميع الأنبياءِ المجمعين على الحق حيث يؤمنون ببعضهم ويكفرون ببعضهم ، ومن حقوق الأرحام وموالاةِ المؤمنين وغيرِ ذلك مما لا يراعون حقوقَه من الأمور المعدودةِ فيما سلف ، وإنما لم يتعرّض لنفي الخشيةِ والخوفِ عنهم صريحاً لِدلالة النقضِ والقطع على ذلك ، وأما عدمُ التعرض لنفي الصبرِ المذكور فلأنه إنما اعتبر تحققُه في ضمن الحسناتِ المعدودةِ ليقَعْنَ معتدًّا بهن فلا وجه لنفيه عمّن بينه وبين الحسناتِ بعدُ المشرِقين ، كما لا وجه لنفي الصلاةِ والزكاة ممن لا يحوم حول أصلِ الإيمان بالله تعالى فضلاً عن فروع الشرائعِ ، وإن أريد بالإنفاق التطوعُ فنفيُه مندرجٌ تحت قطعِ ما أمر الله تعالى بوصله ، وأما درءُ السيئة بالحسنة فانتفاؤه عنهم ظاهرٌ مما سبق ولحِق فإن مَنْ يجازي إحسانَه عز وجل بنقض العهد ومخالفةِ الأمر ويباشر الفسادَ بدءاً حسبما يحكيه قوله عز وعلا : { وَيُفْسِدُونَ فِى الأرض } أي بالظلم وتهييج الفتنِ كيف يتصور منه مجازاةُ الإساءة بالإحسان على أن ذلك يُشعر بأن له دخلاً في الإفضاء إلى العقوبة التي ينبىء عنها قوله تعالى : { أولئك } الخ ، أي أولئك الموصوفون بما ذكر من القبائح { لَهُمْ } بسبب ذلك { اللعنة } أي الإبعادُ من رحمة الله تعالى { وَلَهُمْ } مع ذلك { سُوء الدار } أي سوءُ عاقبة الدنيا أو عذابُ جهنم فإنها دارُهم ، لأن ترتيبَ الحكمِ على الموصول مُشعرٌ بعلّية الصلةِ له ، ولا يخفى أنه لا دخلَ له في ذلك على أكثر التفاسير ، فإن مجازاةَ السيئةِ بمثلها مأذونٌ فيها .(3/498)
ودفعُ الكلام السييءِ بالحسن وكذا الإعطاءُ عند الظلم والوصلُ عند القطع ليس مما يورِثُ ترْكُه تِبعةً ، وأما ما اعتبر اندراجُه تحت الصلةِ الثانيةِ من الإخلال ببعض الحقوقِ المندوبة فلا ضير في ذلك لأن اعتبارَه من حيث إنه من مستتبعات الإخلال بالعزائم بالكفر ببعض الأنبياءِ وعقوقِ الوالدين وتركِ سائر الحقوق الواجبةِ ، وتكريرُ لهم للتأكيد والإيذانِ باختلافهما واستقلالِ كل منهما في الثبوت .(3/499)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)
{ الله يَبْسُطُ الرزق } أي يوسّعه { لِمَن يَشَاء } من عباده { وَيَقْدِرُ } أي يضيّقه على ما يشاء حسبما تقتضيه الحكمةُ من غير أن يكون لأحد مدخلٌ في ذلك ولا شعورٌ بحكمته فربما يبسُطه للكافر إملاءً واستدراجاً وربما يضّيقه على المؤمن زيادةً لأجره فلا يُغترَّ ببسطه للكافر كما لا يَقنط بقدره المؤمنُ { وَفَرِحُواْ } أي أهلُ مكة فرَحَ أشَرٍ وبطر ، لا فرحَ سرورٍ بفضل الله تعالى { بالحياة الدنيا } وما بُسط لهم فيها من نعيمها { وَمَا الحياة الدنيا } وما يتبعها من النعيم { فِى الاخرة } أي في جنب نعيمِ الآخرة { إِلاَّ متاع } إلا شيءٌ نزْرٌ يُتمتع به كعُجالة الراكب وزادِ الراعي ، والمعنى أنهم رضُوا بحظ الدنيا معرِضين عن نعيم الآخرةِ ، والحالُ أن ما أشِروا به في جنب ما أعرضوا عنه شيءٌ قليل النفع سريعُ النفاد .
{ وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ } أي أهلُ مكة ، وإيثارُ هذه الطريقة على الإضمار مع ظهور إرادتِهم عقيبَ ذكرِ فرحِهم بالحياة الدنيا لذمهم والتسجيلِ عليهم بالكفر فيما حُكي عنهم من قولهم : { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } فإن ذلك في أقصى مراتبِ المكابرةِ والعِناد كأن ما أنزل عليه عليه الصلاة والسلام من الآيات العظامِ الباهرةِ ليس بآية حتى اقترحوا ما تقتضيه الحِكمةُ من الآيات المحسوسةِ التي لا يبقى لأحد بعد ذلك طاقةٌ بعدم القَبول ولذلك أُمر في الجواب بقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء } إضلالَه مشيئةً تابعة للحكمة الداعيةِ إليها أي يخلُق فيه الضلال لصرفه اختيارَه إلى تحصيله ويدعُه منهمكاً فيه لعلمه بأنه لا ينجَع فيه اللطفُ ولا ينفعه الإرشاد ، كمن كان على صفتكم في المكابرة والعِناد وشدةِ الشكيمةِ والغلوِّ في الفساد ، فلا سبيل له إلى الاهتداء ولو جاءتْه كلُّ آية { وَيَهْدِى إِلَيْهِ } أي إلى جنابه العليِّ الكبير هدايةً موصِلةً إليه لا دَلالةً مطلقة على ما يوصِل إليه فإن ذلك غيرُ مختصٍ بالمهتدين ، وفيه من تشريفهم ما لا يوصف { مَنْ أَنَابَ } أقبل إلى الحق وتأملَ في تضاعيف ما نزل من دلائله الواضحةِ ، وحقيقةُ الإنابة الدخولُ في نوبة الخير ، وإيثارُ إيرادِها في الصلة على إيراد المشيئةِ كما في الصلة الأولى لا للتنبيه على الداعي إلى الهداية بل إلى مشيئتها والإشعارِ بما دعا إلى المشيئة الأولى من المكابرة ، وفيه حث للكفرة على الأقلاع عما هم عليه من العتو والعِناد ، وإيثارُ صيغةِ الماضي للإيماء إلى استدعاء الهدايةِ لسابقة الإنابة كما أن إيثارَ صيغةِ المضارعِ في الصلة الأولى للدلالة على استمرار المشيئةِ حسب استمرار مكابرتهم .(3/500)
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
{ الذين ءامَنُواْ } بدل ممن أناب فإن أريد بالهداية الهدايةُ المستمرةُ فالأمر ظاهر لظهور كونِ الإيمانِ مؤدياً إليها ، وإن أريد إحداثُها فالمراد بالذين آمنوا الذين صار أمرُهم إلى الإيمان كما في قوله تعالى : { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } أي الصائرين إلى التقوى وإلا فالإيمانُ لا يؤدّي إلى الهداية نفسها ، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي هم الذين آمنوا أو منصوب على المدح { وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ } أي تستقر وتسكُن { بِذِكْرِ الله } بكلامه المعجزِ الذي لا ريب فيه كقوله تعالى : { وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أنزلناه } وقوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون } ويعلمون أن لا آيةَ أعظمُ منه فيقترحوها ، والعدولُ إلى صيغة المضارعِ لإفادة دوامِ الاطمئنان وتجدّده حسبَ تجدّدِ الآيات وتعددها { أَلاَ بِذِكْرِ الله } وحده { تَطْمَئِنُّ القلوب } دون غيرِه من الأمور التي تميل إليها النفوسُ من الدنيويات ، وهذا ظاهر ، وأما سائرُ المعجزات فالقصرُ من حيث إنها ليست في إفادة الطُّمأنينة بالنسبة إلى من لم يشاهدْها بمثابة القرآنِ المجيدِ فإنه معجزةٌ باقية إلى يوم القيامة يشاهدها كلُّ أحد وتطمئن به القلوبُ كافة ، وفيه إشعارٌ بأن الكفرةَ ليست لهم قلوبٌ تفقه وأفئدتُهم هواءٌ حيث لم يطمئنوا بذكر الله تعالى ولم يعدّوه آيةً وهو أظهرُ الآياتِ وأبهرُها ، وقيل : تطمئن قلوبُهم بذكر رحمتِه ومغفرتِه بعد القلق والاضطرابِ من خشية الله كقوله تعالى : { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله } أو بذكر دلائلِه الدالةِ على وحدانيته أو بذكره جل وعلا أُنساً به وتبتلاً إليه فالمرادُ بالهداية دوامُها واستمرارُها .
{ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } بدلٌ من القلوب على حذف المضافِ بدلَ الكلِّ حسبما رُمز إليه أي قلوبُ الذين آمنوا ، وفيه إيماءٌ إلى أن الإنسان إنما هو القلبُ ، أو مبتدأٌ خبرُه الجملة الدعائيةُ على التأويل أعني قوله : { طوبى لَهُمْ } أو خبرُ مبتدإٍ مضمر ، أو نُصب على المدح فطوبى لهم حالٌ عاملُها الفعلان وطوبى مصدرٌ من طاب كبُشرى وزُلفى ، والواوُ منقلبةٌ من الياء كموقن وموسر وقرأ مكوزة الأعرابي طيبى لتسلم الياء ، والمعنى أصابوا خيراً ومحلُّها النصبُ كسلاماً لك أو الرفعُ على الابتداء وإن كانت نكرةً لكونها في معنى الدعاء كسلامٌ عليك ، يدل على ذلك القراءة في قوله تعالى : { وَحُسْنُ مَئَابٍ } بالنصب والرفع واللامُ في لهم للبيان مثلها في سُقياً لك .
{ كذلك } مثلَ ذلك الإرسالِ العظيمِ الشأن المصحوبِ بهذه المعجزة الباهرة { أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ } أي مضت { مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ } كثيرة قد أُرسل إليهم رسل { لّتَتْلُوَ } لتقرأ { عَلَيْهِمُ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } من الكتاب العظيمِ الشأن وتهديَهم إلى الحق رحمةً لهم ، وتقديمُ المجرور على المنصوب من قبيل الإبهام ثم البيان كما في قوله تعالى : { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ }(4/1)
وفيه ما لا يخفى من ترقب النفس إلى ما سيرِدُ وحسنِ قولها عند ورودِه عليها { وَهُمْ } أي والحالة أنهم { يَكْفُرُونَ بالرحمن } بالبليغ الرحمةِ الذي وسعت كلَّ شيء رحمتُه وأحاطت به نعمتُه . والعدول إلى المُظهر المتعرِّض لوصف الرحمةِ من حيث أن الإرسالَ ناشىءٌ منها كما قال تعالى : { وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين } فلم يقدِروا قدرَه ولم يشكروا نِعمَه لا سيما ما أنعم به عليهم بإرسال مثلِك إليهم وأنزل القرآنَ الذي هو مدارُ المنافع الدينية والدنيويةِ عليهم ، وقيل : نزلت في مشركي مكةَ حين أُمروا بالسجود فقالوا : وما الرحمن؟
{ قُلْ هُوَ } أي الرحمن الذي كفرتم به وأنكرتم معرفته { رَبّى } الربُّ في الأصل بمعنى التربية وهي تبليغُ الشيء إلى كمالِه شيئاً فشيئاً ثم وُصف به مبالغةً كالصوم والعدْل ، وقيل : هو نعت ، أي خالقي ومبلّغي إلى مراتب الكمالِ ، وإيرادُه قبل قوله : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } أي لا مستحقَّ للعبادة سواه تنبيهٌ على أن استحقاقَ العباد منوطٌ بالربوبية ، وقيل : إن أبا جهل سمع النبي عليه الصلاة والسلام يقول : « يا ألله يا رحمن » فرجع إلى المشركين فقال : إن محمداً يدعو إلهين فنزلت ، ونزل قوله تعالى : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } الآية { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } في جميع أموري لا سيما في النصرة عليكم لا على أحد سواه { وَإِلَيْهِ } خاصة { مَتَابِ } أي توبتي كقوله تعالى : { واستغفر لِذَنبِكَ } أُمر عليه السلام بذلك إبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله تعالى وأنها صفةُ الأنبياء وبعثاً للكفرة على الرجوع عما هم عليه بأبلغ وجهٍ وألطفه فإنه عليه السلام حيث أُمر بها وهو منزّهٌ عن شائبة اقترافِ ما يوجبها من الذنب وإن قل فتوبتُهم وهم عاكفون على أنواع الكفر والمعاصي مما لا بد منه أصلاً وقد فُسّر المتابُ بمطلق الرجوعِ ، فقيل : مرجعي ومرجعُكم وزِيد : فيحكُم بيني وبينكم ، وقد قيل : فيثيبُني على مصابرتكم فتأمل .(4/2)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
{ وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا } أي قرآناً ما وهو اسمُ أن والخبر قوله تعالى : { سُيّرَتْ بِهِ الجبال } وجوابُ لو محذوفٌ لانسياق الكلام إليه بحيث يتلقّفه السامعُ من التالي والمقصودُ إما بيانُ عِظم شأنِ القرآنِ العظيم وفساد رأي الكفرة حيث لم يقدروا قدرَه العليَّ ولم يعدّوه من قبيل الآيات فاقترحوا غيره مما أوتي موسى وعيسى عليهما السلام وإما بيانُ غلوهم في المكابرة والعِنادِ وتماديهم في الضلال والفساد فالمعنى على الأول لو أن قرآناً سُيّرت به الجبالُ أي بإنزاله أو بتلاوته عليها وزُعزعت عن مقارّها كما فُعل ذلك بالطور لموسى عليه الصلاة والسلام { أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرض } أي شُقّقت وجُعلت أنهاراً وعيوناً كما فُعل بالحجر حين ضربه عليه السلام بعصاه أو جعلت قطعاً متصدّعة { أَوْ كُلّمَ بِهِ الموتى } أي بعد أن أحييَ بقراءته عليها كما أحييتْ لعيسى عليه السلام لكان ذلك هذا القرآنَ لكونه الغايةَ القصوى في الانطواء على عجائبِ آثارِ قدرة الله تعالى وهيبته عز وجل كقوله تعالى : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خاشعا مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ الله } لا في الإعجاز إذ لا مدخل له في هذه الآثار ولا في التذكير والإنذار والتخويفِ لاختصاصها بالعقلاء مع أنه لا علاقةَ لها بتكليم الموتى ، واعتبارُ فيض العقول إليها مُخلٌّ بالمبالغة المقصودة ، وتقديمُ المجرور في المواضع الثلاثة على المرفوع لما مر غيرَ مرة من قصد الإبهام ثم التفسيرِ لزيادة التقريرِ ، لأن بتقديم ما حقُّه التأخيرُ تبقى النفسُ مستشرفةً ومترقّبةً إلى المؤخر أنه ماذا؟ فيتمكّن عند ورودِه عليها فضلُ تمكن ، وكلمةُ أو في الموضعين لمنع الخلوّ لا لمنع الجمع ، واقتراحُهم وإن كان متعلقاً بمجرد ظهورِ مثل هذه الأفاعيلِ العجيبة على يده عليه السلام لا بظهورها بواسطة القرآنِ لكن ذلك حيث كان مبنياً على عدم اشتمالِه في زعمهم على الخوارق نيط ظهورُها به مبالغةً في بيان اشتمالِه عليها وأنه حقيقٌ بأن يكون مصدراً لكل خارقٍ ، وإبانةً لركاكة رأيهم في شأنه الرفيعِ كأنه قيل : لو أن ظهورَ أمثالِ ما اقترحوه من مقتَضيات الحِكمة لكان مظهرُها هذا القرآنَ الذي لم يعدّوه آية ، وفيه من تفخيم شأنه العزيزِ ووصفِهم بركاكة العقلِ ما لا يخفى { بَل للَّهِ الأمر جَمِيعًا } أي له الأمرُ الذي عليه يدور فلكُ الأكوان وجوداً وعدماً يفعل ما يشاء ويحكمُ ما يريد لما يدعو إليه من الحِكَم البالغةِ ، وهو إضرابٌ عما تضمنته الشرطيةُ من معنى النفي لا بحسب منطوقِه بل باعتبار موجِبه ومؤدّاه أي لو أن قرآناً فُعل به ما ذكر لكان ذلك هذا القرآنَ ، ولكن لم يُفعل بل فُعل ما عليه الشأنُ الآن لأن الأمرَ كلَّه له وحده فالإضرابُ ليس بمتوجِّهٍ إلى كون الأمرِ لله سبحانه بل إلى ما يؤدِّي إليه ذلك من كون الشأنِ على ما كان لما تقتضيه الحِكمة من بناء التكليف على الاختبار .(4/3)
{ أَفَلمْ يَيأس الَّذِينَ آمنواْ } أي أفلم يعلموا على لغة هوازنَ أو قومٍ من النَّخْع أو على استعمال اليأس في معنى العِلم لتضمّنه له ، ويؤيده قراءة علي وابن عباس وجماعةٍ من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أفلم يتبينْ بطريقي التفسير . والفاءُ للعطف على مقدر أي أغفَلوا عن كون الأمرِ جميعاً لله تعالى فلم يعلموا { أَن لَّوْ يَشَاء الله } على حذف ضميرِ الشأنِ وتخفيفِ أن { لَهَدَى الناس جَمِيعًا } بإظهار أمثالِ تلك الآثارِ العظيمةِ فالإنكارُ متوجهٌ إلى المعطوفين جميعاً ، أو أعلموا كونَ الأمر جميعاً لله فلم يعلموا ما يوجبه ذلك العلمُ مما ذكر فهو متوجِّهٌ إلى ترتب المعطوفِ على المعطوف عليه ، أي تخلف العلم الثاني عن العلم الأول وعلى التقديرين فالإنكارُ إنكارُ الوقوعِ كما في قوله تعالى : { أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً } لا إنكارِ الواقع كما في قولك ألم تخفِ الله حتى عصيتَه ، ثم إن مناطَ الإنكار ليس عدمَ علمهم بمضمون الشرطية فقط بل مع عدم علمِهم بعدم تحققِ مقدَّمها ، كأنه قيل : ألم يعلموا أن الله تعالى لو شاء هدايتَهم لهداهم وأنه لم يشأْها وذلك لأنهم كانوا يؤيدون أن يظهر ما اقترحوا من الآيات ليجتمعوا على الإيمان ، وعلى الثاني لو أن قرآناً فُعل به ما فُصِّل من التعاجيب لما آمنوا به كقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملئكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى } الآية ، فالإضرابُ حينئذٍ متوجّهٌ إلى ما سلف من اقتراحهم مع كونهم في العناد على ما شُرح أي فليس لهم ذلك بل لله الأمر جميعاً إن شاء الله أتى بما اقترحوا وإن شاء لم يأت به حسبما تستدعيه داعيةُ الحكمةِ من غير أن يكون لأحد عليه تحكّم أو اقتراحٌ واليأسُ بمعنى القنوط ، أي ألم يعلم الذين آمنوا حالَهم هذه فلم يقنَطوا من إيمانهم حتى أحبّوا ظهورَ مقترحاتِهم؟ فالإنكارُ متوجهٌ إلى المعطوفين أو أعلِموا ذلك فلم يقنَطوا من إيمانهم؟ فهو متوجهٌ إلى وقوع المعطوفِ بعد المعطوفِ عليه أي إلى تخلف القنوط عن العلم المذكور ، والإنكارُ على التقديرين إنكارُ الواقع كما في قوله تعالى : { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } ونظائرِه ، لا إنكارُ الوقوع فإن عدم قنوطِهم منه مما لا مردّ له ، وقوله تعالى : { أَن لَّوْ يَشَاء الله } الخ ، متعلّقٌ بمحذوف أي أفلم ييأسوا من إيمانهم علماً منهم أو عالمين بأنه لو يشاء الله لهدى الناسَ جميعاً وأنه لم يشأ ذلك أو لآمنوا أي أفلم يقنط الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً؟ على معنى أفلم ييأس من إيمانهم المؤمنون؟ بمضمون الشرطية وبعدم تحققِ مقدّمها المنفهم من مكابرتهم حسبما تحكيه كلمةُ لو فالوصفُ المذكورُ من دواعي إنكارِ يأسِهم ، وقيل : إن أبا جهل وأضرابه قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت نبياً سيّر بقرآنك الجبالَ عن مكة حتى تتسعَ لنا ونتخذ فيها البساتين والقطائع ، وقد سُخِّرت لداود عليه السلام فلست بأهونَ على الله منه إن كنت نبياً كما زعمت ، أو سخّر لنا به الريحَ كما سُخّرت لسليمان عليه السلام لنتّجر عليها إلى الشام فقد شق علينا قطعُ الشُقةِ البعيدة أو ابعث لنا به رجلين أو ثلاثة ممن مات من آبائنا فنزلت .(4/4)
فمعنى تقطيعِ الأرض حينئذ قطعُها بالسير ولا حاجة حينئذ إلى الاعذار في إسناد الأفاعيلِ المذكورة إلى القرآن كما احتيج إليه في الوجهين الأولين ، وعن الفراء أنه متعلقٌ بما قبله من قوله : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن } وما بينهما اعتراضٌ وهو بالحقيقة دالٌّ على الجواب والتقدير ولو أن قرآناً سُيّرت به الجبالُ أو قطعت به الأرض أو كُلم به الموتى لكفروا بالرحمن ، والتذكير في كلم به الموتى لتغليب المذكر من الموتى على غيره .
{ وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ } من أهل مكةَ { تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ } أي بسبب ما صنعوه من الكفر والتمادي فيه ، وعدمُ بيانه إما للقصد إلى تهويله أو استهجانه وهو تصريحٌ بما أَشعر به بناءُ الحكم على الموصول من علّية الصلةِ له مع منافي صيغة الصنعِ من الإيذان برسوخهم في ذلك { قَارِعَةٌ } داهيةٌ تقرعهم وتقلقهم وهو ما كان يصيبهم من أنواع البلايا والمصائبِ من القتل والأسر والنهب والسلبِ ، وتقديم المجرورِ على الفاعل لما مر مراراً من إرادة التفسير إثرَ الإبهام لزيادة التقرير والإحكامِ مع ما فيه من بيانِ أن مدارَ الإصابة من جهتهم آثرَ ذي أثير { أَوْ تَحُلُّ } تلك القارعةُ { قَرِيبًا } أي مكاناً قريباً { مّن دَارِهِمْ } فيفزَعون منها ويتطاير إليهم شَرارُها ، شبِّهت القارعةُ بالعدو المتوجّه إليهم فأُسند إليها الإصابةُ تارة والحلولُ أخرى ففيه استعارةٌ بالكناية وتخييلٌ وترشيحٌ { حتى يَأْتِىَ وَعْدُ الله } أي موتُهم أو القيامةُ فإن كلاًّ منهما وعدٌ محتوم لا مرد له ، وفيه دِلالةٌ على أن ما يصيبهم عند ذلك من العذاب في غاية الشدةِ وأن ما ذكر سابقةُ نفحةٍ يسيرة بالنسبة إليه ثم حُقق ذلك بقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } أي الوعدَ كالميلاد والميثاق بمعنى الولادةِ والتوثِقةِ لاستحالة ذلك على الله سبحانه . وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أراد بالقارعة السرايا التي كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يبعثها وكانوا بين إغارةٍ واختطاف وتخويفٍ بالهجوم عليهم في ديارهم فالإصابة والحلولُ حينئذ من أحوالهم ويجوز على هذا أن يكون قوله تعالى : { أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ } خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم مراداً به حلولُه الحديبيةَ ، والمرادُ بوعد الله ما وعد به من فتح مكة .(4/5)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)
{ وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ } كثيرة خلَت { مّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي تركتهم ملاوةً من الزمان في أمن ودعةٍ كما يملى للبهمية في المرعى . وهذا تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما لقيَ من المشركين من التكذيب والاقتراحِ على طريقة الاستهزاءِ به ووعيدٌ لهم ، والمعنى أن ذلك ليس مختصاً بك بل هو أمرٌ مطردٌ قد فُعل ذلك برسل كثيرة كائنةٍ من قبلك فأمهلت الذين فعلوه بهم ، والعدولُ في الصلة إلى وصف الكفر ليس لأن المملى لهم غيرُ المستهزئين بل لإرادة الجمعِ بين الوصفين أي فأمليت للذين كفروا مع استهزائهم لا باستهزائهم فقط { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } أي عقابي إياهم ، وفيه من الدلالة على تناهي كيفيته في الشدة والفظاعة ما لا يخفى .(4/6)
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
{ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ } أي رقيبٌ مهيمنٌ { على كُلّ نَفْسٍ } كائنة من كانت { بِمَا كَسَبَتْ } من خير أو شر لا يخفى عليه شيء من ذلك بل يجازي كلاًّ بعمله وهو الله تعالى والخبرُ محذوفٌ أي كمن ليس كذلك إنكاراً لذلك ، وإدخالُ الفاء لتوجيه الإنكارِ إلى توهم المماثلة غبَّ ما عُلم مما فعل تعالى بالمستهزئين من الإملاء المديدِ والأخذ الشديد ومن كون الأمرِ كله لله تعالى وكونِ هداية الناس جميعاً منوطةً بمشيئته تعالى ومن تواتر القوارعِ على الكفرة إلى أن يأتيَ وعدُ الله كأنه قيل : الأمرُ كذلك ، فمن هذا شأنُه كما ليس في عداد الأشياء حتى تُشركوه به؟ فالإنكار متوجهٌ إلى ترتب المعطوفِ أعني توهّمَ المماثلة على المعطوف عليه المقدر أعني كونَ الأمر كما ذُكر كما في قولك : أتعلم الحقَّ فلا تعملُ به؟ لا إلى المعطوفين جميعاً كما إذا قلت ألا تعلمه فلا تعملُ به ، وقوله تعالى : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء } جملةٌ مستقلة جيء بها للدلالة على الخبر أو حالية ، أي أفمن هذه صفاتُه كما ليس كذلك وقد جعلوا له شركاءَ لا شريكاً واحداً ، أو معطوفةٌ على الخبر إن قدّر ما يصلح لذلك أي أفمن هذا شأنُه لم يوحّدوه وجعلوا له شركاءَ؟ ووضعُ المظهرِ موضعَ المضمر للتنصيص على وحدانيته ذاتاً واسماً وللتنبيه على اختصاصه باستحقاق العبادةِ مع ما فيه من البيان بعد الإبهام بإيراده موصولاً للدلالة على التفخيم ، وقوله تعالى : { قُلْ سَمُّوهُمْ } تبكيتٌ لهم إثرَ تبكيتٍ أي سمُّوهم من هم وماذا أسماؤهم أو صِفوهم وانظروا هل لهم ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشِرْكة { أَمْ تُنَبّئُونَهُ } أي بل أتنبئون الله { بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى الأرض } أي بشركاءَ مستحقين للعبادة لا يعلمهم الله تعالى ولا يعزُب عنه مثقالُ ذرة في السموات والأرض وقرىء بالتخفيف { أَم بظاهر مّنَ القول } أي بل أتسمونهم بشركاء بظاهر من القول من غير أن يكون له معنى وحقيقةٌ كتسمية الزنجيّ كافوراً كقوله تعالى : { ذلك قَوْلُهُم بأفواههم } وهاتيك الأساليبُ البديعة التي ورد عليها الآيةُ الكريمةُ مناديةٌ على أنها خارجةٌ عن قدرة البشر من كلام خلاقِ القُوى والقدَر فتبارك الله رب العالمين .
{ بَلْ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } وضع الموصولُ موضع المضمر ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالكفر { مَكْرِهِمْ } تمويهُهم الأباطيلَ أو كيدهم للإسلام بشركهم { وَصُدُّواْ عَنِ السبيل } أي سبيلِ الحق ، من صدّه صداً ، وقرىء بكسر الصاد على نقل حركة الدالِ إليها وقرىء بفتحها أي صدوا الناس أو من صد صدوداً { وَمَن يُضْلِلِ الله } أي يخلق فيه الظلالَ بسوء اختياره أو يخذلْه { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } يوفقه للهدى .(4/7)
لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)
{ لَهُمْ عَذَابَ } شاق { وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم } بالقتل والأسر وسائرِ ما يصيبهم من المصائب فإنها إنما تصيبهم عقوبةً على كفرهم { وَلَعَذَابُ الاخرة أَشَقُّ } من ذلك بالشدة والمدة { وَمَا لَهُم مّنَ الله } من عذابه المذكور { مِن وَاقٍ } من حافظ يعصِمهم من ذلك ، فمِن الأولى صلةٌ للوقاية والثانية مزيدةٌ للتأكيد .
{ مَّثَلُ الجنة } أي صفتُها العجيبة الشأنِ التي في الغرابة كالمثل { التى وُعِدَ المتقون } عن الكفر والمعاصي وهو مبتدأ خبرُه محذوفٌ عند سيبوبه أي فيما قصصنا عليك مثلُ الجنة وقوله تعالى : { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار } تفسير لذلك المثَل على أنه حالٌ من الضمير المحذوف من الصلة العائدِ إلى الجنة أي وعدها وهو الخبرُ عند غيره ، كقولك : شأنَ زيد يأتيه الناسُ ويعظمونه أو على حذف موصوفٍ أي مثلُ الجنة جنةٌ تجري الخ { أُكُلُهَا } ثمرُها { دَائِمٌ } لا ينقطع { وِظِلُّهَا } أيضاً كذلك لا تنسخه الشمسُ كما تنسخ ظلالَ الدنيا { تِلْكَ } الجنة المنعوتةُ بما ذكر { عقبى الذين اتقوا } الكفرَ والمعاصيَ أي ما لهم ومنتهى أمرِهم { وَّعُقْبَى الكافرين النار } لا غيرُ ، وفيه ما لا يخفى من إطماع المتقين وإقناطِ الكافرين .
{ والذين ءاتيناهم الكتاب } هم المسلمون من أهل الكتاب كعبد اللَّه بنِ سلام وكعبٍ وأضرابِهما ومَنْ آمن من النصارى وهم ثمانون رجلاً : أربعون بنجرانَ ، وثمانيةٌ باليمن ، واثنانَ وثلاثون بالحبشة { يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } إذ هو الكتابُ الموعودُ في التوراة والإنجيل { وَمِنَ الاحزاب } أي من أحزابهم وهم كفرتُهم الذين تحزّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة نحو كعب بن الأشرفِ والسيدِ والعاقبِ أسقُفيْ نجرانَ وأتباعِهما { مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } وهو الشرائعُ الحادثة إنشاءً أو نسخاً لا ما يوافق ما حرفوه وإلا لنُعيَ عليهم من أول الأمر أن مدارَ ذلك إنما هو جناياتُ أيديهم ، وأما ما يوافق كتبهم فلم ينكروه وإن لم يفرحوا به ، وقيل : يجوز أن يراد بالموصول الأول عامتُهم فإنهم أيضاً يفرحون به لكونه مصداقاً لكتبهم في الجملة فحينئذ يكون قوله تعالى : { وَمِنَ الأحزاب } الخ ، تتمةً بمنزلة أن يقال : ومنهم من ينكر بعضه .
{ قُلْ } إلزاماً لهم ورداً لإنكارهم { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله وَلا أُشْرِكَ بِهِ } أي شيئاً من الأشياء أو لا أفعل الإشراكَ به ، والمراد قصرُ الأمر بالعبادة على الله تعالى لا قصرُ الأمرِ مطلقاً على عبادته تعالى خاصة ، أي قل لهم : إنما أمرتُ فيما أُنزل إلي بعبادة الله وتوحيده ، وظاهرٌ أن لا سبيلَ لكم إلى إنكاره لإطباق جميعِ الأنبياءِ والكتبِ على ذلك كقوله تعالى : { قُلْ ياأهل * أَهْلِ الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً }(4/8)
فما لكم تشركون به عُزيراً والمسيحَ؟ وقرىء ولا أشركُ به بالرفع على الاستئناف أي وأنا لا أشرك به { إِلَيْهِ } إلى الله تعالى خاصة على النهج المذكورِ من التوحيد أو إلى ما أمرت به من التوحيد { أَدْعُو } الناسَ لا إلى غيره أو لا إلى شيء آخرَ مما يُطبق عليه الكتبُ الإلهية والأنبياءُ عليهم الصلاة والسلام فما وجهُ إنكارِكم { وَإِلَيْهِ } إلى الله تعالى وحده { مَئَابٍ } مرجعي للجزاء ، وحيث كانت هذه الحجةُ الباهرة لازمةً لهم لا يجدون عنها محيصاً أُمر عليه الصلاة والسلام بأن يخاطبَهم بذلك إلزاماً وتبكيتاً لهم ، ثم شرُع في رد إنكارِهم لفروع الشرائع الواردةِ ابتداءً أو بدلاً من الشرائع المنسوخةِ ببيان الحكمةِ في ذلك فقيل :
{ وكذلك أنزلناه } أي ما أنزل إليك ، وذلك إشارةٌ إلى مصدر أنزلناه أو أنزل إليك ، ومحلُّه النصبُ على المصدرية أي مثلَ ذلك الإنزالِ البديعِ المنتظم لأصول مجمَعٍ عليها وفروعٍ متشعبة إلى موافِقة ومخالِفة حسبما تقتضيه قضيةُ الحكمةِ والمصلحة أنزلناه { حُكْمًا } حاكماً يحكم في القضايا والواقعات بالحق أو يُحكم به كذلك ، والتعرضُ لذلك العنوان مع أن بعضَه ليس بحكم لتربية وجوبِ مراعاتِه وتحتم المحافظةِ عليه { عَرَبِيّاً } مترجماً بلسان العربِ ، والتعرضُ لذلك للإشارة إلى أن ذلك إحدى موادِّ المخالفة للكتب السابقةِ مع أن ذلك مقتضى الحكمةِ إذ بذلك يسهُل فهمه وإدراكُ إعجازه ، والاقتصارُ على اشتمال الإنزالِ على أصول الديانات المجمعِ عليها حسبما يفيده قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله } الخ ، يأباه التعرّض لاتباع أهوائِهم وحديثِ المحو والإثبات ، وأنْ لكل أجلٍ كتابٌ فإن المجمعَ عليه لا يتصور فيه الاستتباعُ والاتباع { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم } التي يدعونك إليها من تقرير الأمور المخالفةِ لما أنزل إليك من الحق كالصلاة إلى بيت المقدس بعد التحويل { بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم } العظيمِ الشأن الفائضِ من ذلك الحُكم العربيِّ أو العلم بمضمونه { مَا لَكَ مِنَ الله } من جنابه العزيز ، والالتفاتُ من التكلم إلى الغَيبة وإيرادُ الاسم الجليلِ لتربية المهابة ، قال الأزهري : لا يكون إلها حتى يكون معبوداً وحتى يكون خالقاً ورازقاً ومدبراً . { مِن وَلِىّ } يلي أمرَك وينصرك على من يبغيك الغوائلَ { وَلاَ وَاقٍ } يقيك من مصارع السوءِ وحيث لم يستلزم نفيُ الناصرِ على العدو نفيَ الواقي من نكايته أُدخل على المعطوف حرفُ النفي للتأكيد ، كقولك : ما لي دينارٌ ولا درهم ، أو ما لك من بأس الله من ناصر وواقٍ لاتباعك أهواءَهم . وأمثالُ هاتيك القوارعِ إنما هي لقطع أطماعِ الكفرة وتهييجِ المؤمنين على الثبات في الدين ، واللام في لئن موطئةٌ وما لك سادٌّ مسدَّ جوابي الشرط والقسم .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً } كثيرةً كائنة { مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً } نساء وأولاداً كما جعلناها لك وهو رد لما كانوا يَعيبونه صلى الله عليه وسلم بالزواج والولاد ، كما كانوا يقولون : ما لهذا الرسولِ يأكل الطعام؟ الخ { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ } منهم أي ما صح وما استقام ولم يكن في وسعه { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً } مما اقتُرح عليه وحكمٍ مما التُمس منه { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } ومشيئتِه المبنية على الحِكم والمصالحِ التي عليها يدور أمرُ الكائنات لا سيما مثلُ هذه الأمورِ العظام ، والالتفاتُ لما قدمناه ولتحقيق مضمون الجملةِ بالإيماء إلى العلة { لِكُلّ أَجَلٍ } أي لكل مدةٍ ووقت من المُدد والأوقات { كِتَابٌ } حكمٌ معين يُكتب على العباد حسبما تقتضيه الحكمةُ فإن الشرائعَ كلها لإصلاح أحوالِهم في المبدأ والمعاد ومن قضية ذلك أنه يختلف حسب اختلافِ أحوالِهم المتغيّرةِ حسب تغيّرِ الأوقات كاختلاف العِلاج حسب اختلافِ أحوالِ المرضى بحسب الأوقات .(4/9)
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)
{ يَمْحُو الله مَا يَشَاء } أي ينسخ ما يشاء نسخَه من الأحكام لما تقتضيه الحكمةُ بحسب الوقت { وَيُثَبّتْ } بدلَه ما فيه المصلحةُ أو يبقيه على حاله غيرَ منسوخ أو يثبتُ ما شاء إثباتَه مطلقاً أعمَّ منهما ومن الإنشاء ابتداءً ، أو يمحو من ديوان الحفَظةِ الذين ديدنُهم كَتْبُ كلِّ قولٍ وعملِ ما لا يتعلق به الجزاءُ ويثبت الباقيَ ، أو يمحو سيئاتِ التائبِ ويثبت مكانها الحسنةَ أو يمحو قَرْناً ويثبت آخرين أو يمحو الفاسداتِ من العالم الجُسماني ويثبت الكائناتِ ، أو يمحو الأجل أو السعادة والشقاوة ، وبه قال ابن مسعود وابنُ عمر رضى الله عنهم والقائلون به يتضرعون إلى الله تعالى أن يجعلهم سعداءَ وهذا رواه جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام ، والأنسبُ تعميمُ كل من المحو والإثبات ليشمل الكل ، ويدخلُ في ذلك موادُّ الإنكار دخولاً أولياً وقرىء بالتشديد { وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } أي أصلُه وهو اللوحُ المحفوظُ إذ ما من شيء من الذاهب والثابت إلا وهو مكتوبٌ فيه كما هو .
{ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ } أصلُه إنْ نُرِكَ وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط ، ومن ثمةَ أُلحقت النون بالفعل { بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ } أو وعدناهم من إنزال العذابِ عليهم ، والعدولُ إلى صيغة المضارع لحكاية الحالِ الماضيةِ أو نعدهم وعداً متجدداً حسبما تقتضيه الحكمةُ من إنذار ، وفي إيراد البعض رمزٌ إلى إراءة بعض الموعودِ { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } قبل ذلك { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } أي تبليغُ أحكام الرسالةِ بتمامها لا تحقيقُ مضمون ما بلّغته من الوعيد الذي هو من جملتها { وَعَلَيْنَا } لا عليك { الحساب } محاسبةُ أعمالهم السيئةِ والمؤاخذةُ بها أي كيفما دارت الحالُ أريناك بعض ما وعدناهم من العذاب الدنيوي أو لم نُرِكَه فعلينا ذلك وما عليك إلا تبليغُ الرسالة فلا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ونتمّ ما وعدناك من الظفر ولا يُضجِرْك تأخرُه فإن ذلك لما نعلم من المصالح الخفيةِ ثم طيَّب نفسَه عليه الصلاة والسلام بطلوع تباشيره فقال : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } استفهامٌ إنكاري والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أأنكروا نزولَ ما وعدناهم أو أشكّوا أو ألم ينظرُوا في ذلك ولم يرَوا { أَنَّا نَأْتِى الارض } أي أرضَ الكفر { نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } بأن نفتحها على المسلمين شيئاً فشيئاً ونُلحقَها بدار الإسلام ونُذهب منها أهلها بالقتل والأسر والإجلاءِ أليس هذا من ذلك؟ ومثلُه قوله عز سلطانه : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الارض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الغالبون } وقوله : ننقُصها حالٌ من فاعل نأتي أو من مفعوله ، وقرىء نُنَقصها بالتشديد وفي لفظ الإتيان المؤذِن بالاستواء المحتوم والاستيلاءِ العظيم من الفخامة ما لا يخفى كما في قوله عز وجل :(4/10)
{ وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً . } { والله يَحْكُمُ } ما يشاء وقد حكم للإسلام بالعزة والإقبال ، وعلى الكفر بالذلة والإدبار حسبما يشاهَد من المخايل والآثار ، وفي الالتفات من التكلم إلى الغَيبة وبناءِ الحُكم على الاسم الجليل من الدِلالة على الفخامة وتربية المهابة وتحقيق مضمون الخبر بالإشارة إلى العلة ما لا يخفى ، وهي جملة اعتراضية جيء بها لتأكيد فحوى ما تقدمها وقوله تعالى : { لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ } اعتراضٌ في اعتراض لبيان علوّ شأن حكمِه جل جلاله ، وقيل : نصبٌ على الحالية ، كأنه قيل : والله يحكمُ نافذاً حكمُه ، كما تقول : جاء زيد لا عمامةٌ على رأسه أي حاسراً ، والمعقّب من يكُرّ على الشيء فيبطله وحقيقتُه مِن يعقّيه ويقفّيه بالرد والإبطال ، ومنه قيل لصاحب الحق : معقّب لأنه يقفّي غريمَه بالاقتصاء والطلب { وَهُوَ سَرِيعُ الحساب } فعما قليلٍ يحاسبهم ويجازيهم في الآخرة بأفانينِ العذاب غِبّ ما عذبهم بالقتل والأسر والإجلاءِ حسبما يُرى . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : سريعُ الانتقام .(4/11)
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)
{ وَقَدْ مَكَرَ } الكفار { الذين } خلَوا { مِن قَبْلِهِمُ } من قبل كفار مكةَ بأنبيائهم والمؤمنين كما مكر هؤلاءِ ، وهذا تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لا عبرةَ بمكرهم ولا تأثير ، بل لا وجود له في الحقيقة ولم يصرّح بذلك اكتفاءً بدلالة القصرِ المستفادِ من تعليله أعني قوله تعالى : { فَلِلَّهِ المكر } أي جنسُ المكر { جَمِيعاً } لا وجودَ لمكرهم أصلاً ، إذ هو عبارةٌ عن إيصال المكروهِ إلى الغير من حيث لا يشعُر به وحيث كان جميع ما يأتون وما يذرون بعلم الله تعالى وقدرتِه وإنما لهم مجردُ الكسب من غير فعلٍ ولا تأثير حسبما يبيّنه قوله عز وجل : { يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ } ومن قضيته عصمةُ أوليائِه وعقابُ الماكرين بهم توفيةً لكل نفس جزاءَ ما تكسِبه ظهر أنْ ليس لمكرهم بالنسبة إلى مَن مكروا بهم عينٌ ولا أثرٌ وأن المكرَ كله لله تعالى حيث يؤاخذهم بما كسبوا من فنون المعاصي التي من جملتها مكرُهم من حيث لا يحتسبون ، أو لله المكرُ الذي باشروه جميعاً لا لهم عل معنى أن ذلك ليس مكراً منهم بالأنبياء بل هو بعينه مكرٌ من الله تعالى بهم وهم لا يشعرون حيث لا يحيق المكرُ السيِّيءُ إلا بأهله { وَسَيَعْلَمُ الكفار } حين يقضي بمقتضى علمه فيوفِّي كلَّ نفس جزاءَ ما تكسبه { لِمَنْ عُقْبَى الدار } أي العاقبةُ الحميدةُ من الفريقين وإن جهِلوا ذلك يومئذ ، وقيل : السينُ لتأكيد وقوعِ ذلك وعلمِهم به حينئد ، وقرىء سيعلم الكافرُ على إدارة الجنسِ والكافرون والكفرُ أي أهله والذين كفروا وسيُعلم على صيغة المجهول من الإعلام أي سيُخبر .(4/12)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
{ وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً } قيل : قاله رؤساءُ اليهود ، وصيغةُ الاستقبال لاستحضار صورةِ كلمتهم الشنعاءِ تعجيباً منها أو للدِلالة على تجدد ذلك واستمرارِه منهم { قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } فإنه قد أظهر على رسالتي من الحجج القاطعةِ والبينات الساطعةِ ما فيه مندوحةٌ عن شهادة شاهد آخرَ { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } أي علمُ القرآنِ وما عليه من النظم المعجز أو مَن هو مِن علماء أهلِ الكتاب الذين أسلموا لأنهم يشهدون بنعته عليه الصلاة والسلام في كتبهم ، والآية مدنيةٌ بالاتفاق أو مَنْ عنده علم اللوحِ المحفوظ وهو الله سبحانه أي كفى به شاهداً بيننا بالذي يستحق العبادةَ فإنه قد شحَن كتابه بالدعوة إلى عبادته وأيدني بأنواع التأييدِ ، وبالذي يختص بعلم ما في اللوح من الأشياء الكائنةِ الثابتةِ التي من جملتها رسالتي ، وقرىء من عندِه بالكسر و ( علمُ الكتاب ) على الأول مرتفع بالظرف المعتمد على الموصول ، أو مبتدأٌ خبرُه الظرف وهو متعين على الثاني ، ومِن عنده عُلِمَ الكتابُ بالكسر وبناء المفعول ورفع الكتاب .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ سورة الرعد أعطيَ من الأجر عشرَ حسناتٍ بوزن كل سحابٍ مضى وكلِّ سحابٍ يكون إلى يوم القيامة وبُعث يوم القيامة من المُوفين بعهد الله عز وجل » والله أعلم بالصواب .(4/13)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2)
( سورة إبراهيم ) { الر } مر الكلامُ فيه وفي محله غيرَ مرة وقوله تعالى : { كِتَابٌ } خبرٌ له على تقدير كون آلر مبتدأً أو لمبتدإٍ مضمرٍ على تقدير كونِه خبراً لمبتدأ محذوف ، أو مسروداً على نمط التعديد ، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً لهذا المبتدأ المحذوف ، وقوله تعالى : { أنزلناه إِلَيْكَ } صفةٌ له وقوله تعالى : { لِتُخْرِجَ الناس } متعلقٌ بأنزلناه أي لتخرجَهم كافةً بما في تضاعيفه من البينات الواضحة المفصحةِ عن كونه من عند الله عز وجل الكاشفةِ عن العقائد الحقةِ ، وقرىء ليخرِج الناسَ { مِنَ الظلمات } أي ليُخرج به الناسَ من عقائد الكفر والضلال التي كلُّها ظلماتٌ محضةٌ وجهالاتٌ صِرْفة { إِلَى النور } إلى الحق الذي هو نورٌ بحتٌ لكن لا كيفما كان ، فإنك لا تهدي من أحببت بل { بِإِذْنِ رَبّهِمْ } أي بتيسيره وتوفيقِه وللإنباء عن كون ذلك منوطاً بإقبالهم إلى الحق كما يفصح عنه قوله تعالى : { وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } استُعير له الإذنُ الذي هو عبارةٌ عن تسهيل الحجابِ لمن يقصِد الورودَ ، وأضيف إلى ضميرهم اسمُ الربِّ المفصحِ عن التربية التي هي عبارةٌ عن تبليغ الشيءِ إلى كماله المتوجّه إليه ، وشمولُ الإذن بهذا المعنى للكل واضحٌ وعليه يدور كونُ الإنزال لإخراجهم جميعاً ، وعدمُ تحققِ الإذن بالفعل في بعضهم لعدم تحققِ شرطِه المستند إلى سوء اختيارِهم غيرُ مخلٍ بذلك والباء متعلقةٌ بتخرج أو بمضمر وقع حالاً من مفعوله أي ملتبسين بإذن ربِّهم ، وجعله حالاً من فاعله يأباه إضافةُ الربِّ إليهم لا إليه وحيث كان الحقُّ مع وضوحه في نفسه وإيضاحه لغيره موصلاً إلى الله عز وجل استُعير له النورُ تارة والصراطُ أخرى ، فقيل : { إلى صِرَاطِ العزيز الحميد } على وجه الإبدالِ بتكرير العامل كما في قوله تعالى : { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ } وإخلالُ البدل والبيانِ بالاستعارة إنما هو في الحقيقة لا في المجاز كما في قوله سبحانه : { حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الابيض مِنَ الخيط الاسود مِنَ الفجر } وقيل : هو استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال ، كأنه قيل : إلى أي نور؟ فقيل : إلى صراط العزيز الحميد ، وإضافةُ الصراط إليه تعالى لأنه مقصِدُه أو المبينُ له ، وتخصيصُ الوصفين بالذكر للترغيب في سلوكه ببيان ما فيه من الأمن والعاقبةِ الحميدة .
{ الله } بالجر عطفُ بيان للعزيز الحميد لجريانه مَجرى الأعلامِ الغالبة بالاختصاص بالمعبود بالحق كالنجم في الثريا . وقرىء بالرفع على ( تقدير ) هو الله ، أي العزيزِ الحميد الذي أضيف إليه صراط الله { الذى لَهُ } مُلكاً ومِلكاً { مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض } أي ما وُجد فيهما داخلاً فيهما أو خارجاً عنهما متمكناً فيهما كما مر في آية الكرسي ، ففيه على القراءتين بيانٌ لكمال فخامة شأنِ الصراط وإظهارٌ لتحتم سلوكه على الناس قاطبةً ، وتجويزُ الرفع على الابتداء بجعل الموصول خبراً مبناه الغفولُ عن هذه النكتة وقوله عز وجل : { وَوَيْلٌ للكافرين } وعيدٌ لمن كفر بالكتاب ولم يخرجْ به من الظلمات إلى النور بالويل وهو نقيضُ الوال وهو النجاةُ وأصله النصبُ كسائر المصادر ثم رفع رفعها للدلالة على الثبات كسلامٌ عليك { مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } متعلق بويل على معنى يولّون ويضِجون منه قائلين : يا ويلاه ، كقوله تعالى : { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً . }(4/14)
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
{ الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا } أي يؤثرونها استفعالٌ من المحبة فإن المؤثرَ للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون أحبَّ إليها وأفضلَ عندها من غيره { على الأخرة } أي الحياة الآخرةِ الأبدية { وَيَصُدُّونَ } الناس { عَن سَبِيلِ الله } التي بين شأنُها ، والاقتصارُ على الإضافة إلى الاسم الجليلِ المنطوي على كل وصفٍ جميل لزومُ الاختصار ، وهو من صدّه صداً وقرىء يُصِدّون من أصدّ المنقولِ من صد صدوداً إذا نكَب وهو غيرُ فصيح كأوقف فإن في صدّه ووقفه لمندوحة عن تكلف النقل { وَيَبْغُونَهَا } أي يبغون لها فحُذف الجارّ وأوصل الفعلُ إلى الضمير أي يطلبون لها { عِوَجَا } أي زيغاً واعوجاجاً وهي أبعدُ شيء من ذلك أي يقولون لمن يريدون صدَّه وإضلاله : إنها سبيلٌ ناكبةٌ وزائغة غيرُ مستقيمة ، ومحلُّ موصول هذه الصلاتِ الجرُّ على أنه بدلٌ من الكافرين أو صفةٌ له فيعتبر كلُّ وصف من أوصافهم بإزاء ما يناسبه من المعاني المعتبرةِ في الصراط ، فالكفرُ المنبىءُ عن الستر بإزاء كونه نوراً واستحبابُ الحياة الدنيا الفانيةِ المفصحةِ عن وخامة العاقبةِ بمقابلة كونِ سلوكه محمودَ العاقبة والصدُّ عنه بإزاء كونه مأموناً ، وفيه من الدلالة على تماديهم في الغي ما لا يخفى . أو النصبُ على الذم أو الرفعُ على الابتداء والخبر قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ فِى ضلال بَعِيدٍ } وعلى الأول جملةٌ مستأنفة وقعت معلّلةً لما سبق من لحوق الويل بهم تأكيداً لما أَشعر به بناءُ الحكم على الموصول أي أولئك الموصوفون بالقبائح المذكورةِ من استحباب الحياةِ الدنيا على الآخرة وصدِّ الناس عن سبيل الله المستقيمةِ ووصفها بالاعوجاج وهي منه بنزه في ضلال عن طريق الحق بعيدٍ بالغٍ في ذلك غايةَ الغايات القاصيةِ ، والبعدُ وإن كان من أحوال الضالّ إلا أنه قد وُصف به وصفُه مجازاً للمبالغة كجدّ جدُّه وداهيةٌ دهياءُ ، ويجوز أن يكون المعنى في ضلال ذي بُعد أو فيه بُعدٌ ، فإن الضالّ قد يضِل عن الطريق مكاناً قريباً وقد يضل بعيداً وفي جعل الضلال محيطاً بهم إحاطةَ الظرف بما فيه ما لا يخفى من المبالغة .(4/15)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
{ وَمَا أَرْسَلْنَا } أي في الأمم الخاليةِ من قبلك كما سيذكر إجمالاً { مِن رَّسُولٍ إِلاَّ } ملتبساً { بِلِسَانِ قَوْمِهِ } متكلماً بلغة من أُرسل إليهم من الأمم المتفقة على لغة سواءٌ بعث فيهم أو لا ، وقرىء بلِسْنِ وهو لغة فيه كريش ورياش وبلُسُنْ بضمتين وضمة وسكون كعُمُد وعُمْد { لِيُبَيّنَ لَهُمُ } ما أمروا به فيتلقَّوه منه بيُسر وسُرعة ويعملوا بموجبه من غير حاجة إلى الترجمة ممن لم يُؤمر به ، وحيث لم يكن مراعاةُ هذه القاعدة في شأن سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين لعموم بعثتِه للثقلين كافةً على اختلاف لغاتِهم وكان تعددُ نظمِ الكتاب المنزل إليه حسب تعددِ ألسنة الأممِ أدعى إلى التنازع واختلافِ الكلمة وتطرّقِ أيدي التحريف مع أن استقلال بعضٍ من ذلك بالإعجاز دون غيره مَئنّةٌ لقدح القادحين واتفاقَ الجميع فيه أمرٌ قريب من الإلجاء وحصرِ البيانِ بالترجمة والتفسير اقتضت الحكمةُ اتحادَ النظمِ المنبىء عن العزة وجلالةِ الشأن المستتبعِ لفوائدَ غنيةٍ عن البيان ، على أن الحاجة إلى الترجمة تتضاعف عند التعددِ إذ لا بد لكل أمةٍ من معرفة توافق الكلِّ وتحاذيه حذوَ القُذّة بالقذة من مخالفة ولو في خَصلة فذّة ، وإنما يتم ذلك بمن يترجم عن الكل واحداً أو متعدداً وفيه من التعذر ما يتاخم الامتناعَ ، ثم لما كان أشرفَ الأقوام وأولاهم بدعوته عليه الصلاة والسلام قومُه الذين بعث فيهم ولغتُهم أفضلَ اللغات نزل الكتابُ المتين بلسان عربي مبين ، وانتشرت أحكامُه فيما بين الأمم أجمعين ، وقيل : الضمير في قومه لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه تعالى أنزل الكتب كلَّها عربيةً ثم ترجمها جبريلُ عليه الصلاة والسلام ، أو كلُّ من نزل عليه من الأنبياء عليهم السلام بلغة من نزل عليهم ، ويرده قوله تعالى : { لِيُبَيّنَ لَهُمُ } فإنه ضميرُ القوم وظاهرٌ أن جميع الكتب لم تنزل لتبيين العرب وفي رَجْعه إلى قوم كل نبي كأنه قيل : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومِ محمد عليه الصلاة والسلام ليبين الرسولُ لقومه الذين أرسل إليهم ما لا يخفى من التكلف { فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاء } إضلالَه أي يخلق فيه الضلالَ لمباشرة أسبابِه المؤدية إليه أو يخذله ولا يلطُف به لما يعلم أنه لا ينجع فيه الإلطاف { وَيَهْدِى } بالتوفيق ومنح الإلطاف { مَن يَشَآء } هدايتَه لما فيه من الإنابة والإقبال إلى الحق ، والالتفاتُ بإسناد الفعلين إلى الاسم الجليل المنطوي على الصفات لتفخيم شأنِهما وترشيح مناطِ كلَ منهما ، والفاء فصيحة مثلها في قوله تعالى : { فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق } كأنه قيل : فبيّنوه لهم فأضل الله منهم من شاء إضلالَه لما لا يليق إلا به وهدى من شاء هدايتَه لاستحقاقه لها ، والحذفُ للإيذان بأن مسارعة كلِّ رسول إلى ما أمر به وجريانَ كلَ من أهل الخذلان والهدايةِ على سنته أمرٌ محققٌ غنيٌّ عن الذكر والبيانِ .(4/16)
والعدولُ إلى صيغة الاستقبالِ لاستحضار الصورةِ أو للدلالة على التجدد والاستمرارِ حسب تجدد البيانِ من الرسل المتعاقبةِ عليهم السلام ، وتقديمُ الإضلال على الهداية إما لأنه إبقاءُ ما كان على ما كان ، والهدايةُ إنشاءُ ما لم يكن ، أو للمبالغة في بيان أن لا تأثيرَ للتبيين والتذكير من قبل الرسلِ ، وأن مدارَ الأمر إنما هو مشيئتُه تعالى بإيهام أن ترتبَ الضلالةِ على ذلك أسرعُ من ترتب الاهتداءِ وهذا محقِّقٌ لما سلف من تقييد الإخراجِ من الظلمات إلى النور بإذن الله تعالى { وَهُوَ العزيز } فلا يغالَب في مشيئته { الحكيم } الذي لا يفعل شيئاً من الإضلال والهداية إلا لحكمة بالغةٍ ، وفيه أن ما فُوِّض إلى الرسل إنما هو تبليغُ الرسالة وتبيينُ طريقِ الحقِّ ، وأما الهدايةُ والإرشادُ إليه فذلك بيد الله سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .(4/17)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى } شروعٌ في تفصيل ما أجمل في قوله عز وجل : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ } الآية { بئاياتنا } أي ملتبساً بها وهي معجزاتُه التي أظهرها لبني إسرائيلَ { أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ } بمعنى أي أخرِجْ لأن الإرسالَ فيه معنى القول أو بأن أخرِجْ كما في قوله تعالى : { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ } فإن صيغ الأفعال في الدلالة على المصدر سواءٌ ، وهو المدارُ في صحة الوصل والمرادُ بذلك إخراجُ بني إسرائيلَ بعد مهلِك فرعون { مِنَ الظلمات } من الكفر والجهالاتِ التي أدتهم إلى أن يقولوا : يا موسى اجعل لن إلها كما لهم آلهة { إِلَى النور } إلى الإيمان بالله وتوحيده وسائرِ ما أُمروا به { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله } أي بنعمائه وبلائِه كما ينبىء عنه قوله : { اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } لكن لا بما جرى عليهم فقط بل عليهم وعلى من قبلهم من الأمم في الأيام الخالية حسبما ينبىء عنه قوله تعالى : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ } الآيات ، أو بأيامه المنطوية على ذلك كما يلوح به قوله تعالى : { إِذْ أَنجَاكُمْ } والالتفاتُ من التكلم إلى الغيبة بإضافة الأيام إلى الاسم الجليل للإيذان بفخامة شأنِها والإشعارِ بعدم اختصاصِ ما فيها من المعاملة بالمخاطب وقومِه كما تُوهمه الإضافةُ إلى ضمير المتكلم أي عظْهم بالترغيب والترهيب والوعدِ الوعيد ، وقيل : أيامُ الله وقائعُه التي وقعت على الأمم قبلهم ، وأيامُ العرب وقائعُها وحروبُها وملاحمها أي أنذرهم وقائعَه التي دهمت الأممَ الدارجة ، ويردّه ما تصدى له عليه الصلاة والسلام بصدد الامتثالِ من التذكير بكل من السراء والضراء مما جرى عليهم وعلى غيرهم حسبما يتلى عليك .
{ إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي في التذكير بها أو في مجموع تلك النعماءِ والبلاءِ أو في أيامها { لاَيَاتٍ } عظيمةً أو كثيرةً دالةً على وحدانية الله تعالى وقدرتِه وعلمه وحكمته ، فهي على الأول عبارةٌ عن الأيام سواءٌ أريد بها أنفسُها أو ما فيها من النعماء والبلاءِ ، ومعنى ظرفية التذكيرِ لها كونُه مناطاً لظهورها ، وعلى الثالث عن تلك النعماء والبلاء ومعنى الظرفية ظاهر ، وأما على الثاني وهو كونُه إشارةً إلى مجموع النعماءِ فعن كل واحدةَ من تلك النعماء والمشارُ إليه المجموعُ المشتمل عليها من حيث هو مجموعٌ وكلمةُ في تجريديةٌ مثلُها في قوله تعالى : { لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ } { لّكُلّ صَبَّارٍ } على بلائه { شَكُورٍ } لنعمائه ، وقيل : لكل مؤمنٍ ، والتعبيرُ عنهم بذلك للإشعار بأن الصبرَ والشكرَ عنوانُ المؤمن أي لكل مَن يليق بكمال الصبرِ والشكر أو الإيمان ويصبِر أمرَه إليها ، لا لمن اتصف بها بالفعل لأنه تعليلٌ للأمر بالتذكير المذكور السابقِ على التذكر المؤدّي إلى تلك المرتبة ، فإن من تذكّر ما فاض أو نزل عليه أو على مَنْ قبله من النعماء والبلاءِ وتنبّه لعاقبة الشكر والصبر أو الإيمان لا يكاد يفارقها ، وتخصيصُ الآيات بهم لأنهم المنتفعون بها لا لأنها خافيةٌ عن غيرهم ، فإن التبيينَ حاصلٌ بالنسبة إلى الكل ، وتقديمُ الصبار على الشكور لتقدم متعلَّقِ الصبر أعني البلأَ على متعلّق الشكر أعني النعماء وكون الشكر عاقبة الصبر .(4/18)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
{ وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ } شروعٌ في بيان تصدّيه عليه الصلاة والسلام لما أُمر به من التذكير للإخراج المذكورِ ، وإذ منصوبٌ على المفعولية بمضمر خوطب به النبيُّ عليه الصلاة والسلام ، وتعليقُ الذكر بالوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادث قد مر سرُّه غيرَ مرة أي اذكر لهم وقت قولِه عليه الصلاة والسلام لقومه : { اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } بدأ عليه الصلاة والسلام بالترغيب لأنه عند النفس أقبلُ وهي إليه أميلُ ، والظرفُ متعلّقٌ بنفس النعمة إن جُعلت مصدراً أو بمحذوف وقع حالاً منها إن جعلت اسماً أي اذكروا إنعامه عليكم أو اذكروا نعمته كائنةً عليكم ، وكذلك كلمةُ إذْ في قوله تعالى : { إِذَا أنجاكم من آل فرعون } أي اذكروا إنعامه عليكم وقت إنجائِه إياكم من آل فرعون أو اذكروا نعمةَ الله مستقرةً عليكم وقت إنجائِه إياكم منهم أو بدلُ اشتمال من نعمةَ الله مراداً بها الإنعامُ أو العطية { يَسُومُونَكُمْ } يبغونكم مِنْ سامه خَسفاً إذا أولاه ظلماً ، وأصلُ السَّوم الذهابُ في طلب الشيء { سُوء العذاب } السوءُ مصدر ساء يسوء والمرادُ به جنسُ العذاب السيّيء أو استعبادهم واستعمالُهم في الأعمال الشاقة والاستهانةُ بهم وغيرُ ذلك مما لا يحصر ، ونصبُه على أنه مفعولٌ ليسومونكم { وَيُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ } المولودين وإنما عطفه على يسومونكم إخراجاً له عن مرتبة العذاب المعتاد ، وإنما فعلوا ذلك لأن فرعون رأى في المنام أو قال له الكهنة أنه سيولد منهم مَنْ يذهب بملكه فاجتهدوا في ذلك فلم يُغن عنهم من قضاء الله شيئاً .
{ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ } أي يُبقونهن في الحياة مع الذل والصَّغار ولذلك عد من جملة البلاء . والجملُ أحوالٌ من آل فرعون أو من ضمير المخاطبين أو منهما جميعاً لأن فيها ضميرَ كلَ منهما { وَفِى ذلكم } أي فيما ذكر من أفعالهم الفظيعة { بَلاء مِّن رَّبّكُمْ } أي ابتلاء منه لا أن البلاء عينُ تلك الأفعال اللهم إلا أن تجعل ( في ) تجريديةً فنسبتُه إلى الله تعالى إما من حيث الخلقُ أو الإقدارُ والتمكين { عظِيمٌ } لا يطاق ، ويجوز أن يكون المشارُ إليه الإنجاء من ذلك ، والبلاءُ الابتلاءُ بالنعمة وهو الأنسب كما يلوح به التعرضُ لوصف الربوبية ، وعلى الأول يكون ذلك باعتبار المآل الذي هو الإنجاءُ أو باعتبار أن بلأَ المؤمن تربيةٌ له .
{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ } من جملة مقالِ موسى عليه الصلاة والسلام لقومه معطوفٌ على نعمةَ الله أي اذكروا نعمة الله عليكم واذكروا حين تأذّن ربكم أي آذن إيذاناً بليغاً لا تبقى معه شائبةٌ ، لِما في صيغة التفعّل من معنى التكلّف المجعولِ في حقه سبحانه على غايته التي هي الكمالُ ، وقيل : هو معطوفٌ على قوله تعالى : { إِذْ أَنجَاكُمْ } ، أي اذكروا نعمتَه تعالى في هذين الوقتين فإن هذا التأذنَ أيضاً نعمةٌ من الله تعالى عليهم ينالون بها خيري الدنيا والآخرة ، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : وإذا قال ربكم .(4/19)
ولقد ذكّرهم عليه الصلاة والسلام أولاً بنعمائه تعالى عليهم صريحاً وضمنّه تذكيرَ ما أصابهم قبل ذلك من الضراء ، ثم أمرهم ثانياً بذكر ما جرى من الله سبحانه من الوعد بالزيادة على تقدير الشكر والوعيدِ بالعذاب على تقدير الكفر ، والمرادُ بتذكير الأوقات تذكيرُ ما وقع فيها من الحوادث مفصلةً إذ هي محيطةٌ بذلك فإذا ذُكرت ذكر ما فيها كأنه مشاهَدٌ معايَن { لَئِن شَكَرْتُمْ } يا بني إسرائيلَ ما خوّلتُكم من نعمة الإنجاء وإهلاكِ العدوّ وغير ذلك من النعم والآلاءِ الفائتة للحصر وقابلتموه بالإيمان والطاعة { لازِيدَنَّكُمْ } نعمةً إلى نعمة { وَلَئِن كَفَرْتُمْ } ذلك وغمِصتموه { إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ } فعسى يصيبكم منه ما يصيبكم ، ومن عادة الكرام التصريحُ بالوعد والتعريضُ بالوعيد فما ظنُّك بأكرم الأكرمين؟ ويجوز أن يكون المذكورُ تعليلاً للجواب المحذوفِ أي لأعذبنكم واللام في الموضعين موطئةٌ للقسم وكلٌّ من الجوابين سادٌّ مسدَّ جوابي الشرط والقسم ، والجملةُ إما مفعولٌ لتأذن لأنه ضرْبٌ من القول أو لقول مقدر بعده ، كأنه قيل : وإذ تأذن ربكم فقال ، الخ .(4/20)
وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
{ وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ } نِعمَه تعالى ولم تشكروها { أَنتُمْ } يا بني إسرائيلَ { وَمَن فِى الأرض } من الخلائق { جَمِيعًا فَإِنَّ الله لَغَنِىٌّ } عن شكركم وشكرِ غيرِكم { حَمِيدٌ } مستوجِبٌ للحمد بذاته لكثرة ما يوجبه من أياديه وإن لم يحمَدْه أحد ، أو محمودٌ يحمَده الملائكةُ بل كلُّ ذرةٍ من ذرات العالم ناطقةٌ بحمده ، والحمدُ حيث كان بمقابلة النعمة وغيرها من الفضائل كان أدلَّ على كماله سبحانه ، وهو تعليلٌ لما حُذف من جواب إن ، أي إن تكفروا لم يرجِعْ وبالُه إلا عليكم فإن الله تعالى لغنيٌّ عن شكر الشاكرين ، ولعله عليه الصلاة والسلام إنما قاله عندما عاين منهم دلائلَ العِناد ومخايلَ الإصرار على الكفر والفساد وتيقن أنه لا ينفعهم الترغيبُ ولا التعريضُ بالترهيب ، أو قاله غِبَّ تذكيرِهم بما ذكر من قول الله عز سلطانه تحقيقاً لمضمونه وتحذيراً لهم من الكفران ثم شرَع في الترهيب بتذكير ما جرى على الأمم الخالية فقال : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ } ليتدبروا ما أصاب كلَّ واحد من حزبي المؤمن والكافر فيُقلعوا عما هم عليه من الشر ويُنيبوا إلى الله تعالى ، وقيل : هو ابتداءُ كلامٍ من الله تعالى خطاباً للكفرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيختصّ تذكيرُ موسى عليه الصلاة والسلام بما اختص ببني إسرائيلَ من السراء والضراء ، والأيامُ بالأيام الجاريةِ عليهم فقط ، وفيه ما لا يخفى من البعد ، وأيضاً لا يظهر حينئذ وجهُ تخصيصِ تذكيرِ الكفار الذين في عهد النبي عليه الصلاة والسلام بما أصاب أولئك المعدودين مع أن غيرهم أسوةٌ لهم في الخلوّ قبل هؤلاء { قَوْمُ نُوحٍ } بدل من الموصول أو عطفُ بيان { وَعَادٌ } معطوفٌ على قوم نوح { وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ } أي من بعد هؤلاء المذكورين عطفٌ عامٌ على قوم نوح وما عطف عليه وقوله تعالى : { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } اعتراضٌ أو الموصولُ مبتدأٌ ولا يعلمهم إلى آخره خبرُه ، والجملةُ اعتراضٌ ، والمعنى أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددَهم إلا الله سبحانه . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بين عدنانَ وإسماعيلَ ثلاثون أباً لا يُعرفون . وكان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إذا قرأ هذه الآية قال : كذَب النسّابون يعني أنهم يدّعون علم الأنساب وقد نفى الله تعالى علمَها عن العباد { جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم } استئنافٌ لبيان نَبئِهم { بالبينات } بالمعجزات الظاهرةِ والبيناتِ الباهرة فبيّن كلُّ رسول لأمته طريقَ الحق وهداهم إليه ليخرجهم من الظلمات إلى النور { فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ } مشيرين بذلك إلى ألسنتهم وما يصدُر عنها من المقالة اعتناءً منهم بشأنها وتنبيهاً للرسل على تلقّيها والمحافظةِ عليها وإقناطاً لهم عن التصديق والإيمان بإعلام أن لا جوابَ سواه .(4/21)
{ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ } أي على زعمكم وهي البيناتُ التي أظهروها حجةً على صحة رسالاتِهم كقوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا } ومرادُهم بالكفر بها الكفرُ بدِلالتها على صحة رسالاتِهم ، أو فعضّوها غيظاً وضجراً مما جاءت به الرسل كقوله تعالى : { عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الانامل مِنَ الغيظ } أو وضعوها عليها تعجباً منه واستهزاءً به كمن غلبه الضِّحْكُ أو إسكاتاً للأنبياء عليهم السلام وأمراً لهم بإطباق الأفواه ، أو رَدّوها في أفواه الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام يمنعونهم من التكلم تحقيقاً أو تمثيلاً ، أو جعلوا أيديَ الأنبياء في أفواههم تعجباً من عُتوّهم وعِنادهم كما ينبىء عنه تعجّبهم بقولهم : { أَفِى الله شَكٌّ } وقيل : الأيدي بمعنى الأيادي عبر بها عن مواعظهم ونصائِحهم وشرائِعهم التي هي مدارُ النعم الدينية والدنيوية لأنهم لما كذّبوها فلم يقبلوها فكأنهم ردّوها إلى حيث جاءت منه { وَإِنَّا لَفِى شَكّ } عظيم { مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ } من الإيمان بالله والتوحيد فلا ينافي شكُّهم في ذلك كفرَهم القطعيَّ بما أرسل به الرسل من البينات فإنهم كفروا بها قطعاً حيث لم يعتدوا بها ولم يجعلوها من جنس المعجزات ولذلك قالوا : فأتونا بسلطان مبين ، وقرىء تدّعون بالإدغام { مُرِيبٍ } مُوقعٍ في الريبة من أرابه ، أو ذي ريبة من أراب الرجلُ وهي قلقُ النفس وعدم اطمئنانها بالشيء .(4/22)
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
{ قَالَتْ رُسُلُهُمْ } استئنافٌ مبنىٌّ على سؤال ينساق إليه المقال كأنه قيل : فماذا قالت لهم رسلُهم؟ فأجيب بأنهم قالوا منكرِين عليهم ومتعجّبين من مقالتهم الحمقاءِ : { أَفِى الله شَكٌّ } بإدخال الهمزةِ على الظرف للإيذان بأن مدارَ الإنكار ليس نفسَ الشك بل وقوعُه فيما لا يكادُ يتوهّم فيه الشكّ أصلاً ، منقادين عن تطبيق الجوابِ على كلام الكفرةِ بأن يقولوا : أأنتم في شك مريب من الله تعالى؟ مبالغةً في تنزيه ساحةِ السّبحان عن شائبة الشك وتسجيلاً عليهم بسخافة العقول ، أي أفي شأنه سبحانه من وجوده ووحدتِه ووجوبِ الإيمان به وحده شك وهو أظهرُ من كل ظاهر وأجلى من كل جلي حتى تكونوا من قِبله في شك مريب ، وحيث كان مقصِدُهم الأقصى الدعوةَ إلى الإيمان والتوحيد وكان إظهارُ البينات وسيلةً إلى ذلك لم يتعرضوا للجواب عن قول الكفرةِ : إنا كفرنا بما أرسلتم به ، واقتصروا علي بيان ما هو الغايةُ القصوى ثم عقّبوا ذلك الإنكارَ بما يوجبه من الشواهد الدالّةِ على انتفاء المنكَر فقالوا : { فَاطِرَ السموات والأرض } أي مُبدعُهما وما فيها من المصنوعات على نظام أنيقٍ شاهد بتحقق ما أنتم منه في شك ، وهو صفةٌ للاسم الجليل أو بدلٌ منه وشكٌّ مرتفعٌ بالظرف لاعتماده على الاستفهام ، وجعلُه مبتدأً على أن الظرف خبرُه يُفضي إلى الفصل بين الموصوف والصفةِ بالأجنبي ، أعني المبتدأَ والفاعلَ ليس بأجنبي مِنْ رافعه وقد جوز ذلك أيضاً { يَدْعُوكُمْ } إلى الإيمان بإرساله إيانا لا أنا ندعوكم إليه من تلقاء أنفسِنا كما يوهمه قولُكم مما تدعوننا إليه { لِيَغْفِرَ لَكُمْ } بسببه أو يدعوكم لأجل المغفرة ، كقولك : دعوتُه ليأكلَ معي { مّن ذُنُوبِكُمْ } أي بعضَها وهو ما عدا المظالمَ مما بينهم وبينه تعالى فإن الإسلام يجُبّه ، قيل : هكذا وقع في جميع القرآنِ في وعد الكفرةِ دون وعد المؤمنين تفرقةً بين الوعدين ، ولعل ذلك لما أن المغفرة حيث جاءت في خطاب الكفرةِ مرتبةً على محض الإيمان وفي شأن المؤمنين مشفوعةً بالطاعة والتجنب عن المعاصي ونحو ذلك فيتناول الخروجَ من المظالم ، وقيل : المعنى ليغفرَ لكم بدلاً من ذنوبكم { وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } إلى وقت سماه الله تعالى وجعله منتهى أعمارِكم على تقدير الإيمان .
{ قَالُواْ } استئناف كما سبق { إِنْ أَنتُمْ } أي ما أنتم { إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } من غير فضل يؤهّلكم لما تدّعونه من النبوة { تُرِيدُونَ } صفةٌ ثانية لبشرٌ حملاً على المعنى كقوله تعالى : { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } أو كلامٌ مستأنفٌ أي تريدون بما تتصدَّوْن له من الدعوة والأرشاد { أَن تَصُدُّونَا } بتخصيص العبادةِ بالله سبحانه { عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا } أي عن عبادة ما استمر آباؤُنا على عبادته من غير شيءٍ يوجبه وإلا { فَأْتُونَا } أي وإن لم يكن الأمرُ كما قلنا بل كنتم رسلاً من جهة الله تعالى كما تدّعونه فأتونا { بسلطان مُّبِينٍ } يدل على فضلكم واستحقاقِكم لتلك الرتبة ، أو على صحة ما تدّعونه من النبوة حتى نترُك ما لم نزل نعبُده أباً عن جد . ولقد كانوا آتَوهم من الآيات الظاهرةِ والبينات الباهرة ما تخرّ له صُمّ الجبال ، ولكنهم إنما يقولون من العظائم مكابرةً وعِناداً وإراءةً لمن وراءهم أن ذلك ليس من جنس ما ينطلق عليه السلطانُ المبين .(4/23)
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
{ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ } مجاراةً معهم في أول مقالتِهم وإنما قيل لهم لاختصاص الكلامِ بهم حيث أريد إلزامُهم بخلاف ما سلف من إنكار وقوعِ الشكِّ في الله سبحانه فإن ذلك عامٌ وإن اختص بهم ما يعقُبه { إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } كما تقولون { ولكن الله يَمُنُّ } بالنبوة { على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } يعنون أن ذلك عطيةٌ من الله تعالى يعطيها من يشاء من عباده بمحض الفضلِ والامتنان من غير داعيةٍ توجبه ، قالوه تواضعاً وهضماً للنفس أو ما نحن من الملائكة بل نحن بشرٌ مثلُكم في الصورة أو في الدخول تحت الجنس ، ولكن الله يمن بالفضائل والكمالاتِ والاستعدادات على من يشاء المنَّ بها وما يشاء ذلك إلا لعلمه باستحقاقه لها ، وتلك الفضائلُ والكمالاتُ والاستعدادات هي التي يدور عليها فلكُ الاصطفاء للنبوة { وَمَا كَانَ } وما صح وما استقام { لَنَا أَن نَّأْتِيَكُمْ بسلطان } أي بحجة من الحجج فضلاً عن السلطان المبين بشيء من الأشياء وسببٍ من الأسباب { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } فإنه أمرٌ يتعلق بمشيئته تعالى إن شاء كان وإلا فلا { وَعَلَى الله } وحده دون ما عداه مطلقاً { فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } أمرٌ منهم للمؤمنين بالتوكل ومقصودُهم حملُ أنفسِهم عليه آثرَ ذي أثيرٍ ، ألا يُرى إلى قوله عز وجل : { وَمَا لَنَا } أيُّ عذرٍ لنا { أَن لا نَتَوَكَّلَ عَلَى الله } أي في أن لا نتوكل عليه ، ولإظهار النشاطِ بالتوكل عليه والاستلذاذِ بذكر اسمِه تعالى وتعليلِ التوكل { وَقَدْ هَدَانَا } أي والحالُ أنه قد فعل بنا ما يوجبه ويستدعيه حيث هدانا { سُبُلَنَا } أي أرشد كلاًّ منا سبيله ومنهاجَه الذي شرَع له وأوجب عليه سلوكهَ في الدين ، وحيث كانت أذيةُ الكفار مما يوجب القلقَ والاضطرابَ القادح في التوكل ، قالوا على سبيل التوكيد القسميِّ مظهرين لكمال العزيمة : { وَلَنَصْبِرَنَّ على مَا اذَيْتُمُونَا } بالعِناد واقتراحِ الآيات وغير ذلك مما لا خير فيه { وَعَلَى الله } خاصة { فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون } فليثبُت المتوكلون على ما أحدثوه من التوكل ، والمرادُ هو المرادُ مما سبق من إيجاب التوكلِ على أنفسهم ، والمرادُ بالمتوكّلين المؤمنون ، والتعبيرُ عنهم بذلك لسبق ذكرِ اتصافِهم به ويجوز أن يُرادَ وعليه فليتوكل مَنْ توكل دون غيره .(4/24)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ } لعل هؤلاء القائلين بعضُ المتمردين العاتين الغالين في الكفر من أولئك الأممِ الكافرة التي نُقِلت مقالاتُهم الشنيعة دون جميعهم كقوم شعيبٍ وأضرابِهم ولذلك لم يُقل وقالوا { لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا } لم يقنَعوا بعصيانهم الرسلَ ومعاندتهم الحقَّ بعد ما رأوا البيناتِ الفائتةَ للحصر حتى اجترأوا على مثل هاتيك العظيمةِ التي لا يكاد يحيط بها دائرةُ الإمكانِ فحلفوا على أن يكون أحدُ المُحالَيْن ، والعَودُ إما بمعنى مطلق الصيرورة أو باعتبار تغليبِ المؤمنين على الرسل ، وقد مر في الأعراف وسيأتي في الكهف { فأوحى إِلَيْهِمْ } أي إلى الرسل { رَّبُّهُمْ } مالكِ أمرهم عند تناهي كفرِ الكفرة وبلوغِهم من العتو إلى غاية لا مطمَعَ بعدها في إيمانهم { لَنُهْلِكَنَّ الظالمين } على إضمار القولِ أو على إجراء الإيحاءِ مُجراه لكونه ضرباً منه .
{ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض } أي أرضَهم وديارَهم عقوبةً لهم بقولهم : لنُخرجَنّكم من أرضنا كقوله تعالى : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الارض ومغاربها } { مّن بَعْدِهِمْ } أي من بعد إهلاكِهم ، وقرىء ليُهلكَن وليُسكِنَنّكم بالياء اعتباراً لأوحى ، كقولهم : حلف زيد ليخرُجَنّ غداً { ذلك } إشارةٌ إلى الموحى به وهو إهلاكُ الظالمين وإسكانُ المؤمنين ديارَهم أي ذلك الأمرُ محققٌ ثابت { لِمَنْ خَافَ مَقَامِى } موقفي ، وهو الموقفُ الذي يقف فيه العبادُ يوم يقومُ الناسُ لرب العالمين ، أو قيامي عليه وحفظي لأعماله ، وقيل : لفظُ المقام مُقحَمٌ { وَخَافَ وَعِيدِ } وعيدي بالعذاب أو عذابيَ الموعودَ للكفار ، والمعنى أن ذلك حقٌّ للمتقين كقوله : { والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ . }(4/25)
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
{ واستفتحوا } أي استنصروا الله على أعدائهم كقوله تعالى : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح } أو استحكموا وسألوه القضاءَ بينهم من الفتاحة وهي الحكومةُ كقوله تعالى : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق } فالضميرُ للرسل ، وقيل : للفريقين فإنهم سألوا أن يُنصَر المحِقُّ ويهلَك المبطل ، وهو معطوفٌ على أوحى إليهم وقرىء بلفظ الأمرِ عطفاً على لنهلكن الظالمين ، أي أوحى إليهم ربهم لنُهلِكَنّ ، وقال لهم : استفتِحوا { وَخَابَ } أي خسِر وهلك { كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } متّصفٍ بضد ما اتصف به المتقون ، أي فنُصروا عنداستفتاحِهم وظفِروا بما سألوا وأفلحوا وخاب كلُّ جبارٍ عنيد ، وهم قومُهم المعاندون فالخيبةُ بمعنى مطلقِ الحِرمان عن المطلوب ، أو ذلك باعتبار أنهم كانوا يزعُمون أنهم على الحق ، أو استفتح الكفارُ على الرسل وخابوا ولم يُفلحوا ، وإنما قيل : وخاب كلُّ جبار عنيد ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالتجبّر والعِناد لا أن بعضَهم ليسوا كذلك وأنه لم يُصبْهم الخيبةُ ، أو استفتحوا جميعاً فنُصر الرسلُ وأُنجِز لهم الوعدُ وخاب كلّ عاتٍ متمردٍ ، فالخيبةُ بمعنى الحرمان غِبَّ الطلب ، وفي إسناد الخيبةِ إلى كل منهم ما لا يخفى من المبالغة .
{ مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ } أي بين يديه فإنه مُرصَدٌ لها واقفٌ على شفيرها في الدنيا مبعوثٌ إليها في الآخرة ، وقيل : من وراء حياتِه وحقيقتِه ما توارى عنك { ويسقى } معطوف على مقدر جواباً عن سؤال سائلٍ ، كأنه قيل : فماذا يكون إذن؟ فقيل : يلقى فيها ويُسقى { مِن مَّاء } مخصوصٍ لا كالمياه المعهودة { صَدِيدٍ } وهو قيحٌ أو دمٌ مختلط بمِدّة يسيل من الجرح ، قال مجاهد وغيره : هو ما يسيل من أجساد أهلِ النار ، وهو عطفُ بيانٍ لما أُبهم أولاً ثم بُيّن بالصديد تهويلاً لأمره وتخصيصُه بالذكر من بين عذابِها يدور على أنه من أشدّ أنواعِه .
{ يَتَجَرَّعُهُ } قيل : هو صفةٌ لماءٍ أو حالٌ منه والأظهر أنه استئنافٌ مبنيٌّ على السؤال ، كأنه قيل : فماذا يفعل به؟ فقيل : يتجرعه ، أي يتكلف جَرْعه مرة بعد أخرى لغلبة العطشِ واستيلاء الحرارة عليه { وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } أي لا يقارب أن يسيغه فضلاً عن الإساغة بل يغَصّ به فيشربُه بعد اللتيا والتي جرعةً فيطول عذابُه تارةً بالحرارة والعطش وأخرى بشربه على تلك الحالِ ، فإن السَّوغَ انحدارُ الشراب في الحلق بسهولة وقَبولِ نفس ، ونفيُه لا يوجب نفيَ ما ذكر جميعاً ، وقيل : لا يكاد يدخُله في جوفه ، وعبّر عنه بالإساغة لما أنها المعهودةُ في الأشربة وهو حالٌ من فاعل يتجرّعه أو من مفعوله أو منهما جميعاً { وَيَأْتِيهِ الموت } أي أسبابُه من الشدائد { مّن كُلّ مَكَانٍ } ويُحيط به من جميع الجهات أو من كل مكان من جسده حتى من أصول شعرِه وإبهامِ رجله { وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ } أي والحالُ أنه ليس بميت كما هو الظاهرُ من مجيء أسبابِه لا سيما من جميع الجهاتِ حتى لا يتألمُ بما غشِيه من أصناف المُوبقات { وَمِن وَرَائِهِ } من بين يديه { عَذَابٍ غَلِيظٍ } يستقبل كلَّ وقت عذاباً أشدَّ وأشق مما كان قبله ، ففيه دفعُ ما يُتوهم من الخِفّة بحسب الاعتيادِ كما في عذاب الدنيا ، وقيل : هو الخلودُ في النار ، وقيل : هو حبسُ الأنفاس ، وقيل : المرادُ بالاستفتاح والخيبةِ استسقاءُ أهلِ مكةَ في سِنيهم التي أرسلها الله تعالى عليهم بدعوته عليه الصلاة والسلام وخيبتهم في ذلك ، وقد وعَد لهم بدلَ ذلك صديدَ أهل النار .(4/26)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
{ مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ } أي صفتُهم وحالُهم العجيبةُ الشأنِ التي هي كالمثل في الغرابة ، وهو مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى : { أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ } كقولك : صفةُ زيدٍ عرضُه مهتوكٌ ومالُه منهوب ، وهو استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال من قال : ما بالُ أعمالِهم التي عمِلوها في وجوه البرِّ من صلة الأرحامِ ، وإعتاقِ الرقاب ، وفداءِ الأسارى ، وإغاثةِ الملهوفين ، وقرى الأضياف ، وغير ذلك مما هو من باب المكارم حتى آل أمرُهم إلى هذا المآل؟ فأجيب بأن ذلك كرماد { اشتدت بِهِ الريح } حملتْه وأسرعتْ الذهاب به { فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } العصْفُ اشتدادُ الريحِ وصف به زمانُها مبالغةً ، كقولك : ليلةٌ ساكرةٌ وإنما السكورُ لريحها شُبّهت صنائعُهم المعدودةُ لابتنائها على غير أساسٍ من معرفة الله تعالى والإيمان به والتوجّه بها إليه تعالى برماد طيّرته الريحُ العاصفةُ ، أو استئنافٌ مسوقٌ لبيان أعمالِهم للأصنام ، أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ كما هو رأيُ سيبويه أي فيما يتلى عليك مَثلُهم ، وقوله : أعمالُهم بدلٌ من مَثَلُ الذين ، وقوله : كرماد خبرُه { لاَّ يَقْدِرُونَ } أي يوم القيامة { مِمَّا كَسَبُواْ } من تلك الأعمال { على شَىْء } ما ، أي لا يرَوْن له أثراً من ثواب أو تخفيفِ عذابٍ كدأب الرماد المذكور ، وهو فذلكةُ التمثيل ، والاكتفاءُ ببيان عدمِ رؤيةِ الأثر لأعمالهم للأصنام مع أن لها عقوباتٍ هائلةً للتصريح ببطلان اعتقادِهم وزعمِهم أنها شفعاءُ لهم عند الله تعالى وفيه تهكّمٌ بهم { ذلك } أي ما دل عليه التمثيلُ دَلالةً واضحةً من ضلالهم مع حُسبانهم أنهم على شيء { هُوَ الضلال البعيد } عن طريق الصواب أو عن نيل الثواب .
{ أَلَمْ تَرَ } خطابٌ للرسول صلى الله عليه وسلم والمرادُ به أمتُه ، وقيل : لكل أحد من الكفرة لقوله تعالى : { يُذْهِبْكُمْ } والرؤيةُ رؤيةُ القلب وقوله تعالى : { أَنَّ الله خَلَقَ السموات والأرض } سادٌّ مسدَّ مفعوليها ، أي ألم تعلمْ أنه تعالى خلقهما { بالحق } ملتبسةً بالحكمة والوجهِ الصحيح الذي يحِق أن تخلَقَ عليه ، وقرىء خالقُ السموات والأرض { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } يُعدمْكم بالمرة { وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } أي يخلُق بدلكم خلقاً آخرَ مستأنَفاً لا علاقة بينكم وبينهم ، رتب قدرتَه تعالى على ذلك على قدرته تعالى على خلق السموات والأرض على هذا النمط البديعِ إرشاداً إلى طريق الاستدلالِ فإن من قدَر على خلق مثلِ هاتيك الأجرامِ العظيمةِ كان على تبديل خلق آخرَ بهم أقدر ولذلك قال : { وَمَا ذلك } أي إذهابُكم والإتيانُ بخلق جديد مكانكم { عَلَى الله بِعَزِيزٍ } بمتعذر أم متعسر فإنه قادرٌ بذاته على الممكِنات لا اختصاصَ له بمقدور دون مقدورٍ ، ومَنْ هذا شأنُه حقيقٌ بأن يؤمَنَ به ويرجى ثوابُه ويُخشى عقابه .(4/27)
{ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا } أي يبرُزون يوم القيامة ، وإيثارُ صيغة الماضي للدَّلالة على تحقق وقوعِه كما في قوله سبحانه : { وَنَادَى أصحاب الجنة أصحاب النار } أو لأنه لا مُضِيَّ ولا استقبالَ بالنسبة إليه سبحانه ، والمرادُ بروزُهم من قبورهم لأمر الله تعالى ومحاسبته ، أو لله على ظنهم فإنهم كانوا يظنون عند ارتكابِهم الفواحشَ سراً أنها تخفى على الله سبحانه ، فإذا كان يومُ القيامة انكشفوا لله عند أنفسِهم { فَقَالَ الضعفاء } الأتباعُ جمع ضعيف ، والمرادُ ضعفُ الرأي ، وإنما كتب بالواو على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة { لِلَّذِينَ استكبروا } لرؤسائهم الذين استتبعوهم واستغوَوْهم { إِنَّا كُنَّا } في الدنيا { لَكُمْ تَبَعًا } في تكذيب الرسل عليهم السلام والإعراضِ عن نصائحهم ، وهو جمعُ تابع كغيب في جمع غائب ، أو مصدر نُعت به مبالغةً ، أو على إضمار أي ذوي تبع { فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ } دافعون { عَنَّا } والفاء للدِلالة على سببية الاتباعِ للإغناء ، والمرادُ التوبيخُ والعتابُ والتقريعُ والتبكيت { مِنْ عَذَابِ الله مِن شَىْء } من الأولى للبيان واقعةٌ موقعَ الحال ، والثانية للتبعيض واقعةٌ موقعَ المفعول ، أي بعضُ الشيء الذي هو عذابُ الله تعالى ويجوز كونُهما للتبعيض أي بعضَ شيءٍ هو بعضُ عذاب الله والإعراب كما سبق ويجوز أن تكون الأولى مفعولاً والثانية مصدراً أي فهل أنتم مغنون عنا بعضَ العذاب بعضَ الإغناء ، ويعضُد الأولَ قوله تعالى : { فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مّنَ النار } .
{ قَالُواْ } أي المستكبرون جواباً عن معاتبة الأتباعِ واعتذاراً عما فعلوا بهم { لَوْ هَدَانَا الله } أي للإيمان ووفّقنا له { لَهَدَيْنَاكُمْ } ولكن ضَلَلْنا فأضللناكم أي اخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا ، أو لو هدانا الله طريقَ النجاة من العذاب لهديناكم وأغنينا عنكم كما عرّضناكم له ، ولكن سُدّ دوننا طريقُ الخلاص ولاتَ حينَ مناص { سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا } مما لقِينا { أَمْ صَبَرْنَا } على ذلك أي مستوٍ علينا الجزَعُ والصبرُ في عدم الإنجاء ، والهمزةُ وأم لتأكيد التسويةِ كما في قوله تعالى : { سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } وإنما أسندوهما ونسبوا استواءَهما إلى ضمير المتكلم المنتظِمِ للمخاطبين أيضاً مبالغةً في النهي عن التوبيخ بإعلام أنهم شركاءُ لهم فيها ابتُلوا به وتسليةً لهم ، ويجوز أن يكون قوله : { سَوَاء عَلَيْنَا } الخ ، من كلام الفريقين على مِنوال قوله تعالى : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ } ويؤيده ما روي ( أنهم يقولون : تعالَوا نجزَعْ فيجزعون خمسَمائة عام فلا ينفعهم ، فيقولون : تعالَوا نصبِرْ فيصبِرون كذلك فلا ينفعهم فعند ذلك يقولون ذلك ) ، ولما كان عتابُ الأتباع من باب الجزَعِ ذيّلوا جوابَهم ببيان أن لا جدوى في ذلك فقالوا : { مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } من منجى ومهربٍ من العذاب ، من حاص الحمارُ إذا عدل بالفرار ، وهو إما اسمُ مكان كالمبيت والمَصيف ، أو مصدرٌ كالمغيب والمشيب وهي جملةٌ مفسِّرة لإجمال ما فيه الاستواءُ فلا محل لها من الإعراب ، أو حالٌ مؤكدة ، أو بدلٌ منه .(4/28)
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
{ وَقَالَ الشيطان } الذي أضل كِلا الفريقين واستتْبعَهما عندما عتَباه بما قاله الأتباعُ للمستكبرين { لَمَّا قُضِىَ الأمر } أي أُحكم وفُرغ منه ، وهو الحسابُ ودخل أهلُ الجنة الجنةَ وأهلُ النار النارَ خطيباً في محفِل الأشقياء من الثقلين { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق } أي وعداً من حقه أن يُنجَز فأنجزه ، أو وعداً أنجزه وهو الوعدُ بالبعث والجزاء { وَوَعَدتُّكُمْ } أي وعْدَ الباطلِ وهو أن لا بعثَ ولا جزاء ، ولئن كان فالأصنامُ شفعاؤُكم ولم يصرِّح ببطلانه لما دل عليه قولُه : { فَأَخْلَفْتُكُمْ } أي موعدي على حذف المفعولِ الثاني أي نقضتُه ، جَعل خُلفَ وعده كالإخلاف منه كأنه كان قادراً على إنجازه وأنى له ذلك { وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان } أي تسلّطٍ أو حجةٍ تدل على صدقي { إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ } إلا دعائي إياكم إليه وتسويلُه ، وهو وإن لم يكن من باب السلطان لكنه أبرزه في مبروزه على طريقة
تحيةٌ بينِهم ضربٌ وجيع ... مبالغةً في نفي السلطان عن نفسه كأنه قال : إنما يكون لي عليكم سلطانٌ إذا كان مجردُ الدعاء من بابه ، ويجوز كونُ الاستثناء منقطعاً { فاستجبتم لِى } فأسرعتم إجابتي { فَلاَ تَلُومُونِى } بوعدي إياكم حيث لم يكن ذلك على طريقة القسر والإلجاءِ كما يدل عليه الفاء ، وقرىء بالياء على وجه الالتفاتِ كما في قوله تعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } { وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ } حيث استجبتم لي باختياركم حين دعوتُكم بلا حجةٍ ولا دليل بمجرد تزيينٍ وتسويل ولم تستجيبوا ربكم إذْ دعاكم دعوةَ الحق المقرونةَ بالبينات والحجج ، وليس مرادُه التنصّلَ عن توجه اللائمةِ إليه بالمرة بل بيانُ أنهم أحقُّ بها منه وليس فيه دَلالةٌ على استقلال العبدِ في أفعاله كما زعمت المعتزلة ، بل يكفي في ذلك أن يكون لقدرته الكاسبةِ التي عليها يدور فلكُ التكليف مدخلٌ فيه ، فإنه سبحانه إنما يخلُق أفعالَه حسبما يختاره وعليه تترتب السعادةُ والشقاوة ، وما قيل من أنه يستدعي أن يقال : فلا تلوموني ولا أنفسَكم فإن الله قضى عليكم الكفرَ وأجبركم عليه مبنيٌّ على عدم الفرق بين مذهب أهلِ الحقِّ وبين مسلك الجبرية { مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ } أي بمُغيثكم مما أنتم فيه من العذاب { وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ } مما أنا فيه ، وإنما تعرّض لذلك مع أنه لم يكن في حيز الاحتمالِ مبالغةً في بيان عدم إصراخِه إياهم وإيذاناً بأنه أيضاً مبتلىً بما ابتُلوا به ومحتاجٌ إلى الإصراخ فكيف من إصراخِ الغير ، ولذلك آثرَ الجملةَ الاسميةَ فكأن ما مضى كان جواباً منه عن توبيخهم وتقريعِهم ، وهذا جوابٌ عن استغاثتهم واستعانِتهم به في استدفاع ما دهِمهم من العذاب وقرىء بكسر الياء .
{ إِنّى كَفَرْتُ } اليوم { بِمَا أشْرَكتمون مِن قَبْلُ } أي بإشراككم إياي بمعنى تبرأتُ منه واستنكرتُه كقوله تعالى :(4/29)
{ وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } يعني أن إشراكَكم لي بالله سبحانه هو الذي يَطمِعكم في نُصرتي لكم بأن كان لكم عليّ حقٌّ حيث جعلتموني معبوداً وكنت أوَد ذلك وأرغب فيه ، فاليوم كفرتُ بذلك ولم أحمَدُه ولم أقبله منكم بل تبرأتُ منه ومنكم فلم يبقَ بيني وبينكم علاقةٌ ، أو كفرتُ من قبل حين أبيتُ السجودَ لآدمَ بالذي أشركتمونيه وهو الله تعالى كما في قوله : سبحان ما سخرّكن لنا ، فيكون تعليلاً لعدم إصراخِه فإن الكافرَ بالله سبحانه بمعزل من الإغاثة والإعانة سواءٌ كان ذلك بالمدافعة أو الشفاعة ، وأما جعلُه تعليلاً لعدم إصراخِهم إياه فلا وجهَ له إذ لا احتمالَ له حتى يُحتاج إلى التعليل ، ولأن تعليلَ عدم إصراخِهم بكفره يوهم أنهم بسبيل من ذلك لولا المانعُ من جهته .
{ إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } تتمةُ كلامِه ، أو ابتدءُ كلامٍ من جهة الله عز وجل وفي حكاية أمثالِه لطفٌ للسامعين وإيقاظٌ لهم حتى يحاسبوا أنفسهم ويتدبّروا عواقبَهم .(4/30)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)
{ وَأُدْخِلَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِمْ } أي بأمره أو بتوفيقه وهدايته ، وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم إظهارُ مزيدِ اللطفِ بهم والمُدْخِلون هم الملائكةُ عليهم السلام ، وقرىء على صيغة المتكلم فيكون قوله تعالى : { بِإِذْنِ رَبّهِمْ } متعلقاً بقوله تعالى : { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام } أي يحيّيهم الملائكةُ بالسلام بإذن ربهم .
{ أَلَمْ تَرَ } الخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم وقد عُلّق بما بعده من قوله تعالى : { كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً } أي كيف اعتمده ووضعه في موضعه اللائق به { كَلِمَةً طَيّبَةً } منصوبٌ بمضمر أي جعل كلمةً طيبة هي كلمةُ التوحيد أو كلَّ كلمة حسنةٍ كالتسبيحة والتحميدة والاستغفارِ والتوبة والدعوة { كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ } أي حكَم بأنها مثلُها لا أنه تعالى صيّرها مثلَها في الخارج وهو تفسير لقوله : { ضَرَبَ الله مَثَلاً } كقولك : شرّف الأميرُ زيداً كساه حُلةً وحمله على فرس ، ويجوز أن يكون ( كلمة ) بدلاً من مثلاً وكشجرة صفتُها ، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي هي كشجرة وأن يكون أولَ مفعوليْ ضرب إجراءً له مُجرى جعل قد أُخّر عن ثانيهما ، أعني مثلاً لئلا يبعُد عن صفته التي هي كشجرة ، وقد قرئت بالرفع على الابتداء { أَصْلُهَا ثَابِتٌ } أي ضارب بعُروقه في الأرض ، وقرأ أنسُ بنُ مالك رضي الله عنه كشجرة طيبة ثابتٍ أصلُها ، وقراءةُ الجماعة أقوى سبكاً وأنسبُ بقرينته أعني قوله تعالى : { وَفَرْعُهَا } أي أعلاها { فِى السماء } في جهة العلو ويجوز أن يراد وفروعُها على الاكتفاء بلفظ الجنس عن الجمع .(4/31)
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
{ تُؤْتِى أُكُلَهَا } تعطي ثمرَها { كُلَّ حِينٍ } وقّته الله تعالى لإثمارها { بِإِذْنِ رَبّهَا } بإرادة خالقِها ، والمرادُ بالشجرة المنعوتةِ إما النخلةُ كما روي مرفوعاً أو شجرة في الجنة { وَيَضْرِبُ الله الامثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } لأن في ضربها زيادةَ إفهامٍ وتذكير ، فإنه تصويرٌ للمعاني بصور المحسوسات .
{ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ } هي كلمةُ الكفر والدعاءِ إليه ، أو تكذيبُ الحق ، أو ما يعم الكل ، أو كلُّ كلمةٍ قبيحة { كَشَجَرَةٍ } أي كمثل شجرة خبيثةٍ ، قيل : هي كلُّ شجرةٍ لا يطيب ثمرُها كالحنظل والكشوث ونحوهما ، وتغييرُ الأسلوب للإيذان بأن ذلك غيرُ مقصود الضرب والبيان وإنما ذلك أمرٌ ظاهرٌ يعرفه كل أحد { خَبِيثَةٍ اجتثت } استُؤصِلت وأُخذت جثّتُها بالكلية { مِن فَوْقِ الأرض } لكون عروقها قريبةً منه { مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } استقرارٍ عليها .
{ يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ بالقول الثابت } الذي ثبت بالحجة عندهم وتمكّن في قلوبهم وهو الكلمةُ الطيبةُ التي ذُكرت صفتُها العجيبة { فِى الْحَياة الدُنيا } فلا يُزالون عنه إذا افتُتِنوا في دينهم كزكريا ويحيى وجرجيس وشمسون والذين فتنهم أصحابُ الأخدود { وَفِي الأخرة } فلا يتلعثمون إذا سُئلوا عن معتقدهم في الموقف ولا تُدهشُهم أهوالُ القيامة أو عند سؤال القبر . روي أنه عليه الصلاة والسلام ذكَر قبضَ روحِ المؤمن فقال : « ثم يُعاد روحُه في جسده فيأتيه ملكان فيُجلسانه في قبره ، فيقولان : مَنْ ربك وما دينُك ومن نبيُّك؟ فيقول : ربي الله وديني الإسلامُ ونبيّي محمد عليه الصلاة والسلام ، فينادي منادٍ من السماء أنه صدق عبدي » فذلك قوله تعالى : { يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ بالقول الثابت } وهذا مثالُ إيتاءِ الشجرةِ المذكورة أُكُلَها كل حين . قال الثعلبي في تفسيره : أخبرني أبو القاسم بن حبيب في سنة ستٍ وثمانين وثلاثمائة ، قال : سمعت أبا الطيب محمدَ بنَ علي الخياطَ يقول : سمعت ( سهلَ بنَ عمار العملي ) يقول : رأيت ( يزيدَ بن هارون ) في منامي بعد موته فقلت : ما فعل الله بك؟ قال : أتاني في قبري ملكان فظّان فقالا : من ربك وما دينك ومن نبيك؟ فأخذتُ بلحيتي البيضاءِ ، فقلت لهما : ألمِثلي يقال هذا ، وقد علّمتُ الناسَ جوابَكما ثمانين سنة؟ فدهبا .
{ وَيُضِلُّ الله الظالمين } أي يخلق فيهما الضلالَ عن الحق الذي ثبّت المؤمنين عليه حسب إرادتهم واختيارِهم ، والمرادُ بهم الكفرةُ بدليل ما يقابله ووصفُهم بالظلم إما باعتبار وضعهم للشيء في غير موضعِه وإما باعتبار ظلِمهم لأنفسهم حيث بدلوا فطرةَ الله التي فطر الناسَ عليها فلم يهتدوا إلى القول الثابتِ ، أو كلُ من ظلم نفسه بالاقتصار على التقليد والإعراضِ عن البينات الواضحة فلا يتثبّت في مواقف الفتن ولا يهتدي إلى الحق ، فالمرادُ بالذين آمنوا حينئذ المخلصون في الإيمان والراسخون في الإيقان كما ينبىء عنه التثبيتُ لكنه يوهم كونَ كلمة التوحيد إذا كانت لا عن إيقان داخلةً تحت ما لا قرارَ له من الشجرة المضروبة مثلاً { وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاء } من تثبيت بعضٍ وإضلالِ آخرين حسبما توجبه مشيئتُه التابعةُ للحِكم البالغة المقتضيةِ لذلك ، وفي إظهار الاسمِ الجليل في الموضعين من الفخامة وتربيةِ المهابة ما لا يخفى ، مع ما فيه من الإيذان بالتفاوت في مبدأ التثبيتِ والإضلال فإن مبدأ صدورِ كلَ منهما عنه سبحانه وتعالى من صفاته العُلا غيرُ ما هو مبدإ صدور الآخر .(4/32)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
{ أَلَمْ تَرَ } تعجيبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد مما صنع الكفرةُ من الأباطيل التي لا تكاد تصدُر عمن له أدنى إدراك ، أي ألم تنظُر { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ } أي شكرَ نعمته تعالى بأن وضعوا موضعَه { كُفْراً } عظيماً وغمْطاً لها أو بدلوا نفسَ النعمة كفراً ، فإنهم لما كفروها سُلبوها فصاروا مستبدلين بها كفراً كأهل مكةَ حيث خلقهم الله سبحانه وأسكنهم حرمَه الآمنَ الذي يجبى إليه ثمراتُ كل شيء وجعلهم قِوامَ بيته وشرّفهم بمحمد عليه الصلاة والسلام فكفروا ذلك ، فقُحطوا سبع سنين وقُتلوا وأُسروا يوم بدر ، فصاروا أذلأَ مسلوبي النعمة باقين بالكفر بدلها . عن عمر وعلي رضي الله عنهما ( هم الأفجران من قريش : بنو المغيرةِ وبنو أمية أما بنو المغيرة فكُفيتموهم يوم بدر وأما بنو أمية فَمُتِّعوا إلى حين ) . كأنهما يتأولان ما سيتلى من قوله عز وجل : { قُلْ تَمَتَّعُواْ } الآية { وَأَحَلُّواْ } أي أنزلوا { قَوْمَهُمْ } بإرشادهم إياهم إلى طريقة الشرك والضلالِ ، وعدمُ التعرض لحلولهم لدلالة الإحلالِ عليه إذ هو فرْعُ الحلول كقوله تعالى : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار } { دَارَ البوار } دارَ الهلاك الذي لا هلاكَ وراءه .
{ جَهَنَّمَ } عطفُ بيان لها ، وفي الإبهام ثم البيان ما لا يخفى من التهويل { يَصْلَوْنَهَا } حال منها أو من قومهم أي داخلين فيها مُقاسِين لحرّها ، أو استئنافٌ لبيان كيفيةِ الحلولِ أو مفسر لفعل يقدر ناصباً لجهنم ، فالمرادُ بالإحلال المذكورِ حينئذ تعريضُهم للهلاك بالقتل والأسرِ لكن قوله تعالى : { قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } أنسبُ بالتفسير الأول { وَبِئْسَ القرار } على حذف المخصوصِ بالذم أي بئس المقرُّ جهنمُّ أو بئس القرار قرارُهم فيها ، وفيه بيان أن حلولهم وصِلِيَّهم على وجه الدوام والاستمرار .
{ وَجَعَلُواْ } عطفٌ على أحلوا وما عطف عليه داخلٌ معهما في حيز الصلة وحكمِ التعجيب أي جعلوا في اعتقادهم وحكمِهم { لِلَّهِ } الفردِ الصمدِ الذي ليس كمثله شيءٌ وهو الواحد القهار { أَندَاداً } أشباهاً في التسمية أو في العبادة { لِيُضِلُّواْ } قومَهم الذين يشايعونهم حسبما ضلوا { عَن سَبِيلِهِ } القويمِ الذي هو التوحيدُ ويوقعوهم في ورطة الكفرِ والضلال ، ولعل تغييرَ الترتيب مع أن مقتضى ظاهرِ النظمِ أن يُذكر كفرانُهم نعمةَ الله تعالى ، ثم كفرُهم بذاته تعالى باتخاذ الأنداد ثم إضلالهم لقومهم المؤدي إلى إحلالهم دار البوار ، لتثنية التعجيبِ وتكريرِه والإيذانِ بأن كل واحد من وضع الكفر موضعَ الشكر وإحلالِ القوم دارَ البوار ، واتخاذِ الأنداد للإضلال أمرٌ يقضي منه العجبَ ، ولو سيق النظمُ على نسق الوجود لربما فُهم التعجيب من مجموع الهَنات الثلاثِ كما في قصة البقرة ، وقرىء ليَضلوا بالفتح ، وأياً ما كان فليس ذلك غرضاً حقيقياً لهم من اتخاذ الأندادِ لكن لما كان ذلك نتيجةً له شُبّه بالغرض وأدخل عليه اللام بطريق الاستعارة التبعية .(4/33)
{ قُلْ } تهديداً لأولئك الضالين المُضلين ونعياً عليهم وإيذاناً بأنهم لشدة إبائِهم قبولَ الحق وفرْطِ إنهماكِهم في الباطل وعدمِ ارعوائهم عن ذلك بحال أحقاءُ بأن يُضرب عنهم صفحاً ويُعطَفَ عنهم عِنانُ العِظة ويُخَلّوا وشأنَهم ولا يُنهَوْا عنه بل يؤمَروا بمباشرته مبالغةً في التخلية والخِذلان ومسارعةً إلى بيان عاقبته الوخيمة ويقال لهم : { تَمَتَّعُواْ } بما أنتم عليه من الشهوات التي جملتها كفرانُ النعم العظامِ واستتباعُ الناسِ في عبادة الأصنام { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } ليس إلا ، فلا بد لكم من تعاطي ما يوجب ذلك ويقتضيه من أحوالكم بل هي في الحقيقة صورةٌ لدخولها ومثالٌ له حسبما يلوح به قولُه سبحانه : { وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار } الخ ، فهو تعليلٌ للأمر المأمورِ ، وفيه من التهديد الشديدِ والوعيدِ الأكيد ما لا يوصف ، أو قل لهم تصويراً لحالهم وتعبيراً عما يُلجئهم إلى ذلك : تمتعوا ، إيذاناً بأنهم لفرْط انغماسِهم في التمتع بما هم فيه من غير صارفٍ يَلويهم ولا عاطفٍ يَثنيهم مأمورون بذلك من قِبل آمر الشهوة مذعِنون لحكمه منقادون لأمره كدأب مأمورٍ ساعٍ في خدمة آمرٍ مُطاع ، فليس قوله تعالى : { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } حينئذٍ تعليلاً للأمر بل هو جوابُ شرطٍ ينسحب عليه الكلام ، كأنه قيل : هذه حالُكم فإن دمتم عليه فإن مصيركم إلى النار وفيه التهديدُ والوعيد لا في الأمر .(4/34)
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
{ قُل لّعِبَادِىَ الذين ءامَنُواْ } خصهم بالإضافة إليه تنويهاً لهم وتنبيهاً على أنهم المقيمون لوظائفِ العبودية الموفون بحقوقها ، وتركُ العاطف بين الأمرين للإيذان بتباين حالِهما باعتبار المقول تهديداً وتشريفاً ، والمقولُ هاهنا محذوفٌ دل عليه الجوابُ أي قل لهم أقيموا وأنفقوا { يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } أي يداوموا على ذلك ، وفيه إيذانٌ بكمال مطاوعتِهم الرسولَ صلى الله عليه وسلم وغايةِ مسارعتِهم إلى الامتثال بأوامره ، وقد جوّزوا أن يكون المقولُ يقيموا وينفقوا بحذف لام الأمرِ عنهما ، وإنما حسُن ذلك دون الحذف في قوله
محمدُ تَفدِ نفسَك كلُّ نفس ... إذا ما خِلفْتَ من أمر تَبالا
لدلالة قل عليه ، وقيل : هما جوابا أقيموا وأنفقوا قد أقيما مُقامهما وليس بذاك { سِرّا وَعَلاَنِيَةً } منتصبان على المصدرية من الأمر المقدرِ لا من جواب الأمر المذكور أي أنفقوا إنفاق سرَ وعلانية ، والأحبُّ في الإنفاق إخفاءُ المتطوَّع به وإعلانُ الواجب ، والمرادُ حث المؤمنين على الشكر لنعم الله سبحانه بالعبادة البدنية والماليةِ وتركِ التمتعِ بمتاع الدنيا والركونِ إليها كما هو صنيعُ الكفرة { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ } فيبتاعَ المقصِّر ما يتلافى به تقصيرَه أو يفتدي به نفسَه ، والمقصودُ نفيُ عقدِ المعارضة بالمرة ، وتخصيصُ البيعِ بالذكر للإيجاز مع المبالغة في نفي العقدِ إذ انتفاءُ البيع يستلزم انتفاءَ الشراء على أبلغ وجهٍ ، وانتفاؤُه ربما يتصور مع تحقق الإيجابِ من قبل البائع { وَلاَ خلال } ولا مخالّةٌ فيشفعَ له خليلٌ أو يسامحَه بمال يفتدي به نفسه أو من قبل أن يأتي يومٌ لا أثرَ فيه لما لهَجوا بتعاطيه من البيع والمخالّة ولا انتفاعَ بذلك ، وإنما الانتفاعُ والارتفاقُ فيه بالإنفاق لوجه الله سبحانه ، والظاهرُ أن من متعلقة بأنفِقوا وتذكيرُ إتيانِ ذلك اليوم لتأكيد مضمونِه كما في سورة البقرة من حيث إن كلاًّ من فقدان الشفاعةِ وما يُتدارك به التقصير معاوضةً وتبرعاً ، وانقطاعُ آثار البيع والخِلالِ الواقعَيْن في الدنيا وعدمُ الانتفاع بهما من أقوى الدواعي إلى الإتيان بما تبقى عوائدُه وتدوم فوائدُه من الإنفاق في سبيل الله عز وجل ، أو من حيث أن ادخارَ المال وتركَ إنفاقِه إنما يقع غالباً للتجارات والمُهاداة فحيث لا يمكن ذلك في الآخرة فلا وجهَ لادّخاره إلى وقت الموت ، وتخصيصُ التأكيد بذلك لميل الطباعِ إلى المال وكونها مجبولةً على حبه والضَّنةِ به ، ولا يبعُد أن يكون تأكيداً لمضمون الأمرِ بإقامة الصلاة أيضاً من حيث إن تركَها كثيراً ما يكون بالاشتغال بالبياعات والمُخالاّت كما في قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } وقرىء بالفتح فيهما على إرادة النفي العام ودَلالةِ الرفعِ على ذلك باعتبار خطابيَ هو وقوعُه في جواب هل فيه بيعٌ أو خلال؟(4/35)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32)
{ الله } مبتدأٌ خبرُه { الذى خَلَقَ السموات } وما فيها من الأجرام العلوية { والأرض } وما فيها من أنواع المخلوقاتِ . لمّا ذكر أحوالَ الكافرين لنعم الله تعالى وأمرَ المؤمنين بإقامة مراسم الطاعةِ شكراً لنعمه شرَع في تفصيل ما يستوجب على كافة الأنامِ ، والمثابرةِ على الشكر والطاعة من النعم العِظام والمنن الجِسام حثاً للمؤمنين عليها وتقريعاً للكفرة المُخلّين بها الواضعين موضعَها الكفرَ والمعاصيَ ، وفي جعل المبتدإ الاسمَ الجليلَ والخبرَ الاسمَ الموصولَ بتلك الأفاعيلِ العظيمة من خلق هذه الأجرامِ العظام وإنزال الأمطارِ وإخراجِ الثمرات وما يتلوها من الآثار العجيبةِ ما لا يخفى من تربية المهابةِ والدِلالة على قوة السلطان { وَأَنزَلَ مِنَ السماء } أي السحابِ فإن كلَّ ما علاك سماءٌ ، أو من الفَلَك فإن المطر منه يبتدىء إلى السحاب ومنه إلى الأرضِ على ما دلت عليه ظواهرُ النصوص أو من أسباب سماويةٍ تثير الأجزاءَ الرطبةَ من أعماق الأرض إلى الجو فينعقد سحاباً ماطراً ، وأياً ما كان فمن ابتدائيةٌ { مَاء } أي نوعاً منه هو المطرُ ، وتقديمُ المجرورِ على المنصوب إما باعتبار كونِه مبدأ لنزوله أو لتشريفه كما في قولك : أعطاه السلطانُ من خزانته مالاً ، أو لما مرّ مراراً من التشويق إلى المؤخّر { فَأَخْرَجَ بِهِ } بذلك الماء { مِنَ الثمرات } الفائتة للحصر ، إما لأن صيغَ الجموعِ يتعاور بعضُها موضعَ بعض ، وإما لأنه أريد بمفردها جماعةُ الثمرة التي في قولك : أدركت ثمرةُ بستانِ فلان { رِزْقاً لَّكُمْ } تعيشون به وهو بمعنى المرزوق شاملٌ للمطعوم والملبوس مفعولٌ لأخرج ومن للتبيين كقولك : أنفقت من الدراهم ألفاً ، ويجوز أن يكون من الثمرات مفعولاً ورزقاً حالاً منه ، أو مصدراً من أخرج بمعنى رزَق ، أو للتبعيض بدليل قوله تعالى : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ } كأنه قيل : أنزل من السماء بعضَ الماء فأخرج به بعضَ الثمرات ليكون بعضَ رزقكم إذ لم ينزل من السماء كلُّ الماء ولا أخرج بالمطر كلَّ الثمار ولا جعل كلَّ الرزق ثمراً ، وخروجُ الثمرات وإن كان بمشيئته عز وجل وقدرتِه لكن جرت عادتُه تعالى بإفاضة صورِها وكيفياتها على المواد الممتزجةِ من الماء والتراب وأودع في الماء قوةً فاعلةً وفي الأرض قوةً قابلةً يتولد من اجتماعهما أنواعُ الثمار ، وهو قادرٌ على إيجاد الأشياء بلا أسباب ( ولا ) موادَّ كما أبدع نفوسَ الأسباب كذلك لما أن له تعالى في إنشائها مدرّجاً من طَور إلى طور صنائعَ وحِكماً يجدّد فيها لأولي الأبصار عِبَراً وسكوناً إلى عظيم قدرتِه ليس ذلك في إبداعها دفعةً ، وقوله : لكم ، صفةٌ لقوله : رزقاً ، إن أريد به المرزوقُ ، ومفعولٌ به إن أريد به المصدرُ كأنه قيل : رزقاٍ إياكم . { وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك } بأن أقدركم على صنعتها واستعمالِها بما ألهمكم كيفيةَ ذلك { لِتَجْرِىَ فِى البحر } جرياً تابعاً لإرادتكم { بِأَمْرِهِ } بمشيئته التي نيط بها كلُّ شيء ، وتخصيصُه بالذكر للتنصيص على أن ذلك ليس بمزاولة الأعمالِ واستعمالِ الآلاتِ كما يتراءى من ظاهر الحال { وَسَخَّرَ لَكُمُ الانهار } إن أريد بها المياهُ العظيمة الجاريةُ في الأنهار العظامِ كما يومىء إليه ذكرُها عند البحر فتسخيرُها جعلُها مُعدّةً لانتفاع الناس حيث يتخذون منها جداولَ يسقوُن منها زروعَهم وجِنانَهم وما أشبه ذلك ، وإن أريد بها نفسُ الأنهار فتسخيرُها تيسيرُها لهم .(4/36)
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
{ وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَائِبَينَ } يدأبان في سيرهما وإنارتهما أصالةً وخلافةً وإصلاحِهما لما نيط بهما صلاحُه من المكوّنات { وَسَخَّر لَكُمُ اليل والنهار } يتعاقبان خِلْفةً لمنامكم ومعاشِكم ولعقد الثمار وإنضاجِها ، ذكر سبحانه وتعالى أنواعَ النعم الفائضةِ عليهم وأبرز كلَّ واحدة منها في جملة مستقلةٍ تنويهاً لشأنها وتنبيهاً على رفعة مكانِها وتنصيصاً على كون كل منها نعمةً جليلةً مستوجبةً للشكر ، وفي التعبير عن التصريف المتعلّق بما ذُكر من الفلك والأنهارِ والشمسِ والقمر والليل والنهار بالتسخير من الإشعار بما فيها من صعوبة المأخذ وعزةِ المنال والدِلالة على عِظَم السلطان وشدّة المِحال ما لا يخفى ، وتأخيرُ تسخيرِ الشمس والقمرِ عن تسخير ما تقدمه من الأمور المعدودةِ مع ما بينه وبين خلقِ السموات من المناسبة الظاهرةِ لاستتباع ذكرِها لذكر الأرض المستدعي لذكر إنزالِ الماءِ منها إليها الموجبِ لذكر إخراجِ الرزقِ الذي من جملته ما يحصُل بواسطة الفَلَك والأنهار أو للتفادي عن توهم كون الكل أعني خلقَ السمواتِ والأرض وتسخيرَ الشمس والقمر نعمةً واحدةً كما مر في سورة البقرة .
{ وَاتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } أي أعطاكم بعضَ جميع ما سألتموه حسبما تقتضيه مشيئتُه التابعةُ للحكمة والمصلحة كقوله سبحانه : { مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ } أو آتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ونيط به انتظامُ أحوالِكم على الوجه المقدّرِ فكأنكم سألتموه ، أو كلَّ ما طلبتموه بلسان الاستعدادِ أو كلَّ ما سألتموه ، على أن ( من ) للبيان وكلمةُ كل للتكثير ، كقولك : فلان يعلم كلَّ شيء وأتاه كلُّ الناس وعليه قوله عز وجل : { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء } وقيل : الأصلُ وآتاكم من كل ما سألتموه وما لم تسألوه فحُذف الثاني لِدلالة ما أُبقيَ على ما أُلقيَ ، وقرىء بتنوين ( كلِّ ) على أن ما نافيه ومحل سألتموه النصبُ على الحالية أي آتاكم من كلَ غيرَ سائليه .
{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله } التي أنعم بها عليكم { لاَ تُحْصُوهَا } لا تُطيقوا بحصرها ولو إجمالاً فإنها غيرُ متناهيةٍ ، وأصل الإحصاءِ أن الحاسبَ إذا بلغ عَقداً معيناً من عقود الأعدادِ وضع حصاةً ليحفظ بها ، إيذانٌ بعدم بلوغِ مرتبةٍ معتدَ بها من مراتبها فضلاً عن بلوغ غايتِها ، كيف لا وما من فرد من أفراد الناسِ وإن كان في أقصى مراتبِ الفقرِ والإفلاس مَمنوًّا بأصناف العنايا مبتلىً بأنواع الرزايا فهو بحيث لو تأملتَه ألفيتَه متقلّباً في نِعمَ لا تحدّ ومننٍ لا تحصى ولا تعدّ كأنه قد أعطيَ كلَّ ساعة وآنٍ من النعماء ما حواه حِيطةُ الإمكان ، وإن كنت في ريب من ذلك فقدِّرْ أنه ملَك مِلكٌ أقطارَ العالم ، ودانت له كافةُ الأمم ، وأذعنت لطاعته السَّراةُ ، وخضعت لهيبته رُقابُ العُتاة ، وفاز بكل مرام ، ونال كل منالٍ ، وحاز جميع ما في الدنيا من أصناف الأموالِ من غير نِدّ يزاحمه ، ولا شريك يساهمُه ، بل قدِّرْ أن جميع ما فيها من حجر ومدَرٍ يواقيتُ غاليةٌ ونفائسُ دُررٍ ، ثم قدِّر أنه قد وقع مِنْ فقْد مشروبٍ أو مطعوم في حالة بلغت نفسُه الحلقومَ ، فهل يشتري وهو في تلك الحال بجميع مالِه من الملك والمال لُقمةً تنجّيه عن رِواه ، أو شربةً ترويه من ظَماه ، أم يختار الهلاك فتذهبَ الأموالُ والأملاك بغير بذل يبقى عليه ولا نفعٍ يعود إليه؟ كلا ، بل يبذُل لذلك كلَّ ما تحويه اليدان كائناً ما كان وليس في صفقته شائبةُ الخُسران ، فإذن تلك اللقمةُ والشَّرْبةُ خيرٌ مما في الدنيا بألف رتبةٍ مع أنهما في طرف الثمام ينالهما متى شاء من الليالي والأيام ، أو قدّر أنه قد احتبس عليه النفَسُ فلا دخلَ منه ما خرَج ولا خرَج منه ما ولَج ، والحينُ قد حان وأتاه الموتُ من كل مكان أما يعطي ذلك كلَّه بمقابلة نفس واحد بل يعطيه وهو لرأيه حامدٌ ، فإذن هو خير من أموال الدنيا بجملتها ومطالبها برُمّتها مع أنه قد أبيح له كل آنٍ من آنات الليالي والأيام حالَ اليقظة والمنام هذا من الظهور والجلاء بحيث لا يكاد يخفى على أحد من العقلاء ، وإن رمت العثورَ على حقيقة الحقِّ والوقوفَ على كل ما جل من السرِّ ودق فاعلم أن الإنسانَ بمقتضى حقيقتِه الممكنةِ بمعزل عن استحقاق الوجودِ وما يتبعه من الكمالات اللائقةِ والملكاتِ الرائقةِ بحيث لو انقطع ما بينه وبين العنايةِ الإلهية من العلاقة لما استقر له القَرار ولا اطمأنت به الدار إلا في مطمورة العدم والبوار ، ومهاوي الهلاك والدمار لكن يَفيض عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنه وتقدّس في كل زمان يمضي وكل آن يمرّ وينقضي من أنواع الفيوضِ المتعلقة بذاته ووجودِه وسائرِ صفاتِه الروحانيةِ والنفسانية والجُسمانية ما لا يحيط به نطاقُ التعبير ولا يعلمه إلا العليم الخبير ، وتوضيحه أنه كما لا يستحق الوجودَ ابتداءً لا يستحقه بقاءً وإنما ذلك من جانب المبدأ الأول عز وجل ، فكما لا يتصور وجودُه ابتداءً ما لم ينسدَّ عليه جميع أنحاءِ عدمِه الأصلي لا يتصور بقاؤه على الوجود بعد تحققِه بعلّته ما لم ينسدَّ عليه جميعُ أنحاءِ عدمه الطارىء لأن الاستمرار والدوامَ من خصائص الوجود الواجبي .(4/37)
وأنت خبير بأن ما يتوقف عليه وجودُه من الأمور الوجودية التي هي عللُه وشرائطُه وإن وجب كونُها متناهيةً لوجوب تناهي ما دخل تحت الوجود لكن الأمور العدميةَ التي لها دخلٌ في وجوده ليست كذلك إذ لا استحالةَ في أن يكون لشيء واحد موانعُ غيرُ متناهية ، وإنما الاستحالة في دخولها تحت الوجود فارتفاعُ تلك الموانع التي لا تتناهى أعني بقاءَها على العدم مع إمكان وجودِها في أنفسها في كل آن من آنات وجودِه نعمٌ غيرُ متناهية حقيقة لا ادعاءً وكذا الحال في وجودات علله وشرائطِه القريبة والبعيدة ابتداءً وبقاءً وكذا في كمالاته التابعةِ لوجوده فاتضح أنه يَفيض عليه كلَّ آن نعمٌ لا تتناهى من وجوه شتى ، فسبحانك سبحانك ما أعظمَ سلطانَك لا تلاحظك العيونُ بأنظارها ولا تطالعك العقولُ بأفكارها شأنُك لا يضاهى وإحسانُك لا يتناهى ونحن في معرفتك حائرون وفي إقامة مراسمِ شكرِك قاصرون نسألك الهدايةَ إلى مناهج معرفتِك والتوفيقَ لأداء حقوقِ نعمتك لا نحصي ثناءً عليك لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك { إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ } يظلِم النعمةَ بإغفال شكرِها أو بوضعه إياها في غير موضعِها أو يظلم نفسَه بتعريضها للحرمان { كَفَّارٌ } شديدُ الكفران ، وقيل : ظلومٌ في الشدة يشكو ويجزع ، كفّارٌ في النعمة يجمع ويمنع ، واللام في الإنسان للجنس ومصداقُ الحكمِ بالظلم والكفران بعضُ مَنْ وُجد فيه من أفراده ويدخُل في ذلك الذين بدلوا نعمة الله كفراً الخ دخولاً أولياً .(4/38)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)
{ وَإِذْ قَالَ إبراهيم } أي واذكر وقتَ قوله عليه الصلاة والسلام ، والمقصودُ من تذكيره تذكيرُ ما وقع فيه من مقالاته عليه السلام على نهج التفصيل ، والمرادُ به تأكيدُ ما سلف من تعجيبه عليه السلام ببيان فنٍ آخرَ من جناياتهم حيث كفروا بالنعم العامة وعصَوا أباهم إبراهيمَ عليه السلام حيث أسكنهم بمكة شرفها الله تعالى لإقامة الصلاةِ والاجتنابِ عن عبادة الأصنام والشكر لنعم الله تعالى ، وسأله تعالى أن يجعله بلداً آمناً ويرزقَهم من الثمرات وتهويَ قلوبُ الناس إليهم من كل أَوب سحيقٍ فاستجاب الله تعالى دعاءَه وجعله حرماً آمناً تجبى إليه ثمراتُ كل شيء فكفروا بتلك النعم العظامِ واستبدلوا بالبلد الحرام دار البوار وجعلوا لله أنداداً وفعلوا ما فعلوا { رَبّ اجعل هذا البلد } يعني مكةَ شرفها الله سبحانه { مِنَ } أي ذا أمْنٍ أو آمناً أهلُه بحيث لا يُخاف فيه ، على ما مر في سورة البقرة والفرق بينه وبين ما فيها من قوله : { رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا } أن المسؤولَ هناك البلديةُ والأمنُ معها ، وهاهنا الأمنُ فقط حيث جُعل هو المفعولَ الثانيَ للجعل وجُعل البلدَ صفةً للمفعول الأول ، فإن حُمل على تعدد السؤال فلعله عليه السلام سأل أولاً كِلا الأمرين فاستُجيب له في أحدهما وتأخر الآخرُ إلى وقته المقدّر لما يقتضيه من الحكمة الداعيةِ إليه ، ثم كَرّر السؤالَ كما هو المعتاد في الدعاء والابتهالِ ، أو كان المسؤولُ أولاً مجردَ الأمنِ المصحِّح للسكن كما في سائر البلاد وقد أجيب إليه ، وثانياً الأمنَ المعهودَ أو كان هو المسؤولَ فيهما وقد أجيب إليه أيضاً لكن السؤالَ الثانيَ للاستدامة ، والاقتصارُ على ذلك لأنه المقصودُ الأصلي أو لأن المعتادَ في البلدية الاستمرارُ بعد التحقق بخلاف الأمن ، وإن حمل على وحدة السؤال وتكرر الحكاية كما هو المتبادرُ فالظاهرُ أن المسؤول كِلا الأمرين ، وقد حكي أولاً واقتُصر هاهنا على حكاية سؤال الأمنِ لا لمجرد أن نعمةَ الأمن أدخلُ في استيجاب الشكر فذِكرُه أنسبُ بمقام تقريعِ الكفرة على إغفاله كما قيل بل لأن سؤال البلدية قد حكي بقوله تعالى : { فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس تَهْوِى إِلَيْهِمْ } إذ المسؤولُ هُوِيّتُها إليهم للمساكنة معهم لا للحج فقط وهو عينُ سؤال البلدية قد حكي بعبارة أخرى وكان ذلك أولَ ما قدِم عليه السلام مكةَ ، كما روى سعيدُ بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام لما أسكن إسماعيلَ وهاجرَ هناك وعاد متوجهاً إلى الشام تبِعتْه هاجرُ وجعلت تقول : إلى من تكِلُنا في هذا البلقع؟ وهو لا يرد عليها جواباً حتى قالت : آلله أمرك بهذا؟ فقال : نعم ، قالت : إذاً لا يضيّعنا فرضِيَت ، ومضى حتى إذا استوى على ثنية كَداء أقبل على الوادي فقال :(4/39)
{ رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ } الآية ، وإنما فصل ما بينهما تثنية للامتنان وإيذاناً بأن كلاًّ منهما نعمةٌ جليلةٌ مستتبعة لشكر كثير في قصة البقرة .
{ واجنبنى وَبَنِىَّ } بعِّدني وإياهم { أَن نَّعْبُدَ الأصنام } واجعلنا منها في جانب بعيد أي ثبتنا على ما كنا عليه من التوحيد وملة الإسلام والبعد عن عبادة الأصنام ، وقرىء وأجنبْني من الإفعال ، وهما لغةُ أهلِ نجد ، يقولون : جنّبني شرَّه وأجنبْني شرَّه ، وأما أهلُ الحجاز فيقولون : جنّبني شره وفيه دليل على أن عصمةَ الأنبياء عليهم السلام بتوفيق الله تعالى ، والظاهرُ أن المراد ببنيه أولادُ الصلبية فلا احتجاجَ به لابن عيينة رضي الله عنه على أن أحداً من أولاد إسماعيلَ عليه السلام لم يعبُد الصنم وإنما كان لكل قومٍ حجرٌ نصبوه ، وقالوا : هو حجرٌ والبيتُ حجر ، فكانوا يدورون به ويسمونه الدوار ، فاستُحب أن يقال : طاف بالبيت ولا يقال دار بالبيت ، وليت شعري كيف ذهب عليه ما في القرآن العظيم من قوارعَ تنعي على قريش عبادةَ الأصنام على أن فيما ذكره كرٌّ على ما فر منه .(4/40)
رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
{ رَبّ إِنَّهُنَّ } أي الأصنامَ { أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس } أي تسبّبن له كقوله تعالى : { وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا } وهو تعليلٌ لدعائه وإنما صدّره بالنداء إظهاراً لاعتنائه به ورغبةً في استجابته { فَمَن تَبِعَنِى } منهم فيما أدعو إليه من التوحيد وملةِ الإسلام { فَإِنَّهُ مِنّى } أي بعضي قاله عليه السلام مبالغةً في بيان اختصاصِه به ، أو متصلٌ بي لا ينفك عني في أمر الدين { وَمَنْ عَصَانِى } أي لم يتبعْني ، والتعبيرُ عنه بالعصيان للإيذان بأن عليه السلام مستمرُّ الدعوة وأن عدم اتباعِ من لم يتبعْه إنما هو لعصيانه لا لأنه لم يبلُغْه الدعوة { فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قادر على أن تغفِرَ له وترحَمه ابتداءً أو بعد توبتِه ، وفيه أن كل ذنبٍ فلَّله تعالى أن يغفرَه حتى الشركُ خلا أن الوعيدَ قضى بالفرق بينه وبين غيره .
{ رَبَّنَا } آثر عليه السلام ضمير الجماعةِ لا لما قيل من تقدم ذكرِه وذكرِ بنيه وإلا لراعاه في قوله : ربَّ إنهن الخ ، لأن الدعاء المصدّرَ به وما أورده بصدد تمهيدِ مبادي إجابتهِ من قوله : { إِنَّى أَسْكَنتُ } الآية ، متعلقٌ بذريته فالتعرضُ لوصف ربوبيته تعالى لهم أدخلُ في القبول وإجابةِ المسؤول { مِن ذُرّيَّتِى } أي بعضهم أو ذريةً من ذريتي فحُذف المفعولُ وهو إسماعيلُ عليه السلام وما سيولد له فإن إسكانَه حيث كان على وجه الاطمئنانِ متضمِّنٌ لإسكانهم . روي أن هاجرَ أمَّ إسماعيلَ عليه السلام كانت لسارة فوهبتْها من إبراهيمَ عليه السلام فلما ولدت له إسماعيلَ عليه السلام غارت عليهما فناشدته أن يُخرجَهما من عندها فأخرجهما إلى أرض مكةَ فأظهر الله تعالى عينَ زمزم { بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ } لا يكون فيه زرعُ أصلاً وهو وادي مكةَ شرفها الله تعالى { عِندَ بَيْتِكَ } ظرف لأسكنتُ ، كقولك : صليت بمكةَ عند الركنِ ، لا أنه صفةٌ لوادٍ أو بدل منه ، إذ المقصودُ إظهارُ كونِ ذلك الإسكان مع فقدان مباديه بالمرة لمحض التقربِ إلى الله تعالى والالتجاءِ إلى جواره الكريم كما ينبىء عنه التعرّضُ لعنوان الحرمةِ المؤذِنِ بعزة الملتجأ وعصمتِه عن المكاره في قوله تعالى : { المحرم } حيث حُرّم التعرضُ له والتهاونُ به أو لم يزل معظّماً ممنّعاً يهابه الجبابرةُ في كل عصر ، أو مُنع منه الطوفان فلم يستولِ عليه ولذلك سميَ عتيقاً ، وتسميتُه إذ ذاك بيتاً ولم يكن له بناءٌ وإنما كان نشْزاً مثلَ الرَّابية تأتيه السيول فتأخد ذاتَ اليمين وذات الشمال ليست باعتبار ما سيؤول إليه الأمرُ من بنائه عليه السلام فإنه ينزِع إلى اعتبار عنوانِ الحرمة أيضاً كذلك بل إنما هي باعتبار ما كان من قبل فإن تعدد بناءِ الكعبةِ المعظمةِ مما لا ريب فيه وإنما الاختلافُ في كمية عددِه وقد ذكرناها في سورة البقرة بفضل الله تعالى .(4/41)
{ رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ } متوجّهين إليه متبرّكين به ، وهو متعلقٌ بأسكنتُ وتخصيصُها بالذكر من بين سائر شعائرِ الدينِ لفضلها ، وتكريرُ النداءِ وتوسيطُه لإظهار كمالِ العنايةِ بإقامة الصلاةِ والاهتمامِ بعرضِ أن الغرضَ من إسكانهم بذلك الوادي البلقعِ ذلك المقصدُ الأقصى والمطلب الأسنى ، وكلُّ ذلك لتمهيد مبادىء إجابة دعائِه وإعطاء مسؤولِه الذين لا يتسنى ذلك المرامُ إلا به ، ولذلك أُدخل عليه الفاء فقال : { فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس } أي أفئدةً من أفئدتهم ، فمن للتبعيض ، ولذلك قيل : لو قال : أفئدةَ الناسِ لازدحمت عليهم فارسُ والروم ، وأما ما زيد عليه من قولهم : ولَحجّت اليهودُ والنصارى فغيرُ مناسب للمقام إذ المسؤولُ توجيهُ القلوب إليهم للمساكنة معهم لا توجيهُها إلى البيت للحج ، وإلا لقيل : تهوي إليه ، فإنه عينُ الدعاء بالبلدية قد حكي بعبارة أخرى كما مر ، أو لابتداء الغاية كقولك : القلبُ منّي سقيمٌ أي أفئدةَ ناسٍ ، وقرىء آفدةً على القلب كآدر في أدؤر أو على أنه اسم فاعل من أفدت الرحلة أي عجِلت أي جماعةً من الناس وأفِدَةً بطرح الهمزة من الأفئدة أو على النعت من أفد { تَهْوِى إِلَيْهِمْ } تسرع إليهم شوقاً ووِداداً ، وقرىء على البناء للمفعول من أهواه غيرُه وتهوى من باب علم أي تحبّ ، وتعديته بإلى لتضمُّنه معنى الشوقِ والنزوعِ وأولُ آثارِ هذه الدعوة ما روي أنه مرت رِفقةٌ من جُرهُم تريد الشامَ فرأوا الطيرَ تحوم على الجبل فقالوا : إن هذا الطائر لعائف على الماء فأشرفوا فإذا هم بهاجرَ ، فقالوا لها : إن شئت كنا معك وآنسناك والماءُ ماؤك فأذِنت لهم وكانوا معها إلى أن شبّ إسماعيلُ عليه السلام وماتت هاجرُ فتزوج إسماعيلُ منهم كما هو المشهور .
{ وارزقهم } أي ذريتي الذين أسكنتُهم هناك أو مع من ينحاز إليهم من الناس . وإنما لم يخصَّ الدعاء بالمؤمنين منهم كما في قوله : { وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ ءامَنَ مِنْهُم بالله واليوم الأخر } اكتفاءً بذكر إقامة الصلاة { مِنَ الثمرات } من أنواعها بأن يَجعلَ بقرب منه قُرىً يحصُل فيها ذلك أو يجبى إليه من الأقطار الشاسعةِ وقد حصل كلاهما حتى إنه يجتمع فيه الفواكهُ الربيعيةُ والصيفيةُ والخريفيةُ في يوم واحد ، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الطائفَ كانت من أرض فلسطين فلما دعا إبراهيمُ عليه السلام بهذه الدعوة رفعها الله تعالى ووضعها حيث وضعها رزقاً للحرَم . وعن الزهري رضي الله عنه أنه تعالى نقل قرية من قرى الشامِ فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيمَ عليه السلام { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } تلك النعمةَ بإقامة الصلاةِ وأداءِ سائر مراسمِ العبودية ، وقيل : اللامُ في ليقيموا لامُ الأمرِ والمرادُ أمرُهم بإقامة الصلاة والدعاء من الله تعالى بتوفيقهم لها ولا يناسبه الفاء في قوله تعالى : { فاجعل } الخ ، وفي دعائه عليه السلام من مراعاة حسنِ الأدبِ والمحافظة على قوانين الضَّراعةِ وعرضِ الحاجة واستنزالِ الرحمةِ واستجلابِ الرأفة ما لا يخفى ، فإنه عليه السلام بذكر كونِ الوادي غيرَ ذي زرعٍ بيّن كمالَ افتقارِهم إلى المسؤول ، وبذكر كونِ إسكانِهم عند البيت المحرم أشار إلى أن جِوارَ الكريم يستوجب إفاضةَ النعيم ، وبعرض كونِ ذلك الإسكانِ مع كمال إعوازِ مرافقِ المعاش لمحض إقامةِ الصلاةِ وأداء حقوقِ البيت مهّد جميعَ مبادي إجابةِ السؤال ، ولذلك قُرنت دعوتُه عليه السلام بحُسنِ القبول .(4/42)
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)
{ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ } من الحاجات وغيرِها ، والمرادُ بما نُخفي ما يقابل ما نعلن سواءٌ تعلق به الإخفاءُ أو لا ، أي تعلم ما نظهره وما لا نظهره فإن علمَه تعالى متعلّقٌ بما لا يخطُر بباله مما فيه من الأحوال الخفية فضلاً عن إخفائه ، وتقديمُ ما نخفي على ما نعلن لتحقيق المساواةِ بينهما في تعلق العلم بهما على أبلغ وجهٍ فكأن تعلقه بما يخفى أقدمُ منه بما يُعلن ، أو لأن مرتبة السرِّ والخفاءِ متقدمةٌ على مرتبة العلن إذ ما من شيء يُعلن إلا وهو قبل ذلك خفيٌّ فتعلقُ علمِه سبحانه بحالته الأولى أقدمُ من تعلقه بحالته الثانية ، وقصدُه عليه السلام أن إظهارَ هذه الحاجات وما هو من مباديها وتتماتها ليس لكونها غيرَ معلومةٍ لك ، بل إنما هو لإظهار العبوديةِ والتخشّعِ لعظمتك ، والتذلّل لعزتك ، وعرضِ الافتقارِ إلى ما عندك ، والاستعجالِ لنيل أياديك . وتكريرُ النداءِ للمبالغة في الضراعة والابتهال ، وضميرُ الجماعة لأن المرادَ ليس مجردَ علمِه تعالى بسرِّه وعلنه بل بجميع خفايا المُلك والملَكوت وقد حققه بقوله على وجه الاعتراض : { وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَىْء فَى الأرض وَلاَ فِى السماء } لما أنه العالمُ بالذات فما من أمر يدخُل تحت الوجود كائناً ما كان في زمان من الأزمان إلا ووجودُه في ذاته علمٌ بالنسبة إليه سبحانه ، وإنما قال : وما يخفي على الله الخ ، دون أن يقول : ويعلم ما في السموات والأرض تحقيقاً لما عناه بقوله : تعلم ما نخفي من أن علمَه تعالى بذلك ليس على وجه يكون فيه شائبةُ خفاءٍ بالنسبة إلى علمه تعالى كما يكون ذلك بالنسبة إلى علوم المخلوقاتِ ، وكلمةُ في متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لشيءٍ ، أي من شيء كائنٍ فيهما ، أعمُّ من أن يكون ذلك على وجه الاستقرار فيهما ، أو على وجه الجزئيةِ منهما أو بيخفى ، وتقديمُ الأرض على السماء مع توسيط لا بينهما باعتبار القربِ والبعدِ منا المستدعِيَين للتفاوت بالنسبة إلى علومنا ، والالتفاتُ من الخطاب إلى اسم الذاتِ المستجمعةِ للصفات لتربية المهابةِ والإشعارِ بعلة الحُكمِ على نهج قوله تعالى : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير } والإيذانِ بعمومه لأنه ليس بشأن يُختص به أو بمن يتعلق به ، بل شاملٌ لجميع الأشياء فالمناسبُ ذكرُه تعالى بعنوان مصحِّحٍ لمبدإ الكلّ ، وقيل : هو من كلام الله عز وجل وارد بطريق الاعتراض لتصديقه عليه السلام كقوله سبحانه : { وكذلك يَفْعَلُونَ } ومن للاستغراق على الوجهين .
{ الحمد للَّهِ الذى وَهَبَ لِى عَلَى الكبر } أي مع كِبَري ويأسي عن الولد ، قيّد الهبةَ به استعظاماً للنعمة وإظهاراً لشكرها { إسماعيل وإسحاق } رُوي أنه وُلد له إسماعيلُ وهو ابنُ تسعٍ وتسعين سنة ، وولد له إسحاقُ وهو ابن مائةٍ واثنتي عشرة سنة أو مائة وسبعَ عشرة سنة .(4/43)
{ إِنَّ رَبّى } ومالكَ أمري { لَسَمِيعُ الدعاء } لمجيبُه ، من قولهم : سمِع الملكُ كلامَه إذا اعتدّ به ، وهي من أبنية المبالغةِ العاملة عمَلَ الفعل أُضيف إلى مفعولِه أو فاعلِه بإسناد السماعِ إلى دعاء الله تعالى مجازاً ، وهو مع كونه من تتمة الحمدِ والشكر إذ هو وصفٌ له تعالى بأن ذلك الجميلَ سنّته المستمرّةُ تعليلٌ على طريقة التذييل للهبة المذكورة ، وفيه إيذانٌ بتضاعف النعمة فيها حيث وقعت بعد الدعاءِ بقوله : { رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين } فاقترنت الهبةُ بقبول الدعوةِ ، وتوحيدُ ضمير المتكلم وإن كان عَقيبَ ذكرِ هبتهما لما أن نعمةَ الهبةِ فائضةٌ عليه خاصة وهما من النعم لا من المنعَم عليهم .(4/44)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)
{ رَبّ اجعلنى مُقِيمَ الصلاة } مثابراً عليها معدّلاً لها ، وتوحيدُ ضمير المتكلم مع شمول دعوتِه لذريتِه أيضاً حيث قال : { وَمِن ذُرّيَتِى } أي بعضِهم من المذكورين ومن يسير سيرتَهما من أولادهما للإشعار بأنه المقتدى في ذلك وذرّيتُه أتباعٌ له وإن ذكَرهم بطريق الاستطراد ، لا كما في قوله : { رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ } الخ ، فإن إسكانَه مع عدم تحققِه بلا ملابسةٍ لمن أسكنه إنما هو مذكورٌ بطريق التمهيد للدعاء الذي هو مخصوصٌ بذريته وإنما خَصّ هذا الدعاءَ ببعض ذريته لعلمه من جهة الله تعالى أن بعضاً منهم لا يكون مقيمَ الصلاة كقوله تعالى : { رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } { رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء } أي دعائيَ هذا المتعلِّقَ بجعلي وجعلِ بعض ذرّيتي مقيمي الصلاةِ ثابتين على ذلك مجتنبين عن عبادة الأصنامِ ، ولذلك جيء بضمير الجماعة .
{ رَبَّنَا اغفر لِى } أي ما فرَطَ مني من ترك الأَولى في باب الدين وغيرَ ذلك مما لا يسلم منه البشر { وَلِوَالِدَىَّ } وقرىء بالتوحيد ولأبوي ، وهذا الاستغفارُ منه عليه السلام إنما كان قبل تبيّن الأمرِ له عليه السلام ، وقيل : أراد بوالديه آدمَ وحواءَ ، وقيل : بشرط الإسلام ويردّه قوله تعالى : { إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم } الآية ، وقد مر في سورة التوبة نوعُ تحقيقٍ للمقام سيأتي تمامه في سورة مريم بفضل الله تعالى { وَلِلْمُؤْمِنِينَ } كافة من ذريته وغيرهم وللإيذان باشتراك الكلِّ في الدعاء بالمغفرة جيء بضمير الجماعة { يَوْمَ يَقُومُ الحساب } أي يثبُت ويتحقق محاسبةُ أعمالِ المكلفين على وجه العدل ، استُعير له من ثبوت القائمِ على الرجل بالاستقامة ، ومنه قامت الحربُ على ساق ، والمرادُ تهويلُه ، وقيل : أسند إليه قيامُ أهلِه مجازاً أو حذف المضاف كما في { واسئل القرية } واعلم أن ما حكي عنه عليه السلام من الأدعية والأذكار وما يتعلق بها ليس بصادر عنه على الترتيب المَحْكيِّ ولا على وجه المعيّة ، بل صدر عنه في أزمنة متفرّقةٍ حُكي مرتباً للدِلالة على سوء حال الكفرةِ بعد ظهور أمرِه في الملة وإرشادِ الناس إليها والتضرّعِ إلى الله تعالى لمصالحهم الدينية والدنيوية .
{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون } خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمرادُ تثبيتُه على ما كان عليه من عدم حسبانه عز وجل كذلك ، نحو قوله : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } ونظائرِه ، مع ما فيه من الإيذان بكونه واجبَ الاحتراز عنه في الغاية حتى نُهي عنه من لا يمكن تعاطيه ، أو نهيُه عليه السلام عن حُسبانه تعالى تاركاً لعقابهم على طريقة العفو ، والتعبيرُ عنه بذلك للمبالغة في النهي والإيذان بأن ذلك الحسبانَ بمنزلة حسبانِه تعالى غافلاً عن أعمالهم إذ العلمُ بذلك مستوجبٌ لعقابهم لا محالة فتركُه لو كان لكان للغفلة عما يوجبه من أعمالهم الخبيثة ، وفيه تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعدٌ له أكيدٌ ووعيد للكفرة وسائرِ الظالمين شديدٌ ، أو لكل أحدٍ ممن يستعجل عذابَهم أو يتوهّم إهمالَهم للجهل بصفاته تعالى والاغترارِ بإمهاله ، وقيل : معناه لا تحسبنّه تعالى يعاملهم معاملةَ الغافل عما عمِلوا بل معاملةَ من يحافظ على أعمالهم ويجازيهم بذلك نقيراً وقِطْميراً ، والمرادُ بالظالمين أهلُ مكةَ ممن عُدّت مساويهم من تبديل نعمةِ الله تعالى كفراً وإحلالِ قومهم دارَ البوار واتخاذِ الأندادِ كما يؤذن به التعرّضُ لحكمة التأخيرِ المنبىء عنه قوله تعالى :(4/45)
{ قُلْ تَمَتَّعُواْ } الآية ، أو جنسُ الظالمين وهم داخلون في الحكم دخولاً أولياً .
{ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ } يمهلهم متمتعين بالحظوظ الدنيوية ولا يعجل عقوبتهم حسبما يشاهد ، وهو استئنافٌ وقع تعليلاً للنهي السابق أي دُم على ما كنت عليه من عدم حُسبانه تعالى غافلاً عن أعمالهم ولا تحزَنْ بتأخير ما تستوجبه من العذاب الأليم ، إذ تأخيرُه للتشديد والتغليظ ، أو لا تحسبنّه تعالى تاركاً لعقوبتهم لما ترى من تأخيرها إنما ذلك لأجل هذا ، أو لا تحسبنّه تعالى يعاملهم معاملةَ الغافل ولا يؤاخذُهم بما عملوا لما ترى من التأخير ، إنما هو لهذه الحكمة وقرىء بالنون ، وإيقاعُ التأخيرِ عليهم مع أن المؤخرَ إنما هو عذابُهم لتهويل الخطْب وتفظيعِ الحال ببيان أنهم متوجهون إلى العذاب مُرصَدون لأمر ما لا أنهم باقون باختيارهم ، وللدَّلالة على أن حقَّهم من العذاب هو الاستئصالُ بالمرة وألا يبقى منهم في الوجود عينٌ ولا أثرٌ ، وللإيذان بأن المؤخرَ له من جملة العذاب وعنوانُه ، ولو قيل : إنما يؤخر عذابَهم الخ لما فهم ذلك { لِيَوْمِ } هائل { تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار } ترتفع أبصارُ أهلِ الموقف فيدخل في زمرتهم الكفرةُ المعهودون دخولاً أولياً ، أي تبقى مفتوحةً لا تتحرك أجفانُهم من هول ما يرَونه ، واعتبارُ عدم قرارِها في أماكنها إما باعتبار الارتفاعِ الحسيِّ في جِرْم العين وإما بجعل الصيغةِ مِنْ شخَص من بلد إلى بلد وسار في ارتفاع .(4/46)
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
{ مُهْطِعِينَ } مسرعين إلى الداعي مُقبلين عليه بالخوف والذل والخشوعِ أو مقبلين بأبصارهم عليه لا يُقلعون عنه ولا يطرِفون هيبة وخوفاً ، وحيث كان إدامةُ النظر هاهنا بالنظر إلى الداعي قيل : { مُقْنِعِى رُؤُوسَهُمْ } أي رافعيها مع إدامة النظر من غير التفاتٍ إلى شيء كذا قاله العتبي وابن عرفة ، أو ناكسيها ويقال : أقنع رأسَه أي طأطأها ونكَسها فهو من الأضداد وهما حالان مما دل عليه الأبصارُ من أصحابها ، أو الثاني حالٌ متداخلةٌ من الضمير في الأول ، وإضافتُه غير حقيقية فلا ينافي الحالية { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } أي لا يرجِع إليهم تحريكُ أجفانِهم حسبما كان يرجِع إليهم كلّ لحظة بل تبقى أعينُهم مفتوحةً لا تطرِف أو لا ترجع إليهم أجفانُهم التي هي آلةُ الطرْفِ ، فيكون إسنادُ الرجوعِ إلى الطرف مجازياً أو هو نفسُ الجفن . قال الفيروز آبادي : الطرفُ العينُ لا يجمع لأنه مصدر في الأصل أو اسمٌ جامع للعين . أو لا يرجع نظرُهم إلى أنفسهم فضلاً عن أن يرجِع إلى شيء آخر فيبقَون مبهوتين ، وهو أيضاً حالٌ أو بدلٌ من مقنعي الخ ، أو استئناف والمعنى لا يزول ما اعتراهم من شخوص الأبصار ، وتأخيرُه عما هو تتمته من الإهطاع والإقناع مع ما بينه وبين الشخوص المذكورِ من المناسبة لتربية هذا المعنى { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء } خاليةٌ من العقل والفهم لفرْط الحَيرة والدهَش ، كأنها نفسُ الهواءِ الخالي من كل شاغلٍ ، ومنه قيل للجبان والأحمق : قلبُه هواءٌ أي لا قوة ولا رأيَ فيه ، واعتبارُ خلوِّها عن كل خير لا يناسب المقام وهو إما حالٌ عاملُها لا يرتد مفيدةٌ لكون شخوص أبصارِهم وعدم ارتدادِ طرفِهم بلا فهمٍ ولا اختيار أو جملةٌ مستقلةٌ .(4/47)
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)
{ وَأَنذِرِ الناس } خطابٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إعلامِه أن تأخيرَهم لماذا ، وأمرٌ له بإنذارهم وتخويفِهم منه ، والمرادُ بالناس الكفارُ المعبّرُ عنهم بالظالمين كما يقتضيه ظاهرُ إتيانِ العذاب ، والعدولُ إليه من الإضمار للإشعار بأن المرادَ بالإنذار هو الزجرُ عما هم عليه من الظلم شفقةً عليهم لا التخويفُ للانزعاج والإيذاء ، فالمناسبُ عدمُ ذكرِهم بعنوان الظلمِ ، أو الناسُ جميعاً فإن الإنذارَ عام للفريقين كقوله تعالى : { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر } والإتيانُ يُعمّهما من حيث كونُهما في الموقف وإن كان لحوقُه بالكفار خاصةً ، أي أنذِرهم وخوِّفهم { يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب } المعهودُ وهو اليوم الذي وُصف بما لا يوصف من الأوصاف الهائلةِ أعني يومَ القيامة ، وقيل : هو يومُ موتِهم معذَّبين بالسكَرات ولقاءِ الملائكة بلا بشرى ، أو يومُ هلاكِهم بالعذاب العاجلِ ، ويأباه القصرُ السابق { فَيَقُولُ الذين ظَلَمُواْ } أي فيقولون ، والعدولُ عنه إلى ما عليه النظمُ الكريم للتسجيل عليهم بالظلم وللإشعار بأن ما لقُوه من الشدة إنما هو لظلمهم ، وإيثارُه على صيغة الفاعل حسبما ذكر ، أو لا للإيذان بأن الظلمَ في الجملة كافٍ في الإفضاء إلى ما ذكر من الأهوال من غير حاجةٍ إلى الاستمرار عليه كما ينبىء عنه صيغةُ الفاعلِ ، وعلى تقدير كونِ المرادِ بالناس مَنْ يعمّ المسلمين أيضاً فالمعنى الذين ظلموا منهم وهم الكفارُ ، أو يقول : كلُّ من ظلم بالشرك والتكذيب من المنذَرين وغيرِهم من الأمم الخاليةِ فإن إتيانَ العذاب يعُمهم كما يشعر بذلك وعدُهم باتباع الرسل .
{ رَبَّنَا أَخّرْنَا } رُدَّنا إلى الدنيا وأمهلنا { إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } إلى أمد وحدَ من الزمان قريب { نُّجِبْ دَعْوَتَكَ } أي الدعوةَ إليك وإلى توحيدك أو دعوتَك لنا على ألسنة الرسلِ ، ففيه إيماءٌ إلى أنه صدّقوهم في أنهم مرسَلون من عند الله تعالى { وَنَتَّبِعِ الرسل } فيما جاءونا به أي نتدارك ما فرّطنا فيه من إجابة الدعوةِ واتّباع الرسل ، والجمعُ إما باعتبار اتفاقِ الجميعِ على التوحيد وكونِ عصيانهم للرسول صلى الله عليه وسلم عصيانا لهم جميعاً ، وإما باعتبار أن المحْكيَّ ظالمو الأمم جميعاً والمقصودُ بيانُ وعدِ كل أمة باتباع رسولِها ، { أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ } على إضمار القولِ معطوفاً على ( فيقول ) أي فيقال لهم توبيخاً وتبكيتاً : ألم تؤخَّروا في الدنيا ولم تكونوا أقسمتم إذ ذاك بألسنتكم بطراً وأشرَاً وجهلاً وسفهاً { مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ } مما أنتم عليه من التمتع بالحظوظ الدنيوية أو بألسنة الحال حيث بنيتم مَشيداً وأمّلتم بعيداً ولم تحدّثوا أنفسكم بالانتقال منها إلى هذه الحالة ، وفيه إشعارٌ بامتداد زمانِ التأخير وبُعد مداه أو ما لكم من زوال من هذه الدار إلى دار أخرى للجزاء كقوله تعالى :(4/48)
{ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ } وصيغةُ الخطاب في جواب القسم لمراعاة حالِ الخطاب في أقسمتم كما في قوله : حلف بالله ليخرُجَن ، وهو أدخلُ في التوبيخ من أن يقال : ما لنا مراعاةً لحال المُقسِم . ذكر البيهقيُّ عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : لأهل النار خمسُ دعَوات يجيبهم الله تعالى في أربع منها فإذا كانت الخامسةُ لم يتكلموا بعدها أبداً يقولون : { رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ } فيجيبهم الله تعالى : { ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فالحكم للَّهِ العلى الكبير } ثم يقولون : { رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صالحا إِنَّا مُوقِنُونَ } فيجيبهم الله تعالى : { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا } الآية ، ثم يقولون : { رَبَّنَا أَخّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل } فيجيبهم الله تعالى : { أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ } الآية ، ثم يقولون : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ } فيجيبهم الله تعالى : { أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النذير فَذُوقُواْ فَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ } فيقولون : { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ } فيجيبهم الله تعالى : { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ } فلا يتكلمون بعدها أبداً ، إن هو إلا زفيرٌ وشهيق وعند ذلك انقطع رجاؤُهم وأقبل بعضهم ينبَح في وجه بعض وأطبقت عليهم جهنمُ ، اللهم إنا بك نعوذ وبكنفك نلوذ عز جارُك وجل ثناؤُك ولا إله غيرُك .(4/49)
وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)
{ وَسَكَنتُمْ } من السُّكنى بمعنى التبوّؤ والإيطان ، وإنما استُعمل بكلمة في حيث قيل : { فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } جرياً على الأصل لأنه منقولٌ عن مطلق السكون الذي حقُّه التعديةُ بها أو من السكون واللُّبث ، أي قرِرْتم في مساكنهم مطمئنين سائرين سيرتَهم في الظلم بالكفر والمعاصي غيرَ محدّثين لأنفسكم بما لقُوا بسبب ما اجترحوا من الموبقات ، وفي إيقاع الظلم على أنفسهم بعد إطلاقِه فيما سلفه إيذانٌ بأن غائلةَ الظلم آئلةٌ إلى صاحبه ، والمرادُ بهم إما جميعُ مَنْ تقدّم من الأمم المهلَكة عن تقدير اختصاصِ الاستمهال ، والخطابُ السابقُ بالمنذرين ، وإما أوائلُهم من قوم نوحٍ وهود على تقدير عمومِهما للكل ، وهذا الخطابُ وما يتلوه باعتبار حالِ أواخرهم { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ } بمشاهدة الآثار وتواترِ الأخبار { كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ } من الإهلاك والعقوبة بما فعلوا من الظلم والفساد ، وكيف منصوبٌ بما بعده من الفعل وليس الجملةُ فاعلاً لتبيّن كما قاله بعضُ الكوفيين ، بل فاعله ما دلت هي عليه دَلالةً واضحةً أي فعلنا العجيبَ بهم ، وفيه من المبالغة ما ليس في أن يقال : ما فعلنا بهم كما مر في قوله تعالى : { لَيَسْجُنُنَّهُ } وقرىء وبُيِّن { وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامثال } أي بينا لكم في القرآن العظيم على تقدير اختصاصِ الخطاب بالمنذَرين أو على ألسنة الأنبياءِ عليهم السلام على تقدير عمومِه لجميع الظالمين صفاتِ ما فعلوا وما فُعل بهم من الأمور التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبةِ لكل ظالم ، لتعتبروا بها وتقيسوا أعمالَكم على أعمالهم ومآلَكم على مآلهم وتنتقلوا من حلول العذاب العاجلِ إلى حلول العذابِ الآجل فترتدعوا عما كنتم فيه من الكفر والمعاصي ، أو بيّنا لكم أنكم مثلُهم في الكفر واستحقاقِ العذاب ، والجملُ الثلاثُ في موقع الحال من ضمير أقسمتم ، أي أقسمتم بالخلود والحالُ أنكم سكنتم في مساكن المهلَكين بظلمهم وتبين لكم فعلُنا العجيبُ بهم ونبهناكم على جلية الحال بضرب الأمثالِ .(4/50)
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
وقوله عز وجل :
{ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ } حال من الضمير الأول في فعلنا بهم أو من الثاني أو منهما جميعاً ، وإنما قُدّم عليه قوله تعالى : { وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامثال } لشدة ارتباطِه بما قبله أي فعلنا ، والحالُ أنهم قد مكروا في إبطال الحقِّ وتقديرِ الباطل مكرَهم العظيمَ الذي استفرغوا في عمله المجهودَ وجاوزوا فيه كل حد معهود ، بحيث لا يقدِر عليه غيرُهم ، فالمرادُ بيانُ تناهيهم في استحقاق ما فُعل بهم أو قد مكروا مكرَهم المذكورَ في ترتيب مبادىءِ البقاءِ ومدافعةِ أسبابِ الزوالِ ، فالمقصودُ إظهارُ عجزهم واضمحلالُ قدرتِهم وحقارتُها عند قدرة الله تعالى { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } أي جزاءُ مكرِهم الذي فعلوه ، على أن المكرَ مضافٌ إلى فاعله ، أو أخذُه تعالى بهم على أنه مضاف إلى مفعوله ، وتسميتُه مكراً لكونه بمقابلة مكرِهم وجوداً وذِكراً أو لكونه في صورة المكرِ في الإتيان من حيث لا يشعرون ، وعلى التقديرين فالمرادُ به ما أفاده قوله عز وجل : { كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ } لا أنه وعيدٌ مستأنفٌ ، والجملةُ حالٌ من الضمير في مكروا أي مكروا مكرَهم وعند الله جزاؤه أو ما هو أعظمُ منه ، والمقصودُ بيانُ فسادِ رأيِهم حيث باشروا فعلاً مع تحقق ما يوجب تركَه { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ } في العِظَم والشدة { لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال } أي وإن كان مكرُهم في غاية المتانةِ والشدةِ ، وعبّر عن ذلك بكونه مسوًّى ومُعدًّا لإزالة الجبال عن مقارّها لكونه مثلاً في ذلك ، والجملةُ المصدرةُ بأن الوصليةِ معطوفةٌ على جملة مقدرة والمعنى وعند الله جزاءُ مكرهم أو المكرُ الذي يحيق بهم إن لم يكن مكرُهم لتزولَ منه الجبال وإن كان الخ ، وقد حُذف ذلك حذفاً مطرداً لدِلالة المذكور عليه دَلالةً واضحةً فإن الشيء إذا تحقق عند وجودِ المانعِ القويِّ فلأن يتحققَ عند عدمِه أولى ، وعلى هذه النُكتة يدور ما في أن الوصليةِ من التأكيد المعنوي ، والجواب محذوفٌ دل عليه ما سبق وهو قوله تعالى : { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } وقيل : إنْ نافية واللامُ لتأكيدها كما في قوله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ } وينصره قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وما كان مكرُهم ، فالجملة حينئذ حالٌ من الضمير في مكروا لا من قوله تعالى : { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } أي مكروا مكرَهم والحالُ أن مكرهم لم يكن لتزولَ منه الجبال على أنها عبارةٌ عن آيات الله تعالى وشرائعِه ومعجزاتِه الظاهرة على أيدي الرسلِ السالفةِ عليهم السلام التي هي بمنزلة الجبالِ الراسياتِ في الرسوخ ، وأما كونُها عبارةً عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأمرِ القرآن العظيم كما قيل فلا مجال له إذ الماكرون هم المهلَكون لا الساكنون في مساكنهم من المخاطبين وإن خُصّ الخطاب بالمنذرين ، وقيل : هي مخففةٌ من إنّ ، والمعنى إنه كان مكرُهم ليزول منه ما هو كالجبال في الثبات مما ذكر في الآيات والشرائعِ والمعجزات والجملةُ كما هي حال من ضمير مكروا أي مكروا مكرَهم المعهودَ وإنّ الشأنَ كان مكرُهم لإزالة الآياتِ والشرائعِ على أنه لم يكن يصحّ أن يكون منهم مكرٌ كذلك ، وكان شأنُ الآياتِ والشرائعِ مانعاً من مباشرة المكرِ لإزالته ، وقد قرأ الكسائي لَتزولُ بفتح اللام على أنها الفارقة ، والمعنى تعظيمُ مكرِهم فالجملةُ حالٌ من قوله تعالى : { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } أي عنده تعالى جزاءُ مكرهم أو المكرُ بهم والحال أن مكرهم بحيث تزول منه الجبالُ أي في غاية الشدة ، وقرىء بالفتح والنصب على لغة من يفتح لام كي وقرىء ( وإن كاد مكرهم ) هذا هو الذي يقتضيه النظمُ الكريم وينساق إليه الطبعُ السليم .(4/51)
وقد قيل إن الضمير في مكروا للمنذَرين والمرادُ بمكرهم ما أفاده قوله عز وجل : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } الآية ، وغيرُه من أنواع مكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولعل الوجهَ حينئذ أن يكون قوله تعالى : { وَقَدْ مَكَرُواْ } الخ ، حالاً من القول المقدر أي فيقال لهم ما يقال والحالُ أنهم مع ما فعلوا من الإقسام المذكورِ ، مع ما ينافيه من السكون في مساكن المهلَكين وتبيّن أحوالُهم وضرْبُ الأمثال قد مكروا مكرَهم العظيم أي لم يكن الصادر عنهم مجردَ الإقسام الذي وُبِّخوا به بل اجترؤا على مثل هذه العظيمة ، وقوله تعالى : { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } حالٌ من ضمير مكروا حسبما ذكرنا من قبل ، وقوله تعالى : { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال } مسوقٌ لبيان عدم تفاوتِ الحال في تحقيق الجزاءِ بين كون مكرِهم قوياً أو ضعيفاً كما مر هناك وعلى تقدير كون إنْ نافيةً فهو حال من ضمير مكروا ، والجبالُ عبارةٌ عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أي وقد مكروا ، والحالُ أن مكرهم ما كان لتزول منه هاتيك الشرائعُ والآياتُ التي هي في القوة كالجبال ، وعلى تقدير كونها مخففةً من الثقيلة واللامُ مكسورةٌ يكون حالاً منه أيضاً على معنى أن ذلك المكرَ العظيم منهم كان لهذا الغرض ، على معنى أنه لم يكن يصح أن يكون منهم مكرٌ كذلك المكر لِما أن شأنَ الشرائعِ أعظم من أن يمكُرَ بها ماكرٌ ، وعلى تقدير فتح اللام فهو حالٌ من قوله تعالى : { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } كما ذكرنا من قبل فليُتأمل .(4/52)
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)
{ فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } لم يرَدْ به والله سبحانه أعلم ما وعده بقوله تعالى : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } الآية ، وقولِه : { كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } كما قيل فإنه لا اختصاصَ له بالتعذيب لا سيما الأخرويُّ ، بل ما سلف آنفاً من وعده بتعذيب الظالمين بقوله تعالى : { إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ } الآية ، كما يُفصح عنه الفاءُ الداخلة على النهي الذي أريد به تثبيتُه عليه الصلاة والسلام على ما كان عليه من الثقة بالله تعالى والتيقّن بإنجاز وعدِه المذكور المقرونِ بالأمر بإنذارهم يوم إتيانِ العذاب المتضمِّنِ لذكر تعذيبِ الأممِ السالفة ، بسبب كفرِهم وعصيانِهم رسلَهم بعد ما وعدهم بذلك كما فُصّلت قصةُ كل منهم في القرآن العظيم ، فكأنه قيل : وإذ قد وعدناك بعذاب الظالمين يوم القيامة ، وأخبرناك بما يلقَوْنه من الشدائد ، وبما يسألونه من الرد إلى الدنيا ، وبما أجَبْناهم به وقرَعناهم بعدم تأملِهم في أحوال من سبَقهم من الأمم الذين أهلكناهم بظلمهم بعد ما وعدنا رسلَهم بإهلاكهم ، فدُمْ على ما كنت عليه من اليقين بعدم إخلافِنا رسلَنا وعدَنا { أَنَّ الله عَزِيزٌ } غالبٌ لا يماكَر وقادرٌ لا يقادَر { ذُو انتقام } لأوليائه من أعدائه ، والجملةُ تعليلٌ للنهي المذكور وتذييلٌ له ، وحيث كان الوعدُ عبارةً عما ذكرنا من تعذيبهم خاصة لم يذيَّل بأن يقال : إن الله لا يخلف الميعاد ، بل تعرض لوصف العزة والانتقامِ المُشعِرَين بذلك ، والمرادُ بالانتقام ما أشير إليه بالفعل وعبّر عنه بالمكر .(4/53)
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49)
{ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض } ظرفٌ لمضمر مستأنفٌ ينسحب عليه النهيُ المذكور أي ينجزه يوم الخ ، أو معطوفٌ عليه نحوُ وارتقب يومَ تبدّل الأرض غيرَ الأرض ، أو الانتقام وهو يوم يأتيهم العذابُ بعينه ولكن له أحوالٌ جمّة يُذكر كلَّ مرة بعنوان مخصوص ، والتقييدُ به مع عموم انتقامِه للأوقات كلها للإفصاح عما هو المقصودُ من تعذيب الكفرة المؤخرِ إلى ذلك اليوم بموجب الحكمةِ الداعيةِ إليه ، وقيل : بدلٌ من { يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب } أو نُصب باذكرْ أو إضمارِ لا يخلف وعده يوم تبدل الخ ، وفيه أيضاً ما في الوجه الثالث من الحاجة إلى الاعتذار ، ولا يجوز أن ينتصب بقوله : مخلَف وعدِه لأن ما قبل إنّ لا يعمل فيما بعده ، وقيل : هو غيرُ مانع لأن قوله تعالى : { إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام } جملةٌ اعتراضية فلا يبالى بها فاصلاً .
واعلم أن التبديلَ قد يكون في الذات كما في : بدلتُ الدراهمَ دنانيرَ وعليه قوله عز وجل : { بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا } وقد يكون في الصفات كما في قولك : بدلتُ الحلْقةَ خاتماً إذا غيّرتَ شكلها ومنه قوله تعالى : { يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات } على بعض الأقوال ، والآية الكريمة ليست بنص في أحد الوجهين . فعن علي رضي الله عنه : « تبدل أرضاً من فضة وسمواتٍ من ذهب » وعن ابن مسعود رضي الله عنه : « تبدل الأرض بأرض كالفضة بيضاءَ نقيةٍ لم يُسفك فيها دمٌ ولم يعمَلْ عليها خطيئة » وعن ابن عباس رضي الله عنهما : « هي تلك الأرضُ وإنما تُغيّر صفاتُها » وأنشد
وما الناسُ بالناس الذين عهِدتهم ... وما الدارُ بالدار التي كنت تعلمُ
وتبدّلُ السموات بانتثار كواكبها وكسوفِ شمسِها وخسوفِ قمرِها وانشقاقها وكونها أبواباً ، ويدل عليه ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : « تبدل الأرضُ غيرَ الأرض فتبسطُ وتمد مدَّ الأديمِ العُكَاظِيِّ لا ترى فيها عِوجاً ولا أمْتاً » { والسماوات } أي وتبدل السمواتُ غيرَ السموات حسبما مر من التفصيل ، وتقديمُ تبديلِ الأرض لقربها منا ولكون تبديلها أعظمَ أثراً بالنسبة إلينا .
{ وَبَرَزُواْ } أي الخلائق أو الظالمون المدلولُ عليهم بمعونة السباق ، والمرادُ بروزُهم من أجداثهم التي في بطون الأرضِ أو ظهورُهم بأعمالهم التي كانوا يعملونها سرًّا ويزعُمون أنها لا تظهر ، أو يعملون عمل من يزعمُ ذلك ، ولعل إسنادَ البروز إليهم مع أنه لأعمالهم للإيذان بتشكّلهم بأشكال تناسبها ، وهو معطوفٌ على تبدل ، والعدولُ إلى صيغة الماضي للدِلالة على تحقق وقوعِه ، أو حالٌ من الأرض بتقدير قد والرابطُ بينها وبين صاحبِها الواو { للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ } للحساب والجزاء ، والتعرُّضُ للوصفين لتهويل الخطبِ وتربيةِ المهابة وإظهار بطلانِ الشركِ ، وتحقيقُ الانتقامِ في ذلك اليوم على تقدير كونِه ظرفاً له ، وتحقيقُ إتيان العذاب الموعودِ على تقدير كونِه بدلاً من يوم يأتيهم العذاب فإن الأمرَ إذا كان لواحد غلاّبٍ لا يعار وقادر لا يُضارّ ولا يغار كان في غاية ما يكون من الشدة والصعوبة .(4/54)
{ وَتَرَى المجرمين } عطف على برزوا ، والعدولُ إلى صيغة المضارع لاستحضار الصورةِ أو للدلالة على الاستمرار ، وأما البروزُ فهو دفعيٌّ لا استمرار فيه وعلى تقدير حاليةِ برزوا فهو معطوفٌ على تبدل ويجوز عطفُه على عامل الظرف المقدم على تقدير كونِه ينجزه { يَوْمَئِذٍ } يومَ إذ برزوا له عز وجل أو يوم إذ تبدل الأرضُ أو يوم يُنجِز وعدَه { مُقْرِنِينَ } قُرن بعضهم مع بعض حسب اقترانهم في الجرائم والجرائر ، أو قُرنوا مع الشياطين الذين أغوَوْهم أو قرنوا مع ما اقترفوا من العقائد الزائغة والملَكات الردِيّة والأعمال السيئة غِبَّ تصور كلَ منها وتشكلهما بما يناسبهما من الصور الموحشة والأشكال الهائلة ، أو قرنت أيديهم وأرجلُهم إلى رقابهم وهو حال من المجرمين { فِى الأصفاد } في القيود أو الأغلال ، وهو إما متعلقٌ بقوله تعالى : { مُقْرِنِينَ } أو حال من ضميره أي مصفّدين .(4/55)
سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)
{ سَرَابِيلُهُم } أي قُمصانهم { مّن قَطِرَانٍ } جملةٌ من مبتدإٍ وخبر محلُّها النصبُ على الحالية من المجرمين أو من ضميرهم في مقرنين رابطتها الضمير فقط كما في كلمتُه فوه إلى فيَّ ، أو مستأنفة ، والقطران ما ينحلب من الأيهل فيطبخ فتُهنَأُ به الإبلُ الجربى فيحرق الجرَبَ بما فيه من الحِدّة الشديدة ، وقد تصل حرارتُه إلى الجوف وهو أسودُ منتِنٌ يسرع فيه اشتعالُ النار يطلى به جلودُ أهل النار حتى يعودَ طلاؤُه لهم كالسراويل ليجتمع عليهم الألوانُ الأربعة من العذاب لذعُه وحرقتُه وإسراعُ النار في جلودهم واللونُ الموحش والنتَنُ على أن التفاوت بينه وبين ما نشاهده وبين النارين لا يكاد يقادَر قدرُه فكأن ما نشاهده منهما أسماءُ مسمَّياتِها في الآخرة ، فبِكَرمه العميمِ نعوذ وبكنفه الواسع نلوذ ويحتمل أن يكون ذلك تمثيلاً لما يحيط بجوهر النفس من الملكات الرديةِ والهَنات الوحشية فتجلُب إليها الآلام والغموم بل وأن يكون القطِرانُ المذكور عينَ ما لابسوه في هذه النشأة وجعلوا شعاراً لهم من العقائد الباطلة والأعمال السيئة المستجلبة لفنون العذاب قد تجسّدت في النشأة الآخرة بتلك الصورة المستتبعةِ لاشتداد العذاب عصَمنا الله سبحانه عن ذلك بمنه ولُطفه ، وقرىء قطرآنٍ أي نحاس مُذابٍ مُتناهٍ حرُّه .
{ وتغشى وُجُوهَهُمْ النار } أي تعلوها وتحيط بها النارُ التي تمس جسدَهم المسَرْبلَ بالقطِران ، وتخصيصُ الوجوه بالحكم المذكورِ مع عمومه لسائر أعضائِهم لكونها أعزَّ الأعضاء الظاهرةِ وأشرفَها كقوله تعالى : { أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب } الخ ، ولكونها مجمعَ المشاعرِ والحواسّ التي خُلقت لإدراك الحق وقد أعرضوا عنه ولم يستعملوها في تدبره ، كما أن الفؤادَ أشرفُ الأعضاء الباطنةِ ومحلُّ المعرفة وقد ملؤوها بالجهالات ، ولذلك قيل : { تَطَّلِعُ عَلَى الافئدة } أو لخلوّها عن القطِران المغني عن ذكر غشيانِ النار لها ، ولعل تخليتَها عنه ليتعارفوا عند انكشافِ اللهب أحياناً ويتضاعف عذابُهم بالخزي على رؤوس الأشهاد ، وقرىء تَغَشَّى أي تتغشى بحذف إحدى التاءين ، والجملةُ نصبٌ على الحالية لا على أن الواو حاليةٌ لأنه مضارعٌ مثبَتٌ بل على أنها معطوفةٌ على الحال قاله أبو البقاء .
{ لّيَجْزِىَ الله } متعلقٌ بمضمر أي يفعل بهم ذلك ليجزِيَ { كُلُّ نَفْسٍ } مجرمةٍ { مَّا كَسَبَتْ } من أنواع الكفرِ والمعاصي جزاءً موافقاً لعملها ، وفيه إيذانٌ بأن جزاءَهم مناسبٌ لأعمالهم ، أو بقوله : برزوا على تقدير كونِه معطوفاً على تُبدّل ، والضمير للخلق ، وقوله : وترى المجرمين الخ ، اعتراضٌ بين المتعلِّق والمتعلَّق به أي برزوا للحساب ليجزيَ الله كلَّ نفس مطيعةٍ أو عاصية ما كسبت من خير أو شر ، وقد اكتُفي بذكر عقاب العُصاة تعويلاً على شهادة الحال لا سيما مع ملاحظة سبق الرحمةِ الواسعة { إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } إذ لا يشغَله شأنٌ عن شأن فيُتمُّه في أعجل ما يكون من الزمان فيوفّي الجزاءَ بحسبه ، أو سريعُ المجيء يأتي عن قريب ، أو سريعُ الانتقام كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : { وَهُوَ سَرِيعُ الحساب . }(4/56)
هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
{ هذا } أي ما ذكر من قوله سبحانه : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا } إلى قوله : { سَرِيعُ الحساب } { بَلاَغٌ } كفايةٌ في العظة والتذكيرِ من غير حاجة إلى ما انطوى عليه السورةُ الكريمة أو كلُّ القرآن المجيدِ من فنون العظات والقوارعِ { لِلنَّاسِ } للكفار خاصةً على تقدير اختصاصِ الإنذار بهم في قوله تعالى : { وَأَنذِرِ الناس } أو لهم وللمؤمنين كافةً على تقدير شمولِه لهم أيضاً وإن كان ما شرح مختصاً بالظالمين { وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } عطفٌ على مقدر واللامُ متعلقةٌ بالبلاغ أي كفاية لهم في أن يُنصَحوا أو ينذَروا به ، أو هذا بلاغٌ لهم ليفهموه ولينذَروا به ، على أن البلاغَ بمعنى الإبلاغ كما في قوله تعالى : { وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ } أو متعلقة بمحذوف أي ولينذَروا به أُنزل أو تُليَ ، وقرىء لينذروا به من نذر بالشيء إذا علِمه وحذِره واستعدّ له .
{ وَلِيَعْلَمُواْ } بالتأمل فيما فيه من الدلائل الواضحةِ هي إهلاكُ الأمم وإسكانُ آخرين ( في ) مساكنهم ، وغيرُهما مما سبق ولحِق { إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } لا شريكَ له ، وتقديمُ الإنذار لأنه الداعي إلى التأمل المؤدِّي إلى ما هو غايةٌ له من العلم المذكور والتذكر في قوله تعالى : { وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب } أي ليتذكروا ما كانوا يعملونه من قبلُ من التوحيد وغيرِه من شؤون الله عز وجل ومعاملتِه مع عباده فيرتدعوا عما يُرديهم من الصفات التي يتصف بها الكفارُ ويتدرعوا بما يُحظيهم من العقائد الحقةِ والأعمال الصالحةِ ، وفي تخصيص التذكرِ بأولي الألباب تلويحٌ باختصاص العلمِ بالكفار ودَلالةٌ على أن المشارَ إليه بهذا ما ذكرنا من القوارع المَسوقةِ لشأنهم لا كلُّ السورةِ المشتملةِ عليها على ما سيق للمؤمنين أيضاً ، فإن فيه ما يفيدهم فائدةً جديدةً ، وحيث كان ما يفيده البلاغُ من التوحيد وما يترتب عليه من الأحكام بالنسبة إلى الكفرة أمراً حادثاً وبالنسبة إلى أولي الألباب الثباتَ على ذلك حسبما أُشير إليه عن الأول بالعلم وعن الثاني بالتذكر ، ورُوعيَ ترتيبُ الوجودِ مع ما فيه من الختم بالحسنى والله سبحانه أعلم . . ختم الله لنا بالسعادة والحسنى ورزقنا الفوز بمرضاته في الأولى والعقبى آمين .
عن النبي صلى الله عليه وسلم : « من قرأ سورةَ إبراهيمَ أعطيَ من الأجر عشرَ حسناتٍ بعدد مَنْ عبدَ الأصنامَ ومن لم يعبُدْ » والحمد لله وحده .(4/57)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)
{ الر } قد مر الكلام فيه وفي محله في مطلع سورة الرعدِ وأخواتِها { تِلْكَ } إشارةٌ إليه أي تلك السورةُ العظيمةُ الشأن { الكتاب الحكيم } الكاملِ المعهود الغنيِّ عن الوصف به المشهورُ بذلك من بين الكتب الحقيقُ باختصاص اسمِ الكتاب به على الإطلاق ، أي بعضٌ منه مترجمٌ مستقلٌّ باسم خاصَ فهو عبارةٌ عن جميع القرآن أو عن الجميع المنزَلِ إذ ذاك إذ هو المتسارِعُ إلى الفهم حينئذ عند الإطلاق وعليه يترتب فائدةُ وصف الآياتِ بنعت ما أضيفت إليه من نعوت الكمالِ لا على جعله عبارةً عن السورة ، إذ هي في الاتصاف بذلك ليست بتلك المرتبةِ من الشهرة حتى يستغنى عن التصريح بالوصف على أنها عبارةٌ عن جميع آياتها ، فلا بد من جعل ( تلك ) إشارةٌ إلى كل واحد منها ، وفيه من التكلف ما لا يخفى كما ذكر في سورة الرعد { وَقُرْءانَ } أي قرآنٍ عظيمِ الشأن { مُّبِينٌ } مظهر لما في تضاعيفه من الحِكَم والأحكام أو لسبيل الرشدِ والغيِّ أو فارقٍ بين الحق والباطل والحلالِ والحرام ، ولقد فُخّم شأنه العظيم مع ما جُمع فيه من وصفي الكتابية والقرآنية على الطريقتين ، إحداهما اشتمالُه على صفات كمالِ جنس الكتبِ الإلهية فكأنه كلُّها ، والثانيةُ طريقةُ كونِه ممتازاً عن غيره نسيجَ وحدِه بديعاً في بابه خارجاً عن دائرة البيانِ ، وأُخّرت الثانية لما أن الإشارةَ إلى امتيازه عن سائر الكتبِ بعد التنبيه على انطوائه على كمالات غيرِه من الكتب أدخلُ في المدح كيلا يُتوَهّم من أول الأمرِ أن امتيازَه عن غيره لاستقلاله بأوصاف خاصةٍ به من غير اشتمالٍ على نعوت كمالِ سائرِ الكتب الكريمة ، وهكذا الكلامُ في فاتحة سورةِ النمل خلا أنه قُدّم فيها القرآنُ على الكتاب لما سيذكر هناك . ولمّا بيِّن كونُ السورة الكريمةِ بعضاً من الكتاب والقرآنِ لتوجيه المخاطَبين إلى حُسن تلقّي ما فيها من الأحكام والقِصص والمواعظ شُرع في بيان ما تتضمّنه فقيل :
{ رُّبَمَا } بضم الراء وتخفيف الباء المفتوحةِ ، وقرىء بالتشديد وبفتح الراء مخففاً وبزيادة التاء مشدداً ، وفيه ثماني لغات : فتح الراء وضمها مشدداً ومخففاً وبزيادة التاء أيضاً مشدداً ومخففاً ، ورُبّ حرفُ جر لا يدخُل إلا على الاسم ، وما كافةٌ مصحّحةٌ لدخوله على الفعل وحقُّه الدخولُ على الماضي ، ودخولُه على قوله تعالى : { يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ } لما أن المترقَّب في أخباره تعالى كالماضي المقطوعِ في تحقيق الوقوع ، فكأنه قيل : ربما وَد الذين كفروا ، والمرادُ كفرُهم بالكتاب والقرآن وبكونه من عند الله تعالى { لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } منقادين لحكمه ومذعِنين لأمره ، وفيه إيذانٌ بأن كفرَهم إنما كان بالجحود بعد ما علموا كونَه من عند الله تعالى ، وتلك الوَدادةُ يومَ القيامة أو عند موتهم أو عند معاينةِ حالِهم وحال المسلمين ، أو عند رؤيتهم خروجَ عصاةِ المسلمين من النار .(4/58)
روى أبو موسى الأشعريُّ رضي الله عنه أنه قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إذا كان يوم القيامة واجتمع أهلُ النار في النار ومعهم مَنْ شاء الله تعالى من أهل القِبلة قال لهم الكفارُ : ألستم مسلمين؟ قالوا : بلى ، قالوا : فما أغنى عنكم إسلامُكم وقد صِرتم معنا إلى النار؟ قالوا : كانت لنا ذنوبٌ فأُخِذْنا بها ، فيغضب الله سبحانه لهم بفضل رحمته فيأمُر بكل من كان من أهل القِبلة في النار فيخرجون منها فحينئذ يوَدّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين » وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لا يزال الربُّ يرحم ويُشفع إليه حتى يقول مَنْ كان من المسلمين فليدخُل الجنة ، فعند ذلك يتمنَّوْن الإسلام . والحقُّ أن ذلك محمولٌ على شدة وَدادتِهم وأما نفسُ الودادةِ فليست بمختصة بوقت دون وقت بل هي مقرَّرة مستمرّةٌ في كل آن يمر عليهم ، وأن المراد بيانُ ذلك على ما هو عليه من الكثرة وإنما جيء بصيغة التقليلِ جرياً على سنن العرب فيما يقصِدون به الإفراط فيما يعكسون عنه ، تقول لبعض قوادِ العساكر : كم عندك من الفرسان؟ فيقول : ربَّ فارسٍ عندي ، أو لا تعدمُ عندي فارساً وعنده مناقبُ جمّةٌ من الكتائب ، وقصدُه في ذلك التماري في تكثير فرسانه ولكنه يريد إظهارَ براءته من التزيد وإبرازَ أنه ممن يقلل لعلو الهمة كثيرَ ما عنده فضلاً عن تكثير القليل ، وهذه طريقةٌ إنما تسلك إذا كان الأمر من الوضوح بحيث لا يحوم حوله شائبةُ ريب فيُصار إليه هضماً للحق ، فدل النظمُ الكريم على وَدادةِ الكافرين للإسلام في كل آن من آنات اليومِ الآخر ، وأن ذلك من الظهور بحيث لا يشتبه على أحد ولو جيء بكلام يدل على ضده وعلى أن تلك الودادةَ مع كثرتها في نفسها مما يُستقل بالنسبة إلى جناب الكبرياءِ ، وهذا هو الموافقُ لمقام بيانِ حقارةِ شأنِ الكفارِ وعدمِ الاعتدادِ بما هم فيه من الكفر والتكذيب كما ينطق به قوله تعالى : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ } الآية ، أو ذهاباً إلى الإشعار بأن من شأن العاقلِ إذا عنّ له أمرٌ يكون مظنونَ الحمد ، أو قليلاً ما يكون كذلك أن لا يفارقَه ولا يقارِفَ ضدّه ، فكيف إذا كان متيقن الحمد؟ كما في قولهم : لعلك ستندم على ما فعلت ، وربما ندِم الإنسان على ما فعل ، فإن المقصودَ ليس بيانَ كونِ الندم مرجوَّ الوجود بلا تيقن به ، أو قليلَ الوقوع بل التنبيهُ على أن العاقلَ لا يباشر ما يرجى فيه الندم أو يقِلّ وقوعُه فيه ، فكيف بقطعيّ الوقوع؟ وأنه يكفي قليلُ الندم في كونه حاجزاً عن ذلك الفعلِ ، فكيف كثيرُه؟ والمقصودُ من سلوك هذه الطريقة إظهارُ الترفع والاستغناءِ عن التصريح بالغرض بناءً على ادعاء ظهورِه فالمعنى لو كانوا يودون الإسلامَ مرة واحدة لوجب عليهم أن يفارقوه ، فكيف وهم يودّونه كل آن؟ وهذا أوفقُ بمقام استنزالِهم عما هم عليه من الكفر ، وهذان طريقان متمايزانِ ذاتاً ومقاماً فمن ظنَّهما واحداً فقد نأى عن توفية المقام حقَّه .(4/59)
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
{ ذَرْهُمْ } دعْهم عن النهي عما هم عليه بالتذكرة والنصيحة إذ لا سبيل إلى ارعوائهم عن ذلك ، وبالِغْ في تخليتهم وشأنَهم بل مُرْهم بتعاطي ما يتعاطَوْنه { يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ } بدنياهم ، وفي تقديم الأكل إيذانٌ بأن تمتعَهم إنما هو من قبيل تمتعِ البهائم بالمآكل والمشارب ، والمرادُ دوامُهم على ذلك لا إحداثُه ، فإنهم كانوا كذلك ، أو تمتعُهم بلا استماعِ ما ينغص عيشَهم من القوارع والزواجر ، فإن التمتعَ على ذلك الوجه أمرٌ حادث يصلُح أن يكون مترتباً على تخليتهم وشأنَهم { وَيُلْهِهِمُ } ويَشْغَلْهم عن اتباعك أو عن التفكر فيما هم يصيرون إليه أو عن الإيمان والطاعة ، فإن الأكلَ والتمتعُ يفضيان إلى ذلك { الأمل } والتوقعُ لطول الأعمارِ وبلوغِ الأوطار واستقامةِ الأحوال وألا يَلْقَوا في العاقبة والمآل إلا خيراً ، فالأفعالُ الثلاثة مجزومةٌ على الجوابية للأمر حسبما عرفتَ من تضمن الأمرِ بالترك للأمر بها على طريقة المجاز ، أو على أن يكون المرادُ بالأفعال المرقومة مباشرَتهم لها غافلين عن وخامة عاقبتها غيرَ سامعين لسوء مَغَبَّتها أصلاً ولا ريب في ترتب ذلك على الأمر بالترك فإن النهيَ عما هم عليه من ارتكاب القبائحِ مما يشوّش عليهم تمتعَهم وينغّص عليهم عيشَهم فأُمر عليه السلام بتركه ليتمرّغوا فيما هم فيه من حظوظهم فيدهَمَهم وهم عنه غافلون { فَسَوفَ يَعْلَمُونَ } سوءَ صنيعهم أو وخامةَ عاقبته أو حقيقةَ الحال التي ألجأتْهم إلى التمني المذكور حيث لم يعلموا ذلك من جهتك ، وهو مع كونه وعيداً أيَّما وعيدٍ وتهديداً غِبَّ تهديدٍ ، تعليلٌ للأمر بالترك فإن علمَهم ذلك علةٌ لترك النهي والنصيحةِ لهم ، وفيه إلزامٌ للحجة ومبالغةٌ في الإنذار إذ لا يتحقق الأمرُ بالصد إلا بعد تكررِ الإنذارِ وتقرّرِ الجحود والإنكار ، وكذلك ما ترتب عليه من الأكل والتمتع والإلهاء .(4/60)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)
{ وَمَآ أَهْلَكْنَا } شروعٌ في بيان سرِّ تأخيرِ عذابهم إلى يوم القيامة وعدمِ نظمِهم في سلك الأمم الدارجةِ في تمحيل العذاب أي ما أهلكنا { مِن قَرْيَةٍ } من القرى بالخَسف بها وبأهلها كما فُعل ببعضها أو بإخلائها عن أهلها غِبَّ إهلاكِهم كما فُعل بآخرين { إِلاَّ وَلَهَا } في ذلك الشأن { كِتَابٌ } أي أجلٌ مقدرٌ مكتوبٌ في اللوح واجبُ المراعاة بحيث لا يمكن تبديلُه لوقوعه حسب الحكمةِ المقتضيةِ له { مَّعْلُومٌ } لا يُنسى ولا يُغفل عنه حتى يُتصورَ التخلفُ عنه بالتقدم والتأخر ، فكتابٌ مبتدأٌ خبرُه الظرفُ ، والجملةُ حالٌ من ( قرية ) فإنها لعمومها لا سيما بعد تأكّدِه بكلمة مِنْ في حكم الموصوفة كما أشير إليه ، والمعنى ما أهلكنا قريةً من القرى في حال من الأحوال إلا حالَ أن يكون لها كتابٌ أي أجلٌ موقتٌ لمهلِكها قد كتبناه لا نُهلكها قبل بلوغِه ، معلومٌ لا يُغفل عنه حتى يمكنَ مخالفتُه بالتقدم والتأخر ، أو مرتفعٌ بالظرف والجملةُ كما هي حال ، أي ما أهلكنا قريةً من القرى في حال من الأحوال إلا وقد كان لها في حق هلاكِها كتابٌ أي أجلٌ مقدّرٌ مكتوبٌ في اللوح معلومٌ لا يُغفل عنه ، أو صفة لكن لا للقرية المذكورة بل للمقدرة التي هي بدلٌ من المذكورة على المختار فيكون بمنزلة كونِه صفةً للمذكورة ، أي ما أهلكنا قريةً من القرى إلا قريةً لها كتابٌ معلوم كما في قوله تعالى : { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ * لاَّ يُسْمِنُ } فإن قوله تعالى : { لاَّ يُسْمِنُ } صفةٌ لكن لا للطعام المذكورِ لأنه إنما يدلّ على انحصار طعامِهم الذي لا يُسمن في الضريع ، وليس المرادُ ذلك بل للطعام المقدر بعد إلا ، أي ليس لهم طعامٌ من شيء من الأشياء إلا طعامٌ لا يُسمن ، فليس فيه فصلٌ بين الموصوف والصفة بكلمة إلا كما تُوُهم ، وأما توسيطُ الواو بينهما وإن كان القياسُ عدمَه فللإيذان بكمال الالتصاقِ بينهما من حيث إن الواوَ شأنُها الجمعُ والربطُ ، فإن ما نحن فيه من الصفة أقوى لُصوقاً بالموصوف منها به في قوله تعالى : { وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } فإن امتناعَ الانفكاك والإهلاكِ عن الأجل المقدرِ عقليٌّ ، وعن الإنذار عاديٌّ ، جرى عليه السنةُ الإلهية .
ولما بيّن أن الأممَ المهلَكة كان لكل منهم وقتٌ معين لهلاكهم وأن هلاكَهم لم يكن إلا حسبما كان مكتوباً في اللوح ، بيّن أن كلَّ أمةٍ من الأمم منهم ومن غيرهم لها كتابٌ لا يمكن التقدمُ عليه ولا التأخر عنه فقيل :
{ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ } من الأمم المهلَكة وغيرِهم { أَجَلُهَا } المكتوبَ في كتابها ، أي لا يجيء هلاكُها قبل مجيءِ كتابِها ، أو لا تمضي أمةٌ قبل مُضيِّ أجلها ، فإن السبْقَ إذا كان واقعاً على زمانيّ فمعناه المجاوزةُ والتخليف ، فإذا قلت : سبق زيدٌ عمْراً ، فمعناه أنه جاوزه وخلّفه وراءه ، وإذا كان واقعاً على زمان كان الأمرُ بالعكس ، والسرُّ في ذلك أن الزمانَ يعتبر فيه الحركةُ والتوجّه إلى المتكلم فما سبَقه يتحقق قبل تحققِه ، وأما الزمانيُّ فإنما يعتبر فيه الحركةُ والتوجّه إلى ما سيأتي من الزمان ، فالسابقُ ما تقدم إلى المقصِد ، وإيرادُه بعنوان الأجل باعتبار ما يقتضيه من السبق كما أن إيرادَه بعنوان الكتابِ المعلوم باعتبار ما يوجبه من الإهلاك { وَمَا يَسْتَئْخِرُونَ } أي وما يتأخرون ، وصيغةُ الاستفعال للإشعار بعجزهم عن ذلك مع طلبهم له ، وإيثارُ صيغةِ المضارع في الفعلين بعد ما ذُكر نفيُ الإهلاكِ بصيغة الماضي ، لأن المقصودَ بيانُ دوامِهما واستمرارِهما فيما بين الأمم الماضية والباقية ، وإسنادُهما إلى الأمة بعد إسنادِ الإهلاكِ إلى القرية لما أن السبقَ والاستئخارَ حالُ الأمةِ دون القرية مع ما في الأمة من العموم لأهل تلك القرى وغيرِهم ممن أُخِّرت عقوباتُهم إلى الآخرة ، وتأخيرُ ذكر عدمِ سبقِهم مع كون المقام مقامَ المبالغةِ في بيان تحققِ عذابِهم ، إما باعتبار تقدّمِ السبقِ في الوجود وإما باعتبار أن المرادَ بيانُ سرِّ تأخيرِ عذابِهم مع استحقاقهم لذلك ، وإيرادُ الفعل على صيغة جمع المذكرِ للحمل على المعنى مع التغليب ولرعاية الفواصلِ ، ولذلك حُذف الجار والمجرور ، والجملةُ مبينة لما سبق والمعنى أن تأخيرَ عذابِهم إلى يوم القيامة حسبما أشير إليه ببيان وَدادتِهم للإسلام إذ ذاك ، وبالأمر بتركهم وشأنَهم إلى أن يعلموا حقيقةَ الحال إنما هو لتأخّر أجلِهم المقدرِ لما يقتضيه من الحِكَم البالغةِ ، ومن جملتها ما علم الله تعالى من إيمان بعضِ من يخرُجُ منهم إلى يوم القيامة .(4/61)
{ وَقَالُواْ } شروعٌ في بيان كفرِهم بمن أنزل عليه الكتابُ بعد بيانِ كفرهم بالكتاب وما يؤول إليه حالُهم ، والقائلون مشركو مكةَ لغاية تماديهم في العتوّ والغي { يأَيُّهَا الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر } خاطبوا به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لا تسليماً لذلك واعتقاداً له ، بل استهزاءً به عليه الصلاة والسلام وإشعاراً بعلة حكمِهم الباطل في قولهم : { إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } كدأب فرعونَ إذ قال : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } يعنون يا من يدّعي مثل هذا الأمر البديعِ الخارقِ للعادات ، إنك بسبب تلك الدعوى أو بشهادة ما يعتريك عندما تدّعي أنه ينزل عليك لمجنون ، وتقديمُ الجارِّ والمجرور على القائم مَقامَ الفاعل لأن إنكارهم متوجِّهٌ إلى كون النازل ذِكْراً من الله تعالى ، لا إلى كون المنزَّلِ عليه رسولَ الله بعد تسليم كون النازلِ منه تعالى كما في قوله تعالى : { لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ } فإن الإنكارَ هناك متوجهٌ إلى كون المنزَّلِ عليه رسولَ الله تعالى ، وإيرادُ الفعل على صيغة المجهولِ لإيهام أن ذلك ليس بفعل له فاعلٌ أو لتوجيه الإنكارِ إلى كون التنزيلِ عليه لا إلى استناده إلى الفاعل .(4/62)
لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)
{ لوْ مَا تَأْتِينَا } كلمة لو عند تركّبها مع ( ما ) تفيد ما تفيده عند تركبها مع ( لا ) من معنى امتناعِ الشيء لوجود غيرِه ومعنى التحضيض ، خلا أنه عند إرادتِه لا يليها إلا فعلٌ ظاهرٌ أو مضمرٌ ، وعند إرادةِ المعنى الأول لا يليها إلا اسمٌ ظاهرٌ أو مقدر عند البصريين ، والمرادُ هاهنا هو الثاني أي هلا تأتينا { بالملئكة } يشهدون بصحة نبوتِك ويعضدونك في الإنذار كقوله تعالى : { لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ * فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } أو يعاقبونا على التكذيب كما تأتي الأممُ المكذّبة لرسلهم { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } في دعواك ، فإن قدرةَ الله تعالى على ذلك مما لا ريب فيه ، وكذا احتياجُك إليه في تمشية أمرِك فإنا لا نصدقك بدون ذلك ، أو كنت من جملة تلك الرسلِ الصادقين الذين عُذّبت أممهم المكذبة لهم .
{ مَا نُنَزّلُ الملائكة } بالنون على بناء الفعل لضمير الجلالة من التنزيل ، وقرىء من الإنزال ، وقرىء تُنَزّل مضارعاً من التنزيل على صيغة البناء للمفعول ، ومن التنزّل بحذف إحدى التاءين ، وماضياً منه ومن التنزيل ومن الثلاثي ، وهو كلامٌ مسوق إلى النبي صلى الله عليه وسلم جواباً لهم عن مقالتهم المَحْكية ورداً لاقتراحهم الباطلِ ، ولشدة استدعاءِ ذلك للجواب قُدّم ردُّه على ما هو جوابٌ عن أولها أعني قوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } الآية ، كما فُعل في قوله تعالى : { قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله } فإنه مع كونه جواباً عن قولهم : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } قُدّم على قوله : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى } الآية ، مع كونه جواباً عن أول كلامِهم الذي هو قولُهم : { قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا } لِما ذُكر من شدة اقتضائِه للجواب وليكونَ أحدُ الجوابين متصلاً بالسؤال ، وفي العكس يلزَم انفصالُ كلَ من الجوابين عن سؤاله ، والعدولُ عن تطبيقه لظاهر كلامِهم بصدد الاقتراحِ وهو أن يقال : ما تأتيهم بهم للإيذان بأنهم قد أخطأوا في التعبير حسبما أخطأوا في الاقتراح ، وأن الملائكةَ لعلوّ رتبتهم أعلى من أن يُنسَبَ إليهم مطلقُ الإتيان الشاملِ للانتقال من أحد الأمكنة المتساوية إلى الآخر منها ، بل من الأسفل إلى الأعلى وأن يكون مقصِدُ حركاتهم أولئك الكفرةَ وأن يدخلوا تحت ملكوتِ أحدٍ من البشر ، وإنما الذي يليق بشأنهم النزولُ من مقامهم العالي وكونُ ذلك بطريق التنزيل من جناب الرب الجليل { إِلاَّ بالحق } أي ملتبساً بالوجه الذي يحِق ملابسةُ التنزيل به مما تقتضيه الحكمةُ وتجري به السنةُ الإلهية كقوله سبحانه : { وَمَا خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق } والذي اقترحوه من التنزيل لأجل الشهادة لديهم وهم هُمْ ومنزلتُهم في الحقارة والهوانِ منزلتُهم ، مما لا يكاد يدخل تحت الصِّحة والحِكمة أصلاً ، فإن ذلك من باب التنزيلِ بالوحي الذي لا يكاد يُفتح على غير الأنبياء الكرام من أفراد كُمَّلِ المؤمنين ، فكيف على أمثال أولئك الكفرة اللئامِ؟ وإنما الذي يدخُل في حقهم تحت الحكمةِ في الجملة هو التنزيلُ للتعذيب والاستئصالِ كما فُعل بأضرابهم من الأمم السالفة ولو فعل ذلك لاستؤصلوا بالمرة .(4/63)
{ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ } جزاءُ الشرط مقدّرٌ وفيه إيذانٌ بإنتاج مقدِّماتهم لنقيض مطلوبِهم كما في قوله تعالى : { وَأَذّن لاَّ يَلْبَثُونَ خلافك إِلاَّ قَلِيلاً } قال صاحب النظم : لفظةُ إذن مركبةٌ من إذ وهو اسمٌ بمعنى الحين ، تقول : أتيتُك إذ جئتني أي حين جئتني ثم ضُمّ إليه أنْ فصار إذْ أن ثم استثقلوا الهمزةَ فحذفوها ، فمجيءُ لفظة أن دليلٌ على إضمار فعلٍ بعدها والتقدير وما كانوا إذ أَنْ كان ما طلبوه منظَرين ، والمعنى لو نزّلناهم ما كانوا مؤخَّرين كدأب سائرِ الأممِ المكذبة المستهزِئة ، ومع استحقاقهم لذلك قد جرى قلمُ القضاء بتأخير عذابِهم إلى يوم القيامة حسبما أُجمل في قوله تعالى : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمل } الخ ، وحال حائلُ الحكمةِ بينهم وبين استئصالِهم لتعلق العلمِ والإرادة بازديادهم عذاباً بإيمان بعضِ ذراريهم ، وأما نظمُ إيمانِ بعضهم في سِمْط الحكمةِ فيأباه مقامُ بيانِ تماديهم في الكفر والفساد ولَجاجِهم في المكابرة والعِناد ، هذا هو الذي يستدعيه إعجازُ التنزيلِ الجليل ، وأما ما قيل في تعليل عدمِ موافقةِ التنزيل للحكمة من أنهم حينئذ يكونون مصدّقين عن اضطرار ، أو أنه لا حكمةَ في أن تأتيَكم بصور تشاهدونها فإنه لا يزيدكم إلا لَبساً ، أو أن إنزالَ الملائكة لا يكون إلا بالحق وحصولِ الفائدةِ بإنزالهم ، وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفارِ أنه لو أَنزل إليهم الملائكةَ لبقُوا مُصرّين على كفرهم فيصير إنزالُهم عبثاً باطلاً ولا يكون حقًّا ، فمع إخلال كلَ من ذلك بقطعية الباقي لا يلزَم من فرض وقوعِ شيءٍ من ذلك تعجيلُ العذاب الذي يفيده قوله تعالى : { وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ } هذا على تقدير كونِ اقتراحِهم لإتيان الملائكة لأجل الشهادة ، أما على تقدير كون ذلك لتعذيبهم فالمعنى إنا ما نُنزل الملائكةَ للتعذيب إلا تنزيلاً ملتبساً بالحق الذي تقتضيه الحِكمةُ وتستدعيه المصلحة حتماً ، بحيث لا محيد عنه ، ولو نزلناهم حسبما اقترحوا ما كان ذلك التنزيلُ ملتبساً بمقتضى الحِكمة الموجبةِ لتأخير عذابِهم إلى يوم القيامة ، لا رفقاً بهم بل تشديداً عليهم كما مر من قبل ، وحيث كان في نسبة تنزيلِهم للتعذيب إلى عدم موافقتِه الحكمةَ نوعُ إيهامٍ لعدم استحقاقِهم التعذيب عُدِل عما يقتضيه الظاهرُ إلى ما عليه النظم الكريم ، فكأنه قيل : لو نزلناهم ما كانوا منظَرين وذلك غيرُ موافقٍ للحكمة الموجِّهة لتأخير عذابِهم لتشديد عقابِهم ، وقيل : المرادُ بالحق الوحيُ ، وقيل : العذاب فتدبر .(4/64)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12)
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } ردٌّ لإنكارهم التنزيلَ واستهزائِهم برسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وتسليةٌ له ، أي نحن بعِظَم شأنِنا وعلوِّ جنابنا نزلنا ذلك الذكرَ الذي أنكروه وأنكروا نزولَه عليك ونسبوك بذلك إلى الجنون وعَمَّوا مُنزِّله ، حيث بنوَا الفعلَ للمفعول إيماءً إلى أنه أمرٌ لا مصدرَ له وفعلٌ لا فاعلَ له { وَإِنَّا لَهُ لحافظون } من كل ما لا يليق به ، فيدخل فيه تكذيبُهم له واستهزاؤُهم به دخولاً أولياً فيكون وعيداً للمستهزئين ، وأما الحفظُ عن مجرد التحريفِ والزيادة والنقصِ وأمثالِها فليس بمقتضى المقام ، فالوجهُ الحملُ على الحفظ من جميع ما يقدح فيه من الطعن فيه والمجادلةِ في حقّيته ، ويجوزُ أن يراد حفظُه بالإعجاز دليلاً على التنزيل من عنده تعالى إذ لو كان من عند غير الله لتطرّق عليه الزيادةُ والنقصُ والاختلاف ، وفي سبك الجملتين من الدلالة على كمال الكبرياءِ والجلالة وعلى فخامة شأنِ التنزيل ما لا يخفى ، وفي إيراد الثانيةِ بالجملة الاسمية دلالةٌ على دوام الحفظِ والله سبحانه أعلم ، وقيل : الضمير المجرورُ للرسول صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } وتأخيرُ هذا الكلام وإن كان جواباً عن أول كلامِهم الباطلِ ، ورداً له لما ذكر آنفاً ولارتباطه بما يعقُبه من قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلنَا } أي رسلاً ، وإنما لم يُذكر لدلالة ما بعده عليه { مِن قَبْلِكَ } متعلقٌ بأرسلنا أو بمحذوف هو نعتٌ للمفعول المحذوفِ أي رسلاً كائنةً من قبلك { فِى شِيَعِ الأولين } أي فِرَقِهم وأحزابهم جمع شيعة ، وهي الفِرقةُ المتّفقة على طريقة ومذهب ، من شاعه إذا تبِعه ، وإضافتُه إلى الأولين من إضافة الموصوفِ إلى صفته عند الفرّاء ، ومن حذف الموصوف عند البصريين أي شيعِ الأممِ الأولين ، ومعنى إرسالِهم فيهم جعلُ كل منهم رسولاً فيما بين طائفةٍ منهم ليتابعوه في كل ما يأتي ويذر من أمور الدين .
{ وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ } المرادُ نفيُ إتيانِ كل رسولٍ لشيعته الخاصة به لا نفيُ إتيان كل رسول لكل واحدة من تلك الشيعِ جميعاً ، أو على سبيل البدلِ ، وصيغةُ الاستقبال لاستحضار الصورةِ على طريقة حكايةِ الحالِ الماضية ، فإن ( ما ) لا تدخل في الأغلب على مضارع إلا وهو في معنى الحال ، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال ، أي ما أتى شيعةً من تلك الشيعِ رسولٌ خاصٌّ بها { إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤون } كما يفعله هؤلاء الكفرةُ ، والجملة في محل النصب على أنها حال مقدّرة من ضمير المفعول في يأتيهم إذا كان المرادُ بالإتيان حدوثَه ، أو في محل الرفع على أنها صفةُ رسول فإنه محلَّه الرفعُ على الفاعلية ، أي إلا رسولٌ كانوا به يستهزؤون ، وأما الجرُّ على أنها صفةٌ باعتبار لفظِه فيُفضي إلى زيادة ( من ) الاستغراقيةِ في الإثبات ويجوز أن يكون منصوباً على الوصفية بأن يقدَّر الموصوفُ منصوباً على الاستثناء وإن كان المختارُ الرفعَ على البدلية .(4/65)
وهذا كما ترى تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هذه عادةُ الجهال مع الأنبياء عليهم السلام ، وحيث كان الرسولُ مصحوباً بكتاب من عند الله تعالى تضمّن ذكرُ استهزائِهم بالرسول استهزاءَهم بالكتاب ولذلك قيل : { كذلك } إشارةٌ إلى ما دل عليه الكلام السابقُ من إلقاء الوحي مقروناً بالاستهزاء ، أي مثلَ ذلك السَّلْكِ الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين برسلهم وبما جاءوا به من الكتب { نَسْلُكُهُ } أي الذكرَ { فِى قُلُوبِ المجرمين } أي أهل مكةَ أو جنسُ المجرمين ، فيدخلون فيه دخولاً أولياً ، ومحلُّه النصبُ على أنه نعتٌ لمصدر محذوف أو حالٌ منه ، أي نسلكه سَلْكاً مثلَ السلك أو نسلك السَّلكَ حال كونِه مثلَه أي مقروناً بالاستهزاء ، غيرَ مقبول لما تقتضيه الحكمةُ فإنهم من أهل الخِذلان ليس لهم استحقاقٌ لقبول الحقِّ ، وصيغةُ المضارع لكون المشبَّه به مقدماً في الوجود وهو السِّلك الواقعُ في الأمم السالفة ، أو للدِلالة على استحضار الصورةِ ، والسَّلْكُ إدخالُ الشيء في آخرَ ، يقال : سَلكتُ الخيطَ في الإبرة والرمحَ في المطعون .(4/66)
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17)
{ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي بالذكر ، حالٌ من ضمير نسلكه أي غيرَ مؤمَنٍ به ، أو بيانٌ للجملة السابقة فلا محل لها ، وقد جُعل الضميرُ للاستهزاء فيتعين البيانيةُ إلا أن يُجعل الضميرُ المجرورُ أيضاً له ، على أن الباء للملابسة أي نسلك الاستهزاءَ في قلوبهم حالَ كونِهم غيرَ مؤمنين بملابسته ، والحالُ إما مقدّرةٌ أو مقارنة للإيذان بأن كفرَهم مقارِنٌ للإلقاء كما في قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } { وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين } أي قد مضت طريقتهم التي سنها الله تعالى في إهلاكهم حين فعلوا ما فعلوا من التكذيب والاستهزاءِ ، وهو استئنافٌ جيء به تكملةً للتسلية وتصريحاً بالوعيد والتهديد .
{ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم } أي على هؤلاء المقترِحين المعاندين { بَاباً مِنَ السماء } أي باباً ما ، لا باباً من أبوابها المعهودة كما قيل ، ويسرنا لهم الرُّقيَّ والصعودَ إليه { فَظَلُّواْ فِيهِ } في ذلك الباب { يَعْرُجُونَ } بآلة أو بغيرها ويرون ما فيها من العجائب عِياناً كما يفيده الظلول ، أو فظل الملائكةُ الذين اقترحوا إتيانَهم يعرُجون في ذلك الباب وهم يرَونه عياناً مستوضحين طولَ نهارهم .
{ لَقَالُواْ } لفرط عنادِهم وغلوِّهم في المكابرة وتفاديهم عن قَبول الحق { إِنَّمَا سُكّرَتْ أبصارنا } أي سُدّت من الإحساس من السُكر كما يدل عليه القراءةُ بالتخفيف ، أو حُيِّرت كما يعضُده قراءة من قرأ سكرت أي حارت .
{ بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } قد سحَرنا محمد صلى الله عليه وسلم كما قالوه عند ظهورِ سائرِ الآياتِ الباهرة ، وفي كلمتي الحصر والإضراب دلالةٌ على أنهم يبتون القولَ بذلك ، وأن ما يرَونه لا حقيقةَ له وإنما هو أمر خُيِّل إليهم بالسحر ، وفي اسميةِ الجملة الثانيةِ دَلالةٌ على دوام مضمونِها ، وإيرادُها بعد تسكير الأبصارِ لبيان إنكارِهم لغير ما يرونه بعيونهم ، فإن عروجَ كل منهم إلى السماء وإن كان مرئياً لغيره فهو معلوم بطريق الوجدانِ مع قطع النظرِ عن الأبصار ، فهم يدعون أن ذلك نوعٌ آخرُ من السحر غيرُ تسكير الأبصار .
{ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السماء بُرُوجًا } قصوراً ينزلها السيارات ، وهي البروجُ الاثنا عشر المشهورةُ المختلفةُ الهيئاتِ والخواصِّ حسبما يدل عليه الرصْدُ والتجرِبة مع ما اتفق عليه الجمهور من بساطة السماء ، والجعلُ إن جُعل بمعنى الخلق والإبداعِ وهو الظاهرُ فالجار متعلقٌ به ، وإن جعل بمعنى التصييرِ فهو مفعولٌ ثانٍ له متعلقٌ بمحذوف أي جعلنا بروجاً كائنة في السماء { وزيناها } أي السماء بتلك البروجِ المختلفةِ الأشكال والكواكب سياراتٍ كانت أو ثوابتَ { للناظرين } إليها ، فمعنى التزيينِ ظاهرٌ ، أو للمتفكرين المعتبرين المستدلين بذلك على قدرة مقدّرها وحكمةِ مدبرّها ، فتزيينُها بترتيبها على نظام بديع مستتبعٍ للآثار الحسنة .
{ وحفظناها مِن كُلّ شيطان رَّجِيمٍ } مَرْميَ بالنجوم فلا يقدر أن يصعَدَ إليها ويوسوسَ في أهلها ويتصرّفَ فيها ويقفَ على أحوالها .(4/67)
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
{ إِلاَّ مَنِ استرق السمع } محلُّه النصبُ على الاستثناء المتصل إنْ فسّر الحِفظُ بمنع الشياطين عن التعرّضِ لها على الإطلاق والوقوفِ على ما فيها في الجملة ، أو المنقطعِ إن فُسر ذلك بالمنع عن دخولها والتصرف فيها . عن ابن عباس رضي الله عنهما : « أنهم كانوا لا يحجبون عن السموات ، فلما وُلد عيسى عليه السلام مُنعوا من ثلاث سموات ، ولما ولد النبي صلى الله عليه وسلم مُنِعوا من السموات كلِّها » واستراقُ السمعِ اختلاسُه سرًّا ، شُبّه به خَطفتُهم اليسيرةُ من قُطّان السمواتِ بما بينهم من المناسبة في الجوهر ، أو بالاستدلال من الأوضاع { فَأَتْبَعَهُ } أي تبعه ولحِقه { شِهَابٌ } لهبٌ محروقٌ وهو شعلةُ نارٍ ساطعةٌ ، وقد يطلق على الكواكب والسِّنان لما فيهما من البريق { مُّبِينٌ } ظاهرٌ أمرُه للمبصرين . قال معمر : قلت لابن شهاب الزهري : أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال : نعم ، وإن النجم ينقضّ ويرمى به الشيطانُ فيقتلُه أو يخبِلُه لئلا يعود إلى استراق السمع ، ثم يعود إلى مكانه ، قال : أفرأيت قوله تعالى : { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد } الآية ، قال : غُلّظت وشُدّد أمرُها حين بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن قتيبة : إن الرجمَ كان قبل مبعثِه عليه الصلاة والسلام ، ولكن لم يكن في شدة الحِراسة كما بعدَ مبعثِه عليه الصلاة والسلام ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إن الشياطينَ يركَبُ بعضُهم بعضاً إلى السماء الدنيا يسترقون السمعَ من الملائكة ، فيُرمَون بالكواكب فلا يخطِىء أبداً ، فمنهم من يُحرق وجهُه وجنبُه ويدُه حيث يشاء الله تعالى ، ومنهم من يخبِلُه فيصير غُولاً فيُضل الناس في البوادي . قال القرطبي : اختلفوا في أن الشهاب هل يقتُل أم لا؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما : يجرَح ويحرِق ويخبِلُ ولا يقتُل ، وقال الحسن وطائفةٌ : يقتل ، قال : والأول أصح .
{ والأرض مددناها } بسطناها ، وهو بالنصب على الحذف على شريطة التفسير ، ولم يُقرأ بالرفع لرجحان النصب للعطف على الجملة الفعلية ، أعني قوله تعالى : { وَلَقَدْ جَعَلْنَا } الخ ، وليوافِقَ ما بعده ، أعني قوله تعالى : { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي } أي جبالاً ثوابتَ ، وقد مر بيانه في أول الرعد { وَأَنبَتْنَا فِيهَا } أي في الأرض أو فيها وفي رواسيها { مِن كُلّ شَىْء مَّوْزُونٍ } بميزان الحِكمة ذاتاً وصفةً ومقداراً ، وقيل : ما يوزن من الذهب والفضة وغيرِهما أو من كل شيءٍ مستحسَنٍ مناسب ، أو ما يوزن ويُقدَّر من أبواب النعمة .
{ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش } ما تعيشون به من المطاعم والملابسِ وغيرِهما مما يتعلق به البقاءُ ، وهي بياء صريحة ، وقرىء بالهمزة تشبيهاً له بالشمائل { وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ برازقين } عطف على معايش أو على محل لكم ، كأنه قيل : جعلنا لكم معايشَ وجعلنا لكم مَنْ لستم برازقيه من العِيال والمماليك والخدَم والدوابِّ وما أشبهها على طريقة التغليب ، وذِكرُهم بهذا العنوان لرد حسبانُهم أنهم يَكْفون مؤناتِهم ، ولتحقيق أن الله تعالى هو الذي يرزقهم وإياهم ، أو وجعلنا لكم فيها معايشَ ولمن لستم له برازقين .(4/68)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23)
{ وَإِن مّن شَىْء } إن للنفي ومن مزيدة للتأكيد وشيءٍ في محل الرفع على الابتداء ، أي ما من شيء من الأشياء الممكنةِ ، فيدخُل فيه ما ذكر دخولاً أولياً { إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } الظرفُ خبرٌ للمبتدأ ، وخزائنُه مرتفعٌ به على أنه فاعله لاعتماده ، أو خبر له ، والجملة خبر للمبتدأ الأول ، والخزائنُ جمع الخِزانة وهي ما يحفظ فيه نفائسُ الأموال لا غيرُ ، غلَب في العرف على ما للملوك والسلاطينِ من خزائن أرزاقِ الناس ، شُبِّهت مقدوراتُه تعالى الفائتةُ للحصر المندرجةُ تحت قدرتِه الشاملة في كونها مستورةً عن علوم العالمين ومصونةً عن وصول أيديهم مع كمال افتقارِهم إليها ورغبتِهم فيها ، وكونِها مهيأةً متأتّيةً لإيجاده وتكوينه ، بحيث متى تعلقت الإرادةُ بوجودها وُجدت بلا تأخر بنفائس الأموالِ المخزونةِ في الخزائن السلطانيةِ فذكرُ الخزائن على طريقة الاستعارةِ التخييلية { وَمَا نُنَزّلُهُ } أي ما نُوجِد وما نكوّن شيئاً من تلك الأشياء ملتبساً بشيء من الأشياء { إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } أي إلا ملتبساً بمقدار معينٍ تقتضيه الحِكمةُ وتستدعيه المشيئةُ التابعة لها ، لا بما تقتضيه القدرةُ فإن ذلك غيرُ متناهٍ ، فإن تخصيصَ كل شيء بصفة معينةٍ وقدرٍ معين ووقتٍ محدود دون ما عدا ذلك ، مع استواء الكلِّ في الإمكان واستحقاقِ تعلّقِ القدرة به ، لا بد له من حكمة تقتضي اختصاصَ كلَ من ذلك بما اختص به ، وهذا البيانُ سرُّ عدمِ تكوينِ الأشياء على وجه الكثرة حسبما هو في خزائن القدرة ، وهو إما عطفٌ على مقدر أي ننزله وما ننزله الخ ، أو حالٌ مما سبق أي عندنا خزائنُ كل شيءٍ ، والحال أنا ما ننزِّله إلا بقدر معلوم ، فالأول لبيان سعةِ القدرةِ والثاني لبيان بالغِ الحِكمة ، وحيث كان إنشاءُ ذلك بطريق التفضّل من العالم العلويِّ إلى العالم السفلي كما في قوله تعالى : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعام ثمانية أزواج } وكان ذلك بطريق التدريج عبّر عنه بالتنزيل ، وصيغةُ المضارع للدلالة على الاستمرار .
{ وَأَرْسَلْنَا الرياح } عطفٌ على جعلنا لكم فيها معايشَ ، وما بينها اعتراضٌ لتحقيق ما سبق وترشيحِ ما لحِق أي أرسلنا الرياح { لَوَاقِحَ } أي حواملَ ، شُبّهت الريحُ التي تجيء بالخير من إنشاء سحابٍ ماطرٍ بالحامل كما شُبّه بالعقيم ما لا يكون كذلك ، أو ملقِّحاتٍ بالشجر والسحابِ ، ونظيره الطوائحُ بمعنى المُطيحات في قوله
ومختبطٍ مما تُطيح الطوائحُ ... أي المهلِكات ، وقرىء وأرسلنا الريحَ على إرادة الجنس { فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء } بعد ما أنشأنا بتلك الرياحِ سحاباً ماطراً { مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } أي جعلناه لكم سُقياً وهو أبلغُ من سقيناكموه ، لما فيه من الدِلالة على جعل الماءِ معداً لهم ينتفعون به متى شاءوا { وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بخازنين } نفى عنهم ما أثبته لجنابه بقوله : { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } كأنه قيل : نحن القادرون على إيجاده وخزْنِه في السحاب وإنزاله وما أنتم على ذلك بقادرين ، وقيل : ما أنتم بخازنين له بعدما أنزلناه في الغُدران والآبارِ والعيون ، بل نحن نخزنُه فيها لنجعلَها سقياً لكم مع أن طبيعةَ الماء تقتضي الغَوْر .(4/69)
{ وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْىِ } بإيجاد الحياةِ في بعض الأجسام القابلةِ لها { وَنُمِيتُ } بإزالتها عنها ، وقد يُعمِّم الإحياءُ والإماتة لما يشمل الحيوانَ والنباتَ ، وتقديمُ الضميرِ للحصر ، وهو إما تأكيدٌ للأول أو مبتدأٌ خبرُه الفعلُ ، والجملةُ خبرٌ لإنا ، ولا يجوز كونُه ضميرَ الفصل لا لأن اللام مانعةٌ من ذلك كما قيل ، فإن النحاة جوزوا دخولَ لام التأكيدِ على ضمير الفصل كما في قوله تعالى : { إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق } بل لأنه لم يقع بين اسمين { وَنَحْنُ الوارثون } أي الباقون بعد فناءِ الخلقِ قاطبةً ، المالكون للملك عند انقضاءِ زمان المُلك المجازيِّ ، الحاكمون الكلَّ أولاً وآخراً ، وليس لهم إلا التصرفُ الصُّوريُّ والملكُ المجازي ، وفيه تنبيهٌ على أن المتأخّرَ ليس بوارث للمتقدم كما يتراءى من ظاهر الحال .(4/70)
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)
{ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ } مَنْ تقدّم منكم ولادةً وموتاً { وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستخرين } من تأخر ولادةً وموتاً أو من خرج من أصلاب الآباءِ ومن لم يخرُجْ بعدُ ، أو مَنْ تقدم في الإسلام والجهاد وسبق إلى الطاعة ومن تأخر في ذلك ، لا يخفى علينا شيء من أحوالكم ، وهو بيانٌ لكمال علمِه بعد الاحتجاج على كمال قدرتِه ، فإن ما يدل عليها دليلٌ عليه ، وفي تكرير قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْنَا } ما لا يخفى من الدلالة على كمال التأكيدِ ، وقيل : رغّب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف الأول فازدحموا عليه فنزلت ، وقيل : إن امرأةً حسناءَ كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم بعضُ الناس لئلا يراها وتأخر آخرون ليرَوْها فنزلت ، والأول هو المناسب لما سبق وما لحق من قوله تعالى :
{ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ } أي للجزاء ، وتوسيطُ ضميرِ العظمةِ للدلالة على أنه هو القادرُ على حشرهم والمتولِّي له لا غيرُ ، لأنهم كانوا يستبعدون ذلك ويستنكرونه ويقولون : مَنْ يحيي العظامَ وهي رميم ، أي هو يحشرهم لا غير ، وفي الالتفات والتعرض لعنوان الربوبيةِ إشعارٌ بعلة الحكم ، وفي الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام دَلالةٌ على اللطف به عليه الصلاة والسلام { إِنَّهُ حَكِيمٌ } بالغُ الحكمة متقِنٌ في أفعاله ، فإنها عبارةٌ عن العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه ، والإتيانِ بالأفعال على ما ينبغي { عَلِيمٌ } وسِع علمُه كل شيء ، ولعل تقديمَ صفةِ الحكمة للإيذان باقتضائها للحشر والجزاء .
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } أي هذا النوع بأن خلقناأصله وأول فرد من أفراده خلقاً بديعاً منطوياً على خلق اسئر أفراد انطواء اجمالياً كما مر تحقيقه في سورة الأنعام { مِن صَلْصَالٍ } من طين يابس غير مطبوخ يصلصل أي يصوت عند نقرة قبل اذا توهمت في صوته مدا فهو صليل وإن توهمت فيه ترجيعاً فهو صلصلة وقيل هو تضعيف صل إذانتين { مِّنْ حَمَإٍ } من طين تغير وأسود بطول مجاورة الماء وهو صفة لصلصال أي من صلصال كائن من حم{ مَّسْنُونٍ } أي مصور من سنة الوجه وهي صورته أو مصبوب من سن الماء صبه أي مفرغ على هيئة الآنسان كما يفرغ الصور من الجواهر المذابة في القوالب وقيل منتن فهو صفة لحما و على الأولين حقه أن يكون صفة لصلصال وإنما أخر عن حمنتبيها على أن ابتداء مسنونيته ليس في حال كونه صلصالاً بل في حال كونه حمكأنه سبحانه أفرغ الحمأ فصور من ذلك تمثال انسانا أجوف فيبس حتى اذا نقر صوت ثم غيره الى جوهر آخر فتبارك الله أحسن الخالقين .(4/71)
وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)
{ والجآن } أبا الجن وقيل ابليس ويجوز أ ، يراد به الجنس كما هو الظاهر من الانسان لأن تشغب الجنس لما كان من فردواحد مخلوق من مادة واجدة كان الجنس بأسره مخلوقاً منها وقرئ بالهمزة وانتصابه بفعل يفسره { خَلَقْنَاهُ } وهو أقوى من الرفع للعطف على الجملة الفعلية { مِن قَبْلُ } من قبل خلق الانسان ومن هذا يظهر جواز كون المراد بالمستقدمين أحد الثقلين وبالمستأخرين الآخر والخطاب بقوله منكم للكل { مِن نَّارِ السموم } من نار الجر الشديد النافذ في المسام ولا امتناع من خلق الحياة في الأجرام البسيطة كما لا امتناع من خلقها في الجواهر المجردة فضلاً عن الأجسام المؤلفة التي غالب أجزائها الجزء الناري فانها أقبل لها من التي غالب أجزائها الجزء الأرضي وقوله تعالى من نار باعتبار الغالب كقوله تعالى خلقكم من تراب ومساق الآية الكريمة كما هو للدلالة على كمال قدرة الله تعالى وبيان بدء خلق الثقلين فهو للتنبيه على المقدمة الثانية التي يتوقف عليها إمكان الحشر وهو قبول المواد للجميع والاحياء .
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ } نصب بإضمار ذكر وتذكير الوقت لما مر مراراً من أنه أدخل في تذكير ما وقع فيه من الحوادث وفي التعرض لوصف الربوبية المنبئة عن تبليغ الشيء إلى كماله اللائق به شيئاً فشيئاً مع الاضافة الى ضميره عليه الصلاة والسلام اشعار بعلة الحكم وتشريف له عليه الصلاة والسلام أي اذكر وقت قوله تعالى { لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ } فيما سيأتي وفيه ما ليس في صيغة الماضرع من الدلالة على أنه تعالى فاعل له البتة من غير صارف يثنيه ولا عاطف يلونه { بَشَراً } أي انساناً قيل ليس هذا عين العبارة الجارية وقت الخطاب بل الظاهر أن يكون قد قيل لهم اني خالق خلقاً من صفته كيت وكيت ولكن اقتصر عند الحكاية على الاسم وقيل حسماً كثيفاً يلاقي ويباشر وقيل خلقاً بادى البشر بلا صوف ولا شعرة { مِّن صَلْصَالٍ } متعلق بخالق أو بمحذوف وقع صفة لمفعوله أي بشراً كائناً من صلصال كائن { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } تقدم تفسيره ولا ينافي هذا ما في قوله تعالى في سورة ص من قوله بشراً من طين فإن عدم التعرض عند الحكاية لوصف الطين من التغير والأسود ولما ورد عليه من آثار التكوين لا يستلزم عدم التعرض لذلك عند وقوع المحكى غايته أنه لم يتعرض له هناك اكتفاء بما شرح ههنا .
{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } أي صورته بالصورة الانسانية والخلقة البشرية أو سويت أجزاء بدنه بتعديل طبائعه { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } النفخ اجراء الريح الى تجويف جسم صالح لامساكها والامتلاء بها وليس ثمة نفخ ولا منفوخ وانما هو تمثيل لافاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها أي فاذا كملت استعداده وأفضت عليه ما يحيا به من الروح التي هي من أمري { فَقَعُواْ لَهُ } أمر من وقع يقع وفيه دليل على أن ليس المأمور به مجرد الانحناء كما قيل أي اسقطوا له { سَاجِدِينَ } تحية له وتعظيماً أو اسجدوا لله تعالى على أنه عليه الصلاة والسلام بمنزلة القبلة حيث ظهر فيه تعاجيب آثار قدرته تعالى حكمته كقول حسان رضي الله تعالى عنه
أليس اول من صلى لقبلتكم ... وأعلم الناس بالقرآن والسنن(4/72)
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32)
{ فَسَجَدَ الملائكة } أي فخلقه فسواه فنفخ فيه الروح فسجد الملائكة { كُلُّهُمْ } بحيث لم يشذ منهم أحد { أَجْمَعُونَ } بحيث لم يتأخر في ذلك أحد منهم عن أحد ولا اختصاص لافادة هذا المعنى بالحالية بل يفيده التأكيد أيضاً فإن الاشتقاق الواضح يرشد الى أن فيه معنى الجمع والمعية بحسب الوضع والأصل في الخطاب التنزيل على أكمل أحوال الشيء ولا ريب في أن السجود معاً أكمل أصناف السجود لكن شاع استعماله تأكيداً وأقيم مقام كل في افادة معنى الاحاطة من غير نظر الى الكمال فإذا فهمت الاحاطة من لفظ آخر لم يكن بد من مراعاة الأصل صونا للكلام عن الالغاء وقيل أكد بتأكيدين مبالغة في التعميم هذا وأما ان سجودهم هذا هل ترتب على ما حكى من الأمر التعليقي كما تقتضيه هذه الآية الكريمة والتي في سورة ص أو على الأمر التنجيزي كما يستدعيه ما في غيرهمافقد خرجنا بفضل الله عز وجل عن عهدة تحقيقه في تفسير سورة البقرة .
{ إِلاَّ إِبْلِيسَ } استثناء متصل إما لأنه كان جنياً مفرداً مغموراً بألوف من الملائكة فعد منهم تغليباً واما لأن من الملائكة جنساً يتوالدون وهو منهم وقوله تعالى { أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين } استئناف مبين لكيفية عدم السجود المفهوم من الاستثناء فإن مطلق عدم السجود قد يكون مع النردد به علم أنه مع الاباء والاستكبار أو منقطع فيتصل به ما بعده أي لكن ابليس أبى ان يكون معهم وفيه دلالة على كمال ركاكة رأيه حيث أدمج في معصية واحدة ثلاث معاص مخالفة الأمر والاستكبار مع تحقير آدم عليه الصلاة والسلام ومفارقة الجماعة والاباء عن الانتظام في سلك أولئك المقربين الكرام { قَالَ } استئناف مبنى على سؤال من قال فماذا قال الله تعالى عند ذلك فقيل قال { ياإبليس مَا لَكَ } اي أي سبب لك لاأي غرض لك كما قيل لقوله تعالى ما منعك { أَلاَّ تَكُونَ } في أن لا تكون { مَعَ الساجدين } لآدم مع أنهم هم ومنزلتهم في الشرف منزلتهم وما كان التوبيخ عند وقوعه لمجرد تخلفه عنهم بل لكل من المعاصي الثلاث المذكورة قال تعالى في سورة الأعراف قال ما منعك أن لا تسجد اذ أمرتك وفي سورة ص قال يا ابليس ما منعك أن تسجد ملا خلقت بيدي ولكن اقتصر عند الحكاية في كل موطن على ما ذكر فيه اجتراء بما ذكر في مواطن آخر واشعار بأن كل واحدة من تلك المعاصي الثلاث كافية في التوبيخ واظهار بطلان ما ارتكبته وقد تركت حكاية التوبيخ رأساً في سورة البقرة وسورة بني اسارئيل وسورة الكهف وسورة طه .(4/73)
قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36)
{ قَالَ } أي ابليس وهو أيضاً استئناف مبنى على السؤال الذي ينساق اليه الكلام { لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ } اللام لتأكيد النفي أي ينافي حالي ولا يستقيم مني لأني مخلوق من أشرف العناصر وأعلاها أن اسجد { لِبَشَرٍ } أي جسم كثيف { خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } اقتصر ههنا على الاشارة الاجمالية الى ادعاء الخيرية وشرف المادة اكتفاء بما صرح به حين قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ولم يكتف اللعين بمجرد ذكر كونه عليه الصلاة والسلام من التراب الذي هو أخس العناصر وأسفلها بل تعرض لكونه مخلوقاً منه في أخس أحواله من كونه طينا متغيرا وقد اكتفى في سورة الاعراف وسورة ص بما حكى عنه ههنا فاقتصر على حكاية تعرضه لخلقه عليه الصلاة والسلام من طين وكذا في سورة بنى اسرائيل حيث قيل أأسجد لمن خلقت طيناً وفي جوابه دليل على أن قوله تعالى مالك ليس استفسارا عن المناقشة وأنى له ذلك كأنه قال لم أمتنع عن امتثال الأمر ولا عن الانتظام في سلك الملائكة بل عما لا يليق بشأنى من الخضوع للمفضول ولقد جرى خذله الله تعالى على سنن قياس عقيم وزل عنه أن ما يدور عليه فلك الفضل والكمال هو التحلي بالمعارف الربانية والتخلي عن الملكات الردية التي أقبحها التكبر والاستعصاء على أمر رب العالمين جلا جلاله .
{ قَالَ فاخرج مِنْهَا } أي من زُمرة الملائكةِ المعزّزين لا من السماء ، فإن وسوسته لآدمَ عليه الصلاة والسلام في الجنة إنما كانت بعد هذا الطرد ، وقوله تعالى : { فاهبط مِنْهَا } ليس نصًّا في ذلك ، فإن الخروجَ من بين الملإ الأعلى هبوطٌ وأيُّ هبوط ، أو من الجنة على أن وسوستَه كانت بطريق النداءِ من بابها كما رُوي عن الحسن البصْري ، أو بطريق المشافهة بعد أن احتال في دخولها وتوسّل إليه بالحيّة كما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ولا ينافي هذا طردَه على رؤوس الأشهاد لما يقتضيه من الحِكَم البالغة { فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } مطرودٌ من كل خير وكرامةٍ ، فإن من يُطرَدْ يُرجَمْ بالحجارة ، أو شيطان يُرجَمُ بالشهب وهو وعيدٌ يتضمن الجوابَ عن شبهته ، فإن مَن عارض النصَّ بالقياس فهو رجيم ملعون .
{ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة } الإبعادَ عن الرحمة ، وحيث كان ذلك من جهة الله سبحانه وإن كان جارياً على ألسنة العبادِ ، قيل : في سورة ص { وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى } { إلى يَوْمِ الدين } إلى يوم الجزاء والعقوبةِ ، وفيه إشعارٌ بتأخير عقابِه وجزائِه إليه ، وأن اللعنة مع كمال فظاعتِها ليست جزاءً لفعله وإنما يتحقق ذلك يومئذ ، وفيه من التهويل ما لا يوصف ، وجعلُ ذلك أقصى أمدِ اللعنة ليس لأنها تنقطع هنالك ، بل لأنه عند ذلك يعذَّب بما يَنسى به اللعنة من أفانين العذابِ ، فتصير هي كالزائل .(4/74)
وقيل : إنما حدت به لأنه أبعدُ غاية يُضَرّ بها الناسُ كقوله تعالى : { خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض } وحيث أمكن كونُ تأخير العقوبةِ مع الموت كسائر من أُخِّرت عقوباتُهم إلى الآخرة من الكفرة ، طلب اللعينُ تأخيرَ موتِه كما حُكي عنه بقوله تعالى : { قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى } أي أمهلني وأخِّرْني ولا تُمِتْني ، والفاء متعلقٌ بمحذوف ينسحب عليه الكلام ، أي إذْ جعلتني رجيماً فأمهلني { إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي آدمُ وذريتُه للجزاء بعد فنائِهم ، وأراد بذلك أن يجد فُسحة لإغوائهم ويأخذَ منهم ثأرَه وينجوَ من الموت لاستحالته بعد يوم البعث .(4/75)
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)
{ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين } ورودُ الجوابِ بالجملة الاسمية مع التعرض لشمول ما سأله لآخرين على وجه يُؤذِنُ بكون السائلِ تبعاً لهم في ذلك ، دليلٌ على أنه إخبارٌ بالإنظار المقدر لهم أزلاً ، لا إنشاءٌ لإنظار خاصَ به وقع إجابةً لدعائه ، أي إنك من جملة الذين أُخّرت آجالُهم أزلاً حسبما تقتضيه حكمةُ التكوين ، فالفاءُ ليست لربط نفس الإنظار بالاستنظار بل لربط الإخبارِ المذكور به ، كما في قوله
فإن ترحم فأنت لذاك أهل ... فإنه لا إمكان لجعل الفاءِ فيه لربط ما فيه تعالى من الأهلية القديمةِ للرحمة بوقوع الرحمةِ الحادثة ، بل هي لربط الإخبار بتلك الأهليةِ للرحمة بوقوعها ، وأن استنظاره كان طلباً لتأخير الموتِ إذ به يتحقق كونُه من جملتهم ، لا لتأخير العقوبه كما قيل ، ونظمه في ذلك في سلك من أُخِّرت عقوبتُهم إلى الآخرة في علم الله تعالى ممن سبق من الجن ولحِق من الثقلين لا يلائم مقامَ الاستنظار مع الحياة ، ولأن ذلك التأخيرَ معلومٌ من إضافة اليوم إلى الدين مع إضافته في السؤال إلى البعث كما عرفته ، وفي سورة الأعراف : { قَالَ أَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المنظرين } بترك التوقيتِ والنداءِ ، والفاء في الاستنظار والإنظارِ تعويلاً على ما ذكر هاهنا ، وفي سورة ص ، فإن إيراد كلامٍ واحد على أساليبَ متعددةٍ غيرُ عزيزٍ في الكتاب العزيز ، وأما أن كل أسلوب من أساليب النظم الكريمِ لا بد أن يكون له مقامٌ يقتضيه مغايرٌ لمقام غيره ، وأن ما حُكي من اللعين إنما صدر عنه مرة وكذا جوابُه لم يقع إلا دَفعةً ، فمقامُ المجاورة إن اقتضى أحدَ الأساليبِ المذكورة فهو المطابقُ لمقتضى الحال والبالغُ إلى طبقة الإعجاز وما عداه قاصرٌ عن رتبة البلاغة فضلاً عن الارتقاء إلى معالم الإعجازِ ، فقد مر تحقيقه بتوفيق الله تعالى في سورة الأعراف .
{ إلى يَوْمِ الوقت المعلوم } وهو وقتُ النفخة الأولى التي علم أنه يَصْعَق عندها من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله تعالى ، ويجوز أن يكون المرادُ بالأيام واحداً ، والاختلافُ في العبارات لاختلاف الاعتباراتِ ، فالتعبيرُ بيوم البعث لأن غرض اللعين يتحقق ، وبيوم الدين لما ذُكر من الجزاء ، وبيوم الوقت المعلومِ لما ذُكر أو لاستئثاره تعالى بعلمه فلعل كلاًّ من هلاك الخلق جميعاً وبعثهم وجزائِهم في يوم واحد ، يموت اللعينُ في أوله ويُبعث في أواسطه ويعاقب في بقيته . يُروى أن بين موتِه وبعثه أربعين سنةً من سِني الدنيا مقدارَ ما بين النفختين ، ونقل عن الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى أنه قال : قدِمتُ المدينة أريد أميرَ المؤمنين عمرَ رضي الله تعالى عنه ، فإذا أنا بحلقة عظيمة وكعبُ الأحبار فيها يحدث الناس وهو يقول : لما حضر آدمَ عليه الصلاة والسلام الوفاةُ قال : يا رب سيشمت بي عدوي إبليسُ إذا رآني ميتاً وهو مُنْظَرٌ إلى يوم القيامة ، فأجيب أنْ يا آدمُ إنك سترِد إلى الجنة ويؤخَّر اللعينُ إلى النظرة ليذوقَ ألمَ الموتِ بعدد الأولين والآخِرين ، ثم قال لملك الموت : صِفْ كيف تذيقه الموتَ ، فلما وصفه قال : يا رب حسبي .(4/76)
فضجّ الناسُ وقالوا : يا أبا إسحاقَ كيف ذلك؟ فأبى ، فألحّوا فقال : يقول الله سبحانه لملك الموت عقِبَ النفخةِ الأولى : « قد جعلت فيك قوةَ أهلِ السموات السبع ، وأهلِ الأرضينَ السبعِ ، وإني ألبستُك اليوم أثوابَ السخط والغضب كلَّها ، فانزِلْ بغضبي وسطوتي على رجيمي إبليسَ فأذِقْه الموتَ واحمِلْ عليه فيه مرارةَ الأولين والأخِرين من الثقلين أضعافاً مضاعفةً ، وليكن معك من الزبانية سبعون ألفاً قد امتلأوا غيظاً وغضباً ، وليكن مع كل منهم سلسلةٌ من سلاسل جهنم وغُلٌّ من أغلالها ، وأنزل روحَه المُنتنَ بسبعين ألفَ كلاب من كلاليبها ، ونادِ مالكاً ليفتح أبواب النيران » فينزل ملكُ الموت بصورة لو نظر إليها أهلُ السموات والأرضين لماتوا بغتةً من هولها ، فينتهي إلى إبليس فيقول : قف لي يا خبيثُ لأُذيقنّك الموت كم من عمر أدركتَ وقرونٍ أضللتَ وهذا هو الوقتُ المعلوم ، قال : فيهرُب اللعين إلى المشرِق فإذا هو بملك الموت بين عينيه ، فيهرُب إلى المغرِب فإذا هو به بين عينيه ، فيغوص البحارَ فتنز منه البحارُ فلا تقبله ، فلا يزال يهرُب في الأرض ولا محيصَ له ولا ملاذ ، ثم يقوم في وسط الدنيا عند قبر آدمَ ويتمرغ في التراب من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق ، حتى إذا كان في الموضع الذي أهبط في آدمُ عليه الصلاة والسلام ، وقد نَصبت له الزبانية الكلاليبَ وصارت الأرض كالجمرة احتوشته الزبانية وطعنوه بالكلاليب ، ويبقى في النزع والعذاب إلى حيث يشاء الله تعالى ، ويقال لآدمَ وحواءَ : اطَّلِعا اليوم إلى عدوكما كيف يذوق الموت ، فيطّلعان فينظران إلى ما هو فيه من شدة العذاب فيقولان : ربنا أتممتَ علينا نعمتك .(4/77)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
{ قَالَ رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى } الباء للقسم وما مصدريةٌ والجواب { لأزَيّنَنَّ لَهُمْ } أي أقسم بإغوائك إيايَ لأزينن لهم المعاصيَ { فِى الأرض } أي في الدنيا التي هي دارُ الغرور كقوله تعالى : { أَخْلَدَ إِلَى الأرض } وإقسامُه بعزة الله المفسَّرةِ بسلطانه وقهره لا ينافي إقسامَه بهذا ، فإنه فرْعٌ من فروعها وأثرٌ من آثارها ، فلعله أقسم بهما جميعاً فحُكي تارة قسمُه بهذا وأخرى بذاك ، أو للسببية ، وقوله : لأزينن ، جوابُ قسمٍ محذوف ، والمعنى بسبب تسبُّبِك لإغوائي أقسم لأفعلن بهم مثلَ ما فعلت بي من التسبيب لإغوائهم بتزيين المعاصي وتسويلِ الأباطيل ، والمعتزلةُ أوّلوا الإغواءَ بالنسبة إلى الغيّ أو التسببب له لأمره إياه بالسجود لآدم عليه الصلاة والسلام ، واعتذروا عن إمهال الله تعالى وتسليطِه له على إغواء بني آدم بأنه تعالى قد علِم منه وممن تبِعه أنهم يموتون على الكفر ويصيرون إلى النار ، أُمهل أم لم يُمهَل ، وأن في إمهاله تعويضاً لمن خالفه لاستحقاق مزيدِ الثواب { وَلأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } لأحمِلنّهم على الغواية .
{ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } الذين أخلصتَهم لطاعتك وطهَّرتَهم من الشوائب ، فلا يعملُ فيهم كيدي ، وقرىء بكسر اللام ، أي الذين أخلصوا نفوسَهم لله تعالى .(4/78)
قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)
{ قَالَ هَذَا صراط } أي حقٌّ { عَلَىَّ } أن أراعيَه { مُّسْتَقِيمٍ } لا عوجَ فيه ، والإشارةُ إلى ما تضمّنه الاستثناءُ وهو تخلّصُ المخْلَصين من إغوائه ، أو الإخلاصُ على معنى أنه طريقٌ يؤدي إلى الوصول من غير اعوجاج وضلالٍ ، والأظهرُ أن ذلك لِما وقع في عبارة إبليسَ حيث قال : { لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } الآية ، وقرىء على من علو الشرف .
{ إِنَّ عِبَادِى } وهم المشار إليهم بالمخلَصين { لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان } تسلطٌ وتصرفٌ بالإغواء { إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين } وفيه ، مع كونه تحقيقاً لما قاله اللعين ، تفخيمٌ لشأن المخلَصين وبيانٌ لمنزلتهم ولانقطاع مخالبِ الإغواء عنهم وأن إغواءَه للغاوين ليس بطريق السلطانِ بل بطريق اتباعِهم له بسوء اختيارِهم .
{ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ } أي موعدُ المتبعين أو الغاوين ، والأولُ أنسبُ وأدخلُ في الزجر عن اتباعه ، وفيه دلالةٌ على أن جهنم مكانُ الوعد وأن الموعودَ مما لا يوصف في الفظاعة { أَجْمَعِينَ } تأكيدٌ للضمير أو حالٌ ، والعامل فيها الموعِدُ إن جعل مصدراً على تقدير المضاف ، أو معنى الإضافة إن جعل اسم مكان .
{ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ } يدخلونها لكثرتهم ، أو سبعُ طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في الغَواية والمتابعة ، وهي : جهنم ثم لظَى ثم الحُطمة ثم السعير ثم سقرُ ثم الجحيمُ ثم الهاوية { لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ } من الأتباع أو الغواة { جُزْء مَّقْسُومٌ } حزبٌ معينٌ مُفرَزٌ من غيره حسبما يقتضيه استعدادُه ، فأعلاها للموحدين ، والثانية لليهود ، والثالثة للنصارى ، والرابعة للصابئين ، والخامسة للمجوس ، والسادسة للمشركين ، والسابعة للمنافقين . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إن جهنم لمن ادعى الربوبية ولظى لعبدة النار ، والحُطَمةُ لعبدة الأصنام ، وسقَرُ لليهود ، والسعير للنصارى ، والجحيم للصابئين ، والهاوية للموحّدين ، ولعل حصرها في السبع لانحصار المهلِكات في المحسوسات بالحواس الخمس ومقتضياتِ القوة الشهوية والغضبية ، وقرىء بضم الزاي وبحذف الهمزة وإلقاءِ حركتها إلى ما قبلها مع تشديدها في الوقف والوصل ، ومنهم حال ، من جزء أو من ضميره في الظرف لا في مقسوم ، لأن الصفة لا تعمل فيما تقدم موصوفَها .
{ إِنَّ المتقين } من اتباعه في الكفر والفواحش فإن غيرها مكفر { فِى جنات وَعُيُونٍ } أي مستقرون فيها خالدين ، لكل واحد منهم جنةٌ وعينٌ ، أو لكل منهم عدةٌ منهما كقوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } وقرىء بكسر العين حيث وقع في القرآن العظيم .(4/79)
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)
{ ادخلوها } على إرادة القول أمراً من الله تعالى لهم بالدخول ، وقرىء أدخِلوها أمراً منه تعالى للملائكة بإدخالهم ، وقرأ الحسن : أُدخِلوها مبنياً للمفعول على صيغة الماضي من الإدخال { بِسَلامٍ } ملتبسين بسلام أي سالمين أو مسلَّماً عليكم { ءامِنِينَ } من الآفات والزوال .
{ وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ } أي حقدٍ كان في الدنيا ، وعن علي رضي الله تعالى عنه : أرجو أن أكونَ أنا وعثمانُ وطلحةُ والزبيرُ منهم رضوان الله تعالى عليهم أجمعين { إِخْوَانًا } حال من الضمير في قوله تعالى : { فِي جنات } ، أو من فاعل ادخلوها ، أو من الضمير في آمنين ، أو الضمير المضاف إليه والعامل فيه معنى الإضافةِ ، وكذلك قوله تعالى : { على سُرُرٍ متقابلين } ويجوز كونُهما صفتين لإخواناً أو حالين من ضميره ، لأنه بمعنى متصافِّين ، وكونُ الثاني حالاً من المستكنّ في الأول . وعن مجاهد : تدور بهم الأسرّةُ حيثما داروا فهم متقابلون في جميع أحوالهم .
{ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ } أي تعب بألا يكونَ لهم فيها ما يوجبه من الكدّ في تحصيل ما لا بُدّ لهم منه ، لحصول كل ما يريدونه من غير مزاولةِ عملٍ أصلاً ، أو بأن لا يعتريَهم ذلك وإن باشروا الحركاتِ العنيفة لكمال قوتِهم ، وهو استئنافٌ أو حالٌ بعد حال من الضمير في متقابلين { وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } أبدَ الآباد لأن تمام النعمة بالخلود .
{ نَبّىء عِبَادِى } وهم الذين عبر عنهم بالمتقين { أَنّى أَنَا الغفور الرحيم * وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ العذاب الأليم } فذلكةٌ لما سلف من الوعد والوعيد وتقريرٌ له ، وفي ذكر المغفرةِ إشعارٌ بأن ليس المرادُ بالمتقين مَن يتقي جميعَ الذنوب كبيرَها وصغيرَها ، وفي وصف ذاتِه تعالى بها وبالرحمة على وجه القصر دون التعذيب إيذانٌ بأنهما مما يقتضيهما الذاتُ وأن العذاب إنما يتحقق بما يوجبه من خارج .
{ وَنَبّئْهُمْ } عطفٌ على نبىءْ عبادي ، والمقصود اعتبارُهم بما جرى على إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام مع أهله من البشرى في تضاعيف الخوفِ ، وبما حل بقوم لوطٍ من العذاب ونجاتِه عليه الصلاة والسلام مع أهله التابعين له في ضمن الخوف ، وتنبيهُهم بحلول انتقامِه تعالى من المجرمين وعلمُهم بأن عذاب الله هو العذاب الأليم { عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : « أنهم جبريلُ عليه الصلاة والسلام وملكانِ معه » وقال محمد بن كعبٍ : « وسبعةٌ معه » وقيل : « جبريلُ وميكائيلُ وإسرافيلُ عليهم الصلاة والسلام » وقال الضحاك : « كانوا تسعةً » وعن السدي : « كانوا أحدَ عشرَ على صور الغلمان الوِضاءِ وجوهُهم » وعن مقاتلٍ : « أنهم كانوا اثنيْ عشَرَ ملَكاً » وإنما لم يتعرض لعنوان رسالتِهم لأنهم لم يكونوا مرسَلين إلى إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام بل إلى قوم لوطٍ حسبما يأتي ذكرُه .(4/80)
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55)
{ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ } نُصب بفعلٍ مضمر معطوفٍ على نبىء ، أي واذكر وقت دخولِهم عليه ، أو خبر مقدر مضاف إلى ضيف ، أي خبر ضيف إبراهيمَ حين دخولهم عليه ، أو بنفس ضيف على أنه مصدرٌ في الأصل { فَقَالُواْ } عند ذلك { سَلاَماً } أي نسلّم سلاماً أو سلّمنا أو سَلِمْتَ سلاماً .
{ قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ } أي خائفون ، فإن الوجلَ اضطرابُ النفس لتوقع مكروهٍ ، قاله عليه الصلاة والسلام حين امتنعوا من أكل ما قرّبه إليهم من العجل الحنيذ ، لِما أن المعتاد عندهم أنه إذا نزل بهم ضيفٌ فلم يأكلْ من طعامهم ظنوا أنه لم يجىء بخير ، لا عند ابتداء دخولهم لقوله تعالى : { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } فلا مجال لكون خوفه عليه الصلاة والسلام بسبب دخولِهم بغير إذن ولا بغير وقت ، إذ لو كان كذلك لأجابوا حينئذ بما أجابوا ، ولم يتصدَّ عليه الصلاة والسلام لتقريب الطعام إليهم ، وإنما لم يذكر هاهنا اكتفاءً بما بيّن في غير هذا الموضع ، ألا يرى إلى أنه لم يُذكر هاهنا ردُّه عليه الصلاة والسلام لسلامهم .
{ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ } لا تخف ، وقرىء لا تاجل ولا تُوجِلْ من أوجله أي أخافه ، ولا تُواجِلْ من واجله بمعنى أوجله { إِنَّا نُبَشّرُكَ } استئنافٌ لتعليل النهي عن الوجل ، فإن المبشَّر به لا يكاد يحوم حول ساحته خوفٌ ولا حزن ، كيف لا وهو بشارةٌ ببقائه وبقاءِ أهله في عافية وسلامة زماناً طويلاً { بغلام } هو إسحاقُ عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى : { فبشرناها بإسحاق } ولم يتعرض هاهنا لبشارة يعقوبَ عليه الصلاة والسلام اكتفاءً بما ذكر في سورة هود { عَلِيمٌ } إذا بلغ ، وفي موضع آخرَ بغلام حليم .
{ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى } بذلك { على أَن مَّسَّنِىَ الكبر } وأثر في تعجبه عليه الصلاة والسلام من بشارتهم بالولد في حالة مباينة للولادة ، وزاد في ذلك فقال : { فَبِمَ تُبَشّرُونَ } أي بأي أعجوبةٍ تبشرونني ، فإن البشارة بما لا يُتصور وقوعُه عادة بشارةٌ بغير شيء ، أو بأي طريقةٍ تبشرونني ، وقرىء بتشديد النون المكسورة على إدغام نون الجمع في نون الوقاية .
{ قَالُواْ بشرناك بالحق } أي بما يكون لا محالة ، أو باليقين الذي لا لَبْسَ فيه ، أو بطريقة هي حقٌّ وهو أمرُ الله تعالى ، وقوله : { فَلاَ تَكُن مّنَ القانطين } من الآيسين من ذلك ، فإن الله قادر على أن يخلق بشراً بغير أبوين ، فكيف من شيخ فانٍ وعجوز عاقر ، وقرىء من القَنِطين ، وكان مقصِدُه عليه الصلاة والسلام استعظامَ نعمتِه تعالى عليه في ضمن التعجب العادي المبنيِّ على سنة الله تعالى المسلوكةِ فيما بين عباده ، لا استبعادَ ذلك بالنسبة إلى قدرته سبحانه كما ينبىء عنه قولُ الملائكة : فلا تكن من القانطين ، دون أن يقولوا : من الممترين أو نحوه .(4/81)
قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
{ قَالَ وَمَن يَقْنَطُ } استفهامٌ إنكاريٌّ أي لا يقنط { مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضآلون } المخطِئون طريقَ المعرفة والصوابِ ، فلا يعرِفون سعةَ رحمتِه وكمالَ علمه وقدرتِه كما قال يعقوب عليه الصلاة والسلام : { لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون } ومرادُه نفيُ القنوط عن نفسه على أبلغ وجهٍ ، أي ليس بي قنوطٌ من رحمته تعالى ، وإنما الذي أقول لبيان منافاةِ حالي لفيضان تلك النعمةِ الجليلة عليّ ، وفي التعرض لوصف الربوبيةِ والرحمةِ ما لا يخفى من الجزالة ، وقرىء بضم النون ، وبكسرها من قنَط بالفتح ولم تكن هذه المفاوضةُ من الملائكة مع إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام خاصة ، بل مع سارَةَ أيضاً حسبما شُرح في سورة هود ، ولم يُذكر ذلك هاهنا اكتفاءً بما ذكر هناك كما أنه لم يُذكر هذه هناك اكتفاء بما ذكر هاهنا .
{ قَالَ } أي إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وتوسيطُه بين قوله السابقِ وبين قوله : { فَمَا خَطْبُكُمْ } أي أمرُكم وشأنكم الخطيرُ الذي لأجله أُرسلتم سوى البشارةِ { أَيُّهَا المرسلون } صريحٌ في أن بينهما مقالةً مطويةً لهم أشير به إلى مكانها كما في قوله تعالى : { قَالَ أَءسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَءيْتَكَ هذا الذى كَرَّمْتَ عَلَىَّ } الآية ، فإن قوله الأخيرَ ليس موصولاً بقوله الأول ، بل هو مبنيٌّ على قوله تعالى : { فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } فإن توسيطَ قال بين قوليه للإيذان بعدم اتصالِ الثاني بالأول وعدم ابتنائِه عليه بل على غيره ، ثم خطابُه لهم عليهم الصلاة والسلام بعنوان الرسالةِ بعد ما كان خطابُه السابقُ مجرداً عن ذلك مع تصديره بالفاء ، دليلٌ على أن مقالتهم المطويةَ كانت متضمنةً لبيان أن مجيئَهم ليس لمجرد البشارةِ ، بل لهم شأنٌ آخَرُ لأجله أُرسلوا فكأنه قال عليه الصلاة والسلام : وإن لم يكن شأنُكم مجردَ البشارة فماذا هو؟ فلا حاجة إلى الالتجاء إلى أن علمَه عليه الصلاة والسلام بأن كلَّ المقصود ليس البشارةَ بسبب أنهم كانوا ذوي عدد ، والبِشارةُ لا تحتاج إلى عدد ولذلك اكتُفي بالواحد في زكريا عليه الصلاة والسلام ومريم ، ولا إلى أنهم بشروه في تضاعيف الحالِ لإزالة الوجل ولو كانت تمامَ المقصود لابتدأوا بها فتأمل .
{ قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } هو قومُ لوط ، وُصفوا بالإجرام وجيء بهم بطريق التنكيرِ ذمًّا لهم واستهانةً بهم .
{ إِلا ءالَ لُوطٍ } استثناءٌ متصلٌ من الضمير في مجرمين ، أي إلى قوم أَجرموا جميعاً إلا آلَ لوط ، فالقومُ والإرسالُ شاملان للمجرمين وغيرِهم ، والمعنى إنا أرسلنا إلى قوم أجرَم كلُّهم إلا آلَ لوط لنُهلِك الأولين وننجِّيَ الآخرين ، ويدل عليه قوله تعالى : { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ } أي لوطاً وآلَه { أَجْمَعِينَ } أي مما يصيب القومَ ، فإنه استئنافٌ للإخبار بنجاتهم لعدم إجرامِهم ، أو لبيان ما فُهم من الاستثناء من مطلق عدمِ شمولِ العذاب لهم ، فإن ذلك قد يكون بكون حالهم بين بين ، أو لتعليله ، فإن مَنْ تعلّق بهم التنجيةُ بمنْجى من شمول العذاب .(4/82)
أو منقطعٌ من قوم وقوله تعالى : { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ } متصلٌ بآلَ لوطٍ جارٍ مَجرى خبر لكنّ ، وعلى هذا فقوله تعالى : { إِلاَّ امرأته } استثناءٌ من آلَ لوط أو من ضميرهم ، وعلى الأول من الضمير خاصة لاختلاف الحكمين اللهم إلا أن يُجعل إنا لمنجوهم اعتراضاً ، وقرىء بالتخفيف { قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين } الباقين مع الكفرة لتُهلَك معهم ، وقرىء قدَرْنا بالتخفيف ، وإنما عُلّق فعلُ التقدير مع اختصاص ذلك بأفعال القلوبِ لتضمُّنه معنى العلم ، ويجوز حملُه على معنى قلنا لأنه بمعنى القضاء قولٌ وأصلُه جعلُ الشيء على مقدار غيرِه ، وإسنادُهم له إلى أنفسهم وهو فعلَ الله سبحانه لِما لهم من الزلفى والاختصاص .(4/83)
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)
{ فَلَمَّا جَآء ءالَ لُوطٍ المرسلون } شروع في بيان كيفيةِ إهلاكِ المجرمين وتنجيةِ آل لوط حسبما أُجمل في الاستثناء ثم فُصّل في التعليل نوعَ تفصيل ، ووضعُ المظهرِ موضعَ المضمر للإيذان بأن مجيئهم لتحقيق ما أرسلوا به من الإهلاك والتنجية ، وليس المرادُ به ابتداءَ مجيئهم بل مطلقُ كينونتهم عند آل لوط ، فإن ما حُكي عنه عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى : { قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } إنما قاله عليه الصلاة والسلام بعد اللتيا والتي حين ضاقت عليه الحيلُ وعيَّتْ به العللُ لمّا لم يشاهِدْ من المرسلين عند مقاساته الشدائدَ ومعاناته المكايدَ من قومه الذين يريدون بهم ما يريدون ما هو المعهودُ والمعتاد من الإعانة والإمداد فيما يأتي ويذر عند تجشّمِه في تخليصهم إنكاراً لخذلانهم له ، وتركِ نصرته في مثل تلك المضايقة المعترية له بسببهم حيث لم يكونوا مباشرين معه لأسباب المدافعةِ والممانعة حتى ألجأتْه إلى أن قال : { لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ اوِى إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ } حسبما فصل في سورة هود ، لا أنه قاله عند ابتداء ورودِهم له خوفاً أن يطرُقوه بشرَ كما قيل ، كيف لا وهم بجوابهم المحكيّ بقوله تعالى :
{ قَالُواْ بَلْ جئناك بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } أي بالعذاب الذي كنت تتوعدهم به فيمترون به ويكذبونك ، قد قشَروا العصا وبيّنوا له عليه الصلاة والسلام جليةَ الأمر ، فأنى يمكن أن يعتريَه بعد ذلك المساءةُ وضيقُ الذَّرْع ، وليست كلمةُ بل إضراباً عن موجب الخوفِ المذكور على معنى ما جئناك بما تُنكِرنا لأجله بل بما يسرك وتقَرّ به عينُك ، بل هي إضرابٌ عما فهمه عليه الصلاة والسلام من ترك النصرةِ له ، والمعنى ما خذلناك وما خلّينا بينك وبينهم بل جئناك بما يدمّرهم من العذاب الذي كانوا يكذبونك حين كنت تتوعدهم به ، ولعل تقديمَ هذه المقاولة على ما جرى بينه وبين أهلِ المدينة من المجادلة للمسارعة إلى ذكر بشارةِ لوطٍ عليه الصلاة والسلام بإهلاك قومِه وتنجيةِ آله عَقيبَ ذكر بشارةِ إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام بهما ، وحيث كان ذلك مستدعياً لبيان كيفية النجاةِ وترتيبِ مباديها أُشير إلى ذلك إجمالاً ، ثم ذُكر ما فَعل القوم وما فُعل بهم ولم يُبالَ بتغيير الترتيب الوقوعيّ ثقةً بمراعاته في مواقعَ أُخَرَ ونسبةُ المجيء بالعذاب إليه عليه الصلاة والسلام مع أنه نازلٌ بالقوم بطريق تفويض أمرِه إليه لا بطريق نزوله عليه ، كأنهم جاءوه به وفوّضوا أمره إليه ليرسله عليهم حسبما كان يتوعّدهم به .(4/84)
وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
{ واتيناك بالحق } أي باليقين الذي لا مجال فيه للامتراء والشك وهو عذابُهم ، عبر عنه بذلك تنصيصاً على نفي الامتراءِ عنه ، أو المرادُ بالحق الإخبارُ بمجيء العذابِ المذكور ، وقوله تعالى : { وِإِنَّا لصادقون } تأكيدٌ له ، أي أتيناك فيما قلنا بالخير الحقِّ أي المطابق للواقعِ ، وإنا لصادقون في ذلك الخبرِ أو في كل كلام فيكون كالدليل على صدقهم فيه ، وعلى الأول تأكيدٌ إثرَ تأكيدٍ .
وقوله تعالى : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ } شروعٌ في ترتيب مبادي النجاةِ ، أي اذهبْ بهم في الليل ، وقرىء بالوصل وكلاهما من السرى وهو السيرُ في الليل ، وقرىء فسِرْ من السير { بِقِطْعٍ مّنَ اليل } بطائفة منه أو من آخره قال
افتحي الباب وانظُري في النجوم ... كم علينا من قِطْع ليلٍ بهيم
وقيل : هو بعد ما مضى منه شيءٌ صالح { واتبع أدبارهم } وكن على أثرهم تذودُهم وتسرع بهم وتطّلع على أحوالهم ، ولعل إيثارَ الاتباعِ على السَّوْق مع أنه المقصودُ بالأمر للمبالغة في ذلك ، إذ السَّوْقُ ربما يكون بالتقدم على بعض مع التأخر عن بعض ويلزَمه عادةً الغفلةُ عن حال المتأخر ، والالتفاتُ المنهيُّ عنه بقوله تعالى : { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ } أي منك ومنهم { أَحَدٌ } فيرى ما وراءه من الهول فلا يطيقه ، أو يصيبه ما أصابهم ، أو ولا ينصرفْ منكم أحدٌ ولا يتخلفْ لغرض فيصيبه العذاب ، وقيل : نُهوا عن ذلك ليوطنوا أنفسهم على المهاجرة ، أو هو نهي عن ربط القلب بما خلّفوه ، أو هو للإسراع في السير فإن الملتفتَ قلما يخلو عن أدنى وقفة ، وعدمُ ذكر استثناء المرأةِ من الإسراء والالتفات لا يستدعي عدم وقوعِه ، فإن ذلك لما عرفت مراراً للاكتفاء بما ذكر في مواضعَ أخَرَ { وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } إلى حيث أمركم الله تعالى بالمُضيّ إليه وهو الشام أو مصر ، وحذفُ الصلتين على الاتساع المشهور ، وإيثارُ المضيِّ إلى ما ذكر على الوصول إليه واللُّحوق به للإيذان بأهمية النجاةِ ولمراعاة المناسبةِ بينه وبين ما سلف من الغابرين .
{ وَقَضَيْنَا } أي أوحينا { إِلَيْهِ } مقْضيًّا ولذلك عُدِّيَ بإلى { ذَلِكَ الامر } مبهمٌ يفسره { أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ } على أنه بدلٌ منه ، وإيثار اسم الإشارة على الضمير للدلالة على اتصافهم بصفاتهم القبيحةِ التي هي مدارُ ثبوت الحكم ، أي دابرَ هؤلاء المجرمين ، وإيرادُ صيغة المفعول بدلَ صيغة المضارع لكونها أدخلَ في الدلالة على الوقوعِ ، وفي لفظ القضاءِ والتعبيرِ عن العذاب بالأمر والإشارةِ إليه بذلك وتأخيرِه عن الجار والمجرور وإبهامِه أولاً ثم تفسيره ثانياً من الدلالة على فخامة الأمر وفظاعتِه ما لا يخفى . وقرىء بالكسر على الاستئناف ، والمعنى أنهم يُستأصَلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحدٌ { مُّصْبِحِينَ } داخِلين في الصُّبح ، وهو حال من هؤلاء أو من الضمير في مقطوعٌ وجمعه للحمل على المعنى فإن دابر هؤلاء بمعنى مدبري هؤلاء .(4/85)
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)
{ وَجَآء أَهْلُ المدينة } شروعٌ في حكاية ما صدر عن القوم عند وقوفِهم على مكان الأضيافِ من الفعل والقول وما ترتب عليه بعدما أشير إلى ذلك إجمالاً حسبما نبه عليه ، أي جاء أهلُ سدومَ منزلَ لوط عليه الصلاة والسلام { يَسْتَبْشِرُونَ } أي مستبشرين بأضيافه عليه الصلاة والسلام طمعاً فيهم .
{ قَالَ إِنَّ هَؤُلآء ضَيْفِى } الضيفُ حيث كان مصدراً في الأصل أُطلق على الواحد والمتعددِ والمذكرِ والمؤنث ، وإطلاقُه على الملائكة بحسب اعتقادِه عليه الصلاة والسلام لكونهم في زِيّ الضيف ، والتأكيدُ ليس لإنكارهم بذلك بل لتحقيق اتِّصافِهم به وإظهارِ اعتنائه بشأنهم وتشمُّره لمراعاة حقوقِهم وحمايتهم من السوء ، ولذلك قال : { فَلاَ تَفْضَحُونِ } أي عندكم بأن تتعرضوا لهم بسوء فيعلموا أنه ليس لي عندكم قدْرٌ وحرمة ، أو لا تفضحونِ بفضيحة ضيفي فإن من أُسيء إلى ضيفه فقد أُسيءَ إليه ، يقال : فضحَه فضحاً وفضيحةً إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار .
{ واتقوا الله } في مباشرتكم لما يسؤوني { وَلاَ تُخْزُونِ } أي لا تُذِلوني ولا تُهينوني بالتعرض لمن أجَرْتُهم بمثل تلك الفَعْلةِ الخبيثة ، وحيث كان التعرضُ لهم بعد أن نهاهم عليه الصلاة والسلام عن ذلك بقوله : فلا تفضحونِ أكثرَ تأثيراً في جانبه عليه الصلاة والسلام وأجلبَ للعار إليه ، إذِ التعرّضُ للجار قبل شعورِ المُجير بذلك ربما يُتسامَح فيه ، وأما بعد الشعورِ به والمناصبةِ لحمايته والذبِّ عنه فذاك أعظمُ العار ، عبّر عليه الصلاة والسلام عما يعتريه من جهتهم بعد النهي المذكورِ بسبب لَجاجِهم ومُجاهرتِهم بمخالفته بالخِزي وأمرَهم بتقوى الله تعالى في ذلك ، وإنما لم يصرَّحْ بالنهي عن نفس تلك الفاحشةِ لأنه كان يعرِف أنه لا يفيدهم ذلك ، وقيل : المرادُ تقوى الله تعالى في ركوب الفاحشةِ ، ولا يساعده توسيطُه بين النهيَيْن عن أمرين متعلقين بنفسه عليه الصلاة والسلام .
وكذلك قوله تعالى : { قَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين } أي عن التعرض لهم بمنعهم عنا وضيافتِهم ، والهمزةُ للإنكار والواو للعطف على مقدر ، أي ألم نتقدمْ إليك ولم ننْهَكَ عن ذلك فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحدٍ من الغرباء بالسوء ، وكان عليه الصلاة والسلام ينهاهم عن ذلك بقدر وُسعِه وكانوا قد نهَوْه عليه الصلاة والسلام عن أن يُجير أحداً ، فكأنهم قالوا : ما ذكرتَ من الفضيحة والخِزي إنما جاءك من قِبَلك لا من قِبَلنا إذ لولا تعرضُك لما نتصدَّى له لَما اعتراك تلك الحالةُ . ولمّا رآهم لا يُقلِعون عما هم عليه .(4/86)
قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
{ قَالَ هؤلاءآء بَنَاتِى } يعني نساءَ القومِ ، فإن نبيَّ كلِّ أمةٍ بمنزلة أبيهم أو بناتِه حقيقةً أي فتزوجوهن ، وقد كانوا من قبلُ يطلبُونهن ولا يجيبهم لخبثهم وعدمِ كفاءتِهم ، لا لعدم مشروعية المُناكحةِ بين المسلمات والكفار وقد فُصّل ذلك في سورة هود . { إِن كُنتُمْ فاعلين } أي قضاءَ الوطر أو ما أقول لكم .
{ لَعَمْرُكَ } قسمٌ من الله تعالى بحياة النبي عليه الصلاة والسلام أو من الملائكة بحياة لوطٍ عليه الصلاة والسلام والتقديرُ لعَمرُك قسمي ، وهي لغة في العُمُر يختص به القسم إيثاراً للخِفة لكثرة دورَانِه على الألسنة { إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ } غَوايتهم أو شدة غُلْمتهم التي أزالت عقولَهم وتمييزَهم بين الخطإ والصواب { يَعْمَهُونَ } يتحيّرون ويتمادَوْن فكيف يسمعون النصح؟ وقيل : الضميرُ لقريش والجملةُ اعتراض .
{ فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة } أي الصيحةُ العظيمة الهائلة ، وقيل : صيحةُ جبريلَ عليه الصلاة والسلام { مُشْرِقِينَ } داخلين في وقت شروق الشمس .
{ فَجَعَلْنَا عاليها } عاليَ المدينة أو عاليَ قُراهم ، وهو المفعولُ الأول لجعلنا وقوله تعالى : { سَافِلَهَا } مفعول ثانٍ له وهو أدخلُ في الهول والفظاعة من العكس كما مر { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ } في تضاعيف ذلك قبل تمام الانقلابِ { حِجَارَةً } كائنة { مّن سِجّيلٍ } من طين متحجّر أو طينٍ عليه كتاب ، وقد فصل ذلك في سورة هود .
{ إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي فيما ذكر من القصة { لاَيَاتٍ } لعلاماتٍ يُستدل بها على حقيقة الحق { لِلْمُتَوَسّمِينَ } أي المتفكّرين المتفرّسين الذين يتثبتون في نظرهم حتى يعرِفوا حقيقة الشيء بسَمْته .
{ وَإِنَّهَا } أي المدينة أو القرى { لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ } أي طريق ثابتٍ يسلُكه الناس ويرَوْن آثارها .
{ إِنَّ فِى ذَلِكَ } فيما ذكر من المدينة أو القرى أو في كونها بمرآى من الناس يشاهدونها في ذهابهم وإيابهم { لآيَةً } عظيمةً { لِلْمُؤْمِنِينَ } بالله ورسولِه ، فإنهم الذين يعرِفون أن ما حاق بهم ( من ) العذاب الذي ترك ديارَهم بلاقعَ إنما حاق بهم لسوء صنيعهم ، وأما غيرُهم فيحمِلون ذلك على الاتفاق أو الأوضاع الفلَكية ، وإفرادُ الآية بعد جمعها فيما سبق لما أن المشاهدَ هاهنا بقيةُ الآثارِ لا كلُّ القصة كما فيما سلف .(4/87)
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83)
{ وَإِن كَانَ } إنْ مخففةٌ من إنّ ، وضميرُ الشأن الذي هو اسمُها محذوفٌ واللام هي الفارقةُ أي وإن الشأن كان { أصحاب الأيكة } وهم قومُ شعيب عليه الصلاة والسلام ، والأيكةُ والليكة الشجرةُ الملتفةُ المتكاثِفة ، وكان عامة شجرِهم المقل وكانوا يسكنونها فبعثه الله تعالى إليهم { لظالمين } متجاوزين عن الحد .
{ فانتقمنا مِنْهُمْ } بالعذاب . روي أن الله تعالى سلط عليهم الحرَّ سبعة أيام ، ثم بعث سحابة فالتجأوا إليها يلتمسون الرَّوْحَ ، فبعث الله تعالى عليهم منها ناراً فأحرقتهم ، فهو عذابُ يوم الظلة { وَإِنَّهُمَا } يعني سدوم والأيكة ، وقيل : والأيكة ومدينَ ، فإنه عليه الصلاة والسلام كان مبعوثاً إليهما فذِكرُ أحدهما منبّهٌ على الآخر { لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } لبطريق واضحٍ ، والإمام اسمُ ما يؤتمُّ به سُمِّيَ به الطريقُ ومطمر البناء واللوحُ الذي يكتب فيه لأنها مما يؤتم به .
{ وَلَقَدْ كَذَّبَ أصحاب الحجر } يعني ثمود { المرسلين } أي صالحاً ، فإن مَنْ كذب واحداً من الأنبياء عليهم السلام فقد كذب الجميعَ لاتفاقهم على التوحيد والأصولِ التي لا تختلف باختلاف الأممِ والأعصار ، وقيل : المراد صالحٌ ومن معه من المؤمنين ، كما قيل : الخُبيبون لخبيب بن عبدِ اللَّه بن الزبير وأصحابه ، وادٍ بين المدينة والشام كانوا يسكنونه .
{ وءاتيناهم ءاياتنا } وهي الآياتُ المنزلة على نبيهم ، أو المعجزاتُ من الناقة وسَقْيها وشِرْبها ودرّها ، أو الأدلةُ المنصوبة لهم { فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } إعراضاً كليًّا ، بل كانوا معارضين لها حيث فعلوا بالناقة ما فعلوا .
{ وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتًا ءامِنِينَ } من الانهدام ونقْب اللصوص وتخريبِ الأعداء لوثاقتها ، أو من العذاب لحُسبانهم أن ذلك يحميهم منه . عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال : مررنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحِجْر فقال : « لا تدخُلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين حذراً أن يصيبَكم مثلُ ما أصاب هؤلاء » ثم زجر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم راحلته فأسرع حتى خلّفها .
{ فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُصْبِحِينَ } وهكذا وقع في سورة هود ، قيل : صاح بهم جبريلُ عليه الصلاة والسلام ، وقيل : أتتهم من السماء صيحةٌ فيها صوتُ كلِّ صاعقةٍ وصوتُ كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم ، وفي سورة الأعراف { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } أي الزلزلةُ ولعلها من روادف الصيحة المستتبِعةِ لتموّج الهواء تموجاً شديداً يفضي إليها كما مر في سورة هود .(4/88)
فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
{ فَمَا أغنى عَنْهُمْ } ولم يدفع عنهم ما نزل بهم { مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من بناء البيوتِ الوثيقة والأموالِ الوافرة والعُدد المتكاثرة ، وفيه تهكمٌ بهم ، والفاء لترتيب عدمِ الإغناء الخاصِّ بوقت نزول العذابِ حسبما كانوا يرجونه لا عدمِ الإغناءِ المطلق فإنه أمرٌ مستمر .
{ وَمَا خَلَقْنَا السموات والأض وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق } أي إلا خلقاً ملتبساً بالحق والحكمةِ والمصلحةِ بحيث لا يلائم استمرارَ الفساد واستقرارَ الشرور ، ولذلك اقتضت الحكمةُ إهلاكَ أمثال هؤلاء دفعاً لفسادهم وإرشاداً لمن بقيَ إلى الصلاح ، أو إلا بسبب العدل والإنصافِ يوم الجزاءِ على الأعمال كما ينبىء عنه قوله تعالى : { وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ } فينتقم الله تعالى لك فيها ممن كذبك { فاصفح } أي أعرض عنهم { الصفح الجميل } إعراضاً جميلاً وتحمَّلْ أذِيَّتهم ولا تعجَلْ بالانتقام منهم ، وعامِلْهم معاملةَ الصَّفوح الحليم ، وقيل : هي منسوخةٌ بآية السيف .
{ إِنَّ رَبَّكَ } الذي يبلّغك إلى غاية الكمال { هُوَ الخلاق } لك ولهم ولسائر الموجوداتِ على الإطلاق { العليم } بأحوالك وأحوالِهم بتفاصيلها فلا يخفى عليه شيءٌ مما جرى بينك وبينهم ، فهو حقيقٌ بأن تكِل جميع الأمورِ إليه ليحكُم بينكم ، أو هو الذي خلقكم وعلِم تفاصيلَ أحوالِكم وقد علم أن الصفحَ اليوم أصلحُ إلى أن يكون السيفُ أصلحَ ، فهو تعليلٌ للأمر بالصفح على التقديرين ، وفي مصحف عثمانَ وأُبيّ رضي الله تعالى عنهما ( هو الخالق ) وهو صالح للقليل والكثير والخلاقُ مختصٌّ بالكثير .
{ وَلَقَدْ ءاتيناك سَبْعًا } آياتٍ وهي الفاتحةُ ، وعليه عمرُ وعليٌّ وابنُ مسعود وأبو هريرة رضي الله تعالى عنهم ، والحسنُ وأبو العالية ومجاهدٌ والضحاكُ وسعيدُ بن جبير وقَتادة رحمهم الله تعالى . وقيل : سبعُ سورٍ وهي الطوالُ التي سابعتُها الأنفالُ والتوبة فإنهما في حكم سورةٍ واحدة ، ولذلك لم يُفصَلْ بينهما بالتسمية . وقيل : يونسُ أو الحواميم السبعُ . وقيل : الصحائفُ السبعُ وهي الأسباع . { مّنَ المثانى } بيانٌ للسبع من التثنية وهي التكريرُ ، فإن كان المرادُ الفاتحةَ وهو الظاهرُ ، فتسميتُها المثاني لتكرر قراءتِها في الصلاة ، وأما تكررُ قراءتها في غير الصلاة كما قيل فليس بحيث يكون مداراً للتسمية ولأنها تثنى بما يقرأ بعدها في الصلاة ، وأما تكررُ نزولها فلا يكون وجهاً للتسمية لأنها كانت مسماةً بهذا الاسمِ قبل نزولها الثاني إذ السورةُ مكيةٌ بالاتفاق ، وإن كان المرادُ غيرَها من السور فوجهُ كونِها من المثاني أن كلاًّ من ذلك تُكرّر قراءتُه وألفاظُه أو قصصه ومواعظُه ، أو من الثناء لاشتماله على ما هو ثناءٌ على الله واحدتها مَثْناةٌ أو مَثْنيةٌ صفة للآية ، وأما الصحائفُ وهي الأسباع فلما وقع فيها من تكرير القِصص والمواعظ والوعدِ والوعيد وغيرِ ذلك ، ولما فيها من الثناء على الله تعالى كأنها تُثْني عليه سبحانه بأفعاله وصفاتِه الحسنى ، ويجوز أن يراد بالمثاني القرآنُ لما ذكر أو لأنه مُثْنَى عليه بالإعجاز ، أو كتبُ الله تعالى كلُّها فمن للتبعيض ، وعلى الأول للبيان { والقرآن العظيم } إن أريد بالسبع الآياتُ أو السورُ فمِنْ عطف الكلِّ على البعض أو العام على الخاص ، وإن أريد به الأسباعُ أو كلُّ القرآن فهو عطفُ أحدِ الوصفين على الآخر كما في قوله
إلى الملكِ القَرْم وابنِ الهُمام ... وليثِ الكتائبِ في المزدَحَمْ
أي ولقد أتيناك ما يقال له السبعُ المثاني والقرآنَ العظيم .(4/89)
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
{ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } لا تطمَحْ ببصرك طُموحَ راغب ولا تُدِمْ نظرك { إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ } من زخارفِ الدنيا وزينتها ومحاسنِها وزَهْرتِها { أزواجا مّنْهُمْ } أصنافاً من الكفرة فإن ما في الدنيا من أصناف الأموالِ والذخائر بالنسبة إلى ما أوتيتَه مستحقَرٌ لا يُعبأ به أصلاً ، وفي حديث أبي بكر رضي الله تعالى عنه : « مَنْ أوتيَ القرآنَ فرآى أن أحداً أوتيَ أفضل مما أوتي فقد صغّر عظيماً وعظّم صغيراً » وروي ( أنه وافَتْ من بصرى وأذْرِعاتَ سبعُ قوافلَ ليهود بني قُريظةَ والنّضِير فيها أنواعُ البَزِّ والطيب والجواهر وسائرُ الأمتعة فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموالُ لنا لتقوَّيْنا بها وأنفقناها في سبيل الله ، فقيل لهم : قد أُعطِيتم سبعَ آياتٍ وهي خير من هذه القوافل السبْع ) { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } حيث لم يؤمنوا ولم ينتظِموا أتباعك في سلك ليتقوى بهم ضعفاءُ المسلمين ، وقيل : أو أنهم المتمتعون به ويأباه كلمة على فإن تمتّعهم به لا يكون مداراً للحزن عليهم { واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } أي تواضَعْ لهم وارفُق بهم وألِنْ جانبك لهم وطِبْ نفساً من إيمان الأغنياء .
{ وَقُلْ إِنّى أَنَا النذير المبين } أي المنذِرُ المُظْهِر لنزول عذاب الله وحلولِه { كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين } قيل : إنه متعلق بقوله تعالى : { وَلَقَدْ ءاتيناك } الخ ، أي أنزلنا عليك كما أنزلنا على أهل الكتاب .
{ الذين جَعَلُواْ القرءان عِضِينَ } أي قسَموه إلى حق وباطل ، حيث قالوا عِناداً وعدواناً : بعضُه حقٌّ موافقٌ للتوراة والإنجيل ، وبعضُه باطلٌ مخالفٌ لهما ، أو اقتسموه لأنفسهم استهزاءً حيث كان يقول بعضُهم : سورةُ البقرة لي ، وبعضُهم : سورةُ آلِ عمران لي وهكذا ، أو قسموا ما قرأوا من كتبهم وحرّفوه فأقرّوا ببعضه وكذبوا ببعضه ، وحُمل توسيطُ قوله تعالى : { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } على إمداد ما هو المرادُ بالكلام من التسلية ، وعُقّب ذلك بأنه جلّ المقامُ عن التشبيه ، ولقد أوتيَ عليه الصلاة والسلام ما لم يؤتَ أحدٌ قبله ولا بعده مثلَه ، وقيل : إنه متعلق بقوله : { إِنّى أَنَا النذير المبين } فإنه في قوة الأمرِ بالإنذار ، كأنه قيل : أنذِرْ قريشاً مثلَ ما أنزلنا على المقتسمين ، يعني اليهودَ ، وهو ما جرى على بني قريظةَ والنضير بأن جُعل المتوقَّعُ كالواقع وقد وقع كذلك ، وأنت خبيرٌ بأن ما يُشبَّه به العذابُ المنذَرُ لا بد أن يكون محققَ الوقوعِ معلومَ الحالِ عند المنذَرين إذ به تتحققُ فائدةُ التشبيهِ ، وهي تأكيدُ الإنذار وتشديدُه ، وعذابُ بني قريظةَ والنضير مع عدم وقوعِه إذ ذاك لم يسبِقْ به وعدٌ ووعيد فهم منه في غفلة محضةٍ وشك مُريب ، وتنزيلُ المتوقَّع منزلةَ الواقع له موقعٌ جليلٌ من الإعجاز لكن إذا صادف مقاماً يقتضيه كما في قوله تعالى :(4/90)
{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } ونظائرِه . على أن تخصيصَ الاقتسام باليهود بمجرد اختصاصِ العذاب المذكور بهم مع شِرْكتهم للنصارى في الاقتسام المتفرِّع على الموافقة والمخالفة ، وفي الاقتسام بمعنى التحريف الشاملِ للكتابين بل تخصيصُ العذاب المذكور بهم مع كونه من نتائج الاقتسامِ تخصيصٌ من غير مخصِّص ، وقد جُعل الموصولُ مفعولاً أولَ لأنذر أي أنذر المُعَضِّين الذين يجزّئون القرآن إلى سحر وشعر وأساطيرَ ، مثلَ ما أنزلنا على المقتسمين وهم الاثنا عشرَ الذين اقتسموا مداخلَ مكة أيام الموسم فقعد كل منهم في مدخل لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعضُهم : لا تغترّوا بالخارج منا فإنه ساحرٌ ، ويقول الآخر : كذابٌ ، فأهلكهم الله تعالى يوم بدر ، وقبله بآفات وفيه مع ما فيه من الاشتراك لما سبق في عدم كون العذابِ الذي شُبه به العذابُ المنذَرُ واقعاً ولا معلوماً للمنذَرين ولا موعودَ الوقوع أنه لا داعيَ إلى تخصيص وصفِ التعضِيةِ بهم وإخراجِ المقتسمين من بينهم مع كونهم أسوةً لهم في ذلك ، فإن وصفهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما وصفوا من السحر والشعر والكذب متفرعٌ على وصفهم للقرآن بذلك ، وهل هو إلا نفسُ التعضيةِ ، ولا إلى إخراجهم من حكم الإنذارِ على ما نزل بهم من العذاب لم يكن من الشدة بحيث يُشبه به عذابُ غيرِهم ولا مخصوصاً بهم ، بل عامًّا لكلا الفريقين وغيرِهم مع أن بعضَ المنذَرين كالوليد بنِ المغيرةَ والعاصِ بن وائل والأسودِ بن المطلب قد هلكوا قبل مهلِك أكثرِ المقتسمين يوم بدر ، ولا إلى تقديم المفعول الثاني على الأول كما ترى ، وقيل : إنه وصفٌ لمفعول النذيرِ أقيمَ مُقامه والمقتسمون هم القاعدون في مداخل مكة كما حرر .
وفيه مع ما مر أن قوله تعالى : { كَمَآ أَنْزَلْنَا } صريحٌ في أنه من قول الله تعالى لا من قول الرسول عليه الصلاة والسلام ، والاعتذارُ بأن ذلك من باب ما يقوله بعضُ خواصِّ المَلِك أُمرْنا بكذا وإن كان الأمرُ هو الملكَ حسبما سلف في قوله تعالى : { قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين } تعسُّفٌ لا يخفى ، وأن إعمالَ الوصفِ الموصوف مما لم يجوِّزْه البصريون فلا بد من الهرب إلى مسلك الكوفيين ، أو المصير إلى جعله مفعولاً غيرَ صريح أي أنا النذيرُ المبين بعذاب مثلِ عذاب المقتسمين ، وقيل : المراد بالمقتسمين الرهطُ الذين تقاسموا على أن يبيّتوا صالحاً عليه الصلاة والسلام فأهلكهم الله تعالى ، وأنت تدري أن عذابَهم حيث كان متحققاً ومعلوماً للمنذرين حسبما نطق به القرآنُ العظيم صالحٌ لأن يقعَ مشبَّهاً به العذابُ المنذَر ، لكن الموصولَ المذكورَ عَقيبَه حيث لم يمكن كونُه صفةً للمقتسمين حينئذ ، فسواءٌ جعلناه مفعولاً أول للنذير أو لما دل هو عليه من أنذر لا يكون للتعرض لعنوان التعضية في حيز الصلة ولا لعنوان الاقتسام بالمعنى المزبور في حيز المفعول الثاني فائدة ، لما أن ذلك إنما يكون للإشعار بعلّية الصلة والصفةِ للحكم الثابتِ للموصول والموصوف ، فلا يكون هناك وجهُ شبَهٍ يدور عليه تشبيهُ عذابهم بعذابهم خاصة لعدم اشتراكِهم في السبب فإن المُعَضّين بمعزل من التقاسم على التبييت الذي هو السبب لهلاك أولئك ، كما أن أولئك بمعزل من التعضية التي هي السبب لهلاك هؤلاء ، ولا علاقة بين السببين مفهوماً ولا وجوداً تصحّح وقوعَ أحدِهما في جانب والآخرِ في جانب ، واتفاقُ الفريقين على مطلق الاتفاقِ على الشر المفهوم من الاتفاق على الشر المخصوص الذي هو التبييتُ المدلولُ المدلولُ عليه بالتقاسم غيرُ مفيد إذ لا دِلالةَ لعنوان التعضيةِ على ذلك وإنما يدل عليه اقتسامُ المداخِلِ ، وجعلُ الموصولِ مبتدأً على أن خبرَه الجملةُ القسَميةُ لا يليق بجزالة التنزيلِ وجلالة شأنِه الجليل .(4/91)
إذا عرفت هذا فاعلم أن الأقربَ من الأقوال المذكورةِ أنه متعلِّق بالأول ، وأن المرادَ بالمقتسمين أهلُ الكتابين ، وأن الموصولَ مع صلته صفةٌ مبينة لكيفية اقتسامِهم ، ومحلُّ الكاف النصبُ على المصدرية ، وحديثُ جلالة المقام عن التشبيه من لوائح النظرِ الجليل ، والمعنى لقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآنَ العظيم إيتاءً مماثلاً لإنزال الكتابين على أهلهما ، وعدمُ التعرض لذكر ما أنزل عليهم من الكتابين لأن الغرضَ بيانُ المماثلة بين الإيتاءين لا بين متعلَّقَيهما ، والعدولُ عن تطبيق ما في جانب المشبَّه به على ما في جانب المشبَّه بأن يقال : كما آتينا المقتسِمين حسبما وقع في قوله تعالى : { الذين ءاتيناهم الكتاب } الخ ، للتنبيه على ما بين الإيتاءين من التنائي فإن الأول على وجه التكرِمة والامتنان وشتان بينه وبن الثاني .
ولا يقدح ذلك في وقوعه مشبَّهاً به ، فإن ذلك إنما هو لمُسلَّميته عندهم وتقدمِ وجودُه على المشبه زماناً لا لمزيةٍ تعود إلى ذاته كما في الصلاة الخليلية ، فإن التشبيه فيها ليس لكون رحمة الله تعالى الفائضةِ على إبراهيم عليه الصلاة والسلام وآله أتمَّ وأكملَ مما فاض على النبي عليه الصلاة والسلام ، وإنما ذلك للتقدم في الوجود والتنصيصِ عليه في القرآن العظيم ، فليس في التشبيه شائبةُ إشعار بأفضلية المشبَّه به من المشبه ، فضلاً عن إيهام أفضليةِ ما تعلق به الأولُ مما تعلق به الثاني ، وإنما ذُكروا بعنوان الاقتسام إنكاراً لاتصافهم به مع تحقق ما ينفيه من الإنزال المذكورِ ، وإيذاناً بأنه كان من حقهم أن يؤمنوا بكله حسب إيمانِهم بما أنزل عليهم بحكم الاشتراكِ في العلة والاتحادِ في الحقيقة التي هي مطلقُ الوحي ، وتوسيطُ قوله تعالى : { لاَ تَمُدَّنَّ } الخ ، لكمال اتصالِه بما هو المقصودُ من بيان حالِ ما أوتيَ النبي عليه الصلاة والسلام ، ولقد بُيِّن أولاً علوُّ شأنِه ورفعة مكانِه بحيث يستوجب اغتباطَه عليه الصلاة والسلام بمكانه واستغناءَه به عما سواه ، ثم نُهي عن الالتفات إلى زَهرة الدنيا ، وعُبّر عن إيتائها لأهلها بالتمتيع المنْبىءِ عن وشك زوالِها عنهم ثم عن الحزَن بعدم إيمانِ المنهمكين فيها ، وأُمر بمراعاة المؤمنين والاكتفاءِ بهم عن غيرهم وبإظهار قيامِه بمواجب الرسالة ومراسمِ النذارة حسبما فُصّل في تضاعيف ما أوتي من القرآن العظيم ، ثم رُجِع إلى كيفية إيتائه على وجه أُدمج فيه ما يُزيح شُبَهَ المنكِرين ويستنزِلهم عن العِناد من بيان مشاركتِه لما لا ريب لهم في كونه وحياً صادقاً فتأمل ، والله عنده علم الكتاب ، هذا وقد قيل : المعنى وقل إني أنا النذير المبين كما قد أنزلنا في الكتب أنك ستأتي نذيراً ، على أن المقتسِمين أهلُ الكتاب انتهى .(4/92)
يريد أن ما في ( كما ) موصولةٌ ، والمراد بالمشابهة المستفادة من الكاف الموافقةُ وهي مع ما في حيزها في محل النصبِ على الحالية من مفعول قل ، أي قل هذا القولَ حالَ كونِه كما أنزلنا على أهل الكتابين أي موافقاً لذلك ، فالأنسبُ حينئذ حملُ الاقتسام على التحريف ليكون وصفُهم بذلك تعريضاً بما فعلوا من تحريفهم وكِتمانهم لنعت النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وقوله تعالى : { عِضِينَ } جمعُ عِضة وهي الفِرقة ، أصلها عِضْوَةٌ ، فِعْلة من عضَّى الشاةَ تعضيةً إذا جعلها أعضاءَ ، وإنما جُمعت جمع السلامةِ جبراً للمحذوف كسنينَ وعِزينَ ، والتعبيرُ عن تجزئة القرآن بالتعضية التي هي تفريقُ الأعضاء من ذي الروح المستلزمُ لإزالة حياتِه وإبطالِ اسمِه دون مطلق التجزئةِ والتفريق اللذَيْن ربما يوجدان فيما لا يضره التبعيضُ من المِثليات ، للتنصيص على كمال قبحِ ما فعلوه بالقرآن العظيم ، وقيل : هي فِعلة من عضهتُه إذا بهتُّه . وعن عكرِمةَ : العضه السحرُ بلسان قريشٍ ، فنقصانها على الأول واو وعلى الثاني هاء .(4/93)
فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)
{ فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } أي لنسألن يوم القيامة أصنافَ الكفرة من المقتسمين وغيرهم سؤالَ توبيخٍ وتقريع .
{ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } في الدنيا من قول وفعل وترْكٍ ، فيدخُل فيه ما ذكر من الاقتسام والتعضيةِ دخولاً أولياً ، ولنجزيّنهم بذلك جزاءاً موفوراً ، وفيه من التشديد وتأكيدِ الوعيدِ ما لا يخفى ، والفاءُ لترتيب الوعيدِ على أعمالهم التي ذكر بعضها ، وفي التعرض لوصف الربوبيةِ مضافاً إليه عليه الصلاة والسلام إظهارُ اللطف به عليه الصلاة والسلام .
{ فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } فاجهر به ، من صَدَع بالحجة إذا تكلم بها جِهاراً ، أو افرُق بين الحق والباطل ، وأصلُه الإبانةُ والتمييزُ ، وما مصدرية أو موصولةٌ والعائدُ محذوفٌ ، أي ما تؤمر به من الشرائع المودعة في تضاعيف ما أوتيتَه من المثاني السبعِ والقرآنِ العظيم { وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين } أي لا تلتفت إلى ما يقولون ولا تبالِ بهم ولا تتصدَّ للانتقام منهم .
{ إِنَّا كفيناك المستهزءين } بقمعهم وتدميرهم ، قيل : ( كانوا خمسةً من أشراف قريش : الوليدُ بن المغيرة ، والعاصِ بنُ وائل ، والحارثُ بن قيس بن الطَلاطِلةَ ، والأسودُ بنُ عبدِ يغوثَ ، والأسودُ بنُ المطلب ، يبالغون في إيذاءِ النبي صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به ، فنزل جبريلُ عليه الصلاة والسلام فقال : قد أُمرت أن أكفيكَهم ، فأومأ إلى ساق الوليد ، فمرَّ بنِبال ، فتعلق بثوبه سهمٌ ، فلم ينعطف تعظماً لأخذه ، فأصاب عِرقاً في عَقِبه ، فقطعه ، فمات ، وأومأ إلى أخمَص العاص ، فدخلت فيه شوكةٌ ، فقال : لُدغتُ ، وانتفخت رجلُه حتى صارت كالرّحى ، فمات ، وأشار إلى عيني الأسودِ بن المطلب ، فعمِيَ ، وإلى أنف الحارث ، فامتخط قيحاً ، فمات ، وإلى الأسود بن عبد يغوثَ وهو قاعدٌ في أصل شجرةٍ ، فجعل ينطح برأسه الشجرةَ ويضرب وجهه بالشوك حتى مات ) .
{ الذين يَجْعَلُونَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ } وصفهم بذلك تسليةً لرسوله صلى الله عليه وسلم وتهويناً للخطب عليه بإعلام أنهم لم يقتصروا على الاستهزاء به عليه الصلاة والسلام ، بل اجترأوا على العظيمة التي هي الإشراك بالله سبحانه { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } عاقبةَ ما يأتون ويذرون .(4/94)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } من كلمات الشِّرك والطعنِ في القرآن والاستهزاء به وبك ، وتحليةُ الجملة بالتأكيد لإفادة تحقيقِ ما تتضمنه من التسلية ، وصيغةُ الاستقبال لإفادة استمرارِ العلم حسب استمرارِ متعلَّقه باستمرار ما يوجبه من أقوال الكفرة .
{ فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ } فافزَع إلى الله تعالى فيما نابك من ضيق الصدرِ والحرَج بالتسبيح والتقديس ملتبساً بحمده ، وفي التعرض لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى من إظهار اللطفِ به عليه الصلاة والسلام والإشعارِ بعلة الحُكم ، أعني الأمرَ بالتسبيح والحمد { وَكُنْ مّنَ الساجدين } أي المصلّين يكفِك ويكشِفِ الغمَّ عنك ، أو فنزِّهْه عما يقولون ملتبساً بحمده على أنْ هداك للحق المبين ، وعنه عليه الصلاة والسلام أنه إذا حزَبه أمرٌ فزِع إلى الصلاة
{ واعبد رَبَّكَ } دُمْ على ما أنت عليه من عبادته تعالى ، وإيثارُ الإظهار بالعنوان السالف آنفاً لتأكيد ما سبق من إظهار اللطفِ به عليه الصلاة والسلام والإشعارِ بعلة الأمرِ بالعبادة . { حتى يَأْتِيَكَ اليقين } أي الموتُ ، فإنه مُتيقَّنُ اللحوق بكل حي مخلوق ، وإسنادُ الإتيان إليه للإيذان بأنه متوجِّهٌ إلى الحيّ طالبٌ إليه ، والمعنى دم على العبادة ما دمت حيًّا من غير إخلالٍ بها لحظة .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ سورةَ الحِجْر كان له من الأجر عشرُ حسنات بعدد المهاجِرين والأنصارِ والمستهزئين بمحمد صلى الله عليه وسلم » .(4/95)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
{ أتى أَمْرُ الله } أي الساعةُ أو ما يعُمها وغيرَها من العذاب الموعود للكفرة ، عبّر عن ذلك بأمر الله للتفخيم والتهويل وللإيذان بأن تحققَه في نفسه وإتيانِه منوطٌ بحكمه النافذِ وقضائِه الغالب ، وإتيانُه عبارةٌ عن دنوّه واقترابِه على طريقة نظمِ المتوقَّعِ في سلك الواقع ، أو عن إتيان مباديه القريبةِ على نهج إسنادِ حال الأسبابِ إلى المسبَّبات . وأياً ما كان ففيه تنبيهٌ على كمال قربِه من الوقوع واتصالِه وتكميلٌ لحسن موقع التفريعِ في قوله عز وجل : { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } فإن النهيَ عن استعجال الشيءِ وإن صح تفريعُه على قرب وقوعِه أو على وقوع أسبابه القريبة لكنه ليس بمثابة تفريعِه على وقوعه ، إذ بالوقوع يستحيل الاستعجالُ رأساً لا بما ذكر من قرب وقوعِه ووقوعِ مباديه ، والخطابُ للكفرة خاصة كما يدل عليه القراءةُ على صيغة نهي الغائبِ ، واستعجالُهم وإن كان بطريق الاستهزاءِ ، لكنه حُمل على الحقيقة ونُهوا عنه بضرب من التهكم لا مع المؤمنين ، سواءٌ أريد بأمر الله ما ذُكر أو العذابُ الموعود للكفرة خاصة ، أما الأولُ فلأنه يتصور من المؤمنين استعجالُ الساعة أو ما يعمها وغيرَها من العذاب حتى يعمهم النهيُ عنه ، وأما الثاني فلأن استعجالَهم له بطريق الحقيقةِ واستعجالَ الكفرة بطريق الاستهزاءِ كما عرَفْته فلا ينتظمُهما صيغةٌ واحدة ، والالتجاءُ إلى إرادة معنىً مجازيَ يعمهما معاً من غير أن يكون هناك رعايةُ نكتة سرّية تعسفٌ لا يليق بشأن التنزيلِ الجليلِ ، وما روي من أنه لما نزلت { اقتربت الساعة } قال الكفار فيما بينهم : إن هذا يزعُم أن القيامة قد قرُبت ، فأمسِكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائنٌ ، فلما تأخّرت قالوا : ما نرى شيئاً فنزلت { اقترب لِلنَّاسِ حسابهم } فأشفقوا وانتظروا قُربها ، فلما امتدت الأيامُ قالوا : يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوفنا به فنزلت { أتى أَمْرُ الله } فوثب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فرفع الناسُ رؤوسَهم فلما نزل { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } اطمأنوا ، فليس فيه دِلالةٌ على عموم الخطاب كما قيل لا لما تُوهم من أن التصديرَ بالفاء يأباه ، فإنه بمعزل عن إبائه حسبما تحققْتَه بل لأن مناطَ اطمئنانِهم إنما هو وقوفُهم ، على أن المرادَ بالإتيان هو الإتيانُ الادّعائي لا الحقيقيُّ الموجبُ لاستحالة الاستعجالِ المستلزِمةِ لامتناع النهي عنه ، لِما أن النهيَ عن الشيء يقتضي إمكانَه في الجملة ، ومدار ذلك الوقوف إنما هو النهي عن الاستعجال المستلزمِ لإمكانه المقتضي لعدم وقوعِ المستعجَل بعدُ ، ولا يختلف ذلك باختلاف المستعجِل كائناً مَنْ كان بل فيه دَلالةٌ واضحة على عدم العمومِ لأن المراد بأمر الله إنما هو الساعةُ ، وقد عرفت استحالةَ صدور استعجالِها عن المؤمنين ، نعم يجوز تخصيصُ الخطاب بهم على تقدير كونِ أمر الله عبارةً عن العذاب الموعودِ للكفرة خاصة ، لكن الذي يقضي به الإعجازُ التنزيليُّ أنه خاصٌّ بالكفرة كما ستقف عليه ، ولمّا كان استعجالُهم ذلك من نتائج إشراكِهم المستتبعِ لنسبة الله عز وجل إلى ما لا يليق به من العجز والاحتياج إلى الغير ، واعتقادِ أن أحداً يحجُزه عن إنجاز وعدِه وإمضاء وعيدِه ، وقد قالوا في تضاعيفه : إن صح مجيءُ العذاب فالأصنامُ تخلّصنا عنه بشفاعتها ، رُدَّ ذلك فقيل بطريق الاستئناف : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي تنزه وتقدّس بذاته وجل عن إشراكهم المؤدِّي إلى صدور أمثالِ هذه الأباطيلِ عنهم ، أو عن أن يكون له شريكٌ فيدفعَ ما أراد بهم بوجه من الوجوه ، وصيغةُ الاستقبالِ للدلالة على تجدد إشراكِهم واستمرارِه ، والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذان باقتضاء ذكرِ قبائحِهم للإعراض عنهم وطرحِهم عن رتبة الخطاب ، وحكايةِ شنائعهم لغيرهم ، وعلى تقدير تخصيصِ الخطابِ بالمؤمنين تفوت هذه النُّكتةُ كما يفوت ارتباطُ المنهيِّ عنه ، وقُرىء على صيغة الخطاب .(4/96)
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)
{ يُنَزّلُ الملائكة } بيانٌ لتحتم التوحيدِ حسبما نُبّه عليه تنبيهاً إجمالياً ببيان تقدّس جنابِ الكبرياءِ وتعاليه عن أن يحوم حوله شائبةُ أن يشاركه شيءٌ في شيء ، وإيذانٌ بأنه دينٌ أجمع عليه جمهورُ الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام وأُمروا بدعوة الناسِ إليه مع الإشارة إلى سر البعثةِ والتشريعِ وكيفية إلقاءِ الوحي ، والتنبيهِ على طريق علمِ الرسول عليه الصلاة والسلام بإتيان ما أوعدهم به وباقترابه إزاحةً لاستبعادهم اختصاصَه عليه الصلاة والسلام بذلك ، وإظهاراً لبُطلان رأيهم في الاستعجال والتكذيب ، وإيثارُ صيغةِ الاستقبال للإشعار بأن ذلك عادةٌ مستمرةٌ له سبحانه ، والمرادُ بالملائكة إما جبريلُ عليه السلام ، قال الواحدي : يسمَّى الواحدُ بالجمع إذا كان رئيساً أو هو ومَنْ معه من حفَظَة الوحي بأمر الله تعالى ، وقرىء يُنْزِل من الإنزال وتَنَزَّلُ بحذف إحدى التاءين وعلى صيغة المبني للمفعول من التنزيل { بالروح } أي بالوحي الذي من جملته القرآنُ على نهج الاستعارةِ ، فإنه يحيي القلوبَ الميتة بالجهل ، أو يقوم في الدين مقامَ الروح في الجسد ، والباء متعلقةٌ بالفعل أو بما هو حالٌ من مفعوله أي ملتبسين بالروح { مِنْ أَمْرِهِ } بيان للروح الذي أريد به الوحي ، فإنه أمرٌ بالخير أو حال منه أي حالَ كونِه ناشئاً ومبتدأً منه ، أو صفةٌ له على رأي من جوّز حذفَ الموصول مع بعضِ صلته أي بالروح الكائن من أمره الناشىءِ منه ، أو متعلقٌ بينزّل ومِنْ للسببية كالباء مثلُ ( ما ) في قوله تعالى : { مّمَّا خطيئاتهم } أي ينزلهم بأمره { على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } أي ينزِّلَهم به عليهم لاختصاصهم بصفات تؤهّلهم لذلك { أَنْ أَنْذِرُواْ } بدلٌ من الروح ، أي ينزّلهم ملتبسين بأن أنذِروا أي بهذا القول ، والمخاطَبون به الأنبياءُ الذين نزلت الملائكةُ عليهم ، والآمرُ هو الله سبحانه والملائكةُ نَقَلةٌ للأمر كما يُشعر به الباء في المبدَل منه ، و ( أنْ ) إما مخففةٌ من أنّ وضميرُ الشأن الذي هو اسمُها محذوفٌ ، أي ينزلهم ملتبسين بأن الشأنَ أقول لكم : أنذِروا ، أو مفسّرةٌ على أن تنزيلَ الملائكة بالوحي فيه معنى القولِ ، كأنه قيل : يقول بواسطة الملائكةِ لمن يشاء من عباده : أنذروا فلا محل لها من الإعراب ، أو مصدريةٌ لجواز كون صلتِها إنشائيةً كما في قوله تعالى : { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ } حسبما ذكر في أوائل سورة هودٍ فمحلُّها الجرُّ على البدلية أيضاً ، والإنذارُ الإعلام خلا أنه مختصٌّ بإعلام المحذورِ من نذر بالشيء إذا علمه فحذِرَه ، وأنذره بالأمر إنذاراً أي أعلمه وحذره وخوفه في إبلاغه كذا في القاموس أي أعلِموا الناس { أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ } فالضمير للشأن ، ومدارُ وضعِه موضعَه ادعاءُ شهرتِه المغنيةِ عن التصريح به ، وفائدةُ تصديرِ الجملة به الإيذانُ من أول الأمر بفخامة مضمونِها مع ما فيه من زيادة تقريرٍ له في الذهن ، فإن الضميرَ لا يفهم منه ابتداءً إلا شأنٌ مبهمٌ له خطر ، فيبقى الذهنُ مترقباً لما يعقُبه مترقباً فيتمكن لديه عند وروده فضلُ تمكن ، كأنه قيل : أنذروا أن الشأنَ الخطير هذا ، وإنباءُ مضمونِه عن المحذور ليس لذاته بل من حيث اتصافُ المنذَرين بما يضادُّه من الإشراك وذلك كافٍ في كون إعلامِه إنذاراً ، وقوله سبحانه : { فاتقون } خطابٌ للمستعجِلين على طريقة الالتفاتِ ، والفاءُ فصيحةٌ أي إذا كان الأمر كما ذكر من جريان عادتِه تعالى بتنزيل الملائكةِ على الأنبياء عليهم السلام وأمرِهم بأن ينذِروا الناسِ أنه لا شريك له في الألوهية ، فاتقون في الإخلال بمضمونه ومباشرةِ ما ينافيه من الإشراك وفروعِه التي من جملتها الاستعجالُ والاستهزاءُ .(4/97)
وبعد تمهيدِ الدليل السمعيِّ للتوحيد شُرِع في تحرير الأدلة العقلية فقيل :
{ خُلِقَ السموات والأرض بالحق } أي أوجدهما على ما هما عليه من الوجه الفائق والنمطِ اللائق { تَعَالَى } وتقدّس بذاته لا سيما بأفعاله التي من جملتها إبداعُ هذين المخلوقين { عَمَّا يُشْرِكُونَ } عن إشراكهم المعهودِ أو عن شركة ما يشركونه به من الباطل الذي لا يُبدىء ولا يعيد ، وبعد ما نبّه على صنعه الكليِّ المنطوي على تفاصيل مخلوقاتِه شرَع في تعداد ما فيه من خلائقه فبدأ بفعله المتعلق بالأنفس فقال : { خَلَقَ الإنسان } أي هذا النوعَ غيرَ الفرد الأول منه { مِن نُّطْفَةٍ } جماد لا حسَّ له ولا حَراكَ ، سيالٍ لا يحفظ شكلاً ولا وضعاً { فَإِذَا هُوَ } بعد الخلق { خَصِيمٌ } مِنطيقٌ مجادِلٌ عن نفسه مكافِحٌ للخصوم { مُّبِينٌ } لحجته لقِنٌ بها ، وهذا أنسبُ بمقام الامتنانِ بإعطاء القدرة على الاستدلال بذلك على قدرته تعالى ووحدتِه ، أو مخاصمٌ لخالقه منكِرٌ له قائلٌ : { مَن يُحىِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ } وهذا أنسبُ بمقام تعداد هَناتِ الكفرة . روي أن أُبيَّ بنَ خلفٍ الجُمَحي أتى النبيَّ عليه السلام بعظم رميم فقال : يا محمد أترى الله تعالى يحيي هذا بعد ما قد رمّ فنزلت { والانعام } وهي الأزواجُ الثمانية من الإبل والبقر والضأن والمعَزِ ، وانتصابُها بمضمر يفسره قوله تعالى : { خَلَقَهَا } أو بالعطف على الإنسان ، وما بعده بيانُ ما خُلق لأجله والذي بعده تفصيلٌ لذلك ، وقوله تعالى : { لَكُمْ } إما متعلقٌ بخلَقها ، وقوله : { فِيهَا } خبرٌ مقدم ، وقوله : { دِفْء } مبتدأٌ وهو ما يُدفأ به فيقي من البرد ، والجملةُ حالٌ من المفعول أو الظرفُ الأول خبرٌ للمبتدأ المذكور ، وفيها حال من دفء إذ لو تأخر لكان صفة { ومنافع } هي دَرّها ورُكوبها وحملُها والحِراثة بها وغيرُ ذلك ، وإنما عبّر عنها بها ليتناول الكل مع أنه الأنسب بمقام الامتنان بالنعم ، وتقديمُ الدفء على المنافع لرعاية أسلوب الترقي إلى الأعلى { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } أي تأكُلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم وغيرِ ذلك ، وتغييرُ النظم للإيماء إلى أنها لا تبقى عند الأكل كما في السابق واللاحقِ ، فإن الدفءَ والمنافعَ والجَمال يحصل منها وهي باقيةٌ على حالها ، ولذلك جُعلت محالَّ لها بخلاف الأكل ، وتقديمُ الظرف للإيذان بأن الأكلَ منها هو المعتادُ المعتمدُ في المعاش لأن الأكلَ مما عداها من الدجاج والبط وصيد البرِّ والبحرِ من قبيل التفكّه مع أن فيه مراعاةً للفواصل ، ويحتمل أن يكون معنى الأكلِ منها أكلَ ما يحصل بسببها فإن الحبوبَ والثمارَ المأكولة تُكتسب بإكراء الإبلِ وبإثمار نِتاجها وألبانها وجلودها .(4/98)
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
{ وَلَكُمْ فِيهَا } مع ما فصل من أنواع المنافع الضرورية { جَمَالٌ } أي زينةٌ في أعين الناس ووَجاهةٌ عندهم { حِينَ تُرِيحُونَ } ترُدّونها من مراعيها إلى مراحها بالعشي { وَحِينَ تَسْرَحُونَ } تخرِجونها بالغداة من حظائرها إلى مسارحها ، فالمفعول محذوفٌ من كلا الفعلين لرعاية الفواصل ، وتعيينُ الوقتين لأن ما يدور عليه أمرُ الجمال من تزين الأفنية والأكنافِ بها وبتجاوب ثُغائها ورُغائها إنما هو عند ورودِها وخطورها في ذينك الوقتين ، وأما عند كونِها في المراعي فينقطع إضافتُها الحسية إلى أربابها ، وعند كونِها في الحظائر لا يراها راءٍ ولا ينظر إليها ناظرٌ ، وتقديمُ الإراحةِ على السَّرْح لتقدم الورودِ على الصدور ولكونها أظهرَ منه في استتباع ما ذُكر من الجمال وأتمَّ في استجلاب الأنسِ والبهجة إذ فيها حضورٌ بعد غَيبة وإقبالٌ بعد إدبار على أحسن ما يكون ملأى البطونِ مرتفعةَ الضلوع حافلةَ الضروع ، وقرىء حيناً تريحون وحيناً تسرحون على أن كِلا الفعلين وصفٌ لحيناً ، بمعنى تريحون فيه وتسرحون فيه .
{ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } جمع ثقل وهو متاعُ المسافر ، وقيل : أثقالكم أجرامكم { إلى بَلَدٍ } قال ابن عباس رضي الله عنهما : أريد به اليمنُ ومصرُ والشامُ ، ولعله نظر إلى أنها متاجرُ أهل مكة ، وقال عكرمةَ : أريد به مكةُ ، ولعله نظر إلى أن أثقالَهم وأحمالهم عند القُفول من متاجرهم أكثرُ ، وحاجتُهم إلى الحمولة أمسُّ ، والظاهرُ أنه عام لكل بلد سحيق { لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه } واصلين إليه بأنفسكم مجردين عن الأثقال لولا الإبل { إِلاَّ بِشِقّ الأنفس } فضلاً عن استصحابها معكم ، وقرىء بفتح الشين وهما لغتان بمعنى الكُلفة والمشقة ، وقيل : المفتوحُ مصدرٌ من شق الأمرُ عليه شقاً ، وحقيقتُه راجعة إلى الشِق الذي هو الصَّدْع والمكسورُ النصفِ كأنه يُذهب نصفَ القوة لما يناله من الجهد ، فالإضافة إلى الأنفس مجازيةٌ ، أو على تقدير مضاف أي إلا بشق قُوى الأنفس ، وهو استثناءٌ مفرّغٌ من أعم الأشياء أي لم تكونوا بالغيه بشيء من الأشياء إلا بشق الأنفس ، ولعل تغييرَ النظم الكريم السابقِ الدال على كون الأنعامِ مدار للنعم السابقة إلى الجملة الفعلية المفيدة لمجرد الحدوث للإشعار بأن هذه النعمةَ ليست في العموم بحسب المنشأ وبحسب المتعلق ، وفي الشمول للأوقات والاطّراد في الأحيان المعهودة بمثابة النعمِ السالفة فإنها بحسب المنشأ وخاصةٌ بالإبل وبحسب المتعلق بالضاربين في الأرض المتقلبين فيها للتجارة وغيرِها في أحايينَ غيرِ مطّردة ، وأما سائرُ النعم المعدودةِ فموجودةٌ في جميع أصناف الأنعامِ وعامةٌ لكافة المخاطبين دائماً ، أو في عامة الأوقات { إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } ولذلك أسبغ عليكم هذه النعمَ الجليلةَ ويسّر لكم الأمورَ الشاقة .(4/99)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
{ والخيل } هو اسمُ جنس للفرس لا واحد له من لفظه ، كالإبل وهو عطفٌ على الأنعام أي خلق الخيل { والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا } تعليلٌ بمعظم منافعها وإلا فالانتفاعُ بها بالحمل أيضاً مما لا ريب في تحققه { وَزِينَةٌ } عطفٌ على محل لتركبوها ، وتجريدُه عن اللام لكونه فعلاً لفاعل الفعل المعلل دون الأولِ ، وتأخيرُه لكون الركوبِ أهمَّ منه ، أو مصدرٌ لفعل محذوفٍ ، أي وتتزيّنوا بها زينةً ، وقرىء بغير واو أي خلقها زينةً لتركبوها ، ويجوز أن يكون مصدراً واقعاً موقعَ الحال من فاعل تركبوها أو مفعولِه أي متزيّنين بها { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي يخلق في الدنيا غيرَ ما عُدد من أصناف النعم فيكم ولكم ما لا تعلمون كنهَه وكيفيةَ خلقِه ، فالعدولُ إلى صيغة الاستقبال للدِلالة على الاستمرار والتجددِ أو لاستحضار الصورة ، أو يخلق لكم في الجنة غيرَ ما ذكر من النعم الدنيوية ما لا تعلمون أي ما ليس من شأنكم أن تعلموه ، وهو ما أشير إليه بقوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن الله تعالى : « أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمِعت ولا خطَر على قلب بشر » ويجوز أن يكون هذا إخباراً بأنه سبحانه يخلق من الخلائق ما لا علمَ لنا به دَلالةً على قدرته الباهرة الموجبةِ للتوحيد كنعمته الباطنة والظاهرة .
عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن عن يمين العرش نهراً من نور مثلَ السمواتِ السبع والأرضين السبع والبحارِ السبعة ، يدخل فيه جبريلُ عليه السلام كل سَحَر فيغتسل فيزداد نوراً إلى نور وجمالاً إلى جمال وعِظماً إلى عظم ، ثم ينتفض فيخلق الله تعالى من كل قطرة تقع من ريشه كذا وكذا ألفَ ملَك ، فيدخل منهم كل يوم سبعون ألفَ ملكٍ البيتَ المعمور وسبعون ألف ملك الكعبة لا يعودون إليه إلا يوم القيامة .
{ وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل } القصدُ مصدر بمعنى الفاعل ، يقال : سبيلٌ قصْدٌ وقاصدٌ ، أي مستقيم على طريقة الاستعارة أو على نهج إسنادِ حال سالكِه إليه ، كأنه يقصِد الوجهَ الذي يؤمه السالكُ لا يعدِل عنه ، أي حقٌّ عليه سبحانه وتعالى بموجب رحمته ووعدِه المحتوم بيانُ الطريق المستقيمِ الموصلِ لمن يسلكه إلى الحق الذي هو التوحيدُ بنصب الأدلةِ وإرسالِ الرسل وإنزال الكتبِ لدعوة الناس إليه ، أو مصدرٌ بمعنى الإقامة والتعديل كذا قاله أبو البقاء ، أي عليه عز وجل تقويمُها وتعديلها أي جعلُها بحيث يصل سالكُها إلى الحق ، لكن لا بعد ما كانت في نفسها منحرفةً عنه بل إبداعُها ابتداءً كذلك على نهج قوله : سبحان من صغّر البعوضَ وكبّر الفيل ، وحقيقتُه راجعةٌ إلى ما ذكر من نصب الأدلةِ ، وقد فعَل ذلك حيث أبدع هذه البدائعَ التي كلُّ واحد منها لاحبٌّ يهتدى بمناره وعلَمٌ يُستضاء بناره ، وأَرسل رسلاً مبشرين ومنذرين وأَنزل عليهم كتباً من جملتها هذا الوحيُ الناطقُ بحقيقة الحقِّ الفاحصِ عن كل ما جلّ من الأسرار ودقّ ، الهادي إلى سبيل الاستدلال بتلك الأدلةِ المفضية إلى معالم الهدى ، المنْجية عن فيافي الضلالة ومهاوي الردى ، ألا يُرى كيف بيّن أولاً تنزُّهَ جنابِ الكبرياء وتعالِيَه بحسب الذات عن أن يحوم حوله شائبةُ توهمِ الإشراك ، ثم أوضح سرَّ إلقاءِ الوحي على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكيفيةَ أمرِهم بإنذار الناس ودعوتِهم إلى التوحيد ونهيِهم عن الإشراك ، ثم كرّ على بيان تعاليه عن ذلك بحسب الأفعالِ مرشداً إلى طريقة الاستدلالِ فبدأ بفعله المتعلق بمحيط العالم الجُسماني ومركزِه بقوله تعالى :(4/100)
{ خُلِقَ السموات والأرض بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } ثم فصّل أفعالَه المتعلقةَ بما بينهما فبدأ بفعله المتعلّق بأنفس المخاطَبين ، ثم ذكر ما يتعلق بما لا بد لهم منه في معايشهم ، ثم بين قدرتَه على خلق ما لا يحيط به علمُ البشر بقوله : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وكلُّ ذلك كما ترى بيانٌ لسبيل التوحيد غِبَّ بيانٍ وتعديلٌ له أيُّما تعديلٍ ، فالمرادُ بالسبيل على الأول الجنسُ بدليل إضافة القصدِ إليه وقوله تعالى : { وَمِنْهَا } في محل الرفع على الابتداء ، إما باعتبار مضمونِه وإما بتقدير الموصوف كما في قوله تعالى : { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } وقد مر في قوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله وباليوم الأخر } الخ ، أي بعضُ السبيل أو بعضٌ من السبيل فإنها تؤنث وتذكر { جَائِرٌ } أي مائلٌ عن الحق منحرفٌ عنه لا يوصِل سالكَه إليه ، وهو طرقُ الضلال التي لا يكاد يحصى عددُها المندرجُ كلُّها تحت الجائر ، وعلى الثاني نفسُ السبيل المستقيم والضميرُ في منها راجع إليها بتقدير المضاف أي ومن جنسها لما عرفتَ من أن تعديلَ السبيل وتقويمَه إبداعُه ابتداءً على وجه الاستقامةِ والعدالةِ لا تقويمُه بعد انحرافِه . وأياً ما كان فليس في النظم الكريم تغييرُ الأسلوب رعايةً لأمر مطلوب كما قيل ، فإن ذلك إنما يكون فيما اقتضى للظاهرُ سبكاً معيناً ولكن يُعدل عن ذلك لنُكتة أهمَّ منه كما في قوله سبحانه : { الذى يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } فإن مقتضى الظاهرِ أن يقال : والذي يُسقِمني ويشفينِ ، ولكن غُيِّر إلى ما عليه النظم الكريم تفادياً عن إسناد ما تكرهه النفسُ إليه سبحانه ، وليس المرادُ ببيان قصدِ السبيل مجردَ إعلامِ أنه مستقيمٌ حتى يصِحّ إسنادُ أنه جائرٌ إليه تعالى فيُحتاجَ إلى الاعتذار عن عدم ذلك ، على أنه لو أريد ذلك لم يوجد لتغيير الأسلوبِ نكتةٌ ، وقد بُين ذلك في مواضعَ غير معدودةٍ ، بل المرادُ ما مر من نصب الأدلةِ لهداية الناسِ إليه ولا إمكانَ لإسناد مثلِه إليه تعالى بالنسبة إلى الطريق الجائر بأن يقالَ : وجائرُها حتى يصرفَ ذلك الإسنادُ منه تعالى إلى غيره لنكتة تستدعيه ، ولا يتوهمه متوهمٌ حتى يقتضيَ الحالُ دفعَ ذلك بأن يقال : لا جائرُها ، ثم يُغير سبكُ النظم عن ذلك لداعية أقوى منه بل الجملةُ الظرفيةُ اعتراضيةٌ جيء بها لبيان الحاجةِ إلى البيان والتعديل وإظهارِ جلالة قدرِ النعمة في ذلك ، والمعنى : على الله تعالى بيانُ الطريق المستقيم الموصلِ إلى الحق وتعديلُه بما ذكر من نصب الأدلةِ ليسلُكَه الناس باختيارهم ويصلوا إلى المقصِد ، وهذا هو الهدايةُ المفسرة بالدلالة على ما يوصل إلى المطلوب لا الهدايةُ المستلزمةُ للاهتداء البتةَ ، فإن ذلك مما ليس بحق على الله تعالى لا بحسب ذاته ولا بحسب رحمته ، بل هو مُخلٌّ بحكمته حيث يستدعي تسويةَ المحسِن والمسيء والمطيعِ والعاصي بحسب الاستعدادِ وإليه أشير بقوله تعالى : { وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } أي لو شاء أن يهديَكم إلى ما ذكر من التوحيد هدايةً موصلةً إليه البتةَ مستلزِمةً لاهتدائكم أجمعين لفعل ذلك ، ولكن لم يشأه لأن مشيئتَه تابعةٌ للحكمة الداعيةِ إليها ، ولا حكمةَ في تلك المشيئةِ لِما أن الذي عليه يدور فلَكُ التكليفِ وإليه ينسحب الثوابُ والعقابُ إنما هو الاختيارُ الجُزئي الذي عليه يترتب الأعمالُ التي بها نيط الجزاءُ .(4/101)
هذا هو الذي يقتضيه المقامُ ويستدعيه حسنُ الانتظام ، وقد فُسّر كونُ قصدِ السبيل عليه تعالى بانتهائه إليه على نهج الاستقامةِ ، وإيثارُ حرفِ الاستعلاءِ على أداة الانتهاءِ لتأكيد الاستقامةِ على وجه تمثيليَ من غير أن يكون هناك استعلاءٌ لشيء عليه سبحانه وتعالى عنه علواً كبيراً كما في قوله تعالى : { هَذَا صراط عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ } فالقصدُ مصدرٌ بمعنى الفاعل ، والمرادُ بالسبيل الجنسُ كما مر في قوله تعالى : { وَمِنْهَا جَائِرٌ } معطوفٌ على الجملة الأولى والمعنى أن قصدَ السبيلِ واصلٌ إليه تعالى بالاستقامة وبعضُها منحرفٌ عنه ولو شاء لهداكم جميعاً إلى الأول ، وأنت خبيرٌ بأن هذا حقٌّ في نفسه ولكنه بمعزل عن نكتة موجبةٍ لتوسيطه بين ما سبق من أدلة التوحيدِ وبين ما لحِق ، ولمّا بُيِّن الطريقُ السمعيُّ للتوحيد على وجه إجماليَ وفصِّلَ بعضُ أدلتِه المتعلقة بأحوال الحيواناتِ ، وعُقب ذلك ببيان السرِّ الداعي إليه بعثاً للمخاطبين على التأمل فيما سبق وحثًّا على حسن التلقي لما لحِق أُتبِع ذلك ذِكرَ ما يدل عليه من أحوال النبات فقيل :
{ هُوَ الذى أَنَزلَ } بقدرته القاهرة { مّنَ السماء } أي من السحاب أو من جانب السماء { مَاء } أي نوعاً منه وهو المطرُ ، وتأخرُه عن المجرور لِما مر مراراً من أن المقصودَ هو الإخبارُ بأنه أنزل من السماء شيئاً هو الماء لا أنه أنزله من السماء ، والسرُّ فيما سلف من أن عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ يبقى الذهنُ مترقباً له مشتاقاً إليه فيتمكّن لديه عند وروده عليه فضلُ تمكن { لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ } أي ما تشربونه ، وهو إما مرتفعٌ بالظرف الأول أو مبتدأٌ وهو خبرُه والجملةُ صفة لماءً ، والظرفُ الثاني نصبَ على الحالية من شراب ومن تبعيضيةٌ وليس في تقديمه إيهامُ حصر المشروب فيه حتى يفتقر إلى الاعتذار بأنه لا بأس به لأن مياهَ العيون والأبيارِ منه لقوله تعالى :(4/102)
{ فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الأرض } وقوله تعالى : { فَأَسْكَنَّاهُ فِى الأرض } وقيل : الظرفُ الأولُ متعلقٌ بأنزل والثاني خبرٌ لشرابٌ والجملةُ صفةٌ لماءً ، وأنت خبير بأن ما فيه من توسيط المنصوبِ بين المجرورين وتوسيطِ الثاني منهما بين الماء وصفتِه مما لا يليق بجزالة نظمِ التنزيلِ الجليل { وَمِنْهُ شَجَرٌ } من ابتدائيةٌ أي ومنه يحصل شجرٌ ترعاه المواشي ، والمرادُ به ما ينبُت من الأرض سواءٌ كان له ساق أو لا ، أو تبعيضيةٌ مجازاً لأنه لما كان سقيُه من الماء جعل كأنه كقوله
أسنمةُ الآبالِ في ربابه ... يعني به المطرَ الذي ينبت به الكلأُ الذي تأكله الإبلُ فتسمَن أسنمتُها ، وفي حديث عكرِمة : ( لا تأكُلوا ثمنَ الشجر فإنه سُحْت ) يعني الكلأ { فِيهِ تُسِيمُونَ } ترون من سامت الماشيةُ وأسامها صاحبها ، وأصلُها السُّومة وهي العلامةُ لأنها تؤثر بالرعي علاماتٍ في الأرض .
{ يُنبِتُ } أي الله عز وجل ، وقرى بالنون { لَكُمْ بِهِ } بما أنزل من السماء { الزرع والزيتون والنخيل والاعناب } بيان للنعم الفائضة عليهم من الأرض بطريق الاستئنافِ ، وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ للدلالة على التجدد والاستمرار وأنها سنتُه الجاريةُ على مر الدهور ، أو لاستحضار صورةِ الإنبات ، وتقديمُ الظرفين على المفعول الصريحِ لما مر آنفاً مع ما في تقديم أولهما من الاهتمام به لإدخال المسرّةِ ابتداءً ، وتقديمُ الزرعِ على ما عداه لأنه أصلُ الأغذية وعَمودُ المعاش ، وتقديمُ الزيتون لما فيه من الشرف من حيث إنه إذام من وجه وفاكهة من وجه ، وتقديم النخيل على الأعناب لظهور أصالتِها وبقائها ، وجمع الأعناب للإشارة إلى ما فيها من الاشتمال على الأصناف المختلفةِ ، وتخصيصُ الأنواعِ المعدودة بالذكر مع اندراجها تحت قولِه تعالى : { وَمِن كُلّ الثمرات } للإشعار بفضلها وتقديمُ الشجر عليها مع كونه غذاءً للأنعام لحصوله بغير صنعٍ من البشر ، أو للإرشاد إلى مكارم الأخلاقِ فإن مقتضاها أن يكون اهتمامُ الإنسان بأمر ما تحت يده أكملَ من اهتمامه بأمر نفسه ، أو لأن أكثرَ المخاطَبين من أصحاب المواشي ليس لهم زرعٌ ولا ثمرٌ ، وقيل : المراد تقديمُ ما يسام لا تقديمُ غذائه فإنه غذاءٌ حيوانيّ للإنسان وهو أشرف الأغذية ، وقرىء يَنبُت من الثلاثي مسنداً إلى الزرع وما عُطف عليه .
{ إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي في إنزال الماءِ وإنباتِ ما فُصّل { لآيَةً } عظيمةً دالةً على تفرده تعالى بالألوهية لاشتماله على كمال العلمِ والقدرةِ والحكمة { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فإن من تفكر في أن الحبةَ أو النواة تقع في الأرض وتصِل إليها نداوةٌ تنفُذ فيها فينشق أسفلُها فيخرُج منه عروق تنبسط في أعماق الأرضِ ، وينشق أعلاها وإن كانت منتكِسةً في الوقوع ويخرج منه ساقٌ فينمو ويخرج منه الأوراقُ والأزهارُ والحبوبُ والثمار المشتملةُ على أجسام مختلفةِ الأشكال والألوان والخواصِّ والطبائع ، وعلى نواة قابلةٍ لتوليد الأمثالِ على النمط المحرر لا إلى نهاية مع اتحاد الموادِّ واستواءِ نسبة الطبائعِ السفلية والتأثيراتِ العلوية بالنسبة إلى الكل ، علم أن مَنْ هذه أفعالُه وآثارُه لا يمكن أن يشبهه شيءٌ في شيء من صفات الكمال فضلاً عن أن يشاركه أخسُّ الأشياء في أخص صفاتِه التي هي الألوهيةُ واستحقاقُ العبادة تعالى عن ذلك علواً كبيراً ، وحيث افتقر سلوكُ هذه الطريقةِ إلى ترتيب المقدّماتِ الفكرية قطَع الآيةَ الكريمةَ بالتفكر .(4/103)
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)
{ وَسَخَّر لَكُمُ اليل والنهار } يتعاقبان خِلْفةً لمنامكم ومعاشِكم ولعقد الثمار وإنضاجها { والشمس والقمر } يدأبان في سيرهما وإنارتهما أصالةً وخلافةً وإصلاحِهما لما نيط بهما صلاحُه من المكونات التي من جملتها ما فُصّل وأُجْمل ، كلُّ ذلك لمصالحكم ومنافعكم ، وليس المرادُ بتسخيرها لهم تمكينَهم من تصريفها كيف شاءوا كما في قوله تعالى : { سبحان الذى سَخَّرَ لَنَا هذا } ونظائرِه ، بل هو تصريفُه تعالى لها حسبما يترتب عليه منافعُهم ومصالحُهم كأن ذلك تسخيرٌ لهم وتصرفٌ من قبلهم حسب إرادتِهم ، وفي التعبير عن ذلك التصريف بالتسخير إيماءٌ إلى ما في المسخَّرات من صعوبة المأخذ بالنسبة إلى المخاطبين ، وإيثارُ صيغةِ الماضي للدلالة على أن ذلك أمرٌ واحدٌ مستمر وإن تجددت آثارُه .
{ والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ } مبتدأٌ وخبرٌ ، أي سائرُ النجومِ في حركاتها وأوضاعها من التثليث والتربيع ونحوهما مسخراتٌ لله تعالى أو لما خُلقن له بإرادته ومشيئتِه ، وحيث لم يكن عَودُ منافعِ النجوم إليهم في الظهور بمثابة ما قبلها من المَلَوَين والقمَرَين لم يُنسَبْ تسخيرُها إليهم بأداة الاختصاص بل ذُكر على وجه يفيد كونَها تحت ملكوتِه تعالى من غير دِلالةٍ على شيء آخرَ ولذلك عُدِل عن الجملة الفعليةِ الدالة على الحدوث إلى الاسمية المفيدة للدوام والاستمرار .
وقرىء برفع الشمسَ والقمرَ أيضاً ، وقرىء بنصب النجوم على أنه مفعولٌ أولٌ لفعل مقدر ينبىء عنه الفعلُ المذكور ، ومسخراتٌ حالٌ من الكل والعامل ما في ( سخّر ) من معنى نفعَ أي نفعكم بها حالَ كونها مسخراتٍ لله الذي خلقها ودبرها كيف شاء ، أو لما خُلقن له بإيجاده وتقديرِه أو لحكمه ، أو مصدرٌ ميميّ جُمع لاختلاف الأنواعِ أي أنواعاً من التسخير ، وما قيل من أن فيه إيذاناً بالجواب عما عسى يقال أن المؤثرَ في تكوين النباتِ حركاتُ الكواكب وأوضاعُها بأن ذلك إنْ سَلِم فلا ريب في أنها أيضاً أمورٌ ممكنةُ الذات والصفات ، واقعةٌ على بعض الوجوه الممْكِنة فلا بد لها من موجد مخصّصٍ مختار واجبِ الوجود دفعاً للدَّوْر والتسَلْسُل ، فمبناه حسبانُ ما ذُكر أدلةً على وجود الصانع تعالى وقدرته واختيارِه ، وأنت تدري أنْ ليس الأمرُ كذلك فإنه ليس مما ينازَع فيه الخصمُ ولا يتلعثم في قبوله ، قال تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ } وقال تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السماء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله } الآية ، وإنما ذلك أدلةُ التوحيد من حيث إن مَنْ هذا شأنُه لا يتوهم أن يشاركه شيءٌ في شيء فضلاً عن أن يشاركه الجمادُ في الألوهية .
{ إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي فيما ذكر من التسخير المتعلّق بما ذكر مُجملاً ومفصلاً { لاَيَاتٍ } باهرةً متكاثرة { لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } وحيث كانت هذه الآثارُ العلويةُ متعددةً ودلالةُ ما فيها من عظيم القدرة والعلم والحكمةِ على الوحدانية أظهرَ جُمع الآياتُ وعُلّقت بمجرد العقلِ من غير حاجةٍ إلى التأمل والتفكر ، ويجوز أن يكون المرادُ لقوم يعقلون ذلك ، فالمشار إليه حينئذ تعاجيبُ الدقائق المُودعةِ في العلويات المدلولِ عليها بالتسخير التي لا يتصدَّى لمعرفتها إلا المهَرةُ من أساطين علماءِ الحكمة ، ولا ريب في أن احتياجَها إلى التفكر أكثرُ .(4/104)
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
{ وَمَا ذَرَأَ } عطفٌ على قوله تعالى : { والنجوم } رفعاً ونصباً على أنه مفعولٌ لجعل أي وما خلق { لَكُمْ فِى الأرض } من حيوان ونبات حالِ كونه { مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ } أي أصنافُه ، فإن اختلافها غالباً يكون باختلاف اللون مسخرٌ لله تعالى أو لما خُلق له من الخواصّ والأحوال والكيفياتِ ، أو جُعل ذلك مختلفَ الألوان أي الأصنافِ لتتمتعوا من ذلك بأي صنف شئتم ، وقد عُطف على ما قبله من المنصوبات ، وعُقِّب بأن ذكرَ الخلق لهم مغنٍ عن ذكر التسخير ، واعتُذر بأن الأولَ يستلزم الثانيَ لزوماً عقلياً لجواز كونِ ما خُلق لهم عزيزَ المرام صعبَ المنال ، وقيل : هو منصوبٌ بفعل مقدر أي خلق وأنبت على أن قوله : ( مختلفاً ألوانه ) حالٌ من مفعوله { إِنَّ فِى ذَلِكَ } الذي ذكر من التسخيرات ونحوها { لآيَةً } بينةَ الدِلالةِ على أن مَنْ هذا شأنُه واحد لا نِدَّ له ولا ضِدّ { لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } فإن ذلك غيرُ محتاج إلا إلى تذكرِ ما عسى يُغفَل عنه من العلوم الضرورية ، وأما ما يقال من أن اختلافها في الطباع والهيئات والمناظر ليس إلا بصنع صانعٍ حكيم ، فمدارُه ما لوّحنا به من حسبان ما ذُكر دليلاً على إثبات الصانعِ تعالى ، وقد عرفتَ حقيقةَ الحال فإن إيراد ما يدل على اتصافه سبحانه بما ذكر من صفات الكمالِ ليس بطريق الاستدلالِ عليه ، بل من حيث إن ذلك من المقدِّمات المسلَّمةِ جيء به للاستدلال به على ما يقتضيه ضرورةُ وحدانيته تعالى واستحالةُ أن يشاركَه شيء في الألوهية .(4/105)
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)
{ وَهُوَ الذى سَخَّرَ البحر } شروعٌ في تعداد النعمِ المتعلقة بالبحر إثرَ تفصيل النعمِ المتعلقة بالبر حيواناً ونباتاً ، أي جعله بحيث تتمكنون من الانتفاع به للركوب والغَوْص والاصطياد { لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا } هو السمك ، والتعبيرُ عنه باللحم مع كونه حيواناً للتلويح بانحصار الانتفاعِ به في الأكل ، ووصفُه بالطراوة للإشعار بلطافته والتنبيهِ على وجوب المسارعةِ إلى أكله كيلا يتسارع إليه الفسادُ كما ينبىء عنه جعلُ البحر مبتدأَ أكلِه ، وللإيذان بكمال قدرتِه تعالى في خلقه عذباً طرياً في ماء زعاق ، ومن إطلاق اللحمِ عليه ذهب مالكٌ والثوري أن مَنْ حلف لا يأكلُ اللحم حنِث بأكله ، والجوابُ أن مبنى الأيمان العُرفُ ، ولا ريب في أنه لا يُفهم من اللحم عند الإطلاق ، ولذلك لو أمر خادمه بشراء اللحمِ فجاء بالسمك لم يكن ممتثلاً بالأمر ، ألا يرى إلى أن الله تعالى سمّى الكافرَ دابة حيث قال : { إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ } ولا يحنَث بركوبه من حلَف لا يركب دابة { وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً } كاللؤلؤ والمَرْجان { تَلْبَسُونَهَا } عبر في مقام الامتنان عن لُبس نسائِهم بلبسهم لكونهن منهم أو لكون لُبسِهن لأجلهم { وَتَرَى الفلك } السفن { مَوَاخِرَ فِيهِ } جواريَ فيه مُقبلةً ومدبرة ومعترضة بريح واحدة تشقه بحَيزومها ، من المخْر وهو شقُّ الماء ، وقيل : هو صوتُ جَرْي الفلك { وَلِتَبْتَغُواْ } عطف على تستخرجوا وما عُطف هو عليه ، وما بينهما اعتراضٌ لتمهيد مبادي الابتغاءِ ودفعِ توهم كونِه باستخراج الحِلية ، أو على علة محذوفة أي لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا ، ذكره ابن الأنباري أو متعلقة بفعل محذوفٍ أي وفعَل ذلك لتبتغوا { مِن فَضْلِهِ } من سَعة رزقِه بركوبها للتجارة { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي تعرِفون حقوقَ نعمِه الجليلةِ فتقومون بأدائها بالطاعة والتوحيد ، ولعل تخصيصَ هذه النعمةِ بالتعقيب بالشكر من حيث إن فيها قطعاً لمسافة طويلة مع أحمال ثقيلةٍ في مدة قليلة من غير مزاولةِ أسبابِ السفر ، بل من غير حركة أصلاً مع أنها في تضاعيف المهالكِ وعدمُ توسيط الفوزِ بالمطلوب بين الابتغاء والشكر للإيذان باستغنائه عن التصريح به وبحصولهما معاً .
{ وألقى فِى الأرض رَوَاسِىَ } أي جبالاً ثوابتَ ، وقد مر تحقيقُه في أول سورة الرعد { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } كراهةَ أن تميل بكم وتضطربَ ، أو لئلا تميدَ بكم فإن الأرضَ قبل أن تُخلقَ فيها الجبالُ كانت كرةً خفيفةً بسيطةَ الطبع ، وكان من حقها أن تتحرك بالاستدارة كالأفلاك أو تتحركَ بأدنى سبب محرِّك ، فلما خُلقت الجبال تفاوتت حافّاتُها وتوجهت الجبالُ بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد ، وقيل : لما خلق الله تعالى الأرض جعلت تمورُ فقالت الملائكة : ما هي بمقر أحدٍ على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال { وأنهارا } أي وجعل فيه أنهاراً لأن في ألقى معنى الجعل { وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } بها إلى مقاصدكم .(4/106)
وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)
{ وعلامات } معالمَ يَستدِلّ بها السابلةُ بالنهار من جبل وسهلٍ وريح ، وقد نُقل أن جماعة يشمّون الترابَ ويتعرفون به الطرقات { وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } بالليل في البراري والبحارِ حيث لا علامة غيرُه ، والمرادُ بالنجم الجنسُ ، وقيل : هو الثريا والفَرْقدان وبناتُ نعش والجدي ، وقرىء بضمتين وبضمة وسكون وهو جمع كرُهْن ورُهُن ، وقيل : الأول بطريق حذف الواو من النجوم للتخفيف ولعل الضميرَ لقريش فإنهم كانوا كثيري الترددِ للتجارة مشهورين بالاهتداء بالنجوم في أسفارهم ، وصرفُ النظمِ عن سنن الخطاب وتقديمُ النجم وإقحامُ الضمير للتخصيص ، كأنه قيل : وبالنجم خصوصاً هؤلاء خصوصاً يهتدون فالاعتبار بذلك والشكر عليه ألزم لهم وأوجب عليهم .
{ أَفَمَن يَخْلُقُ } هذه المصنوعاتِ العظيمةَ ويفعل هاتيك الأفاعيلَ البديعة ، أو يخلق كلَّ شيء { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } شيئاً أصلاً وهو تبكيتٌ للكفرة وإبطالٌ لإشراكهم وعبادتِهم للأصنام بإنكار ما يستلزمه ذلك من المشابهة بينها وبينه سبحانه وتعالى بعد تعدادِ ما يقتضي ذلك اقتضاء ظاهراً ، وتعقيبُ الهمزة بالفاء لتوجيه الإنكارِ إلى توهم المشابهةِ المذكورة على ما فصل من الأمور العظيمة الظاهرةِ الاختصاصِ به تعالى المعلومة كذلك فيما بينهم حسبما يُؤذِن به ما تلوناه من قوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ } الآيتين ، والاقتصارُ على ذكر الخلقِ من بينها لكونه أعظمَها وأظهرَها واستتباعِه إياها ، أو لكون كلَ منها خلقاً مخصوصاً أي أبعدَ ظهورِ اختصاصِه تعالى بمبدئية هذه الشؤونِ الواضحةِ الدَّلالةِ على وحدانيته تعالى وتفرّدِه بالألوهية واستبدادِه باستحقاق العبادةِ ، يُتصوّر المشابهةُ بينه وبين ما هو بمعزل من ذلك بالمرة كما هو قضيةُ إشراكِكم ومدارها وإن كان على نسبةٍ تقوم بالمنتسبين ، اختير ما عليه النظمُ الكريم مراعاةً لحقّ سبْقِ الملَكةِ على العدم وتفادياً عن توسيط عدمِها بينها وبين جزئياتها المفصّلة قبلها وتنبيهاً على كمال قبحِ ما فعلوه من حيث إن ذلك ليس مجردَ رفعِ الأصنام عن محلها بل هو حطٌّ لمنزلة الربوبيةِ إلى مرتبة الجماداتِ ، ولا ريب في أنه أقبحُ من الأول ، والمرادُ بمن لا يخلق كلُّ ما هذا شأنُه كائناً ما كان ، والتعبير عنه بما يختص بالعقلاء للمشاكلة ، أو العقلاءِ خاصة ، ويُعرف منه حالُ غيرهم لدِلالة النص فإن من يخلق حيث لم يكن كمن لا يخلق وهو من جملة العقلاءِ ، فما ظنُّك بالجماد وأياً ما كان فدخولُ الأصنام في حكم عدمِ المماثلة والمشابهةِ إما بطريق الاندراجِ تحت الموصولِ العام وإما بطريق الانفهام بدلالة النص على الطريقة البرهانية ، لا بأنها هي المرادةُ بالموصول خاصة { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي ألا تلاحظون فلا تتذكرون ذلك فإنه لوضوحه بحيث لا يفتقر إلى شيء سوى التذكر .(4/107)
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله } تذكيرٌ إجمالي لنعمه تعالى بعد تعدادِ طائفة منها ، وكان الظاهرُ إيرادَه عقيبَها تكملةً لها على طريقة قوله تعالى : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ولعل فصلَ ما بينهما بقوله تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } للمبادرة إلى إلزام الحجةِ وإلقامِ الحجر إثرَ تفصيلِ ما فُصل من الأفاعيل التي هي أدلةُ الوحدانية مع ما فيه من سر ستقف عليه إن شاء الله ، ودَلالتُها عليها وإن لم تكن مقصورةً على حيثية الخلق ضرورةَ ظهور دلالتِها عليها من حيثية الإنعام أيضاً لكنها حيث كانت مستتبعاتِ الحيثيةِ الأولى ، استُغنيَ عن التصريح بها ثم بُين حالها بطريق الإجمال أي إن تعدوا نعمته الفائضةَ عليكم مما ذكر وما لم يذكر حسبما يُعرب عنه قوله تعالى : { هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض جَمِيعاً } { لاَ تُحْصُوهَا } أي لا تطيقوا حصرَها وضبطَ عددِها ولو إجمالاً ، فضلاً عن القيام بشكرها وقد خرجنا عن عُهدة تحقيقه في سورة إبراهيمَ بفضل الله سبحانه { إِنَّ الله لَغَفُورٌ } حيث يستُر ما فرَط منكم من كفرانها والإخلالِ بالقيام بحقوقها ، ولا يعاجلُكم بالعقوبة على ذلك { رَّحِيمٌ } حيث يُفيضها عليكم مع استحقاقكم للقطع والحِرمان بما تأتون وتذرون من أصناف الكفرِ التي من جملتها عدمُ الفرق بين الخالقِ وغيرِه ، وكلٌّ من ذلك نعمةٌ وأيُّما نعمة ، فالجملة تعليلٌ للحكم بعدم الإحصاءِ وتقديمُ وصفِ المغفرة على نعت الرحمةِ لتقدم التخلية على التحلية .
{ والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ } تُضمرونه من العقائد والأعمال { وَمَا تُعْلِنُونَ } أي تظهرونه منهما ، وحُذف العائد لمراعاة الفواصلِ أي يستوي بالنسبة إلى علمه المحيطِ سرُّكم وعلنُكم ، وفيه من الوعيد والدِلالة على اختصاصه سبحانه بنعوت الإلهية ما لا يخفى ، وتقديمُ السرِّ على العلن لما ذكرناه في سورة البقرة وسورة هودٍ من تحقيق المساواة بين عِلْميه المتعلِّقَين بهما على أبلغ وجهٍ كأن عِلمَه تعالى بالسرّ أقدمُ منه بالعلن ، أو لأن كلَّ شيء يعلن فهو قبل ذلك مضمرٌ في القلب ، فتعلّقُ علمه تعالى بحالته الأولى أقدمُ من تعلقه بحالته الثانية .
{ والذين يَدْعُونَ } شروع في تحقيق كونِ الأصنام بمعزل من استحقاق العبادةِ وتوضيحُه بحيث لا يبقى فيه شائبةُ ريب بتعديد أوصافِها وأحوالِها المنافية لذلك منافاةً ظاهرةً ، وتلك الأحوالُ وإن كانت غنيةً عن البيان لكنها شُرحت للتنبيه على كمال حماقةِ عبدَتِها وأنهم لا يعرفون ذلك إلا بالتصريح ، أي والآلهةُ الذين يعبدهم الكفار { مِن دُونِ الله } سبحانه ، وقرىء على صيغة المبني للمفعول وعلى الخطاب { لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا } من الأشياء أصلاً أي ليس من شأنهم ذلك ، ولما لم يكن بين نفي الخالقية وبين المخلوقية تلازمٌ بحسب المفهومِ وإن تلازما في الصدق أُثبت لهم ذلك صريحاً فقيل : { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي شأنُهم ومقتضى ذاتِهم المخلوقيةُ لأنها ذواتٌ ممكنةٌ مفتقرةٌ في ماهياتها ووجوداتها إلى الموجد ، وبناء الفعل للمفعول لتحقيق التضادّ والمقابلة بين ما أثبت لهم وبين ما نُفي عنهم من وصفي المخلوقية والخالقية ، وللإيذان بعدم الافتقار إلى بيان الفاعلِ لظهور اختصاصِ الفعل بفاعله جل جلاله ، ويجوز أن يُجعل الخلقُ الثاني عبارةً عن النحت والتصوير رعايةً للمشاكلة بينه وبين الأول ومبالغةً في كونهم مصنوعين لعبدتهم وأعجز عنهم وإيذاناً بكمال ركاكةِ عقولهم حيث أشركوا بخالقهم مخلوقَهم ، وأما جعلُ الأول أيضاً عبارةً عن ذلك كما فعل فلا وجه له ، إذ القدرةُ على مثل ذلك الخلقِ ليست مما يدور عليه استحقاقُ العبادة أصلاً ، ولِما أن إثباتَ المخلوقية لهم غيرُ مستدعٍ لنفي الحياة عنهم لِما أن بعض المخلوقين أحياءٌ صرح بذلك فقيل : { أَمْوَاتٌ } وهو خبرٌ ثان للموصول لا للضمير كما قيل ، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ .(4/108)
وحيث كان بعضُ الأموات مما يعتريه الحياة سابقاً أو لاحقاً كأجساد الحيوان والنطفِ متى يُنشِئها الله تعالى حيواناً احتُرز عن ذلك فقيل : { غَيْرُ أَحْيَاء } أي لا يعتريها الحياة أصلاً فهي أمواتٌ على الإطلاق وأما قوله تعالى : { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } أي ما يشعر أولئك الآلهةُ أيان يُبعث عَبَدتُهم فعلى طريقة التهكمِ بهم لأن شعورَ الجماد بالأمور الظاهرة بديهيُّ الاستحالة عند كل أحد فكيف بما لا يعلمه إلا العليم الخبير وفيه إيذانٌ بأن البعث من لوازم التكليفِ وأن معرفةَ وقته مما لا بد منه في الألوهية .
{ إلهكم إله واحد } لا يشاركه شيءٌ في شيء ، وهو تصريحٌ بالمدعى وتمحيضٌ للنتيجة غِبَّ إقامةِ الحجة { فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة } وأحوالِها التي من جملتها ما ذكر من البعث وما يعقُبه من الجزاء المستلزِمِ لعقوبتهم وذِلتهم { قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ } للوَحدانية جاحدةٌ لها أو للآيات الدالة عليها { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } عن الاعتراف بها ، أو عن الآيات الدالة عليها ، والفاء للإيذان بأن إصرارَهم على الإنكار واستمرارَهم على الاستكبار وقعَ موقع النتيجة للدلائل الظاهرةِ والبراهينِ الباهرة ، والمعنى أنه قد ثبت بما قُرّر من الحجج والبينات اختصاصُ الإلهية به سبحانه فكان من نتيجة ذلك إصرارُهم على ما ذكر من الإنكار والاستكبار ، وبناءُ الحكم المذكورِ على الموصول للإشعار بكونه معللاً بما في حيّز الصلة ، فإن الكفرَ بالآخرة وبما فيها من البعث والجزاءِ المتنوِّع إلى الثواب على الطاعة والعقابِ على المعصية يؤدِّي إلى قصر النظر على العاجل ، والإعراضِ عن الدلائل السمعية والعقليةِ الموجبِ لإنكارها وإنكارِ مؤدّاها ، والاستكبارِ عن اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام وتصديقِه ، وأما الإيمانُ بها وبما فيها فيدعو لا محالة إلى التأمل في الآيات والدلائلِ رغبةً ورهبة فيورث ذلك يقيناً بالوحدانية وخضوعاً لأمر الله تعالى .
{ لاَ جَرَمَ } أي حقاً وقد مر تحقيقُه في سورة هود { أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ } من إنكار قلوبِهم { وَمَا يُعْلِنُونَ } من استكبارهم وقولِهم للقرآن أساطيرُ الأولين وغيرِ ذلك من قبائحهم فيجازيهم بذلك { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين } تعليلٌ لما تضمنه الكلامُ من الوعيد ، أي لا يحب المستكبرين عن التوحيد أو عن الآيات الدالةِ عليها أو لا يحب جنسَ المستكبرين ، فكيف بمن استكبر عما ذكر .(4/109)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } أي لأولئك المنكِرين المستكبرين ، وهو بيانٌ لإضلالهم غِبَّ بيانِ ضلالهم { مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ } القائلُ : الوافدون عليهم أو المسلمون أو بعضٌ منهم على طريق التهكم ، وماذا منصوبٌ بما بعده أو مرفوع ، أي أيَّ شيءٍ أنزل أو ما الذي أنزله { قَالُواْ أساطير الأولين } أي ما تدّعون نزوله ، والمنزلُ بطريق السخرية أحاديثُ الأولين وأباطيلهم وليس من الإنزال في شيء ، قيل : هؤلاء القائلون هم المقتسمون الذين اقتسموا مداخلَ مكةَ ينفِّرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سؤال وفودِ الحاجِّ عما نزل عليه عليه السلام .
{ لِيَحْمِلُواْ } متعلق بقالوا أي قالوا ما قالوا ليحملوا { أَوْزَارَهُمْ } الخاصةَ بهم وهي أوزارُ ضلالهم { كَامِلَةٌ } لم يكفَّرْ منها شيءٌ بنكبة أصابتهم في الدنيا كما يكفّر بها أوزارُ المؤمنين { يَوْمُ القيامة } ظرفٌ ليحمِلوا { وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ } وبعضِ أوزارِ مَنْ ضل بإضلالهم وهو وِزرُ الإضلال لأنهما شريكان ، هذا يُضله وهذا يطاوعه ، فيتحاملان الوزر ، واللام للتعليل في نفس الأمر من غير أن يكون غرضاً ، وصيغةُ الاستقبال للدلالة على استمرار الإضلالِ أو باعتبار حال قولِهم لا حالِ الحمل { بِغَيْرِ عِلْمٍ } حال من الفاعل أي يضلونهم غيرَ عالمين بأن ما يدْعون إليه طريقٌ للضلال ، وأما حملُه على معنى غيرَ عالمين بأنهم يحمِلون يوم القيامة أوزارَ الضلال والإضلال على أن يكون العاملُ في الحال قالوا وتأييدُه بما سيأتي من قوله تعالى : { وأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } من حيث إن حملِ ما ذكر من أوزار الضلالِ والإضلال من قبيل إتيانِ العذاب من حيث لا يشعرون فيردُّه أن الحملَ المذكورَ إنما هو يوم القيامة والعذابَ المذكور إنما هو العذابُ الدنيوي ، كما ستقف عليه ، أو حال من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضُلاّلٌ ، وفائدةُ التقييد بها الإشعارُ بأن مكرهم لا يرُوج عند ذي لُب ، وإنما يتبعهم الأغبياءُ والجهلة ، والتنبيهُ على أن جهلَهم ذلك لا يكون عذراً إذ كان يجب عليهم أن يبحثوا ويميزوا بين الحقِّ الحقيقِ بالاتباع وبين المُبطل { أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ } أي بئس شيئاً يزِرونه ما ذكر .
{ قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ } وعيدٌ لهم برجوع غائلة مكرِهم إلى أنفسهم كدأب مَنْ قبلهم من الأمم الخاليةِ الذين أصابهم ما أصابهم من العذاب العاجلِ ، أي قد سوَّوا منصوباتٍ ليمكروا بها رسلَ الله تعالى { فَأَتَى الله } أي أمرُه وحكمُه { بُنْيَانُهُمُ } وقرىء بيتهم وبيوتهم { مّنَ القواعد } وهي الأساطينُ التي تعمِده أو أساسُه فضعضَعَتْ أركانَه { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ } أي سقط عليهم سقفُ بنيانهم إذ لا يتصور له القيامُ بعد تهدّم القواعدِ ، شُبّهت حالُ أولئك الماكرين في تسويتهم المكايدَ والمنصوباتِ التي أرادوا بها الإيقاعَ برسل الله سبحانه ، وفي إبطاله تعالى تلك الحيلَ والمكايدَ وجعلِه إياها أسباباً لهلاكهم بحال قومٍ بنَوا بنياناً وعمَدوه بالأساطين فأُتيَ ذلك من قِبل أساطينِه بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف فهلكوا ، وقرىء فخر عليهم السُّقُفُ بضمتين { وأتاهم العذاب } أي الهلاك والدمار { مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } بإتيانه منه بل يتوقعون إتيانَ مقابلِه مما يريدون ويشتهون ، والمعنى أن هؤلاء الماكرين القائلين للقرآن العظيم أساطيرُ الأولين سيأتيهم من العذاب مثلُ ما أتاهم وهم لا يحتسبون ، والمرادُ به العذابُ العاجل لقوله سبحانه : { ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ } فإنه عطفٌ على مقدر ينسحب عليه الكلام ، أي هذا الذي فُهم من التمثيل من عذاب هؤلاءِ أو ما هو أعمُّ منه ومما ذكر من عذاب أولئك جزاؤُهم في الدنيا ويوم القيامة يُخزيهم أي يُذِلهم بعذاب الخِزْي على رؤوس الأشهادِ ، وأصلُ الخزي ذُلٌّ يستحيى منه ، وثم للإيماء إلى ما بين الجزاءين من التفاوت مع ما يدل عليه من التراخي الزماني ، وتغييرُ السبك بتقديم الظرف ليس لقصر الخزي على يوم القيامة كما هو المتبادرُ من تقديم الظرف على الفعل بل لأن الإخبارَ بجزائهم في الدنيا مؤذِنٌ بأن لهم جزاءً أخروياً فتبقى النفسُ مترقبة إلى وروده سائلةً عنه بأنه ماذا ، مع تيقنها بأنه في الآخرة فسيق الكلامُ على وجه يُؤذِن بأن المقصود بالذكر إخزاؤهم لا كونُه يوم القيامة ، والضمير إما للمفترين في حق القرآنِ الكريم أو لهم ولمن مُثّلوا بهم من الماكرين كما أشير إليه وتخصيصُه بهم يأباه السِّباقُ والسياق كما ستقف عليه .(4/110)
{ وَيَقُولُ } لهم تفضيحاً وتوبيخاً فهو الخ ، بيان للإخزاء { أَيْنَ شُرَكَائِىَ } أضافهم إليه سبحانه حكاية لإضافتهم الكاذبة ، ففيه توبيخٌ مع الاستهزاء بهم { الذين كُنتُمْ تشاقون فِيهِمْ } أي تخاصمون الأنبياءَ والمؤمنين في شأنهم بأنهم شركاءُ حقاً حين بينوا لكم بطلانَها؟ والمرادُ بالاستفهام استحضارُهم للشفاعة أو المدافعةُ على طريقة الاستهزاء والتبكيتِ ، والاستفسارُ عن مكانهم لا يوجب غَيبتَهم حقيقةً حتى يُعتذَرَ بأنهم يجوز أن يُحال بينهم وبين عبدَتِهم حينئذ ليتفقدوها في ساعة علقوا بها الرجاءَ فيها ، أو بأنهم لما لم ينفعوهم فكأنهم غُيّب ، بل يكفي في ذلك عدمُ حضورهم بالعنوان الذي كانوا يزعُمون أنهم متصفون من عنوان الإلهية ، فليس هناك شركاءُ ولا أماكنُها ، على أن قوله ليتفقدوا ليس بسديد فإنه قد تبين عندهم الأمرُ حينئذ فرجعوا عن ذلك الزعم الباطلِ فكيف يتصور منهم التفقد وقرىء بكسر النون أي تشاقّونني على أن مشاقّةَ الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام والمؤمنين لا سيما في شأن متعلق به سبحانه مشاقةٌ له عز وجل { قَالَ الذين أُوتُواْ العلم } من أهل الموقفِ وهم الأنبياءُ والمؤمنون الذين أوتوا علماً بدلائل التوحيدِ وكانوا يدْعونهم في الدنيا إلى التوحيد فيجادلونهم ويتكبرون عليهم ، أي يقولون توبيخاً فهو وإظهاراً للشماتة بهم وتقريراً لما كانوا يعِظونهم وتحقيقاً لما أوعدوهم به ، وإيثارُ صيغةِ الماضي للدلالة على تحققه وتحتّم وقوعِه حسبما هو المعتادُ في إخباره سبحانه وتعالى كقوله :(4/111)
{ وَنَادَى أصحاب الجنة } { ونادى أصحاب الأعراف } { إِنَّ الخزى } الفضيحةَ والذل والهوان { اليوم } منصوبٌ بالخزي على رأي من يرى إعمالَ المصدرِ المصدّر باللام ، أو بالاستقرار في الظرف ، وفيه فصلٌ بين العامل والمعمول بالمعطوف إلا إنه مغتفرٌ في الظروف ، وإيرادُه للإشعار بأنهم كانوا قبل ذلك في عزّة وشِقاق { والسوء } العذاب { عَلَى الكافرين } بالله تعالى وبآياته ورسله .(4/112)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
{ الذين تتوفاهم الملائكة } بتأنيث الفعل ، وقرىء بتذكيره وبإدغام التاء في التاء ، والعدولُ إلى صيغة المضارعِ لاستحضار صورةِ توفِّيهم إياهم لما فيها من الهول ، والموصولُ في محل الجرِّ على أنه نعتٌ للكافرين أو بدلٌ منه أو في محل النصبِ أو الرفع على الذم ، وفائدتُه تخصيصُ الخزي والسوءِ بمن استمر كفرُه إلى حينِ الموت دون مَن آمن منهم ولو في آخر عُمره ، أي على الكافرين المستمرين على الكفر إلى أن يتوفاهم الملائكة { ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } أي حالَ كونهم مستمرين على الكفر فإنه ظلمٌ منهم لأنفسهم وأيُّ ظلم ، حيث عرّضوها للعذاب المخلّد وبدّلوا فطرةَ الله تبديلاً { فَأَلْقَوُاْ السلم } أي فيُلقون ، والعدولُ إلى صيغة الماضي للدِلالة على تحقق الوقوعِ وهو عطفٌ على قوله تعالى : { وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِىَ } وما بينهما جملةٌ اعتراضية جيء بها تحقيقاً لما حاق بهم من الخزي على رؤوس الأشهادِ ، أي فيُسالمون ويتركون المُشاقّةَ وينزِلون عما كانوا عليه في الدنيا من الكِبْر وشدةِ الشكيمة قائلين : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ } في الدنيا { مِن سُوء } أي من شرك ، قالوه منكِرين لصدوره عنهم كقولهم : { والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } وإنما عبروا عنه بالسوء اعترافاً بكونه سيئاً لا إنكاراً لكونه كذلك مع الاعتراف بصدوره عنهم ، ويجوز أن يكون تفسيراً للسَّلَم على أن يكون المرادُ به الكلامَ الدالَّ عليه ، وعلى التقديرين فهو جوابٌ عن قوله سبحانه : { أَيْنَ شُرَكَائِىَ } كما في سورة الأنعام لا عن قول أولي العلمِ ادعاءً لعدم استحقاقهم لما دهمهم من الخزي والسوء { بلى } رد عليهم من قِبل أولي العلم وإثباتٌ لما نفَوْه أي بلى كنتم تعملون ما تعملون { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فهو يجازيكم عليه وهذا أوانُه .
{ فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ } أي كلُّ صنف من بابه المعدِّ له ، وقيل : أبوابُها أصنافُ عذابها فالدخولُ عبارةٌ عن الملابسة والمقاساة { خالدين فِيهَا } إن أريد بالدخول حدوثُه فالحال مقدّرة ، وإن أريد مطلقُ الكون فيها فهي مقارِنة { فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين } عن التوحيد كما قال تعالى : { قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } وذكرُهم بعنوان التكبر للإشعار بعلّيته لثُوائهم فيها ، والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي جهنم وتأويلُ قولهم : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء } بأنا ما كنا عاملين ذلك في اعتقادنا رَوْماً للمحافظة على أن لا كذِبَ ثمة يرده الردُّ المذكور وما في سورة الأنعام من قوله تعالى : { انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ . }(4/113)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
{ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا } أي المؤمنين ، وُصفوا بالتقوى إشعاراً بأن ما صدر عنهم من الجواب ناشىءٌ عن التقوى { مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا } سلكوا في الجواب مسلك السؤالِ من غير تلعثم ولا تغييرٍ في الصورة ، والمعنى أي أنزل خيراً فإنه جوابٌ مطابق للسؤال ولسبك الواقع في نفس الأمر مضموناً ، وأما الكفرةُ فإنهم خذلهم الله تعالى كما غيروا الجوابَ عن نهج الحق الواقعِ الذي ليس له من دافع غيّروا صورتَه وعدَلوا بها عن سَنن السؤال حيث رفعوا الأساطير رَوماً لما مر من إنكار النزول . رُوي أن أحياءَ العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي عليه السلام ، فإذا جاء الوافد كفّه المقتسمون وأمروه بالانصراف وقالوا : إن لم تلْقَه كان خيراً لك ، فيقول : أنا شرُّ وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أستطلع أمرَ محمد وأراه فيلقى أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم فيخبرونه بحقيقة الحالِ فهم الذين قالوا خيراً { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } أي أعمالَهم أو فعلوا الإحسانَ { فِى هذه } الدار { الدنيا حَسَنَةٌ } أي مثوبةٌ حسنةٌ مكافأة فيها { وَلَدَارُ الاخرة } أي مثوبتُهم فيها { خَيْرٌ } مما أوتوا في الدنيا من المثوبة أو خيرٌ على الإطلاق فيجوز إسنادُ الخيرية إلى نفس دارِ الآخرة { وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين } أي دار الآخرة ، حذف لدلالة ما سبق عليه وهذا كلام مبتدأ مدَح الله تعالى به المتقين وعدّ جوابَهم المَحْكيَّ من جملة إحسانِهم ووعدهم بذلك ثوابي الدنيا والآخرة فلا محل له من الإعراب ، أو بدلٌ من خيراً أو تفسير له أي أنزل خيراً هو هذا الكلامُ الجامعُ ، قالوه ترغيباً للسائل .
{ جنات عَدْنٍ } خبرُ مبتدإٍ محذوف أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ أي لهم جنات ، ويجوز أن يكون هو المخصوصَ بالمدح { يَدْخُلُونَهَا } صفةٌ لجناتُ على تقدير تنكيرِ عدنٍ وكذلك { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار } أو كلاهما حال على تقدير عَلَميته { لَّهُمْ فِيهَا } في تلك الجنات { مَا يَشَاءونَ } الظرفُ الأول خبرٌ لما والثاني حالٌ منه والعاملُ ما في الأول ، أو متعلق به أي حاصلٌ لهم فيها ما يشاءون من أنواع المشتَهيات ، وتقديمُه للاحتراز عن توهم تعلّقِه بالمشيئة أو لما مر مراراً من أن تأخيرَ ما حقُّه التقديمُ يوجب ترقبَ النفسِ إليه فيتمكن عند ورودِه عليها فضلَ تمكن { كذلك } مثلَ ذلك الجزاءِ الأوفى { يَجْزِى الله المتقين } اللام للجنس أي كلَّ من يتقي من الشِرْك والمعاصي ويدخُل فيه المتقون المذكورون دخولاً أولياً ، ويكون فيه بعثٌ لغيرهم على التقوى أو للعهد فيكون فيه تحسيرٌ للكفرة .
{ الذين تتوفاهم الملائكة } نعت للمتقين وقوله تعالى : { طَيّبِينَ } أي طاهرين عن دنس الظلمِ لأنفسهم حال من الضمير ، وفائدتُه الإيذانُ بأن مَلاكَ الأمر في التقوى هو الطهارةُ عما ذكر إلى وقت توفيهم ففيه حثٌّ للمؤمنين على الاستمرار على ذلك ، ولغيرهم على تحصيله ، وقيل : فرحين طيِّبي النفوسِ ببشارة الملائكة إياهم بالجنة أو طيبين بقبض أرواحِهم لتوجه نفوسِهم بالكلية إلى جناب القُدس { يَقُولُونَ } حالٌ من الملائكة أو قائلين لهم : { سلام عَلَيْكُمُ } قال القُرَظِيّ رحمه الله : إذا استُدْعيَت نفسُ المؤمن جاءه ملكُ الموت عليه السلام ، فقال : السلام عليك يا وليَّ الله ، الله تعالى يقرأ عليك السلام ، وبشّره بالجنة .(4/114)
{ ادخلوا الجنة } اللام للعهد أي جناتِ عدن الخ ، ولذلك جُرّدت عن النعت ، والمرادُ دخولُهم لها في وقته فإن ذلك بشارةٌ عظيمة وإن تراخى المبشَّرُ به لا دخولُ القبر الذي هو روضةٌ من رياضها إذ ليس في البِشارة به ما في البشارة بدخول نفسِ الجنة { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } بسبب ثباتِكم على التقوى والطاعة أو بالذي كنتم تعملونه من ذلك ، وقيل : المرادُ بالتوفّي التوفي للحشر ، لأن الأمر بالدخول حينئذ يتحقق .(4/115)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
{ هَلْ يَنظُرُونَ } أي ما ينتظر كفارُ مكةَ المارُّ ذكرُهم { إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة } لقبض أرواحِهم بالعذاب ، جُعلوا منتظرين لذلك وشتان بينهم وبين انتظارِه لا لأنه يلحقهم البتةَ لحوقُ الأمر المنتظرِ بل لمباشرتهم لأسبابه الموجبةِ له المؤديةِ إليه ، فكأنهم يقصِدون إتيانَه ويترصّدون لوروده ، وقرىء بتذكير الفعل { أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ } التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام إشعارٌ بأن إتيانَه لطفٌ به عليه الصلاة والسلام وإن كان عذاباً عليهم ، والمرادُ بالأمر العذابُ الدنيويُّ لا القيامةُ ، لكن لا لأن انتظارَها بجامع انتظارِ إتيان الملائكةِ فلا يلائمة العطفُ بأو لأنها ليست نصًّا في العناد إذ يجوز أن يعتبر منعُ الخلوّ ويرادَ بإيرادها كفايةُ كل واحد من الأمرين في عذابهم بل لأن قوله تعالى فيما سيأتي : { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } الآية ، صريحٌ في أن المراد به ما أصابهم من العذاب الدنيوي { كذلك } أي مثلَ فعلِ هؤلاء من الشرك والظلمِ والتكذيب والاستهزاء { فَعَلَ الذين } خلَوا { مِن قَبْلِهِمُ } من الأمم { وَمَا ظَلَمَهُمُ الله } بما سيُتلى من عذابهم { ولكن كَانُواْ } بما كانوا مستمرين عليه من القبائح الموجبةِ لذلك { أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } كان الظاهرُ أن يقال : ولكن كانوا هم الظالمين كما في سورة الزخرف لكنه أوثر ما عليه النظمُ الكريم لإفادة أن غائلةَ ظلمِهم آيلةٌ إليهم وعاقبتَه مقصورةٌ عليهم مع استلزام اقتصارِ ظلمِ كل أحد على نفسه من حيث الوقوعُ اقتصارَه عليه من حيث الصدور وقد مر تحقيقُه في سورة يونس .
{ فَأَصَابَهُمْ } عطف على قوله تعالى : { فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } وما بينهما اعتراضٌ لبيان أن فعلَهم على ذلك ظلمٌ لأنفسهم { سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } أي أجزيةُ أعمالِهم السيئة على طريقة تسمية المسبَّب باسم سببِه إيذاناً لفظاعته لا على حذف المضاف فإنه يوهم أن لهم أعمالاً غيرَ سيئاتهم { وَحَاقَ بِهِم } أي أحاط بهم من الحَيق الذي هو إحاطةُ الشر ، وهو أبلغ من الإصابة وأفظع { مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } من العذاب .(4/116)
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)
{ وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ } أي أهلُ مكة ، وهو بيانٌ لفن آخرَ من كفرهم والعدولُ عن الإضمار إلى الموصول لتقريعهم بما في حيز الصلة وذمِّهم بذلك من أول الأمر { لَوْ شَآء الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء } أي لو شاء عدم عبادتِنا لشيء غيرِه كما تقول لما عبدنا ذلك { نَّحْنُ وَلا ءابَاؤُنَا } الذين نقتدي بهم في ديننا { وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء } من السوائب والبحائرِ وغيرِها ، وإنما قالوا ذلك تكذيباً للرسول عليه الصلاة والسلام وطعناً في الرسالة رأساً متمسكين بأن ما شاء الله تعالى يجب وما لم يشأْ يمتنع ، فلو أنه شاء أن نوحّده ولا نشرِكَ به شيئاً ولا نحرِّمَ مما حرمنا شيئاً كما يقول الرسلُ وينقُلونه من جهة الله عز وجل لكان الأمرُ كما شاء من التوحيد ونفي الإشراكِ وما يتبعهما ، وحيث لم يكن كذلك ثبت أنه لم يشأ شيئاً من ذلك ، وإنما يقوله الرسل من تلقاء أنفسهم فأجيب عنه بقوله عز وجل : { كذلك } أي مثلَ ذلك الفعلِ الشنيع { فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } من الأمم ، أي أشركوا بالله وحرموا حِلَّه وردوا رسلَه وجادلوهم بالباطل حين نبهوهم على الخطأ وهدوهم إلى الحق .
{ فَهَلْ عَلَى الرسل } الذين يبلغون رسالاتِ الله وعزائمَ أمره ونهيِه { إِلاَّ البلاغ المبين } أي ليست وظيفتُهم إلا تبليغَ الرسالة تبليغاً واضحاً أو موضَّحاً وإبانةً طريقَ الحق وإظهارَ أحكام الوحي التي من جملتها تحتّمُ تعلقِ مشيئةِ الله تعالى باهتداء مَنْ صَرَف قدرتَه واختيارَه إلى تحصيل الحق لقوله تعالى : { والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } وأما إلجاؤهم إلى ذلك وتنفيذُ قولِهم عليهم شاءوا أو أبَوا كما هو مقتضى استدلالِهم ، فليس ذلك من وظيفتهم ولا من الحكمة التي عليها يدور أمرُ التكليفِ في شيء حتى يُستدلَّ بعدم ظهور آثارِه على عدم حقّية الرسلِ أو على عدم تعلقِ مشيئتِه تعالى بذلك ، فإن ما يترتب عليه الثوابُ والعقابُ من أفعال العباد لا بد في تعلق مشيئتِه تعالى بوقوعه من مباشرتهم الاختياريةِ له وصرفِ اختيارِهم الجزئيِّ إلى تحصيله وإلا لكان الثواب والعقاب اضطراريَّيْن ، فالفاءُ للتعليل كأنه قيل : كذلك فعل أسلافهم وذلك باطل فإن الرسلَ ليس شأنُهم إلا تبليغَ أوامرِ الله تعالى ونواهيه لا تحقيقَ مضمونِهما وإجراءَ موجبهما على الناس قسراً وإلجاءً ، وإيرادُ كلمة ( على ) للإيذان بأنهم في ذلك مأمورون أو بأن ما يبلغونه حقٌّ للناس عليهم وإيفاؤُه . بهذا ظهر أن حملَ قولِهم : { لَوْ شَاء الله } الخ ، على الاستهزاء لا يلائم الجواب والله تعالى أعلم بالصواب .
{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً } تحقيقٌ لكيفية تعلقِ مشيئتِه تعالى بأفعال العبادِ بعد بيانِ أن الإلجاءَ ليس من وظائف الرسالةِ ولا من باب المشيئةِ المتعلقةِ بما يدور عليه الثوابُ والعقاب من الأفعال الاختياريةِ لهم ، أي بعثنا في كل أمة من الأمم الخالية رسولاً خاصاً بهم { أَنِ اعبدوا الله } يجوز أن تكون ( أن ) مفسرةً لما في البعث من معنى القول وأن تكون مصدريةً ، أي بعثنا بأن اعبدوا الله وحده { واجتنبوا الطاغوت } هو الشيطانُ وكلُّ ما يدعو إلى الضلالة { فَمِنْهُمْ } أي من تلك الأمم ، والفاء فصيحة ، أي فبلَّغوا ما بُعثوا به من الأمر بعبادة الله وحده واجتنابِ الطاغوت فتفرقوا فمنهم { مَّنْ هَدَى الله } إلى الحق الذي هو عبادتُه واجتنابُ الطاغوت بعد صَرْفِ قدرتهم واختيارِهم الجزئيّ إلى تحصيله { وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة } أي وجبت وثبتت إلى حين الموت لعِناده وإصرارِه عليها وعدمِ صرفِ قدرته إلى تحصيل الحق ، وتغيير الأسلوبِ للإشعار بأن ذلك لسوء اختيارِهم كقوله تعالى :(4/117)
{ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } فلم يكن كلٌّ من مشيئة الهدايةِ وعدمِها إلا حسبما حصل منهم من التوجهُ إلى الحق وعدمِه ، لا بطريق القسرِ والإلجاءِ حتى يُستدلَ بعدمهما على عدم تعلقِ مشيئتِه تعالى بعبادتهم له تعالى وحده { فَسِيرُواْ } يا معشرَ قريش { فِى الارض فانظروا } في أكنافها { كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين } من عاد وثمودَ ومن سار سيرتَهم ممن حقت عليهم الضلالةُ لعلكم تَعتبرون حين تشاهدون في منازلهم وديارهم آثارَ الهلاك والعذابِ . وترتيبُ الأمرِ بالسير على مجرد الإخبارِ بثبوت الضلالةِ عليهم من غير إخبارٍ بحلول العذابِ للإيذان بأنه غنيٌّ عن البيان وأنْ ليس الخبرُ كالعِيان ، وترتيبُ النظر على السير لما أنه بعده وأن مَلاك الأمر في تلك العاقبة هو التكذيبُ والتعلّلُ بأنه لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء .(4/118)
إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)
{ إِن تَحْرِصْ } خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقرىء بفتح الراء وهي لغة { على هُدَاهُمْ } أي إن تطلب هدايتَهم بجهدك { فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ } أي فاعلم أنه تعالى لا يخلق الهدايةَ جبراً وقسراً فيمن يخلق فيه الضلالةَ بسوء اختيارِه ، والمرادُ به قريش ، وإنما وضع الموصولُ موضعَ الضمير للتنصيص على أنهم ممن حقت عليه الضلالةُ وللإشعار بعلة الحكم ، ويجوز أن يكون المذكورُ علةً للجزاء المحذوف ، أي إن تحرص على هداهم فلست بقادر على ذلك لأن الله لا يهدي من يُضله وهؤلاء من جملتهم ، وقرىء لا يهدى على بناء المفعول أي لا يقدر أحدٌ على هداية من يضله الله تعالى ، وقرىء لا يهَدّي بفتح الهاء وإدغام تاء يهتدي في الدال ، ويجوز أن يكون يهدي بمعنى يهتدي ، وقرىء يُضل بفتح الياء ، وقرىء لا هاديَ لمن يُضِل ولمن أضل { وَمَا لَهُم مّن ناصرين } ينصرونهم في الهداية أو يدفعون العذابَ عنهم ، وصيغة الجمع في الناصرين باعتبار الجمعية في الضمير فإن مقابلةَ الجمعِ بالجمع يقتضي انقسامَ الآحادِ إلى الآحاد لا لأن المرادَ نفيُ طائفةٍ من الناصرين من كل منهم .
{ وَأَقْسَمُواْ بالله } شروع في بيان فن آخرَ من أباطيلهم وهو إنكارُ البعث { جَهْدَ أيمانهم } مصدرٌ في موقع الحال أي جاهدين في أيمانهم { لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ } ولقد رد الله تعالى عليهم أبلغَ ردَ بقوله الحق { بلى } أي بلى يبعثهم { وَعْداً } مصدر مؤكد لما دل عليه بلى ، فإن ذلك موعدٌ من الله سبحانه ، أو المحذوفِ ، أو وعَد بذلك وعداً { عَلَيْهِ } صفة لوعداً أي وعداً ثابتاً عليه إنجازُه لامتناع الخُلفِ في وعده ، أو لأن البعثَ من مقتضيات الحِكمة { حَقّاً } صفةٌ أخرى له أو نصبٌ على المصدرية أي حقَّ حقاً { ولكن أَكْثَرَ الناس } لجهلهم بشؤون الله عز شأنه من العلم والقدرةِ والحكمة وغيرِها من صفات الكمالِ ، وبما يجوز عليه وما لا يجوز وعدمِ وقوفِهم على سرّ التكوين والغايةِ القصوى منه ، وعلى أن البعثَ مما يقتضيه الحكمةُ التي جرت عادتُه سبحانه بمراعاتها { لاَّ يَعْلَمُونَ } أنه يبعثهم فيِبْنون القولَ بعدمه أو أنه وعدٌ عليه حق فيكذبونه قائلين : { لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا هذا مِن قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين }(4/119)
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
{ لِيُبَيّنَ لَهُمُ } غايةٌ لما دل عليه بلى من البعث ، والضمير لمن يموت إذ التبيينُ يعم المؤمنين أيضاً فإنهم وإن كانوا عالمين بذلك لأنه عند معاينةِ حقيقةِ الحال يتضح الأمرُ فيصل علمُهم إلى مرتبة عينِ اليقين ، أي يبعثهم ليبينَ لهم بذلك وبما يحصُل لهم من مشاهدة الأحوالِ كما هي ومعاينتِها بصورها الحقيقيةِ الشأن { الذى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ } من الحق المنتظمِ لجميع ما خالفوه مما جاء به الشرعُ المبين ويدخل فيه البعثُ دخولاً أولياً { وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ } بالله سبحانه بالإشراك وإنكارِ البعث وتكذيبِ وعده الحق { أَنَّهُمْ كَانُواْ كاذبين } في كل ما يقولون لا سيما في قولهم : لا يبعث الله من يموت ، والتعبيرُ عن الحق بالموصول للدِلالة على فخامته وللإشعار بعلية ما ذكر في حيز الصلةِ للتبيين وما عُطف عليه وما جعلهما غاية للبعث المشار إليه باعتبار ورودِه في معرِض الردّ على المخالفين ، وإبطال مقالةِ المعاندين المستدعي للتعرض لما يردعهم عن المخالفة ويُلجِئهم إلى الإذعان للحق ، فإن الكفرة إذا علِموا أن تحقيقَ البعث إذا كان لتبيين أنه حق وليعلموا أنهم كانوا كاذبين في إنكاره كان ذلك أزجرَ لهم عن إنكاره وأدعى إلى الاعتراف به ضرورة أنه يدل على صدق العزيمةِ على تحقيقه كما تقول لمن ينكر أنك تصلّي : لأصَلينّ رغماً لأنفك وإظهاراً لكذبك ، ولأن تكررَ الغايات أدلُّ على وقوع الفعل المُغيّا بها وإلا فالغايةُ الأصلية للبعث باعتباره ذاتَه إنما هو الجزاءُ الذي هو الغايةُ القصوى للخلق المُغيّا بمعرفته عز وجل وعبادته ، وإنما لم يُذكر ذلك لتكرر ذكرِه في مواضعَ أُخَرَ وشهرتِه ، وإنما لم يُدرَج علمُ الكفار بكذبهم تحت التبيين بأن يقال : وإن الذين كفروا كانوا كاذبين ، بل جيء بصيغة العلم لأن ذلك ليس مما تعلق به التبيينُ الذي هو عبارةٌ عن إظهار ما كان مُبهماً قبل ذلك بأن يخبرَ به فيُختلفَ فيه ، كالبعث الذي نطق به القرآن فاختلف فيه المختلفون ، وأما كذِبُ الكافرين فليس من هذا القبيل فما يتعلق به علمٌ ضروريٌّ حاصل هلم من قِبل أنفسِهم ، وقد مر تحقيقُه في سورة التوبة عند قوله تعالى : { حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ } وإنما خُص الإسنادُ بهم حيث لم يقل : وليعلموا أن الكافرين الآية ، لأن علمَ المؤمنين بذلك حاصل قبل ذلك أيضاً .
{ إِنَّمَا قَوْلُنَا } استئناف لبيان كيفية التكوينِ على الإطلاق إبداءً وإعادةً بعد التنبيهِ على آنية البعثِ ، ومنه يظهر كيفيتُه ، فما كافةٌ وقولُنا مبتدأ وقوله : { لِشَىْء } أي أيِّ شيءٍ كان مما عز وهان متعلقٌ به ، على أن اللامَ للتبليغ كهي في قولك : قلت له قم فقام ، وجعلها الزجاجُ سببيةً أي لأجل شيءٍ وليس بواضح ، والتعبيرُ عنه بذلك باعتبار وجودِه عند تعلق مشيئتِه تعالى به لا أنه كان شيئاً قبل ذلك { إِذَا أَرَدْنَاهُ } ظرفٌ لقولنا أي وقت إرادتِنا لوجوده { أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ } خبر للمبتدأ { فَيَكُونُ } إما عطفٌ على مقدر يُفصِحُ عنه الفاء وينسحب عليه الكلام ، أي فنقول ذلك فيكون كقوله تعالى :(4/120)
{ فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ } وإما جوابٌ لشرط محذوف أي فإذا قلنا ذلك فهو يكون ، وليس هناك قولٌ ولا مقولٌ له ولا أمرٌ ولا مأمورٌ حتى يقال إنه يلزم منه أحدُ المُحالين إما خطابُ المعدومِ أو تحصيلُ الحاصل ، أو يقال إنما يستدعيه انحصار قوله تعالى : { كُنَّ } وليس يلزم منه انحصارُ أسباب التكوين فيه كما يفيده قوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } فإن المرادَ بالأمر هو الشأنُ الشاملُ للقول والفعل ومن ضرورة انحصارِه في كلمة كن انحصارُ أسبابه على الإطلاق فيه بل إنما هو تمثيلٌ لسهولة تأتّي المقدورات حسب تعلقِ مشيئتِه تعالى بها وتصويرٌ لسرعة حدوثِها بما هو عَلَمٌ في ذلك من طاعة المأمورِ المطيعِ لأمر الآمر المُطاع ، فالمعنى إنما إيجادُنا لشيء عند تعليق مشيئتِنا به أن نوجدَه في أسرع ما يكون ، ولمّا عنه بالأمر الذي هو قولٌ مخصوصٌ وجب أن يُعبّر عن مطلق الإيجادِ بالقول المطلقِ فتأمل ، وفي الآية الكريمة من الفخامة والجزالةِ ما يحار فيه العقولُ والألباب ، وقرىء بنصب يكون عطفاً على نقول أو تشبيهاً له بجواب الأمر .(4/121)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
{ والذين هاجروا فِى الله } أي في شأن الله تعالى ورِضاه وفي حقه ولوجهه { مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } ولعلهم الذين ظلمهم أهلُ مكة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجوهم من ديارهم فهاجروا إلى الحبشة ثم بوّأهم الله تعالى المدينةَ حسبما وعد بقوله سبحانه : { لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى الدنيا حَسَنَة } أي مَباءةً حسنةً أو تبوئةً حسنة كما قال قتادة وهو الأنسبُ بما هو المشهورُ من كون السورةِ غيرَ ثلاثِ آياتٍ من آخرها مكيةً . وأما ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما من أنها نزلت في صهيبٍ وبلالٍ وعمارٍ وخبابٍ وعابس وجُبير وأبي جندل بن سهيل ، أخذهم المشركون فجعلوا يعذّبونهم ليردوهم عن الإسلام ، فأما صهيبٌ فقال لهم : أنا رجلٌ كبير إن كنت معكم لم أنفعْكم وإن كنت عليكم لم أضرَّكم ، فافتدى منهم بماله وهاجر فلما رآه أبو بكر رضي الله عنه قال : ربح البيعُ يا صهيب ، وقال عمر رضي الله عنه : « نعم العبدُ صُهيب لو لم يخِفِ الله لم يَعْصِهِ » فإنما يناسب ما حُكي عن الأصم من كون كل السورةِ مدنيةً ، وما نقل عن قتادةَ من كون هذه الآية إلى آخر السورةِ مدنيةً فيُحمل ما نقلناه عنه من نزول الآيةِ في أصحاب الهجرتين على أن يكون نزولُها بالمدينة بين الهجرتين ، وأما جعلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من جملتهم فلا يساعده نظمُ التنزيلِ ولا شأنُه الجليل ، وقرىء لنُثْوِينّهم ومعناه إثواءةً حسنةً أو لنُنزّلنهم في الدنيا منزلة حسنة وهي الغَلبةُ على من ظلمهم من أهل مكةَ وعلى العرب قاطبةً وأهلِ الشرقِ والغربِ كافة { وَلاَجْرُ الاخرة } أي أجرُ أعمالِهم المذكورةِ في الآخرة { أَكْبَرَ } مما يعجّل لهم في الدنيا ، وعن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا أعطى رجلاً من المهاجرين عطاءً قال له : خُذ بارك الله تعالى لك فيه ، هذا ما وعدك الله تعالى في الدنيا وما ادّخر في الآخرة أفضلُ { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } الضمير للكفار أي لو علموا أن الله تعالى يجمع لهؤلاء المهاجرين خيرَ الدارين لوافقوهم في الدين ، وقيل : للمهاجرين أي لو علموا ذلك لزادوا فى الاجتهاد أو لَما تألموا لما أصابهم من المهاجَرة وشدائدِها .(4/122)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
{ الذين صَبَرُواْ } على الشدائد من أذية الكفار ومفارقةِ الأهل والوطن وغيرِ ذلك ، ومحلُّه النصبُ أو الرفع على المدح { وعلى رَبّهِمْ } خاصة { يَتَوَكَّلُونَ } منقطعين إليه تعالى معرِضين عما سواه مفوِّضين إليه الأمرَ كلَّه ، والجملةُ إما معطوفةٌ على الصلة وتقديمُ الجار والمجرور للدِلالة على قصر التوكلِ على الله تعالى وصيغةُ الاستقبال للدلالة على دوام التوكل . أو حالٌ من ضمير صبروا .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ } وقرىء بالياء مبنياً للمفعول وهو ردٌّ لقريش حين قالوا : الله أجلُّ من أن يكون له رسولٌ من البشر ، كما هو مبنى قولِهم : { لَوْ شَآء الله مَا عَبَدْنَا } الخ ، أي جرت السنةُ الإلهية حسبما اقتضتْه الحكمةُ بأن لا يَبعَثَ للدعوة العامة إلا بشراً يوحي إليهم بواسطة الملَك أوامرَه ونواهيَه ليبلّغوها الناس . ولما كان المقصودُ من الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تنبيهَ الكفار على مضمونه صُرف الخطاب إليهم فقيل : { فاسألوا أَهْلَ الذكر } أي أهلَ الكتاب أو علماءَ الأخبار أو كلَّ من يُذكرُ بعلم وتحقيقٍ ليعلّموكم ذلك { إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } حُذف جوابُه لدِلالة ما قبله عليه ، وفيه دَلالةٌ على أنه لم يُرسِلْ للدعوة العامة ملَكاً ، وقولُه تعالى : { جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً } معناه رسلاً إلى الملائكة أو إلى الرسل ، ولا امرأةً ولا صبياً ، ولا ينافيه نبوةُ عيسى عليه الصلاة والسلام وهو في المهْد لأنها أعمُّ من الرسالة ، وإشارةٌ إلى وجوب المراجعة إلى العلماء فيما لا يُعلم .
{ بالبينات والزبر } بالمعجزات والكتبِ ، والباءُ متعلقةٌ بمقدر وقع جواباً عن سؤال من قال : بمَ أُرسلوا؟ فقيل : أرسلوا بالبينات والزبر ، أو بما أرسلنا داخلاً تحت الاستثناء مع رجالاً عند من يجوّزه ، أي ما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات كقولك : ما ضربت إلا زيداً بالسوط ، أو على نية التقديمِ قبل أداة الاستثناءِ أي ما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالاً عند من يجوّز تأخرَ صلةِ ما قبل إلا إلى ما بعده ، أو ما وقع صفةً للمستثنى أي إلا رجالاً ملتبسين بالبينات أو بنوحي على المفعولية أو الحالية من القائم مقامَ فاعل يوحى وهو إليهم على أن قوله تعالى : { فاسألوا } اعتراضٌ أو بقوله { لاَ تَعْلَمُونَ } على أن الشرطَ للتبكيت كقول الأجير : إن كنت عمِلْتُ لك فأعطِني حقي .
{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر } أي القرآنَ ، وإنما سُمّي به لأنه تذكيرٌ وتنبيهٌ للغافلين { لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ } كافةً ويدخل فيهم أهلُ مكة دخولاً أولياً { مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ } في ذلك الذكرِ من الأحكام والشرائعِ وغير ذلك من أحوال القرونِ المهلَكة بأفانين العذابِ حسب أعمالِهم الموجبةِ لذلك على وجه التفصيلِ بياناً شافياً ، كما ينبىء عنه صيغةُ التفعيل في الفعلين لا سيما بعد ورودِ الثاني أو لا على صيغة الإفعالِ ، ولِما أن التبيينَ أعمُّ من التصريح بالمقصود ومن الإرشاد إلى ما يدل عليه دخل تحته القياسُ على الإطلاق سواءٌ كان في الأحكام الشرعية أو غيرِها ، ولعل قوله عز وجل : { وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } إشارةٌ إلى ذلك أي إرادةَ أن يتأملوا فيتنبّهوا للحقائق وما فيه من العبر ، ويحترزوا عما يؤدي إلى مثل ما أصاب الأولين من العذاب .(4/123)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
{ أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات } هم أهلُ مكةَ الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وراموا صدَّ أصحابِه عن الإيمان عليهم الرضوان ، لا الذين احتالوا لهلاك الأنبياءِ كما قيل ولا من يعُمّ الفريقين لِما أن المرادَ تحذيرُ هؤلاء عن إصابة مثلِ ما أصاب أولئك من فنون العذابِ المعدودة ، والسيئاتِ نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي مكروا المكَراتِ السيئاتِ التي قصت عنهم ، أو مفعولٌ به للفعل المذكور على تضمينه معنى العمل أي عمِلوا السيئاتِ ، فقوله تعالى : { أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الارض } مفعولٌ لأمِن أو السيئاتِ صفةٌ لما هو المفعولُ أي أفأمن الماكرون العقوباتِ السيئةَ ، وقوله : أن يخسف الخ ، بدلٌ من ذلك وعلى كل حال فالفاءُ للعطف على مقدر ينسحب عليه النظمُ الكريم أي أنزلنا إليك الذكرَ لتبين لهم مضمونَه الذي من جملته إنباءُ الأممِ المهلَكة بفنون العذاب ويتفكروا في ذلك ، ألم يتفكروا فأمن الذين مكروا السيئاتِ أن يخسف الله بهم الأرضَ كما فعل بقارون ، على توجيه الإنكارِ إلى المعطوفين معاً ، أو أتفكروا فأمِنوا على توجيهه إلى المعطوف على أن الأمنَ بعد التفكرِ مما لا يكاد يفعله أحد ، وقيل : هو عطفٌ على مقدر ينبىء عنه الصلةُ أي أَمُكِر فأمن الذين مكروا الخ { أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } بإتيانه أي في حالة غفلتِهم أو من مأمنهم أو من حيث يرجون إتيانَ ما يشتهون كما حُكي فيما سلف مما نزل بالماكرين .
{ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ } أي في حالة تقلُّبهم في مسائرهم ومتاجرهم ، { فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ } بممتنعين أو فائتين بالهرب والفِرار على ما يوهمه حالُ التقلب والسير ، والفاءُ إما لتعليل الأخذِ أو لترتيب عدمِ الإعجاز عليه دلالةً على شدته وفظاعته حسبما قال عليه السلام : « إن الله ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلته » وإيرادُ الجملة الاسميةِ للدلالة على دوام النفي لا نفْيِ الدوام .
{ أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ } أي مخافةٍ وحذرٍ عن الهلاك والعذاب بأن يُهلك قوماً قبلهم فيتخوّفوا فيأخذَهم العذابُ وهم متخوّفون ، وحيث كانت حالتا التقلّبِ والتخوّف مَظِنةً للهرب عُبّر عن إصابة العذابِ فيهما بالأخذ وعن إصابته حالةَ الغفلة المنبئةِ عن السكون بالإتيان ، وقيل : التخوّفُ التنقّص ، قال قائلهم
تخوّفَ الرحلُ منها تامكاً قردا ... كما تخوّفَ عودَ النبعة السفن
أي يأخذُهم على أن يَنْقُصَهم شيئاً بعد شيءٍ في أنفسهم وأموالِهم حتى يهلِكوا ، والمرادُ بذكر الأحوال الثلاثِ بيانُ قدرة الله سبحانه على إهلاكهم بأي وجهٍ كان لا الحصرُ فيها { فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } حيث لا يعاجلكم بالعقوبة ويحلُم عنكم مع استحقاقكم لها .(4/124)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ } استفهامٌ إنكاريّ ، وقرىء على صيغة الخِطاب والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقامُ أي ألم ينظروا ولم يرَوا متوجهين { إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَىْء } أي من كل شيء { يَتَفَيَّأُ ظلاله } أي يرجِع شيئاً فشيئاً حسبما يقتضيه إرادةُ الخالق تعالى ، فإن التفيّؤَ مطاوِعُ الإفاءةِ ، وقرىء بتأنيث الفعل { عَنِ اليمين والشمآئل } أي ألم يرَوا الأشياءَ التي لها ظلالٌ متفيِّئةٌ عن أيْمانها وشمائلِها أي عن جانبي كل واحد منها ، استُعير لهما ذلك من يمين الإنسانِ وشمالِه { سُجَّدًا لِلَّهِ } حالٌ من الظلال كقوله تعالى : { وظلالهم بالغدو والاصال } والمرادُ بسجودها تصرّفُها على مشيئة الله وتأتّيها لإرادته تعالى في الامتداد والتقلصِ وغيرِهما غيرَ ممتنعةٍ عليه فيما سخرها له ، وقوله تعالى : { وَهُمْ داخرون } أي صاغرون منقادون ، حال من الضمير في ظلاله والجمعُ باعتبار المعنى وإيرادُ الصيغةِ الخاصة بالعقلاء لما أن الدخورَ من خصائصهم ، والمعنى ترجِع الظلالُ من جانب إلى جانب بارتفاع الشمس وانحدارِها أو باختلاف مشارقِها ومغاربها فإنها كلَّ يوم من أيام السنة تتحرك على مدار معينٍ من المدارات اليومية بتقدير العزيزِ العليم ، منقادةٌ لما قُدّر لها من التفيّؤ أو واقعةٌ على الأرض ملتصقةٌ بها على هيئة الساجد ، والحالُ أن أصحابها من الأجرام داخرةٌ منقادةٌ لحكمه تعالى ، ووصفُها بالدخور مغنٍ عن وصف ظلالِها به ، وكلاهما حالٌ من الضمير المشار إليه ، والمعنى ترجع ظلالُ تلك الأجرامِ حالَ كونها منقادةً لله تعالى داخرةً ، فوصفُها بهما مغنٍ عن وصف ظلالِها بهما ، ولعل المرادَ بالموصول الجماداتُ من الجبال والأشجارِ والأحجارِ التي لا يظهر لظلالها أثرٌ سوى التفيّؤِ بما ذُكر من ارتفاع الشمسِ وانحدارِها أو اختلافِ مشارقها ومغاربها ، وأما الحيوانُ فظلُّه يتحرك بتحركه ، وقيل : المرادُ باليمين والشمائل يمينُ الفَلكِ وهو جانبُه الشرقيُّ لأن الكواكبَ منه تظهر آخذةً في الارتفاع والسطوعِ ، وشمالُه وهو جانبُه الغربيُّ المقابل له فإن الظلال في أول النهار تبتدىء من الشرق واقعةً على الرُّبع الغربي من الأرض ، وعند الزوالِ تبتدىء من الغرب واقعةً على الربع الشرقي منها ، وبعد ما بُيّن سجودُ الظلالِ وأصحابِها من الأجرام السفلية الثابتة في أخبارها ودخورُها له سبحانه وتعالى شُرع في بيان سجودِ المخلوقات المتحركة بالإرادة سواء كانت لها ظلال أو لا فقيل :
{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ } أي له تعالى وحده يخضع وينقاد لا لشيء غيرِه استقلالاً أو اشتراكاً ، فالقصرُ ينتظم القلبَ والإفراد إلا أن الأنسب بحال المخاطبين قصرُ الإفراد كما يؤذن به قوله تعالى : { وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين } { مَا فِي السموات } قاطبة { وَمَا فِى الأرض } كائناً ما كان { مِن دَابَّةٍ } بيانٌ لما في الأرض ، وتقديمُه لقلته ولئلا يقعَ بين المبين والمبين فصلٌ ، والإفرادُ مع أن المرادَ الجمعُ لإفادة وضوحِ شمولِ السجود لكل فرد من الدواب .(4/125)
قال الأخفش : هو كقولك : « ما أَتَانِي من رَجُلٍ مثلِه وما أتاني من الرجال مثلُه » { والملئكة } عطف على ما في السموات عطفَ جبريلَ على الملائكة تعظيماً وإجلالاً ، أو على أن يراد بما في السموات الخلْقُ الذي يقال له الروح ، أو يراد به ملائكةُ السموات ، وبقوله : والملائكةُ ملائكةُ الأرض من الحفَظة وغيرِهم { وَهُمْ } أي الملائكةُ مع علو شأنِهم { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } عن عبادته عز وجل والسجود له ، وتقديمُ الضمير ليس للقصر ، والجملةُ إما حالٌ من ضمير الفاعل في يسجد مسندٌ إلى الملائكة أو استئنافٌ أخبر عنهم بذلك .(4/126)
يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
{ يخافون رَبَّهُمْ } أي مالكَ أمرِهم وفيه تربيةٌ للمهابة وإشعارٌ بعلة الحكم { مّن فَوْقِهِمْ } أي يخافونه جل وعلا خوفَ هيبةٍ وإجلالٍ وهو فوقهم بالقهر كقوله تعالى : { وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ } أو يخافون أن يرسِل عليهم عذاباً من فوقهم ، والجملةُ حالٌ من الضمير في لا يستكبرون أو بيانٌ له وتقريرٌ لأن من يخاف الله سبحانه لا يستكبر عن عبادته { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } أي ما يؤمرون به من الطاعات والتدبيرات ، وإيرادُ الفعل مبنياً للمفعول جرْيٌ على سَنن الجلالة وإيذانٌ بعدم الحاجةِ إلى التصريح بالفاعل لاستحالة استنادِه إلى غيره سبحانه ، وفيه أن الملائكة مكلّفون مُدارون بين الخوف والرجاء ، وبعد ما بُيّن أن جميعَ الموجودات يُخَصّون بالخضوع والانقياد أصلاً لله عز وجل أُردف ذلك بحكاية نهْيِه سبحانه وتعالى للمكلفين عن الإشراك فقيل :
{ وَقَالَ الله } عطف على قوله : ولله يسجد ، وإظهارُ الفاعل وتخصيصُ لفظة الجلالة بالذكر للإيذان بأنه متعيِّنُ الألوهية ، وإنما المنهيُّ عنه هو الإشراكُ به لا أن المنهيَّ عنه مطلقُ اتخاذِ إلهين بحيث يتحقق الانتهاءُ عنه برفض أيِّهما كان أي قال تعالى لجميع المكلفين : { لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين } وإنما ذُكر العددُ مع أن صيغة التثنيةِ مغنيةٌ عن ذلك دلالةً على أن مساقَ النهي هو الاثنَيْنيّة وأنها منافيةٌ للألوهية كما أن وصفَ الإله بالوَحدة في قوله تعالى : { إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } للدلالة على أن المقصودَ إثباتُ الوحدانية وأنها من لوازم الإلهية ، وأما الإلهية فأمرٌ مسلَّمُ الثبوت له سبحانه وإليه أشير حيث أُسند إليه القول ، وفيه التفاتٌ من التكلم إلى الغَيبة على رأي من اكتفى في تحقق الالتفاتِ بكون الأسلوب الملتفَتِ عنه حقَّ الكلام ولم يشترِط سبقَ الذكرِ على ذلك الوجه { فإياي فارهبون } التفاتٌ من الغيبة إلى التكلم لتربية المهابةِ وإلقاءِ الرهبة في القلوب ولذلك قدّم المفعولَ وكرر الفعلَ أي إن كنتم راهبين شيئاً فإيايَ فارهبون لا غيرُ فإني ذلك الواحدُ الذي يسجُد له ما في السموات والأرض .
{ وَلَهُ مَا فِى السموات والأرض } خلقاً ومُلكاً تقريرٌ لعلة انقيادِ ما فيها له سبحانه خاصة ، وتحقيقٌ لتخصيص الرهبة به تعالى وتقديمُ الحرفِ لتقوية ما في اللام من معنى الاختصاصِ وكذا في قوله تعالى : { وَلَهُ الدين } أي الطاعةُ والانقياد { وَاصِبًا } أي واجباً ثابتاً لا زوالَ له لِما تقرّر أنه الإله وحده الحقيقُ بأن يُرهَبَ ، وقيل : واصباً من الوصب أي وله الدين ذا كلفة ، وقيل : الدينُ الجزاءُ أي وله الجزاءُ الدائمُ بحيث لا ينقطع ثوابُه لمن آمن وعقابُه لمن كفر { أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ } الهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه السياقُ أي أعَقيبَ تقرّرِ الشؤون المذكورةِ من تخصيص جميعِ الموجودات للسجود به تعالى وكونِ ذلك كلِّه له ، ونهيِه عن اتخاذ الأندادِ وكونِ الدين له واصباً المستدعي ذلك لتخصيص التقوى به سبحانه غيرَ الله الذين شأنُه ما ذكر تتقون فتطيعون .(4/127)
وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
{ وَمَا بِكُم } أي أيُّ شيء يلابسكم ويصاحبكم { مِن نّعْمَةٍ } أية نعمةٍ كانت { فَمِنَ الله } فهي من الله ، فما شرطيةٌ أو موصولة متضمّنة لمعنى الشرط باعتبار الإخبارِ دون الحصول فإن ملابسةَ النعمةِ بهم سببٌ للإخبار بأنها منه تعالى لا لكونها منه تعالى { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر } مِساساً يسيراً { فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ } تتضرعون في كشفه لا إلى غيره ، والجُؤار رفعُ الصوت بالدعاء والاستغاثة ، قال الأعشى
يراوِحُ من صلَواتِ الملي ... ك طوراً سجوداً وطوراً جؤارا
وقرىء تَجَرون بطرح الهمزة وإلقاءِ حركتها إلى ما قبلها ، وفي ذكر المِساس المُنْبىءِ عن أدنى إصابةٍ وإيرادِه بالجملة الفعلية المعربةِ عن الحدوث مع ثم الدالةِ على وقوعه بعد برهةٍ من الدهر وتحليةِ الضُّر بلام الجنس المفيدةِ لمساس أدنى ما ينطلق عليه اسمُ الجنس مع إيراد النعمةِ بالجملة الاسميةِ الدالةِ على الدوام والتعبير عن ملابستها للمخاطبين بباء المصاحبة وإيرادِ ( ما ) المعربةَ عن العموم ما لا يخفى من الجزالة والفخامة ، ولعل إيرادَ إذا دون إن للتوسل به إلى تحقق وقوع الجواب .
{ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ } وقرىء كاشَفَ الضر ، وكلمةُ ثم ليست للدلالة على تمادي زمانِ مِساس الضرّ ووقوعِ الكشفِ بعد برهة مديدةٍ بل للدلالة على تراخي رتبةِ ما يترتب عليه من مفاجأة الإشراك المدلولِ عليها بقوله سبحانه : { إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ } فإنّ ترتبها على ذلك في أبعد غايةٍ من الضلال ، ثم إن وُجّه الخطابُ إلى الناس جميعاً فمِن للتبعيض والفريقُ فريقُ الكفرة ، وإن وجه إلى الكفرة فمن للبيان ، كأنه قيل : إذا فريق كافرون أنتم . ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر وازدجر كقوله تعالى : { فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } فمن تبعيضية أيضاً ، والتعرضُ لوصف الربوبية للإيذان بكمال قبحِ ما ارتكبوه من الإشراك والكفران .
{ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم } من نعمة الكشف عنهم كأنهم جعلوا غرضَهم في الشرك كُفرانَ النعمة وإنكارَ كونها من الله عز وجل { فَتَمَتَّعُواْ } أمرُ تهديد ، والالتفاتُ إلى الخطاب للإيذان بتناهي السَّخَط ، وقرىء بالياء مبنياً للمفعول عطفاً على ليكفروا على أن يكون كفرانُ النعمة والتمتعُ غرضاً لهم من الإشراك ، ويجوز أن يكون اللامُ لامَ الأمرِ الواردِ للتهديد { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } عاقبةَ أمرِكم وما ينزل بكم من العذاب ، وفيه وعيدٌ أكيدٌ منبىءٌ عن أخذٍ شديد حيث لم يُذكر المفعولُ إشعاراً بأنه مما لا يوصف .(4/128)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)
{ وَيَجْعَلُونَ } لعله عطف على ما سبق بحسب المعنى تعداداً لجناياتهم أي يفعلون ما يفعلون من الجُؤار إلى الله تعالى عند مِساس الضرر ومن الإشراك به عند كشفِه ويجعلون { لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } أي لما لا يعلمون حقيقتَه وقدرَه الخسيسَ من الجمادات التي يتخذونها شركاء لله سبحانه جهالةً وسَفاهةً ويزعُمون أنها تنفعهم وتشفعَ لهم ، على أن ما موصولةٌ والعائدُ إليها محذوف ، أو لما لا علم له أصلاً وليس من شأنه ذلك فما موصولةٌ أيضاً والعائدُ إليها ما في الفعل من الضمير المستكنْ ، وصيغةُ جمعِ العقلاءِ لكون ( ما ) عبارةً عن آلهتهم التي وصفوها بصفات العقلاءِ ، أو مصدريةٌ واللامُ للتعليل أي لعدم علمِهم والمجعولُ له محذوفٌ للعلم بمكانه { نَصِيبًا مّمّا رزقناهم } من الزرع والأنعام وغيرِهما تقرباً إليها { تالله لَتُسْئَلُنَّ } سؤالَ توبيخٍ وتقريع { عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } في الدنيا بآلهة حقيقةٍ بأن يُتقرَّب إليها ، وفي تصدير الجملةِ بالقسم وصرفِ الكلامِ من الغَيبة إلى الخطاب المنبىءِ عن كمال الغضبِ من شدة الوعيد ما لا يخفى .
{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنَاتِ } هم خُزاعةُ وكِنانةُ الذين يقولون : الملائكةُ بناتُ الله { سبحانه } تنزيهٌ له عز وجل عن مضمون قولِهم ذلك أو تعجيبٌ من جراءتهم على التفوه بمثل تلك العظيمة { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } من البنين ، و ( ما ) مرفوعةُ المحلِّ على أنه مبتدأٌ والظرفُ المقدمُ خبرُه ، والجملةُ حاليةٌ وسبحانه اعتراضٌ في حق موقعِه ، وجعلُها منصوبةً بالعطف على البنات أي يجعلون لأنفسهم ما يشتهون من البنين يؤدّي إلى جعل الجعْلِ بمعنى يعمّ الزعمَ والاختيارَ .
{ وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بالانثى } أي أخبر بولادتها { ظَلَّ وَجْهُهُ } أي صار أو دام النهارَ كلَّه { مُسْوَدّا } من الكآبة والحياءِ من الناس ، واسودادُ الوجه كنايةٌ عن الاغتمام والتشويش { وَهُوَ كَظِيمٌ } ممتلىءٌ حَنقاً وغيظاً .
{ يتوارى } أي يستخفي { مِنَ القوم مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ } من أجل سوئِه ، والتعبيرُ عنها بما لإسقاطها عن درجة العقلاء { أَيُمْسِكُهُ } أي متردداً في أمره محدّثاً نفسَه في شأنه أيمسكه { على هُونٍ } ذل ، وقرىء هوانٍ { أَمْ يَدُسُّهُ } يُخفيه { فِى التراب } بالوأد ، والتذكيرُ باعتبار لفظ ما ، وقرىء بالتأنيث { أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ } حيث يجعلون ما هذا شأنُه عندهم من الهُون والحقارة لله المتعالي عن الصاحبة والولد ، والحالُ أنهم يتحاشَون عنه ويختارون لأنفسهم البنين ، فمدارُ الخطأ جعلُهم ذلك لله سبحانه مع إبائهم إياه لا جعلُهم البنين لأنفسهم ولا عدمُ جعلهم له سبحانه ، ويجوز أن يكون مدارُه التعكيس لقوله تعالى : { تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى . }(4/129)
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
{ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة } ممن ذكرت قبائحُهم { مَثَلُ السوء } صفةُ السَّوْء الذي هو كالمثَل في القبح وهي الحاجةُ إلى الولد ليقوم مقامَه عند موتهم ، وإيثارُ الذكور للاستظهار بهم ووأدُ البنات لدفع العار ، وخشيةُ الإملاق المنادي كلَّ ذلك بالعجز والقصورِ والشحِّ البالغ ، ووضعُ الموصول موضعَ الضمير للإشعار بأن مدارَ اتصافِهم بتلك القبائح هو الكفرُ بالآخرة { وَللَّهِ } سبحانه وتعالى { المثل الاعلى } أي الصفةُ العجيبةُ الشأنِ التي هي مثلٌ في العلو مطلقاً ، وهو الوجوبُ الذاتيُّ والغِنى المطلقُ والجودُ الواسعُ والنزاهةُ عن صفات المخلوقين ، ويدخل فيه علوُّه تعالى عما قالوه علواً كبيراً { وَهُوَ العزيز } المنفردُ بكمال القدرة لا سيما على مؤاخذتهم بذنوبهم { الحكيم } الذي يفعل كلَّ ما يفعل بمقتضى الحكمةِ البالغةِ وهذا أيضاً من جملة صفاتِه العجيبة تعالى .
{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس } الكفارَ { بِظُلْمِهِمْ } بكفرهم ومعاصيهم التي من جملتها ما عُدّد من قبائحهم ، وهذا تصريحٌ بما أفاده قوله تعالى : { وَهُوَ العزيز الحكيم } وإيذانٌ بأن ما أتَوْه من القبائح قد تناهى إلى أمد لا غايةَ وراءَه { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا } على الأرض المدلولِ عليها بالناس وبقوله تعالى : { مِن دَابَّةٍ } أي ما ترك عليها شيئاً من دابة قطُّ بل أهلكها بالمرة بشؤم ظلمِ الظالمين كقوله تعالى : { واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقول : إن الظالم لا يضُرُّ إلا نفسَه فقال : « بلى والله حتى إن الحُبارَى لتموت في وَكرها بظلم الظالم » . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : « كاد الجُعَلُ يهلِك في جُحره بذنب ابن آدمَ أو من دابة ظالمة » وقيل : لم أَهْلك الآباءَ لم يكن الأبناءُ ، فيلزم أن لا يكون في الأرض دابةٌ لِما أنها مخلوقةٌ لمنافعِ البشر لقوله سبحانه : { هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض جَمِيعاً } { ولكن } لا يؤاخذهم بذلك بل { يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى } لأعمارهم أو لعذابهم كي يتوالدوا ويكثُرَ عذابُهم { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ } المسمّى { لاَ يَسْتَأْخِرُونَ } عن ذلك الأجلِ أي لا يتأخرون ، وصيغةُ الاستفعال للإشعار بعجزهم عنه مع طلبهم له { سَاعَةِ } فذّةً ، وهي مثَلٌ في قلة المدة { وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } أي لا يتقدمون ، وإنما تعرض لذكره مع أنه لا يتصور الاستقدامُ عند مجيء الأجلِ مبالغةً في بيان عدمِ الاستئخارِ بنظمه في سلك ما يمتنع ، كما في قوله تعالى : { وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّى تُبْتُ الان وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } فإن من مات كافراً مع أنه لا توبةَ له رأساً قد نُظم في سِمْطِ من لم تُقبل توبته للإيذان بأنهما سيان في ذلك وقد مر في تفسير سورة يونس .(4/130)
{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ } أي يُثْبتون له سبحانه وينسُبون إليه في زعمهم { مَا يَكْرَهُونَ } لأنفسهم مما ذكر ، وهو تكريرٌ لما سبق ، تثنيةً للتقريع وتوطئةً لقوله تعالى : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب } أي يجعلون له تعالى ما يجعلون ومع ذلك تصف ألسنتهم الكذب وهو { أَنَّ لَهُمُ الحسنى } العاقبةَ الحسنى عند الله تعالى كقوله : { وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى } وقرىء الكُذُبُ وهو جمع الكَذوب على أنه صفةُ الألسنة { لاَ جَرَمَ } رد لكلامهم ذلك وإثباتٌ لنقيضه أي حقاً { أَنَّ لَهُمْ } مكان ما أمّلوا من الحسنى { النار } التي ليس وراءَ عذابها عذابٌ وهي عَلَمٌ في السُّوآى { وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } أي مقدَّمون إليها من أفرطتُه أي قدّمتُه في طلب الماء ، وقيل : مَنْسيّون من أفرطتُ فلاناً خلفي إذا خلّفتُه ونسِيتُه ، وقرىء بالتشديد وفتح الراء من فرَّطتُه في طلب الماء ، وبكسر الراء المشددة من التفريط في الطاعات ، وبكسر المخففة من الإفراط في المعاصي فلا يكونانِ حينئذ من أحوالهم الأخروية كما عطف عليه .(4/131)
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
{ تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ } تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يناله من جهالات الكفرةِ ووعيدٌ لهم على ذلك ، أي أرسلنا إليهم رسلاً فدعَوْهم إلى الحق فلم يجيبوا إلى ذلك { فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطن أَعْمَالَهُمْ } القبيحةَ فعكفوا عليها مُصِرّين { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ } أي قرينُهم وبئس القرينُ { اليوم } أي يوم زين لهم الشيطانُ أعمالهم فيه على طريق حكايةِ الحال الآتية وهي حالُ كونهم معذبين في النار ، والوليُّ بمعنى الناصر أي فهو ناصرهم اليوم لا ناصرَ لهم غيرُه مبالغةً في نفي الناصرِ عنهم ، ويجوز أن يكون الضميرُ عائداً إلى مشركي قريش والمعنى زيّن للأمم السالفة أعمالَهم فهو وليُّ هؤلاء لأنهم منهم وأن يكون على حذف المضافِ أي وليُّ أمثالهم { وَلَهُمْ } في الآخرة { عَذَابٌ أَلِيمٌ } هو عذابُ النار .
{ وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب } أي القرآن { إِلاَّ لِتُبَيّنَ } استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم العلل أي ما أنزلناه عليك لعلّةٍ من العلل إلا لتبين { لَهُمْ } أي للناس { الذى اختلفوا فِيهِ } من التوحيد والقدَر وأحكامِ الأفعال وأحوال المعاد { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } معطوفان على محل لتبين أي وللهداية والرحمة { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } وإنما انتصبا لكونهما أثرَيْ فاعلِ الفعل المعلَّل بخلاف التبيين حيث لم ينتصِبْ لفقدان شرطِه ، ولعل تقديمَه عليهما لتقدُّمه في الوجود ، وتخصيصُ كونهما هدًى ورحمةً بالمؤمنين لأنهم المغتنِمون آثارَه .
{ والله أَنزَلَ مِنَ السماء } من السحاب أو من جانب السماء حسبما مرّ ، وهذا تكرير لما سبق تأكيداً لمضمونه وتوطئةً لما يعقُبه من أدلة التوحيد { مَاء } نوعاً خاصاً من الماء هو المطرُ ، وتقديمُ المجرور على المنصوب لما مر مراراً من التشويق إلى المؤخر { فَأَحْيَا بِهِ الأرض } بما أنبت به فيها من أنواع النباتات { بَعْدَ مَوْتِهَا } أي بعد يُبْسها ، وما يفيده الفاءُ من التعقيب العاديّ لا ينافيه ما بين المعطوفين من المهلة { إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي في إنزال الماء من السماء وإحياءِ الأرض الميتةِ به { لآيَةً } وأيةَ آيةٍ دالةٍ على وحدته سبحانه وعلمه وقدرتِه وحكمتِه { لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } هذا التذكيرَ ونظائرَه سماعَ تفكرٍ وتدبُّر فكأن مَنْ ليس كذلك أصمُّ .(4/132)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
{ وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأنعام لَعِبْرَةً } عظيمةً وأيَّ عبرةٍ تَحار في دركها العقولُ ويهيم في فهمها ألبابُ الفحول { نُّسْقِيكُمْ } استئنافٌ لبيان ما أُبهم أولاً من العبرة { مّمَّا فِى بُطُونِهِ } أي بطون الأنعامِ ، والتذكيرُ هنا لمراعاة جانبِ اللفظِ فإنه اسم جمع ولذلك عدّه سيبويه في المفردات المبنيّة على أفعال كأكباش وأخلاق كما أن تأنيثه في سورة المؤمنين لرعاية جانب المعنى ، ومَن جعله جمعَ نَعَمٍ جعل الضميرَ للبعض فإن اللبَن ليس لجميعها ، أو له على المعنى ، فإن المرادَ به الجنسُ وقرىء بفتح النون هاهنا وفي سورة المؤمنين { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا } الفرْثُ فُضالةُ ما يبقى من العلف في الكَرِش المنهضمةِ بعضَ الانهضام وكثيفُ ما يبقى في الأمعاء . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن البهيمةَ إذا اعتلفت وانطبخ العلفُ في كرشها كان أسفلُه فرثاً ، وأوسطُه لبناً ، وأعلاه دماً . ولعل المرادَ به أن أوسطَه يكون مادةَ اللبن وأعلاه مادةَ الدم الذي يغذو البدنَ لأن عدم تكونهما في الكرش مما لا ريب فيه ، بل الكبِدُ تجذب صفاوة الطعام المنهضمِ في الكرش ويبقى ثفلُه وهو الفرثُ ثم يُمسكها ريثما يهضمها فيُحدثُ أخلاطاً أربعة معها مائيةً فتُميَّز تلك المائيةُ ما زاد على قدر الحاجة من المِرَّتين الصفراءِ والسوداء وتدفعها إلى الكِلْية والمرارة والطّحال ، ثم توزِّع الباقي على الأعضاء بحسبها فتُجري على كلَ حقَّه على ما يليق به بتقدير العزيز العليم ، ثم إن كان الحيوانُ أنثى زاد أخلاطَها على قدر غذائها لاستيلاء البردِ والرطوبةِ على مزاجها فيندفع الزائدُ أو لا لأجل الجنينِ إلى الرحم فإذا انفصل انصب ذلك الزائدُ أو بعضُه إلى الضروع فيبيّض لمجاورته لحومَها الغذوية البِيضِ ويلَذّ طعمُه فيصيرُ لبناً ، ومن تدبر في بدائع صنعِ الله تعالى فيما ذكر من الأخلاط والألبانِ وإعداد مقارّها ومجاريها والأسبابِ الموَلّدة لها وتسخيرِ القُوى المتصرفة فيها كلَّ وقت على ما يليق به اضطُرّ إلى الاعتراف بكمال علمِه وقدرتِه وحكمتِه وتناهي رأفته ورحمتِه . فمِن الأولى تبعيضيةٌ لما أن اللبن بعضُ ما في بطونه لأنه مخلوقٌ من بعض أجزاءِ الدم المتولّدِ من الأجزاء اللطيفةِ التي في الفرث حسبما فصل ، والثانيةُ ابتدائية كقولك : سقَيت من الحوض لأن بين الفرث والدمِ مبدأَ الإسقاء ، وهي متعلقةٌ بنُسقيكم وتقديمه على المفعول لما مر مراراً من أن تقديم ما حقُّه التأخيرُ يبعث للنفس شوقاً إلى المؤخر موجباً لفضل تمكّنِه عند ورودِه عليها لا سيما إذا كان المقدمُ متضمناً لوصف منافٍ لوصف المؤخَّر كالذي نحن فيه ، فإن بين وصفَيْ المقدّمِ والمؤخر تنافياً وتنائياً بحيث لا يتراءى ناراهما ، فإن ذلك مما يزيد الشوقَ والاستشرافَ إلى المؤخر كما في قوله تعالى : { الذى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشجر الأخضر نَاراً } أو حالٌ من لبناً قُدّم عليه لتنكيره والتنبيه على أنه موضعُ العبرة { خَالِصًا } عن شائبة ما في الدم والفرثِ من الأوصاف ببرزخٍ من القدرة القاهرة الحاجزةِ عن بغي أحدِهما عليه مع كونهما مكتنفين له { سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ } سهلَ المرور في حلقهم ، قيل : لم يغَصَّ أحدٌ باللبن ، وقرىء سيِّغاً بالتشديد وبالتخفيف مثل هيْن وهيِّن .(4/133)
وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
{ وَمِن ثمرات النخيل والأعناب } متعلقٌ بما يدل عليه الإسقاء من مطلق الإطعامِ المنتظمِ لإعطاء المطعومِ والمشروبِ فإن اللبن مطعومٌ كما أنه مشروبٌ أي ونطعمكم من ثمرات النخيل ومن الأعناب أي من عصيرهما ، وقوله تعالى : { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } استئنافٌ لبيان كُنه الإطعامِ وكشفِه . أو بقوله : تتخذون منه ، وتكريرُ الظرفِ للتأكيد ، أو خبر لمبتدأ محذوفٍ صفتُه تتخذون أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمرٌ تتخذون منه ، وحَذْفُ الموصوف إذا كان في الكلام كلمةُ مِنْ سائغٌ نحو قوله تعالى : { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } وتذكيرُ الضمير على الوجهين الأولين لأنه للمضاف المحذوفِ أعني العصير أو لأن المراد هو الجنسُ والسَّكَر مصدرٌ سُمّي به الخمرُ ، وقيل : هو النبيذُ ، وقيل : هو الطعم { وَرِزْقًا حَسَنًا } كالتمر والدبس والزبيب والخلّ ، والآية إن كانت سابقةَ النزول على تحريم الخمر فدالّةٌ على كراهتها وإلا فجامعةٌ بين العتاب والمِنّة { إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً } باهرةً { لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } يستعملون عقولَهم في الآيات بالنظر والتأمل .
{ وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } أي ألهمها وقذف في قلوبها وعلّمها بوجوه لا يعلمها إلا العليمُ الخبير وقرى بفتحتين { أَنِ اتخذى } أي بأن اتخذي على أنّ أنْ مصدريةٌ ويجوز أن تكون مفسرةً لما في الإيحاء من معنى القول ، وتأنيثُ الضمير مع أن النحلَ مذكر للحمل على معنى الجمع أو لأنه جمعُ نحلة ، والتأنيثُ لغة أهل الحجاز { مِنَ الجبال بُيُوتًا } أي أوكاراً مع ما فيها من الخلايا ، وقرىء بيوتاً بكسر الباء { وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } أي يعرِشه الناسُ أي يرفعه من كرْم أو سقف ، وقيل : المرادُ به ما يرفعه الناسُ ويبنونه للنحل ، والمعنى اتخذي لنفسك بيوتاً من الجبال والشجر إذا لم يكن لك أرباب وإلا فاتخذي ما يعرِشونه لك ، وإيرادُ حرفِ التبعيض لما أنها لا تبنى في كل جبل وفي كل شجر وكل عرش ولا في كل مكان منها .
{ ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ الثمرات } من كل ثمرة تشتهينها حُلوِها ومُرِّها { فاسلكى } ما أكلتِ منها { سُبُلَ رَبّكِ } أي مسالكَه التي برَأها بحيث يُحيل فيها بقدرته القاهرة النَّوَر المرَّ عسلاً من أجوافك أو فاسلكي الطرقَ التي ألهمك في عمل العسلِ أو فاسلكي راجعةً إلى بيوتك سبلَ ربك لا تتوعّر عليك ولا تلتبس { ذُلُلاً } جمع ذَلول وهو حال من السبل أي مذللة غيرَ متوعرة ذللها الله سبحانه وسهلها لك ، أو من الضمير في اسلكي أي اسلكي منقادةً لما أُمرتِ به { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا } استئناف عُدل به عن خطاب النحلِ لبيان ما يظهر منها من تعاجيب صنعِ الله تعالى التي هي موضعُ العبرة بعد ما أُمِرتْ بما أمرتْ { شَرَابٌ } أي عسل لأنه مشروب ، واحتج به وبقوله تعالى : { كُلِى } من زعم أن النحلَ تأكلُ الأزهار والأوراقَ العطِرة فتستحيل في بطنها عسلاً ثم تقيءُ ادّخاراً للشتاء ، ومن زعم أنها تلتقط بأفواهها أجزاءً قليلةً حُلوة صغيرة متفرقةً على الأزهار والأوراق وتضعها في بيوتها ، فإذا اجتمع فيها شيءٌ كثيرٌ يكون عسلاً فسّر البطونَ بالأفواه { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } أبيضُ وأسودُ وأصفرُ وأحمرُ حسب اختلاف سنِّ النحل أو الفصلِ أو الذي أخذت منه العسل { فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ } إما بنفسه كما في الأمراض البلغمية أو مع غيره كما في سائر الأمراض ، إذ قلما يكون معجونٌ لا يكون فيه عسلٌ ، مع أن التنكيرَ فيه مُشعرٌ بالتبعية ، ويجوز كونه للتفخيم ، وعن قتادةَ أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي يشتكي بطنه ، فقال عليه الصلاة والسلام :(4/134)
« اسقِه العسلَ » فذهب ثم رجع فقال : قد سقَيتُه فما نفع ، فقال : « اذهبْ فاسقِه عسلاً فقد صدق الله وكذب بطنُ أخيك » فسقاه فبرِىء كأنما أُنْشِط من عِقال ، وقيل : الضميرُ للقرآن أو لِما بين الله تعالى من أحوال النحل . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : « العسلُ شفاءٌ لكل داء ، والقرآنُ شفاء لما في الصدور » « فعليكم بالشفاءَين العسلِ والقرآنِ » { إِنَّ فِى ذَلِكَ } الذي ذكر من أعاجيب آثار قدرةِ الله تعالى { لآيَةً } عظيمة { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فإن من تفكر في اختصاص النحلِ بتلك العلومِ الدقيقة والأفعالِ العجيبةِ المشتملةِ على حسن الصنعةِ وصِحة القسمة التي لا يقدر عليها حُذّاقُ المهندسين إلا بآلات دقيقةٍ وأدواتٍ أنيقة وأنظار دقيقة ، جزم قطعاً بأن له خالقاً قادراً حكيماً يلهمها ذلك ويهديها إليه جل جلاله .(4/135)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
{ والله خَلَقَكُمْ } لما ذكر سبحانه من عجائب أحوالِ ما ذَكَر من الماء والنبات والأنعام والنحل أشار إلى بعض عجائبِ أحوالِ البشر من أول عمُره إلى آخره وتطوراتِه فيما بين ذلك وقد ضبطوا مراتبَ العمُر في أربع : الأولى سنُّ النشوء والنماء ، والثانية سنُّ الوقوف وهي سن الشباب ، والثالثة سنُّ الانحطاط القليل وهي سنُّ الكهولة ، والرابعة سنُّ الانحطاط الكبير وهي سنُّ الشيخوخة { ثُمَّ يتوفاكم } حسبما تقتضيه مشيئتُه المبنيةُ على حِكَم بالغةٍ بآجال مختلفة أطفالاً وشباباً وشيوخاً { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ } قبل توفّيه أي يعاد { إلى أَرْذَلِ العمر } أي أخسِّه وأحقرِه وهو خمسٌ وسبعون سنة على ما روي عن علي رضي الله عنه ، وتسعون سنة على ما نقل عن قتادة رضي الله عنه ، وقيل : خمسٌ وتسعون ، وإيثارُ الردِّ على الوصول والبلوغِ ونحوهما للإيذان بأن بلوغَه والوصولَ إليه رجوعٌ في الحقيقة إلى الضُّعف بعد القوة كقوله تعالى : { وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ فِى الخلق } ولا عمُرَ أسوأُ حالاً من عمر الهرِمِ الذي يشبه الطفلَ في نقصان العقل والقوة { لِكَيْلاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ } كثير { شَيْئاً } من العلم أو من المعلومات أو لكيلا يعلم شيئاً بعد علمٍ بذلك الشيء ، وقيل : لئلا يعقِلَ بعد عقله الأولِ شيئاً { إِنَّ الله عَلِيمٌ } بمقادير أعماركم { قَدِيرٌ } على كل شيء يميت الشابَّ النشيطَ ويُبقي الهرِمَ الفانيَ ، وفيه تنبيهٌ على أن تفاوتَ الآجالِ ليس إلا بتقدير قادرٍ حكيم ركب أبنيتَهم وعدّل أمزجتَهم على قدر معلوم ولو كان ذلك مقتضى الطبائع لما بلغ التفاوتُ هذا المبلغ .(4/136)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
{ والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِى الرزق } أي جعلكم متفاوتين فيه فأعطاكم منه أفضلَ مما أعطى مماليكَكم { فَمَا الذين فُضّلُواْ } فيه على غيرهم { بِرَآدّى رِزْقِهِمْ } الذي رزقهم الله { على مَا مَلَكَتْ أيمانهم } على مماليكهم الذين هم شركاؤُهم في المخلوقية والمرزوقية { فَهُمُ } أي المُلاّك والمماليك { فِيهِ } أي في الرزق { سَوَآء } أي لا يردونه عليهم بحيث يساوونهم في التصرف ويشاركونهم في التدبير ، والفاء للدِلالة على ترتيب التساوي على الرد أي لا يردونه عليهم ردًّا مستتبعاً للتساوي ، وإنما يردون عليهم منه شيئاً يسيراً فحيث لا يرضَون بمساواة مماليكِهم لأنفسهم وهم أمثالُهم في البشرية والمخلوقية لله عز سلطانُه في شيء لا يختصّ بهم بل يعُمهم وإياهم من الرزق الذي هم أُسوةٌ لهم في استحقاقه ، فما بالُهم يشركون بالله سبحانه وتعالى فيما لا يليق إلا به من الألوهية والمعبوديةِ الخاصّة بذاته تعالى لذاته بعضَ مخلوقاته الذي هو بمعزل من درجة الاعتبار وهذا كما ترى مثَلٌ ضُرب لكمال قباحةِ ما فعله المشركون تقريعاً عليهم كقوله تعالى : { هَلْ لَّكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن شُرَكَاء فِيمَا رزقناكم فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء } الآية { أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ } حيث يفعلون ما يفعلون من الإشراك فإن ذلك يقتضي أن يضيفوا نعم الله سبحانه الفائضةَ عليهم إلى شركائهم ويجحدوا كونَها من عند الله تعالى ، أو حيث أنكروا أمثالَ هذه الحجج البالغةِ بعد ما أنعم الله بها عليهم ، والباء لتضمين الجحودِ معنى الكفر نحوُ { وَجَحَدُواْ بِهَا } والفاء للعطف على مقدر وهي داخلةٌ في المعنى على الفعل أي أيشركون به فيجحدون نعمته ، وقرىء تجحدون على الخطاب ، أو ليس الموالي برادّي رزقهم على مماليكهم بل أنا الذي أرزقهم وإياهم فلا يحسبوا أنهم يعطونهم شيئاً وإنما هو رزقي أُجريه على أيديهم فهم جميعاً في ذلك سواءٌ لا مزيةَ لهم على مماليكهم ، ألا يفهمون ذلك فيجحدون نعمة الله؟ فهو ردّ على زعم المفضَّلين أو على فعلهم المؤذِن بذلك أو ما المفضَّلون برادّي بعضِ فضلهم على مماليكهم فيتساووا في ذلك جميعاً مع أن التفضيلَ ليس إلا ليبلوَهم أيشكرون أم يكفرون ، ألا يعرِفون ذلك فيجحدون نعمةَ الله تعالى؟ كأنه قيل : فلم يردوه عليهم ، والجملةُ الاسميةُ للدلالة على استمرارهم على عدم الرد . يحكى عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنما هم إخوانُكم فاكسُوهم مما تلبَسون وأطعِموهم مما تَطعَمون " فما رؤيَ عبدُه بعد ذلك إلا ورداؤُه رداؤُه وإزارُه إزاره من غير تفاوت .
{ والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ } أي من جنسكم { أزواجا } لتأنَسوا بها وتقيموا بذلك جميعَ مصالحِكم ويكون أولادُكم أمثالَكم ، وقيل : هو خلقُ حواءَ من ضِلْع آدمَ عليه الصلاة والسلام { وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أزواجكم } وضع الظاهرُ موضعَ المضمر للإيذان بأن المرادَ جعلَ لكل منكم من زوجه لا من زوج غيره { بنيان } وبأن نتيجةَ الأزواج هو التوالد { وَحَفَدَةً } جمعُ حافد وهو الذي يسرع في الخِدمة والطاعة ، ومنه قولُ القانت : «وإليك نسعى ونحفد» أي جعل لكم خدماً يسرعون في خدمتكم وطاعتِكم .(4/137)
وقيل : المرادُ بهم أولادُ الأولاد ، وقيل : البناتُ عبّر عنهن بذلك إيذاناً بوجه المنة بأنهن يخْدُمن البيوت أتمَّ خدمة ، وقيل : أولادُ المرأة من الزوج الأول ، وقيل : البنون ، والعطفُ لاختلاف الوصفين ، وقيل : الأختان على البنات ، وتأخيرُ المنصوب في الموضعين عن المجرور لما مر من التشويق وتقديمُ المجرور باللام على المجرور بمن للإيذان من أول الأمر بعَود منفعةِ الجعلِ إليهم إمداداً للتشويق وتقويةً له ، أي جعل لمصلحتكم مما يناسبكم أزواجاً وجعل لمنفعتكم من جهة مناسبةٍ لكم بنين وحفَدة { وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات } من اللذائذ أو من الحلالات ، ومن للتبعيض إذ المرزوقُ في الدنيا أنموذجٌ لما في الآخرة { أفبالباطل يُؤْمِنُونَ } وهو أن الأصنامَ تنفعهم وأن البحائرَ ونحوها حرامٌ والفاء في المعنى داخلةٌ على الفعل وهي للعطف على مقدر أي أيكفرون بالله الذي شأنُه هذا فيؤمنون بالباطل؟ أو أبعد تحقّقِ ما ذُكر من نعم الله تعالى بالباطل أو أبعد تحققِ ما ذكر من نعم الله تعالى بالباطل يؤمنون دون الله سبحانه { وَبِنِعْمَتِ الله } تعالى الفائضةِ عليهم مما ذكر ومما لا يحيط به دائرةُ البيان { هُمْ يَكْفُرُونَ } حيث يضيفونها إلى الأصنام ، وتقديمُ الصلة على الفعل للاهتمام أو لإيهام الاختصاص مبالغةً أو لرعاية الفواصل ، والالتفات إلى الغيبة للإيذان باستيجاب حالِهم للإعراض عنهم وصرفِ الخطاب إلى غيرهم من السامعين تعجيباً لهم مما فعلوه .(4/138)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } لعله عطفٌ على يكفرون داخلٌ تحت الإنكار التوبيخيّ ، أي أيكفرون بنعمة الله ويعبدون مِن دونه { مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ السموات والأرض شَيْئاً } إنْ جُعل الرزقُ مصدراً فشيئاً نُصب على المفعولية منه أي ما لا يقدر على أن يرزقَهم شيئاً لا من السموات مطراً ولا من الأرض نباتاً ، وإن جُعل اسماً للمرزوق فنصْبٌ على البدلية منه بمعنى قليلاً ، ومن السموات والأرض صفةٌ لرزقاً أي كائناً منهما ويجوز كونه تأكيداً لِلا يملك أي لا يملك رزقاً ما شيئاً من الملك { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } أن يملكوه إذ لا استطاعةَ لهم رأساً لأنها مَواتٌ لا حَراك بها ، فالضميرُ للآلهة ويجوز أن يكون للكفرة على معنى أنهم مع كونهم أحياءً متصرفين في الأمور لا يستطيعون من ذلك شيئاً فكيف بالجماد الذي لا حِسّ به .
{ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال } التفاتٌ إلى الخطاب للإيذان بالاهتمام بشأن النهي أي لا تشركوا به شيئاً ، والتعبيرُ عن ذلك بضرب المثَل للقصد إلى النهي عن الإشراك به تعالى في شأن من الشؤون ، فإن ضربَ المثلِ مبناه تشبيهُ حالة بحالة وقصةٍ بقصة أي لا تُشَبّهوا بشأنه تعالى شأناً من الشؤون ، واللامُ مَثَلُها في قوله تعالى : { ضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ } { وَضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ امرأة فِرْعَوْنَ } لا مثلُها في قوله تعالى : { واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أصحاب القرية } ونظائرِه ، والفاءُ للدلالة على ترتب النهي على ما عدّه من النعم الفائضةِ عليهم من جهته سبحانه ، وكونِ ما يشركون به تعالى بمعزل من أن يملِك لهم من إمطار السموات والأرض شيئاً من رزق ما ، فضلاً عما فُصّل من نعمة الخلق والتفضيل في الرزق ونعمةِ الأزواج والأولاد { أَنَّ الله يَعْلَمُ } تعليلٌ للنهي المذكور ووعيدٌ على المنهيّ عنه ، أي إنه تعالى يعلم كنهَ ما تأتون وما تذرون وأنه في غاية العِظم والقبح { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ذلك وإلا لَما فعلتموه أو أنه تعالى يعلم كُنهَ الأشياء وأنتم لا تعلمونه فدعوا رأيَكم وقِفوا مواقفَ الامتثالِ لِما ورد عليكم من الأمر والنهي ، ويجوز أن يُراد فلا تضرِبوا لله الأمثالَ إن الله يعلم كيف تُضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون ذلك فتقعون فيما تقعون فيه من مهاوي الردى والضلال ثم علمهم كيفيةَ ضرب الأمثال في هذا الباب فقال :
{ ضَرَبَ الله مَثَلاً } أي ذكر وأورد شيئاً يُستدل به على تباين الحالِ بين جنابه عز وجل وبين ما أشركوا به ، وعلى تباعدهما بحيث ينادى بفساد ما ارتكبوه نداء جلياً { عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء } بدلٌ من مثلاً وتفسيرٌ له ، والمثَلُ في الحقيقة حالتُه العارضة له من المملوكية والعجزِ التامّ ، وبحسَبها ضربُ نفسِه مثلاً ، ووصفُ العبد بالمملوكية للتمييز عن الحر لاشتراكهما في كونهما عبدين لله سبحانه وقد أُدمج فيه أن الكل عبيدٌ له تعالى ، وبعدم القدرة لتمييزه عن المكاتَب والمأذون اللَّذين لهما التصرّف في الجملة ، وفي إبهام المثلِ أولاً ثم بيانِه بما ذكر ما لا يخفى من الفخامة والجزالة { وَمَن رَّزَقْنَاهُ } مَنْ موصوفةٌ معطوفة على عبداً أي رزقناه بطريق المُلك ، والالتفاتُ إلى التكلم للإشعار باختلاف حالَيْ ضرب المثل والرزق { مِنَّا } من جنابنا الكبير المتعالي { رِزْقًا حَسَنًا } حلالاً طيباً أو مستحسَناً عند الناس مرضياً { فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ } تفضّلاً وإحساناً ، والفاءُ لترتيب الإنفاق على الرزق كأنه قيل : ومَنْ رزقناه منا رزقاً حسناً فأنفق ، وإيثارُ ما عليه النظم الكريم من الجلمة الاسميةِ الفعليةِ الخبر للدِلالة على ثبات الإنفاقِ واستمرارِه التجدديّ { سِرّا وَجَهْرًا } أي حالَ السر والجهر أو إنفاقَ سرَ وإنفاقَ جهر ، والمرادُ بيانُ عمومِ إنفاقِه للأوقات وشمولِ إنعامه لمن يجتنب عن قبوله جهراً ، والإشارةُ إلى أصناف نعمِ الله تعالى الباطنةِ والظاهرةِ وتقديمُ السر على الجهر للإيذان بفضله عليه ، والعدولُ عن تطبيق القرينيتن بأن يقال وحرًّا مالكاً للأموال مع كونه أدلَّ على تباين الحالِ بينه وبين قسميه لتوخّي تحقيقِ الحقِّ بأن الأحرارَ أيضاً تحت ربقة عبوديتِه سبحانه وتعالى وأن مالكيتَهم لما يملكونه ليست إلا بأن يرزُقَهم الله تعالى إياه من غير أن يكون لهم مدخلٌ في ذلك مع محاولة المبالغة في الدِلالة على ما قُصد بالمثل من تباين الحالِ بين الممثَّلين فإن العبدَ المملوك حيث لم يكن مثلَ العبد المالكِ فما ظنُّك بالجماد ومالكِ المُلك خلاّق العالمين .(4/139)
{ هَلْ يَسْتَوُونَ } جمعُ الضمير للإيذان بأن المرادَ بما ذكر مَن اتصف بالأوصاف المذكورة من الجنسين المذكورين لا فردان معينان منهما أي يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بما ذكر من الصفات مع أن الفريقين سيانِ في البشرية والمخلوقية لله سبحانه وأن ما ينفقه الأحرارُ ليس مما لهم دخلٌ في إيجاده ولا في تملكه بل هو مما أعطاه الله تعالى إياهم فحيث لم يستوِ الفريقان فما ظنُّكم برب العالمين حيث تشركون به ما لا ذليلَ أذلُّ منه وهو الأصنام { الحمد للَّهِ } أي كلُّه له لأنه مولى جميع النعم لا يستحقه أحدٌ غيرُه وإن ظهرت على أيدي بعض الوسايط فضلاً عن استحقاق العبادة ، وفيه إرشادٌ إلى ما هو الحقُّ من أنّ ما يظهر على يد مَنْ ينفق مما ذكر ارجعٌ إليه سبحانه كما لوح به قوله تعالى : { رَّزَقْنَاهُ } { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ما ذكر فيُضيفون نعمَه تعالى إلى غيره ويعبدونه لأجلها ، ونفيُ العلم عن أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلمون ذلك وإنما لا يعملون بموجبه عناداً كقوله تعالى : { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون . }(4/140)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
{ وَضَرَبَ الله مَثَلاً } أي مثلاً آخرَ يدل على ما دل عليه المثلُ السابقُ على وجه أوضحَ وأظهرَ وبعد ما أبهم ذلك لتنتظرَ النفسُ إلى وروده وتترقبه حتى يتمكّن لديها عند ورودِه ( فضل تمكن ) بيّن فقيل : { رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ } وهو من وُلد أخرسَ { لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء } من الأشياء المتعلّقةِ بنفسه أو بغيره بحدْس أو فراسة لقِلة فهمِه وسوءِ إدراكِه { وَهُوَ كَلٌّ } ثِقَلٌ وعِيالٌ { على مَوْلاهُ } على مَن يعوله ويلي أمرَه ، وهذا بيانٌ لعدم قدرتِه على إقامة مصالحِ نفسه بعد ذكر عدم قدرتِه على شيء مطلقاً ، وقوله تعالى : { أَيْنَمَا يُوَجّههُّ } أي حيث يرسله مولاه في أمر ، بيانٌ لعدم قدرتِه على إقامة مصالحِ مولاه ولو كانت مصلحةً يسيرة ، وقرىء على البناء للمفعول وعلى صيغة الماضي من التوجه { لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ } بنُجْح وكفايةِ مُهمّ البتةَ .
{ هَلْ يَسْتَوِى هُوَ } مع ما فيه من الأوصاف المذكورةِ { وَمَن يَأْمُرُ بالعدل } أي مَنْ هو مِنطيقٌ فهِمٌ ذو رأي وكفاية ورشد ينفع الناسَ بحثهم على العدل الجامع لمجامعِ الفضائل { وَهُوَ } في نفسه مع ما ذكر من نفعه العام للخاص والعام { على صراط مُّسْتَقِيمٍ } ومقابلةُ الصفاتِ المذكورة عدمُ استحقاقِ المأمورية ، وملخصُ هذين استحقاقُ كمالِ الآمرية المستتبِعِ لحيازة المحاسنِ بأجمعها ، وتغييرُ الأسلوب حيث لم يقل : والآخر آمرٌ بالعدل الآية ، لمراعاة الملاءمةِ بينه وبين ما هو المقصودُ من بيان التبايُنِ بين القرينتين . واعلم أن كلاًّ من الفعلين ليس المرادُ بهما حكايةَ الضربِ الماضي بل المرادُ إنشاؤُه بما ذُكر عَقيبه ، ولا يبعُد أن يقال : إن الله تعالى ضرب مثلاً بخلق الفريقين على ما هما عليه فكان خلقُهما كذلك للاستدلال بعدم تساويهما على امتناع التساوي بينه سبحانه وبين ما يشركون ، فيكون كلٌّ من الفعلين حكايةً للضرب الماضي .
{ وَللَّهِ } تعالى خاصةً لا لأحد غيرِه استقلالاً ولا اشتراكاً { غَيْبَ السموات والارض } أي الأمورُ الغائبةُ عن علوم المخلوقين قاطبةً بحيث لا سبيلَ لهم إليها لا مشاهدةً ولا استدلالاً ، ومعنى الإضافةِ إليهما التعلقُ بهما إما باعتبار الوقوعِ فيهما حالاً أو مآلاً وإما باعتبار الغَيبة عن أهلهما ، والمرادُ بيانُ الاختصاصِ به تعالى من حيث المعلوميةُ حسبما ينبىء عنه عنوانُ الغيبية لا من حيث المخلوقيةُ والمملوكيةُ وإن كان الأمر كذلك في نفس الأمر ، وفيه إشعارٌ بأن علمه سبحانه حضوريٌّ فإن تحقق الغيوبِ في أنفسها عِلمٌ بالنسبة إليه تعالى ، ولذلك لم يقل : ولله علمُ غيبِ السموات والأرض { وَمَا أَمْرُ الساعة } التي هي أعظمُ ما وقع في المماراةُ من الغيوب المتعلقة بهما من حيث غيبتُها عن أهلهما أو ظهورُ آثارها فيهما عند وقوعها ، فأن وقتَ وقوعها بعينه من الغيوب المختصة به سبحانه وإن كانت آنيّتُها من الغيوب التي نُصبت عليها الأدلة ، أي ما شأنُها في سرعة المجيء { إِلاَّ كَلَمْحِ البصر } أي كرجع الطرفِ من أعلى الحدَقة إلى أسفلها { أَوْ هُوَ } أي بل أمرُها فيما ذكر { أَقْرَبُ } من ذلك وأسرعُ زماناً بأن يقع في بعضٍ من زمانه ، فإن ذلك وإنْ قصُر حركةٌ آنيةٌ لها هُوِيةٌ اتصاليةٌ منطبقةٌ على زمان له هويةٌ كذلك قابلٌ للانقسام إلى أبعاض هي أزمنة أيضاً ، بل في آن غيرِ منقسمٍ من ذلك الزمان وهو آنُ ابتداءِ تلك الحركةِ ، أو ما أمرُها إلا كالشيء الذي يُستقرب ويقال : هو كلمح البصر ، أو هو أقرب .(4/141)
وأياً ما كان فهو تمثيلٌ لسرعة مجيئها حسبما عبّر عنها في فاتحة السورة الشريفة بالإتيان .
{ إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } ومن جملة الأشياء أن يجيء بها أسرعَ ما يكون فهو قادرٌ على ذلك ، أو وما أمرُ إقامةِ الساعة التي كُنهُها وكيفيتُها من الغيوب الخاصةِ به سبحانه ، وهي إماتةُ الأحياءِ وإحياءُ الأمواتِ من الأولين والآخرين ، وتبديلُ صورِ الأكوان أجمعين ، وقد أنكرها المنكرون وجعلوها من قبيل ما لا يدخُل تحت الإمكان في سرعة الوقوعِ وسهولةِ التأتي إلا كلمح البصر أو هو أقرب على ما مر من الوجهين إن الله على كل شيء قدير فهو قادر على ذلك لا محالة ، وقيل : غيبُ السموات والأرض عبارةٌ عن يوم القيامة بعينه لما أن علمه بخصوصه غائبٌ عن أهلهما ، فوضْعُ الساعة موضعَ الضمير لتقوية مضمونِ الجملة .(4/142)
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
{ والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم } عطف على قوله تعالى : { والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } منتظمٌ معه في سلك أدلةِ التوحيد من قوله تعالى : { والله أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء } وقولِه تعالى : { والله خَلَقَكُمْ } وقوله تعالى : { والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ } والأمهات بضم الهمزة وقرىء بكسرها أيضاً جمعُ الأم زيدت الهاء فيه كما زيدت في أهراق من أراق وشذّت زيادتُها في الواحدة ، قال
أُمهتي خِندِفُ والياسُ أبي ... { لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا } في موقع الحال أي غيرَ عالمين شيئاً أصلاً { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والافئدة } عطف على ( أخرجكم ) وليس فيه دلالةٌ على تأخر الجمعِ المذكورِ عن الإخراج لما أن مدلولَ الواو هو الجمعُ مطلقاً لا الترتيبُ ، على أن أثر ذلك الجعلِ لا يظهر قبل الإخراج أي جعل لكم هذه الأشياءَ آلاتٍ تحصّلون بها العلمَ والمعرفة بأن تُحِسوا بمشاعركم جزئياتِ الأشياء وتُدركوها بأفئدتكم وتتنبهوا لما بينها من المشاركات والمباينات بتكرر الإحساسِ فيحصل لكم علومٌ بديهيةٌ تتمكنون بالنظر فيها من تحصيل العلومِ الكسبية . والأفئدة جمع فؤاد وهو وسطُ القلب وهو للقلب كالقلب من الصدر ، وهو من جموع القلة التي جرت مَجرى جموعِ الكثرة ، وتقديمُ المجرور على المنصوبات لما مر من الإيذان من أول الأمر بكون المجعول نافعاً لهم وتشويقِ النفس إلى المؤخر ليتمكن عند ورودِه عليها فضلَ تمكن { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } كي تعرِفوا ما أنعم به عليكم طوراً غِبَّ طَورٍ فتشكروه ، وتقديمُ السمع على البصر لما أنه طريق تلقي الوحي أو لأن إدراكه أقدمُ من إدراك البصر ، وإفرادُه باعتبار كونه مصدراً في الأصل .(4/143)
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
{ أَلَمْ يَرَوْاْ } وقرىء بالتاء { إِلَى الطير } جمع طائر أي ألم ينظروا إليها { مسخرات } مذلّلاتٍ للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسبابِ المساعدة له ، وفيه مبالغةٌ من حيث إن معنى التسخيرِ جعلُ الشيء منقاداً لآخرَ يتصرف فيه كيف يشاء كتسخير البحر والفُلك والدوابِّ للإنسان ، والواقعُ هاهنا تسخيرُ الهواء للطير لتطير فيه كيف تشاء فكان مقتضى طبيعةِ الطير السقوطَ فسخرها الله تعالى للطيران ، وفيه تنبيهٌ على أن الطيرانَ ليس بمقتضى طبعِ الطير بل ذلك بتسخير الله تعالى { فِى جَوّ السمآء } أي في الهواء المتباعدِ من الأرضَ والسكاك واللوح أبعدُ منه ، وإضافتُه إلى السماء لما أنه في جانبها من الناظر ولإظهار كمالِ أجلّ القدرة .
{ مَا يُمْسِكُهُنَّ } في الجو حين قبْضِ أجنحتهن وبسطِها ووقوفِهن { إِلاَّ الله } عز وجل بقدرته الواسعة ، فإن ثقلَ جسدها ورِقّةَ قوامِ الهواء يقتضيان سقوطَها ولا عِلاقةَ من فوقها ولا دِعامة من تحتها ، وهو إما حالٌ من الضمير المستتر في مسخّرات أو من الطير وإما مستأنف { إِنَّ فِى ذَلِكَ } الذي ذكر من تسخير الطير للطيران بأن خلقها خِلْقةً تتمكن بها منه بأن جعل لها أجنحةً خفيفة وأذناباً كذلك وجعل أجسادها من الخِفة بحيث إذا بسطت أجنحتها وأذنابَها لا يطيق ثقلها يخرق ما تحتها من الهواء الرقيق القوام وتخرق ما بين يديها من الهواء لأنها لا تلاقيه بحجم كبير { لاَيَاتٍ } ظاهرة { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي من شأنهم أن يؤمنوا وإنما خص ذلك بهم لأنهم المنتفعون به .
{ والله جَعَلَ لَكُمُ } معطوف على ما مر وتقديم لكم على ما سيأتي من المجرور والمنصوب لما مر من الإيذان من أول الأمر بأنه لمصلحتهم ومنفعتهم لتشويق النفسِ إلى وروده ، وقولُه تعالى : { مِن بُيُوتِكُمْ } أي المعهودة التي تبنونها من الحجر والمدَر تبيينُ ذلك المجعول المبْهمِ في الجملة وتأكيدٌ لما سبق من التشويق { سَكَناً } فَعَلٌ بمعنى مفعول أي موضعاً تسكنون فيه وقت إقامتِكم أو تسكنون إليه من غير أن ينتقل من مكانه ، أي جعل بعضَ بيوتكم بحيث تسكنون إليه وتطمئنون به { وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الانعام بُيُوتًا } أي بيوتاً أُخَرَ مغايرةً لبيوتكم المعهودةِ هي الخيامُ والقِباب والأخبية والفساطيط .
{ تَسْتَخِفُّونَهَا } تجدونها خفيفةً سهلةَ المأخذ { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ } وقت تَرحالِكم في النقض والحمل والنقل ، وقرىء بفتح العين { وَيَوْمَ إقامتكم } وقت نزولِكم في الضرب والبناء { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا } عطفٌ على قوله تعالى : { مّن جُلُودِ } والضمائر للأنعام على وجه التنويع ، أي وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبارِ الإبل وأشعار المعْزِ { أَثَاثاً } أي متاعَ البيت وأصلُه الكثرةُ والاجتماعُ ومنه شعرٌ أثيثٌ { ومتاعا } أي شيئاً يُتمتّع به بفنون التمتع { إلى حِينٍ } إلى أن تقضوا منه أوطارَكم أو إلى أن يبلى ويفنى فإنه في معرض البلى والفناء ، وقيل : إلى أن تموتوا ، والكلام في ترتيب المفاعيل مثلُ ما مر من قبل .(4/144)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)
{ والله جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ } من غير صنعٍ من قِبلكم { ظلالا } أشياءَ تستظلون بها من الحر كالغمام والشجرِ والجبل وغيرها . امتنّ سبحانه بذلك لِما أن تلك الديارَ غالبةُ الحرارة { وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الجبال أكنانا } مواضعَ تسكنون فيها من الكهوف والغِيران والسُّروب ، والكلام في الترتيب الواقع بين المفاعيل كالذي مرَّ غير مرة .
{ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ } جمع سِربال وهو كل ما يُلبس ، أي جعل لكم ثياباً من القُطن والكَتان والصوف وغيرها { تَقِيكُمُ الحر } خصّه بالذكر اكتفاءً بذكر أحد الضدّين عن ذكر الآخر أو لأن وقايتَه هي الأهم عندهم لما مر آنفاً { وسرابيل } من الدروع والجواشن { تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } أي البأسَ الذي يصل إلى بعضكم من بعض في الحرب من الضرب والطعن ، ولقد منّ الله سبحانه علينا حيث ذكر جميعَ نعمِه الفائضةِ على جميع الطوائف فبدأ بما يخُص المقيمين حيث قال : { والله جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا } ثم بما يخص المسافرين ممن لهم قدرةٌ على الخيام وأضرابِها حيث قال : { وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الانعام } الخ ، ثم بما يعم من لا يقدر على ذلك ولا يأويه إلا الظلالُ حيث قال : { وَجَعَلَ لَكُمُ * مّمَّا خَلَقَ ظلالا } الخ ، ثم بما لا بد منه لأحد حيث قال : { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ } الخ ، ثم بما لا غنى عنه في الحروب حيث قال : { وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } ثم قال : { كذلك } أي مثلَ ذلك الإتمامِ البالغِ { يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } أي إرادةَ أن تنظروا فيما أسبغ عليكم من النعم الظاهرةِ والباطنةِ والأنفسيةِ والآفاقية فتعرِفوا حقَّ مُنعمِها فتؤمنوا به وحده وتذروا ما كنتم به تشركون وتنقادوا لأمره ، وإفرادُ النعمة إما لأن المرادَ بها المصدرُ أو لإظهار أن ذلك بالنسبة إلى جانب الكبرياءِ شيءٌ قليل ، وقرىء تَسلمون أي تسلمون من العذاب أو من الشرك ، وقيل : من الجراح بلبس الدروع .
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ } فعل ماض على طريقة الالتفات ، وصرفُ الخطابِ عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليةٌ له أي فإن أعرضوا عن الإسلام ولم يقبلوا منك ما ألقيَ إليهم من البينات والعِبر والعظات { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين } أي فلا قصور من جهتك لأن وظيفتك هي البلاغُ الموضح أو الواضح وقد فعلتَه بما لا مزيد عليه فهو من باب وضعِ السببِ موضعَ المسبب .(4/145)
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)
{ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله } استئنافٌ لبيان أن تولّيَهم وإعراضَهم عن الإسلام ليس لعدم معرفتهم بما عُدد من نعم الله تعالى أصلاً فإنهم يعرِفونها ويعترفون أنها من الله تعالى { ثُمَّ يُنكِرُونَهَا } بأفعالهم حيث يعبدون غيرَ مُنعمها أو بقولهم : إنها بشفاعة آلهتِنا أو بسبب كذا ، وقيل : نعمةُ الله تعالى نبوةُ محمد صلى الله عليه وسلم عرفوها بالمعجزات كما يعرفون أبناءَهم ثم أنكروها عِناداً ، ومعنى ثم استبعادُ الإنكار بعد المعرفة لأن حق مَنْ عرف النعمة الاعترافُ بها لا الإنكارُ ، وإسنادُ المعرفة والإنكارِ المتفرِّعِ عليها إلى ضمير المشركين على الإطلاق من باب إسنادِ حالِ البعض إلى الكل كقولهم : بنو فلان قتلوا فلاناً وإنما القاتل واحدٌ منهم ، فإن بعضهم ليسوا كذلك لقوله سبحانه : { وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون } أي المنكرون بقلوبهم غيرُ المعترفين بما ذكر ، والحُكم عليهم بمطلق الكفر المؤذِن بالكمال من حيث الكميةُ لا ينافي كمالَ الفِرقة الأولى من حيث الكيفية . هذا وقد قيل : ذكرُ الأكثر إما لأن بعضهم لم يَعرِفوا لنقصان العقل أو التفريطِ في النظر ، أو لم يقُم عليه الحجةُ لأنه لم يبلغ حد التكليف فتدبر .
{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا } يشهد لهم بالإيمان والطاعةِ وعليهم بالكفر والعصيان وهو نبيها { ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } في الاعتذار إذ لا عذرَ لهم وثم للدَّلالة على أن ابتلأَهم بالمنع عن الاعتذار المنبىء عن الإقناط الكليِّ وهو عندما يقال لهم : { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ } أشدُّ من ابتلائهم بشهادة الأنبياء عليهم السلام عليهم وأطمُّ { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } يُسترضَون أي لا يقال لهم : ارضُوا ربكم إذ الآخرةُ دارُ الجزاء لا دارُ العمل ، وانتصابُ الظرف بمحذوف تقديرُه اذكرْ أو خوِّفْهم يوم نبعث الخ ، أو يوم نبعث بهم ما يحيق مما لا يوصف وكذا قوله تعالى : { وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب } الذي يستوجبونه بظلمهم وهو عذابُ جهنم { فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ } ذلك { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } أي يُمهلون كقوله تعالى : { بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ . } { وَإِذَا رَءا الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءهُمْ } الذين كانوا يدعونهم في الدنيا وهم الأوثانُ أو الشياطينُ الذين شاركوهم في الكفر بالحمل عليه وقارنوهم في الغيّ والضلال { قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلآء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ } أي نعبدهم أو نطيعهم ولعلهم قالوا ذلك طمعاً في توزيع العذابِ بينهم كما ينبىء عنه قوله سبحانه : { فَأَلْقَوُاْ } أي شركاؤهم { إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لكاذبون } فإن تكذيبهم إياهم فيما قالوا ليس إلا للمدافعة والتخلص عن غائلة مضمونه ، وإنما كذبوهم وقد كانوا يعبدونهم ويطيعونهم لأن الأوثانَ ما كانوا راضين بعبادتهم لهم فكأن عبادتَهم لهم كما قالت الملائكةُ عليهم السلام : { بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن } يعنون أن الجنَّ هم الذين كانوا راضين بعبادتهم لا نحن أو كذبوهم في تسميتهم شركاءَ وآلهةً تنزيهاً لله سبحانه عن الشريك . والشياطينُ وإن كانوا راضين بعبادتهم لهم لكنهم لم يكونوا حاملين لهم على وجه القسر والإلجاءِ كما قال إبليسُ : { وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى } فكأنهم قالوا : ما عبدتمونا حقيقة بل إنما عبدتم أهواءكم .(4/146)
وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
{ وَأَلْقَوْاْ } أي الذين أشركوا { إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم } الاستسلامَ والانقيادَ لحُكمه العزيز الغالب بعد الاستكبار عنه في الدنيا { وَضَلَّ عَنْهُم } أي ضاع وبطل { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من أن لله سبحانه شركاءَ وأنهم ينصُرون ويشفعون لهم وذلك حين كذبوهم وتبرؤا منهم .
{ الذين كَفَرُواْ } في أنفسهم { وَصُدُّواْ } غيرهم { عَن سَبِيلِ الله } بالمنع عن الإسلام والحمل على الكفر { زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب } الذي كانوا يستحقونه بكفرهم ، قيل في زيادة عذابهم : حياتٌ أمثالُ البُخْت وعقاربُ أمثالُ البغال تلسَع إحداهن فيجد صاحبها حُمَتَها أربعين خريفاً ، وقيل : يُخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة البرد إلى النار { بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } متعلق بقوله : زدناهم ، أي زدنا عذابَهم بسبب استمرارِهم على الإفساد وهو الصدّ المذكور .
{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ } تكريرٌ لما سبق تثنيةً للتهديد { فِى كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ } أي نبياً { مّنْ أَنفُسِهِمْ } من جنسهم قطعاً لمعذرتهم وفي قوله تعالى : { عَلَيْهِمْ } إشعارٌ بأن شهادةَ أنبيائِهم على الأمم تكون بمحضر منهم { وَجِئْنَا بِكَ } إيثارُ لفظ المجيء على البعث لكمال العنايةِ بشأنه عليه السلام ، وصيغةُ الماضي للدِلالة على تحقق الوقوع { شَهِيدًا على هَؤُلآء } الأممِ وشهدائِهم كقوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً } وقيل : على أمتك والعاملُ في الظرف محذوفٌ كما مر والمراد يوم القيامة { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب } الكاملَ في الكتابية الحقيقَ بأن يُخَص باسم الجنس ، وهو إما استئنافٌ أو حال بتقدير قد { تِبْيَانًا } بياناً بليغاً { لّكُلّ شَىْء } يتعلق بأمور الدين ، ومن جملة ذلك أحوالُ الأممِ مع أنبيائهم عليهم السلام فيكون كالدليل على كونه عليه السلام شهيداً عليهم وكذا من جملته ما أخبر به هذه الآيةُ الكريمة من بعث الشهداءِ وبعثِه عليه السلام شهيداً عليهم عليهم الصلاة والسلام ، والتبيانُ كالتِلقاء في كسر أوله ، وكونُه تبياناً لكل شيء من أمور الدين باعتبار أن فيه نصاً على بعضها وإحالةً لبعضها على السنة حيث أُمر باتباع النبي عليه السلام وطاعته ، وقيل فيه : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } وحثًّا على الإجماع وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته باتباع أصحابه حيث قال : « أصحابي كالنّجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم » وقد اجتهدوا وقاموا ووطّأوا طرقَ الاجتهاد فكانت السنة والإجماعُ والقياسُ مستندةً إلى تبيان الكتاب ولم يضُرَّ ما في البعض من الخفاء في كونه تبياناً فإن المبالغةَ باعتبار الكمية دون الكيفية كما قيل في قوله تعالى : { وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ } إنه من قولك : فلان ظالم لعبده وظلام لعبيده ومنه قوله سبحانه : { وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ } { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } للعالمين فإن حرمانَ الكفرة من مغانم آثارِه من تفريطهم لا من جهة الكتاب { وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ } خاصة أو يكون كلُّ ذلك خاصاً بهم لأنهم المنتفِعون بذلك .(4/147)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)
{ إِنَّ الله يَأْمُرُ } أي فيما نزّله تبياناً لكل شيء وهدًى ورحمةً وبشرى للمسلمين ، وإيثارُ صيغةِ الاستقبال فيه وفيما بعده لإفادة التجددِ والاستمرار { بالعدل } بمراعاة التوسطِ بين طرفي الإفراطِ والتفريطِ وهو رأسُ الفضائل كلِّها يندرج تحته فضيلةُ القوةِ العقلية الملكية من الحِكمة المتوسطةِ بين الحُرية والبَلادة ، وفضيلةُ القوةِ الشهوية البهيمية من العِفة المتوسّطة بين الخلاعة والخمود ، وفضيلةُ القوة الغضبية السبعية من الشجاعة المتوسطة بين التهوُّرِ والجُبن ، فمن الحِكم الاعتقادية التوحيدُ المتوسطُ بين التعطيل والتشريك . نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما : «أن العدلَ هو التوحيدُ» والقولُ بالكسب المتوسّطِ بين الجبر والقدَر ، ومن الحِكم العملية التعبدُ بأداء الواجبات المتوسطِ بين البَطالة والترهب ، ومن الحِكم الخلُقية الجودُ المتوسط بين البخل والتبذير { والإحسان } أي الإتيانِ بما أمر به على الوجه اللائقِ وهو إما بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل أو بحسب الكيفيةِ كما يشير إليه قولُه صلى الله عليه وسلم : " الإحسانُ أن تعبدَ الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " { وَإِيتَآء ذِى القربى } أي إعطاءِ الأقارب ما يحتاجون إليه ، وهو تخصيصٌ إثرَ تعميمٍ اهتماماً بشأنه { وينهى عَنِ الفحشاء } الإفراط في مشايعة القوةِ الشهوية كالزنى مثلاً { والمنكر } ما يُنكَر شرعاً أو عقلاً من الإفراط في إظهار آثار القوةِ الغضبية { والبغى } الاستعلاءُ والاستيلاءُ على الناس والتجبرُ عليهم وهو من آثار القوة الوهمية الشيطانيةِ التي هي حاصلةٌ من رذيلتَيْ القوتين المذكورتين الشهويةِ والغضبية ، وليس في البشر شرٌّ إلا وهو مندرجٌ في هذه الأقسام صادرٌ عنه بواسطة هذه القُوى الثلاث ، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه : " هي أجمعُ آيةٍ في القرآن للخير والشر " ولو لم يكن فيه غيرُ هذه الآية الكريمة لكفَتْ في كونه تبياناً لكل شيءٍ وهدى ( ورحمة ) { يَعِظُكُمُ } بما يأمر وينهى ، وهو إما استئنافٌ وإما حالٌ من الضميرين في الفعلين { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } طلباً لأن تتعظوا بذلك .
{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله } هو البَيعةُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها مبايعةٌ لله سبحانه لقوله تعالى : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } { إِذَا عاهدتم } أي حافظوا على حدود ما عاهدتم الله عليه وبايعتم به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم { وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان } التي تحلِفون بها عند المعاهدة { بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } حسبما هو المعهودُ في أثناء العهودِ لا على أن يكون النهيُ مقيداً بالتوكيد مختصاً به { وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } شاهداً رقيباً ، فإن الكفيلَ مُراعٍ لحال المكفول به محافظٌ عليه { إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } من نقض الأيمان والعهودِ فيجازيكم على ذلك .(4/148)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
{ وَلاَ تَكُونُواْ } فيما تصنعون من النقض { كالتى نَقَضَتْ غَزْلَهَا } أي ما غزلتْه ، مصدرٌ بمعنى المفعول { مِن بَعْدِ قُوَّةٍ } متعلق بنقضت أي كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد إبرامه وإحكامِه { أنكاثا } طاقاتٍ نكثتْ فتلَها جمع نِكْث ، وانتصابه على الحالية من غزْلَها أو على أنه مفعولٌ ثانٍ لنقضت فإنه بمعنى صيّرت ، والمرادُ تقبيحُ حالِ النقض بتشبيه الناقض بمثل هذه الخرقاءِ المعتوهةِ . قيل : هي ( رَيْطةُ بنتُ سعد بن تيم ) وكانت خرقاءَ اتخذت مِغزلاً قدرَ ذراعٍ وصَنّارةً مثلَ أصبع وفلكةً عظيمةً على قدرها فكانت تغزِل هي وجواربها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقُضْن ما غزَلْن { تَتَّخِذُونَ أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ } حالٌ من الضمير في لا تكونوا أو في الجار والمجرور الواقعِ موقعَ الخبر أي مشابهين لامرأة شأنُها هذا حالَ كونِكم متَّخذين أيمانَكم مفسدةً ودخَلاً بينكم ، وأصلُ الدخَل ما يدخُل الشيء ولم يكن منه { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ } أي بأن تكون جماعة { هِىَ أَرْبَى } أي أزيد عدداً وأوفر مالاً { مِنْ أُمَّةٍ } من جماعة أخرى أي لا تغدُروا بقوم لكثرتكم وقلتهم أو لكثرة مُنابذيهم وقوتهم كقريش ، فإنهم كانوا إذا رأوا شوكةً في أعادي حلفائِهم نقضوا عهدَهم وحالفوا أعداءهم { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ } أي بأن تكون أمةٌ أربى من أمة ، أي يعاملكم بذلك معاملةَ من يختبركم لينظر أتتمسكون بحبل الوفاءِ بعهد الله وبَيعةِ رسولِه عليه السلام أم تغترّون بكثرة قريشٍ وشوكتِهم وقلةِ المؤمنين وضعفهم بحسب ظاهر الحال { وَلَيُبَيّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } حين جازاكم بأعمالكم ثواباً وعقاباً .
{ وَلَوْ شَاء الله } مشيئةَ قسرٍ وإلجاءٍ { لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة } متفقةً على الإسلام { ولكن } لا يشاء ذلك لكونه مزاحِماً لقضية الحِكمة بل { يُضِلُّ مَن يَشَاء } إضلالَه أي يخلق فيه الضلالَ حسبما يصرِفُ اختيارَه الجزئيَّ إليه { وَيَهْدِى مَن يَشَاء } هدايته حسبما يصرِف اختيارَه إلى تحصيلها { وَلَتُسْئَلُنَّ } جميعاً يوم القيامة { عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } في الدنيا ، وهذا إشارةٌ إلى ما لُوِّح به من الكسب الذي عليه يدور أمرُ الهداية والضلال .(4/149)
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
{ وَلاَ تَتَّخِذُواْ أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ } تصريحٌ بالنهي عنه بعد التضمين تأكيداً ومبالغةً في بيان قبحِ المنهيِّ عنه وتمهيداً لقوله سبحانه : { فَتَزِلَّ قَدَمٌ } عن مَحَجّة الحق { بَعْدَ ثُبُوتِهَا } عليها ورسوخِها فيها بالإيمان ، وإفرادُ القدم وتنكيرُها للإيذان بأن زلَلَ قدمٍ واحدة أيَّ قدمٍ كانت عزّت أو هانت محذورٌ عظيم فكيف بأقدام كثيرة { وَتَذُوقُواْ السوء } أي العذابَ الدنيوي { بِمَا صَدَدتُّمْ } بصدودكم أو بصدّكم غيرَكم { عَن سَبِيلِ الله } الذين ينتظم الوفاءَ بالعهود والأيمان ، فإن من نقض البَيعةَ وارتدّ جَعل ذلك سنةً لغيره { وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
{ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله } أي لا تأخذوا بمقابلة عهدِه تعالى وبَيعةِ رسوله عليه السلام أو آياتِه الناطقة بإيجاب المحافظةِ على العهود والأيمان { ثَمَناً قَلِيلاً } أي لا تستبدلوا بها عرَضاً يسيراً وهو ما كانت قريشٌ يعِدّون ضعفةَ المسلمين ويشترطون لهم على الارتداد من حُطام الدنيا { إِنَّمَا عِنْدَ الله } عز وجل من النصر والتنعيم والثوابِ الأخرويّ { هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } مما يعِدونكم { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي إن كنتم من أهل العلمِ والتمييزِ ، وهو تعليلٌ للنهي على طريقة التحقيقِ كما أن قوله تعالى : { مَا عِندَكُمْ } تعليلٌ للخيرية بطريق الاستئنافِ أي ما تتمتعون به من نعيم الدنيا وإن جل بل الدنيا وما فيها جميعاً { يَنفَدُ } وإن جمّ عددُه ، وينقضي وإن طال أمدُه { وَمَا عِندَ الله } من خزائن رحمتِه الدنيوية والأخروية { بَاقٍ } لا نفادَ له ، أما الأخرويةُ فظاهرةٌ وأما الدنيويةُ فحيث كانت موصولةً بالأخروية ومستتبِعةً لها فقد انتظمت في سِمْط الباقيات .
وفي إيثار الاسمِ على صيغة المضارعِ من الدلالة على الدوام ما لا يخفى ، وقوله تعالى : { وَلَنَجْزِيَنَّ } بنون العظمة على طريقة الالتفاتِ تكريرُ الوعد المستفادِ من قوله تعالى : { إِنَّمَا عِنْدَ الله هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } على نهج التوكيدِ القسميِّ مبالغةٌ في الحمل على الثبات في الدين ، والالتفاتُ عما يقتضيه ظاهرُ الحال من أن يقال : ولنجزينكم أجركم بأحسن ما كنتم تعملون ، للتوسل إلى التعرض لأعمالهم والإشعارِ بعليتها للجزاء أي والله لنجزين { الذين صَبَرُواْ } على أذية المشركين ومشاقِّ الإسلام التي من جملتها الوفاءُ بالعهود والفقرُ ، وقرىء بالياء من غير التفاتٍ { أَجْرَهُمْ } مفعولٌ ثانٍ لنجزين أي لنُعطِينّهم أجرَهم الخاصَّ بهم بمقابلة صبرِهم على ما مُنوا به من الأمور المذكورة { بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي لنجزينهم بما كانوا يعملونه من الصبر المذكورِ ، وإنما أضيف إليه الأحسنُ للإشعار بكمال حسنِه كما في قوله سبحانه : { وَحُسْنَ ثَوَابِ الأخرة } لا لإفادة قصرِ الجزاءِ على الأحسن منه دون الحسَن ، فإن ذلك مما لا يخطر ببال أحد ، لا سيما بعد قوله تعالى : { أَجْرَهُمْ } و { لنجزينهم } بحسب أحسنِ أفرادِ أعمالِهم على معنى لنعطينهم بمقابلة الفردِ الأدنى من أعمالهم المذكورة ما نعطيه بمقابلة الفردِ الأعلى منها من الأجر الجزيلِ لا أنا نُعطي الأجر بحسب أفرادِها المتفاوتةِ في مراتب الحسن بأن نجزيَ الحسنَ منها بالأجر الحسَنِ والأحسنَ بالأحسن .(4/150)
وفيه ما لا يخفى من العُهدة الجميلة باغتفار ما عسى يعتريهم في تضاعيف الصبر من بعض جزَعٍ ، ونظمِه في سلك الصبر الجميل ، أو لنجزينهم بجزاءٍ أحسنَ من أعمالهم .
وأما التفسيرُ بما ترجح فعلُه من أعمالهم كالواجبات والمندوبات أو بما ترجح تركُه أيضاً كالمحرمات والمكروهات دلالةً على أن ذلك هو المدارُ للجزاء دون ما يستوي فعلُه وتركُه كالمباحات ، فلا يساعده مقامُ الحثِّ على الثبات على ما هم عليه من الأعمال الحسنةِ المخصوصة والترغيبِ في تحصيل ثمراتها ، بل التعرضُ لإخراج بعض أعمالِهم عن مدارية الجزاءِ من قبيل تحجيرِ الرحمةِ الواسعة في مقام توسيعِ حِماها .(4/151)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)
{ مَّنْ عَمِلَ صالحا } أي عملاً صالحاً أيَّ عملٍ كان ، وهذا شروعٌ في تحريض كافةِ المؤمنين على كل عملٍ صالح غِبَّ ترغيبِ طائفةٍ منهم في الثبات على ما هم عليه من عمل صالحٍ مخصوصٍ دفعاً لتوهم اختصاصِ الأجر الموفورِ بهم وبعملهم المذكور وقوله تعالى : { مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } مبالغةٌ في بيان شمولِه للكل { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } قيّده به إذ لا اعتدادَ بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب أو تخفيفِ العذاب لقوله تعالى : { وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } وإيثارُ إيرادِه بالجملة الاسميةِ الحالية على نظمه في سلك الصلةِ لإفادة وجوبِ دوامه ومقارنتِه للعمل الصالح { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً } أما إن كان موسراً فظاهرٌ وأما إن كان معسِراً فيطيب عيشُه بالقناعة والرضى بالقسمة وتوقعِ الأجرِ العظيم كالصائم يطيب نهارُه بملاحظة نعيمِ ليلِه بخلاف الفاجر ، فإنه إن كان معسراً فظاهرٌ وإن كان موسراً فلا يدعه الحِرصُ وخوفُ الفوات أن يتهنأ بعيشه { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ } في الآخرة { أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } حسبما نفعل بالصابرين فليس فيه شائبةُ تكرار ، والجمعُ في الضمائر العائدةِ إلى الموصول لمراعاة جانبِ المعنى كما أن الإفراد فيما سلف لرعاية جانب اللفظ ، وإيثار ذلك على العكس لِما أن وقوعَ الجزاءِ بطريق الاجتماعِ المناسبِ للجمعية ووقوعَ ما في حيز الصلةِ وما يترتب عليه بطريق الافتراقِ والتعاقُب الملائمِ للإفراد ، وإذ قد انتهى الأمرُ إلى أن مدار الجزاءِ المذكورِ وهو صلاحُ العمل وحسنُه رُتّب عليه بإلغاء الإرشاد إلى ما به يحسُن العمل الصالح ويخلُص عن شَوب الفساد فقيل :
{ فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان } أي إذا أردت قراءتَه عبّر بها عن إرادتها على طريقة إطلاقِ اسم المسبّب على السبب إيذاناً بأن المرادَ هي الإرادةُ المتصلةُ بالقراءة { فاستعذ بالله } فاسأله عز جارُه أن يعيذك { مِنَ الشيطان الرجيم } من وساوسه وخطَراتِه كيلا يوسوسَك عند القراءة فإن له هَمّةً بذلك ، قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ } الآية ، وتوجيهُ الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخصيصُ قراءة القرآن من بين الأعمال الصالحة بالاستعاذة عند إرادتها للتنبيه على أنها لغيره عليه الصلاة والسلام وفي سائر الأعمال الصالحةِ أهمّ فإنه عليه السلام حيث أُمر بها عند قراءةِ القرآن الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه فما ظنكم بمن عداه عليه السلام وفيما عدا القراءةَ من الأعمال والأمرُ للندب وهذا مذهبُ الجمهور ، وعند عطاءٍ للوجوب وقد أخذ بظاهر النظمِ الكريم فاستعاذ عَقيبَ القراءة أبو هريرة رضي الله عنه ومالكٌ وابنُ سيرينَ وداودُ وحمزةُ من القراء ، وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه : قرأتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ، فقال عليه السلام : « قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبريلُ عليه السلام عن القلم عن اللوح المحفوظ »(4/152)
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
{ أَنَّهُ } الضمير للشأن أو للشيطان { لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ } تسلّطٌ وولاية { على الذين ءامَنُواْ وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي إليه يفوضون أمورَهم وبه يعوذون في كل ما يأتون وما يذرون فإن وسوستَه لا تؤثر فيهم ودعوتَه غيرُ مستجابة عندهم ، وإيثارُ صيغةِ الماضي في الصلة الأولى للدِلالة على التحقق كما أن اختيارَ صيغةِ الاستقبالِ في الثانية لإفادة الاستمرارِ التجدّدي ، وفي التعرض لوصف الربوبية عِدَةٌ كريمةٌ بإعادة المتوكلين ، والجملة تعليلٌ للأمر بالاستعاذة أو لجوابه المنويِّ أي يُعِذْك أو نحوه .
{ إِنَّمَا سلطانه } أي تسلّطُه وولايتُه بدعوته المستتبعةِ للاستجابة لا سلطانُه بالقسر والإلجاء فإنه مُنتفٍ عن الفريقين لقوله سبحانه حكايةً عنه : { وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى } وقد أفصح عنه قولُه تعالى : { على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ } أي يتخذونه وليًّا ويستجيبون دعوتَه ويُطيعونه فإن المقسورَ بمعزل من ذلك { والذين هُم بِهِ } سبحانه وتعالى { مُّشْرِكُونَ } أو بسبب الشيطانِ مشركون إذ هو الذي حملهم على الإشراك بالله سبحانه ، وقصُر سلطانه عليهم غِبَّ نفيه عن المؤمنين المتوكلين دليلٌ على أنْ لا واسطة في الخارج بين التوكل على الله تعالى وبين تولي الشيطان وإن كان بينهما واسطةٌ في المفهوم وأن من لم يتوكل عليه تعالى ينتظمُ في سلك مَنْ يتولّى الشيطانَ من حيث لا يحتسب إذ به يتم التعليلُ ففيه مبالغةٌ في الحمل على التوكل والتحذيرِ عن مقابله ، وإيثارُ الجملة الفعليةِ الاستقبالية في الصلة الأولى لما مر من إفادة الاستمرارِ التجدّدي كما أن اختيارَ الجملةِ الاسميةِ في الثانية للدلالة على الثبات ، وتكريرُ الموصولِ للاحتراز عن توهم كونِ الصلةِ الثانية حاليةً مفيدةً لعدم دخول غيرِ المشركين من أولياء الشيطانِ تحت سلطانِه ، وتقديمُ الأولى على الثانية التي هي بمقابلة الصلة الأولى فيما سلف لرعاية المقارَنةِ بينها وبين ما يقابلها من التوكل على الله تعالى ، ولو رُوعيَ الترتيبُ السابق لانفصل كلٌّ من القرينتين عما يقابلها .
{ وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ } أي إذا أنزلنا آيةً من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلاً منها بأن نسخناها بها { والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ } أولاً وآخِراً وبأن كلاًّ من ذلك ما نزلت حيثما نزلت إلا حسبما تقتضيه الحِكمةُ والمصلحة ، فإن كل وقت له مقتضًى غيرُ مقتضى الآخَر ، فكم من مصلحة في وقت تنقلب في وقت آخرَ مفسدةً وبالعكس ، لانقلاب الأمورِ الداعية إلى ذلك وما الشرائعُ إلا مصالحُ للعباد في المعاش والمعاد ، تدور حسبما تدور المصالحُ ، والجملةُ إما معترضةٌ لتوبيخ الكفرةِ والتنبيهِ على فساد رأيهم ، وفي الالتفات إلى الغَيبة مع إسناد الخبرِ إلى الاسم الجليلِ المستجمِع للصفات ما لا يخفى من تربية المهابةِ وتحقيقِ معنى الاعتراض أو حالية وقرىء بالتخفيف من الإنزال { قَالُواْ } أي الكفرة الجاهلون بحكمة النسخ { إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ } أي متقوّلٌ على الله تعالى تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه ، وحكايةُ هذا القول عنهم هاهنا للإيذان بأن ذلك كَفْرةٌ ناشئةٌ من نزغات الشيطان وأنه وليُّهم { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي لا يعلمون شيئاً أصلاً أو لا يعلمون أن في النسخ حِكَماً بالغةً ، وإسنادُ هذا الحكمِ إلى الأكثر لما أن منهم مَنْ يعلم ذلك وإنما ينكره عِناداً .(4/153)
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
{ قُلْ نَزَّلَهُ } أي القرآنَ المدولَ عليه بالآية { رُوحُ القدس } يعني جبريلُ عليه السلام أي الروحُ المطهّر من الأدناس البشرية ، وإضافةُ الروحِ إلى القدس وهو الطُهْرُ كإضافة حاتم إلى الجود حيث قيل : حاتمُ الجودِ للمبالغة في ذلك الوصفِ كأنه طبعٌ منه ، وفي صيغة التفعيلِ في الموضعين إشعارٌ بأن التدريجَ في الإنزال مما تقتضيه الحِكَمُ البالغة { مِن رَبّكَ } في إضافة الربِّ إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من الدلالة على تحقيق إفاضةِ آثارِ الربوبية عليه صلى الله عليه وسلم ما ليس في إضافته إلى ياء المتكلم المبنيةِ على التلقين المحض { بالحق } أي ملتبساً بالحق الثابتِ الموافقِ للحكمة المقتضيةِ له بحيث لا يفارقها إنشاءً ونسخاً ، وفيه دَلالةٌ على أن النسخ حق { لِيُثَبّتَ الذين ءامَنُواْ } على الإيمان بأنه كلامُه تعالى فإنهم إذا سمعوا الناسخَ وتدبّروا ما فيه من رعاية المصالحِ اللائقة بالحال رسَخت عقائدُهم واطمأنت قلوبُهم ، وقرىء ليُثبت من الإفعال { وَهُدًى وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ } المنقادين لحُكمه تعالى وهما معطوفان على محل ليثبت أي تثبيتاً وهدايةً وبشارةً ، وفيه تعريضٌ بحصول أضدادِ الأمورِ المذكورة لمن سواهم من الكفار .
{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ } غيرَ ما نقل عنهم من المقالة الشنعاء { إِنَّمَا يُعَلّمُهُ } أي القرآنَ { بُشّرَ } على طريق البتّ مع ظهور أنه نزّله روحُ القدس عليه الصلاة والسلام ، وتحليةُ الجملةِ بفنون التأكيدِ لتحقيق ما تتضمنه من الوعيد ، وصيغةُ الاستقبال لإفادة استمرارِ العلم بحسب الاستمرارِ التجدّدي في متعلَّقه فإنهم مستمرون على تفوّه تلك العظيمةِ ، يعنون بذلك جبراً الروميَّ غلامَ عامر بنِ الحضرمي ، وقيل : جبراً ويساراً كانا يصنعان السيفَ بمكة ويقرآن التوارةَ والإنجيلَ وكان الرسولُ عليه الصلاة والسلام يمرّ عليهما ويسمع ما يقرآنه ، وقيل : عابساً غلامَ حويطِب بنِ عبدِ العزى ( كان ) قد أسلم وكان صاحبَ كتب ، وقيل : سلمانَ الفارسي ، وإنما لم يصرَّح باسم من زعموا أنه يعلمه مع كونه أدخلَ في ظهور كذبِهم للإيذان بأن مدار خطابهم ليس نسبتَه عليه السلام إلى التعلم من شخص معينٍ بل من البشر كائناً مَنْ كان مع كونه عليه السلام معدِناً لعلوم الأولين والآخرين { لّسَانُ الذى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ } الإلحادُ الإمالةُ ، مِنْ ألحد القبرَ إذا أمال حفرَه عن الاستقامة فحفر في شق منه ثم استُعير لكل إمالةٍ عن الاستقامة فقالوا : ألحد فلانٌ في قوله وألحد في دينه ، أي لغةُ الرجلِ الذي يُميلون إليه القول عن الاستقامة أعجميةٌ غيرُ بيِّنةٍ ، وقرىء بفتح الياء والحاء وبتعريف اللسان { وهذا } أي القرآنُ الكريم { لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ } ذو بيان وفصاحةٍ ، والجملتان مستأنَفتان لإبطال طعنهم ، وتقريرُه أن القرآن معجزٌ بنظمه كما أنه معجزٌ بمعناه فإن زعمتم أن بشراً يعلّمه معناه فكيف يعلّمه هذا النظمَ الذي أعجز جميعَ أهل الدنيا والتشبثُ في أثناء الطعن بأذيال أمثالِ هذه الخرافاتِ الركيكة دليلٌ على كمال عجزهم .(4/154)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
{ إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله } أي لا يصدّقون أنها من عند الله بل يقولون فيها ما يقولون ، يسمّونها تارة افتراءً وأخرى أساطيرَ معلَّمةً من البشر { لاَ يَهْدِيهِمُ الله } إلى الحق أو إلى سبيل النجاةِ هدايةً موصلة إلى المطلوب لما عليم أنهم لا يستحقون ذلك لسوء حالهم { وَلَهُمْ } في الآخرة { عَذَابٌ أَلِيمٌ } وهذا تهديدٌ لهم ووعيدٌ على ما هم عليه من الكفر بآياتِ الله تعالى ونسبة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى الافتراء والتعلم من البشر بعد إماطةِ شبُهتِهم وردّ طعنهم .
وقوله تعالى : { إِنَّمَا يَفْتَرِى الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله } ردٌّ لقولهم : إنما أنت مفترٍ ، وقلبٌ للأمر عليهم ببيان أنهم هم المفترون بعد رده بتحقيق أنه منزلٌ من عند الله بواسطة روحِ القدس ، وإنما وُسّط بينهما قوله تعالى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ } الآية ، لما لا يخفى من شدة اتصالِه بالرد الأول ، والمعنى والله تعالى أعلم أن المفتريَ هو الذي يكذّب بآيات الله ويقول إنه افتراءٌ ومعلَّمٌ من البشر أي تكذيبُها على الوجه المذكور هو الافتراءُ على الحقيقة لأن حقيقتَه الكذبُ ، والحكم بأن ما هو كلامُه تعالى ليس بكلامه تعالى في كونه كذباً وافتراءً كالحكم بأن ما ليس بكلامه تعالى كلامُه تعالى ، والتصريحُ بالكذب للمبالغة في بيان قُبحِه ، وصيغةُ المضارع لرعاية المطابقة بينه وبين ما هو عبارةٌ عنه أعني قوله : لا يؤمنون ، وقيل : المعنى إنما يفتري الكذبَ ويليق ويليق ذلك بمن لا يؤمن بآيات الله لأنه لا يترقب عقاباً عليه ليرتدعَ عنه ، وأما من يؤمن بها ويخاف ما نطقت به من العقاب فلا يمكن أن يصدر عنه افتراءٌ البتةَ { وَأُوْلئِكَ } الموصوفون بما ذكر من عدم الإيمانِ بآيات الله { هُمُ الكاذبون } على الحقيقة أو الكاملون في الكذب إذ لا كذِبَ أعظمُ من تكذيب آياتِه تعالى والطعنِ فيها بأمثال هاتيك الأباطيلِ ، والسرُّ في ذلك أن الكذِبَ الساذَجَ الذي هو عبارةٌ عن الإخبار بعدم وقوعِ ما هو واقعٌ في نفس الأمرِ بخلق الله تعالى أو بوقوعِ ما لم يقعْ كذلك مدافعةٌ لله تعالى في فعله فقط ، والتكذيبُ مدافعةٌ له سبحانه في فعله وقولِه المنبىءِ عنه معاً ، أو الذين عادتُهم الكذبُ لا يزَعُهم عنه وازعٌ من دين أو مروءةٍ ، وقيل : الكاذبون في قولهم : إنما أنت مفتر .
{ مَن كَفَرَ بالله } أي تلفظ بكلمة الكفر { مِن بَعْدِ إيمانه } به تعالى ، وهو ابتداءُ كلامٍ لبيان حالِ من كفر بآيات الله بعدما آمن بها بعد بيان حالِ من لم يؤمن بها رأساً ، ومَنْ موصولةٌ ومحلُّها الرفعُ على الابتداء ، والخبرُ محذوفٌ لدِلالة الخبرِ الآتي عليه أو هو خبرٌ لهما معاً ، أو النصبُ على الذم { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } على ذلك بأمر يخاف على نفسه أو على عضو من أعضائه ، وهو استثناءٌ متّصلٌ من حكم الغضبِ والعذاب أو الذمّ لأن الكفرَ لغةٌ تتم بالقول كما أشير إليه قوله تعالى : { وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } حالٌ من المستثنى والعاملُ هو الكفرُ الواقع بالإكراه ، لأن مقارنةَ اطمئنان القلبِ بالإيمان للإكراه لا تجدي نفعاً ، وإنما المجدي مقارنتُه للكفر الواقعِ به أي إلا مَنْ كفر بإكراه وإلا من أُكره فكفر ، والحالُ أن قلبه مطمئنٌّ بالإيمان لم تتغير عقيدتُه ، وإنما لم يصرَّح به إيماءً إلى أنه ليس بكفر حقيقة ، وفيه دليلٌ على أن الإيمانَ هو التصديقُ بالقلب { ولكن مَّن } لم يكن كذلك بل { شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } أي اعتقده وطاب به نفساً { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } عظيم لا يُكتنه كُنهه { مِنَ الله } إظهارُ الاسم الجليلِ لتربية المهابة وتقويةٌ لعظيم العذاب { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } إذ لا جُرم أعظمُ من جرمهم ، والجمعُ في الضميرين المجرورين لمراعاة جانبِ المعنى كما أن الإفراد في المستكنّ في الصلة لرعاية جانبِ اللفظ .(4/155)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108)
{ ذلك } إشارةٌ إلى الكفر بعد الإيمان أو إلى الوعيد المذكور { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { استحبوا الحياة الدنيا } آثروها { على الاخرة وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِى } إلى الإيمان وإلى ما يوجب الثباتَ عليه هدايةَ قسرٍ وإلجاءٍ { القوم الكافرين } في علمه المحيطِ فلا يعصمهم عن الزيغ وما يؤدّي إليه من الغضب والعذابِ العظيم ، ولولا أحدُ الأمرين : إما إيثارُ الحياة الدنيا على الآخرة وإما عدمُ هدايةِ الله سبحانه للكافرين هدايةَ قسرٍ بأن آثروا الآخرة على الدنيا أو بأن هداهم الله تعالى هدايةَ قسرٍ ، لَما كان ذلك لكنّ الثانيَ مخالفٌ للحكمة والأولُ مما لا يدخُل تحت الوقوعِ وإليه أشير بقوله تعالى :
{ أولئك } أي أولئك الموصوفين بما ذكر من القبائح { الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وأبصارهم } فأبت عن إدراك الحقِّ والتأمل فيه { وَأُولَئِكَ هُمُ الغافلون } أي الكاملون في الغفلة إذ لا غفلةَ أعظمُ من الغفلة عن تدبر العواقب .(4/156)
لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
{ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاخرة هُمُ الخاسرون } إذْ ضيّعوا أعمارَهم وصرفوها إلى ما لا يفضي إلا إلى العذاب المخلد .
{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا } إلى دار الإسلام وهم عمارٌ وأصحابُه رضي الله عنهم ، أي لهم بالولاية والنصرِ لا عليهم كما يوجبه ظاهرُ أعمالِهم السابقةِ ، فالجارُّ والمجرور خبرٌ لإن ويجوز أن يكون خبرُها محذوفاً فالدلالة الخبرِ الآتي عليه ويجوز أن يكون ذلك خبراً لها وتكون إن الثانيةُ تأكيداً للأولى ، وثم للدِلالة على تباعد رتبةِ حالهم التي يفيدها الاستثناءُ من مجرد الخروجِ عن حكم الغضب والعذابِ بطريق الإشارة ، لا عن رتبة حالِ الكفرة { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } أي عُذّبوا على الارتداد وتلفظوا بما يرضيهم مع اطمئنان قلوبِهم بالإيمان ، وقرىء على بناء الفاعل أي عذَّبوا المؤمنين كالحضْرمي أكره مولاه جبراً حتى ارتد ثم أسلما وهاجرا { ثُمَّ جاهدوا } في سبيل الله { وَصَبَرُواْ } على مشاقّ الجهاد { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } من بعد المهاجِرةَ والجهاد والصبرِ ، فهو تصريحٌ بما أشعر به بناءُ الحُكم على الموصول من علّية الصلة له أو من بعد الفتنة المذكورة فهو لبيان عدمِ إخلالِ ذلك بالحكم { لَغَفُورٌ } لما فعلوا من قبلُ { رَّحِيمٌ } يُنعم عليهم مجازاةً على ما صنعوا من بعد ، وفي الترعض لعنوان الربوبيةِ في الموضعين إيماءٌ إلى علة الحكمِ ، وفي إضافة الربِّ إلى ضميره عليه السلام مع ظهور الأثرِ في الطائفة المذكورة إظهارٌ لكمال اللطفِ به عليه السلام وإشعارٌ بأن إفاضة آثارِ الربوبيةِ عليهم من المغفرة والرحمةِ بواسطته عليه السلام ولكونهم أتباعاً له .
{ يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ } منصوب برحيم وما رُتِّب عليه ، أو باذكر وهو يوم القيامة يوم يقوم الناسُ لرب العالمين { تجادل عَن نَّفْسِهَا } عن ذاتها تسعى في خلاصها بالاعتذار لا يُهِمّها شأنُ غيرها فتقول نفسي نفسي { وتوفى كُلُّ نَفْسٍ } أي تعطى وافياً كاملاً { مَّا عَمِلَتْ } أي جزاءَ ما عملت بطريق إطلاقِ اسمِ السبب على المسبَّب إشعاراً بكمال الاتصالِ بين الأجزية والأعمال ، وإيثارُ الإظهار على الإضمار لزيادة التقريرِ وللإيذان باختلاف وقتي المجادلةِ والتوفيةِ وإن كانتا في يوم واحد { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } لا يُنقَصون أجورَهم أو لا يعاقبون بغير موجب ولا يُزاد في عقابهم على ذنوبهم .
{ وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً } قيل : ضرْبُ المثل صنعُه واعتمالُه ، وقد مرَّ تحقيقُه في سورة البقرة ، ولا يتعدى إلا إلى مفعول واحدٍ وإنما عُدّيَ لاثنين لتضمينه معنى الجعْل ، وتأخيرُ قريةً مع كونها مفعولاً أولاً لئلا يحولَ المفعولُ الثاني بينها وبين صفتِها وما يترتب عليها ، إذ التأخيرُ عن الكل مُخِلٌّ بتجاذب أطرافِ النظم وتجاوبها ، ولأن تأخيرَ ما حقُّه التقديمُ مما يورث النفسَ ترقباً لوروده تشوقاً لا سيما إذا كان في المقدَّم ما يدعو إليه ، فإن المثلَ مما يدعو إلى المحافظة على تفاصيل أحوالِ ما هو مثلٌ فيتمكن المؤخرُ عند ورودِه لديها فضلَ تمكنٍ ، والقريةُ إما محققةٌ في الغابرين ، وإما مقدرةٌ أي جعلها مثلاً لأهل مكةَ خاصةً ، أو لكل قوم أنعم الله تعالى عليهم فأبطرتهم النعمةُ ففعلوا ما فعلوا فبدل الله تعالى بنعمتهم نقمةً ودخل فيهم أهلُ مكةَ دخولاً أولياً { كَانَتْ ءامِنَةً } ذاتَ أمنٍ من كل مَخُوف { مُّطْمَئِنَّةً } لا يُزعج أهلَها مزعجٌ { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا } أقواتُ أهلها ، صفةٌ ثانية لقريةً وتغييرُ سبكها عن الصفة الأولى لما أن إتيانَ رزقِها متجددٌ وكونَها آمنةً مطمئنةً ثابتٌ مستمرٌّ { رَغَدًا } واسعاً { مّن كُلّ مَكَانٍ } من نواحيها .(4/157)
{ فَكَفَرَتْ } أي كفرَ أهلُها { بِأَنْعُمِ الله } أي بنِعَمه ، جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدِرع وأدرُع ، أو جمع نُعْم كبؤس وأبؤس ، والمراد بها نعمةُ الرزقِ والأمن المستمرِّ ، وإيثارُ جمعِ القلةِ للإيذان بأن كفرانَ نعمةٍ قليلة حيث أوجب هذا العذابَ فما ظنك بكفران نِعمٍ كثيرة { فَأَذَاقَهَا الله } أي أذاق أهلها { لِبَاسَ الجوع والخوف } شُبِّه أثرُ الجوعِ والخوف وضررُهما المحيطُ بهم باللباس الغاشي للاّبس فاستُعير له اسمُه وأُوقِع عليه الإذاقةُ المستعارة لمطلق الإيصالِ المنبئةِ عن شدة الإصابةِ بما فيها من اجتماع إدراكَيْ اللامسةِ والذائقة على نهج التحرير ، فإنها لشيوع استعمالِها في ذلك وكثرةِ جرَيانها على الألسنة جرت مجرى الحقيقةِ كقول كثيِّر
غمْرُ الرداءِ إذا تبسم ضاحكا ... غلقت لضحكته رقابُ المال
فإن الغمْرَ مع كونه في الحقيقة من أحوال الماءِ الكثير لمّا كان كثيرَ الاستعمال في المعروف المشبَّهِ بالماء الكثير جرى مجرى الحقيقةِ فصارت إضافتُه إلى الرداء المستعارِ للمعروف تجريداً . أو شبّه أثرُهما وضررُهما من حيث الإحاطةُ بهم والكراهةُ لديهم تارة باللباس الغاشي لِلاّبس المناسبِ للخوف بجامع الإحاطةِ واللزوم تشبيهَ معقولٍ بمحسوس فاستُعير له اسمُه استعارةً تصريحيةً ، وأخرى بطعم المرِّ البشعِ الملائمِ للجوع الناشىءِ من فقد الرزق بجامع الكراهة ، فأُوميَ إليه بأن أوقع عليه الإذاقةُ المستعارة لإيصال الضارِّ المنبئةُ عن شدة الإصابة بما فيها من اجتماع إدراكَيْ اللامسة والذائقة ، وتقديمُ الجوعِ الناشىء مما ذكر من فقدان الرزقِ على الخوف المترتب على زوال الأمن المقدمِ فيما تقدم على إتيان الرزق لكونه أنسبَ بالإذاقة أو لمراعاةٍ بينها وبين إتيان الرزقِ ، وقد قرىء بتقديم الخوفِ وبنصبه أيضاً عطفاً على المضاف ، أو إقامةً له مُقامَ مضافٍ محذوف وأصله ولباسَ الخوف { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } فيما قبلُ أو على وجه الاستمرار وهو الكفرانُ المذكور أسند ذلك إلى أهل القريةِ تحقيقاً للأمر بعد إسنادِ الكفرانِ إليها وإيقاعِ الإذاقة عليها إرادةً للمبالغة ، وفي صيغة الصنعة إيذانٌ بأن كفرانَ النعمة صار صنعةً راسخةً لهم وسنةً مسلوكة .(4/158)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)
{ وَلَقَدْ جَاءهُمْ } من تتمة المثَل ، جيء بها لبيان أن ما فعلوه من كفران النعم لم يكن مزاحمةً منهم لقضية العقلِ فقط بل كان ذلك معارضةً لحجة الله على الخلق أيضاً ، أي ولقد جاء أهلَ تلك القرية { رَسُولٌ مّنْهُمْ } أي من جنسهم يعرِفونه بأصله ونسبِه فأخبرهم بوجوب الشكرِ على النعمة وأنذرهم سوءَ عاقبة ما يأتون وما يذرون { فَكَذَّبُوهُ } في رسالته أو فيما أخبرهم به مما ذكر ، فالفاءُ فصيحةٌ وعدم ذكرِه للإيذان بمفاجأتهم بالتكذيب من غير تلعثم { فَأَخَذَهُمُ العذاب } المستأصِلُ لشأفتهم غِبَّ ما ذاقوا نُبذةً من ذلك { وَهُمْ ظالمون } أي حالَ التباسهم بما هم عليه من الظلم الذي هو كفرانُ نعمِ الله تعالى وتكذيبُ رسوله غيرَ مُقلعين عنه بما ذاقوا من مقدماته الزاجرةِ عنه ، وفيه دَلالةٌ على تماديهم في الكفر والعِناد وتجاوزِهم في ذلك كلَّ حدَ معتاد . وترتيبُ العذاب على تكذيب الرسول جرى على سنة الله تعالى حسبما يرشد إليه قولُه سبحانه : { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } وبه يتم التمثيلُ فإن حالَ أهل مكةَ سواءٌ ضُرب المثلُ لهم خاصة أو لمن سار سيرتَهم كافةً محاذيةٌ لحال أهلِ تلك القريةِ حذوَ القذة بالقذة من غير تفاوت بينهما ولو في خصلة فَذّة ، كيف لا وقد كانوا في حرم آمنٍ ويُتخطف الناسُ من حولهم وما يمر ببالهم طيفٌ من الخوف وكانت تجبى إليه ثمراتُ كل شيء ، ولقد جاءهم رسولٌ منهم وأيُّ رسول ، يحار في إدراك سموِّ رتبتِه العقولُ صلى الله عليه وسلم ما اختلف الدبور والقبور ، فكفروا بأنعم الله وكذبوا رسوله عليه السلام فأذاقهم الله لباسَ الجوعِ والخوف حيث أصابهم بدعائه عليه السلام بقوله : « اللهمَّ أعِنِّي عليهم بسبْعٍ كسبع يوسفَ » ما أصابهم من جدب شديدٍ وأزمة خصّت كلَّ شيء حتى اضطرتهم إلى أكل الجِيف والكلابِ الميتة والعظامِ المحرقة والعلهز وهو الوبرُ المعالَجُ بالدم وقد ضاقت عليهم الأرضُ بما رحبت من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانوا يُغيرون على مواشيهم وعِيرهم وقوافلهم ، ثم أخذهم يومَ بدرٍ ما أخذهم من العذاب .
هذا هو الذي يقتضيه المقام ويستدعيه حسنُ النظام ، وأما ما أجمع عليه أكثرُ أهل التفسير من أن الضمير في قوله تعالى : { وَلَقَدْ جَاءهُمْ } لأهل مكةَ قد ذُكر حالُهم صريحاً بعد ما ذكر مَثلُهم وأن المرادَ بالرسول محمدٌ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وبالعذاب ما أصابهم من وقعة بدر فبمعزل من التحقيق ، كيف لا وقوله سبحانه : { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } مفرّعٌ على نتيجة التمثيل وصدٌّ لهم عما يؤدّي إلى مثل عاقبته ، والمعنى وإذ قد استبان لكم حالُ من كفر بأنعم الله وكذّب رسوله وما حل بهم بسبب ذلك من اللتيا والتي أولاً وآخِراً فانتهُوا عما أنتم عليه من كفران النعم وتكذيبِ الرسول عليه السلام كيلا يحِلَّ بكم مثلُ ما حل بهم واعرِفوا حقَّ نِعم الله تعالى وأطيعوا رسولَه عليه السلام في أمره ونهيه وكلوا من رزق الله حال كونه { حلالا طَيّباً } وذروا ما تفترون من تحريم البحائرِ ونحوها { واشكروا نِعْمَتَ الله } واعرِفوا حقها ولا تقابلوها بالكفران ، والفاءُ في المعنى داخلةٌ على الأمر بالشكر وإنما أُدخلت على الأمر بالأكل لكون الأكل ذريعةً إلى الشكر ، فكأنه قيل : فاشكروا نعمةَ الله غِبَّ أكلها حلالاً طيباً ، وقد أُدمج فيه النهيُ عن زعم الحرمة ، ولا ريب في أن هذا إنما يُتصوّر حين كان العذابُ المستأصِل متوقَّعاً بعدُ وقد تمهّدت مباديه ، وبعد ما وقع فمن ذا الذي يُحذَّر ومن ذا الذي يُؤمر بالأكل والشكر؟ وحمْلُ قوله تعالى : { فَأَخَذَهُمُ العذاب وَهُمْ ظالمون } على الإخبار بذلك قبل الوقوعِ يأباه التصدّي لاستصلاحهم بالأمر والنهي ، وتوجيهُ خطاب الأمرِ بالأكل إلى المؤمنين مع أن ما يتلوه من خطاب النهي متوجّهٌ إلى الكفار ، كما فعله الواحديُّ حيث قال : فكلوا أنتم يا معشر المؤمنين مما رزقكم الله من الغنائم مما لا يليق بشأن التنزيلِ الجليل { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } أي تطيعون أو إن صح زعمُكم أنكم تقصِدون بعبادة الآلهة عبادتَه تعالى .(4/159)
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)
{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } تعليلٌ لحِلّ ما أمرهم بأكله مما رزقهم ، أي إنما حرم هذه الأشياءَ دون ما تزعُمون حرمتَه من البحائر والسوائبِ ونحوِها { فَمَنِ اضطر } بما اعتراه من الضرورة فتناول شيئاً من ذلك { غَيْرَ بَاغٍ } أي على مضطر آخرَ { وَلاَ عَادٍ } أي متجاوزٍ قدرَ الضرورة { فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي لا يؤاخذه بذلك ، فأُقيم سببُه مُقامه ، وفي التعرض لوصف الربوبية إيماءٌ إلى علة الحكمِ وفي الإضافة إلى ضميره عليه السلام إظهارٌ لكمال اللطفِ به عليه السلام ، وتصديرُ الجملة بإنما لحصر المحرماتِ في الأجناس الأربعة إلا ما ضُمّ إليه كالسّباع والحمُر الأهلية ، ثم أكّد ذلك بالنهي عن التحريم والتحليل بأهوائهم فقال : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ } اللامُ صلةٌ مِثلُها في قوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ } أي لا تقولوا في شأن ما تصفه ألسنتُكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم : { مَا فِى بُطُونِ هذه الانعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا } من غير ترتب ذلك الوصفِ على ملاحظةٍ وفكر فضلاً عن استناده إلى وحي أو قياس مبنيَ عليه { الكذب } منتصب بلا تقولوا ، وقولُه تعالى : { هذا حلال وهذا حَرَامٌ } بدلٌ منه ويجوز أن يتعلق بتصفُ على إرادة القولِ ، أي لا تقولوا لما تصف ألسنتُكم فتقولُ : هذا حلالٌ وهذا حرام ، وأن يكون مَقولُ المقدرِ حالاً من ألسنتكم ، أي قائلةً هذا حلال الخ ، ويجوز أن ينتصب الكذبَ بتصف ويتعلق هذا حلال الخ بلا تقولوا ، واللامُ للتعليل وما مصدريةٌ ، أي لا تقولوا : هذا حلالٌ وهذا حرام لوصف ألسنتِكم الكذبَ أي لا تُحِلوا ولا تحرّموا لمجرد وصفِ ألسنتكم الكذبَ وتصويرِها له بصورة مستحسنة وتزيينِها له في المسامع كأن ألسنتَكم لكونها منشأً للكذب ومنبعاً للزور شخصٌ عالمٌ بكنهه ومحيطٌ بحقيقته يصفه للناس ويعرِّفه أوضحَ وصفٍ وأبينَ تعريف ، على طريقة الاستعارة بالكناية كما يقال وجهُه يصفُ الجمالَ وعينُه تصف السحرَ ، وقرىء بالجر صفةً ( لما ) مع مدخولها كأنه قيل : لوصفها الكذبِ بمعنى الكاذبِ كقوله تعالى : { بِدَمٍ كَذِبٍ } والمرادُ بالوصف وصفُها البهائمَ بالحل والحرمة ، وقرىء الكُذُبُ جمع كَذوب بالرفع صفةٌ للألسنة وبالنصب على الشتم ، أو بمعنى الكلِمِ الكواذب ، أو هو جمعُ الكذاب من قولهم : كذب كذاباً ذكره ابن جني { لّتَفْتَرُواْ على الله الكذب } فإن مدارَ الحِلّ والحُرمة ليس إلا أمرُ الله تعالى فالحكمُ بالحل والحرمةِ إسنادٌ للتحليل والتحريم إلى الله سبحانه من غير أن يكون ذلك منه ، واللامُ لام العاقبة .
{ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب } في أمر من الأمور { لاَ يُفْلِحُونَ } لا يفوزون بمطالبهم التي ارتكبوا الافتراءَ للفوز بها .(4/160)
مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
{ متاع قَلِيلٌ } خبرُ مبتدأ محذوف أي منفعتُهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعةٌ قليلة { وَلَهُمْ } في الآخرة { عَذَابٌ أَلِيمٌ } لا يكتنه كُنهُه .
{ وَعَلَى الذين هَادُواْ } خاصةً دون غيرِهم من الأولين والآخِرين { حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ } أي بقوله تعالى : { حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا } الآية { مِن قَبْلُ } متعلقٌ بقصصنا أو بحرمنا وهو تحقيقٌ لما سلف من حصر المحرمات فيما فُصّل بإبطال ما يخالفه من فرية اليهودِ وتكذيبهم في ذلك فإنهم كانوا يقولون : لسنا أول من حُرّمت عليه وإنما كانت محرمةً على نوح وإبراهيمَ ومَنْ بعدهما حتى انتهى الأمرُ إلينا { وَمَا ظلمناهم } بذلك التحريم { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } حيث فعلوا ما عوقبوا عليه حسبما نعى عليهم قولُه تعالى : { فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ } الآية ، ولقد ألقمهم الحجرَ قولُه تعالى : { كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسراءيل إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسراءيل على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة قُلْ فَأْتُواْ } روي أنه عليه الصلاة والسلام لما قال لهم ذلك بُهتوا ولم يجسَروا أن يُخرِجوا التوراةَ كيف وقد بُيّن فيها أن تحريمَ ما حُرِّم عليهم من الطيبات لظلمهم وبغيهم عقوبةً وتشديداً أوضحَ بيانٍ ، وفيه تنبيهٌ على الفرق بينهم وبين غيرهم في التحريم .
{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوء بجهالة } أي بسبب جهالةٍ أو ملتبسين بها ليعُمَّ الجهلُ بالله وبعقابه ، وعدمِ التدبر في العواقب لغلبة الشهوة ، والسوءُ يعم الافتراءَ على الله تعالى وغيرَه { ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ } أي من بعد ما عملوا ما عملوا ، والتصريحُ به مع دَلالة ثم عليه للتأكيد والمبالغة { وَأَصْلَحُواْ } أي أصلحوا أعمالَهم أو دخلوا في الصلاح { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } من بعد التوبة { لَغَفُورٌ } لذلك السوءِ { رَّحِيمٌ } يثيب على طاعته تركاً وفعلاً ، وتكريرُ قوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ } لتأكيد الوعدِ وإظهارِ كمال العناية بإنجازه ، والتعرضُ لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام مع ظهور الأثرِ في التائبين للإيماء إلى أن إفاضةَ آثارِ الربوبية من المغفرة والرحمة عليهم بتوسطه عليه السلام وكونِهم من أتباعه كما أشير إليه فيما مر .
{ إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً } على حياله لحيازته من الفضائل البشريةِ ما لا تكاد توجد إلا متفرّقةً في أمة جمّةً حسبما قيل
ليس على الله بمستَنْكَر ... أن يجمع العالَمَ في واحدِ
وهو رئيسُ أهل التوحيد وقدوةُ أصحابِ التحقيق جادل أهلَ الشرك وألقمهم الحجرَ ببينات باهرةٍ لا تُبقي ولا تذر ، وأبطل مذاهبَهم الزائفةَ بالبراهين القاطعة والحُججِ الدامغة ، أو لأنه عليه السلام كان مؤمناً وحده والناسُ كلُّهم كفارٌ . وقيل : هي فُعْلة بمعنى مفعول كالرُّحلة والنُّخبة ، من أمّه إذا قصده أو اقتدى به فإن الناسَ كانوا يقصِدونه ويقتدون بسيرته لقوله تعالى :(4/161)
{ إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا } وإيرادُ ذكره عليه السلام عَقيبَ تزييفِ مذاهبِ المشركين من الشرك والطعنِ في النبوة وتحريمِ ما أحله الله تعالى للإيذان بأن حقِّيةَ دينِ الإسلام وبطلانَ الشرك وفروعِه أمرٌ ثابت لا ريب فيه { قانتا لِلَّهِ } مطيعاً له قائماً بأمره { حَنِيفاً } مائلاً عن كل دينٍ باطل إلى الدين الحقِّ غيرَ زائلٍ عنه بحال { وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين } في أمر من أمور دينهم أصلاً وفرعاً صرح بذلك مع ظهوره لا رداً على كفار قريشٍ فقط في قولهم : نحن على ملة أبينا إبراهيمَ بل عليهم وعلى اليهود المشركين بقولهم : { عُزَيْرٌ ابن الله } في افترائهم وادعائهم أنه عليه الصلاة والسلام كان على ما هم عليه كقوله سبحانه : { مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } إذ به ينتظم أمر إيراد التحريم والسبت سابقاً ولاحقاً .(4/162)
شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
{ شَاكِراً لاّنْعُمِهِ } صفةٌ ثالثة لأُمةً ، وإنما أوثر صيغةُ جمعِ القلة للإيذان بأنه عليه السلام كان لا يُخِلُّ بشكر النعمة القليلة فكيف بالكثيرة وللتصريح بكونه عليه السلام على خلاف ما هم عليه من الكفرانَ بأنعم الله تعالى حسبما بيّن ذلك بضرب المثل { اجتباه } للنبوة { وَهَدَاهُ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } موصلٍ إليه سبحانه وهو ملةُ الإسلامِ ، وليست نتيجةُ هذه الهدايةِ مجردَ اهتدائِه عليه السلام بل مع إرشاد الخلقِ أيضاً بمعونة قرينةِ الاجتباء .
{ وءاتيناه فِى الدنيا حَسَنَةً } حالةً حسنةً من الذكر الجميل والثناءِ فيما بين الناس قاطبةً حتى إنه ليس من أهل دينٍ إلا وهم يتولَّوْنه ، وقيل : هي الخُلّة والنبوةُ ، وقيل : قولُ المصلِّي منا كما صليتَ على إبراهيمَ ، والالتفاتُ إلى التكلم لإظهار كمالِ الاعتناء بشأنه وتفخيمِ مكانه عليه الصلاة والسلام { وَإِنَّهُ فِى الأخرة لَمِنَ الصالحين } أصحابِ الدرجات العالية في الجنة حسبما سأله بقوله : { وَأَلْحِقْنِى بالصالحين واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الأخرين واجعلنى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم . } { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } مع طبقتك وسموِّ رتبتك { أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم } الملةُ اسمٌ لما شرعه الله تعالى لعباده على لسان الأنبياءِ عليهم السلام من أمللتُ الكتابَ إذا أمليتُه ، وهو الدينُ بعينه لكنْ باعتبار الطاعة له وتحقيقُه أن الوضع الإلهي مهما نُسب إلى من يؤدّيه عن الله تعالى يسمّى ملةً ، ومهما نُسب إلى من يُقيمه ديناً . قال الراغب : الفرقُ بينهما أن الملة لا تضاف إلا إلى النبي عليه السلام ولا تكاد توجد مضافةً إلى الله سبحانه وتعالى ولا إلى آحاد الأمة ولا تستعمل إلا في جملة الشرائعِ دون آحادها ، والمرادُ بملّته عليه السلام الإسلامُ الذي عُبّر عنه آنفاً بالصراط المستقيم { حَنِيفاً } حالٌ من المضاف إليه لما أن المضافَ لشدة اتصالِه به عليه السلام جرى منه مجرى البعضِ فقُيّد بذلك ، من قبيل : رأيتُ وجهَ هندٍ قائمةً ، والمأمورُ به الاتباع في الأصول دون الشرائعِ المتبدّلة بتبدل الأعصار ، وما في ( ثم ) من التراخي في الرتبة للإيذان بأن هذه النعمةَ من أجلّ النعم الفائضةِ عليه عليه السلام { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } تكريرٌ لما سبق لزيادة تأكيدٍ وتقريرٍ لنزاهته عليه السلام عما هم عليه من عقد وعمل .(4/163)
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
وقوله تعالى : { إِنَّمَا جُعِلَ السبت } أي فُرض تعظيمُه والتخلي فيه للعبادة وتركُ الصيد فيه تحقيقٌ لذلك النفي الكليِّ وتوضيحٌ له بإبطال ما عسى يُتوهم كونُه قادحاً في كلّيته حسبما سلف في قوله تعالى : { وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا } الخ ، فإن اليهود كانوا يدّعون أن السبتَ من شعائر الإسلام وأن إبراهيمَ عليه السلام كان محافظاً عليه أي ليس السبتُ من شرائع إبراهيمَ وشعائرِ ملّته التي أُمرْتَ باتباعها حتى يكون بينه عليه الصلاة والسلام وبين بعض المشركين علاقةٌ في الجملة وإنما شرُع ذلك لبني إسرائيل بعد مدةٍ طويلة ، وإيرادُ الفعل مبنياً للمفعول جَرْيٌ على سنن الكبرياء وإيذانٌ بعدم الحاجة إلى التصريح بالفاعل لاستحالة الإسنادِ إلى الغير ، وقد قرىء على البناء للفاعل ، وإنما عبّر عن ذلك بالجعل موصلاً بكلمة على وعنهم بالاسم الموصول باختلافهم فقيل : إنما جُعل السبت { على الذين اختلفوا فِيهِ } للإيذان بتضمنه للتشديد والابتلاءِ المؤدّي إلى العذاب وبكونه معلَّلاً باختلافهم في شأنه قبل الوقوعِ إيثاراً له على ما أمر الله تعالى به واختياراً للعكس لكن لا باعتبار شمولِ العلّية لطرفي الاختلاف وعمومِ الغائلةِ للفريقين ، بل باعتبار حالِ منشأ الاختلافِ من الطرف المخالفِ للحق ، وذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام أمرَ اليهودَ أن يجعلوا في الأسبوع يوماً واحداً للعبادة وأن يكون ذلك يومَ الجمعة فأبَوا عليه وقالوا : نريد اليوم الذي فرَغ الله تعالى فيه من خلق السموات والأرض وهو السبت إلا شرذمةً منهم قد رضُوا بالجمعة فأذِن الله تعالى لهم في السبت وابتلاهم بتحريم الصيد فيه فأطاع أمرَ الله تعالى الراضون بالجمعة فكانوا لا يَصيدون ، وأعقابُهم لم يصبِروا عن الصيد فمسخهم الله سبحانه قردةً دون أولئك المطيعين { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } أي بين الفريقين المختلفَين فيه { يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي يفصِل ما بينهما من الخصومة والاختلاف فيجازي كلّ فريق بما يستحقه من الثواب والعقاب ، وفيه إيماءٌ إلى أن ما وقع في الدنيا من مسخ أحدِ الفريقين وإنجاءِ الآخر بالنسبة إلى ما سيقع في الآخرة شيءٌ لا يعتدّ به . هذا هو الذي يستدعيه الإعجازُ التنزيليُّ . وقيل : المعنى إينا جُعل وبالُ السبت وهو المسخُ على الذين اختلفوا فيه أي أحلوا الصيدَ فيه تارةً وحرّموه أخرى ، وكان حتماً عليهم أن يتّفقوا على تحريمه حسبما أمر الله سبحانه به ، وفسّر الحكمُ بينهم بالمجازاة باختلاف أفعالِهم بالإخلال تارةً والتحريمِ أخرى ، ووجهُ إيرادِه هاهنا بأنه أريد به إنذارُ المشركين من سخط الله تعالى على العصاة والمخالفين لأوامره ، كضرب المثلِ بالقرية التي كفرت بأنعُم الله تعالى ، ولا ريب في أن كلمة ( بينهم ) تحكم بأن المرادَ بالحكم هو فصلُ ما بين الفريقين من الاختلاف وأن توسيطَ حديث المسخِ للإنذار المذكورِ بين حكاية أمرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام وبين أمرِه صلى الله عليه وسلم بالدعوة إليها من قبيل الفصل بين الشجر ولِحائِه فتأمل .(4/164)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
{ ادع } أي مَنْ بُعثتَ إليهم من الأمة قاطبةً فحذف المفعولُ للتعميم أو افعل الدعوةَ كما في قولهم : يعطي ويمنع أي يفعل الإعطاءَ والمنع ، فحذفُه للقصد إلى إيجاد نفسِ الفعل إشعاراً بأن عموم الدعوةِ غنيٌّ عن البيان وإنما المقصودُ الأمرُ بإيجاد على وجه مخصوص { إلى سَبِيلِ رَبّكَ } إلى الإسلام الذي عبّر عنه تارةً بالصراط المستقيم وأخرى بملة إبراهيمَ عليه السلام ، وفي التعرض لعنوان الربوبية المنبئةِ عن المالكية وتبليغِ الشيء إلى كماله اللائق شيئاً فشيئاً مع إضافة الربِّ إلى ضمير النبي عليه الصلاة والسلام في مقام الأمر بدعوة الأمة على الوجه الحكيم وتكميلِهم بأحكام الشريعةِ الشريفة من الدِلالة على إظهار اللطفِ به عليه الصلاة والسلام والإيماءِ إلى وجه بناءِ الحُكم ما لا يخفى . { بالحكمة } أي بالمقالة المحكمةِ الصحيحة وهو الدليلُ الموضحُ للحق المزيحُ للشبهة { والموعظة الحسنة } أي الخطابياتِ المقنعةِ والعِبر النافعةِ على وجه لا يخفى عليهم أنك تناصحهم وتقصِد ما ينفعهم ، فالأولى لدعوة خواصِّ الأمةِ الطالبين للحقائق والثانيةُ لدعوة عوامِّهم ، ويجوز أن يكون المرادُ بهما القرآنَ المجيد فإنه جامعٌ لكلا الوصفين { وجادلهم } أي ناظِرْ معانديهم { بالتى هِىَ أَحْسَنُ } بالطريقة التي هي أحسنُ طرقِ المناظرةِ والمجادلة من الرفق واللينِ واختيار الوجهِ الأيسرِ واستعمالِ المقدّمات المشهورةِ تسكيناً لشغَبهم وإطفاءً لِلَهبهم كما فعله الخليلُ عليه السلام { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ } الذي أمرك بدعوة الخلقِ إليه وأعرضَ عن قَبول الحق بعد ما عاين من الحِكم والمواعظ والعبر { وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } إليه بذلك ، وهو تعليلٌ لما ذُكر من الأمرين والمعنى والله تعالى أعلم اسلُكْ في الدعوة والمناظرةِ الطريقةَ المذكورةَ فإنه تعالى هو أعلمُ بحال من لا يرعوي عن الضلال بموجب استعدادِه المكتسَب وبحال من يصير أمرُه إلى الاهتداء لما فيه من خير جليَ ، فما شرعه لك في الدعوة هو الذي تقتضيه الحكمةُ فإنه كافٍ في هداية المهتدين وإزالةِ عذر الضالّين أو ما عليك إلا ما ذكر من الدعوة والمجادلةِ بالأحسن ، وأما حصولُ الهداية أو الضلال والمجازاةُ عليهما فإلى الله سبحانه إذ هو أعلم بمن يبقى على الضلال وبمن يهتدي إليه فيجازي كلاًّ منهما بما يستحقة . وتقديمُ الضالين لما أن مساقَ الكلامِ لهم ، وإيرادُ الضلال بصيغة الفعلِ الدالِّ على الحدوث لما أنه تغييرٌ لفطرة الله التي فطر الناسَ عليها وإعراضٌ عن الدعوة وذلك أمرٌ عارضٌ بخلاف الاهتداء الذي هو عبارةٌ عن الثبات على الفطرة والجرَيانِ على موجب الدعوةِ ، ولذلك جيء به على صيغة الاسمِ المنبىءِ عن الثبات ، وتكريرُ ( هو أعلمُ ) للتأكيد والإشعارِ بتبايُنِ حالِ المعلومَين ومآلهما من العقاب والثواب .(4/165)
وبعد ما أمره عليه الصلاة والسلام فيما يختص به من شأن الدعوةِ بما أمره به من الوجه اللائق عقّبه بخطاب شاملٍ له ولمن شايعه فيما يعم الكل فقال :
{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ } أي إن أردتم المعاقبةَ على طريقة قول الطبيبِ للمَحْميِّ : إن أكلتَ فكلْ قليلاً { فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } أي بمثل ما فُعل بكم ، وقد عبّر عنه بالعقاب على طريقة إطلاقِ اسمِ المسبَّبِ على السبب نحوُ كما تَدين تُدان أو على نهج المشاكلةِ ، والمقصودُ إيجابُ مراعاةِ العدل مع مَنْ يناصبُهم من غير تجاوزٍ حين ما آل الجِدالُ إلى القتال وأدّى النزاعُ إلى القِراع ، فإن الدعوةَ المأمورَ بها لا تكاد تنفك عن ذلك ، كيف لا وهي موجبةٌ لصرف الوجوهِ عن القُبل المعبودةِ وإدخالِ الأعناق في قِلادة غيرِ معهودة قاضيةٍ عليهم بفساد ما يأتون وما يذرون وبطلانِ دينٍ استمرَّ عليه آباؤهم الأولون وقد ضاقت عليهم الحيلُ وعيّت بهم العِللُ وسُدّت عليهم طرقُ المُحاجّة والمناظرة وأُرتجتْ دونهم أبوابُ المباحثةِ والمحاورة . وقيل : إنه عليه الصلاة والسلام لما رأى حمزةَ رضي الله عنه يوم أُحد قد مُثّل به قال : « لئن أظفَرني الله بهم لأمثّلنّ بسبعين مكانك » فنزلت ، فكفّر عن يمينه وكف عما أراده ، وقرىء وإن عَقّبتم فعقِّبوا أي وإن قَفَّيْتم بالانتصار فقفّوا بمثل ما فُعل بكم غيرَ متجاوزين عنه ، والأمرُ وإن دل على إباحة المماثلة في المُثْلة من غير تجاوزٍ لكن في تقييده بقوله : وإن عاقبتم حثٌّ على العفو تعريضاً ، وقد صرّح به على الوجه الآكد فقيل : { وَلَئِن صَبَرْتُمْ } أي عن المعاقبة بالمثل { لَهُوَ } أي لَصَبرُكم ذلك { خَيْرٌ } لكم من الانتصار بالمعاقبة ، وإنما قيل : { للصابرين } مدحاً لهم وثناءً عليهم بالصبر أو وصفاً لهم بصفة تحصل لهم عند تركِ المعاقبةِ ، ويجوز عَودُ الضميرِ إلى مطلق الصبرِ المدلولِ عليه بالفعل فيدخُل فيه صبرُهم كدخول أنفسِهم في جنس الصابرين دخولاً أولياً ، ثم أُمر عليه الصلاة والسلام صريحاً بما ندَب إليه غيرَه تعريضاً من الصبر لأنه أولى الناس بعزائم الأمورِ لزيادة علمِه بشؤونه سبحانه ووفورِ وثوقِه به فقيل :(4/166)
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)
{ واصبر } أي على ما أصابك من جهتهم من فنون الآلامِ والأَذية وعاينتَ من إعراضهم عن الحق بالكلية { وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله } استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأشياء ، أي وما صبرُك ملابساً ومصحوباً بشيء من الأشياء إلا بالله أي بذكره والاستغراقِ في مراقبة شؤونه والتبتّلِ إليه بمجامع الهِمّة ، وفيه من تسليته عليه الصلاة والسلام وتهوينِ مشاقِّ الصبرِ عليه وتشريفِه ما لا مزيدَ عليه . أو إلا بمشيئته المبنيّةِ على حِكَمٍ بالغة مستتبِعةٍ لعواقبَ حميدةٍ ، فالتسليةُ من حيث اشتمالُه على غايات جميلة ، وقيل : إلا بتوفيقه ومعونتِه فهي من حيث تسهيلُه وتيسيرُه فقط { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي على الكافرين بوقوع اليأسِ من إيمانهم بك ومتابعتِهم لك نحو { فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين } وقيل : على المؤمنين وما فُعل بهم والأولُ هو الأنسب بجزالة النظمِ الكريم { وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ } بالفتح ، وقرىء بالكسر وهما لغتان كالقَوْل والقيل ، أي لا تكن في ضيق صدرٍ وحرَج ، ويجوز أن يكون الأولُ تخفيفَ ضيِّق ، كهيْن من هيِّن ، أي في أمر ضيِّقٍ { مّمَّا يَمْكُرُونَ } أي من مكرهم بك فيما يُستقبل ، فالأولُ نهيٌ عن التألم بمطلوبٍ مِنْ قبلَهم فاتَ ، والثاني عن التألم بمحذور من جهتهم آتٍ ، والنهيُ عنهما مع أن انتفاءَهما من لوازم الصبرِ المأمورِ به لا سيما على الوجه الأولِ لزيادة التأكيدِ وإظهارِ كمالِ العنايةِ بشأن التسليةِ ، وإلا فهل يخطُر ببال من توجّه إلى الله سبحانه بشراشرِ نفسِه متنزهاً عن كل ما سواه من الشواغل شيءٌ من مطلوب فينهى عن الحزن بفواته أو محذورٍ فكيف عن الخوف من وقوعه .(4/167)
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
{ إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا } تعليلٌ بما سبق من الأمر والنهي ، والمرادُ بالمعية الولايةُ الدائمةُ التي لا تحوم حول صاحبها شائبةُ شيءٍ من الجزَع والحزنِ وضِيق الصدورِ ، وما يُشعر به دخولُ كلمة مع من متبوعيّة المتقين إنما هي من حيث إنهم المباشرون للتقوى وكذا الحالُ في قوله سبحانه : { إِنَّ الله مَعَ الصابرين } ونظائرِهما كافة ، والمرادُ بالتقوى المرتبةُ الثالثة منه الجامعة لما تحتها من مرتبة التوقي عن الشرك ومرتبةِ التجنّب عن كل ما يؤثِمُ من فعل وترك ، أعني التنزّهَ عن كل ما يشغَلُ سِرَّه عن الحق والتبتّلِ إليه بشراشر نفسِه ، وهو التقوى الحقيقيُّ المُورِث لولايته تعالى المقرونة ببشارة قوله سبحانه : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } والمعنى أن الله وليُّ الذين تبتلوا إليه بالكلية وتنزّهوا عن كل ما يشغل سرَّهم عنه فلم يخطُرْ ببالهم شيءٌ من مطلوب أو محذور فضلاً عن الحزن بفواته أو الخوفِ من وقوعه وهو المعنيُّ بما به الصبرُ المأمورُ به حسبما أشير إليه وبه يحصل التقريب ويتم التعليل كما في قوله تعالى : { فاصبر إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ } على أحد التفسيرين كما حُقق في مقامه وإلا فمجردُ التوقي عن المعاصي لا يكون مداراً لشيء من العزائم المرخصِ في تركها فكيف بالصبر المشارِ إليه ورديفيه ، وإنما مدارُه المعنى المذكورُ فكأنه قيل : إن الله مع الذين صبروا ، وإنما أوثر ما عليه النظمُ الكريم مبالغةً في الحث على الصبر بالتنبيه على أنه من خصائص أجل النعوتِ الجليلة وروادفِه كما أن قوله تعالى : { والذين هُم مُّحْسِنُونَ } للإشعار بأنه من باب الإحسانِ الذي يتنافس فيه المتنافسون على ما فُصل ذلك حيث قيل : { واصبر فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } وقد نُبّه على أن كلاًّ من الصبر والتقوى من قبيل الإحسان في قوله تعالى : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } وحقيقةُ الإحسان الإتيانُ بالأعمال على الوجه اللائقِ الذي هو حسنُها الوصفيُّ المستلزِمُ لحسنها الذاتيِّ ، وقد فسّره عليه الصلاة والسلام بقوله : « أن تعبدَ الله كأنك تراه فإن لم تكنْ تراه فإنه يراك » وتكريرُ الموصولِ للإيذان بكفاية كلَ من الصلتين في ولايته سبحانه من غير أن تكون إحداهما تتمةً للأخرى ، وإيرادُ الأولى فعليةٌ للدِلالة على الحدوث كما أن إيرادَ الثانيةِ اسميةٌ لإفادة كونِ مضمونِها شيمةً راسخةً لهم ، وتقديمُ التقوى على الإحسان لما أن التخليةَ متقدمة على التحلية ، والمرادُ بالموصولَين إما جنسُ المتقين والمحسنين وهو عليه الصلاة والسلام داخلٌ في زمرتهم دخولاً أولياً ، وإما هو عليه الصلاة والسلام ومن شايعه ، عبّر عنهم بذلك مدحاً لهم وثناءً عليهم بالنعتين الجميلين ، وفيه رمزٌ إلى أن صنيعَه عليه الصلاة والسلام مستتبِعٌ لاهتداء الأمةِ به كقول من قال لابن عباس رضي الله عنهما عند التعزية
اصبِرْ نكنْ بك صابرين فإنما ... صبرُ الرعية عند صبرِ الرأسِ
عن هرم بن حيان أنه قيل له حين الاحتضارِ : أوصِ ، قال : إنما الوصيةُ من المال وأوصيكم بخواتيم سورة النحل .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ سورة النحل لم يحاسبْه الله تعالى بما أنعم عليه في دار الدنيا ، وإن مات في يومِ تلاها أو ليلتَه كان له من الأجر كالذي مات وأحسن الوصية » . والحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله أجمعين .(4/168)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
{ سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ } سبحان علمٌ للتسبيح كعثمانَ للرجل وحيث كان المسمّى معنى لا عيناً ، وجنساً لا شخصاً لم تكن إضافتُه من قبيل ما في : زيدُ المعارك أو حاتمُ طيْءٍ ، وانتصابه بفعل متروكِ الإظهار تقديرُه أسبح الله سبحان الخ ، وفيه ما لا يخفى من الدلالة على التنزيه البليغِ من حيث الاشتقاقُ من السبْح الذي هو الذهابُ والإبعادُ في الأرض ، ومنه فرسٌ سَبوحٌ أي واسعُ الجري ، ومن جهة النقلِ إلى التفعيل ، ومن جهة العدولِ من المصدر إلى الاسم الموضوعِ له خاصة لا سيما وهو علمٌ يشير إلى الحقيقة الحاضرةِ في الذهن ومن جهة قيامِه مَقام المصدر مع الفعل ، وقيل : هو مصدرٌ كغفران بمعنى التنزه ، ففيه مبالغةٌ من حيث إضافةُ التنزه إلى ذاته المقدسةِ ومناسبةٌ تامة بين المحذوف وبين ما عُطف عليه في قوله سبحانه وتعالى ، كأنه قيل : تنزه بذاته وتعالى . والإسراءُ السيرُ بالليل خاصة كالسُّرى وقوله تعالى : { لَيْلاً } لإفادة قلةِ زمان الإسراءِ لِما فيه من التنكير الدالِّ على البعضية من حيث الأجزاءُ دَلالتَه على البعضية من حيث الأفراد ، فإن قولك : سِرت ليلاً كما يفيد بعضيةَ زمان سيرِك من الليالي يفيد بعضيتَه من فرد واحد منها بخلاف ما إذا قلت : سرتُ الليلَ فإنه يفيد استيعابَ السير له جميعاً ، فيكون معياراً للسير لا ظرفاً له ويؤيده قراءةُ ( من الليل ) أي بعضِه ، وإيثارُ لفظ العبدِ للإيذان بتمحّضه عليه الصلاة والسلام في عبادته سبحانه وبلوغِه في ذلك غايةَ الغايات القاصيةِ ونهايةَ النهاياتِ النائية حسبما يلوّح به مبدأُ الإسراء ومنتهاه ، وإضافةُ التنزيه أو التنزّه إلى الموصول المذكورِ للإشعار بعلّية ما في حيز الصلةِ للمضاف فإن ذلك من أدلة كمالِ قدرتِه وبالغِ حكمتِه ونهايةِ تنزهه عن صفات المخلوقين .
{ مّنَ المسجد الحرام } اختُلف في مبدأ الإسراءِ فقيل : هو المسجدُ الحرام بعينه وهو الظاهرُ ، فإنه رُوي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : « بينا أنا في المسجدالحرام في الحِجْر عند البيت بين النائم واليقظانِ إذْ اأتاني جبريلُ عليه الصلاة والسلام بالبُراق » وقيل : هو دارُ أم هانىءٍ بنتِ أبي طالب ، والمراد بالمسجد الحرام الحرمُ لإحاطته بالمسجد والْتباسِه به ، أو لأن الحرم كلَّه مسجد ، فإنه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام كان نائماً في بيت أم هانىء بعد صلاة العشاءِ فكان ما كان فقصّه عليها ، فلما قام ليخرُج إلى المسجد تشبّثتْ بثوبه عليه الصلاة والسلام لتمنعه خشية أن يكذبه القومُ ، قال عليه الصلاة والسلام : « وإن كذبوني » فلما خرج جلس إليه أبو جهل فأخبره صلى الله عليه وسلم بحديث الإسراءِ فقال أبو جهل : يا معشر كعبِ بنِ لؤي بنِ غالب ، هلُمّ فحدِّثْهم فمن مصفّق وواضعٍ يدَه على رأسه تعجباً وإنكاراً وارتد ناسٌ ممن كان آمن به ، وسعى رجالٌ إلى أبي بكر فقال : إن كان قال ذلك لقد صدق ، قالوا : أتصدّقه على ذلك؟ قال : إني أصدقه على أبعدَ من ذلك ، فسُمِّيَ الصِّديقُ وكان فيهم من يعرف بيت المقدس فاستنعتوه المسجدَ فجُلِّي له بيتُ المقدس فطفِق ينظر إليه وينعته لهم ، فقالوا : أما النعتُ فقد أصابه .(4/169)
فقالوا : أخبِرْنا عن عِيرنا ، فأخبرهم بعدد جمالِها وأحوالها وقال : { تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمُها جملٌ أورَقُ } فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية فقال قائل منهم : هذه والله الشمسُ قد أشرقت ، فقال آخرُ : هذه والله العِيرُ قد أقبلت يقدمها جملٌ أورقُ كما قال محمد ، ثم لم يؤمنوا قاتلهم الله أنى يؤفكون .
واختُلف في وقته أيضاً ، فقيل : كان قبل الهجرةِ بسنة ، وعن أنس والحسنِ أنه قبل البعثة ، واختلف أيضاً أنه في اليقظة أو في المنام فعن الحسن أنه كان في المنام ، وأكثرُ الأقاويل بخلافه ، والحق أنه كان في المنام قبل البعثة وفي اليقظة بعدها ، واختُلف أيضاً أنه كان جُسمانياً أو روحانياً ، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ما فُقِد جسدُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولكن عُرج بروحه . وعن معاوية أنه قال : إنما عُرج بروحه ، والحقُّ أنه كان جُسمانياً على ما ينبىء عنه التصديرُ بالتنزيه وما في ضمنه من التعجب ، فإن الروحانيَّ ليس في الاستبعاد والاستنكار وخرقِ العادةِ بهذه المثابة ، ولذلك تعجبت منه قريشٌ وأحالوه ولا استحالة فيه ، فإنه قد ثبت في الهندسة أن قُطرَ الشمس ضِعفَ قطرِ الأرض مائة ونيفاً وستين مرة ، ثم إن طرفها الأسفلَ يصل إلى موضع طرفِها الأعلى بحركة الفَلك الأعظمِ مع معاوقة حركةِ فلكِها لها في أقلَّ من ثانية ، وقد تقرر أن الأجسام متساويةٌ في قَبول الأعراضِ التي من جملتها الحركةُ وأن الله سبحانه قادرٌ على كل ما يحيط به حيطة الإمكان فيقدر على أن يخلق تلك الحركةَ بل أسرعَ منها في جسد النبي صلى الله عليه وسلم أو فيما يحمِله ولو لم يكن مستبعداً لم يكن معجزة { إلى المسجد الأقصى } أي بيتِ المقدس ، سُمي به إذ لم يكن حينئذ وراءه مسجدٌ وفي ذلك من تربية معنى التنزيهِ والتعجّب ما لا يخفى { الذى بَارَكْنَا حَوْلَهُ } ببركات الدين والدنيا لأنه مهبِطُ الوحي ومتعبَّدُ الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام { لِنُرِيَهُ } غايةٌ للإسراء { مِنْ ءاياتنا } العظيمةِ التي من جملتها ذهابُه في برهة من الليل مسيرةَ شهرٍ ، ولا يقدح في ذلك كونُه قبل الوصول إلى المقصِد ومشاهدةِ بيت المقدس وتمثّل الأنبياءِ له ووقوفِه على مقاماتهم العلية عليهم الصلاة والسلام ، والالتفاتُ إلى التكلم لتعظيم تلك البركاتِ والآياتِ ، وقرىء ليريَه بالياء { إِنَّهُ هُوَ السميع } لأقواله عليه الصلاة والسلام بلا أذن { البصير } بأفعاله بلا بصر حسبما يؤذِنُ به القصرُ فيكرمُه ويقرّبه بحسب ذلك ، وفيه إيماءٌ إلى أن الإسراءَ المذكورَ ليس إلا لتكرمته عليه الصلاة والسلام ورفعِ منزلتِه وإلا فالإحاطةُ بأقواله وأفعاله حاصلةٌ من غير حاجة إلى التقريب ، والالتفاتُ إلى الغَيبة لتربية المهابة .(4/170)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)
{ وَءاتَيْنَآ مُوسَى الكتاب } أي التوراة وفيه إيماءٌ إلى دعوته عليه الصلاة والسلام إلى الطور وما وقع فيه من المناجاة جمعاً بين الأمرين المتّحدين في المعنى ، ولم يُذكر هاهنا العروجُ بالنبي عليه السلام إلى السماء وما كان فيه مما لا يُكتنه كنهُه حسبما نطقتْ به سورةُ النجم تقريباً للإسراء إلى قَبول السامعين ، أي آتيناه التوراةَ بعد من أسرَينا إلى الطور { وجعلناه } أي ذلك الكتابَ { هُدًى لّبَنِى إسراءيل } يهتدون بما في مطاويه { أَن لا تَتَّخِذُواْ } أي لا تتخذوا نحو كتبت إليه أن افعل كذا ، وقرىء بالياء على أنّ أنْ مصدريةٌ ، والمعنى آتينا موسى الكتابَ لهداية بني إسرائيلَ لئلا يتخذوا { مِن دُونِى وَكِيلاً } أي ربًّا تكِلون إليه أمورَكم ، والإفرادُ لما أن فعيلاً مفردٌ في اللفظ جمعٌ في المعنى .(4/171)
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)
{ ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } نُصب على الاختصاص أو النداءِ على قراءة النهي ، والمرادُ تأكيدُ الحملِ على التوحيد بتذكير إنعامِه تعالى عليهم في ضمن إنجاءِ آبائِهم من الغرق في سفينة نوحٍ عليه السلام ، أو على أنه أحدُ مفعولَيْ لا يتخذوا على قراءة النفي ومن دون حالٌ من وكيلاً فيكون كقوله تعالى : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا } وقرى بالرفع على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أو بدلٌ من واو لا تتخذوا بإبدال الظاهرِ من ضمير المخاطَب كما هو مذهبُ بعض البغادِدَة ، وقرىء ذِرّية بكسر الذال { أَنَّهُ } أي إن نوحاً عليه الصلاة والسلام { كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } كثيرَ الشكر في مجامع حالاتِه ، وفيه إيذانٌ بأن إنجاءَ مَنْ معه كان ببركة شكرِه عليه الصلاة والسلام وحثٌّ للذرية على الاقتداء به وزجرٌ لهم عن الشرك الذي هو أعظمُ مراتبِ الكُفرانِ ، وقيل : الضمير لموسى عليه السلام .
{ وَقَضَيْنَا } أي أتممنا وأحكمنا مُنْزلين { إلى بَنِى إسراءيل } أو موحين إليهم { فِى الكتاب } أي في التوراة فإن الإنزالَ والوحيَ إلى موسى عليه السلام إنزالٌ ووحيٌ إليهم { لَتُفْسِدُنَّ فِى الأرض } جوابُ قسمٍ محذوفٍ ، ويجوز إجراءُ القضاء المحتومِ مُجرى القسمِ كأنه قيل : وأقسمنا لتفسدن { مَّرَّتَيْنِ } مصدرٌ والعاملُ فيه من غير جنسه . أولاهما مخالفةُ حكم التوراة وقتلُ شعياءَ عليه الصلاة والسلام وحبسُ أرمياءَ حين أنذرهم سخطَ الله تعالى ، والثانية قتلُ زكريا ويحيى وقصدُ قتلِ عيسى عليهم الصلاة والسلام { وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً } لتستكبِرُنّ عن طاعة الله سبحانه ، أو لتغلِبُنّ الناسَ بالظلم والعدوان وتفرّطُنّ في ذلك إفراطاً مجاوزاً للحدود .
{ فَإِذَا جَآء وَعْدُ أولاهما } أي أولى كرَّتَي الإفساد ، أي حان وقتُ حلولِ العقاب الموعود { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ } لمؤاخذتكم بجناياتكم { عِبَادًا لَّنَا } وقرىء عبيداً لنا { أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ } ذوي قوةٍ وبطش في الحروب ، هم سنحاريبُ من أهل نينوى وجنودُه ، وقيل : بُخْتَ نَصَّرُ عامل لهراسبَ ، وقيل : جالوت { فَجَاسُواْ } أي تردّدوا لطلبكم بالفساد ، وقرىء بالحال والمعنى واحد ، وقرىء وجوسوا { خلال الديار } في أوساطها للقتل والغارة ، وقرىء خِلَلَ الديار فقتلوا علماءَهم وكبارَهم وأخرقوا التوراةَ وخربوا المسجد وسبَوْا منهم سبعين ألفاً ، وذلك من قبيل تولية بعضِ الظالمين بعضاً مما جرت به السنةُ الإلهية { وَكَانَ } ذلك { وَعْدًا مَّفْعُولاً } لا محالة بحيث لا صارفَ عنه ولا مبدِّلَ .(4/172)
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
{ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة } أي الدولةَ والغلَبة { عَلَيْهِمْ } على الذين فعلوا بكم ما فعلوا بعد مائة سنةٍ حين تُبتم ورجعتم عما كنتم عليه من الإفساد والعلو ، قيل : هي قتلُ بُخْت نصّر واستنقاذُ بني إسرائيلَ أُساراهم وأموالَهم ورجوعُ المُلْك إليهم ، وذلك أنه لما ورِث بهمنُ بنُ إسفنديارَ المُلكَ من جدّه كشتاسفَ بنِ لهراسب ألقى الله تعالى في قلبه الشفقةَ عليهم فردّ أُساراهم إلى الشام وملّك عليهم دانيال عليه السلام فاستولَوا على من كان فيها من أتباع بُخْت نصّر ، وقيل : هي قتلُ داودَ عليه السلام لجالوت .
{ وأمددناكم بأموال } كثيرةٍ بعدما نُهبت أموالُكم { وَبَنِينَ } بعدما سُبيَتْ أولادُكم { وجعلناكم أَكْثَرَ نَفِيرًا } مما كنتم من قبل أو من عدوكم ، والنفيرُ مَن ينفِر مع الرجل من قومه ، وقيل : جمعُ نفرٍ وهو القومُ المجتمعون للذهاب إلى العدو كالعبيد والمبين { إِنْ أَحْسَنتُمْ } أعمالكم سواءٌ كانت لازمةً لأنفسكم أو متعديةً إلى الغير ، أي عمِلتموها على الوجه اللائقِ ولا يُتصور ذلك إلا بعد أن تكون الأعمالُ حسنةً في أنفسها وإن فعلتم الأحيان { أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ } لأن ثوابَها لها { وَإِنْ أَسَأْتُمْ } أعمالَكم بأن عملتموها لا على الوجه اللائق ويلزمه السوءُ الذاتيُّ أو فعلتم الإساءة { فَلَهَا } إذ عليها وبالها ، وعن علي كرم الله وجهه : ما أحسنتُ إلى أحد ولا أسأت إليه وتلاها { فَإِذَا جَاء وَعْدُ الأخرة } حان وقت ما وُعد من عقوبة المرة الآخرة { لِيَسُوءواْ وُجُوهَكُمْ } متعلقٌ بفعل حُذف لدلالة ما سبق عليه ، أي بعثناهم ليسوؤا ومعنى ليسوؤا وجوهَكم ليجعلوا آثارَ المساءة والكآبةِ باديةً في وجوهكم كقوله تعالى : { سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ } وقرىء ليَسوءَ على أن الضمير لله تعالى أو للوعد أو للبعث ، ولنسوءَ بنون العظمةِ ، وفي قراءة علي رضي الله عنه : لَنَسُوأنّ على أنه جوابُ إذا ، وقرىء لنَسوأنْ بالنون الخفيفة ولَيسوأنّ واللام في قوله عز وجل : { وَلِيَدْخُلُواْ المسجد } عطف على ليسوؤا متعلقٌ بما تعلق هو به { كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي في أول مرةٍ { وَلِيُتَبّرُواْ } أي يهلكوا { مَا عَلَوْاْ } ما غلبوه واستولَوْا عليه أو مدةَ علوِّهم { تَتْبِيرًا } فظيعاً لا يوصف بأن سلط الله عز سلطانه عليهم الفرسَ فعزاهم ملكُ بابِلَ من ملوك الطوائف اسمُه جودرد ، وقيل : جردوس ، وقيل : دخل صاحبُ الجيش فذبح قرابينَهم فوجد فيه دماً يغلي فسألهم عنه ، فقالوا : دمُ قربانٍ لم يقبل منا ، فقال : لم تصْدُقوني ، فقتل على ذلك ألوفاً فلم يهدأ الدم ، ثم قال : إن لم تصْدُقوني ما تركت منكم أحد ، فقالوا : إنه دمُ يحيى بنِ زكريا عليهما الصلاة والسلام ، فقال : لمثل هذا ينتقم منكم ربُّكم ، ثم قال : يا يحيى قد علم ربي وربُّك ما أصاب قومَك من أجلك فاهدأ بإذن الله تعالى قبل أن لا أُبقيَ منهم أحداً ، فهدأ .(4/173)
{ عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ } بعد المرة الآخرة إن تبتم توبةً أخرى وانزجرتم عما كنتم عليه من المعاصي { وَإِنْ عُدتُّمْ } إلى ما كنتم فيه من الفساد مرةً أخرى { عُدْنَا } إلى عقوبتكم ولقد عادوا فأعاد الله سبحانه عليهم النقمة بأن سلط عليهم الأكاسرةَ ففعلوا بهم ما فعلوا من ضرب الإتاوة ونحوِ ذلك . وعن الحسن عادوا فبعث الله تعالى محمداً عليه الصلاة والسلام فهم يُعطون الجزيةَ عن يد وهم صاغرون وعن قتادة مثلُه { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ للكافرين حَصِيرًا } أي محبِساً لا يستطيعون الخروجَ منها أبد الآبدين ، وقيل : بِساطاً كما يبسط الحصيرُ ، وإنما عُدل عن أن يقال : وجعلنا جهنمَّ لكم تسجيلاً على كفرهم بالعَود وذماً لهم بذلك وإشعاراً بعلة الحكم .(4/174)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
{ إِنَّ هذا القرءان } الذي آتيناكَهُ { يَهْدِى } أي الناسَ كافةً لا فِرقةً مخصوصة منهم كدأب الكتاب الذي آتيناه موسى { لِلَّتِى } للطريقة التي { هِىَ أَقْوَمُ } أي أقومُ الطرائقِ وأسدُّها أعني ملةَ الإسلامِ والتوحيدِ ، وتركُ ذكرها ليس لقصد التعميم لها وللحالة والخَصلة ونحوِها مما يعبّر به عن المقصد المذكور بل للإيذان بالغِنى عن التصريح بها لغاية ظهورِها لا سيما بعد ذكر الهدايةِ التي هي من روادفها ، والمرادُ بهدايته لها كونُه بحيث يهتدي إليها من يتمسك به لا تحصيلُ الاهتداء بالفعل فإنه مخصوصٌ بالمؤمنين حينئذ { وَيُبَشّرُ المؤمنين } بما في تضاعيفه من الأحكام والشرائع ، وقرىء بالتخفيف { الذين يَعْمَلُونَ الصالحات } التي شرحت فيه { أَنَّ لَهُمْ } أي بأن لهم بمقابلة تلك الأعمالِ { أَجْرًا كَبِيرًا } بحسب الذات وبحسب التضعيف عشرَ مرات فصاعداً .
{ وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة } وأحكامِها المشروحة فيه من البعث والحساب والجزاءِ ، وتخصيصُها بالذكر من بين سائر ما كفروا به لكونها مُعظمَ ما أُمروا بالإيمان به ، ولمراعاة التناسبِ بين أعمالهم وجزائِها الذي أنبأ عنه قولُه عز وجل : { أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } وهو عذابُ جهنمَ أي أعتدنا لهم فيما كفروا به وأنكروا وجودَه من الآخرة عذاباً أليماً وهو أبلغُ في الزجر لما أن إتيانَ العذابِ من حيث لا يُحتسب أفظعُ وأفجعُ ، والجملةُ معطوفة على جملة يبشّر بإضمار يُخبر ، أو على قوله تعالى : { أَنَّ لَهُمْ } داخلةٌ معه تحت التبشير المرادِ به مجازاً مطلقُ الإخبار المنتظمِ للإخبار بالخبر السارِّ وبالنبأ الضارّ فيكون ذلك بياناً لهداية القرآنِ بالترغيب والترهيب ، ويجوز كونُ التبشير بمعناه والمرادُ تبشيرُ المؤمنين ببشارتين : تولّيهم وعقابِ أعدائهم .
وقوله تعالى : { وَيَدْعُ الإنسان بالشر } بيانٌ لحال المهديِّ إثرَ بيان حالِ الهادي ، وإظهارٌ لما بينهما من التباين ، والمرادُ بالإنسان الجنسُ أسند إليه حالُ بعضِ أفراده أو حُكي عنه حالُه في بعض أحيانه فالمعنى على الأول أن القرآنَ يدعو الإنسانَ إلى الخير الذي لا خيرَ فوقه من الأجر الكبيرِ ويحذّر من الشر الذي لا شرَّ وراءه من العذاب الأليم ، وهو أي بعضٌ منه وهو الكافرُ يدعو لنفسه بما هو الشرُّ من العذاب المذكور إما بلسانه حقيقةً كدأب مَنْ قال منهم : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ومن قال : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } إلى غير ذلك مما حُكي عنهم وإما بأعمالهم السيئة المُفضية إليه الموجبةِ له مجازاً كما هو ديدنُ كلِّهم { دُعَاءهُ بالخير } أي مثلَ دعائِه بالخير المذكور فرضاً لا تحقيقاً فإنه بمعزل من الدعاء به وفيه رمزٌ إلى أنه اللائقُ بحاله { وَكَانَ الإنسان } أي مَن أُسند إليه الدعاءُ المذكورُ من أفراده { عَجُولاً } يسارع إلى طلب ما يخطر بباله متعامياً عن ضرره أو مبالغاً في العجلة يستعجل العذابَ وهو آتيه لا محالة ، ففيه نوعُ تهكمٍ به ، وعلى تقدير حمل الدعاءِ على أعمالهم تُحمل العَجوليةُ على اللَّجّ والتمادي في استيجاب العذابِ بتلك الأعمال ، وعلى الثاني أن القرآنَ يدعو الإنسانَ إلى ما هو خيرٌ وهو في بعضِ أحيانه كما عند الغضبِ يدعه ويدعو الله تعالى لنفسه وأهله وماله بما هو شرٌّ ، وكان الإنسان بحسب جِبِلّته عجولاً ضجِراً لا يتأسَّى إلى أن يزول عنه ما يعتريه .(4/175)
روي أنه عليه الصلاة والسلام دفع إلى سَوْدةَ أسيراً فأرخت كتافه رحمةً لأنينه بالليل من ألم القيد فهرب فلما أُخبر به النبيُّ عليه الصلاة والسلام قال : « اللهم اقطع يديها » فرفعت سودة يديها تتوقع الإجابة ، فقال عليه الصلاة السلام : « إني سألت الله تعالى أن يجعل دعائي على من لا يستحق من أهلي عذاباً رحمةً » أو يدعو بما هو شر وهو يحسبه خيراً ، وكان الإنسان عجولاً غيرَ متبصّر لا يتدبر في أموره حقَّ التدبر ليتحقق ما هو خيرٌ حقيقٌ بالدعاء به وما هو شرٌّ جديرٌ بالاستعاذة منه .(4/176)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
{ وَجَعَلْنَا اليل والنهار ءايَتَيْنِ } شروعٌ في بيان بعضِ وجوه ما ذُكر من الهداية بالإرشاد إلى مسلك الاستدلالِ بالآيات والدلائلِ الآفاقية التي كلُّ واحدة منها برهانٌ نيِّرٌ لا ريب فيه ومنهاجٌ بيِّنٌ لا يضِلّ من ينتحيه ، فإن الجعلَ المذكورَ وما عُطف عليه من محو آيةِ الليل وجعلِ آيةِ النهار مبصرةً وإن كانت من الهدايات التكوينية لكن الإخبارَ بذلك من الهدايات القرآنية المنبّهة على تلك الهداياتِ ، وتقديمُ الليل لمراعاة الترتيبِ الوجوديِّ إذ منه ينسلخ النهارُ ، وفيه تظهرُ غُررُ الشهور ، ولو أن الليلةَ أضيفت إلى ما قبلها من النهار لكانت من شهر وصاحبُها من شهر آخرَ ، ولترتيب غايةِ آيةِ النهار عليها بلا واسطة أي جعلنا الملَوَيْن بهَيْآتهما وتعاقبُهما واختلافِهما في الطول والقِصَر على وتيرةٍ عجيبة يحار في فهمهما العقولُ آيتين تدلان على أن لهما صانعاً حكيماً قادراً عليماً وتهديان إلى ما هدى إليه القرآنُ الكريم من ملة الإسلام والتوحيد { فَمَحَوْنَا ءايَةَ اليل } الإضافةُ إما بيانيةٌ كما في إضافة العددِ إلى المعدود أي محونا الآية التي هي الليلُ وفائدتُها تحقيقُ مضمونِ الجلمة السابقةِ ، ومحوُها جعلُها ممحُوّةَ الضوءِ مطموستَه ، لكن لا بعد إن لم تكن كذلك بل إبداعُها على ذلك كما في قولهم : سبحان من صغّر البعوضَ وكبّر الفيل أي أنشأهما كذلك ، والفاءُ تفسيريةٌ لأن المحو المذكورَ وما عُطف عليه ليسا مما يحصل عَقيبَ جعل الجديدين آيتين بل هما من جملة ذلك الجعلِ ومُتمّماته { وَجَعَلْنَا ءَايَةَ النهار } أي الآية التي هي النهارُ على نحو ما مر { مُبْصِرَةً } أي مضيئةً يبصَر فيها الأشياءُ وصفاً لها بحال أهلها أو مبصرةً للناس من أبصره فبصره ، وإما حقيقية وآية الليلُ والنهار نيِّراهما ، ومحوُ القمر إما خلقُه مطموسَ النور في نفسه فالفاء كما ذُكر ، وإما نفسُ ما استفاده من الشمس شيئاً فشيئاً إلى المحاق على ما هو معنى المحو ، والفاءُ للتعقيب وجعلُ الشمس مبصرةً إبداعُها مضيئةً بالذات ذاتَ أشعة تظهر بها الأشياءُ المظلمة .
{ لّتَبْتَغُواْ } متعلقٌ بقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا ءَايَةَ النهار } كما أشير إليه أي وجعلناها مضيئة لتطلُبوا لأنفسكم في بياض النهار { فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ } أي رزقاً إذ لا يتسنى ذلك في الليل ، وفي التعبير عن الرزق بالفضل وعن الكسب بالابتغاء والتعرضُ لصفة الربوبية المنبئةِ عن التبليغ إلى الكمال شيئاً فشيئاً دَلالةٌ على أن ليس في تحصيل الرزق تأثيرٌ سوى الطلبِ وإنما الإعطاءُ إلى الله سبحانه لا بطريق الوجوب عليه بل تفضلاً بحكم الربوبية { وَلِتَعْلَمُواْ } متعلقٌ بكِلا الفعلين أعني محوَ آية الليل وجعْلَ آيةِ النهار مبصرةً لا بأحدهما فقط إذ لا يكون ذلك بانفراده مداراً للعلم المذكور ، أي لتعلموا بتفاوت الجديدَين أو نيِّريْهِما ذاتاً من حيث الإظلامُ والإضاءة مع تعاقبهما أو حركاتهما وأوضاعِهما وسائرِ أحوالِهما { عَدَدَ السنين } التي يتعلق بها غرضٌ علمي لإقامة مصالحِكم الدينية والدنيوية { والحساب } أي الحسابَ المتعلقَ بما في ضمنها من الأوقات أي الأشهرَ واللياليَ والأيامَ وغير ذلك مما نيط به شيء من المصالح المذكورة ونفس السنة من حيث تحققُها مما ينتظمه الحسابُ ، وإنما الذي تعلق به العدُّ طائفةٌ منها وتعلقُه في ضمن ذلك بكل واحدة منها ليس من الحيثية المذكورة أعني حيثيةَ تحققِها وتحصُّلها من عدة أشهر قد تحصّل كل واحد منها بطائفة من الساعات مثلاً فإن ذلك وظيفةُ الحساب بل من حيث أنها فردٌ من تلك الطائفة المعدودة بعدها أي يُفنيها من غير أن يعتبر في ذلك تحصيلُ شيءٍ معين وتحقيقُه ما مر في سورة يونسَ من أن الحسابَ إحصاءُ ماله كميةٌ منفصلة بتكرير أمثالِه من حيث يتحصل بطائفة معينة منها حدٌّ معين منه له اسمٌ خاصٌّ وحكمٌ مستقل كما أشير إليه آنفاً ، والعدُّ إحصاؤُه بمجرد تكرير أمثالِه من غير أن يتصل منه شيء كذلك ، ولما أن السنين لم يعتبر فيها حدٌّ معين له اسمٌ خاصٌّ وحكم مستقلٌّ أُضيف إليها العددُ وعُلّق الحساب بما عداها مما اعتبر فيه تحصُّل مراتبَ معينةٍ لها أسامٍ خاصة وأحكامٌ مستقلة ، وتحصّلُ مراتبِ الأعداد من العشرات والمئات والألوف اعتباريٌّ لا يجدي في تحصل المعدودات ، وتقديمُ العدد على الحساب مع أن الترتيبَ بين متعلّقَيْهما وجوداً وعدماً على العكس للتنبيه من أول الأمر على أن متعلق الحساب ما في تضاعيف السنين من الأوقات أو لأن العلمَ المتعلِّق بعدد السنينَ علمٌ إجماليٌّ بما تعلق به الحساب تفصيلاً ، أو لأن العدد من حيث إنه لم يعتبر فيه تحصلُ شيءٍ آخرَ منه حسبما ذكر نازلٍ من الحساب المعتبر فيه ذلك منزلةَ البسيط من المركب ، أو لأن العلم المتعلقَ بالأول أقصى المراتب فكان جديراً بالتقديم في مقام الامتنان والله سبحانه أعلم { وَكُلَّ شىْء } تفتقرون إليه في المعاش والمعادِ سوى ما ذكر من جعل الليل والنهار آيتين وما يتبعه من المنافع الدينية والدنيوية ، وهو منصوبٌ بفعل يفسره قوله تعالى : { فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } أي بيناه في القرآن الكريم بياناً بليغاً لا التباسَ معه كقوله تعالى :(4/177)
{ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء } فظهر كونُه هادياً للتي هي أقوم ظهوراً بيناً .(4/178)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
{ وَكُلَّ إنسان } مكلف { ألزمناه طائره } أي عملَه الصادرَ عنه باختياره حسبما قُدِّر له كأنه طار إليه من عُشّ الغيب ووَكْر القدر ، أو ما وقع له في القسمة الإلية الواقعةِ حسب استحقاقِه في العلم الأزليِّ من قولهم : طار له سهمٌ كذا { فِى عُنُقِهِ } تصويرٌ لشدة اللزوم وكمالِ الارتباط أي ألزمناه عملَه بحيث لا يفارقه أبداً بل يلزمه لزومَ القِلادة أو الغُلّ للعنق لا ينفك عنه بحال ، وقرىء بسكون النون { وَنُخْرِجُ لَهُ } بنون العظمة وقد قرىء بالياء مبنياً للفاعل على أن الضمير لله عز وجل وللمفعول ، والضمير للطائر كما في قراءة يخرُج من الخروج { يَوْمُ القيامة } للحساب { كتابا } مسطوراً فيه ما ذكر من عمله نقيراً وقِطميراً وهو مفعول لنُخرجُ على القراءتين الأُوليين أو حالٌ من المفعول المحذوفِ الراجع إلى الطائر وعلى الأخرَيَين حالٌ من المستتر في الفعل من ضمير الطائر { يلقاه } الإنسان { مَنْشُوراً } وهما صفتان للكتاب أو الأول صفةٌ والثاني حالٌ منها ، وقرىء يلقاه من لقِيته كذا أي يلقى الإنسانُ إياه . قال الحسن : بُسِطت لك صحيفةٌ ووكّل بك ملكان فهما عن يمينك وعن شمالك فأما الذي عن يمينك فيحفظ سيئاتِك حتى إذا مُت طُويت صحيفتُك وجُعلت معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة .
{ اقرأ كتابك } أي قائلين لك ذلك . عن قتادة يقرأ ذلك اليومَ من لم يكن في الدنيا قارئاً ، وقيل : المرادُ بالكتاب نفسُه المنتقشةُ بآثار أعماله فإن كل عمل يصدُر من الإنسان خيراً أو شرًّا يحدُث منه في جوهر روحِه أمرٌ مخصوصٌ إلا أنه يخفى ما دام الروحُ متعلقاً بالبدن مشتغلاً بواردات الحواسِّ والقُوى ، فإذا انقطعت علاقتُه عن البدن قامت قيامته لأن النفس كانت ساكنةً مستقرة في الجسد وعند ذلك قامت وتوجهت نحو الصعود إلى العالم العلويِّ فيزول الغطاءُ وتنكشف الأحوالُ ويظهر على لَوح النفس نقشُ كلِّ شيء عملِه في مدة عمرِه وهذا معنى الكتابة والقراءة { كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا } أي كفى نفسُك ، والباء زائدة واليومَ ظرفٌ لكفى وحسيباً تمييزٌ و ( على ) صلتُه لأنه بمعنى الحاسب كالصريم بمعنى الصارم من حسَب عليه كذا . أو بمعنى الكافي ، ووُضِع موضعَ الشهيد لأنه يكفي المدعي ما أهمه . وتذكيرُه لأن ما ذكر من الحساب والكفاية مما يتولاه الرجال أو لأنه مبنيٌّ على تأويل النفس بالشخص على أنها عبارة عن نفس المذكر كقول جَبَلةَ بن حريث
يا نفسُ إنكِ باللذات مسرور ... فهل ينفعَنْك اليوم تذكيرُ
{ مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ } فذلكةٌ لما تقدم من بيان كونِ القرآن هادياً لأقوم الطرائقِ ولزومِ الأعمال لأصحابها ، أي من اهتدى بهدايته وعمِل بما في تضاعيفه من الأحكام وانتهى عما نهاه عنه فإنما تعود منفعةُ اهتدائِه إلى نفسه لا تتخطاه إلى غيره ممن لم يهتدِ { وَمَن ضَلَّ } عن الطريقة التي يهديه إليها { فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } أي فإنما وبالُ ضلاله عليها لا على من عداه ممّن يباشره حتى يمكن مفارقةُ العمل صاحبَه { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } تأكيد للجملة الثانية ، أي لا تحمل نفسٌ حاملةٌ للوزر وزرَ نفسٍ أخرى حتى يمكن تخلّصُ النفس الثانية عن وزرها ويختلَّ ما بين العامل وعملِه من التلازم ، بل إنما تحمل كلٌّ منها وزرها ، وهذا تحقيقٌ لمعنى قوله عز وجل : { وَكُلَّ إنسان ألزمناه طائره فِى عُنُقِهِ } وأما ما يدل عليه قوله تعالى :(4/179)
{ مَّن يَشْفَعْ شفاعة حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شفاعة سَيّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا } وقوله تعالى : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } مِن حمْل الغير وانتفاعِه بحسنته وتضرره بسيئته فهو في الحقيقة انتفاعٌ بحسنة نفسِه وتضرّرٌ بسيئته فإن جزاءَ الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العاملُ لازمٌ له .
وإنما الذي يصل إلى مَنْ يشفع جزاءُ شفاعته لا جزاءُ أصل الحسنة والسيئة ، وكذلك جزاءُ الضلال مقصورٌ على الضالين ، وما يحمله المُضلون إنما هو جزاءُ الإضلال لا جزاءُ الضلال ، وإنما خُص التأكيدُ بالجملة الثانية قطعاً للأطماع الفارغةِ حيث كانوا يزعُمون أنهم إن لم يكونوا على الحق فالتبعةُ على أسلافهم الذين قلدوهم { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ } بيانٌ للعناية الربانية إثرَ بيان اختصاصِ آثارِ الهداية والضلال بأصحابها وعدم حِرمان المهتدي من ثمرات هدايته وعدمِ مؤاخذة النفس بجناية غيرها ، أي وما صح وما استقام منا بل استحال في سنتنا المبنيةِ على الحِكَم البالغة أو ما كان في حكمنا الماضي وقضائِنا السابق أن نعذب أحداً من أهل الضلال والأوزارِ اكتفاءً بقضية العقل { حتى نَبْعَثَ } إليهم { رَسُولاً } يهديهم إلى الحق ويردعهم عن الضلال ويقيم الحججَ ويمهد الشرائع حسبما في تضاعيف الكتاب المنزل عليه ، والمرادُ بالعذاب المنفيّ إما عذابُ الاستئصال كما قاله الشيخ أبو منصور الماتريدي رحمه الله وهو المناسبُ لما بعده ، أو الجنسُ الشامل للدنيوي والأخروي وهو من أفراده ، وأياً ما كان فالبعثُ غايةٌ لعدم صحة وقوعِه في وقته المقدر له لا لعدم وقوعِه مطلقاً ، كيف لا والأخرويُّ لا يمكن وقوعُه عَقيبَ البعث ، والدنيويُّ أيضاً لا يحصُل إلا بعد تحقق ما يوجبه من الفسق والعصيان ، ألا يُرى إلى قوم نوحٍ كيف تأخر عنهم ما حل بهم زُهاءَ ألف سنة .(4/180)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
وقوله تعالى : { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً } بيان لكيفية وقوع التعذيب بعد البعثة التي جعلت غاية لعدم صحته وليس المراد بالإرادة تحققها بالفعل إذ لا يتخلف عنها المراد ولا الإرادة الأزلية المتعلقة لوقوع المراد في وقته المقدر له إذ لا يقارنه الجزاء الآتي بل دنو وقتها كما في قوله تعالى أتى أمر الله أى وإذا دنا وقت تعلق إرادتنا بإهلاك قرية بأن نعذب أهلها بما ذكرنا من عذاب الاستئصال الذي بينا أنه لا يصح منا قبل البعثة أو بنوع مما ذكرنا شأنه من مطلق العذاب أعني عذاب الاستئصال لما لهم من الظلم والمعاصي دنوا تقتضيه الحكمة من غير أن يكون له حد معين { أَمَرْنَا } بواسطة الرسول المبعوث إلى أهلها { مُتْرَفِيهَا } متنعميها وجباريها وملوكها خصهم بالذكر مع توجه الأمر إلى الكل لأنهم الأصول في الخطاب والباقي أتباع لهم ولأن توجه الأمر إليهم آكدو عدم التعرض للمأمور به إما الظهور أن المراد به الحق والخير لأن الله لا يأمر بالفحشاء لا سيما بعد ذكر هداية القرآن لما يهدي إليه وإما لأن المراد وجد منا الأمر كما يقال فلان يعطي ويمنع { فَفَسَقُواْ فِيهَا } أي خرجوا عن الطاعة وتمردوا { فَحَقَّ عَلَيْهَا القول } أي ثبت وتحقق موجبه بحلول العذاب إثر ما ظهر منهم من الفسق والطغيان { فَدَمَّرْنَاهَا } بتدمير أهلها { تَدْمِيراً } لا يكتنه كنهه ولا يوصف هذا هو المناسب لما سبق وقيل الأمر مجاز عن الحمل على الفسق والتسبب له بأن صب عليهم ما أبطرهم وأفضى بهم إلى الفسوق وقيل هو بمعنى التكثير يقال أمرت الشيء فأمر أي كثرته فكثر وفي الحديث خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة أي كثيرة النتاج ويهضده قراءة آمرنا وأمرنا من الإفعال والتفعيل وقد جعلتا من الإمارة أي جعلناهما أمراء وكل ذلك لا يساعده مقام الزجر عن الضلال والحث على الاهتداء فإن مؤدى ذلك أن طغيانهم منوطاً بإرادة الله سبحانه وإنعامه عليهم بنعم وافرة أبطرتهم وحملتهم على الفسق حملا حقيقاً بأن يعبر عنه بالامر به .(4/181)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا } أي وكثيراً ما أهلكنا { مّنَ القرون } بيانٌ لِكَم وتمييزٌ له ، والقَرنُ مدةٌ من الزمان يُخترَم فيها القومُ وهي عشرون أو ثلاثون أو أربعون أو ثمانون أو مائة ، وقد أيِّد ذلك بأنه عليه الصلاة والسلام دعا لرجل فقال : « عِشْ قرناً » فعاش مائة سنةٍ أو مائة وعشرين { مِن بَعْدِ نُوحٍ } من بعد زمنه عليه الصلاة والسلام كعادٍ وثمودَ ومَنْ بعدهم ممن قُصّت أحوالُهم في القرآن العظيم ومَنْ لم تُقَصَّ ، وعدمُ نظمِ قومه عليه الصلاة والسلام في تلك القرون المهلَكة لظهور أمرِهم ، على أن ذكره عليه الصلاة والسلام رمزٌ إلى ذكرهم { وكفى بِرَبّكَ } أي كفى ربُّك { بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا } يحيط بظواهرها وبواطنها فيعاقب عليها ، وتقديمُ الخبير لتقدم متعلَّقِه من الاعتقادات والنيات التي هي مبادي الأعمالِ الظاهرةِ أو لعمومه حيث يتعلق بغير المُبصَرات أيضاً . وفيه إشارةٌ إلى أن البعثَ والأمر وما يتلوهما من فسقهم ليس لتحصيل العلمِ بما صدر عنهم من الذنوب فإن ذلك حاصلٌ قبل ذلك وإنما هو لقطع الأعذار وإلزامِ الحُجة من كل وجه .
{ مَن كَانَ يُرِيدُ } بأعماله التي يعملها سواءٌ كان ترتُّبُ المراد عليها بطريق الجزاءِ كأعمال البِرّ أو بطريق ترتبِ المعلولات على العلل كالأسباب ، أو بأعمال الآخرة فالمرادُ بالمريد على الأول الكفرةُ وأكثرُ الفسقة ، وعلى الثاني أهلُ الرياء والنفاق والمهاجِرُ للدنيا والمجاهدُ لمحض الغنيمة { العاجلة } فقط من غير أن يريد معها الآخرةَ كما ينبىء عنها الاستمرارُ المستفادُ من زيادة كان هاهنا مع الاقتصار على مطلق الإرادةِ في قسيمه ، والمرادُ بالعاجلة الدارُ الدنيا وبإرادتها إرادةُ ما فيها من فنون مطالبِها كقوله تعالى : { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا } ويجوز أن يراد الحياةُ العاجلة كقوله عز وجل : { مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا } لكن الأولَ أنسبُ بقوله : { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا } أي في تلك العاجلةِ فإن الحياةَ واستمرارها من جملة ما عُجِّل له ، فالأنسبُ بذلك كلمةُ من كما في قوله تعالى : { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا } { مَا نَشَاء } أي ما نشاء تعجيلَه له من نعيمها لا كلَّ ما يريد { لِمَن نُّرِيدُ } تعجيلَ ما نشاء له وهو بدلٌ من الضمير في له بإعادة الجارِّ بدلَ البعض ، فإنه راجعٌ إلى الموصول المنبىءِ عن الكثرة ، وقرىء لمن يشاء على أن الضميرَ لله سبحانه ، وقيل : هو لِمَن فيكون مخصوصاً بمن أراد به ذلك ، وهو واحدٌ من الدهماء ، وتقييدُ المعجَّل والمعجَّل له بما ذُكر من المشيئة والإرادة لما أن الحِكمةَ التي عليها يدور فلكُ التكوين لا تقتضي وصولَ كلِّ طالبٍ إلى مرامه ولا استيفاءَ كلِّ واصل لما يطلُبه بتمامه ، وأما ما يتراءى من قوله تعالى :(4/182)
{ مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } من نيل كلِّ مؤمِّلٍ لجميع آماله ووصولِ كلِّ عاملٍ إلى نتيجة أعمالِه ، فقد أُشير إلى تحقيق القولِ فيه في سورة هود بفضل الله تعالى { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ } مكان ما عجلنا له { جَهَنَّمَ } وما فيها من أصناف العذاب { يصلاها } يدخُلها وهو حالٌ من الضمير المجرور أو من جهنم أو استئنافٌ { مَذْمُومًا مَّدْحُورًا } مطروداً من رحمة الله تعالى ، وقيل : الآية في المنافقين كانوا يُراؤون المسلمين ويغزون معهم ولم يكن غرضُهم إلا مساهمتَهم في الغنائم ونحوِها ، ويأباه ما يقال إن السورةَ مكيةٌ سوى آياتٍ معينة .(4/183)
وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)
{ وَمَنْ أَرَادَ } بأعماله { الأخرة } الدارَ الآخرةَ وما فيها من النعيم المقيم { وسعى لَهَا سَعْيَهَا } أي السعْيَ اللائقَ بها وهو الإتيانُ بما أُمر والانتهاءُ عما نُهيَ لا التقرّبُ بما يخترعون بآرائهم ، وفائدةُ اللام اعتبارُ النيةِ والإخلاص { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } إيماناً صحيحاً لا يخالطه شيءٌ قادحٌ فيه ، وإيرادُ الإيمانِ بالجملة الحالية للدِلالة على اشتراط مقارنتِه لما ذُكر في حيِّز الصلة { فَأُوْلَئِكَ } إشارةٌ إلى الموصولِ بعنوان اتصافِه بما في حيز الصلةِ ، وما في ذلك من معنى البعدِ للإشعار بعلو درجتِهم وبُعد منزلتِهم ، والجمعيةُ لمراعاة جانب المعنى إيماءً إلى أن الإثابة المفهومةَ من الخبر تقع على وجه الاجتماعِ أي أولئك الجامعون لما مر من الخصال الحميدةِ ، أعني إرادةَ الآخرةِ والسعيَ الجميلَ لها والإيمانَ { كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا } مقبولاً عند الله تعالى أحسنَ القَبول مُثاباً عليه ، وفي تعليق المشكوريّةِ بالسعْي دون قرينَيْهِ إشعارٌ بأنه العمدةُ فيها .
{ كَلاَّ } التنوين عوضٌ عن المضاف إليه أي كلَّ واحد من الفريقين لا الفريقِ الأخير المريد للخير الحقيقِ بالإسعاف فقط { نُّمِدُّ } أي نزيد مرة بعد مرة بحيث يكون الآنِفُ مدداً للسالف ، وما به الإمدادُ ما عُجّل لأحدهما من العطايا العاجلة وما أعد للآخر من العطايا الآجلةِ المشارِ إليها بمشكورية السعي ، وإنما لم يصرحْ به تعويلاً على ما سبق تصريحاً وتلويحاً واتكالاً على ما لحِق عبارةً وإشارة كما ستقف عليه ، وقوله تعالى : { هَؤُلاء } بدل من كلاًّ { وَهَؤُلاء } عطف عليه أي نُمد هؤلاء المعجَّلَ لهم وهؤلاءِ المشكورَ سعيُهم ، فإن الإشارةَ متعرّضةٌ لذات المشارِ إليه بما له من العنوان لا للذات فقط كالإضمار ، ففيه تذكيرٌ لما به الإمدادُ وتعيينٌ للمضاف إليه المحذوفِ دفعاً لتوهّم كونِه أفرادَ الفريقِ الأخير ، وتأكيدٌ للقصر المستفادِ من تقديم المفعول وقوله تعالى : { مِنْ عَطَاء رَبّكَ } أي من العطاء الواسعِ الذي لا تناهيَ له متعلقٌ بنُمد ، ومغْنٍ عن ذكر ما به الإمدادُ ومنبِّهٌ على أن الإمدادَ المذكورَ ليس بطريق الاستيجابِ بالسعي والعمل بل بمحض التفضل { وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ } أي دنيوياً كان أو أخروياً ، وإنما أُظهر إظهاراً لمزيد الاعتناءِ بشأنه وإشعاراً بعلّيته للحكم { مَحْظُورًا } ممنوعاً ممن يريده بل هو فائضٌ على مَن قُدّر له بموجب المشيئةِ المبنيةِ على الحكمة وإن وُجد منه ما يقتضي الحظرَ كالكافر وهو في معنى التعليل لشمول الأمدادِ للفريقين ، والتعرضُ لعنوان الربوبية في الموضعين للإشعار بمبدئيتها لما ذُكر من الإمداد وعدم الحظر .(4/184)
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
{ انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } كيف في محل النصبِ بفضّلنا على الحالية والمرادُ توضيحُ ما مر من الإمداد وعدمِ محظوريةِ العطاء بالتنبيه على استحضار مراتبِ أحد العطاءين والاستدلالِ بها على مراتب الآخر ، أي انظر بنظر الاعتبار كيف فضلنا بعضَهم على بعض فيما أمددناهم به من العطايا العاجلة ، فمِنْ وضيع ورفيع وضَالعٍ وضليع ومالكٍ ومملوكٍ ومُوسرٍ وصُعلوكٍ تعرِفْ بذلك مراتبَ العطايا الآجلةِ ودرجاتِ تفاضل أهلِها على طريقة الاستشهاد بحال الأدنى على حال الأعلى كما أفصح عنه قوله تعالى : { وَلَلأَخِرَةُ أَكْبَرُ } أي هي وما فيها أكبرُ من الدنيا ، وقرىء أكثرُ { درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } لأن التفاوتَ فيها بالجنة ودرجاتِها العالية التي لا يقادر قدرُها ولا يُكتنه كُنهُها ، كيف لا وقد عُبّر عنه بما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطَر على قلب بشر . هذا ويجوز أن يراد بما به الإمدادُ العطايا العاجلةُ فقط ويُحمل القصرُ المذكورُ على دفع توهم اختصاصِها بالفريق الأول ، فإن تخصيصَ إرادتهم لها ووصولَهم إليها بالذكر من غير تعرض لبيان النسبةِ بينها وبين الفريق الثاني إرادةً ووصولاً مما يُوهم اختصاصَها بالأولين ، فالمعنى كلُّ واحد من الفريقين نُمِد بالعطايا العاجلة لا مَنْ ذكرنا إرادتَه لها فقط من الفريق الأول من عطاء ربك الواسعِ وما كان عطاؤُه الدنيويُّ محظوراً من أحد ممن يريده وممن يريد غيره ، انظر كيف فضلنا في ذلك العطاءِ بعضَ كلَ من الفريقين على بعض آخرَ منهما وللآخِرةُ . . الآية . واعتبارُ عدم المحظورية بالنسبة إلى الفريق الأولِ تحقيقاً لشمول الإمدادِ له كما فعله الجمهور حيث قالوا : لا يمنعه مِن عاصٍ لعصيانه يقتضي كونَ القصر لدفع توهم اختصاصِ الإمداد الدنيويِّ بالفريق الثاني مع أنه لم يسبِقْ في الكلام ما يوهم ثبوتَه له فضلاً عن إيهام اختصاصِه .
{ لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها } الخطابُ للرسول عليه الصلاة والسلام والمرادُ به أمتُه وهو من باب التهييجِ والإلهاب ، أو كلِّ أحد ممن يصلح للخطاب { ءاخَرَ فَتَقْعُدَ } بالنصب جواباً للنهي ، والقعودُ بمعنى الصيرورة من قولهم : شحذ الشفرةَ حتى قعَدتْ كأنها خَرِبة ، أو بمعنى العجز ، مِن قعد عنه أي عجز عنه { مَذْمُومًا مَّخْذُولاً } خبران أو حالان أي جامعاً على نفسك الذمَّ من الملائكة والمؤمنين والخِذلانَ من الله تعالى ، وفيه إشعارٌ بأن الموحِّدَ جامعٌ بين المدح والنُّصرة .(4/185)
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
{ وقضى رَبُّكَ } أي أمر أمراً مُبْرماً ، وقرىء وأوصى ربُّك «ووصّى ربك» { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ } أي بأن لا تعبدوا { إِلاَّ إِيَّاهُ } على أنّ «أنْ» مصدريةٌ ولا نافيةٌ أو أي لا تعبدوا على أنها مفسرةٌ ولا ناهيةٌ لأن العبادة غايةُ التعظيمِ فلا تحِقُّ إلا لمن له غايةُ العظمة ونهايةُ الإنعام وهو كالتفصيل للسعي للآخرة { وبالوالدين } أي وبأن تُحسِنوا بهما أو وأحسنوا بهما { إحسانا } لأنهما السببُ الظاهرُ للوجود والتعيش { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا } إما مركبةٌ من إن الشرطية وما المزيدةِ لتأكيدها ولذلك دخل الفعلَ نونُ التأكيد ، ومعنى عندك في كنفك وكفالتك وتقديمُه على المفعول مع أن حقه التأخرُ عنه للتشويق إلى وروده فإن مدارَ تضاعف الرعايةِ الإحسانُ وأحدُهما فاعل للفعل وتأخيره عن الظرف والمفعولِ لئلا يطولَ الكلامُ به وبما عُطف عليه . وقرىء يبلغان فأحدُهما بدلٌ من ضمير التثنية وكلاهما عطفٌ عليه ولا سبيل إلى جعل ( كلاهما ) تأكيداً للضمير ، وتوحيدُ ضمير الخطاب في عندك وفيما بعده مع أن ما سبق على الجمع للاحتراز عن التباس المرادِ فإن المقصودَ نهيُ كلِّ أحد عن تأفيف والديه ونهْرِهما ، ولو قوبل الجمعُ بالجمع أو بالتثنية لم يحصل هذا المرام { فَلاَ تَقُل لَّهُمَا } أي لواحد منهما حالتي الانفراد والاجتماع { أُفّ } وهو صوتٌ ينبىء عن تضجر ، أو اسمُ فعلٍ هو أتضجر ، وقرىء بالكسر بلا تنوين وبالفتح والضم منوناً وغيرَ مُنوّن أي لا تتضجرْ بهما تستقذرُ منهما وتستثقل من مُؤَنهما وبهذا النهي يُفهم النهيُ عن سائر ما يؤذيهما بدلالة النصِّ ، وقد خُص بالذكر بعضُه إظهاراً للاعتناء بشأنه فقيل : { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } أي لا تزجُرهما عما لا يعجبك بإغلاظ ، قيل : النهيُ والنهرُ والنهْمُ أخواتٌ { وَقُل لَّهُمَا } بدلَ التأفيف والنهر { قَوْلاً كَرِيمًا } ذا كرمِ أو هو وصفٌ له بوصف صاحبِه أي قولاً صادراً عن كرم ولطفٍ ، وهو القولُ الجميلُ الذي يقتضيه حسنُ الأدب ويستدعيه النزولُ على المروءة مثلُ أن يقول : يا أباه ويا أماه ، كدأب إبراهيمَ عليه السلام إذ قال لأبيه : يا أبتِ مع ما به من الكفر ، ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء وسوءِ الأدب وديدنُ الدُعّار . وسئل الفضيلُ بنُ عياض عن بر الوالدين فقال : أن لا تقوم إلى خدمتهما عن كسل ، وقيل : أن لا ترفعَ صوتَك عليهما ولا تنظُرَ إليهما شزْراً ولا يَرَيا منك مخالفةً في ظاهر ولا باطن وأن تترحّم عليهما ما عاشا وتدعوَ لهما إذا ماتا وتقومَ بخدمة أوِدّائِهما من بعدهما ، فعن النبي عليه الصلاة والسلام : " إنَّ مِنْ أَبَرِّ البِرِّ أنْ يصلَ الرجلُ أهلَ ودِّ أبيه " .(4/186)
{ واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل } عبارةٌ عن الإنة الجانبِ والتواضعِ والتذلل لهما ، فإن إعزازَهما لا يكون إلا بذلك فكأنه قيل : واخفض لهما جناحَ الذليل أو جُعل لذله جَناحٌ كما جَعل لبيدٌ في قوله
وغداةِ ريحٍ قد كشفْت وقَرّة ... إذ أصبحت بيد الشمالِ زمامُها
للقَرة زماماً وللشمال يداً تشبيهاً له بطائر يخفض جناحَه لأفراخه تربيةً لها وشفقةً عليها ، وأما جعلُ خفض الجناحِ عبارةً عن ترك الطيران كما فعله القفالُ فلا يناسب المقام { مِنَ الرحمة } من فرْط رحمتِك وعطفِك عليهما ورِقّتك لافتقارهما اليوم إلى مَنْ كان أفقرَ خلق الله تعالى إليهما ولا تكتفِ برحمتك الفانية بل ادعُ الله لهما برحمته الواسعة الباقية { وَقُل رَّبّ ارحمهما } برحمتك الدنيوية والأخرويةِ التي من جملتها الهدايةُ إلى الإسلام فلا ينافي ذلك كفرَهما { كَمَا رَبَّيَانِى } الكاف في محل النصب على أنه نعتٌ لمصدر محذوف أي رحمةً مثلَ تربيتهما لي أو مثلَ رحمتهما لي على أن التربيةَ رحمةٌ ويجوز أن يكون لهما الرحمةُ والتربية معاً وقد ذُكر أحدُهما في أحد الجانبين والآخرُ كما يلوح به التعرّضُ لعنوان الربوبيةِ في مطلع الدعاء كأنه قيل : رب ارحمهما وربِّهما كما رحِماني وربّياني { صَغِيرًا } ويجوز أن تكون الكافُ للتعليل أي لأجل تربيتهما لي كقوله تعالى : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } ولقد بالغ عز وجل في التوصية بهما حيث افتتحها بأن شفَع الإحسانَ إليهما بتوحيده سبحانه ونظمَهما في سلك القضاءِ بهما معاً ثم ضيّق الأمرَ في باب مراعاتهما حتى لم يرخِّصْ في أدنى كلمةٍ تُفْلت من المتضجر مع ما له من موجبات الضجر ما لا يكاد يدخل تحت الحصر ، وختمَها بأن جعل رحمتَه التي وسعت كلَّ شيء مُشْبَهةٌ بتربيتهما . وعن النبي عليه الصلاة والسلام : « رِضى الله في رضى الوالدين وسخطُه في سخطهما » وروي ( يفعل البارُّ ما يشاء أن يفعل فلن يدخُل النارَ ويفعل العاقُّ ما يشاء أن يفعل فلن يدخُل الجنة ) وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أبوَيَّ بلغا من الكِبَر أنى أَلي منهما ما وَلِيا مني في الصغر فهل قضيتُهما حقهما؟ قال : « لا فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يُحبّان بقاءَك وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما » وروي أن شيخاً أتى النبي عليه الصلاة والسلام فقال : إن ابني هذا له مالٌ كثير وإنه لا ينفق عليَّ من ماله ، فنزل جبريلُ عليه السلام وقال : إن هذا الشيخَ قد أنشأ في ابنه أبياتاً ما قُرع سمعٌ بمثلها فاستنشَدَها الشيخَ فقال
غذَوتُك مولوداً ومُنْتُك يافعا ... تَعُلُّ بما أَجني عليك وتنهل
إذا ليلةٌ ضافتْك بالسُّقم لم أبِت ... لسُقمك إلا باكياً أتململ
كأني أنا المطروقُ دونك بالذي ... طُرِقَتْ به دوني وعينَي تهمُل
فلما بلغتَ السنَّ والغايةَ التي ... إليها مدى ما كنتُ فيك أؤمل
جعلتَ جزائي غِلظةً وفظاظة ... كأنك أنت المنعمُ المتفضّل
فليتك إذْ لم ترْعَ حقَّ أُبوتي ... فعلتَ كما الجارُ المجاورُ يفعل
فغضب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال : « أنتَ ومالُكَ لأبيك » .(4/187)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)
{ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ } من البر والعقوق { إِن تَكُونُواْ صالحين } قاصدين للصلاح والبِرِّ دون العقوقِ والفساد { فَإِنَّهُ } تعالى { كَانَ لِلاْوَّابِينَ } أي الرجّاعين إليه تعالى عما فرَط منهم مما لا يكاد يخلو عنه البشر { غَفُوراً } لما وقع منهم من نوعِ تقصير أو أذيةٍ فعليةٍ أو قولية ، وفيه ما لا يخفى من التشديد في الأمر بمراعاة حقوقِهما ، ويجوز أن يكون عاماً لكل تائبٍ ويدخُل فيه الجاني على أبويه دخولاً أولياً .
{ وَءاتِ ذَا القربى } أي ذا القرابةِ { حَقَّهُ } توصيةٌ بالأقارب إثرَ التوصية ببرّ الوالدين ، ولعل المرادَ بهم المحارمُ وبحقهم النفقةُ كما ينبىء عنه قوله تعالى : { والمساكين وابن السبيل } فإن المأمورَ به في حقهما المواساةُ الماليةُ لا محالة أي وآتِهما حقَّهما مما كان مفترَضاً بمكةَ بمنزلة الزكاة ، وكذا النهيُ عن التبذير وعن الإفراط في القبض والبسْطِ فإن الكلَّ من التصرفات المالية { وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا } نهيٌ عن صرف المال إلى من سواهم ممن لا يستحقه فإن التبذيرَ تفريقٌ في غير موضعه مأخوذٌ من تفريق حباتٍ وإلقائِها كيفما كان من غير تعهّدٍ لمواقعه ، لا عن الإكثار في صرفه إليهم وإلا لناسبه الإسرافُ الذي هو تجاوزُ الحدِّ في صرفه ، وقد نُهي عنه بقوله سبحانه وتعالى : { وَلاَ تَبْسُطْهَا } وكلاهما مذموم .(4/188)
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
{ إِنَّ المبذرين كَانُواْ إخوان الشياطين } تعليلٌ للنهي عن التبذير ببيان أنه يجعل صاحبَه ملزوزاً في قَرن الشياطين ، والمرادُ بالأخوة المماثلةُ التامةُ في كلِّ ما لا خيرَ فيه من صفات السوءِ التي من جملتها التبذيرُ أي كانوا بما فعلوا من التبذير أمثالَ الشياطين ، أو الصداقةُ والملازمةُ أي كانوا أصدقاءَهم وأتباعَهم فيما ذُكر من التبذير والصرْفِ في المعاصي فإنهم كانوا ينحَرون الإبلَ ويتياسرون عليها ويبذّرون أموالَهم في السمعة وسائرِ ما لا خير فيه من المناهي والملاهي ، أو المقارنةُ أي قرناءَهم في النار على سبيل الوعيد { وَكَانَ الشيطان لِرَبّهِ كَفُورًا } من تتمة التعليل أي مبالِغاً في كفران نعمتِه تعالى لأن شأنه أن يصرِفَ جميع ما أعطاه الله تعالى من القُوى والقدر إلى غير ما خُلقت هي له من أنواع المعاصي والإفسادِ في الأرض وإضلالِ الناس وحملِهم على الكفر بالله وكفرانِ نِعَمه الفائضةِ عليهم وصرفِها إلى غير ما أمر الله تعالى به ، وتخصيصُ هذا الوصفِ بالذكر من بين سائر أوصافِه القبيحة للإيذان بأن التبذيرَ الذي هو عبارةٌ عن صرف نِعَم الله تعالى إلى غير مصْرِفها من باب الكفرانِ المقابلِ للشكر الذي هو عبارةٌ عن صرفها إلى ما خُلقت هي له . والتعرضُ لوصف الربوبيةِ للإشعار بكمال عُتوِّه فإن كفرانَ نعمةِ الربِّ مع كون الربوبية من أقوى الدواعي إلى شكرها غايةُ الكُفران ونهايةُ الضلال والطغيان .
{ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ } أي إن اعتراك أمرٌ اضطَرَّك إلى أن تُعرِض عن أولئك المستحقين { ابتغاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ } أي لفقد رزقٍ من ربك ، إقامةٌ للمسبّب مُقام السبب فإن الفقدَ سببٌ للابتغاء { تَرْجُوهَا } من الله تعالى لتُعطيَهم وكان عليه السلام إذا سُئل شيئاً وليس عنده أعرض عن السائل وسكت حياءً فأُمر بتعهّدهم بالقول الجميل لئلا تعتريَهم الوَحشةُ بسكوته عليه السلام ، فقيل : { فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا } سهلاً ليّناً وعِدْهم وعداً جميلاً ، من يسُر الأمرُ نحوُ سعِد ، أو قل لهم رزَقنا الله وإياكم من فضله على أنه دعاءٌ لهم ييّسر عليهم فقرَهم .
{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } تمثيلان لمنع الشحيحِ وإسرافِ المبذِّرِ زجراً لهما عنهما وحملاً على ما بينهما من الاقتصاد
كلا طَرَفَيْ قصدِ الأمورِ ذميمُ ... وحيث كان قبحُ الشحِّ مقارِناً له معلوماً من أول الأمر رُوعيَ ذلك في التصوير بأقبح الصور ، ولمّا كان غائلةُ الإسراف في آخره بُيِّن قبحُه في أثره فقيل : { فَتَقْعُدَ مَلُومًا } أي فتصيرَ ملوماً عند الله تعالى وعند الناسِ وعند نفسك إذا احتجتَ وندِمْت على ما فعلت { مَّحْسُوراً } نادماً أو منقطعاً بك لا شيءَ عندك من حسَره السفرُ إذا بلغ منه .(4/189)
وما قيل من أنه روي عن جابر رضي الله عنه أنه قال : بينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قاعدٌ إذ أتاه صبيٌّ فقال : إن أمي تستكْسيك دِرعاً فقال عليه السلام : « من ساعة إلى ساعة فَعُد إلينا » فذهب إلى أمه فقالت له : قل : إن أمي تستكسيك الدرعَ الذي عليك ، فدخل صلى الله عليه وسلم داره ونزَع قميصه وأعطاه وقعد عُرْياناً ، وأذّن بلالٌ ، وانتظروا فلم يخرُجْ للصلاة فنزلت . فيأباه أن السورة مكيةٌ خلا آياتٍ في آخرها ، وكذا ما قيل إنه عليه السلام أعطى الأقرعَ بنَ حابس من الإبل وكذا عُيَينةَ بنَ حصنٍ الفزاريَّ فجاء عباسُ بنُ مِرداس فأنشد يقول
أتجعل نهبي ونهبَ العُبَي ... د بَيْنَ عُيَيْنَةَ والأَقْرَعِ
وما كان حِصْنٌ ولا حابس ... يفوقان مِرداسَ في مجمع
وما كنتُ دون امرىء منهما ... ومَنْ تَضَعِ اليومَ لا يُرفعِ
فقال عليه السلام : « يا أبا بكر اقطعْ لسانه عنّي ، أعطه مائةً من الإبل » وكانوا جميعاً من المؤلفة القلوب فنزلت .
{ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ } تعليلٌ لما مر أي يوسّعه على بعض ويضيِّقه على آخرين حسبما تتعلق به مشيئتُه التابعةُ للحِكمة فليس ما يَرْهقُك من الإضافة التي تحوِجُك إلى الإعراض عن السائلين أو نفادُ ما في يدك إذا بسطتَها كلَّ البسْطِ إلا لمصلحتك { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا } تعليلٌ لما سبق أي يعلم سرَّهم وعلَنَهم فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم ، ويجوز أن يراد أن البسطَ والقبضَ من أمر الله العالم بالسرائر والظواهرِ الذي بيده خزائنُ السمواتِ والأرض ، وأما العبادُ فعليهم أن يقتصدوا ، وأن يراد أنه تعالى يبسُط تارةً ويقبِضُ أخرى فاستنّوا بسنته فلا تقبِضوا كلَّ القبض ولا تبسُطوا كل البسط ، وأن يراد أنه تعالى يبسُط ويقدِر حسب مشيئتِه فلا تبسُطوا على من قُدِر عليه رزقُه ، وأن يكون تمهيداً لقوله : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إملاق } أي مخافةَ فقر ، وقرىء بكسر الخاء ، كانوا يئِدون بناتِهم مخافةَ الفقر فنُهوا عن ذلك { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } لا أنتم فلا تخافوا الفاقةَ بناء على علمكم بعجزكم عن تحصيل رزقِهم وهو ضمانٌ لرزقهم وتعليلٌ للنهي المذكور بإبطال موجِبه في زعمهم ، وتقديمُ ضميرِ الأولاد على المخاطَبين على عكس ما وقع في سورة الأنعام للإشعار بأصالتهم في إفاضة الرزقِ أو لأن الباعثَ على القتل هناك الإملاقُ الناجزُ ولذلك قيل : من إملاق وهاهنا الإملاقُ المتوقع ، ولذلك قيل : خشيةَ إملاقٍ فكأنه قيل : نرزقُهم من غير أن ينتقص من رزقكم شيءٌ فيعتريكم ما تخشَوْنه وإياكم أيضاً رزقاً إلى رزقكم { إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خطأ كَبِيراً } تعليلٌ آخرُ ببيان أن المنهيَّ عنه في نفسه منكرٌ عظيم ، والخِطْءُ الذنبُ والإثمُ يقال : خطِىءَ خِطْأً كأثِم إثماً ، وقرىء بالفتح والسكون وبفتحتين بمعناه كالحِذْر والحذَر ، وقيل : بمعنى ضد الصواب ، وبكسر الخاء والمد وبفتحها ممدوداً وبفتحها وحذف الهمزة وبكسرها كذلك .(4/190)
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ } بمباشرة مباديه القريبةِ أو البعيدة فضلاً عن مباشرته وإنما نهى عن قُربانه على خلاف ما سبق ولحِق من القتل للمبالغة في النهي عن نفسه لأن قربانه داعٍ إلى مباشرته . وتوسيطُ النهي عنه بين النهي عن قتل الأولادِ والنهي عن قتل النفسِ المحرمة على الإطلاق باعتبار أنه قتلٌ للأولاد لِما أنه تضييعٌ للأنساب فإن من لم يثبُتْ نسبُه ميِّتٌ حكماً { الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } فَعلةً ظاهرةَ القبح متجاوزةً عن الحد { وَسَاء سَبِيلاً } أي بئس طريقاً طريقُه ، فإن غصْبُ الأبضاعِ المؤدّي إلى اختلال أمر الأنسابِ وهيَجانِ الفتن ، كيف لا وقد قال النبي عليه السلام : « إذا زنى العبدُ خرجَ منه الإيمانُ فكانَ على رأسه كالظُّلّةِ فإذا انقطع رجعَ إليه » وقال عليه السلام : « لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن » وعن حذيفة رضي الله عنه أنه قال عليه السلام : « إياكم والزنى فإن فيه ستَّ خصال ثلاثٌ في الدنيا وثلاثٌ في الآخرة فأما التي في الدنيا فذهابُ البهاء ودوامُ الفقر وقِصَرُ العمر ، وأما التي في الآخرة فسخطُ الله تعالى وسوءُ الحساب والخلودُ في النار » .(4/191)
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
{ وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التى حَرَّمَ الله } قتْلَها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد { إِلاَّ بالحق } إلا بإحدى ثلاث : كفرٍ بعد إيمان ، وزِناً بعد إحصان ، وقتلِ نفسٍ معصومةٍ عمداً ، فالاستثناءُ مفرَّغٌ أي لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحقِّ أو ملتبسين أو ملتبسةً بشيء من الأشياء ، ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوفٍ أي لا تقتُلوها قتلاً ما إلا قتلاً متلبساً بالحق { وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا } بغير حق يوجب قتلَها أو يُبيحه للقاتل حتى إنه لا يُعتبر إباحتُه لغير القاتل فإن من عليه القصاصُ إذا قتله غيرُ من له القِصاصُ يُقتصّ له ، ولا يفيده قولُ الوليِّ : أنا أمرتُه بذلك ما لم يكن الأمرُ ظاهراً { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ } لمن يلي أمرَه من الوارث أو السلطانِ عند عدم الوارث { سلطانا } تسلّطاً واستيلاءً على القاتل يؤاخذه بالقصاص أو بالدية حسبما تقتضيه جنايتُه ، أو حجةً غالبة { فَلاَ يُسْرِف } وقرىء لا تسرفْ { فّى القتل } أي لا يُسرف الوليُّ في أمر القتل بأن يتجاوز الحدَّ المشروعَ بأن يزيد عليه المُثْلة أو بأن يقتُل غيرَ القاتل من أقاربه ، أو بأن يقتلَ الاثنين مكانَ الواحد كما يفعله أهلُ الجاهلية أو بأن يقتل القاتلَ في مادة الدّية وقرىء بصيغة النفي مبالغةً في إفادة معنى النهي { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } تعليلٌ للنهي والضميرُ للولي على معنى أنه تعالى نصره بأن أوجب له القِصاصَ أو الديةَ وأمَر الحكامَ بمعونته في استيفاء حقِّه فلا يبْغِ ما وارء حقِّه ولا يستزِدْ عليه ولا يخرُجْ من دائرة أمرِ الناصر . أو للمقتول ظلماً على معنى أنه تعالى نصره بما ذُكر فلا يسرف وليُّه في شأنه أو للذي يقتله الوليُّ ظلماً وإسرافاً ، ووجهُ التعليل ظاهرٌ ، وعن مجاهد أن الضميرَ في لا يسرفْ للقاتل الأول ويعضده قراءةُ فلا تسرفوا والضميران في التعليل عائدان إلى الولي أو المقتول ، فالمرادُ بالإسراف حينئذ إسرافُ القاتل على نفسه بتعريضه لها للهلاك العاجل والآجلِ لا الإسرافُ وتجاوزُ الحد في القتل أي لا يسرف على نفسه في شأن القتل كما في قوله تعالى : { قُلْ ياأهل عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم } نهيٌ عن قربانه لما ذكر من المبالغة في النهي عن التعرض له ومن إفضاء ذلك إليه وللتوسل إلى الاستثناء بقوله تعالى : { إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ } أي إلا بالخَصلة والطريقة التي هي أحسنُ الخِصال والطرائق وهي حفظُه واستثماره { حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } غايةٌ لجواز التصرفِ على الوجه الأحسن المدلولِ عليه بالاستثناء لا للوجه المذكور فقط { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } سواءٌ جرى بينكم وبين ربِّكم أو بينكم وبين غيرِكم من الناس ، والإيفاءُ بالعهد والوفاءُ به هو القيامُ بمقتضاه والمحافظةُ عليه ولا يكاد يُستعمل إلا بالباء فرقاً بينه وبين الإيفاء الحسيِّ كإيفاء الكيل والوزن { إِنَّ العهد } أُظهر في مقام الإضمارِ إظهاراً لكم والعنايةِ بشأنه ، أو لأن المرادَ مطلقُ العهد المنتظمِ للعهد المعهود { كَانَ مَسْؤُولاً } أي مسؤولاً عنه على حذف الجارِّ وجعْلِ الضمير بعد انقلابه مرفوعاً مستكناً في اسم المفعولِ كقوله تعالى :(4/192)
{ وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } أي مشهودٌ فيه ، ونظيرُه ما في قوله تعالى : { تِلْكَ ءايات الكتاب الحكيم } على أن أصلَه الحكيمُ قائلُه فحذف المضافُ وجُعل الضمير مستكناً في الحكيم بعد انقلابه مرفوعاً ، ويجوز أن يكون تخييلاً كأنه يقال للعهد : لم نكثتَ وهلاّ وفَّى بك تبكيتاً للناكث كما يقال للموؤدة : بأي ذنبٍ قُتلت .(4/193)
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
{ وَأَوْفُوا الكيل } أي أتموه ولا تُخسِروه { إِذا كِلْتُمْ } أي وقت كيلِكم للمشترين وتقييدُ الأمر بذلك لما أن التطفيفَ هناك يكون وأما وقت الاكتيالِ على الناس فلا حاجة إلى الأمر بالتعديل قال تعالى : { إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ } الآية { وَزِنُواْ بالقسطاس } وهو القرسطون ، وقيل : كلُّ ميزان صغيراً كان أو كبيراً ، روميٌّ معرّب ولا يقدح ذلك في عربية القرآن لانتظام المعرَّبات في سلك الكلمِ العربية وقرىء بضم القاف { المستقيم } أي العدْلِ السويّ ولعل الاكتفاءَ باستقامته عن الأمر بإيفاء الوزن لما أن عند استقامتِه لا يتصور الجَوْرُ غالباً بخلاف الكيل فإنه كثيراً ما يقع التطفيفُ مع استقامة الآلة كما أن الاكتفاءَ بإيفاء الكيل عن الأمر بتعديله لما أن إيفاءَه لا يُتصوَّر بدون تعديل المكيالِ وقد أُمر بتقويمه أيضاً في قوله تعالى : { أَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط } { ذلك } أي إيفاءُ الكيلِ والوزن بالميزان السوي { خَيْرٌ } في الدينا إذ هو أمانةٌ توجب الرغبةَ في معاملته والذكرَ الجميلَ بين الناس { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } عاقبةً ، تفعيلٌ من آل إذا رجع والمرادُ ما يؤول إليه .
{ وَلاَ تَقْفُ } ولا تتبعْ من قفا أثرَه إذا تبِعه ، وقرىء ولا تقُفْ من قاف أثرَه أي قفاه ، ومنه القافةُ في جمع القائف { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أي لا تكن في اتباع ما لا علمَ لك به من قول أو فعل كمن يتّبعُ مسلكاً لا يدري أنه يوصله إلى مقصِده ، واحتج به من منع اتباعَ الظنِّ وجوابُه أن المرادَ بالعلم هو الاعتقادُ الراجحُ المستفادُ من سند قطعياً كان أو ظنيًّا واستعمالُه بهذا المعنى مما لا يُنكَر شيوعُه ، وقيل : إنه مخصوصٌ بالعقائد ، وقيل : بالرمي وشهادةِ الزورِ ويؤيده قولُه عليه الصلاة والسلام : « مَنْ قفا مؤمناً بما ليس فيه حبَسه الله تعالى في رَدْغة الخَبال حتى يأتيَ بالمخرج » ومنه قول الكميت
ولا أرمي البريءَ بغير ذنب ... ولا أقفو الحواصِنَ إن رُمينا
{ إِنَّ السمع والبصر والفؤاد } وقرىء بفتح الفاءِ والواو المقلوبةِ من الهمزة عند ضم الفاء { كُلُّ أولئك } أي كلُّ واحد من تلك الأعضاءِ فأُجريت مُجرى العقلاءِ لما كانت مسؤولةً عن أحوالها شاهدةً على أصحابها . هذا وإن أولاء وإن غلب في العقلاء لكنه من حيث إنه اسمٌ لذا الذي يعُمّ القَبيلين جاء لغيرهم أيضاً قال
ذُمَّ المَنازِلَ بعد مَنزِلَة اللِّوى ... والعيشَ بعدَ أولئِكَ الأيامِ
{ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } أي كان كلٌّ من تلك الأعضاء مسؤولاً عن نفسه ، على أن اسمَ كان ضميرٌ يرجِعُ إلى كلُّ وكذا الضميرُ المجرورُ ، وقد جُوّز أن يكون الاسمُ ضميرَ القافي بطريق الالتفات إذ الظاهرُ أن يقال : كنتَ عنه مسؤولاً ، وقيل : الجارُّ والمجرور في محل الرفع قد أُسند إليه مسؤولاً معللاً بأن الجارَّ والمجرور لا يلتبس بالمبتدأ وهو السببُ في منع تقديمِ الفاعلِ وما يقوم مقامَه .(4/194)
ولكن النحاسَ حكى الإجماعَ على عدم جواز تقديمِ القائم مقامَ الفاعل إذا كان جاراً ومجروراً ، ويجوز أن يكون من باب الحذفِ على شريطة التفسيرِ ، ويحذف الجارّ من المفسر ويعود الضميرُ مستكناً كما ذكرنا في قوله تعالى : { يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } وجُوّز أن يكون مسؤولاً مسنداً إلى المصدر المدلولِ عليه بالفعل وأن يكون فاعلُه المصدرَ وهو السؤالُ وعنه في محل النصب . وسأل ابن جني أبا علي عن قولهم : فيك يُرغب ، وقال : لا يرتفع بما بعده ، فأين المرفوع؟ فقال : المصدرُ أي فيك يُرغب الرغبةُ بمعنى تُفعل الرغبة ، كما في قولهم : يُعطي ويمنع أي يفعل الإعطاء والمنع ، وجُوز أن يكون اسمُ كان أو فاعله ضميرَ كلُّ بحذف المضافِ أي كان صاحبه عنه مسؤولاً أو مسؤولاً صاحبُه .(4/195)
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
{ وَلاَ تَمْشِ فِى الأرض } التقييدُ لزيادة التقرير والإشعارِ بأن المشيَ عليها مما لا يليق بالمرح { مَرَحاً } تكبراً وبطراً واختيالاً وهو مصدرٌ وقع موقعَ الحال أي ذا مرحٍ أو تمرح مرحاً أو لأجل المرح ، وقرىء بالكسر { إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض } تعليلٌ للنهي ، وفيه تهكّم بالمختال وإيذانٌ بأن ذلك مفاخرةٌ مع الأرض وتكبرٌ عليها أي لن تخرِقَ الأرض بدَوْسك وشدة وطأتك ، وقرى بضم الراء { وَلَن تَبْلُغَ الجبال } التي هي بعضُ أجزاء الأرض { طُولاً } حتى يمكن لك أن تتكبر عليها إذ التكبرُ إنما يكون بكثرة القوة وعِظَم الجثة وكلاهما مفقودٌ ، وفيه تعريضٌ بما عليه المختالُ من رفع رأسه ومشيِه على صدور قدميه .
{ كُلُّ ذلك } إشارةٌ إلى ما علم في تضاعيف ذكر الأوامرِ والنواهي من الخِصال الخمس والعشرين { كَانَ سَيّئُهُ } الذي نُهي عنه وهي اثنتا عشرة خَصلة { عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا } مبغَضاً غيرَ مَرْضيّ أو غيرَ مراد بالإرادة الأولية لا غيرَ مرادٍ مطلقاً لقيام الأدلةِ القاطعة على أن جميع الأشياء واقعةٌ بإرادته سبحانه وهو تتمةٌ لتعليل الأمور المنهيّ عنها جميعاً ، ووصفُ ذلك بمطلق الكراهة مع أن البعضَ من الكبائر للإيذان بأن مجردَ الكراهة عنده تعالى كافيةٌ في وجوب الانتهاءِ عن ذلك ، وتوجيهُ الإشارةِ إلى الكل ثم تعيينُ البعض دون توجيهها إليه ابتداءً لما أن البعض المذكورَ ليس بمذكور جملةً بل على وجه الاختلاطِ ، وفيه إشعارٌ بكون ما عداه مرضياً عنده تعالى وإنما لم يصرح بذلك إيذاناً بالغنى عنه ، وقيل : الإضافةُ بيانيةٌ كما في آية الليل وآية النهار ، وقرىء سيئةً على أنه خبرُ كان وذلك إشارةٌ إلى ما نُهي عنه من الأمور المذكورة ومكروهاً بدلٌ من سيئةً أو صفةٌ لها محمولةٌ على المعنى فإنه بمعنى سيئاً ، وقد قرىء به أو مُجرى على موصوف مذكر أي أمراً مكروهاً أو مُجرى مَجرى الأسماءِ زال عنه معنى الوصفية ، ويجوز كونه حالاً من المستكنّ في كان أو في الظرف على أنه صفةُ سيئه ، وقرىء سيئاته ، وقرىء شأنُه .(4/196)
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
{ ذلك } أي الذي تقدم من التكاليف المفصلة { مِمَّا أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ } أي بعضٌ منه أو من جنسه { مِنَ الحكمة } التي هي علمُ الشرائعِ أو معرفةُ الحق لذاته والعملُ به ، أو من الأحكام المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخُ والفساد . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآياتِ الثمانيَ عشرةَ كانت في ألواح موسى عليه السلام أولها : { لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها ءاخَرَ } قال تعالى : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الالواح مِن كُلّ شَىْء مَّوْعِظَةً } وهي عشرُ آيات في التوراة . ومِنْ إما متعلقةٌ بأوحى على أنها تبعيضية أو ابتدائيةٌ ، وإما بمحذوف وقع حالاً من الموصول أو من ضميره المحذوفِ في الصلة أي كائناً من الحِكمة ، وإما بدلٌ من الموصول بإعادة الجار .
{ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ } الخطابُ للرسول عليه الصلاة والسلام والمراد غيرُه ممن يتصور منه صدورُ المنهيِّ عنه ، وقد كُرر للتنبيه على أن التوحيد مبدأُ الأمرِ ومنتهاه وأنه رأسُ كل حكمةٍ وملاكُها ، ومن عدمِه لم تنفعْه علومُه وحكمته وإن بذّ فيها أساطينَ الحكماء وحكّ بيافوخه عنان السماء ، وقد رتب عليه ما هو عائدُ الإشراك أولاً حيث قيل : فتقعدَ مذموماً مخذولاً ورُتّب عليه هاهنا نتيجتُه في العقبى فقيل : { فتلقى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا } من جهة نفسِك ومن جهة غيرك { مَّدْحُورًا } مبعَداً من رحمة الله تعالى ، وفي إيراد الإلقاءِ مبنياً للمعفول جرْيٌ على سنن الكبرياء وازدراءٌ بالمشرك وجعلٌ له من قبيل خشبةٍ يأخذها آخذٌ بكفه فيطرحها في التنور .
{ أفأصفاكم رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملئكة إِنَاثًا } خطاب للقائلين بأن الملائكةَ بنات الله سبحانه ، والإصفاءُ بالشيء جعلُه خالصاً ، والهمزةُ للإنكار ، والفاء للعطف على مقدر يفسرّه المذكورُ ، أي أفَضَّلكم على جنابه فخصّكم بأفضل الأولاد على وجه الخُلوص وآثرَ لذاته أخسَّها وأدناها كما في قوله سبحانه : { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الانثى } وقوله تعالى : { أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون } وقد قُصد هاهنا بالتعرض لعنوان الربوبية تشديدُ النكير وتأكيدُه وأشير بذكر الملائكة عليهم السلام ، وإيرادِ الإناث مكانَ البنات إلى كفْرة لهم أخرى وهي وصفُهم لهم عليهم السلام بالأنوثة التي هي أخسُّ صفات الحيوان كقوله تعالى : { وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا } { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ } بمقتضى مذهبِكم الباطلِ الذي هو إضافةُ الولدِ إليه سبحانه { قَوْلاً عَظِيمًا } لا يقادَر قدرُه في استتباعِ الإثمِ وخَرْقِه لقضايا العقول بحيث لا يجترىء عليه أحدٌ ، حيث يجعلونه تعالى من قبيل الأجسامِ المتجانسةِ السريعةِ الزوال وليس كمثله شيءٌ وهو الواحدُ القهارُ الباقي بذاته ، ثم تضيفون إليه ما تكرهون من أخس الأولادِ وتفضِّلون عليه أنفسَكم بالبنين ثم تصِفون الملائكةَ الذين هم من أشرف الخلائقِ بالأنوثة التي هي أخسُّ أوصاف الحيوانِ ، فيا لها من ضَلّة ما أقبحَها وكَفْرةٍ ما أشنعها وأفظعها .(4/197)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)
{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } هذا المعنى وكررناه { فِى هذا القرءان } على وجوه من التصريف في مواضعَ منه ، وإنما ترك الضميرُ تعويلاً على الظهور ، وقرىء بالتخفيف { لّيَذْكُرُواْ } ما فيه ويقفوا على بطلان ما يقولونه ، والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذان باقتضاء الحالِ أن يُعرَض عنهم ويحكى للسامعين هَناتُهم . وقرىء بالتخفيف من الذكر بمعنى التذكر ، ويجوز أن يراد بهذا القرآنِ ما نطق ببُطلان مقالتِهم المذكورةِ من الآيات الكريمةِ الواردةِ على أساليب مختلفةٍ ، ومعنى التصريفِ فيه جعلُه مكاناً له أي أوقعنا فيه التصريفَ كقوله
يجرح في عراقيبها نَصْلي ... وقد جُوّز أن يراد به إبطالُ إضافتهم إليه تعالى البناتِ ، وأنت تعلم أن إبطالَها من آثار القرآن ونتائجها { وَمَا يَزِيدُهُمْ } أي والحال أنه ما يزيدهم ذلك التصريفُ البالغ { إِلاَّ نُفُورًا } عن الحق وإعراضاً عنه فضلاً عن التذكر المؤدِّي إلى معرفة بُطلانِ ما هم عليه من القبائح .
{ قُلْ } في إظهار بطلانِ ذلك من جهة أخرى { لَّوْ كَانَ مَعَهُ } تعالى { كَمَا يَقُولُونَ إِذًا } أي المشركون قاطبةً ، وقرىء بالتاء خطاباً لهم من قِبَل النبي عليه الصلاة والسلام ، والكافُ في محل النصب على أنها نعتٌ لمصدر محذوف أي كوناً مشابهاً لما يقولون ، والمرادُ بالمشابهة الموافقةُ والمطابقة { إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ } جوابٌ عن مقالتهم الشنعاءِ وجزاءٌ «لِلَوْ» أي لطلبوا { إلى ذِى العرش } أي إلى من له المُلك والربوبيةُ على الإطلاق { سَبِيلاً } بالمغالبة والممانعة كما هو دَيدنُ الملوكِ بعضِهم مع بعض طريقة قوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } وقيل : بالتقرب إليه تعالى كقوله تعالى : { أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة } والأولُ هو الأظهرُ الأنسبُ لقوله : { سبحانه } فإنه صريحٌ في أن المراد بيانُ أنه يلزم مما يقولونه محذورٌ عظيم من حيث لا يحتسبون ، وأما ابتغاءُ السبيل إليه تعالى بالتقرب فليس مما يختص بهذا التقرير ، ولا هو مما يلزمهم من حيث لا يشعرون بل هو أمرٌ يعتقدونه رأساً ، أي تنزّه بذاته تنزّهاً حقيقاً به { وتعالى } متباعداً { عَمَّا يَقُولُونَ } من العظيمة التي هي أن يكون معه آلهةٌ وأن يكون له بناتٌ { عَلَوْاْ } تعالياً كقوله تعالى : { والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الارض نَبَاتاً } { كَبِيراً } لا غايةَ وراءه ، كيف لا وإنه سبحانه في أقصى غاياتِ الوجود وهو الوجوبُ الذاتيُّ ، وما يقولونه من أن له تعالى شركاءَ وأولاداً في أبعد مراتبِ العدمِ أعني الامتناعَ ، لا لأنه تعالى في أعلى مراتب الوجودِ لذاته واتخاذُ الولد من أدنى مراتبِه فإنه من خواصَّ ما يمتنع بقاؤُه كما قيل ، فإن ما يقولونه ليس مجردَ اتخاذِ الولد بل اتخاذِه تعالى له وأن يكون معه آلهةٌ ، ولا ريب في أن ذلك ليس بداخل في حد الإمكان فضلاً عن دخولِه تحت الوجود ، وكونُه من أدنى مراتب الوجودِ إنما هو بالنسبة إلى من شأنه ذلك .(4/198)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
{ تُسَبّحُ } بالفَوقانية ، وقرىء بالتَّحتانية ، وقرىء سبّحت { لَهُ السموات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ } من الملائكة والثقلين ، على أن المرادَ بالتسبيح معنًى منتظمٌ لما ينطِق به لسانُ المقال ولسانُ الحال بطريق عمومِ المجاز { وَإِن مّن شَىْء } من الأشياء حيواناً كان أو نباتاً أو جماداً { إِلاَّ يُسَبّحُ } ملتبساً { بِحَمْدِهِ } أي ينزِّهه تعالى بلسان الحالِ عما لا يليق بذاته الأقدسِ من لوازم الإمكانِ ولواحقِ الحدوثِ ، إذ ما من موجود إلا وهو بإمكانه وحدوثِه يدل دَلالةً واضحة على أن له صانعاً عليماً قادراً حكيماً واجباً لذاته قطعاً للسَّلْسلة { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } أيها المشركون لإخلالكم بالنظر الصحيحِ الذي به يفهم ذلك ، وقرىء لا يُفَقَّهون على صيغة المبني للمفعول من باب التفعيل { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا } ولذلك لم يعاجلْكم بالعقوبة مع ما أنتم عليه من موجباتها من الإعراض عن التدبر في الدلائل الواضحةِ الدالةِ على التوحيد ، والانهماك في الكفر والإشراكِ { غَفُوراً } لمن تاب منكم .
{ وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان } الناطقَ بالتسبيح والتنزيهِ ودعوتَهم إلى العمل بما فيه من التوحيد ورفضِ الشرك وغيرِ ذلك من الشرائع { جَعَلْنَا } بقدرتنا ومشيئتنا المبنيةِ على دواعي الحِكَم الخفية { بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة } أُوثر الموصولُ على الضمير ذمًّا لهم بما في حيز الصلة ، وإنما خُصَّ بالذكر كفرُهم بالآخرة من بين سائرِ ما كفروا به من التوحيد ونحوِه دَلالةً على أنها مُعظمُ ما أُمروا بالإيمان به في القرآن ، وتمهيداً لما سينقل عنهم من إنكار البعثِ واستعجالِه ونحو ذلك { حِجَاباً } يحجبهم من أن يدركوك على ما أنت عليه من النبوة ويفهموا قدرَك الجليلَ ، ولذلك اجترأوا على تفوّه العظيمة التي هي قولُهم : { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا } وحَمْلُ الحجاب على ما روي عن أسماءَ بنت أبي بكر رضي الله عنه من أنه لما نزلت سورةُ ( تبّت ) أقبلت العوراءُ أمُّ جميل امرأةُ أبي لهبٍ وفي يدها فِهْرٌ والنبيُّ عليه الصلاة والسلام قاعد في المسجد ومعه أبو بكر رضي الله عنه ، فلما رآها قال : يا رسول الله ، لقد أقبلت هذه وأخاف أن تراك ، قال عليه الصلاة والسلام : « إنها لن تراني » وقرأ قرآناً فوقفت على أبي بكر رضي الله عنه ولم تَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مما لا يقبله الذوقُ السليم ولا يساعده النظمُ الكريم { مَّسْتُورًا } ذا سَتْرٍ كما في قولهم : سيلٌ مفعَمٌ ، أو مستوراً عن الحس بمعنى غيرَ حسيَ أو مستوراً في نفسه بحجاب آخرَ أو مستوراً كونُه حجاباً حيث لا يدرون أنهم لا يدرون .
{ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } أغطيةً كثيرة جمع كِنان { أَن يَفْقَهُوهُ } مفعولٌ لأجله أي كراهةَ أن يفقهوه ، أو مفعولٌ لما دل عليه الكلامُ أي منعناهم أن يقِفوا على كُنهه ويعرِفوا أنه من عند الله تعالى { وفي آذَانِهِمْ وَقْراً } صمَماً وثِقلاً مانعاً من سماعه اللائِق به ، وهذه تمثيلاتٌ مُعرِبةٌ عن كمال جهلِهم بشؤون النبيِّ عليه الصلاة والسلام وفرطِ نُبوِّ قلوبهم عن فهم القرآنِ الكريم ومجّ أسماعِهم له ، جيء بها بياناً لعدم فقهِهم لتسبيح لسانِ المقالِ إثرَ بيانِ عدمِ فقههم لتسبيح لسانِ الحال ، وإيذاناً بأن هذا التسبيحَ من الظهور بحيث لا يُتصوَّرُ عدمُ فهمِه إلا لمانع قويَ يعتري المشاعرَ فيُبطُلها ، وتنبيهاً على أن حالَهم هذا أقبحُ من حالهم السابق لا حكايةٌ لما قالوا :(4/199)
{ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } كيف لا وقصدُهم بذلك إنما هو الإخبارُ بما اعتقدوه في حق القرآنِ والنبيِّ عليه الصلاة والسلام جهلاً وكفراً من اتصافهما بأوصاف مانعةٍ من التصديق والإيمانِ ، ككون القرآنِ سحراً وشِعراً وأساطيرَ وقِسْ عليه حالَ النبي عليه الصلاة والسلام ، لا الإخبارُ بأن هناك أمراً وراء ما أدركوه قد حال بينهم وبين إدراكه حائلٌ من قِبلهم . ولا ريب في أن ذلك المعنى مما لا يكاد يلائم المقام . { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ } واحداً غيرَ مشفوعٍ به آلهتُهم ، وهو مصدرٌ وقع موقعَ الحال ، أصلُه يحد وحدَه { وَلَّوْاْ على أدبارهم } أي هربوا ونفروا { نُفُورًا } أو ولَّوا نافرين .(4/200)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
{ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ } متلبسين به من اللغو والاستخفافِ والهُزْء بك وبالقرآن ، يروى أنه كان يقوم عن يمينه عليه الصلاة والسلام رجلان من بني عبد الدار وعن يساره رجلان فيصفّقون ويصفِرون ويخلِطون عليه بالأشعار { إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } ظرفٌ لأعلمُ وفائدتُه تأكيدُ الوعيدِ بالإخبار بأنه كما يقع الاستماعُ المزبورُ منهم يتعلق به العلم ، لا أن العلمَ يستفاد هناك من أحد وكذا قوله تعالى : { وَإِذْ هُمْ نجوى } لكون لا من حيث تعلّقُه بما به الاستماعُ بل بما به التناجي المدلولُ عليه بسياق النظمِ ، والمعنى نحن أعلمُ بالذي يستمعون ملتبسين به مما لا خيرَ فيه من الأمور المذكورةِ وبالذي يتناجَوْن به فيما بينهم ، أو الأولُ ظرفٌ ليستمعون والثاني ليتناجَون والمعنى نحن أعلمُ بما به الاستماعُ وقت استماعِهم من غير تأخيرٍ وبما به التناجي وقت تناجيهم ، ونجوى مرفوعٌ على الخبرية بتقدير المضافِ أي ذوو نجوى ، أو هو جمعُ نَجيّ كقتلى جمع قتيل أي متناجُون { إِذْ يَقُولُ الظالمون } بدل من إذ هم ، وفيه دليلٌ على أن ما يتناجَون به غيرُ ما يستمعون به وإنما وُضع الظالمون موضعَ المُضمر إشعاراً بأنهم في ذلك ظالمون مجاوزون للحدّ ، أي يقول كلٌّ منهم للآخرين عند تناجيهم : { إِن تَتَّبِعُونَ } ما تتبعون إنْ وُجد منكم الاتباعُ فرضاً أو ما تتبعون باللغو والهزء { إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا } أي سُحِر فجُنّ أو رجلاً ذا سَحْر أي رئةٍ يتنفس ، أي بشراً مثلَكم .
{ انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال } أي مثّلوك بالشاعر والساحر والمجنونِ { فُضّلُواْ } في جميع ذلك على منهاج المُحاجّة { فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً } إلى طعن يمكن أن يقبله أحدٌ فيتهافتون ويخبِطون ويأتون بما لا يرتاب في بطلانه أحد ، أو إلى سبيل الحقِّ والرشاد ، وفيه من الوعيد وتسليةِ الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى .(4/201)
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)
{ وَقَالُواْ أَءذَا كُنَّا عظاما ورفاتا } استفهامٌ إنكاريٌّ مفيدٌ لكمال الاستبعادِ والاستنكارِ للبعث بعد ما آل الحالُ إلى هذا المآل لِما بين غضاضةِ الحيِّ ويُبوسة الرميم من التنافي ، كأن استحالةَ الأمر من الظهور بحيث لا يقدر المخاطبُ على التكلم به ، والرفاتُ ما بولغ في دقِّه وتفتيته ، وقال الفرَّاء : هو التراب ، وهو قولُ مجاهدٍ ، وقيل : هو الحُطامُ وإذا متمحّضةٌ للظرفية وهو الأظهرُ والعاملُ فيها ما دل عليه قوله تعالى : { أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ } لا نفسُه ، لأن ما بعد إن والهمزةِ واللام لا يعمل فيما قبلها وهو نبعث أو نعاد وهو المرجِعُ للإنكار وتقييدُه بالوقت المذكور ليس لتخصيصه به فإنهم منكرِون للإحياء بعد الموت وإن كان البدنُ على حاله ، بل لتقوية الإنكارِ للبعث بتوجيهه إليه في حالة منافيةٍ له ، وتكريرُ الهمزة في قولهم : { أئنا } لتأكيد النكيرِ ، وتحليةُ الجملة بأن واللامِ لتأكيد الإنكارِ لا لإنكار التأكيد كما عسى يُتوَّهم من ظاهر النظمِ ، فإن تقديمَ الهمزة لاقتضائها الصدارةَ كما في مثل قوله تعالى : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ونظائرِه على رأي الجمهور فإن المعنى عندهم تعقيبُ الإنكارِ لا إنكارُ التعقيب كما هو المشهور ، وليس مدارُ إنكارِهم كونَهم ثابتين في المبعوثية بالفعل في حال كونِهم عظاماً ورفاتاً كما يتراءى من ظاهر الجملةِ الاسمية بل كونِهم بعَرَضية ذلك واستعدادِهم له ، ومرجعُه إلى إنكار البعثِ بعد تلك الحالةِ وفيه من الدِلالة على غلوّهم في الكفر وتماديهم في الضلال ما لا يزيد عليه { خَلْقاً جَدِيداً } نصْبٌ على المصدر من غير لفظه ، أو الحاليةِ على أن الخلق بمعنى المخلوق .
{ قُلْ } جواباً لهم وتقريباً لما استبعدوه { كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } { أَوْ خَلْقًا } آخرَ { مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ } أي يعظُم عندكم عن قبول الحياة لكمال المباينةِ والمنافاةِ بينها وبينه ، فإنكم مبعوثون ومُعادون لا محالة { فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا } مع ما بيننا وبين الإعادةِ من مثل هذه المباعدةِ والمباينة { قُلْ } لهم تحقيقاً للحق وإزاحةً للاستبعاد وإرشاداً لهم إلى طريقة الاستدلال { الذى } أي يعيدكم القادرُ العظيم الذي { فَطَرَكُمْ } اخترعكم { أَوَّلَ مَرَّةٍ } من غير مثالِ يحتذيه ولا أسلوبٍ ينتحيه وكنتم تراباً ما شمّ رائحةَ الحياة ، أليس الذي يقدِر على ذلك بقادر على أن يعيدَ العظامَ الباليةَ إلى حالتها المعهودة؟ بلى إنه على كل شيء قدير { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ } أي سيحركونها نحوَك تعجباً وإنكاراً { وَيَقُولُونَ } استهزاءً { متى هُوَ } أي ما ذكرتَه من الإعادة { قُلْ } لهم { عسى أَن يَكُونَ } ذلك { قَرِيبًا } نُصب على أنه خبرٌ ليكون أو ظرفٌ على أن كان تامةٌ أي أن يقعَ في زمان قريب ، ومحلُّ أن مع ما في حيزها إما نصبٌ على أنه خبرٌ لعسى وهي ناقصة واسمُها ضميرٌ عائد إلى ما عاد إليه هو أي عسى كونُه قريباً ، أو وقوعُه في زمان قريب .(4/202)
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
{ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } منصوب بفعل مضمر أي اذكروا ، أو على أنه بدلٌ من قريباً على أنه ظرفٌ أو نُصب بيكونَ تامةً بالاتفاق ، أو ناقصةً عند من يجوّز إعمالَ الناقصة في الظروف ، أو بضمير المصدرِ المستكنِّ في عسى أو يكون ، أعني البعث عند من يجوز إعمالَ ضمير المصدر كما في قول زهير
وما الحربُ إلا ما علمتمْ وذُقتم ... وما هو عنها بالحديث المُرجّمِ
فهو ضميرُ المصدر وقد تعلق به ما بعده من الجار { فَتَسْتَجِيبُونَ } أي يوم يبعثكم فتُبعثون ، وقد استُعير لهما الدعاءُ والإجابة إيذاناً بكمال سهولةِ التأتّي وبأن المقصودَ منهما الإحضارُ للمحاسبة والجواب { بِحَمْدِهِ } حال من ضمير تستجيبون أي منقادين له حامدين لما فَعل بكم غيرَ مستعصين ، أو حامدين له تعالى على كمال قدرتِه عند مشاهدة آثارها ومعاينةِ أحكامها { وَتَظُنُّونَ } عطف على تستجيبون أي تظنون عندما ترَوْن من الأمور الهائلة { إِن لَّبِثْتُمْ } أي ما لبثتم في القبور { إِلاَّ قَلِيلاً } كالذي مر على قرية أو ما لبثتم في الدنيا .
{ وَقُل لّعِبَادِى } أي المؤمنين { يَقُولُواْ } عند محاورتِهم مع المشركين { التى } أي الكلمةَ التي { هِىَ أَحْسَنُ } ولا يخاشنوهم كقوله تعالى : { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ } { إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ } أي يُفسد ويَهيج الشر والمِراء ويُغري بعضَهم على بعض لتقع بينهم المشاقّةُ والمشارّة والمُعازّة والمضارّة ، فلعل ذلك يؤدي إلى تأكد العِناد وتمادي الفساد ، فهو تعليلٌ للأمر السابق وقرىء بكسر الزاي { إِنَّ الشيطان كَانَ } قدماً { للإنسان عَدُوّا مُّبِينًا } ظاهرَ العداوة ، وهو تعليلٌ لما سبق من أن الشيطان ينزَغ بينهم .
{ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ } بالتوفيق للإيمان { أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ } بالإماتة على الكفر ، وهذا تفسيرُ التي هي أحسنُ وما بينهما اعتراضٌ ، أي قولوا لهم هذه الكلمةَ وما يشاكلها ولا تصرحوا بأنهم من أهل النار فإنه مما يَهيجهم على الشر ، مع أن العاقبَة مما لا يعلمه إلا الله سبحانه فعسى يهديهم إلى الإيمان { وَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } موكولاً إليك أمورُهم تقسِرهم على الإيمان وإنما أرسلناك بشيراً ونذيراً فدارِهم ومُرْ أصحابَك بالمداراة والاحتمال وترك المُحاقّة والمشاقّة وذلك قبل نزول آيةِ السيف ، وقيل : نزلت في عمر رضي الله عنه ، شتمه رجلٌ فأُمر بالعفو ، وقيل : أفرط أذيةُ المشركين بالمؤمنين فشكَوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت ، وقيل : الكلمة التي هي أحسنُ أن يقولوا : يهديكم الله ويرحمكم الله .
{ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى السموات والأرض } وبتفاصيلِ أحوالِهم الظاهرة والكامنة التي بها يستأهلون الاصطفاءَ والاجتباءَ فيختار منهم لنبوته وولايتِه من يشاء ممن يشاء ممن يستحقه ، وهو ردٌّ عليهم إذ قالوا : بعيدٌ أن يكون يتيمُ أبي طالبٍ نبياً وأن يكون العُراةُ الجوعى أصحابَه دون أن يكون ذلك من الأكابر والصناديدِ ، وذكرُ من في السموات لإبطال قولِهم : لولا أُنزل علينا الملائكةُ ، وذكرُ مَن في الأرض لرد قولِهم :(4/203)
{ لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ } { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ } بالفضائل النفسانيةِ والتنّزهِ عن العلائق الجُسمانية لا بكثرة الأموالِ والأتباع { وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً } بيانٌ لحيثية تفضيلِه عليه الصلاة والسلام فإن ذلك إيتاءُ الزبور لا إيتاءُ الملك والسلطنةِ ، وفيه إيذانٌ بتفضيل النبي عليه الصلاة والسلام فإن نعوتَه الجليلةَ وكونَه خاتمَ النبيين مسطورةٌ في الزبور ، وأن المرادَ بعباد الله الصالحين في قوله تعالى : { أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصالحون } هو النبيُّ عليه الصلاة والسلام وأمته ، وتعريفُ الزبور تارة وتنكيرُه أخرى إما لأنه في الأصل فَعولٌ بمعنى المفعول كالحَلوب أو مصدر بمعناه كالقول ، وإما لأن المرادَ آتينا داودَ زبوراً من الزُّبُر ، أو بعضاً من الزبور فيه ذكرُه عليه الصلاة والسلام ، وقرىء بضم الزاي على أنه جمع زِبْر بمعنى مزبور .(4/204)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
{ قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم } أنها آلهةٌ { مِن دُونِهِ } تعالى من الملائكة والمسيحِ وعُزيرٍ { فَلاَ يَمْلِكُونَ } فلا يستطيعون { كَشَفَ الضر عَنْكُمْ } بالمرة كالمرض والفقر والقَحطِ ونحو ذلك { وَلاَ تَحْوِيلاً } أي ولا تحويلَه إلى غيركم { أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ } أي أولئك الآلهةُ الذين يدعوهم المشركون من المذكورين { يَبْتَغُونَ } يطلبون لأنفسهم { إلى رَبّهِمُ } ومالكِ أمورِهم { الوسيلة } القربةَ بالطاعة والعبادة { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } بدلٌ من فعل يبتغون وأيُّ موصولةٌ ، أي يبتغي مَنْ هو أقرب إليه تعالى الوسيلةَ فكيف بمن دونه؟ أو ضُمّن الابتغاءُ معنى الحِرص فكأنه قيل : يحرِصون أيُّهم أقربَ إليه تعالى بالطاعة والعبادة { وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ } بها { ويخافون عَذَابَهُ } بتركها كدأب سائرِ العباد فأين هم من كشف الضرِّ فضلاً عن الإلهية { إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا } حقيقاً بأن يحذرَه كلُّ أحدٍ حتى الملائكةُ والرسلُ عليهم الصلاة والسلام ، وهو تعليلٌ لقوله تعالى : { ويخافون عَذَابَهُ } وتخصيصُه بالتعليل لما أن المقامَ مقامُ التحذيرِ من العذاب وأن بينهم وبين العذاب بَوناً بعيداً .
{ وَإِن مّن قَرْيَةٍ } بيانٌ لتحتم حلول عذابِه تعالى بمن لا يحذره إثرَ بيانِ أنه حقيقٌ بالحذر وأن أساطينَ الخلق من الملائكة والنبيين عليهم الصلاة والسلام على حذر من ذلك ، وكلمةُ إنْ نافيةٌ ومِنْ استغراقيةٌ ، والمرادُ بالقرية القريةُ الكافرةُ أي ما من قرية من قرى الكفار { إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا } أي مُخْرِبوها البتةَ بالخسف بها أو بإهلاك أهلِها بالمرة لما ارتكبوا من عظائمِ المُوبقات المستوجبةِ لذلك ، وفي صيغة الفاعلِ وإن كانت بمعنى المستقبَل ما ليس فيه من الدِلالة على التحقق والتقرّرِ وإنما قيل : { قَبْلَ يَوْمِ القيامة } لأن الإهلاكَ يومئذ غيرُ مختصَ بالقرى الكافرة ولا هو بطريق العقوبةِ وإنما هو لانقضاء عمرِ الدنيا { أَوْ مُعَذّبُوهَا } أي معذبو أهلِها على الإسنادِ المجازيِّ { عَذَاباً شَدِيداً } لا بالقتل والسبْي ونحوِهما من البلايا الدنيويةِ فقط ، بل بما لا يُكتَنه كُنهُه من فنون العقوبات الأخرويةِ أيضاً حسبما يُفصح عنه إطلاقُ التعذيبِ عما قُيد به الإهلاكُ من قَبْلية يومِ القيامة ، كيف لا وكثيرٌ من القرى العاتية العاصيةِ قد أُخّرت عقوباتُها إلى يوم القيامة { كَانَ ذَلِكَ } الذي ذكر من الإهلاك والتعذيب { فِى الكتاب } أي اللوح المحفوظ { مَسْطُورًا } مكتوباً لم يغادَرْ منه شيءٌ إلا بُيِّن فيه بكيفياته وأسبابِه الموجبةِ له ووقتِه المضروبِ له . هذا وقد قيل : الهلاكُ للقُرى الصالحة والعذابُ للطالحة ، وعن مقاتل : «وجدتُ في كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها أما مكةُ فُيْخرِبها الحبشةُ وتهلِك المدينةُ بالجوع والبصرةُ بالغرق والكوفةُ بالتُّرك والجبالُ بالصواعق والرواجف ، وأما خراسانُ فهلاكُها ضُروبٌ ثم ذكرها بلداً بلداً ، وقال الحافظ أبو عمْرو الداني في كتاب الفتن : أنه رُوي عن وهْب بن منبّه أن الجزيرةَ آمنةٌ من الخراب حتى تخرَبَ أرمينيةُ ، وأرمينيةُ آمنةٌ حتى تخرَب مصرُ ، ومصرُ آمنةٌ حتى تخرَبَ الكوفةُ ولا تكون الملحمةُ الكبرى حتى تخرَب الكوفةُ ، فإذا كانت الملحمةُ الكبرى فُتحت قُسطنطينةُ على يَديْ رجلٍ من بني هاشم ، وخرابُ الأندلس من قِبَل الزَّنْج ، وخرابُ إفريقيةَ من قِبَل الأندلس ، وخرابُ مصرَ من انقطاع النيلِ واختلافِ الجيوش فيها ، وخرابُ العراقِ من الجوع ، وخرابُ الكوفة من قِبل عدوَ من ورائهم يحصُرهم حتى لا يستطيعون أن يشربوا من الفرات قطرةً ، وخرابُ البصرة من قِبل الغرق ، وخرابُ الأَيْلة من قبل عدوَ يحصُرهم برًّا وبحراً ، وخرابُ الرّيّ من الديلم ، وخرابُ خراسانَ من قبل التّبْت ، وخرابُ التبت من قبل الصّين ، وخرابُ الهندِ واليمن من قبل الجرَاد والسلطان ، وخرابُ مكةَ من الحبشة ، وخرابُ المدينة من الجوع» .(4/205)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : « آخرُ قريةٍ من قرى الإسلام خراباً المدينةُ » وقد أخرجه العمري من هذا الوجه . وأنت خبيرٌ بأن تعميمَ القريةِ لا يساعده السباقُ ولا السياق .(4/206)
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
{ وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بالأيات } أي الآياتِ التي اقترحتها قريشٌ من إحياء الموتى وقلبِ الصَّفا ذهباً ونحوِ ذلك { إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون } استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأشياء أي وما منعنا من إرسالها شيءٌ من الأشياء إلا تكذيبُ الأولين بها حين جاءتهم باقتراحهم ، وعدمُ إرساله تعالى بها وإن كان بمشيئته المبنيةِ على الحِكَم البالغةِ لا لمنع مانعٍ عن ذلك من التكذيب أو غيرِه لاستحالة العجزِ عليه تعالى ، لكنّ تكذيبَهم المذكورَ بواسطة استتباعِه لاستئصالِهم بحُكم السنة الإلهية واستلزامِه لتكذيب الآخرين بحكم الاشتراكِ في العتوّ والعناد وإفضائِه إلى أن يحِل بهم مثلُ ما حل بهم بحكم الشِرْكة في الجريرة ، لمّا كان منافياً لإرسال ما اقترحوه من الآيات لتعين التكذيبِ المستدعي للاستئصال المخالفِ لما جرى به قلمُ القضاءِ من تأخير عقوباتِ هذه الأمةِ إلى الآخرة لحِكَمٍ باهرة من جملتها ما يُتوَّهم من إيمان بعض أعقابِهم ، عَبّر عن تلك المنافاةِ بالمنع على نهج الاستعارةِ إيذاناً بتعاضد مبادي الإرسالِ لا كما زعَموا من عدم إرادتِه تعالى لتأييده عليه الصلاة والسلام بالمعجزات ، وهو السرُّ في إيثار الإرسالِ على الإيتاء لما فيه من الإشعار بتداعي الآياتِ إلى النزول لولا أن تُمسْكَها يدُ التقدير ، وإسنادُ هذا المنعِ إلى تكذيب الأولين لا إلى عمله تعالى بما سيكون من الآخرين كما في قوله تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } لإقامة الحجةِ عليهم بإبراز الأُنموذج وللإيذان بأن مدارَ عدم الإجابةِ إلى إيتاء مقترحِهم ليس إلا صنيعَهم { وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة } عطفٌ على ما يُفصح عنه النظمُ الكريمُ كأنه قيل : وما منعنا أن نُرسِلَ بالآيات إلا أن كذّب بها الأولون حيث آتيناهم ما اقترحوا من الآيات الباهرةِ فكذبوها ، وآتينا باقتراحهم ثمودَ الناقةَ { مُبْصِرَةً } على صيغة الفاعل ، أي بَيّنةً ذاتَ إبصارٍ ، أو بصائرَ يدركها الناسُ أو أُسند إليها حالُ من يشاهدها مجازاً ، أو جاعلتَهم ذوي بصائرَ من أبصره جعله بصيراً ، وقرىء على صيغة المفعول وبفتح الميم والصاد وهي نصبٌ على الحالية ، وقرىء بالرفع على أنها خبرُ مبتدأ محذوف .
{ فَظَلَمُواْ بِهَا } فكفروا بها ظالمين أي لم يكتفوا بمجرد الكفرِ بها بل فعلوا بها ما فعلوا من العقْر ، أو ظلموا أنفسَهم وعرّضوها للهلاك بسبب عقرِها ، ولعل تخصيصَها بالذكر لما أن ثمودَ عربٌ مثلُهم وأن لهم من العلم بحالهم ما لا مزيدَ عليه من حيث يشاهدون آثارَ هلاكِهم وروداً وصُدوراً ، أو لأنها من جهة إنها حيوانٌ أُخرج من الحجر أوضحُ دليلٍ على تحقق مضمونِ قوله تعالى : { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } { وَمَا نُرْسِلُ بالأيات } المقترَحة { إِلاَّ تَخْوِيفًا } لمن أُرسلت هي عليهم مما يعقُبها من العذاب المستأصِل كالطليعة له ، وحيث لم يخافوا ذلك فُعل بهم ما فعل فلا محل للجملة حينئذ من الإعراب ، ويجوز أن تكون حالاً من ضمير ظلموا أي فظلموا بها ولم يخافوا عاقبتَه والحالُ أنا ما نُرسل بالآيات التي هي من جملتها إلا تخويفاً من العذاب الذي يعقُبها فنزل بهم ما نزل .(4/207)
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
{ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس } أي علماً كما نقله الإمامُ الثعلبيُّ عن ابن عباس رضي الله عنهما فلا يخفى عليه شيءٌ من أفعالهم الماضيةِ والمستقبلة من الكفر والتكذيبِ ، وفي قوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا الرءيا التى أريناك إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ } إلى آخر الآية تنبيهٌ على تحققها بالاستدلال عليها بما صدَر عنهم عند مجيءِ بعض الآياتِ لاشتراك الكلِّ في كونها أموراً خارقةً للعادات منزّلةً من جانب الله على النبي عليه الصلاة والسلام ، فتكذيبُهم لبعضها مستلزمٌ لتكذيب الباقي كما أن تكذيبَ الآخرين بغير المقترَحة يدل على تكذيبهم بالآيات المقترَحة ، والمرادُ بالرؤيا ما عاينه عليه الصلاة والسلام ليلةَ المِعراج من عجائب الأرضِ والسماءِ حسبما ذُكر في فاتحة السورةِ الكريمة ، والتعبيرُ عن ذلك بالرؤيا إما لأنه لا فرقَ بينها وبين الرؤيةِ ، أو لأنها وقعت بالليل ، أو لأن الكفرةَ قالوا : لعلها رؤيا ، أي وما جعلنا الرؤيا التي أريناكها عِياناً مع كونها آيةً عظيمةً وأيةَ آيةٍ حقيقةٍ بأن لا يتلعثم في تصديقها أحدٌ ممن له أدنى بصيرةٍ إلا فتنةً افتُتن بها الناسُ حتى ارتد بعضهم { والشجرة الملعونة فِى القرءان } عطف على الرؤيا ، والمرادُ بلعنها فيه لعنُ طاعمِها على الإسناد المجازيِّ أو إبعادُها عن الرحمة فإنها تنبُت في أصل الجحيم في أبعدِ مكان من الرحمة ، أي وما جعلناها إلا فتنةً لهم حيث أنكروا ذلك وقالوا : إن محمداً يزعُم أن الجحيمَ يحرُق الحجارةَ ، ثم يقول : « ينبُت فيها الشجرُ » ولقد ضلوا في ذلك ضلالاً بعيداً حيث كابروا قضيةَ عقولهم فإنهم يرَوْن النعامةَ تبتلع الجمْرَ وقِطعَ الحديد المحمّاةَ فلا تضرّها ، ويشاهدون المناديلَ المتخَذةَ من وبْر السمندر تُلقى في النار فلا تؤثر فيها ويرَون أن في كل شجر ناراً ، وقرىء بالرفع على حذف الخبر كأنه قيل : والشجرةُ الملعونةُ في القرآن كذلك .
{ وَنُخَوّفُهُمْ } بذلك وبنظائرها من الآيات فإن الكلَّ للتخويف ، وإيثارُ صيغةِ الاستقبال للدِلالة على التجدد والاستمرارِ فما يزيدهم التخويفُ { إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا } متجاوزاً عن الحد فلو أُرسلنا بما اقترحوه من الآيات لفعلوا بها ما فعلوا بنظائرها ، وفُعل بهم ما فعل بأشياعهم وقد قضينا بتأخير العقوبةِ العامة لهذه الأمةِ إلى الطامة الكبرى . هذا هو الذي يستدعيه النظمُ الكريمُ وقد حمل أكثرُ المفسرين الإحاطةَ على الإحاطة بالقدرة تسليةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما عسى يعتريه من عدم الإجابةِ إلى إنزال الآياتِ التي اقترحوها لأن إنزالها ليس بمصلحة من نوع حزنٍ من طعْن الكفرةِ حيث كانوا يقولون : لو كنتَ رسولاً حقاً لأتيت بهذه المعجزات كما أتى بها موسى وغيرُه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فكأنه قيل : اذكر وقتَ قولِنا لك : إن ربك اللطيفَ بك قد أحاط بالناس فهم في قبضة قدرتِه لا يقدرون على الخروج من مشيئته فهو يحفَظُك منهم فلا تهتمَّ بهم وامضِ لما أمرتُك به من تبليغ الرسالةِ ، ألا ترى أن الرؤيا التي أريناك من قبلُ جعلناها فتنةً للناس مُورثةً للشبهة مع أنها ما أورثت ضَعفاً لأمرك وفتوراً في حالك ، وقد فُسر الإحاطةُ بإهلاك قريشٍ يوم بدر ، وإنما عبر عنه بالماضي مع كونه منتظَراً حسبما ينبىء عنه قوله تعالى :(4/208)
{ سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } وقوله تعالى : { قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ } وغيرُ ذلك جرياً على عادته سبحانه في أخباره ، وأُوّلت الرؤيا بما رآه عليه الصلاة والسلام في المنام من مصارعهم . لما رُوي أنه عليه الصلاة والسلام لما ورد ماءَ بدرٍ قال : « والله لكأني أنظرُ إلى مصارع القوم وهو يومىء إلى الأرض هذا مصرَعُ فلان وهذا مصرعُ فلان » فتسامعت به قريش فاستسخروا منه ، وبما رآه عليه الصلاة والسلام أنه سيدخل مكةَ وأخبر به أصحابَه فتوجه إليها فصده المشركون عامَ الحديبية واعتذر عن كون ما ذكر مدنياً بأنه يجوز أن يكون الوحيُ بإهلاكهم ، وكذا الرؤيا واقعاً بمكة وذكرُ الرؤيا وتعيينُ المَصارعِ واقعَين بعد الهجرة . وأنت خبيرٌ بأنه يلزم منه أن يكون افتتانُ الناسِ بذلك واقعاً بعد الهجرة وأن يكون ازديادُهم طغياناً متوقعاً غيرَ واقعٍ عند نزول الآية ، وقد قيل : الرؤيا ما رآه عليه الصلاة والسلام في وقعة بدر من مضمون قوله تعالى : { إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ } ولا ريب في أن تلك الرؤيا مع وقوعها في المدينة ما جُعلت فتنة للناس .(4/209)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)
{ وَإِذْ قُلْنَا للملائكة } تذكيرٌ لما جرى منه تعالى من الأمر ومن الملائكة من الامتثال والطاعةِ من غير تردد وتحقيقٍ لمضمون ما سبق من قوله تعالى : { أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويخافون عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا } ويُعلم من حال الملائكةِ وحالِ غيرهم من عيسى وعُزيرٍ عليهما السلام في الطاعة وابتغاءِ الوسيلة ورجاءِ الرحمة ومخافةِ العذاب ، ومن حال إبليسَ حالُ من يعاند الحقَّ ويخالف الأمرَ ، أي واذكر وقت قولِنا لهم : { اسجدوا لاِدَمَ } تحيةً وتكريماً لما قاله من الفضائل المستوجِبة لذلك { فَسَجَدُواْ } له من غير تلعثم امتثالاً للأمر وأداءً لحقه عليه الصلاة والسلام { إِلاَّ إِبْلِيسَ } وكان داخلاً في زُمرتهم مندرجاً تحت الأمرِ بالسجود { قَالَ } أي عندما وُبِّخ بقوله عز سلطانه : { الساجدين قَالَ يإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين } وقولِه : { مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُد إِذْ أَمَرْتُكَ } وقوله : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } كما أشير إليه في سورة الحِجر { أَءسْجُدُ } وأنا مخلوقٌ من العنصر العالي { لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا } نُصب على نزعِ الخافضِ أي من طين ، أو حالٌ من الراجع إلى الموصول أي خلقتَه وهو طينٌ ، أو من نفس الموصول أي أأسجُد له وأصلُه طينٌ؟ والتعبيرُ عنه عليه الصلاة والسلام بالموصول لتعليل إنكارِه بما في حيز الصلة .(4/210)
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)
{ قَالَ } أي إبليسُ لكن لا عَقيبَ كلامِه المحكي بل بعد الإنظارِ المترتب على استنظاره المتفرِّع على الأمر بخروجه من بين الملأ الأعلى باللعن المؤبّدِ ، وإنما لم يصرّح بذلك اكتفاءً بما ذكر في مواضعَ أُخَرَ ، فإن توسيطَ ( قال ) بين كلامَيْ اللعين للإيذان بعدمِ اتصالِ الثاني بالأول وعدمِ ابتنائِه عليه بل على غيره كما في قوله تعالى : { قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضآلون } { أَرَءيْتَكَ هذا الذى كَرَّمْتَ عَلَىَّ } الكافُ لتأكيد الخطابِ لا محل لها من الإعراب وهذا مفعولٌ أولٌ والموصولُ صفتُه ، والثاني محذوفٌ لدِلالة الصلةِ عليه أي أخبِرني عن هذا الذي كرّمته عليّ بأن أمرْتَني بالسجود له لِمَ كَرَّمْتَه عليّ؟ وقيل : هذا مبتدأٌ حُذف عنه حرفُ الاستفهام والموصولُ مع صلته خبرُه ومقصودُه الاستصغارُ والاستحقارُ ، أي أخبرْني أهذا مَنْ كرَّمته عليّ؟ وقيل : معنى أرأيتَك أتأمّلت كأن المتكلّم ينبّه المخاطَب على استحضار ما يخاطبه به عَقيبه { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ } حياً { إلى يَوْمِ القيامة } كلامٌ مبتدأٌ واللامُ موطِّئةٌ للقسم وجوابُه قوله : { لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ } أي لأستأصِلَنّهم ، من قولهم : احتنَك الجرادُ الأرضَ إذا جرَد ما عليها أكلاً ، أو لأقودنّهم حيث ما شئتُ ولأستولِينّ عليهم استيلاءً قوياً ، من قولهم : حنكْتَ الدابةَ واحتنكتَها إذا جعلتَ في حنَكها الأسفلِ حبلاً تقودُها به ، وهذا كقوله : { لازَيّنَنَّ لَهُمْ فِى الأرض وَلاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } وإنما عَلِم تسنِّي ذلك المطلبِ له تلقّياً من جهة الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام أو استنباطاً من قولهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء } أو توسّماً من خَلْقه { إِلاَّ قَلِيلاً } منهم وهم المخْلَصون الذين عصمهم الله تعالى .
{ قَالَ اذهب } أي امضِ لشأنك الذي اخترتَه وهو طردٌ له وتخليةٌ بينه وبين ما سوّلت له نفسه { فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ } أي جزاؤُك وجزاؤهم فغُلّب المخاطَبُ على الغائب رعايةً لحق المتبوعية { جَزَاء مَّوفُورًا } أي جزاءً مكملاً من قولهم : فِرْ لصاحبك عِرضَه فِرَةً ، أي وفّر ، وهو نصب على أنه مصدرٌ مؤكّدٌ لما في قوله : { جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ } من معنى تجازون أو الفعلِ المقدّر أو حالٌ موطئةٌ لقوله موفوراً .(4/211)
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)
{ واستفزز } أي استخفَّ { مَنِ استطعت مِنْهُمْ } أن تستفِزَّه { بِصَوْتِكَ } بدعائك إلى الفساد { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم } أي صِحْ عليهم من الجَلَبة وهي الصياح { بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } أي بأعوانك وأنصارِك من راكب وراجل من أهل العبث والفساد . قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهدٌ وقتادةُ : إن له خيلاً ورَجِلاً من الجن والإنس فما كان من راكب يقاتل في معصية الله تعالى فهو من خيل إبليسَ ، وما كان من راجل يقاتل في معصية الله تعالى فهو من رَجِل إبليس . والخيلُ الخيّالةُ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : « يا خيلَ الله اركبي » والرّجْلُ اسمُ جمعٍ للراجل كالصحْب والركْب ، وقرىء بكسر الجيم وهي قراءةُ حفصٍ على أنه فَعِلٌ بمعنى فاعل كتعِب وتاعب ، وبضمة مثلُ حدِثٌ وحدُثٌ وندِسٌ وندُسٌ ونظائرِهما أي جمع الراجل ليطابق الخيل ، وقرىء رجالِك ورجالك ويجوز أن يكون استفزازُه بصوته وإجلابه بخيله ورَجْلِه تمثيلاً لتسلّطه على من يُغويه فكأنه مِغوارٌ أوقع على قوم فصوّت بهم صوتاً يزعجهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم وأجْلَبَ عليهم بجُنده من خيّالة ورَجّالَة حتى استأصلهم { وَشَارِكْهُمْ فِى الأموال } بحملهم على كسبها وجمعِها من الحرام والتصرفِ فيها على ما لا ينبغي { والأولاد } بالحث على التوصل إليهم بالأسباب المحرمة والإشراكِ كتسميتهم بعبد العزّى والتضليلِ بالحمل على الأديان الزائغةِ والحِرَف الذميمة والأفعالِ القبيحة { وَعَدَّهُمْ } المواعيدَ الباطلةَ كشفاعة الآلهة والاتكالِ على كرامة الآباءِ وتأخيرِ التوبةِ بتطويل الأمل { وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } اعتراضٌ لبيان شأنِ مواعيدِه ، والالتفاتُ إلى الغَيبة لتقوية معنى الاعتراضِ مع ما فيه من صرفِ الكلامِ عن خطابه وبيانِ شأنه للناس ، ومن الإشعار بعلية شيطنتِه للغرور وهو تزيينُ الخطأ بما يوهم أنه صواب .
{ إِنَّ عِبَادِى } الإضافةُ للتشريف وهم المخلَصون وفيه أن مَنْ تبعه ليس منهم وأن الإضافةَ لثبوت الحكم في قوله تعالى : { لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان } أي تسلّطٌ وقدرةٌ على إغوائهم كقوله تعالى : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين ءامَنُواْ وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { وكفى بِرَبّكَ وَكِيلاً } لهم يتوكلون عليه ويستمدون به في الخلاص عن إغوائك . والتعرضُ لوصف الربوبيةِ المنبئةِ عن المالكية المطلقةِ والتصرّفِ الكليِّ مع الإضافة إلى ضمير إبليسَ للإشعار بكيفية كفايتِه تعالى لهم ، أعني سلْبَ قدرتِه على إغوائهم .
{ رَّبُّكُمُ الذى يُزْجِى لَكُمُ الفلك فِى البحر } متبدأ وخبر والإزجاءُ السوقُ حالاً بعد حال ، أي هو القادرُ الحكيمُ الذي يسوق لمنافعكم الفُلك ويُجريها في البحر { لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } من رزقه الذي هو فضلٌ من قِبَله أو من الربح الذي هو مُعطيه ، ومن مزيدةٌ أو تبعيضةٌ ، وهذا تذكير لبعض النعم التي هي دلائلُ التوحيد وتمهيدٌ لذكر توحيدِهم عند مِساسِ الضرِّ تكملةً لما مر من قوله تعالى : { فَلاَ يَمْلِكُونَ } الآية { إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ } أزلاً وأبداً { رَّحِيماً } حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه وسهّل عليكم ما يعسُر من مباديه ، وهذا تذييلٌ فيه تعليلٌ لما سبق من الإزجاء لابتغاء الفضلِ ، وصيغةُ الرحيم للدِلالة على أن المرادَ بالرحمة الرحمةُ الدنيويةُ والنعمةُ العاجلة المنقسمة إلى الجليلة والحقيرة .(4/212)
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِى البحر } خوفَ الغرقِ فيه { ضَلَّ مَن تَدْعُونَ } أي ذهب عن خواطركم ما كنتم تدعون من دون الله من الملائكة أو المسيحِ أو غيرهم { إِلاَّ إِيَّاهُ } وحده من غير أن يخطُر ببالكم أحدٌ منهم وتدعوه لكشفه استقلالاً أو اشتراكاً ، أو ضل كلُّ مَنْ تدعونه عن إغاثتكم وإنقاذِكم ولم يقدِر على ذلك إلا الله ، على الاستثناء المنقطع { فَلَمَّا نجاكم } من الغرق وأوصلكم { إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ } عن التوحيد أو اتسعتم في كُفران النعمة { وَكَانَ الإنسان كَفُورًا } تعليلٌ لما سبق من الإعراض .
{ أَفَأَمِنتُمْ } الهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أنجوتم فأمنتم { أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر } الذي هو مأمنُكم أي يقلِبه ملتبساً بكم أو بسبب كونِكم فيه ، وفي زيادة الجانبِ تنبيهٌ على تساوي الجوانب والجهاتِ بالنسبة إلى قدرته سبحانه وتعالى وقهرِه وسلطانِه ، وقرىء بنون العظمة { أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ } من فوقكم وقرىء بالنون { حاصبا } ريحاً ترمي بالحصباء { ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً } يحفظكم من ذلك أو يصرِفه عنكم فإنه لا رادَّ لأمره الغالب .
{ أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ } في البحر ، أُوثرت كلمةُ في على كلمة إلى المنبئةِ عن مجرد الانتهاء للدِلالة على استقرارهم فيه { تَارَةً أخرى } إسنادُ الإعادة إليه تعالى مع أن العَوْدَ إليه باختيارهم باعتبار خلقِ الدواعي الملجئةِ لهم إلى ذلك ، وفيه إيماءٌ إلى كمال شدةِ هولِ ما لاقَوْه في التارة الأولى بحيث لولا الإعادةُ لما عادوا { فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ } وأنتم في البحر وقرىء بالنون { قَاصِفًا مّنَ الريح } وهي التي لا تمر بشيء إلا كسرَتْه وجعلتْه كالرميم ، أو التي لها قصيفٌ وهو الصوتُ الشديد كأنها تتقصّف أي تتكسر { فَيُغْرِقَكُم } بعد كسر فُلْكِكم كما ينبىء عنه عنوانُ القصفِ ، وقرىء بالنون وبالتاء على الإسناد إلى ضمير الريح { بِمَا كَفَرْتُمْ } بسبب إشراكِكم أو كفرانِكم لنعمة الإنجاء { ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا } أي ثائراً يطالبنا بما فعلنا انتصاراً منا ودَرْكاً للثأر من جهتنا كقوله سبحانه : { وَلاَ يَخَافُ عقباها }(4/213)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ } قاطبةً تكريماً شاملاً لبَرّهم وفاجرِهم أي كرمناهم بالصورة والقامةِ المعتدلةِ والتسلط على ما في الأرض والتمنُّعِ به والتمكُّنِ من الصناعات وغير ذلك مما لا يكاد يُحيط به نِطاقُ العبارة ، ومن جملته ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من أن كلَّ حيوانٍ يتناول طعامَه بفيه إلا الإنسانَ فإنه يرفعه إليه بيده ، وما قيل من شِرْكة القرد له في ذلك مبنيٌّ على عدم الفرقِ بين اليد والرجل فإنه متناولٌ له برجله التي يطأ بها القاذورات لا بيده { وحملناهم فِى البر والبحر } على الدوابّ والسفن ، من حملْتَه إذا جعلتَ له ما يركبه وليس من المخلوقات شيءٌ كذلك ، وقيل : حملناهم فيهما حيث لم نخسِفْ بهم الأرضَ ولم نُغرِقْهم بالماء ، وأنت خبيرٌ بأن الأول هو الأنسبُ بالتكريم إذ جميعُ الحيواناتِ كذلك { وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات } أي فنون النعمِ وضُروب المستلذات مما يحصل بصنعهم وبغير صُنعِهم .
{ وفضلناهم } في العلوم والإدراكاتِ بما ركّبنا فيهم من القُوى المدرِكةِ التي بها يتميز الحقُّ من الباطل والحسَنُ من القبيح { على كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا } وهم من عدا الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام { تَفْضِيلاً } عظيماً فحق عليهم أن يشكروا هذه النعمَ ولا يكفروها ويستعملوا قُواهم في تحصيل العقائدِ الحقّةِ ويرفضوا ما هم عليه من الشرك الذي لا يقبله أحدٌ ممن له أدنى تمييزٍ فضلاً عمن فضل على من عدا الملأ الأعلى الذين هم العقولُ المحضةُ ، وإنما استُثنيَ جنسُ الملائكة من هذا التفضيلِ لأن علومَهم دائمةٌ عاريةٌ عن الخطأ والخلل ، وليس فيه دَلالةٌ على أفضليتهم بالمعنى المتنازَعِ فيه فإن المراد هنا بيانُ التفضيل في أمر مشتركٍ بين جميع أفرادِ البشر صالحِها وطالحِها ولا يمكن أن يكون ذلك هو الفضلَ في عِظم الدرجةِ وزيادةِ القُربةِ عند الله سبحانه . إن قيل : أيُّ حاجةٍ إلى تعيين ما فيه التفضيلُ بعد بيانِ ما هو المرادُ بالمفضّلين فإن استثناءَ الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام من تفضيل جميع أفرادِ البشرِ عليهم لا يستلزم استثناءَهم من تفضيل بعضِ أفرادِه عليهم قلنا : لا بد من تعيينه البتةَ ، إذ ليس من الأفراد الفاجرةِ للبشر أحدٌ يفضُل على أحد من المخلوقات فيما هو المتنازَعُ فيه أصلاً بل هم أدنى من كل دنيءٍ حسبما يُنبىء عنه قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ } وقولُه تعالى : { إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ } { يَوْمَ نَدْعُواْ } نُصب على المفعولية بإضمار اذكر أو ظرفٌ لما دل عليه قولُه تعالى : { وَلاَ يُظْلَمُونَ } وقرىء بالياء على البناء للفاعل والمفعول ويدعو بقلب الألف واواً على لغة من يقول في أفعى أفعو ، وقد جوّز كونُ الواو علامةَ الجمعِ كما في قوله تعالى :(4/214)
{ وَأَسَرُّواْ النجوى } أو ضميرَه وكلَّ بدلاً منه ، والنونُ محذوفةٌ لقلة المبالاةِ بها فإنها ليست إلا علامةَ الرفع وقد يكتفى بتقديره كما في يدعى { كُلَّ أُنَاسٍ } من بني آدم الذين فعلنا بهم في الدنيا ما فعلنا من التكريم والتفضيلِ ، وهذا شروعٌ في بيان تفاوتِ أحوالِهم في الآخرة بحسب أحوالِهم وأعمالهم في الدنيا { بإمامهم } أي بمن ائتمّوا به من نبي أو مقدّم في الدين أو كتاب أو دين وقيل : بكتاب أعمالِهم التي قدموها فيقال : يا أصحابَ كتابِ الخيرِ يا أصحابَ كتابِ الشر ، أو يا أهلَ دينِ كذا يا أهلَ كتابِ كذا ، وقيل : الإمامُ جمعُ أم كُخف وخِفاف ، والحكمةُ في دعوتهم بأمهاتهم إجلالُ عيسى عليه السلام وتشريفُ الحسنين رضي الله عنهما والسترُ على أولاد الزنا { فَمَنْ أُوتِىَ } يومئذ من ألئك المدعوّين { كتابه } صحيفةَ أعماله { بِيَمِينِهِ } إبانةٌ لخطر الكتابِ المؤتى وتشريفاً لصاحبه وتبشيراً له من أول الأمرِ بما في مطاويه { فَأُوْلَئِكَ } إشارةٌ إلى مَنْ باعتبار معناه إيذاناً بأنهم حزبٌ مجتمعون على شأن جليلٍ ، أو إشعاراً بأن قراءتَهم لكتبهم تكون على وجه الاجتماعِ لا على وجه الانفرادِ كما في حال الإيتاءِ ، وما فيه من الدِلالة على البعد للإشعار برفعة درجاتِهم أي أولئك المختصون بتلك الكرامةِ التي يُشعِر بها الإيتاءُ المزبور { يَقْرَءونَ كتابهم } الذي أوتوه على الوجه المبين تبجّحاً بما سُطّر فيه من الحسنات المستتبِعةِ لفنون الكراماتِ { وَلاَ يُظْلَمُونَ } أي لا يُنقصون من أجور أعمالِهم المرتسمةِ في كتبهم بل يؤتَوْنها مضاعَفةً { فَتِيلاً } أي قدْرَ فتيلٍ وهو القِشرةُ التي في شق النواة أو أدنى شيءٍ فإن الفتيلَ مثلٌ في القِلة والحقارة .(4/215)
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)
{ وَمَن كَانَ } من المدعوّين المذكورين { فِى هذه } الدنيا التي فُعل بهم فيها ما فعل من فنون التكريمِ والتفضيل { أعمى } فاقدَ البصيرة لا يهتدي إلى رُشده ولا يعرِف ما أوليناه من نعمة التكْرِمةِ والتفضيلِ فضلاً عن شكرها والقيامِ بحقوقها ، ولا يستعمل ما أودعناه فيه من العقول والقُوى فيما خُلِقْن له من العلوم والمعارِف الحَقّة { فَهُوَ فِى الأخرة } التي عُبّر عنها بيومَ ندعو { أعمى } كذلك أي لا يهتدي إلى ما ينجيّه ولا يظفَر بما يُجديه لأن العمَى الأولَ موجبٌ للثاني ، وقد جُوّز كونُ الثاني بمعنى التفضيل على أن عماه في الدنيا ، ولذلك قرأ أبو عمرو الأولَ مُمالاً والثاني مفخماً { وَأَضَلُّ سَبِيلاً } أي من الأعمى لزوال الاستعدادِ المُمْكنِ وتعطلِ الآلاتِ بالكلية ، وهذا بعينه هو الذي أوتي كتابَه بشماله بدِلالة حال ما سبق من الفريق القابلِ له ، ولعل العدولَ عن ذكره بذلك العنوانِ مع أنه الذي يستدعيه حسنُ المقابلة حسبما هو الواقعُ في سورة الحاقة وسورةِ الانشقاق للإيذان بالعلة الموجبةِ له كما في قوله تعالى : { وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضالين } بعد قوله تعالى : { فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ اليمين } وللرمز إلى علة حالِ الفريقِ الأول ، وقد ذكر في أحد الجانبين المسبّبُ وفي الآخر السببُ ، ودل بالمذكور في كل منهما على المتروك في الآخر تعويلاً على شهادة العقلِ كما في قوله عز وعلا : { وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ . } { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } نزلت في ثقيفٍ إذ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : لا ندخُل في أمرك حتى تعطيَنا خِصالاً نفتخر بها على العرب لا نُعشر ولا نُحشر ولا نجبى في صلاتنا ، وكلُّ رِباً لنا فهو لنا وكلُّ رباً علينا فهو موضوعٌ عنا ، وأن تُمتّعنا باللات سنةً وأن تحرِّم واديَنا وَجّ كما حرّمت مكة ، فإذا قالت العربُ : لم فعلتَ؟ فقل : إن الله أمرني بذلك ، وقيل : في قريش حيث قالوا : اجعل لنا آيةَ عذابٍ آيةَ رحمةٍ وآيةَ رحمةٍ آيةَ عذابٍ ، أو قالوا : لا نُمكّنك من استلام الحجرِ حتى تُلمّ بآلهتنا ، فإنْ مخففةٌ من المشددة وضميرُ الشأنِ الذي هو اسمُها محذوفٌ واللامُ هي الفارقة بينها وبين النافية ، أي إن الشأنَ قاربوا أن يفتنوك أي يخدعوك فاتنين { عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } من أوامرنا ونواهينا ووعْدِنا ووعيدِنا { لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ } لتتقول علينا غيرَ الذي أوحينا إليك مما اقترحَتْه ثقيفٌ أو قريشٌ حسبما نقل { وَأَذّاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } أي لو اتبعت أهواءَهم لكنتَ لهم وليًّا ولخرجتَ من ولايتي .(4/216)
وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
{ وَلَوْلاَ أَن ثبتناك } على ما أنت عليه من الحق بعِصمتنا لك { لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً } من الركون الذي هو أدنى ميلٍ أي لولا تثبيتنا لك لقاربت أن تميلَ إليهم شيئاً يسيراً من الميل اليسيرِ لقوة خَدعِهم وشدة احتيالِهم ، لكن أدركتْك العصمةُ فمنعَتْك من أن تقرَبَ من أدنى مراتبِ الركونِ إليهم فضلاً عن نفس الركونِ ، وهذا صريحٌ في أنه عليه الصلاة والسلام ما همّ بإجابتهم مع قوة الداعي إليها ، ودليلٌ على أن العصمةَ بتوفيق الله تعالى وعنايتِه .
{ أَذِاً } لو قاربت أن تركنَ إليهم أدنى رَكْنة { إِذًا لأذقناك ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ } أي عذابَ الدنيا وعذابَ الآخرة ضعفَ ما يُعذَّب به في الدارين بمثل هذا الفعلِ غيرُك لأن خطأَ الخطيرِ خطيرٌ ، وكان أصلُ الكلامِ عذاباً ضِعفاً في الممات بمعنى مضاعفاً ثم حُذف الموصوفُ وأُقيمت الصفةُ مُقامَه ثم أضيفت إضافةَ موصوفِها ، وقيل : الضِعف من أسماء العذاب ، وقيل : المرادُ بضِعف الحياة عذابُ الآخرة وبضِعف المماتِ عذابُ القبر { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا } يدفع عنك العذابَ .
{ وَإِن كَادُواْ } الكلامُ فيه كما في الأول أي كاد أهلُ مكة { لَيَسْتَفِزُّونَكَ } أي ليُزعِجونك بعداوتهم ومكرِهم { مّنَ الأرض } أي الأرضِ التي أنت فيها وهي أرضُ مكة { لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَأَذّاً لاَّ يَلْبَثُونَ } بالرفع عطفاً على خبر كاد ، وقرىء لا يلبثوا بالنصب بإعمال إذن على أن الجملةَ معطوفةٌ على جملة وإن كادوا ليستفزونك { خلافك } أي بعدك قال
خلت الديارُ خِلافَهم فكأنما ... بسَطَ الشواطِبُ بينهن حصيراً
أي لو خرجتَ لا يبقَون بعد خروجِك وقرىء خلفك { إِلاَّ قَلِيلاً } إلا زماناً قليلاً وقد كان كذلك فإنهم أُهلكوا ببدر بعد هجرتِه عليه الصلاة والسلام ، وقيل : نزلت الآيةُ في اليهود حيث حسدوا مقامَ النبي عليه الصلاة والسلام بالمدينة ، فقالوا : الشامُ مقامُ الأنبياءِ عليهم السلام فإن كنت نبياً فالحَقْ بها حتى نؤمِنَ بك ، فوقع ذلك في قلبه عليه الصلاة والسلام فخرج مرحلةً فنزلت فرجع ثم قُتل منهم بنو قريظة وأُجليَ بنو النضير ( بعدهم ) بقليل .
{ سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا } نُصب على المصدرية أي سنّ الله تعالى سُنةً وهي أن يُهلك كلَّ أمة أَخرجت رسولَهم من بين أظهرِهم ، فالسنةُ لله تعالى وإضافتُها إلى الرسل لأنها سُنّتْ لأجلهم على ما ينطِق به قوله عز وجل : { وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } أي تغيّراً .(4/217)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
{ أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس } لزوالها كما ينبىء عنه قولُه عليه الصلاة والسلام : « أتاني جبريلُ عليه السلام لدُلوك الشمس حين زالت فصلّى بي الظهرَ » . واشتقاقُه من الدّلْك لأن من نظر إليها حينئذ يدُلك عينه ، وقيل : لغروبها من دلَكَت الشمس أي غربت ، وقيل : أصلُ الدلوك الميلُ فينتظم كِلا المعنيين ، واللامُ للتأقيت مِثلُها في قولك : لثلاثٍ خلَوْن { إِلَى غَسَقِ اليل } إلى اجتماع ظلمتِه وهو وقتُ صلاةِ العِشاء ، وليس المرادُ إقامتَها فيما بين الوقتين على وجه الاستمرارِ بل إقامةَ كل صلاةٍ في وقتها الذي عُيِّن لها ببيان جبريلَ عليه السلام ، كما أن أعدادَ ركعاتِ كل صلاةٍ موكولةٍ إلى بيانه عليه السلام ، ولعل الاكتفاءَ ببيان المبدأ والمنتهى في أوقات الصلواتِ من غير فصل بينها لما أن الإنسانَ فيما بين هذه الأوقاتِ على اليقظة فبعضُها متصلٌ ببعض بخلاف أولِ وقتِ العشاءِ والفجرِ ، فإنه باشتغاله فيما بينهما بالنوم ينقطع أحدُهما عن الآخر ولذلك فُصل وقتُ الفجر عن سائر الأوقات ، وقيل : المرادُ بالصلاة صلاةُ المغرب ، والتحديدُ المذكور بيانٌ لمبدئه ومنتهاه واستُدِل به على امتداد وقتِه إلى غروب الشفق ، وقوله تعالى : { وَقُرْءَانَ الفجر } أي صلاةَ الفجر نُصب عطفاً على مفعول أقم أو على الإغراء قاله الزجّاج ، وإنما سُمِّيت قرآنا لأن رُكنُها كما تُسمّى ركوعاً وسجوداً واستُدل به على الركنية ، ولكن لا دِلالةَ له على ذلك لجواز كونِ مدارِ التجوز كونَ القراءة مندوبةً فيها . نعم لو فُسّر بالقراءة في صلاة الفجر لدل الأمرُ بإقامتها على الوجوب فيها نصاً وفيما عداها دِلالةً ، ويجوز أن يكون ( وقرآنَ الفجر ) حثًّا على تطويل القراءةِ في صلاة الفجر { إِنَّ قُرْءَانَ الفجر } أظهر في مقام الإضمارِ إبانةً لمزيد الاهتمامِ به { كَانَ مَشْهُودًا } يشهده ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار أو شواهدُ القدرة من تبدُّل الضياء بالظلمة والانتباهِ بالنوم الذي هو أخو الموتِ ، أو يشهده كثيرٌ من المصلين أو من حقه أن يشهَده الجمُّ الغفيرُ فالآيةُ على تفسير الدُّلوك بالزوال جامعةٌ للصلوات الخمس ، وعلى تفسيره بالغروب لِما عدا الظهرَ والعصر .
{ وَمِنَ اليل } قيل : هو نصبٌ على الإغراء أي الزمْ بعضَ الليل ، وقيل : لا يكون المغرى به حرفاً ولا يجدي نفعاً كونُ معناها التبعيضَ ، فإن واو مع ليست اسماً بالإجماعِ وإن كانت بمعنى الاسمِ الصريحِ بل هو منصوبٌ على الظرفية بمضمر أي قم بعضَ الليل { فَتَهَجَّدْ بِهِ } أي أزِلْ وألقِ الهجودَ أي النوم فإن صيغةَ التفعّل تجيء للإزالة كالتحرّج والتحنّث والتأثّم ونظائرِها ، والضميرُ المجرورُ للقرآن من حيث هو لا بقيد إضافتِه إلى الفجر أو البعضِ المفهوم من قوله تعالى : { وَمِنَ اليل } ، أي تهجد في ذلك البعضِ على أن الباء بمعنى في ، وقيل : منصوبٌ بتهجد أي تهجدْ بالقرآن بعضَ الليل على طريقة وإياي فارهبون { نَافِلَةً لَّكَ } فريضةً زائدةً على الصلوات الخمسِ المفروضةِ خاصةً بك دون الأمة ولعله هو الوجهُ في تأخير ذكرِها عن ذكر صلاةِ الفجر مع تقدم وقتها على وقتها أو تطوعاً ، لكن لا لكونها زيادةً على الفرائض بل لكونها زيادةً له صلى الله عليه وسلم في الدرجات على ما قال مجاهد والسدي ، فإنه عليه السلام مغفورٌ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيكون تطوعُه زيادةً في درجاته بخلاف من عداه من الأمة فإن تطوعَهم لتكفير ذنوبهم وتدارُكِ الخللِ الواقعِ في فرائضهم ، وانتصابُها إما على المصدرية بتقدير تنفّلْ أو بجعل تهجدْ بمعناه أو بجعل نافلةً بمعنى تهجداً فإن ذلك عبادةٌ زائدةٌ ، وإما على الحالية من الضمير الراجعِ إلى القرآن أي حالَ كونها صلاةً نافلةً ، وإما على المفعولية لتهجّدْ إذا جُعل بمعنى صلِّ وجعل الضميرُ المجرور للبعض ، أي فصلِّ في ذلك البعضِ نافلةً لك .(4/218)
{ عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ } الذي يبلّغك إلى كمالك اللائقِ بك من بعد الموت الأكبرِ كما انبعثْتَ من النوم الذي هو الموتُ الأصغرُ بالصلاة والعبادة { مَقَاماً } نُصب على الظرفية على إضمار فيقيمَك ، أو تضمين البعثِ معنى الإقامة إذ لا بد من أن يكون العاملُ في مثل هذا الظرفِ فعلاً فيه معنى الاستقرارِ ، ويجوز أن يكون حالاً بتقدير مضافٍ أي يبعثك ذا مَقام { مَّحْمُودًا } عندك وعند جميعِ الناس ، وفيه تهوينٌ لمشقة قيامِ الليل . وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « المقامُ المحمودُ هو المقامُ الذي أشفع فيه لأمتي » وعن ابن عباس رضي الله عنهما : مقاماً يحمَدُك فيه الأولون والآخرون وتُشرف فيه على جميع الخلائق تسأل فتعطى وتشفع فتُشفّع ليس أحدٌ إلا تحت لوائِك . وعن حذيفةَ رضي الله عنه : « يُجْمَعُ الناسُ في صَعيدٍ واحد فلا تتكلم فيه نفسٌ ، فَأَوَّلُ مَدْعُوَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم فيقولُ : » لبّيكَ وسَعْدَيْكَ والشرُّ ليسَ إليكَ والمَهْديُّ من هَدَيْتَ وعبدُكَ بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجا منكَ إلا إليكَ تباركتَ وتعاليتَ سبحانك ربَّ البيت « .(4/219)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
{ وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى } أي القبرَ { مُدْخَلَ صِدْقٍ } أي إدخالاً مرضياً { وَأَخْرِجْنِى } أي منه عند البعثِ { مُخْرَجَ صِدْقٍ } أي إخراجاً مَرْضياً مَلْقيًّا بالكرامة ، فهو تلقينٌ للدعاء بما وعده من البعث المقرونِ بالإقامة المعهودةِ التي لا كرامةَ فوقها ، وقيل : المرادُ إدخالُ المدينةِ والإخراجُ من مكةَ ، وتغييرُ ترتيبِ الوجودِ لكون الإدخالِ هو المقصدُ ، وقيل : إدخالُه عليه السلام مكةَ ظاهراً عليها وإخراجُه منها آمناً من المشركين ، وقيل : إدخالُه الغارَ وإخراجُه منه سالماً ، وقيل : إدخالُه فيما حمله من أعباء الرسالةِ وإخراجُه منه مؤدياً حقَّه ، وقيل : إدخالُه في كل ما يلابسه من مكان أو أمرٍ وإخراجُه منه ، وقرىء مَدخل ومَخرج بالفتح على معنى أدخلني فأدخُلَ دخولاً وأخرجني فأخرُجَ خروجاً كقوله
وعضةُ دهرٍ يا ابنَ مروانَ لم تدَع ... من المال إلا مُسحَتٌ أو مجلِّفُ
أي لم تدَع فلم يبْقَ { واجعل لّى مِن لَّدُنْكَ سلطانا نَّصِيرًا } حجةً تنصُرني على من يخالفني أو مُلكاً وعزاً ناصراً للإسلام مظهِراً له على الكفر ، فأجيبت دعوتُه عليه السلام بقوله عز وعلا : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } { أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون } { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ } { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرض } { وَقُلْ جَاء الحق } أي الإسلامُ والوحيُ الثابتُ الراسخ { وَزَهَقَ الباطل } أي ذهب وهلك الشركُ والكفرُ وتسويلاتُ الشيطان ، من زهَق روحُه إذا خرج { إِنَّ الباطل } كائناً ما كان { كَانَ زَهُوقًا } أي شأنُه أن يكون مضمحلاً غيرَ ثابتٍ وهو عِدةٌ كريمةٌ بإجابة الدعاءِ بالسلطان النصيرِ الذي لُقِّنه . عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه عليه السلام دخل مكةَ يوم الفتح وحول البيت ثلاثُمائةٍ وستون صنماً فجعل ينكُت بمِخْصَرة كانت بيده في أعينها واحداً واحداً ويقول : جاء الحقُ وزهق الباطلُ فينكبّ لوجهه حتى أَلقْى جميعَها ، وبقيَ صنمُ خُزاعةَ فوق الكعبة وكان من صُفْر فقال : « يا عليُّ ارمِ به » فصعِد فرمى به فكسره .(4/220)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)
{ وَنُنَزّلُ مِنَ القرءان } وقرىء نُنْزل من الإنزال { مَا هُوَ شِفَاء } لِما في الصدور من أدواء الرَّيْب وأسقامِ الأوهام { وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ } به العالِمين بما في تضاعيفه ، أي ما هو في تقويم دينِهم واستصلاحِ نفوسِهم كالدواء الشافي للمرضى ، ومن بيانيةٌ قُدِّمت على المبيَّن اعتناءً فإن كلَّ القرآنِ كذلك ، وعن النبي عليه السلام : « مَنْ لَمْ يَسْتَشْفِ بالقرآن فلا شفاه الله » أو تبعيضةٌ لكن لا بمعنى أن بعضَه ليس كذلك بل بمعنى إنا ننزل منه في كل نَوْبةٍ ما تستدعي الحكمةُ نزولَه حينئذ ، فيقع ذلك ممن نزل عليهم بسبب موافقتِه لأحوالهم الداعيةِ إلى نزوله موقعَ الدواءِ الشافي المصادفِ لا بأنه من المرضى المحتاجين إليه بحسب الحالِ من غير تقديمٍ ولا تأخير ، فكلُّ بعضٍ منه متصفٌ بالشفاء لكن لا في كل حينٍ بل عند تنزيلِه ، وتحقيقُ التبعيضِ باعتبار الشفاءِ الجُسماني كما في الفاتحة وآياتِ الشفاء لا يساعده قوله سبحانه : { وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا } أي لا يزيد القرآنُ كلُّه أو كلُّ بعضٍ منه الكافرين المكذبين به الواضعين للأشياء في غير مواضعِها مع كونه في نفسه شفاءً من الأسقام إلا خَساراً أي هلاكاً بكفرهم وتكذيبِهم لا نقصاناً كما قيل ، فإن ما بهم من داء الكفرِ والضلالِ حقيقٌ بأن يعبّر عنه بالهلاك لا بالنقصان المنبىءِ عن حصول بعضِ مبادي الأسقامِ فيهم وزيادتِهم في مراتب الهلاك من حيث أنهم كلما جددوا الكفرَ والتكذيبَ بالآيات النازلةِ تدريجاً ازدادوا بذلك هلاكاً ، وفيه إيماءٌ إلى أن ما بالمؤمنين من الشُّبَه والشكوك المعتريةِ لهم في أثناء الاهتداءِ والاسترشادِ بمنزلة الأمراضِ ، وما بالكفرة من الجهل العنادِ بمنزلة الموتِ والهلاك ، وإسنادُ الزيادة المذكورةِ إلى القرآن مع أنهم هم المُزْدادون في ذلك بسوء صُنعِهم باعتبار كونِه سبباً لذلك ، وفيه تعجيبٌ من أمره حيث يكون مداراً للشفاء والهلاك .
{ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان } بالصحة والنعمة { أَعْرَضَ } عن ذكرنا فضلاً عن القيام بموجب الشكر { وَنَأَى } تباعدَ عن طاعتنا { بِجَانِبِهِ } النأيُ بالجانب أن يَلْويَ عن الشيء عِطفَه ويُولِيَه عُرضَ وجهِه ، فهو تأكيدٌ للإعراض أو عبارةٌ عن الاستكبار لأنه من ديدن المستكبرين { وَإِذَا مَسَّهُ الشر } من فقر أو مرض أو نازلةٍ من النوازل ، وفي إسناد المِساسِ إلى الشر بعد إسنادِ الإنعامِ إلى ضمير الجلالةِ إيذانٌ بأن الخيرَ مرادٌ بالذات والشرَّ ليس كذلك { كَانَ يَئُوساً } شديدَ اليأس من رَوْحنا ، وهذا وصفُ للجنس باعتبار بعضِ أفرادِه ممن هو على هذه الصفةِ ، ولا ينافيه قوله تعالى : { وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ } ونظائرُه ، فإن ذلك شأنُ بعضٍ آخرين منهم ، وقيل : أريد به الوليدُ بنُ المغيرة وقرىء ( ناء ) إما على القلب كما يقال : راءَ في رأي وإما على أنه بمعنى نهض .(4/221)
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
{ قُلْ كُلٌّ } أي كلُّ أحدٍ منكم وممن هو على خلافكم { يَعْمَلُ } عمله { على شَاكِلَتِهِ } طريقتِه التي تشاكل حالَه في الهدى والضلالة أو جوهرِ روحِه وأحوالِه التابعة لمزاج بدنِه { فَرَبُّكُمْ } الذي برأكم على هذه الطبائِع المتخالفة { أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً } أي أسدُّ طريقاً وأبينُ مِنهاجاً وقد فُسِّرت الشاكلةُ بالطبيعة والعادةِ والدين .
{ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح } الظاهرُ أن السؤالَ كان عن حقيقة الروح الذي هو مدبّرُ البدنِ الإنساني ومبدأُ حياتِه ، روي ( أن اليهودَ قالوا لقريش : سلوه عن أصحاب الكهفِ وعن ذي القَرنين وعن الرّوح ، فإن أجاب عنها جميعاً أو سكت فليس بنبي ، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبيٌّ ، فبيّن لهم القصتين وأبْهم أمرَ الروح ) وهو مُبْهمٌ في التوراة { قُلِ الروح } أُظهر في مقام الإضمارِ إظهاراً لكمال الاعتناءِ بشأنه { مِنْ أَمْرِ رَبّى } كلمةُ من بيانيةٌ والأمرُ بمعنى الشأنِ والإضافةُ للاختصاص العِلْميِّ لا الإيجاديّ لاشتراك الكلِّ فيه وفيها من تشريف المضافِ ما لا يخفى كما في الإضافة الثانيةِ من تشريف المضافِ إليه ، أي هو من جنس ما استأثر الله تعالى بعلمه من الأسرار الخفيةِ التي لا يكاد يحوم حولها عقولُ البشر .
{ وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } لا يمكن تعلّقُه بأمثال ذلك ، روي أنه صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك . قالوا : نحن مختصّون بهذا الخطابِ قال عليه الصلاة والسلام : « بل نحن وأنتم » . فقالوا : ما أعجبَ شأنَك ، ساعةً تقول : { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } وساعةً تقول هذا ، فنزلت : { وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ } الآية ، وإنما قالوا ذلك لركاكة عقولِهم فإن الحكمةَ الإنسانيةَ أن يعلم من الخير ما تسعه الطاقةُ البشريةُ بل ما نيط به المعاشُ والمعادُ وذلك بالإضافة إلى ما لا نهايةَ له من معلوماته سبحانه قليلٌ يُنال به خيرٌ كثيرٌ في نفسه أو بالنسبة إلى الإنسان أو هو من الإبداعيات الكائنةِ بمحض الأمرِ التكوينيِّ من غير تحصّلٍ من مادة وتولُّدٍ من أصل كأعضاء الجسدِ حتى يمكن تعريفُه ببعض مباديه ، ومآلُه أنه من عالم الأمرِ لا من عالم الخَلق وليس هذا من قَبيل قوله سبحانه : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } فإن ذلك عبارةٌ عن سرعة التكوينِ سواءٌ كان الكائنُ من عالم الأمرِ أو من عالم الخلقِ ، وفيه تنبيهٌ على أنه مما لا يحيط بكنهه دائرةُ إدراكِ البشر وإنما الممكن هذا القدرُ الإجماليُّ المندرجُ تحت ما استُثني بقوله تعالى : { وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } أي إلا علماً قليلاً تستفيدونه من طرُق الحواسِّ فإن تعقّلَ المعارفِ النظرية إنما هو من إحساس الجزئياتِ ، ولذلك قيل : من فقد حِسًّا فقد علماً ، ولعل أكثر الأشياءِ لا يدركه الحسُّ ولا شيءٌ من أحواله التي يدور عليها معرفةُ ذاتِه ، وأما حملُ ما ذكر على السؤال عن قِدَمه وحدوثه وجعلُ الجوابِ إخباراً بحدوثه أي كائنٌ بتكوينه حادثٌ بإحداثه بالأمر التكويني ، فمع عدم ملاءمتِه لحال السائلين لا يساعده التعرّضُ لبيان قلةِ علمِهم ، فإن ما سألوا عنه مما يفي به علمُهم حينئذ وقد أُخبر عنه ، وقيل : المرادُ بالروح خلقٌ عظيم رُوحاني أعظمُ من المَلَك ، وقيل : جبريلُ عليه السلام ، وقيل : القرآنُ ، ومعنى من أمر ربي من وحيه وكلامِه لا من كلامِ البشر .(4/222)