قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذى يَقُولُونَ } استئنافٌ مَسوقٌ لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن الذي يعتريه مما حُكي عن الكفرة من الإصرار على التكذيب والمبالغة فيه ببيان أنه عليه الصلاة والسلام بمكانةٍ من الله عز وجل وأن ما يفعلون في حقه فهو راجعٌ إليه تعالى في الحقيقة وأنه ينتقم منهم لا محالة أشدَّ انتقام ، وكلمةُ ( قد ) لتأكيد العلم بما ذكر المفيدِ لتأكيد الوعيدِ كما في قوله تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ } وقوله تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين } ونحوِهما بإخراجها إلى معنى التكثير حسبما يُخْرجُ إليه ربما في مثل قوله :
وإنْ تُمْسِ مهجورَ الفِناء فربما ... أقام به بعد الوفود وفودُ
جرياً على سَننِ العرب عند قصد الإفراط في التكثير تقول لبعض قُوادِ العساكر : كم عندك من الفرسان؟ فيقول : رُبَّ فارسٍ عندي ، وعنده مقانبُ جَمةٌ يريد بذلك التماديَ في تكثير فُرسانه ولكنه يروم إظهارَ براءته عن التزيُّد وإبرازَ أنه ممن يقلل كثيرَ ما عنده فضلاً عن تكثير القليل وعليه قوله عز وجل : { رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } وهذه طريقة إنما تُسلك عند كون الأمر من الوضوح بحيث لا تحوم حوله شائبةُ ريبٍ حقيقةً ، كما في الآيات الكريمة المذكورة ، أو ادعاءً كما في البيت وقولِه :
قد أترك القِرْنَ مُصفرّاً أناملُهُ ... وقولِه
ولكنه قد يُهلك المالَ نائِلُهْ ... والمراد بكثرة علمه تعالى كثرةُ تعلقِه وهو متعدَ إلى اثنين وما بعده سادٌّ مسدَّها واسمُ ( إن ) ضمير الشأن وخبرُها الجملة المفسرة له والموصولُ فاعل ( يحزنك ) وعائدُه محذوف أي الذي يقولونه وهو ما حُكي عنهم من قولهم : { إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين } ونحوُ ذلك وقرىء ( لَيُحزِنُك ) من أحزن المنقول من حزِن اللازم وقوله تعالى : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ } تعليل لما يُشعِر به الكلامُ السابق من النهي عن الاعتداد بما قالوا لكن لا بطريق التشاغل عنه وعدِّه هيناً والإقبالِ التام على ما هو أهمُّ منه من استعظام جحودهم بآيات الله عز وجل كما قيل فإنه مع كونه بمعزل من التسلية بالكلية مما يوهم كونَ حزنه عليه الصلاة والسلام لخاصة نفسه بل بطريق التسلِّي بما يفيده من بلوغه عليه الصلاة والسلام في جلالة القَدْرِ ورِفعة المحل والزُلفى من الله عز وجل إلى حيث لا غاية وراءَه حيث لم يقتصر على جعل تكذيبه عليه الصلاة والسلام تكذيباً لآياته سبحانه على طريقة قوله تعالى : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } بل نفى تكذيبَهم عنه عليه الصلاة والسلام وأثبت لآياته تعالى على طريقة قوله تعالى : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ يُبَايِعُونَ الله } أيذاناً بكمال القرب واضمحلال شؤونه عليه الصلاة والسلام في شأن الله عز وجل . نعمْ فيه استعظامٌ لجنايتهم مُنْبىءٌ عن عظم عقوبتهم كأنه قيل : لا تعتدَّ به وكِلْه إلى الله تعالى فإنهم في تكذيبهم ذلك لا يكذبونك في الحقيقة .(2/353)
{ ولكن الظالمين بئايات الله يَجْحَدُونَ } أي ولكنهم بآياته تعالى يكذّبون فوضَعَ المُظهرَ موضعَ المُضمر تسجيلاً عليهم بالرسوخ في الظلم الذي يُعتبر جحودُهم هذا فناً من فنونه ، والالتفاتُ إلى الاسم الجليل لتربية المهابة واستعظام ما أقدموا عليه من جحود آياته تعالى ، وإيرادُ الجحود في مورد التكذيب للإيذان بأن آياتِه تعالى من الوضوح بحيث يشاهد صدقها كلُّ أحد وأن من ينكرها فإنما ينكرها بطريق الجحود الذي هو عبارةٌ عن الإنكار مع العلم بخلافه كما في قوله تعالى : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ } وهو المعنيُّ بقول من قال : إنه نفْيُ ما في القلب إثباتُه ، أو إثباتُ ما في القلب نفيُه ، والباء متعلقة بيجحدون ويقال : جحد حقَّه وبحقِّه إذا أنكره وهو يعلمه ، وقيل : هو لتضمين الجحود معنى التكذيب ، وأياً ما كان فتقديمُ الجارِّ والمجرور للقَصْر وقيل : المعنى فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون بألسنتهم ، ويعضُده ما رُوي من أن الأخْنَسَ بنَ شُرَيْقٍ قال لأبي جهل : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادقٌ هو أم كاذب؟ فإنه ليس عندنا أحدٌ غيرُنا فقال له : والله إن محمداً لصادقٌ وما كذَب قطُّ ولكن إذا ذهب بنو قُصيَ باللواءِ والسِّقاية والحِجابة والنبوّة فماذا يكونُ لسائر قريش؟ فنزلت .
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسمَّى الأمينَ فعرَفوا أنه لا يكذِب في شيء ولكنهم كانوا يجحدون وقيل : فإنهم لا يكذبونك لأنك عندهم الصادقُ الموسومُ بالصدق ، ولكنهم يجحدون بآيات الله كما يروى أن أبا جهل كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما نُكذِّبُك ، وإنك عندنا لصادقٌ ولكنا نكذِّبُ ما جئتنا به فنزلت . وكأن صدقَ المُخبرِ عند الخبيث بمطابقةِ خبرِه لاعتقادِه ، والأولُ هو الذي تستدعيه الجزالة التنزيلية ، وقرىء لا يُكْذِبونك من الإكذاب فقيل : كلاهما بمعنى واحدٍ كأكثرَ وكثُر وأنزلَ ونزَل وهو الأظهر وقيل : معنى أكذبه وجده كاذباً ، ونُقل عن الكسائيِّ أن العربَ تقول : كذبتُ الرجلَ أي نسبتُ الكذب إليه وأكذبته أي نسبت الكذب إلى ما جاء به لا إليه .(2/354)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
وقوله تعالى : { وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ } افتنانٌ في تسليته عليه الصلاة والسلام فإن عمومَ البلية ربما يهوِّنُ أمرَها بعضَ تهوين ، وإرشادٌ له عليه الصلاة والسلام إلى الاقتداء بمن قبله من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام في الصبر على ما أصابهم من أممهم من فنون الأَذِيَّة ، وعِدَةٌ ضِمْنية له عليه الصلاة والسلام بمثل ما مُنِحوه من النصر . وتصديرُ الكلام بالقسم لتأكيد التسلية وتنوينُ ( رسلٌ ) للتفخيم والتكثير ، و ( من ) إما متعلقةٌ بكُذِّبت أو بمحذوفٍ وقع صفةً ( لرسلٌ ) أي وبالله لقد كذِّبت من قبل تكذيبك رسلٌ أولو شأنٍ خطير وذوُو عددٍ كثير أو كُذبت رسل كانوا من زمان قبلَ زمانك { فَصَبَرُواْ على مَا كُذّبُواْ } ما مصدرية وقوله تعالى { وَأُوذُواْ } عطف على ( كُذبوا ) داخلٌ في حكمه فأنسبك منهما مصدران من المبنيِّ للمفعول أي فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم فتأسَّ بهم واصطبِرْ على ما نالك من قومك ، والمرادُ بإيذائهم إما عينُ تكذيبهم وإما ما يقارنه من فنون الإيذاء لم يُصرَّحْ به ثقةً باستلزام التكذيب إياه غالباً ، وأياً ما كان ففيه تأكيدٌ للتسلية ، وقيل : عطفٌ على صبروا وقيل : على كذبت ، وقيل : هو استئناف وقوله تعالى : { حتى أتاهم نَصْرُنَا } غايةٌ للصبر ، وفيه إيذانٌ بأن نَصره تعالى إياهم أمرٌ مقرَّر لا مرد له وأنه متوجه إليهم لا بد من إتيانه البتةَ ، والالتفاتُ إلى نون العظمة لإبراز الاعتناء بشأن النصر وقوله تعالى : { وَلاَ مُبَدّلَ لكلمات الله } اعتراض مقرِّرٌ لما قبله من إتيان نصرِه إياهم والمراد بكلماته تعالى ما يُنْبىء عنه قوله تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } وقولُه تعالى : { كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } من المواعيد السابقة للرسل عليهم الصلاة والسلام الدالة على نُصرة رسول الله أيضاً لا نفسُ الآياتِ المذكورة ونظائرُها ، فإن الإخبارَ بعدم تبدّلِها إنما يفيد عدمَ تبدلِ المواعيدِ الواردةِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة دون المواعيد السابقة للرسل عليهم الصلاة والسلام ويجوزُ أن يُرادَ بكلماته تعالى جميعُ كلماته التي من جملتها تلك المواعيدُ الكريمةُ ويدخل فيها المواعيدُ الكريمة ، ويدخل فيها المواعيدُ الواردة في حقه عليه الصلاة والسلام دخولاً أولياً ، والالتفاتُ إلى الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية من موجبات أن لا يغالبه أحدٌ في فعلٍ من الأفعال ولا يقعَ منه تعالى خُلْفٌ في قول من الأقوال وقوله تعالى : { وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ المرسلين } جملة قَسَمية جيءَ بها لتحقيق ما مُنحوا من النصر وتأكيدِ ما في ضِمْنه من الوعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لتقرير جميع ما ذكِر من تكذيب الأمم وما ترتّب عليه من الأمور . والجارُّ والمجرور في محل الرفع على أنه فاعل إما باعتبار مضمونِه أي بعضُ نبأ المرسلين كما مر في تفسير قوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله } الآية ، وأياً ما كان فالمرادُ بنَبَئِهم عليهم السلام على الأول نصرُه تعالى إياهم بعد اللُّتيا والتي ، وعلى الثاني جميعُ ما جرى بينهم وبين أممهم على ما ينبىء عنه قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأساء والضراء وَزُلْزِلُواْ } الآية ، وقيل : في محل النصب على الحالية من ( الضمير ) المستكنِّ في جاء العائدِ إلى ما يُفهم من الجملة السابقة أي ولقد جاءك هذا الخبر كائناً من نبأ المرسلين .(2/355)
وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
{ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ } كلامٌ مستأنفٌ مَسوق لتأكيد إيجاب الصبر المستفاد من التسلية ببيان أنه أمرٌ لا محيدَ عنه أصلاً أي إن كان عظُم عليك وشقَّ إعراضُهم عن الإيمان بما جئت به من القرآن الكريم حسبما يُفصح عنه ما حُكي عنهم من تسميتهم له أساطيرَ الأولين وتنائيهم عنه ونهْيِهمُ الناسَ عنه ، وقيل : إن الحارثَ بنَ عامرِ بنِ نوفلَ بنِ عبدِ منافٍ أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في محضر من قريش ، فقال : يا محمدُ ائتنا بآيةٍ من عند الله كما كانت الأنبياءُ تفعل وأنا أصدقك فأبى الله أن يأتي بآية مما اقترحوا ، فأعرضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق ذلك عليه لما أنه عليه الصلاة والسلام كان شديدَ الحِرْص على إيمان قومه ، فكان إذا سألوا آيةً يودّ أن يُنزِلها الله تعالى طمعاً في إيمانهم فنزلت ، فقوله تعالى : { إِعْرَاضُهُمْ } مرتفعٌ بكبُرَ وتقديم الجار والمجرور عليه لما مر مراراً من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخَّر ، والجملة في محل النصب على أنها خبر لكان مفسرة لاسمها الذي هو ضميرُ الشأن ولا حاجة إلى تقدير قد ، وقيل : اسم كان إعراضُهم وكبر جملة فعلية في محل النصب على أنها خبر لها مقدم على اسمها لأنه فعلٌ رافع لضميرٍ مستتر كما هو المشهور وعلى التقديرين فقوله تعالى :
{ فَإِن استطعت } الخ ، شرطيةٌ أخرى محذوفةُ الجواب وقعتْ جواباً للشرط الأول ، والمعنى إن شق عليك إعراضُهم عن الإيمان بما جئت به من البينات وعدمُ عدِّهم لها من قبيل الآيات وأحببتَ أن تجيبهم إلى ما سألوه اقتراحاً فإن استطعت { أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً } أي سَرَباً ومنفَذاً { فِى الارض } تنفُذ فيه إلى جَوفها { أَوْ سُلَّماً } أي مصعداً { فِى السماء } تعرج به فيها { فَتَأْتِيَهُمْ } منهما { بِئَايَةٍ } مما اقترحوه فافعلْ وقد جُوِّز أن يكون ابتغاؤهما نفسَ الإتيان بالآية فالفاء في ( فتأتيَهم ) حينئذ تفسيرية وتنوينُ ( آية ) للتفخيم أي فإن استطعت أن تبتغيَهما فتجعلَ ذلك آيةً لهم فافعل ، والظرفان متعلقان بمحذوفين هما نعتان ( لِنفقاً وسلماً ) والأول لمجرد التأكيد إذ النفقُ لا يكون إلا في الأرض ، أو بتبتغي ، وقد جُوِّز تعلقُهما بمحذوف وقع حالاً من فاعل تبتغي أي أن تبتغي نفقاً كائناً أنت في الأرض أو سلماً كائناً في السماء ، وفيه من الدلالة على تبالُغِ حِرْصِه عليه الصلاة والسلام على إسلام قومه وتراميه إلى حيث لو قدَر على أن يأتيَ بآيةٍ من تحت الأرض أو من فوق السماء لفعل رجاءً لإيمانهم ما لا يخفى ، وإيثار الابتغاءِ على الاتخاذ ونحوه للإيذان بأن ما ذُكر من النفق والسُلّم مما لا يُستطاع ابتغاؤه فكيف باتخاذه .
{ وَلَوْ شَاء الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى } أي لو شاء الله تعالى أن يجمعهم على ما أنتم عليه من الهُدى لفعله بأن يوقِّفهم للإتيان فيؤمنوا معكم ولكن لم يشأ لعدم صَرفِ اختيارِهم إلى جانب الهُدى مع تمكنِّهم التامِّ منه في مشاهدتهم للآياتِ الداعية إليه لا أنه تعالى لم يوقِّفْهم له مع توجُّهِهِم إلى تحصيله .(2/356)
وقيل : لو شاء الله لجمعهم عليه بأن يأتيَهم بآيةٍ ملجئةٍ إليه ولكن لم يفعلْه لخروجه عن الحِكْمة .
وقوله تعالى : { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين } نهيٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان عليه من الحرص الشديدِ على إسلامهم والميل إلى إتيان ما يقترحونه من الآيات طمعاً في إيمانهم ، مرتَّبٌ على بيان عدمِ تعلّق مشيئته تعالى بهدايتهم ، والمعنى وإذا عرفت أنه تعالى لم يشأ هدايتهم وإيمانهم بأحد الوجهين فلا تكونَنَّ بالحرص الشديدِ على إسلامهم أو الميلِ إلى نزول مقترحاتِهم من الجاهلين بدقائق شؤونِه تعالى التي من جملتها ما ذُكر من عدم تعلُّق مشيئتِه تعالى بإيمانهم ، أما اختياراً فلعدم توجُّههم إليه ، وأما اضطراراً فلخُروجه عن الحكمة التشريعيةِ المؤسسةِ على الاختيار ، ويجوز أن يُرادَ بالجاهلين على الوجه الثاني المقترِحون ، ويُراد بالنهْي منعُه عليه الصلاة والسلام من المساعدة على اقتراحهم ، وإيرادُهم بعُنوان الجهل دون الكفر ونحوِه لتحقيق مَناطِ النهْي الذي هو الوصفُ الجامع بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم .(2/357)
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
{ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ } تقريرٌ لما مر من أن على قلوبهم أكنةً مانعة من الفقه ، وفي آذانهم وَقراً حاجزاً من السماع ، وتحقيقٌ لكونهم بذلك من قبيل الموتى لا يُتصور منهم الإيمانُ البتةَ ، والاستجابةُ الإجابةُ المقارنة للقَبول ، أي إنما يَقبلُ دعوتَك إلى الإيمان الذين يسمعون ما يلقى إليهم سماعَ تفهمٍ وتدبُّر دون الموتى الذين هؤلاء منهم كقوله تعالى : { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى }
وقوله تعالى : { والموتى يَبْعَثُهُمُ الله } تمثيلٌ لاختصاصه تعالى بالقدرة على توفيقهم للإيمان باختصاصه تعالى بالقدرة على بعث الموتى من القبور ، وقيل : بيانٌ لاستمرارهم على الكفر وعدمِ إقلاعهم عنه أصلاً على أن الموتى من القبور .
وقيل : بيان مستعارٌ للكفرة بناءً على تشبيه جهلهم بموتهم ، أي وهؤلاء الكفرة يبعثهم الله تعالى من قبورهم { ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } للجزاء ، فحينئذ يستجيبون وأما قبل ذلك فلا سبيل إليه وقرىء ( يَرْجِعون ) على البناء للفاعل من رجَع رُجوعاً والمشهورُ أوفى بحق المقام لإنبائه عن كون مرجِعِهم إليه تعالى بطريق الاضطرار .(2/358)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)
{ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } حكايةٌ لبعضٍ آخَرَ من أباطيلهم بعد حكايةِ ما قالوا في حق القرآن الكريم وبيانِ ما يتعلّق به والقائلون رؤساءُ قريشٍ وقيل : الحارثُ بنُ عامر بنِ نَوْفلَ وأصحابُه ، ولقد بلغت بهم الضلالةُ والطغيان إلى حيث لم يقتنعوا بما شاهدوه من البينات التي تخِرُّ لها صمُّ الجبال حتى اجترأوا على ادِّعاء أنها ليست من قبيل الآياتِ وإنما هي ما اقترحوه من الخوارقِ الملجئةِ أو المُعْقِبة للعذاب كما قالوا : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء } الآية ، والتنزيل بمعنى الإنزال كما ينبىء عنه القراءة بالتخفيف فيما سيأتي ، وما يفيده التعرّض لعنوان ربوبيته تعالى له عليه الصلاة والسلام من الإشعار بالعلّية إنما هو بطريق التعريض بالتهكّم من جهتهم ، وإطلاق الآية في قوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الله قَادِرٌ على أَن يُنَزّلٍ ءايَةً } مع أن المرادَ بها ما هو من الخوارق المذكورةِ لا آيةٌ ما من الآيات ، لفساد المعنى مجاراةً معهم على زعمهم ، ويجوز أن يرادَ بها آيةٌ مُوجبةٌ لهلاكهم كإنزال ملائكةِ العذاب ونحوه على أن تنوينها للتفخيم والتهويل كما أن إظهارَ الاسمِ الجليل لتربية المهابةِ مع ما فيه من الإشعار بعِلّة القُدرة الباهرةِ ، والاقتصار في الجواب على بيان قدرته تعالى على تنزيلِها مع أنها ليست في حيز الإنكار للإيذان بأن عدمَ تنزيله إياها مع قدرته عليه لحكمةٍ بالغة يجب معرفتها وهم عنها غافلون ، كما ينبىء عنه الاستدراكُ بقوله تعالى : { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي ليسوا من أهل العلم على أن المفعول مطروحٌ بالكلية ، أو لا يعلمون شيئاً على أنه محذوفٌ مدلولٌ عليه بقرينةِ المقام . والمعنى أنه تعالى قادر على أن ينزل آيةً من ذلك أو آيةً أيَّ آية ولكن أكثرهم لا يعلمون فلا يدرون أن عدمَ تنزيلِها مع ظهور قدرتِه عليه لما أن في تنزيلها قلْعاً لأساسِ التكليف المبنيِّ على قاعدة الاختيار ، أو استئصالاً لهم بالكلية فيقترحونها جهلاً ويتخذون عدم تنزيلها ذريعةً إلى التكذيب ، وتخصيصُ عدم العلم بأكثرهم لما أن بعضَهم واقفون على حقيقة الحال وإنما يفعلون مكابرةً وعناداً .(2/359)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
وقوله تعالى : { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الارض } الخ ، كلامٌ مستأنفٌ مَسوق لبيان كمال قدرتِه عز وجل وشمول علمه وسعةِ تدبيرِه ليكون كالدليل على أنه تعالى قادرٌ على تنزيل الآية ، وإنما لا يُنزِّلُها محافظةً على الحِكَم البالغةِ ، وزيادةُ ( من ) لتأكيد الاستغراق وهي متعلقةٌ بمحذوفٍ هو وصفٌ لدابة مفيد لزيادة التعميم ، كأنه قيل : وما فردٌ من أفراد الدوابِّ يستقرّ في قُطر من أقطار الأرض وكذا زيادةُ الوصف في قوله تعالى : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } مع ما فيه من زيادة التقرير أي ولا طائرٍ من الطيور يطير في ناحية من نواحي الجو بجناحيه كما هو المشاهَدُ المعتاد ، وقرىء ولا طائرٌ بالرفع عطفاً على محل الجار والمجرور كأنه قيل : وما دابة ولا طائر { إِلاَّ أُمَمٌ } أي طوائفُ متخالفةٌ ، والجمع باعتبار المعنى كأنه قيل : وما مِنْ دوابَّ ولا طيرٍ إلا أممِ { أمثالكم } أي كلُّ أمة منها مثلُكم في أن أحوالها محفوظةٌ وأمورَها مقنَّنة ومصالحَها مرعيةٌ جاريةٌ على سَنن السَّداد ، ومنتظمةٌ في سلك التقديرات الإلهية والتدبيراتِ الربانية { مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَىْء } يقال : فرَّط في الشيء أي ضيَّعه وتركه ، قال ساعدة بن حُوَية :
معه سِقاءٌ لا يُفرِّط حملَه ... أي لا يتركه ولا يفارقه ويقال : فرّط في الشيء أي أهمل ما ينبغي أن يكون فيه وأغفله فقوله تعالى : { فِى الكتاب } أي في القرآن على الأول ظرفُ لغوٍ ، وقوله تعالى : { مِن شَىْء } مفعولٌ لفرّطنا و ( من ) مزيدة للاستغراق أي ما تركنا في القرآن شيئاً من الأشياء المُهمّة التي من جملتها بيانُ أنه تعالى مراعٍ لمصالحِ جميعِ مخلوقاته على ما ينبغي ، وعلى الثاني مفعول للفعل ومن شيء في موضع المصدر ، أي ما جعلنا الكتاب مفرَّطاً فيه شيئاً من التفريط بل ذكرنا فيه كلَّ ما لا بد من ذكره . وأياً ما كان فالجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبلها ، وقيل : الكتابُ اللوْح ، فالمراد بالاعتراضِ الإشارة إلى أن أحوالَ الأمم مستقصاةٌ في اللوح المحفوظ غيرُ مقصورة على هذا القدر المُجمل ، وقرىء فَرَطنا بالتخفيف .
وقوله تعالى : { ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ } بيانٌ لأحوال الأمم المذكورة في الآخرة بعد بيان أحوالها في الدنيا . وإيرادُ ضميرها على صيغة جمع العقلاء لإجرائها مُجراهم ، والتعبير عنها بالأمم أي إلى مالك أمورهم يحشرون يوم القيامة كدأبكم لاإلى غيره فيجازيهم فيُنصِفُ بعضَهم من بعض حتى يبلُغ من عدله أن يأخذ للجّماءِ من القَرْناء . وقيل : حشرُها موتها . ويأباه مقامُ تهويلِ الخطب وتفظيعِ الحال .
وقوله تعالى : { والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } متعلق بقوله تعالى : { مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَىْء } والموصول عبارةٌ عن المعهودِين في قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ * الايات } ومحلُه الرفعُ على الابتداء خبرُه ما بعده أي أوردنا في القرآن جميعَ الأمور المهمة وأزَحْنا به العِللَ والأعذارَ والذين كذبوا بآياتنا التي هي منه { صُمٌّ } لا يسمعونها سمعَ تدبرٍ وفهمٍ فلذلك يسمّونها أساطيرَ الأولين ولا يعدّونها من الآيات ويقترحون غيرها { وَبُكْمٌ } لا يقدِرون على أن ينطِقوا بالحق ولذلك لا يستجيبون دعوتك بها وقوله تعالى : { فِى الظلمات } إما متعلقٌ بمحذوفٍ وقع حالاً من المستكنِّ في الخبر كأنه قيل : ضالون كائنين في الظلمات أو صفةً لبكْم أي بُكم كائنون في الظلمات ، والمراد به بيانُ كمالِ عراقتهم في الجهل وسوء الحال فإن الأصمَّ الأبكمَ إذا كان بصيراً ربما يَفهم شيئاً بإشارةِ غيرِه وإن لم يفهَمْه بعبارته ، وكذا يُشعِرُ غيرَه بما في ضميره بالإشارة وإن كان معزولاً عن العبارة ، وأما إذا كان مع ذلك أعمى أو كان في الظلمات فينسدّ عليه بابُ الفهم والتفهيم بالكلية ، وقوله تعالى : { مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ } تحقيقٌ للحق وتقريرٌ لما سبقَ من حالهم ببيانِ أنهم من أهل الطبْعِ لا يتأتَّى منهم الإيمانُ أصلاً ، فمَنْ مبتدأ خبرُه ما بعده ومفعولُ المشيئة محذوفٌ على القاعدة المستمرَّة من وقوعها شرطاً وكونِ مفعولها مضمونَ الجزاء وانتفاءِ الغرابة في تعلقها به أي من يشأ الله إضلالَه أي أن يخلُق فيه الضلالَ يضلِلْه أي يخلُقه فيه ولكن لا ابتداءً بطريق الجبر من غير أن يكون له دخلٌ ما في ذلك بل عند صَرْفِ اختياره إلى كَسْبه وتحصيلِه وقِسْ عليه قوله تعالى : { وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على * صراط مُّسْتَقِيمٍ } لا يضِلُّ من ذهب إليه ولا يزِلُّ من ثبَت قدمُه عليه .(2/360)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
{ قُلْ أَرَأَيْتُكُم } أمرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يُبكِّتَهم ويُلقِمَهم الحجرَ بما لا سبيل لهم إلى النكير ، والكاف حرف جيء به لتأكيد الخطاب لا محلَّ له من الإعراب ومبنى التركيب وإن كان على الاستخبار عن الرؤية قلبية كانت أو بصَرية لكنّ المرادَ به الاستخبارُ عن مُتعلَّقِها أي أخبروني { إِنْ أتاكم عَذَابُ الله } حسبما أتى الأممَ السابقةَ من أنواع العذاب الدنيوي { أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة } التي لا محيصَ عنها البتة { أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ } هذا مناطُ الاستخبار ومحطّ التبكيت وقوله تعالى : { إِن كُنتُمْ صادقين } متعلق بأرأيتكم مؤكِّد للتبكيت كاشفٌ عن كذبهم ، وجوابُ الشرط محذوفٌ ثقةً بدلالة المذكور عليه أي إن كنتم صادقين في أن أصنامكم آلهةٌ كما أنها دعواكم المعروفةُ ، أو إن كنتم قوماً صادقين فأخبروني أغيرَ الله تدعون إن أتاكم عذابُ الله الخ ، فإن صدقهم بأيِّ معنى كان من موجبات إخبارِهم بدعائهم غيرَه سبحانه ، وأما جعلُ الجواب ما يدل عليه قولُه تعالى : { أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ } أعني فادعوه على أن الضمير لغير الله فمُخِلٌّ بجزالة النظم الكريم ، كيف لا والمطلوبُ منهم إنما هو الإخبارُ بدعائهم غيرَه تعالى عند إتيانِ ما يأتي لا نفسُ دعائهم إياه ، وقوله تعالى : { بَلْ إياه تَدْعُونَ } عطفٌ على جملة منفيةٍ ينْبىء عنها الجملةُ التي تعلقَ بها الاستخبارُ إنباءً جلياً كأنه قيل : لا غيرَه تعالى تدعون بل إياه تدعون وقوله تعالى { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ } أي إلى كشفه ، عطفٌ على تدعون أي فيكشفه إثرَ دعائِكم ، وقوله تعالى : { إِن شَاء } أي إن شاء كشفَه لبيانِ أن قبولَ دعائِهم غيرُ مطَّردٍ ، بل هو تابعٌ لمشيئته المبنيةِ على حِكَمٍ خفيةٍ قد استأثر الله تعالى بعلمها فقد يقبلُه كما في بعض دعواتهم المتعلقةِ بكشف العذاب الدنيوي ، وقد لا يقبله كما في بعضٍ آخَرَ منها وفي جميع ما يتعلق بكشف العذابِ الأخرويِّ الذي من جملته الساعةُ . وقوله تعالى : { وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } أي تتركون ما تشركونه به تعالى من الأصنام تركاً كلياً . عطفٌ على تدعون أيضاً وتوسيطُ الكشفِ بينهما مع تقارنهما وتأخُرِ الكشف عنهما لإظهار كمال العنايةِ بشأن الكشفِ والأيذان بترتّبه على الدعاء خاصةً .(2/361)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
وقولُه تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلنَا } كلام مستأنفٌ مَسوقٌ لبيان أن منهم من لا يدعو الله تعالى عند إتيانِ العذاب أيضاً لتماديهم في الغيِّ والضلال لا يتأثرون بالزواجر التكوينية كما لا يتأثرون بالزواجر التنزيلية . وتصديرُه بالجملة القَسَمية لإظهار مزيدِ الاهتمام بمضمونه ، ومفعول ( أرسلنا ) محذوف لما أن مقتضى المقام بيانُ حال المرسَل إليهم لا حالِ المرسلين ، أي وبالله لقد أرسلنا رسلاً { إلى أُمَمٍ } كثيرة { مِن قَبْلِكَ } أي كائنة من زمان قبلَ زمانك { فأخذناهم } أي فكذبوا رسلهم فأخذناهم { بالبأساء } أي بالشدة والفقر { والضراء } أي الضرر والآفات وهما صيغتا تأنيثٍ لا مذكر لهما { لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } أي لكي يدعُوا الله تعالى في كشفها بالتضرّع والتذلل ويتوبوا إليه من كفرهم ومعاصيهم { فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ } أي فلم يتضرعوا حينئذ مع تحقق ما يستدعيه { ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } استدراكٌ عما قبله أي فلم يتضرعوا إليه تعالى برقةِ القلب والخضوع ، مع تحقق ما يدعوهم إليه ، ولكن ظهر منهم نقيضُه حيث قستْ قلوبُهم أي استمرتْ على ما هي عليه من القساوة أو ازدادَتْ قساوةً كقولك : لم يُكرِمْني إذ جئتُه ولكن أهانني { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } من الكفر والمعاصي فلم يُخْطِروا ببالهم أنّ ما اعتراهم من البأساء والضراء ما اعتراهم إلا لأجله وقيل : الاستدراك لبيان أنه لم يكن لهم في ترك التضرُّع عذرٌ سوى قسوةِ قلوبهم والإعجابِ بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم وقوله تعالى : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ } عطفٌ على مقدَّر ينساق إليه النظمُ الكريم أي فانهمَكوا فيه ونسُوا ما ذُكَّروا به من البأساء والضّراء ، فلما نسوه { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء } من فنون النَّعْماء على منهاج الاستدراج ، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : « مُكِر بالقوم ورب الكعبة » وقرىء ( فتّحنا ) بالتشديد للتكثير وفي ترتيب الفتح على النسيان المذكور إشعارٌ بأن التذكر في الجملة غير خالٍ عن النفع ، و ( حتى ) في قوله تعالى : { حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ } هي التي يُبتدأ بها الكلام دخلت على الجملة الشرطية كما في قوله تعالى : { حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا } الآية ونظائرِه ، وهي مع ذلك غاية لقوله تعالى : { فَتَحْنَا } أو لما يدل هم عليه كأنه قيل : ففعلوا ما فعلوا حتى إذا اطمأنوا بما أتيح لهم وبطِروا وأشِروا { أخذناهم بَغْتَةً } أي نزل بهم عذابنا فجأةً ليكون أشدَّ عليهم وقعاً وأفظع هولاً { فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } متحسِّرون غاية الحسرة آيسون من كل خير ، واجمون ، وفي الجملة الاسمية دلالة على استقرارهم على تلك الحالة الفظيعة .(2/362)
فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
{ فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ } أي آخِرُهم بحيث لم يبقَ منهم أحد ، مِنْ دبره دبراً أي تبعه ، ووضعُ الظاهر موضع الضمير للإشعار بعلة الحكم فإن هلاكهم بسبب ظلمهم الذي هو وضعُ الكفر موضعَ الشكر وإقامةُ المعاصي مُقامَ الطاعات { والحمد للَّهِ رَبّ العالمين } على ما جرى عليهم من النَّكال ، فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث أنه تخليصٌ لأهل الأرض من شؤم عقائدِهم الفاسدة ، وأعمالهم الخبيثة نعمةٌ جليلة مستجلِبةٌ للحمد ، لا سيما مع ما فيه من إعلاءِ كلمةِ الحق التي نطقَت بها رسلُهم عليهم السلام .
{ قُلْ أَرَءيْتُمْ } أمرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتكرير التبكيت عليهم وتثنيةِ الإلزامِ بعد تكملةِ الإلزامِ الأولِ ببيان أنه أمرٌ مستمرٌ لم يزَلْ جارياً في الأمم ، وهذا أيضاً استخبارٌ عن متعلَّق الرؤية وإن كان بحسَب الظاهرِ استخباراً عن نفسِ الرؤية { إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وأبصاركم } بأن أصَمّكم وأعماكم بالكلية { وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ } بأن غطى عليها بما لا يبقى لكم معه عقلٌ وفهمٌ أصلاً وتصيرون مجانين ، ويجوز أن يكون الختمُ عطفاً تفسيرياً للأخذ المذكور فإن السمعَ والبصر طريقان للقلب ، منهما يرِدُ ما يرِدُه من المدرَكات ، فأخذُهما سدٌّ لِبابه بالكلية ، وهو السر في تقديم أخذِهما على ختمها ، وأما تقديمُ السمع على الإبصار فلأنه مورِدُ الآياتِ القرآنية ، وإفرادُه لما أن أصله مصدَرٌ وقوله تعالى : { مِنْ إِلَهٌ } مبتدأ وخبرٌ و ( من ) استفهامية ، وقوله تعالى : { غَيْرُ الله } صفةٌ للخبر ، وقوله تعالى : { يَأْتِيكُمْ بِهِ } أي بذاك على أن الضميرَ مستعارٌ لاسم الإشارة ، أو بما أَخَذ وخَتَم عليه ، صفةٌ أخرى له والجملة متعلَّقُ الرؤية ومناطُ الاستخبار أي أخبروني إنْ سلب الله مشاعرَكم من إله غيرُه تعالى يأتيكم بها . وقوله تعالى : { انظر كَيْفَ نُصَرّفُ الايات } تعجيبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم من عدم تأثُّرِهم بما عاينوا من الآيات الباهرةِ أي انظر كيف نكرِّرها ونقرِّرها مصروفةً من أسلوب إلى أسلوب ، تارةً بترتيب المقدِّمات العقلية وتارةً بطريق الترغيب والترهيب ، وتارةً بالتنبيه والتذكير { ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ } عطفٌ على نصرِّف داخلٌ في حكمه ، وهو العُمدة في التعجيب و ( ثم ) لاستبعاد صدوفهم أي إعراضِهم عن تلك الآيات بعد تصريفها على هذا النمط البديعِ الموجبِ للإقبال عليها .
{ قُلْ أَرَأَيْتُكُم } تبكيتٌ آخَرُ لهم بإلجائهم إلى الاعترافِ باختصاص العذاب بهم { إِنْ أتاكم عَذَابُ الله } أي عذابُه العاجلُ الخاصُّ بكم كما أتى مَنْ قبلكم من الأمم { بَغْتَةً } أي فجأةً من غير أن يظهرَ منه مخايِلُ الإتيان وحيثُ تضمّن هذا معنى الخُفية قوبل بقوله تعالى : { أَوْ جَهْرَةً } أي بعد ظهورِ أماراتِه وعلائمه ، وقيل : ليلاً أو نهاراً كما في قوله تعالى : { بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا } لما أن الغالبَ فيما أتى ليلاً البغتةُ وفيما أتى نهاراً الجهرةُ ، وقرىء بغتة أو جهرة وهما في موضع المصدر أي إتيانَ بغتةٍ أو إتيانَ جهرة ، وتقديمُ البغتة لكونها أهولَ وأفظعَ ، وقوله تعالى : { هَلْ يُهْلَكُ } متعلَّق الاستخبار ، والاستفهام للتقرير أي قل لهم تقريراً لهم باختصاص الهلاكِ بهم أخبروني إن أتاكم عذابُه تعالى حسبما تستحقونه هل يُهلك بذلك العذاب إلا أنتم؟ أي هل يُهلك غيرُكم ممن لا يستحقه؟ وإنما وُضع موضعَه { إِلاَّ القوم الظالمون } تسجيلاً عليهم بالظلم وإيذاناً بأن مناطَ إهلاكهم ظلمُهم الذي هو وضعُهم الكفرَ موضعَ الإيمان .(2/363)
وقيل : المرادُ بالظالمين الجنسُ وهم داخلون في الحكم دخولاً أولياً . قال الزجاج : هل يُهلك إلا أنتم ومن أشبهكم؟ ويأباه تخصيصُ الإتيان بهم ، وقيل : الاستفهامُ بمعنى النفي فمتعلَّق الاستخبارِ حينئذ محذوفٌ كأنه قيل : أخبروني إن أتاكم عذابه تعالى بغتة أو جهرة ماذا يكون الحال؟ ثم قيل بياناً لذلك : ما يُهلك إلا القومُ الظالمون أي ما يُهلك بذلك العذاب الخاصِّ بكم إلا أنتم . فمن قيَّد الهلاكَ بهلاك التعذيب والسُخط لتحقيق الحصْرِ بإخراج غيرِ الظالمين لِما أنه ليس بطريقِ التعذيب والسَّخَطِ بل بطريق الإثابة ورفع الدرجة فقد أهمل ما يُجديه واشتغل بما لا يَعنيه وأخلَّ بجزالة النظم الكريم وقرىء هل يَهلِك من الثلاثي .(2/364)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)
{ وَمَا نُرْسِلُ المرسلين } كلام مستأنفٌ مَسوقٌ لبيان وظائفِ منْصِبِ الرسالة على الإطلاق وتحقيقِ ما في عُهدة الرسلِ عليهم السلام ، وإظهارُ أن ما يقترحه الكفرةُ عليه عليه السلام ليس مما يتعلقُ بالرسالة أصلاً ، وصيغةُ المضارع لبيانِ أن ذلك أمرٌ مستمرٌّ جرتْ عليه العادةُ الإلهية ، وقوله تعالى : { إِلاَّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ } حالان مقدّرتان من المُرْسلين أي ما نرسِلُهم إلا مقدَّراً تبشيرُهم وإنذارُهم ففيهما معنى العلةِ الغائيّة قطعاً أي ليبشروا قومَهم بالثواب على الطاعة وينذروهم بالعقاب على المعصية أي ليُخبروهم بالخبر السار والخبرِ الضارّ دنيوياً كان أو أُخروياً من غير أن يكون لهم دخلٌ ما في وقوع المخبَر به أصلاً ، وعليه يدور القصرُ والإلزام أن لا يكون بيان الشرائع والأحكام من وظائف الرسالة ، والفاء في قوله تعالى : { فَمَنْ ءامَنَ وَأَصْلَحَ } لترتيب ما بعدها على ما قبلها و ( من ) موصوله والفاء في قوله تعالى : { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } لشَبَه الموصول بالشرط أي لا خوف عليهم من العذاب الذي أُنذِروه دنيوياً كان أو أخروياً ولا هم يحزنون بفوات ما بُشِّروا به من الثواب العاجل والآجل . وتقديمُ نفْيِ الخوفِ على نفْيِ الحُزْن لمراعاة حقِّ المقام ، وجمعُ الضمائر الثلاثة الراجعة إلى ( من ) باعتبار معناها ، كما أن إفرادَ الضميرَيْن السابقين باعتبار لفظِهما ، أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ، والمرادُ بيانُ دوامِ انتفائِهما لا بيانُ انتفاءِ دوامِهما كما يوهمه كونُ الخبر في الجملة الثانية مضارعاً لما تقرر في موضعه من أن النفيَ وإن دخل على نفس المضارع يُفيد الدوام والاستمرارَ بحسب المقام ، ألا يُرى أن الجملةَ الاسمية تدل بمعونة المقام على استمرار الثبوت فإذا دخل عليها حرفُ النفي دلت على استمرار الانتفاءِ لا على انتفاء الاستمرار ، كذلك المضارعُ الخالي عن حرف النفي يفيد استمرارَ الثبوت فإذا دخل عليه حرفُ النفي يفيد استمرارَ الانتفاء لا انتفاء الاستمرار ولا بُعْد في ذلك ، فإن قولك : ما زيداً ضربت مفيدٌ لاختصاص النفي لا نفي الاختصاص ، كما بُيّن في محله .(2/365)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
وقوله عز وجل : { والذين كَذَّبُواْ } عطفٌ على مَنْ آمن داخلٌ في حكمه وقوله تعالى : { بئاياتنا } إشارة إلى أن ما ينطِقُ له الرسلُ عليهم السلام عند التبشير والإنذار ويبلّغونه إلى الأمم آياتُه تعالى ، وأن من آمن به فقد آمن بآياته تعالى ، ومن كذب به فقد كذب بها ، وفيه من الترغيب في الإيمان والتحذيرِ عن تكذيبه ما لا يخفى . والمعنى ما نرسل المرسلين إلا ليُخبروا أممهم من جهتنا بما سيقع منا من الأمور السارّة والضارّة لا ليُوقعوها استقلالاً من تلقاء أنفسهم ، أو استدعاءً من قِبَلِنا ، حتى يقترحوا ، فإذا كان الأمرُ كذلك فمن آمن بما أَخبروا به من قبلنا تبشيراً أو إنذاراً في ضمن آياتنا ، وأصلح ما يجب إصلاحُه من أعماله ، أو دخل في الصلاح فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون . والذين كذبوا بآياتنا التي بُلِّغوها عند التبشير والإنذار { يَمَسُّهُمُ العذاب } أي العذاب الذي أُنذِروه عاجلاً ، أو آجلاً ، أو حقيقةُ العذاب وجنسُه المنتظمُ له انتظاماً أولياً { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } أي بسبب فسقهم المستمر الذي هو الإصرارُ على الخروج عن التصديق والطاعة .
{ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله } استئنافٌ مبنيٌّ على ما أسِّسَ من السنة الإلهية في شأنِ إرسالِ الرسل وإنزالِ الكتُب ، مَسوقٌ لإظهار تبرِئتِه صلى الله عليه وسلم عما يدورُ عليه مقترحاتُهم ، أي قل للكفرة الذين يقترحون عليك تارةً تنزيلَ الآياتِ وأخرى غيرَ ذلك لا أدَّعي أن خزائنَ مقدوراتِه تعالى مُفوَّضةٌ إلي أتصرَّفُ فيها كيفما أشاء استقلالاً أو استدعاءً ، حتى تقترحوا عليّ تنزيلَ الآياتِ أو إنزالَ العذاب ، أو قلبَ الجبال ذهباً ، أو غيرَ ذلك مما لا يليق بشأني ، وجعلُ هذا تبرُّؤاً عن دعوى الإلهية مما لا وجهَ له قطعاً ، وقوله تعالى : { وَلا أَعْلَمُ الغيب } عطفٌ على محلَّ ( عندي خزائنُ الله ) ، أي لا أدّعي أيضاً أني أعلم الغيبَ من أفعاله تعالى حتى تسألوني عن وقت الساعة أو وقت نزول العذاب أو نحوهما { وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ } حتى تكلفوني من الأفاعيل الخارقةِ للعادات ما لا يُطيق البشرُ من الرُقيِّ في السماء ونحوه ، أو تعدوا عدمَ اتّصافي بصفاتهم قادحاً في أمري كما ينبىء عنه قولهم : { مَا لهذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى فِى الاسواق } والمعنى إني لا أدَّعي شيئاً من هذه الأشياء الثلاثةِ حتى تقترحوا عليَّ ما هو من آثارها وأحكامها ، وتجعلوا عدمَ إجابتي إلى ذلك دليلاً على عدم صحةِ ما أدَّعيه من الرسالة التي لا تعلُّقَ لها بشيء مما ذُكر قطعاً بل إنما هي عبارةٌ عن تلقِّي الوحْي من جهةِ الله عز وجل ، والعملِ بمقتضاه فحسْب ، حسْبما ينبىء عنه قوله تعالى : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ } لا على معنى تخصيص اتباعه صلى الله عليه وسلم بما يوحى إليه دون غيره بتوجيه القَصْر إلى المفعول بالقياس إلى مفعولٍ آخرَ كما هو الاستعمال الشائعُ الواردُ على توجيه القصْر إلى ما يتعلّق بالفعل باعتبار النفي في الأصل ، والإثبات في القيد ، بل على معنى تخصيص حالِه صلى الله عليه وسلم باتباع ما يوحى إليه بتوجيه القصرِ إلى نفس الفعل بالقياس إلى ما يغرّه من الأفعال ، لكن لا باعتبار النفي والإثباتِ معاً في خصوصية ، فإن ذلك غيرُ ممكن قطعاً ، بل باعتبار النفي فيما يتضمّنه من مُطلق الفعل ، والإثباتِ فيما يقارنه من المعنى المخصوص ، فإنّ كلَّ فعلٍ من الأفعال الخاصَّةِ كنصر مثلاً ينحلّ عند التحقيق إلى معنىً مطلقٍ هو مدلولُ لفظِ الفعل وإلى معنىً خاصَ يقوم به فإن معناه فعَلَ النصْرَ ، يُرشدك إلى ذلك قولُهم : فلانٌ يُعطي ويمنع بمعنى يفعل الإعطاء والمنع ، فموردُ القصر في الحقيقة ما يتعلقُ بالفعل بتوجيه النفي إلى الأصل والإثباتِ إلى القيد ، كأنه قيل : ما أفعلُ إلا اتباعَ ما يوحى إليّ مِنْ غير أن يكون لي مدخَلٌ ما في الوحي أو في الموحى بطريق الاستدعاء ، أو بوجهٍ آخرَ من الوجوه أصلاً .(2/366)
{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاعمى والبصير } مثل للضال والمهتدي على الإطلاق ، والاستفهام إنكاري والمراد إنكارُ استواءِ مَنْ لا يعلم ما ذُكر من الحقائق ومن يعلمُها وفيه من الإشعار بكمالِ ظهورِها ومن التنفير عن الضلالِ والترغيب في الاهتداء ما لا يخفى ، وتكريرُ الأمر لتثنية التبكيتِ وتأكيدِ الإلزام ، وقوله تعالى : { أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } تقريعٌ وتوبيخٌ داخلٌ تحت الأمر ، والفاء للعطف على مقدَّر يقتضيه المقام ، أي ألا تسمعون هذا الكلامَ الحقَّ فلا تتفكرون فيه ، أو أتسمعون فلا تتفكرون فيه ، فمناطُ التوبيخِ في الأول عدمُ الأمرَيْنِ معاً ، وفي الثاني عدم التفكر مع تحقق ما يُوجبه .(2/367)
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
{ وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إلى رَبّهِمْ } بعد ما حكي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن من الكفرة قوماً لا يتعظون بتصريف الآيات الباهرة ، ولا يتأثرون بمشاهدة المعجزات القاهرة ، قد إيفت مشاعرُهم بالكلية ، والتحقوا بالأموات ، وقرَّر ذلك بأن كرَّر عليهم من فنون التبكيت والإلزام ما يُلقِمُهم الحجرَ أيَّ إلقامٍ فأبَوا إلا الإباءَ والنكيرَ ، وما نجَع فيهم عِظةٌ ولا تذكير ، وما أفادهم الإنذارُ إلا إصراراً على الإنكار ، أُمر عليه الصلاة والسلام بتوجيه الإنذار إلى مَنْ يتوقعُ منهم التأثرَ في الجملة وهم المجوِّزون منهم لحشر على الوجه الآتي ، سواء كانوا جازمين بأصله كأهل الكتاب وبعضِ المشركين المعترفين بالبعث ، المتردِّدين في شفاعة آبائهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كالأولين أو في شفاعة الأصنام كالآخِرين أو متردّدين فيهما معاً كبعض الكفرة الذين يُعلم من حالهم أنهم إذا سمعوا بحديث البعث يخافون أن يكون حقاً ، وأما المنكرون للحشر رأساً والقائلون به القاطعون بشفاعة آبائهم أو بشفاعة الأصنام فهم خارجون ممن أُمر بإنذراهم ، وقد قيل : هم المفرِّطون في الأعمال من المؤمنين ، ولا يساعده سِباقُ النظم الكريم ولا سياقه ، بل فيه ما يقضي باستحالة صحته كما ستقف عليه ، والضميرُ المجرورُ لما يوحى أو لما دل هو عليه من القرآن ، والمفعولُ الثاني للإنذار إما العذابَ الأخرويَّ المدلولَ عليه بما في حيز الصلة وإما مطلقَ العذاب الذي ورد به الوعيدُ ، والتعرّضُ لعنوان الربوبية المُنْبئة عن المالكيةِ المطلقةِ والتصرّف الكليِّ لتربية المهابة وتحقيق المخافة ، وقوله تعالى : { لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ } في حيز النصْب على الحالية من ضمير ( يُحشروا ) ، و ( من ) متعلقةٌ بمحذوف وقع حالاً من اسم ليس ، لأنه في الأصل صفة له فلما قدم عليه انتصب حالاً ، خلا أن الحال الأولى لإخراج الحشر الذي لم يقيد بها عن حيز الخوف ، وتحقيقِ أن ما نيط به الخوفُ هو الحشر على تلك الحالة لا الحشرُ كيفما كان ، ضرورةَ أن المعترفين به الجازمين بنُصرة غيرِه تعالى بمنزلةِ المنكرين له في عدم الخوفِ الذي عليه يدورُ أمرُ الإنذار ، وأما الحالُ الثانية فليست لإخراج الوليِّ الذي لم يقيَّد بها عن حيز الانتفاء لفساد المعنى لاستلزام ثبوتِ ولايتِه تعالى لهم كما في قوله تعالى : { وَمَا لَكُم مّن دُونِ الله مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ } بل لتحقيق مدارِ خوفهم وهو فُقدان ما علّقوا به رجاءَهم ، وذلك إنما هو ولايةُ غيرِه سبحانه وتعالى في قوله تعالى : { وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الارض وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } والمعنى أنذر به الذين يخافون أن يُحشروا غيرَ منصورين من جهة أنصارهم على زعمهم ، ومن هذا اتضح ألا سبيلَ إلى كون المرادِ بالخائفين المفرِّطين من المؤمنين ، إذ ليس لهم وليٌّ سواه تعالى ليخافوا الحشرَ بدون نُصرته وإنما الذين يخافون الحشرَ بدون نصرته عز وجل ، وقوله تعالى : { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } تعليل الأمر ، أي أنذِرْهم لكي يتقوا الكفرَ والمعاصيَ أو حال من ضمير الأمر ، أي أنذِرْهم راجياً تقواهم أو مِن الموصول أي أنذرهم مرجواً منهم التقوى .(2/368)
وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
{ وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشى } لما أُمر صلى الله عليه وسلم بإنذار المذكورين لينتظموا في سلك المتقين نُهِيَ صلى الله عليه وسلم عن كون ذلك بحيث يؤدي إلى طردهم . رُوي أن رؤساءَ من المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو طردتَ هؤلاء الأعبُدَ وأرواحَ جبابهم يعنون فقراءَ المسلمين كعمارٍ وصهيبٍ وخبابٍ وسَلمانَ وأضرابهم رضي الله تعالى عنهم جلسنا إليك وحادثناك . فقال صلى الله عليه وسلم : " ما أنا بطارد المؤمنين " فقالوا : فأقِمْهم عنا إذا جئنا ، فإذا قُمنا فأقعِدْهم معك إن شئت ، قال صلى الله عليه وسلم : «نعم» طمعاً في إيمانهم . ورُوي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال له عليه الصلاة والسلام : " لو فعلتَ حتى تنظرَ إلى ما يصيرون؟ " وقيل : إن عُتبةَ بنَ ربيعةَ وشيبةَ بنَ ربيعةَ ومُطعِمَ بنَ عديَ والحارثَ بنَ نوفل وقرصةَ بنَ عبيد وعمروَ بنَ نوفل وأشرافَ بني عبد مناف من أهل الكفر أتَوا أبا طالب فقالوا : يا أبا طالب لو أن ابنَ أخيك محمداً يطرُد مواليَنا وحلفاءنا وهم عبيدُنا وعتقاؤُنا كان أعظمَ في صدورنا ، وأدنى لاتّباعنا إياه ، فأتى أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كلموه ، فقال عمر رضي الله عنه : لو فعلتَ ذلك حتى تنظرَ ما الذي يريدون ، وإلامَ يصيرون؟ وقال سلمان وخباب : فينا نزلت هذه الآية ، جاء الأقرعُ بنُ حابسٍ التميمي وعُيَيْنةُ بنُ حِصْنٍ الفزاريُّ وعباسُ بنُ مِرْداسٍ وذووهم من المؤلفة قلوبُهم فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم جالساً مع أناسٍ من ضعفاءِ المؤمنين ، فلما رأوهم حوله صلى الله عليه وسلم حقَروهم فأتَوْه عليه الصلاة والسلام فقالوا : يا رسول الله لو جلستَ في صدر المسجد ، ونفَيْتَ عنا هؤلاء وأرواحَ جبابهم فجالسناك وحادثناك وأخذنا عنك فقال صلى الله عليه وسلم : " ما أنا بطارد المؤمنين " قالوا : فإنا نحب أن تجعل لنا معك مجلساً تعرِفْ لنا به العربُ فضلَنا فإن وفودَ العرب تأتيك فنستحي أن ترانا مع هؤلاء الأعبُد ، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا ، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت قال صلى الله عليه وسلم : «نعم» قالوا : فاكتب لنا كتاباً فدعا بالصحيفة وبعليَ رضي الله تعالى عنه ليكتبَ ونحن قعود في ناحية ، فنزل جبريلُ عليه السلام بالآية ، فرمى عليه السلام بالصحيفة ودعانا فأتيناه وجلسنا عنده ، وكنا ندنو منه حتى تمَسَّ رُكَبُنا رُكبتَه ، وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم } فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه وقال : " الحمد لله الذي لم يُمتْني حتى أمرني أن أصبِرَ نفسي مع قومٍ من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات "(2/369)
والمرادُ بذكر الوقتين الدوامُ وقيل : صلاةُ الفجر والعصر وقرىء ( بالغُدوة ) وقوله تعالى : { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } حال من ضمير ( يدعون ) أي يدعونه تعالى مخلصين له فيه ، وتقييدُه به لتأكيد علِّيتِه للنهي ، فإن الإخلاصَ من أقوى موجبات الإكرام المضادِّ للطرد ، وقوله تعالى : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء } اعتراضٌ وسطٌ بين النهي وجوابه تقريراً له ودفعاً لما عسى يُتوَهم كونُه مسوِّغاً لطردهم من أقاويلِ الطاعنين في دينهم ، كدأب قوم نوحٍ حيث قالوا : { مَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرأى } أي ما عليك شيءٌ ما مِنْ حساب إيمانهم وأعمالِهم الباطنة حتى تتصدَّى له وتنْبي على ذلك ما تراه من الأحكام ، وإنما وظيفتُك حسبما هو شأنُ منصِبِ النبوة اعتبارُ ظواهرِ الأعمال وإجراءُ الأحكام على موجبها ، وأما بواطنُ الأمور فحسابُها على العليم بذات الصدور كقوله تعالى : { إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّى } وذكرُ قوله تعالى : { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء } مع أن الجوابَ قد تم بما قبله للمبالغة في بيان انتفاءِ كون حسابِهم عليه صلى الله عليه وسلم بنظمه في سِلْك ما لا شُبهة فيه أصلاً ، وهو انتفاءُ كونِ حسابه عليه السلام عليهم على طريقة قولِه تعالى : { لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } وأما ما قيل من أن ذلك لتنزيل الجملتين منزلةَ جملةٍ واحدةٍ لتأدية معنى واحدٍ على نهج قوله تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } فغيرُ حقيقٍ بجلالة شأن التنزيل ، وتقديم ( عليك ) في الجملة الأولى للقصد إلى إيراد النفي على اختصاص حسابهم به صلى الله عليه وسلم إذ هو الداعي إلى تصدّيه عليه الصلاة والسلام لحسابهم ، وقيل : الضمير للمشركين ، والمعنى : أنك لا تؤاخَذُ بحسابهم حتى يُهمَّك إيمانُهم ويدعُوَك الحِرْصُ عليه إلى أن تطرُدَ المؤمنين ، وقوله تعالى : { فَتَطْرُدَهُمْ } جواب النفي وقوله تعالى : { فَتَكُونَ مِنَ الظالمين } جواب النهي وقد جُوِّز عطفُه على ( فتطردَهم ) على طريقة التسبيب وليس بذاك .(2/370)
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
{ وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } استئنافٌ مبينٌ لما نشأ عنه ما سبق من النهي ، وذلك إشارة إلى مصدر ما بعده من الفعل الذي هو عبارةٌ عن تقديمه تعالى لفقراء المؤمنين في أمر الدين بتوفيقهم للإيمان مع ما هم عليه في أمر الدنيا من كمال سوء الحال ، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجة المشار إليه ، وبُعْدِ منزلتِه في الكمال ، والكاف مُقحَمَةٌ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارة من الفخامة ، ومحلُها في الأصل النصب على أنه نعتٌ لمصدرٍ مؤكّدٍ محذوف ، والتقدير فتنا بعضَهم ببعض فتوناً كائناً مثلَ ذلك الفتون ، ثم قُدّم على الفعل لإفادة القصْرِ المفيدِ لعدم القصور فقط ، واعتُبرت الكافُ مُقحَمةً فصار نفسَ المصدرِ المؤكدِ لا نعتاً له . والمعنى ذلك الفتونَ الكاملَ البديعَ فتنّا ، أي ابتلَينا بعضَ الناس ببعضهم لا فتوناً غيره ، حيث قدمنا الآخِرين في أمر الدينِ على الأولين المتقدَّمين عليهم في أمر الدنيا تقدماً كلياً ، واللام في قوله تعالى : { لّيَقُولواْ } للعاقبة ، أي ليقول البعضُ الأولون مُشيرين إلى الآخِرين محقِّرين لهم نظراً إلى ما بينهما من التفاوت الفاحشِ الدنيوي ، وتعامياً عما هو مَناطُ التفضيلِ حقيقةً { أَهَؤُلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا } بأن وفّقهم لإصابة الحقِّ ولِما يُسعِدَهم عنده تعالى من دوننا ، ونحن المقدَّمون والرؤساء ، وهم العبيدُ والفقراء ، وغرضُهم بذلك إنكارُ وقوعِ المنِّ رأساً على طريقة قولِهم : { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } لا تحقيرُ الممنونِ عليهم مع الاعتراف بوقوعه بطريق الاعتراضِ عليه تعالى ، وقولُه تعالى : { أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين } ردٌّ لقولهم ذلك وإبطال له ، وإشارةٌ إلى أن مدارَ استحقاقِ الإنعامِ معرفةُ شأنِ النعمةِ والاعترافُ بحق المُنعِم ، والاستفهامُ لتقرير علمه البالغِ بذلك ، أي أليس الله بأعلمَ بالشاكرين لِنِعَمِه حتى تستبعِدوا إنعامَه عليهم؟ وفيه من الإشارة إلى أن أولئك الضعفاءَ عارفون بحقِّ نِعَم الله تعالى في تنزيل القرآنِ والتوفيقِ للإيمان ، شاكرون له تعالى على ذلك مع التعريض بأن القائلين بمعزلٍ من ذلك كله ما لا يخفى .(2/371)
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
{ وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بئاياتنا } هم الذين نُهيَ عن طردهم ، وُصِفوا بالإيمان بآيات الله عز وجل كما وُصفوا بالمداومة على عبادته تعالى بالإخلاص تنبيهاً على إحرازهم لفضيلتَي العلم والعمل ، وتأخيرُ هذا الوصفِ مع تقدمه على الوصف الأولِ لما أن مدارَ الوعدِ بالرحمة والمغفرة هو الإيمانُ بها كما أن مناطَ النهْي عن الطرد فيما سبق هو المداومةُ على العبادة وقوله تعالى : { فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ } أمرٌ بتبشيرهم بالسلامة عن كل مكروهٍ بعد إنذارِ مُقابليهم ، وقيل : بتبليغ سلامِه تعالى إليهم ، وقيل : بأن يبدأَهم بالسلام ، وقوله تعالى : { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } أي قضاها وأوجبَها على ذاته المقدسةِ بطريق التفضّل والإحسانِ بالذات ، لا بتوسُّطِ شيءٍ ما أصلاً ، تبشيراً لهم بسَعَة رحمتِه تعالى ، وبنيل المطالبِ إثرَ تبشيرِهم بالسلامة من المكاره وقبولِه التوبة منهم ، وفي التعرُّض لعُنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميرهم إظهارُ اللطفِ بهم والإشعارُ بعلّة الحُكْم . وقيل : إن قوماً جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا أصبْنا ذُنوباً عِظاماً ، فلم يُردَّ عليهم شيئاً فانصرفوا ، فنزلت وقوله تعالى : { أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً } بدل من الرحمة ، وقرىء بكسر ( إنه ) على أنه تفسيرٌ للرحمة بطريق الاستئناف وقوله تعالى : { بِجَهَالَةٍ } حال من فاعل ( عمل ) أي عمله وهو جاهلٌ بحقيقة ما يتبعه من المضارِّ ، والتقييدُ بذلك للإيذان بأن المؤمنَ لا يباشر ما يعلمُ أنه يؤدي إلى الضرر ، أو عملِه متلبّساً بجهالة { ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ } أي من عمله أو بعد سَفَهِه { وَأَصْلَحَ } أي ما أفسده تدارُكاً وعزْماً على أن لا يعودَ إليه أبداً { فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي فأمرُه أنه غفور رحيم ، وقرىء ( فإنه ) بالكسر على أنه استئنافٌ وقع في صدر الجملة الواقعةِ خبراً ( لمن ) على أنها موصولة أو جواباً لها عن أنها شرطية .(2/372)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)
{ وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الايات } قد مر آنفاً ما فيه من الكلام أي هذا التفصيلَ البديعَ تفصّلُ الآياتِ في صفة أهل الطاعةِ وأهل الإجرام المُصرِّين منهم والأولين { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين } بتأنيث الفعلِ بناءً على تأنيث الفاعل وقرىء بالتذكير بناءً على تذكيره فإن السبيلَ مما يذكر ويؤنث ، وهو عطفٌ على علة محذوفةٍ للفعل المذكورِ لم يُقصَدْ تعليلُه بها بعينها وإنما قُصد الإشعارُ بأن له فوائدَ جمّةً من جملتها ما ذُكر ، أو علةٌ لفعل مقدرٍ هو عبارة عن المذكور فيكون مستأنَفاً أي ولتستبين سبيلَهم نفعلُ ما نفعل من التفصيل . وقرىء بنصب السبيلَ على أن الفعل متعدَ وتاؤُه للخطاب أي ولتستوضح أنت يا محمد سبيلَ المجرمين فتعامِلَهم بما يليق بهم .
{ قُلْ إِنّى نُهِيتُ } أُمر عليه الصلاة والسلام بالرجوع إلى مخاطبة المُصِرّين على الشرك إثرَ ما أُمر بمعاملة مَنْ عداهم من أهل الإنذار والتبشيرِ بما يليق بحالهم أي قل لهم قطعاً لأطماعهم الفارغةِ عن ركونه عليه الصلاة والسلام إليهم ، وبياناً لكون ما هم عليه من الدين هوىً محضاً وضلالاً بحتاً ، إني صُرفتُ وزُجِرْت بما نُصب لي من الأدلة وأُنزل علي من الآيات في أمر التوحيد { أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ } أي عن عبادة ما تعبدونه { مِن دُونِ الله } كائناً ما كان .
{ قُلْ } كَرر الأمرَ مع قرب العهد اعتناءً بشأن المأمور به أو إيذاناً باختلاف المَقولَيْن من حيث إن الأولَ حكايةٌ لِما من جهته تعالى من النهي ، والثاني حكايةٌ لما من جهته صلى الله عليه وسلم من الانتهاء عما ذُكر من عبادة ما يعبدونه وإنما قيل : { لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ } استجهالاً لهم وتنصيصاً على أنهم فيما هم فيه تابعون لأهواءَ باطلةٍ وليسوا على شيء مما ينطلق عليه الدين أصلاً ، وإشعاراً بما يوجب النهيَ والانتهاءَ ، وقوله تعالى : { قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً } استئنافٌ مؤكِّد لانتهائه عما نِخيَ عنه مقرِّر لكونهم في غاية الضلال والغَواية ، أي إن اتبعتُ أهواءكم فقد ضللت ، وقوله تعالى : { وَمَا أَنَاْ مِنَ المهتدين } عطفٌ على ما قبله ، والعدولُ إلى الجملة الاسمية للدلالة على الدوام والاستمرار أي دوامِ النفْي واستمرارِه لا نفْيِ الدوام والاستمرار كما مر مراراً أي ما أنا في شيء من الهدى حين أكون في عِدادهم وقوله تعالى : { قُلْ إِنّى على بَيّنَةٍ } تحقيقٌ للحق الذي عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وبيانٌ لاتّباعه إياه إثرَ إبطالِ الذي عليه الكَفَرةُ وبيانِ عدمِ اتباعِه له والبينةُ الحجةُ الواضحةُ التي تفصِلُ بين الحق والباطل والمرادُ بها القرآنُ والوحْيُ وقيل : هي الحججُ العقلية أو ما يعمُّها ، ولا يساعدُه المقامُ ، والتنوينُ للتفخيم ، وقولُه تعالى : { مّن رَّبّى } متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ ( لبينة ) مؤكّدة لما أفادهه التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من التشريفِ ورفعِ المنزلة ما لا يخفى ، وقولُه تعالى : { وَكَذَّبْتُم بِهِ } إما جملةٌ مستأنفة أو حاليةٌ بتقدير قد أو بدونه ، جيء بها لاستقباح مضمونِها واستبعاد وقوعِه مع تحقق ما يقتضي عدمَه من غاية وضوحِ البينة ، والضميرُ المجرورُ للبينة ، والتذكير باعتبار المعنى المرادِ ، والمعنى إني على بينةٍ عظيمة كائنةٍ من ربي وكذبتم بها وبما فيها من الأخبار التي من جمتلها الوعيدُ بمجيء العذاب ، وقولُه تعالى : { مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } استئنافٌ مبينٌ لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأً لتكذيبهم بها ، وهو عدمُ مجيءِ ما وَعد فيها من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بقولهم :(2/373)
{ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين } بطريق الاستهزاءِ أو بطريق الإلزامِ على زعمهم أي ليس ما تستعجلونه من العذاب الموعودِ في القرآنِ وتجعلون تأخُّرَه ذريعةً إلى تكذيبه في حُكمي وقدرتي حتى أَجيءَ به وأُظهرَ لكم صِدْقَه ، أو ليس أمرُه بمُفوَّضٍ إلي { إِنِ الحكم } أي ما الحكمُ في ذلك تعجيلاً وتأخيراً أو ما الحكمُ في جميع الأشياء ، فيدخُل فيه ما ذُكر دخولاً أولياً { إِلاَ لِلَّهِ } وحده من غير أن يكون لغيره دخْلٌ ما فيه بوجه من الوجوه ، وقولُه تعالى : { يَقُصُّ الحق } أي يَتْبعُه ، بيانٌ لشؤونه تعالى في الحكم المعهودِ أو في جميع أحكامِه المنتظمةِ له انتظاماً أولياً ، أي لا يحكمُ إلا بما هو حقٌّ فيُثبتُ حقيقة التأخير . وقرىء ( يقضي ) فانتصابُ ( الحقَّ ) حينئذٍ على المصدرية أي يقضي القضاءَ الحقَّ أو على المفعولية أي يصنعُ الحقَّ ويدبرُه من قولهم : قضى الدِّرعَ إذا صنعها ، وأصلُ القضاءِ الفصلُ بتمام الأمرِ ، وأصلُ الحُكمِ المنعُ فكأنه يمنعُ الباطل عن معارَضةِ الحقِّ أو الخصمِ عن التعدِّي على صاحبه { وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين } اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله ، مشيرٌ إلى أن قصَّ الحقِّ هاهنا بطريق خاصَ هو الفصلُ بين الحقِّ والباطل ، هذا هو الذي تَسْتَدْعيه جزالةُ التنزيلِ . وقد قيل : إن المعنى إني من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه على حجةٍ واضحةٍ وشاهدِ صدقٍ وكذبتم به أنتم حيث أشركتم به تعالى غيرَه . وأنت خبيرٌ بأن مساقَ النظم الكريمِ فيما سَبق وما لَحِق على وصفهم بتكذيب آياتِ الله تعالى بسبب عدمِ مجيءِ العذاب الموعودِ فيها ، فتكذيبُهم به سبحانه في أمر التوحيد مما لا تعلُّقَ له بالمقام أصلاً .(2/374)
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
{ قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى } أي في قدرتي ومِكْنتي { مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } من العذاب الذي ورد به الوعيد بأن يكون أمرُه مفوّضاً إلي من جهته تعالى { لَقُضِىَ الامر بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } أي بأن ينزِلَ ذلك عليكم إثرَ استعجالِكم بقولكم : متى هذا الوعد ونظائرِه ، وفي بناء الفعل للمفعول من الإيذان بتعيُّن الفاعِلِ الذي هو الله تعالى وتهويلِ الأمر ومراعاةِ حسنِ الأدب ما لا يخفى . فما قيل في تفسيره لأهلكتُكم عاجلاً غضباً لربي ولتخلصْتُ منكم سريعاً بمعزلٍ من تَوْفِيةِ المقام حقَّه . وقولُه تعالى : { والله أَعْلَمُ بالظالمين } اعتراضٌ مقرِّرٌ لِما أفادتْه الجملةُ الامتناعية من انتفاءِ كونِ أمرِ العذابِ مفوَّضاً إليه صلى الله عليه وسلم المستتبِع لانتفاء قضاءِ الأمر ، وتعليلٌ له والمعنى والله تعالى أعلم بحال الظالمين وبأنهم مستحقون للإمهال بطريق الاستدراج لتشديد العذاب ولذلك لم يفوِّضِ الأمرَ إليّ فلم يقضِ الأمرَ بتعجيل العذاب والله أعلم .(2/375)
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب } بيانٌ لاختصاص المقدوراتِ الغيبية به تعالى من حيثُ العلمُ إثرَ بيانِ اختصاصِ كلِّها به تعالى من حيثُ القدرةُ ، والمفاتحُ إما جمعُ مفتَح بفتح الميم وهو المخزَن فهو مستعارٌ لمكان الغيب كأنها مخازِنُ خُزِنت فيها الأمورُ الغيبيةُ يُغلق عليها ويُفْتَح ، وإما جمعُ مفتِح بكسرها ، وهو المفتاح ، ويؤيده قراءةُ مَنْ قرأ ( مفاتيحُ الغيب ) فهو مستعارٌ لما يُتوصَّلُ به إلى تلك الأمورِ بناءً على الاستعارة الأولى ، أي عنده تعالى خاصةُ خزائنِ غُيوبِه أو يُتوصَّلُ به إليها ، وقولُه عز وجل : { لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } تأكيدٌ لمضمونِ ما قبله ، وإيذانٌ بأن المرادَ هو الاختصاصُ من حيث العلمُ لا من حيث القدرةُ ، والمعنى أن ما تستعجلونه من العذاب ليس مقدوراً لي حتى أُلزِمَكم بتعجيله ، ولا معلوماً لديّ لأُخبرَكم وقتَ نزولِه ، بل هو مما يَختصُّ به تعالى قدرةً وعلماً فيُزلُه حسبما تقتضيه مشيئتُه المبنيةُ على الحِكَم والمصالِه ، وقولُه تعالى : { وَيَعْلَمُ مَا فِى البر والبحر } بيان لتعلّق علمِه تعالى بالمشاهَدات إثرَ بيان تعلُّقِه بالمغيَّباتِ تكملةً له وتنبيهاً على أن الكلَّ بالنسبة إلى علمِه المحيطِ سواءٌ في الجَلاءِ ، أي يعلم ما فيهما من الموجودات مُفصّلةً على اختلاف أجناسِها وأنواعِها وتكثُّرِ أفرادِها ، وقولُه تعالى : { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } بيانٌ لتعلُّقه بأحوالها المتغيَّرةِ بعد بيانِ تعلقِه بذواتها ، فإن تخصيصَ حالِ السقوطِ بالذكر ليس إلا بطريق الاكتفاءِ بذكرها عن ذكر سائر الأحوال ، كما أن ذكرَ حالِ الورقةِ وما عُطفَ عليها خاصةً دون أحوالِ سائرِ ما فيهما من فنونِ الموجودات الفائتة للحصر باعتبارِ أنها أُنموذَجٌ لأحوال سائرِها ، وقولُه تعالى : { وَلاَ حَبَّةٍ } عطفٌ على ( ورقةٍ ) وقولُه تعالى : { فِى ظلمات الارض } متعلِّقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لحبة مفيدةٌ لكمال نفوذِ علمِه تعالى أي ولا حبةٍ كائنةٍ في بطونِ الأرض إلا يعلمها ، وكذا قولُه تعالى : { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ } معطوفان عليها داخلان في حُكمها وقولُه تعالى : { إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ } بدلٌ من الاستثناءِ الأول بدلَ الكلِّ ( من الكل ) على أن الكتابَ المُبِينَ عبارةٌ عن علمه تعالى أو بدلَ الاشتمالِ على أنه عبارةٌ عن اللوحِ المحفوظ ، وقرىء الأخيران بالرفع عطفاً على محلِّ ( من ورقة ) وقيل : رفعُهما بالابتداء والخبرُ ( إلا في كتاب مبين ) وهو الأنسبُ بالمقام لشمول الرطبِ واليابس حينئذ لِما ليس من شأنه السقوطُ ، وقد نُقل قراءةُ الرفعِ في ( ولا حبةٌ ) أيضاً .
{ وَهُوَ الذى يتوفاكم باليل } أي يُنيمُكم فيه على استعارة التوفِّي من الإماتة للإنامة لما بين الموتِ والنومِ من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز ، وأصله قبضُ الشيء بتمامه { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار } أي ما كَسَبتم فيه والمرادُ بالليل والنهار الجنسُ المتحققُ في كل فردٍ من أفرادهما ، إذْ بالتوفي والبعثِ الموجودَين فيها يتحققُ قضاءُ الأجلِ المسمَّى المترتبِ عليها لا في بعضِها ، والمرادُ بعلمه تعالى ذلك علمُه قبل الجَرْحِ كما يلوحُ به تقديمُ ذكره على البعث أي يعلم ما تجرَحون بالنهار ، وصيغةُ الماضي للدلالة على التحقّق ، وتخصيصُ التوفي بالليل والجَرْحِ بالنهار مع تحقّق كلَ منهما فيما خُصَّ بالآخر للجَرْي على سَنن العادة { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } أي يوقظكم في النهار ، عطفٌ على يتوفاكم ، وتوسيطُ قوله تعالى : { وَيَعْلَمَ } الخ ، بينهما لبيان ما في بعثهم من عظيمِ الإحسانِ إليهم بالتنبيه على أن ما يكتسبونه من السيئات مع كونها موجبةً لإبقائهم على التوفّي بل لإهلاكهم بالمرة يُفيض عليهم الحياة ويُمهلُهم كما ينبىء عنه كلمةُ التراخي ، كأنه قيل : هو الذي يتوفاكم في جنس الليالي ثم يبعثكم في جنس النهار مع علمه بما ستجرَحون فيها { ليقضى أَجَلٌ مّسَمًّى } معيَّنٌ لكل فردٍ فردٌ بحيث لا يكاد يتخطى أحدٌ ما عُيِّن له طرفةَ عينٍ { ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } أي رجوعُكم بالموت لا إلى غيره أصلاً { ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } بالمجازاة بأعمالكم التي كنتم تعملونها في تلك الليالي والأيامِ ، وقيل : الخطابُ مخصوصٌ بالكفرة ، والمعنى أنكم مُلقَوْن كالجيف بالليل كاسبون للآثام بالنهار ، وأنه تعالى مطّلعٌ على أعمالكم يبعثكم الله من القبور في شأن ما قطعتم به أعمارَكم من النوم بالليل وكسْبِ الآثامِ بالنهار ليقضى الأجلُ الذي سماه وضَرَبه لبعث الموتى وجزائِهم على أعمالهم .(2/376)
وفيه ما لا يخفى من التكلّف والإخلالِ ، لإفضائه إلى كون البعث معلَّلاً بقضاء الأجلِ المضروب له .(2/377)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)
{ وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ } أي هو المتصرِّفُ في أمورهم لا غيرُه يفعل بهم ما يشاء إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة وتعذيباً وإثابةً إلى غير ذلك { وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم } خاصة أيها المكلفون { حَفَظَةً } من الملائكة وهم الكرام الكاتبون و ( عليكم ) متعلقٌ بيُرسل لما فيه من معنى الاستيلاء ، وتقديمُه على المفعول الصريح لما مر مراراً من الاعتناء بالمقدَّم والتشويق إلى المؤخر ، وقيل : متعلقٌ بمحذوفٍ هو حال من ( حفظة ) إذ لو تأخر لكان صفةً أي كائنين عليكم ، وقيل : متعلق بحفظةً والمحفوظُ محذوفٌ على كل حال أي يرسل عليكم ملائكةً يحفظون أعمالَكم كائنةً ما كانت ، وفي ذلك حكمةٌ جميلةٌ ونعمةٌ جليلة لما أن المكلفَ إذا عَلم أن أعماله تُحفظ عليه وتُعرض على رؤوس الأشهادِ كان ذلك أزجرَ له عن تعاطي المعاصي والقبائحِ وأن العبد إذا وثِقَ بلُطف سيّدِه واعتمد على عفوه وسَترِه لم يحتشمه احتشامه من خدمه الواقفين على أحواله و ( حتى ) في قوله تعالى : { حتى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الموت } هي التي يبتدأ بها الكلام وهي مع ذلك تَجعلُ ما بعدها من الجملة الشرطية غايةً لما قبلها كأنه قيل : ويُرسلُ عليكم حفظة يحفَظون أعمالَكم مدةَ حياتكم حتى إذا انتهت مدةُ أحدِكم كائناً مَنْ كان وجاءه أسبابُ الموت ومباديه { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } الآخرون المفوَّضُ إليهم ذلك ، وهم ملكُ الموتِ وأعوانُه وانتهى هناك حِفظُ الحفظة ، وقرىء توفاه ماضياً أو مضارعاً بطرح إحدى التاءين { وَهُمْ } أي الرسل { لاَ يُفَرّطُونَ } أي بالتواني والتأخير ، وقرىء مخففاً من الإفراط أي لا يجاوزون ما حُدّ لهم بزيادة أو نقصان ، والجملة حال من ( رسلنا ) وقيل : مستأنَفةٌ سيقت لبيان اعتنائِهم بما أُمروا به .(2/378)
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
وقوله تعالى : { ثُمَّ رُدُّواْ } عطفٌ على توفته ، والضمير للكلِّ المدلول عليه بأحدكم ، وهو السرُّ في مجيئه بطريق الالتفات تغليباً ، والإفرادُ أولاً والجمعُ آخِراً لوقوع التوفِّي على الانفراد والردِّ على الاجتماع أي ثم ردوا بعد البعث بالحشر { إِلَى الله } أي إلى حكمه وجزائه في موقف الحساب { مولاهم } أي مالكُهم الذي يلي أمورَهم على الإطلاق لا ناصرُهم كما في قوله تعالى : { وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ } { الحق } الذي لا يقضي إلا بالعدل ، وقرىء بالنصب على المدح { أَلاَ لَهُ الحكم } يومئذ صورةً ومعنى لا لأحد غيرِه بوجه من الوجوه { وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين } يحاسب جميعَ الخلائق في أسرعِ زمانٍ وأقصره لا يشغَله حسابٌ ولا شأنٌ عن شأنٍ ، وفي الحديث « إن الله تعالى يحاسب الكلَّ في مقدار حلْبِ شاة »
{ قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظلمات البر والبحر } أي قل تقريراً لهم بانحطاط شركائِهم عن رتبةِ الإلهية مَنْ ينجِّيكم من شدائدهما الهائلةِ التي تُبطل الحواسَّ وتَدْحَض العقولَ ، ولذلك استُعير لها الظلماتُ المبطلةُ لحاسةِ البصَر ، يقال لليوم الشديد : يومٌ مظلم ويومٌ ذو كواكبَ أو من الخسف في البر والغرقِ في البحر ، وقرىء ينْجيكم من الإنجاء والمعنى واحد وقوله تعالى : { تَدْعُونَهُ } نصبٌ على الحالية من مفعول ( ينجِّيكم ) والضميرُ ( لمن ) أي مَن ينجّيكم منها حال كونكم داعين له ، أو من فاعله أي مَنْ ينجِّيكم منها حال كونه مدعواً من جهتكم وقوله تعالى : { تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } إما حالٌ من فاعل تدعونه أو مصدرٌ مؤكِّد له ، أي تدعونه متضرعين جِهاراً ومُسِرِّين أو تدعونه دعاءَ إعلانٍ وإخفاء ، وقرىء ( خِفية ) بكسر الخاء وقوله تعالى : { لَّئِنْ أنجانا } حال من الفاعل أيضاً على تقدير القول أي تدعونه قائلين : لئن أنجيتنا { مِنْ هذه } الشدة والورطة التي عبر عنها بالظلمات { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } أي الراسخين في الشكر المداومين عليه لأجل هذه النعمةِ أو جميع النعماءِ التي من جملتها هذه ، وقرىء لئن أنجانا مراعاة لقوله تعالى : { تَدْعُونَهُ } { قُلِ الله يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ } أُمر صلى الله عليه وسلم بتقرير الجواب مع كونه من وظائفهم للإيذان بأنه متعيِّنٌ عندهم ، ولبناءِ قولِه تعالى : { ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ } عليه ، أي الله تعالى وحده ينجيكم مما تدعونه إلى كشفه من الشدائد المذكورةِ وغيرِها من الغموم والكُرَبِ ثم أنتم بعد ما تشاهدون هذه النعمَ الجليلةَ تشركون بعبادته تعالى غيرَه ، وقرىء يُنْجيكم بالتخفيف .(2/379)
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)
وقوله تعالى : { قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً } استئنافٌ مَسوقٌ لبيان أنه تعالى هو القادرُ على إلقائهم في المهالك إثرَ بيانِ أنه هو المُنْجي لهم منها ، وفيه وعيدٌ ضمنيٌّ بالعذاب لإشراكهم المذكورِ على طريقة قولِه عز وجل : { أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر } إلى قوله تعالى : { أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أخرى } الآية ، و ( عليكم ) متعلقٌ ( بيبعثَ ) وتقديمُه على مفعوله الصريح للاعتناء به والمسارعةِ إلى بيان كون المبعوثِ مما يضرُّهم ، ولتهويل أمْرِ المؤخرِ . وقوله تعالى : { مّن فَوْقِكُمْ } متعلقٌ به أيضاً أو بمحذوف وقع صفةً لعذاباً أي عذاباً كائناً من جهة الفوق كما فَعَل بمن فَعَل من قوم لوطٍ وأصحابِ الفيل وأضرابِهم { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } أو من جهة السُفلِ كما فعل بفِرْعونَ وقارونَ ، وقيل : ( مِنْ فوقكم ) أكابِرُكم ورؤسائِكم و ( من تحت أرجلِكم ) سفلتُكم وعبيدُكم ، وكلمة أو لمنع الخُلوّ دون الجمع ، فلا منْعَ لما كان من الجهتين معاً ، كما فُعل بقوم نوحٍ { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } أي يخلطَكم فِرَقاً متحزّبين على أهواءَ شتّى ، كلُّ فرقةٍ مشايعةٌ لإمامٍ فينشَبُ بينكم القتالُ فتختلطوا في الملاحم كقول الحَماسي :
وكتيبةٍ لبَّستُها بكتيبة ... حتى إذا التَبَسَتْ نفضْتُ لها يدي
{ وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } عطفٌ على ( يبعثَ ) وقرىء بنون العظمة على طريقة الالتفات لتهويل الأمرِ والمبالغةِ في التحذير ، والبعضُ الأولُ الكفارُ والآخَرُ المؤمنون ففيه وعدٌ ووعيد . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنه قال عند قوله تعالى : { عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ } : «أعوذُ بوجهك» . وعند قوله تعالى : { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } : «أعوذ بوجهك» . وعند قوله تعالى : { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } : هذا أهونُ أو هذا أيسرُ» ) . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سألت ربي أن لا يبعثَ على أمتي عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلِهم فأعطاني ذلك ، وسألته أن لا يجعلَ بأسهم بينهم فمنعني ذلك " { انظر كَيْفَ نُصَرّفُ الايات } من حال إلى حال { لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } كي يفقَهوا ويقِفوا على جلية الأمرِ فيرجِعوا عماهم عليه من المكابرة والعِناد .
{ وَكَذَّبَ بِهِ } أي بالعذاب الموعود أو القرآنِ المجيد الناطقِ بمجيئه ، { قَوْمِكَ } أي المعاندون منهم ، ولعل إيرادَهم بهذا العنوان للإيذان بكمالِ سوءِ حالِهم ، فإن تكذيبَهم بذلك مع كونهم من قومه عليه الصلاة والسلام مما يقضي بغاية عَتُوِّهم ومكابرتهم ، وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر مراراً من إظهار الاهتمام بالمقدَّمِ والتشويق إلى المؤخر ، وقوله تعالى : { وَهُوَ الحق } حال من الضمير المجرورِ أي كذبوا به والحال أنه الواقعُ لا محالة ، أو أنه الكتابُ الصادقُ في كل ما نطقَ به ، وقيل : هو استئنافٌ ، وأياً ما كان ففيه دلالةٌ على عِظَم جنايتِهم ونهاية قُبْحِها { قُلْ } لهم منبِّهاً على ما يؤول إليه أمرُهم وعلى أنك قد أديتَ ما عليك من وظائف الرسالة { لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } بحفيظٍ وُكِّلَ إليَّ أمرُكم لأمنَعَكم من التكذيب وأُجبِرَكم على التصديق ، إنما أنا منذرٌ وقد خرجتُ عن العُهدة حيث أخبرتُكم بما سترَونه .(2/380)
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
{ لّكُلّ نَبَإٍ } أي لكل شيءٍ يُنبَأُ به من الأنباء التي من جملتها عذابُكم أو لكلِّ خبرٍ من الأخبار التي من جملتها خبرُ مجيئِه { مُّسْتَقِرٌّ } أي وقتُ استقرارٍ ووقوعٍ البتةَ ، أو وقتُ استقرارٍ بوقوعِ مدلولِه { وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أي حالَ نَبئِكم في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً ، وسوف للتأكيد كما في قوله تعالى : { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ }
{ وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِى ءاياتنا } أي بالتكذيب والاستهزاءِ بها والطعنِ فيها كما هو دأْبُ قريشٍ ودَيدَنُهم { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } بترك مُجالستهم والقيامِ عنهم وقولُه تعالى : { حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ } غايةٌ للإعراض أي استمِرَّ على الإعراضِ إلى أن يخوضوا في حديثٍ غيرِ آياتنا ، والتذكيرُ باعتبار كونها حديثاً فإن وصفَ الحديثِ بمغايرتها مشيرٌ إلى اعتبارها بعُنوان الحديثية وقيل : باعتبار كونِها قرآناً .
{ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان } بأن يشغَلَك فتنسى النهْيَ فتُجالِسَهم ابتداءً أو بقاءً ، وقرىء يُنَسِّينَّك من التَنْسِية { فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى } أي بعد تذكُّرِ النهي { مَعَ القوم الظالمين } أي معهم فوضَعَ المُظهرَ موضِعَ المُضمر نعياً عليهم أنهم بذلك الخوضِ ظالمون ، واضعون للتكذيب والاستهزاءِ موضِعَ التصديق والتعظيم راسخون في ذلك { وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ } رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المسلمين حين نُهوا عن مجالستهم عند خوضِهم في الآيات قالوا : لئن كنا نقول كلما استهزؤا بالقرآن لم نستطِعْ أن نجلِسَ في المسجد الحرام ونطوفَ بالبيت فنزلت . أي ما على الذين يتقون قبائحَ أعمالِ الخائضين وأحوالَهم { مِنْ حِسَابِهِم } أي مما يُحاسَبون عليه من الجرائر { مِن شَىْء } أي شيءٌ ما على أنه في محل الرفع على أنه مبتدأ ، وما تميمية أو اسم لها وهي حجازية و ( من ) مزيدة للاستغراق و ( من حسابهم ) حال منه و ( على الذين يتقون ) في محل الرفع على أنه خبر للمبتدأ أو لما الحجازية على رأي من لا يُجيز إعمالَها في الخبر المقدَّم مطلقاً ، أو في محل النصب على رأي من يجوِّز إعمالَها في الخبر المقدّم عند كونه ظرفاً أو حرف جر .
{ ولكن ذكرى } استدراك من النفي السابق أي ولكن عليهم أن يذكِّروهم ويمنعوهم عما هم عليه من القبائح بما أمكن من العِظة والتذكير ويُظهروا لهم الكراهَةَ والنكيرَ ، ومحل ( ذكرى ) إما النصبُ على أنه مصدرٌ مؤكِّد للفعل المحذوف أي عليهم أن يذكّروهم تذكيراً أو الرفع على أنه مبتدأ محذوفُ الخبر ، أي ولكن عليهم ذكرى { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي يجتنبون الخوضَ حياءً أو كراهةً لمسَاءتهم ، وقد جُوِّز كونُ الضمير للموصول أي يذكّروهم رجاءَ أن يثبُتوا على تقواهم أو يزدادوها .(2/381)
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
{ وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ } الذي كُلِّفوه وأُمروا بإقامة مواجبِه { لَعِباً وَلَهْواً } حيث سخِروا به واستهزأوا أو بنَوْا أمرَ دينهم على ما لا يكادُ يتعاطاه العاقلُ بطريق الجِدّ وإنما يصدُر عنه لو صدَر بطريق اللعِبِ واللهوِ كعبادة الأصنام وتحريمِ البحائرِ والسوائبِ ونحوِ ذلك ، والمعنى أعرضْ عنهم ولا تُبالِ بأفعالهم وأقوالهم وقيل : هو تهديدٌ لهم كقوله تعالى : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ } الآية ، { وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا } واطمأنوا بها حتى زعموا أنْ لا حياةَ بعدها أبداً { وَذَكّرْ بِهِ } أي بالقرآنِ من يصلُح للتذكير { أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ } أي لئلا تُبْسَلَ كقوله تعالى : { أَن تَضِلُّواْ } الآية ، أو مخافةَ أن تُبسَل أو كراهةَ أن تبسل نفوسٌ كثيرة كما في قوله تعالى : { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ } وتُرتَهنَ لسوء عملِها ، وأصلُ الإبسالِ والبَسْل المنعُ ، ومنه أسد باسلٌ لأن فريستَه لا تُفلت منه أو لأنه ممتنَعٌ ، والباسل الشجاع لامتناعه من قِرْنه وهذا بَسْلٌ عليك أي حرام ممنوعٌ وقد جوِّز أن يكون الضميرُ المجرورُ في ( به ) راجعاً إلى الإبسال مع عدم جريان ذكرِه كما في ضمير الشأن وتكون الجملةُ بدلاً منه مفسِّراً له ، لما في الإبهام أولاً والتفسيرِ ثانياً من التفخيم وزيادةِ التقرير كما في قوله :
على جودِه لَضَنَّ بالماء حاتمِ ... بجرّ حاتم على أنه بدل من ضمير جوده فالمعنى وذكر بارتهان النفوس وحبسها بما كسبت وقوله تعالى : { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ } استئنافٌ مَسوقٌ للإخبار بذلك وقيل : في محل النصب على أنه حالٌ من ضمير ( كسبت ) وقيل : في محل الرفع على أنه وصفٌ ( لنفسٌ ) والأظهرُ أنه حالٌ من ( نفسٌ ) فإنه في قوة نفسٌ كافرةٌ أو نفوسٌ كثيرة كما في قوله تعالى : { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ } و ( من دون الله ) متعلقٌ بمحذوف هو حال من ( وليٌّ ) كما بُيِّن في تفسير قوله تعالى : { وَأَنذِرْ بِهِ } الآية ، وقيل : هو خبرٌ لليس فيكون ( لها ) حينئذٍ متعلقاً بمحذوفٍ على البيان { وَإِن تَعْدِلْ } أي إن تَفْدِ تلك النفسُ { كُلَّ عَدْلٍ } أي كلَّ فِداءٍ على أنه مصدرٌ مؤكد { لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا } على إسنادِ الفعلِ إلى الجار والمجرور لا إلى ضمير العدل كما في قوله تعالى : { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } فإنه المَفْدِيُّ به لا المصدرُ كما نحن فيه { أولئك } إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجتهم في سوء الحال ، ومحلُه الرفعُ على الابتداء والخبرُ قوله تعالى : { الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ } والجملةُ مستأنفةٌ سيقت إثرَ تحذيرِهم من الإبسال المذكور لبيان أنهم المبتَلَوْن بذلك أي أولئك المتخِذون دينَهم لعباً ولهواً المغترون بالحياة الدنيا هم الذين أُبسِلوا بما كسبوا ، وقولُه تعالى : { لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ } استئناف آخَرُ مُبينٌ لكيفية الإبسال المذكور وعاقبتِه ، مبنيٌّ على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل : ماذا لهم حين أُبسلوا بما كسبوا؟ فقيل : لهم شرابٌ من ماءٍ مغليَ يتجَرْجَرُ في بطونهم وتتقطَّعُ به أمعاؤهم { وَعَذَابٌ أَلِيمٌ } بنار تشتعل بأبدانهم { بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } أي بسبب كفرهم المستمر في الدنيا وقد جُوِّز أن يكون ( لهم شراب ) الخ ، حالاً من ضمير ( أبسلوا ) وترتيبُ ما ذُكر من العذابَيْن على كفرهم مع أنهم معذبون بسائر معاصيهم أيضاً حسبما ينْطق به قولُه تعالى : { بِمَا كَسَبُواْ } لأنه العُمدةُ في إيجاب العذاب والأهمُ في باب التحذير ، أو أريد بكفرهم ما هو أعمُّ منه ومن مستتْبِعاته من المعاصي والسيئات هذا ، وقد جوِّز أن يكون أولئك إشارةً إلى النفوس المدلولِ عليها ( بنفسٌ ) محلُه الرفعُ بالابتداء والموصولُ الثاني صفتُه أو بدلٌ منه ولهم شراب الخ خبرُه والجملة مَسوقةٌ لبيان تَبِعةِ الإبسال .(2/382)
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
{ قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا } قيل : نزلت في أبي بكر رضي الله عنه حين دعاه ابنه عبدُ الرحمن إلى عبادة الأصنام فتوجيهُ الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للإيذان بما بينهما من الاتصال والاتحادِ تنويهاً بشأن الصّدّيق رضي الله تعالى عنه أي أنعبد متجاوزين عبادةَ الله الجامعِ لجميع صفاتِ الألوهية التي من جملتها القدرةُ على النفع والضرر ما لا يقدِرُ على نفعنا إذا عبدناه ولا على ضَرِّنا إذا تركناه وأدنى مراتبِ المعبوديةِ القُدرةُ على ذلك . وقوله تعالى : { وَنُرَدُّ على أعقابنا } عطفٌ على ( ندعوا ) داخلٌ في حكم الإنكارِ والنفْي أي ونُرَدّ إلى الشرك ، والتعبيرُ عنه بالردِّ على الأعقاب لزيادة تقبيحِه بتصويره بصورةِ ما هو عَلَمٌ في القُبح مع ما فيه من الإشارة إلى كون الشركِ حالةً قد تُركت ونُبذتْ وراءَ الظهر ، وإيثارُ ( نرد ) على نرتد لتوجيه الإنكار إلى الارتداد بردِّ الغير تصريحاً بمخالفة المُضلِّين وقطعاً لأطماعهم الفارغةِ وإيذاناً بأن الارتدادَ من غير رادَ ليس في حيز الاحتمال ليُحتاجَ إلى نفيه وإنكاره ، وقوله تعالى : { بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله } أي إلى الإسلام وأنقذنا من الشرك متعلقٌ بنرُدّ مَسوقٌ لتأكيد النكيرِ لا لتحقيق معنى الرد وتصويرِه فقط وإلا لكفى أن يقالَ : بعد إذ اهتدينا كأنه قيل : ونُرَدّ إلى الشرك بإضلال المضِلّ بعد إذ هدانا الله الذي لا هاديَ سواه وقوله تعالى : { كالذى استهوته الشياطين } في محل النصبِ على أنه حالٌ من مرفوع ( نُرد ) أي أنرد على أعقابنا مشبَّهين بالذي استهوته مَرَدةُ الجن واستغوته إلى المهامِهِ والمهالك ، أو على أنه نعتٌ لمصدر محذوف أي أنُرد رداً مثلَ ردِّ الذي استهوته الخ ، والاستهواءُ استفعال من هَوَى في الأرض إذا ذهب فيها كأنها طلبت هُويَّه وحرصت عليه وقرىء استهواه بألفٍ مُمالة ، وقوله تعالى : { فِى الارض } إما متعلق باستهوته أو بمحذوفٍ هو حال من مفعوله أي كائناً في الأرض وكذا قوله تعالى : { حَيْرَانَ } حال منه على أنها بدلٌ من الأولى أو حال ثانية عند من يجيزها أو من ( الذي ) أو من المستكن في الظرف أي تائهاً ضالاً عن الجادة لا يدري ما يصنع وقوله تعالى : { لَهُ أصحاب } جملة في محل النصب على أنها صفةٌ لحيران أو حالٌ من الضمير فيه أو مستأنفةٌ سيقت لبيان حالِه ، وقوله تعالى : { يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى } صفةٌ لأصحاب أي لذلك المستهوى رفقةٌ يهدونه إلى الطريق المستقيم ، تسميةٌ له بالمصدر مبالغةً كأنه نفس الهدى { ائتنا } على إرادة القول على أنه بدل مِنْ ( يدعونه ) أو حال من فاعله أي يقولون : ائتنا ، وفيه إشارة إلى أنهم مهتدون ثابتون على الطريق المستقيم وأن من يدعونه ليس ممن يعرف الطريق المستقيم ليدعى إلى إتيانه ، وإنما يُدرك سمتَ الداعي ومورِدَ النعيق فقط { قُلْ إِنَّ هُدَى الله } الذي هدانا إليه وهو الإسلام { هُوَ الهدى } وحدَه وما عداه ضلال محضٌ وغيٌّ بحتٌ كقوله تعالى :(2/383)
{ فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال } ونحوِه ، وتكريرُ الأمر للاعتناء بشأن المأمورِ به ولأن ما سبق للزجْرِ عن الشرك وهذا حثٌّ على الإسلام ، وهو توطِئةٌ لما بعده ، فإن اختصاصَ الهُدى بهُداه تعالى مما يوجبُ الامتثالَ بالأوامر الواردةِ بعده { وَأُمِرْنَا } عطفٌ على ( إن هُدى الله هو الهدى ) داخلٌ تحت القول ، واللام في { لِنُسْلِمَ لِرَبّ العالمين } لتعليل الأمر المَحْكيِّ وتعيينِ ما أريد به من الأوامر الثلاثة كما في قوله تعالى : { قُل لّعِبَادِىَ الذين ءامَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ } الآية ، كأنه قيل : أمرنا وقيل لنا : أسلِموا لأجل أن نسلَمَ وقيل : هي بمعنى الباء أي أمرنا بأن نُسلم ، وقيل : زائدة أي أُمرنا أن نُسلم على حذف الباء .(2/384)
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
وقوله تعالى : { وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة واتقوه } أي الله تعالى في مخالفة أمره ، عطفٌ على نُسلم على الوجوه الثلاثة على أنّ أنْ المصدريةَ إذا وُصلت بالأمر يتجرّدُ هو عن معنى الأمر نحوُ تجرُّد الصلةِ الفعليةِ عن معنى المُضيِّ والاستقبال ، فالمعنى على الأول أمرنا أي قيل لنا : أسلموا وأقيموا الصلاة واتقوا الله لأجل أن نُسلمَ ونُقيمَ الصلاة ونتّقِيَه تعالى ، وعلى الأخيرين أمرنا بأن نسلمَ ونقيمَ الصلاة ونتقيَه تعالى والتعرضُ لوصف ربوبيته تعالى للعالمين لتعليل الأمرِ وتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ به كما أن قوله تعالى : { وَهُوَ الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } جملةٌ مستأنفةٌ موجِبةٌ للامتثال بما أَمر به من الأمور الثلاثة .
{ وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والارض } أُريد بخلقهما خلقُ ما فيهما أيضاً ، وعدمُ التصريح بذلك لظهور اشتمالهما على جميع العُلويات والسُفليات ، وقوله تعالى : { بالحق } متعلقٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من فاعل ( خلق ) أو من مفعوله ، أو صفةٌ لمصدرِه المؤكِّد له أي قائماً بالحق أو متلبِّساً بالحق أو متلبساً به . وقوله تعالى : { وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحق } استئنافٌ لبيانِ أنّ خلقَه تعالى لما ذَكر من السمواتِ والأرض ليس مما يَتوقَّفُ على مادّةٍ أو مُدّة بل يتَمّ بمحض الأمرِ التكوينيِّ من غير توقفٍ على شيءٍ آخَرَ أصلاً وأن ذلك الأمرَ المتعلِّقَ بكل فردٍ فردٌ من أفراد المخلوقات في حينٍ معينٍ من أفراد الأحيان حقٌّ في نفسه متضمنٌ للحكمة ، ( ويومَ ) ظرفٌ لمضمون جملةِ ( قولُه الحقُّ ) والواو بحسب المعنى داخلٌ عليها وتقديمُه عليها للاعتناءِ به من حيث إنه مدارُ الحقّيةِ ، وتركُ ذكرِ المقولِ له للثقةِ بغاية ظهوره ، والمرادُ بالقول كلمةُ ( كن ) تحقيقاً أو تمثيلاً كما هو المشهورُ فالمعنى وأمرُه المتعلقُ بكل شيءٍ يريد خلقَه من الأشياء في حينِ تعلّقِه به لا قبلَه ولا بعده من أفراد الأحيان الحقُّ أي المشهودُ له بالحقّية المعروفُ بها ، هذا وقد قيل : ( قوله ) مبتدأ و ( الحق ) صفتُه و ( يوم يقول ) خبرُه مقدماً عليخ كقولك : يومَ الجمعةِ القتالُ وانتصابه بمعنى الاستقرار .
وحاصلُ المعنى قولُه الحقُّ كائنٌ حينَ يقول لشيءٍ من الأشياء كنْ فيكونُ ذلك الشيءُ ، وقيل : يوم منصوبٌ بالعطف على السمواتِ أو على الضمير في ( واتقوه ) أو بمحذوف دل عليه ( بالحق ) وقوله الحق مبتدأ وخبر ، أو فاعلُ ( يكون ) على معنى حين يقول لقوله الحق ، أي لقضائه الحقِّ كن فيكون ، والمرادُ حين يكوِّن الأشياءَ ويُحدِثُها أو حين تقومُ القيامةُ فيكونُ التكوينُ حشرَ الأجساد وإحياءَها فتأملْ حقَّ التأمل .
{ وَلَهُ الملك يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور } تقييدُ اختصاصِ المُلك به تعالى بذلك اليومِ مع عموم الاختصاصِ لجميع الأوقات لغاية ظهورِ ذلك بانقطاعِ العلائقِ المجازيةِ الكائنةِ في الدنيا ، المصحِّحة للمالكيةِ المجازية في الجملة كقوله تعالى : { لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار }
{ عالم الغيب والشهادة } أي هو عالمُهما { وَهُوَ الحكيم } في كلِّ ما يفعله { الخبير } بجميعِ الأمور الجليّة والخفيّة .(2/385)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
{ وَإِذْ قَالَ إبراهيم } منصوب على المفعولية بمضمرٍ خُوطب به النبي عليه الصلاة والسلام معطوفٌ على { قُلْ أَنَدْعُواْ } لا على أقيموا كما قيل لفساد المعنى أي واذكر لهم بعد ما أنكرتَ عليهم عبادةَ ما لا يقدِرُ على نفعٍ وضُرَ وحققتَ أن الهدى هو هدى الله وما يتبعُه من شؤونه تعالى وقتَ قولِ إبراهيمَ الذي يدّعون أنهم على مِلّته موبّخاً { لاِبِيهِ ءازَرَ } على عبادة الأصنام فإن ذلك مما يبكِّتُهم وينادي بفساد طريقتِهم ، وتوجيهُ الأمرِ بالذكر إلى الوقت دون ما وقعَ فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ لما مر مراراً من المبالغة في إيجاب ذكرِها ، وآزرُ بزنةِ آدم وعابَر وعازَر وفالَغ وكذلك تارَحُ ، ذكره محمدُ بنُ إسحاقَ والضحاكُ والكلبيُّ وكان من قريةٍ من سَواد الكوفة ، ومُنعَ صَرْفُه للعُجمة والعَلَمية ، وقيل : اسمُه بالسريانية تارَحُ وآزَرُ لقبُه المشهورُ وقيل : اسمُ صنمٍ لُقِّب هو به للزومه عبادتَه ، فهو عطفُ بيانٍ ( لأبيه ) أو بدلٌ منه وقال الضحاك : معناه الشيخ الهرم ، وقال الزجاج : المُخطىء وقال الفراءُ وسليمانُ التيمي : المعوَجُّ فهو نعتٌ له كما إذا جُعل مشتقاً من الأزْرِ أو الوِزر أو أريد به عابدُ آزرَ على حذف المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامَه وقرىء آزرُ على النداء وهو دليلُ العَلَمية إذ لا يُحذف حرفُ النداء إلا من الأعلام ، { أَتَتَّخِذُ } متعدَ إلى مفعولين هما { أَصْنَاماً آلِهَة } أي أتجعلُها لنفسك آلهةً على توجيه الإنكار إلى اتخاذ الجنس من غير اعتبار الجمعية ، وإنما إيرادُ صيغةِ الجمع باعتبار الوقوعِ ، وقرىء أاَزْراً بفتح الهمزة وكسرها بعد همزة الاستفهام وزاءٍ ساكنةٍ وراءٍ منونةٍ منصوبةٍ وهو اسمُ صنم ، ومعناه أتعبدُ إِءَزْراً ثم قيل : أتتخِذُ أصناماً آلهة؟ تثبيتاً لذلك وتقريراً ، وهو داخل تحت الإنكار لكونه بيناً له ، وقيل : الأزرُ القوة ، والمعنى ألاِءَجْلِ القوة والمظاهَرَةِ تتخذ أصناماً آلهة؟ إنكاراً لتعزُّزِه بها على طريقة قوله تعالى : { أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة } { إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ } الذين يتبعونك في عبادتها { فِى ضلال } عن الحق { مُّبِينٌ } أي بيِّنٌ كونُه ضلالاً لا اشتباهَ فيه أصلاً ، والرؤيةُ إما علميةٌ فالظرفُ مفعولُها الثاني وإما بصَرية فهو حالٌ من المفعول والجملة تعليلٌ للإنكار والتوبيخ .
{ وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم } هذه الإراءةُ من الرؤية البصَريةِ المستعارةِ للمعرفة ونظرِ البصيرة ، أي عرّفناه وبصَّرناه ، وصيغةُ الاستقبال حكايةٌ للحال الماضيةِ لاستحضار صورتِها ، وذلك إشارةٌ إلى مصدرِ ( نُري ) لا إلى إراءةٍ أخرى مفهومةٍ من قوله : ( إني أراك ) وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلوِّ درجة المشارِ إليه وبُعدِ منزلتِه في الفضل وكمال تمييزِه بذلك وانتظامِه بسببه في سلك الأمور المشاهَدة ، والكافُ لتأكيدِ ما أفاده اسمُ الإشارة من الفخامة ، ومحلُها في الأصل النصبُ على أنه نعتٌ لمصدر محذوف وأصل التقدير نُري إبراهيم إراءةً كائنة مثلَ تلك الإراءة فقُدّم على الفعل لإفادة القصر ، واعتبرت الكافُ مقحمةً للنكتة المذكورة فصار المشارُ إليه نفسَ المؤكد لا نعتاً له أي ذلك التبصيرَ البديعَ نبصِّره عليه السلام { مَلَكُوتَ السموات والارض } أي ربوبيته تعالى ومالكيته لهما وسلطانَه القاهرَ عليهما وكونَهما بما فيهما مربوباً ومملوكاً له تعالى لا تبصيراً آخَرَ أدنى منه ، والملكوتُ مصدرٌ على زنة المبالغة كالرَهَبوت والجَبَروت ، ومعناه الملكُ العظيمُ والساطان القاهرُ ، ثم هل هو مختصٌّ بمُلك الله عزَّ سلطانه أو لا فقد قيل ، وقيل : والأول هو الأظهر ، وبه قال الراغب ، وقيل : ملكوتهما عجائبُهما وبدائعهما ، روي أنه كُشف له عليه السلام عن السموات والأرض حتى العرشُ وأسفلُ الأرضين ، وقيل : آياتُهما .(2/386)
وقيل : ملكوتُ السموات : الشمسُ والقمرُ والنجومُ ، وملكوتُ الأرض الجبالُ والأشجار والبحارُ . وهذه الأقوالُ لا تقتضي أن تكون الإراءَةُ بصَريةً إذ ليس المرادُ بإراءةِ ما ذُكر من الأمور الحسية مجردَ تمكينِه عليه السلام من إبصارها ومشاهدتها في أنفسها بل اطلاعَه على حقائقها وتعريفَها من حيثُ دلالتُها على شؤونه عز وجل ، ولا ريبَ في أن ذلك ليس مما يُدرَك حِسّياً كما يُنبىء عنه اسمُ الإشارة المُفصِحُ عن كون المشار إليه أمراً بديعاً ، فإن الإراءة البصَرية المعتادةَ بمعزلٍ من تلك المثابة ، وقرىء ( تُري ) بالتاء وإسنادُ الفعل إلى الملكوت أي تُبصِره عليه السلام دلائل الربوبية واللام في قوله تعالى : { وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين } متعلقةٌ بمحذوفٍ مؤخر ، والجملةُ اعتراضٌ مقرِّر لما قبلها أي وليكون من زُمرة الراسخين في الإيقان البالغين درجةَ عينِ اليقين من معرفة الله تعالى ، فعلنا ما فعلنا من التبصير البديعِ المذكورِ لا لأمرٍ آخرَ فإن الوصولَ إلى تلك الغاية القاصيةِ كمالٌ مترتبٌ على ذلك التبصير لا عينُه وليس القصرُ لبيان انحصار فائدتِه في ذلك ، كيف لا وإرشادُ الخلق وإلزامُ المشركين كما سيأتي من فوائده بلا مرْية بل لبيان أنه الأصلُ الأصيلُ والباقي من مستَتْبِعاته . وقيل : هي متعلقة بالفعل السابق والجملةُ معطوفة على علةٍ أخرى محذوفةٍ ينسحبُ عليها الكلامُ أي ليستدِلَّ بها وليكونَ الخ ، فينبغي أن يُرادَ بملكوتهما بدائعُهما وآياتُهما لأن الاستدلالَ من غاياتِ إراءَتِها لا من غايات إراءةِ نفسِ الربوبية .(2/387)
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
وقوله تعالى : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل } على الأول وهو الحق المبين عطفٌ على ( قال إبراهيم ) داخلٌ تحت ما أُمر بذكره بالأمرِ بذكرِ وقتِه ، وما بينهما اعتراضٌ مقرِّرٌ لما سبق وما لحِق ، فإن تعريفَه عليه السلام ربوبيتَه ومالكيتَه للسمواتِ والأرض وما فيهما وكونَ الكلِّ مقهوراً تحت ملكوتِه مفتقِراً إليه في الوجود وسائرَ ما يترتبُ عليه من الكمالات ، وكونَه من الراسخين في معرفة شؤونه تعالى ، الواصلين إلى ذُروة عينِ اليقين مما يقضي بأن يَحكُم عليه السلام باستحالة إلهية ما سواه سبحانه من الأصنام والكواكب ، وعلى الثاني هو تفصيلٌ لما ذُكر من إراءةِ ملكوتِ السموات والأرض ، وبيانٌ لكيفية استدلالِه عليه السلام ، ووصولِه إلى رتبة الإيقان ، ومعنى ( جَنّ عليه الليلُ ) ستره بظلامه ، وقوله تعالى : { رَأَى كَوْكَباً } جوابُ لمّا ، فإن رؤيتَه إنما تتحقق بزوال نورِ الشمس عن الحسّ ، وهذا صريحٌ في أنه لم يكن في ابتداءِ الطلوع بل كان غَيبتُه عن الحس بطريق الاضمحلال بنور الشمس ، والتحقيقُ أنه كان قريباً من الغروب كما ستعرفه ، قيل : كان ذلك الكوكبُ هو الزُّهُرَة ، وقيل : هو المشتري .
وقوله تعالى : { قَالَ هذا رَبّى } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من ( الجملة ) الشرطيةِ السابقةِ المتفرعة على بيان إراءتِه عليه السلام ملكوتَ السمواتِ والأرض فإن ذلك مما يحمِلُ السامعَ على استكشاف ما ظهرَ منه عليه السلام من آثار تلك الإراءةِ وأحكامِها ، كأنه قيل : فماذا صنعَ عليه السلام حين رأى الكوكب؟ فقيل : قال على سبيل الوضْع والفرضِ : هذا ربي مجاراةً مع أبيه وقومِه الذين كانوا يعبُدون الأصنامَ والكواكب ، فإن المستدِلَّ على فساد قولٍ يحكيه على رأي خصمِه ، ثم يَكُرُّ عليه بالإبطال ، ولعل سلوكَ هذه الطريقة في بيان استحالةِ ربوبيةِ الكواكب دون بيانِ استحالةِ إلهية الأصنام لما أن هذا أخفى بُطلاناً واستحالةً من الأول ، فلو صدَعَ بالحق من أول الأمرِ كما فعله في حقّ عبادةِ الأصنام لتمادَوْا في المكابرة والعِناد ، ولجُّوا في طُغيانهم يعمَهون . وقيل : قاله عليه السلام على وجه النظر والاستدلال ، وكان ذلك في زمان مراهقتِه وأولِ أوانِ بلوغه ، وهو مبنيٌّ على تفسير الملكوتِ بآياتهما ، وعَطْفِ قوله تعالى : { لِيَكُونَ } على ما ذُكر من العلة المقدرة ، وجَعْلِ قوله تعالى : { فَلَمَّا جَنَّ } الخ ، تفصيلاً لما ذُكر من الإراءة وبياناً لكيفية الاستدلال ، وأنت خبير بأن كلَّ ذلك مما يُخِلُّ بجزالة النظمِ الجليل ، وجلالةِ منصِبِ الخليلِ عليه الصلاة والسلام .
{ فَلَمَّا أَفَلَ } أي غرٍب { قَالَ لا أُحِبُّ الافلين } أي الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان ، المتغيرين من حال إلى حال ، المحتجبين بالأستار ، فإنهم بمعزل من استحقاق الربوبيةِ قطعاً .(2/388)
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
{ فَلَمَّا رَأَى القمر بَازِغاً } أي مبتدئاً في الطلوعِ إثرَ غروبِ الكوكب { قَالَ هذا رَبّى } على الأسلوب السابق { فَلَمَّا أَفَلَ } كما أفل النجم { قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى } إلى جَنابه الذي هو الحقُّ الذي لا محيدَ عنه { لاَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين } فإن شيئاً مما رأيته لا يليق بالربوبية ، وهذا مبالغةٌ منه عليه السلام في إظهار النَّصَفة ، ولعله عليه السلام كان إذ ذاك في موضعٍ كان في جانبه الغربيِّ جبلٌ شامخ يستتر به الكوكب والقمر وقت الظهر من النهار أو بعده بقليل ، وكان الكوكب قريباً منه وأُفقُه الشرقيُّ مكشوفٌ أولاً وإلا فطلوعُ القمر بعد أفولِ الكوكب ثم أفولُه قبل طلوع الشمس كما ينبىء عنه قوله تعالى : { فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً } أي مبتدئةً في الطلوع مما لا يكاد يُتصور { قَالَ } أي على النهج السابق { هذا رَبّى } وإنما لم يؤنِّثْ لما أن المشارَ إليه والمحكومَ عليه بالربوبية هو الجِرمُ المشاهَدُ من حيث هو لا من حيث هو مسمّىً باسمٍ من الأسامي فضلاً عن حيثيةِ تسميتِه بالشمس ، أو لتذكير الخبر وصيانةِ الربِّ عن وَصْمة التأنيث ، وقوله تعالى : { هذا أَكْبَرُ } تأكيدٌ لما رامه عليه السلام من إظهار النَّصَفة مع إشارةٍ خفيةٍ إلى فساد دينهم من جهة أخرى ، ببيان أن الأكبرَ أحقُّ بالربوبية من الأصغر { فَلَمَّا أَفَلَتْ } هي أيضاً كما أفل الكوكبُ والقمرُ { قَالَ } مخاطباً للكلِّ صادِعاً بالحق بين أظهُرِهم { قَالَ ياقوم إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ } أي من الذي تشركونه من الأجرام المُحْدَثةِ المتغيرةِ من حالة إلى أخرى المسخَّرة لمحدِثها ، أو من إشراككم ، وترتيبُ هذا الحكمِ ونظيرَيْه على الأفول دون البزوغِ والظهور من ضروريات سَوْق الاحتجاجِ على هذا المَساق الحكيم ، فإن كلاًّ منهما وإن كان في نفسه انتقالاً منافياً لاستحقاق معروضِه للربوبية قطعاً ، لكن لما كان الأولُ حالةً موجبةً لظهور الآثارِ والأحكامِ ملائمةً لتوهُّم الاستحقاقِ في الجملة رُتِّب عليها الحكمُ الأول على الطريقة المذكورة ، وحيث كان الثاني حالة مقتضِيةً لانطماس الآثار وبطلان الأحكام المنافية للاستحقاق المذكور منافاةً بيّنةً يكاد يعترف بها كلُّ مكابرٍ عنيدٍ رُتّب عليها ما رتب ، ثم لما تبرأ عليه السلام منهم توجَّه إلى مبدعِ هذي المصنوعات ومُنشئها .(2/389)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)
فقال :
{ إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السموات } التي هذه الأجرامُ التي تعبدونها من أجزائها { والارض } التي تغيب هي فيها { حَنِيفاً } أي مائلاً عن الأديان الباطلة والعقائدِ الزائغة كلِّها { وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين } في شيء من الأفعال والأقوال { وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ } أي شرَعوا في مغالبته في أمر التوحيد .
{ قَالَ } استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال نشأ من حكاية مُحاجَّتهم ، كأنه قيل : فماذا قال عليه السلام حين حاجّوه؟ فقيل : قال منكِراً لما اجترأوا عليه من مُحاجَّته مع قصورهم عن تلك الرُتبة وعِزّةِ المطلب وقوةِ الخصم { أَتُحَاجُّونّى فِى الله } بإدغام نونِ الجمعِ في نون الوقاية ، وقرىء بحذف الأولى وقوله تعالى : { وَقَدْ هَدَانِ } حال من ضمير المتكلم مؤكِّدة للإنكار ، فإن كونه عليه السلام مَهدِياً من جهة الله تعالى ومؤيَّداً من عنده مما يوجب استحالةَ مُحاجَّتِه عليه السلام أي أتجادلونني في شأنه تعالى ووحدانيّتِه والحال أنه تعالى هداني إلى الحق بعد ما سلكت طريقتَكم بالفرض والتقدير وتبيَّن بُطلانُها تبيناً تاماً كما شاهدتموه ، وقوله تعالى : { وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ } جوابٌ عما خوّفوه عليه السلام في أثناء المُحاجّة من إصابة مكروهٍ من جهة أصنامِهم كما قال لهودٍ عليه السلام قومُه : { إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء } ولعلهم فعلوا ذلك حين فعل عليه السلامُ بآلهتهم ما فعل ، و ( ما ) موصولةٌ اسميةٌ حُذف عائدُها ، وقوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَشَاء رَبّى شَيْئاً } استثناءٌ مفرَّغٌ من أعمِّ الأوقات ، أي لا أخاف ما تشركونه به سبحانه من معبوداتكم في وقتٍ من الأوقات إلا في وقتِ مشيئتِه تعالى شيئاً من إصابة مكروهٍ بي من جهتها ، وذلك إنما هو من جهته تعالى من غير دَخْلٍ لآلهتكم فيه أصلاً ، وفي التعرُّض لعُنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرِه عليه السلام إظهارٌ منه لانقيادِه لحُكمه سبحانه وتعالى ، واستسلامِه لأمره واعترافِه بكَوْنه تحتَ ملَكوتِه ورُبوبيتِه . وقوله تعالى : { وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَىْء عِلْماً } كأنه تعليلٌ للاستثناء ، أي أحاط بكل شيءٍ علماً فلا يبعُد أن يكونَ في علمه تعالى أن يَحيقَ بي مكروهٌ مِنْ قِبَلها بسببٍ من الأسباب ، وفي الإظهار في موضع الإضمارِ تأكيدٌ للمعنى المذكور ، واستلذاذٌ بذكره تعالى { أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } أي أتُعرضون عن التأمل في أن آلهتَكم جماداتٌ غيرُ قادرةٍ على شيء ما مِنْ نفع ولا ضرر؟ فلا تتذكرون أنها غيرُ قادرة على إضراري ، وفي إيراد التذكّرِ دون التفكر ونظائرِهِ إشارةٌ إلى أن أمرَ أصنامِهم مركوزٌ في العقول لا يتوقفُ إلا على التذكر .(2/390)
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)
وقوله تعالى : { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ } استئنافٌ مَسوقٌ لنفي الخوفِ عنه عليه السلام بحسَب زعمِ الكفَرةِ بالطريق الإلزاميِّ كما سيأتي بعد نفيه عنه بحسب الواقع ونفسِ الأمر ، والاستفهامُ لإنكار الوقوعِ ونفيِه بالكلية ، كما في قوله تعالى : { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله } الآية ، لا لإنكار الواقعِ واستبعادِه مع وقوعه ، كما في قوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله } الخ ، وفي توجيه الإنكارِ إلى كيفية الخوفِ من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى نفسه بأن يقالَ أأخافُ لِما أن كلَّ موجود يجب أن يكونَ وجودُه على حال من الأحوال وكيفيةٍ من الكيفيات قطعاً ، فإذا انتفى جميعُ أحواله وكيفياتِه فقد انتفى وجودُه من جميع الجهات بالطريق البرهاني ، وقوله تعالى : { وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله } حال من ضمير ( أخاف ) بتقدير مبتدأ والواوُ كافيةٌ في الربط من غير حاجة إلى الضمير العائد إلى ذي الحال ، وهو مقرِّرٌ لإنكار الخوفِ ونفيِه عنه عليه السلام ومُفيدٌ لاعترافهم بذلك ، فإنهم حيث لم يخافوا في محلِّ الخوف فلأَنْ لا يَخافُ عليه السلام في محل الأمنِ أولى وأحرى ، أي كيف أخافُ أنا ما ليس في حيز الخوفِ أصلاً وأنتم لا تخافون غائلةَ ما هو أعظمُ المخلوقات وأهولُها ، وهو إشراكُكم بالله الذي ليس كمثله شيءٌ في الأرض ولا في السماء ما هو من جملة مخلوقاته ، وإنما عبّر عنه بقوله تعالى : { مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ } أي بإشراكه { عَلَيْكُمْ سلطانا } على طريقة التهكّم مع الإيذان بأن الأمورَ الدينية لا يُعوَّل فيها إلا على الحُجة المنزلةِ من عند الله تعالى ، وفي تعليق الخوفِ الثاني بإشراكهم من المبالغةِ ومراعاةِ حسنِ الأدب ما لا يخفى .
هذا ، وأما ما قيل من أن قوله تعالى : { وَلاَ تَخَافُونَ } الخ ، معطوفٌ على أخاف داخل معه في حكم الإنكار والتعجيب فمما لا سبيلَ إليه أصلاً ، لإفضائه إلى فساد المعنى قطعاً ، كيف لا وقد عرَّفتُك أن الإنكارَ بمعنى النفي بالكلية فيؤول المعنى إلى نفي الخوفِ عنه عليه الصلاة والسلام ، ونفي نفيه عنهم ، وأنه بيِّنُ الفساد ، وحملُ الإنكارِ في الأول على معنى نفي الوقوعِ وفي الثاني على استبعاد الواقع مما لا مَساغَ له ، على أن قوله تعالى : { فَأَىُّ الفريقين أَحَقُّ بالامن } ناطقٌ ببُطلانه حتماً ، فإنه كلام مرتَّبٌ على إنكار خوفِه عليه الصلاة والسلام في محل الخوف ، مَسوقٌ لإلجائهم إلى الاعتراف باستحقاقه عليه الصلاة والسلام لما هو عليه من الأمن ، وبعدم استحقاقِهم لما هم عليه ، وإنما جيءَ بصيغة التفضيلِ المُشعِرَةِ باستحقاقهم له في الجملة لْاستنزالهم عن رُتبة المكابرةِ والاعتسافِ بسَوْق الكلام على سَنن الإنصاف ، والمرادُ بالفريقين الفريقُ الآمنُ في محل الأمن والفريقُ الآمنُ في محلِّ الخوف ، فإيثارُ ما عليه النظمُ الكريم على أن يُقال فأيُّنا أحقُّ بالأمن أنا أم أنتم؟ لتأكيد الإلجاءِ إلى الجواب الحقِّ بالتنبيه على علّة الحُكم ، والتفادي عن التصريح بتخطئتهم لا لمجردِ الاحترازِ عن تزكية النفس { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } المفعولُ إما محذوفٌ تعويلاً على ظهوره بمعونه المقام ، أي إن كنتم تعلمون من أحقُّ بذلك ، أو قصداً إلى التعميم أي إن كنتم تعلمون شيئاً ، وإما متروكٌ بالمرة ، أي إن كنتم مِنْ أوُلي العلم ، وجوابُ الشرط محذوفٌ أي فأخبروني .(2/391)
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
{ الذين آمَنُواْ } استئنافٌ من جهته تعالى مبينٌ للجواب الحقِّ الذي لا محيدَ عنه أي الفريقُ الذين آمنوا { وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم } ذلك أي لم يخلِطوه { بِظُلْمٍ } أي بشركٍ كما يفعلُه الفريقُ المشركون حيث يزعُمون أنهم يؤمنون بالله عز وجل وأن عبادتَهم للأصنام من تتماتِ إيمانهم وأحكامِه لكونها لأجْل التقريبِ والشفاعة كما قالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى } وهذا معنى الخلْطِ { أولئك } إشارةٌ إلى الموصول من حيث اتصافُه بما في حيز الصلة ، وفي الإشارة إليه بعدَ وصْفِه بما ذُكر إيذانٌ بأنهم تميَّزوا بذلك عن غيرهم ، وانتظموا في سلك الأمورِ المشاهَدة ، وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعُلوِّ درجتِهم وبُعدِ منزلتهم في الشرف ، وهو مبتدأ ثانٍ ، وقولُه تعالى : { لَهُمُ الامن } جملة من خبرٍ مقدمٍ ومبتدأ مؤخَّرٍ وقعت خبراً لأولئك ، وهو مع خبره خبرٌ للمبتدأ الأول الذي هو الموصول ، ويجوز أن يكونَ ( أولئك ) بدلاً من الموصول أو عطفَ بيانٍ له ، ولهم خبراً للموصول ، والأمنُ فاعلاً للظرف لاعتماده على المبتدأ ، ويجوز أن يكون لهم خبراً مقدماً ، والأمنُ مبتدأً والجملةُ خبراً للموصول ، ويجوز أن يكون أولئك مبتدأً ثانياً ( لهم ) خبره والأمن فاعلاً له ، والجملة خبراً للموصول ، أي أولئك الموصوفون بما ذُكر من الإيمان الخالصِ عن شَوْب الشرك لهم الأمنُ فقط { وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } إلى الحق ، ومَنْ عداهم في ضلال مبين . روي أنه لما نزلت الآيةُ شقَّ ذلك على الصحابة رضوانُ الله عليهم وقالوا : أينا لم يظْلِمْ نفسه؟ فقال عليه الصلاة والسلام : « ليس ما تظنون ، إنما هو ما قال لقمانُ لابنه : يا بني لا تُشرِكْ بالله إن الشرْكَ لظُلم عظيم » وليس الإيمانُ به أن يُصَدِّقَ بوجود الصانعِ الحكيم ويخلِطَ بهذا التصديق الإشراكَ به ، وليس من قضية الخلطِ بقاءُ الأصلِ بعد الخلطِ حقيقةً ، وقيل : المرادُ بالظلم المعصيةُ التي تُفسِّق صاحبَها ، والظاهرُ هو الأولُ لوروده موردَ الجواب عن حال الفريقين .
{ وَتِلْكَ } إشارةٌ إلى ما احتج به إبراهيمُ عليه السلام من قوله تعالى : { فَلَمَّا جَنَّ } وقيل : من قوله : { أَتُحَاجُّونّى } إلى قوله : { مُّهْتَدُونَ } وما في اسمِ الإشارةِ من معنى البُعد لتفخيم شأن المُشار إليه والإشعارِ بعلو طبقته وسموِّ منزلتِه في الفضل ، وهو مبتدأ ، وقوله تعالى : { حُجَّتُنَا } خبرُه ، وفي إضافتها إلى نون العظمة من التفخيم ما لا يخفى ، وقوله تعالى : { آتَيْنَاهَا إبراهيم } أي أرشدناه إليها أو علّمناه إياها في محل النصب على أنه حال من ( حجتُنا ) ، والعاملُ فيها معنى الإشارة كما في قوله تعالى : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُواْ } أو في محل الرفع على خبر ثان ، أو هو الخبر و ( حجتُنا ) بدل أو ( عطفُ ) بيانٍ للمبتدأ ، و ( إبراهيمَ ) مفعولٌ أولٌ لآتينا قُدِّم عليه الثاني لكونه ضميراً ، وقوله تعالى : { على قَوْمِهِ } متعلِّقٌ بحجتُنا إن جُعل خبراً ( لتلك ) ، أو بمحذوفٍ إن جُعل بدلاً ، أي آتينا إبراهيمَ حجةً على قومه ، وقيل : بقوله : آتينا { نَرْفَعُ } بنون العظمةِ ، وقرىء بالياء على طريقة الالتفات وكذا الفعل الآتي { درجات } أي رتباً عظيمةً عالية من العلم ، وانتصابُها على المصدرية أو الظرفية أو على نزع الخافض ، أي إلى درجات أو على التمييز ، والمفعولُ قولُه تعالى : { مَّن نَّشَاء } وتأخيرُه على الوجوه الثلاثة الأخيرةِ لما مر من الاعتناء بالمقدَّم والتشويقِ إلى المؤخَّر ، ومفعولُ المشيئة محذوفٌ ، أي من نشاء رفعَه حسْبما تقتضيه الحِكمةُ وتستدعيه المصلحةُ ، وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ للدلالة على أن ذلك سُنةٌ مستمرَّة جاريةٌ فيما بين المُصطَفَيْنَ الأخيارِ غيرُ مختصةٍ بإبراهيمَ عليه السلام ، وقرىء بالإضافة إلى ( من ) ، والجملةُ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما قبلها لا محل لها من الإعراب ، وقيل : هي في محل النصب على أنها حالٌ من فاعل ( آتينا ) أي حال كوننا رافعين الخ .(2/392)
{ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ } في كل ما فعل من رفْعٍ وخفضٍ { عَلِيمٌ } بحال من يرفعُه واستعدادِه له على مراتبَ متفاوتة ، والجملةُ تعليلٌ لما قبلها ، وفي وضع الرب مضافاً إلى ضميره عليه السلام موضِعَ نونِ العظمةِ بطريق الالتفاتِ في تضاعيف بيانِ أحوالِ إبراهيمَ عليه السلام إظهارٌ لمزيد لُطفٍ وعنايةٍ به عليه السلام .(2/393)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)
{ وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ } عطفٌ على قوله ( تعالى ) : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا } الخ ، فإن عطفَ كلَ من الجملة الفعلية والاسميةِ على الأخرى مما لا نزاعَ في جوازه ولا مَساغ لعطفه على ( آتيناها ) ، لأن له محلاً من الإعراب نصْباً ورفعاً حسبما بُيِّن من قبلُ ، فلو عُطف هذا عليه لكان في حُكمه من الحالية والخبرية المستدعيتين للرابط ولا سبيلَ إليه هاهنا { كَلاَّ } مفعولٌ لِمَا بعده ، وتقديمُه عليه للقصر ، لكن لا بالنسبة إلى غيرهما مطلقاً ، بل بالنسبة إلى أحدهما أي كلُّ واحدٍ منهما { هَدَيْنَا } لا أحدَهما دون الآخَر ، وتركُ ذكر المهدى إليه لظهور أنه الذي أوتيَ إبراهيمُ وأنهما مقتدِيان به { وَنُوحاً } منصوبٌ بمضمر يفسِّره { هَدَيْنَا مِن قَبْلُ } أي من قبلِ إبراهيمَ عليه السلام ، عَدَّ هُداه نعمةً على إبراهيمَ عليه السلام لأن شرفَ الوالدِ سارٍ إلى الولد { وَمِن ذُرّيَّتِهِ } الضمير لإبراهيمَ ، لأن مَساقَ النظمِ الكريم لبيانِ شؤونه العظيمةِ من إيتاءِ الحجةِ ورفعِ الدرجاتِ وهبةِ الأولادِ الأنبياءِ وإبقاءِ هذه الكرامةِ في نسله إلى يوم القيامة ، كلُّ ذلك لإلزام مَنْ ينتمي إلى ملتِه عليه السلامُ من المشركين واليهود ، وقيل : لنوحٍ ، لأنه أقربُ ، ولأن يونُسَ ولوطاً ليسا من ذرِّية إبراهيمَ ، فلو كان الضميرُ له لاختصَّ بالمعدودين في هذه الآية والتي بعدها ، وأما المذكورون في الآية الثالثةِ فعطفٌ على ( نوحاً ) وروي عن ابن عباس أن هؤلاءِ الأنبياءَ كلَّهم مُضافون إلى ذرِّية إبراهيمَ وإن كان منهم من لم يلْحَقه بولادةٍ من قِبَلِ أمَ ولا أب ، لأن لوطاً ابنُ أخي إبراهيم ، والعربُ تجعل العمَّ أباً ، كما أخبر الله تعالى عن أبناءِ يعقوبَ أنهم قالوا : { نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } مع أن إسماعيل عمُّ يعقوب .
{ دَاوُودَ وسليمان } منصوبان بمُضمرٍ مفهومٍ مما سبق وكذا ما عُطف عليهما ، وبه يتعلق ( من ذريته ) وتقديمه على المفعول الصريح للاهتمام بشأنه مع ما في المفاعيلِ من نَوْع طولٍ ربما يُخلُّ تأخيرُه بتجاوب النظم الكريم ، أي وهدينا من ذريته داودَ وسليمان { وَأَيُّوبَ } هو ابنُ أموصَ من أسباطِ عيصِ بنِ إسحاقَ { وَيُوسُفَ وموسى وهارون } أو بمحذوفٍ وقع حالاً من المذكورين أي وهديناهم حال كونهم من ذريته { وكذلك } إشارةٌ إلى ما يُفهم من النظم الكريم من جزاءِ إبراهيمَ عليه السلام ، ومحلُّ الكاف النصبُ على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، وأصلُ التقدير { نَجْزِى المحسنين } جزاءً مثلَ ذلك الجزاءِ ، والتقديمُ للقصر ، وقد مر تحقيقُه مراراً ، والمرادُ بالمحسنين الجنسُ ، وبمماثلة جزائِهم لجزائه عليه السلام مطلقُ المشابهةِ في مقابلةِ الإحسانِ بالإحسان والمكافأةِ بين الأعمال والأجْزِية من غير بخسٍ لا المماثلةُ من كل وجه ، ضرورةَ أن الجزاءَ بكثرةِ الأولاد الأنبياءِ مما اختص به إبراهيمُ عليه السلام ، والأقربُ أن لامَ المحسنين للعهد ، وذلك إشارةٌ إلى مصدر الفعل الذي بعده ، وهو عبارةٌ عما أوتيَ المذكورون من فنُون الكرامات ، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو طبقتِه ، والكافُ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارة من الفخامة ، ومحلُّها في الأصل النصبُ على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ وأصل التقدير ونجزي المحسنين المذكورين جزاء كائناً مثل ذلك الجزاء فقدم الفعل لإفادة القصر واعتبرت الكاف مُقحَمةٌ للنكتة المذكورة ، فصارَ المشارُ إليه نفسَ المصدر المؤكد لا نعتاً له ، أي وذلك الجزاءَ البديعَ نجزي المحسنين المذكورين لا جزاءً آخرَ أدنى منه ، والإظهارُ في موضع الإضمارِ للثناء عليهم بالإحسان الذي هو عبارةٌ عن الإتيان بالأعمال الحسنة على الوجه اللائق الذي هو حُسْنُها الوصفيُّ المقارِنُ لحُسنها الذاتي ، وقد فسَّره عليه الصلاة والسلام بقوله :(2/394)
« أن تعبدَ الله كأنك تراه ، فإن لم تكنْ تراه فإنه يراك » والجملة اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبلها .(2/395)
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)
{ وَزَكَرِيَّا } وهو ابنُ آذَنَ { ويحيى } ابنُه { وَعِيسَى } هو ابنُ مريم ، وفيه دليلٌ على أن الذرية تتناول أولادَ البنات { وَإِلْيَاسَ } قيل : هو إدريسُ جدُّ نوحٍ ، فيكونُ البيانُ مخصوصاً ( بمِنْ ) في الآية الأولى ، وقيل : هو من أسباطِ هارونَ أخي موسى عليهما السلام { كُلٌّ } أي كلُّ واحدٍ من أولئك المذكورين { مّنَ الصالحين } أي من الكاملين في الصلاحِ الذي هو عبارةٌ عن الإتيان بما ينبغي ، والتحرُّز عما لا ينبغي ، والجملة اعتراضٌ جيءَ به للثناءِ عليهم بالصلاح { وإسماعيل واليسع } وهو ابنُ أخطوبَ بنِ العجوز ، وقرىء واللَّيْسعَ وهو على القراءتين علم أعجميٌّ أُدخل عليه اللام ولا اشتقاق له ، ويقال : إنه يوشَعُ بن نون ، وقيل : إنه منقولٌ من مضارعِ وسِعَ واللام كما في يزيدَ في قوله من قال :
رأيتُ الوليدَ بنَ اليزيدَ مباركا ... شديداً بأعباءِ الخِلافة كاهلُه
{ وَيُونُسَ } وهو ابن متى { وَلُوطاً } هو ابنُ هارونَ بنِ أخي إبراهيمَ عليه السلام { وَكُلاًّ } أي وكلَّ واحدٍ من أولئك المذكورين { فَضَّلْنَا } بالنبوة لا بعضَهم دون بعض { عَلَى العالمين } على عالَمي عصرهم ، والجملةُ اعتراضٌ كأختَيْها .(2/396)
وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)
وقوله تعالى : { وَمِنْ ءابَائِهِمْ وذرياتهم وإخوانهم } إما متعلقٌ بما تعلق به ( من ذريته ) ومن ابتدائية ، والمفعول محذوف ، أي وهدينا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم جماعاتٍ كثيرةً ، وإما معطوف على ( كلاًّ ) ومن تبعيضية ، أي وفضلنا بعضَ آبائهم الخ { واجتبيناهم } عطفٌ على ( فضلنا ) أي اصطفيناهم { وهديناهم إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } تكريرٌ للتأكيدِ وتمهيدٌ لبيان ما هُدوا إليه .
{ ذلك } إشارةٌ إلى ما يُفهم من النظم الكريم من مصادرِ الأفعال المذكورة وقيل : ما دانوا به ، وما في ذلك من معنى البُعد لما مر مراراً { هُدَى الله } الإضافة للتشريف { يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } وهم المستعدّون للهداية والإرشاد ، وفيه إشارةٌ إلى أنه تعالى متفضِّلٌ بالهداية { وَلَوْ أَشْرَكُواْ } أي هؤلاءِ المذكورون { لَحَبِطَ عَنْهُمْ } مع فضلهم وعلوِّ طبقاتِهم { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من الأعمال المَرْضيّة الصالحة ، فكيف بمَنْ عداهم وهُم هُم وأعمالُهم أعمالُهم { أولئك } إشارةٌ إلى المذكورين من الأنبياء الثمانيةَ عشَرَ ، والمعطوفين عليهم عليهم السلام باعتبار اتصافِهم بما ذُكر من الهداية وغيرِها من النعوت الجليلةِ الثابتةِ لهم ، وما فيه من معنى البعد لما مرّ غيرَ مرة من الإيذان بعلوِّ طبقتهم وبُعْدِ منزلتهم في الفضل والشرف ، وهو مبتدأ خبرُه قوله تعالى : { الذين ءاتيناهم الكتاب } أي جنسَ الكتاب المتحقِّقِ في ضمن أيِّ فردٍ كان من أفراد الكتب السماوية ، والمرادُ بإتيانِه التفهيمُ التام ، بما فيه من الحقائق ، والتمكينُ من الإحاطةِ بالجلائلِ والدقائق أعمُّ من أن يكون ذلك بالإنزال ابتداءً ، أو بالإيراث بقاءً ، فإن المذكورين لم يُنْزَلْ على كل واحد منهم كتابٌ معين { والحكم } أي الحِكمةَ أو فصلَ الأمر على ما يقتضيه الحقُّ والصواب { والنبوة } أي الرسالة { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا } أي بهذه الثلاثة أو بالنبوة الجامعة للباقين { هَؤُلاء } أي كفارُ قريشٍ فإنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من القرآن كافرون بما يصدِّقه جميعاً ، وتقديمُ الجارِّ والمجرور على الفاعل لما مر مراراً من الاهتمام بالمقدَّم والتشويق إلى المؤخّر { فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا } أي أمَرْنا بمراعاتها ووفَّقْنا للإيمان بها والقيامِ بحقوقها { قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين } أي في وقت من الأوقات ، بل مستمرون على الإيمان بها ، فإن الجملةَ الاسميةَ الإيجابية كما تفيد دوامَ الثبوت كذلك السلبيةُ تُفيدُ دوامَ النفي بمعونةِ المقام ، لا نفيَ الدوام كما حُقِّق في مقامه ، قال ابنُ عباس ومجاهدٌ رضي الله تعالى عنهما : هم الأنصارُ وأهلُ المدينة ، وقيل : أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : كل مؤمن من بني آدم ، وقيل : الفرس ، فإن كلاًّ من هؤلاء الطوائف موَفّقون للإيمان بالأنبياء وبالكتب المُنْزَلة إليهم ، عاملون بما فيها من أصول الشرائعِ وفروعِها الباقية في شريعتنا ، وبه يتحقق الخروجُ عن عُهدة التوكيل والتكليفِ دون المنسوخة منها ، فإنها بانتساخها خارجة عن كونها من أحكامها ، وقد مر تحقيقُه في تفسير سورة المائدة .(2/397)
وقيل : هو الأنبياءُ المذكورون ، فالمرادُ بالتوكيل الأمرُ بما هو أعمُّ من إجراء أحكامِها كما هو شأنُها في حق كتابهم ومِنِ اعتقاد حقِّيتِها كما هو شأنُها في حق سائرِ الكتبِ التي من جملتها القرآنُ الكريم ، وقيل : هم الملائكةُ فالتوكيل هو الأمرُ بإنزالها وحفظِها واعتقادِ أحقّيتها ، وأياً ما كان فتنكيرُ ( قوماً ) للتفخيم . والباء الأولى صلة وكلنا على مفعوله الصريح ، فلِما ذكر آنفاً من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ، ولأن فيه نوعَ طولٍ ربما يؤدِّي تقديمُه إلى الإخلال بتجاوب النظم الكريم ، أو إلى الفصلِ بين الصفةِ والموصوف ، وجوابُ الشرط محذوفٌ يدل عليه المذكور ، أي فإن يكفُرْ بها هؤلاءِ فلا اعتدادَ به أصلاً ، فقد وفّقنا للإيمان بها قوماً فِخاماً ليسوا بكافرين بها قطعاً ، بل مستمرون على الإيمان بها ، والعملِ بما فيها ، ففي إيمانهم بها مندوحةٌ عن إيمان هؤلاء ، ومن هذا تبيّن أن الوجه أن يكونَ المرادُ بالقوم إحدى الطوائفِ المذكورة ، إذْ بإيمانهم بالقرآن والعملِ بأحكامه تتحقّقُ الغُنية عن إيمان الكَفَرة به والعملِ بأحكامه وأما الأنبياءُ والملائكةُ عليهم السلام فإيمانُهم به ليس من قبيل إيمانِ آحادِ الأمةِ كما أشير إليه .(2/398)
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
{ أولئك } إشارةٌ إلى الأنبياء المذكورين ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلوِّ رُتبتهم ، وهو مبتدأ خبرُه قوله تعالى : { الذين هَدَى الله } أي إلى الحق والنهج المستقيم ، والالتفاتُ إلى الاسم الجليل للإشعار بعلة الهداية { فَبِهُدَاهُمُ اقتده } أي فاختصَّ هداهم بالاقتداء ، ولا تقتَدِ بغيرهم والمرادُ بهداهم طريقتُهم في الإيمان بالله تعالى وتوحيدِه وأصولِ الدين دون الشرائعِ القابلةِ للنسخ ، فإنها بعد النسخ لا تبقى هُدىً والهاء في ( اقتده ) للوقف حقها أن تسقط في الدّرْج ، واستُحسن إثباتُها فيه أيضاً إجراءً له مُجرى الوقفِ واقتداءً بالإمام ، وقرىء بإشباعها على أنها كناية المصدر .
{ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ } أي على القرآن أو على التبليغ ، فإن مَساقَ الكلامِ يدل عليهما وإن لم يَجْرِ ذكرُهما { أَجْراً } من جهتكم كما لم يسألْه مَنْ قبلي من الأنبياء عليهم السلام ، وهذا من جملة ما أُمر صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم فيه { إِنْ هُوَ } أي ما القرآنُ { إِلاَّ ذكرى للعالمين } أي عظةٌ وتذكيرٌ لهم كافةً من جهته سبحانه فلا يختَصُّ بقوم دون آخرين .
{ وَمَا قَدَرُواْ الله } لما بيَّن شأنَ القرآنِ العظيم وأنه نعمةٌ جليلةٌ منه تعالى على كافة الأمم حسبما نطَقَ به قولُه تعالى : { وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين } عقّب ذلك ببيان غمْطِهم إياها ، وكفرِهم بها على وجْهٍ سرَى ذلك إلى الكفر بجميع الكتب الإلهية ، وأصلُ القدْر السبْرُ والحزْرُ ، يقال : قدَر الشيء يقدرُه بالضم قدْراً إذا سبَره وحزَره ليعرِف مقداره ثم استُعمل في معرفة الشيء في مقداره وأحوالِه وأوصافِه .
وقوله تعالى : { حَقَّ قَدْرِهِ } نُصب على المصدرية ، وهو في الأصل صفةٌ للمصدر أي قدْرَه الحقَّ ، فلما أضيف إلى موصوفه انتصبَ على ما كان ينتصبُ عليه موصوفُه ، أي ما عرفوه تعالى حقَّ معرفتِه في اللُطف بعباده والرحمةِ عليهم ، ولم يُراعوا حقوقَه تعالى في ذلك ، بل أخلّوا بها إخلالاً { إِذْ قَالُواْ } منكرين لبِعثة الرسلِ وإنزالِ الكتُب كافرين بنعمته الجليلةِ فيهما { مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مّن شَىْء } فنفى معرفتَهم لقَدْره سبحانه كنايةً عن حطِّهم لقدرِه الجليل ووصفهم له تعالى بنقيضِ نعتِه الجميل كما أن نفيَ المحبةِ في مثل { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين } كنايةٌ عن البغض والسُخط ، وإلا فنفيُ معرفةِ قدرِه تعالى يتحقق مع عدم التعرُّض لحطِه ، بل مع السعْي في تحصيل المعرفةِ كما في قول مَن يناجي مستقصِراً لمعرفته وعبادته : سبحانك ما عرَفناك حقَّ معرفتِك ، وما عبدناك حقَّ عبادتك . أو ما عرفوه حقَّ معرفتِه في السُخط على الكفار وشدّةِ بطشِه تعالى بهم حسْبما نطقَ به القرآنُ حين اجترأوا على التفوُّه بهذه العظيمةِ الشنعاءِ ، فالنفيُ بمعناه الحقيقي والقائلون هم اليهودُ وقد قالوه مبالغةً في إنكار إنزالِ القرآنِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُلزِموا بما لا سبيلَ إلى إنكاره أصلاً حيث قيل :
{ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذى جَاء بِهِ موسى } أي قل لهم ذلك على طريقة التبكيت وإلقامِ الحجر ، وروي أن مالكَ بنَ الصيف من أحبار اليهودِ ورؤسائِهم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :(2/399)
« أنشُدُك الله الذي أنزل التوراةَ على موسى هل تجدُ فيها الله يُبغض الحِبرَ السمين؟ فأنت الحِبرُ السمين ، قد سمِنْتَ من مالك الذي تُطعمُك اليهود » فضحك القومُ فغضبَ ثم التفت إلى عمرَ رضي الله عنه فقال : ما أنزل الله على بشر من شيء فنزعوه وجعلوا مكانه كعبَ بنَ الأشرف ، وقيل : هم المشركون وإلزامُهم إنزالُ التوراة لما أنه كان عندهم من المشاهير الذائعةِ ، ولذلك كانوا يقولون : { لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ } ووصفُ الكتاب بالوصول إليهم لزيادة التقريعِ وتشديدِ التبكيت ، وكذا تقييدُه بقوله تعالى : { نُوراً وَهُدًى } فإن كونَه بيّناً بنفسه ومبيِّناً لغيره مما يؤكد الإلزامَ أيَّ تأكيدٍ ، وانتصابُهما على الحالية من الكتاب ، والعامل ( أَنزل ) أو من الضمير في ( به ) ، والعامل ( جاء ) واللام في قوله تعالى : { لِلنَّاسِ } إما متعلقٌ بهدىً ، أو بمحذوفٍ هو صفة له ، أي هدى كائناً للناس وليس المرادُ بهذا مجردَ إلزامِهم بالاعتراف بإنزال التوراةِ فقط بل إنزالِ القرآنِ أيضاً ، فإن الاعترافَ بإنزالها مستلزِمٌ للاعتراف بإنزاله قطعاً ، لما فيها من الشواهد الناطقةِ به ، وقد نعى عليهم ما فعلوا بها من التحريف والتغييرِ حيث قيل : { تَجْعَلُونَهُ قراطيس } أي تضعونه في قراطيسَ مقطَّعةٍ ، وورَقاتٍ مفرَّقة ، بحذف الجارِّ بناءً على تشبيه القراطيس بالظرف المُبْهم ، أو تجعلونه نفسَ القراطيس المقطعة ، وفيه زيادةُ توبيخٍ لهم بسوء صنيعِهم كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب ونزّلوه منزلةَ القراطيسِ الخاليةِ عن الكتابة ، والجملة حالٌ كما سبق وقوله تعالى : { تُبْدُونَهَا } صفةٌ لقراطيسَ ، وقوله تعالى : { وَتُخْفُونَ كَثِيراً } معطوفٌ عليه ، والعائدُ إلى الموصول محذوفٌ ، أي كثيراً منها ، وقيل : كلامٌ مبتدأ لا محل له من الإعراب ، والمرادُ بالكثير نعوتُ النبي عليه الصلاة والسلام وسائرُ ما كتموه من أحكام التوراة ، وقرىء الأفعالُ الثلاثة بالياء حملاً على قالوا وما قدروا .
وقوله تعالى : { وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ } قيل : هو حالٌ من فاعل تجعلونه بإضمار قد ، أو بدونه على اختلاف الرأيين . قلت : فينبغي أن يجعل ( ما ) عبارةً عما أخذوه من الكتاب من العلوم والشرائعِ ليكون التقييدُ بالحال مفيداً لتأكيد التوبيخِ وتشديدِ التشنيع ، فإن ما فعلوه بالكتاب من التفريق والتقطيعِ لما ذُكر من الإبداءِ والإخفاءِ شناعةٌ عظيمة في نفسها ، ومع ملاحظة كونه مأخذاً لعلومهم ومعارفِهم أشنعَ وأعظمَ ، لا عما تلقَّوْه من جهة النبي صلى الله عليه وسلم زيادةً على ما في التوراة وبياناً لما التَبَس عليهم وعلى آبائهم من مشكلاتها حسْبما ينطِقُ به قوله تعالى :(2/400)
{ إِنَّ هذا القرءان يَقُصُّ على بَنِى إسراءيل أَكْثَرَ الذى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } كما قالوا لأنّ تلقَّيَهم لذلك من القرآن الكريم ليس مما يزجُرهم عما صنعوا بالتوراة أما ما ورد فيه زيادةً على ما فيها فلأنه لا تعلّقَ له بها نفياً ولا إثباتاً ، وأما ما ورد بطريق البيانِ فلأن مدارَ ما فعلوا بالتوراة من التبديل والتحريفِ ليس ما وقع فيها من التباس الأمرِ واشتباهِ الحال حتى يُقلِعوا عن ذلك بإيضاحه وبيانِه فتكونَ الجملةُ حينئذ خاليةً عن تأكيد التوبيخ ، فلا تستحق أن تقعَ موقع الحال بل الوجهُ حينئذٍ أن تكون استئنافاً مقرِّراً لما قبلها من مجيءِ الكتابِ بطريق التكملةِ والاستطراد والتمهيدِ لما يعقُبه من مجيءِ القرآن ، ولا سبيلَ إلى جعل ( ما ) عبارةً عما كتموه من أحكام التوراةِ كما يفصح عنه قوله تعالى : { قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب } فإن ظهورَه وإن كان مزْجَرةً لهم عن الكتم مخافةَ الافتضاح ومصحِّحاً لوقوعِ الجملة في موقع الحالِ لكن ذلك مما يعلمه الكاتمون حتماً . هذا ، وقد قيل : الخطابُ لمن آمن من قريش كما في قوله تعالى : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ } وقولُه تعالى : { قُلِ الله } أمرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يُجيبَ عنهم إشعاراً بتعيّن الجواب بحيث لا محيدَ عنه وإيذاناً بأنهم أُفحموا ولم يقدِروا على التكلم أصلاً { ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ } في باطلهم الذي يخوضون فيه ولا عليك بعد إلزامِ الحجة وإلقامِ الحجر { يَلْعَبُونَ } حال من الضمير الأول ، والظرفُ صلة للفعل المقدّم أو المؤخر أو متعلقٌ بمحذوفٍ هو حال من مفعولِ الأولِ أو من فاعل الثاني أو من الضمير الثاني لأنه فاعلٌ في الحقيقة والظرفُ متَّصل بالأول .(2/401)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
{ وهذا كتاب أنزلناه } تحقيقٌ لنزول القرآن الكريم بعد إنزال ما بَشَّر به من التوراة ، وتكذيبٌ لهم في كلمتهم الشنعاءِ إثرَ تكذيبٍ { مُّبَارَكٌ } أي كثيرُ الفوائد وجمُّ المنافع { مُّصَدّقُ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ } من التوراة لنزوله حسبما وُصِف فيها أو الكتُبِ التي قبله فإنه مصدِّقٌ للكل في إثبات التوحيد والأمرِ به ونفي الشرْك والنهي عنه وفي سائر أصولِ الشرائعِ التي لا تُنسخ { وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى } عطفٌ على ما دل عليه ( مبارك ) أي للبركات ولإنذراك أهلَ مكةَ وإنما ذُكرت باسمها المُنبىءِ عن كونها أعظمَ القرى شأناً وقِبْلةً لأهلها قاطبةً إيذاناً بأن إنذارَ أهلِها أصلٌ مستتبِعٌ لإنذار أهلِ الأرضِ كافةً ، وقرىء ( لينذر ) بالياء على أن الضمير للكتاب { وَمَنْ حَوْلَهَا } من أهل المدَر والوبَر في المشارق والمغارب { والذين يُؤْمِنُونَ بالاخرة } وبما فيها من أفانين العذاب { يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي بالكتاب لأنهم يخافون العاقبةَ ولا يزال الخوف يحمِلُهم على النظر والتأمُّل حتى يؤمنوا به { وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } تخصيصُ محافظتِهم على الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات التي لا بد للمؤمنين من أدائها للإيذان بإنافتِها من بين سائر الطاعات وكونِها أشرفَ العباداتِ بعد الإيمان .(2/402)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } فزعَم أنه تعالى بعثه نبياً كمسيلِمةَ الكذابِ والأسودِ العنسيِّ أو اختلق عليه أحكاماً من الحِلِّ والحُرمة كعَمْرِو بنِ لُحَيَ ومتابعيه أي هو أظلمُ من كلِّ ظالمٍ وإن كان سبكُ التركيبِ على نفي الأظلمِ منه وإنكارِه من غير تعرضٍ لنفْي المساوي وإنكارِه فإن الاستعمالَ الفاشيَ في قولك : مَنْ أفضلُ من زيدٍ أو لا أكرمَ منه على أنه أفضلُ من كل فاضلٍ وأكرمُ من كل كريم ، وقد مر تمامُ الكلام فيه { أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ } من جهته تعالى { وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ } أي والحال أنه لم يوح إليه { شَىْء } أصلاً ( كعبد اللَّه بنِ سعدِ بنِ أبي سَرْح كان يكتُب للنبي صلى الله عليه وسلم فلما نزلت { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ } فلما بلغ { ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً } قال عبد اللَّه : تبارك الله أحسنُ الخالقين تعجباً من تفصيل خلقِ الإنسان ثم قال عليه الصلاة والسلام : «اكتُبها كذلك» فشك عبدُ اللَّه وقال : لئن كان محمد صادقاً فقد أُوحيَ إلي كما أوحيَ إليه ولئن كان كاذباً فقد قلت كما قال ) . { وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ الله } كالذين قالوا : { لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا }
{ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظالمون } حُذف مفعولُ ترى لدِلالة الظرفِ عليه أي ولو ترى الظالمين إذ هم { فِى غَمَرَاتِ الموت } أي شدائده من غَمَره إذا غشِيَه { والملئكة بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ } بقبض أرواحِهم كالمتقاضي الملظ المُلِحّ يبسُط يدَه إلى من عليه الحقُّ ويعنِّف عليه في المطالبة من غير إمهالٍ وتنفيسٍ ، أو باسطوها بالعذاب قائلين : { أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ } أي أخرجوا أرواحَكم إلينا من أجسادكم أو خلِّصوا أنفسكم من العذاب { اليوم } أي وقتَ الإماتة أو الوقتَ الممتدّ بعده إلى ما لا نهاية له { تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون } أي العذابَ المتضمِّنَ لشدةٍ وإهانةٍ فإضافتُه إلى الهون وهو الهوانُ لعراقته فيه { بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق } كاتخاذ الولد له ونسبةِ الشريك إليه وادعاءِ النبوة والوحيِ كاذباً { وَكُنتُمْ عَنْ ءاياته تَسْتَكْبِرُونَ } فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون بها .
{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا } للحساب { فرادى } منفردين عن الأموال والأولاد وغيرِ ذلك مما آثَرْتُموه من الدنيا أو عن الأعوان والأصنامِ التي كنتم تزعُمون أنها شفعاؤكم وهو جمع فَرْد والألفُ للتأنيث ككسالى وقرىء ( فِراداً ) كرجال وفَرادَ كثلاثَ وفَرْدَى كسَكْرى { كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ } بدل من فرادى أي على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد أو حالٌ ثانية عند من يجوِّزُ تعددَها أو حال من الضمير في فرادى أي مُشْبِهين ابتداءَ خلقِكم عُراةً حُفاة غُرْلاً بُهْماً أو صفةُ مصدرِ ( جئتمونا ) أي مجيئاً كخلقنا لكم أول مرة { وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم } تفضّلناه عليكم في الدنيا فشُغِلتم به عن الآخرة { وَرَاء ظُهُورِكُمْ } ما قدمتم منه شيئاً ولم تحمِلوا نقيراً { وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء } أي شركاءُ الله تعالى في الربوبية واستحقاقِ العبادة { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } أي وقع التقطعُ بينكم كما يقال : جمع بين الشيئين أي أوقع الجمعَ بينهما وقرىء ( بينُكم ) بالرفع على إسناد الفعل إلى الظرف كما يقال : قوتل أمامُكم وخلفُكم أو على أن البينَ اسمٌ للفصل والوصل أي تقطع وصلُكم وقرىء ما بينَكم { وَضَلَّ عَنكُم } أي ضاع أو غاب { مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } أنها شفعاؤكم أو أن لا بعثَ ولا جزاء .(2/403)
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
{ إِِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى } شروعٌ في تقرير بعضِ أفاعيلِه تعالى الدالةِ على كمال علمِه وقدرته ولطفِ صُنعِه وحِكمتِه إثرَ تقريرِ أدلةِ التوحيد ، والفَلْقُ الشَقُّ بإبانةٍ ، أي شاقُّ الحبِّ بالنبات والنوى بالشجر ، وقيل : المرادُ به الشِقُّ الذي في الحبوب والنَّوى ، أي خالقُهما كذلك كما في قولك : ضَيِّقْ فمَ الرَّكِيةِ ووسِّعْ أسفلَها ، وقيل : الفلْقُ بمعنى الخلق ، قال الواحدي : ذهبوا بفالقُ مذهبَ فاطر { يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت } أي يُخرج ما ينمو من النطفة والحبِّ ، والجملةُ مستأنفة مبينةٌ لما قبلها وقيل : خبرٌ ثانٍ لأن قوله تعالى : { وَمُخْرِجُ الميت } كالنطفة والحب { مِنَ الحى } كالحيوان والنبات ، عطفٌ على ( فالقُ الحب ) لا على ( يُخرج ) على الوجه الأول لأن إخراج الميِّتِ من الحيِّ ليس من قبيل فلقِ الحب والنوى { ذلكم } القادرُ العظيمُ الشأنِ هو { الله } المستحِقّ للعبادة وحده { فأنى تُؤْفَكُونَ } فكيف تُصرَفون عن عبادته إلى غيره ولا سبيل إليه أصلاً .
{ فَالِقُ الإصباح } خبرٌ آخَرُ لإن ، أو لمبتدإٍ محذوفٍ والإصباحُ مصدرٌ سمِّي به الصبحُ وقرىء بفتح الهمزة على أنه جمعُ صُبْح أي فالقُ عمودِ الفجر عن بياضِ النهار وإسفارِه ، أو فالق ظلمةِ الإصباحِ وهي الغَبَشُ الذي يلي الصبحَ وقرىء ( فالقَ ) بالنصب على المدح { وَجَعَلَ اليل سَكَناً } يسكُن إليه التعِبُ بالنهار لاستراحته فيه من سَكَن إليه إذا اطمأن إليه استئناساً به أو يسكن فيه الخلقُ من قوله تعالى : { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } وقرىء ( جاعلُ الليل ) فانتصابُ ( سكناً ) بفعل دل عليه جاعل وقيل : بنفسه على أن المرادَ به الجعلُ المستمرُّ في الأزمنة المتجددة حسَب تجدّدِها لا الجعلُ الماضي فقط وقيل : اسمُ الفاعل من الفعل المتعدِّي إلى اثنين يعمل في الثاني وإن كان بمعنى الماضي لأنه لما أُضيف إلى الأول تعيّن نصبُه للثاني لتعذّر الإضافة بعد ذلك { والشمس والقمر } معطوفان على الليل وعلى القراءة الأخيرة قيل : هما معطوفان على محله والأحسنُ نصبُهما حينئذ بفعل مقدرٍ وقد قُرئا بالجرِّ وبالرفعِ أيضاً على الابتداء والخبرُ محذوفٌ أي مجعولان { حُسْبَاناً } أي على أدوار مختلفة يُحسبُ بها الأوقاتُ التي نيط بها العباداتُ والمعاملاتُ أو محسوبان حُسباناً ، والحُسبانُ بالضم مصدرُ حسَب كما أن الحسابَ بالكسر مصدر حسَب { ذلك } إشارة إلى جعلهما كذلك وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلوِّ رتبةِ المُشار إليه وبُعْدِ منزلتِه أي ذلك التسييرُ البديع { تَقْدِيرُ العزيز } الغالب القاهرِ الذي لا يستعصي عليه شيءٌ من الأشياء التي من جملتها تسييرُهما على الوجه المخصوص { العليم } بجميع المعلومات التي من جملتها ما في ذلك التسييرِ من المنافعِ والمصالحِ المتعلقةِ بمعاش الخلق ومَعادِهم .(2/404)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
{ وَهُوَ الذى جَعَلَ لَكُمُ النجوم } شروعٌ في بيان نعمتِه تعالى في الكواكب إثرَ بيانِ نعمتِه تعالى في النَّيِّرَيْنِ والجعلُ متعدَ إلى واحد واللامُ متعلقةٌ به ، وتأخيرُ المفعول الصريح عن الجار والمجرور لما مر غيرَ مرةٍ من الاهتمام بالمقدَّمِ والتشويق إلى المؤخر أي أنشأها وأبدعها لأجلكم ، فقوله تعالى : { لِتَهْتَدُواْ بِهَا } بدلٌ من المجرور بإعادة العامل بدلَ اشتمال كما في قوله تعالى : { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً } والتقدير جعلَ لكم النجومَ لاهتدائكم لكن لا على أن غايةَ خلقِها اهتداؤُهم فقط بل على طريقة إفراد بعضِ منافعِها وغاياتها بالذكر حسبما يقتضيه المقام ، وقد جُوِّز أن يكون مفعولاً ثانياً للجعل ، وهو بمعنى التصيير أي جعلها كائنةً لاهتدائكم في أسفاركم عند دخولِكم المفاوزَ أو البحارَ كما ينبىء عنه قولُه تعالى : { فِى ظلمات البر والبحر } أي في ظلمات الليل في البر والبحر ، وإضافتُها إليهما للملابسة فإن الحاجة إلى الاهتداء بها إنما تتحقق عند ذلك أو في مشتَبِهات الطرق ، عبّر عنها بالظلمات على طريقة الاستعارة { قَدْ فَصَّلْنَا الآيات } أي بيّنا الآياتِ المتلُوَّةَ المذكِّرةَ لنِعَمه التي هذه النعمةُ من جملتها أو الآياتِ التكوينيةَ الدالةَ على شؤونه تعالى مفصّلةً { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي معانِيَ الآياتِ المذكورةِ ويعملون بموجبها أو يتفكرون في الآيات التكوينية فيعلمون حقيقةَ الحال ، وتخصيصُ التفصيل بهم مع عمومه للكل لأنهم المنتفعون به .
{ وَهُوَ الذى أَنشَأَكُم مّن نَّفْسٍ واحدة } تذكيرٌ لنعمةٍ أخرى من نِعَمه تعالى دالةٍ على عظيم قدرتِه ولطيفِ صُنعه وحكمتِه أي أنشأكم مع كثرتكم من نفس آدمَ عليه السلام { فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } أي فلكم استقرارٌ في الأصلاب أو فوق الأرض واستيداعٌ في الأرحام أو تحت الأرض أو موضعُ استقرارٍ واستيداعٍ فيما ذكر ، والتعبيرُ عن كونهم في الأصلاب أو فوق الأرض بالاستقرار لأنهما مقرُّهم الطبيعيُّ كما أن التعبيرَ عن كونهم في الأرحام أو تحت الأرض بالاستيداع لِما أن كلاًّ منهما ليس بمقرِّهم الطبيعيِّ ، وقد حُمل الاستيداعُ على كونهم في الأصلاب وليس بواضح ، وقرىء ( فمستقِر ) بكسر القاف أي فمنكم مستقِرٌ ومنكم مستوْدَعٌ فإن الاستقرارَ منّا ، بخلاف الاستيداع { قَدْ فَصَّلْنَا الآيات } المبينةَ لتفاصيل خلقِ البشرِ من هذه الآية ونظائرِها { لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } غوامضَ الدقائقِ باستعمال الفِطنة وتدقيقِ النظرِ فإن لطائفَ صنعِ الله عز وجل في أطوار تخليقِ بني آدمَ مما تحارُ في فهمه الألبابُ وهو السرُّ في إيثار ( يفقهون ) على يعلمون كما ورد في شأن النجوم .(2/405)
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
{ وَهُوَ الذى أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء } تذكيرٌ لنعمةٍ أخرى من نعمه تعالى مُنَبِّئةٍ عن كمال قدرته تعالى وسعةِ رحمته أي أنزل من السحاب أو من سَمْتِ السماء ماءً خاصاً هو المطر ، وتقديمُ الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر مراراً { فَأَخْرَجْنَا بِهِ } التفات إلى التكلم إظهاراً لكمال العناية بشأن ما أُنزل الماءُ لأجله أي فأخرجنا بعظمتِنا بذلك الماءِ مع وِحْدته { نَبَاتَ كُلّ شَىْء } من الأشياء التي من شأنها النموُّ من أصناف النجْم والشجر وأنواعِها المختلفة في الكم والكيف والخواصِّ والآثار اختلافاً متفاوتاً في مراتبِ الزيادة والنقصان حسبما يُفصح عنه قولُه تعالى : { يسقى بِمَاء واحد وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِى الاكل } وقولُه تعالى : { فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً } شروعٌ في تفصيل ما أُجمل من الإخراج ، وقد بُدِىء بتفصيل حال النجم أي فأخرجنا من النبات الذي لا ساقَ له شيئاً غضّاً أخضرَ ، يقال : شيءٌ أخضَرٌ وخضِرٌ كأعوَرَ وعَوِرٍ ، وأكثرُ ما يُستعمل الخضِرُ فيما تكون خُضرتُه خَلْقية وهو ما تشعّب من أصل النبات الخارج من الحبة . وقوله تعالى : { نُّخْرِجُ مِنْهُ } صفةٌ لخضِراً وصيغة المضارعِ لاستحضار الصورة لما فيها من الغرابة أي نخرج من ذلك الخضِرِ { حَبّاً مُّتَرَاكِباً } هو السُنبلُ المنتظِمُ للحبوب المتراكبة بعضُها فوق بعض على هيئة مخصوصةٍ وقرىء يَخرُجُ منه حبٌّ متراكب وقوله تعالى : { وَمِنَ النخل } شروعٌ في تفصيل حالِ الشجر إثرَ بيانِ حال النجم . فقوله تعالى : { مِنْ النخل } خبرٌ مقدم وقوله تعالى : { مِن طَلْعِهَا } بدلٌ منه بإعادة العامل كما في قوله تعالى : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو الله } الخ ، والطَّلْعُ شيء يخرُج من النخل كأنه نعلانِ مُطبَقانِ ، والحِمْلُ بينهما منضود . وقوله تعالى : { قنوان } مبتدأ أي وحاصلةٌ من طلع النخل قنوانٌ ، ويجوز أن يكون الخبرُ محذوفاً لدلالة أخرجنا عليه أي ومُخرِجةٌ من طلع النخل قنوانٌ ومَنْ قرأ يخرُجُ منه حبٌّ متراكبٌ كان ( قنوانٌ ) عنده معطوفاً على ( حبٌّ ) وقيل : المعنى وأخرجنا من النخل نخلاً من طلعها قنوانٌ أو ومن النخل شيءٌ من طلعها قنوان ، وهو جمع قِنْوٍ ، وهو عنقودُ النخلة كصِنْوٍ وصِنْوان ، وقرىء بضم القاف كذِئبٍ وذؤبان وبفتحها أيضاً على أنه اسمُ جمعٍ لأن فَعلان ليس من أبنية الجمع { دَانِيَةٌ } سهلةُ المُجتَنى قريبةٌ من القاطفِ فإنها وإن كانت صغيرةً ينالها القاعدُ تأتي بالثمر لا يُنتظَرُ الطولُ ، أو ملتفةٌ متقاربة ، والاقتصارُ على ذكرها لدلالتها على مُقابلها كقوله تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } ولزيادة النعمة فيها { وجنات مّنْ أعناب } عطفٌ على ( نباتَ كل شيء ) أي وأخرجنا به جناتٍ كائنةً من أعناب ، وقرىء جناتٌ بالرفع على الابتداء أي ولكم أو ثَمةَ جناتٌ ، وقد جوِّز عطفُه على ( قنوان ) كأنه قيل : وحاصلةٌ أو مخرجةٌ من النخل قنوانٌ وجناتٌ من نباتٍ وأعناب ، ولعل زيادةَ الجنات هاهنا من غير اكتفاءٍ بذكر اسمِ الجنس كما فيما تقدم وما تأخر لما أن الانتفاعَ بهذا الجنس لا يتأتى غالباً إلا عند اجتماع طائفةٍ من أفراده { والزيتون والرمان } منصوبان على الاختصاص لعزة هذين الصنفين عندهم أو على العطف على ( نباتَ ) وقوله تعالى : { مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ متشابه } حال من الزيتون اكتُفي به عن حال ما عطف عليه كما يكتفى بخبر المعطوف عليه عن خبر المعطوف في نحو قوله تعالى :(2/406)
{ والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } وتقديرُه والزيتونَ مشتبهاً وغيرَ متشابه والرمانَ كذلك ، وقد جُوِّز أن يكون حالاً من الرمان لقُربه ويكون المحذوفُ حالَ الأول والمعنى بعضُه متشابهاً وبعضُه غيرَ متشابه في الهيئة والمقدار واللون والطعم وغيرِ ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرة صانعِها وحكمةِ مُنشئِها ومبدعِها { انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ } أي انظروا إليه نظرَ اعتبارٍ واستبصارٍ إذا أخرج ثمرَه كيف يُخرجه ضئيلاً لا يكاد يُنتفعُ به ، وقرىء إلى ثمره { وَيَنْعِهِ } أي وإلى حال نُضجه كيف يصير إلى كماله اللائق به ويكون شيئاً جامعاً لمنافِعَ جمّةٍ واليَنْعُ في الأصل مصدر يَنَعَت الثمرةُ إذا أدركت وقيل : جمعُ يانع كتاجر وتجْرٍ وقرىء بالضم وهي لغة فيه وقرىء يانِعِهِ { إِنَّ فِى ذلكم } إشارةٌ إلى ما أُمر بالنظر إليه ، وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان بعلو رتبة المشارِ إليه وبُعد منزلته { لايات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي لآياتٍ عظيمةً أو كثيرةً دالةً على وجود القادر الحكيم ووَحدتِه فإن حدوثَ هاتيك الأجناسِ المختلفة والأنواع المتشعبة من أصل واحدٍ وانتقالَها من حال إلى حال على نمط بديع تحارُ في فهمه الألباب لا يكاد يكون إلا بإحداث صانعٍ يعلم تفاصيلَها ويرجّح ما تقتضيه حكمتُه من الوجوه الممكنة على غيره ولا يَعوُقه عن ذلك ضدٌّ يناوئه أو نِدٌّ يُقاويه ، ولذلك عقّب بتوبيخِ من أشرك به والردِّ عليه حيث قيل .(2/407)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
{ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء } أي جعلوا في اعتقادهم لله الذي شأنُه ما فُصّل في تضاعيفِ هذه الآية الجليلةِ شركاءَ { الجن } أي الملائكةَ حيث عبدوهم وقالوا : الملائكةُ بناتُ الله وسُمُّوا جِناً لاجتنانهم تحقيراً لشأنهم بالنسبة إلى مَقام الألوهية ، أو الشياطينَ حيث أطاعوهم كما أطاعوا الله تعالى أو عبدوا الأوثانَ بتسويلهم وتحريضِهم أو قالوا : الله خالقُ الخير وكلِّ نافعٍ ، والشيطانُ خالقُ الشرِّ وكلِّ ضارَ ، كما هو رأي الثنوية ومفعولا ( جعلوا ) قوله تعالى : { شُرَكَاء الجن } قُدِّم ثانيهما على الأول لاستعظام أن يُتَّخذَ لله سبحانه شريكٌ ما ، كائناً ما كان ، ولله متعلق بشركاء قدم عليه للنكتة المذكورة وقيل : هما لله شركاء والجنَّ بدلٌ من شركاءَ مفسِّرٌ له نَصَّ عليه الفراءُ وأبو إسحاقَ ، أو منصوبٌ بمضمرٍ وقعَ جواباً عن سؤالٍ مقدَّرٍ نشأ من قوله تعالى : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء } كأنه قيل : مَنْ جعلوه شركاءَ لله تعالى؟ فقيل : الجنَّ أي جعلوا الجن ، ويؤيده قراءةُ أبي حيوة ويزيدَ بن قطيب ( الجنُّ ) بالرفع على تقدير : همُ الجنُّ في جواب من قال : مَن الذين جعلوهم شركاء لله تعالى؟ وقد قرىء بالجر على أن الإضافة للتبيين { وَخَلَقَهُمْ } حالٌ من فاعل ( جعلوا ) بتقدير قد أو بدونه على اختلاف الرأيين ، مؤكدةٌ لما في جَعْلهم ذلك من كمال القباحة والبُطلان باعتبار علمِهم بمضمونها ، أي وقد علموا أنه تعالى خالقُهم خاصة ، وقيل : الضميرُ للشركاءِ أي والحال أنه تعالى خلق الجنَّ فكيف يجعلون مخلوقَه شريكاً له تعالى؟ وقرىء خَلْقَهم عطفاً على ( الجنَّ ) أي وما يخلقونه من الأصنام أو على ( شركاءَ ) أي وجعلوا له اختلاقَهم الإفكَ حيث نسبوه إليه تعالى .
{ وَخَرَقُواْ لَهُ } أي افتعلوا وافترَوْا له يقال : خلقَ الإفكَ واختلقه وخَرَقه واخترقه بمعنى وقرىء خرّقوا بالتشديد للتكثير وقرىء وحرّفوا له أي زوّروا { بَنِينَ وَبَنَاتٍ } فقالت اليهودُ : عزيرٌ ابنُ الله ، وقالت النصارى : المسيحُ ابنُ الله ، وقالت طائفة من العرب : الملائكةُ بناتُ الله { بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي بحقيقة ما قالوه من خطأ أو صوابٍ رمياً بقوله عن عمىً وجهالةٍ من غير فكرٍ ورويّة أو بغير علم بمرتبة ما قالوه وأنه من الشناعة والبطلان بحيث لا يقادَرُ قدرُه ، والباء متعلقةٌ بمحذوف هو حالٌ من فاعل خرقوا أو نعتٌ لمصدر مؤكِّدٍ له أي خرقوا ملتبسن بغير علم أو خرقاً كائناً بغير علم { سبحانه } استئنافٌ مَسوقٌ لتنزيهه عز وجل عما نسَبوه إليه ، وسبحانه علمٌ للتسبيح الذي هو التبعيدُ عن السوء اعتقاداً وقولاً أي اعتقادَ البعدِ عنه والحكمَ به ، مِنْ سبَح في الأرض والماء إذا أبعدَ فيهما وأمعن ومنه فرَسٌ سَبوحٌ أي واسعُ الجرْي ، وانتصابُه على المصدرية ولا يكاد يُذكر ناصبُه أي أسبِّح سبحانه أي أنزهه عما لا يليق به عقداً أو عملاً تنزيهاً خاصاً به حقيقاً بشأنه ، وفيه مبالغةً من جهة الاشتقاق من السَّبْح ومن جهة النقل إلى التفعيل ومن جهة العدول عن المصدر الدال على الجنس إلى الاسم الموضوع له خاصة ، لا سيما العلمُ المشيرُ إلى الحقيقة الحاضرةِ في الذهن ومن جهة إقامته مُقامَ المصدر مع الفعل وقيل : هو مصدرٌ كغُفران لأنه سُمع له فعلٌ من الثلاثي كما ذكر في القاموس أُريد به التنزُّهُ التامُّ والتباعدُ الكُلي ، ففيه مبالغةٌ من حيث إسنادُ التنزهِ إلى ذاتِه المقدسةِ أي تنزه بذاتِه تنزّهاً لائقاً به وهو الأنسبُ بقوله سبحانه : { وتعالى } فإنه معطوفٌ على الفعل المُضمر لا محالة ولِمَا في السُّبحان والتعالي من معنى التباعُد قيل : { عَمَّا يَصِفُونَ } أي تباعد عما يصفونه من أن له شريكاً أو ولداً .(2/408)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)
{ بَدِيعُ السموات والارض } أي مُبدِعُهما ومخترعُهما بلا مثالٍ يَحتذيه ولا قانونٍ ينتحيه ، فإن البديعَ كما يطلق على المُبدِع ( بكسر الدال ) يطلق على المبدَع ( بفتح الدال ) نصَّ عليه أئمة اللغة كالصريخ بمعنى المُصرِخ وقد جاء : بدَعَه كمنعه بمعنى أنشأه كابتدعه ، على ما ذُكر في القاموس وغيرِه ، ونظيرُه السميعُ بمعنى المُسمِع في قوله :
أمِنْ ريحانةَ الداعي السميعُ ... وقيل : هو من إضافة الصفةِ المشبهةِ إلى الفاعل للتخفيف بعد نصبِه تشبيهاً لها باسم الفاعل كما هو المشهور أي بديعُ سمواتِه وأرضِه من بَدَع إذا كان على نمطٍ عجيبٍ وشكلٍ فائق وحُسنٍ رائقٍ ، أو إلى الظرف كما في قولهم : ثبْتُ العذرِ بمعنى أنه عديمُ النظير فيهما ، والأولُ هو الوجه ، والمعنى أنه تعالى مبدعٌ لقطري العالم العلويِّ والسفليِّ بلا مادة فاعلٍ على الإطلاق منزّه عن الانفعال بالمرة ، والوالدُ عنصرُ الولد منفعلٌ بانتقال مادتِه عنه فكيف يمكن أن يكون له ولد؟ وقرىء بديعَ بالنصب على المدح وبالجر على أنه بدلٌ من الاسم الجليل أو من الضمير المجرورِ في سبحانه على رأي من يُجيزه ، وارتفاعُه في القراءة المشهورة على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أو فاعلُ تعالى ، وإظهارُه في موضع الإضمارِ لتعليل الحكمِ ، وتوسيطُ الظرفِ بينه وبين الفعل للاهتمام ببيانه ، أو مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى : { أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } وهو على الأولَيْن جملةٌ مستقلةٌ مَسوقةٌ لما قبلها لبيان استحالةِ ما نسبوه إليه تعالى وتقرير تنزُّهِه عنه وقوله تعالى : { وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة } حال مؤكدةٌ للاستحالة المذكورة فإن انتفاءَ أن يكون له تعالى صاحبةٌ مستلزمٌ لانتفاء أن يكون له ولدٌ ضرورةَ استحالة وجودِ الولدِ بلا والدة ، وإن أمكن وجودُه بلا والد ، وانتفاءُ الأولِ مما لا ريب فيه لأحد فمن ضرورته انتفاءُ الثاني أي من أين أو كيف يكون له ولد كما زعموا والحالُ أنه ليس له على زعمهم أيضاً صاحبةٌ يكون الولدُ منها؟ وقرىء لم يكنْ بتذكير الفعل للفصل أو لأن الاسمَ ضميرُه تعالى ، والخبرُ هو الظرفُ وصاحبةٌ مرتفعٌ به على الفاعلية لاعتماده على المبتدإ ، أو الظرفُ خبرٌ مقدمٌ وصاحبةٌ مبتدأٌ مؤخرٌ والجملةُ خبرٌ للكون وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون الاسمُ ضميرَ الشأنِ لصلاحية الجملةِ حينئذ لأن تكونَ مفسِّرةً لضمير الشأنِ لا على الوجه الأولِ لما بيّن في موضعه أن ضميرَ الشأنِ لا يفسَّر إلا بجملة صريحةٍ ، وقوله تعالى : { وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء } إما جملةٌ مستأنفةٌ أخرى سيقت لتحقيق ما ذُكر من الاستحالة أو حالٌ أخرى مقرِّرةٌ لها أي أنى يكون له ولدٌ والحالُ أنه خلق كلَّ شيءٍ انتظمه التكوينُ والإيجادُ من الموجودات التي من جملتها ما سمَّوْه ولداً له تعالى فكيف يُتَصوَّر أن يكون المخلوقُ ولداً لخالقه؟ { وَهُوَ بِكُلّ شَىْء } مِنْ شأنه أن يُعلم كائناً ما كان مخلوقاً أو غيرَ مخلوق كما ينبىء عنه تركُ الإضمار إلى الإظهار { عَلِيمٌ } مبالغٌ في العلم أزلاً وأبداً حسبما يُعرِبُ عنه العدولُ إلى الجملة الاسميةِ فلا يخفى عليه خافيةٌ مما كان وما سيكون من الذوات والصفاتِ والأحوالِ التي من جملتها ما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز من المُحالات التي ما زعموه فردٌ من أفرادها ، والجملةُ استئنافٌ مقررٌ لمضمون ما قبلها من الدلائل القاطعةِ ببطلان مقالتِهم الشنعاءِ التي اجترأوا عليها بغير علم .(2/409)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
{ ذلكم } إشارةٌ إلى المنعوت بما ذُكر من جلائل النعوتِ وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلوِّ شأنِ المُشارِ إليه وبُعدِ منزلتِه في العظمة ، والخطابُ للمشركين المعهودين بطريق الالتفاتِ ، وهو مبتدأٌ وقولُه تعالى : { الله رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خالق كُلّ شَىْء } أخبارٌ أربعةٌ مترادفةٌ أي ذلك الموصوفُ بتلك الصفاتِ العظيمةِ هو الله المستحِقُّ للعبادة خاصةً ، مالكُ أمرِكم لا شريك له أصلاً ، خالقُ كلِّ شيءٍ مما كان ومما سيكون ، فلا تكرارَ ، إذ المعتبرُ في عنوان الموضوعِ إنما هو خالقيتُه لما كان فقط كما ينبىء عنه صيغةُ الماضي ، وقيل : الخبرُ هو الأولُ ، والبواقي أبدالٌ ، وقيل : الاسمُ الجليلُ بدلٌ من المبتدأ والبواقي أخبارٌ ، وقيل : يقدر لكلَ من الأخبار الثلاثةِ مبتدأٌ ، وقيل : يُجعل الكلُّ بمنزلة اسمٍ واحد .
وقولُه تعالى : { فاعبدوه } حكم مترتبٌ على مضمون الجملة ، فإن مَنْ جمع هذه الصفاتِ كان هو المستحقُّ للعبادة خاصة ، وقوله تعالى : { وَهُوَ على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ } عطفٌ على الجملة المتقدمة أي هو مع ما فُصل من الصفات الجليلةِ متولي أمورِ جميعِ مخلوقاتِه التي أنتم من جملتها فكِلوا أمورَكم إليه وتوسلوا بعبادته إلى نجاح مآربِكم الدنيويةِ والأخروية .(2/410)
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
{ لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار } البصرُ حاسةُ النظرِ ، وقد تطلق على العين من حيث أنها محلُّها ، وإدراكُ الشيءِ عبارةٌ عن الوصول إليه والإحاطةِ به أي لا تصِل إليه الأبصارُ ولا تُحيط به كما قال سعيد بن المسيِّب ، وقال عطاء : كلّتْ أبصارُ المخلوقين عن الإحاطة به فلا مُتمسَّك فيه لمنكري الرؤيةِ على الإطلاق . وقد روي عن ابن عباس ومقاتل رضي الله عنهم : لا تدركه الأبصارُ في الدنيا وهو يُرى في الآخرة { وَهُوَ يُدْرِكُ الابصار } أي يحيطُ بها علمُه إذ لا تخفى عليه خافيةٌ { وَهُوَ اللطيف الخبير } فيدرك ما لا تدركه الأبصارُ ، ويجوز أن يكون تعليلاً للحُكمين السابقين على طريقة اللفِّ أي لا تدركه الأبصارُ لأنه اللطيفُ وهو يدرك الأبصارَ لأنه الخبيرُ فيكون اللطيفُ مستفاداً من مقابل الكثيفِ لما لا يُدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها .
وقوله تعالى : { قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ } استئنافٌ وارد على لسان النبي عليه الصلاة والسلام ، والبصائرُ جمعُ بصيرةٍ وهي النورُ الذي به تستبصِرُ النفسُ كما أن البصرَ نورٌ به تبصِرُ العين ، والمرادُ بها الآيةُ الواردةُ هاهنا أو جميعُ الآيةِ المنتظمةِ لها انتظاماً أولياً ، ومن لابتداء الغايةِ مجازاً سواءٌ تعلقت بجاء أو بمحذوف هو صفةٌ لبصائرُ ، والتعرضُ لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار كمالِ اللطفِ بهم أي قد جاءكم من جهة مالككم ومبلِّغِكم إلى كمالكم اللائقِ بكم من الوحي الناطقِ بالحق والصوابِ ما هو كالبصائر للقلوب أو قد جاءكم بصائرُ كائنةٌ من ربكم { فَمَنْ أَبْصَرَ } أي الحقَّ بتلك البصائرِ وآمن به { فَلِنَفْسِهِ } أي فلنفسه أبصر ، أو فإبصارُه لنفسه لأن نفعَه مخصوصٌ بها { وَمَنْ عَمِىَ } أي ومن لم يبصر الحقَّ بعد ما ظهر له بتلك البصائرِ ظهوراً بيِّناً وضلَّ عنه ، وإنما عبّر عنه بالعمى تقبيحاً له وتنفيراً عنه { فَعَلَيْهَا } أي فعليها عمِي أو فعَماهُ عليها أو وبالُ عملِه { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } وإنما أنا منذر ، والله هو الذي يحفظ أعمالَكم ويجازيكم عليها .
{ وكذلك نُصَرّفُ الايات } أي مثلَ ذلك التصريفِ البديعِ نصرِّف الآياتِ الدالةَ على المعاني الرائقةِ الكاشفةِ عن الحقائق الفائقةِ لا تصريفاً أدنى منه ، وقوله تعالى : { وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ } علةٌ لفعل قد حذف تعويلاً على دلالة السياقِ عليه ، أو وليقولوا درست نفعلُ ما نفعل من التصريفِ المذكورِ ، واللامُ للعاقبة ، والواو اعتراضيةٌ وقيل : هي عاطفةٌ على علة محذوفةٍ واللام متعلقةٌ بنُصرِّف أي مثلَ ذلك التصريفِ نصرِّف الآياتِ لنُلزِمَهم الحجةَ وليقولوا الخ ، وقيل : اللام لامُ الأمرِ ، وتنصُره القراءةُ بسكون اللامِ كأنه قيل : وكذلك نصرف الآياتِ وليقولوا هم ما يقولون فإنه لا احتفالَ بهم ولا اعتدادَ بقولهم ، وهذا أمرٌ معناه الوعيدُ والتهديدُ وعدمُ الاكتراثِ بقولهم ورُدَّ عليه بأن ما بعده يأباه ، ومعنى درست قرأتَ وتعلمتَ ، وقُرىء دارسْتَ أي دارستَ العلماءَ ، ودَرَسَتْ أي تقدمت هذه الآياتُ وعفَت كما قالوا أساطيرُ الأولين ودَرُسَت بضم الراءِ مبالغةً في درَست أي اشتد دروسُها ودُرست على البناء للمفعول بمعنى قُرئت أو عُفِيت ودارَسَتْ وفسروها بدارست اليهودُ محمداً صلى الله عليه وسلم .(2/411)
وجاز الإضمارُ لاشتهارهم بالدراسة ، وقد جُوز إسنادُ الفعل إلى الآيات وهو في الحقيقة لأهلها أي دارسَ أهلُ الآيات وحَمَلتُها محمداً صلى الله عليه وسلم وهم أهلُ الكتاب ودرَسَ أي درَسَ محمدٌ ودارِسات أي هي دارساتٌ أي قديمات أو ذاتُ دَرْسٍ كعيشة راضية وقوله تعالى : { وَلِنُبَيّنَهُ } عطفٌ على ليقولوا واللام على الأصل لأن التبيينَ غايةُ التصريفِ ، والضميرُ للآيات باعتبار المعنى أو للقرآن وإن لم يُذكر ، أو للمصدر أي ولِنفعلَ التبيينَ ، واللامُ في قوله تعالى : { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } متعلقةٌ بالتبيين ، وتخصيصُه بهم لما أنهم المنتفِعون به ، قال ابن عباس : هم أولياؤُه الذين هداهم إلى سبيل الرشادِ ، ووصفُهم بالعلم للإيذان بغاية جهلِ الأولين وخلوِّهم عن العلم بالمرة .(2/412)
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
{ اتبع مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ } لما حُكي عن المشركين قدحُهم في تصريف الآياتِ عُقِّب ذلك بأمره عليه السلام بالثبات على ما هو عليه وبعدم الاعتدادِ بهم وبأباطيلهم ، أي دُمْ على ما أنت عليه من اتباع ما أوحي إليك من الشرائع والأحكامِ التي عُمدتُها التوحيدُ ، وفي التعرّض لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام من إظهار اللطفِ به ما لا يخفى ، وقوله تعالى : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } اعتراضٌ بين الأمرين المتعاطفَين مؤكِّدٌ لإيجاب اتباعِ الوحي لا سيما في أمر التوحيدِ ، وقد جُوز أن يكون حالاً من ربك أي منفرداً في الألوهية { وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين } لا تحتفِلْ بهم وبأقاويلهم الباطلةِ التي من جملتها ما حُكي عنهم آنفاً . ومن جعله منسوخاً بآية السيفِ حَمل الإعراضَ على ما يعُمّ الكفَّ عنهم .
{ وَلَوْ شَاء الله } أي عدمَ إشراكِهم حسبما هو القاعدةُ المستمرةُ في حذف مفعولِ المشيئةِ من وقوعها شرطاً وكونِ مفعولها مضمونَ الجزاء { مَا أَشْرَكُواْ } وهذا دليلٌ على أنه تعالى لا يريد إيمانَ الكافرِ لكنْ لا بمعنى أنه تعالى يمنعُه عنه مِنْ توجّهِه إليه بل بمعنى أنه تعالى لا يريده منه لعدم صرفِ اختيارِه الجزئيِّ نحوَ الإيمان ، وإصرارِه على الكفر ، والجملةُ اعتراضٌ مؤكد للإعراض وكذا قولُه تعالى : { وَمَا جعلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } أي رقيباً مهيمناً مِنْ قِبلنا تحفظ عليهم أعمالَهم ، وكذا قولُه تعالى : { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } من جهتهم تقوم بأمورهم وتدبر مصالِحَهم ، وعليهم في الموضعين متعلقٌ بما بعده ، قُدِّم عليه للاهتمام أو لرعاية الفواصل .
{ وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله } أي لا تشتُموهم من حيث عبادتُهم لآلهتهم كأن تقولوا : تباً لكم ولما تعبُدونه مثلاً { فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً } تجاوزاً عن الحق إلى الباطل بأن يقولوا لكم مثلَ قولِكم لهم { بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي بجهالة بالله تعالى وبما يجب أن يُذكَرَ به ، وقرىء عُدُوّاً يقال : عدا يعدو عَدْواً وعُدُوّاً وعِداء وعُدْواناً . روي أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } لتنتهِيَنَّ عن سب آلهتِنا أو لنهجُوَنّ إلهك . وقيل : كان المسلمون يسبّونهم فنُهوا عن ذلك لئلا يستتبِعَ سبُّهم سبَّه سبحانه وتعالى ، وفيه أن الطاعةَ إذا أدتْ إلى معصية راجحةٍ وجب تركُها فإن ما يؤدي إلى الشر شرٌّ .
{ كذلك } أي مثلَ ذلك التزيينِ القويِّ { زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } من الخير والشر بإحداث ما يُمكّنهم منه ويحمِلُهم عليه توفيقاً أو تخذيلاً ، ويجوز أن يُراد بكل أمة أممُ الكفرةِ إذ الكلامُ فيهم وبعملهم شرُّهم وفسادُهم ، والمشبَّه به تزيينُ سبِّ الله تعالى لهم { ثُمَّ إلى رَبّهِمْ } مالك أمرِهم { مَرْجِعُهُمْ } أي رجوعُهم وهو البعثُ بعد الموت { فَيُنَبّئُهُمْ } من غير تأخير { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } في الدنيا على الاستمرار من السيئات المزيَّنةِ لهم ، وهو وعيدٌ بالجزاء والعذاب ، كقول الرجل لمن يتوعدُه : سأُخبرُك بما فعلت ، وفيه نكتةٌ سِرّية مبنيةٌ على حِكمة أبيّةٍ ، وهو أن كلَّ ما يظهر في هذه النشأةِ من الأعيان والأعراضِ فإنما يظهر بصورة مستعارةٍ مخالفةٍ لصورته الحقيقية التي بها يظهر في النشأة الآخرة ، فإن المعاصيَ سمومٌ قاتلةٌ قد برزت في الدنيا بصورةٍ ما تستحسنها نفوسُ العصاة ، كما نطقت به هذه الآيةُ الكريمة ، وكذا الطاعاتُ فإنها مع كونها أحسنَ الأحاسنِ قد ظهرت عندهم بصورة مكروهةٍ ، ولذلك قال عليه السلام :(2/413)
« حُفَّت الجنَّةُ بالمكارِهِ وحَفَّتِ النارُ بالشهواتِ » فأعمال الكفرةِ قد برزت لهم في النشأة بصورة مزيَّنةٍ يستحسنها الغُواةُ ويستحبّها الطغاةُ ، وستظهر في النشأة الآخرةِ بصورتها الحقيقيةِ المنكرةِ الهائلةِ فعند ذلك يعرِفون أن أعمالهم ماذا فعبر عن إظهارها بصورها الحقيقية بالإخبار بها لما أن كلاًّ منهما سبب للعلم بحقيقتها كما هي .(2/414)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)
فلْيُتدبر قوله تعالى : { وَأَقْسَمُواْ بالله } روي أن قريشاً اقترحوا بعضَ آيات ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : « فإن فعلتُ بعضَ ما تقولون أتصدّقونني؟ » فقالوا : نعم ، وأقسموا لئن فعلتَه ليؤمِنُنّ جميعاً فسأل المسلمون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلها طمعاً في إيمانهم فهمّ عليه الصلاة والسلام بالدعاء فنزلت وقوله تعالى : { جَهْدَ أيمانهم } مصدرٌ في موقع الحال أي أقسموا به تعالى جاهدين في أيمانهم { لَئِن جَاءتْهُمْ ءايَةٌ } من مقترحاتهم أو من جنس الآياتِ وهو الأنسبُ بحالهم في المكابرة والعناد وترامي أمرِهم في العتو والفساد ، حيث كانوا لا يعُدّون ما يشاهدونه من المعجزات الباهرةِ من جنس الآيات { لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا } وما كان مَرْمى غرضِهم في ذلك إلا التحكمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب المعجزةِ وعدم الاعتدادِ بما شاهدوا منه من البينات الحقيقةِ بأن تُقطعَ بها الأرضُ وتُسيَّر بها الجبالُ { قُلْ إِنَّمَا الايات } أي كلُّها ، فيدخُل فيها ما اقترحوه دخولاً أولياً { عَندَ الله } أي أمرُها في حُكمه وقضائِه خاصةً يتصرف فيها حسبَ مشيئتِه المبنيَّةِ على الحِكَم البالغةِ لا تتعلق بها ولا بشأن من شؤونها قُدرةُ أحدٍ ولا مشيئتُه لا استقلالاً ولا اشتراكاً بوجه من الوجوه حتى يُمكِنَني أن أتصدّى لاستنزالها بالاستدعاء .
وهذا كما ترى سدٌّ لباب الاقتراحِ على أبلغ وجهٍ وأحسنِه ببيان علوِّ شأن الآياتِ وصعوبةِ منالِها وتعاليها من أن تكون عُرضةً للسؤال والاقتراحِ ، وأما ما قيل من أن المعنى إنما الآياتُ عند الله تعالى لا عندي فكيف أُجيبكم إليها أو آتيكم بها وهو القادِرُ عليها لا أنا حتى آتِيَكم بها فلا مناسبةَ له بالمقام كيف لا وليس مقترَحُهم مجيئها بغير قدرةِ الله تعالى وإرادتِه حتى يجابوا بذلك وقوله تعالى : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } كلامٌ مستأنفٌ غيرُ داخلٍ تحت الأمرِ مَسوقٌ من جهته تعالى لبيان الحكمةِ الداعيةِ إلى ما أشعر به الجوابُ السابقُ من عدم مجيءِ الآياتِ خوطب به المسلمون إما خاصةً بطريق التلوينِ لمّا كانوا راغبين في نزولها طمعاً في إسلامهم ، وإما معه عليه الصلاة والسلام بطريق التعميم لما روي عنه صلى الله عليه وسلم من الهم بالدعاء . وقد بُيّن فيه أن أيْمانَهم فاجرةٌ وإيمانُهم مما لا يدخل تحت الوجودِ وإن أجيب إلى ما سألوه .
و ( ما ) استفهاميةٌ إنكاريةٌ لكن لا على أن مرجِعَ الإنكارِ هو وقوعُ المشعَرِ به بل هو نفسُ الإشعارِ مع تحقق المشعَرِ به في نفسه . أي وأيُّ شيءٍ يُعلِمُكم أن الآيةَ التي يقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون بل يبقَوْن على ما كانوا عليه من الكفر والعِناد أي لا تعلمون ذلك فتتمنّون مجيئها طمعاً في إيمانهم فكأنه بسطُ عذرٍ من جهة المسلمين في تمنيهم نزولَ الآياتِ ، وقيل : ( لا ) مزيدةٌ فيتوجه الإنكارُ إلى الإشعار به جميعاً ، أي أيُّ شيءٍ يعلمكم إيمانَهم عند مجيءِ الآياتِ حتى تتمنَّوا مجيئها طمعاً في إيمانهم؟ فيكونُ تخطئةً لرأي المسلمين ، وقيل : ( أنّ ) بمعنى لعل ، يقال : ادخُل السوقَ أنك تشتري اللحمَ وعنك وعلّك ولعلك كلُّها بمعنى ، ويؤيده أنه قرىء لعلها إذا جاءت لا يؤمنون على أن الكلامَ قد تمّ قبله ، والمفعولُ الثاني ليُشعرَكم محذوفٌ كما في قوله تعالى :(2/415)
{ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ * يُزَكّى } والجملة استئنافٌ لتعليل الإنكار وتقريرِه ، أي أيُّ شيءٍ يعلمكم حالَهم وما سيكون عند مجيءِ الآياتِ لعلها إذا جاءت لا يؤمنون بها فما لكم تتمنَّوْن مجيئها؟ فإن تمنِّيَهم إنما يليق بما إذا كان إيمانُهم بها محقَّقَ الوجودِ عند مجيئِها لا مرجوَّ العدم . وقرىء إنها بالكسر على أنه استئنافٌ حسبما سبق مع زيادة تحقيقٍ لعدم إيمانِهم وقرىء لا تؤمنون بالفوقانية ، فالخطابُ في وما يشعركم للمشركين وقرىء وما يشعرهم أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون ، فمرجِعُ الإنكارِ إقدامُ المشركين على الإقسام المذكورِ مع جهلهم بحال قلوبِهم عند مجيءِ الآياتِ وبكونها حينئذٍ كما هي الآن .(2/416)
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
{ وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم } عطفٌ على لا يؤمنون داخلٌ في حكم ما يشعركم مقيدٌ بما قيد به أي وما يُشعرُكم أنا نقلّب أفئدتَهم عن إدراك الحقِّ فلا يفقهونه وأبصارَهم عن اجتلائه فلا يُبصرونه لكن لا مَعَ توجهها إليه واستعدادِها لقبوله بل لكمال نُبوِّها عنه وإعراضِها بالكلية ولذلك أخِّر ذكرُه عن ذكر عدمِ إيمانِهم إشعاراً بأصالتهم في الكفر وحسماً لتوهُّم أن عدم إيمانِهم ناشىءٌ من تقليبه تعالى مشاعرَهم بطريق الإجبار { كَمَا لَوْ يُؤْمِنُواْ بِهِ } أي بما جاء من الآيات { أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي عند ورودِ الآياتِ السابقةِ ، والكافُ في محل النصبِ على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ منصوبٌ بلا يؤمنون وما مصدريةٌ أي لا يؤمنون بل يكفرون كفراً كائناً ككفرهم أولَ مرةٍ ، وتوسيطُ تقليبِ الأفئدةِ والأبصارِ بينهما لأنه من متمّمات عدمِ إيمانهم { وَنَذَرُهُمْ } عطفٌ على لا يؤمنون داخلٌ في حكم الاستفهامِ الإنكاريِّ مقيّدٌ بما قيد به مبيِّنٌ لما هو المرادُ بتقليب الأفئدةِ والأبصار ، ومعْرِبٌ عن حقيقته بأنه ليس على ظاهره بأن يُقلِّب الله سبحانه مشاعِرَهم عن الحق مع توجههم إليه واستعدادِهم له بطريق الإجبارِ بل بأن يُخلِّيَهم وشأنَهم بعد ما عُلم فسادُ استعدادِهم وفرطُ نفورِهم عن الحق ، وعدمُ تأثيرِ اللطفِ فيهم أصلاً ، ويطبَعُ على قلوبهم حسبما يقتضيه استعدادُهم كما أشرنا إليه ، وقوله تعالى : { فِي طغيانهم } متعلِّقٌ بنذرهم ، وقوله تعالى : { يَعْمَهُونَ } حالٌ من الضمير المنصوبِ في نذرهم أي ندعُهم في طغيانهم متحيِّرين لا نهديهم هدايةَ المؤمنين ، أو مفعولٌ ثانٍ لنذرُهم أي نصيِّرهم عامِهين وقرىء يُقلِّب ويَذَرُ بالياء على إسنادهما إلى ضمير الجلالةِ وقرىء تُقلَّبُ بالتاء والبناءِ للمفعول على إسناده إلى أفئدتهم .(2/417)
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملئكة } تصريحٌ بما أشعَرَ به قولُه عز وجل : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } من الحكمة الداعيةِ إلى ترك الإجابةِ إلى ما اقترحوه من الآيات إثرَ بيانِ أنها في حُكمه وقضائه المبنيِّ على الحِكَم البالغةِ لا مدخلَ لأحد في أمرها بوجه من الوجوه ، وبيانٌ لكذبهم في أيْمانهم الفاجرةِ على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه أي ولو أننا لم نقتصِرْ على إيتاء ما اقترحوه هاهنا من آية واحدةٍ من الآيات بل نزلنا إليهم الملائكةَ كما سألوه بقولهم : { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملئكة } وقولِهم : { لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملئكة } { وَكَلَّمَهُمُ الموتى } وشهدوا بحقية الإيمانِ بعد أن أحييناهم حسبما اقترحوه بقولهم : فأتوا بآبائنا { وَحَشَرْنَا } أي جمعنا { عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء قُبُلاً } بضمتين وقرىء بسكون الباء أي كُفلأَ الأمرِ وصدقِ النبي صلى الله عليه وسلم ، على أنه جمعُ قَبيل بمعنى الكفيل كرغيف ورُغُف وقضيب وقُضُب وهو الأنسب بقوله تعالى : { أَوْ تَأْتِىَ بالله والملئكة قَبِيلاً } أي لو لم نقتصِرْ على ما اقترحوه بل زدنا على ذلك بأن أحضرنا لديهم كلَّ شيءٍ يتأتّى منه الكفالةُ والشهادةُ بما ذُكر لا فرادى بل بطريق المعيةِ . أو جماعاتٍ على أنه جمعُ قَبيلٍ وهو جمعُ قبيلة ، وهو الأوفق لعموم كلِّ شيءٍ وشمولِه للأنواع والأصنافِ أي حشرنا كلَّ شيء نوعاً نوعاً وصنفاً صنفاً وفوجاً فوجاً ، وانتصابُه على الحالية وجمعيتُه باعتبار الكل المجموعيِّ اللازمِ للكل الإفراديِّ أو مقابلةً وعِياناً على أنه مصدرٌ كقِبَلا ، وقد قرىء كذلك ، وانتصابُه على الوجهين على أنه مصدرٌ في موقع الحالِ ، وقد نقل عن المبرِّد وجماعةٍ من أهل اللغة أن الأخيرَ بمعنى الجهة كما في قولك : لي قِبَلَ فلانٍ حقٌّ ، وأن انتصابَه على الظرفية { مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } أي ما صح وما استقام لهم الإيمانُ لتماديهم في العصيان وغلوِّهم في التمرد والطُّغيانِ ، وأما ما سبق القضاءُ عليهم بالكفر فمن الأحكامِ المترتبةِ على ذلك حسبما ينبىء عنه قولُه عز وجل : { وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } وقوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَشَاء الله } استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوالِ ، والالتفاتُ إلى الاسم الجليل لتربية المهابةِ وإدخالِ الروعة ، أي ما كانوا ليؤمنوا بعد اجتماعِ ما ذكر من الأمورِ الموجبةِ للإيمان في حال من الأحوال الداعيةِ إليه المتمِّمة لموجباته المذكورةِ إلا في حال مشيئتِه تعالى لإيمانهم أو من أعمّ العللِ أي ما كانوا ليؤمنوا لعلة من العلل المعدودةِ وغيرِها إلا لمشيئته تعالى له ، وأياً ما كان فليس المرادُ بالاستثناء بيانَ أن إيمانَهم على خطر الوقوعِ بناءً على كون مشيئتِه تعالى أيضاً كذلك بل بيانَ استحالةِ وقوعِه بناءً على استحالة وقوعِها كأنه قيل : ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله وهيهاتَ ذلك وحالُهم حالُهم بدليل ما سبق من قوله تعالى :(2/418)
{ وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ } الآية ، كيف لا وقولُه عز وجل : { ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } استدراكٌ من مضمون الشرطيةِ بعد ورودِ الاستثناءِ لا قبله ، ولا ريبَ في أن الذي يجهلونه سواءٌ أريد بهم المسلمون وهو الظاهرُ ، أو المُقسِمون ليس عدمَ إيمانِهم بلا مشيئة الله تعالى كما هو اللازمُ من حمل النظمِ الكريمِ على المعنى الأولِ فإنه ليس مما يعتقده الأولون ولا مما يدّعيه الآخَرون بل إنما هو عدمُ إيمانهم لعدم مشيئتِه إيمانَهم ومرجعُه إلى جهلهم بعدم مشيئتِه إياه فالمعنى أن حالَهم كما شُرح ولكن أكثر المسلمين يجهلون عدمَ إيمانِهم عند مجيءِ الآياتِ لجهلهم عدمَ مشيئتِه تعالى لإيمانهم فيتمنَّوْن مجيئَها طمعاً فيما لا يكون . فالجملةُ مقرِّرةٌ لمضمون قوله تعالى : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } الخ ، على القراءة المشهورة ، أو ولكن أكثرَ المشركين يجهلون عدمَ إيمانِهم عند مجيء الأيات لجهلهم عدم مشيئته تعالى لإيمائهم حينئذ فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يكاد يكونُ ، فالجملةُ على القراءة السابقةِ بيانٌ مبتدأٌ لمنشأ خطأ المقسِمين ومناطِ إقسامهم وتقريرٌ له على قراءة لا تؤمنون بالتاء الفوقانية وكذا على قراءة وَمَا يشعرهم أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون .(2/419)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً } كلامٌ مبتدأٌ مسوقٌ لتسلية رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عما كان يشاهده من عداوة قريشٍ له عليه الصلاة والسلام وما بنَوْا عليها مما لا خير فيه من الأقاويل والأفاعيلِ ببيان أن ذلك ليس مختصاً بل هو أمرٌ ابتُليَ به كلُّ من سبَقك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ومحلُّ الكاف النصبُ على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ أشير إليه بذلك منصوبٌ بفعله المحذوفِ مؤكدٌ لما بعده وذلك إشارةٌ إلى ما يفهم مما قبله أي جعلنا لكل نبيَ عدواً والتقديمُ على الفعل المذكورِ للقصر المفيدِ للمبالغة أي مثلَ ذكل الجعلِ الذي جعلنا في حقك لك عدواً يُضادُّونك ويضارُّونك ولا يؤمنون ويبغونك الغوائلَ ويدبّرون في إبطال أمرِك مكايدَ جعلنا لكل نبيَ تقدمَك عدواً فعلوا بهم ما فعل بك أعداؤُك لا جعلاً أنقصَ منه .
وفيه دليلٌ على أن عداوةَ الكفرةِ للأنبياء عليهم السلام بخلقه تعالى للابتلاء { شياطين الإنس والجن } أي مَرَدةَ الفريقين على أن الإضافة بمعنى مِنْ البيانية ، وقيل : هي إضافةُ الصفةِ إلى الموصوف والأصلُ الإنسُ والجنُّ والشياطينُ ، وقيل : هي بمعنى اللام أي الشياطين التي للإنس والتي للجن ، وهو بدلٌ من عدواً والجعلُ متعدَ إلى واحد أو إلى اثنين وهو أولُ مفعوليْه قُدِّم عليه الثاني مسارعةً إلى بيان العداوةِ ، واللام على التقديرين متعلقةٌ بالجعل أو بمحذوف هو حالٌ من عدواً ، وقوله تعالى : { يُوحِى بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ } كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لبيان أحكامِ عداوتِهم ، وتحقيقُ وجهِ الشبهِ بين المشبهِ والمشبَّه به ، أو حالٌ من الشياطين أو نعتٌ لعدواً ، وجمعُ الضميرِ باعتبار المعنى فإنه عبارةٌ عن الأعداء كما في قوله :
إذا أنا لم أنفعْ صديقي بودّه ... فإن عدوِّي لم يضُرَّهمو بغضي
والوحيُ عبارةٌ عن الإيماء والقول السريعِ ، أي يُلقي ويوسوس شياطينُ الجنِّ إلى شياطينِ الإنسِ ، أو بعضُ كلَ من الفريقين إلى بعض آخَرَ { زُخْرُفَ القول } أي المموَّهَ منه المزيَّنَ ظاهرُه الباطلَ باطنُه . من زَخْرفه إذا زيّنه . { غُرُوراً } مفعول له ليوحي أي ليغُرّوهم ، أو مصدرٌ في موقع الحال أي غارّين أو مصدرٌ مؤكد لفعل مقدرٍ هو حال من فاعل يوحي أي يغرُّون غروراً { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ } رجوعٌ إلى بيان الشؤونِ الجاريةِ بينه صلى الله عليه وسلم وبين قومِه المفهومةِ من حكاية ما جرى بين الأنبياءِ عليهم السلام وبين أُممِهم كما ينبىء عنه الالتفاتُ ، والتعرُّضُ لوصف الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم المُعرِبة عن كمال اللطفِ في التسلية أي ولو شاء ربُّك عدمَ الأمورِ المذكورةِ لا إيمانَهم كما قيل فإن القاعدةَ المستمرةَ أن مفعولَ المشيئةِ إنما يحذف عند وقوعِها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاءِ وهو قوله تعالى : { مَّا فَعَلُوهُ } أي ما فعلوا ما ذكر من عداوتك ، وإيحاءِ بعضهم إلى بعض مزخرفاتِ الأقاويلِ الباطلةِ المتعلقةِ بأمرك خاصة لا بما يعمّه وأمورَ الأنبياءِ عليهم السلام أيضاً كما قيل فإن قوله تعالى : { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } صريحٌ في أن المرادَ بهم الكفرةُ المعاصِرون له عليه الصلاة والسلام أي إذا كان ما فعلوه من أحكام عداوتِك من فنون المفاسد بمشيئته تعالى فاترُكْهم وافتراءَهم أو ما يفترونه من أنواع المكايدِ فإن لهم في ذلك عقوباتٍ شديدةً ولك عواقبُ حميدةٌ لابتناء مشيئتِه تعالى على الحِكَم البالغة البتة .(2/420)
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
{ ولتصغى إِلَيْهِ } أي إلى زُخرُفِ القولِ وهو على الوجه الأولِ علة أخرى للإيحاء معطوفةٌ على غروراً وما بينهما اعتراضٌ وإنما لم ينصَبْ لفقد شرطِه إذ الغرورُ فعلُ الموحي وصغْوُ الأفئدةِ فعلُ الموحى إليه أي يوحي بعضُهم إلى بعض زُخْرفَ القولِ ليغرِّرَهم به ولتميل إليه { أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة } إنما خصَّ بالذكر عدمُ إيمانِهم بالآخرة دون ما عداها من الأمور التي يجب الإيمانُ بها وهم بها كافرون إشعاراً بما هو المدارُ في صغْو أفئدتِهم إلى ما يلقى إليهم ، فإن لذّاتِ الآخرةِ محفوفةٌ في هذه النشأةِ بالمكاره ، وآلامُها مزينةٌ بالشهوات فالذين لا يؤمنون بها وبأحوال ما فيها لا يدرون أن وراءَ تلك المكارهِ لذّاتٍ ودون هذه الشهواتِ آلاماً وإنما ينظُرون إلى ما بدا لهم في الدنيا بادىءَ الرأي فهم مضطرون إلى حبّ الشهواتِ التي من جملتها مزخْرَفاتُ الأقاويلِ ومُموَّهاتُ الأباطيل وأما المؤمنون بها فحيث كانوا واقفين على حقيقة الحالِ ناظرين إلى عواقب الأمورِ لم يُتصوَّر منهم الميلُ إلى تلك المزخرَفاتِ لعلمهم ببطلانها ووخامة عاقبتِها .
وأما على الوجهين الأخيرين فهو علةٌ لفعل محذوف يدل عليه المقامُ أي ولكون ذلك جعلنا ما جعلنا ، والمعتزلةُ جعلوا اللامَ لامَ العاقبةِ أو لام القسَم أو لامَ الأمر وضعفُه في غاية الظهور { وَلِيَرْضَوْهُ } لأنفسهم بعد ما مالت إليه أفئدتهم { وَلِيَقْتَرِفُواْ } أي يكتسبوا بوجب ارتضائِهم له { مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ } له من القبائح التي لا يليق ذكرُها .
{ أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِى حَكَماً } كلامٌ مستأنفٌ واردٌ على إرادة القولِ ، والهمزةُ للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه الكلامُ أي قل لهم : أأمِيلُ إلى زخارف الشياطينِ فأبتغيَ حكماً غيرَ الله يحكمُ بيننا ويفصل المحِقَّ منا من المبْطِل؟ وقيل : إن مشركي قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اجعلْ بيننا وبينك حكَماً من أحبار اليهود أو من أساقفة النصارى ليخبرَنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت . وإسنادُ الابتغاءِ المنكرِ إلى نفسه صلى الله عليه وسلم لا إلى المشركين كما في قوله تعالى : { أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ } مع أنهم الباغون لإظهار كمالِ النَّصَفةِ أو لمراعاة قولِهم : اجعلْ بيننا وبينك حكماً . وغيرَ إما مفعولُ أبتغي وحكَماً حالٌ منه وإما بالعكس ، وأياً ما كان فتقديمُه على الفعل الذي هو المعطوفُ بالفاء حقيقةً كما أشير إليه للإيذان بأن مدارَ الإنكارِ هو ابتغاءُ غيرِه تعالى حكماً لا مطلقُ الابتغاء . وقيل : حكماً تمييزٌ لما في ( غيرَ ) من الإبهام كقولهم : إن لنا غيرَها إبلاً . قالوا : الحكَمُ أبلغُ من الحاكمِ وأدلُّ على الرسوخ لما أنه لا يُطلق إلا على العادل وعلى مَنْ تكرَّر منه الحكمُ بخلاف الحاكم وقوله تعالى : { وَهُوَ الذى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب } جملةٌ حاليةٌ مؤكدةٌ لإنكار ابتغاءِ غيرِه تعالى حكماً ، ونسبةُ الإنزالِ إليهم خاصةً مع أن مقتضى المقامِ إظهارُ تساوي نسبتِه إلى المتحاكِمَيْن لاستمالتهم نحوَ المُنْزَل واستنزالِهم إلى قبول حكمِه بإيهام قوةِ نسبتِه إليهم ، أي أغيرَه تعالى أبتغي حكَماً والحالُ أنه هو الذي أنزلَ إليكم .(2/421)
وأنتم أمةٌ أمِّية لا تدرون ما تأتون وما تذرون فإن القرآنَ الناطقَ بالحق والصوابِ الحقيقُ بأن يُخَصَّ به اسمُ الكتاب { مُفَصَّلاً } أي مبيناً فيه الحقُّ والباطلُ والحلالُ والحرام وغيرُ ذلك من الأحكام بحيث لم يبْقَ في أمور الدينِ شيءٌ من التخليط والإبهامِ فأيُّ حاجة بعد ذلك إلى لحَكَم؟ وهذا كما ترى صريحٌ في أن القرآنَ الكريمَ كافٍ في أمر الدينِ مغنٍ عن غيره ببيانه وتفصيلِه وأما أن يكون لإعجازه دخْلٌ في ذلك كما قيل فلا ، وقوله تعالى : { والذين ءاتيناهم الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ بالحق } كلامٌ مستأنفٌ غيرُ داخلٍ تحت القولِ المقدَّر مَسوقٌ من جهته سبحانه لتحقيق حقِّيةِ الكتابِ الذي نيط به أمرُ الحَكَمية وتقريرِ كونِه منزلاً من عنده عز وجل ببيان أن الذين وثِقوا بهم ورضوا بحَكَميّتهم حسبما نُقل آنفاً من علماء اليهودِ والنصارى عالمون بحقيته ونزولِه من عنده تعالى ، وفي التعبير عن التوراة والإنجيلِ باسم الكتابِ إيماءٌ إلى ما بينهما وبين القرآنِ من المجانسة المقتضيةِ للاشتراك في الحقية والنزولِ من عنده تعالى مع ما فيه من الإيجاز ، وإيرادُ الطائفتين بعنوان إيتاءِ الكتابِ للإيذان بأنهم علِموه من جهة كتابِهم حيث وجدوه حسبما نُعت فيه وعاينوه موافِقاً له في الأصول وما لا يُختلف من الفروع ومُخبِراً عن أمور لا طريقَ إلى معرفتها سوى الوحي . والمرادُ بالموصول إما علماءُ الفريقين وهو الظاهرُ فالإيتاءُ هو التفهيمُ بالفعل وإما الكلُّ وهم داخلون فيه دخولاً أولياً فهو أعمُّ مما ذكر من التفهيم بالقوة ، ولا ريب في أن الكل متمكنون من ذلك ، وقيل : المرادُ مؤمنوا أهلِ الكتاب ، وقرىء مُنْزلٌ من الإنزال ، والتعرضُ لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه عليه الصلاة والسلام ، والباءُ في قوله تعالى بالحق متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من الضمير المستكنّ في مُنزّلٌ أي ملتبساً بالحق .
{ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } أي في أنهم يعلمون ذلك لما لا تشاهِد منهم آثارَ العلم وأحكام المعرفة ، فالفاء لترتيب النهي على الإخبار بعلم أهل الكتاب بشأن القرآنِ أو في أنه منزلٌ من ربك بالحق فيكونُ من باب التهييجِ والإلهابِ كقوله تعالى : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } وقيل : الخطابُ في الحقيقة للأمة وإن كان له صلى الله عليه وسلم صورةً ، وقيل : الخطابُ لكل أحدٍ على معنى أن الأدلةَ قد تعاضدت وتظاهرت فلا ينبغي لأحد أن يمتريَ فيه ، والفاءُ على هذه الوجوهِ لترتيب النهي على نفس علمِهم بحال القرآن .(2/422)
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)
{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ } شروعٌ في بيان كمالِ الكتابِ المذكورِ من حيث ذاتُه إثرَ بيانِ كمالِه من حيث إضافتُه إليه تعالى بكونه منزلاً منه بالحق ، وتحقيقُ ذلك بعلم أهلِ الكتاب به ، وإنما عبر عنه بالكلمة لأنها الأصلُ في الاتصاف بالصدق والعدلِ وبها تظهر الآثارُ من الحكم ، وقرىء كلماتُ ربك { صِدْقاً وَعَدْلاً } مصدران نصبا على الحال وقيل : على التمييز وقيل : على العلة وقوله تعالى : { لاَ مُبَدّلَ لكلماته } إما استئنافٌ مبينٌ لفضلها على غيرها إثرَ بيانِ فضلِها في نفسها ، وإما حالٌ أخرى من فاعل تمت على أن الظاهرَ مغنٍ عن الضمير الرابطِ ، والمعنى أنها بلغت الغايةَ القاصيةَ صدقاً في الإخبار والمواعيدِ وعدلاً في الأقضية والأحكامِ لا أحدَ يبدل شيئاً من ذلك بما هو أصدقُ وأعدلُ ولا بما هو مثلُه فكيف يُتصوّر ابتغاءُ حكمٍ غيرِه تعالى { وَهُوَ السميع } لكل ما يتعلق به السمع { العليم } بكل ما يمكن أن يُعلم فيدخُلُ في ذلك أقوالُ المتحاكمين وأحوالُهم الظاهرةُ والباطنةُ دخولاً أولياً ، هذا وقد قيل : المعنى لا أحدَ يقدِر على أن يحرِّفها كما فُعل بالتوراة ، فيكونُ ضماناً لها من الله عز وجل بالحفظ كقوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون } أو لا نبيَّ ولا كتابَ بعدها ينسخها .
{ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الارض } لما تحقق اختصاصُه تعالى بالحكمية لاستقلاله بما يوجبها من إنزال الكتابِ الكاملِ الفاصلِ بين الحقِّ والباطلِ وتمامِ صدقِ كلامِه وكمالِ عدالةِ أحكامِه وامتناعِ وجودِ من يبدل شيئاً منها واستبدادِه تعالى بالإحاطة التامةِ بجميع ( المسموعات ) والمعلومات عقّب ذلك ببيان أن الكفرةَ متصفون بنقائض تلك الكمالاتِ من النَّقائص التي هي الضلالُ والإضلالُ واتباعُ الظنونِ الفاسدةِ الناشىءُ من الجهل والكذبِ على الله سبحانه وتعالى إبانةً لكمال مباينةِ حالِهم لما يرومونه وتحذيراً عن الرّكون إليهم والعملِ بآرائهم ، والمرادُ بمن في الأرض الناسُ وبأكثرهم الكفارُ ، وقيل : أهلُ مكةَ والأرضُ أرضُها أي إن تُطِعهم بأن جعلتَ منهم حكَماً { يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله } عن الطريق الموصلِ إليه أو عن الشريعة التي شرعها لعباده { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } وهو ظنُّهم أن آباءَهم كانوا على الحق فهم على آثارهم يهتدون أو جهالاتُهم وآراؤهم الباطلةُ على أن المرادَ بالظن ما يقابل العلم ، والجملةُ استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من الشرطية كأنه قيل : كيف يضلون؟ فقيل : لا يتبعون في أمور دينِهم إلا الظنَّ وإنّ الظنَّ لا يُغني من الحق شيئاً فيضلون ضلالاً مبيناً ، ولا ريبَ في أن الضالَّ المتصدّيَ للإرشاد إنما يُرشد غيرَه إلى مسلك نفسِه فهم ضالون مضِلّون وقوله تعالى : { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } عطفٌ على ما قبله داخلٌ في حكمه أي يكذِبون على الله سبحانه فيما ينسُبون إليه تعالى كاتخاذ الولدِ وجعلِ عبادةِ الأوثانِ ذريعةً إليه تعالى وتحليلِ الميتةِ وتحريمِ البحائرِ ونظائرِها ، أو يقدّرون أنهم على شيء وأنّى لهم ذلك ودونه مناطُ العَيُّوقِ وحقيقتُه ما يقال عن ظن وتخمين .(2/423)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } تقريرٌ لمضمون الشرطيةِ وما بعدها وتأكيدٌ لما يفيده من التحذير ، أي هو أعلمُ بالفريقين فاحذر أن تكون من الأولين ، و ( من ) موصولةٌ أو موصوفةٌ في محل النصبِ لا بنفس أعلمُ فإن أفعلَ التفضيلِ لا ينصِبُ الظاهرَ في مثل هذه الصور بل بفعل دلَّ هو عليه ، أو استفهاميةٌ مرفوعة بالابتداء والخبرُ يَضِلّ والجملةُ معلقٌ عنها الفعلُ المقدر ، وقرىء يُضِل بضم الياء على أن ( من ) فاعلٌ ليُضِل ومفعولُه محذوفٌ ومحلها النصب بما ذكر من الفعل المقدر أي هو أعلم يعلم من يُضِل الناسَ فيكون تأكيداً للتحذير عن طاعة الكفرةِ . وأما أن الفاعلَ هو الله تعالى ومَنْ منصوبةٌ بما ذكر أي يعلم مَنْ يُضِلّه أو مجرورةٌ بإضافة أعلمُ إليها أي أعلمُ المُضِلّين من قوله تعالى : { مَن يُضْلِلِ الله } أو من قولك : أضللتُه إذا وجدتُه ضالاً فلا يساعده السباقُ والسياقُ والتفضيلُ في العلم بكثرته وإحاطتِه بالوجوه التي يمكن تعلّقُ العلمِ بها ولزومُه وكونُه بالذات لا بالغير .
{ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ } أمرٌ مترتبٌ على النهي عن اتباع المُضلّين الذين من جملة إضلالِهم تحليلُ الحرامِ وتحريمُ الحلالِ ، وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين : إنكم تعبدون الله فما قتله الله أحقُّ أن تأكُلوه مما قتلتم أنتم فقيل للمسلمين : كلوا ممّا ذُكر اسمُه تعالى خاصة على ذبحه لا مما ذكر عليه اسمُ غيرِه فقط أو مع اسمه تعالى أو مات حتفَ أنفِه { إِن كُنتُم بآياته } التي من جملتها الآياتُ الواردةُ في هذا الشأن { مُّؤْمِنِينَ } فإن الإيمانَ بها يقتضي استباحةَ ما أحله الله والاجتنابِ عما حرمه ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه .
{ وَمَا لَكُمْ أَن لا تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ } إنكارٌ لأن يكون لهم شيءٌ يدعوهم إلى الاجتناب عن أكل ما ذُكر عليه اسمُ الله تعالى من البحائر والسوائبِ ونحوِها وقوله تعالى : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم } الخ ، جملةٌ حاليةٌ مؤكدةٌ للإنكار كما في قوله تعالى : { وَمَا لَنَا أَن لا نقاتل فِى سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن ديارنا وَأَبْنَائِنَا } أي وأيُّ سببٍ حاصلٍ لكم في ألا تأكُلوا مما ذكر اسمُ الله عليه ، أو وأيُّ غرضٍ يحمِلُكم على أن لا تأكلوا ويمنعُكم من أكله والحالُ أنه قد فصل لكم { مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } بقوله تعالى : { قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا } الخ ، فبقي ما عدا ذلك على الحِلّ لا بقوله تعالى : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } الخ ، لأنها مدنية ، وأما التأخرُ في التلاوة فلا يوجبُ التأخّرَ في النزول ، وقرىء الفعلان على البناء للمفعول وقرىء الأول على البناء للفاعل والثاني للمفعول { إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ } مما حرّم فإنه أيضاً حلالٌ حينئذ { وَإِنَّ كَثِيرًا } أي من الكفار { لَّيُضِلُّونَ } الناسَ بتحريم الحلالِ وتحليلِ الحرام كعمرو بنِ لُحَيّ وأضرابِه وقرىء يَضِلّون { بِأَهْوَائِهِم } الزائغةِ وشهواتِهم الباطلة { بِغَيْرِ عِلْمٍ } مقتبسٍ من الشريعة الشريفة مستندٍ إلى الوحي { إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين } المتجاوزين لحدود الحقِّ إلى الباطل والحلالِ إلى الحرام .(2/424)
وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
{ وَذَرُواْ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ } أي ما يُعلن من الذنوب وما يُسَرّ أو ما يعمل منها بالجوارح وما بالقلب ، وقيل : الزنا في الحوانيت واتخاذُ الأخذان { إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم } أي يكتسبونه من الظاهر والباطن { سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ } كائناً ما كان فلا بد من اجتنابهما ، والجملةُ تعليلٌ للأمر .
{ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ } ظاهرٌ في تحريم متروكِ التسميةِ عمْداً كان أو نسياناً ، وإليه ذهب داودُ ، وعن أحمدَ بنِ حنبل مثلُه ، وقال مالك والشافعي بخلافه لقوله عليه السلام : « ذبيحةُ المسلم حلالٌ وإن لم يذكر اسمَ الله عليها » وفرق أبو حنيفة بين العمْد والنسيانِ وأوّله بالميتة أو بما ذكر عليه اسمُ غيرِه تعالى لقوله : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } فإن الفسقَ ما أُهل به لغير الله والضميرُ لما ، ويجوز أن يكون للأكل المدلولِ عليه بلا تأكلوا ، والجملةُ مستأنفةٌ وقيل : حالية { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ } المرادُ بالشياطين إبليسُ وجنودُه فإيحاؤهم وسوستُهم إلى المشركين ، وقيل : مرَدةُ المجوسِ فإيحاؤهم إلى أوليائهم ما أَنْهَوا إلى قريشٍ بالكتاب أن محمداً وأصحابَه يزعُمون أنهم يتبعون أمرَ الله ثم يزعُمون أن ما يقتلونه حلالٌ وما يقتله الله حرام { ليجادلوكم } أي بالوساوس الشيطانيةِ أو بما نقل من أباطيلِ المجوسِ وهو يؤيد التأويلَ بالميتة { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } في استحلالِ الحرامِ وساعدتموهم على أباطيلهم { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } ضرورةَ أن من ترك طاعةَ الله إلى طاعة غيرِه واتبعه في دينه فقد أشركه به تعالى ، بل آثرَه عليه سبحانه .
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا } وقرىء ميِّتاً على الأصل { فأحييناه } تمثيلٌ مَسوقٌ لتنفير المسلمين عن طاعة المشركين إثرَ تحذيرِهم عنها بالإشارة إلى أنهم مستضيئون بأنوار الوحي الإلهي والمشركون خابطون في ظلمات الكفرِ والطغيانِ فكيف يُعقل إطاعتُهم لهم؟ والهمزةُ للإنكار والنفي ، والواوُ لعطف الجملةِ الاسميةِ على مثلها الذي يدل عليه الكلامُ ، أي أأنتم مثلُهم ومَنْ كان ميتاً فأعطيناه الحياةَ وما يتبعُها من القوى المُدْرِكة والمحرِّكة؟ { وَجَعَلْنَا لَهُ } مع ذلك من الخارج { نُوراً } عظيماً { يَمْشِي بِهِ } أي بسببه ، والجملةُ استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل : فماذا يصنع بذلك النورِ؟ فقيل : يمشي به { فِى الناس } أي فيما بينهم آمِناً من جهتهم أو صفةٌ له { كَمَن مَّثَلُهُ } أي صفتُه العجيبةُ وهو مبتدأ وقوله تعالى : { فِى الظلمات } خبرُه على أن المرادَ بهما اللفظُ لا المعنى كما في قولك : زيدٌ صفتُه اسمرُ ، وهذه الجملةُ صلةٌ لمن وهي مجرورةٌ بالكاف وهي مع مجرورها خبرٌ لمن الأولى وقوله تعالى : { لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا } حالٌ من المستكن في الظرف وقيل : من الموصول أي غيرُ خارجٍ منها بحال ، وهذا كما ترى مثلٌ أريد به من بقي في الضلالة بحيث لا يفارقها أصلاً كما أن الأولَ مثَلٌ أريد به من خلقه الله تعالى على فطرة الإسلامِ وهداه بالآيات البينةِ إلى طريق الحقِّ يسلُكه كيف يشاء لكن لا على أن يدل على كل واحدٍ من هذه المعاني بما يليق به من الألفاظ الواردةِ في المثَلين بواسطة تشبيهِه بما يناسبه من معانيها ، فإن ألفاظَ المثَلِ باقيةٌ في معانيها الأصلية ، بل على أنه قد انتُزعت من الأمور المتعددةِ المعتبرةِ في كل واحدٍ من جانبي المَثَلين هيئةٌ على حِدَة فشُبِّهت بهما الأُوليان ونُزّلتا منزلتيهما فاستُعمل فيهما ما يدل على الأُخْريين بضرب من التجوّز ، وقد أشير في تفسير قوله تعالى :(2/425)
{ خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ } الآية ، إلى أن التمثيلَ قسمٌ برأسه لا سبيل إلى جعله من باب الاستعارةِ حقيقةً وأن الاستعارةَ التمثيليةَ من عبارات المتأخرين . نعم قد يجري ذلك على سنن الاستعارةِ بأن لا يُذكرَ المشبّه كهذين التمثيلين ونظائرِهما وقد يجري على منهاج التشبيه كما في قوله :
وما الناسُ إلا كالديار وأهلُها ... بها يوم حلُّوها غدواً بلاقعُ
{ كذلك } أي مثلَ ذلك التزيينِ البليغ { زُيّنَ } أي من جهة الله تعالى بطريق الخلق عند إيحاءِ الشياطينِ أو من جهة الشياطينِ بطريقة الزخرفةِ والتسويلِ { للكافرين } التابعين للوساوس الشيطانيةِ الآخذين بالمُزخْرَفات التي يوحونها إليهم { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ما استمرّوا على عمله من فنون الكفرِ والمعاصي التي من جملتها ما حُكيَ عنهم من القبائح فإنها لو لم تكن مُزينةً لهم لما أصروا عليها ولما جادلوا بها الحقَّ ، وقيل : الآية نزلت في حمزةَ رضي الله عنه ، وأبي جهلٍ وقيل : في عمرَ أو عمارٍ رضي الله عنهما وأبي جهل .(2/426)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
{ وكذلك } قيل : معناه كما جعلنا في مكةَ أكابرَ مجرميها ليمكروا فيها { جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ } من سائر القرى { أكابر مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا } ومفعولا جعلنا أكابرَ مجرميها على تقديم المفعولِ الثاني والظرفُ لغو أو هما الظرفُ وأكابرَ على أن مجرميها بدلٌ أو مضافٌ إليه فإن أفعل التفضيل إذا أُضيف جاز الإفرادُ والمطابقةُ ولذلك قرىء أكبرَ مجرميها وقيل : أكابرَ مجرميها مفعولُه الأولُ والثاني ليمكروا فيها ، ولا يخفى أن أيَّ معنى يراد من هذه المعاني لا بد أن يكون مشهورَ التحققِ عند الناسِ معهوداً فيما بينهم حتى يصلُحَ أن تُصرَفَ الإشارةُ عن سباق النظمِ الكريمِ وتوجَّهَ إليه ويُجعلَ مقياساً لنظائره بإخراجه مُخرجَ المصدرِ التشبيهيِّ وظاهرٌ أنْ ليس الأمرُ كذلك ولا سبيلَ إلى توجيهها إلى ما يفهم من قوله تعالى : { كَذَلِكَ زُيّنَ للكافرين مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وإن كان المرادُ بهم أكابرَ مكةَ لأن مآلَ المعنى حينئذ بعد اللتيا والتي كما جعلنا أعمالَ أهلِ مكةَ مزينةً لهم جعلنا في كل قرية أكابرَ مجرميها الخ ، فإذن الأقربُ أن ذلك إشارةٌ إلى الكفَرة المعهودين باعتبار اتصافِهم بصفاتهم ، والإفرادُ بتأويل الفريقِ أو المذكور ، ومحلُّ الكافِ النصبُ على أن المفعولُ الثاني لجعلنا قدم عليه لإفادة التخصيصِ كما في قوله تعالى : { كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ } الآية ، والأولُ أكابرَ مجرميها ، والظرف لغة أي ومثلَ أولئك الكفرةِ الذين هم صناديدُ مكةَ ومجرموها جعلنا في كل قريةٍ أكابرَها المجرمين أي جعلناهم متصفين بصفات المذكورين مزيَّناً لهم أعمالُهم مُصِرّين على الباطل مجادلين به الحقَّ ليمكروا فيها أي ليفعلوا المكرَ فيها ، وهذا تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى : { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ } اعتراضٌ على سبيل الوعدِ لرسول الله عليه الصلاة والسلام والوعيدِ للكفرة أي وما تحيقُ غائلةُ مكرِهم إلا بهم { وَمَا يَشْعُرُونَ } حال من ضمير يمكرون مع اعتبار ورودِ الاستئناءِ على النفي أي إنما يمكرون بأنفسهم والحالُ أنهم ما يشعُرون بذلك أصلاً بل يزعُمون أنهم يمكرون بغيرهم .(2/427)
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
وقوله تعالى : { وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَةٌ } رجوعٌ إلى بيان حالِ مجرمي أهلِ مكةَ بعد ما بُيِّن بطريق التسليةِ أن حالَ غيرِهم أيضاً كذلك وأن عاقبةَ مكرِ الكلِّ ما ذُكر ، فإن العظيمةَ المنقولةَ إنما صدَرت عنهم لا عن سائر المجرمين ، أي إذا جاءتهم آيةٌ بواسطة الرسولِ عليه الصلاة والسلام { قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى تُؤْتِى مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ الله } قال ابن عباس رضي الله عنهما : حتى يوحيَ إلينا ويأتيَنا جبريلُ عليه السلام فيخبرَنا أن محمداً صادق كما قالوا : { أَوْ تَأْتِىَ بالله والملئكة قَبِيلاً } وعن الحسن البصْري مثلُه .
وهذا كما ترى صريحٌ في أن ما عُلّق بإيتاء ما أوتيَ الرسلُ عليهم الصلاة والسلام هو إيمانُهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه إيماناً حقيقياً كما هو المتبادَرُ منه عند الإطلاقِ خلا أنه يستدعي أن يُحمل ما أوتيَ رسلُ الله على مطلق الوحي ومخاطبةِ جبريلَ عليه السلام في الجملة وأن تُصرفَ الرسالةُ في قوله تعالى : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } عن ظاهرها ، وتُحملَ على رسالة جبريلَ عليه السلام بالوجه المذكور ، ويُرادَ بجعلها تبليغُها إلى المرسَل إليه لا وضعُها في موضعها الذي هو الرسول ليتأتّى كونُه جواباً عن اقتراحهم ورداً له بأن يكونَ معنى الاقتراحِ : لن نؤمنَ بكون تلك الآيةِ نازلةً من عند الله تعالى إلى الرسول حتى يأتيَنا بالذات عِياناً كما يأتي الرسولُ فيخبرُنا بذلك ، ومعنى الردّ : الله أعلم مَنْ يليقُ بإرسال جبريلَ عليه السلام إليه لأمر من الأمور إيذاناً بأنهم بمعزل من استحقاق ذلك التشريفِ ، وفيه من التمحُّل ما لا يخفى . وقال مقاتلٌ : نزلت في أبي جهلٍ حين قال : زاحَمْنا بني عبدِ منافٍ في الشرف حتى إذا صِرْنا كفرَسَيْ رهانٍ قالوا : منا نبيٌّ يوحى إليه ، والله لا نرضى به ولا نتّبعه أبداً حتى يأتيَنا وحيٌ كما يأتيه .
وقال الضحاك : سأل كلُّ واحد من القوم أن يُخَصّ بالرسالة والوحي كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله : { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } ولا يخفى أن كلَّ واحد من هذين القولين وإن كان مناسباً للرد المذكورِ لكنه يقتضي أن يراد بالإيمان المُعلَّقِ بإيتاء ما أوتيَ الرسلُ مجردُ تصديقِهم برسالته عليه الصلاة والسلام في الجملة من غير شمولٍ لكافة الناس وأن تكون كلمةُ حتى في قول اللعينِ حتى يأتيَنا وحيٌ كما يأتيه الخ ، غايةً لعدم الرضا لا لعدم الاتباعِ فإنه مقررٌ على تقديرَيْ إيتاءِ الوحي وعدمِه ، فالمعنى لن نؤمنَ برسالته أصلاً حتى نؤتى نحن من الوحي والنبوة مثلَ ما أوتي رسلُ الله ، أو إيتاءِ رسلِ الله ، وأما ما قيل من أن الوليدَ بنَ المغيرةِ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو كانت النبوةُ حقاً لكنتُ أولى بها منك لأني أكبرُ منك سناً وأكثرُ منك مالاً وولداً .(2/428)
فنزلت فلا تعلُّقَ له بكلامهم المردودِ إلا أن يرادَ بالإيمان المعلَّقِ بما ذكر مجردُ الإيمانِ بكون الآيةِ النازلةِ وحياً صادقاً لا الإيمانِ بكونها نازلةً إليه عليه الصلاة والسلام .
فيكون المعنى وإذا جاءتهم آيةٌ نازلةٌ إلى الرسول قالوا : لن نؤمنَ بنزولها من عند الله حتى يكونَ نزولُها إلينا لا إليه ، لأنا نحن المستحقون دونه ، فإن مُلخّصَ معنى قولِه : لو كانت النبوةُ حقاً الخ : لو كان ما تدّعيه من النبوة حقاً لكنتُ أنا النبيَّ لا أنت ، وإذا لم يكن الأمرُ كذلك فليست بحق وما له تعليقُ الإيمانِ بحقية النبوةِ بكون نفسِه نبياً .
ومثلَ ما أُوتيَ نُصب على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ ، وما مصدريةٌ أي حتى نؤتاها إيتاءً مثلَ إيتاءِ رسلِ الله وإضافةُ الإيتاءِ إليهم لأنهم منكِرون لإيتائه عليه الصلاة والسلام ، و ( حيث ) نُصب على المفعولية توسعاً لا بنفس ( أعلمُ ) لما عرفتَ من أنه لا يعمل في الظاهر بل بفعل دلَّ هو عليه أي هو أعلمُ يعلم الموضِعَ الذي يضعها فيه والمعنى أن منصِبَ الرسالةِ ليس مما ينال بكثرة المالِ والولدِ وتعاضُدِ الأسبابِ والعدد ، وإنما يُنال بفضائلَ نفسانيةٍ يخُصّها الله تعالى بمن يشاء من خُلّص عبادِه ، وقرىء رسالاتِه { سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ } استئنافٌ آخرُ ناعٍ عليهم ما سيلقونه من فنون الشرِّ بعد ما نعى عليهم حِرمانَهم مما أمّلوه ، والسين للتأكيد ، ووضعُ الموصول موضعَ الضمير للإشعار بأن إصابةَ ما يصيبهم لإجرامهم المستتبِعِ لجميع الشرورِ والقبائحِ ، أي يصيبهم البتةَ مكانَ ما تمنَّوْه وعلّقوا به أطماعَهم الفارغةَ من عزة النبوة وشرفِ الرسالة { صَغَارٌ } أي ذلة وحقارة بعد كِبْرِهم { عَندَ الله } أي يوم القيامة وقيل : من عند الله { وَعَذَابٌ شَدِيدٌ } في الآخرة أو في الدنيا { بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } أي بسبب مكرِهم المستمرِّ أو بمقابلته ، وحيث كان هذا من معظم موادِّ إجرامِهم صُرّح بسببيته .(2/429)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
{ فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ } أي يُعرِّفه طريقَ الحقِّ ويوفِّقَه للإيمان { يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام } فيتسعَ له وينفتح ، وهو كنايةٌ عن جعل النفس قابلةً للحق مُهيأة لحلوله فيها مصفّاةً عما يمنعه وينافيه ، وإليه أشار عليه الصلاة والسلام حين سئل فقال : « نورٌ يقذِفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفتح » فقالوا : هل لذلك من أمارة يُعرف بها؟ فقال : « نعم ، الإنابةُ إلى دار الخلود والإعراضُ عن دار الغرورِ والاستعدادُ للموت قبل نزوله » { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ } أي يخلُقَ فيه الضلالَ بصرف اختيارِه إليه { يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً } بحيث ينبو عن قَبول الحقِّ فلا يكاد يدخله الإيمانُ ، وقرىء ضَيْقاً بالتخفيف ، وحرِجاً بكسر الراء أي شديد الضيق والأولُ مصدرٌ وُصف به مبالغة .
{ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ } ( ما ) هذه مُهيِّئةٌ لدخول كأنّ على الجمل الفعلية { فِى السماء } شِبْهٌ للمبالغة في ضيق صدرِه بمن يزاول ما لا يكاد يُقدر عليه فإن صعودَ السماءِ مثلٌ فيما هو خارجٌ عن دائرة الاستطاعة ، وفيه تنبيه على أن الإيمانَ يمتنع منه كما يمتنع منه الصعودُ وقيل : معناه كأنما يتصاعد إلى السماء نبُوّاً عن الحق وتباعداً في الهرب منه ، وأصلُ يصعّد يتصعّد وقد قرىء به وقرىء يصّاعد وأصله يتصاعد { كذلك } أي مثلَ ذلك الجعلِ الذي هو جعلُ الصدرِ حرِجاً على الوجه المذكور { يَجْعَلُ الله الرجس } أي العذابَ أو الخِذلانَ . قال مجاهدٌ : الرجسُ ما لا خيرَ فيه . وقال الزجاج : الرجسُ اللعنةُ في الدنيا والعذابُ في الآخرة { عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } أي عليهم ، ووضعُ المفعولِ موضعَ المضمر للإشعار بأن جعلَه تعالى معلَّلٌ بما في حيز الصلةِ من كمال نبُوِّهم عن الإيمان وإصرارِهم على الكفر .(2/430)
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
{ وهذا } أي البيانُ الذي جاء به القرآنُ أو الإسلامُ أو ما سبق من التوفيق والخذلان { صراط رَبّكَ } أي طريقُه الذي ارتضاه أو عادتُه وطريقتُه التي اقتضتها حِكمتُه ، وفي التعرّض لعنوان الربوبيةِ إيذانٌ بأن تقويمَ ذلك الصراطِ للتربية وإفاضةِ الكمال { مُّسْتَقِيماً } لا عِوَج فيه أو عادلاً مطّرداً ، أو هو حالٌ مؤكدة كقوله تعالى : { وَهُوَ الحق مُصَدّقًا } والعاملُ فيها معنى الإشارة { قَدْ فَصَّلْنَا الآيات } بيّناها مفصلةً { لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } يتذكرون ما في تضاعيفها فيعلمون أن كلَّ ما يحدُث من الحوادث خيراً كان أو شراً فإنما يحدُث بقضاء الله تعالى وخلقِه وأنه تعالى عالمٌ بأحوال العبادِ حكيمٌ عادلٌ فيما يفعل بهم ، وتخصيصُ القومِ المذكورين بالذكر لأنهم المنتفِعون بتفصيل الآيات { لَهُمْ دَارُ السلام } أي للمتذكرين دارُ السلامة من كل المكاره وهي الجنة { عِندَ رَبّهِمْ } أي في ضمانه ، أو ذخيرةٌ لهم عنده لا يعلم كُنهَها غيرُه تعالى { وَهُوَ وَلِيُّهُم } أي مولاهم وناصرُهم { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } بسبب أعمالِهم الصالحةِ ، أو متولِّيهم بجزائها يتولى إيصالَه إليهم .
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } منصوبٌ بمضمر إما على المفعولية أو الظرفية وقرىء بنون العظمة على الالتفات لتهويل الأمرِ ، والضميرُ المنصوبُ لمن يُحشر من الثقلين ، أي واذكر يومَ يَحشُر الثقلين قائلاً : { يَا مَعْشَرَ الجن } أو ويوم يحشُرهم يقول : يا معشرَ الجنِّ أو ويوم يحشرهم ويقول : يا معشرَ الجن يكونُ الأحوالُ والأهوالُ ما لا يساعدُه الوصفُ لفظاعته ، والمعشرُ الجماعةُ ، والمرادُ بمعشر الجنِّ الشياطينُ { قَدِ استكثرتم مّنَ الإنس } أي من إغوائهم وإضلالِهم أو منهم بأن جعلتموهم أتباعَكم فحُشِروا معكم كقولهم : استكثر الأميرُ من الجنود ، وهذا بطريق التوبيخِ والتقريع { وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم } أي الذين أطاعوهم ، و ( مِن ) في قوله تعالى : { مّنَ الإنس } إما لبيان الجنسِ أي أولياؤُهم الذين هم الإنسُ أو متعلقةٌ بمحذوف هو حالٌ من أولياؤهم أي كائنين من الإنس { رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } أي انتفع الإنسُ بالجن بأن دلُّوهم على الشهوات وما يُتوصَّل به إليها ، وقيل : بأن ألقَوْه إليهم من الأراجيف والسِّحر والكهانة والجن والإنس بأن أطاعوهم وحصّلوا مرادَهم بقَبول ما ألقَوْاه إليهم ، وقيل : استمتاعُ الإنسِ بهم أنهم كانوا يعوذون بهم في المفاوز والمخاوفِ واستمتاعُهم بالإنس اعترافُهم بأنهم قادرون على إجارتهم { وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذى أَجَّلْتَ لَنَا } وهو يومُ القيامة قالوه اعترافاً بما فعلوه من طاعة الشياطينِ واتباعِ الهوى وتكذيبِ البعث ، وإظهاراً للندامة عليها وتحسراً على حالهم واستسلاماً لربهم ، ولعل الاقتصارَ على حكاية كلامِ الضالّين للإيذان بأن المُضلِّين قد أُفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلاً .
{ قَالَ } استئنافٌ مبني على سؤال نشأ من حكاية كلامِهم كأنه قيل : فماذا قال الله تعالى حينئذ؟ فقيل : قال : { النار مَثْوَاكُمْ } أي منزِلُكم أو ذاتُ ثوُائِكم كما أن دارَ السلام مثوى المؤمنين { خالدين فِيهَا } حال والعاملُ مثواكم إن جُعل مصدراً ، ومعنى الإضافة إن جُعل مكاناً { إِلاَّ مَا شَاء الله } قال ابن عباس رضي الله عنهما : استثنى الله تعالى قوماً قد سبق في علمه أنهم يُسلمون ويصدِّقون النبيَّ عليه الصلاة والسلام ، وهذا مبنيٌّ على أن الاستثناءَ ليس من المحكيّ ، و ( ما ) بمعنى مَنْ وقيل : المعنى إلا الأوقاتَ التي يُنقلون فيها من النار إلى الزمهرير ، فقد رُوي أنهم يدخُلون وادياً فيه من الزمهرير ما يميِّزُ بعضَ أوصالِهم من بعض فيتعاوَوْن ويطلُبون الردَّ إلى الجحيم وقيل : يفتح لهم وهم في النار بابٌ إلى الجنة فيُسرعون نحوه حتى إذا صاروا إليه سُدَّ عليهم الباب .(2/431)
وعلى التقديرين فالاستثناءُ تهكّمٌ بهم وقيل : إلا ما شاء الله قبل الدخولِ كأنه قيل : النارُ مثواكم أبداً إلا ما أمهلكم ولا يخفى بعدُه { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ } في أفاعيله { عَلِيمٌ } بأحوال الثقلين وأعمالِهم وبما يليق بها من الجزاء .(2/432)
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
{ وكذلك } أي مثلَ ما سبق من تمكين الجنِّ من إغواء الإنسِ وإضلالِهم { نُوَلّى بَعْضَ الظالمين } من الإنس { بَعْضًا } آخرَ منهم أي نجعلهم بحيث يتولَّوْنهم بالإغواء والإضلالِ أو نجعل بعضَهم قرناءَ بعضٍ في العذاب كما كانوا كذلك في الدنيا عند اقترافِ ما يؤدّي إليه من القبائح { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } بسبب ما كانوا مستمرِّين على كسبه من الكفر والمعاصي { يَا مَعْشَرَ الجن والإنس } شروعٌ في حكاية ما سيكون من توبيخ المعشَرَين وتقريعِهم بتفريطهم فيما يتعلق بخاصة أنفسِهم إثرَ حكايةِ توبيخِ معشر الجنِّ بإغواء الإنسِ وإضلالِهم وبيانِ مآلِ أمرِهم { أَلَمْ يَأْتِكُمْ } أي في الدنيا { رُسُلُ } أي من عند الله عز وجل لكن لا على أن يأتيَ كلُّ رسولٍ كلَّ واحدة من الأمم ، بل على أن يأتي كلَّ أمة رسولٌ خاصٌّ بها ، أي ألم يأتِ كلَّ أمة منكم رسولٌ معين؟ وقوله تعالى : { مّنكُمْ } متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لرسل أي كائنةٌ من جملتكم لكن لا على أنهم من جنس الفريقين معاً بل من الإنس خاصةً ، وإنما جُعلوا منهما إما لتأكيد وجوبِ اتباعِهم والإيذانِ بتقاربهما ذاتاً واتحادِهما تكليفاً وخطاباً ، كأنّهما جنسٌ واحد ، ولذلك تمكن أحدُهما من إضلال الآخَر ، وإما لأن المرادَ بالرسل ما يعمُّ رسلَ الرسلِ وقد ثبت أن الجن قد استمعوا القرآن وأنذروا به قومَهم حيث نطق به قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرءان } إلى قوله تعالى : { وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ }
وقوله تعالى : { يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءاياتى } صفةٌ أخرى لرسلٌ محققةٌ لما هو المرادُ من إرسال الرسل من التبليغ والإنذارِ ، وقد حصل ذلك بالنسبة إلى الثقلين { وَيُنذِرُونَكُمْ } بما في تضاعيفها من القوارع { لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا } يومِ الحشرِ الذي قد عاينوا فيه ما أُعدَّ لهم من أفانين العقوباتِ الهائلة { قَالُواْ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من الكلام السابقِ كأنه قيل : فماذا قالوا عند ذلك التوبيخِ الشديد؟ فقيل : قالوا : { شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } أي بإتيان الرسلِ وإنذارِهم وبمقابلتهم إياهم بالكفر والتكذيب وباستحقاقهم بسبب ذلك للعذاب المخلّد حسبما فُصِّل في حكاية جوابِهم عن سؤال خَزَنةِ النار ، حيث قالوا : { بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَىْء إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال كَبِيرٍ } وقد أُجمل هاهنا في الحكاية كما أُجمل في حكاية جوابِهم حيث قالوا : { بلى ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين } وقوله تعالى : { وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا } مع ما عُطف عليه اعتراضٌ لبيان ما أداهم في الدنيا إلى ارتكابهم للقبائح التي ارتكبوها وإلجائِهم بعد ذلك في الآخرة إلى الاعتراف بالكفر واستيجاب العذابِ ، وذمٌّ لهم بذلك ، أي واغتروا في الدنيا بالحياة الدنيئةِ واللذات الخسيسةِ الفانية وأعرضوا عن النعيم المقيم الذي بشرت به الرسلُ ، واجترأوا على ارتكاب ما يجُرّهم إلى العذاب المؤبَّد الذي أنذروهم إياه { وَشَهِدُواْ } في الآخرة { عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ } في الدنيا { كافرين } أي بالآيات والنذر التي أتى بها الرسلُ على التفصيل المذكور آنفاً واضطُرّوا إلى الاستسلام لأشد العذابِ كما ينبىء عنه ما حُكي عنهم بقوله تعالى : { وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أصحاب السعير } وفيه من تحسيرهم وتحذيرِ السامعين عن مثل صنيعِهم ما لا مزيد عليه .(2/433)
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
{ ذلك } إشارةٌ إلى ما ذُكر من شهادتهم على أنفسهم بالكفر واستيجابِ العذابِ والخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين ، وهو مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى : { أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى } بحذف اللام على أنّ ( أن ) مصدرية أو مخففة من أنّ وضمير الشأن الذي هو اسمُها محذوفٌ وقوله تعالى : { بِظُلْمٍ } متعلقٌ إما بمهلك أي بسبب ظلمٍ أو بمحذوف وقع حالاً من القُرى أي ملتبسةً بظلم فإن ملابسةَ أهلِها للظلم ملابسةٌ للقرية له بواسطتهم ، أوما كونُه حالاً من ربك أو من ضميره في مُهلكَ كما قيل فيأباه أن غفلةَ أهلِها مأخوذةٌ في معنى الظلمِ وحقيقتِه لا محالة ، فلا يحسُن تقييدُه بقوله تعالى : { وَأَهْلُهَا غافلون } والمعنى ذلك ثابتٌ لانتفاء كونِ ربِّك أو لأن الشأنَ لم يكن ربُّك مُهلكَ القرى بسبب أي ظلم فعلوه من أفراد الظلمِ قبل أن يُنْهَوْا عنه ويُنَبَّهوا على بُطلانه برسول وكتابٍ وإن قضَى به بديهةُ العقولِ ، ويُنذَروا عاقبةَ جناياتِهم أي لولا انتفاءُ كونِه تعالى معذباً لهم قبل إرسالِ الرسلِ وإنزالِ الكتبِ لَما أمكن التوبيخُ بما ذُكر ولَما شهِدوا على أنفسهم بالكفر واستيجابِ العذاب ، ولا اعتذروا بعدم إتيانِ الرسل كما في قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءاياتك مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى } وإنما عُلّل ما ذُكر بانتفاء التعذيبِ الدنيويِّ الذي هو إهلاكُ القرى قبل الإنذارِ مع أن التقريبَ في تعليله بانتفاء مطلقِ التعذيب من غير بعث الرسلِ أتمُّ على ما نطق به قوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } لبيان كمالِ نزاهتِه سبحانه وتعالى عن كلا التعذيبين الدنيوي والأخروي معاً من غير إنذارٍ على أبلغ وجهٍ وآكدِه حيث اقتُصِر على نفي التعذيبِ الدنيوي عنه تعالى ليثبُتَ نفيُ التعذيبِ الأخروي عنه تعالى على الوجه البرهانيّ بطريق الأولوية ، فإنه تعالى حيث لم يعذِّبهم بعذاب يسيرٍ منقطعٍ بدون إنذارٍ فلأن لا يعذِّبَهم بعذاب شديد مخلدٍ أولي وأجلي ، ولو عُلل بما ذكر من نفي التعذيبِ لانصرف بحسب المقام إلى ما فيه الكلامُ من نفي التعذيبِ الأخروي ، ونفذُ التعذيب الدنيويِّ غيرُ متعرَّضٍ له لا صريحاً ولا دَلالةً ضرورةَ أن نفذَ الأعلى لا يدل على نفذ الأدنى ولأن ترتبَ التعذيبِ الدنيويِّ على الإنذار عند عدمِ تأثرِ المنذَرين منه معلومٌ مشاهدٌ عند السامعين فيستدلون بذلك على أن التعذيبَ الأخرويَّ أيضاً كذلك فينزجرون عن الإخلال بمواجب الإنذارِ أشدَّ انزجارٍ ، هذا هو الذي تستدعيه جزالةُ النظمِ الكريم ، وأما جعلُ ذلك إشارةً إلى إرسال الرسلِ عليهم السلام وإنذارِهم ، وخبرُ المبتدأ محذوفٌ كما أطبق عليه الجمهورُ فبمعزل من مقتضى المقامِ ، والله سبحانه أعلم .(2/434)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
{ وَلِكُلّ } أي من المكلفين من الثقلين { درجات } متفاوتةٌ وطبقاتٌ متباينة { مّمَّا عَمِلُواْ } من أعمالهم صالحةً كانت أو سيئةً فإن أعمالَهم درجاتٌ في أنفسها أو من جزاء أعمالِهم فإن كلَّ جزاءٍ مرتبةٌ معينةٌ لهم أو من أجل أعمالِهم { وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ } فيخفى عليه عملٌ من أعمالهم أو قدْرُ ما يستحقون بها من ثواب أو عقاب ، وقرىء بالتاء تغليباً للخطاب على الغَيْبة .
{ وَرَبُّكَ الغنى } مبتدأٌ وخبرٌ أي هو المعروفُ بالغني عن كل ما سواه كائناً مَنْ كان وما كان ، فيدخُل فيه غناه عن العباد وعن عبادتهم ، وفي التعرُّض لوصف الربوبيةِ في الموضعين لا سيما في الثاني لكونه موقعَ الإضمار مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من إظهار اللطفِ به عليه السلام وتنزيهِ ساحتِه عن توهم شمولِ الوعيدِ الآتي لها أيضاً ما لا يخفى ، وقوله تعالى : { ذُو الرحمة } خبرٌ آخرُ أو هو الخبرُ ، والغنيُّ صفةٌ أي يترحم عليهم بالتكليف تكميلاً لهم ويُمهلهم على المعاصي ، وفيه تنبيهٌ على أن ما سلف ذكرُه من الإرسال ليس لنفعه بل لترحمه على العباد وتمهيدٌ لقوله تعالى : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } أي ما به حاجةٌ إليكم إن يشأ يذهبْكم أيها العصاةُ ، وفي تلوين الخطابِ من تشديد الوعيد ما لا يخفى { وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم } أي من بعد إذهابِكم { مَا يَشَاء } من الخلق ، وإيثارُ ما على مَنْ لإظهار كمالِ الكبرياءِ وإسقاطِهم عن رتبة العقلاءِ { كَمَا أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيَّةِ قَوْمٍ ءاخَرِينَ } أي من نسل قومٍ آخرين لم يكونوا على مثل صفتِكم وهم أهلُ سفينةِ نوحٍ عليه الصلاة والسلام لكنه أبقاكم ترحماً عليكم ، و ( ما ) في كما مصدريةٌ ومحلُّ الكافِ النصبُ على أنه مصدرٌ تشعيبي على غير المصدرِ فإن يستخلف في معنى ينشىء كأنه قيل : وينشىء إنشاءً كائناً كإنشائكم الخ أو نعتٌ لمصدر الفعل المذكور أي يستخلف استخلافاً كائناً كإنشائكم الخ والشرطيةُ استئنافٌ مقررٌ لمضمون ما قبلها من الغنى والرحمة .
{ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ } أي الذي توعدونه من البعث وما يتفرّع عليه من الأمور الهائلةِ ، وصيغةُ الاستقبال للدِلالة على الاستمرار التجددي { لأَتٍ } لواقعٌ لا محالة كقوله تعالى : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لواقع } وإيثارُه عليه لبيان كمالِ سرعةِ وقوعِه بتصويره بصورة طالبٍ حثيثٍ لا يفوته هاربٌ حسبما يُعرب عنه قولُه تعالى : { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } أي بفائتين ذلك وإن ركِبتم في الهرب متنَ كلِّ صَعْبٍ وذَلولٍ كما أن إيثارَ صيغةِ الفاعلِ على المستقبل للإيذان بكمال قربِ الإتيان ، والمرادُ بيانُ دوامِ انتفاءِ الإعجازِ لا بيانُ انتفاءِ دوامِ الإعجاز فإن الجملة الاسميةَ كما تدل على دوام الثبوتِ تدل بمعونة المقام إذا دخل عليها حرفُ النفذِ على دوام الانتفاءِ لا على انتفاء الدوامِ كما حُقق في موضعه .(2/435)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
{ قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } إثرَ ما بيّن لهم حالَهم ومآلَهم بطريق الخطاب أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بطريق التلوينِ بأن يواجِهَهم بتشديد التهديد وتكريرِ الوعيد ، ويظهر لهم ما هو عليه من غاية النصاب في الدين ونهايةِ الوثوقِ بأمره وعدم المبالاةِ بهم أي اعملوا على غاية تمكّنِكم واستطاعتِكم ، يقال : مكُن مكانةً إذا تمكّن أبلغَ التمكّن ، أو على جهتكم وحالتِكم التي أنتم عليها ، من قولهم : مكانٌ ومكانةٌ كمقامٌ ومقامة ، وقرىء مكاناتِكم والمعنى اثبُتوا على كفركم ومعاداتكم { إِنّى عامل } ما أُمرت به من الثبات على الإسلام والاستمرارِ على الأعمال الصالحةِ والمصابرةِ ، وإيرادُ التهديد بصيغة الأمرِ مبالغةٌ في الوعيد كأن المهددَ يريد تعذيبَه مجمِعاً عليه فيحمِله بالأمر على ما يؤدي إليه ، وتسجيلٌ بأن المهدِّد لا يتأتّى منه إلا الشرُّ كالذي أُمر به بحيث لا يجد إلى التقصّي عنه سبيلاً { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار } سوف لتأكيد مضمون الجملة ، والعلمُ عرفانيٌّ و ( من ) إما استفهاميةٌ معلّقةٌ بفعل العلم محلُّها الرفعُ على الابتداء و ( تكون ) باسمها وخبرها خبرٌ لها وهي مع خبرها في محل نصبٍ لسدها مسدَّ مفعول تعلمون أي فسوف تعلمون أيُّنا تكون له العاقبةُ الحسنى التي خلق الله تعالى هذه الدارَ لها ، وإما موصولةٌ فمحلُّها النصبُ على أنها مفعولٌ لتعلمون أي فسوف تعلمون الذي له عاقبةُ الدارِ ، وفيه مع الإنذار إنصافٌ في المقال وتنبيهٌ على كمال وثوقِ المنذِرِ بأمره ، وقرىء بالياء لأن تأنيثَ العاقبةِ غيرُ حقيقي { إِنَّهُ } أي الشأنَ { لاَ يُفْلِحُ الظالمون } وُضع الظلمُ موضِعَ الكفرِ إيذاناً بأن امتناعَ الفلاحِ يترتب على أي فردٍ كان من أفراد الظلمِ فما ظنُّك بالكفر الذي هو أعظمُ أفرادِه؟
{ وَجَعَلُواْ } شروعٌ في تقبيح أحوالِهم الفظيعةِ بحكاية أقوالِهم وأفعالِهم الشنيعةِ ( وهم مشركو العربِ كانوا يُعيِّنون أشياءَ من حرث ونتاج لله تعالى وأشياءَ منهما لآلهتهم فإذا رأوا ما جعلوه لله تعالى زاكياً نامياً يزيد في نفسه خيراً رجَعوا فجعلوه لآلهتهم ، وإذا زكا ما جعلوه لآلهتهم تركوه معتلِّين بأن الله تعالى غنيٌّ وما ذاك إلا لحب آلهتِهم وإيثارِهم لها ) ، والجعلُ إما متعدَ إلى واحد فالجارّان في قوله تعالى : { لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ } متعلقان به ، ومِنْ في قوله تعالى : { مِنَ الحرث والانعام } بيانٌ لما ، وفيه تنبيهٌ على فرط جهالتِهم حيث أشركوا الخالقَ في خلقه جماداً لا يقدِر على شيء ثم رجّحوه عليه بأن جعلوا الزكيَّ له ، أي عيَّنوا له تعالى مما خلقه من الحرث والأنعام { نَصِيباً } يصرِفونه إلى الضِيفان والمساكينِ ، وتأخيرُه عن المجرورَيْن لما مرَّ مراراً من الاهتمام بالمقدَّمِ والتشويقِ إلى المؤخر ، وإما إلى مفعولين أولُهما مما ذرأ على أن مِنْ تبعيضيةٌ أي جعلوا بعضَ ما خلقه نصيباً له وما قيل من أن الأولَ نصيباً والثاني لله لا يساعده سَدادُ المعنى ، وحكايةُ جعلِهم له تعالى نصيباً تدل على أنهم جعلوا لشركائهم أيضاً نصيباً ، ولم يُذْكر اكتفاءً بقوله تعالى : { فَقَالُواْ هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَائِنَا } وقُرىء بضم الزاءِ ، وهو لغةٌ فيه ، وإنما قُيِّد به الأولُ للتنبيه على أنه في الحقيقة ليس بجعلٍ لله تعالى ، غيرُ مستتبِعٍ لشيء من الثواب كالتطوعات التي يُبتغى بها وجهُ الله تعالى لا لما قيل من أنه للتنبيه على أن ذلك مما اخترعوه ولم يأمرهم الله تعالى به فإن ذلك مستفادٌ من الجعل ، ولذلك لم يقيَّدْ به الثاني ، ويجوز أن يكون ذلك تمهيداً لما بعده على معنى أن قولَهم هذا لله مجرَّدُ زعمٍ منهم لا يعملون بمقتضاه الذي هو اختصاصُه به تعالى فقوله تعالى : { فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى الله وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَائِهِمْ } بيانٌ وتفصيلٌ له أي فما عيَّنوه لشركائهم لا يُصرَف إلى الوجوه التي يُصرف إليها ما عيّنوه لله تعالى من قِرى الضِيفان والتصدقِ على المساكين وما عيَّنوه لله تعالى إذا وجدوه زاكياً يُصرف إلى الوجوه التي يُصرف إليها ما عيّنوه لآلهتهم من إنفاق عليها وذبحِ نسائِكَ عندها والإجراءِ على سَدَنتها ونحو ذلك { سَاء مَا يَحْكُمُونَ } فيما فعلوا من إيثار آلهتِهم على الله تعالى وعملهم بما لم يُشرَعْ لهم و ( ما ) بمعنى الذي ، والتقديرُ ساء الذي يحكُمون حكمَهم فيكون حكمُهم مبتدأً وما قبله الخبرُ وحُذف لدِلالة يحكُمون عليه .(2/436)
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
{ وكذلك } ومثلَ ذلك التزيينِ وهو تزيينُ الشرك في قسمة القُربانِ بين الله تعالى وبين آلهتهم ، أو مثلَ ذلك التزيينِ البليغِ المعهودِ من الشياطين { زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ المشركين قَتْلَ أولادهم } بوأدهم ونحْرِهم لآلهتهم . كان الرجل يحلِف في الجاهلية لئن وُلد له كذا غلاماً لينحَرَنّ أحدهم كما حلف عبدُ المطلب وهو مشهور { شُرَكَاؤُهُمْ } أي أولياؤهم من الجن أو من السَّدَنة وهو فاعلُ زَيَّن أُخِّر عن الظرف والمفعولِ لما مر غيرَ مرةٍ ، وقرىء على البناء للمفعول الذي هو القتلُ ونصبِ الأولاد وجرِّ الشركاء بإضافة القتلِ إليه مفصولاً بينهما بمفعوله وقرىء على البناء للمفعول ورفعِ قتل وجرِّ أولادِهم ورفعِ شركاؤهم بإضمار فعل دل عليه زُيِّن كأنه لما قيل : زُيِّن لهم قتلُ أولادِهم قيل : مَنْ زيَّنه؟ فقيل : زينَّه شركاؤُهم { لِيُرْدُوهُمْ } أن يهلكوهم بالإغواء { وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ } وليخلِطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيلَ عليه السلام أو ما وجب عليهم أن يتدينوا به واللامُ للتعليل إن كان التزيينُ من الشياطين وللعاقبة إن كان من السدنة { وَلَوْ شَاء الله } أي عدمَ فعلهم ذلك { مَّا فَعَلُوهُ } أي ما فعل المشركون ما زُيّن لهم من القتل أو الشركاءُ من التزيين أو الإرداء واللبس ، أو الفريقان جميعَ ذلك على إجراء الضميرِ مُجرى اسمِ الإشارة { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } الفاءُ فصيحة أي إذا كان ما فعلوه بمشيئة الله تعالى فدعهم وافتراءَهم أو وما يفترونه من الإفك فإن فيما شاء الله تعالى حِكَماً بالغة إنما نُملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين ، وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى .(2/437)
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
{ وَقَالُواْ } حكايةٌ لنوعٍ آخرَ من أنواع كفرِهم { هذه } إشارةٌ إلى ما جعلوه لآلهتهم والتأنيثُ للخبر { أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ } أي حرام ، فِعْلٌ بمعنى مفعول كالذِبح يستوي فيه الواحد والكثير والذكر والأنثى لأن أصله المصدر ، ولذلك وقع صفةً لأنعامٌ وحرثٌ ، وقرىء حُجُر بالضم وبضمتين وحَرَجٌ أي ضيق وأصله حرج وقيل : هو مقلوب من حجر { لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء } يعنون خدَمَ الأوثانِ من الرجال دون النساءِ والجملةُ صفةٌ أخرى لأنعامٌ وحرثٌ { بِزَعْمِهِمْ } متعلقٌ بمحذوف وهو حال من فاعل قالوا أي قالوه ملتبسين بزعمهم الباطلِ من غير حجة { وأنعام } خبرُ مبتدأ محذوفٍ والجملةُ معطوفةٌ على قوله تعالى : { هذه أنعام } الخ ، أي قالوا مشيرين إلى طائفة أخرى من أنعامهم وهذه أنعامٌ { حُرّمَتْ ظُهُورُهَا } يعنون بها البحائرَ والسوائبَ والحواميَ { وأنعام } أي وهذه أنعام كما مرَّ وقوله تعالى : { لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا } صفةٌ لأنعام لكنه غيرُ واقعٍ في كلامهم المحكيِّ كنظيره بل مَسوقٌ من جهته تعالى تعييناً للموصوف وتمييزاً له عن غيره كما في قوله تعالى : { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله } على أحد التفاسير ، كأنه قيل : وأنعامٌ ذُبحت على الأصنام فإنها التي لا يُذكر عليها اسمُ الله وإنما يُذكر عليها اسمُ الأصنام ، وقيل : لا يحجّون عليها فإن الحجَّ لا يعرى عن ذكر الله تعالى . وقال مجاهد : كانت لهم طائفةٌ من أنعامهم لا يذكرون اسمَ الله عليها ولا في شيء من شأنها لا إن ركِبوا ولا إن حلَبوا ولا إن نُتجوا ولا إن باعوا ولا إن حمَلوا { افتراء عَلَيْهِ } نُصب على المصدر إما على أن ما قالوه تقوُّلٌ على الله تعالى ، وإما على تقدير عاملٍ من لفظه ، أي افترَوا افتراءً والجارُّ متعلقٌ بقالوا أو بافترَوا المقدّر ، أو بمحذوف هو صفةٌ له لا بافتراءً لأن المصدرَ المؤكد لا يعمل ، أو على الحال من فاعل قالوا ، أي مفترين أو على العلة أي للافتراء فالجارُّ متعلق به { سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي بسببه أو بدله وفي إبهام الجزاءِ من التهويل ما لا يخفى .
{ وَقَالُواْ } حكايةٌ لفن آخَرَ من فنون كفرهم { مَا فِى بُطُونِ هذه الانعام } يعنون به أجنة البحائرِ والسوائبِ { خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا } حلالٌ لهم خاصةً والتاء للنقل إلى الاسمية أو للمبالغة ، أو لأن الخالصة مصدرٌ كالعافية وقع موقعَ الخالصِ مبالغةً أو بحذف المضافِ أي ذو خالصة ، أو للتأنيث بناء على أن ( ما ) عبارةٌ عن الأجنة والتذكير في قوله تعالى : { وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا } أي جنس أزواجِنا وهن الإناثُ باعتبار اللفظ ، وفيه كما ترى حملٌ للنظم الكريم على خلاف المعهودِ الذي هو الحملُ على اللفظ أولاً وعلى المعنى ثانياً كما في قوله تعالى :(2/438)
{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ } الخ ونظائرِه ، وإما العكسُ فقد قالوا إنه لا نظيرَ له في القرآن ، وهذا الحكمُ منهم إن وُلد ذلك حيا وهو الظاهر المعتادُ { وَإِن يَكُن مَّيْتَةً } أي إن ولدت ميتة { فَهُمُ } أي الذكورُ والإناث { فِيهِ } أي فيما في بطون الأنعامِ ، وقيل : المرادُ بالميتة ما يعُمّ الذكرَ والأنثى فغلب الأولُ على الثاني { شُرَكَاء } يأكلون منه جميعاً وقرىء خالصةً بالنصب على أنه مصدرٌ مؤكد ، والخبرُ لذكورنا ، أو حالٌ من الضمير الذي في الظرف لا من الذي في ذكورنا ولا من الذكور لأنه لا يتقدم على العامل المعنويِّ ولا على صاحبه المجرورِ وقرىء خالصُهُ بالرفع والإضافة إلى الضمير على أنه بدل من ( ما ) أو مبتدأٌ ثانٍ { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } أي جزاءَ وصفِهم الكذبَ على الله تعالى في أمر التحليلِ والتحريمِ من قوله تعالى : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب } { إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } تعليلٌ للوعيد بالجزاء ، فإن الحكيمَ العليمَ بما صدر عنهم لا يكاد يترك جزاءَهم الذي هو من مقتضَيات الحكمة .(2/439)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
{ قَدْ خَسِرَ الذين قَتَلُواْ أولادهم } جوابُ قسمٍ محذوفٍ وقرىء بالتشديد وهم ربيعةُ ومضرُ وأضرابُهم من العرب الذين كانوا يئِدون بناتِهم مخافةَ السبْي والفقر أي خسِروا دينَهم ودنياهم { سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ } متعلقٌ بقتلوا على أنه علة له أي لخِفة عقلهم وجهلِهم بأن الله هو الرزاقُ لهم ولأولادهم ، أو نُصب على الحال ويؤيده أنه قرىء سفهاءَ ، أو مصدر { وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله } من البحائر والسوائب ونحوهما { افتراء عَلَى الله } نُصب على أحد الوجوه المذكورة ، وإظهارُ الاسم الجليل في موقع الإضمارِ لإظهار كمالِ عُتوِّهم وطغيانهم { قَدْ ضَلُّواْ } عن الطريق المستقيم { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } إليه وإن هُدوا بفنون الهدايات أو وما كانوا مهتدين من الأصل لسوء سيرتِهم فالجملةُ حينئذ اعتراضٌ ، وعلى الأول عطف على ضلوا .
{ وَهُوَ الذى أَنشَأَ جنات معروشات } تمهيد لما سيأتي من تفصيل أحوال الأنعامِ أي هو الذي أنشأهن من غير شركة لأحد في ذلك بوجه من الوجوه والمعروشاتُ من الكروم المرفوعاتُ على ما يحملها { وَغَيْرَ معروشات } وهن المُلْقَياتُ على وجه الأرض وقيل : المعروشاتُ ما غرسه الناسُ وعرّشوه وغيرُ المعروشات ما نبت في البوادي والجبال { والنخل والزرع } عطفٌ على جناتٍ أي أنشأهما { مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ } وقرىء أُكْله بسكون الكاف أي ثمرُه الذي يُؤكل في الهيئة والكيفية ، والضميرُ إما للنخل والزرعُ داخلٌ في حكمه أو للزرع والباقي مَقيسٌ عليه ، أو للجميع على تقدير كلِّ ذلك أو كلِّ واحد منهما ومختلفاً حالٌ مقدرة إذ ليس كذلك وقت الإنشاء { والزيتون والرمان } أي أنشأهما وقوله تعالى : { متشابها وَغَيْرَ متشابه } نُصب على الحالية أي يتشابه بعضُ أفرادِهما في اللون والهيئةِ أو الطعم ولا يتشابه بعضها { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ } أي من ثمر كل واحدٍ من ذلك { إِذَا أَثْمَرَ } وإن لم يدرك ولم يينع بعد وقيل : فائدته رخصة المالك في الأكل منه قبل أداء حق الله تعالى { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } أريد به ما كان يُتصدَّق به يوم الحصاد بطريق الواجب من غير تعيين المقدارِ لا الزكاةُ المقدرةُ فإنها فُرِضت بالمدينة والسورةُ مكية وقيل : الزكاةُ والآيةُ مدنيةٌ والأمر بإيتائها يوم الحصادِ لِيُهتمَّ به حينئذ حتى لا يؤخَّر عن وقت الأداء وليعلم أن الوجوبَ بالإدراك لا بالتصفية ، وقرىء يومَ حِصاده بكسر الحاء وهو لغةٌ فيه { وَلاَ تُسْرِفُواْ } أي في التصدق كما رُوي عن ثابت بن قيس أنه صرَم خمسَمائة نخلةٍ ففرَّق ثمرَها كلِّها ولم يُدخل منه شيئاً إلى منزله . كقوله تعالى : { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } الآية { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } أي لا يرتضي إسرافَهم .(2/440)
وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)
{ وَمِنَ الانعام حَمُولَةً وَفَرْشًا } شروعٌ في تفصيل حال الأنعامِ وإبطالِ ما تقوَّلوا على الله تعالى في شأنها بالتحريم والتحليل ، وهو عطفٌ على مفعول أنشأ ، ومِنْ متعلقةٌ به أي وأنشأ من الأنعام ما يُحمل عليه الأثقالُ وما يُفرش للذبح أو ما يُفرش المصنوعُ من شعره وصوفِه ووبرِه ، وقيل : الكبارُ الصالحةُ للحمل والصغارُ الدانيةُ من الأرض كأنها فُرشٌ مفروشٌ عليها { كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } ( ما ) عبارةٌ عما ذُكر من الحَمولة والفَرْش ومِنْ تبعيضيةٌ أي كلوا بعضَ ما رزقكم الله تعالى أي حلالَه ، وفيه تصريحٌ بأن إنشاءَها لأجلهم ومصلحتِهم { وَلاَ تَتَّبِعُواْ } في أمر التحليلِ والتحريمِ بتقليد أسلافِكم المجازفين في ذلك من تلقاء أنفسِهم المفترين على الله سبحانه { خطوات الشيطان } فإن ذلك منهم بإغوائه واستتباعِه إياهم { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ظاهرُ العداوة .
{ ثمانية أزواج } الزوجُ ما معه آخَرُ من جنسه يُزاوجُه ويحصُل منهما النسلُ والمرادُ بها الأنواعُ الأربعةُ ، وإيرادُها بهذا العنوان وهذا العددِ تمهيدٌ لما سيق له الكلامُ من الإنكار المتعلّقِ بتحريم كلِّ واحدٍ من الذكر والأنثى وبما في بطنها ، وهو بدلٌ من حَمولةً وفرشاً منصوبٌ بما نَصَبهما ، وجعلُه مفعولاً لكلوا على أن قوله تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ } الآية ، معترِضٌ بينهما ، أو حالٌ مِنْ ما بمعنى مختلفةً أو متعددةً يأباه جزالةُ النظمِ الكريم لظهور أنه مَسوقٌ لتوضيح حالِ الأنعام بتفصيلها أولاً إلى حمولةٍ وفرْشٍ ثم بتفصيلها إلى ثمانية أزواجٍ حاصلةٍ من تفصيل الأولى إلى الإبل والبقر وتفصيلِ الثاني إلى الضأن والمَعَز ثم تفصيلِ كلَ من الأقسام الأربعة إلى الذكر والأنثى كلُّ ذلك لتحرير الموادِّ التي تقوّلوا فيها عليه سبحانه وتعالى .
{ مّنَ الضأن اثنين } بدلٌ من ثمانيةَ أزواج منصوبٌ بناصبه وهو العاملُ في مِنْ ، أي أنشأ من الضأن زوجين الكبشَ والنعجة وقرىء اثنان على الابتداء ، والضأنُ اسمُ جنس كالإبل وجمعُه ضَئين كأمير أو جمعُ ضائن كتاجر وتجْرٍ وقرىء بفتح الهمزة { وَمِنَ المعز اثنين } عطفٌ على مثله شريكْ له في حكمه أي وأنشأ من المعز زوجين التيسَ والعنز وقرىء بفتح العين وهو جمعُ ماعز كصاحب وصحْب وحارس وحرَس ، وقرىء ومن المِعْزى ، وهذه الأزواجُ الأربعةُ تفصيلٌ للفَرْش ولعل تقديمَها في التفصيل مع تأخر أصلِها في الإجمال لكون هذين النوعين عرضةً للأكل الذي هو معظمُ ما يتعلق به الحِلُّ والحُرمة ، وهو السرُّ في الاقتصار على الأمر به في قوله تعالى : { كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } من غير تعرضٍ للانتفاع بالحمل والركوب وغيرِ ذلك مما حرموه في السائبة وأخواتِها .
{ قُلْ } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إثرَ تفصيلِ أنواعِ الأنعامِ التي أنشأها ، أي قل تبكيتاً لهم وإظهاراً لانقطاعهم عن الجواب { آلذكرين } من ذَيْنك النوعين وهما الكبشُ والتيسُ { حَرَّمَ } أي الله عز وجل كما تزعُمون أنه هو المحرّمُ { أَمِ الانثيين } وهما النعجةُ والعنزُ؟ ونُصب الذكرين والأنثيين بحَرَّم وهو مؤخّرٌ عنهما بحسب المعنى وإن توسط بينهما صورةً ، وكذا قوله تعالى : { أَمْ مَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الانثيين } أي أم ما حملت إناثُ النوعين حَرَّم ذكراً كان أو أنثى؟ وقوله تعالى : { نَبّئُونِي بِعِلْمٍ } الخ ، تكريرٌ للإلزام وتثنيةٌ للتبكيت والإفحام أي أخبروني بأمر معلومٍ من جهة الله تعالى من الكتاب أو أخبارِ الأنبياءِ يدل على أنه تعالى حرم شيئاً مما ذُكر ، أو نبئوني تنبئةً ملتبسةً بعلم صادرةً عنه { إِن كُنتُمْ صادقين } أي في دعوى التحريمِ عليه سبحانه .(2/441)
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
وقوله تعالى : { وَمِنَ الإبل اثنين } عطفٌ على قوله تعالى : { مّنَ الضأن اثنين } أي وأنشأ من الإبل اثنين هما الجمل والناقة { وَمِنَ البقر اثنين } ذكر وأنثى { قُلْ } إفحاماً لهم في أمر هذين النوعين أيضاً { ءآلذَّكَرَيْنِ } منهما { حَرَّمَ أَمِ الانثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الانثيين } من ذينك النوعين ، والمعنى إنكارُ أن الله سبحانه حرَّم عليهم شيئاً من الأنواع الأربعةِ وإظهارُ كذبِهم في ذلك وتفصيلُ ما ذكر من الذكور والإناثِ وما في بطونها للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكارِ على كل مادةٍ من موادّ افترائِهم فإنهم كانوا يحرِّمون ذكورَ الأنعامِ تارةً وإناثَها تارة وأولادَها كيفما كانت تارة أخرى مسندين ذلك كلَّه إلى الله سبحانه ، وإنما عُقّب تفصيلُ كلِّ واحدٍ من نوعي الصغارِ ونوعي الكبارِ بما ذكر من الأمر بالاستفهام والإنكارِ مع حصول التبكيتِ بإيراد الأرمِ عقيبَ تفصيلِ الأنواعِ الأربعةِ بأن يقال : قل آلذكورَ حرّم أم الإناثَ أم ما اشتملت عليه أرحامُ الإناث لما في التثنية والتكريرِ من المبالغة في التبكيت والإلزام وقوله تعالى : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء } تكريرٌ للإفحام كقوله تعالى : { نَبّئُونِي بِعِلْمٍ } وأمْ منقطعة ، ومعنى الهمزةِ الإنكارُ والتوبيخُ ومعنى بل الإضراب عن التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بوجه آخرَ أي بل أكنتم حاضرين مشاهدين { إِذْ وصاكم الله بهذا } أي حين وصّاكم بهذا التحريمِ إذ أنتم لا تؤمنون بنبيَ فلا طريقَ لكم حسبما يقود إليه مذهبُكم إلى معرفة أمثالِ ذلك إلا المشاهدةُ والسماعُ ، وفيه من تركيك عقولِهم والتهكمِ بهم ما لا يخفى { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا } فنسبَ إليه تحريمَ ما لم يحرِّم ، والمراد كُبراؤهم المقرِّرون لذلك ، أو عمْروُ بنُ لُحيِّ بنِ قُمعةَ وهو المؤسسُ لهذا الشرِّ ، أو الكلُّ لاشتراكهم في الافتراء عليه سبحانه وتعالى أي فأيُّ فريقٍ أظلمُ من فريقٍ افتروا الخ ، ولا يقدح في أظلمية الكلِّ كونُ بعضِهم مخترِعين له وبعضِهم مقتدين بهم ، والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما سبق من تبكيتهم وإظهارِ كذِبهم وافترائِهم أي هو أظلم من كل ظالمٍ وإن كان المنفيُّ صريحاً في الأظلمية دون المساواةِ كما مر غيرَ مرة { لِيُضِلَّ الناس } متعلق بالافتراء { بِغَيْرِ عِلْمٍ } متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من فاعل افترى ، أي افترى عليه تعالى جاهلاً بصدور التحريمِ عنه تعالى ، وإنما وُصفوا بعدم العلمِ بذلك مع أنهم علمون بعدم صدورِه عنه تعالى إيذاناً بخروجهم في الظلم عن الحدود والنهاياتِ فإن من افترى عليه تعالى بغير علم بصدوره عنه تعالى مع احتمال الصدورِ عنه إذا كان أظلمَ كان أظلمَ من كل ظالمٍ فما ظنُّك بمن افترى عليه تعالى وهو يعلم أنه لم يصدُرْ عنه ويجوز أن يكون حالاً من فاعل يُضِلّ أي ملتبساً بغير علم بما يؤدي بهم إليه { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } كائناً من كان إلى ما فيه صلاحُ حالهم عاجلاً أو آجلاً وإذا كان هذا حالُ المتصفين بالظلم في الجملة فما ظنُّك بمن هو في أقصى غاياتِه؟(2/442)
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
{ قُلْ } أُمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعد إلزامِ المشركين وتبكيتِهم وبيانِ أن ما يتقوّلونه في أمر التحريمِ افتراءٌ بحتٌ لا أصلَ له قطعاً بأن يُبيِّن لهم ما حرّمه عليهم وفي قوله تعالى : { لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا } إيذانٌ بأن مناطَ الحلِّ والحُرمةِ هو الوحيُ وأنه صلى الله عليه وسلم قد تتبع جميعَ ما أوحيَ إليه وتفحّص عن المحرمات فلم يجد غيرَ ما فُصِّل ، وفيه مبالغةٌ في بيان انحصارِها في ذلك و ( محرّماً ) صفةٌ لمحذوف أي لا أجد ريثما تصفحْتُ ما أوحيَ إلى طعاماً محرماً من المطاعم التي حرَّموها { على طَاعِمٍ } أي أيِّ طاعمٍ كان من ذكر أو أنثى رداً على قولهم : { مُحَرَّمٌ على أزواجنا } وقولُه تعالى : { يَطْعَمُهُ } لزيادة التقريرِ { إِلا أَن يَكُونَ } أي ذلك الطعامُ { مَيْتَةً } وقرىء تكونَ بالتاء لتأنيث الخبرِ وقرىء ميتةٌ بالرفع على أن كان تامةٌ وقوله تعالى : { أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا } حينئذ عطفٌ على أنْ مع ما في حيزه ، أي إلا وجودَ ميتةٍ أو دماً مسفوحاً أي مصبوباً كالدماء التي في العروق لا كالطحال والكبِد { أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ } أي الخنزيرَ { رِجْسٌ } أي لحمُه قذرٌ لتعوده أكلَ النجاسات أو خبيثٌ { أَوْ فِسْقًا } عطف على لحمَ خنزيرٍ وما بينهما اعتراضٌ مقرِّر لحرمته { أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } صفةٌ له موضّحة أي ذُبح على اسم الأصنامِ ، وإنما سُمِّي ذلك فسقاً لتوغله في الفسق ، ويجوز أن يكون فسقاً مفعولاً له لأُهِلَّ وهو عطف على يكون والمستكن راجعٌ إلى ما رجع إليه المستكن في يكون .
{ فَمَنِ اضطر } أي أصابته الضَّرورةُ الداعيةُ إلى أكل الميتة بوجه من الوجوه المضطرة { غَيْرَ بَاغٍ } في ذلك على مضطر آخرَ مثلِه { وَلاَ عَادٍ } قدرَ الضرورة { فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } مبالغٌ في المغفرة والرحمة لا يؤاخذه بذلك ، وليس التقييدُ بالحال الأولى لبيان أنه لو لم يوجَد القيدُ لتحققت الحرمة المبحوثُ عنها بل للتحذير من حرام آخرَ هو أخذُه حقِّ مضطرٍ آخرَ فإن من أخذ لحمَ الميتة من يد مضطرٍ آخرَ فأكله فإن حرمتَه ليست باعتبار كونِه لحمَ الميتة بل باعتبار كونه حقاً للمضطر الآخرِ ، وأما الحالُ الثانيةُ فلتحقيق زوالِ الحرمةِ المبحوثِ عنها قطعاً ، فإن التجاوزَ عن القدر الذي يُسدّ به الرمقُ حرامٌ من حيث إنه لحمُ الميتة ، وفي التعرض لوصفي المغفرةِ والرحمةِ إيذانٌ بأن المعصيةَ باقيةٌ لكنه تعالى يغفرُ له ويرحمه ، والآيةُ محكمةٌ لأنها تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يجد فيما أوحيَ إليه إلى تلك الغاية غيرَه ، ولا ينافيه ورودُ التحريمِ بعد ذلك في شيء آخرَ فلا يصِحُّ الاستدلالُ بها على نسخ الكتابِ بخبر الواحدِ ولا على حل الأشياءِ التي هي غيرُها إلا مع الاستصحاب .(2/443)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
{ وَعَلَى الذين هَادُواْ } خاصة لا على مَنْ عداهم من الأولين والآخِرين { حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ } أي كلَّ ما له أصبَعٌ من الإبل والسباعِ والطيورِ وقيل : كلَّ ذي مِخْلبٍ وحافرٍ ، وسُمِّيَ الحافرُ ظفُراً مجازاً والمسبَّبُ عن الظلم هو تعميمُ التحريمِ حيث كان بعضُ ذواتِ الظفرِ حلالاً لهم فلما ظلموا عم التحريمُ كلَّها وهذا تحقيقٌ لما سلف من حصر المحرَّماتِ فيما فُصِّل بإبطال ما يخالِفُه من فرية اليهودِ وتكذيبِهم في ذلك فإنهم كانوا يقولون : لسنا أولَ من حرُمت عليه وإنما كانت محرمةً على نوح وإبراهيمَ ومَنْ بعدَهما حتى انتهى الأمر إلينا .
{ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا } لا لحومَهما فإنها باقيةٌ على الحل ، والشحومُ الثروبُ وشحومُ الكلى والإضافةُ لزيادة الربطِ { إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } استئناءٌ من الشحوم مُخرِّج لما علِق من الشحم بظهورهما عن حكم التحريم .
{ أَوِ الحوايا } عطفٌ على ظهورهما أي ما حملته الحوايا وهي جمعُ حاوية أو حاوِياء كقاصِعاء وقواصِعَ أو حَواية كسفينة وسفائن { أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ } عطف على ما حمَلَتْ وهو شحمُ الأَلْيةِ واختلاطُه بالعظم اتصالُه بعُجْب الذنب ، وقيل : هو كلُّ شحمٍ متصلٍ بالعظم من الأضلاع وغيرِها { ذلك } إشارة إلى الجزاء أو التحريم ، فهو على الأول نُصب على أنه مصدرٌ مؤكدٌ لما بعده وعلى الثاني على أنه مفعولٌ ثانٍ له أي ذلك التحريمُ { جزيناهم بِبَغْيِهِمْ } بسبب ظلمِهم وهو قتلُهم الأنبياءَ بغير حق وأكلُهم الربا وقد نُهوا عنه وأكلُهم أموالَ الناس بالباطل ، كقوله تعالى : { فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ } وكانوا كلما أتَوْا بمعصية عُوقبوا بتحريم شيءٍ مما أحل لهم وهم ينكرون ذلك ويدّعون أنها لم تزَلْ محرمةً على الأمم ، فرُدَّ ذلك عليهم وأُكِّد بقوله تعالى : { وِإِنَّا لصادقون } أي في جميع أخبارِنا التي من جملتها هذا الخبرُ ، ولقد ألقمهم الحجرَ قوله تعالى : { كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسراءيل إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسراءيل على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة قُلْ فَأْتُواْ } روي أنه صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك بُهتوا ولم يجسُروا أن يُخرِجوا التوراة ، كيف وقد بُيِّن فيها جميعُ ما يحذرون أوضحَ بيان .(2/444)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
{ فَإِن كَذَّبُوكَ } قيل : الضمير لليهود لأنهم أقربُ ذِكراً ولذكر المشركين بعد ذلك بعنوان الإشراك ، وقيل : للمشركين ، فالمعنى على الأول إن كذبتْك اليهودُ في الحكم المذكورِ وأصروا على ما كانوا عليه من ادعاء قِدَم التحريم { فَقُلْ } لهم { رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسعة } لا يؤاخذكم بكل ما تأتونه من المعاصي ويُمهلكم على بعضها { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ } بالكلية { عَنِ القوم المجرمين } فلا تنكروا ما وقع منه تعالى من تحريمِ بعضِ الطيبات عليكم عقوبةً وتشديداً ، وعلى الثاني فإن كذبك المشركون فيما فُصل من أحكام التحليل والتحريمِ فقل لهم : ربُكم ذو رحمةٍ واسعة لا يعاجلكم بالعقوبة على تكذيبكم فلا تغتروا بذلك فإنه إمهالٌ لا إهمالٌ ، وقيل : ذو رحمةٍ للمطيعين وذو بأس شديد على المجرمين فأقيم مُقامَه قوله تعالى : { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ } الخ ، لتضمنه التنبيهَ على إنزال البأسِ عليهم مع الدلالة على أنه لا حقّ بهم البتةَ من غير صارفٍ يصرِفه عنهم أصلاً .
{ سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ } حكاية لفن آخرَ من كفرهم ، وإخبارُه قبل وقوعِه ثم وقوعُه حسبما أُخبر به كما يحكيه قوله تعالى عند وقوعِه : { وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآء الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء } صريحٌ في أنه من عند الله تعالى { لَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكْنَا } أي لو شاء خلافَ ذلك مشيئةَ ارتضاءٍ لما فعلنا الإشراك نحن { وَلاَ ىَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَىْء } أرادوا به أن ما فعلوه حقٌّ مرضيٌّ عند الله تعالى لا الاعتذارَ من ارتكاب هذه القبائحِ بإرادة الله تعالى إياها منهم حتى ينتهض ذمُّهم به دليلاً للمعتزلة ، ألا يُرى إلى قوله تعالى : { كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي مثلَ ما كذّبك هؤلاءِ في أنه تعالى منَع من الشرك ولم يحرِّم ما حرموه كذّب متقدِّموهم الرسلَ فإنه صريحٌ فيما قلنا ، وعطفُ آباؤنا على الضمير للفصل بلا { حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا } الذي أنزلنا عليهم بتكذيبهم { قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ } من أمر معلوم يصِحّ الاحتجاجُ به على ما زعمتم { فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } أي فتُظهروه لنا { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } أي ما تتبعون في ذلك إلا الظنَّ الباطلَ الذي لا يغني من الحق شيئاً { وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ } تكذِبون على الله عز وجل وليس فيه دلالةٌ على المنع من اتباع الظنِّ على الإطلاق فيما يعارضه قطعي .
{ قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة } الفاء جوابُ شرطٍ محذوفٍ أي وإذ قد ظهر أن لا حجةَ لكم فللَّه الحجةُ البالغة أي البينةُ الواضحة التي بلغت غايةَ المتانةِ والثباتِ أو بلغ بها صاحبُها صحةَ دعواه ، والمرادُ بها الكتابُ والرسولُ والبيانُ ، وهي من الحج بمعنى القصدَ كأنها تقصُد إثباتَ الحُكم وتطلُبه { فَلَوْ شَاء } هدايتَكم جميعاً { لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } بالتوفيق لها والحملِ عليها ولكن لم يشأْ هدايةَ الكلِّ بل هدايةَ البعضِ الصارفين هِممَهم إلى سلوك طريقِ الحقِّ وضلالَ آخرين صرفوا اختيارَهم إلى خلاف ذلك من غير صارفٍ يَلْويهم ولا عاطفٍ يَثْنيهم .(2/445)
قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
{ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ } أي أحضِروهم وهو اسمُ فعلٍ لا يتصرَّف على لغة أهلِ الحجاز ، وفعلٌ يؤنث ويُجمع على لغة بني تميم على رأي الجمهور وقد خالفهم البعض في فعليته وليس بشيء ، وأصلُه عند البصريين هالُمّ من لَمّ إذا قصَد حُذفت الألفُ لتقدير السكون في اللام فإنه الأصل وعند الكوفيين هلْ أُمَّ فحذفت الهمزةُ بإلقاء حركتِها على اللام وهو بعيد لأن هل تدخل على الأمر ويكون متعدياً كما في الآية ولازماً كما في قوله تعالى : { هَلُمَّ إِلَيْنَا } { الذين يَشْهَدُونَ أَنَّ الله حَرَّمَ هذا } وهم قدوتُهم الذين ينصُرون قولَهم وإنما أُمروا باستحضارهم ليُلزِمَهم الحجةَ ويظهر بانقطاعهم ضلالتَهم وأنه لا متمسَّكَ لهم كمن يقلدهم ولذلك قُيّد الشهداءُ بالإضافة ووُصفوا بما يدل على أنهم شهداءُ معروفون بالشهادة لهم وبنُصرة مذهبهم { فَإِن شَهِدُواْ } بعد ما حضَروا بأن الله حرم هذا { فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ } أي فلا تصدقْهم فإنه كذِبٌ بحتٌ وافتراءٌ صِرْفٌ وبيِّنْ لهم فسادَه فإن تسليمَه منهم موافقةٌ لهم في الشهادة الباطلة { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الذين كَذَّبُواْ بآياتنا } من وضع المظهرِ مقامَ المضمرِ للدِلالة على أن من كذَّب بآياتِ الله تعالى وعدَل به غيرَه فهو متبعٌ لا غيرُ ، وأن من اتبع الحجةَ لا يكون إلا مصدقاً بها { والذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة } كعبدة الأوثان ، عطفٌ على الموصول الأولِ بطريق عطفِ الصفةِ على الصفة مع اتحاد الموصوفِ كما في قوله :
إلى الماجد القَرْمِ وابنِ الهمام ... وليثِ الكتائبِ في المزدَحَمْ
فإن من يكذب بآياته تعالى لا يؤمن بالآخرة وبالعكس { وَهُم بِرَبِهِمْ يَعْدِلُونَ } أي يجعلون له عديلاً ، عطفٌ على لا يؤمنون ، والمعنى لا تتبع أهواءَ الذين يجمعون بين تكذيبِ آياتِ الله وبين الكفرِ بالآخرة وبين الإشراكِ به سبحانه . لكن لا على أن يكون مدارُ النهي الجمعُ المذكورُ بل على أن أولئك جامعون لها متصفون بكلها .
{ قُلْ تَعَالَوْاْ } لما ظهر بُطلانُ ما ادعَوْا من أن إشراكَهم وإشراكَ آبائِهم وتحريمَ ما حرموه بأمر الله تعالى ومشيئتِه بظهور عجْزِهم عن إخراج شيءٍ يُتمسّك به في ذلك وإحضارِ شهداءَ يشهدون بما ادعَوْا في أمر التحريم بعد ما كُلّفوه مرةً بعد أخرى عجزاً بيناً أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأن يبينَ لهم من المحرمات ما يقتضي الحالُ بيانَه على الأسلوب الحكيم إيذاناً بأن حقَّهم الاجتنابُ عن هذه المحرماتِ ، وأما الأطعمةُ المحرمةُ فقد بُينت بقوله تعالى : { قُل لا أَجِدُ } الآية ، وتعالَ أمرٌ من التعالي والأصلُ فيه أن يقوله من مكان عالٍ لمن هو في أسفلَ منه ثم اتُّسع فيه بالتعميم ، كما أن الغنيمة في الأصل إصابةُ الغَنَم من العدو ثم استعملت في إصابة كلِّ ما يُصاب منهم اتساعاً ثم في الفوز بكل مطلبٍ من غير مشقة { اتل } جوابُ الأمر وقوله تعالى : { مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ } منصوبٌ به على أن ( ما ) موصولةٌ والعائدُ محذوفٌ ، أي اقرأْ الذي حرمه ربُّكم أي الآياتِ المشتمِلةَ عليه ، أو مصدريةٌ أي الآياتِ المشتملة على تحريمه أو بحرم على أنها استفهاميةٌ ، والجملةُ مفعولٌ لأتلُ لأن التلاوةَ من باب القول ، كأنه قيل : أقُلْ أيُّ شيءٍ حرم ربكم { عَلَيْكُمْ } متعلقٌ بحرّم على كل حال ، وقيل : بأتلُ والأول أنسبُ بمقام الاعتناءِ بإيجاب الانتهاءِ عن المحرمات المذكورةِ وهو السرُّ في العرض لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميرهم ، فإن تذكيرَ كونِه تعالى رباً لهم ومالكاً لأمرهم على الإطلاق من أقوى الدواعي إلى انتهائهم عما نهاهم عنه أشدَّ انتهاءٍ وأنْ في قوله تعالى : { أَن لا تُشْرِكُواْ بِهِ } مفسرةٌ لفعل التلاوةِ المعلَّقِ بما حرم ، و ( لا ) ناهيةٌ كما ينبىء عنه عطفُ ما بعده من الأوامر والنواهي عليه ، وليس من ضرورة كونِ المعطوفِ عليه تفسيراً لتلاوة المحرمات بحسب منطوقه كونُ المعطوفاتِ أيضاً كذلك حتى يمتنع انتظامُ الأوامر في سلك العطفِ عليه بل يكفي في ذلك كونُها تفسيراً لها باعتبار لوازمِها التي هي النواهي المتعلقةُ بأضداد ما تعلقت هي به ، فإن الأمرَ بالشيء مستلزمٌ للنهي عن ضده بل هو عينُه عند البعض ، كأن الأوامرَ ذُكرت وقُصد لوازمُها ، فإن عطفَ الأوامرِ على النواهي الواقعةِ بعد أن المفسر لتلاوة المحرماتِ مع القطع بأن المأمورَ به لا يكون محرماً دليلٌ واضحٌ على أن التحريمَ راجعٌ إلى الأضداد على الوجه المذكور فكأنه قيل : أتلُ ما حرم ربكم أن لا تشركوا ولا تُسيئوا إلى الوالدين خلا أنه قد أُخرج مُخرجَ الأمرِ بالإحسان إليهما بين النهيَين المكتنِفين له للمبالغة في إيجاب مراعاةِ حقوقِهما فإن مجرَّدَ تركِ الإساءةِ إليهما غيرُ كافٍ في قضاء حقوقِهما ، ولذلك عُقّب به النهيُ عن الإشراك الذي هو أعظمُ المحرماتِ وأكبرُ الكبائرِ هاهنا في سائر المواقعِ ، وقيل : ( أن ) ناصبةٌ ومحلُّها النصبُ بعليكم على أنه للإغراء ، وقيل : النصبُ على البدلية مما حرم وقيل : من عائدها المحذوفِ على أن لا زائدة ، وقيل : الجرُّ بتقدير اللام وقيل : الرفع بتقدير المتلُوِّ أن لا تشركوا ، أو المحرَّمُ أن لا تشركوا بزيادة لا وقيل : والذي عليه التعويلُ هو الأول لأمور من جملتها أن في إخراج المفسَّرِ على صورة النهي مبالغةً في بيان التحريمِ وقوله تعالى : { شَيْئاً } نُصب على المصدرية أو المفعولية أي لا تشركوا به شيئاً من الإشراك أو شيئاً من الأشياء { وبالوالدين } أي وأحسِنوا بهما { إحسانا } وقد رم تحقيقه { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ } تكليفٌ متعلق بحقوق الأولادِ عقّب به التكليفَ المتعلقَ بحقوق الوالدين أي لا تقتلوهم بالوأد { مّنْ إملاق } أي من أجل فقرٍ كما في قوله تعالى :(2/446)
{ خَشْيَةَ إملاق } وقيل : هذا في الفقر الناجزِ وذا في المتوقَّع وقوله تعالى : { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } استئنافٌ مَسوقٌ لتعليل النهي وإبطالِ سببيةِ ما اتخذوه سبباً لمباشرة المنهيِّ عنه وضمانٌ منه تعالى لأرزاقهم أي نحن نرزق الفريقين لا أنتم فلا تخافوا الفقرَ بناءً على عجزكم عن تحصيل الرزق وقوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش } كقوله تعالى :(2/447)
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } الآية ، إلا أنه جيء هاهنا بصيغة الجمعِ قصداً إلى النهي عن أنواعها ولذلك أُبدل عنها قولُه تعالى : { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } أي ما يُفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأَبُ أراذلِهم وما يفعل سراً باتخاذ الأخدانِ كما هو عادةُ أشرافِهم . وتعليقُ النهي بقُربانها إما للمبالغة في الزجر عنها لقوة الدواعي إليها وإما لأن قربانَها داعٍ إلى مباشرتها ، وتوسيطُ النهي عنها بين النهي عن قتل الأولادِ والنهي عن القتلِ مطلقاً كما وقع في سورة بني إسرائيلَ باعتبار أنها مع كونها في نفسها جنايةً عظيمةً في حكم قتلِ الأولادِ فإن أولادَ الزنا في حكم الأموات وقد قال صلى الله عليه وسلم في حق العزلِ : « إن ذاك وأدٌ خفيٌّ » ومن هاهنا تبين أن حملَ الفواحشِ على الكبائر مطلقاً وتفسير ما ظهر منها وما بطن بما فُسِّر به ظاهِرُ الإثمِ وباطنُه فيما سلف من قبيل الفصلِ بين الشجر ولِحائِه .
{ وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التى حَرَّمَ الله } أي حرم قتلَها بأن عصمَها بالإسلام أو بالعهد فيخرُج منها الحربيُّ وقوله تعالى : { إِلاَّ بالحق } استثناءٌ مفرّغٌ من أعم الأحوالِ أي لا تقتلوها في حال من الأحوال إلا حالَ ملابستِكم بالحق الذي هو أمرُ الشرعِ بقتلها ، وذلك بالكفر بعد الإيمان ، والزنا بعد الإحصان ، وقتلِ النفسِ المعصومةِ ، أو من أعمِّ الأسباب أي لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحقِّ وهو ما ذكر ، أو من أعمِّ المصادر أي لا تقتُلوها قتلاً ما إلا قتلاً كائناً بالحق وهو القتلُ بأحد الأمور المذكورة { ذلكم } إشارةٌ إلى ما ذكر من التكاليف الخمسةِ ، وما في ذلك من معنى البُعد للإيذان بعلوّ طبقاتِها بين التكاليف الشرعية ، وهو مبتدأ وقوله تعالى : { وصاكم بِهِ } أي أمركم به ربكم أمراً مؤكداً خبرُه ، والجملة استئنافٌ جيء به تجديداً للعهد وتأكيداً لإيجاب المحافظةِ على ما كُلِّفوه ولما كانت الأمورُ المنهيُّ عنها مما تقضي بديهةُ العقول بقُبحها فُصِّلت الآيةُ الكريمة بقوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي تستعملون عقولَكم التي تعقِل نفوسَكم وتحبِسُها عن مباشرة القبائحِ المذكورة .(2/448)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم } توجيهُ النهي إلى قُربانه من المبالغة في النهي عن أكله ولإخراج القُربان النافعِ عن حكم النهي بطرق الاستثناءِ ، أي لا تتعرضواله بوجه من الوجوه { إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ } إلا بالخَصلة التي هي أحسنُ ما يكون من الحِفظ والتثميرِ ونحو ذلك ، والخطابُ للأولياء والأوصياء لقوله تعالى : { حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } فإنه غايةٌ لما يُفهم من الاستثناء لا للنهي كأنه قيل : احفظوه حتى يصيرَ بالغاً رشيداً فحينئذ سلّموه إليه كما في قوله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ } والأشُدُّ جمع شِدّة كنعمة وأنعم أو شَدّ ككلب وأكلُب أو شد كصر وآصر وقيل : هو مفرد كآنُك { وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط } أي بالعدل والتسوية { لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } إلا ما يسعُها ولا يعسُر عليها ، وهو اعتراضٌ جيء به عَقيبَ الأمرِ بالأمر للإيذان بأن مراعاةَ العدلِ كما هو عسيرٌ كأنه قيل : عليكم بما في وسعكم وما وراءه معفوٌّ عنكم { وَإِذَا قُلْتُمْ } قولاً في حكومة أو شهادة أو نحوِهما { فاعدلوا } فيه { وَلَوْ كَانَ } أي المقولُ له أو عليه { ذَا قربى } أي ذا قرابةٍ منكم ولا تميلوا نحوهم أصلاٌ وقد مر تحقيق معنى لو في مثل هذا الموضعِ مراراً { وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ } أي ما عَهد إليكم من الأمور المعدودةِ ، أو أيِّ عهدٍ كان فيدخُل فيه ما ذُكر دخولاً أولياً أو ما عاهدتم الله عليه من الإيمان والنذور ، وتقديمُه للاعتناء بشأنه { ذلكم } إشارةٌ إلى ما فُصِّل من التكاليف ، ومعنى البُعد لما ذكر فيما قبل { وصاكم بِهِ } أمركم به أمراً مؤكداً { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } تتذكرون ما في تضاعيفه وتعملون بمقتضاه ، وقرىء بتشديد الذالِ وهذه أحكامٌ عشَرةٌ لا تختلف باختلاف الأممِ والأعصارِ .
عن ابن عباس رضي الله عنهما ( هذه آياتٌ محكماتٌ لم ينسَخْهن شيء من جميع الكتُب وهن محرماتٌ على بني آدم كلِّهم وهن أمُّ الكتابِ ، من عمِل بهن دخلَ الجنة ومن تركهن دخلَ النار ) . وعن كعب الأحبارِ والذي نفسُ كعبٍ بيده إن هذه الآياتِ لأولُ شيءٍ في التوراة بسم الله الرحمن الرحيم قل : تعالَوا الآيات . . .(2/449)
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
{ وَأَنَّ هذا صراطي } إشارةٌ إلى ما ذكر في الآيتين من الأمر والنهي ، قاله مقاتل وقيل : إلى ما ذكر في السورة فإنها بأسرها في إثبات التوحيدِ والنبوة وبيانِ الشريعة ، وقرىء صراطيَ بفتح الياء ، ومعنى إضافتِه إلى ضميره عليه الصلاة والسلام انتسابُه إليه عليه الصلاة والسلام من حيث السلوكُ لا من حيث الوضعُ كما في صراط الله ، والمرادُ بيانُ أن ما فُصِّل من الأوامر والنواهي غيرُ مختصةٍ بالمتلو عليهم بل متعلقةٌ به عليه الصلاة والسلام أيضاً وأنه صلى الله عليه وسلم مستمرٌّ على العمل بها ومراعاتِها وقوله تعالى : { مُّسْتَقِيماً } حالٌ مؤكدةٌ ، ومحل أن مع ما في حيزها الجرُّ بحذف لام العلة أي ولأن هذا صراطي أي مسلكي مستقيماً { فاتبعوه } كقوله تعالى : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً } وتعليلُ إتباعِه بكونه صراطَه عليه الصلاة والسلام لا بكونه صراطَ الله تعالى مع أنه في نفسه كذلك من حيث سلوكُه صلى الله عليه وسلم فيه داعٍ للخلق إلى الاتّباع إذ بذلك يتضح عندهم كونُه صراطَ الله عز وجل ، وقرىء بكسر الهمزة على الاستئناف ، وقرىء أنْ هذا مخففةً من أنّ ، على أن اسمَها الذي هو ضميرُ الشأنِ محذوفٌ وقرىء صراطي وقرىء هذا صراطي وقرىء وهذا صراطُ ربِّكم وهذا صراطُ ربِّك { وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل } الأديانَ المختلفةَ أو طرقَ البدع والضلالات { فَتَفَرَّقَ بِكُمْ } بحذف إحدى التاءين ، والباء للتعدية أي فتفرِّقَكم حسَبَ تفرُّقِها أياديَ سبا فهو كما ترى أبلغُ من تفرقكم كما قيل من أن ذهَبَ به لما فيه من الدلالة على الاستصحاب أبلغُ من أذهبه { عَن سَبِيلِهِ } أي سبيل الله الذي لا عِوَجَ فيه ولا حرج ، وهو دين الإسلام الذي ذُكر بعضُ أحكامه وقيل : هو اتباعُ الوحي واقتفاءُ البرهان ، وفيه تنبيهٌ على أن صراطَه عليه الصلاة والسلام عينُ سبيل الله تعالى { ذلكم } إشارةٌ إلى ما مر من اتباع سبيلِه تعالى وتركِ اتباعِ سائر السبل { وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } اتباعَ سبُلِ الكفر والضلالة .
{ ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب } كلامٌ مسوقٌ من جهته تعالى تقريراً للوصية وتحقيقاً لها وتمهيداً لما يعقُبه من ذكر القرآنِ المجيد كما ينبىء عنه تغييرُ الأسلوب بالالتفات إلى التكلم معطوفٌ على مقدر يقتضيه المقامُ ويستدعيه النظامُ كأنه قيل بعد قوله تعالى : { ذلكم وصاكم بِهِ } بطريق الاستئنافِ تصديقاً له وتقريراً لمضمونه : فعلنا ذلك ثم آتينا الخ ، كما أن قوله تعالى : { وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ } معطوف على ما يدل عليه معنى { أَوَ لَمْ يَهْدِ } الخ ، كأنه قيل : يغفُلون عن الهداية ونطبع الخ ، وأما عطفُه على ذلكم وصاكم به ونظمُه معه في سلك الكلامِ الملقّن كما أجمع عليه الجمهورُ فمما لا يليق بجزالة النظمِ الكريم فتدبر .(2/450)
وثم للتراخي في الإخبار كما في قولك : بلغني ما صنعتَ اليوم ثم ما صنعتَ أمسِ أعجبُ ، أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل : ذلكم وصاكم به قديماً وحديثاً ثم أعظمُ من ذلك أنا آتينا موسى التوراةَ فإن إيتاءَها مشتملةً على الوصية المذكورةِ وغيرِها أعظمُ من التوصية بها فقط { تَمَامًا } للكرامة والنعمة أي إتماماً لهما على أنه مصدرٌ من أتمّ بحذف الزوائد { عَلَى الذى أَحْسَنَ } أي على مَنْ أحسن القيامَ به كائناً مَنْ كان ، ويؤيده أنه قرىء على الذين أحسنوا وتماماً على المحسنين أو على الذي أحسن تبليغَه وهو موسى عليه السلام أو تماماً على ما أحسنه موسى عليه السلام أي أجاده من العلم والشرائعِ أي زيادةً على علمه على وجه التتميم ، وقرىء بالرفع على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أي على الذي هو أحسنُ دينٍ وأرضاه أو آتينا موسى الكتاب تماماً أي تاماً كاملاً على أحسنَ ما يكون عليه الكتُب { وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء } وبياناً مفصلاً لكل ما يُحتاج إليه في الدين وهو عطفٌ على تماماً ونصبُهما إما على العلية أو على المصدرية كما أشير إليه أو على الحالية وكذا قوله تعالى : { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } وضميرُ { لَعَلَّهُمْ } لبني إسرائيلَ المدلولِ عليهم بذكر موسى وإيتاءِ الكتاب والباء في قوله تعالى : { بِلَقَاء رَبّهِمْ } متعلقةٌ بقوله تعالى : { يُؤْمِنُونَ } قدمت عليه محافظةً على الفواصل قال ابن عباس رضي الله عنهما : كي يؤمنوا بالبعث ويصدّقوا بالثواب والعذاب .(2/451)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)
{ وهذا } أي الذي تُليت عليكم أوامرُه ونواهيه أي القرآن { كِتَابٌ } عظيمُ الشأنِ لا يقادَر قدْرُه وقوله تعالى : { أنزلناه مُبَارَكٌ } أي كثيرُ المنافع ديناً ودنيا ، صفتان لكتابٌ ، وتقديمُ وصفِ الإنزال مع كونه غيرَ صريحٍ لأن الكلام مع منكريه ، أو خبران آخران لاسم الإشارة أي أنزلناه مشتملاً على فنون الفوائدِ الدينية والدنيوية التي فُصِّلت عليكم طائفةٌ منها ، والفاء في قوله تعالى : { فاتبعوه } لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن عِظمَ شأنِ الكتابِ في نفسه وكونَه منزلاً من جنابه عز وجل مستتبعاً للمنافع الدينية والدنيوية موجبٌ لاتباعه أيَّ إيجاب { واتقوا } مخالفتَه { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } بواسطة اتباعِه والعمل بموجبه { أَن تَقُولُواْ } علةٌ لأنزلناه المدلولِ عليه بالمذكور لا لنفسه ، للزوم الفصلِ حينئذ بين العامل والمعمولِ بأجنبيّ هو مباركٌ وصفاً كان أو خبراً أي أنزلناه كذلك كراهةَ أن تقولوا يوم القيامة لو لم تُنْزِله { إِنَّمَا أُنزِلَ الكتاب } الناطقُ بتلك الأحكام العامة لكل الأمم { على طَائِفَتَيْنِ } كائنتين { مِن قَبْلِنَا } وهما اليهودُ والنصارى ، وتخصيصُ الإنزال بكتابيهما لأنهما الذي اشتهر حينئذ فيما بين الكتب السماويةِ بالاشتمال على الأحكام لا سيما الأحكامِ المذكورة { وَإِن كُنَّا } إنْ هي المخففةُ من إنَّ واللام فارقةٌ بينها وبين النافية وضميرُ الشأن محذوفٌ ومرادُهم بذلك دفعُ ما يَرِد عليهم من أن نزولَه عليهما لا ينافي عمومَ أحكامِه فلمَ لمْ تعملوا بأحكامه العامة؟ أي وإنه كنا { عَن دِرَاسَتِهِمْ لغافلين } لا ندري ما في كتابهم إذ لم يكن على لغتنا حتى نتلقّى منه تلك الأحكامَ العامة ونحافظَ عليها وإن لم يكن منزلاً علينا ، وبهذا تبيّن أن معذرتَهم هذه مع أنهم غيرُ مأمورين بما في الكتابين لاشتمالهما على الأحكام المذكورةِ المتناولةِ لكافة الأممِ كما أن قطعَ تلك المعذرةِ بإنزال القرآنِ لاشتماله أيضاً عليها لا على سائر الشرائعِ والأحكام فقط .(2/452)
أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
{ أَوْ تَقُولُواْ } عطفٌ على تقولوا وقرىء كلاهما بالياء على الالتفات من خطاب { فاتبعوه واتقوا } { لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب } كما أنزل عليهم { لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ } إلى الحق الذي هو المقصِدُ الأقصى أو إلى ما في تضاعيفه من جلائل الأحكام والشرائع ودقائقِها لحِدّة أذهانِنا وثَقابةِ أفهامنا ولذلك تلقّفنا من فنون العلم كالقصص والأخبار والخُطب والأشعار ونحوِ ذلك طرفاً صالحاً ونحن أمّيون ، وقوله تعالى : { فَقَدْ جَاءكُمُ } متعلقٌ بمحذوف ينبىء عنه الفاءُ الفصيحةُ إما معللٌ به أي لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم الخ ، وإما شرطٌ له أي إن صدقتم فيما كنتم تعدّون من أنفسكم من كونكم أهدى من الطائفتين على تقدير نزولِ الكتابِ عليكم فقد حصل ما فرضتم وجاءكم { بَيّنَةً } أي حجةٌ واضحة لا يُكتَنهُ كنهها وقوله تعالى : { مّن رَّبّكُمْ } متعلق بجاءكم أو بمحذوف هو صفةٌ لبينة أي بينةٌ كائنةٌ منه تعالى وأياً ما كان ففيه دَلالةٌ على فضلها الإضافي كما أن في تنوينها التفخيميِّ دلالةٌ على فضلها الذاتي وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم مزيدُ تأكيدٍ لإيجاب الاتباع { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } عطفٌ على بينةٌ وتنوينُهما أيضاً تفخيميٌّ عبّر عن القرآن بالبينة إيذاناً بكمال تمكنِهم من دراسته ، ثم بالهدى والرحمة تنبيهاً على أنه مشتملٌ على ما اشتمل عليه التوراةُ من هداية الناس ورحمتِهم بل هو عينُ الهداية والرحمة .
{ فَمَنْ أَظْلَمُ } الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن مجيءَ القرآن المشتمل على الهدى والرحمة موجبٌ لغاية أظلمية مَنْ يكذّبه ، أي وإذا كان الأمرُ كذلك فمن أظلم { مِمَّن كَذَّبَ بآيات الله } وُضع الموصولُ موضعَ ضميرهم بطريق الالتفات تنصيصاً على اتصافهم بما في حيز الصلةِ وإشعاراً بعلة الحُكم وإسقاطاً لهم عن رتبة الخطابِ ، وعبّر عما جاءهم بآيات الله تهويلاً للأمر وتنبيهاً على أن تكذيبَ أي آيةٍ كانت من آيات الله تعالى كافٍ في الأظلمية فما ظنُّك بتكذيب القرآن المنطوي على الكل ، والمعنى إنكارُ أن يكون أحدٌ أظلمَ ممن فعل ذلك أو مساوياً له وإن لم يكن سبكُ التركيب متعرضاً لإنكار المساواةِ ونفيها ، فإذا قيل : مَنْ أكرمُ من فلان أو لا أفضلُ منه فالمرادُ به حتماً بحكم العرف الفاشي والاستعمال المطرد أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل ، وقد مر مراراً { وَصَدَفَ عَنْهَا } أي صرَفَ الناس عنها فجمعَ بين الضلال والإضلالِ { سَنَجْزِى الذين يَصْدِفُونَ } الناسَ { عَنْ آياتنا } وعيدٌ لهم ببيان جزاء إضلالِهم بحيث يُفهم منه جزاءُ ضلالهم أيضاً ، ووضعُ الموصول المُضمر لتحقيق مناطِ الجزاء { سُوء العذاب } أي العذابَ السيءَ الشديدَ النكاية { بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ } أي بسبب ما كانوا يفعلون من الصَّدْف والصرْف على التجدد والاستمرارِ ، وهذا تصريحٌ بما أَشعرَ به إجراءُ الحُكم على الموصول من عِلّية ما في حيز الصلة له .(2/453)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
{ هَلْ يَنظُرُونَ } استئنافٌ مَسوقٌ لبيان أنه لا يتأتى منهم الإيمانُ بإنزال ما ذكر من البينات والهدى وأنهم لا يرعوون عن التمادي في المكابرة واقتراحِ ما ينافي الحكمةَ التشريعية من الآيات المُلجئة وأن الإيمانَ عند إتيانها مما لا فائدةَ له أصلاً مبالغةً في التبليغ والإنذار وإزاحةِ العلل والأعذار ، أي ما ينتظرون { إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ } حسبما اقترحوا بقولهم : { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملئكة أَوْ نرى رَبَّنَا } وبقولهم : { أَوْ تَأْتِىَ بالله والملئكة قَبِيلاً } وبقولهم : { لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } ونحو ذلك أو إلا أن تأتيهم ملائكةُ العذاب أو يأتيَ أمرُ ربك بالعذاب ، والانتظارُ محمولٌ على التمثيل كما سيجيء وقرىء يأتيَهم بالياء لأن تأنيثَ الملائكة غيرُ حقيقي .
{ أو يأتي بعضُ آيات ربِّكَ } أي غيرُ ما ذكر كما اقترحوا بقولهم : { أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا } ونحوِ ذلك من عظائمِ الآياتِ التي علّقوا بها إيمانَهم ، والتعبيرُ عنها بالبعض للتهويل والتفخيم ، كما أن إضافةَ الآياتِ في الموضعين إلى اسم الربِّ المنبىء عن المالكية الكليةِ لذلك . وإضافتَه إلى ضميره عليه الصلاة والسلام للتشريف ، وقيل : المرادُ بالملائكة ملائكةُ الموت وبإتيانه سبحانه وتعالى إتيانُ كل آياتِه بمعنى آياتِ القيامةِ والهلاكُ الكليُّ بقرينة ما بعده من إتيان بعضِ آياتِه تعالى على أن المرادَ به أشراطُ الساعةِ التي هي ( الدخانُ ودابةُ الأرضِ وخسفٌ بالمشرق وخسفٌ بالمغرب وخسفٌ بجزيرة العرب والدجالُ وطلوعُ الشمس من مغربها ويأجوجُ ومأجوجُ ونزولُ عيسى عليه السلام ونارٌ تخرج من عَدَنَ ) كما نطق به الحديثُ الشريفُ المشهورُ وحيث لم يكن إتيانُ هذه الأمورِ مما ينتظرونه كإتيان ما اقترحوه من الآيات فإن تعليقَ إيمانِهم بإتيانها انتظارٌ منهم له ظاهراً ، حُمل الانتظارُ على التمثيل المبني على تشبيه حالِهم في الإصرار على الكفر والتمادي في العناد إلى أن تأتيَهم تلك الأمورُ الهائلةُ التي لا بد لهم من الإيمان عند مشاهدتِها البتةَ بحال المنتظرين لها . وأنت خبيرٌ بأن النظمَ الكريمَ بسباقه المُنبىءِ عن تماديهم في تكذيب آياتِ الله تعالى وعدمِ الاعتدادِ بها وسياقِه الناطقِ بعدم نفع الإيمانِ عند إتيان ما ينتظرونه يستدعي أن يُحملَ ذلك على أمور هائلةٍ مخصوصةٍ بهم إما بأن تكونَ عبارةً عما اقترحوه أو عن عقوبات مترتبةٍ على جناياتهم كإتيان ملائكةِ العذاب وإتيانِ أمرِه تعالى بالعذاب وهو الأنسبُ لما سيأتي من قوله تعالى : { قُلِ انتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ } .
وإما حملُه على ما ذُكر من إتيان ملائكةِ الموتِ وإتيانِ كل آياتِ القيامةِ وظهورِ أشراطِ الساعة مع شمول إتيانِها لكل برّ وفاجر ، واشتمالِ غائلتِها على كل مؤمن وكافرٍ فمما لا يساعده المقامُ على أن بعضَ أشراطِ الساعةِ ليس مما ينسدّ به بابُ الإيمان والطاعة ، نعم يجوزُ حملُ بعضِ الآياتِ في قوله عز وجل : { يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايات رَبّكَ } على ما يعم مقترحاتِهم وغيرَها من الدواعي العظامِ السالبةِ للاختيار الذي عليه يدور فلكُ التكليفِ فإنه بمنزلة الكبرى من الشكل الأولِ فيتم التقريبُ عند وقوعِها بدخول ما ينتظرونه في ذلك دخولاً أولياً ، ويوم منصوب بقوله تعالى : { لاَّ ينفَعُ } فإن امتناعَ عملِ ما بعد ( لا ) فيما قبلها عند وقوعِها جوابَ القسم ، وقرىء يومُ بالرفع على الابتداء والخبرُ هو الجملةُ والعائدُ محذوفٌ أي لا تنفع فيه { نَفْساً } من النفوس { إِيمَانُهَا } حينئذ لانكشاف الحالِ وكون الأمرِ عياناً ، ومدارُ قَبولِ الإيمان أن يكون بالغيب كقوله تعالى :(2/454)
{ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } وقرىء لا تنفع بالتاء الفوقانية لاكتساب الإيمانِ من ملابسة المضاف إليه تأنيثاً وقوله تعالى : { لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ } أي من قبلِ إتيانِ بعضِ الآياتِ ، صفةٌ لنفساً فصل بينهما بالفاعل لاشتماله على ضمير الموصوفِ ولا ضيرَ فيه لأنه غيرُ أجنبيَ منه لاشتراكهما في العامل .
{ أَوْ كَسَبَتْ فِى إيمانها خَيْرًا } عطفٌ على آمنت بإيراد الترديدِ على النفي المفيدِ لكفاية أحد النفيين في عدم النفعِ ، والمعنى أنه لا ينفع الإيمانُ حينئذ نفساً لم يقدّم إيمانَها أو قدّمتْه ولم تكسِبْ فيه خيراً ، ومن ضرورته اشتراطُ النفعِ بتحقق الأمرين ، أي الإيمانِ المقدَّمِ والخيرِ المكسوب فيه معاً ، بمعنى أن النافعَ هو تحققُهما والإيمانُ المؤخرُ لغوٌ وتحصيلٌ للحاصل لا أنه هو النافعُ وتحققُهما شرطٌ في نفعه كما لو كان المقدَّمُ غيرَ المؤخرِ بالذات ، فإن قولَك : لا ينفع الصومُ والصدقةُ مَنْ لم يؤمِنْ قبلَهما معناه أنهما ينفعانه عند وقوعِهما بعد الإيمان وقد استدل به أهلُ الاعتزالِ على عدم اعتبار الإيمانِ المجردِ عن الأعمال وليس بناهض ضرورةَ صحةِ حملِه على نفي الترديدِ المستلزِمِ لعمومه المفيدِ بمنطوقه لاشتراط عدمِ النفع بعدم الأمرين معاً وبمفهومه لاشتراط النفعِ بتحقق أحدِهما بطريق منعِ الخلوِّ دون الانفصالِ الحقيقي ، فالمعنى أنه لا ينفع الإيمانُ حينئذ نفساً لم يصدُرْ عنها من قبلُ أحدُ الأمرين ، أما الإيمانُ المجردُ أو الخيرُ المكسوبُ فيه فيتحقق النفعُ بأيهما كان حسبما تنطِقُ به النصوصُ الكريمةُ من الآيات والأحاديث وما قيل من أن عدمَ الإيمانِ السابقِ مستلزمٌ لعدم كسب الخيرِ فيه بالضرورة فيكون ذكرُه تكراراً بلا فائدة على أن الموجبَ للخلود في النار هو العدمُ الأولُ من غير أن يكون للثاني دخلٌ ما في ذلك قطعاً فيكون ذكرُه بصدد بيانِ ما يوجب الخلودَ لغواً من الكلام لغو من الكلام مبني على توهم أن المقصودَ بوصف النفسِ بالعدمين المذكورين مجردُ بيانِ إيجابِهما للخلود فيها وعدمِ نفعِ الإيمان الحادثِ في إنجائها عنه وليس كذلك ، وإلا لكفى في البيان أن يقال : لا ينفعُ نفساً إيمانُها الحادثُ ، بل المقصِدُ الأصليُّ من وصفها بذينك العدمين في أثناء بيانِ عدم نفعِ الإيمان الحادثِ تحقيقُ أن موجبَ النفع إحدى مَلَكتيهما ، أعني الإيمانَ السابقَ والخيرَ المكسوبَ فيه بما ذكر من الطريقة والترغيبِ في تحصيلهما في ضمن التحذيرِ من تركهما ، ولا سبيلَ إلى أن يقال كما أن عدمَ الأولِ مستقلٌّ في إيجاب الخلودِ في النار فليغلو ذكرُ عدمِ الثاني ، كذلك وجوده مستقل في إيجاب الخلاصِ عنها فيكون ذكرُ الثاني لغواً لما أنه قياسٌ مع الفارق كيف لا والخلود فيها أمرٌ لا يُتصوَّر فيه تعددُ العللِ ، وأما الخلاصُ عنها مع دخولِ الجنةِ فله مراتبُ بعضُها مترتبٌ على نفس الإيمان وبعضُها على فروعه المتفاوتةِ كماً وكيفاً ، وإنما لم يُقتصر على بيان ما يوجب أصلَ النفعِ وهو المقابلُ لما لا يوجبه أصلاً أعني الإيمانَ الحادثَ ، بل قرَنَ به ما يوجب النفعَ الزائدَ أيضاً إرشاداً إلى تحرّي الأعلى وتنبيهاً على كفاية الأدنى وإقناطاً للكفرة عما علّقوا به أطماعَهم الفارغةَ من أعمال البِرّ التي عمِلوها في الكفر من صلة الأرحام وإعتاق الرقاب وفك العُناةِ وإغاثةِ الملهوفين وقرى الأضيافِ وغير ذلك مما هو من باب المكارم ببيان أن كل ذلك لغوٌ بحتٌ لابتنائه على غير أساسٍ حسبما نطق به قولُه تعالى :(2/455)
{ والذين كَفَرُواْ أعمالهم كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح } الآية ، ونحوُ ذلك من النصوص الكريمة ، وأن الإيمانَ الحادثَ كما لا ينفعهم وحده لا ينفعهم بانضمام أعمالِهم السابقةِ واللاحقة ، ولك أن تقول : المقصودُ بوصف النفسِ بما ذُكر من العدمين التعريضُ بحال الكفرة في تمردهم وتفريطِهم في كل واحد من الأمرين الواجبين عليهم وإن كان وجوبُ أحدِهما منوطاً بالآخر كما في قوله عز وجل : { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ } تسجيلاً بكمال طغيانِهم وإيذاناً بتضاعف عقابِهم لما تقرر من أن الكفارَ مخاطَبون بفروع الشرائعِ في حق المؤاخذة كما ينبىء عنه قوله تعالى : { وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة } إذا تحققت هذا وقفتَ على أن الآيةَ الكريمة أحقُّ بأن تكون حجةً على المعتزلة من أن تكون حجةً لهم هذا وقد قيل : إنها من باب اللف التقديريِّ ، أي لا ينفع نفساً إيمانُها ولا كسبُها في الإيمان لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فيه ، وليس بواضح فإن مبنى اللفِّ التقديريِّ أن يكون المقدرُ من متمّمات الكلامِ ومقتَضَيات المقام قد ترك ذكرَه تعويلاً على دِلالة الملفوظِ عليه واقتضائِه إياه كما مر في تفسير قوله عز وجل : { وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } فإنه قد طُوي في المفصل ذكرُ حشرِ المؤمنين ثقةً بإنباء التفصيل عنه أعني قوله تعالى : { فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ } الآية ، ولا ريب في أن ما قُدّر هاهنا ليس مما يستدعيه قوله تعالى : { أَوْ كَسَبَتْ فِى إيمانها خَيْرًا } ولا هو من مقتضيات المقامِ لأنه ليس مما وُعِدوه وعلّقوه بإتيان ما ذكر من الآيات كالإيمان حتى يرِدَ عليهم ببيان عدمِ نفعِه إذ ذاك ، على أن ذلك مشعرٌ بأن لهم بعد ما أصابهم من الدواهي ما أصابهم بقاءً على السلامة وزماناً يتأتى منهم الكسبُ والعملُ فيه ، وفيه من الإخلال بمقام تهويلِ الخطبِ وتفظيعِ الحال ما لا يخفي .(2/456)
وقد أُجيب عن الاستدلال بوجوه أُخَرَ قصارى أمرِها إسقاطُ الآية الكريمةِ عن رتبة المعارضةِ للنصوص القطعيةِ المتونِ القويةِ الدلالةِ على ما ذُكر من كفاية الإيمان المجردِ عن العمل في الإنجاء من العذاب الخالدِ ولو بعد اللتيا والتي لِما تقرر من أن الظنيَّ بمعزل من معارضة القطعي .
{ قُلْ } لهم بعد بيانِ حقيقةِ الحالِ على وجه التهديد { انتظروا } ما تنتظرونه من إتيان أحدِ الأمورِ الثلاثةِ لترَوا أيَّ شيء تنتظرون { إِنَّا مُنتَظِرُونَ } لذلك لنشاهدَ ما يحِلُّ بكم من سوء العاقبة ، وفيه تأييدٌ لكون المرادِ بما ينتظرونه إتيانَ ملائكةِ العذابِ أو إتيانَ أمرِه تعالى بالعذاب كما أشير إليه ، وعِدَةٌ ضمنيةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بمعاينتهم لما يَحيق بالكفرة من العقاب ، ولعل ذلك هو الذي شاهدوه يوم بدر والله سبحانه أعلم .(2/457)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
{ إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } استئنافٌ لبيان أحوالِ أهلِ الكتابين إثرَ بيانِ حالِ المشركين أي بدّدوه وبعّضوه فتمسك بكل بعضٍ منه فِرقةٌ منهم ، وقرىء فارقوا أي باينوا ، فإن تركَ بعضِه وإن كان بأخذ بعضٍ آخرَ منه تركٌ للكل ومفارقةٌ له { وَكَانُواْ شِيَعاً } أي فِرقاً تشيّع كلُّ فِرقةٍ إماماً لها قال عليه الصلاة والسلام : « افترقت اليهودُ والنصارى على إحدى وسبعين فرقةً كلهم في الهاوية إلا واحدة » واستثناء الواحدة من فِرَق كلَ من أهل الكتابين إنما هو بالنظر إلى العصر الماضي قبل النسخِ وأما بعده فالكلُّ في الهاوية وإن اختلفت أسبابُ دخولِهم فمعنى قوله تعالى : { لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء } لست من البحث عن تفرقهم والتعرّضِ لمن يناصرك منهم بالمناقشة والمؤاخذة ، وقيل : من قتالهم في شيء سوى تبليغِ الرسالةِ وإظهارِ شعائرِ الدين الحقِّ الذي أُمرت بالدعوة إليه فيكون منسوخاً بآية السيف ، وقوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله } تعليلٌ للنفي المذكورِ أي هو يتولى وحده أمر أولاهم وأخراهم ويدبره كيف يشاء حسبما تقتضيه الحكمة يؤاخذهم في الدنيا التي شاء ويأمر بقتالهم إذا أراد وقيل : المفرقون أهل البدع والأهواء الزائغة من هذه الأمة ويرده أنه عليه الصلاة والسلام مأمور بمؤاخذتهم والاعتذار بأن معنى لست منهم في شيء حينئذ أنت بريء منهم ومن مذهبهم وهم برآء منك يأباه التعليل المذكور { ثُمَّ يُنَبّئُهُم } أي يوم القيامة { بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } عبر عن إظهاره بالتنبئة لما بينهما من الملابسة في أنهما سببان للعلم تنبيهاً على أنهم كانوا جاهلين بحال ما ارتكبوه غافلين عن سوء عاقبته أي يظهر لهم على رؤوس الأشهاد ويعلمهم أي شيء شنيع كانوا يفعلونه في الدنيا على الاستمرار ويرتب عليه ما يليق به من الجزاء .(2/458)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
وقوله تعالى : { مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } استئناف مبين لمقادير أجزية العاملين وقد صدر ببيان أجزية المحسنين المدلول عليهم بذكر أضدادهم . قال عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم : ( يريد من عمل من المصدقين حسنة كتبت له عشر حسنات ) أي من جاء يوم القيامة بالأعمال الحسنة من المؤمنين إذ لا حسنة بغير إيمان فله عشر حسنات أمثالها تفضلاً من الله عز وجل وقرىء عشر بالتنوين وأمثالها بالرفع على الوصف وهذا أقل ما وعد من الأضعاف وقد جاء الوعد بسبعين وبسبعمائة وبغير حساب ولذلك قيل : المراد بذكر العشر بيان الكثرة لا الحصر في العدد الخاص { وَمَن جَاء بالسيئة } أي بالأعمال السيئة كائناً من كان من العاملين { فَلا يَجْزِى إِلاَّ مِثْلَهَا } بحكم الوعد واحدة بواحدة { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } بنقص الثواب وزيادة العقاب { قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى } أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يبين لهم ما هو عليه من الدين الحق الذي يدعون أنهم عليه وقد فارقوه بالكلية وتصدير الجملة بحرف التحقيق لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لمزيد تشريفه أي قل لأولئك المفرقين : أرشدني ربي بالوحي وبما نصب في الآفاق والأنفسِ من الآيات التكوينية { إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } موصلٍ إلى الحق وقوله تعالى : { دِينًا } بدلٌ من إلى صراط فإن محله النصبُ كما في قوله تعالى : { وَيَهْدِيَكَ صراطا مُّسْتَقِيماً } أو مفعولٌ لفعل مضمرٍ يدل عليه المذكورُ { قَيِّماً } مصدرٌ نُعت به مبالغةً والقياسُ قِوَماً كعِوَض فاعل لإعلال فعلِه كالقيام وقرىء قيّماً وهو فيْعلٌ من قام كسيّد من ساد وهو أبلغُ من المستقيم باعتبار الزنة وإن كان هو أبلغَ منه باعتبار الصيغة { مِلَّةِ إبراهيم } عطفُ بيانٍ لديناً { حَنِيفاً } حالٌ من إبراهيمَ أي مائلاً عن الأديان الباطلةِ ، وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } اعتراضٌ مقرِّرٌ لنزاهته عليه السلام عما عليه المفرِّقون لدينه من عقْد وعَمَل أي ما كان منهم في أمر من أمور دينِهم أصلاً وفرعاً ، صرّح بذلك رداً على الذين يدّعون أنهم على ملته عليه السلام من أهل مكةَ واليهودِ المشركين بقولهم : عزيرٌ ابنُ الله والنصارى المشركين بقولهم : المسيحُ ابنُ الله .(2/459)
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
{ قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى } أُعيد الأمرُ لِما أن المأثورَ به متعلِّقٌ بفروع الشرائعِ وما سبق بأصولها ، أي عبادتي كلَّها وقيل : وذبحي ، جُمع بينه وبين الصلاة كما في قوله تعالى : { فَصَلّ لِرَبّكَ وانحر } وقيل : صلاتي وحجّي { وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى } أي وما أنا عليه في حياتي وما أكونُ عليه عند موتي من الإيمان والطاعةِ أو طاعات الحياةِ والخيراتِ المضافة إلى الممات كالوصية والتدبير ، وقرىء محيايْ بسكون الياء إجراءً للوصل مُجرى الوقفِ { للَّهِ رَبّ العالمين } { لاَ شَرِيكَ لَهُ } خالصةً له لا أُشرِك فيها غيرَه { وبذلك } إشارةٌ إلى الإخلاص ، وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعلو رتبتِه وبُعدِ منزلتِه في الفضل أي بذلك الإخلاصِ { أُمِرْتُ } لا بشيء غيرِه وقوله تعالى : { وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين } لبيان مسارعتِه عليه السلام إلى الامتثال بما أُمر به وأن ما أُمر به ليس من خصائصه عليه السلام بل الكلُّ مأمورون به ويقتدي به عليه السلام مَنْ أسلم منهم .
{ قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِى رَبّا } آخرَ فأُشرِكَه في العبادة { وَهُوَ رَبُّ كُلّ شَىْء } جملةٌ حالية مؤكدةٌ للإنكار أي والحالُ أن كل ما سواه مربوبٌ له مثلي فكيف يُتصوّر أن يكون شريكاً له في المعبودية { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } كانوا يقولون للمسلمين : اتبعوا سبيلَنا ولنحمِلْ خطاياكم إما بمعنى لِيُكْتَبْ علينا ما عمِلتم من الخطايا لا عليكم وإما بمعنى لنحمِلْ يوم القيامة ما كُتب عليكم من الخطايا فهذا ردٌّ له بالمعنى الأول ، أي لا تكونُ جنايةُ نفسٍ من النفوس إلا عليها ومُحالٌ أن يكون صدورُها عن شخص وقرارُها على شخص آخرَ حتى يتأتى ما ذكرتم وقولُه تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } ردٌّ له بالمعنى الثاني أي لا تحمِلُ يومئذ نفسٌ حاملةٌ حِمْلَ نفسٍ أخرى حتى يصِحّ قولُكم { ثُمَّ إلى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى الكل لتأكيد الوعدِ وتشديدِ الوعيد إلى مالك أمورِكم ورجوعِكم يوم القيامة { فَيُنَبّئُكُمْ } يومئذ { بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } ببيان الرُّشدِ من الغيِّ وتمييزِ الحق من الباطل .(2/460)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
{ وَهُوَ الذى جَعَلَكُمْ خلائف الارض } حيث خلفتم الأممَ السالفة أو يخلُف بعضُكم بعضاً أو جعلكم خلفاءَ الله تعالى في أرضه تتصرفون فيها على أن الخطابَ عام { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ } في الشرف والغنى { فَوْقَ بَعْضٍ درجات } كثيرةٍ متفاوتة { لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءاتاكم } من المال والجاهِ أي ليعامِلَكم معاملةَ من يبتليكم لينظُرَ ماذا تعملون من الشكر وضدَّه { إِنَّ رَبَّكَ } تجريدُ الخطابِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع إضافة اسم الربِّ إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لإبراز مزيدِ اللطفِ به عليه السلام { سَرِيعُ العقاب } أي عقابُه سريعُ الإتيان لمن لم يُراعِ حقوقَ ما آتاه الله تعالى ولم يشكُرْه لأن كلَّ آتٍ قريبٌ أو سريعُ التمامِ عند إرادتِه لتعاليه عن استعمال المبادي والآلات { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن راعاها كما ينبغي وفي جعل خبرِ هذه الجملةِ من الصفات الذاتيةِ الواردةِ على بناء المبالغةِ مؤكداً باللام مع جعل خبرِ الأولى صفةً جاريةً على غير مَنْ هي له من التنبيه على أنه تعالى غفور رحيم بالذات مبالغٌ فيهما فاعلٌ للعقوبة بالعَرَض مسامحٌ فيها ما لا يخفي والله أعلم .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنزلت عليَّ سورةُ الأنعام جملةً واحدةً يشيِّعها سبعونَ ألفَ ملكٍ لهم زَجَلٌ بالتسبيح والتحميدفمن قرأ الأنعامَ صلى عليه واستغفر له أولئك السبعونَ ألفَ ملك بعد كل آية من سورة الأنعام يوماً وليلة » والله تعالى أعلم .(2/461)
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
( سورة الأعراف )
( مكية غير ثماني آيات من قوله { واسألهم } إلى قوله { وإذ نتقنا الجبل } وآيها مائتان وخمس )
{ المص } إما مسرودٌ على نمط التعديدِ بأحد الوجهين المذكورين في فاتحة سورةِ البقرة فلا محلَّ له من الإعراب ، وإما اسمٌ للسورة فمحلُّه الرفعُ على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ ، والتقديرُ هذا ألمص أي مسمّىً به ، وتذكيرُ اسمِ الإشارة مع تأنيث المسمَّى لما أن الإشارةَ إليه من حيث إنه مسمّىً بالاسم المذكور لا من حيث أنه مسمّىً بالسورة وإنما صحت الإشارةُ إليه مع عدم سبقِ ذكرِه لما أنه باعتبار كونِه بصدد الذكرِ صار في حكم الحاضِر المشاهَد وقوله عز وجل : { كِتَابٌ } على الوجه الأولِ خبرُ مبتدإ محذوفٍ وهو ما ينبىء عنه تعديدُ الحروفِ كأنه قيل : المؤلَّفُ من جنس هذه الحروفِ مراداً به السورةُ كتابٌ الخ ، أو اسمُ إشارةٍ أشير به إليه تنزيلاً لحضور المؤلَّفِ منه منزلةَ حضورِ نفسِ المؤلّف ، أي هذا كتابٌ الخ ، وعلى الوجه الثاني خبرٌ بعد خبرٍ جيء به إثرَ بيانِ كونه مترجماً له باسمٍ بديع مُنبىءٍ عن غرابته في نفسه إبانةً لجلالة محلِّه ببيان كونِه فرداً من أفراد الكتبِ الإلهية حائزاً للكمالات المختصَّة بها وقد جُوّز كونُه خبراً ، وألمص مبتدأٌ أي المسمّى بألمص كتابٌ وقد عرفتَ ما فيه من أن ما يجعل عنواناً للموضوع حقُّه أن يكون قبل ذلك معلومَ الانتسابِ إليه عند المخاطَب ، وإذْ لا عهدَ بالتسمية قبلُ فحقُّها الإخبارُ بها { أَنزَلَ إِلَيْكَ } أي من جهته تعالى بُني الفعلُ للمفعول جرياً على سَنن الكبرياءِ وإيذاناً بالاستغناء عن التصريح بالفاعل لغاية ظهورِ تعيُّنِه وهو السرُّ في ترك ذكرِ مبدأ الإنزال كما في قوله جل ذكره : { بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ } ونظائرِه والجملةُ صفةٌ لكتابٌ مشرِّفةٌ له ولمن أُنزل إليه وجعلُه خبراً له على معنى : كتابٌ عظيمُ الشأنِ أُنزل إليك خلاف الأصل { فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ } أي شك كما في قوله تعالى : { فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ } خلا أنه عبّر عنه بما يلازمه من الحَرَج فإن الشاكَّ يعتريه ضيقُ الصدرِ كما أن المتيقِّنَ يعتريه انشراحُه وانفساخُه مبالغةً في تنزيه ساحتِه عليه الصلاة والسلام ، وما قد يقع من نسبته إليه في ضمن النهي فعلى طريقةِ التهيجِ والإلهاب والمبالغة في التنفير والتحذيرِ بإيهام أن ذلك من القبح والشرِّية بحيث ينهى عنه من لا يمكنُ صدورُه عنه أصلاً فكيف بمن يُمكن ذلك منه ، والتنوينُ للتحقير والجرُّ في قوله تعالى : { مِنْهُ } متعلقٌ بحرَجٌ يقال : حرِج منه أي ضاق به صدرُه أو بمحذوف وقع صفةً به أي حرجٌ كائنٌ منه أي لا يكن فيك ما في حقِّيته أو في كونه كتاباً منزلاً إليك من عنده تعالى ، فالفاءُ على الأول لترتيب النهي أو الانتهاء على مضمون الجملةِ فإنه مما يوجب انتفاءَ الشكِّ فيما ذُكر بالكلية وحصولَ اليقينِ به قطعاً ، وأما على الثاني فهي لترتيب ما ذُكر على الإخبار بذلك لا على نفسه فتدبر .(2/462)
وتوجيه النهي إلى الحرَج مع أن المرادَ نهيُه عليه الصلاة والسلام عنه إما لما مر من المبالغة في تنزيهه عليه الصلاة والسلام عن الشك فيما ذُكر فإن النهيَ عن الشيء مما يوهم إمكانَ صدورَ المنهيِّ عنه عن المنْهيّ ، وإما للمبالغة في النهي فإن وقوعَ الشكِّ في صدره عليه الصلاة والسلام سببٌ لاتصافه عليه الصلاة والسلام به ، والنهيُ عن السبب نهيٌ عن المسبَّب بالطريق البرهاني ونفيٌ له من أصله بالمرة كما في قوله تعالى : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ } الآية ، وليس هذا من قبيل لا أُرَيَنّك هاهنا فإن النهيَ هناك واردٌ على المسبب مرادٌ به النهيُ عن السبب فيكونُ المآلُ نهيَه عليه الصلاة والسلام عن تعاطي ما يُورِثُ الحرَجَ فتأملْ . وقيل : الحرجُ على حقيقته أي لا يكنْ فيك ضيقُ صدرٍ من تبليغه مخافةَ أن يكذّبوك وأن تُقصِّر في القيام بحقه فإنه عليه الصلاة والسلام كان يخاف تكذيبَ قومِه له وإعراضَهم عنه فكان يضيق صدرُه من الأداء ولا ينبسِطُ له فآمنه الله تعالى ونهاه عن المبالاة بهم ، فالفاءُ حينئذ للترتيب على مضمون الجملةِ أو على الإخبار به فإن كلاًّ منهما موجبٌ للإقدام على التبليغ وزوالِ الخوفِ قطعاً وإن كان إيجابُه الثاني بواسطة الأول ، وقولُه تعالى : { لِتُنذِرَ بِهِ } أي بالكتاب المنزل متعلقٌ بأُنزل وما بينهما اعتراضٌ توسّط بينهما تقريراً لما قبله وتمهيداً لما بعده وحسماً لتوهم أو موردَ الشكِّ هو الإنزالُ للإنذار وقيل : متعلقٌ بالنهي فإن انتفاءَ الشكِّ في كونه منزلاً من عنده تعالى موجبٌ للإنذار به قطعاً وكذا انتفاءُ الخوفِ منهم أو العلمُ بأنه موفقٌ للقيام بحقه موجبٌ للتجاسر على ذلك . وأنت خبيرٌ بأنه لا يتأتى على التفسير الأولِ لأن تعليلَ النهي عن الشك بما ذكر من الإنذار والتذكيرِ مع إيهامه لإمكان صدورِه عنه عليه الصلاة والسلام مُشعرٌ بأن المنهيَّ عنه ليس محذوراً لذاته بل لإفضائه إلى فوات الإنذارِ والتذكير لا أقل من الإيذان بأن ذلك معظمُ غائلتِه ولا ريب في فساده ، وأما على التفسير الثاني فإنما يتأتى التعليلُ بالإنذار لا بتذكير المؤمنين إذ ليس فيه شائبةُ خوفٍ حتى يُجعل غايةً لانتفائه ، وقوله تعالى : { وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ } في حيز النصبِ بإضمار فعلِه معطوفاً على تنذرَ أي وتذكّرَ المؤمنين تذكيراً ، أو الجرِّ عطفاً على محل أن تنذرَ أي للإنذار والتذكير ، وقيل : مرفوعٌ عطفاً على كتابٌ أو خبرٌ لمبتدإ محذوفٍ ، وتخصيصُ التذكيرِ بالمؤمنين للإيذان باختصاص الإنذارِ بالكفرة أي لتنذرَ به المشركين وتذكرَ المؤمنين ، وتقديمُ الإنذار لأنه أهمُّ بحسب المقام .(2/463)
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)
{ اتبعوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم } كلامٌ مستأنفٌ خوطب به كافةُ المكلفين بطريق التلوينِ وأُمروا باتباع ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل تبليغِه بطريق الإنذار والتذكيرِ ، وجعلُه منزلاً إليهم بواسطة إنزالِه إليه عليه الصلاة والسلام إثرَ ذلك ما يصححه من الإنذار والتذكير لتأكيد وجوبِ اتباعه ، وقولُه تعالى : { مّن رَّبّكُمْ } متعلقٌ بأُنزل على أن ( من ) لابتداء الغايةِ مجازاً أو بمحذوف وقع حالاً من الموصول أو من ضميره في الصلة ، وفي التعرُّض لوصف الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضمير المخاطَبين مزيدُ لطفٍ بهم وترغيبٌ لهم في الامتثال بما أُمروا به وتأكيدٌ لوجوبه ، وجعلُ ما أنزل هاهنا عاماً للسنة القولية والفعلية بعيدٌ . نعم يعمُّهما حكمُه بطريق الدِلالةِ لا بطريق العبادةِ ولما كان اتباعُ ما أنزله الله تعالى اتباعاً له تعالى عُقّب الأمرُ بذلك بالنهي عن اتباع غيرِه تعالى فقيل : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ } أي من دون ربكم الذي أنزل إليكم ما يهديكم إلى الحق ، ومحلُّه النصبُ على أنه حالٌ من فاعل فعلِ النهي أي لا تتبعوا متجاوزين الله تعالى { أَوْلِيَاء } من الجن والإنسِ بأن تقبلوا منهم ما يُلْقونه إليكم بطريق الوسوسةِ والإغواءِ من الأباطيل ليضلّوكم عن الحق ويَحمِلوكم على البدع والأهواءِ الزائغةِ أو مِنْ أولياءَ قُدّم عليه لكونه نكرةً إذ لو أُخر عنه لكان صفةً له أي أولياءَ كائنةً غيرَه تعالى ، وقيل : الضميرُ للموصول على حذف المضافِ في أولياء ولا تتبعوا من دون ما أَنزل أباطيلَ أولياءَ كأنه قيل : ولا تتبعوا من دون دينِ ربِّكم دينَ أولياءَ وقرىء ولا تبتغوا كما في قوله تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا } وقولُه تعالى : { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } بحذف إحدى التاءين وتخفيفِ الذال ، وقرىء بتشديدها على إدغام التاء المهموسةِ في الذال المجهورة ، وقرىء يتذكرون على صيغة الغَيبة ، وقليلاً نُصب إما بما بعده على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ مقدَّمٍ للقصر ، أو لزمانٍ كذلك محذوفٍ و ( ما ) مزيدةٌ لتأكيد القِلة ، أي تذكرا قليلاً أو زماناً قليلاً تذكرون لا كثيراً حيث لا تتأثرون بذلك ولا تعملون بموجبه وتتركون دينَ الله تعالى وتتبعون غيرَه ، ويجوز أن يُراد بالقلة العدمُ كما قيل في قوله تعالى : { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } والجملة اعتراضٌ تذييليٌّ مسوقٌ لتقبيح حالِ المخاطَبين ، والالتفاتُ على القراءة الأخيرةِ للإيذان باقتضاء سوءِ حالِهم في عدم الامتثالِ بالأمر والنهي على صرفِ الخطابِ عنهم وحكايةِ جناياتِهم لغيرهم بطريق المباثّة ، وإما نُصبَ على أنه حالٌ من فاعل لا تتبعوا وما مصدريةٌ مرتفعةٌ به أي لا تتبعوا من دونه أولياءَ قليلاً تذكّرُكم لكن لا على توجيه النهي إلى المقيد فقط كما في قوله تعالى : { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى } بل إلى المقيد والقيدِ جميعاً ، وتخصيصُه بالذكر لمزيد تقبيحِ حالِهم بجمعهم بين المنكرين .(2/464)
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)
{ وَكَم مّن قَرْيَةٍ أهلكناها } شروعٌ في إنذارهم بما جرى على الأمم الماضيةِ بسبب إعراضِهم عن اتباع دينِ الله تعالى وإصرارِهم على اتباع دينِ أوليائِهم ، وكم خبريةٌ للتكثير في موضع رفعٍ على الابتداء كما في قولك : زيد ضربته ، والخبرُ هو الجملةُ بعدها ومن قرية تمييزٌ والضميرُ في أهلكناها راجعٌ إلى معنى كم أي كثيرٌ من القرى أهلكناها أو في موضع نصب بأهلكناها كما في قوله تعالى : { إِنَّا كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ } والمرادُ بإهلاكها إرادةُ إهلاكِها كما في قوله تعالى : { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا } أي أردنا إهلاكَها { فَجَاءهَا } أي فجاء أهلَها { بَأْسُنَا } أي عذابُنا { بَيَاتًا } مصدر بمعنى الفاعل واقعٌ موقعَ الحال أي بائتين كقوم لوطٍ { أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } عطفٌ عليه أي وقائلين من القيلولة نصفَ النهار كقوم شعيب وإنما حُذفت الواو من الحال المعطوفةِ على أختها استثقالاً لاجتماع العاطفَين فإن واو الحال حرفُ عطفٍ قد استعيرت للوصل لا اكتفاءً بالضمير كما في جاءني زيد هو فارس فإنه غيرُ فصيح ، وتخصيصُ الحالتين بالعذاب لما أن نزولَ المكروهِ عند الغفلة والدعَةِ أفظعُ وحكايتَه للسامعين أزجرُ وأردَعُ عن الاغترار بأسباب الأمن والراحةِ ، ووصفُ الكلِّ بوصفي البياتِ والقيلولة مع أن بعضَ المُهلَكين بمعزل منهما لا سيما القيلولةِ للإيذان بكمال غفلتِهم وأمنِهم .(2/465)
فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)
{ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ } أي دعاؤهم واستغاثتُهم ربَّهم أو ما كانوا يدّعونه من دينهم وينتحِلونه من مذهبهم { إِذْ جَاءهُم بَأْسُنَا } عذابُنا وعاينوا أَماراتَه { إِلاَّ أَن قَالُواْ } جميعاً { إِنَّا كُنَّا ظالمين } أي إلا اعترافَهم بظلمهم فيما كانوا عليه وشهادتَهم ببطلانه تحسراً عليه وندامةً وطمعاً في الخلاص ، وهيهاتَ ولاتَ حينَ نجاةٍ { فَلَنَسْئَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ } بيانٌ لعذابهم الأخرويِّ إثرَ بيانِ عذابِهم الدنيويِّ خلا أنه قد تعرض لبيان مبادي أحوالِ المكلفين جميعاً لكونه أدخلَ في التهويل ، والفاءُ لترتيب الأحوالِ الأخرويةِ على الدنيوية ذِكراً حسَبَ ترتبها عليها وجوداً ، أي لنسألن الأممَ قاطبةً قائلين : ماذا أجبتم المرسلين؟ { وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِين } عما أُجيبوا قال تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } والمرادُ بالسؤال توبيخُ الكفرة وتقريعُهم ، والذي نُفيَ بقوله تعالى : { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون } سؤالُ الاستعلامِ أو الأولُ في موقف الحساب والثاني في موقف العقاب { فَلَنَقصَنَّ عَلَيهِم } أي على الرسل حين يقولون : لا علم لنا إنك أنت علامُ الغيوب ، أو عليهم وعلى المرسَل إليهم جميعاً ما كانوا عليه { بِعِلْمِ } أي عالمين بظواهرهم وبواطنِهم أو بعلومنا منهم { وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ } عنهم في حال من الأحوال فيخفى علينا شيءٌ من أعمالهم وأحوالِهم ، والجملةُ تذييلٌ مقرِّر لما قبلها .
{ والوزن } أي وزنُ الأعمالِ والتمييزُ بين راجحِها وخفيفِها وجيّدِها ورديئها ، ورفعُه على الابتداء ، وقولُه تعالى : { يَوْمَئِذٍ } خبرُه وقوله تعالى : { الحق } صفتُه ، أي والوزنُ الحقُّ ثابتٌ يومَ إذ يكون السؤالُ والقَصّ ، وقيل : خبرُ مبتدأ محذوفٍ كأنه قيل : ما ذلك الوزن؟ فقيل : الحقُّ أي العدلُ السويُّ ، وقرىء القسطُ واختُلف في كيفية الوزن والجمهورُ على أن صحائفَ الأعمالِ هي التي توزن بميزان له لسانٌ وكِفّتان ينظُر إليه الخلائقُ إظهاراً للمَعْدلة وقطعاً للمعذرة كما يسألهم عن أعمالهم فتعترف بها ألسنتُهم وجوارحُهم ويشهد عليهم الأنبياءُ والملائكةُ والأشهادُ وكما يُثبَتُ في صحائفهم فيقرءونها في موقف الحساب ، ويؤيده ما رُوي ( أن الرجلَ يؤتى به إلى الميزان فيُنشر له تسعةٌ وتسعون سجِلاًّ مدى البصر فيخرُج له بطاقةٌ فيها كلمتا الشهادة فتوضَع السجلاتُ في كِفة والبِطاقةُ في كفة فتطيش السجلاتُ وتثقُل البطاقةُ ) وقيل : يوزن الأشخاصُ لما روي عنه عليه الصلاة والسلام : « أنه ليأتي العظيمُ السمينُ يوم القيامة لا يزنُ عند الله جناحَ بعوضة » وقيل : الوزنُ عبارة عن القضاء السويِّ والحُكمُ العادلُ وبه قال مجاهد والأعمش والضحاك واختاره كثيرٌ من المتأخرين بناءً على أن استعمالَ لفظِ الوزنِ في هذا المعنى شائعٌ في اللغة والعُرفِ بطريق الكناية قالوا : إن الميزانَ إنما يُراد به التوصلُ إلى معرفة مقاديرِ الشيءِ ، ومقاديرُ أعمالِ العباد لا يمكن إظهارُها بذلك لأنها أعراضٌ قد فَنِيَت وعلى تقدير بقائها لا تَقبل الوزن ، وقيل : إن الأعمالَ الظاهرةَ في هذه النشأةِ بصور عرضيةٍ تبرُز في النشأة الآخرة بصور جوهريةٍ مناسبةٍ لها في الحسن والقبحِ حتى إن الذنوبَ والمعاصيَ تتجسم هناك وتتصور بصورة النار ، وعلى ذلك حُمل قوله تعالى :(2/466)
{ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } وقوله تعالى : { الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً } وكذا قولُه عليه الصلاة والسلام في حق مَنْ يشرب من إناء الذهب والفضةِ : « إنما يُجرجِر في بطنه نارَ جهنم » ولا بُعدَ في ذلك ، ألا يُرى أن العلم يَظهر في عالم المثالِ على صورة اللبنِ كما لا يخفى على من له خِبرةٌ بأحوال الحضَراتِ الخمس . وقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يؤتى بالأعمال الصالحة على صورٍ حسنةٍ وبالأعمال السيئة على صور قبيحةٍ فتوضع في الميزان إن قيل : إن المكلّف يوم القيامةِ إما مؤمنٌ بأنه تعالى حكيمٌ منزَّهٌ عن الجَوْر فكيفيةُ حكمِه تعالى بكيفيات الأعمالِ وكمياتها ظاهرةٌ ، وإما منكِرٌ له فلا يسلمُ حينئذ أن رجحانَ بعضِ الأعمالِ على بعض لخصوصيات راجعةٍ إلى ذوات تلك الأعمالِ بل يُسنده إلى إظهار الله تعالى إياه على ذلك الوجه فما الفائدةُ في الوزن؟ أجيب بأنه ينكشف الحالُ يومئذ وتظهر جميعُ الأشياء بحقائقها على ما هي عليه وبأوصافها وأحوالِها في أنفسها من الحسن والقبحِ وغيرِ ذلك وتنخلع عن الصور المستعارةِ التي بها ظهرت في الدنيا فلا يبقى لأحد ممن يشاهدَها شُبهةٌ في أنها هي التي كانت في الدنيا بعينها وأن كل واحد منها قد ظهر في هذه النشأة بصورته الحقيقيةِ المستتبِعةِ لصفاته ، ولا يخطُر بباله خلافُ ذلك والله تعالى أعلم .
{ فَمَن ثَقُلَتْ موازينه } تفصيلٌ للأحكام المترتبة على الوزن ، والموازينُ إما جمعُ ميزانٍ أو جمعُ موزونٍ على أن المرادَ به ما له وزنٌ وقدْرٌ وهو الحسنات ، فإن رجحانَ أحدِهمامستلزم لرجحان الآخَر ، أي فمَنْ رجَحت موازينُه التي توزن بها حسناتُه أو أعمالُه التي لها قدْرٌ وزنة ، وعن الحسن البصري وحُقّ لميزانٍ توضع فيه السيئاتُ أن يخِفّ { فَأُوْلَئِكَ } إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافِه بثقل الميزانِ ، والجمعيةُ باعتبار معناه كما أن جمعَ الموازينِ لذلك ، وأما ضميرُ موازينِه فراجعٌ إليه باعتبار لفظِه ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلو طبقتِهم وبُعد منزلتهم في الفصل والشرف { هُمُ المفلحون } الفائزون بالنجاة والثوابِ ، وهم إما ضميرُ فصلٍ يفصل بين الخبر والصفةِ ويؤكد النسبةَ ويفيد اختصاصَ المسندِ بالمسند إليه أو مبتدأٌ خبرُه المفلحون والجملةُ خبرٌ لأولئك ، وتعريفُ المفلحون للدِلالة على أنهم الناسُ الذين بلغك أنهم مُفلحون في الآخرة ، أو إشارةٌ إلى ما يعرِفه كلُّ أحد من حقيقة المفلحين وخصائصِهم .(2/467)
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
{ وَمَنْ خَفَّتْ موازينه } أي موازينُ أعمالِه أو أعمالُه التي لا وزن لها ولا اعتدادَ بها وهي أعْمالُه السيئة { فَأُوْلَئِكَ } إشارةٌ إليهم باعتبار اتصافِهم بتلك الصفة القبيحةِ ، والجمعيةُ ومعنى البُعدِ لما مر آنفاً في نظيره وهو مبتدأٌ خبرُه { الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } أي ضيّعوا الفطرةَ السليمةَ التي فُطروا عليها وقد أُيّدت بالآيات البينة وقولُه تعالى : { بِمَا كَانُواْ بآياتنا يَظْلِمُونَ } متعلق بخسروا وما مصدريةٌ وبآياتنا متعلقٌ بيظلمون على تضمين معنى التكذيبِ قُدِّم عليه لمراعاة الفواصلِ ، والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل للدَلالة على استمرار الظلمِ في الدنيا أي فأولئك الموصوفون بخفة الموازينِ خسروا أنفسَهم بسبب تكذيبِهم المستمر بآياتنا ظالمون .(2/468)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
{ وَلَقَدْ مكناكم فِى الارض } لما أمر الله سبحانه أهلَ مكةَ باتباع ما أنزل إليهم ونهاهم عن اتباع غيرِه وبيّن لهم وخامةَ عاقبتِه بالإهلاك في الدنيا والعذاب المخلّد في الآخرة ذكّرهم ما أفاض عليهم من فنون النعم الموجبةِ للشكر ترغيباً في الامتثال بالأمر والنهي إثرَ ترهيبِ أي جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش } المعايشُ جمعُ معيشةٍ وهي ما يُعاش به من المطاعم والمشاربِ وغيرِها ، أو ما يُتوصَّل به إلى ذلك والوجهُ في قراءته إخلاصُ الياء وعن ابن عامرٍ أنه همزةٌ تشبيهاً له بصحائف ومدائن ، والجعلُ بمعنى الإنشاء والإبداع ، أي أنشأنا وأبدعنا لمصالحكم ومنافعِكم فيها أسباباً تعيشون بها ، وكلُّ واحد من الظرفين متعلقٌ به أو بمحذوف وقع حالاً من مفعوله المُنكّر ، إذ لو تأخر لكان صفةً له وتقديمُهما على المفعول من أن حقهما التأخيرُ عنه لما مر غيرَ مرةٍ من الاعتناء بشأن المقدمِ والتشويقِ إلى المؤخر ، فإن النفسَ عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ لا سيما عند كونِ المقدم منبئاً عن منفعة للسامع تبقى مترقبةً لورود المؤخَّرِ فيتمكن فيها عند الورودِ فضلُ تمكّن ، وأما تقديمُ اللامِ على في فلما أنه المنبىءُ عما ذُكر من المنفعة فالاعتناءُ بشأنه أتمُّ والمسارعةُ إلى ذكره أهمّ .
هذا وقيل : إن الجعلَ متعدَ إلى مفعولين ثانيهما أحدُ الظرفين على أنه مستقر ، قُدّم على الأول ، والظرفُ الآخَرُ إما لغوٌ متعلقٌ بالجعل أو بالمحذوف الواقع حالاً من المفعول الأولِ كما مر ، وأنت خبيرٌ بأنه لا فائدةَ معتدٌّ بها في الإخبار بجعل المعايشِ حاصلةً لهم أو حاصلةً في الأرض ، وقولُه تعالى : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } أي تلك النعمةَ ، تذييلٌ مَسوقٌ لبيان سوءِ حالِ المخاطبين وتحذيرِهم وبقيةُ الكلامِ فيه عينُ ما مر في تفسير قوله تعالى : { مَّا تَذَكَّرُونَ }
{ وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم } تذكيرٌ لنعمة عظيمةٍ فائضةٍ على آدمَ عليه السلام ساريةٍ إلى ذريته موجبةٍ لشكرهم كافةً ، وتأخيرُه عن تذكير ما وقع قبله من نعمة التمكينِ إما لأنها فائضةٌ على المخاطَبين بالذات وهذه بالواسطة ، وإما للإيذان بأن كلا منهما نعمةٌ مستقلةٌ مستوجِبةٌ للشكر على حيالها ، فإن رعايةَ الترتيبِ الوقوعيِّ ربما تؤدِّي إلى توهّم عدِّ الكلِّ نعمةً واحدةً كما ذكر في قصة آدمَ . وتصديرُ الجملتين بالقسم وحرفِ التحقيقِ لإظهار كمالِ العناية بمضمونها ، وإنما نُسب الخلقُ والتصويرُ إلى المخاطَبين مع أن المرادَ بهما خلقُ آدم عليه السلام وتصويرُه حتماً توفيةً لمقام الامتنانِ حقَّه وتأكيداً لوجوب الشكر عليهم بالرمز إلى أن لهم حظاً من خلقه عليه السلام وتصويرِه لما أنهما ليسا من الخصائص المقصورة عليه عليه السلام كسجود الملائكةِ له عليه السلام بل من الأمور الساريةِ إلى ذريته جميعاً إذ الكلُّ مخلوقٌ في ضمن خلقِه على نمطه ومصنوعٌ على شاكلته فكأنهم الذي تعلق به خلقُه وتصويرُه ، أي خلقنا أباكم آدمَ طيناً غيرَ مُصوَّرٍ ثم صوَّرناه أبدعَ تصويرٍ وأحسنَ تقويمٍ سارَ إليكم جميعاً { ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ } صريحٌ في أنه ورد بعد خلقِه عليه الصلاة والسلام وتسويتِه ونفخِ الروحِ فيه أمرٌ مُنجَزٌ غيرُ الأمر المعلَّق الواردِ قبل ذلك بقوله تعالى :(2/469)
{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ ساجدين } وهو المراد بما حكي بقوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لاِدَمَ } الآية ، في سورة البقرة وسورةِ بني إسرئيلَ وسورةِ الكهف وسورةِ طه من غير تعرضٍ لوقته ، وكلمة ثم هاهنا تقتضي تراخِيَه عن التصوير من غير تعرضٍ لبيان ما جرى بينهما من الأمور وقد بينا في سورة البقرةِ أن ذلك ظهورُ فضلِ آدمَ عليه السلام بعد المحاورة المسبوقةِ بالإخبار باستخلافه عليه السلام حسبما نطق به عز وجل : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّي جَاعِلٌ فِى الارض خَلِيفَةً } إلى قوله : { وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } فإن ذلك أيضاً من جملة ما نيط به الأمرُ المعلقُ من التسوية ونفخِ الروح ، وعدمُ ذكرِه عند الحكايةِ لا يقتضي عدمَ ذكره عند وقوعِ المحكيّ كما أن عدم ذكرِ الأمرِ المنْجزِ لا يستلزمُ عدمَ مسبوقيتِه به فإن حكايةَ كلامٍ واحدٍ على أساليبَ مختلفةٍ يقتضيها المقامُ ليست بعزيزة في الكلام العزيزِ ، فلعله قد ألقى إلى الملائكة عليهم السلام أو إلى جميع ما يتوقفُ عليه الأمرُ المنجزُ إجمالاً بأن قيل مثلاً : إني خالقٌ بشراً من طين وجاعلٌ إياه خليفةً في الأرض فإذا سويتُه ونفختُ فيه من روحي وتبيَّن لكم فضلُه فقَعوا له ساجدين ، فخلقه فسواه فنفخ فيه من روحه فقالوا عند ذلك ما قالوا ، أو ألقيَ إليهم خبرُ الخلافةِ بعد تحققِ الشرائطِ المذكورةِ بأن قيل إثرَ نفخِ الروحِ : إني جاعلٌ هذا خليفةً في الأرض فهنالك ذكروا في حقه عليه السلام ما ذكروا فأيده الله تعالى بتعليم الأسماءِ فشاهدوا منه عليه السلام ما شاهدوا فعند ذلك ورد الأمرُ المنْجزُ اعتناءً بشأن المأمور به وإيذاناً بوقته ، وقد حُكيَ بعضُ الأمور المذكورة في بعض المواطنِ وبعضُها في بعضها اكتفاءً بما ذكر في كل موطنٍ عما تُرك في موطن آخرَ .
والذي يرفع غشاوةَ الاشتباهِ عن البصائر السليمةِ أن ما في سورة ( ص ) من قوله تعالى : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة } الآيات ، بدلٌ من قولِه : { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } فيما قبله من قوله : { مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الاعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ } أي بكلامهم عند اختصامِهم ، ولا ريب في أن المرادَ بالملأ الأعلى الملائكةُ وآدمُ عليهم السلام وإبليسُ حسبما أطبق عليه جمهورُ المفسرين ، وباختصامِهم ما جرى بينهم في شأن الخلافةِ من التقاول الذي جملتُه ما صدر عنه عليه السلام من الإنباء بالأسماء ، ومن قضية البدلية وقوعُ الاختصام المذكورِ في تضاعيف ما شُرح فيه مفصّلاً من الأمر المعلّق وما علق به من الخلق والتسويةِ ونفخِ الروحِ فيه وما ترتب عليه من سجود الملائكةِ وعنادِ إبليسَ ولعنِه وإخراجِه من بين الملائكةِ وما جرى بعده من الأفعالِ والأقوالِ ، وإذ ليس تمامُ الاختصامِ بعد سجود الملائكةِ وعنادِ إبليسَ ومكابرةِ إبليسَ وطردِه من البين لما عرفت من أنه أحدُ المختصمِين كما أنه ليس قبل الخلق ضرورة فإذن هو بعد نفخِ الروحِ وقبل السجودِ بأحد الطريقين المذكورين والله تعالى أعلم .(2/470)
{ فَسَجَدُواْ } أي الملائكةُ عليهم السلام بعد الأمرِ من غير تلعثم { إِلاَّ إِبْلِيسَ } استثناءٌ متصلٌ لما أنه كان جنياً مفرداً مغموراً بألوف من الملائكة متصاً بصفاتهم فغُلّبوا عليه في ( فسجدوا ) ثم استُثنِيَ استثناءَ واحدٍ منهم ، أو لأن من الملائكة جنساً يتوالدون يقال لهم : الجنُّ كما مر في سورة البقرة فقوله تعالى : { لَمْ يَكُن مّنَ الساجدين } أي ممن سجد لآدمَ كلامٌ مستأنفٌ مُبينٌ لكيفية عدمِ السجود المفهومِ من الاستثناء فإن عدمَ السجودِ قد يكون للتأمل ثم يقع السجودُ ، وبه عُلم أنه لم يقعْ قطُّ .
وقيل : منقطعٌ فحينئذ يكون متصلاً بما بعده أي لكنْ إبليسِ لم يكن من الساجدين .(2/471)
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)
{ قَالَ } استئنافٌ مَسوقٌ للجواب عن سؤال نشأ من حكاية عدمِ سجود ، كأنه قيل : فماذا قال الله تعالى حينئذ؟ وبه يظهر وجهُ الالتفاتِ إلى الغَيبة إذ لا وجهَ لتقدير السؤال على وجه المخاطبة ، وفيه فائدةٌ أخرى هي الإشعارُ بعدم تعلقِ المحكيِّ بالمخاطَبين كما في حكاية الخلْقِ والتصوير { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } أي أن تسجُد كما وقع في سورة ص ، و ( لا مزيدةٌ مؤكدةٌ لمعنى الفعل الذي دخلت عليه كما في قوله تعالى : { لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } منبّهةٌ على أن الموبَّخَ عليه تركُ السجود ، وقيل : الممنوعُ عن الشيء مصروفٌ إلى خلافه فالمعنى ما صرفك إلى أن تسجد { إِذْ أَمَرْتُكَ } قيل : فيه دِلالةٌ على أن مُطلقَ الأمرِ للوجوب والفور ، وفي سورة الحِجْر : { قَالَ يإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين } وفي سورة ص : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } واختلافُ العبارات عند الحكايةِ يدل على أن اللعينَ قد أدمج في معصية واحدةٍ ثلاثَ معاصٍ مخالفةَ الأمرِ ومفارقةَ الجماعةِ والإباءِ عن الانتظام في سلك أولئك المقرّبين والاستكبارَ مع تحقير آدمَ عليه السلام ، وقد وُبِّخ حينئذ على كل واحدة منها ، لكن اقتُصر عند الحكاية في كل موطنٍ على ما ذكر فيه اكتفاءً بما ذكر في موطن آخرَ وإشعاراً بأن كلَّ واحدةٍ منها كافيةٌ في التوبيخ وإظهارِ بطلانِ ما ارتكبه ، وقد تُركت حكايةُ التوبيخِ رأساً في سورة البقرة وسورة بني إسرائيلَ وسورة الكهفِ وسورة طه .
{ قَالَ } استئنافٌ كما سبق مبنيٌّ على سؤال نشأ من حكاية التوبيخِ كأنه قيل : فماذا قال اللعينُ عند ذلك؟ فقيل : قال : { أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ } متجانفاً عن تطبيق جوابِه على السؤال بأن يقول : منعني كذا مدّعياً لنفسه بطريق الاستئنافِ شيئاً بيِّنَ الاستلزامِ لمنعه من السجود على زعمه ، ومشعِراً بأن مَنْ شأنُه هذا لا يحسُن أن يسجُدَ لمن دونه فكيف يحسُن أن يؤمرَ به؟ كما ينبىء عنه ما في سورة الحجر من قوله : { لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } فهو أولُ من أسس بنيانَ التكبر ، واخترع القولَ بالحُسن والقُبح العقليَّين ، وقولُه تعالى : { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } تعليلٌ لما ادعاه من فضله ، ولقد أخطأ اللعينُ حيث خَصّ الفضلَ بما من جهة المادةِ والعنصُر ، وزل عنه ما من جهة الفاعل ، كما أنبأ عنه قوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } أي بغير واسطةٍ على وجه الاعتناءِ به وما من جهة الصورة كما نُبّه عليه بقوله تعالى : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } وما من جهة الغايةِ وهو ملاكُ الأمرِ ولذلك أُمر الملائكةُ بسجوده عليه السلام حين ظهر لهم أنه أعلمُ منهم بما يدور عليه أمرُ الخلافةِ في الأرض وأن له خواصَّ ليست لغيره ، وفي الآية دليلٌ على الكون والفساد وأن الشياطينَ أجسامٌ كائنةٌ ، ولعل إضافةَ خلق البشرِ إلى الطين ، والشياطينِ إلى النار باعتبار الجُزءِ الغالب .(2/472)
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
{ قَالَ } استئنافٌ كما سلف ، والفاء في قوله تعالى : { فاهبط مِنْهَا } لترتيب الأمرِ على ما ظهر من اللعين من مخالفة الأمرِ وتعليلِه بالأباطيل وإصرارِه على ذلك ، أي فاهبِطْ من الجنة ، والإضمار قبل ذكرِها لشهرة كونِه من سكانها قال ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا في عدْنٍ لا في جنة الخلد ، وقيل : من زمرة الملائكةِ المعزّزين فإن الخروجَ من زمرتهم هبوطٌ وأيُّ هبوط ، وفي سورة الحجر : { فاخرج مِنْهَا } وأما ما قيل من أن المرادَ الهبوطُ من السماء فيردّه أن وسوستَه لآدمَ عليه السلام كانت بعد هذا الطردِ فلا بد أن يُحمل على أحد الوجهين قطعاً ، وتكونُ وسوستُه على الوجه الأول بطريق النداءِ من باب الجنة كما رُوي عن الحسن البصري ، وقوله تعالى : { فَمَا يَكُونُ لَكَ } أي فمما يصح ولا يستقيم لك ولا يليقُ بشأنك { أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا } أي في الجنة أو في زمرة الملائكة . تعليلٌ للأمر بالهبوط فإن عدمَ صحةِ أن يتكبر فيها علةٌ للأمر المذكور ، فإنها مكانُ المطيعين الخاشعين ولا دِلالة فيه على جواز التكبُّر في غيرها ، وفيه تنبيه على أن التكبرَ لا يليق بأهل الجنةِ وأنه تعالى إنما طرده لتكبُّره لا لمجرد عصيانِه وقوله تعالى : { فاخرج } تأكيدٌ للأمر بالهبوط متفرِّغٌ على علته وقوله تعالى : { إِنَّكَ مِنَ الصاغرين } تعليلٌ للأمر بالخروج مُشعرٌ بأنه لتكبره ، أي من الأذلاء وأهلِ الهوانِ على الله تعالى وعلى أوليائه لتكبُّرك . وعن عمر رضي الله عنه ( من تواضَع لله رفع الله حكمتَه وقال : انتعش أنعشك الله ، ومن تكبر وعَدا طَوْرَه وهَصَه الله إلى الأرض ) .
{ قَالَ } استئنافٌ كما مر مبنيٌّ على سؤال نشأ مما قبله ، كأنه قيل : فماذا قال اللعينُ بعد ما سمع هذا الطردَ المؤكد؟ فقيل : قال : { أَنظِرْنِى } أي أمهلني ولا تُمِتْني { إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي آدمُ وذرّيتُه للجزاء بعد فنائِهم ، وهو وقتُ النفخةِ الثانية ، وأراد اللعينُ بذلك أن يجد فُسحةً لإغوائهم ويأخُذَ منهم ثأرَه وينجُوَ من الموت لاستحالته بعد البعث { قَالَ } استئنافٌ كما سلف { إِنَّكَ مِنَ المنظرين } ورودُ الجوابِ بالجملة الاسميةِ مع التعرض لشمول ما سأله لآخرين على وجه يُشعر بأن السائلَ تبَعٌ لهم في ذلك صريحٌ في أنه إخبارٌ بالإنظار المقدرِ لهم أزلاً لا إنشاءٌ لإنظار خاصَ به إجابةً لدعائه وأن استنظارَه كان طلباً لتأخير الموتِ إذ به يتحقق كونُه من جملتهم لا لتأخير العقوبةِ كما قيل أي إنك من جملة الذين أخّرتُ آجالَهم أزلاً حسبما تقتضيه الحِكمةُ التكوينيةُ إلى وقت فناءٍ غيرَ ما استثناه الله تعالى من الخلائق وهو النفخةُ الأولى لا إلى وقت البعثِ الذي هو المسؤول ، وقد تُرك التوقيتُ للإيجاز ثقةً بما وقع في سورة الحجر وسورة ص كما ترك ذكرُ النداء والفاءُ في الاستنظار والإنظار تعويلاً على ما ذُكر فيهما بقوله عز وجل :(2/473)
{ رَبّ فَأَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين * إلى يَوْمِ الوقت المعلوم } وفي إنظاره ابتلاءٌ للعباد وتعريضٌ للثواب .
إن قلتَ لا ريبَ في أن الكلامَ المحكيَّ له عند صدورِه عن المتكلم حالةٌ مخصوصةٌ تقتضي ورودَه على وجه خاصَ من وجوه النظمِ بحيث لو أخل بشيء من ذلك سقط الكلامُ عن رتبة البلاغةِ البتة ، فالكلامُ الواحدُ المحكيُّ على وجوه شتى إن اقتضى الحالُ ورودَه على وجه معينٍ من تلك الوجوهِ الواردةِ عند الحكاية فذلك الوجهُ هو المطابقُ لمقتضى الحالِ والبالغُ إلى رتبة البلاغةِ دون ما عداه من الوجوه ، إذا تمهّد هذا فنقولُ : لا يخفى أن استنظارَ اللعينِ إنما صدر عنه مرةً واحدةً لا غيرُ ، فمقامُه إن اقتضى إظهارَ الضراعةِ وترتيبَ الاستنظار على ما حاق به من اللعن والطردِ على نهج استدعاءِ الجبْرِ في مقابلة الكسر كما هو المتبادرُ من قوله : رب فأنظرني حسبما حُكي عنه في السورتين ، فما حكي هاهنا يكون بمعزل من المطابقة لمقتضى الحال فضلاً عن العروج إلى معارج الإعجازِ ، قلنا : مقامُ استنظاره مُقتضٍ لما ذُكر من إظهار الضراعةِ وترتيب الاستنظارِ على الحِرمان المدلولِ عليه بالطرد والرجم ، وكذا مقامُ الإنظارِ مقتضٍ لترتيب الإخبارِ بالإنظار على الاستنظار وقد طُبّق الكلامُ عليه في تينك السورتين ووُفّي كلُّ واحد من مقامَي الحكايةِ والمحكيِّ جميعاً حظَّه . وأما هاهنا فحيث اقتضى مقامُ الحكايةِ مجردَ الإخبار بالاستنظار والإنظارِ سيقت الحكايةُ على نهج الإيجاز والاختصارِ من غير تعرّضٍ لبيان كيفيةِ كل واحدٍ منهما عند المخاطبة والحِوار ، إن قلت : فإذن لا يكونُ ذلك نقلاً للكلام على ما هو عليه ولا مطابقاً لمقتضى المقامِ قلنا : الذي يجب اعتبارُه في نقل الكلامِ إنما هو أصلُ معناه ونفسُ مدلولِه الذي يفيده ، وأما كيفيةُ إفادتِه له فليس مما يجب مراعاتُه عند النقل البتة ، بل قد تراعى وقد لا تراعى حسب اقتضاءِ المقامِ ، ولا يقدح في أصل الكلامِ تجريدُه عنها بل قد يراعى عند نقلِه كيفياتٍ وخصوصياتٍ لم يُراعِها المتكلمُ أصلاً ولا يُخلُّ ذلك بكون المنقولِ أصلَ المعنى ، ألا يُرى أن جميعَ المقالات المنقولةِ في القرآن الكريمِ إنما تحكى بكيفيات واعتباراتٍ لا يُكاد يَقدِر على مراعاتها مَنْ تكلم بها حتماً ، وإلا لأمكن صدورُ الكلام المعجِزِ عن البشر فيما إذا كان المحكيُّ كلاماً ، وأما عدمُ مطابقتِه لمقتضى الحالِ فمنشؤه الغفلةُ عما يجب توفيرُ مقتضاه من الأحوال ، فإن مَلاكَ الأمرِ هو مقامُ الحكايةِ ، وأما مقام وقوعِ المحكيِّ فإن كان مقتضاه موافقاً لمقتضى مقامِ الحكايةِ يُوفَّى كلُّ واحدٍ من المقامين حقَّه كما في سورة الحجر وسورة ص ، فإن مقامَ الحكايةِ فيهما لمّا كان مقتضياً لبسط الكلامِ وتفصيلِه على الكيفيات التي وقع عليها رُوعيَ حقُّ المقامين معاً ، وأما في هذه السورةِ الكريمةِ فحيث اقتضى مقامُ الحكايةِ الإيجازَ رُوعيَ جانبُه .(2/474)
ألا يُرى أن المخاطبَ المنكِرَ إذا كان ممن لا يفهم إلا أصلَ المعنى وجب على المتكلم أن يجرِّد كلامَه عن التأكيد وسائرِ الخواصِّ والمزايا التي يقتضيها المقامُ ويخاطِبَه بما يناسبه من الوجوه لكنه مع ذلك يجب أن يقصِدَ معنى زائداً يفهمه سامعٌ آخرُ بليغٌ هو تجريدُه عن الخواصِّ رعايةً لمقتضى حالِ المخاطَبِ في الفهم ، وبذلك يرتقي كلامُه عن رتبة أصواتِ الحيواناتِ كما حُقِّق في مقامه فإذا وجب مراعاةُ مقامِ الحكايةِ مع إفضائها إلى تجريد الكلامِ عن الخواص والمزايا بالمرة فما ظنُّك بوجوب مراعاتِه مع تحلية الكلام بمزايا أُخَرَ يرتقي بها إلى رتبة الإعجازِ لا سيما إذا وُفّيَ حقَّ مقامِ وقوعِ المحكيِّ في السورتين الكريمتين وكان هذا الإيجازُ مبنياً عليه وثقة به؟(2/475)
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)
{ قَالَ } استئنافٌ كأمثاله { فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى } الباءُ للقسم كما في قوله تعالى : { فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ } فإن إغواءَه تعالى إياه أثرٌ من آثار قُدرتِه عز وجل وحُكمٌ من أحكام سلطانِه تعالى ، فمآلُ الإقسامِ بهما واحدٌ ، فلعل اللعينَ أقسم بهما جميعاً فحكى تارةً قسَمَه بأحدهما وأخرى بالآخر ، والفاءُ لترتيب مضمونِ الجملةِ على الإنظار ، وما مصدريةٌ أي فأقسم بإغوائك إياي { لاقْعُدَنَّ لَهُمْ } أو للسببية على أن الباءَ متعلقةٌ بفعل القسمِ المحذوفِ لا بقوله : { لاقْعُدَنَّ لَهُمْ } كما في الوجه الأول ، فإن اللام تصُدّ عن ذلك أي فبسبب إغوائِك إياي لأجلهم أُقسم بعزتك لأقعُدّن لآدمَ وذرِّيتِه ترصّداً بهم كما يقعُد القُطّاع للقطع على السابلة { صراطك المستقيم } الموصِلَ إلى الجنة وهو دينُ الإسلام ، فالقعودُ مجازٌ متفرِّعٌ على الكناية ، وانتصابُه على الظرفية كما في قوله :
كما عَسَلَ الطريقَ الثعلبُ ... وقيل : على نزع الجارِّ تقديرُه على صراطك كقولك : ضرب زيد الظهرَ والبطنَ .(2/476)
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)
{ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ } أي من الجهات الأربعِ التي يُعتاد هجومُ العدوِّ منها مثلُ قصدِه إياهم للتسويل والإضلال من أي وجهٍ يتيسر بإتيان العدوِّ من الجهات الأربعِ ولذلك لم يُذكر الفوقُ والتحتُ . وعن ابن عباس رضي الله عنهما ( مِنْ بَيْنِ أيدِيهِمْ ) من قِبَل الآخرةِ . و ( من خلفهم ) من جهة الدنيا ، و ( عن أيمانِهِم وعن شمائلهم ) من جهة حسناتِهم وسيئاتِهم . وقيل : من بين أيديهم من حيث يعلمون ويقدِرون على التحرز منه ، ومن خلفهم من حيث لا يعلمون ولا يقدرون ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزواولكن لم يفعلوا لعدم تيّقظهم واحتياطِهم ومن حيث لا يتيسر لهم ذلك ، وإنما عُدِّي الفعلُ إلى الأوَّلَيْن بحرف الابتداء لأنه منهما متوجهٌ إليهم وإلى الآخَرَين بحرف المجاوزة فإن الآتيَ منهما كالمنحرف المتجافي عنهم المارِّ على عَرضهم ، ونظيرُه جلست عن يمينه { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين } أي مطيعين وإنما قاله ظناً لقوله تعالى : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } لما رأى منهم مبدأ الشرِّ متعدداً ومبدأَ الخيرِ واحداً ، وقيل : سمعه من الملائكة عليهم السلام .
{ قَالَ } استئناف كما سلف مراراً { أَخْرَجَ مِنْهَا } أي من الجنة أو من السماء أو من بينِ الملائكة { مَذْءومًا } أي مذموماً من ذَأَمه إذا ذمّه ، وقرىء مَذوماً كَمَسول في مسؤل ، أو كَمَكول في مكيل ، من ذامه يذيمه ذيماً { مَّدْحُورًا } مطروداً { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } اللامُ موطئةٌ للقسم وجوابه { لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } وهو سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرط ، وقرىء لِمَنْ تبعك بكسر اللام على أنه خبرُ ( لأملأن ) على معنى لِمَنْ تبعك هذا الوعيدُ ، أو علةٌ لاخرُجْ و ( لأملأن ) جوابٌ محذوفٌ ومعنى ( منكم ) منك ومنهم على تغليب المخاطب { وَ يَا ءادَمَ } أي وقلنا كما وقع في سورة البقرة ، وتصديرُ الكلامِ بالنداء للتنبيه على الاهتمام بتلقّي المأمورِ به ، وتخصيصُ الخطابِ به عليه السلام للإيذان بأصالته في تلقي الوحي وتعاطي المأمور به { اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة } هو من السكَن الذي هو عبارةٌ عن اللَّبْثِ والاستقرارِ والإقامةِ لا من السكون الذي هو ضدُّ الحركة ، وأنت ضميرٌ أُكّد به المستكنُّ ليصحَّ العطفُ عليه ، والفاءُ في قوله تعالى : { فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا } لبيان المرادِ مما في سورة البقرة من قوله تعالى : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا } من أن ذلك كان جمعاً مع الترتيب ، وقوله تعالى : { مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا } في معنى منها حيث شئتما ، ولم يُذكر هاهنا ( رَغَداً ) ثقةً بما ذكر هناك ، وتوجيهُ الخطابِ إليهما لتعميم التشريفِ والإيذانِ بتساويهما في مباشرة المأمورِ به فإن حوّاءَ أُسوةٌ له عليه السلام في حق الأكلِ بخلاف السكنِ فإنها تابعةٌ له فيه ولتعليق النهي بها صريحاً في قوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } وقرىء هذي وهو الأصلُ لتصغيره على ذَيّا والهاءُ بدلٌ من الياء { فَتَكُونَا مِنَ الظالمين } إما جزمٌ على العطف أو نصبٌ على الجواب .(2/477)
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
{ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان } أي فعل الوسوسةَ لأجلهما أو تكلم لهما كلاماً خفياً متدارَكاً متكرّراً ، وهي في الأصل الصوتُ الخفي كالهيمنة والخشخشة ومنه وسوَسَ الحَلْيُ وقد سبق بيانُ كيفيةِ وسوستِه في سورة البقرة { لِيُبْدِيَ لَهُمَا } أي ليُظهر لهما واللامُ للعاقبة أو للغرض على أنه أراد بوسوسته أن يسوءَهما بانكشاف عورتيهما ، ولذلك عبّر عنهما بالسوأة وفيه دليلٌ على أن كشف العورةِ في الخلوة وعند الزوجِ من غير حاجة قبيحٌ مستهجَنٌ في الطباع { مَا وُريَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا } ما غُطي وسُتر عنهما من عوراتهما وكانا لا يَرَيانها من أنفسهما ولا أحدُهما من الآخر ، وإنما لم تُقلب الواوُ المضمومةُ همزةً في المشورة كما قلبت في أويصِل : تصغير واصل لأن الثانيةَ مدةٌ ، وقرىء سَوَاتِهما بحذف الهمزة وإلقاءِ حركتها على الواو ، وبقلبها واواً وإدغام الواو الساكنة فيها { وَقَالَْ عطف على وسوس بطريق البيان { مَا نهاكما رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة } أي عن أكلها { إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } أي إلا كراهةَ أن تكونا ملكين { أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين } الذين لا يموتون أو يخلدون في الجنة ، وليس فيه دلالةٌ على أفضلية الملائكةِ عليهم السلام لما أن من المعلوم أن الحقائقَ لا تنقلب وإنما كانت رغبتُهما في أن يحصُل لهما أوصافُ الملائكةِ من الكمالات الفطريةِ والاستغناء عن الأطعمة والأشربة وذلك بمعزل من الدِلالة على الأفضلية بالمعنى المتنازَعِ فيه .
{ وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } أي أقسم لهما ، وصيغةُ المغالبة للمبالغة ، وقيل : أقسما له بالقَبول وقيل : قالا له : أتقسم بالله أنك لمن الناصحين؟ وأقسم لهما فجُعل ذلك مقاسمة { فدلاهما } فنزّلهما على الأكل من الشجرة ، وفيه تنبيهٌ على أنه أهبطهما بذلك من درجة عاليةٍ فإن التدليةَ والإدلأَ إرسالُ الشيء من الأعلى إلى الأسفل { بِغُرُورٍ } بما غرّهما به من القسم ، فإنهما ظنا أن أحداً لا يُقسِم بالله كاذباً أو ملتبسين الغرور { فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتهمَا } أي فلما وجدا طعمَها آخِذَين في الأكل منها أخذْتهما العقوبةُ وشؤمُ المعصية فتهافت عنهما لباسُهما وظهرت لهما عوراتُهما ، واختلف في أن الشجرة كانت السنبلةَ أو الكرْمَ أو غيرَهما وأن اللباسَ كان نوراً أو ظفراً { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ } طفِق من أفعال الشروعِ والتلبس كأخذ وجعل وأنشأ وعلِق وهَبْ وانبرى أي أخذا يَرْقعَان ويُلزِقان ورقةً فوق ورقة { عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة } قيل : كان ذلك ورقَ التينِ وقرىء يُخصِفان من أخصف أي يخصفان أنفسَهما ويُخَصِّفان من التخصيف ويَخِصّفان أصله يختصفان .
{ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا } مالكُ أمرِهما بطريق العتاب والتوبيخِ { أَلَمْ أَنْهَكُمَا } وهو تفسيرٌ للنداء فلا محل له من الإعراب أو معمولٌ لقول محذوفٍ أي وقال أو قائلاً : ألم أنهَكُما؟ { عَن تِلْكُمَا الشجرة } ما في اسم الإشارةِ من معنى البُعد لما أنه إشارةٌ إلى الشجرة التي نُهي عن قُربانها { وَأَقُل لَّكُمَا } عطفٌ على أنهَكما أي ألم أقل لكما : { إِنَّ الشيطان لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ } وهذا عتابٌ وتوبيخٌ على الاغترار بقول العدوِّ كما أن الأولَ عتابٌ على مخالفة النهي ، قيل : فيه دليلٌ على أن مطلقَ النهي للتحريم ، ولكما متعلقٌ بعدو لما فيه من معنى الفعل أو بمحذوف هو حالٌ من عدوٌّ ، ولم يُحك هذا القولُ هاهنا ، وقد حُكي في سورة طه بقوله تعالى :(2/478)
{ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ } الآية . روي أنه تعالى قال لآدمَ : ألم يكنْ فيما منحتُك من شجر الجنة مندوحةٌ عن هذه الشجرة؟ فقال : بلى ، وعزتك ولكن ما ظننتُ أن أحداً من خلقك يحلِفُ بك كاذباً ، قال : فبعزتي لأُهبِطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيشَ إلا كدّاً فأُهبط وعُلّم صنعةَ الحديد وأُمر بالحَرْثِ فحرَثَ وسقَى وحصَد وداس وذرَى وعجَن وخَبَز .(2/479)
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
{ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } أي ضرّرناها بالمعصية والتعريضِ للإخراج من الجنة { وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا } ذلك { وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } وهو دليلٌ على أن الصغائرَ يُعاقب عليها إن لم تُغفرْ ، وقالت المعتزلةُ : لا يجوز المعاقبةُ عليها مع اجتناب الكبائرِ ، ولذلك حمَلوا قولَهما ذلك على عادات المقربين في استعظام الصغيرِ من السيئات واستصغارِ العظيمِ من الحسنات .
{ قَالَ } استئناف كما مر مراراً { اهبطوا } خطابٌ لآدمَ وحواءَ وذريتِهما ، أو لهما ولإبليسَ ، كُرر الأمرُ تبعاً لهما ليعلمَ أنهم قرناءُ أبداً ، أو أُخبر عما قال لهم مفرّقاً كما في قوله تعالى : { يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات } ولم يُذكر هاهنا قَبولُ توبتِهما ثقةً بما ذكر في سائر المواضع { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } جملةٌ حالية من فاعل اهبطوا أي مُتعادِين { وَلَكُمْ فِى الارض مُسْتَقَرٌّ } أي استقرارٌ أو موضعُ استقرارٍ { ومتاع } أي تمتعٌ وانتفاع { إلى حِينٍ } هو حينُ انقضاءِ آجالِكم .
{ قَالَ } أُعيد الاستئنافُ إما للإيذان بعدم اتصالِ ما بعده بما قبله كما في قوله تعالى : { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون } إثرَ قوله تعالى : { قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضآلون } وقوله تعالى : { قَالَ أَرَءيْتَكَ هذا الذى كَرَّمْتَ عَلَىَّ } بعد قوله تعالى : { قَالَ أَءسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا } وإما لإظهار الاعتناءِ بمضمون ما بعده من قوله تعالى : { فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } أي للجزاءِ كقوله تعالى : { مِنْهَا خلقناكم وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى }(2/480)
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
{ يا بني آدم } خطابٌ للناس كافةً ، وإيرادُهم بهذا العنوان مما لا يخفى سرُّه { قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا } أي خلقناه لكم بتدبيرات سماويةٍ وأسبابٍ نازلةٍ منها ، ونظيرُه { وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ } الخ ، وقوله تعالى : { بالقسط وَأَنزْلْنَا الحديد } { يوارى سَوْآتكم } التي قصد إبليسُ إبداءَها من أبويكم حتى اضطُروا إلى خصف الأوراق وأنتم مستغنون عن ذلك . وروي أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عرايا ويقولون : لا نطوف بثياب عصينا الله تعالى فيها فنزلت . ولعل ذكر قصةِ آدمَ عليه السلام حينئذ للإيذان بأن انكشافَ العورة أولُ سوءٍ أصاب الإنسان من قِبَل الشيطان ، وأنه أغواهم في ذلك كما أغوى أبويهم { وَرِيشًا } ولباساً تتجملون به ، والريشُ الجمالُ وقيل : مالاً ، ومنه ترّيش الرجلُ أي تموّل وقرىء رياشاً وهو جمعُ ريشٍ كشِعْب وشِعاب { وَلِبَاسُ التقوى } أي خشيةُ الله تعالى ، وقيل : الإيمانُ ، وقيل : السمتُ الحسَنُ ، وقيل : لباسُ الحرب ، ورفعُه بالابتداء خبرُه جملةُ { ذلك خَيْرٌ } أو خبرٌ وذلك صفتُه كأنه قيل : ولباسُ التقوى المشارُ إليه خيرٌ وقرىء ولباسَ التقوى بالنصب عطفاً على لباساً { ذلك } أي إنزالُ اللباس { مِنْ آيات الله } دالةٌ على عظيم فضلِه وعميمِ رحمتِه { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } فيعرِفون نعمتَه أو يتّعظون فيتورّعون عن القبائح .
{ يا بني آدم } تكريرُ النداءِ للإيذان بكمال الاعتناءِ بمضمون ما صدر به ، وإيرادُهم بهذا العنوان مما لا يخفى سببُه { لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان } أي لا يوقِعنّكم في الفتنة والمحنة بأن يمنعَكم من دخول الجنة { كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الجنة } نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي لا يفتِننّكم فتنةً مثلَ إخراجِ أبويكم ، وقد جُوّز أن يكون التقديرُ لا يُخرِجَنكم بفتنته إخراجاً مثلَ إخراجِه لأبويكم ، والنهيُ وإن كان متوجهاً إلى الشيطان لكنه في الحقيقة متوجِّهٌ إلى المخاطبين كما في قولك : لا أُرَينّك هاهنا ، وقد مر تحقيقُه مراراً { يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتهما } حال من أبويكم أو من فاعل أخرج ، وإسنادُ النزعِ إليه للتسبيب ، وصيغةُ المضارعِ لاستحضار الصورة ، وقوله تعالى : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ } أي جنودُه وذريتُه استئنافٌ لتعليل النهي وتأكيدِ التحذيرِ لا منه { مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } ( من ) لابتداء غايةِ الرؤيةِ ، وحيث ظرفٌ لمكان انتفاءِ الرؤية ولا ترَوْنهم في محل الجرِّ بإضافة الظرفِ إليه ، ورؤيتُهم لنا من حيث لا نراهم لا تقتضي امتناعَ رؤيتِنا لهم مطلقاً واستحالةَ تمثّلِهم لنا .
{ إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين } جُعل قبيلُه من جملته فجُمع { أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي جعلناهم بما أوجدنا بينهم من المناسبة أو بإرسالهم عليهم وتمكينِهم من إغوائهم وحملِهم على ما سوّلوا لهم أولياءَ أي قُرناءَ مسلّطين عليهم ، والجملة تعليلٌ آخرُ للنهي وتأكيدٌ للتحذير إثرَ تحذير .(2/481)
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)
{ وَإِذَا فَعَلُواْ فاحشة } جملةٌ مبتدأة لا محل لها من الإعراب ، وقد جُوّز عطفُها على الصلة ، والفاحشةُ الفَعلةُ المتناهيةُ في القبح ، والتاء لأنها مُجراةٌ على الموصوف المؤنث أو للنقل من الوصفية إلى الاسمية ، والمرادُ بها عبادةُ الأصنامِ وكشفُ العورة في الطواف ونحوُهما .
{ قَالُواْ } جواباً للناهين عنها { وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا والله أَمَرَنَا بِهَا } محتجين بأمرين : تقليدِ الآباءِ والافتراءِ على الله سبحانه ، ولعل تقديمَ المقدم للإيذان منهم بأن آباءَهم إنما كانوا يفعلونها بأمر الله تعالى بها على أن ضمير ( أمرنا ) لهم ولآبائهم ، فحينئذ يظهر وجهُ الإعراض عن الأول في رد مقالتِهم بقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء } فإن عادتَه تعالى جاريةٌ على الأمر بمحاسن الأعمالِ والحثِّ على مراضي الخِصال ، ولا دِلالةَ فيه على أن قبحَ الفعلِ بمعنى ترتبِ الذم عليه عاجلاً والعقابِ آجلاً عقلي فإن المرادَ بالفاحشة ما ينفِر عنه الطبعُ السليم ويستنقِصُه العقلُ المستقيم ، وقيل : هما جوابا سؤالين مترتبين كأنه قيل لما فعلوها : لم فعلتم؟ فقالوا : وجدنا عليها آباءَنا ، فقيل : لمَ فعلها آباؤُكم؟ فقالوا : الله أمرنا بها ، وعلى الوجهين يُمنع التقليدُ إذا قام الدليلُ بخلافه لا مطلقاً { أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من تمام القولِ المأمورِ به ، والهمزةُ لإنكار الواقعِ واستقباحِه وتوجيهُ الإنكارِ والتوبيخِ إلى قولهم عليه تعالى ما لا يعلمون صدورَه عنه تعالى مع أن بعضَهم يعلمون عدمَ صدورِه عنه تعالى مبالغةٌ في إنكار تلك الصورةِ فإن إسنادَ ما لم يُعلم عنه تعالى إليه تعالى إذا كان مُنكراً فإسنادُ ما عُلم عدمُ صدورِه عنه إليه عز وجل أشدُّ قبحاً وأحقُّ بالإنكار .
{ قُلْ أَمَرَ رَبّي بالقسط } بيانٌ للمأمور به إثرَ نفي ما أُسند أمرُه إليه تعالى من الأمور المنهيِّ عنها ، والقسطُ العدلُ وهو الوسَطُ من كل شيء ، المتجافي عن طرفي الإفراطِ والتفريط .
{ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ } وتوجهوا إلى عبادته مستقيمين غيرَ عادلين إلى غيرها ، أو أقيموا وجوهَكم نحو القِبلة { عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ } في كل وقت سجودٍ أو مكانِ سجودٍ وهو الصلاةُ أو في أي مسجدٍ حضَرتْكم الصلاةُ وعنده ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم { وادعوه } واعبدوه { مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } أي الطاعةَ فإن مصيرَكم إليه بالآخرة { كَمَا بَدَأَكُمْ } أي أنشأكم ابتداءً { تَعُودُونَ } إليه بإعادته فيجازيكم على أعمالكم وإنما شُبه الإعادةُ بالإبداء تقريراً لإمكانها والقدرةِ عليها ، وقيل : كما بدأكم من التراب تعودون إليه ، وقيل : حفاةً عراة غُرْلاً تعودون إليه وقيل : كما بدأكم مؤمناً وكافراً يعيدكم .(2/482)
فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
{ فَرِيقًا هدى } بأن وفقهم للإيمان { وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة } بمقتضى القضاءِ السابقِ التابعِ للمشيئة المبنيةِ على الحِكَم البالغةِ ، وانتصابُه بفعل مُضمرٍ يفسِّره ما بعده أي وخذل فريقاً { إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَاء مِن دُونِ الله } تعليلٌ لخِذلانه أو تحقيقٌ لضلالتهم { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } فيه دِلالةٌ على أن الكافرَ المُخطِىءَ والمعانِدَ سواءٌ في استحقاق الذمِّ وللفارق أن يحمِلَه على المقصِّر في النظر .
{ يابنى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ } أي ثيابَكم لمواراة عورتِكم { عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ } أي طوافٍ أو صلاةٍ ، ومن السنة أن يأخذ الرجلُ أحسنَ هيئتِه للصلاة وفيه دليل على وجوب سترِ العورة في الصلاة { وَكُلُواْ واشربوا } مما طاب لكم . روي أن بني عامرٍ كانوا في أيام حجِّهم لا يأكلون الطعام إلا قوتاً ولا يأكلون دسماً يعظِّمون بذلك حجهم فهمّ المسلمون بمثله فنزلت { وَلاَ تُسْرِفُواْ } بتحريم الحلالِ أو بالتعدّي إلى الحرام أو بالإفراط في الطعامِ والشّرَه عليه ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كُلْ ما شئت والبَسْ ما شئت ما أخطأتْك خصلتانِ : سَرَفٌ ومَخِيلة . وقال علي بن الحسين بن واقد : ( جمع الله الطبَّ في نصف آية ) فقال : { كُلُواْ واشربوا وَلاَ تُسْرِفُواْ } { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } أي لا يرتضي فعلَهم .
{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله } من الثياب وما يُتجمَّل به { التى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } من النبات كالقُطن والكتّان ، والحيوانِ كالحرير والصوفِ ، والمعادن كالدروع { والطيبات مِنَ الرزق } أي المستلذاتِ من المآكل والمشارب ، وفيه دليلٌ على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواعِ التجمُّلات الإباحةُ ، لأن الاستفهامَ في مَنْ إنكاريٌّ { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التى أَخْرَجَ } بالأصالة ، والكفرةُ وإن شاركوهم فيها فبِالتَّبع { خَالِصَةً يَوْمَ القيامة } لا يشاركهم فيها غيرُهم وانتصابُه على الحالية ، وقرىء بالرفع على أنه خبرٌ بعد خبر { كَذَلِكَ نُفَصِلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي مثلَ هذا التفصيلِ نفصِّلُ سائرَ الأحكامِ لقوم يعلمون ما في تضاعيفها من المعاني الرائقة .
{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الفواحش } أي ما تفاحش قبحُه من الذنوب ، وقيل : ما يتعلق منها بالفروج { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } بدلٌ من الفواحش أي جهرَها وسرَّها { والإثم } أي ما يوجب الإثمَ وهو تعميمٌ بعد تخصيص ، وقيل : هو شربُ الخمر { والبغى } أي الظلم أو الكِبْر أُفرد بالذكر للمبالغة في الزجر عنه { بِغَيْرِ الحق } متعلق بالبغي مؤكدٌ له معنى { وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا } تهكّمٌ بالمشركين وتنبيهٌ على تحريم اتباعِ ما لا يدل عليه برهان { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } بالإلحاد في صفاته والافتراء عليه كقولهم : { والله أَمَرَنَا بِهَا } وتوجيهُ التحريم إلى قولهم عليه تعالى ما لا يعلمون وقوعَه لا ما يعلمون عدمَ وقوعِه قد مر سرُّه .(2/483)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)
{ وَلِكُلّ أُمَّةٍ } من الأمم المُهلَكة { أَجَلٌ } حدٌّ معينٌ من الزمان مضروبٌ لِمَهلِكهم { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ } إن جعل الضميرُ للأمم المدلولِ عليها بكل أمة فإظهارُ الأجل مضافاً إليه لإفادة المعنى المقصودِ الذي هو بلوغُ كلِّ أمةٍ أجلَها الخاصَّ بها ومجيئِه إياها بواسطة اكتسابِ الأجل بالإضافة عموماً يفيده معنى الجمعية كأنه قيل : إذا جاءهم آجالُهم بأن يجيء كلَّ واحدة من تلك الأمم أجلُها الخاصُّ بها ، وإن جُعل لكل أمةٍ خاصةً كما هو الظاهرُ فالإظهارُ في موقع الإضمارِ لزيادة التقريرِ ، والإضافةُ إلى الضمير لإفادة أكملِ التمييزِ أي إذا جاءها أجلُها الخاصُّ بها .
{ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ } عن ذلك الأجلِ { سَاعَةً } أي شيئاً قليلاً من الزمان فإنها مَثلٌ في غاية القلة منه لا يتأخرون أصلاً ، وصيغةُ الاستفعال للإشعار بعجزهم وحِرمانهم عن ذلك مع طلبهم له { وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } أي ولا يتقدمون عليه وهو عطفٌ على يستأخرون لكن لا لبيان انتفاءِ التقدمِ مع إمكانه في نفسه كالتأخر ، بل للمبالغة في انتفاء التأخّرِ بنظمه في سلك المستحيلِ عقلاً كما في قوله سبحانه : { وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّى تُبْتُ الان وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } فإن من مات كافراً مع ظهور أن لا توبةَ له رأساً قد نُظم في عدم القبولِ في سلك مَنْ سوّفها إلى حضور الموتِ إيذاناً بتساوي وجودِ التوبة حينئذ وعدمِها بالمرة . وقيل : المرادُ بالمجيء الدنوُّ بحيث يمكن التقدمُ في الجملة كمجيء اليومِ الذي ضُرب لهلاكهم ساعةٌ فيه وليس بذاك . وتقديمُ بيانِ انتفاءِ الاستئخار لما أن المقصودَ بالذات بيانُ عدمِ خلاصِهم من العذاب ، وأما ما في قوله تعالى : { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَخِرُونَ } من سبْق السبْقِ في الذكر فلِما أن المرادَ هناك بيانُ تأخيرِ إهلاكِهم مع استحقاقهم له حسبما ينبىء عنه قولُه تعالى : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الامل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } فالأهمُّ هناك بيانُ انتفاءِ السبْق .
{ وَلِكُلّ أُمَّةٍ } من الأمم المُهلَكة { أَجَلٌ } حدٌّ معينٌ من الزمان مضروبٌ لِمَهلِكهم { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ } إن جعل الضميرُ للأمم المدلولِ عليها بكل أمة فإظهارُ الأجل مضافاً إليه لإفادة المعنى المقصودِ الذي هو بلوغُ كلِّ أمةٍ أجلَها الخاصَّ بها ومجيئِه إياها بواسطة اكتسابِ الأجل بالإضافة عموماً يفيده معنى الجمعية كأنه قيل : إذا جاءهم آجالُهم بأن يجيء كلَّ واحدة من تلك الأمم أجلُها الخاصُّ بها ، وإن جُعل لكل أمةٍ خاصةً كما هو الظاهرُ فالإظهارُ في موقع الإضمارِ لزيادة التقريرِ ، والإضافةُ إلى الضمير لإفادة أكملِ التمييزِ أي إذا جاءها أجلُها الخاصُّ بها .
{ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ } عن ذلك الأجلِ { سَاعَةً } أي شيئاً قليلاً من الزمان فإنها مَثلٌ في غاية القلة منه لا يتأخرون أصلاً ، وصيغةُ الاستفعال للإشعار بعجزهم وحِرمانهم عن ذلك مع طلبهم له { وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } أي ولا يتقدمون عليه وهو عطفٌ على يستأخرون لكن لا لبيان انتفاءِ التقدمِ مع إمكانه في نفسه كالتأخر ، بل للمبالغة في انتفاء التأخّرِ بنظمه في سلك المستحيلِ عقلاً كما في قوله سبحانه :(2/484)
{ وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّى تُبْتُ الان وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } فإن من مات كافراً مع ظهور أن لا توبةَ له رأساً قد نُظم في عدم القبولِ في سلك مَنْ سوّفها إلى حضور الموتِ إيذاناً بتساوي وجودِ التوبة حينئذ وعدمِها بالمرة . وقيل : المرادُ بالمجيء الدنوُّ بحيث يمكن التقدمُ في الجملة كمجيء اليومِ الذي ضُرب لهلاكهم ساعةٌ فيه وليس بذاك . وتقديمُ بيانِ انتفاءِ الاستئخار لما أن المقصودَ بالذات بيانُ عدمِ خلاصِهم من العذاب ، وأما ما في قوله تعالى : { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَخِرُونَ } من سبْق السبْقِ في الذكر فلِما أن المرادَ هناك بيانُ تأخيرِ إهلاكِهم مع استحقاقهم له حسبما ينبىء عنه قولُه تعالى : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الامل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } فالأهمُّ هناك بيانُ انتفاءِ السبْق .
{ يا بني آدم } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى كافة الناس اهتماماً بشأن ما في حيّزه { إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ } هي إنْ الشرطيةُ ضُمَّت إليها ( ما ) لتأكيد معنى الشرطِ ، ولذلك لزِمت فعلَها النونُ الثقيلةُ أو الخفيفةُ ، وفيه تنبيه على أن إرسالَ الرسلِ أمرٌ جائزٌ لا واجبٌ عقلاً { رُسُلٌ مّنكُمْ } الجارُّ متعلقٌ بمحذوف هو صفةٌ لرسلٌ أي كائنون من جنسكم ، وقولُه تعالى : { يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءاياتى } صفةٌ أخرى لرسلٌ أي يبيِّنون لكم أحكامي وشرائعي ، وقولُه تعالى : { فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } جملةٌ شرطيةٌ وقعت جواباً للشرط أي فمن اتقى منكم التكذيبَ وأصلح عملَه فلا خوف الخ ، وكذا قولُه تعالى :(2/485)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
{ والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا واستكبروا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } أي والذين كذبوا منكم بآياتنا ، وإيرادُ الاتقاءِ في الأول للإيذان بأن مدارَ الفلاحِ ليس مجردَ عدمِ التكذيبِ بل هو الاتقاءُ والاجتنابُ عنه ، وإدخالُ الفاءِ في الجزء الأولِ دون الثاني للمبالغة في الوعد والمسامحةِ في الوعيد .
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بئاياته } أي تقوَّل عليه تعالى ما لم يقُلْه أو كذّب ما قاله ، أي هو أظلمُ من كل ظالمٍ وقد مر تحقيقه مراراً { أولئك } إشارةٌ إلى الموصول ، والجمعُ باعتبار معناه كما أن إفرادَ الفعلين باعتبار لفظِه ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بتماديهم في سوء الحالِ ، أي أولئك الموصوفون بما ذُكر من الافتراء والتكذيب { يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ الكتاب } أي مما كُتب لهم من الأرزاق والأعمارِ ، وقيل : الكتابُ اللوحُ ، أي ما أُثبت لهم فيه وأياً ما كان فمِن الابتدائيةُ متعلقةٌ بمحذوف وقع حالاً من نصيبهم ، أي ينالُهم نصيبُهم كائناً من الكتاب وقيل : نصيبُهم من العذاب وسوادِ الوجه وزُرقةِ العيون ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كُتب لمن يفتري على الله سوادُ الوجهِ قال تعالى : { وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } وقوله تعالى : { حتى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا } أي ملكُ الموتِ وأعوانُه { يَتَوَفَّوْنَهُمْ } أي حالَ كونِهم مُتوفِّين لأرواحهم يؤيد الأول ، فإن حتى وإن كانت هي التي يُبتدَأ بها الكلامُ لكنها غايةٌ لما قبلها فلا بد أن يكون نصيبُهم مما يتمتعون بها إلى حين وفاتِهم أي ينالهم نصيبُهم من الكتاب إلى أن يأتيَهم ملائكةُ الموتِ فإذا جاءتهم { قَالُواْ } لهم { أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } أي أين الآلهةُ التي كنتم تعبُدونها في الدنيا؟ و ( ما ) وقعت موصولةً بأين في خط المصحف وحقُّها الفصلُ لأنها موصولة { قَالُواْ } استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال نشأ من حكاية سؤالِ الرسل ، كأنه قيل : فماذا قالوا عند ذلك؟ فقيل : قالوا : { ضَلُّواْ عَنَّا } أي غابوا عنا أي لا ندري مكانَهم { وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } عطفٌ على قالوا أي اعترفوا على أنفسهم { أَنَّهُمْ كَانُواْ } أي في الدنيا { كافرين } عابدين لما لا يَستحِق العبادةَ أصلاً حيث شاهدوا حالَه وضلالَه ولعله أريد بوقت مجيءِ الرسل وحالِ التوفي الزمانُ الممتدُّ من ابتداء المجيءِ والتوفي إلى انتهائه يوم الجزاءِ بناءً على تحقق المجيءِ والتوفي في كل ذلك الزمان بقاءً وإن كان حدوثُهما في أوله فقط ، أو قُصد بيانُ غاية سرعةِ وقوعِ البعثِ والجزاء كأنهما حاصلان عند ابتداءِ التوفي كما ينبىء عنه قوله عليه الصلاة والسلام : « من مات فقد قامت قيامتُه » وإلا فهذا السؤال والجوابُ وما ترتب عليهما من الأمر بدخول النارِ وما جرى بين أهلها من التلاعُن والتقاولِ إنما يكون بعد البعثِ لا محالة .(2/486)
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
{ قَالَ } أي الله عز وجل يوم القيامة بالذات أو بواسطة الملك { ادخلوا فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم } أي كائنين من جملة أممٍ مصاحبين لهم { مّنَ الجن والإنس } يعني كفارَ الأمم الماضيةِ من النوعين { فِى النار } متعلقٌ بقوله : { أَدْخِلُواْ } { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ } من الأمم السابقةِ واللاحقةِ فيها { لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } التي ضللت بالاقتداء بها { حَتَّى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعًا } أي تداركوا وتلاحقوا في النار { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ } دخولاً أو منزلةً وهو الأتباعُ { لاولاهم } أي لأجلهم إذِ الخطابُ مع الله تعالى لا معهم { رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا } سنّوا لنا الضلالَ فاقتدَيْنا بهم { فَآتِهِم عَذَاباً ضِعْفاً } أي مضاعفاً { مِنَ النار } لأنهم ضلّوا وأضلوا { قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ } أما القادةُ فلِما ذُكر من الضلال والإضلالِ ، وأما الأتباعُ فلكفرهم وتقليدِهم { ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ } أي مالَكم وما لِكُلّ فريقٍ من العذاب وقرىء بالياء { وَقَالَتْ أولاهم } أي مخاطِبين { لأُخْرَاهُمْ } حين سمعوا جوابَ الله تعالى لهم { فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } أي فقد ثبت أن لا فضلَ لكم علينا وإنا وإياكم متساوون في الضلال واستحقاقِ العذاب { فَذُوقُواْ العذاب } أي العذابَ المعهودَ المضاعفَ { بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } من قول القادة .
{ إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } مع وضوحها { واستكبروا عَنْهَا } أي عن الإيمان بها والعملِ بمقتضاها { لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أبواب السماء } أي لا تُقبل أدعيتُهم ولا أعمالُهم أو لا تعْرُج إليها أرواحُهم كما هو شأنُ أدعيةِ المؤمنين وأعمالِهم وأرواحِهم والتاء في ( تُفتّح ) لتأنيث الأبواب على أن الفعلَ للآيات ، وبالياء على أنه لله تعالى { وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِى سَمّ الخياط } أي حتى يدخُلَ ما هو مثلُه في عِظَم الجِرْم فيما هو عَلمٌ في ضيق المسلَك وهو ثُقبةُ الإبرة ، وفي كون الجملِ مما ليس من شأنه الولوجُ في سمِّ الإبرة مبالغةٌ في الاستبعاد . وقرىء الجُمّل كالقمّل والجُمَل كالنُغَر والجُمل كالقُفل والجَمَل كالنصَب والجَمْل كالحبل وهي الحبلُ الغليظ من القنب وقيل : حبلُ السفينة ، وسُمّ بالضم والكسر وقرىء في سَمّ المَخيط وهو الخِياط أي ما يُخاط به كالحِزام والمحزم { وكذلك } أي ومثلَ ذلك الجزاءِ الفظيع { نَجْزِى المجرمين } أي جنسَ المجرمين وهم داخلون في زُمرتهم دخولاً أولياً .(2/487)
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
{ لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ } أي فراشٌ من تحتهم ، والتنوينُ للتفخيم ومن تجريدية { وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } أي أغطيةٌ والتنوينُ للبدل عن الإعلال عند سيبويهِ وللصرْفِ عند غيره ، وقرىء غواشِ على إلغاء المحذوف كما في قوله تعالى : { وَلَهُ الجوار } { وكذلك } ومثلَ ذلك الجزاءِ الشديد { نَجْزِى الظالمين } عبّر عنهم بالمجرمين تارةً وبالظالمين أخرى إشعاراً بأنهم بتكذيبهم الآياتِ اتّصفوا بكل واحدٍ من ذيْنِك الوصفين القبيحين ، وذكرُ الجُرم مع الحِرمان من دخول الجنةِ والظلم مع التعذيب بالنار للتنبيه على أنه أعظمُ الجرائمِ والجرائرِ . { والذين ءامَنُواْ } أي بآياتنا أو بكل ما يجب أن يُؤمَنَ به فيدخُل فيه الآياتُ دخولاً أولياً وقوله تعالى : { وَعَمِلُواْ الصالحات } أي الأعمالَ الصالحةَ التي شُرعت بالآيات ، وهذا بمقابلة الاستكبارِ عنها { لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } اعتراضٌ وُسّط بين المبتدإِ الذي هو الموصولُ والخبرِ الذي هو الجملةُ { أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة } للترغيب في اكتساب ما يؤدي إلى النعيم المقيم ببيان سهولةِ منالِه وتيسُّر تحصيلِه ، وقرىء لا تُكَلَّف نفسٌ ، واسمُ الإشارةِ مبتدأٌ ، وأصحابُ الجنةِ خبرُه والجملةُ خبرٌ للمبتدإ الأولِ ، أو اسمُ الإشارةِ بدلٌ من المبتدأ الأولِ الذي هو الموصولُ والخبرُ أصحابُ الجنة . وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببعد منزلتِهم في الفضل والشرف { هُمْ فِيهَا خالدون } حالٌ من أصحاب الجنة وقد جوز كونُه حالاً من الجنة لاشتماله على ضميرها والعاملُ معنى الإضافةِ أو اللام المقدرةِ أو خبرٌ ثانٍ لأولئك على رأي من جوّزه وفيها متعلق بخالدون .
{ وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ } أي نخرج من قلوبهم أسبابَ الغل أو نطهرها منه حتى لا يكون بينهم إلا التوادُّ . وصيغةُ الماضي للإيذان بتحققه وتقررِه ، وعن علي رضي الله عنه : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمانُ وطلحةُ والزبيرُ منهم { تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانهار } زيادةٌ في لذتهم وسرورهم ، والجملةُ حالٌ من الضمير في صدورهم والعاملُ إما معنى الإضافة وإما العاملُ في المضاف أو حال من فاعل نزعنا والعاملُ نزعنا وقيل : هي مستأنفةٌ للإخبار عن صفة أحوالِهم { وَقَالُواْ الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا } أي لِما جزاؤُه هذا { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ } أي لهذا المطلبِ الأعلى أو لمطلب من المطالب التي هذا من جملتها { لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله } ووفقنا له ، واللام لتأكيد النفي وجوابُ لولا محذوفٌ ثقةً بدِلالة ما قبله عليه ، ومفعولُ نهتدي وهدانا الثاني محذوفٌ لظهور المرادِ أو لإرادة التعميمِ كما أشير إليه ، والجملةُ مستأنَفةٌ أو حالية وقرىء ما كنا لنهتديَ الخ ، بغير واو على أنها مبيِّنة ومفسرةٌ للأولى .
{ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا } جوابُ قسمٍ مقدر قالوه تبجّحاً واغتباطاً بما نالوه وابتهاجاً بإيمانهم بما جاءتهم الرسلُ عليهم السلام والباء في قوله تعالى : { بالحق } إما للتعدية فهي متعلقةٌ بجاءت أو للملابسة فهي متعلقةٌ بمقدرٍ وقع حالاً من الرسل أي والله لقد جاءوا بالحق أو لقد جاءوا ملتبسين بالحق { وَنُودُواْ } أي نادتهم الملائكةُ عليهم السلام { أَن تِلْكُمُ الجنة } أنْ مفسرةٌ لما في النداء من معنى القولِ أو مخففةٌ من أنّ وضمير الشأنِ محذوفٌ ، ومعنى البُعدِ في اسم الإشارةِ إما لأنهم نوُدوا عند رؤيتِهم إياها من مكان بعيد ، وإما رفع منزلتِها وبُعدِ رتبتِها ، وإما للإشعار بأنها تلك الجنةَ التي وُعدوها في الدنيا { أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } في الدنيا من الأعمال الصالحةِ أي أُعطيتموها بسبب أعمالِكم أو بمقابلة أعمالِكم والجملةُ حال من الجنة والعاملُ معنى الإشارةِ على أن ( تلكم الجنةُ ) مبتدأٌ وخبرٌ ، أو الجنةُ صفةٌ والخبرُ أورثتموها .(2/488)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
{ وَنَادَى أصحاب الجنة أصحاب النار } تبجحاً بحالهم وشماتةً بأصحاب النار وتحسيراً لهم لا لمجرد الإخبارِ بحالهم والاستخبارِ عن حال مخاطَبيهم { أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا } حيث نلنا هذا المنالَ الجليلَ { فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا } حُذف المفعولُ من الفعل الثاني إسقاطاً لهم عن رتبة التشريفِ بالخطاب عند الوعدِ ، وقيل : لأن ما ساءهم من الموعود لم يكن بأسره مخصوصاً بهم وعداً كالبعث والحسابِ ونعيمِ الجنة ، فإنهم قد وجدوا جميعَ ذلك حقاً وإن لم يكن وعدُه مخصوصاً بهم { قَالُواْ نَعَمْ } أي وجدناه حقاً ، وقرىء بكسر العين وهي لغةٌ فيه { فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ } قيل : هو صاحبُ الصُّور { بَيْنَهُمْ } أي بين الفريقين { أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } بأنْ المخفَّفةِ أو المفسِّرةِ ، وقرىء بأنّ المشددةِ ونصْبِ ( لعنةُ ) وقرى إنّ بكسر الهمزة على إرادة القولِ أو إجراء أذّن مُجرى قال { الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } صفةٌ مقرِّرةٌ للظالمين ، أو رفعٌ على الذم أو نصْبٌ عليه { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } أي يبغون لها عِوَجاً بأن يصفوها بالزيغ والميلِ عن الحق وهو أبعدُ شيء منهما والعِوَجُ بالكسر في المعاني والأعيان ما لم يكن منتصباً وبالفتح ما كان في المنتصِب كالرُّمحِ والحائط { وَهُم بالاخرة كافرون } غيرُ معترفين .
{ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } أي بين الفريقين كقوله تعالى : { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ } أو بين الجنة والنار ليمنعَ وصولُ أثرِ إحداهما إلى الأخرى { وَعَلَى الاعراف } أي على أعراف الحجابِ وأعاليه وهو السورُ المضروبُ بينهما جمعُ عُرف مستعار من عُرف الفرس وقيل : العرف ما ارتفع من الشيء فإنه بظهوره أعرفُ من غيره { رِجَالٌ } طائفةٌ من الموحدين قصّروا في العمل فيجلسون بين الجنة والنارِ حتى يقضيَ الله تعالى فيهم ما يشاء ، وقيل : قومٌ عَلَت درجاتُهم كالأنبياء والشهداء والأخيارِ والعلماءِ من المؤمنين ، أو ملائكةٌ يُرَون في صور الرجال { يَعْرِفُونَ كُلاًّ } من أهل الجنة والنار { بسيماهم } بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها كبياض الوجهِ وسوادِه ، فعلى من سام إبِلَه إذا أرسلها في المرعى مُعْلَمةً ، أو مِنْ وَسَم ، بالقلب ، كالجاه من الوجه ، وإنما يعرفون ذلك بالإلهام أو بتعليم الملائكة { وَنَادَوْاْ } أي رجالُ الأعراف { أصحاب الجنة } حين رأوهم { أَن سلام عَلَيْكُمْ } بطريق الدعاءِ والتحية أو بطريق الإخبارِ بنجاتهم من المكارة { لَمْ يَدْخُلُوهَا } حالٌ من فاعل نادَوْا أو من مفعوله وقوله تعالى : { وَهُمْ يَطْمَعُونَ } حال من فاعل يدخلوها أي نادوهم وهم لم يدخلوها حال كونهم طامعين في دخولها مترقبين له ، أي لم يدخلوها وهم في وقت عدمِ الدخول طامعون .(2/489)
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
{ وَإِذَا صُرِفَتْ أبصارهم تِلْقَاء أصحاب النار } أي إلى جهتهم ، وفي عدم التعرضِ لتعلق أنظارِهم بأصحاب الجنةِ والتعبيرِ عن تعلق أبصارِهم بأصحاب النارِ بالصرف إشعارٌ بأن التعلقَ الأولَ بطريق الرغبة والميل الثاني بخلافه { قَالُواْ } متعوذين بالله تعالى من سوء حالِهم { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين } أي في النار ، وفي وصفهم بالظلم دون ما هم عليه حينئذ من العذاب وسوءِ الحال الذي هو الموجبُ للدعاء إشعارٌ بأن المحذورَ عندهم ليس نفيَ العذابِ فقط بل مع ما يوجبه ويؤدي إليه من الظلم .
{ ونادى أصحاب الاعراف } كرر ذكرهم مع كفاية الإضمار لزيادة التقرير { رِجَالاً } من رؤساء الكفارِ حين رأَوْهم فيما بين أصحابِ النار { يَعْرِفُونَهُمْ بسيماهم } الدالةِ على سوء حالِهم يومئذ وعلى رياستهم في الدنيا { قَالُواْ } بدلٌ من نادى { مَا أغنى عَنكُمْ } ( ما ) استفهامية للتوبيخ والتقريع أو نافية { جَمْعُكُمْ } أي أتباعُكم وأشياعُكم أو جمعُكم للمال { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } ما مصدريةٌ أي ما أغنى عنكم جمعُكم واستكبارُكم المستمرُّ عن قَبول الحقِّ ، أو على الخلق وهو الأنسبُ بما بعده ، وقرىء تستكثرون من الكثرة أي من الأموال والجنود .
{ أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ } من تتمة قولِهم للرجال ، والإشارةُ إلى ضعفاء المؤمنين الذين كانت الكفرةُ يحتقرونهم في الدنيا ويحلِفون صريحاً أنهم لا يدخُلون الجنةَ أو يفعلون ما ينبىء عن ذلك كما في قوله تعالى : { أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ } { ادخلوا الجنة } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى أولئك المذكورين أي ادخُلوا الجنة على رُغم أنوفِهم { لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ } بعد هذا { وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } أو قيل لأصحاب الأعراف : ادخُلوا الجنةَ بفضل الله تعالى بعد أن حُبسوا وشاهدوا أحوالَ الفريقين وعرفوهم وقالوا لهم ما قالوا . والأظهرُ أن لا يكون المرادُ بأصحاب الأعرافِ المقصِّرين في العمل لأن هذه المقالاتِ وما تتفرع هي عليه من المعرفة لا يليق بمن لم يتعيّنْ حالُه بعدُ ، وقيل : لما عيّروا أصحابَ النار أقسموا أن أصحابَ النار أقسموا أن أصحابَ الأعرافِ لا يدخُلون الجنة فقال الله تعالى أو الملائكةُ رداً عليهم : { أهؤلاء } الخ ، وقرىء ادخَلوا ودَخَلوا على الاستئناف وتقديرُه دخلوا الجنةَ مقولاً في حقهم لا خوفٌ عليكم .(2/490)
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
{ ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة } بعد أن استقر بكل من الفريقين القرارُ واطمأنت به الدار { أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الماء } أي صُبّوه ، وفي دَلالةٌ على أن الجنة فوق النار { أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } من سائر الأشربةِ ليُلائِمَ الإفاضة ، أو من الأطعمة على أن الإفاضةَ عبارةٌ عن الإعطاء بكثرة { قَالُواْ } استئنافٌ مبنيٌّ على السؤال كأنه قيل : فماذا قالوا؟ فقيل : قالوا : { إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين } أي منعهما منهم منعاً كلياً فلا سبيل إلى ذلك قطعاً { الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا } كتحريم البَحيرة والسائبةَ ونحوِهما والتصديةِ حولَ البيت ، واللهوُ صرفُ الهمِّ إلى ما لا يحسُن أن يُصْرفَ إليه ، واللعبُ طلبُ الفرحِ بما لا يحسن أن يُطلب { وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا } بزخارفها العاجلةِ { فاليوم ننساهم } نفعل بهم ما يفعل الناسي بالمنسيِّ من عدم الاعتدادِ بهم وتركِهم في النار تركاً كلياً ، والفاء في فاليوم فصيحةٌ وقوله تعالى : { كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هذا } في محل النصبِ على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ ، أي ننساهم نسياناً مثلَ نسيانِهم لقاءَ يومِهم هذا حيث لم يُخطِروه ببالهم ولم يعتدّوا له ، وقولُه تعالى : { وَمَا كَانُواْ بئاياتنا يَجْحَدُونَ } عطفٌ على ما نسوا أي وكما كانوا منكرين بأنها من عند الله تعالى إنكاراً مستمراً .
{ وَلَقَدْ جئناهم بكتاب فصلناه } أي بيّنا معانيَه من العقائد والأحكامِ والمواعظ ، والضميرُ للكفرة قاطبةً والمرادُ بالكتاب الجنسُ أو للمعاصِرين منهم والكتابُ هو القرآن { على عِلْمٍ } حالٌ من فاعل فصلناه أي عالمين بوجه تفصيلِه حتى جاء حكيماً أو من مفعوله أي مشتملاً على علم كثير ، وقرىء فضلناه أي على سائر الكتب عالمين بفضله { هُدًى وَرَحْمَةً } حال من المفعول { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } لأنهم المغتنمون لآثاره المقتبسون من أنواره .(2/491)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } أي ما ينتظر هؤلاءِ الكفرةُ بعدم إيمانِهم به إلا ما يؤول إليه أمرُه من تبيّن صدقِه بظهور ما أخبر به من الوعد والوعيد { يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ } وهو يومُ القيامة { يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ } أي تركوه ترْكَ المنسيِّ من قبل إتيانِ تأويلِه { قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق } أي قد تبين أنهم قد جاءوا بالحق { فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا } اليوم ويدفعوا عنا العذاب { أَوْ نُرَدُّ } أي هل نرد إلى الدنيا وقرىء بالنصب عطفاً على فيشفعوا أو لأن أو بمعنى إلى أن ، فعلى الأول المسؤولُ أحدُ الأمرين ، إما الشفاعةُ الدفع للعذاب أو الرد إلى الدنيا وعلى الثاني أن يكون لهم شفعاءُ إما لأحد الأمرين أو لأمر واحد هو الرد { فَنَعْمَلَ } بالنصب على أنه جواب الاستفهام الثاني وقرىء بالرفع أي فنحن نعمل { غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ } أي في الدنيا { قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ } بصرف أعمارِهم التي هي رأسُ مالِهم إلى الكفر والمعاصي { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي ظهر بطلانُ ما كانوا يفترونه من أن الأصنامَ شركاءُ الله تعالى وشفعاؤهم يوم القيامة .
{ إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذى خَلَقَ السموات والارض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } شروعٌ في بيان مبدأ الفطرةِ إثرَ بيانِ معادِ الكفَرة أي إن خالقَكم ومالكَكم الذي خلق الأجرامَ العلوية والسفليةَ في ستة أوقات كقوله تعالى : { وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } أو في مقدار ستةِ أيامٍ فإن المتعارفَ أن اليومَ زمانُ طلوعِ الشمسِ إلى غروبها ، ولم تكن هي حينئذ وفي خلق الأشياء مدرجاً مع القدرة على إبداعها دفعةُ دليلٍ على الاختيار واعتبارٌ للنُظّار وحثٌّ على التأني في الأمور { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } أي استوى أمرُه واستولى وعن أصحابنا أن الاستواءَ على العرش صفة الله تعالى بلا كيف والمعنى أنه تعالى استوى على العرش على الوجه الذي عناه منزهاً عن الاستقرار والتمكن ، والعرشُ الجسم المحيط بسائر الأجسام سمي به لارتفاعه أو للتشبيه بسرير الملِك فإن الأمورَ والتدابير تنزِل منه وقيل : الملك .
{ يَغْشَى اللَّيْلَ النَّهَارَ } أي يغطّيه به ولم يُذكر العكسُ للعلم به أو لأن اللفظَ يحتملهما ولذلك قرىء بنصب الليلَ ورفع النهار وقرىء بالتشديد للدلالة على التكرار { يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } أي يعقُبه سريعاً كالطالب له لا يفصل بينهما شيء ، والحثيثُ فعيل من الحث وهو صفةُ مصدرٍ محذوفٍ ، أو حال من الفاعل أو من المفعول بمعنى حاثاً أو محثوثاً { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ } أي خلقهن حال كونهِن مسخراتٍ بقضائه وتصريفِه ، وقرىء كلُّها بالرفع على الابتداء والخبر { أَلاَ لَهُ الخلق والامر } فإنه الموجدَ للكل والمتصرِّفَ فيه على الإطلاق { تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } أي تعالى بالوحدانية في الألوهية وتعظّم بالتفرد في الربوبية .(2/492)
وتحقيقُ الآية الكريمةِ والله تعالى أعلم أن الكفرةَ كانوا كانوا متخذين أرباباً فبيّن لهم أن المستحِقَّ للربوبية واحدٌ هو الله تعالى لأنه الذي له الخلقُ والأمرُ فإنه تعالى خلق العالمَ على ترتيب قويمٍ وتدبيرٍ حكيم فأبدع الأفلاكَ ثم زينها بالشمس والقمر والنجومِ كما أشار إليه بقوله تعالى : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات فِى يَوْمَيْنِ } وعمَد إلى الأجرام السفليةِ فخلق جسماً قابلاً للصور المتبدّلةِ والهيئاتِ المختلفة ثم قسمها لصور نوعيةٍ متباينةِ الآثار والأفعالِ وأشار إليه بقوله تعالى : { خَلَقَ الارض فِى يَوْمَيْنِ } أي ما في جهة السُّفلِ في يومين ثم أنشأ أنواعَ المواليدِ الثلاثةِ بتركيب موادِّها أولاً وتصويرِها ثانياً كما قال بعد قوله تعالى : { خَلَقَ الارض فِى يَوْمَيْنِ } { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وبارك فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } أي مع اليومين الأولين لِما فُصّل في سورة السجدة ثم لمّا تم له عالمُ المُلك عمَد إلى تدبيره كالملك الجالس على سريره فدبر الأمرَ من السماء إلى الأرض بتحريك الأفلاكِ وتسيير الكواكبِ وتكويرِ الليالي والأيامِ ، ثم صرّح بما هو فذلكةُ التقريرِ ونتيجتُه فقال تعالى : { أَلاَ لَهُ الخلق والامر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } ثم أمر بأن يدعوُه مخلِصين متذلِّلين فقال :(2/493)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
{ ادعوا رَبَّكُمْ } الذي قد عَرَفتم شؤونَه الجليلة { تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } أي ذوي تضرّعٍ وخُفية فإن الإخفاءَ دليلُ الإخلاص { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين } أي لا يحب دعاءَ المجاوزين لما أُمروا به في كل شيء ، فيدخُل فيه الاعتداءُ في الدعاء دخولاً أولياً ، وقد نُبِّه به على أن الداعيَ يجب أن لا يطلُب ما لا يليق به كرتبة الأنبياءِ والصعودِ إلى السماء ، وقيل : هو الصياحُ في الدعاء والإسهابُ فيه . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " سيكونُ قومٌ يعتدون في الدعاء وحسْبُ المرءِ أن يقول : اللهم إني أسألُك الجنةَ وما قرَّب إليها من قول وعملٍ ، وأعوذُ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل " ثم ( قرأ ) «إنَّهُ لا يحبُّ المعتدين .
{ { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الارض } بالكفر والمعاصي { بَعْدَ إصلاحها } ببعث الأنبياء عليهم السلام وشرْعِ الأحكام { وادعوه خَوْفًا وَطَمَعًا } أي ذوي خوفٍ نظراً لقصور أعمالِكم وعدمِ استخقاقِكم ، وطمَعٍ نظراً إلى سَعة رحمتِه ووفورِ فضلِه وإحسانِه { إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِين } في كل شيء ، ومن الإحسان في الدعاء أن يكون مقروناً بالخوف والطمع ، وتذكيرُ قريبٌ لأن الرحمةَ بمعنى الرحم أو لأنه صفةٌ لمحذوف أي أمرٌ قريبٌ أو على تشبيهه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول أو الذي هو مصدر كالنقيض والصهيل ، أو للفرق بين القريب من النسَب والقريب من غيره أو لاكتسابه التذكيرَ من المضاف إليه كما أن المضافَ يكتسب التأنيثَ من المضاف إليه .(2/494)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
{ وَهُوَ الذى يُرْسِلُ الرياح } عطفٌ على الجملة السابقةِ وقرىء الريحَ { بُشْرًا } تخفيف بُشُر جمعُ بشير أو مبشّرات ، وقرىء بفتح الباءِ على أنه مصدرُ بَشَره ، بمعنى باشرات أو للبِشارة ، وقرىء نُشُراً بالنون المضمومة جمع نَشور أي ناشرات ونَشْراً على أنه مصدرٌ في موقع الحال بمعنى ناشرات أو مفعولٌ مطلقٌ ، فإن الإرسالَ والنَّشرَ متقاربان { بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ } قُدّامَ رحمتِه التي هي المطرُ فإن الصَّبا تُثير السحابَ والشَّمالَ تجمعُه والجَنوبَ تدُرّه والدَّبورَ تفرّقه { حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ } أي حملت ، واشتقاقُه من القِلة فإن المُقِلَّ للشيء يستقِلّه { سَحَابًا ثِقَالاً } بالماء ، جَمَعه لأنه بمعنى السحائب { سقناه } أي السحاب ، وإفرادُ الضميرِ لإفراد اللفظ { لِبَلَدٍ مَّيّتٍ } أي لأجله ولمنفعته أو لإحيائه أو لسقيه وقرىء ميْتٍ { فَأَنزَلْنَا بِهِ الماء } أي بالبلد أو بالسحاب أو بالسَّوْق أو بالريح ، والتذكيرُ بتأويل المذكور وكذلك قوله تعالى : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ } ويحتمل أن يعود الضميرُ إلى الماء وهو الظاهرُ ، وإذا كان للبلد فالباءُ للإلصاق في الأول والظرفية في الثاني وإذا كان لغيره فهي للسببية { مِن كُلّ الثمرات } أي من كل أنواعها ( وألوانها ) { كذلك نُخْرِجُ الموتى } الإشارةُ إلى إخراج الثمراتِ أو إلى إحياء البلدِ الميتِ ، أي كما نحييه بإحداث القوةِ الناميةِ فيه وتطريتِها بأنواعِ النباتِ والثمراتِ نخرج الموتى من الأحداث ونحييها بردّ النفوسِ إلى موادّ أبدانِها بعد جَمعِها وتطريتها بالقُوى والحواسّ { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } بطرح إحدى التاءين أي تتذكرون فتعلمون أن مَنْ قدَرَ على ذلك قدَرَ على هذا من غير شبهة .
{ والبلد الطيب } أي الأرضُ الكريمةُ التربة { يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ } بمشيئته وتيسيرِه ، عبَّر عن كثرة النباتِ وحسنِه وغزارةِ نفعه لأنه أوقعه في مقابلة قولِه تعالى : { والذى خَبُثَ } من البلاد كالسبخة والحرَّة { لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا } قليلاً عديمَ النفع ، ونصبُه على الحال والتقديرُ والبلدُ الذي خبُث لا يخرُج نباتُه إلا نكِداً ، فحُذف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه فصار مرفوعاً مستتراً وقرىء لا يُخرِج إلا نكداً أي لا يخرجه البلدُ إلا نكداً فيكون إلا نكداً مفعولَه ، وقرىء نَكَداً على المصدر أي ذا نَكَدٍ ، ونَكْداً بالإسكان للتخفيف { كذلك } أي مثلَ ذلك التصريفِ البديعِ { نُصَرّفُ الايات } أي نرددها ونكررها { لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } نعمةَ الله تعالى فيتفكرون فيها ويعتبرون بها ، وهذا كما ترئ مثلٌ لإرسال الرسلِ عليهم السلام بالشرائع التي هي ماءُ حياةِ القلوبِ إلى المكلَّفين المنقسِمين إلى المقتبِسين من أنوارها والمحرومين من مغانمِ آثارِها ، وقد عُقّب ذلك بما يحققه ويقرّره من قصص الأممِ الخاليةِ بطريق الاستئناف فقيل :(2/495)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61)
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ } هو جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي والله لقد أرسلنا الخ ، واطّرادُ استعمالِ هذه اللامِ مع قد لكون مدخولِها مَظِنّةً للتوقع الذي هو معنى قد ، فإن الجملة القسَميةَ إنما تُساق لتأكيد الجملةِ المُقسَم عليها ، ونوحٌ هو ابنُ لمك بن متوشلح بن أخنوخ وهو إدريسُ النبيُّ عليهما السلام . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : بُعث عليه السلام على رأس أربعين سنةً من عمره ولبِث يدعو قومه تسعَمِائةٍ وخمسين سنةً وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنةً فكان عمرُه ألفاً ومائتين وأربعين سنة . وقال مقاتل : بعث وهو ابنُ مائةِ سنةٍ وقيل : وهو ابنُ مائتين وخمسين سنةً ومكث يدعو قومَه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمُرُه ألفاً وأربَعَمِائةٍ وخمسين سنة { فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله } أي اعبدوه وحدَه ، وتركُ التقييدِ به للإيذان بأنها العبادةُ حقيقةً ، وأما العبادةُ بالإشراك فليست من العبادة في شيء وقوله تعالى : { مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ } أي من مستحِقَ للعبادة ، استئنافٌ مَسوقٌ لتعليل العبادةِ المذكورةِ أو الأمرِ بها ، وغيرُه بالرفع صفةٌ لإله باعتبار محلِّه الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية ، وقرى بالجر باعتبار لفظه ، وقرىء بالنصب على الاسثناء وحكمُ غيرٍ حكمُ الاسمِ الواقعِ بعد إلا أي ما لكم من إله إلا إياه كقولك : ما في الدار من أحد إلا زيداً أو غيرَ زيدٍ ، فمن إله إن جعل مبتدأً فلكم خبرُه ، أو خبرُه محذوفٌ ولكم للتخصيص والتبيين أي ما لكم في الوجود أو في العالم إله غيرُ الله { إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ } أي إن لم تعبُدوه حسْبما أُمرت به { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } هو يومُ القيامة أو يومُ الطوفان ، والجملةُ تعليلٌ للعبادة ببيان الصارفِ عن تركها إثرَ تعليلِها ببيان الداعي إليها ، ووصفُ اليومِ بالعِظَم لبيان عظيمِ ما يقع فيه وتكميلِ الإنذار .
{ قَالَ الملا مِن قَوْمِهِ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من حكاية قولِه عليه الصلاة والسلام كأنه قيل : فماذا قالوا له عليه الصلاة والسلام في مقابلة نصحِه؟ فقيل : قال الرؤساءُ من قومه والأشرافُ الذين يملأون صدورَ المحافل بإجرامهم والقلوبَ بجلالهم وهيبتِهم والأبصارَ بجمالهم وأُبّهتهم { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضلال } أي ذهاب عن طريق الحقِّ والصواب ، والرؤيةُ قلبيةٌ ومفعولاها الضميرُ والظرفُ { مُّبِينٌ } بيّنٌ كونُه ضلالاً .
{ قَالَ } استئناف كما سبق { يَاقَوْمِ } ناداهم بإضافتهم إليه استمالةً لقلوبهم نحو الحق { لَيْسَ بِى ضلالة } أيُّ شيءٍ ما من الضلال ، قصد عليه الصلاة والسلام تحقيقَ الحق في نفي الضلالِ عن نفسه رداً على الكفرة حيث بالغوا في إثباته له عليه الصلاة والسلام حيث جعلوه مستقراً في الضلال الواضِحِ كونُه ضلالاً ، وقوله تعالى : { وَلَكِنّي رَسُولٌ مِن رَّبّ العالمين } استدراكٌ مما قبله باعتبار ما يستلزِمه من كونه في أقصى مراتبِ الهداية ، فإن رسالةَ ربِّ العالمين مستلزِمةٌ لا محالة ، كأنه قيل : ليس بي شيءٌ من الضلال ولكني في الغاية القاصيةِ من الهداية . ومن لابتداء الغايةِ مجازاً متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لرسولٌ مؤكدةٌ لما يفيده التنوينُ من الفخامة الذاتي بالفخامة الإضافيةِ أي رسولٌ وأيُّ رسولٍ كائنٌ من رب العالمين .(2/496)
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
{ أُبَلّغُكُمْ رسالات رَبّى } استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير رسالتِه وتفصيلِ أحكامِها وأحوالِها وقيل : صفة أخرى لرسولٌ على طريقة :
أنا الذي سمّتني أمي حيدَره ... وقرىء أبْلِغُكم من الإبلاغ ، وجمعُ الرسالاتِ لاختلاف أوقاتِها أو لتنوّع معانيها ، أو لأن المرادَ بها ما أوحيَ إليه وإلى النبيين من قبله ، وتخصيصُ ربوبيتِه تعالى به عليه الصلاة والسلام بعد بيانِ عمومِها للعالمين للإشعار بعلة الحُكمِ الذي هو تبليغُ رسالتِه تعالى إليهم فإن ربوبيتَه تعالى به عليه الصلاة والسلام من موجبات امتثالِه بأمره تعالى بتبليغ رسالتِه تعالى إليهم { وَأَنصَحُ لَكُمْ } عطفٌ على أبلّغُكم مبينٌ لكيفية أداءِ الرسالةِ ، وزيادةُ اللامِ مع تعدّي النُصحِ بنفسه للدلالة على إمحاض النصيحةِ لهم وأنها لمنفعتهم ومصلحتِهم خاصةً ، وصيغةُ المضارعِ للدِلالة على تجدد نصيحتِه لهم كما يعرف عنه قوله تعالى : { رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً ونَهَارًا } وقولُه تعالى : { وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } عطفٌ على ما قبله وتقريرٌ لرسالته عليه الصلاة والسلام ، أي أعلم من جهة الله تعالى بالوحي ما لا تعلمونه من الأمور الآتيةِ ، أو أعلم من شؤونه عز وجل وقدرتِه القاهرةِ وبطشِه الشديدِ على أعدائه وأن بأسَه يُردّ عن القوم المجرمين ما لا تعلمون . قيل : كانوا لا يسمعون بقوم حل بهم العذابُ قبلَهم فكانوا غافلين آمنين لا يعلمون ما علِمه نوحٌ عليه السلام بالوحي .
{ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ } جوابٌ ورد لمّا اكتُفيَ عن ذكره بقولهم : { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضلال مُّبِينٍ } من قولهم : { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا } وقولِهم : { لَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة } والهمزةُ للإنكار والواوُ للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلامُ كأنه قيل : استبعدتم وعجِبتم من أن جاءكم ذكرٌ أي وحيٌ أو موعظةٌ من مالك أموركم ومربّيكم { على رَجُلٍ مّنكُمْ } أي على لسان رجلٍ من جنسكم كقوله تعالى : { مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ } وقلتم لأجل ذلك ما قلتم من أن الله تعالى لو شاء لأنزل ملائكة { لِيُنذِرَكُمْ } علةٌ للمجيء أي ليحذرَكم عاقبةَ الكفر والمعاصي { وَلِتَتَّقُواْ } عطفٌ على العلة الأولى مترتبةٌ عليها { وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } عطف على العلة الثانية مترتبةٌ عليها ، أي ولتتعلق بكم الرحمةُ بسبب تقواكم . وفائدةُ حرفِ الترجّي التنبيه على عزة المطلبِ وأن التقوى غيرُ موجبةٍ للرحمة بل هي منوطةٌ بفضل الله تعالى وأن المتقيَ ينبغي أن لا يعتمد على تقواه ولا يأمنَ عذابَ الله عز وجل .
{ فَكَذَّبُوهُ } أجمعوا على تكذيبه في دعوى النبوةِ وما نزل عليه من الوحي الذي بلّغه إليهم وأنذرهم بما في تضاعيفه ، واستمرّوا على ذلك هذه المدةَ المتطاولةَ بعد ما كرر عليه الصلاة والسلام عليهم الدعوةَ مراراً ، فلم يزدهم دعاؤُه إلا فراراً حسبما نطق به قولُه تعالى : { رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً } الآيات ، إذ هو الذي يعقُبه الإنجاءُ والإغراقُ لا مجلادُ التكذيب { فأنجيناه والذين مَعَهُ } من المؤمنين ، قيل : كانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأةً وقيل : تسعةً : أبناؤُه الثلاثة وستةٌ ممّن آمن به ، وقوله تعالى : { فِى الفلك } متعلقٌ بالاستقرار في الظرف أي استقروا في الظرف ، أي استقروا معه في الفلك أو صحِبوه فيه ، أو بفعل الإنجاء أي أنجيناهم في السفينة ، ويجوز أن يتعلق بمُضْمر وقع حالاً من الموصول أو من ضميره في الظرف { وأغرقنا الذين كذَّبُوا بِآيَاتِنَا } أي استمروا على تكذيبها ، وليس المرادُ بهم الملأَ المتصدِّين للجواب فقط بل كلَّ من أصرّ على التكذيب منهم ومن أعقابهم ، وتقديمُ ذكرِ الإنجاءِ على الإغراق للمسارعة إلى الإخبار به ، والإيذانِ بسبق الرحمةِ التي هي مقتضى الذاتِ ، وتقدُّمِها على الغضب الذي يظهر أثرُه بمقتضى جرائمِهم { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ } عُمْيَ القلوبِ غيرَ مستبصرين .(2/497)
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : عمِيَتْ قلوبُهم عن معرفة التوحيد والنبوةِ والمعاد ، وقرىء عامِينَ والأولُ أدلُّ على الثبات والقرار .(2/498)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)
{ وإلى عَادٍ } متعلقٌ بمضمر معطوفٍ على قوله تعالى : { أَرْسَلْنَا } في قصة نوح عليه السلام وهو الناصبُ لقوله تعالى : { أخاهم } أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم أي واحداً منهم في النسَب لا في الدين كقولهم : يا أخا العرب ، وقيل : العاملُ فيهما الفعلُ المذكور فيما سبق وأخاهم معطوف على نوحاً والأولُ أدنى وأياً ما كان فلعل تقديمَ المجرورِ هاهنا على المفعول الصريح للحِذار عن الإضمار قبل الذكر يرشدك إلى ذلك ما سيأتي من قوله تعالى : { وَلُوطاً } الخ ، فإن قومَه لمّا لم يُعهدوا باسمٍ معروف يقتضي الحالُ ذكرَه عليه السلام مضافاً إليهم كما في قصة عادٍ وثمودَ ومدينَ خولف في النظم الكريم بين قصتِه عليه السلام وبين القصصِ الثلاثِ ، وقولُه تعالى : { هُودًا } عطفُ بيانٍ لأخاهم وهو هودُ بنُ عبدِ اللَّه بنِ رباحِ بن الخلودِ بنِ عاذِ بنِ غوصٍ بنِ إرَمَ بنِ سامِ بنِ نوحٍ عليه السلام ، وقيل : هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح بن عم أبي عاد وإنما جعل منهم لأنهم أفهمُ لكلامه وأعرفُ بحاله في صدقه وأمانتِه وأقربُ إلى اتباعه { قَالَ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من حكاية إرسالِه عليه السلام إليهم كأنه قيل : فماذا قال لهم؟ فقيل : قال : { قَالَ يَا قَومِ اعبدوا الله } أي وحده كما يُعرِب عنه قوله تعالى : { مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ } فإنه استئنافٌ جارٍ مَجرى البيانِ للعبادة المأمورِ بها . والتعليلُ لها أو للأمر بها كأنه قيل : خُصّوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئاً إذ ليس لكم إله سواه . وغيرُه بالرفع صفةٌ لإله باعتبار محلِّه ، وقرىء بالجر حملاً له على لفظه { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } إنكارٌ واستبعادٌ لعدم اتقائِهم عذابَ الله تعالى بعد ما علموا ما حل بقوم نوحٍ ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقامُ أي ألا تتفكرون أو أتغفُلون فلا تتقون ، فالتوبيخُ على المعطوفين معاً أو أتعلمون ذلك فلا تتقون فالتوبيخُ على المعطوف فقط وفي سورة هودٍ : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ولعله عليه السلام خاطبهم بكل منهما وقد اكتُفي بحكاية كلَ منهما في موطن عن حكايته في موطن آخرَ كما لم يذكر هاهنا ما ذكر هناك من قوله تعالى : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ } وقِسْ على ذلك حالَ بقيةِ ما ذُكر وما لم يُذكر من أجزاء القصةِ بل حالَ نظائرِه في سائر القصصِ لا سيما في المحاورات الجاريةِ في الأوقات المتعددة والله أعلم .(2/499)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
{ قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ } استئنافٌ كما مر وإنما وُصف الملأُ بالكفر إذْ لم يكن كلُّهم على الكفر كملأ قومِ نوحٍ بل كان منهم من آمن به عليه السلام ولكن كان يكتُم إيمانَه كمرثد بن سعد ، وقيل : وُصفوا به لمجرد الذم { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ } أي متمكناً في خِفّة عقلٍ راسخاً فيها حيث فارقتَ دينَ آبائِك ، ألا إنهم هم السفهاءُ ولكن لا يعلمون { وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين } أي فيما ادعيْتَ من الرسالة ، قالوه لعراقتهم في التقليد وحِرمانِهم من النظر الصحيح { قَالَ } مستعطفاً لهم ومستميلاً لقلوبهم مع ما سمع منهم ما سمع من الكلمة الشنعاءِ الموجبةِ لتغليظ القولِ والمشافهةِ بالسوء { ياقوم لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ } أي شيءٌ منها ولا شائبةٌ من شوائبها { وَلَكِنّي رَسُولٌ مِن رَّبّ العالمين } استدراكٌ مما قبله باعتبار ما يستلزمه ويقتضيه من كونه في الغاية القصوى من الرُّشد والأناةِ والصدقِ والأمانة ، فإن الرسالةَ من جهة ربِّ العالمين موجبةٌ لذلك حتماً ، كأنه قيل : ليس بي شيءٌ مما نسبتموني إليه ولكني في غاية ما يكون الرشدُ والصِّدقُ . ولم يصرِّحْ بنفي الكذِب اكتفاءً بما في حيز الاستدراك . و ( من ) لابتداء الغايةِ مجازاً متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لرسولٌ مؤكدةً لما أفاده التنوينُ من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ، وقولُه تعالى : { أُبَلّغُكُمْ رسالات رَبّى } استئنافٌ سيق لتقرير رسالتِه وتفصيلِ أحوالِها ، وقيل : صقةٌ أخرى لرسولٌ والكلامُ في إضافة الربِّ إلى نفسه عليه السلام بعد إضافته إلى العالمين وكذا في جمع الرسالاتِ كالذي مر في قصة نوحٍ عليه السلام ، وقرىء أُبْلِغُكم من الإبلاغ { وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } معروفٌ بالنصح والأمانةِ مشهورٌ بين الناس بذلك ، وإنما جيء بالجملة الاسميةِ دِلالةً على الثبات والاستمرار وإيذاناً بأن من هذا حالُه لا يحوم حولَه شائبةُ السفاهةِ والكذب .
{ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ } الكلامُ فيه كالذي مر في قصة نوح عليه السلام { على رَجُلٍ مّنكُمْ } أي من جنسكم { لِيُنذِرَكُمْ } ويحذرَكم عاقبةَ ما أنتم عليه من الكفر والمعاصي حتى نسبتموني إلى السفاهة والكذبِ ، وفي إجابة الأنبياءِ صلواتُ الله وسلامُه عليهم أجمعين من يشافِهُهم بما لا خير فيه من أمثال تلك الأباطيلِ بما حُكيَ عنهم من المقالات الحقة المعربة عن نهاية الحلم والرزانة وكمالِ الشفقةِ والرأفة ، من الدلالة على حيازتهم القدحَ المُعلَّى من مكارم الأخلاق ما لا يخفى مكانُه .
{ واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء } شروعٌ في بيان ترتيبِ أحكامِ النصح والأمانةِ والإنذارِ وتفصيلِها ، وإذ منصوبٌ باذكروا على المفعولية دون الظرفية ، وتوجيهُ الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات للمبالغة في إيجاب ذكرِها لما أن إيجابَ ذكرِ الوقت إيجابٌ لذكر ما فيه بالطريق البرهاني ، ولأن الوقتَ مشتملٌ عليها ، فإذا استُحضر كانت هي حاشرةً بتفاصيلها كأنها مشاهَدةٌ عياناً ، ولعله معطوفٌ على مقدر كأنه قيل : لا تعجبوا من ذلك أو تدبروا في أمركم واذكروا وقتَ جعْلِه تعالى إياكم خلفاءَ { مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } أي في مساكنهم أو الأرض بأن جعلكم ملوكاً ، فإن شدادَ بنَ عاد ممن ملك معمورةَ الأرضِ من رمل عالِجٍ إلى شجر عمان { وَزَادَكُمْ فِى الخلق } أي في الإبداع والتصوير أو في الناس { بَسْطَةً } قامةً وقوةً فإنه لم يكن في زمانهم مثلُهم في عِظَم الأجرام ، قال الكلبي والسدي كانت قامةُ الطويلِ منهم مائةَ ذراعٍ وقامةُ القصير ستين ذراعاً { فاذكروا ءالآء الله } التي أنعم بها الله عليكم من فنون النَّعماءِ التي هذه من جملتها .(2/500)
وهذا تكريرٌ للتذكير لزيادة التقرير ، وتعميمٌ إثرَ تخصيص { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } كي يؤديَكم ذلك إلى الشكر المؤدّي إلى النجاة من الكروب والفوزِ بالمطلوب .(3/1)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
{ قَالُواْ } مجيبين عن تلك النصائحِ العظيمة { أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ } أي لنخُصّه بالعبادة { وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا } أنكروا عليه عليه السلام مجيئَه لتخصيصه تعالى بالعبادة والإعراضِ عن عبادة الأوثان انهماكاً في التقليد وحباً لما ألِفوه وألِفوا أسلافَهم عليه . ومعنى المجيء إما مجيئُه عليه السلام مِنْ مُتَعَبَّده ومنزلِه وإما من السماء على التهكم وإما القصدُ والتصدّي مجازاً كما يقال في مقابلِه : ذهب يشتمني من غير إرادةِ معنى الذهاب { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } من العذاب المدلولِ عليه بقوله تعالى : { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } أي في الإخبار بنزول العذابِ ، وجوابُ ( إن ) محذوفٌ لدلالة المذكورِ عليه أي فائتِ به .
{ قال قد وقع عليكم } أي وجب وحق أو نزل بإصراركم هذا بناءً على تنزيل المتوقَّع منزلةَ الواقعِ كما في قوله تعالى : { أتى أمرُ الله } { من ربكم } أي من جهته تعالى . وتقديمُ الظرف الأولِ على الثاني مع أن مبدأ الشيءِ متقدمٌ على منتهاه للمسارعة إلى بيان إصابةِ المكروهِ لهم ، وكذا تقديمُه على الفاعل الذي هو قوله تعالى : { رجس } مع ما فيه من التشويق إلى المؤخّر ، ولأن فيه نوعَ طولٍ بما عُطف عليه من قوله تعالى : { وغضبٌ } فربما يُخِل تقديمُها بتجاوب النظمِ الكريم ، والرجسُ العذابُ من الارتجاس الذي هو الاضطرابُ ، والغضب إرادةُ الانتقامِ ، وتنوينُهما للتفخيم والتهويل { أتجادلونني في أسماء } عاريةٍ عن المسمى { سميتموها } أي سميتم بها { أنتم وآباؤكم } إنكارٌ ( واستقباح ) لإنكارهم مجيئَه عليه السلام داعياً لهم إلى عبادة الله تعالى وحده وتركِ عبادةِ الأصنام أي أتجادلونني في أشياءَ سمَّيتموها آلهةً ليست هي إلا محضُ الأسماءِ من غير أن يكون فيها من مصداق الإلهية شيءٌ ما لأن المستحِقَّ ببمعبودية بالذات ليس إلا من أوجد الكلَّ وأنها لو استحقت لكان ذلك بجعله تعالى إما بإنزال آيةٍ أو نصبِ حُجةٍ وكلاهما مستحيلٌ ، وذلك قوله تعالى : { ما نزل الله بها من سلطان } وإذ ليس ذلك في حيز الإمكانِ تحققَ بُطلانُ ما هم عليه { فانتظروا } مترتبٌ على قوله تعالى : { قد وقع عليكم } أي فانتظروا ما تطلُبونه بقولكم : فائتنا بما تعدنا ، الخ { إني معكم من المنتظرين } لما يَحِلُّ بكم . والفاء في قوله تعالى :(3/2)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
{ فأنجيناه } فصيحةٌ كما في قوله تعالى : { فانفجرت } أي فوقع ما وقع فأنجيناه { والذين معه } أي في الدين { برحمة } أي عظيمةٍ لا يقادَر قدرُها ، وقوله تعالى : { منا } أي من جهتنا متعلقٌ بمحذوف هو نعتٌ لرحمةٍ مؤكِّدٌ لفخامتها الذاتية المنفهمةِ من تنكيرها بالفخامة الإضافية { وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا } أي استأصلْنا بالكلية ودمرناهم عن آخرهم { وما كانوا مؤمنين } عطفٌ على كذبوا داخلٌ معه في حكم الصلةِ ، أي أصرّوا على الكفر والتكذيبِ ولم يرعووا عن ذلك أبداً ، وتقديمُ حكايةِ الإنجاءِ على حكاية الإهلاكِ قد مر سرُّه ، وفيه تنبيهٌ على أن مناطَ النجاةِ هو الإيمانُ بالله تعالى وتصديقُ آياتِه كما أن مدارَ البوارِ هو الكفرُ والتكذيب . وقصتُهم أن عاداً قومٌ كانوا باليمن بالأحقاف ، وكانوا قد تبسّطوا في البلاد ما بين عُمان إلى حضْرَمَوتَ ، وكانت لهم أصنامٌ يعبُدونها صداً وصمود والهبا فبعث الله تعالى إليهم هوداً نبياً وكان من أوسطهم وأفضلهم حسباً فكذبوه وازدادوا عُتوّاً وتجبّراً فأمسك الله عنهم القطرَ ثلاثَ سنينَ حتى جهَدوا وكان الناس إذا نزل بهم بلاءٌ طلبوا إلى الله الفرجَ منه عند بيتِه الحرامِ مسلِمُهم ومشركُهم ، وأهلُ مكةَ ( كانوا ) إذ ذاك العماليقَ أولادَ عمليقَ بنِ لاوذَ بنِ سامِ بنِ نوح وسيدُهم معاويةُ بنُ بكرٍ فجهزّت عادٌ إلى مكة من أماثلهم سبعين رجلاً منهم قيلُ بنُ عنز ومَرثدُ بن سعد الذي كان يكتُم إسلامَه فلما قدِموا نزلوا على معاويةَ بنِ بكر وهو بظاهر مكة خارجاً عن الحرم فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخوالَه وأصهارَه فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمرَ وتغنّيهم قينتا معاوية فلما رأى طولَ مقامِهم وذهولَهم باللهو عما قدموا له أهمّه ذلك وقال : قد هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء على ما هم عليه وكان يستحيي أن يكلمهم خشيةَ أن يظنوا به ثِقَلَ مُقامهم عليه فذكر ذلك للقينتين فقالتا : قل شعراً نغنيهم به لا يدرون مَنْ قاله ، فقال معاوية :
ألا يا قِيلُ ويحكَ قم فهينِم ... لعل الله يسقينا غماما
فيسقي أرضَ عادٍ إن عادا ... قَدَ أمسَوْا لا يُبِينون الكلاما
فلما غنتا به قال : إن قومَكم يتغوّثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخُلوا الحرَم واستسقوا لقومكم فقال لهم مرثدُ بن سعد : والله لا تُسقَون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم إلى الله تعالى سُقِيتم وأظهر إسلامَه فقالوا لمعاوية : احبِس عنا مرثداً لا يقدَمَن معنا فإنه قد اتبع دينَ هود وترك ديننا ثم دخلوا مكة فقال قيلُ : اللهم اسقِ عاداً ما كنت تسقيهم فأنشأ الله تعالى سحاباتٍ ثلاثاً : بيضاءَ وحمراءَ وسوداءَ ثم ناداه منادٍ من السماء : يا قيلُ اختر لنفسك ولقومك فقال : اخترت السوداءَ فإنها أكثرُهن ماءً فخرجت على عاد من واد يقال له : المغيث فاستبشَروا بها وقالوا : هذا عارضٌ مُمطرُنا فجاءتهم منها ريحٌ عقيمٌ فأهلكتهم ونجا هودٌ والمؤمنون معه فأتَوا مكةَ فعبدوا الله تعالى فيها إلى أن ماتوا .(3/3)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
{ وإلى ثمودَ أخاهم صالحاً } عطف على ما سبق من قوله تعالى : { وإلى عاد أخاهم هوداً } موافقٌ له في تقديم المجرورِ على المنصوب ، وثمودُ قبيلةٌ من العرب سُمُّوا باسم أبيهم الأكبرِ ثمودَ بنِ عابرِ بن إرَمَ بنِ سام بنِ نوحٍ عليه السلام وقيل : إنما سُمُّوا بذلك لقلة مائِهم من الثمْدُ وهو الماء القليل ، وقرىء بالصرف بتأويل الحيّ وكانت مساكنُهم الحِجْرَ بين الحجاز والشام إلى وادي القُرى وإخوةُ صالح عليه السلام لهم من حيث النسبُ كهودٍ عليه السلام فإنه صالحُ بنُ عبيد بنِ أسف بنِ ماسحِ بن عبيد بن حاذر بن ثمود ، ولما كان الإخبارُ بإرساله عليه السلام إليهم مَظِنةً لأن يُسأل ويقال : فماذا قال لهم؟ قيل جواباً عنه بطريق الاستئناف { قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } وقد مر الكلامُ في نظائره { قد جاءتكم بينة } أي آيةٌ ومعجزةٌ ظاهرة شاهدةٌ بنبوّتي ، وهي من الألفاظِ الجاريةِ مجرى الأبطحِ والأبرق في الاستغناء عن ذكر موصوفاتِها حالةَ الإفراد ، والجمع كالصالح إفراداً وجمعاً وكذلك الحسنةُ والسيئة سواءٌ كانتا صفتين للأعمال أو المثوبة أو الحالة من الرخاء والشدة ، ولذلك أوُلِيَت العوامل وقوله تعالى : { من ربكم } متعلّقٌ بجاءتكم أو بمحذوف هو صفةٌ لبينةٌ كما مر مراراً ، والمرادُ بها الناقةُ وليس هذا الكلام منه عليه السلام أولَ ما خاطبهم إثرَ دعوتِهم إلى التوحيد ، بل إنما قاله بعد ما نصحهم وذكّرهم بنعم الله تعالى فلم يقبلوا كلامَه وكذبوه ، ألا يُرى إلى ما في سورة هود من قوله تعالى : { هو أنشأكم من الأرض واستعْمَركم فيها } إلى آخر الآيات . روي أنه لما أُهلكت عادٌ عَمَرت ثمودُ بلادَها وخلفوهم في الأرض وكثُروا وعُمِّروا أعماراً طِوالاً حتى إن الرجلَ كان يبني المسكن المُحْكَم فينهدمُ في حياته فنحتوا البيوتَ من الجبال وكانوا في سعة ورخاءٍ من العيش فعتَوْا على الله تعالى وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأوثانَ فبعث الله تعالى إليهم صالحاً وكانوا قوماً عرباً وصالحٌ من أوسطهم نسباً ، فدعاهم إلى الله عز وجل فلم يتبعْه إلا قليلٌ منهم مستضعَفون فحذرهم وأنذرهم فسألوه آية فقال : أيةَ آيةٍ تريدون؟ قالوا : تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلومٍ لهم من السنة فتدعو إلهك وندعو آلهتنا فإن استُجيب لنا اتبعتَنا فقال صالح عليه السلام : نعم ، فخرج معهم ودعَوْا أوثانَهم وسألوا الإجابة فلم تُجبْهم ثم قال سيدهم جندعُ بن عمرو وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لها الكاثبة : أخرِجْ لنا من هذه الصخرةِ ناقةً مخترِجةً جوفاءَ وبراءً ، والمخترِجةُ التي شاكلت البُخْت ، فإن فعلت صدقناك وأجبناك فأخذ صالح عليه السلام عليهم المواثيق : لئن فعلتُ ذلك لتؤمِنُن ولتُصدِّقُنّ قالوا : نعم ، فصلى ودعا ربه فتمخّضت الصخرةُ تمخّض النَتوجِ بولدها فانصدعت عن ناقة عُشَراءَ جوفاء وبراءٍ كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى ، وعظماؤهم ينظرون ثم نُتِجت ولداً مثلَها في العِظَم ، فآمن به جُندع ورهطٌ من قومه ومنع أعقابَهم ناسٌ من رؤوسهم أن يؤمنوا فمَكثت الناقةُ مع ولدها ترعى الشجرَ وتشرب الماءَ وكانت ترِدُ غِباً ، فإذا كان يومُها وضَعتْ رأسَها في البئر فما ترفعها حتى تشربَ كلَّ ما فيها ثم تتفحج فيحتلبون ما شاؤوا حتى تمتلىء أوانيهم فيشربون ويدّخرون وكانت إذا وقع الحرُّ تصيّفت بظهر الوادي فيهرب منها أنعامُها فتهبِط إلى بطنه ، وإذا وقع البردُ تشتت بطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره ، فشق ذلك عليهم وزيَّنَت عَقرَها لهم امرأتانِ عنيزةُ أمُّ غنم وصدفةُ بنتُ المختار لِما أضرَّت به من مواشيهما وكانتا كثيرتي المواشي فعقروها واقتسموا لحمها وطبخوه فانطلق سَقْبُها حتى رقيَ جبلاً اسمُه قارةُ فرَغا ثلاثاً وكان صالح عليه السلام قال لهم : أدركوا الفصيلَ عسى أن يرفع عنكم العذابَ فلم يقدروا عليه فانفجت الصخررُ بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح : تُصبحون غداً ووجوهُكم مصفّرة ، وبعد غد ووجوهُكم محمرةٌ واليوم الثالث ووجوهكم مُسودة ثم يصبّحكم العذاب فلما رأوا العلاماتِ طلبوا أن يقتُلوه فأنجاه الله تعالى إلى أرض فلَسطينَ ، ولما كان اليومُ الرابع وارتفع الضحى تحنّطوا بالصبر وتكفنوا بالأنْطاع فأتتهم صيحةٌ من السماء ورجفةٌ من الأرض فتقطّعت قلوبُهم فهلكوا وقوله تعالى : { هذه ناقة الله لكم آية } استئنافٌ مسوقٌ لبيان البينة وإضافةُ الناقةِ إلى الاسم الجليلِ لتعظيمها ولمجيئها من جهته تعالى بلا أسباب معهودةٍ ووسائطَ معتادة ولذلك كانت آيةً وأيَّ آية ، ولكم بيانٌ لمن هي آيةٌ له ، وانتصابُ آيةً على الحالية والعاملُ فيها معنى الإشارة ، ويجوز أن يكون ( ناقةُ الله ) بدلاً من هذه أو عطفَ بيانٍ له أو مبتدأ ثانياً ، ولكم خبراً عاملاً في آية { فذروها } تفريعٌ على كونها آيةً من آيات الله تعالى فإن ذلك مما يوجب عدم التعرّضِ لها { تأكل في أرض الله } جوابُ الأمر أي الناقةُ ناقةُ الله والأرضُ أرضُ الله تعالى فاتركوها تأكلْ ما تأكلُ في أرض ربِّها فليس لكم أن تحولوا بينها وبينها .(3/4)
وقرىء تأكلُ بالرفع على أنه في موضع الحالِ أي آكلةً فيها ، وعدمُ التعرض للشرب إما للاكتفاء عنه بذكر الأكلِ أو لتعميمه له أيضاً كما في قوله :
علفتُها تِبْناً وماءً بارداً ... وقد ذكرتُ ذلك في قوله تعالى : { لها شِرْبٌ ولكم شربُ يومٍ معلوم } { ولا تمسوها بسوء } نُهي عن المس الذي هو مقدمةُ الإصابةِ بالشرّ الشامل لأنواع الأذيةِ ونُكِّر السوءُ مبالغةً في النهي ، أي لا تتعرضوا لها بشيء مما يسوؤها أصلاً ولا تطرُدوها ولا تُريبوها إكراماً لآية الله { فيأخذكم عذاب أليم } جوابٌ للنهي . ويُروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحِجر في غزوة تبوك قال لأصحابه : « لا يدخُلنّ أحدٌ منكم القريةَ ولا تشربوا من مائها ولا تدخُلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبَكم مثلُ الذي أصابهم » وقال عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه : « يا علي أتدري من أشقى الأولين؟ » قال : الله ورسولُه أعلم ، قال : « عاقرُ ناقةِ صالح ، أتدري من أشقى الآخِرين؟ » قال : الله ورسولُه أعلم ، قال « قاتلُك . »(3/5)
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
{ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد } أي خلفاءَ في الأرض أو خلَفاً لهم كما مر { وبوأكم في الأرض } أي جعل لكم مَباءةً ومنزلاً في أرض الحِجْر بين الحجازِ والشام { تتخذون من سهولها قصوراً } استئنافٌ مبينٌ لكيفية التبوِئةِ أي تبنون في سهولها قصوراً رفيعةً أو تبنون من سهولة الأرض بما تعملون منها من الرِهْص واللِبن والآجُرّ { وتنحِتون الجبال } أي الصخورَ وقرىء تنحَتون بفتح الحاء وتنحاتون بإشباع الفتحة كما في قوله :
ينباعُ من ذِفْرَى أسيلٍ حرّةٍ ... والنحتُ نجْرُ الشيءِ الصُّلب ، فانتصابُ الجبالِ على المفعولية وانتصابُ قوله تعالى : { بيوتاً } على أنها حالٌ مقدرةٌ منها كما تقول : خِطْتُ هذا الثوبَ قميصاً ، وقيل : انتصابُ الجبالِ على إسقاط الجار أي من الجبال وانتصابُ بيوتاً على المفعولية ، وقد جوّز أن يُضمَّن النحتُ معنى الاتخاذِ فانتصابُهما على المفعولية ، وقيل : كانوا يسكُنون السهولَ في الصيف والجبالَ في الشتاء { فاذكروا آلاء الله } التي أنعم بها عليكم مما ذكر أو جميعَ آلائِه التي هذه من جملتها { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } فإن حقَّ آلائِه تعالى أن تُشكَرَ ولا تُهملَ ولا يُغْفلَ عنها فكيف بالكفر والعِثيِّ في الأرض بالفساد .(3/6)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)
{ قال الملأ الذين استكبروا من قومه } أي عتَوْا وتكبروا ، استئنافٌ كما سلف وقرىء بالواو عطفاً على ما قبله من قوله تعالى : { يا قوم } الخ ، واللامُ في قوله تعالى : { للذين استضعفوا } للتبليغ وقوله تعالى : { لمن آمن منهم } بدلٌ من الموصول بإعادة العاملِ بدلَ الكلِّ إن كان ضميرُ منهم لقومه ، وبدلَ البعضِ إن كان للذين استُضعفوا على أن مِن المستضعفين مَنْ لم يؤمن ، والأولُ هو الوجهُ ، إذ لا داعيَ إلى توجيه الخطابِ أولاً إلى جميع المستضعفين مع أن المجاوبةَ مع المؤمنين منهم على أن الاستضعافَ مختصٌّ بالمؤمنين ، أي قالوا للمؤمنين الذين استَضْعفوهم واسترذلوهم : { أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه } وإنما قالوه بطريق الاستهزاءِ بهم { قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون } عدَلوا عن الجواب الموافِقِ لسؤالهم بأن يقولوا : نعم أو نعلم أنه مرسلٌ منه تعالى مسارعةً إلى تحقيق الحقِّ وإظهارِ ما لهم من الإيمان الثابتِ المستمرِّ الذي تنبىء عنه الجملةُ الاسميةُ وتنبيهاً على أن أمرَ إرسالِه من الظهور بحيث لا ينبغي أن يُسألَ عنه ، وإنما الحقيقُ بالسؤال عنه هو الإيمانُ به { قال الذين استكبروا } أعيد الموصولُ مع صلته مع كفاية الضميرِ إيذاناً بأنهم قد قالوا ما قالوه بطريق العتُوِّ والاستكبار { إنا بالذي آمنتم به كافرون } وإنما لم يقولوا : إنا بما أرسل به كافرون إظهاراً لمخالفتهم إياهم ورداً لمقالتهم { فعقروا الناقة } أي نحروها ، أُسند العقرُ إلى الكل مع أن المباشِرَ بعضُهم للملابسة أن لأن ذلك لما كان برضاهم فكأنه فَعلَه كلُّهم ، وفيه من تهويل الأمرِ وتفظيعِه بحيث أصابت غائلتُه الكلَّ ما لا يخفى { وعتوا عن أمر ربهم } أي استكبروا عن امتثاله وهو ما بلّغهم صالح عليه السلام من الأمر والنهي .
{ وقالوا } مخاطِبين له عليه السلام بطريق التعجيزِ والإفحامِ على زعمهم { يا صالح ائتنا بما تعدنا } أي من العذاب ، والإطلاقُ للعلم به قطعاً { إن كنت من المرسلين } فإن كونَك من جملتهم يستدعي صدقَ ما تقول من الوعد والوعيد .(3/7)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)
{ فأخذتهم الرجفة } أي الزلزلةُ لكن لا إثرَ ما قالوا بعد ما جرى عليهم من مبادىء العذابِ في الأيام الثلاثةِ حسبما مر تفصيلُه { فأصبحوا في دارهم } أي صاروا في أرضهم وبلدِهم أو في مساكنهم { جاثمين } خامدين موتى لا حَراكَ بهم ، وأصلُ الجثومِ البروكُ ، يقال : الناسُ جثومٌ أي قعود لا حَراك بهم ولا ينبِسون نبْسةً ، قال أبو عبيدة : الجثومُ للناس والطير ، والبروكُ للإبل ، والمرادُ كونُهم كذلك عند ابتداءِ نزولِ العذابِ بهم من غير اضطرابٍ ولا حركة كما يكون عند الموت المعتاد ، ولا يخفى ما فيه من شدة الأخذِ وسرعةِ البطش .
اللهم إنا بك نعوذ من نزول سخطِك وحُلولِ غضبِك . وجاثمين خبرٌ لأصبحوا والظرفُ متعلقٌ به ، ولا مساغ لكونه خبراً وجاثمين حالاً لإفضائه إلى كون الإخبارِ بكونهم في دارهم مقصوداً بالذات وكونِهم جاثمين قيداً تابعاً له غيرَ مقصودٍ بالذات . قيل : حيث ذُكرت الرجفةُ وُحِّدت الدارُ ، وحيث ذُكرت الصيحةُ جمعت لأن الصيحةَ كانت من السماء فبلوغُها أكثرُ وأبلغُ من الزلزلة فقُرن كلٌّ منهما بما هو أليقُ به { فتولى عنهم } إثرَ ما شاهد ما جرى عليهم تولى مغتماً متحسّراً على ما فاتهم من الإيمان متحزناً عليهم { وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم } بالترغيب والترهيبِ وبذلتُ فيكم وُسْعي ولكن لم تقبلوا مني ذلك وصيغةُ المضارع في قوله تعالى : { ولكن لا تحبون الناصحين } حكايةُ حالٍ ماضيةٍ أي شأنُكم الاستمرارُ على بغض الناصحين وعدامتِهم ، خاطبهم عليه الصلاة والسلام بذلك خطابَ رسولِ الله عليه الصلاة والسلام أهلَ قلَيبِ بدرٍ حيث قال : « إنا وجدْنا ما وعدنا ربُّنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ » وقيل : إنما تولى عنهم قبل نزولِ العذاب بهم عند مشاهدتِه عليه الصلاة والسلام لعلاماته تولى ذاهباً عنهم منكراً لإصرارهم على ما هم عليه . وروي أن عَقرَهم الناقةَ كان يوم الأربِعَاءِ ونزل بهم العذابُ يوم السبت ، وروي أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخانَ ساطعاً فعلم أنهم قد هلَكوا وكانوا ألفاً وخمسَمائةِ دارٍ ، وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارَهم .
{ ولوطاً } منصوبٌ بفعل مضمر على ما سبق ، وعدمُ التعرُّضِ للمرسل إليهم مقدماً على المنصوب حسبما وقع فيما سبق وما لحِق قد مر بيانُه في قصة هودٍ عليه السلام ، وهو لوطُ بنُ هارانَ بن تارح بنُ أخي إبراهيمَ كان من أرض بابلَ من العراق مع عمه إبراهيمَ فهاجر إلى الشام فنزل فلسطينَ وأنزل لوطاً الأردُنّ وهي كورةٌ بالشام فأرسله الله تعالى إلى أهل سَدومَ وهي بلدٌ بحِمْصَ ، وقوله تعالى : { إذ قال لقومه } ظرفٌ للمضمر المذكورِ أي أرسلنا لوطاً إلى قومه وقت قولِه لهم الخ ، ولعل تقييدَ إرسالِه عليه السلام بذلك لما أن إرسالَه إليهم لم يكن في أول وصولِه إليهم ، وقيل : هو بدلٌ من لوطاً بدلَ اشتمالٍ على أن انتصابَه باذكر ، أي اذكرْ وقتَ قولِه عليه السلام لقومه : { أتأتون الفاحشة } بطريق الإنكارِ التوبيخيِّ التقريعيِّ أي أتفعلون تلك الفعلةَ المتناهيةَ في القبح المتماديةِ في الشرية والسوء { ما سبقكم بها } ما عمِلها قبلكم على أن الباء للتعدية كما في قوله تعالى : { من أحد } مزيدةٌ لتأكيد النفي وإفادةِ معنى الاستغراقِ ، وفي قوله تعالى : { من العالمين } للتبعيض ، والجملةُ مستأنفةٌ مسوقة لتأكيد النكيرِ وتشديدِ التوبيخِ والتقريعِ ، فإن مباشرةَ القبيحِ قبيحٌ واختراعَه أقبحُ ، ولقد أنكر الله تعالى عليهم أولاً إتيانَ الفاحشةِ ثم وبخهم بأنهم أولُ من عمِلها فإن سبكَ النظمِ الكريمِ وإن كان على نفي كونِهم مسبوقين من غير تعرّضٍ لكونهم سابقين ، لكن المرادَ أنهم سابقون لكل مَنْ عداهم من العالمين كما مر تحقيقه مراراً في نحو قوله تعالى :(3/8)
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً } أو مسوقةٌ جواباً عن سؤال مقدر كأنه قيل من جهتهم : لم لا نأتيها؟ فقيل بياناً للعلة وإظهاراً للزاجر : ما سبقكم بها أحدٌ لغاية قُبْحِها وسوءِ سبيلها فكيف تفعلونها؟ قال عمرو بن دينار : ما نزَا ذكرٌ على ذكر حتى كان قومُ لوط . قال محمد بنُ إسحاق : كانت لهم ثمارٌ وقُرى لم يكن في الدنيا مثلُها فقصدهم الناسُ فآذَوْهم فعرض لهم إبليسُ في صورة شيخٍ فقال : إن فعلتم بهم كذا وكذا نجَوْتم منهم فأبَوْا فلما ألحّ الناسُ عليهم قصدوهم فأصابوا غِلْماناً صِباحاً فأخبثوا فاستحكم فيهم ذلك ، قال الحسن : كانوا لا يفعلون ذلك إلا بالغرباء ، وقال الكلبي : أول من فُعل به ذلك الفعلُ إبليسُ الخبيثُ حيث تمثل لهم في صورة شابٍ جميل فدعاهم إلى نفسه ثم عبثوا بذلك العمل .(3/9)
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
{ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال } خبرٌ مستأنفٌ لبيان تلك الفاحشةِ وقرىء بهمزتين صريحتين وبتليين الثانيةِ بغير مدَ وبمد أيضاً على أنه تأكيدٌ للإنكار السابقِ وتشديدٍ للتوبيخ ، وفي زيادة إنّ واللامِ مزيدُ توبيخٍ وتقريعٍ ، وكان ذلك أمرٌ لا يتحقق صدورُه عن أحد فيؤكد تأكيداً قوياً ، وفي إيراد لفظِ الرجالِ دون الغِلمان والمُرْدان ونحوِهما مبالغةً في التوبيخ وقوله تعالى : { شَهْوَةً } مفعول له أو مصدرٌ في موقع الحالِ ، وفي التقييد بها وصفُهم بالبهيمية الصِّرْفة وتنبيهٌ على أنّ العاقلَ ينبغي له أن يكون الداعيَ له المباشرَ طلبُ الولد وبقاءُ النوعِ لا قضاءُ الشهوةِ . ويجوز أن يكون المرادُ الإنكارَ عليهم وتقريعَهم على اشتهائهم تلك الفعلةَ الخبيثةَ المكروهة كما ينبىء عنه قوله تعالى : { مّن دُونِ النساء } أي متجاوزين النساءَ اللاتي هن محلُّ الاشتهاء كما ينبىء عنه قوله تعالى : { هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } إضرابٌ عن الإنكار المذكورِ إلى الإخبار بحالهم التي أفضَتْهم إلى ارتكاب أمثالِها وهي اعتيادُ الإسرافِ في كل شيءٍ أو عن الإنكار عليها إلى الذم على جميع معايبِهم ، أو عن محذوف أي لا عذرَ لكم فيه بل أنتم قومٌ عادتُكم الإسراف .
{ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } أي المستكبرين منهم المتولين للأمر والنهي المتصدِّين للعقد والحل وقوله تعالى : { إِلاَّ أَن قَالُواْ } استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأشياء أي ما كان جواباً من جهة قومِه شيءٌ من الأشياء إلا قولُهم أي لبعضهم الآخرين المباشِرين للأمور معرضين عن مخاطبته عليه السلام { أَخْرِجُوهُم } أي لوطاً ومن معه من أهله المؤمنين { مّن قَرْيَتِكُمْ } أي إلا هذا القولُ الذي يستحيل أن يكون جواباً لكلام لوطٍ عليه السلام . وقرىء برفع جواب على أنه اسمُ كان و ( إلا أن قالوا ) الخ ، خبرُها وهو أظهرُ وإن كان الأولُ أقوى في الصناعة لأن الأعرفَ أحقُّ بالاسمية .
وأياً ما كان فليس المرادُ أنه لم يصدُرْ عنهم بصدد الجوابِ عن مقالات لوطٍ عليه السلام ومَواعظِه إلا هذه المقالةُ الباطلةُ كما هو المتسارعُ إلى الإفهام بل أنه لم يصدُرْ عنهم في المرة الأخيرة من مرات المحاورات الجارية بينهم وبينه عليه السلام إلا هذه الكلمةُ الشنيعةُ ، وإلا فقد صدر عنهم قبل ذلك كثيرٌ من التُرَّهات حسبما حُكي عنهم في سائر السورِ الكريمة وهذا هو الوجهُ في نظائره الواردةِ بطريق القصر ، وقوله تعالى : { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } تعليلٌ للأمر بالإخراج ، ووصفُهم بالتطهر للاستهزاء والسخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش والخبائث والافتخارِ بما هم فيه من القذارة كما هو ديدنُ الشُطّار والدُعّار .(3/10)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
{ فأنجيناه وَأَهْلَهُ } أي المؤمنين منهم { إِلاَّ امرأته } استثناءٌ من أهله فإنها كانت تُسِرّ بالكفر { كَانَتْ مِنَ الغابرين } أي الباقين في ديارهم الهالِكين فيها ، والتذكيرُ للتغليب ولبيان استحقاقِها لما يستحقه المباشِرون للفاحشة ، والجملةُ استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال نشأ عن استثنائها من حكم الإنجاءِ ، كأنه قيل : فماذا كان حالُها؟ فقيل : كانت من الغابرين { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا } أي نوعاً من المطر عجيباً وقد بينه قوله تعالى : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ } قال أبو عبيدة : مُطر في الرحمة وأُمطِر في العذاب . وقال الراغب : مُطر في الخير وأُمطر في العذاب ، والصحيح أن أَمطَرنا بمعنى أرسلنا عليهم إرسالَ المطر . قيل : كانت المؤتَفِكةُ خمسَ مدائن ، وقيل : كانوا أربعةَ آلافٍ بين الشام والمدينة فأمطر الله عليهم الكِبريتَ والنارَ ، وقيل : خَسَف بالمقيمين منهم وأُمطرت الحجارةُ على مسافريهم وشُذّاذهم ، وقيل : أُمطر عليهم ثم خُسِف بهم . ورُوي أن تاجراً منهم كان في الحرَم فوقف الحجرُ له أربعين يوماً حتى قضى تجارتَه وخرج من الحرم فوقع عليه ، وروي أن امرأتَه التفتت نحوَ ديارِها فأصابها حَجَرٌ فماتت { فانظر كَيْفَ كَانَتْ عاقبة المجرمين } خطابٌ لكل من يتأتى منه التأملُ والنظرُ تعجيباً من حالهم وتحذيراً من أعمالهم .
{ وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً } عطفٌ على قوله : { وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا } وما عُطف عليه ، وقد روعيَ هاهنا ما في المعطوف عليه في تقديم المجرورِ على المنصوب ، أي وأرسلنا إليهم وهم أولادُ مدينَ بنِ إبراهيمَ عليه السلام وشعيبُ بنُ ميكائيلَ بنِ يشجَر بنِ مدينَ ، وقيل : شعيبُ بنُ ثويبِ بنِ مدينَ ، وقيل : شعيبُ بنُ يثرونَ بنِ مدينَ ، وكان يقال له : خطيبُ الأنبياء لحسن مراجعتِه قومَه وكانوا أهلَ بخسٍ للمكاييل والموازين مع كفرهم { قَالَ } استئنافٌ مبنيٌ على سؤال نشأ عن حكاية إرسالِه إليهم كأنه قيل : فماذا قال لهم؟ فقيل : قال : { فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ } مر تفسيرُه مراراً { قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ } أي معجزةٌ وقوله تعالى : { مّن رَّبّكُمْ } متعلقٌ بجاءتْكم أو بمحذوف هو صلةٌ لفاعله مؤكدةٌ لفخامته الذاتيةِ المستفادةِ من تنكيره بفخامته الإضافيةِ ، أي بينةٌ عظيمةٌ ظاهرةٌ كائنةٌ من ربكم ومالِك أمورِكم ولم يُذكرْ معجزتُه عليه السلام في القرآن العظيم كما لم يُذكر أكثرُ معجزاتِ النبي صلى الله عليه وسلم فمنها ما روي من محاربة عصا موسى عليه السلام التّنّينَ حين دفع إليه غنمَه ومنها ولادةُ الغنمِ الدرعَ خاصة حين وعد أن يكون له الدرعُ من أولادها ، ومنها وقوعُ عصا آدمَ عليه السلام على يده في المرات السبعِ لأن كلَّ ذلك كان قبل أن يُستنبأ موسى عليه السلام . وقيل : البينةُ مجيئُه عليه السلام كما في قوله تعالى : { قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى }(3/11)
أي حجةٌ واضحةٌ وبرهانٌ نيِّرٌ ، عبّر بهما عما آتاه الله من النبوة والحكمة { فَأَوْفُواْ الكيل } أي المكيالَ كما وقع في سورة هودٍ ويؤيده قولُه تعالى : { والميزان } فإن المتبادرَ منه الآلةُ وإن جاز كونُه مصدراً كالمعيار وقيل : آلةَ الكيل والوزن على الإضمار ، والفاءُ لترتيب الأمرِ على مجيء البينةِ ويجوز أن تكون عاطفةً على اعبدوا فإن عبادةَ الله تعالى موجبةٌ للاجتناب عن المناهي التي معظمُها بعد الكفرِ البخْسِ الذي كانوا يباشرونه { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ } التي تشترونها بهما معتمدين على تمامهما أيَّ شيءٍ كان وأيَّ مقدارٍ كان ، فإنهم كانوا يبخسون الجليلَ والحقيرَ والقليلَ والكثيرَ ، وقيل : كانوا مكّاسين لا يدَعون شيئاً إلا مكَسوه ، قال زهير :
أفي كل أسواقِ العراقِ إِتاوة ... وفي كل ما باع امرؤٌ مَكْسُ درهمِ
{ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الارض } أي بالكفر والحيف { بَعْدَ إصلاحها } بعد ما أصلح أمرَها وأهلَها الأنبياءُ وأتابعُهم بإجراء الشرائعِ ، أو أصلحوا فيها وإضافتُه إليها كإضافة مكرِ الليلِ والنهار { ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ } إشارةٌ إلى العمل بما أمرَهم به ونهاهم عنه ، ومعنى الخيريةِ إما الزيادةُ مطلقاً أو في الإنسانية وحسنِ الأُحدوثة وما يطلُبونه من التكسب والربح لأن الناسَ إذا عرفوهم بالأمانة رغِبوا في معاملتهم ومُتاجَرَتِهم { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي مصدّقين لي في قولي هذا .(3/12)
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
{ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ } أي بكل طريقٍ من طرق الدِّين كالشيطان . وصراطُ الحقِّ وإن كان واحداً لكنه يتشعب إلى معارفَ وحدودٍ وأحكامٍ وكانوا إذا رأَوْا أحداً يشرَع في شيء منها منعوه . وقيل : كانوا يجلِسون على المراصد فيقولون لمن يريد شعيباً إنه كذابٌ لا يفتنَنَّك عن دينك ويتوعّدون لمن آمن به وقيل : يقطعون الطريق { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } أي السبيلِ الذي قعَدوا عليه فوقع المُظهرُ موقعَ المضمرِ بياناً لكل صراطٍ ودلالةً على عِظم ما يصدون عنه وتقبيحاً لما كانوا عليه ، أو الإيمانِ بالله أو بكل صراط على أنه عبارة عن طرق الدين وقوله تعالى : { مَنْ ءامَنَ بِهِ } مفعول تصدون على إعمال الأقربِ ، ولو كان مفعولَ توعِدون لقيل : وتصُدونهم ، وتوعِدون حالٌ من الضمير في تقعدوا { وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا } أي وتطلبون لسبيل الله عوجاً بإلقاء الشُبَهِ أو بوصفها للناس بأنها مُعْوجةٌ وهي أبعدُ شيءٍ من شائبة الاعوجاج .
{ واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ } بالبركة في النسل والماء { وانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين } من الأمم الماضيةِ كقوم نوحٍ ومَنْ بعدهم من عاد وثمودَ وأضرابِهم واعتبِروا بهم .(3/13)
وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)
{ وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مّنكُمْ ءامَنُواْ بالذى أُرْسِلْتُ بِهِ } من الشرائع والأحكام { وَطَائِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ } أي به أو لم يفعلوا الإيمان { فاصبروا حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا } أي بين الفريقين بنصر المُحقّين على المبطلين فهو وعدٌ للمؤمنين ووعيدٌ للكافرين { وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } إذ لا معقِّبَ لحكمه ولا حَيْفَ فيه .
{ قَالَ الملا الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ } استئنافٌ مبنيٌ على سؤال ينساق إليه المقالُ كأنه قيل : فماذا قالوا بعد ما سمعوا هذه المواعظَ من شعيبٍ عليه السلام؟ فقل : قال أشرافُ قومِه المستكبرون متطاولين عليه عليه السلام غيرَ مكتفِين بمجرد الاستعصاءِ عليه والامتناعِ من الطاعة له بل بالغين من العُتوّ والاستكبارِ إلى أن قصَدوا استتباعَه عليه السلام فيما هم فيه وأتباعَه المؤمنين واجترأوا على إكراههم عليه بوعيد النفي وخاطبوه بذلك على طريقة التوكيدِ القسمي : { لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين ءامَنُواْ } بنسبة الإخراجِ إليه عليه السلام أولاً وإلى المؤمنين ثانياً بعطفهم عليه تنبيهاً على أصالته عليه السلام في الإخراج وتبعيتِهم له فيه كما ينبىء عنه قوله تعالى : { مَعَكَ } فإنه متعلقٌ بالإخراج لا بالإيمان وتوسيطُ النداءِ باسمه العَلَميِّ بين المعطوفَين لزيادة التقريرِ والتهديدِ الناشئةِ من غاية الوقاحةِ والطغيان ، أي والله لنُخرجنّك وأتباعَك { مِن قَرْيَتِنَا } بغضاً لكم ودفعاً لفتنتكم المترتبةِ على المساكنة والجِوارِ ، وقوله تعالى : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا } عطفٌ على جواب القسم ، أي والله ليكونن أحدُ الأمرين البتة ، على أن المقصِدَ الأصليَّ هو العَوْدُ ، وإنما ذُكر النفيُ والإجلاءُ لمحض القسر والإلجاءِ كما يُفصِحُ عنه عدمُ تعرُّضِه عليه السلام لجواب الإخراجِ كأنهم قالوا : لا ندعكم فيما بيننا حتى تدخُلوا في ملتنا ، وإدخالُهم له عليه السلام في خطاب العَوْدِ مع استحالة كونِه عليه السلام في ملتهم قبل ذلك إنما هو بطريق تغليبِ الجماعةِ على الواحد وإنما لم يقولوا : أو لنُعيدنّكم على طريقة ما قبله لِما أن مُرادَهم أن يعودوا إليها بصورة الطواعيةِ حِذارَ الإخراجِ باختيار أهونِ الشرَّين لا إعادتُهم بسائر وجوهِ الإكراهِ والتعذيب .
{ قَالَ } استئنافٌ كما سبق أي قال عليه السلام رداً لمقالتهم الباطلةِ وتكذيباً لهم في أَيْمانهم الفاجرة : { أَوْ لَوْ كُنَّا كارهين } على أن الهمزةَ لإنكار الوقوعِ ونفيِه لا لإنكار الواقعِ واستقباحِه كالتي في قوله تعالى : { أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ } ويجوز أن يكون الاستفهامُ فيه باقياً على حاله وقد مر مراراً أن كلمةَ لو في مثل هذا المقامِ ليست لبيان انتفاءِ الشيءِ في الزمن الماضي لانتفاء غيرِه فيه فلا يلاحظ لها جوابٌ قد حذف تعويلاً على دِلالة ما قبلها عليه ملاحظةً قصديةً إلا عند القصدِ إلى بيان الإعرابِ على القواعد الصناعيةِ بل هي لبيان تحققِ ما يفيده الكلامُ السابقُ بالذات أو بالواسطة من الحُكم الموجَب أو المنفي على كل حال مفروضٍ من الأحوال المقارنةِ له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدِّها منافاةً له ليظهر بثبوته أو انتفائِه معه ثبوتُه أو انتفاؤُه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولويةِ لِما أن الشيءَ متى تحقق مع المنافي القويِّ فلأَن يتحققَ مع غيره أولى ولذلك لا يُذكرُ معه شيءٌ من سائر الأحوال ويُكتفى عنه بذكر الواو العاطفةِ للجملة على نظيرتها المقابلةِ لها الشاملةِ لجميع الأحوالِ المغايرةِ لها عند تعدّدِها ، وهذا معنى قولِهم : إنها لاستقصاء الأحوالِ على سبيل الإجمالِ ، وهذا المعنى ظاهرٌ في الخبر الموجَبِ والمنفيِّ والأمرِ والنهي كما في قولك : فلانٌ جوادٌ يعطي ولو كان فقيراً أو بخيلٌ لا يعطي ولو كان غنياً ، وكقولك : أحسنْ إليه ولو أساء إليك ولا تُهِنْه ولو أهانك لبقائه على حاله سالماً عما يغيّره ، وأما فيما نحنُ فيه ففية نوعُ خفاءٍ لتغيّره بورود الإنكارِ عليه ، لكن الأصلَ في الكل واحدٌ إلا أن كلمةَ لو في الصور المذكورةِ متعلقةٌ بنفس الفعل المذكورِ قبلها وأن ما يُقصد بيانُ تحققِه على كل حال هو نفسُ مدلولِه وأن الجملةَ حالٌ من ضميره أو مما يتعلق به وأن ما في حيز لو مقرّرٌ على ما هو عليه من الاستبعاد ، بخلاف ما نحن فيه ، لما أن كلمةَ لو متعلقةٌ فيه بفعل مقدرٍ يقتضيه المذكورُ وأن ما يُقصد بيانُ تحققِه على كل حال هو مدلولُه لا مدلولُ المذكورِ وأن الجملةَ حالٌ من ضميره لا من ضمير المذكورِ كما سيأتي أو المقصودُ الأصلي إنكارُ مدلولِه من حيث مقارنتُه للحالة المذكورةِ ، وأما تقديرُ مقارنته لغيرها فلتوسيع الدائرةِ وأن ما في حيز ( لو ) لا يقصد استبعادُه في نفسه بل يقصد الإشعارُ بأنه أمرٌ مقرّرٌ إلا أنه أُخرج مُخرَجَ الاستبعادِ مبالغةً في الإنكار من جهة أن العودَ مما يُنكر عند كونِ الكراهةِ أمراً مستعداً فكيف به عند كونِها أمراً محققاً ومعاملةً مع المخاطَبين على معتقدَهم لاستنزالهم من رتبة العِناد؟ وليس المرادُ بالكراهة مجردَ كراهةِ المؤمنين للعود في ملة الكفرِ ابتداءً حتى يقال إنها معلومةٌ لهم فكيف تكون مستبعدةً عندهم بل إنما هي كراهتُهم له بعد وعيدِ الإخراجِ الذي جُعل قريناً للقتل في قوله تعالى :(3/14)
{ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا } الآية ، فإنهم كانوا يستبعدونها ويطمَعون في أنهم حينئذ يختارون العَوْدَ خشيةَ الإخراجِ ، إذ رُب مكروهٍ يُختار عند حلولِ ما هو أشدُّ منه وأفظعُ ، والتقديرُ : أنعودُ فيها لو لم نكن كارهين ولو كنا كارهين غيرَ مبالين بالإكراه؟ فالجملةُ في محل النصب على الحالية من ضمير الفعل المقدرِ حسبما أُشير إليه ، إذ مآلُه : أنعود فيها حالَ عدمِ الكراهةِ ، وحالُ الكراهةِ إنكارٌ لما تفيده كلمتُهم الشنيعةُ بإطلاقها من العَوْد على أي حالة كانت ، غيرَ أنه اكتُفِيَ بذكر الحالة الثانيةِ التي هي أشدُّ الأحوالِ منافاةً للعود وأكثرُها بُعداً منه تنبيهاً على أنها هي الواقعةُ في نفس الأمر ، وثقةً بإغنائها عن ذكر الأولى إغناءً واضحاً لأن العودَ الذي تعلق به الإنكارُ حين تحققَ مع الكراهة على ما يوجبه كلامُهم فلأن يتحققَ مع عدمها أولى .(3/15)
إن قلتَ : النفيُ المستفادُ من الاستفهام الإنكاريّ فيما نحن فيه بمنزلة صريحِ النفي ولا ريب في أن الأولويةَ هناك معتبرةٌ بالنسبة إلى النفي ، ألا يُرى أن الأولى بالتحقق فيما ذُكر من مثال النفي عند الحالةِ المسكوتِ عنها أعني عدمَ الغِنى هو عدمُ الإعطاءِ لا نفسُه فكان ينبغي أن يكون الأولى بالتحقيق فيما نحن فيه عند عدمِ الكراهةِ عدمُ العَوْدِ لا نفسُه ، إذ هو الذي يدل عليه قولُنا : أنعود؟ لأنه في معنى لا نعود ، فلمَ اختلف الحالُ بينهما؟ قلتُ : لِما أن مناطَ الأولويةِ هو الحكمُ الذي أريد بيانُ تحققِه على كل حالٍ وذلك في مثال النفي عدمُ الإعطاءِ المستفادِ من الفعل المنفي المذكور ، وأما فيما نحن فيه فهو نفسُ العودِ المستفادِ من الفعل المقدرِ إذ هو الذي يقتضيه الكلامُ السابقُ أعني قولَهم : ( لتعودُن ) وأما الاستفهامُ فخارجٌ عنه واردٌ عليه لإبطال ما يفيده ونفيِ ما يقتضيه لا أنه من تمامه كما في صورة النفي ، وتوضيحُه أن بين النفيين فرقاً معنوياً تختلف به أحكامُهما التي من جملتها ما ذُكر من اعتبار الأولوية في أحدهما بالنسبة إلى نفسه ، وفي الآخر بالنسبة إلى متعلَّقه ولذلك لا تستقيم إقامةُ أحدِهما مُقامَ الآخَر على وجه الكلية ، ألا يُرى أنك لو قلت مكانَ أنعود فيها الخ ، لا نعود فيها ولو كنا كارهين لاختلَّ المعنى اختلالاً فاحشاً ، لأن مدلولَ الأولِ نفيُ العَوْد المقيدِ بحال الكراهة ومدلولَ الثاني تقييدُ العودِ المنفيِّ بها وذلك لأن حرفَ النفي يباشر نفسَ الفعلِ وينفيه ، وما يُذكر بعده يرجِعُ إليه من حيث هو منفيٌّ . وأما همزةُ الاستفهامِ فإنها تباشر الفعلَ بعد تقيُّدِه بما بعده ، لما أن دِلالتَها على الإنكار والنفي ليست بدلالة وضعيةٍ كدِلالة حرفِ النفي حتى يتعلقَ معناها بنفس الفعلِ الذي يليها ، ويكونَ ما بعده راجعاً إليه من حيث هو منفيٌّ ، بل هي دِلالةٌ عقليةٌ مستفادةٌ من سياق الكلامِ فلا بد أن يكون ما يُذكر بعد الفعلِ من موانعه ودواعي إنكارِه ونفيِه حتماً ليكون قرينةً صارفةً للهمزة عن حقيقتها إلى معنى الإنكارِ والنفي ، ثم لما كان المقصودُ نفيَ الحُكم على كل حال مع الاقتصار على ذكر بعضٍ منها مغنٍ عن ذكر ما عداها لاستلزام تحقّقِه معه تحققه مع غيره بطريق الأولوية وكانت حالُ الكراهةِ عند كونها قيداً لنفس العَوْدِ كذلك أي مغنياً عن ذكر سائرِ الأحوالِ ضرورة أن تحققَ العَوْدِ في حال الكراهةِ مستلزِمٌ لتحققه في حال عدمِها البتةَ ، وعند كونِها قيداً لنفيه بخلاف ذلك أي غيرُ مغنٍ عن ذكر غيرِها ضرورة أن نفيَ العودِ في حال الكراهةِ لا يستلزم بقية في غيرهابل الأمرُ بالعكس فإن نفيَه في حال الإرادةِ مستلزمٌ لنفيه في حال الكراهةِ قطعاً .(3/16)
استقام الأول لإفادته نفيَ العودِ في الحالتين مع الاقتصار على ذِكْر ما هو مغنٍ عن ذكر الآخر ، ولم يستقم الثاني لعدم إفادتِه إياه على الوجه المذكور . إن قيل : فما وجهُ استقامتِهما جميعاً عند ذكرِ المعطوفَيْن معاً حيث يصِحّ أن يقال : لا نعودُ فيها لو لم نكن كارهين ولو كنا كارهين كما يصح أن يقال : أنعودُ فيها لو لم نكن كارهين ولو كنا كارهين مع أن المقدّر في حكم الملفوظِ قلنا : وجهُها أن كلاًّ منهما يفيد معنىً صحيحاً في نفسه لا أن معنى أحدِهما عينُ معنى الآخر أو متلازمان متفقانِ في جميع الأحكام ، كيف لا ومدلولُ الأولِ أن العودَ منتفٍ في الحالتين ومدلولُ الثاني أن العودَ في الحالتين منتفٍ وكلا المعنيين صحيحٌ في نفسه مصحِّحٌ لنفي العَوْدِ في الحالتين مع الاقتصار على ذكر حالة الكراهة على عكس المعنى الأول فإنه مصحِّحٌ لنفيه فيهما مع الاقتصار على ذكر حالةِ الإرادة .(3/17)
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
{ قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا } أي كذباً عظيماً لا يُقادَر قدرُه { إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ } التي هي الشركُ ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدِلالة ما قبله عليه أي إن عدنا في ملتكم { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } فقد افترينا على الله كذباً عظيماً حيث نزعُم حينئذ أن لله تعالى نِداً وليس كمثله شيءٌ وأنه قد تبين لنا أن ما كنا عليه من الإسلام باطلٌ وأن ما كنتم عليه من الكفر حقٌّ وأيُّ افتراءٍ أعظمُ من ذلك؟ وقيل : إنه جوابُ قسمٍ حذف عنه اللامُ تقديره والله لقد افترينا الخ { وَمَا يَكُونُ لَنَا } أي وما يصِحّ وما يستقيم لنا { أَن نَّعُودَ فِيهَا } في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات { إِلاَّ أَن يَشَاء الله } أي إلا حالَ مشيئةِ الله تعالى أي وقتَ مشيئتِه تعالى لعَوْدنا فيها وذلك مما لا يكاد يكون كما ينبىء عنه قوله تعالى : { رَبَّنَا } فإن التعرضَ لعنوان ربوبيتِه تعالى لهم مما ينبىء عن استحالة مشيئتِه تعالى لارتدادهم قطعاً وكذا قوله تعالى : { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } فإن تنجيتَه تعالى لهم منها من دلائل عدمِ مشيئتِه لعَودِهم فيها وقيل : معناه إلا أن يشاء الله خِذلانَنا . وقيل : فيه دليلٌ على أن الكفرَ بمشيئته تعالى وأياً ما كان فليس المرادُ بذلك بيانَ أن العودَ فيها في حيز الإمكانِ وخطرِ الوقوعِ بناءً على كون مشيئتِه تعالى كذلك بل بيانُ استحالةِ وقوعِها كأنه قيل : وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربُّنا وهيهاتَ ذلك بدليل ما ذُكر من موجبات عدم مشيئتِه تعالى له { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا } فهو محيطٌ بكل ما كان وما سيكون من الأشياء التي من جملتها أحوالُ عبادِه وعزائمُهم ونياتُهم وما هو اللائقُ بكل واحدٍ منهم فمُحالٌ من لطفه أن يشاء عَودَنا فيها بعد ما نجانا منها مع اعتصامنا به خاصةً حسبما ينطِق به قوله تعالى : { عَلَى الله تَوَكَّلْنَا } أي في أن يثبتَنا على ما نحن عليه من الإيمان ويُتمَّ علينا نعمتَه بإنجائنا من الإشراك بالكلية ، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ للمبالغة في التضرع والجُؤار ، وقوله تعالى : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق } إعراضٌ عن مقاولتهم إثرَ ما ظهر له عليه الصلاة والسلام أنهم من العتو والعِناد بحيث لا يُتصور منهم الإيمانُ أصلاً ، وإقبالٌ على الله تعالى بالدعاء لفصل ما بينه وبينهم بما يليق بحال كلَ من الفريقين أي احكم بيننا بالحق ، والفَتاحَةُ الحكومة ، أو أظهرْ أمرنا حتى ينكشِفَ ما بيننا وبينهم ويتميز المُحقُّ من المبطِل من فتَحَ المُشكلَ إذا بيّنه { وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله على المعنيين .(3/18)
وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)
{ وَقَالَ الملا الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ } عطفٌ على قال الملأ الذين الخ ، ولعل هؤلاء غيرُ المستكبرين ودونهم في الرتبة شأنُهم الوساطةُ بينهم وبين العامةِ والقيامُ بأمورهم حسبما يراه المستكبرون ، ويجوز أن يكون عينَ الأولين ، وتغييرُ الصلةِ لما أن مدارَ قولِهم هذا هو الكفرُ كما أن مناطَ قولِهم السابقِ هو الاستكبارُ أي قال أشرافُهم الذين أصروا على الكفر لأعقابهم بعد ما شاهدوا صلابةَ شعيبٍ عليه السلام ومن معه من المؤمنين في الإيمان وخافوا أن يستتبعوا قومَهم تثبيطاً لهم عن الإيمان به وتنفيراً لهم عنه على طريقة التوكيدِ القسَمي والله { لَئِنِ اتبعتم شُعَيْبًا } ودخلتم في دينه وتركتم دينَ آبائِكم { إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون } أي في الدين لاشترائكم الضلالةَ بهداكم أو في الدنيا لفوات ما يحصُل لكم بالبخْس والتطفيف ، وإذن حرفُ جوابٍ وجزاء معترِضٌ بين اسم إن وخبرِها والجملةُ سادةٌ مسدَّ جوابي الشرطِ والقسمِ الذي وطَّأَتْه اللام .(3/19)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)
{ فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } أي الزلزلة وهكذا في سورة العنكبوت وفي سورة هود : { وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } أي صيحةُ جبريلَ عليه السلام ، ولعلها من مبادىء الرجفةِ فأُسند هلاكُهم إلى السبب القريبِ تارةً وإلى البعد أخرى { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ } أي في مدينتهم وفي سورة هودٍ في ديارهم { جاثمين } أي ميّتين لازمين لأماكنهم لا بَراحَ لهم منها { الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا } استئنافٌ لبيان ابتلائِهم بشؤم قولِهم فيما سبق : { لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين ءامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا } وعقوبتِهم بمقابلته ، والموصولُ مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى : { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } أي استُؤصِلوا بالمرة وصاروا كأنهم لم يقيموا بقريتهم أصلاً أي عوقبوا بقولهم ذلك وصاروا هم المُخرَجين من القرية إخراجاً لا دخولَ بعده أبداً وقوله تعالى : { الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الخاسرين } استئنافٌ آخرُ لبيان ابتلائِهم بعقوبة قولِهم الأخيرِ ، وإعادةُ الموصولِ والصلةِ كما هي لزيادة التقريرِ والإيذانِ بأن ما ذكر في حيز الصلةِ هو الذي استوجب العقوبتين أي الذين كذبوه عليه السلام عوقبوا بمقالتهم الأخيرة فصاروا هم الخاسرين للدنيا والدين لا المتبعون له عليه الصلاة والسلام ، وبهذا القصر اكتُفي عن التصريح بإنجائه عليه الصلاة والسلام كما وقع في سورة هود من قوله تعالى : { وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ } الخ .
{ فتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياقوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ } قاله عليه الصلاة والسلام بعد ما هلكوا تأسفاً بهم لشدة حزنِه عليهم ثم أنكر على نفسه ذلك فقال : { فَكَيْفَ ءاسى } أحزن حزناً شديداً { على قَوْمٍ كافرين } أي مُصِرِّين على الكفر ليسوا أهلَ حزنٍ لاستحقاقهم ما نزل عليهم بكفرهم ، أو قاله اعتذاراً عن عدم شدة حزنِه عليهم ، والمعنى لقد بالغتُ في الإبلاغ والإنذار وبذلتُ وُسعي في النصح والإشفاقِ فلم تُصدِّقوا قولي فكيف آسى عليكم وقرىء إيسى بإمالتين .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ } إشارةٌ إجمالية إلى بيان أحوالِ سائرِ الأمم إثرَ بيان أحوالِ الأممِ المذكورة تفصيلاً ، ومِنْ مزيدةٌ لتأكيد النفي والصفةُ محذوفةٌ أي من نبي كُذِّب أو كذَّبه أهلُها { إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا } استثناءٌ مفرغٌ من أعم الأحوالِ ، وأخذنا في محل النصب من فاعل أرسلنا والفعلُ الماضي لا يقع بعد إلا بأحد شرطين إما تقديرِ قد كما في هذه الآية أو مقارَنةِ قد ، كما في قولك : ما زيد إلا قد قام والتقديرُ وما أرسلنا في قرية من القرى المُهلَكة نبياً من الأنبياء في حال من الأحوال إلا حالَ كونِنا آخذين أهلَها { بالبأساء } بالبؤس والفقرِ { والضراء } بالضُّرّ والمرض ، لكن لا على معنى أن ابتداءَ الإرسالِ مقارِنٌ للأخذ المذكورِ بل على أنه مستتبِعٌ له غيرُ منفكَ عنه بالآخرة لاستكبارهم عن اتباع نبيِّهم وتعزُّزِهم عليه حسبما فعلت الأممُ المذكورة { لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } كي يتضرعوا ويتذللوا ويحُطّوا أرديةَ الكِبْر والعزةِ عن أكتفاهم كقوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فأخذناهم بالبأساء والضراء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ }(3/20)
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)
ثُمَّ بَدَّلْنَا } عطفٌ على أخذنا داخلٌ في حكمه { مَكَانَ السيئة } التي أصابتهم للغاية المذكورةِ { الحسنة } أي أعطيناهم بدلَ ما كانوا فيه من البلاء والمحنةِ الرخاءَ والسعةَ كقوله تعالى : { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } { حتى عَفَواْ } أي كثُروا عَدداً وعُدداً من عفا النباتُ إذا كثر وتكاثف وأبطرتْهم النعمة { وَقَالُواْ } غيرَ واقفين على أن ما أصابهم من الأمرين ابتلاءٌ من الله سبحانه { قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا الضراء والسراء } كما مسّنا ذلك ، وما هو إلا من عادة الدهرِ يعاقِب في الناس بين الضراءِ والسراء من غير أن يكون هناك داعيةٌ تؤدي إليهما أو تِبعةٌ تترتب عليهما ، ولعل تأخيرَ السراءِ للإشعار بأنها تعقُب الضراءَ فلا ضيرَ فيها { فأخذناهم } إثرَ ذلك { بَغْتَةً } فجأةً أشدَّ الأخذِ وأفظعَه { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } بذلك ولا يُخطِرُ ببالهم شيئاً من المكاره كقوله تعالى : { حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ } الآية ، وليس المرادُ بالأخذ بغتةً إهلاكَهم طرفة عينٍ كإهلاك عادٍ وقومِ لوطٍ بل ما يعُمّه وما يمضي بين الأخذ وإتمام الإهلاكِ أياماً كدأب ثمود .
{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى } أي القرى المُهلَكة المدلولَ عليها بقوله تعالى : { فِى قَرْيَةٍ } وقيل : هي مكةُ وما حولها من القُرى المنتظمةِ لما ذكر هاهنا انتظاماً أولياً { ءامَنُواْ } بما أوحيَ إلى أنبيائهم معتبِرين بما جرى عليهم من الابتلاء بالضراء والسراء { واتقوا } أي الكفرَ والمعاصيَ أو اتقَوْا ما أُنذروا به على ألسنة الأنبياءِ ولم يُصِرّوا على ما فعلوا من القبائح ولم يحمِلوا ابتلأَ الله تعالى على عادات الدهر وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : وحَّدوا الله واتقَوا الشر { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء والارض } لوسّعنا عليهم الخيرَ ويسّرناه لهم من كل جانبٍ مكانَ ما أصابهم من فنون العقوباتِ التي بعضُها من السماء وبعضُها من الأرض . وقيل : المرادُ المطرُ والنباتُ وقرىء لفتّحنا بالتشديد للتكثير { ولكن كَذَّبُواْ } أي ولكن لم يؤمنوا ولم يتقوا وقد اكتُفي بذكر الأولِ لاستلزامه للثاني { فأخذناهم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من أنواع الكفرِ والمعاصي التي من جملتها قولُهم : قد مس آباءَنا الخ ، وهذا الأخذُ عبارةٌ عما في قوله تعالى : { فأخذناهم بَغْتَةً } لا عن الجدب والقَحطِ كما قيل فإنهما قد زالا بتبديل الحسنةِ مكانَ السيئة .
{ أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى } أي أهلُ القرى المذكورةِ ، على وضع المُظهرِ موضِعَ المُضمر للإيذان بأن مدارَ التوبيخِ أمْنُ كلِّ طائفةٍ ما أتاهم من البأس لا أمنُ مجموعِ الأمم ، فإن كلَّ طائفةٍ منهم أصابهم بأسٌ خاصٌّ بهم لا يتعداهم إلى غيرهم كما سيأتي ، والهمزةُ لإنكار الواقعِ واستقباحِه لا لإنكار الوقوعِ ونفيِه كما قاله أبو شامةَ وغيرُه لقوله تعالى : { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون } والفاءُ للعطف على أخذناهم وما بينهما اعتراضٌ توسّط بينهما للمسارعة إلى بيان أن الأخذَ المذكورَ مما كسبتْه أيديهم والمعنى أبعدَ ذلك الأخذِ أمِنَ أهلُ القرى { أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بياتا } أي تبييتاً أو وقتَ بياتٍ أي مَبيتاً أو مبيتين وهو في الأصل مصدرٌ بمعنى البيتوتة ويجيء بمعنى التبييتِ كالسلام بمعنى التسليم { وَهُمْ نَائِمُونَ } حالٌ من ضميرهم البارزِ أو المستترِ في بياتاً .(3/21)
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
{ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى } إنكارٌ بعد إنكارٍ للمبالغة في التوبيخ والتشديدِ ولذلك لم يقل : أفأمن أهلُ القرى أي يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون أو ضحىً وهم يلعبون ، وقرىء أوْ بسكون الواوِ على الترديد { أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى } أي ضحوةَ النهارِ وهو في الأصل ضوءُ الشمسِ إذا ارتفعت { وَهُمْ يَلْعَبُونَ } أي يلهُون من فرط الغفلةِ أو يشتغلون بما لا ينفعهم كأنهم يلعبون { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله } تكريرٌ للنكير لزيادة التقريرِ ، ومكرُ الله تعالى استعارةٌ لاستدراجه العبدَ وأخذِه من حيث لا يحتسب ، والمرادُ به إتيانُ بأسِه تعالى في الوقتين المذكورين ولذلك عُطف الأولُ والثالثُ بالفاء فالإنكارُ فيهما متوجهٌ إلى ترتب الأمنِ على الأخذ المذكور ، وأما الثاني فمن تتمة الأولِ { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون } أي الذين خسِروا أنفسَهم وأضاعوا فطرةَ الله التي فطرَ الناسَ عليها والاستعدادَ القريبَ المستفادَ من النظر في الآيات { أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الارض مِن بَعْدِ أَهْلِهَا } أي يخلُفون مَنْ خلا قبلهم من الأمم المُهلَكة ويرثون ديارَهم والمرادُ بهم أهلُ مكةَ ومَنْ حولها ، وتعديةُ فعل الهداية باللام إما لتنزيلها منزلةَ اللازم كأنه قيل : أغفلَوا ولم يُغفل الهداية لهم؟ الخ ، وإما لأنها بمعنى التبيينِ والمفعولُ محذوفٌ والفاعلُ على التقديرين هو الجملةُ الشرطية أي أوَ لمْ يبيَّن لهم مآلُ أمرِهم { أَن لَّوْ نَشَاء أصبناهم بِذُنُوبِهِمْ } أي أن الشأنَ لو نشاء أصبْناهم بجزاء ذنوبِهم أو بسبب ذنوبِهم كما أصبنا مَنْ قبلهم وقرىء نَهدِ بنون العظمة فالجملة مفعولُه { وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ } عطفٌ على ما يُفهم من قوله تعالى : { أَوَ لَمْ يَهْدِ } كأنه قيل : لا يهتدون أو يغفُلون عن الهداية أو عن التفكر والتأمل ، أو منقطعٌ عنه بمعنى ونحن نطبع ولا يجوز عطفُه على أصبناهم على أنه بمعنى طبعنا لإفضائه إلى نفي الطبْعِ عنهم لأنه في سياق جوابِ لو { فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } أي أخبارَ الأممِ المهلَكة فضلاً عن التدبر والنظرِ فيها والاغتنامِ بما في تضاعيفها من الهداية .(3/22)
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)
{ تِلْكَ القرى } جملةٌ مستأنفةٌ جاريةٌ مجرى الفذلكةِ لما قبلها من القِصص منبئةٌ عن غاية غَوايةِ الأممِ المذكورة وتماديهم فيها بعد ما أتتهم الرسلُ بالمعجزات الباهرة ، وتلك إشارةٌ إلى قرى الأمم المُهلَكة على أن اللامَ للعهد وهو مبتدأٌ وقوله تعالى : { نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا } خبرُه ، وصيغة المضارع للإيذان بعدم انقضاءِ القصة بعد ، ومِنْ للتبعيض ، أي بعضُ أخبارها التي فيها عظةٌ وتذكيرٌ .
وقيل : تلك مبتدأ والقرى خبرُه وما بعده حالٌ أو خبرٌ بعد خبرٍ عند من يجوز كون الخبر الثاني جملةً كما في قوله تعالى : { فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى } وتصديرُ الكلام بذكر القرى وإضافةُ الأنباء إليها مع أن المقصوصَ أنباءُ أهلِها والمقصودُ بيانُ أحوالهم حسبما يُعرب عنه قوله تعالى : { وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } لما أن حكايةَ هلاكِهم بالمرة على وجه الاستئصالِ بحيث يشمل أماكنَهم أيضاً بالخسف بها والرجفةِ وبقائِها خاويةً معطلةً أهولُ وأفظعُ . والباء في قوله تعالى : { بالبينات } متعلقةٌ إما بالفعل المذكور على أنها للتعدية وإما بمحذوف وقع حالاً من فاعله أي ملتبسين بالبينات لكن لا بأن يأتيَ كلُّ رسولٍ ببينة واحدة بل ببينات كثيرة خاصةٍ به معينةٍ حسبَ اقتضاءِ الحكمة ، فإن مراعاة انقسامِ الآحاد إنما هي فيما بين الرسل وضميرِ الأممِ ، والجملةُ مستأنفةٌ مبينةٌ لكمال عُتوِّهم وعنادِهم أي وبالله لقد جاء كلَّ أمةٍ من تلك الأممِ المُهلَكة رسولُهم الخاصُّ بهم بالمعجزات البيّنةِ المتكثرة المتواردةِ عليهم الواضحةِ الدِلالةِ على صحة رسالتِه الموجبةِ للإيمان حتماً ، وقوله تعالى : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } بيانٌ لاستمرار عدمِ إيمانِهم في الزمان الماضي لا لعدم استمرارِ إيمانِهم ، وترتيبُ حالتِهم هذه على مجيء الرسلِ بالبينات بالفاء لما أن الاستمرارَ على فعل من الأفعال بعد ورودِ ما يوجب الإقلاعَ عنه وإن كان استمراراً على فعل من الأفعال بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان عليه في الحقيقة لكنه بحسب العنوانِ فعلٌ جديدٌ وصنعٌ حادثٌ نحوُ وعظتُه فلم ينزجِرْ ودعوتُه فلم يُجب ، واللامُ لتأكيد النفي أي فما صح وما استقام لقوم من أولئك الأقوامِ في وقت من الأوقات أن يؤمنوا بكل ، وكان ذلك ممتنعاً منهم إلى أنْ لَقوُا ما لقوُا لغاية عتوِّهم وشدةِ شكيمتِهم في الكفر والطغيانِ ، ثم إن كان المحكيُ عنهم آخرَ حالِ كلِّ قومغ منهم فالمرادُ بعدم إيمانِهم المذكور هاهنا إصرارُهم على ذلك بعد اللتيا والتي وبما أشير إليه بقوله تعالى : { بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ } تكذيبُهم من لدن مجيءِ الرسل إلى وقت الإصرارِ والعناد ، وإنما لم يُجعل ذلك مقصوداً بالذات كالأول بل جُعل صلةً للموصول إيذاناً بأنه بيّنٌ بنفسه ، وإنما المحتاجُ إلى البيان عدمُ إيمانِهم بعد تواترِ البينات الظاهرةِ وتظاهُر المعجزاتِ الباهرةِ التي كانت تَضْطرُّهم إلى القَبول لو كانوا من أصحاب العقولِ ، والموصولُ الذي تعلق به الإيمانُ والتكذيبُ سلباً وإيجاباً عبارةٌ عن جميع الشرائعِ التي جاء بها كلُّ رسولٍ أصولِها وفروعِها ، وإن كان المحكيُّ جميعَ أحوالِ كل قوم منهم فالمرادُ بما ذكر أولاً كفرُهم المستمرُّ من حين مجيءِ الرسل الخ ، وبما أشير إليه آخِراً تكذيبُهم قبل مجيئِهم فلا بد من جعل الموصولِ المذكورِ عبارةً عن أصول الشرائعِ التي أجمعت عليها الرسلُ قاطبةً ودعَوا أُمَمهم إليها آثِرَ ذي أثيرٍ لاستحالة تبدّلِها وتغيّرِها ، مثلُ ملةِ التوحيد ولوازمِها ، ومعنى تكذيبهم بها قبل مجيءِ رسلهم أنهم ما كانوا في زمن الجاهليةِ بحيث لم يسمعوا كلمةَ التوحيد قط بل كانت كلُّ أمةٍ من أولئك الأمم يتسامعون بها من بقايا مَنْ قبلهم فيكذّبونها ، ثم كانت حالتُهم بعد مجيءِ رسلِهم كحالتهم قبل ذلك كأن لم يُبعثْ إليهم أحدٌ ، وتخصيصُ التكذيب وعدمُ الإيمان بما ذُكر من الأصول لظهور حالِ الباقي بدِلالة النصِّ ، فإنهم حين لم يؤمنوا بما أجمعت عليه كافةُ الرسلِ فلأَنْ لا يؤمنوا بما تفرَّد به بعضُهم أولى ، وعدمُ جعلِ التكذيبِ مقصوداً بالذات لما أن ما عليه يدور فلكُ العذابِ والعقابِ هو التكذيبُ الواقعُ بعد الدعوةِ حسبما يعرب عنه قوله تعالى :(3/23)
{ وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } وإنما ذُكر ما وقع قبلها بياناً لعراقتهم في الكفر والتكذيب ، وعلى كلا التقديرين فالضمائرُ الثلاثة متوافقةٌ في المرجِع ، وقيل : ضميرُ كذبوا راجعٌ إلى أسلافهم ، والمعنى فما كان الأبناءُ ليؤمنوا بما كذب به الآباءُ ، ولا يخفى ما فيه من التعسف ، وقيل : المرادُ ما كانوا ليؤمنوا لو أحييناهم بعد إهلاكِهم ورددناهم إلى دار التكليفِ بما كذبوا من قبلُ كقوله تعالى : { وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } وقي : الباء للسببية وما مصدريةٌ أي بسبب تعوُّدِهم تكذيبَ الحقِّ وتمرّنِهم عليه قبل بعثةِ الرسلِ ، ولا يرِدُ عليه هاهنا ما ورد في سورة يونُسَ من مخالفة الجمهورِ بجعل ما المصدريةِ من قبيل الأسماء كما هو رأيُ الأخفشِ وابنِ السرّاج ليرجِعَ إليه الضميرُ في به .
{ كذلك } أي مثلَ ذلك الطبعِ الشديدِ المُحكَم { يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين } أي من المذكورين وغيرهم فلا يكاد يؤثر فيها الآياتُ والنذرُ ، وفيه تحذير للسامعين ، وإظهارُ الاسم الجليلِ بطريق الالتفاتِ لتربية المهابة وإدخالِ الروعة .(3/24)
وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
{ وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم } أي أكثرِ الأممِ المذكورين ، واللامُ متعلقةٌ بالوُجدان كما في قولك : ما وجدتُ له مالاً أي ما صادفت له مالاً ولا لقِيته ، أو بمحذوف وقع حالاً من قوله تعالى : { مَّنْ عَهْدٍ } لأنه في الأصل صفةٌ للنكرة فلما قُدّمت عليها انتصبت حالاً ، والأصلُ ما وجدنا عهداً كائناً لأكثرهم ومِنْ وفاء عهدٍ فإنهم نقضوا ما عاهدوا الله عليه عند مساسِ البأساء والضراءِ قائلين : لئن أنجيتنا من هذه لنكونَنّ من الشاكرين ، فتخصيصُ هذا الشأنِ بأكثرهم ليس لأن بعضَهم كانوا يوفون بعهودهم بل لأن بعضَهم كانوا لا يعهدون ولا يوفون ، وقيل : المرادُ بالعهد ما عهِد الله تعالى إليهم من الإيمان والتقوى بنصب الآياتِ وإنزالِ الحُجج ، وقيل : ما عهِدوا عند خطابِ { أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ } فالمرادُ بأكثرهم كلُّهم ، وقيل : الضميرُ للناس والجملةُ اعتراضٌ فإن أكثرَهم لا يوفون بالعهد بأي معنى كان { وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ } أي أكثرُ الأمم أي علِمناهم كما في قولك : وجدتُ زيداً ذا حِفاظ وقيل : الأول أيضاً كذلك ، وإن مخففةٌ من إنّ وضميرُ الشأن محذوفٌ أي إن الشأنَ وجدناهم { لفاسقين } خارجين عن الطاعة ناقضين للعهود ، وعند الكوفيين أنّ إنْ نافيةٌ واللامُ بمعنى إلا أي ما وجدناهم إلا فاسقين .
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى } أي أرسلناه من بعد انقضاء وقائعِ الرسل المذكورين أو من بعد هلاكِ الأممِ المحكيةِ ، والتصريحُ بذلك مع دِلالة ( ثم ) على التراخي للإيذان بأن بعثه عليه الصلاة والسلام جرى على سَنن السُنةِ الإلهية من إرسال الرسلِ تترى ، وتقديمُ الجارِّ والمجرور على المفعول الصريحِ لما مر مراراً من الاعتناء بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخر { بئاياتنا } متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من مفعول بعثنا ، أو صفةٌ لمصدره أي بعثناه عليه الصلاة والسلام ملتبساً بآياتنا أو بعثناه بَعْثاً ملتبساً بها ، وهي الآياتُ التِسعُ المُفَصَّلاتُ التي هي : العصا ، واليدُ البيضاء ، والسِّنونَ ، ونقصُ الثمرات ، والطُّوفانُ ، والجرادُ ، والقُمّلُ ، والضفادِعُ ، والدم ، حسبما سيأتي على التفصيل { إلى فِرْعَوْنَ } هو لقبٌ لكل من ملَك مِصْرَ من العمالقة كما أن كِسرى لقبٌ لكل من ملك فارسَ ، وقيصرَ لكل مَنْ ملك الروم واسمُه قابوسُ ، وقيل : الوليدُ بنُ مصعبِ بن الريان { وَمَلَئِهِ } أي أشرافِ قومِه ، وتخصيصُهم بالذكر مع عموم رسالتِه عليه الصلاة والسلام لقومه كافةً حيث كانوا جميعاً مأمورين بعبادة ربِّ العالمين عزَّ سلطانُه ، وتركِ العظيمةِ الشنعاءِ التي كان يدّعيها الطاغيةُ وتقبلها منه فئتُه الباغية لأصالتهم في تدبير الأمور واتباعِ غيرِهم لهم في الورود والصدور { فَظَلَمُواْ بِهَا } أي كفروا بها ، أُجري الظلمُ مُجرى الكفرِ لكونهما من واد واحدٍ ، أو ضُمّن معنى الكفرِ أو التكذيبِ أي ظلموا كافرين بها أو مكذِّبين بها ، أو كفروا بها مكان الإيمانِ الذي هو من حقها لوضوحها ولهذا المعنى وُضع ظلَموا موضِعَ كفروا وقيل : ظلموا أنفسَهم بسببها بأن عرّضوها للعذاب الخالد ، أو ظلموا الناسَ بصدهم عن الإيمان بها ، والمرادُ به الاستمرارُ على الكفر بها إلى أن لقُوا من العذاب ما لقُوا ، ألا يُرى إلى قوله تعالى : { فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين } فكما أن ظلمهم بها مستتبعٌ لتلك العاقبةِ الهائلةِ كذلك حكايةُ ظلمِهم بها مستتبعٌ للأمر بالنظر إليها ، وكيف خبرُ كان قُدّم على اسمها لاقتضائه الصدارةَ والجملةُ في حيز النصب بإسقاط الخافضِ أي فانظر بعين عقلِك إلى كيفية ما فعلنا بهم ، ووضعُ المفسدين موضعَ ضميرِهم للإيذان بأن الظلم مستلزِمٌ للإفساد .(3/25)
وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)
{ وَقَالَ مُوسَى } كلامٌ مبتدأٌ مَسوقٌ لتفصيل ما أُجمل فيما قبله من كيفية إظهار الآياتِ وكيفيةِ عاقبة المفسدين { يافرعون إِنِّي رَسُولٌ } أي إليك { مِن رَّبّ العالمين } على الوجه الذي مر بيانه { حَقِيقٌ عَلَى أَن لا أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق } جوابٌ عما ينساق إليه الذهنُ من حكاية ظلمِهم بالآيات من تكذيبه إياه عليه الصلاة والسلام في دعوى الرسالةِ وكان أصلُه حقيقٌ على أن لا أقول الخ ، كما هو قراءة نافع فقلب للأمن من الإلباس كما في قول من قال :
وتشقى الرماحُ بالضياطرة الحُمُر ... أو لأن ما لزِمك فقد لزِمتَه ، أو للإغراق في الوصف بالصدق ، والمعنى واجبٌ عليّ القولُ الحقُّ أن أكون أنا قائلُه لا يَرضَى إلا بمثلي ناطقاً به ، أو ضُمّن حقيقٌ معنى حريص ، أو وُضِعَ على موضعَ الباءِ لإفادة التمكنِ كقولهم : رميتُ على القوس وجئتُ على حال حسنةٍ ، ويؤيده قراءة أبي بالباء وقرىء حقيق أن لا أقول وقوله تعالى : { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ مّن رَّبّكُمْ } استئنافٌ مقرِّرٌ لما قبله من كونه رسولاً من رب العالمين وكونِه حقيقاً بقول الحقِّ ولم يكن هذا القول منه عليه الصلاة والسلام وما بعده من جواب فرعون إثرَ ما ذكر هاهنا بل بعد ما جرى بينهما من المحاورة المحكيةِ بقوله تعالى : { قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا } الآيات ، وقوله تعالى : { وَمَا رَبُّ العالمين } الآيات ، وقد طُوي هاهنا ذكرُه للإيجاز ، ومِنْ متعلقة إما بجئتُكم على أنها لابتداء الغايةِ مجازاً وإما بمحذوف وقع صفةً لبينة مفيدةً لفخامتها الإضافية المؤكدةِ لفخامتها الذاتية المستفادةِ من التنوين التفخيمي ، وإضافةُ اسمِ الرب إلى المخاطبين بعد إضافتِه فيما قبله إلى العالمين لتأكيد وجوبِ الإيمان بها { فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إسراءيل } أي فخلّهم حتى يذهبوا معي إلى الأرض المقدسةِ التي هي وطنُ آبائِهم وكان قد استعبدهم بعد انقراضِ الأسباطِ يستعملهم ويكلفهم الأفاعيلَ الشاقة فأنقذهم الله تعالى بموسى عليه الصلاة والسلام وكان بين اليوم الذي دخل يوسفُ مصرَ واليومِ الذي دخله موسى عليهما السلام أربعُمائة عام ، والفاءُ لترتيب الإرسالِ أو الأمرِ به على ما قبله من رسالته عليه السلام ومجيئِه بالبينة .(3/26)
قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109)
{ قَالَ } استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال ينساق إليه الكلامُ كأنه قيل : فماذا قال فرعونُ له عليه السلام حين قال له ما قال؟ فقيل : قال : { قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآية } أي من عند مَنْ أرسلك كما تدعيه { فَأْتِ بِهَا } أي فأحضِرْها حتى تُثبت بها رسالتَك { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } في دعواك ، فإن كونَك من جملة المعروفين بالصدق يقتضي إظهارَ الآيةِ لا محالة { فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } أي ظاهرٌ أمرُه لا يُشك في كونه ثعباناً وهو الحيةُ العظيمةُ ، وإيثارُ الجملةِ الاسميةِ للدِلالة على كمال سرعةِ الانقلاب وثباتِ وصفِ الثُعبانية فيها كأنها في الأصل كذلك . وروي أنه لما ألقاها صارت ثعباناً أشعَرَ فاغراً فاه بين لَحْيَيهِ ثمانون ذراعاً وَضع لَحيَه الأسفلَ على الأرض والأعلى على سور القصرِ ، ثم توجه نحو فرعون فهرب منه وأحدث فانهزم الناسُ مزدحمين فمات منهم خمسةٌ وعشرون ألفاً فصاح فرعونُ : يا موسى أنشُدك بالذي أرسلك خُذْه وأنا أؤمن بك وأرسلُ معك بني إسرائيلَ فأخذه فعاد عصا { وَنَزَعَ يَدَهُ } أي من جيبه أو من تحت إِبطِه { فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء للناظرين } أي بيضاءُ بياضاً نورانياً خارجاً عن العادة يجتمع عليه النَّظارةُ تعجباً من أمرها ، وذلك ما يروى أنه أرى فرعونَ يدَه وقال : ما هذه؟ فقال : يدُك ، ثم أدخلها جيبه وعليه مدرّعةُ صوفٍ ونزعها فإذا هي بيضاءُ بياضاً نورانياً غلب شعاعُه شعاعَ الشمس وكان عليه السلام آدمَ شديدَ الأدَمةِ ، وقيل : بيضاء للناظرين لا أنها كانت بيضاءَ في جِبِلّتها .
{ قَالَ الملا مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ } أي الأشرافُ منهم وهم أصحابُ مشورتِه { إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ } أي مبالغٌ في علم السحر ماهرٌ فيه ، قالوه تصديقاً لفرعون وتقريراً لكلامه فإن هذا القولَ بعينه مَعْزيٌّ في سورة الشعراء إليه .(3/27)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
{ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مّنْ أَرْضِكُمْ } أي من أرض مصرَ { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } بفتح النون وما في ماذا في محل النصب على أنه مفعول ثان لتأمرون بحذف الجار ، والأولُ محذوف والتقديرُ بأي شيء تأمرونني ، وهذا من كلام فرعونَ كما في قوله تعالى : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } أي فإذا كان كذلك فماذا تشيرون عليّ في أمره؟ وقيل : قاله الملأ بطريق التبليغِ إلى العامة فقوله تعالى : { قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } على الأول وهو الأظهرُ حكايةً لكلام الملأ الذين شاورهم فرعونُ وعلى الثاني لكلام العامة الذين خاطبهم الملأ ويأباه أن الخطابَ لفرعون وأن المشاورةَ ليست وظائفَهم أي أخِّرْه وأخاه ، وعدمُ التعرض لذكره لظهور كونِه معه حسبما تنادي به الآياتُ الأُخَرُ ، والمعنى أخِّرْ أمرَهما وأصدِرْهما عنك حتى ترى رأيك فيهما وتدبرَ شأنهما ، وقرىء أرجِئْه وأرجِهِ من أرْجَأَه وأرْجاه { وَأَرْسِلْ فِى المدائن حاشرين } قيل : هي مدائنُ صعيدِ مصرَ وكان رؤساءُ السحرةِ ومَهَرتُهم بأقصى مدائنِ الصعيد . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا سبعين ساحراً أخذوا السحرَ من رجلين مجوسيين من أهل نينَوى مدينةِ يونسَ عليه السلام بالمَوْصِل ، ورُد ذلك بأن المجوسيةَ ظهرت بزرادَشْت وهو إنما جاء بعد موسى عليه الصلاة والسلام { يَأْتُوكَ بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ } أي ماهرٍ في السحر ، وقرىء بكل سحّار عليم ، والجملةُ جوابُ الأمر .
{ وَجَاء السحرة فِرْعَوْنَ } بعد ما أرسل إليهم الحاشرين وإنما لم يصرَّح به حسبما في قوله تعالى : { فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى المدائن حاشرين } للإيذان بمسارعة فرعونَ إلى الإرسال ومبادرةِ الحاشرين والسحرة إلى الامتثال .
{ قَالُواْ } استئنافٌ منوطٌ بسؤال نشأ من مجيء السحرةِ كأنه قيل : فماذا قالوا له عند مجيئِهم إياه؟ فقيل : قالوا مدْلين بما عندهم واثقين بغلبتهم : { إِنَّ لَنَا لاجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين } بطريق الإخبارِ بثبوت الأجرِوإيجابِه كأنهم قالوا : لا بد لنا من أجر عظيم حينئذ ، أو بطريق الاستفهامِ التقريري بحذف الهمزة وقرىء بإثباتها ، وقولُهم : ( إن كنا ) لمجرد تعيينِ مناطِ ثبوتِ الأجرِ لا لترددهم في الغلبة ، وتوسيطُ الضميرِ وتحليةُ الخبر باللام للقصر أي إن كنا نحن الغالبين لا موسى { قَالَ نَعَمْ } وقوله تعالى : { وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين } عطف على محذوف سد مسدَّه حرفُ الإيجابِ كأنه قال : إن لكم لأجراً وإنكم مع ذلك لمن المقربين للمبالغة في الترغيب . روي أنه قال لهم : تكونون أولَ من يدخُل مجلسي وآخِرَ من يخرُج منه .(3/28)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)
{ قَالُواْ } استئنافٌ كما مر كأنه قيل : فماذا فعلوا بعد ذلك؟ فقيل : قالوا متصدّين لشأنهم مخاطِبين لموسى عليه السلام : { ياموسى إِمَّا أَن تُلْقِىَ } ما تلقي أولاً { وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين } أي لِما نُلقي أولاً ، أو الفاعلين للإلقاء أولاً ، خيّروه عليه السلام بالبدء بالإلقاءِ مراعاةً للأدب وإظهاراً للجلادة وأنه لا يختلف حالُهم بالتقديم والتأخير ، ولكن كانت رغبتُهم في التقديم كما ينبىء عنه تغييرُهم للنظم بتعريف الخبر ، وتوسيطُ ضميرِ الفصل وتأكيدِ الضمير المتصل { قَالَ أَلْقَوْاْ } غيرَ مبالٍ بأمرهم أي ألقوا ما تُلقُون { فَلَمَّا أَلْقُوْاْ } ما ألقَوْا { سَحَرُواْ أَعْيُنَ الناس } بأن خيّلوا إليهم ما لا حقيقةَ له { واسترهبوهم } أي بالغوا في إرهابهم { وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } في بابه . روي أنهم ألقَوا حِبالاً غلاظاً وخشَباً طِوالاً كأنها حياتٌ ملأت الواديَ وركِبَ بعضُها بعضاً .
{ وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } الفاءُ فصيحة أي فألقاها فصارت حيةً فإذا هي الآية وإنما حُذف للإشعار بمسارعة موسى عليه السلام إلى الإلقاء وبغاية سرعةِ الانقلاب كأن لقْفَها لما يأفكون قد حصل متصلاً بالأمر بالإلقاء ، وصيغةُ المضارعِ لاستحضار صورةِ اللقْفِ الهائلةِ والإفك الصِّرْفِ والقلب عن الوجه المعتاد ، وما موصولةٌ أو موصوفةٌ والعائدُ محذوفٌ أي ما يأفِكونه ويزوّرونه ، أو مصدريةٌ وهي مع الفعل بمعنى المفعول . روي أنها لما تلقّفت مِلءَ الوادي من الخشب والحِبال ورفعها موسى فرجعت عصاً كما كانت وأَعدم الله تعالى بقدرته الباهرةِ تلك الأجرامَ العظامَ أو فرَّقها أجزاءً لطيفةً قالت السحرة : لو كان هذا سحراً لبقِيَتْ حبالُنا وعِصِيُّنا { فَوَقَعَ الحق } أي فثبت لظهور أمره { وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي ظهر بطلانُ ما كانوا مستمرِّين على عمله { فَغُلِبُواْ } أي فرعونُ وقومُه { هُنَالِكَ } أي في مجلسهم { وانقلبوا صاغرين } أي صاروا أذلأَ مبهوتين أو رجَعوا إلى المدينة أذلأَ مقهورين ، والأولُ هو الظاهرُ لقوله تعالى : { وَأُلْقِىَ السحرة ساجدين } فإن ذلك كان بمحضر من فرعون قطعاً أي خروا سجداً كأنما ألقاهم مُلْقٍ لشدة خرورِهم كيف لا وقد بهرهم الحقُّ واضْطَّرّهم إلى ذلك .(3/29)
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125)
{ قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبّ العالمين * رَبّ موسى وهارون } أبدلوا الثانيَ من الأول لئلا يُتوهم أن مرادَهم فرعون . عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لما آمنت السحرةُ اتبع موسى من بني إسرائيلَ ستُّمائةِ ألف .
{ قَالَ فِرْعَوْنُ } منكِراً على السحرة موبِّخاً لهم على ما فعلوه : { آمَنْتُم بِهِ } بهمزة واحدة إما على الإخبار المحضِ المتضمِّنِ للتوبيخ أو على الاستفهام التوبيخيِّ بحذف الهمزةِ كما مر في إن لنا لأجراً ، وقد قرىء بتحقيق الهمزتين معاً بتحقيق الأولى وتسهيلِ الثانية بيْنَ بيْنٍ أي آمنتم بالله تعالى { قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ } أي بغير أن آذنَ لكم كما في قوله تعالى : { لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لكلمات رَبّى لَنَفِدَ } لا أن الإذنَ منه ممكنٌ في ذلك { إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ } يعني أن ما صنعتموه ليس مما اقتضى الحالُ صدورَه عنكم لقوة الدليلِ وظهور المعجزة بل هو حيلةٌ احتملتموها مع مواطأة موسى { فِى المدينة } يعني مصرَ قبل أن تخرجوا إلى الميعاد . روي أن موسى عليه الصلاة والسلام وأميرَ السحرةِ التقيا فقال له موسى : أرأيتَك إن غلبتُك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئتُ به الحقُّ ، فقال الساحرُ : والله لئن غلبتَني لأومننَّ بك وفرعونُ يسمعهما ، وهو الذي نشأ عنه هذا القول { لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا } أي القِبْطَ وتخلُصَ هي لك ولبني إسرائيلَ ، وهاتان شبهتان ألقاهما إلى أسماع عوامِّ القِبطِ عند معاينتهم لارتفاع أعلامِ المعجزةِ ومشاهدتِهم لخضوع أعناقِ السحرةِ لها وعدم تمالُكِهم من أن يؤمنوا بها ليمنعهم بهما عن الإيمان بنبوة موسى عليه الصلاة والسلام بإراءة أن إيمانَ السحرةِ مبنيٌّ على المواضعة بينهم وبين موسى وأن غرضَهم بذلك إخراجُ القوم من المدينة وإبطالُ مُلْكِهم ، ومعلومٌ أن مفارقةَ الأوطانِ المألوفةِ والنعمةِ المعروفةِ مما لا يُطاق به فجمع اللعينُ بين الشبهتين تثبيتاً للقِبطَ على ما هم عليه وتهييجاً لعداوتهم له عليه الصلاة والسلام ثم عقبهما بالوعيد ليُريَهم أن له قوةً وقدرةً على المدافعة فقال : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أي عاقبة ما فعلتم ، وهذا وعيدٌ ساقه بطريق الإجمالِ للتهويل ثم عقبه بالتفصيل فقال : { لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ } أي من كل شقَ طرَفاً { ثُمَّ لاَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } تفصيحاً لكم وتنكيلاً لأمثالكم . وقيل : هو أول من سن ذلك فشرعه الله تعالى لقُطّاع الطريق تعظيماً لجُرمهم ولذلك سماه الله تعالى محاربةً لله ورسوله .
{ قَالُواْ } استئنافٌ مَسوقٌ للجواب عن سؤال ينساق إليه الذهنُ كأنه قيل : فماذا قال السحرةُ عندما سمِعوا وعيدَ فرعونَ؟ هل تأثروا به أو تصلبوا فيما هم فيه من الدين؟ فقيل : قالوا ثابتين على ما أحدثوا من الإيمان : { إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ } أي بالموت لا محالة فسواءٌ كان ذلك من قِبَلك أو لا فلا نبالي بوعيدك أو إنا إلى رحمة ربنا وثوابِه منقلبون إن فعلتَ بنا ذلك كأنهم استطابوه شَغَفاً على لقاء الله تعالى أو إنا جميعاً إلى ربنا منقلبون فيحكم بيننا وبينك .(3/30)
وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
{ وَمَا تَنقِمُ مِنَّا } أي وما تُنكر وتَعيب منا { إِلا أَنْ ءامَنَّا بئايات رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا } وهو خيرُ الأعمال وأصلُ المفاخر ليس مما يتأتى لنا العدولُ عنه طلباً لمرضاتك ثم أعرضوا عن مخاطبته إظهاراً لما في قلوبهم من العزيمة على ما قالوا وتقريراً له ففزِعوا إلى الله عز وجل وقالوا : { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } أي أفِضْ علينا من الصبر ما يغمُرنا كما يغمرُ الماءُ أو صُبّ علينا ما يُطَهّرنا من أوضار الأوزار وأدناسِ الآثام وهو الصبرُ على وعيد فرعون { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } ثابتين على ما رزقنا من الإسلام غيرَ مفتونين من الوعيد . قيل : فَعل بهم ما أوعدهم به وقيل : لم يقدر عليه لقوله تعالى : { أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون }
{ وَقَالَ الملا مِن قَوْمِ فِرْعَونَ } مخاطِبين له بعد ما شاهدوا من أمر موسى عليه السلام { أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الارض } أي في أرض مصرَ بتغيير الناسِ عليك وصرفِهم عن متابعتك { وَيَذَرَكَ } عطفٌ على يُفسدوا ، أو جوابُ الاستفهام بالواو كما في قول الحطيئة :
ألم أكُ جارَكم ويكونَ بيني ... وبينكم المودةُ والإخاءُ
أي أيكونُ منك تركُ موسى ويكونَ تركُه إياك؟ وقرىء بالرفع عطفاً على أنذرُ أو استئنافاً أو حالاً ، وقرىء بالسكون كأنه قيل : يفسدوا ويذرْك كقوله تعالى : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن } { وَءالِهَتَكَ } ومعبوداتِك ، قيل : إنه كان يعبد الكواكبَ وقيل : صنع لقومه أصناماً وأمرهم بأن يعبُدوها تقرباً إليه ولذلك قال : أنا ربكم الأعلى ، وقرىء وإلهتك أي عبادتَك { قَالَ } مجيباً لهم { سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ } كما كنا نفعل بهم ذلك من قبلُ ليُعلم أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبةِ ولا يُتَوَهّم أنه المولودُ الذي حكم المنجمون والكهنةُ بذهاب مُلكِنا على يديه وقرىء سنقتل بالتخفيف { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون } كما كنا لم يتغير حالُنا أصلاً وهم مقهورون تحت أيدينا كذلك { قَالَ موسى لِقَوْمِهِ } تسليةً لهم وعِدةً بحسن العاقبة حين سمعوا قولَ فرعون وتضجّروا منه { استعينوا بالله واصبروا } على ما سمعتم من أقاويله الباطلة { إِنَّ الارض للَّهِ } أي أرضَ مصرَ أو جنسَ الأرض وهي داخلةٌ فيها دخولاً أولياً { يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } الذين أنتم منهم وفيه إيذانٌ بأن الاستعانةَ بالله تعالى والصبرَ من باب التقوى وقرىء والعاقبةَ بالنصب عطفاً على اسم إن .(3/31)
قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
{ قَالُواْ } أي بنو إسرائيلَ { أُوذِينَا } أي من جهة فرعونَ { مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا } أي بالرسالة ، يعنون بذلك قتلَ أبنائِهم قبل مولدِ موسى عليه الصلاة والسلام وبعدَه { وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } أي رسولاً ، يعنون به ما توعدهم به من إعادة قتلِ الأبناءِ وسائر ما كان يفعل بهم لعداوة موسى عليه السلام من فنون الجَوْر والظلمِ والعذاب ، وأما ما كانوا يُستعبَدون به ويُمتهنون فيه من أنواع الخَدَم والمِهَن كما قيل فليس مما يلحقهم بواسطته عليه السلام فليس لذكره كثيرُ ملابسة بالمقام { قَالَ } أي موسى عليه الصلاة والسلام لما رأى شدةَ جَزَعِهم مما شاهدوه مسلياً لهم بالتصريح بما لَوَّح به في قوله : إن الأرض لله ، الخ { عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } الذي فعل بكم ما فعل وتوعّدكم بإعادته { وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الارض } أي يجعلَكم خلفاءَ في أرض مصرَ { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } أحسناً أم قبيحاً فيجازيَكم حسبما يظهر منكم من الأعمال ، وفيه تأكيدٌ للتسلية وتحقيقٌ للأمر . قيل : لعل الإتيانَ بفعل الطمع لعدم الجزمِ منه عليه السلام بأنهم هم المستخلَفون بأعيانهم أو أولادُهم ، فقد روي أن مصرَ إنما فتحت في زمن داودَ عليه السلام ولا يساعده قوله تعالى : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الارض ومغاربها } فإن المتبادرَ استخلافُ أنفسِ المستضعفين لا استخلافُ أولادِهم ، وإنما مجيءُ فعلِ الطمعِ للجري على سنن الكبرياء .
{ وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بالسنين } شروعٌ في تفصيل مبادي الهلاكِ الموعودِ وإيذانٌ بأنه تعالى لم يُمهِلْهم بعد ذلك ولم يكونوا في خفْضٍ ودَعَةٍ بل رُتّبت أسبابُ هلاكِهم فتحولوا من حال إلى حال إلى أن حل بهم عذابُ الاستئصالِ ، وتصديرُ الجملة بالقسم لإظهار الاعتناءِ بمضمونها ، والسنونَ جمعُ سنة والمرادُ بها عامُ القحطِ وفيها لغتانِ أشهرُهما إجراؤها مُجرى المذكرِ السالمِ فيرفع بالواو ويُنصَب ويُجرُّ بالياء ويحذف نونُه بالإضافة . واللغةُ الثانية إجراءُ الإعراب على النون ولكن مع الياء خاصةً إما بإثبات تنوينِها أو بحذفه . قال الفراء : هي في هذه اللغةِ مصروفةٌ عند بني عامرٍ وغيرُ مصروفةٍ عند بني تميم ، ووجهُ حذف التنوينِ التخفيفُ وحينئذ لا يُحذف النونُ للإضافة وعلى ذلك جاء قوله الشاعر :
دعانيَ من نجدٍ فإن سنينَه ... لعِبْنَ بنا شيباً وشيَّبْننا مُرْدا
وجاء الحديث : « اللهم اجعلْها عليهم سنينَ كسِني يوسُفَ » ، وسنينَ كسنينِ يوسف باللغتين { وَنَقْصٍ مّن الثمرات } بإصابة العاهات . عن كعبٍ يأتي على الناس زمانٌ لا تحمل النخلةُ إلا ثمرةً ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أما السنونَ فكانت لباديتهم وأهلِ ماشيتِهم وأما نقصُ الثمرات فكان في أمصارهم { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } كي يتذكروا ويتعظوا بذلك ويقِفوا على أن ذلك لأجل معاصيهم وينزجروا عما هم عليه من العُتوِّ والعناد . قال الزجاج : إن أحوالَ الشدةِ ترقِّقُ القلوب وترغّب فيما عند الله عز وجل وفي الرجوع إليه تعالى ، ألا يُرى إلى قوله تعالى : { وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ } وقد مر تحقيقُ القول في لعل وفي محلها في تفسير قوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } في أوائل سورة البقرة .(3/32)
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)
وقوله تعالى : { فَإِذَا جَاءتْهُمُ الحسنة } الخ ، بيانٌ لعدم تذكّرِهم وتماديهم في الغي أي فإذا جاءتهم السعةُ والخِصْبُ وغيرُهما من الخيرات { قَالُواْ لَنَا هذه } أي لأجلنا واستحقاقِنا لها { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ } أي جدْبٌ وبلاء { يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ } أي يتشاءموا بهم ويقولوا : ما أصابتنا إلا بشؤمهم وهذا كما ترى شاهدٌ بكمال قساوةِ قلوبِهم ونهايةِ جهلِهم وغباوتِهم فإن الشدائدَ ترقّقُ القلوبَ وتُلين العرائِكَ لا سيما بعد مشاهدةِ الآياتِ وقد كانوا بحيث لم يؤثر فيهم شيءٌ منها بل ازدادوا عتوّاً وعِناداً ، وتعريفُ الحسنةِ وذِكرُها بأداة التحقيقِ للإيذان بكثرة وقوعِها وتعلقِ الإرادةِ بها بالذات كما أن تنكيرَ السيئةِ وإيرادَها بحرف الشكِّ للإشعار بنُدرة وقوعِها وعدم تعلّقِ الإرادةِ بها إلا بالعَرَض وقوله تعالى : { أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله } استئنافٌ مَسوقٌ من قِبَله تعالى لرد مقالتِهم الباطلةِ وتحقيقِ الحقِّ في ذلك ، وتصديرُه بكلمة التنبيهِ لإبراز كمالِ العنايةِ بمضمونه ، أي ليس سببُ خيرِهم إلا عنده تعالى وهو حكمُه ومشيئتُه المتضمنةُ للحِكَم والمصالحِ ، أو ليس شؤمِهم وهو أعمالُهم السيئةُ إلا عنده تعالى أي مكتوبةٌ لديه فإنها التي ساقت إليهم ما يسوؤهم لا ما عداها ، وقرىء إنما طَيرُهم وهو اسمٌ جمعُ طائرٍ وقيل : جمعٌ له { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ذلك فيقولون ما يقولون مما حُكي عنهم ، وإسنادُ عدمِ العلمِ إلى أكثرهم للإشعار بأن بعضَهم يعلمون أن ما أصابهم من الخير والشرِّ من جهة الله تعالى أو يعلمون أن ما أصابهم من المصائب والبلايا ليس إلا بما كسبتْ أيديهم ولكن لا يعلمون بمقتضاه عِناداً واستكباراً .
{ وَقَالُواْ } شروعٌ في بيان بعضٍ آخَرَ مما أُخذ به آلُ فرعونَ من فنون العذاب التي هي في أنفسها آياتٌ بيناتٌ . وعدمُ ارعوائِهم مع ذلك عما كانوا عليه من الكفر والعناد أي قالوا بعد ما أرادوا ما أرادوا من شأن العصا والسنينَ ونقصِ الثمرات : { مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ } كلمةُ مهما تستعمل للشرط والجزاءِ وأصلُها ما الجزائية ضُمت إليها ما المزيدةُ للتأكيد كما ضُمّت إلى أين وإن في { أَيْنَمَا تَكُونُواْ } { أَمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ } خلا أن ألِفَ الأولى قُلبت هاءً حذَراً من تكرير المتجانسين . هذا هو الرأيُ السديدُ ، وقيل : مه كلمةٌ يصوِّتُ بها الناهي ضُمّت إليها ما الشرطيةُ ومحلُّها الرفعُ بالابتداء أو النصبُ بفعل يفسره ما بعدها ، أي أيُّ شيءٍ تظهره لدينا وقوله تعالى : { مّنْ ءايَةٍ } بيانٌ لهما ، وتسميتُهم إياها آيةً لمجاراتهم على رأي موسى عليه السلام واستهزائِهم بها وللإشعار بأن عنوانَ كونِها آيةً لا يؤثر فيهم وقوله تعالى : { لّتَسْحَرَنَا بِهَا } إظهارٌ لكمال الطغيانِ والغلوّ فيه وتسميةِ الإرشادِ إلى الحق بالسحر وتسكير الأبصار ، والضميران المجروران راجعان إلى مهما وتذكيرُ الأولِ لمراعاة جانب اللفظِ لإبهامه ، وتأنيثُ الثاني للمحافظة على جانب المعنى لتبيينه بآية كما في قوله تعالى : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ } { فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } بمصدِّقين لك ومؤمنين لنبوتك .(3/33)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)
{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ } عقوبةً لجرائمهم لا سيما لقولهم هذا { الطوفان } أي الماءَ الذي طاف بهم وغشِيَ أماكنَهم وحروثَهم من مطر أو سَيل ، وقيل : هو الجُدَريّ . وقيل : المَوَتان . وقيل : الطاعون { والجراد والقمل } قيل : هو كبارُ القردان وقيل : أولادُ الجراد قبل نباتِ أجنحتِها { والضفادع والدم } رُوي أنهم مُطروا ثمانيةَ أيام في ظلمة شديدةٍ لا يستطيع أن يخرُج أحدٌ من بيته ودخل الماءُ بيوتَهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم ولم يدخل بيوتَ بني إسرائيلَ منه قطرةٌ وهي في خلال بيوتِهم وفاض الماءُ على أرضهم وركدَ فمنعَهم من الحرْث والتصرّف ودام ذلك سبعةَ أيام فقالوا له عليه الصلاة والسلام : ادعُ لنا ربك يكشفْ عنا ونحن نؤمنُ بك فدعا فكُشف عنهم فنبت من العشب والكلأ ما لم يُعهَدْ قبله ، ولم يؤمنوا فبعث الله عليهم الجرادَ فأكل زروعَهم وثمارَهم وأبوابهم وسقوفهم وثيابَهم ففزِعوا إليه عليه الصلاة والسلام لما ذكر فخرج إلى الصحراء وأشار بعصاه نحو المشرقِ والمغربِ فرجعت إلى النواحي التي جاءت منها فلم يؤمنوا فسلط الله تعالى عليهم القُمّلَ فأكل ما أبقته الجرادُ وكان يقع في أطعمتهم ويدخُل بين ثيابهم وجلودِهم فيمُصّها ففزِعوا إليه ثالثاً فرفع عنهم فقالوا : قد تحققنا الآن أنك ساحرٌ ثم أرسل الله عليهم الضفادع بحيث لا يكشف ثوبٌ ولا طعام إلا وجدت فيه وكانت تمتلىء منها مضاجعُهم وتثب إلى قدروهم وهي تغلي وإلى أفواههم عند التكلم ففزعوا إليه رابعاً وتضرعوا فأخذ عليهم العُهود فدعا فكشف الله عنهم فنقضوا العهدَ فأرسل الله عليهم الدمَ فصارت مياههم دماءً حتى كان يجتمع القِبطيُّ والإسرائيليُّ على إناء فيكون ما يليه دماً وما يلي الإسرائيليّ ماءً على حاله ويمص من فم الإسرائيليِّ فيصير دماً في فيه ، وقيل : سلط الله عليهم الرُّعاف { ءايات } حال من المنصوبات المذكورة { مّفَصَّلاَتٍ } مبينات لا يشكل على عاقل أنها آيات الله تعالى ونقمته وقيل : مفرقات بعضها من بعض لامتحان أحوالهم وكان بين كل آيتين منها شهر وكان امتداد كل واحدة منها أسبوعاً وقيل : إنه عليه السلام لبث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل { فاستكبروا } أي عن الإيمان بها { وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } جملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها .
{ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز } أي العذاب المذكور على التفصيل فاللامُ للجنس المنتظمِ لكل واحدةٍ من الآيات المفصلة ، أي كلما وقع عليهم عقوبةٌ من تلك العقوبات قالوا في كل مرة { قَالُواْ يا موسى ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } أي بعهده عندك وهو النبوةُ أو بالذي عهِد إليك أن تدعوَه فيجيبَك كما أجابك في آياتك ، وهو صلةٌ لادْعُ أو حالٌ من الضمير فيه ، بمعنى ادعُ الله متوسلاً إليه بما عهد عندك ، أو متعلقٌ بمحذوف دل عليه التماسُهم ، مثلُ أسعِفْنا إلى ما نطلب بحق ما عندك أو قسم أجيب بقوله تعالى : { لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز } الذي وقع علينا { لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إسراءيل } أي أقسَمْنا بعهد الله عندك لئن كشفت الخ .(3/34)
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
{ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز إلى أَجَلٍ هُم بالغوه } أي إلى حد من الزمان هم بالغوه فمعذَّبون بعده أو مُهلَكون { إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } جوابُ لمّا أي فلما كشفنا عنهم فاجأوا النّكْثَ من غير تأمل وتوقف { فانتقمنا مِنْهُمْ } أي فأردنا أن ننتقم منهم لِما أسلفوا من المعاصي والجرائم ، فإن قوله تعالى : { فأغرقناهم } عينُ الانتقام منهم فلا يصح دخولُ الفاء بينهم ويجوزُ أن يكون المرادُ مطلقَ الانتقام منهم والفاءُ تفسيرية كما في قوله تعالى : { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبّ } الخ { فِي اليم } في البحر الذي لا يُدرك قعرُه وقيل : في لُجّته { بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِين } تعليلٌ للإغراق أي كان إغراقُهم بسبب تكذيبِهم بآياتِ الله تعالى وإعراضِهم عنها وعدمِ تفكرِهم فيها بحيث صاروا كالغافلين عنها بالكلية ، والفاءُ وإن دلت على ترتب الإغراقِ على ما قبله من النكْثِ لكنه صرّح بالتعليل إيذاناً بأن مدارَ جميعِ ذلك تكذيبُ آياتِ الله تعالى والإعراضُ عنها ليكون ذلك مَزْجرةً للسامعين عن تكذيب الآياتِ الظاهرةِ على يد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والإعراضِ عنها .
{ وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ } أي بالاستبعاد وذبحِ الأبناءِ ، والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبلِ للدِلالة على استمرار الاستضعافِ وتجدّدِه وهم بنو إسرائيلَ ذُكروا بهذا العُنوانِ إظهاراً لكمال لُطفِه تعالى بهم وعظيمِ إحسانِه إليهم في رفعهم من حضيض المذلةِ إلى أوْج العزة { مشارق الارض ومغاربها } أي جانبيها الشرقيَّ والغربيَّ حيث ملَكها بنو إسرائيلَ بعد الفراعنةِ والعمالقةِ وتصرّفوا في أكنافها الشرقيةِ والغربية كيف شاؤوا ، وقوله تعالى : { التى بَارَكْنَا فِيهَا } أي بالخِصْب وسَعةِ الأرزاقِ ، صفةٌ للمشارق والمغارب ، وقيل : للأرض وفيه ضعفٌ للفصل بين الصفةِ والموصوفِ بالمعطوف كما في قولك : قام أم هند وأبوها العاقلةُ { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ الحسنى } وهي وعدُه تعالى إياهم بالنصر والتمكين كما ينبىء عنه قوله تعالى : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِى الارض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين } وقرىء كلماتُ لتعدد المواعيدِ ومعنى تمت مضَت واستمرت { على بَنِى إِسْرءيلَ بِمَا صَبَرُواْ } أي بسبب صبرِهم على الشدائد التي كابدوها من جهة فرعونَ وقمِه { وَدَمَّرْنَا } أي خرّبنا وأهلكنا { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } من العِمارات والقصورِ أي ودمرنا الذي كان فرعونُ يصنعه على أن فرعونَ اسمُ كان ويصنع خبرٌ مقدمٌ والجملة الكونيةُ صلةُ ما والعائدُ محذوفٌ ، وقيل : اسمُ كان ضميرٌ عائدٌ إلى ما الموصولةِ ويصنع مُسندٌ إلى فرعون والجملة خبرُ كان والعائدُ محذوف أيضاً والتقدير ودمرنا الذي كان هو يصنعُه فرعونُ الخ ، وقيل : كان زائدةٌ وما مصدريةٌ والتقديرُ ما يصنع فرعون الخ ، وقيل : كان زائدةٌ كما ذكر وما موصولةٌ اسميةٌ والعائد محذوف تقديره ودمرنا الذي يصنعه فرعون الخ أي صُنعَه ، والعدولُ إلى صيغة المضارعِ على هذين القولين لاستحضار الصورة { وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ } من الجنات أو ما كانوا يرفعونه من البُنيان كصرح هامانَ وقرىء يعرُشون بضم الراءِ والكسرُ أفصح وهذا آخِرُ قصةِ فرعونَ وقومه .(3/35)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)
وقوله عز وجل : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إسراءيل البحر } شروعٌ في قصة بني إسرائيلَ وشرحِ ما أحدثوه من الأمور الشنيعةِ بعد أن أنقذهم الله عز وجل من مَلَكة فرعون ومنّ عليهم من النعم العظامِ الموجبةِ للشكر وأراهم من الآيات الكبارِ ما تخِرّ له شمُّ الجبال تسليةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإيقاظاً للمؤمنين حتى لا يغفُلوا عن محاسبة أنفسِهم ومراقبةِ أحوالِهم . وجاوز بمعنى جاز ، وقرىء جوّزنا بالتشديد وهو أيضاً بمعنى جاز فعُدّي بالباء أي قطعنا بهم البحر . روي أنه عبر بهم موسى عليه السلام يوم عاشوراءَ بعد ما أهلك الله تعالى فرعون فصاموه شكراً لله عز وجل { فَاتُواْ } أي مروا { على قَوْمٍ } قيل : كانوا من لَخْمٍ ، وقيل : من العمالقة الكنعانيين الذين أُمر موسى عليه السلام بقتالهم { يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ } أي يواظبون على عبادتها ويلازمونها ، وقرىء بكسر الكاف ، قال ابن جريج : كانت أصنامُهم تماثيلَ بقرٍ وهو أولُ شأن العجل { قَالُواْ } عندما شاهدوا أحوالَهم { ياموسى اجعل لَّنَا إلها } مثالاً نعبُده { كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ } الكافُ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لإلها وما موصولة ولهم صلتها وآلهة بدل من وما والتقدير اجعل لنا إلها كائناً كالذي استقر هو لهم { قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } تعجب ( عليه السلام ) من قولهم هذا إثرَ ما شاهدوا من الآية الكبرى والمعجزةِ العُظمى فوصفهم بالجهل المطلقِ إذ لا جهل أعظمُ مما ظهر منهم ، وأكده بقوله : { إِنَّ هَؤُلآء } يعني القومَ الذين يعبدون تلك التماثيلَ { مُتَبَّرٌ } أي مُدمّرٌ مكسَّرٌ { مَّا هُمْ فِيهِ } أي من الدين الباطلِ أي يُتبرّ الله تعالى ويهدِم دينَهم الذي هم عليه عن قريب ويحطّم أصنامَهم ويتركها رُضاضاً ، وإنما جيء بالجملة الاسميةِ للدلالةِ على التحقق { وباطل } أي مضمحلٌّ بالكلية { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من عبادتها وإن كان قصدُهم بذلك التقريبَ إلى الله تعالى فإنه كفرٌ محضٌ ، وليس هذا كما في قوله تعالى : { وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } كما تُوهم فإن المرادَ به أعمالُ البِرِّ التي عمِلوها في الجاهلية فإنها في أنفسها حسناتٌ لو قارنت الإيمانَ لاستتبعت أجورَها وإنما بطَلت لمقارنتها الكفرَ ، وفي إيقاع ( هؤلاءِ ) اسماً لإن وتقديمِ الخبر من الجملة الواقعةِ خبراً لها وسْمٌ لعبدة الأصنامِ بأنهم هم المُعرَّضون للتبار وأنه لا يعدوهم البتةَ وأنه لهم ضربةُ لازبٍ ليحذّرهم عاقبةَ ما طلبوا ويُبغِضَ إليهم ما أحبوا .(3/36)
قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
{ قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها } شروعٌ في بيانِ شؤونِ الله تعالى الموجبةِ لتخصيص العبادةِ به تعالى بعد بيانِ أن ما طلبوا عبادتَه مما لا يمكن طلبُه أصلاً لكونه هالكاً باطلاً ، ولذلك وسّط بينهما قال مع كونِ كلَ منهما كلامَ موسى عليه الصلاة والسلام ، والاستفهامُ للإنكار والتعجب والتوبيخِ وإدخالُ الهمزةِ على غير للإيذان بأن المنكَرَ هو كونُ المبْغيِّ غيرَه تعالى لما أنه لاختصاص الإنكار بغيره تعالى دون إنكارِ الاختصاصِ بغيره تعالى ، وانتصابُ غير على أنه مفعولُ أبغي بحذف اللام أي أبغي لكم أي أطلب لكم غيرَ الله تعالى ، وإلها تمييزٌ أو حال أو على الحالية من إلها وهو المفعولُ لأبغي على أن الأصلَ أبغي لكم إلها غيرَ الله فغيرَ الله صفةٌ لإلها فلما قُدّمت صفةُ النكرةِ انتصبت حالاً { وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين } أي والحالُ أنه تعالى خصكم بنعمٍ لم يُعطِها غيرَكم ، وفيه تنبيهٌ على ما صنعوا من سوء المعاملةِ حيث قابلوا تخصيصَ الله تعالى إياهم من بين أمثالِهم بما لم يستحقوه تفضلاً بأن عمَدوا إلى أخسّ شيءٍ من مخلوقاته فجعلوه شريكاً له تعالى . تباً لهم ولما يعبدون .
{ وَإِذَ أنجيناكم } تذكيرٌ لهم من جهته سبحانه بنعمة الإنجاءِ من ملَكة فرعون وقرىء نجّينا كم من التنجية ، وقرىء أنجاكم فيكون مَسوقاً من جهة موسى عليه الصلاة والسلام أي واذكروا وقت إنجائِنا إياكم { مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ } من ملَكتهم لا بمجرد تخليصِكم من أيديهم وهم على حالهم في المَكِنة والقدرة بل بإهلاكهم بالكلية وقوله تعالى : { يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب } من سامه خسفاً أي أولاه إياه أو كلفه إياه ، وهو إما استئنافٌ لبيان ما أنجاهم منه أو حالٌ من المخاطَبين أو من آل فرعون أو منهما معاً لاشتماله على ضميريهما وقوله تعالى : { يُقَتّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ } بدلٌ من يسومونكم مُبين أو مفسّرٌ له { وَفِى ذلكم } الإنجاءِ أو سوءِ العذاب { بَلاءٌ } أي نعمةٌ أو محنة { مّن رَّبّكُمْ } من مالك أمرِكم فإن النعمةَ والنقِمةَ كلتاهما منه سبحانه وتعالى { عظِيمٌ } لا يقادَر قدرُه { وواعدنا موسى ثلاثين لَيْلَةً } روي أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيلَ وهم بمصرَ إن أهلك الله عدوَّهم أتاهم بكتاب فيه بيانُ ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعونُ سأل موسى عليه السلام ربه الكتابَ فأمره بصوم ثلاثين يوماً وهو شهرُ ذي القَعدة فلما أتمّ الثلاثين أنكر خُلوفَ فيه فتسوّك فقالت الملائكةُ : كنا نشم من فيك رائحةَ المسك فأفسدته بالسواك ، وقيل : أوحى الله تعالى إليه أما علمتَ أن ريحَ فمِ الصائمِ أطيبُ عندي من ريح المِسْك فأمره الله تعالى بأن يزيد عليها عشرةَ أيامٍ من ذي الحِجّة لذلك ، وذلك قوله تعالى : { وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ } والتعبير عنها بالليالي لأنها غُرَرُ الشهور ، وقيل : أمره الله تعالى بأن يصوم ثلاثين يوماً وأن يعمل فيها بما يقرّبه من الله تعالى ثم أنزلت عليه التوراةُ في العشر وكلم فيها وقد أُجمل ذكر الأربعين في سورة البقرة وفُصِّل هاهنا وواعدنا بمعنى وعدْنا وقد قرىء كذلك وقيل : الصيغةُ على بابها بناءً على تنزيل قَبول موسى عليه السلام منزلةَ الوعدِ ، وثلاثين مفعولٌ ثانٍ لواعدنا بحذف المضافِ أي إتمامَ ثلاثين ليلةً { فَتَمَّ ميقات رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } أي بإلغاء أربعين ليلة { وَقَالَ موسى لاِخِيهِ هارون } حين توجه إلى المناجاة حسبما أُمر به { اخلفنى } أي كن خليفتي { فِى قَوْمِى } وراقِبْهم فيما يأتون وما يذرون { وَأَصْلِحْ } ما يحتاج إلى الإصلاح من أمورهم أو كن مصلحاً { وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين } أي لا تتبع مَنْ سلك الإفسادَ ولا تُطِعْ من دعاك إليه .(3/37)
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
{ وَلَمَّا جَاء موسى لميقاتنا } لوقتنا الذي وقتناه ، واللامُ للاختصاص ، أي اختَصَّ مجيئُه بميقاتنا { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } من غير واسطةٍ كما يكلم الملائكة عليهم السلام ، وفيما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يسمع ذلك من كل جهةٍ تنبيهٌ على أن سماعَ كلامِه عز وجل ليس من جنس سماعِ كلام المحدّثين { قَالَ رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ } أي أرني ذاتَك بأن تمكِّنَنء من رؤيتك أو تتجلى لي فأنظرَ إليك وأراك . هو دليلٌ على أن رؤيتَه تعالى جائزةٌ في الجملة لما أن طلبَ المستحيلِ مستحيلٌ من الأنبياء لا سيما ما يقتضي الجهلَ بشؤون الله تعالى ولذلك رده بقوله : لن تراني دون لن أرى ولن أُرِيَك ولن تنظُرَ إليّ تنبيهاً على أنه قاصرٌ عن رؤيته لتوقفها على معد في الرائي ولم يوجد فيه ذلك بعدُ ، وجعلُ السؤالِ لتبكيت قومِه الذين قالوا : أرنا الله جهرةً خطأٌ إذ لو كانت الرؤيةُ ممتنعةً لوجب أن يُجهِّلَهم ويُزيحَ شبهتَهم كما فعل ذلك حين قالوا : { اجعل لَّنَا إلها } وأن لا يتبعَ سبيلَهم كما قال لأخيه : ولا تتبعْ سبيلَ المفسدين ، والاستدلالُ بالجواب على استحالتها أشدُّ خطأً إذ لا يدل الإخبارُ بعدم رؤيتِه إياه على أنه لا يراه أبداً وأنه لا يراه غيرُه أصلاً فضلاً عن أن يدل على استحالتها دعوى الضرورةِ مكابرة أو جهل لحقيقة الرؤية .
{ قَالَ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل : فماذا قال ربُّ العزة حين قال موسى عليه السلام ما قال؟ فقيل : قال : { لَن تَرَانِى ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى } استدراكٌ لبيان أنه لا يُطيق بها ، وفي تعليقها باستقرار الجبلِ أيضاً دليلٌ على الجواز ضرورةَ أن المعلَّق بالممكن ممكنٌ والجبلُ قيل : هو جبل أردن { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } أي ظهرت له عظمتُه وتصدّى له اقتدارُه وأمرُه وقيل : أُعطي الجبلُ حياةً ورؤيةً حتى رآه { جَعَلَهُ دَكّا } مدكوكاً مُفتّتاً ، والدكُّ والدقُّ أخَوَان كالشك والشق وقرىء دكاً أي أرضاً مستويةً ومنه ناقةٌ دكاءُ للتي لا سنامَ لها ، وقرىء دُكاً جمعُ دكّاءَ أي قطعاً { وَخَرَّ موسى صَعِقًا } مغشياً عليه من هول ما رآه { فَلَمَّا أَفَاقَ } الإفاقةُ رجوعُ العقلِ والفهم إلى الإنسان بعد ذهابِهما بسبب من الأسباب { قَالَ } تعظيماً لما شاهده { سبحانك } أي تنزيهاً لك من أن أسألك شيئاً بغير إذنٍ منك { تُبْتُ إِلَيْكَ } أي من الجراءة والإقدامِ على السؤال بغير إذن { وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين } أي بعظمتك وجلالِك وقيل : أولُ من آمن بأنك لا تُرى في الدنيا وقيل : بأنه لا يجوز السؤال بغير إذن منك .(3/38)
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
قَالَ يَا موسى } استئنافٌ مَسوقٌ لتسليته عليه الصلاة والسلام من عدم الإجابةِ إلى سؤال الرؤيةِ كأنه قيل : إن منعتُك الرؤيةَ فقد أعطيتك من النعم العظامِ ما لم أعْطِ أحداً من العالمين فاغتنِمْها وثابرْ على شكرها { إِنْى اصطفيتك } أي اخترتُك واتخذتُك صفوةً وآثرتُك { عَلَى الناس } أي المعاصِرين لك . وهارونُ وإن كان نبياً كان مأموراً باتباعه وما كان كَليماً ولا صاحبَ شرعٍ { برسالاتي } أي بأسفار التوراةِ وقرىء برسالتي { وبكلامي } وبتكليمي أياك بغير واسطة { فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ } من شرف النبوةِ والحكمة { وَكُنْ مّنَ الشاكرين } على ما أُعطيت من جلائل النعمِ ، قيل : كان سؤالُ الرؤيةِ يوم عرفةَ وإعطاءُ التوراةِ يومَ النحر { وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الالواح مِن كُلّ شَىْء } أي مما يحتاجون إليه من أمور دينِهم { مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء } بدلٌ من الجارّ والمجرور أي كتبنا له كلَّ شيءٍ من المواعظ وتفصيلِ الأحكام ، واختُلف في عدد الألواحِ وفي جوهرها ومقدارِها فقيل : إنها كانت عشَرةَ ألواحٍ وقيل : سبعةً وقيل : لوحين وأنها كانت من زُمُرُّذَةٍ جاء بها جبريلُ عليه السلام وقيل : من زَبَرْجَدةٍ خضراءَ أو ياقوتةٍ حمراءَ . وقيل : أمر الله تعالى موسى بقطعها من صخرة صمّاءَ ليَّنها له فقطعها بيده وشققها بأصابعه . وعن الحسن رضي الله عنه كانت من خشب نزلت من السماء فيها التوراةُ وأن طولَها كان عشَرةَ أذرُع . وقيل : أُنزلت التوراةُ وهي سبعون وِقْرَ بعيرٍ يقرأ الجزءُ منه في سنة لم يقرأها إلا أربعةُ نفرٍ : موسى ويوشعُ وعُزيرٌ وعيسى عليهم السلام . وعن مقاتل رضي الله عنه كُتب في الألواح إني أنا الله الرحمن الرحيم لا تشرِكوا بي شيئاً ولا تقطعوا السبيلَ ولا تزْنوا ولا تعقُّوا الوالدين { فَخُذْهَا } على إضمار قولٍ معطوف على كتبنا أي فقلنا خذها { بِقُوَّةٍ } بجدَ وعزيمة وقيل : هو بدلٌ من قوله تعالى : { فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ } والضميرُ للألواح أو لكل شيءٍ لأنه بمعنى الأشياء أو للرسالة أو للتوراة .
{ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } أي بأحسنِ ما فيها كالعفو والصبر لالإضافة إلى الاقتصاص والانتصارِ على طريقة الندبِ والحثِّ على اختيار الأفضل كما في قوله تعالى : { واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ } أو بواجباتها فإنها أحسنُ من المباح ، وقيل : المعنى يأخذوا بها ، و ( أحسن ) صلةٌ . قال قُطرُب : أي بحسَنها وكلُّها حسنٌ كقوله تعالى : { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } وقيل : هو أن تُحمل الكلمةُ المحتملةُ لمعنيين أو لمعان على أشبه محتمَلاتِها بالحق وأقربِها إلى الصواب { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى قومه عليه الصلاة والسلام بطريق الالتفاتِ حملاً لهم على الجد في الامتثال بنا أُمروا به ، إما على نهج الوعيدِ والترهيب على أن المرادَ بدار الفاسقين أرضَ مصرَ وديارُ عادٍ وثمودَ وأضرابِهم فإن رؤيتها وهي خاليةٌ عن أهلها خاويةٌ على عروشها موجبةٌ للاعتبار والانزجارِ عن مثل أعمالِ أهلِها كيلا يحِلَّ بهم ما حل بأولئك وإما على نهج الوعدِ والترغيبِ على أن المرادَ بدار الفاسقين إما أرضُ مصرَ خاصةً أو مع أرض الجبابرةِ والعمالقةِ بالشام فإنها أيضاً مما أتيح لبني إسرائيلَ وكُتب لهم حسبما ينطِق به قولُه عز وجل : { العالمين يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } ومعنى الإراءةِ الإدخالُ بطريق الإيراثِ ، ويؤيده قراءةُ مَنْ قرأ سأوُرثكم بالثاء المثلثة كما في قوله تعالى : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الارض ومغاربها } وقرىء سأُوريكم ولعله من أورَيْتُ الزندَ أي سأبيِّنُها بكم .(3/39)
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)
وقوله تعالى : { سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الارض } استئنافٌ مَسوقٌ لتحذيرهم عن التكبر الموجبِ لعدم التفكرِ في الآيات التي هي ما كتب في ألواح التوراةِ من المواعظ والأحكامِ أو ما يعمُّها وغيرَها من الآيات التكوينيةِ التي من جملتها ما وعد إراءَته من الفاسقين ومعنى صرفِهم عنها الطبعُ على قلوبهم بحيث لا يكادون يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها لإصرارهم على ما هم عليه من التكبر والتجبر كقوله تعالى : { فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } وتقديمُ الجارِّ والمجرور على المفعول الصريحِ لإظهار الاعتناءِ بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخر مع أن في المؤخَّرِ نوعَ طُولٍ يُخِل تقديمُه بتجاوب أطرافِ النظمِ الجليلِ أي سأطبع على قلوب الذين يعدّون أنفسَهم كُبراءَ ويرَوْن لهم على الخلق مزِيةً وفضلاً فلا ينتفعون بآياتي التنزيليةِ والتكوينيةِ ولا يغتنمون مغانمَ آثارِها ، فلا تسلُكوا مسلكَهم فتكونوا أمثالَهم ، وقي : المعنى سأصرِفهم عن إبطالها وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعونُ في إبطال ما رآه من الآيات فأبى الله تعالى إلا إحقاقَ الحقِّ وإزهاقَ الباطل ، وعلى هذا فالأنسبُ أن يُرادَ بدار الفاسقين أرضُ الجبابرةِ والعمالقةِ المشهورين بالفسق والتكبر في الأرض وبإراءتها للمخاطَبين إدخالُهم الشامَ وإسكانُهم في مساكنهم ومنازلِهم حسبما نطَق به قولُه تعالى : { العالمين يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } ويكون قولُه تعالى : { سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي } الخ ، جواباً عن سؤال مقدر ناشىءٍ من الوعد بإدخال الشامِ على أن المرادَ بالآيات ما تُلي آنفاً ونظائرُه ، وبصرفهم عنها إزالتُهم عن مَقام معارضتِها وممانعتِها لوقوع أخبارِها وظهور أحكامِها وآثارِها بإهلاكهم على يد موسى عليه الصلاة والسلام حين سار بعد التّيهِ بمن بقيَ من بني إسرائيلَ أو بذرياتهم على اختلاف الروايتين إلى أريحا ويوشعُ بنُ نونٍ في مقدمته ففتحها واستقر بنو إسرائيلَ بالشام وملكوا مشارقَها ومغاربَها كأنه قيل : كيف يرون دارهم وهم فيها؟ فقيل : سأُهلِكُهم ، وإنما عدل إلى الصَرْف ليزدادوا ثقةً بالآيات واطمئناناً بها وقوله تعالى : { بِغَيْرِ الحق } إما صلةٌ للتكبر أي يتكبرون بما ليس بحق وهو دينُهم الباطلُ وظلمُهم المُفْرِطُ أو متعلق بمحذوف هو حالٌ من فاعله أي يتكبرون ملتبسين بغير الحق وقوله تعالى { وَإِن يَرَوا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها } عطفٌ على يتكبرون داخلٌ معه في حُكم الصلةِ والمرادُ بالآية إما المنزلةُ فالمرادُ برؤيتها مشاهدتُها بسماعها أو ما يعمُّها من المعجزات فالمرادُ برؤيتها مطلقُ المشاهَدةِ المنتظمةِ للسماع والإبصار ، أي وإن يشاهِدوا كلَّ آيةٍ من الآيات لا يؤمنوا بها على عموم النفي لا على نفي العُموم أي كفروا بكل واحدة منها لعدم اجتلائِهم إياها كما هي وهذا كما ترى يؤيد كونَ الصرفِ بمعنى الطبع وقوله تعالى : { وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } عطفٌ على ما قبله داخلٌ في حكمه أي لا يتوجهون إلى الحق ولا يسلُكون سبيله أصلاً لاستيلاء الشيطنةِ عليهم ومطبوعيّتِهم على الانحراف والزيغ ، وقرىء بفتحتين وقرىء الرشادِ وثلاثتُها لغات كالسُّقْم والسقام { وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغى يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } أي يختارونه لأنفسهم مسلَكاً مستمراً لا يكادون يعدِلون عنه لموافقته لأهوائهم الباطلةِ وإفضائه بهم إلى شهواتهم { ذلك } إشارةٌ إلى ما ذكر من تكبُّرهم وعدمِ إيمانهم بشيء من الآيات وإعراضِهم عن سبيل الرشدِ وإقبالِهم التامّ إلى سبيل الغيِّ ، وهو مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى : { بِأَنَّهُمْ } أي حاصلٌ بسبب أنهم { كَذَّبُواْ بئاياتنا } الدالةِ على بطلان ما اتصفوا به من القبائح وعلى حقية أضدادِها { وَكَانُواْ عَنْهَا غافلين } لا يتفكرون فيها وإلا لما فعلوا ما فعلوا من الأباطيل ، ويجوز أن يكون إشارةً إلى ما ذُكر من الصرف ولا يمنعُه الإشعارُ بعلّية ما في حيز الصلةِ كيف لا وقد مر أن ذلك في قوله تعالى :(3/40)
{ ذلك بِمَا عَصَواْ } الآية ، يجوزُ أن يكون إشارةً إلى ضرب الذلةِ والمسكنةِ والبَوْءِ بالغضب العظيمِ مع كون ذلك معللاً بالكفر بآيات الله صريحاً ، وقيل : محلُّ اسمِ الإشارةِ النصبُ على المصدر ، أي سأصرفهم ذلك الصَّرْفَ بسبب تكذيبِهم بآياتنا وغفلتِهم عنها .(3/41)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)
{ والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا وَلِقَاء الاخرة } أي وبلقائهم الدارَ الآخرةَ أو لقائهم ما وعده الله تعالى في الآخرة من الجزاء ومحلُّ الموصولِ الرفعُ على الابتداء وقوله تعالى : { حَبِطَتْ أعمالهم } خبرُه أي ظهر بُطلانُ أعمالِهم التي كانوا عمِلوها من صلة الأرحامِ وإغاثةِ الملهوفين ونحوِ ذلك ، أو حبطت بعد ما كانت مرجُوَّةَ النفعِ على تقدير إيمانهم بها { هَلْ يُجْزَوْنَ } أي لا يُجزون { إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي الإجزاءَ ما كانوا يعمَلونه من الكفر والمعاصي .
{ واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ } أي من بعد ذهابِه إلى الطور { مِنْ حُلِيّهِمْ } متعلقٌ باتخذ كالجارِّ الأول لاختلاف معنييهما فإن الأولَ للابتداء والثاني للتبعيض أو للبيان ، أو الثاني متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً مما بعده إذ لو تأخر لكان صفةً له وإضافةُ الحُلِيِّ إليهم مع أنها كانت للقِبْط لأدنى الملابسة حيث كانوا استعاروها من أربابها قُبيل الغرقِ فبقِيَتْ في أيديهم . وأما أنهم ملكوها بعد الغرقِ فذلك منوطٌ بتملك بني إسرائيلَ غنائمَ القِبطِ وهم مستأمَنون فيما بينهم فلا يساعده قولُهم : { حُمّلْنَا أَوْزَاراً مّن زِينَةِ القوم } والحلي بضم الحاء وكسر اللام جمعُ حَلْيٍ كثَدْيٍ وثُدِيّ وقرىء بكسر الحاء بالإتباع كدِليّ وقرىء حَلْيِهم على الإفراد وقوله تعالى : { عِجْلاً } مفعولُ اتخذ أُخِّر عن المجرور لما مر من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طولٍ يُخِلُّ تقديمُه بتجاوب أطرافِ النظمِ الكريم ، وقيل : هو متعدَ إلى اثنين بمعنى التصيير والمفعول الثاني محذوفٌ أي إلها وقوله تعالى : { جَسَداً } بدلٌ من عجلاً أي جُثةً ذاتَ دمٍ ولحمٍ أو جسداً من ذهب لا روحَ معه وقوله تعالى : { لَّهُ خُوَارٌ } أي صوتُ بقر ، وقرىء بالجيم والهمزة وهو الصياح نعتٌ لعجلاً . روي أن السامريَّ لما صاغ العجلَ ألقى في فمه تراباً من أثر فرسِ جبريلَ عليه الصلاة والسلام وقد كان أخذه عنه فلْقِ البحر أو عند توجُّهِه إلى الطور ، فصار حيّاً وقيل : صاغه بنوع من الحيل فيدخُلُ الريحُ في جوفه فيصوِّت ، والأنسبُ بما في سورة طه هو الأولُ وإنما نُسبَ اتخاذُه إليهم وهو فعلُه إما لأنه واحدٌ وإما لأنهم رضُوا به فكأنهم فعلوه وإما لأن المرادَ بالاتخاذ اتخاذُهم إياه إلها لا صنعُه وإحداثُه { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ } استئنافٌ مَسوقٌ لتقريعهم وتشنيعِهم وتركيكِ عقولِهم وتسفيهِهم فيما أقدموا عليه من المنكر الذي هو اتخاذُه إلها ، أي ألم يرَوا أنه ليس فيه شيءٌ من أحكام الألوهية حيث لا يكلمهم { وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً } بوجه من الوجوه فكيف اتخذوه إلها وقوله تعالى : { اتخذوه } أي فعلوا ذلك { وَكَانُواْ ظالمين } أي واضعين للأشياء في غير موضعِها فلم يكن هذا أولَ منكرٍ فعلوه ، والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ وتكريرٌ اتخذوه لتثنية التشنيعِ وترتيبِ الاعتراض عليه .(3/42)
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
{ وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ } أي ندِموا على ما فعلوا غايةَ الندمِ فإن ذلك كنايةٌ عنه لأن النادمَ المتحسِّرَ يعَضُّ يدَه غماً فتصير يدُه مسقوطاً فيها ، وقرىء سقَطَ على البناء للفاعل بمعنى وقع العضُّ فيها فاليدُ حقيقةٌ ، وقال الزجاج : معناه سقَط الندمُ في أنفسهم إما بطريق الاستعارةِ بالكناية أو بطريق التمثيل { وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ } باتخاذ العجلِ أي تبيّنوا بحيث تيقنوا بذلك حتى كأنهم رأَوْه بأعينهم ، وتقديمُ ذكرِ ندمِهم على هذه الرؤيةِ مع كونه متأخراً عنها للمسارعة إلى بيانه والإشعارِ بغاية سُرعتِه كأنه سابقٌ على الرؤية { قَالُواْ } والله { لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا } بإنزال التوبةِ المكفرة { وَيَغْفِرْ لَنَا } ذنوبَنا بالتجاوز عن خطيئتنا ، وتقديمُ الرحمةِ على المغفرة مع أن التخليةَ حقُّها أن تقدمَ على التحلية إما للمسارعة إلى ما هو المقصودُ الأصليّ وإما لأن المرادَ بالرحمة مطلقُ إرادةِ الخير بهم وهو مبدأٌ لإنزال التوبةِ المكفرة لذنوبهم ، واللامُ في لئن موطئةٌ للقسم كما أشير إليه وفي قوله تعالى : { لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } لجواب القسمِ ، وما حُكي عنهم من الندامة والرؤية والقولِ وإن كان بعد ما رجَع موسى عليه الصلاة والسلام إليهم كما ينطِق به الآياتُ الواردة في سورة طه لكن أريد بتقديمه عليه حكايةُ ما صدر عنهم من القول والفعلِ في موضع واحد .(3/43)
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
{ وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ } شروعٌ في بيان ما جرى من موسى عليه السلام بعد رجوعِه من الميقات إثرَ بيانِ ما وقع من قومه بعده ، وقولُه تعالى : { غضبان أَسِفًا } حالان من موسى عليه السلام أو الثاني من المستكنّ في غضبانَ والآسِفُ الشديدُ الغضبِ وقيل : الحزين { قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى } أي بئسما فعلتم من بعد غَيْبتي حيث عبدتم العجلَ بعد ما رأيتم فعلي من توحيد الله تعالى ونفيِ الشركاءِ عنه وإخلاصِ العبادةِ له أو من حملكم على ذلك وكفِّكم عما طمَحَت نحوه أبصارُكم حيث قلتم : اجعلْ لنا إلها كما لهم آلهةٌ ومن حق الخلفاءِ أن يسيروا بسيرة المستخلِفِ فالخطابُ للعبَدَة من السامريِّ وأشياعِه ، أو بئسما قمتم مَقامي ولم ترعوا عهدي حيث لم تكفوا العبَدَةَ عما فعلوا ، فالخطابُ لهارونَ ومن معه من المؤمنين كما ينبىء عنه قوله تعالى : { قَالَ يَا هارون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ أَن لا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى } ويجوز أن يكون الخطابُ للكل على أن المرادَ بالخليفة ما يعم الأمرين المذكورين ، وما نكرةٌ موصوفةٌ مفسِّرةٌ لفاعل بئس المستكنِّ فيه والمخصوصُ بالذم محذوفٌ تقديره بئس خلافةً خلفتمونيها من بعدي خلافتُكم { أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ } أي تركتموه غيرَ تام على تضمين عجِلَ معنى سبَق ، يقال : عجِل عن الأمر إذا تركه غيرَ تام أو أعجِلتم وعدَ ربِّكم الذي وعدنيه من الأربعين وقدّرتم موتي وغيّرتم بعدي كما غيرت الأممُ بعد أنبيائِهم { وَأَلْقَى الالواح } طرحها من شدة الغضبِ وفرطِ الضجر حميةً للدين . روي أن التوراةَ كانت سبعةَ أسباعٍ في سبعة ألواح فلما ألقاها انكسرت فرفعت ستةُ أسباعِها التي كان فيها تفصيلُ كلِّ شيءٍ وبقي سُبعٌ كان فيه المواعظُ والأحكامُ { وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ } بشعر رأسِه عليهما السلام { يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } حال من ( أخذ ) ، فعلَه عليه السلام توهما أنه قصّر في كفهم ، وهارونُ كان أكبرَ منه عليهما السلام بثلاث سنينَ وكان حَمولاً ولذلك كان أحبَّ إلى بني إسرائيل .
{ قَالَ } أي هارون لموسى عليهما السلام { ابن أُمَّ } بحذف حرف النداءِ ، وتخصيصُ الأم بالذكر مع كونهما شقيقين لما أن حقّ الأمِّ أعظمُ وأحقُّ بالمراعاة مع أنها كانت مؤمنةً وقد قاست فيه المخاوفَ والشدائد وقرى بكسر الميم بإسقاط الياءِ تخفيفاً كالمنادى لمضافِ إلى الياء وقراءةُ الفتح لزيادة التخفيف أو لتشبيهه بخمسةَ عشرَ { إِنَّ القوم استضعفونى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى } إزاحةً لتوهم التقصيرِ في حقه ، والمعنى بذلتُ جُهدي في كفهم حتى قهروني واستضعفوني وقاربوا قتلي { فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الاعداء } أي فلا تفعلْ بي ما يكون سبباً لشماتتهم بي { وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ القوم الظالمين } أي معدوداً في عدادهم بالمؤاخذة أو النسبة إلى التقصير ، وهذا يؤيد كونَ الخطابِ للكل ، أو لا تعتقد أني واحدٌ من الظالمين مع براءتي منهم ومن ظلمهم .(3/44)
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)
{ قَالَ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من حكاية اعتذارِ هارونَ عليه السلام كأنه قيل : فماذا قال موسى عند ذلك؟ فقيل : قال : { رَبّ اغفر لِى } أي ما فعلتُ بأخي من غير ذنبٍ مقرِّرٍ من قِبَله { وَلأَخِى } إن فرَطَ منه تقصيرٌ ما في كفهم عما فعلوه من العظيمة ، استغفرَ عليه السلام لنفسه ليُرضِيَ أخاه ويُظهر للشامتين رضاه لئلا تتم شماتتُهم به ولأخيه للإيذان بأنه محتاجٌ إلى الاستغفار حيث كان يجب عليه أن يقاتلَهم { وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ } بمزيد الإنعامِ بعد غُفران ما سلف منا { وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحمين } فلا غَرْوَ في انتظامنا في سلك رحمتِك الواسعةِ في الدنيا والآخرة ، والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبله . { إِنَّ الذين اتخذوا العجل } أي تمّوا على اتخاذه واستمروا على عبادته كالسامريِّ وأشياعِه من الذين أُشربوه في قلوبهم كما يُفصح عنه كونُ الموصولِ الثاني عبارةً عن التائبين فإن ذلك صريحٌ في أن الموصولَ الأولَ عبارةٌ عن المصِرّين { سَيَنَالُهُمْ } أي في الآخرة { غَضَبٌ } أي عظيمٌ لا يقادر قدرُه مستتبِعٌ لفنون العقوباتِ لما أن جريمتَهم أعظمُ الجرائم وأقبحُ الجرائر وقوله تعالى : { مّن رَّبّهِمُ } أي مالكِهم ، متعلقٌ بينالُهم أو بمحذوف هو نعتٌ لغضب مؤكد لما أفاده التنوينُ من الفخامة الذاتيةِ بالفخامة الإضافية ، أي كائنٌ من ربهم { وَذِلَّةٌ فِى الحياة الدنيا } هي ذلةُ الاغترابِ التي تُضرب بها الأمثالُ والمسكنةُ المنتظمةُ لهم ولأولادهم جميعاً ، والذلةُ التي اختص بها السامريُّ من الانفراد عن الناس والابتلاء بلا مِساس . يروى أن بقاياهم اليومَ يقولون ذلك ، وإذا مس أحدَهم أحدٌ غيرُهم حُمّاً جميعاً في الوقت ، وإيرادُ ما نالهم في حيز السين مع مُضِيِّه بطريق تغليب حالِ الأخلافِ على حال الأسلاف ، وقيل : المرادُ بهم التائبون ، وبالغضب ما أُمروا به من قتل أنفسِهم ، واعتُذر عن السين بأن ذلك حكايةٌ عما أخبر الله تعالى به موسى عليه السلام حين أخبره بافتتان قومِه واتخاذِهم العجلَ بأنه سينالهم غضبٌ من ربهم وذلةٌ فيكون سابقاً على الغضب ، وأنت خبيرٌ بأن سباقَ النظم الكريم وسياقَه نابيان عن ذلك نُبوّاً ظاهراً ، كيف لا وقوله تعالى : { وكذلك نَجْزِى المفترين } ينادي على خلافه فإنهم شهداءُ تائبون فكيف يمكن وصفُهم بعد ذلك بالافتراء؟ وأيضاً ليس يجزي الله تعالى كلَّ المفترين بهذا الجزاءِ الذي ظاهرُه قهرٌ وباطنُه لطفٌ ورحمة ، وقيل : المرادُ بهم أبناؤهم المعاصِرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن تعييرَ الأبناءِ بأفاعيلِ الآباء مشهورٌ معروفٌ ، منه قولُه تعالى : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا } الآية ، وقولُه تعالى : { وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى } الآية ، والمرادُ بالغضب الغضبُ الأخرويُّ وبالذلة ما أصابهم من القتل والإجلاءِ وضربِ الجزية عليهم ، وقيل : المرادُ بالموصول المتّخِذون حقيقةً وبالضمير في ينالُهم أخلافُهم ولا ريب في أن توسيطَ حالِ هؤلاء في تضاعيف بيانِ حالِ المتخِذين من قبيل الفصل بين الشجرِ ولِحائه .(3/45)
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)
{ والذين عَمِلُواْ السيئات } أيَّ سيئةٍ كانت . { ثُمَّ تَابُواْ } عن تلك السيئات { مِن بَعْدِهَا } أي من بعد عملها { وَءامَنُواْ } إيماناً صحيحاً خالصاً واشتغلوا بإقامة ما هو من مقتضياته من الأعمال الصالحةِ ولم يُصِرُّوا على ما فعلوا كالطائفة الأولى { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } أي من بعد تلك التوبةِ المقرونةِ بالإيمان { لَغَفُورٌ } للذنوب وإن عظُمت وكثُرت { رَّحِيمٌ } مبالِغٌ في إفاضة فنونِ الرحمةِ الدنيويةِ والأخروية ، والتعرّضُ لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام للتشريف .
{ وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب } شروعٌ في بيان بقيةِ الحكايةِ إثرَ ما بيّن تحزب القوم إلى مصر وتائب والإشارةِ إلى مآل كلَ منهما إجمالاً أي لما سكن عنه الغضبُ باعتذار أخيه وتوبةِ القوم ، وهذا صريحٌ في أن ما حُكي عنهم من الندم وما يتفرّع عليه كان بعد مجيءِ موسى عليه الصلاة والسلام ، وفي هذا النظم الكريمِ من البلاغة والمبالغةِ بتنزيل الغضبِ الحاملِ له على ما صدر عنه من الفعل والقول منزلةَ الآمرِ بذلك المُغري عليه بالتحكم والتشديد ، والتعبيرِ عن سكوته بالسكوت ما لا يخفى ، وقرىء سَكَن وسكَت وأسكتَ على أن الفاعل هو الله تعالى أو أخوه أو التائبون { أَخَذَ الالواح } التي ألقاها { وَفِى نُسْخَتِهَا } أي فيما نُسخ فيها وكُتب ، فُعلة بمعنى مفعول كالخُطبة وقيل : فيما نسخ منها أي من الألواح المنكسرة { هُدًى } أي بيانٌ للحق { وَرَحْمَةً } للخلق بإرشادهم إلى ما فيه الخيرُ والصلاح { لّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ } اللامُ الأولى متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لرحمة أي كائنةٌ لهم أو هي لامُ الأجَل أي هدى ورحمةٌ لأجلِهم ، والثانيةُ لتقوية عمل الفعلِ المؤخّر كما في قوله تعالى : { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } أو هي أيضاً لامُ العلة والمفعولُ محذوفٌ أي يرهبون المعاصيَ لأجل ربهم لا للرياء والسمعة { واختار موسى قَوْمَهُ } شروعٌ في بيان كيفية استدعاءِ التوبةِ وكيفية وقوعِها واختار يتعدّى إلى اثنين ثانيهما مجرورٌ بمن أي اختار من قومه بحذف الجارّ والمجرور وإيصالِ الفعل إلى المجرور كما في قوله :
اختارك الناسَ إذْ رثَّتْ خلائِقُهم ... واعتلّ مَنْ كان يُرجَى عنده السُّولُ
أي اختارك من الناس { سَبْعِينَ رَجُلاً } مفعولٌ لاختار أُخِّر عن الثاني لما مر مراراً من الاعتناء بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخر { لميقاتنا } الذي وقتناه بعد ما وقع من قومه ما وقع لا لميقاتِ الكلام الذي ذكر قبل ذلك كما قيل . قال السدي : أمره الله تعالى بأن يأتيَه في ناس من بني إسرائيلَ يعتذرون إليه من عبادة العجلِ ووعدهم موعداً فاختار عليه السلام من قومه سبعين رجلاً . وقال محمد بن إسحَاقَ : اختارهم ليتوبوا إليه تعالى مما صنعوه ويسألوه التوبةَ على مَنْ تركوهم وراءهم من قومهم ، قالوا : اختار عليه الصلاة والسلام من كل سِبطٍ ستةً فزاد اثنانِ فقال : ليتخَلَّفْ منكم رجلان فتشاحّوا فقال عليه الصلاة والسلام : إن لمن قعد مثلَ أجرِ من خرج فقعد كالبُ ويوشَعُ وذهب من الباقين وأمرهم أن يصوموا ويتطهروا ويُطهِّروا ثيابهم فخرج بهم إلى طور سَيْنا فلما دنَوا من الجبل غشِيَه غمامٌ فدخل موسى بهم الغمامَ وخرّوا سُجّداً فسمِعوه تعالى يكلم موسى يأمرُه وينهاه حسبما يشاءُ وهو الأمرُ بقتل أنفسِهم توبةً { فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرجفة } مما اجترأوا عليه من طلب الرؤيةِ فإنه يروى أنه لما انكشف الغمامُ أقبلوا إلى موسى عليه السلام وقالوا : لن نؤمنَ لك حتى نرى الله جهرةً فأخذتهم الرجفةُ أي الصاعقةُ أو رجفةُ الجبل فصُعِقوا منها أي ماتوا ولعلهم أرادوا بقولهم : لن نؤمنَ لك ، لن نصدِّقك في أن الآمِرَ بما سمعنا الأمرَ بقتل أنفسِهم هو الله تعالى حتى نراه حيث قاسوا رؤيتَه تعالى على سماع كلامِه قياساً فاسداً فحين شاهد موسى تلك الحالةَ الهائلة .(3/46)
{ قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ } أي حين فرّطوا في النهي عن عبادة العجلِ وما فارقوا عبَدَتَه حين شاهدوا إصرارَهم عليها { وإياى } أيضاً حين طلبتُ منك الرؤيةَ أي لو شئتَ إهلاكَنا بذنوبنا لأهلكتَنا حينئذ ، أراد به عليه السلام تذكيرَ العفوِ السابقِ لاستجلاب العفوِ اللاحقِ فإن الاعترافَ بالذنب والشكرَ على النعمة مما يربِط العتيدَ ويستجلب المزيد ، يعني إنا كنا مستحقين للإهلاك ولم يكن من موانعه إلا عدمُ مشيئتِك إياه فحيث لطَفْتَ بنا وعفوتَ عنا تلك الجرائمَ فلا غروَ في أن تعفوَ عنا هذه الجريمةَ أيضاً ، وحملُ الكلام على التمني يأباه قوله تعالى : { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا } أي الذين لا يعلمون تفاصيلَ شؤونِك ولا يتثبتون في المداحض ، والهمزةُ إما لإنكار وقوعِ الإهلاكِ ثقةً بلطف الله عز وجل كما قاله ابن الأنباري أو للاستعطاف كما قاله المبرد أي لا تهلكنا { إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } استئنافٌ مقررٌ لما قبله واعتذارٌ عما صنعوا ببيان منشأ غلطِهم أي ما الفتنةُ التي وقع فيها السفهاءُ وقالوا بسببها ما قالوا من العظيمة إلا فتنتُك أي محنتُك وابتلاؤك حيث أسمعتهم كلامَك فافتتنوا بذلك ولم يتثبتوا فطمِعوا فيما فوق ذلك تابعين للقياس الفاسد وقوله تعالى : { تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء } إما استئنافٌ مبينٌ لحُكم الفتنةِ أو حالٌ من فتنتك أي حالَ كونِها مضِلاًّ بها الخ ، أي تُضل بسببها من تشاء إضلالَه فلا يهتدي إلى التثبت وتهدي من تشاء هِدايتَه إلى الحق فلا يتزلزل في أمثالها فيقوى بها إيمانُه { أَنتَ وَلِيُّنَا } أي القائمُ بأمورنا الدنيويةِ والأخرويةِ وناصرُنا وحافظُنا لا غيرُك { فاغفر لَنَا } ما قارفناه من المعاصي والفاءُ لترتيب الدعاءِ على ما قبله من الولاية كأنه قيل : فمن شأن الوليِّ المغفرةُ والرحمةُ ، وقيل : إن إقدامَه عليه الصلاة والسلام على أن يقول : إن هي إلا فتنتُك الخ ، جراءةٌ عظيمةٌ فطلب من الله تعالى غفرانها والتجاوزَ عنها { وارحمنا } بإفاضةِ آثارِ الرحمةِ الدنيويةِ والأخروية علينا { وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين } اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ لما قبله من الدعاء ، وتخصيصُ المغفرةِ بالذكر لأنها الأهمُّ بحسب المقام .(3/47)
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
{ واكتب لَنَا } أي عيِّنْ لنا وقيل : أوجِبْ وحقِّقْ وأثبتْ { فِى هذه الدنيا حَسَنَةٌ } أي نعمةً وعافيةً أو خَصلة حسنةً . قال ابن عباس رضي الله عنهما : اقبَلْ وِفادتَنا ورُدَّنا بالمغفرة والرحمة { وَفِي الاخرة } أي واكتبْ لنا فيها أيضاً حسنةً وهي المثوبةُ الحسنى والجنة { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } أي تُبْنا وأنبْنا إليك ، من هاد يهودُ إذا رجَع وقرىء بكسر الهاء من هاده يهيدُه إذا حرَّكه وأماله ويحتمل أن يكون مبنياً للفاعل أو للمفعول بمعنى أمَلْنا أنفسَنا أو أمِلْنا إليك ، وتجويزُ أن تكون القراءةُ المشهورة على بناء المفعول على لغة من يقول : عودَ المريضُ مع كونها لغةً ضعيفةً مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل ، والجملةُ استئنافٌ مَسوقٌ لتعليل الدعاءِ فإن التوبةَ مما يوجب قَبولَه بموجَب الوعدِ المحتوم ، وتصديرُها بحرف التحقيقِ لإظهار كمالِ النشاطِ والرغبةِ في التوبة ، والمعنى إنا تُبنا ورجَعْنا عما صنعنا من المعصية العظيمةِ التي جئناك للاعتذار عنها وعما وقع هاهنا من طلب الرؤية ، فبعيدٌ من لطفك وفضلك أن لا تقبل توبة التائبين . قيل : لما أخذتْهم الرجفةُ ماتوا جميعاً فأخذ موسى عليه الصلاة والسلام يتضرع إلى الله تعالى حتى أحياهم ، وقيل : رجَفوا وكادت تَبينُ مفاصلُهم وأشرفوا على الهلاك فخاف موسى عليه الصلاة والسلام فبكى فكشفها الله تعالى عنهم .
{ قَالَ } استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال ينساق إليه الكلامُ كأنه قيل : فماذا قال الله تعالى عند دعاءِ موسى عليه السلام؟ فقيل : قال : { عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء } لعله عز وجل حين جعل توبةَ عبدةِ العجلِ بقتلهم أنفسَهم ضمّن موسى عليه السلام دعاءَه التخفيفَ والتيسير حيث قال : واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة أي خَصلةً حسنةً عاريةً عن المشقة والشدة فإن في قتل أنفسهم من العذاب والتشديد ما لا يخفى ، فأجاب تعالى بأن عذابي شأنُه أن أُصيبَ به من أشاء تعذيبَه من غير دخل لغيري فيه وهم ممن تناولَتْه مشيئتي ، ولذلك جُعلت توبتُهم مشوبةً بالعذاب الدنيوي { وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء } أي شأنُها أن تسَعَ في الدنيا المؤمنَ والكافرَ بل كلَّ ما يدخل تحت الشيئية من المكلفين وغيرِهم وقد نال قومَك نصيبٌ منها في ضمن العذاب الدنيوي ، وفي نسبة الإصابة إلى العذاب بصيغة المضارعِ ونسبةِ السعةِ إلى الرحمة بصيغة الماضي إيذانٌ بأن الرحمةَ مقتضى الذاتِ وأما العذابُ فبمقتضى معاصي العباد ، والمشيئةُ معتبرةٌ في جانب الرحمةِ أيضاً وعدمُ التصريحِ بها للإشعار بغاية الظهور ، ألا يُرى إلى قوله تعالى : { فَسَأَكْتُبُهَا } أي أُثبتها وأعيِّنُها فإنه متفرعٌ على اعتبار المشيئةِ كأنه قيل : فإذا كان الأمرُ كذلك أي كما ذكر من إصابة عذابي وسَعةِ رحمتي لكل من أشاء فسأكتبُها كَتْبةً كائنة كما دعوتَ بقولك : واكتب لنا في هذه الخ ، أي سأكتبها خالصةً غيرَ مشوبةٍ بالعذاب الدنيوي { لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } أي الكفر والمعاصي إما ابتداء أو بعد ملامستها وفيه تعريض بقومه كأنه قيل : لا لقومك لأنهم غير متقين فيكفيهم ما قدر لهم من الرحمة وإن كانت مقارنة للعذاب الدنيوي { وَيُؤْتُونَ الزكواة } وفيه أيضا تعريضٌ بهم حيث كانت الزكاةُ شاقةً عليهم ، ولعل الصلاةَ إنما لم تذكَرْ مع إنافتها على سائر العبادات اكتفاءً عنها بالاتقاء الذي هو عبارةٌ عن فعل الواجبات بأسرها وتركِ المنكرات عن آخرها ، وإيرادُ إيتاءِ الزكاة لما مر من التعريض { والذين هُم بئاياتنا } جميعاً { يُؤْمِنُونَ } إيماناً مستمراً من غير إخلالٍ بشيء منها ، وفيه تعريضٌ بهم وبكفرهم بالآيات العظامِ التي جاء بها موسى عليه الصلاة والسلام وبما سيجيء بعد ذلك من الآيات البيناتِ كتظليل الغمامِ وإنزالِ المنِّ والسلوى وغيرِ ذلك .(3/48)
وتكريرُ الموصول مع أن المرادَ به عينُ ما أريد بالموصول الأولِ دون أن يقال : ويؤمنون بآياتنا عطفاً على يؤتون الزكاة كما عُطف هو على يتقون لما أشير إليه من القَصْر بتقديم الجار والمجرور أي هم بجميع آياتنا يؤمنون لا ببعضها دون بعض .(3/49)
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
{ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول } الذي نوحي إليه كتاباً مختصاً به { النبى } أي صاحبَ المعجزة ، وقيل : عنوانُ الرسالةِ بالنسبة إليه تعالى وعنوانُ النبوة بالنسبة إلى الأمة { الامى } بضم الهمزة نسبةً إلى الأم ، كأنه باقٍ على حالته التي وُلد عليها من أمّه ، أو إلى أمة العرب كما قال عليه الصلاة والسلام : « إنا أمةٌ لا نحسُب ولا نكتب » أو إلى أم القرى ، وقرىء بفتح الهمزة أي الذي لم يمارس القراءةَ والكتابة وقد جمع مع ذلك علومَ الأولين والآخِرين ، والموصولُ بدلٌ من الموصول الأولِ بدلَ الكلِّ أو منصوبٌ على المدح أو مرفوع عليه أي أعني الذين ، أو هم الذين ، وأما جعلُه مبتدأً على أن خبرَه يأمرُهم أو أولئك هم المفلحون فغيرُ سديد { الذى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا } باسمه ونعوتِه بحيث لا يشكّون أنه هو لذلك عدل عن أن يقال : يجدون اسمَه أو وصفه مكتوباً { عِندَهُمُ } زيد هذا لزيادة التقريرِ وأن شأنه عليه الصلاة والسلام حاضرٌ عندهم لا يَغيب عنهم أصلاً { فِي التوراة والإنجيل } اللذيْن تُعِبِّد بهما بنو إسرائيلَ سابقاً ولاحقاً والظرفان متعلقان بيجدونه أو بمكتوباً وذكرُ الإنجيلِ قبل نزولِه من قبيل ما نحن فيه من ذكر النبي عليه الصلاة والسلام والقرآنِ الكريم قبل مجيئِهما { يَأْمُرُهُم بالمعروف وينهاهم عَنِ المنكر } كلامٌ مستأنفٌ لا محل له من الإعراب قاله الزجاج متضمنٌ لتفصيل بعض أحكامِ الرحمةِ التي وعد فيما سبق بكتبها إجمالاً ، فإن ما بُيّن فيه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحلالِ الطيبات وتحريمِ الخبائث وإسقاطِ التكاليف الشاقةِ كلُّها من آثار رحمتِه الواسعة ، وقي : في محل النصبِ على أنه حال مقدرةٌ من مفعول يجدونه أو من النبي أو من المستكن في مكتوباً ، أو مفسِّرٌ لمكتوباً أي لما كُتب { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات } التي حُرِّمت عليهم بشؤم ظلمِهم { وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الخبئث } كالدم ولحمِ الخِنزيرِ والربا والرشوة { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والاغلال التى كَانَتْ عَلَيْهِمْ } أي يخفف عنهم ما كُلّفوه من التكاليف الشاقةِ التي هي من قَبيل ما كتب عليهم حينئذ من كون التوبةِ بقتل النفسِ وتعيين القصاصِ في العمد والخطأ من غير شرعِ الدية ، وقطع الأعضاءِ الخاطئةِ وقرضِ موضعِ النجاسة من الجلد والثوب وإحراقِ الغنائم وتحريمِ السبت . وعن عطاء أنه كانت بنو إسرائيلَ إذا قاموا يصلون لبِسوا المُسوحَ وغلّوا أيديَهم إلى أعناقهم ، وربما ثقَبَ الرجلُ تَرْقُوتَه وجعل فيها طرف السلسلةِ وأثقلها إلى السارية يحبِس نفسه على العبادة ، وقرىء آصارَهم ، أصلُ الإصرِ الثقلُ الذين يأسِرُ صاحبه من الحَراك .
{ فالذين ءامَنُواْ بِهِ } تعليمٌ لكيفية اتّباعِه عليه الصلاة والسلام وبيانٌ لعلو رتبةِ متّبعيه واغتنامِهم مغانمَ الرحمةِ الواسعةِ في الدارين إثرَ بيانِ نعوتِه الجليلة والإشارةِ إلى إرشاده عليه الصلاة والسلام إياهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحلالِ الطيبات وتحريمِ الخبائث ، أي فالذين آمنوا بنبوته وأطاعوه في أوامره ونواهيه { وَعَزَّرُوهُ } أي عظّموه ووقّروه وأعانوه بمنع أعدائه عنه وقرىء بالتخفيف وأصلُه المنعُ ومنه التعزير { وَنَصَرُوهُ } على أعدائه في الدين { واتبعوا النور الذى أُنزِلَ مَعَهُ } أي مع نبوته وهو القرآنُ ، عبّر عنه بالنور المنبىءِ عن كونه ظاهراً بنفسه ومُظهِراً لغيره أو مظهِراً للحقائق كاشفاً عنها لمناسبة الاتّباعِ ، ويجوزُ أن يكون معه متعلقاً باتّبعوا أي واتّبعوا القرآنَ المنزلَ مع اتباعه عليه الصلاة والسلام بالعمل بسنته وبما أمَر به ونهى عنه أو اتبعوا القرآنَ مصاحبين له في اتباعه { أولئك } إشارةٌ إلى المذكورين من حيث اتصافُهم بما فُصّل من الصفات الفاضلةِ للإشعار بعلّيتها للحُكم ، وما فيه من معنى البُعدِ للإيذان بعلو درجتِهم وسُموِّ طبقتِهم في الفضل والشرفِ أو أولئك المنعوتون بتلك النعوتِ الجليلة { هُمُ المفلحون } أي هم الفائزون بالمطلوب الناجون عن الكروب لا غيرُهم من الأمم فيدخُل فيهم قومُ موسى عليه الصلاة والسلام دخولاً أولياً حيث لم ينجُوا عما في توبتهم من المشقة الهائلةِ وبه يتحقق التحقيقُ ويتأتّى التوفيقُ والتطبيقُ بين دعائِه عليه الصلاة والسلام وبين الجوابِ لا بمجرد ما قيل من أنه لما دعا لنفسه ولبني إسرائيلَ أجيب بما هو منطوٍ على توبيخ بني إسرائيلَ على استجازتهم الرؤيةَ على الله عز وجل وعلى كفرهم بآياته العظامِ التي أجراها على يد موسى عليه الصلاة والسلام وعرّض بذلك في قوله تعالى :(3/50)
{ والذين هُم بئاياتنا يُؤْمِنُونَ } وأريد أن يكون استماعُ أوصافِ أعقابِهم الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به كعبد اللَّه بن سلام وغيرِه من أهل الكتابين لطفاً بهم وترغيباً في إخلاص الإيمانِ والعمل الصالح .(3/51)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
{ قُلْ ياأيها الناس إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ } لما حُكي ما في الكتابين من نعوت رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وشرف مَنْ يتّبعه من أهلهما ونيلِهم لسعادة الدارين أُمر عليه الصلاة والسلام ببيان أن تلكَ السعادةَ غيرُ مختصةٍ بهم بل شاملةٌ لكل من يتبعه كائناً مَنْ كان ببيان عمومِ رسالتِه للثقلين مع اختصاص رسالةِ سائرِ الرسلِ عليهم السلام بأقوامهم وإرسالِ موسى عليه السلام إلى فرعونَ وملئِه بالآيات التسعِ إنما كان لأمرهم بعبادة ربِّ العالمين عز سلطانُه وتركِ العظيمةِ التي كان يدّعيها الطاغيةُ ويقبلها منه فئتُه الباغيةُ وبإرسال بني إسرائيلَ من الأسر والقسرِ ، وأما العملُ بأحكام التوراةِ فمختصٌّ ببني إسرائيل { جَمِيعاً } حالٌ من الضمير في إليكم { الذى لَهُ مُلْكُ السموات والارض } منصوبٌ أو مرفوعٌ على المدح أو مجرورٌ على أنه صفةٌ للجلالة وإن حيل بينهما بما هو متعلقٌ بما أضيف إليه فإنه في حكم المتقدّمِ عليه وقوله تعالى : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } بيانٌ لما قبله فإن مَنْ ملَك العالمَ كان هو الإله لا غيرُه وقوله تعالى : { يُحْيِي وَيُمِيتُ } لزيادة ألوهيتِه والفاءُ في قوله تعالى : { فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ } لتفريع الأمرِ على ما تمهّد وتقرّر من رسالته عليه الصلاة والسلام ، وإيرادُ نفسِه عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالةِ على طريقة الالتفاتِ إلى الغَيْبة للمبالغة في إيجاب الامتثالِ بأمره ، وصفُ الرسول بقوله : { النبى الامى } لمدحه عليه الصلاة والسلام بهما ولزيادة تقريرِ أمرِه وتحقيقِ أنه المكتوبُ في الكتابين ، ووصفُه بقوله تعالى : { الذى يُؤْمِنُ بالله وكلماته } أي ما أنزل إليه وإلى سائر الرسلِ عليهم السلام من كُتُبه ووحيِه لحمل أهلِ الكتابين على الامتثال بما أُمروا به ، والتصريحُ بإيمانه بالله تعالى للتنبيه على أن الإيمانَ به تعالى لا ينفك عن الإيمان بكلماته ولا يتحقق إلا به ، وقرىء وكلمتِه على إرادة الجنسِ أو القرآنِ تنبيهاً على أن المأمورَ به هو الإيمانُ به عليه الصلاة والسلام من حيث أنزل عليه القرآنُ لا من حيثيةٍ أخرى ، أو على أن المرادَ بها عيسى عليه الصلاة والسلام تعريضاً باليهود وتنبيهاً على أن من لم يؤمن به لم يُعتدَّ بإيمانه { واتبعوه } أي في كل ما يأتي وما يذر من أمور الدين { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } علةٌ للفعلين أو حالٌ من فاعليها أي رجاءً لاهتدائكم إلى المطلوب أو راجين له ، وفي تعليقه بهما إيذانٌ بأن من صدّقه ولم يتبعْه بالتزام أحكام شريعتِه فهو بمعزل من الاهتداء مستمرٌّ على الغي والضلالة .(3/52)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
{ وَمِن قَوْمِ مُوسَى } كلامٌ مبتدأٌ مسوقٌ لدفع ما عسى يُوهِمه تخصيصُ كَتْبِ الرحمة والتقوى والإيمان بالآيات بمتّبعي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من حِرمانِ أسلافِ قومِ موسى عليه السلام من كل خير وبيانِ أن كلَّهم ليسوا كما حُكيت أحوالُهم بل منهم { أُمَّةٌ يَهْدُونَ } أي الناسَ { بالحق } أي ملتبسين به أو يهدونهم بكلمة الحق { وَبِهِ } أي بالحق { يَعْدِلُونَ } أي في الأحكام الجاريةِ فيما بينهم ، وصيغةُ المضارعِ في الفعلين لحكاية الحالِ الماضيةِ ، وقيل : هم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ويأباه أنه قد مر ذكرُهم فيما سلف ، وقيل : إن بني إسرائيلَ لما بالغوا في العتُوّ والطغيان حتى اجترأوا على قتل الأنبياءِ عليهم السلام تبرّأ سِبطٌ منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله تعالى أن يفرِّق بينهم وبين أولئك الطاغين ففتح الله تعالى لهم نفقاً في الأرض فساروا فيه سنةً ونصفاً حتى خرجوا من وراء الصين ، وهم اليوم هنالك حنفاءُ مسلمون يستقبلون قِبلتَنا وقد ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريلَ عليه السلام ذهب به ليلة الإسراءِ نحوَهم فكلمهم فقال جبريلُ عليه السلام : هل تعرِفونَ من تكلمون؟ قالوا : لا ، قال : هذا محمد النبي الأمي ، فآمنوا به وقالوا : يا رسول الله إن موسى أوصانا مَنْ أدرك منكم أحمدَ فليقرأ مني عليه السلام فرد محمدٌ على موسى عليهما السلامَ ثم أقرأهم عشرَ سورٍ من القرآن نزلت بمكةَ ولم تكن نزلت يومئذ فريضةٌ غيرَ الصلاة والزكاة وأمرهم أن يُقيموا مكانهم وكانوا يسْبِتون فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبْتَ هذا ، وأنت خبيرٌ بأن تخصيصَهم بالهداية من بين قومِه عليه السلام مع أن منهم مَنْ آمن بجميع الشرائعِ لا يخلو عن بعد .(3/53)
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
{ وقطعناهم } أي قومَ موسى لا الأمةَ المذكورةَ منهم ، وقرىء بالتخفيف وقوله تعالى : { اثنتى عَشْرَةَ } ثاني مفعولي قطع لتضمّنه معنى التصيير ، والتأنيثُ للحمل على الأمة أو القِطعة ، أي صيرناهم اثنتي عشْرةَ أمةً أو قطعةً متميزاً بعضُها من بعض ، أو حالٌ من مفعوله أي فرقناهم معدودين هذا العددَ ، وقوله تعالى : { أَسْبَاطًا } بدلٌ منه ولذلك جُمع ، أو مميزٌ له على أن كل واحدة من اثنتي عشرةَ قطعةً أسباطٌ لا سبطٌ وقرىء عشِرة بكسر الشين وقوله تعالى : { أُمَمًا } على الأول بدلٌ بعد بدل أو نعتٌ لأسباطاً وعلى الثاني بدل من أسباطاً { وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ } حين استولى عليهم العطشُ في التيه الذي وقعوا فيه بسوء صنيعِهم لا بمجرد استسقائِهم إياه عليه الصلاة والسلام بل باستسقائه لهم لقوله تعالى : { وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ } وقولُه تعالى : { أَنِ اضرب بّعَصَاكَ الحجر } مفسرٌ لفعل الإيحاءِ وقد مر بيانُ شأنِ الحَجَر في تفسير سورة البقرة { فانبجست } عطفٌ على مقدر ينسحب عليه الكلامُ قد حذف تعويلاً على كمال الظهورِ وإيذاناً بغاية مسارعتِه عليه السلام إلى الامتثال وإشعاراً بعدم تأثير الضربِ حقيقةً وتنبيهاً على كمال سرعةِ الانبجاسِ وهو الانفجارُ كأنه حصل إثرَ الأمر قبل تحقق الضربِ كما في قوله تعالى : { اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق } أي فضرب فانبجست { مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا } بعدد الأسباطِ وأما ما قيل من أن التقديرَ فإن ضربت فقد انبجست فغيرُ حقيقٍ بجزالة النظمِ التنزيلي ، وقرىء عشَرة بكسر الشين وفتحها { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ } كلُّ سبطٍ ، عبّر عنهم بذلك إيذاناً بكثرة كل واحدٍ من الأسباط { مَّشْرَبَهُمْ } أي عينَهم الخاصةَ بهم { وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام } أي جعلناها بحيث تُلقي عليهم ظلَّها تسير في التيه بسيرهم وتسكُن بإقامتهم وكان ينزل بالليل عمودٌ من نار يسيرون بضوئه .
{ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ المن والسلوى } أي الترنجين والسمانى . قيل : كان ينزل عليهم المنُّ مثلَ الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل إنسانٍ صاعٌ وتبعث الجَنوبُ عليهم السُّمانى فيذبح الرجل منهم ما يكفيه { كُلُواْ } أي وقلنا لهم : كلوا { مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم } أي مستلذاته ، وما موصولةً كانت أو موصوفةً عبارةٌ عن المن والسلوى { وَمَا ظَلَمُونَا } رجوعٌ إلى سنن الكلامِ الأولِ بعد حكايةِ خطابِهم ، وهو معطوفٌ على جملة محذوفةٍ للإيجاز والإشعارِ بأنه أمرٌ محققٌ غنيٌّ عن التصريح به أي فظلموا بأن كفروا بتلك النعم الجليلةِ وما ظلمونا بذلك { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } إذ لا يتخطاهم ضررُه ، وتقديمُ المفعولِ لإفادة القصْرِ الذي يقتضيه النفيُ السابقُ وفيه ضربٌ من التهكم بهم ، والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبلِ للدِلالة على تماديهم فيما هم فيه من الظلم والكفر .(3/54)
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
{ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ } منصوب بمضمر خوطب به النبيُّ عليه الصلاة والسلام وإيرادُ الفعلِ على البناء للمفعول مع استناده إليه تعالى كما يفصِحُ عنه ما وقع في سورة البقرة من قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا } للجري على سنن الكبرياء والإيذان بالغِنى عن التصريح به لتعين الفاعلِ ، وتغييرُ النظمِ بالأمر بالذكر للتشديد في التوبيخ أي اذكر لهم وقت قولِه تعالى لأسلافهم : { اسكنوا هذه القرية } منصوب على المفعولية ، يقال : سكنت الدارَ وقيل : على الظرفية اتساعاً ، وهي بيتُ المقدس وقيل : أريحا وهي قريةُ الجبارين وكان فيها قومٌ من بقية عادٍ يقال لهم : العمالقةُ ( على ) رأسهم عوجُ بنُ عنقٍ وفي قوله تعالى : { اسكنوا } إيذانٌ بأن المأمورَ به في سورة البقرة هو الدخولُ على وجه السُّكنى والإقامة ، ولذلك اكتُفي به عن ذكر رغداً في قوله تعالى : { وَكُلُواْ مِنْهَا } أي من مطاعمها وثمارِها على أن من بعيضيةٌ أو منها على أنها ابتدائية { حَيْثُ شِئْتُمْ } أي من نواحيها من غير أن يزاحمَكم فيها أحدٌ فإن الأكلَ المستمرَّ على هذا الوجه لا يكون إلا رغداً واسعاً ، وعطفُ كلوا على اسكُنوا بالواو لمقارنتها زماناً بخلاف الدخولِ فأنه مقدمٌ على الأكل ولذلك قيل هناك : فكلوا { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } أي مسألتُنا أو أمرُك حِطةٌ لذنوبنا وهي فِعلة من الحَطّ كالجِلسة { وادخلوا الباب } أي بابَ القرية { سُجَّدًا } أي متطامنين مُخبتين أو ساجدين شكراً على إخراجهم من التيه ، وتقديمُ الأمر بالدخول على الأمر بالقول المذكور في سورة البقرة غيرُ مُخلَ بهذا الترتيب لأن المأمورَبه هو الجمعُ بين الفعلين من غير اعتبارِ الترتيبِ بينهما ثم إن كان المرادُ بالقرية أريحاءَ فقد روي أنهم دخلوها حيث سار إليها موسى عليه السلام بمن بقي من بني إسرائيلَ أو بذراريهم على اختلاف الروايتين ففتحها كما مر في سورة المائدة ، وأما إن كان بيتَ المقدس فقد رُوي أنهم لم يدخُلوه في حياة موسى عليه السلام فقيل : المرادُ بالباب بابُ القُبة التي كانوا يصلّون إليها { نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيئاتكم } وقرىء خطاياكم كما في سورة البقرة ، وتُغفَرْ لكم خطيئاتُكم وخطاياكم وخطيئتُكم على البناء للمفعول { سَنَزِيدُ المحسنين } عِدةٌ بشيئين بالمغفرة وبالزيادة ، وطرحُ الواوا هاهنا لا يُخِل بذلم لأنه استئنافٌ مترتبٌ على تقدير سؤال نشأ من الإخبار بالغفران كأنه قيل : فماذا لهم بعد الغفرانِ؟ فقيل : سنزيد وكذلك زيادةٌ منهم زيادةَ بيان .
{ فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } بما أمروا به من التوبة والاستغفارِ حيث أعرضوا عنه ووضعوا موضعَه { قَوْلاً } آخرَ مما لا خيرَ فيه . روي أنهم دخلوه زاحفين على أستاههم وقالوا مكانَ حطةٌ : حنطةٌ وقيل : قالوا بالنبطية حطاً شمقاثاً يعنون حنطةً حمراءَ استخفافاً بأمر الله تعالى واستهزاءً بموسى عليه الصلاة والسلام ، وقوله تعالى : { غَيْرَ الذى قِيلَ لَهُمْ } نعتٌ لقولاً ، صرّح بالمغايرة مع دِلالة التبديلِ عليها قطعاً تحقيقاً للمخالفة وتنصيصاً على المغايرة من كل وجه { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ } إثرَ ما فعلوا ما فعلوا من غير تأخير ، وفي سورة البقرة(3/55)
{ عَلَى الذين ظَلَمُواْ } والمعنى واحدٌ والإرسالُ من فوق فيكون كالإنزال { رِجْزًا مّنَ السماء } عذاباً كائناً منها والمراد الطاعون . روي أنه مات منهم في ساعة واحدة أربعةٌ وعشرون ألفاً { بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ } بسبب ظلمِهم المستمرِّ السابق واللاحقِ حسبما يفيده الجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبلِ لا بسبب التبديلِ فقط كما يُشعر به ترتيبُ الإرسالِ عليه بالفاء ، والتصريحُ بهذا التعليل لما أن الحُكم هاهنا مترتبٌ على المضمر دون الموصولِ بالظلم كما في سورة البقرة ، وأما التعليلُ بالفسق بعد الإشعارِ بعلّية الظلمِ فقد مر وجهُه هناك والله تعالى أعلم .(3/56)
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
{ وَسْئَلْهُمْ } عطف على المقدر في إذ قيل أي واسأل اليهودَ المعاصرين لك سؤالَ تقريعٍ وتقرير كفرَهم وتجاوزَهم لحدود الله تعالى وإعلاماً لهم بأن ذلك مع كونه من علومهم الخفيةِ التي لا يقف عليها إلا من مارس كتبَهم قد أحاط به النبيُّ عليه الصلاة والسلام خُبْراً ، وإذ ليس ذلك بالتلقي من كتبهم لأنه عليه الصلاة والسلام بمعزل من ذلك تعين أنه من جهة الوحي الصريح { عَنِ القرية } أي عن حالها وخبرِها وما جرى على أهلها من الداهية الدهياءِ وهي أَيْلَةُ ، قريةٌ بين مدْيَنَ والطور ، وقيل : هي مدينُ وقيل : طبرية ، والعرب تسمي المدينةَ قرية { التى كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر } أي قريبةً منه مشرفةً على شاطئه { إِذْ يَعْدُونَ فِى السبت } أي يتجاوزون حدودَ الله تعالى بالصيد يوم السبت ، وإذ ظرفٌ للمضاف المحذوفِ أو بدلٌ منه ، وقيل : ظرفٌ لكانت أو حاضرة ، وليس بذاك إذ لا فائدةَ في تقييد الكونِ أو الحضور بوقت العُدوان ، وقرىء يعدّون وأصله يعتدون ويُعِدّون من الإعداد حيث كانوا يُعِدّون آلاتِ الصيدِ يوم السبت وهم منهيّون عن الاشتغال فيه بغير العبادة .
{ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ } ظرفٌ ليَعْدون أو بدلٌ بعد بدلٍ والأولُ هو الأولى لأن السؤالَ عن عُدوانهم أدخلُ في التقريع ، والحيتانُ جمعُ حوتٍ قُلبت الواوُ ياءً لانكسار ما قبلها كنونٍ ونينانٍ لفظاً ومعنى ، وإضافتُها إليهم للإشعار باختصاصها بهم لاستقلالها بما لا يكاد يوجد في سائر أفرادِ الجنس من الخواصّ الخارقةِ للعادة ، أو لأن المرادَ بها الحيتانُ الكائنةُ في تلك الناحيةِ وأن ما ذكر من الإتيان وعدمِه لاعتيادها أحوالَهم في عدم التعرّض يوم السبت { يَوْمَ سَبْتِهِمْ } ظرفٌ لتأتيهم أي تأتيهم يومَ تعظيمِهم لأمر السبت وهو مصدرُ سَبَتت اليهودُ إذا عظّمت السبْت بالتجرد للعبادة ، وقيل : اسمٌ لليوم ، والإضافةُ لاختصاصهم بأحكام فيه ويؤيد الأولَ قراءةُ من قرأ يوم أسباتِهم وقوله تعالى : { شُرَّعًا } جمعُ شارع من شرع عليه إذا دنا وأشرف ، وهو حالٌ من حيتانُهم أي تأتيهم يوم سبْتِهم ظاهرةً على وجه الماء قريبةً من الساحل { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ } أي لا يراعون أمرَ السبتِ لكن لا بمجرد عدمِ المراعاةِ مع تحقق يوم السبتِ كما هو المتبادرُ بل مع انتفائهما معاً أي لا سبت ولا مراعاة كما في قوله :
ولا ترى الضبَّ بها ينجحِرُ ... وقرىء لا يُسبتون من أسبت ولا يُسبَتون على البناء للمفعول بمعنى لا يدخلون في السبت ولا يُدار عليهم حكمُ السبتِ ولا يؤمرون فيه بما أمروا به يوم السبت { لاَ تَأْتِيهِمْ } كما كانت تأتيهم يوم السبت حذار من صيدهم ، وتغييرُ السبك حيث لم يقل : ولا تأتيهم يوم لا يسبتون لما أن الإخبارَ بإتيانها يوم سبْتهم مظِنةُ أن يقال : فماذا حالُها يوم لا يسبتون؟ فقيل : يوم لا يسبتون لا تأتيهم { كذلك نَبْلُوهُم } أي مثلَ ذلك البلاءِ العجيب الفظيعِ نعاملهم معاملةَ من يختبرهم ليُظهِرَ عداوتَهم ونؤاخذهم به ، وصيغةُ المضارع لحكاية الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتها والتعجيبِ منها { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } أي بسبب فسقِهم المستمرِّ المدلولِ عليه بالجمع بين صيغتي الماضي والمستقبلِ لكن لا في تلك المادةِ فإن فسقَهم فيها لا يكون سبباً للبلوى بل بسبب فسقهم المستمر في كل ما يأتون وما يذرون ، وقيل : ( كذلك ) متصلٌ بما قبله أي لا تأتيهم مثلَ ما تأتيهم يوم سبتهم فالجملةُ بعده حينئذ استئنافٌ مبنيٌّ على السؤال عن حكمة اختلافِ حال الحيتانِ بالإتيان تارة وعدمِه أخرى .(3/57)
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)
{ وَإِذْ قَالَتِ } عطفٌ على إذ يعدون مَسوقٌ لتماديهم في العدوان وعدمِ انزجارِهم عند بعد العظاتِ والإنذارات { أُمَّةٌ مّنْهُمْ } أي جماعةٌ من صلحائهم الذين ركبوا في عِظتهم متن كلِّ صعبٍ وذَلول حتى يئسوا من احتمال القبولِ لآخرين لا يُقلِعون عن التذكير رجاءً للنفع والتأثير مبالغةً في الإعذار وطمعاً في فائدة الإنذار { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ } أي مخترِمُهم بالكلية ومطهرُ الأرض منهم { أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا } دون الاستئصال بالمرة وقبل مهلكهم مخزيهم في الدنيا أو معذبُهم في الآخرة لعدم إقلاعِهم عما كانوا عليه من الفسق والطغيانِ والترديد لمنع الخلوِّ دون منع الجمعِ فإنهم مهلَكون في الدنيا ومعذَّبون في الآخرة ، وإيثارُ صيغةِ اسمِ الفاعل مع أن كلاًّ من الإهلاك والتعذيب مترقَّبٌ للدِلالة على تحققهما وتقرُّرِهما البتةَ ، كأنهما واقعان وإنما قالوه مبالغةً في أن الوعظَ لا ينجع فيهم أو ترهيباً للقوم أو سؤالاً عن حكمة الوعظِ ونفعِه ، ولعلهم إنما قالوه بمحضر من القوم حثاً لهم على الاتعاظ ، فإن بتَّ القولِ بهلاكهم وعذابهم مما يُلقي في قلوبهم الخوفَ والخشيةَ ، وقيل : المرادُ طائفةٌ من الفِرقة الهالكةِ أجابوا به وُعّاظَهم رداً عليهم وتهكماً بهم وليس بذاك كما ستقف عليه { قَالُواْ } أي الوعاظُ { مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ } أي نعظُهم معذرةً إليه تعالى على أنه مفعول له وهو الأنسب بظاهر قولِهم لمَ تعِظون ، أو نعتذر معذرةً على أنه مصدرٌ لفعل محذوفٍ ، وقرىء بالرفع على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ ، أي موعظتُنا معذرةٌ إليه تعالى حتى لا نُنسَبَ إلى نوع تفريطٍ في النهي عن المنكر ، وفي إضافة الربِّ إلى ضمير المخاطَبين نوعُ تعريضٍ بالسائلين { وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } عطفٌ على معذرةً أي ورجاءً لأن يتقوا بعضَ التقاة ، وهذا صريحٌ في أن القائلين : ( لمَ تعظون ) الخ ، ليسوا من الفِرقة الهالكةِ وإلا لوجب الخطاب .(3/58)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ } أي تركوا ما ذكرهم به صلحاؤُهم تركَ الناسي للشيء وأعرضوا عنه إعراضاً كلياً بحيث لم يخطُر ببالهم شيءٌ من تلك المواعظ أصلاً { أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء } وهم الفريقان المذكورانِ ، وإخراجُ إنجائِهم مُخرجَ الجوابِ الذي حقُّه الترتبُ على الشرط وهو نِسيانُ المعتدين المستتبِعُ لإهلاكهم لما أن ما في حيز الشرط شيآنِ : النسيانُ والتذكيرُ كأنه قيل : فلما تَذَكّرَ المذكورون ولم يتذكر المعتدون أنجينا الأولين وأخذنا الآخَرين ، وأما تصديرُ الجواب بإنجائهم فلما مر مراراً من المسارعة إلى بيان نجاتِهم من أول الأمرِ مع ما في المؤخر من نوع طُول { وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ } بالاعتداء ومخالفةِ الأمر { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } أي شديدٍ وزناً ومعنى ، من بَؤُس يبؤُس بأساً إذا اشتد ، وقرىء بَيْئ2س على وزن فيعل بفتح العين وكسرِها ، وبَئِسٍ على تخفيف العين ونقلِ حركتِها إلى الفاء ككَبِد في كبد وبِيسٍ بقلب الهمزة ياءً كذيب في ذئب وبيّس كريّس بقلب همزةِ بئيس ياءً وإدغام الياء فيها وبَيْسٍ على تخفيف بيّس كهَيْن في هيّن ، وتنكيرُ العذاب للتفخيم والتهويل { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } متعلقٌ بأخذنا كالباء الأولى ولا ضيرَ فيه لاختلافهما معنى أي أخذناهم بما ذكر من العذاب بسبب تماديهم في الفسق الذي هو الخروجُ عن الطاعة وهو الظلمُ والعدوانُ أيضاً ، وإجراءُ الحكم على الموصول وإن أشعرَ بعلّية ما في حيز الصلة له لكنه صرّح بالتعليل المذكورِ إيذاناً بأن العلةَ هو الاستمرارُ على الظلم والعدوان مع اعتبار كونِ ذلك خروجاً عن طاعة الله عز وجل لا نفسُ الظلم والعدوان ، وإلا لما أخّروا عن ابتداء المباشرة ساعة ، ولعله تعالى قد عذبهم بعذاب شديد دون الاستئصالِ فلم يُقلعوا عما كانوا عليه بل ازدادوا في الغي فمسخهم بعد ذلك لقوله تعالى : { فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ } أي تمرّدوا وتكبروا وأبَوا أن يترُكوا ما نُهوا عنه { قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين } صاغرين أذلأَ بُعَداءَ عن الناس ، والمرادُ بالأمر هو الأمرُ التكوينيُّ لا القولي ، وترتيبُ المسخِ على العتو عن الانتهاء عما نهوا عنه للإيذان بأنه ليس لخصوصية الحوتِ بل العُمدةُ في ذلك هو مخالفةُ الأمر والاستعصاءُ عليه تعالى . وقيل : المرادُ بالعذاب البئيس هو المسخُ والجملةُ الثانية تقريرٌ للأولى . روي أن اليهودَ أُمروا باليوم الذين أُمرنا به وهو يومُ الجمعة فتركوه واختاروا السبت وهو المعنيُّ بقوله تعالى : { إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ } فابتُلوا به وحُرّم عليهم الصيدُ فيه وأُمروا بتعظيمه فكانت الحيتانُ تأتيهم يوم السبت كأنها المخاضُ لا يُرى وجهُ الماء لكثرتها ولا تأتيهم في سائر الأيامِ فكانوا على ذلك برهةً من الدهر ثم جاءهم إبليسُ فقال لهم : إنما نُهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا حياضاً سهلةَ الورودِ صعبةَ الصدور ففعلوا فجعلوا يسوقون الحيتانَ إليها يوم السبت فلا تقدر على الخروج منها ويأخذونها يوم الأحد ، وأخذ رجل منهم حوتاً وربط في ذنبه خيطاً إلى خشبة في الساحل ثم شواه يوم الأحد فوجد جارُه ريحَ السمك فتطلع في تنّوره فقال له : إني أرى الله سيعذبك ، فلما لم يَرَه عُذّب أخذ في يوم السبت القابلِ حُوتين فلما رأوا أن العذابَ لا يعاجلُهم استمروا على ذلك فصادوا وأكلوا وملّحوا وباعوا وكانوا نحواً من سبعين ألفاً فصار أهلُ القرية أثلاثاً ثلثٌ استمروا على النهي ، وثلثٌ ملُّوا التذكير وسئِموه وقالوا للواعظين : لم تعِظون الخ ، وثلث باشروا الخطيئة فلما لم ينتهوا قال المسلمون : نحن لا نساكنُكم فقسموا القريةَ بجدار ، للمسلمين بابٌ وللمعتدين باب ولعنهم داودُ عليه السلام فأصبح الناهون ذاتَ يوم في مجالسهم ولم يخرُجْ من المعتدين أحد فقالوا : إن لهم لشأناً فعَلَوا الجدارَ فنظروا فإذا هم قردةٌ ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القِردةُ أنسباءَهم من الإنس وهم لا يعرفونها فجعل القردُ يأتي نسيبَه فيشم ثيابه فيبكي فيقول له نسيبُه : ألم ننهَكم؟ فيقول القردُ برأسه : بلى ، ثم ماتوا عن ثلاث ، وقيل : صار الشبانُ قردةً والشيوخُ خنازير ، وعن مجاهد رضي الله عنه : مُسخت قلوبُهم ، وقال الحسن البصري : أكلوا والله أوخَمَ أكلةٍ أكلها أهلُها أثقلُها خزياً في الدنيا وأطولُها عذاباً في الآخرة هاه وأيمُ الله ما حوتٌ أخذه قومٌ فأكلوه أعظمُ عند الله من قتل رجل مسلم ولكن الله تعالى جعل موعداً والساعةُ أدهى وأمرّ .(3/59)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ } منصوب على المفعولية بمضمر معطوفٍ على قوله تعالى : { واسألهم } وتأذّن بمعنى آذن كما أن توعّد بمعنى أوعد أو بمعنى عزم فإن العازمَ على الأمر يحدث به نفسه ، وأُجري مُجرى فعل القسمِ كعلم الله وشهد الله فلذلك أجيب بجوابه حيث قيل : { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة } أي واذكر لهم وقت إيجابِه تعالى على نفسه أن يسلِّط على اليهود البتة { مَن يَسُومُهُمْ سُوء العذاب } كالإذلال وضربِ الجزية وغير ذلك من فنون العذاب وقد بعث الله تعالى عليهم بعد سليمانَ عليه السلام بُختَ نَصّر فخرّب ديارهم وقتل مقاتِلتَهم وسبى نساءَهم وذرارِيَهم وضرب الجزية على من بقي منهم وكانوا يؤدّونها إلى المجوس حتى بُعث النبي عليه الصلاة والسلام ففعل ما فعل ثم ضرب الجزيةَ عليهم فلا تزال مضروبةً إلى آخر الدهر { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب } يعاقبهم في الدنيا { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن تاب وآمن منهم .
{ وقطعناهم } أي فرقنا بني إسرائيلَ { فِى الارض } وجعلنا كل فِرقةٍ منهم في قُطر من أقطارها بحيث لا تخلو ناحيةٌ منها منهم تكملةً لأدبارهم حتى لا تكون لهم شوكةٌ ، وقوله تعالى : { أُمَمًا } إما مفعولٌ ثانٍ لقطّعنا أو حال من مفعوله { مّنْهُمُ الصالحون } صفةٌ لأمماً أو بدلٌ منه وهم الذين آمنوا بالمدينة ومن يسير بسيرتهم { وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك } أي ناسٌ دون ذلك الوصفِ أي منحطّون عن الصلاح وهم كَفرتُهم وفَسَقتُهم { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } بالنعم والنقم { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عما كانوا فيه من الكفر والمعاصي .(3/60)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ } أي من بعد المذكورين { خَلْفٌ } أي بدلُ سوءٍ ، مصدرٌ نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع ، وقيل : جمع وهو شائعٌ في الشر والخَلَفُ بفتح اللام في الخير ، والمرادُ به الذين كانوا في عصر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم { وَرِثُواْ الكتاب } أي التوراةَ من أسلافهم يقرؤونها ويقفون على ما فيها { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الادنى } استئنافٌ مسوقٌ لبيان ما يصنعون بالكتاب بعد وراثتِهم إياه أي يأخذون حُطامَ هذا الشيءِ الأدنى أي الدنيا من الدنو أو الدناءة ، والمرادُ به ما كانوا يأخذونه من الرِّشا في الحكومات وعلى تحريف الكلام وقيل : حال من واو ورثوا { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } ولا يؤاخذُنا الله تعالى بذلك ويتجاوز عنه ، والجملةُ تحتمل العطفَ والحالية ، والفعلُ مسندٌ إلى الجار والمجرور ، أو مصدر يأخذون { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } حال من الضمير في لنا أي يرجون المغفرةَ والحال أنهم مُصِرّون على الذنب عائدون إلى مثله غيرَ تائبين عنه { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الكتاب } أي الميثاقُ الواردُ في الكتاب { أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق } عطفُ بيانٍ للميثاق أو متعلقٌ به أي بأن لا يقولوا الخ ، والمرادُ به الردُّ عليهم والتوبيخُ على بتّهم القولَ بالمغفرة بلا توبةٍ والدِلالةُ على أنها افتراءٌ على الله تعالى وخروجٌ عن ميثاق الكتاب { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } عطفٌ على ألم يؤخذ من حيث المعنى فإنه تقريرٌ أو على ورِثوا وهو اعتراض { والدار الاخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } ما فعل هؤلاء ، { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } فتعلموا ذلك فلا تستبدلوا الأدنى المؤدّي إلى العقاب بالنعيم المخلّد ، وقرىء بالياء وفي الالتفات تشديدٌ للتوبيخ .
{ والذين يُمَسّكُونَ بالكتاب } أي يتمسكون في أمور دينهم ، يقال : مسَك بالشيء وتمسّك به . قال مجاهد : هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد اللَّه بن سلام وأصحابِه تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى عليه السلام فلم يحرّفوه ولم يكتُموه ولم يتخذوه مأكلةً ، وقال عطاء : هم أمةُ محمد عليه الصلاة والسلام وقرىء يُمْسِكون من الإمساك وقرىء تمسّكوت واستمسكوا موافقاً لقوله تعالى : { وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ } ولعل التغييرَ في المشهورة للدلالة على أن التمسّك بالكتاب أمرٌ مستمرٌ في جميع الأزمنة بخلاف إقامةِ الصلاة فإنها مختصةٌ بأوقاتها ، وتخصيصُها بالذكر من بين سائر العبادات لإنافتها عليها ، ومحلُّ الموصولِ إما الجرُّ نسقاً على الذين يتقون وقولُه : أفلا تعقلون اعتراضٌ مقرر لما قبله وإما الرفعُ على الابتداء والخبر قوله تعالى : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين } والرابطُ إما الضميرُ المحذوفُ كما هو رأيُ جمهورِ البصْريين ، والتقديرُ أجرُ المصلحين منهم ، وإما الألفُ واللامُ كما هو رأيُ الكوفيين فإنه في حكم مُصلحيهم كما في قوله تعالى : { فَإِنَّ الجنة هِىَ المأوى } أي مأواهم وقوله تعالى : { مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابواب } أي أبوابُها ، وإما العمومُ في مصلحين فإنه من الروابط ، ومنه نعم الرجلُ زيدٌ على أحد الوجوه . وقيل : الخبرُ محذوفٌ والتقديرُ : والذين يمسّكون بالكتاب مأجورون أو مثابرون وقوله تعالى : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } الخ ، اعتراضٌ مقرر لما قبله .(3/61)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)
{ وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ } أي قلعناه من مكانه ورفعناه عليهم { كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ } أي سقيفةٌ وهي كلُّ ما أظلك { وَظَنُّواْ } أي تيقنوا { أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } ساقطٌ عليهم لأن الجبلَ لا يثبُت في الجو لأنهم كانوا يُوعَدون به ، وإطلاقُ الظنِّ في الحكاية لعدم وقوعِ متعلَّقِه وذلك أنهم أبَوْا أن يقبلوا أحكامَ التوراة لثقلها فرفع الله تعالى عليهم الطورَ وقيل لهم : إن قبِلتم ما فيها وإلا ليقعَنَّ عليكم { خُذُواْ مَا ءاتيناكم } أي وقلنا أو قائلين : خذوا ما آتيناكم من الكتاب { بِقُوَّةٍ } بجد وعزيمة على تحمل مشاقِّه وهو حالٌ من الواو { واذكروا مَا فِيهِ } بالعمل ولا تتركوه كالمنسيِّ { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } بذلك قبائحَ الأعمالِ ورذائلَ الأخلاق أو راجين أن تنتظموا في سلك المتقين .
{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ } منصوبٌ بمضمر معطوفٌ على ما انتصب به إذ نتقنا مَسوقٌ للاحتجاج على اليهود بتذكير الميثاقِ العام المنتظمِ للناس قاطبةً وتوبيخِهم بنقضه إثرَ الاحتجاج عليهم بتذكير ميثاقِ الطورِ ، وتعليقُ الذكر بالوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادث قد مر بيانُه مراراً أي واذكر لهم ( وقتَ ) أخذ ربُّك { مِن بَنِى ءادَمَ } المرادُ بهم الذين وَلدَهم كائناً من كان نسلاً بعد نسلٍ سوى مَنْ لم يولدْ له بسبب من الأسباب كالعُقم وعدمِ التزوج والموتِ صغيراً ، وإيثارُ الأخذ على الإخراج للإيذان بالاعتناء بشأن المأخوذِ لما فيه من الإنباء عن الاجتباء والاصطفاءِ وهو السببُ في إسناده إلى اسم الربِّ بطريق الالتفاتِ مع ما فيه من التمهيد للاستفهام الآتي ، وإضافتُه إلى ضميره عليه الصلاة والسلام للتشريف وقوله تعالى : { مِن ظُهُورِهِمْ } بدلٌ من بني آدمَ بدلَ البعضِ بتكرير الجار كما في قوله تعالى : { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ } و ( من ) في الموضعين ابتدائيةٌ وفيه مزيدُ تقريرٍ لابتنائه على البيان بعد الإبهامِ ، والتفصيلُ غِبَّ الإجمالِ تنبيهٌ على أن الميثاقَ قد أُخذ منهم وهم في أصلاب الآباءِ ولم يُستودَعوا في أرحام الأمهات ، وقوله تعالى : { ذُرّيَّتُهُم } مفعولُ أخذَ أُخِّر عن المفعول بواسطة الجارِّ لاشتماله على ضمير راجعٍ إليه ، ولمراعاة أصالتِه ومنشئيّتِه ، ولما مرّ مراراً من التشويق إلى المؤخّر ، وقرىء ذرّياتِهم والمرادُ بهم أولادُهم على العموم فيندرج فيهم اليهودُ المعاصِرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم اندراجاً أولياً كما اندرج أسلافُهم في بني آدم كذلك ، وتخصيصُهما باليهود سلفاً وخلفاً مع أن ما أريد بيانُه من بديع صنعِ الله تعالى عز وجل شاملٌ للكل كافة مُخِلٌّ بفخامة التنزيلِ وجزالةِ التمثيل { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } أي أشهد كل واحدةٍ من أولئك الذرياتِ المأخوذين من ظهور آبائهم على نفسها لا على غيرها تقريراً لهم بربوبيته التامةِ وما تستتبعه من المعبودية على الاختصاص وغيرِ ذلك من أحكامها وقوله تعالى : { أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ } على إرادة القولِ ، أي قائلاً : ألست بربكم ومالكَ أمرِكم ومربيكم على الإطلاق من غير أن يكون لأحد مدخلٌ في شأن من شؤونكم؟ فينتظم استحقاقُ المعبودية ويستلزم اختصاصَه به تعالى .(3/62)
{ قَالُواْ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل : فماذا قالوا حينئذ؟ فقيل : قالوا : { بلى شَهِدْنَا } أي على أنفسنا بأنك ربناوإلهنا لا ربَّ لنا غيرُك كما ورد في الحديث الشريف وهذا تمثيلٌ لخلقه تعالى إياهم جميعاً في ( مبدأ ) الفطرةِ مستعدين للاستدلال بالدلائل المنصوبةِ في الآفاق والأنفسِ المؤدية إلى التوحيد والإسلامِ كما ينطِق به قوله عليه الصلاة والسلام : { كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة } الحديث ، مبنيٌّ على تشبيه الهيئةِ المنتزَعَةِ من تعريضه تعالى إياهم لمعرفة ربوبيتِه بعد تمكينِهم منها بما رَكَّز فيهم من العقول والبصائر ونصبَ لهم في الآفاق والأنفسِ من الدلائل تمكيناً تاماً ، ومن تمكّنهم تمكناً كاملاً وتعرّضِهم لها تعرضاً قوياً بهيئة منتزعةٍ من حمله تعالى إياهم على الاعتراف بها بطريق الأمرِ ومن مسارعتهم إلى ذلك من غير تلعثم أصلاً من غير أن يكون هناك أخذٌ وإشهادٌ وسؤالٌ وجواب كما في قوله تعالى : { فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }
وقوله تعالى : { أَن تَقُولُواْ } بالتاء على تلوين الخطاب وصرفِه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاصريه من اليهود تشديداً في الإلزام ، أو إليهم وإلى متقدّميهم بطريق التغليبِ لكن لا من حيث إنهم مخاطَبون بقوله تعالى : { أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ } فإنه ليس من الكلام المحكي ، وقرىء بالياء على أن الضمير للذرية ، وأياً ما كان فهو مفعولٌ له لما قبله من الأخذ والإشهاد أي فعلنا ما فعلنا كراهةَ أن تقولوا أو لئلا تقولوا أيها الكفرةُ أو يقولوا هم { يَوْمُ القيامة } عند ظهور الأمرِ { إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا } عن وحدانية الربوبيةِ وأحكامِها { غافلين } لم ننبِّه عليه ، فإنهم حيث جُبلوا على ما ذكر من التهيؤ التامِّ لتحقيق الحقِّ والقوة القريبةِ من الفعل صاروا محجوبين عاجزين عن الاعتذار بذلك إذ لا سبيل لأحد إلى إنكار ما ذُكر من خلقهم على الفطرة السليمةِ .(3/63)
أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)
وقوله تعالى : { أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا } عطفٌ على تقولوا و ( أو ) لمنع الخلوّ دون الجمعِ ، أي هم اخترعوا الإشراكَ وهم سنّوه { مِن قَبْلُ } أي من قبل زمانِنا { وَكُنَّا } نحن { ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ } لا نهتدي إلى السبيل ولا نقدِر على الاستدلال بالدليل { أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون } من آبائنا المُضلّين بعد ظهور أنهم المجرمون ونحن عاجزون عن التدبير والاستبدادِ بالرأي ، أو أتؤاخذنا فتهلكنا الخ ، فإن ما ذكر من استعدادهم الكاملِ يسُدّ عليهم بابَ الاعتذار بهذا أيضاً فإن التقليدَ عند قيامِ الدلائلِ والقدرةِ على الاستدلال بها مما لا مساغَ له أصلاً .
هذا وقد حُملت هذه المقاولة على الحقيقة كما روي عن ابن عباس رضى الله عنهما من أنه لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام مسحَ ظهرَه فأخرج منه كلَّ نسَمةٍ هو خالقُها إلى يوم القيامة فقال : ألستُ بربكم قالوا : بلى فنودي يومئذ جَفّ القلمُ بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة . وقد روي عن عمر رضى الله عنه أنه سئل عن الآية الكريمة فقال : سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئل عنها فقال : « إن الله تعالى خلق آدمَ ثم مسحَ ظهرَه بيمينه فاستخرج منه ذريةً فقال : خلقتُ هؤلاء للجنة وبعمل أهلِ الجنة يعملون ، ثم مسح ظهرَه فاستخرج منه ذريةً فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهلِ النار يعملون » ، وليس المعنى أنه تعالى أخرج الكلَّ من ظهره عليه الصلاة والسلام بالذات بل أخرج من ظهره عليه السلام أبناءَه الصُّلبية ومن ظهرهم أبناءَهم الصلبية وهكذا إلى آخر السلسلة لكن لما كان المظهرُ الأصليُّ ظهرَه عليه الصلاة والسلام وكان مَساقُ الحديثين الشريفين بيانَ حال الفريقين إجمالا من غير أن يتعلق بذكر الوسائطِ غرضٌ على نسب إخراجِ الكلِّ إليه ، وأما الآيةُ الكريمة فحيث كانت مسوقةً للاحتجاج على الكفرة المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبيانِ عدمِ إفادةِ الاعتذارِ بإسناد الإشراكِ إلى آبائهم اقتضى الحالُ نسبةَ إخراجِ كل واحدٍ منهم إلى ظهر أبيهم من غير تعرّضٍ لإخراج الأبناءِ الصلبيةِ لآدم عليه السلام من ظهره قطعاً ، وعدمُ بيان الميثاقِ في حديث عمرَ رضى الله تعالى عنه ليس بياناً لعدمه ولا مستلزِماً له ، وأما ما قالوا من أن أخذَ الميثاق لإسقاط عذرِ الغفلةِ حسبما ينطِق به قوله تعالى : { أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين } ومعلوم أنه غيرُ دافع لغفلتهم في دار التكليفِ إذ لا فرْدَ من أفراد البشر يذكُر ذلك فمردودٌ لكن لا بما قيل من أن الله عز وجل قد أوضح الدلائلَ على وحدانيته وصدقِ رسلهِ فيما أَخبروا به فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد ولزِمتْه الحُجة ، ونسيانُهم وعدمُ حفظهم لا يُسقط الاحتجاجَ بعد إخبار المخبِرِ الصادقِ بل بأن قوله تعالى : { أَن تَقُولُواْ } الخ ، ليس مفعولاً له لقوله تعالى : { وَأَشْهَدَهُمْ } وما يتفرع عليه من قولهم : ( بلى شهِدنا ) حتى يجب كونُ ذلك الإشهادِ والشهادة محفوظاً لهم في إلزامهم بل لفعل مضمر ينسحب عليه الكلامُ والمعنى فعلنا ما فعلنا من الأمر بذكر الميثاقِ وبيانِه كراهةَ أن تقولوا أو لئلا تقولوا أيها الكفرةُ يوم القيامة : إنا كنا غافلين عن ذلك الميثاقِ لم نُنَبَّه عليه في دار التكليفِ وإلا لعمِلنا بموجبه .(3/64)
هذا على قراءة الجمهور ، وأما على القراءة بالياء فهو مفعول له لنفس الأمر المضمر العاملِ في إذ أخذ ، والمعنى اذكُرْ لهم الميثاقَ المأخوذَ منهم فيما مضى لئلا يعتذروا يوم القيامة بالغفلة عنه أو بتقليد الآباءِ ، هذا على تقدير كونِ قوله تعالى : { شَهِدْنَا } من كلام الذرية وهو الظاهرُ ، فأما على تقدير كونِه من كلامه تعالى فهو العامل في أن تقولوا ولا محذور أصلاً ، إذ المعنى شهِدنا قولَكم هذا لئلا تقولوا يوم القيامة الخ لأنا نردكم ونكذبكم حينئذ .(3/65)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
{ وكذلك } إشارةٌ إلى مصدر الفعل المذكور بعده ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلو شأنِ المشار إليه وبُعد منزلتِه ، والكافُ مقحمةٌ مؤكدةٌ لما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة ، والتقديمُ على الفعل لإفادة القصْر ومحلُّه النصبُ على المصدرية أي ذلك التفصيلَ البليغَ المستتبِعَ للمنافع الجليلة { نُفَصّلُ الآيات } المذكورةَ لا غيرَ ( ذلك ) { وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } وليرجعوا عما هم عليه من الإصرار على الباطل وتقليدِ الآباء نفعل التفصيلَ المذكورَ . قالوا : وإن ابتدائيتان ، ويجوز أن تكون الثانيةُ عاطفةً على مقدر مترتبٍ على التفصيل أي وكذلك نفصل الآيات ليقفوا على ما فيها من المرغّبات والزواجر وليرجعوا الخ .
{ واتل عَلَيْهِمْ } عطفٌ على المضمر العاملِ في إذ أخذ واردٌ على نمطه في الإنباء عن الحَوْر بعد الكَوْر والضلالةِ بعد الهدى أي واتل على اليهود { نَبَأَ الذى آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا } أي خبَره الذي له شأنٌ وخطر ، وهو أحدُ علماءِ بني إسرائيلَ . وقيل : هو بلعمُ بنُ باعوراءَ أو بلعامُ بنُ باعر من الكنعانيين أوتي علمَ بعضِ كتبِ الله تعالى ، وقيل هو أُميةُ بنُ أبي الصَّلْت وكان قد قرأ الكتبَ وعلم أن الله تعالى مرسِلٌ في ذلك الزمان رسولاً ، ورجا أن يكون هو الرسولَ فلما بعث الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم حسَده وكفر به ، والأولُ هو الأنسبُ بمقام توبيخ اليهود بهَناتهم { فانسلخ مِنْهَا } أي من تلك الآيات انسلاخَ الجِلد من الشاة ولم يُخطِرْها بباله أصلاً أو أُخرج منها بالكلية بأن كفر بها ونبذها رواء ظهرِه ، وأياً ما كان فالتعبيرُ عنه بالانسلاخ المنبىء عن اتصال المحيطِ بالمُحاط خلقةً وعن عدم الملاقاة بينهما أبداً للإيذان بكمال مباينتِه للآيات بعد أن كان بينهما كمالُ الاتصال { فَأَتْبَعَهُ الشيطان } أي تبعه حتى لحِقه وأدركه فصار قريناً له وهو المعنى على قراءة فاتّبعه من الافتعال ، وفيه تلويحٌ بأنه أشدُّ من الشيطان غَوايةً أو أتبعه خُطُواتِه { فَكَانَ مِنَ الغاوين } فصار من زمرة الضالين الراسخين في الغَواية بعد أن كان من المتهدين ، وروي أن قومه طلبوا إليه أن يدعوَ على موسى عليه السلام فقال : كيف أدعوا على مَنْ معه الملائكة؟ فلم يزالوا به حتى فعل ، فبقُوا في التيه ، ويرده أن التيهَ كان لموسى عليه السلام رَوْحاً وراحة ، وإنما عُذب به بنو إسرائيل وقد كان ذلك بدعائه عليه السلام عليهم كما مر في سورة المائدة .(3/66)
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
{ وَلَوْ شِئْنَا } كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لبيان مناطِ ما ذُكر من انسلاخه من الآيات ووقوعِه في مهاوي الغَواية ، ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ لوقوعها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاءِ على القاعدة المستمرة ، أي ولو شئنا رفعَه { لرفعناه } أي إلى المنازل العاليةِ للأبرار العالمين بتلك الآياتِ العاملين بموجبها ، لكن لا بمحض مشيئتِنا من غير أن يكون له دخلٌ في ذلك أصلاً فإنه منافٍ للحكمة التشريعية المؤسسةِ على تعليق الأجزيةِ بالأفعال الاختيارية للعباد ، بل مع مباشرته للعمل المؤدِّي إلى الرفع بصرف اختيارِه إلى تحصيله كما ينبىء عنه قوله تعالى : { بِهَا } أي بسبب تلك الآياتِ بأن عمِل بموجبها فإن اختيارَه وإن لم يكن مؤثراً في حصوله ولا في ترتب الرفعِ عليه بل كلاهما بخلق الله تعالى لكن خلقَه تعالى مَنوطٌ بذلك البتةَ حسب جَرَيان العادةِ الإلهية ، وقد أشير إلى ذلك في الاستدراك بأن أُسند ما يؤدي إلى نقيض التالي إليه حيث قيل : { ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الارض } مع أن الإخلادَ إليها أيضاً مما لا يتحقق عند صرف اختيارِه إليه بخلقه تعالى كأنه قيل : لو شئنا رفعَه بمباشرته لسببه لرفعناه بسبب تلك الآيات التي هي أقوى أسبابِ الرفع ولكن لم نشأْه لمباشرته لسبب نقيضِه فتُرك في كلَ من المقامين ما ذكر في الآخر تعويلاً على إشعار المذكورِ بالمطويّ كما في قوله تعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ } وتخصيصُ كلَ من المذكورين بمقامه للإيذان بأن الرفعَ مرادٌ له تعالى بالذات وتفضّلٌ محضٌ عليه لا دخلَ فيه لفعله حقيقةً ، كيف لا وجميعُ أفعاله ومباديها من نعمه تعالى وتفضّلاته ، وإن نقيضَه إنما أصابه بسوء اختيارِه على موجب الوعيدِ لا بالإرادة الذاتيةِ له سبحانه كما قيل في وجه ذكرِ الإرادةِ مع الخير ، والمسِّ مع الضرّ في الآية المذكورةِ وهو الشرُّ في جريان السنة القرآنيةِ على إسناد الخيرِ إليه تعالى وإضافةِ الشرِّ إلى الغير كما في قوله تعالى : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } ونظائرِه ، والإخلادُ إلى الشيء الميلُ إليه مع الاطمئنان به والمرادُ بالأرض الدنيا وقيل : السفالة ، والمعنى ولكنه آثرَ الدنيا الدنيةَ على المنازل السنية ، أو الضَّعةَ والسَّفالةَ على الرِفعة والجلالة { واتبع هَوَاهُ } مُعرِضاً عن تلك الآياتِ الجليلة فانحط أبلغَ انحطاط وارتد أسفلَ سافلين وإلى ذلك أشير بقوله تعالى : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب } لما أنه أخسُّ الحيوانات وأسفلُها ، وقد مُثّل حالُه بأخس أحوالِه وأذلِّها حيث قيل : { إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } أي فحالُه التي هي مَثَلٌ في السوء كصفته في أرذل أحوالِه وهي حالةُ دوامِ اللهَثِ به في حالتي التعبِ والراحة فكأنه قيل : فتردّى إلى ما لا غايةَ وراءَه في الخسة والدناءة ، وإيثارُ الجملةِ الاسمية على الفعلية بأن يقال : فصار مثلُه كمثل الكلب الخ للإيذان بدوام اتصافِه بتلك الحالةِ الخسيسة وكمالِ استمراره عليها ، والخطابُ في فعل الشرطِ لكل أحدٍ ممن له حظٌّ من الخطاب فإنه أدخلُ في إشاعة فظاعةِ حالِه ، واللهَثُ إدلاعُ اللسانِ بالتنفس الشديد ، أي هو ضيِّقُ الحال مكروبٌ دائمُ اللهَثِ سواءٌ هيّجتَه وأزعجتَه بالطرد العنيف أو تركته على حاله فإنه في الكلاب طبعٌ لا تقدِر على نفض الهواءِ المتسخّن وجلبِ الهواءِ البارد بسهولة لضعف قلبها وانقطاع فؤادِها بخلاف سائر الحيواناتِ فإنها لا تحتاج إلى التنفس الشديد ولا يلحقها الكربُ والمضايقةُ إلا عند التعب والإعياءِ ، والشرطيةُ مع أختها تفسيرٌ لما أُبهم في المثل وتفصيلٌ لما أُجمل فيه وتوضيحٌ للتمثيل ببيان وجهِ الشبهِ ، لا محلَّ له من الإعراب على منهاج قوله تعالى :(3/67)
{ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } إثرَ قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ } وقيل : هي في محل النصبِ على الحالية من الكلب بناءً على خروجهما من حقيقة الشرطِ وتحوّلِهما إلى معنى التسوية حسب تحولِ الاستفهامين المتناقضين إليه في مثل قوله تعالى : { أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ } كأنه قيل : لاهثاً في الحالتين وأياً ما كان فالأظهرُ أنه تشبيهٌ للهيئة المنتزَعَة مما اعتراه بعد الانسلاخِ من سوء الحالِ واضطرامِ القلب ودوامِ القلق والاضطراب وعدمِ الاستراحة بحال من الأحوال بالهيئة المنتزعةِ مما ذكر من حال الكلب . وقيل : لما دعا بلعم على موسى عليه السلام خرج لسانُه فتدلى على صدره وجعل يلهث كالكلب إلى أن هَلَك .
{ ذلك } إشارة إلى ما ذُكر من الحالة الخسيسةِ منسوبةٌ إلى الكلب أو إلى المنسلخ ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلتِها في الخسة والدناءة أي ذلك المثلُ السيءُ { مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بثاياتنا } وهم اليهودُ حيث أوُتوا من نعوت النبي عليه الصلاة والسلام وذِكرِ القرآن المُعجز وما فيه فصدقوه وبشروا الناسَ باقتراب مبعثِه وكانوا يستفتِحون به فلما جاءهم ما عرَفوا كفروا به وانسلخوا من حكم التوراة { فاقصص القصص } القَصصُ مصدرٌ وسُمّي به المفعولُ كالسلْب واللامُ للعهد والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي إذا تحقق أن المثل المذكورَ مثلُ هؤلاء المكذبين فاقصُصه عليهم حسبما أوحي إليك { لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فيقفون على جلية الحالِ وينزجرون عما هم عليه من الكفر والضلالِ ويعلمون أنك قد علِمتَه من جهة الوحي فيزدادون إيقاناً بك . والجملةُ في محل النصب على أنها حالٌ من ضمير المخاطَب أو على أنها مفعولٌ له أي فاقصُص القصص راجياً لتفكرهم أي أو رجاءً لتفكرهم .(3/68)
سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
{ سَاء مَثَلاً } استئنافٌ مَسوقٌ لبيان كمالِ قبحِ حالِ المكذبين بعد بيانِ كونِه كحال الكلبِ أو المنسلخ ، وساء بمعنى بئس وفاعلُها مضمرٌ فيها ومثلاً تمييزٌ مفسرٌ له والمخصوصُ بالذم قوله تعالى : { القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } وحيث وجب التصادقُ بينه وبين الفاعلِ والتمييز وجب المصيرُ إلى تقدير مضافٍ إما إليه وهو الظاهرُ أي ساء مثلاً مثَلُ القومِ الخ ، أو إلى التمييز أي ساء أصحابُ مثلِ القوم الخ ، وقرىء ساء مثلُ القوم ، وإعادةُ القومِ موصوفاً بالموصول مع كفاية الضميرِ بأن يقال : ساء مثلاً مثلُهم للإيذان بأن مدارَ السوء ما في حيز الصلة ولربط قولِه تعالى : { وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } به فإنه إما معطوفٌ على كذبوا داخلٌ معه في حكم الصلةِ بمعنى جمعوا بين تكذيبِ آياتِ الله بعد قيام الحجةِ عليها وعلْمِهم بها وبين ظلمهم لأنفسهم خاصة أو منقطع عنه بمعنى وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم ، فإن وبالَه لا يتخطاها . وأياً ما كان ففي يظلمون لمحٌ إلى أن تكذيبَهم بالآيات متضمنٌ للظلم بها وأن ذلك أيضاً معتبرٌ في القصر المستفادِ من تقديم المفعول .
{ مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدى } لما أُمر النبي عليه الصلاة والسلام بأن يقُصَّ قصصَ المنسلخِ على هؤلاء الضالين الذين مثلُهم كمثله ليتفكروا فيه ويترُكوا ما هم عليه من الإخلاد إلى الضلالة ويهتدوا إلى الحق عقّب ذلك بتحقيق أن الهدايةَ والضلالةَ من جهة الله عز وجل وإنما العِظةُ والتذكيرُ من قِبَل الوسائطِ العادية في حصول الاهتداءِ من غير تأثير لها فيه سوى كونِها دواعيَ ، إلى صرف العبدِ اختيارَه نحو تحصيلِه حسبما نيط به خلقُ الله تعالى إياه كسائر أفعالِ العباد ، فالمرادُ بهذه الهدايةِ ما يوجب الاهتداءَ قطعاً لكن لا لأن حقيقتَها الدلالةُ الموصلةُ إلى البُغية البتة ، بل لأنها الفردُ الكاملُ من حقيقة الهدايةِ التي هي الدلالةُ إلى ما يوصل إلى البغية أي ما من شأنه الإيصالُ إليها كما سبق تحقيقُه في تفسير قوله تعالى { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } وليس المرادُ مجردَ الإخبار باهتداء من هداه الله تعالى حتى يُتوهّم عدمُ الإفادةِ بحسب الظاهِر لظهور استلزامِ هدايتِه تعالى للاهتداء ، ويُحمل النظمُ الكريمُ على تعظيم شأن الأهتداءِ والتنبيه على أنه في نفسه كمالٌ جسيمٌ ونفعٌ عظيمٌ لو لم يحصُل له غيرُه لكفاه بل هو قصرُ الاهتداء على من هداه الله تعالى حسبما يقتضي به تعريفُ الخبرِ ، فالمعنى من يهدِه الله أي يخلقْ فيه الاهتداء على الوجه المذكور . فهو المهتدي لا غيرُ كائناً من كان { وَمَن يُضْلِلِ } بأن لم يخلُقْ فيه الاهتداءَ بل خلق فيه الضلالةَ لصرف اختيارِها نحوَها { فَأُوْلَئِكَ } الموصوفون بالضلالة على الوجه المذكور { هُمُ الخاسرون } أي الكاملون في الخُسران لا غير ، وإفرادُ المهتدي نظراً إلى معناها للإيذان باتحاد منهاجِ الهُدى وتفرّقِ طرقِ الضلال .(3/69)
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا } كلامٌ مستأنفٌ مقرّرٌ لمضمون ما قبله بطريق التذييلِ أي خلقنا { لِجَهَنَّمَ } أي لدخولها والتعذيبِ بها ، وتقديمُه على قوله تعالى : { كَثِيراً } أي خلقاً كثيراً مع كونه مفعولاً به لما في توابعه من نوع طولٍ يؤدي توسيطُه بينهما وتأخيرُه عنها إلى الإخلال بجزالة النظمِ الكريم وقوله تعالى : { مّنَ الجن والإنس } متعلقٌ بمحذوف هو صفةٌ لكثيراً أي كائناٍ منهما وتقديمُ الجنِّ لأنهم أعرقُ من الإنس في الاتصاف بما نحن فيه من الصفات وأكثرُ عدداً وأقدمُ خلقاً ، والمرادُ بهم الذين حقت عليهم الكلمةُ الأزليةُ بالشقاوة لكن لا بطريق الجبرِ من غير أن يكون مِنْ قِبَلهم ما يؤدي إلى ذلك بل لعلمه تعالى بأنهم لا يصرفون اختيارَهم نحوَ الحقِّ أبداً بل يُصِرُّون على الباطل من غير صارفٍ يَلويهم ولا عاطفٍ يَثنيهم من الآيات والنذر فبهذا الاعتبارِ جُعل خلقُهم مُغيّاً بها كما أن جميعَ الفريقين باعتبار استعدادِهم الكامِل الفطري للعبادة وتمكنِهم التامِّ منها جُعل خلقُهم مغيّاً بها كما نطق به قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }
وقوله تعالى : { لَهُمْ قُلُوبٌ } في محل النصبِ على أنه صفةٌ أخرى لكثيراً { لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } في محل الرفعِ على أنه صفةٌ لقلوبٌ مؤكدةٌ لما يفيده تنكيرُها وإبهامُها من كونها غيرَ معهودةٍ مخالِفةً لسائر أفرادِ الجنس فاقدةً لكماله بالكلية لكن لا بحسب الفطرة حقيقةً بل بسبب امتناعِهم عن صرفها إلى تحصيله ، وهذا وصفٌ لها بكمال الإغراقِ في القساوة فإنها حيث لم يَتأتَّ منها الفقهُ بحال فكأنها خلقت غيرَ قابلةٍ له رأساً وكذا الحالُ في أعينهم وآذانِهم ، وحذفُ المفعول للتعميم أي لهم قلوبٌ ليس من شأنها أن يفقهوا بها شيئاً مما مِنْ شأنه أن يُفقَه ، فيدخلُ فيه ما يليق بالمقام من الحق ودلائلِه دخولاً أولياً ، وتخصيصُه بذلك مُخلٌّ بالإفصاح عن كُنه حالِهم { وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا } الكلامُ فيه كما فيما عطف هو عليه ، والمرادُ بالأبصار والسمع المنفيَّيْن ما يختص بالعقلاء من الإدراك على ما هو وظيفةُ الثقلين لا ما يتناول مجردَ الإحساسِ بالشبَح والصوتِ كما هو وظيفة الأنعام ، أي لا يبصرون بها شيئاً من المبصَرات فيندرج فيه الشواهدُ التكوينيةُ الدالةُ على الحق اندراجاً أولياً { وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا } أي شيئاً من المسموعات فيتناول الآياتِ التنزيلية تناولاً أولياً ، وإعادةُ الخبر في الجملتين المعطوفتين مع انتظامِ الكلامِ بأن يقال : وأعينٌ لا يبصرون بها وآذانٌ لا يسمعون بها لتقرير سوءِ حالهِم ، وفي إثبات المشاعر الثلاثةِ لهم ثم وصفِها بعدم الشعورِ دون سلبِها عنهم ابتداءً بأن يقال : ليس لهم قلوبٌ يفقهون بها ولا أعينٌ يبصرون بها ولا آذانٌ يسمعون بها من الشهادة بكمالِ رسوخِهم في الجهل والغَواية ما لا يخفى { أولئك } إشارةٌ إلى المذكورين باعتبار اتصافِهم بما ذكر من الصفات ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلِتهم في الضلال أي أولئك الموصوفون بالأوصاف المذكورة { كالانعام } أي في انتفاء الشعورِ على الوجه المذكورِ ، أو في أن مشاعرَهم متوجهةٌ إلى أسباب التعيشِ مقصورةٌ عليها { بَلِ هُمْ أَضَلُّ } فإنها تدرِكُ ما من شأنها أن تُدركَه من المنافع والمضارِّ فتجتهد في جلبها وسلبِها غايةَ جهدِها مع كونها بمعزل من الخلود ، وهؤلاء ليسوا كذلك حيث لا يميِّزون بين المنافعِ والمضارِّ بل يعكسون الأمرَ فيتركون النعيمَ المقيمَ ويُقْدِمون على العذاب الخالد ، وقيل : لأنها تعرِف صاحبَها وتذكرُه وتُطيعه ، وهؤلاء لا يعرِفون ربَّهم ولا يذكُرونه ولا يطيعونه وفي الخبر(3/70)
« كلُّ شيءٍ أطوعُ لله من ابن آدم »
{ أولئك } المنعوتون بما مرّ من مِثْلية الأنعامِ والشرِّيَّة منها { هُمُ الغافلون } الكاملون في الغفلة المستحِقّون لأن يُخَصَّ بهم الاسمُ ولا يطلقَ على غيرهم ، كيف لا وإنهم لا يعرِفون من شؤون الله عز وجل ولا من شؤون ما سواه شيئاً فيشركون به سبحانه وليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير أصنامَهم التي هي من أخسّ مخلوقاتهِ تعالى .(3/71)
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
{ وَللَّهِ الأسماء الحسنى } تنبيهٌ للمؤمنين على كيفية ذكره تعالى وكيفية المعاملةِ مع المُخِلّين بذلك الغافلين عنه سبحانه عما يليق به من الأمور وما لا يليق به إثرَ بيانِ غفلتِهم التامةِ وضلالتِهم الطامة ، والحسنى تأنيثُ الأحسن أي الأسماءُ التي هي أحسنُ الأسماءِ وأجلُّها لإنبائها عن أحسن المعاني وأشرفِها { فادعوه بِهَا } أي فسمُّوه بتلك الأسماء { وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ } الإلحادُ واللحدُ : الميلُ والانحرافُ يقال : لحَد وألحَد إذا مال عن القصد ، وقرىء يَلحَدون من الثلاثي أي يَميلون في شأنها عن الحق إلى الباطل ، إما بأن يسمّوه تعالى بما لا توقيفَ فيه أو بما يوهم معنى فاسداً كما في قول أهل البدو : يا أبا المكارم يا أبيضَ الوجه يا سخيّ ونحوُ ذلك ، فالمرادُ بالترك المأمور به : الاجتنابُ عن ذلك ، وبأسمائه : ما أطلقوه عليه تعالى وسمَّوْه به على زعمهم لا أسماؤُه تعالى حقيقةً وعلى ذلك يُحمل تركُ الإضمارِ بأن يقال : يلحدون فيها ، وإما بأن يعدلون عن تسميته تعالى ببعض أسمائِه الكريمة كما قالوا : وما الرحمن؟ ما نعرِف سوى رحمانِ اليمامة . فالمرادُ بالترك الاجتنابُ أيضاً وبالأسماء أسماؤُه تعالى حقيقةً فالمعنى سمُّوه تعالى بجميع أسمائِه الحسنى واجتنبوا إخراجَ بعضِها من البين ، وإما بأن يُطلقوها على غيره تعالى كما سمَّوا أصنامَهم آلهة ، وإما بأن يشتقوا من بعضها أسماءَ أصنامِهم كما اشتقوا اللاتَ من الله تعالى والعُزّى من العزيز ، فالمراد بالأسماء أسماؤُه تعالى حقيقةً كما في الوجه الثاني . والإظهارُ في موقع الإضمارِ مع التجريد عن الوصف في الكل للإيذان بأن إلحادَهم في نفس الأسماءِ من غير اعتبار الوصفِ ، وليس المرادُ بالترك حينئذ الاجتنابَ عن ذلك إذا لا يتوهم صدورُ مثلِ هذا الإلحادِ عن المؤمنين ليُؤمَروا بتركه بل هو الإعراضُ عنهم وعدمُ المبالاة بما فعلوا ترقباً لنزول العقوبةِ بهم عن قريب كما هو المتبادرُ من قوله : { سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } فإنه استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال نشأ من الأمر بعدم المبالاةِ والإعراض عن المجازاة ، كأنه قيل : لم لا نبالي بإلحادهم ولا نتصدىّ لمجازاتهم؟ فقيل : لأنه سيُنزِل بهم عقوبتَه وتتشفَّوْن بذلك عن قريب . وأما على الوجهين الأولين فالمعنى اجتنبوا إلحادَهم كيلا يُصيبَكم ما أصابهم فإنه سينزِل بهم عقوبةُ إلحادهم .
{ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ } بيانٌ إجماليٌّ لحال مَنْ عدا المذكورين من الثقلين الموصوفين بما ذُكر من الضلال والإلحادِ عن الحق ، ومحلُّ الظرفِ الرفعُ على أنه مبتدأ ، إما باعتبار مضمونِه أو بتقدير الموصوفِ وما بعده خبرُه كما مر في تفسير قوله تعالى : { وَمِنَ الناس } الخ ، أي وبعضُ مَنْ خلقنا أو وبعضٌ ممن خلقنا أمةٌ أي طائفةٌ كثيرةٌ يهدون الناسَ ملتبسين بالحق أو يهدونهم بكلمة الحقِّ ويدلونهم على الاستقامة ، وبالحق يحكمون في الحكومات الجاريةِ فيما بينهم ولا يجورون فيها .(3/72)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا قرأها : « هذه لكم وقد أُعْطي بين أيديكم مثلها » ومن قوم موسى أمة الآية وعنه عليه الصلاة والسلام : « إن من أمتي قوماً على الحق حتى ينزل عيسى » وروي : « لا تزال من أمتي طائفةٌ على الحق إلى أن يأتي أمرُ الله » وروي : « لا تزال من أمتي أمةٌ قائمةً بأمر الله لا يضرُهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيَ أمرُ الله وهم ظاهرون » وفيه من الدلالة على صحة الإجماعِ ما لا يخفي . والاقتصارُ على نعتهم بهداية الناس للإيذان بأن اهتداءهم في أنفسهم أمرٌ محققٌ غنيٌّ عن التصريح به .(3/73)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
{ والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } شروعٌ في تحقيق الحقِّ الذي به يهدي الهادون وبه يعدِل العادلون ، وحملُ الناسِ على الأهتداء به على وجه الترهيب ، ومحلُّ الموصولِ الرفعُ على أنه مبتدأ خبرُه ما بعده من الجملة الاستقبالية ، وإضافةُ الآياتِ إلى نون العظمةِ لتشريفها واستعظامِ الإقدام على تكذيبها ، أي والذين كذبوا بآياتنا التي هي معيارُ الحقِّ ومصداقُ الصدقِ والعدل { سَنَسْتَدْرِجُهُم } أي نستدنيهم البتةَ إلى الهلاك شيئاً فشيئاً ، والاستدراجُ استفعالٌ من درَجَ إما بمعنى صعِد ثم اتُسِع فيه فاستُعمل في كل نقل تدريجيَ سواءٌ كان بطريق الصعودِ أو الهبوط أو الاستقامة ، وإما بمعنى مشى مشياً ضعيفاً ، وإما بمعنى طوَى ، والأولُ هو الأنسبُ بالمعنى المرادِ الذي هو النقلُ إلى أعلى درجاتِ المهلكِ ليبلُغ أقصى مراتبِ العقوبة والعذاب ، ثم استعير لطلب كل نقل تدريجيَ من حال إلى حال من الأحوال الملائمةِ للمنتقل الموافقةِ لهواه بحيث يزعُم أن ذلك ترقَ في مراقي منافعِه مع أنه في الحقيقة تردَ في مهاوي مصارعِه ، فاستدراجُه سبحانه إياهم أن يواتِرَ عليهم بالنعم مع انهماكهم في الغيّ فيحسَبوا أنها لُطفٌ لهم منه تعالى فيزدادوا بطراً وطغياناً لكن لا على أن المطلوبَ تدرُّجُهم في مراتب النعمِ بل هو تدرجُهم في مدارج المعاصي إلى أن يحِقَّ عليهم كلمةُ العذاب على أفظع حالٍ وأشنعها ، والأولُ وسيلةٌ إليه وقوله تعالى : { مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } متعلقٌ بمضمر وقع صفةً لمصدر الفعلِ المذكور ، أي سنستدرجهم استدراجاً كائناً من حيث لا يعلمون أنه كذلك بل يحسَبون أنه أثَرةٌ من الله عز وجل وتقريبٌ منه ، وقيل : لا يعلمون ما يراد بهم .
{ وَأُمْلِى لَهُمْ } عطفٌ على سنستدرجهم غيرُ داخلٍ في حكم السين ، لِما أن الإملأَ الذي هو عبارةٌ عن الإمهال والإطالةِ ليس من الأمور التدريجية كالاستدراج الحاصلِ في نفسه شيئاً فشيئاً ، بل هو فعلٌ يحصُل دفعةً ، وإنما الحاصلُ بطريق التدريج آثارهُ وأحكامهُ لا نفسُه كما يلوح به تغييرُ التعبيرِ بتوحيد الضميرِ مع ما فيه من الافتتان المنبىءِ عن مزيد الاعتناءِ بمضمون الكلامِ لابتنائه على تجديد القصدِ والعزيمة ، وأما أن ذلك للإشعار بأنه بمحض التقديرِ الإلهي والاستدراجِ بتوسط المدبّرات فمبْناه دِلالةُ نونِ العظمةِ على الشركة وأنى ذلك ، وإلا لاحتُرز عن إيرادها في قوله تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ } الآية ، بل إنما إيرادُها في أمثال هذه المواردِ بطريق الجَرَيانِ على سَننِ الكبرياء { إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ } تقريرٌ للوعيد وتأكيدٌ له أي قويٌّ لا يُدافع بقوة ولا بحيلة ، والمرادُ به إما الإستدراجُ والإملاءُ مع نتيجتهما التي هي الآخذُ الشديدُ على غِرّة فتسميتُه كيداً لما أن ظاهرَه لطفٌ وباطنَه قهرٌ ، وإما نفسُ ذلك الأخذِ فقط فالتسميةُ لكون مقدماتِه كذلك ، وأما أن حقيقةَ الكيدِ ، هو الأخذُ على خفاء من غير أن يُعتبر فيه إظهارُ خلافِ ما أبطنه فمما لا تعويلَ عليه مع عدم مناسبتِه للمقام ضرورةَ استدعائِه لاعتبار القيدِ المذكورِ حتماً .(3/74)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)
{ أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ } كلامٌ مبتدأٌ مَسوقٌ لإنكار عدمِ تفكرهم في شأنه عليه الصلاة والسلام وجهلهم بحقيقة حالِه الموجبةِ للإيمان به وبما أنزل عليه من الآيات التي كذبوا بها ، والهمزةُ للإنكار والتعجيبِ والتوبيخ ، والواوُ للعطف على مقدر يستدعيه سِباقُ النظمِ الكريم وسياقهُ ، و ( ما ) إما استفهاميةٌ إنكاريةٌ في محل الرفِع بالابتداء والخبرُ بصاحبهم ، وإما نافيةٌ اسمُها جِنةٌ وخبرُها بصاحبهم ، والجِنةُ من المصادر التي يُراد بها الهيئةُ كالرِّغبة والجِلْسة ، وتنكيرُها للتقليل والتحقير ، والجملةُ معلقةٌ لفعل التفكر لكونه من أفعال القلوب ومحلُها على الوجهين النصبُ على نزع الجارِّ أي أكذّبوا بها ولم يتفكروا في أي شيء من جنون ما كائنٍ بصاحبهم الذي هو أعظمُ الأمةِ الهادية بالحق وعليه أنزلت تلك الآيات ، أو في أنه ليس بصاحبهم شيءٌ من جِنّة حتى يؤدِّيَهم التفكرُ في ذلك إلى الوقوف على صدقه وصحةِ نبوته فيؤمنوا به وبما أنزل عليه من الآيات ، وقيل قد تم الكلامُ عند قوله تعالى : { أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ } أي أكذّبوا بها ولم يفعلوا التفكرَ؟ ثم ابتُدىء فقيل : أيُّ شيءٍ بصاحبهم من جنة ما على طريقة الإنكار والتعجيب والتبكيت ، أو قيل : ليس بصاحبهم شيءٌ منها ، والتعبيرُ عنه عليه الصلاة والسلام بصاحبهم للإيذان بأن طولَ مصاحبتِهم له عليه الصلاة والسلام عن شائبة ما ذكر ففيه تأكيدٌ للنكير وتشديدٌ له ، والتعرضُ لنفي الجنونِ عنه عليه الصلاة والسلام مع وضوح استحالةِ ثبوتِه له عليه الصلاة والسلام لما أن التكلمَ بما هو خارقٌ لقضية العقولِ والعادات لا يصدُر إلا عمن به مسُّ الجنونِ كيفما اتفق من غير أن يكون له أصلٌ ومعنى ، أو عمن له تأييد إلهي يخبر به عن الأمور الغيبية ، وإذ ليس به عليه السلام شائبةُ الأولِ تعين أنه عليه الصلاة والسلام مؤيدٌ من عند الله تعالى ، وقيل : إنه عليه الصلاة والسلام علا الصفا ليلاً فجعل يدعو قريشاً فخِذاً فخِذاً يحذّرهم بأسَ الله تعالى فقال قائلُهم : إن صاحبَكم هذا لمجنونٌ بات يهوت إلى الصباح فنزلت . فالتصريحُ بنفي الجنونِ حينئذ للرد على عظيمتهم الشنعاءِ ، والتعبيرُ عنه عليه الصلاة والسلام بصاحبهم واردٌ على شاكلة كلامِهم مع ما فيه من النكتة المذكورة ، وقوله تعالى : { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } جملةٌ مقررة لمضمون ما قبلها ومبينةٌ لحقيقة حالِه عليه الصلاة والسلام على منهاج قوله تعالى : { إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } بعد قوله تعالى : { مَا هذا بَشَرًا } أي ما هو صلى الله عليه وسلم إلا مبالغٌ في الإنذار مظهرٌ له غايةَ الإظهار إبرازاً لكمال الرأفةِ ومبالغةً في الإعذار .(3/75)
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
وقوله تعالى : { أَوَ لَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ السموات والارض } استئناف آخرُ مسوقٌ للإنكار والتوبيخ بإخلالهم بالتأمل في الآيات التكوينيةِ المنصوبةِ في الآفاق والأنفسِ الشاهدةِ بصحة مضمونِ الآيات المنزلةِ إثرَ ما نُعي عليهم إخلالُهم بالتفكر في شأنه عليه الصلاة والسلام ، والهمزةُ لما ذكر من الإنكار والتعجب والتوبيخِ ، والواوُ للعطف على المقدر المذكورِ أو على الجملة المنفيةِ بلم ، والملكوتُ الملكُ العظيم ، أي أكذبوا بها أو ألم يتفكروا فيما ذكر ولم ينظروا نظرَ تأملٍ فيما تدل عليه السمواتُ والأرض من عِظَم المُلك وكمالِ القدرة { وَمَا خَلَقَ الله } أي وفيما خلق فيهما على أنه عطفٌ على ملكوت ، وتخصيصُه بهما لكمال ظهورِ عِظَم المُلك فيهما ، أو وفي ملكوت ما خلق على أنه عطفٌ على السموات والأرض ، والتعميمُ لاشتراك الكل في الدِلالة على عظم الملكِ في الحقيقة وعليه قوله تعالى : { فسبحان الذى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء } وقوله تعالى : { مِن شَىْء } بيانٌ لما خلق مفيدٌ لعدم اختصاص الدِلالة المذكورة بجلائل المصنوعاتِ دون دقائِقها ، والمعنى أولم ينظُروا في ملكوت السموات والأرض وما خُلق فيهما من جليل ودقيقٍ مما ينطلق عليه اسمُ الشيءِ ليدلَّهم ذلك على العلم بوحدانيته تعالى وبسائر شؤونِه التي ينطِق بها تلك الآياتُ فيؤمنوا بها لاتحادهما في المدلول فإن كلَّ فردٍ من أفراد الأكوانِ مما عزَّ وهانَ دليلٌ لائحٌ على الصانع المجيد وسبيلٌ واضحٌ إلى عالم التوحيد ، وقوله تعالى : { وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ } عطف على ملكوت ، وأن مخففةٌ من أنّ ، واسمُها ضميرُ الشأن وخبرُها عسى مع فاعلها الذي هو أن يكون ، واسمُ يكون أيضاً ضميرُ الشأن ، والخبرُ قد اقترب أجلُهم والمعنى أولم ينظروا في أن الشأن عسى أن يكون الشأنُ قد اقترب أجلُهم وقد جوز أن يكون اسمُ يكون ( أجلُهم ) وخبرُها ( قد اقترب ) على أنها جملةٌ من فعل وفاعل هو ضمير أجلهم لتقدمه حكماً وأياً ما كان فمناطُ الإنكارِ والتوبيخِ تأخيرُهم للنظر والتأمل أي لعلهم يموتون عما قريب فما لهم لا يسارعون إلى التدبر في الآيات التكوينيةِ الشاهدة بما كذبوه من الآيات القرآنيةِ ، وقد جوز أن يكون الأجلُ عبارةً عن الساعة والإضافةُ إلى ضميرهم لملابستهم لها من جهة إنكارِهم لها وبحثِهم عنها .
وقوله تعالى : { فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } قطعٌ لاحتمال إيمانِهم رأساً ونفيٌ له بالكلية مترتبٌ على ما ذكر من تكذيبهم بالآيات وإخلالِهم بالتفكر والنظر ، والباءُ متعلقةٌ بيؤمنون وضميرُ بعده للآيات على حذفِ المضاف المفهومِ من كذبوا والتذكيرُ باعتبار كونِها قرآناً أو بتأويلها بالمذكور وإجراءِ الضمير مُجرى اسمِ الإشارة والمعنى أكذبوا بها ولم يتفكروا فيما يوجب تصديقها من أحواله عليه الصلاة والسلام وأحوالِ المصنوعاتِ فبأي حديث يؤمنون بعد تكذيبه ومعه مثلُ هذه الشواهدِ القويةِ كلا وهيهات ، وقيل : الضميرُ للقرآن والمعنى فبأي حديث بعد القرآنِ يؤمنون إذا لم يؤمنوا به وهو النهايةُ في البيان ، وقيل هو إنكارٌ وتبكيتٌ لهم مترتبٌ على إخلالهم بالمسارعة إلى التأمل فيما ذُكر كأنه قيل : لعل أجلَهم قد اقترب فما لهم لا يبادِرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الفَوْتِ ، وماذا ينتظرون بعد وضوحِ الحقِّ وبأي حديثٍ أحقَّ منه يريدون أن يؤمنوا؟ وقيل : الضميرُ لأجَلهم ، والمعنى فبأي حديثٍ بعد انقضاءِ أجلِهم يؤمنون؟ وقيل : للرسول عليه الصلاة والسلام على حذف مضافٍ أي فبأي حديثٍ بعد حديثِه يؤمنون وهو أصدقُ الناس .(3/76)
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
وقوله تعالى : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ } استئنافٌ مقررٌ لما قبله منبىءٌ عن الطبع على قلوبهم وقوله تعالى : { وَيَذَرُهُمْ فِى طغيانهم } بالياء والرفع على الاستئناف أي وهو يذرُهم ، وقرىء بنون العظمةِ على طريقة الالتفات ، أي ونحن نذرهم ، وقرىء بالياء والجزمِ عطفاً على محل فلا هاديَ له كأنه قيل : من يُضللِ الله لا يهدِهِ أحدٌ ويذرْهم ، وقد روي الجزمُ بالنون عن نافع وأبي عمرو في الشواذ وقوله تعالى : { يَعْمَهُونَ } أي يتردّدون ويتحيرون ، حالٌ من مفعول يذرُهم ، وتوحيدُ الضمير في حيز النفي نظراً إلى لفظ مَنْ وجمعُه في حيز الإثبات نظراً إلى معناها للتنصيص على شمول النفي والإثباتِ للكل .
{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة } استئنافٌ مَسوقٌ لبيان بعضِ أحكامِ ضلالِهم وطغيانِهم أي عن القيامة ، وهي من الأسماء الغالبة وإطلاقُها عليها إما لوقوعها بغتةً أو لسرعة ما فيها من الحساب ، أو لأنها ساعةٌ عند الله تعالى مع طولها في نفسها . قيل : إن قوماً من اليهود قالوا : يا محمدُ أخبرنا متى الساعةُ إن كنت نبياً؟ فإنا نعلم متى هي ، وكان ذلك امتحاناً منهم مع علمهم أنه تعالى قد استأثر بعلمها ، وقيل : السائلون قريشٌ وقوله تعالى : { أَيَّانَ مرساها } بفتح الهمزة وقد قرىء بكسرها وهو ظرفُ زمانٍ متضمِّنٌ لمعنى الاستفهام ، ويليه المبتدأُ أو الفعلُ المضارِعُ دون الماضي بخلاف متى حيث يليها كلاهما ، قيل : اشتقاقُه من أيّ فَعْلانَ منه لأن معناه أيّ وقتٍ وهو من أويتُ إلى الشيء لأن البعضَ آو إلى الكل متساندٌ إليه ، ومحلُّه الرفعُ على أنه خبرٌ مقدمٌ ومرساها مبتدأٌ مؤخرٌ أي متى إرساؤُها أي إثباتُها وتقريرُها ، فإنه مصدرٌ ميميٌّ من أرساه إذا أثبته وأقره ، ولا يكاد يُستعمل إلا في الشيء الثقيل كما في قوله تعالى : { والجبال أرساها } ومنه مرساةُ السفن ، ومحلُّ الجملة قيل : الجرُّ على البدلية من الساعة ، والتحقيقُ أن محلها النصبُ بنزع الخافضِ لأنها بدلٌ من الجار والمجرور لا من المجرور فقط كأنه قيل : يسألونك عن الساعة عن أيان مُرساها ، وفي تعليق السؤالِ بنفس الساعةِ أولاً وبوقت وقوعِها ثانياً تنبيهٌ على أن المقصِدَ الأصليَّ من السؤال نفسُها باعتبار حلولِها في وقتِها المعين لا وقتُها باعتبار كونِه محلاً لها وقد سُلك هذا المسلكُ في الجواب الملقن أيضاً حيث أُضيف العلمُ المطلوبُ بالسؤال إلى ضميرها فأخبرها باختصاصه به عز وجل حيث قيل : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا } أي علمُها بالاعتبار المذكور { عِندَ رَبّى } ولم يقل إنما علمُ وقتِ إرسائِها ومن لم يتنبّه لهذه النُكتهِ حمل النظمَ الكريمَ على حذف المضافِ ، والتعرضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام للإيذان بأن توفيقه عليه الصلاة والسلام للجواب على الوجه المذكور من باب التربية والإرشاد ، ومعنى كونِه عنده تعالى خاصة أنه تعالى قد استأثر به بحيث لم يخبِرْ به أحداً من ملك مقرّبٍ أو نبيَ مرسل وقوله تعالى : { لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } بيانٌ لاستمرار تلك الحالةِ إلى حين قيامِها وإقناطٌ كليٌّ عن إظهار أمرها بطريق الإخبارِ من جهته تعالى أو من جهة غيرِه لاقتضاء الحكمةِ التشريعيةِ إياه فإنه أدعى إلى الطاعة وأزجرُ عن المعصية ، كما أن إخفاءَ الأجل الخاصِّ للإنسان كذلك ، والمعنى لا يَكِشفُ عنها ولا يُظهر للناس أمرَها الذي تسألونني عنه إلا هو بالذات من غير أن يُشعِرَ به أحداً من المخلوقين فيتوسّط في إظهاره لهم لكن لا بأن يُخبرَهم بوقتها قبل مجيئِه كما هو المسؤولُ بل بأن يُقيمَها فيشاهدوها عِياناً كما يفصح عنه التجليةُ المُنبئةُ عن الكشف التامِّ المزيلِ للإبهام بالكلية ، وقوله تعالى : { لِوَقْتِهَا } أي في وقتها ، قيْدٌ للتجلية بعد ورودِ الاستثناء عليها لا قبلَه كأنه قيل : لا يجلّيها إلا هو في وقتها إلا أنه قُدّم على الاستثناء للتنبيه من أول الأمرِ على أن تجليتَها ليست بطريق الإخبارِ بوقتها ، بل بإظهار عينِها في وقتها الذي يسألون عنه وقوله تعالى : { ثَقُلَتْ فِى السموات والارض } استئنافٌ كما قبله مقررٌ لمضمون ما قبله أي كبُرت وشقتْ على أهلهما من الملائكة والثقلين كلٌّ منهم أهمّه خفاؤُها وخروجُها عن دائرة العقولِ وقيل : عظُمت عليهم حيث يُشفقون منها ويخافون شدائدَها وأهوالَها وقيل : ثقلت فيهما إذ لا يُطيقها منهما ومما فيهما شيءٌ أصلاً والأولُ هو الأنسبُ بما قبله وبما بعده من قوله تعالى : { لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } فإنه أيضاً استئنافٌ مقررٌ لمضمون ما قبله فلا بد من اعتبار الثِقَل من حيث الخفاءُ أي لا تأتيكم إلا فجأةً على غفلة كما قال عليه الصلاة والسلام :(3/77)
« إن الساعةَ تهيجُ بالناس والرجلُ يُصلح حَوضَه والرجلُ يسقي ماشيتَه والرجلُ يقوّم سلعتَه في سوقه والرجلُ يخفِض ميزانه ويرفَعُه » { يَسْئَلُونَكَ كَأََنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } استئنافٌ مَسوقٌ لبيان خطئِهم في توجيه السؤالِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بناءً على زعمهم أنه عليه الصلاة والسلام عالمٌ بالمسؤول عنه أو أن العلمَ بذلك من مواجب الرسالةِ إثرَ بيانِ خطِئهم في أصل السؤال بإعلام شأنِ المسؤولِ عنه ، والجملةُ التشبيهيةُ في محل النصبِ على أنها حالٌ من الكاف جيء بها بياناً لما يدعوهم إلى السؤال على زعمهم وإشعاراً بخطئهم في ذلك أي يسألونك مُشبّهاً حالُك عندهم بحال من هو حفيٌّ عنها أي مبالِغٌ في العلم بها فعيلٌ من حِفيَ ، وحقيقتُه كأنك مبالغٌ في السؤال عنها فإن ذلك في حكم المبالغةِ في العلم بها لِما أن مَنْ بالغ في السؤال عن الشيء والبحثِ عنه استحكم علمُه به ، ومبنى التركيبِ على المبالغة والاستقصاءِ ، ومنه إحفاءُ الشاربِ واحتفاءُ البقل أي استئصالُه والإحفاءُ في المسألة أي الإلحافُ فيها ، وقيل : ( عن ) متعلقةٌ بيسألونك وقولُه تعالى : { كَأَنَّكَ حَفِىٌّ } معترض ، وصلةُ حفيٌّ محذوفة أي حفي بها وقد قرىء كذلك وقيل : هو من الحَفاوة بمعنى البِرِّ والشفقة فإن قريشاً قالوا له عليه الصلاة والسلام : إن بيننا وبينك قرابةً فقل لنا متى الساعة؟ والمعنى يسألونك كأنك حفيٌّ تتحفّى بهم فتخصّهم بتعليم وقتِها لأجل القرابة وتَزْوي أمرَها عن غيرهم ، ففيه تخطئةٌ لهم من جهتين ، وقيل : هو من حفِيَ بالشيء بمعنى فرح به والمعنى كأنك فرِحٌ بالسؤال عنها تحبّه مع أنك كارِهٌ له ، لِما أنه تعرُّضٌ لحُرَم الغيبِ الذي استأثر الله عز وجل بعلمه .(3/78)
{ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله } أُمر صلى الله عليه وسلم بإعادة الجوابِ الأول تأكيداً للحكم وتقريراً له وإشعاراً بعلته على الطريقة البرهانيةِ بإيراد اسمِ الذات المُنبىءِ عن استتباعها لصفات الكمالِ التي من جملتها العلمُ وتمهيداً للتعريض بجهلهم بقوله تعالى : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أي لا يعلمون ما ذُكر من اختصاص علمِها به تعالى فبعضُهِم ينكرونها رأساً فلا يعلمون شيئاً مما ذكر قطعاً وبعضُهم يعلمون أنها واقعةٌ البتةَ ويزعُمون أنك واقفٌ على وقت وقوعِها فيسألونك عنه جهلاً ، وبعضُهم يدّعون أن العلم بذلك من مواجب الرسالةِ فيتخذون السؤالَ عنه ذريعةً إلى القدح في رسالتك ، والمستثنى من هؤلاء هم الواقفون على جلية الحالِ من المؤمنين ، وأما السائلون عنها من اليهود بطريق الامتحانِ فهم منتظِمون في سلك الجاهلين حيث لم يعمَلوا بعلمهم .(3/79)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
وقوله تعالى :
{ قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا } شروعٌ في الجواب عن السؤال ببيان عجزِه عن علمها إثرَ بيانِ عجزِ الكلِ عنه وإبطالُ زعمِهم الذي بنَوْا عليه سؤالَهم من كونه عليه الصلاة والسلام ممن يعلمها ، وإعادةُ الأمر لإظهار كمالِ العنايةِ بشأن الجوابِ والتنبيهِ على استقلاله ومغايرتِه للأول ، والتعرضُ لبيان عجزه عما ذُكر من النفع والضُرِّ لإثبات عجزِه عن علمها بالطريق البرهاني ، واللامُ إمَا متعلقٌ بأملك أو بمحذوف وقع حالاً من نفعاً أي لا أقدر لأجل نفسي على جلب نفعٍ ما ولا على دفع ضرَ ما { إِلاَّ مَا شَاء الله } أن أملِكَه من ذلك بأن يُلْهِمنيه فيُمكِنَني منه ويُقدِرَني عليه أو لكنْ ما شاء الله من ذلك كائنٌ ، فالاستثناءُ منقطعٌ وهذا أبلغُ في إظهار العجز { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب } أي جنسَ الغيبِ الذي من جملته ما بين الأشياء من المناسبات المصححةِ عادةً للسببية والمسبّبة ، ومن المباينات المستتبعةِ للممانعة والمدافعةِ { لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير } أي لحصّلتُ كثيراً من الخير الذي نيط تحصيلُه بالأفعال الاختياريةِ للبشر بترتيب أسبابِه ودفعِ موانِعه { وَمَا مَسَّنِىَ السوء } أي السوءُ الذي يمكن التقصّي عنه بالتوقيِّ عن موجباته والمدافعةِ بموانعه لا سوءٌ ما فإن منه ما لا مدفعَ له .
{ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } أي ما أنا إلا عبدٌ مرسَلٌ للإنذار والبشارة شأني حيازةُ ما يتعلق بهما من العلوم الدينيةِ والدنيوية لا الوقوفُ على الغيوب التي لا علاقة بينها وبين الأحكامِ والشرائعِ وقد كشفتُ من أمر الساعةِ ما يتعلق به الإنذارُ من مجيئها لا محالة واقترابِها ، وأما تعيينُ وقتِها فليس مما يستدعيه الإنذارُ بل هو مما يقدح فيه لما مر من أن إبهامَه أدعى إلى الانزجار عن المعاصي وتقديمُ النذيرِ على البشير لما أن المقامَ مَقامُ الإنذار وقوله تعالى : { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } إما متعلقٌ بهما جميعاً لأنهم ينتفعون بالإنذار كما ينتفعون بالبشارة ، وإما بالبشير فقط وما يتعلق بالنذير للكافرين أي الباقين على الكفر ، وبشيرٌ لقوم يؤمنون أي في أيّ وقتٍ كان ففيه ترغيبٌ للكفرة في إحداث الإيمانِ وتحذيرٌ عن الإصرار على الكفر والطغيان .
هُوَ الذى خَلَقَكُمْ } استئناف سيق لبيان كمالِ عِظَمِ جنايةِ الكَفَرةِ في جراءتهم على الإشراك بتذكير مبادىءِ أحوالِهم المنافيةِ له ، وإيقاعُ الموصول خبراً لتفخيم شأنِ المبتدأ ، أي هو ذلك العظيمُ الشأنِ الذي خلقكم جميعاً وحدَه من غير أن يكون لغيره مدخلٌ في ذلك بوجه من الوجوه { مّن نَّفْسٍ واحدة } هو آدمُ عليه الصلاة والسلام ، وهذا نوعُ تفصيلٍ لما أشير إليه في مطلع السورةِ الكريمة إشارةً إجماليةً من خلقهم وتصويرِهم في ضمن خلق آدمَ وتصويرِه وبيانٌ لكيفيته { وَجَعَلَ } عطف على خلقكم داخلٌ في حكم الصلة ، ولا ضيرَ في تقدمه عليه وجوداً لِما أن الواوَ لا تستدعي الترتيبَ في الوجود { مِنْهَا } أي من جنسها كما في قوله تعالى :(3/80)
{ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } أو من جسدها لما يُروى أنه تعالى خلقَ حوّاءَ من ضِلْع من أضلاع آدمَ عليه الصلاة والسلام ، والأولُ هو الأنسُب إذِ الجنسيةُ هي المؤديةُ إلى الغاية الآتيةِ لا الجزئيةُ ، والجعلُ إما بمعنى التصييرِ فقوله تعالى : { زَوْجَهَا } مفعولُه الأولُ والثاني هو الظرفُ المقدّم ، وإما بمعنى الإنشاءِ والظرفُ متعلقٌ بجعل قُدّم على المفعول الصريحِ لما مر مراراً من الاعتناء بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخر ، أو بمحذوف هو حالٌ من المفعول والأولُ هو الأولى وقوله تعالى : { لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } علةٌ غائيةٌ للجعل باعتبار تعلُّقِه بمفعولِه الثاني أي ليستأنسَ بها ويطمئِنّ إليها اطمئناناً مصححاً للازدواج كما يلوح به تذكيرُ الضميرِ ويُفصح عنه قوله تعالى : { فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } أي جامعها { حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا } في مبادىء الأمرِ فإنه عند كونه نطفةً أو علقمةً أو مضغة أخفُّ عليها بالنسبة إلى ما بعد ذلك من المراتب لذكر خِفته للإشارة إلى نعمته تعالى عليهم في إنشائه تعالى إياهم متدرجين في أطوار الخلقِ من العدم إلى الوجود ومن الضَّعف إلى القوة { فَمَرَّتْ بِهِ } أي فاستمرّت به كما كانت قبل حيث قامتْ وقعدت وأخذت وتركت ، وعليه قراءةُ ابن عباس رضي الله تعالى عنه وقرىء ( فمَرَتْ ) بالتخفيف و ( فمارَتْ ) من المور وهو المجيءُ والذهابُ أو من المِرْية فظنت الحملَ وارتابت به ، وأما ما قيل من أن المعنى حملت حملاً خفّ عليها ولم تلْقَ منه ما يلقى بعضُ الحبالى من حملهن من الكرب والأذّية ولم تستثقِلْه كما يستثقِلْنَه فمرّت به أي فمضَت به إلى ميلاده من غير إخداج ولا إزلاق فيرده قوله تعالى : { فَلَمَّا أَثْقَلَت } إذ معناه فلما صارت ذاتَ ثِقلٍ لكبر الولدِ في بطنها ، ولا ريب في أن الثقلَ بهذا المعنى ليس مقابلاً للخفة بالمعنى المذكور إنما يقابلها الكربُ الذي يعتري بعضَهن من أول الحمل إلى آخره دون بعضٍ أصلاً ، وقرىء أُثقِلت على البناء للمفعول أي أثقلها حملُها { دَّعَوَا الله } أي آدمُ وحواءُ عليهما السلام لمّا دَهِمهما أمرٌ لم يعهَداه ولم يعرِفا مآله فاهتما به وتضرّعا إليه عز وجل وقوله تعالى : { رَبُّهُمَا } أي مالكَ أمرِهما الحقيقَ بأن يُخَصَّ به الدعاءُ إشارةٌ إلى أنهما قد صدّرا به دعاءَهما كما في قولهما : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } الآية ، ومتعلَّقُ الدعاءِ محذوفٌ تعويلاً على شهادة الجملةِ القسَمية به ، أي دَعَواه تعالى أنه يُؤتيَهما صالحاً ووعدا بمقابلته الشكرَ على سبيل التوكيدِ القسَميِّ وقالا أو قائلين :
{ لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صالحا } أي ولداً من جنسنا سوياً { لَنَكُونَنَّ } نحن ومن يتناسل من ذريتنا { مِنَ الشاكرين } الراسخين في الشكر على نعمائك التي من جملتها هذه النعمةُ ، وترتيبُ هذا الجوابِ على الشرط المذكورِ لما أنهما قد علما أن ما علّقا به دعاءَهما أُنموذَجٌ لسائر أفرادِ الجنسِ ومعيارٌ لها ذاتاً وصفةَ وجودُه مستتبعٌ لوجودها وصلاحُه مستلزِمٌ لصلاحها فالدعاءُ في حقه متضمنٌ للدعاء في حق الكل مستتبِعٌ له كأنهما قالا : لئن آتيتنا وذريتَنا أولاداً صالحة ، وقيل : إن ضميرَ آتيتَنا أيضاً لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما فالوجهُ ظاهرٌ ، وأنت خبيرٌ بأن نظمَ الكل في سلك الدعاءِ أصالةً يأباه مقام المبالغةِ في الاعتناء بشأن ما هما بصدده ، وأما جعلُ ضميرِ لنكونن للكل فلا محذورَ فيه لأن توسيعَ دائرةِ الشكر غيرُ مُخِلَ بالاعتناء المذكور بل مؤكدٌ له .(3/81)
وأياً ما كان فمعنى قوله تعالى :(3/82)
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
{ فَلَمَّا ءاتاهما صالحا } لما آتاهما ما طلباه أصالةً واستتباعاً من الولد وولد الولدِ ما تناسلوا فقوله تعالى : { جَعَلاَ } أي جعل أولادُهما { لَهُ } تعالى { شُرَكَاء } على حذف المضافِ وإقامةِ المضاف إليه مُقامه ثقةً بوضوح الأمرِ وتعويلاً على ما يعقُبه من البيان وكذا الحال في قوله تعالى : { فِيمَا ءاتاهما } أي فيما آتى أولادَهما من الأولاد حيث سمَّوْهم بعبد مناف وعبدِ العزّى ونحوِ ذلك وتخصيصُ إشراكِهم هذا بالذكر في مقام التوبيخِ مع أن إشراكَهم بالعبادة أغلظُ منه جنايةً وأقدمُ وقوعاً لِما أن مَساقَ النظمِ الكريمِ لبيان إخلالِهم بالشكر في مقابلة نعمةِ الولدِ الصالِح ، وأولُ كفرِهم في حقه إنما هو تسميتُهم إياه بما ذُكر ، وقرىء شِرْكاً أي شركةً أو ذوي شركةٍ أي شركاءَ .
إن قيل ما ذُكر من حذف المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامَه إنما يصار إليه فيما يكون للفعل ملابسةٌ ما بالمضاف إليه أيضاً بسرايته إليه حقيقةً أو حكماً وتتضمن نسبتُه إليه صورةً مزيةً يقتضيها المقامُ كما في قوله تعالى : { وَإِذْ نجيناكم مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ } الآية ، فإن الإنجاءَ منهم مع أن تعلّقه حقيقةً ليس إلا بأسلاف اليهودِ قد نُسب إلى أخلافهم بحكم سرايتِه إليهم توفيةً لمقام الامتنانِ حقَّه ، وكذا في قوله تعالى : { قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء الله } الآية ، فإن القتلَ حقيقةً مع كونه من جناية آبائِهم قد أُسند إليهم بحكم رضاهم به أداءً لحق مقامِ التوبيخِ والتبكيت ، ولا ريب في أنهما عليهما الصلاة والسلام بريئان من سرايةِ الجعلِ المذكورِ إليهما بوجه من الوجوه ، فما وجهُ إسنادِه إليهما صورةً؟ قلنا : وجهُه الإيذانُ بتركهما الأَوْلى حيث أقدما على نظم أولادِهما في سلك أنفسِهما والتزما شكرَهم في ضمن شكرِهما وأقسما على ذلك قبل تعرُّف أحوالِهم ببيان أن إخلالَهم بالشكر الذي وعداه وعداً مؤكداً باليمين بمنزلة إخلالِهما بالذات في استيجاب الحِنْثِ والخُلْف مع ما فيه من الاشعار بتضاعف جنايتِهم ببيان أنهم بجعلهم المذكورِ أوقعوهما في ورطة الحِنثِ والخُلفِ وجعلوهما كأنهما باشراه بالذات فجمعوا بين الجنايةِ على الله تعالى والجنايةِ عليهما عليهما السلام .
{ فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } تنزيهٌ فيه معنى التعجبِ ، والفاءُ لترتيبه على ما فصل من أحكام قدرتِه تعالى وآثارِ نعمتِه الزاجرةِ عن الشرك الداعيةِ إلى التوحيد ، وصيغةُ الجمعِ لما أشير إليه من تعين الفاعلِ وتنزيهِ آدمَ وحواءَ عن ذلك و ( ما ) في ( عما ) إما مصدريةٌ أي عن إشراكهم أو موصولةٌ أو موصوفةٌ أي عما يشركونه به سبحانه ، والمرادُ بإشراكهم إما تسميتُهم المذكورةُ أو مطلقُ إشراكِهم المنتظمِ لها انتظاماً أولياً وقرىء تشركون بتاء الخِطاب بطريق الالتفاتِ ، وقيل : الخطابُ لآل قصيَ من قريش ، والمرادُ بالنفس الواحدةِ نفسُ قصيّ فإنهم خُلقوا منه وكان له زوجٌ من جنسه عربيةٌ قرشيةٌ وطلبا من الله تعالى ولداً صالحاً فأعطاهما أربعةَ بنينَ فسمَّياهم عبدَ مناف وعبدَ شمسٍ وعبدَ قُصيَ وعبدَ الدار ، وضمير يشركون لهما ولأعقابهما المقتدين بهما .(3/83)
وأما ما قيل : من أنه لما حملت حواءُ أتاها إبليسُ في صورة رجل فقال لها : ما يُدريك ما في بطنك لعله بهيمةٌ أو كلبٌ أو خنزيرٌ وما يدريك من أين يخرج فخافت من ذلك فذكرته لآدمَ فأهمّهما ذلك ثم عاد إليها وقال : إني من الله تعالى بمنزلة فإن دعوتُه أن يجعله خلقاً مثلَك ويسهّل عليك خروجَه تسمّيه عبد الحارث وكان اسمُه حارثاً في الملائكة فقبِلت فلما ولدتْه سمتّه عبدَ الحارثِ فمما لا تعويلَ عليه ، كيف لا وأنه عليه الصلاة والسلام كان علَماً في علم الأسماءِ والمسميات فعدمُ علمِه بإبليسَ واسمِه واتباعُه إياه في مثل هذا الشأن الخطيرِ أمرٌ قريبٌ من المحال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال .(3/84)
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)
{ أَيُشْرِكُونَ } استئنافٌ مسوقٌ لتوبيخ كافةِ المشركين واستقباحِ إشراكِهم على الإطلاق وإبطالِه بالكلية ببيان شأنِ ما أشركوه به سبحانه ، وتفصيلِ أحوالِه القاضيةِ ببطلان ما اعتقدوه في حقه أي أيشركون به تعالى { مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً } أي لا يقدر على أن يخلُق شيئاً من الأشياء أصلاً ومن حق المعبودِ أن يكون خالقاً لعابده لا محالة ، وقولُه تعالى : { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } عطفٌ على ( لا يخلق ) وإيرادُ الضميرين بجمع العقلاءِ مع رجوعهما إلى ( ما ) المعبّرِ بها عن الأصنام إنما هو بحسب اعتقادِهم فيها وإجرائِهم لها مُجرى العقلاءِ وتسميتِهم لها آلهةً ، وكذا حالُ سائر الضمائرِ الآتيةِ ووصفُها بالمخلوقية بعد وصفِها بنفي الخالقيةِ لإبانة كمالِ منافاةِ حالِها لما اعتقدوه في حقها وإظهارِ غايةِ جهلِهم ، فإن إشراكَ ما لا يقدِرُ على خلق شيءٍ ما بخالقه وخالقِ جميع الأشياء مما لا يمكن أن يسوّغه من له عقلٌ في الجملة وعدمُ التعرضِ لخالقها للإيذان بتعينه والاستغناءِ عن ذكره .
{ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ } أي لِعبَدَتهم إذا حزّ بهم أمرٌ مهِمّ وخطبٌ مُلِمٌّ { نَصْراً } أي نصراً ما بجلب منفعةٍ أو دفعِ مضرة { وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } إذا اعتراهم حادثةٌ من الحوادث أي لا يدفعونها عن أنفسهم ، وإيرادُ النصر للمشاكلة ، وهذا بيانٌ لعجزهم عن إيصال منفعةٍ ما من المنافع الوجوديةِ والعدميةِ إلى عبدتهم وأنفسِهم بعد بيانِ عجزِهم عن إيصال منفعةِ الوجود إليهم وإلى أنفسهم ، خلا أنهم وُصفوا هناك بالمخلوقية لكونهم أهلاً لها وهاهنا لم يوصفوا بالمنصورية لأنهم ليسوا أهلاً لها . وقوله تعالى : { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى } بيانٌ لعجزهم عما هو أدنى من النصر المنفيِّ عنهم وأيسرُ ، وهو مجردُ الدِلالةِ على المطلوب والإرشادِ إلى طريق حصولِه من غير أن يحصّله الطالب ، والخطابُ للمشركين بطريق الالتفاتِ المنبىءِ عن مزيد الاعتناءِ بأمر التوبيخِ والتبكيتِ أي إنْ تدعوهم أيها المشركون إلى أن يَهدوكم إلى ما تحصِّلون به المطالبَ أو تنجون به عن المكاره { لاَ يَتَّبِعُوكُمْ } إلى مرادكم وطِلْبتِكم ، وقرىء بالتخفيف وقوله تعالى : { سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون } استئنافٌ مقررٌ لمضمون ما قبله ومبينٌ لكيفية عدمِ الاتباع ، أي مستوٍ عليكم في عدم الإفادةِ دعاؤُكم لهم وسكوتُكم البحتُ فإنه لا يتغير حالُكم في الحالين كما لا يتغير حالُهم بحكم الجمادية ، وقوله تعالى : { أَمْ أَنتُمْ صامتون } جملةٌ اسميةٌ في معنى الفعليةِ معطوفةٌ على الفعلية لأنها في قوة أمْ صَمَتّم . عُدل عنها للمبالغة في عدم إفادةِ الدعاءِ ببيان مساواتِه للسكوت الدائمِ المستمر ، وما قيل من أن الخطابَ للمسلمين والمعنى وإن تدعوا المشركين إلى الهدى أي الإسلامِ لا يتبعوكم الخ ، مما لا يساعده سباقُ النطمِ الكريم وسياقُه أصلاً على أنه لو كان كذلك لقيل عليهم مكان عليكم كما في قوله تعالى : { سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } فإن استواءَ الدعاءِ وعدمَه إنما هو بالنسبة إلى المشركين لا بالنسبة إلى الداعين فإنهم فائزون بفضل الدعوة .(3/85)
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
{ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } تقريرٌ لما قبله من عدم اتباعِهم لهم أي إن الذين تعبدونهم من دونه تعالى من الأصنام وتسمّونهم آلهةً { عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } أي مماثلةٌ لكم لكن لا من كل وجهٍ بل من حيث أنها مملوكةٌ لله عز وجل مسخَّرةٌ لأمره عاجزة عن النفع والضررِ وتشبيهُها بهم في ذلك مع كون عجزِها عنهما أظهرَ وأقوى من عجزهم إنما هو لاعترافهم بعجز أنفسِهم وادّعائِهم لقدرتها عليهما إذ هو الذي يدعوهم إلى عبادتها والاستعانةِ بها وقوله تعالى : { فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } تحقيقٌ لمضمون ما قبله بتعجيزهم وتبكيتِهم أي فادعوْهم في جلب نفعٍ أو كشف ضُرَ { إِن كُنتُمْ صادقين } في زعمكم أنهم قادرون على ما أنتم عاجزون عنه ، وقوله تعالى : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا } الخ تبكيتٌ إثرَ تبكيتٍ مؤكدٌ لما يفيده الأمرُ التعجيزيُّ من عدم الاستجابةِ ببيان فُقدانِ آلاتِها بالكلية فإن الاستجابةَ من الهياكل الجُسمانية إنما تُتصوّر إذا كان لها حياةٌ وقُوىً محرّكة ومُدركة وما ليس له شيءٌ من ذلك فهو بمعزل من الأفاعيل بالمرة كأنه قيل : ألهم هذه الآلاتُ التي بها تتحقق الاستجابةُ حتى يمكن استجابتُهم لكم؟ وقد وجه الإنكار إلى كل واحدةٍ من هذه الآلات الأربعِ على حدة تكريراً للتبكيت وتثنيةً للتقريع وإشعاراً بأن انتفاءَ كلِّ واحدةٍ منها بحيالها كافٍ في الدلالة على استحالةِ الاستجابة ، ووصفُ الأرجلِ بالمشي بها للإيذان بأن مدارَ الإنكارِ هو الوصفُ وإنما وُجّه إلى الأرجلِ لا إلى الوصف بأن يقال : أيمشون بأرجلهم؟ لتحقيق أنها حيث لم يظهر منها ما يظهر من سائر الأرجلِ فهي ليست بأرجل في الحقيقة وكذا الكلامُ فيما بعده من الجوارحِ الثلاثِ الباقية ، وكلمةُ أم في قوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا } منقطعةٌ ، وما فيها من الهمزة لما مر من التبكيت والإلزامِ وبل للإضراب المفيدِ للانتقال من فنّ من التبكيت بعد تمامِه إلى فن آخرَ منه لما ذُكر من المزايا ، والبطشُ الآخذُ بقوة ، وقرىء يبطُشون بضم الطاء وهي لغة فيه والمعنى : بل ألهم أيدٍ يأخُذون بها ما يريدون أخذَه؟ وتأخيرُ هذا عما قبله لما أن المشيَ حالُهم في أنفسهم والبطشَ حالُهم بالنسبة إلى الغير ، وأما تقديمُه على قوله تعالى : { أَمْ لَهم أَعْينٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } مع أن الكل سواءٌ في أنها من أحوالهم بالنسبة إلى الغير فلمراعاة المقابلةِ بين الأيدي والأرجل ، ولأن انتفاءَ المشي والبطشِ أظهرُ والتبكيتَ بذلك أقوى ، وأما تقديمُ الأعينِ فلما أنها أشهرُ من الآذان وأظهرُ عيناً وأثراً .
هذا وقد قرىء إنِ الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالَكم على إعمال إنْ النافية عملَ ما الحجازية أي ما الذين تدعون من دونه تعالى عباداً أمثالَكم بل أدنى منكم فيكونُ قوله تعالى : { أَلَهُمْ } الخ ، تقريراً لنفي المماثلةِ بإثبات القصورِ والنُقصان { قُلِ ادعوا شُرَكَاءكُمْ } بعد ما بُيّن أن شركاءَهم لا يقدرون على شيء ما أصلاً أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأن يناصِبَهم للمُحاجّة ويكررَ عليهم التبكيتَ وإلقامُ الحجرِ ، أي ادعوا شركاءَكم واستعينوا بهم عليّ { ثُمَّ كِيدُونِ } جميعاً أنتم وشركاؤكم وبالِغوا في ترتيب ما يقدِرون عليه من مبادىء الكيدِ والمكر { فَلاَ تُنظِرُونِ } أي فلا تُمهلوني ساعةً بعد ترتيبِ مقدمات الكيدِ فإني لا أبالي بكم أصلاً .(3/86)
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
{ إِنَّ وَلِيّىَ الله الذى نَزَّلَ الكتاب } تعليلٌ لعدم المبالاةِ المنفهمِ من السَّوْق انفهاماً جلياً ، ووصفُه تعالى بتنزيل الكتابِ للإشعار بدليل الولايةِ والإشارةِ إلى علة أخرى لعدم المبالاةِ كأنه قيل : لا أبالي بكم وبشركائكم لأن وليّيَ هو الله الذي أنزل الكتابَ الناطقَ بأنه وليِّي وناصري وبأن شركاءَكم لا يستطيعون نصرَ أنفسِهم فضلاً عن نصركم ، وقوله تعالى : { وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين } تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله أي ومن عادته أن يتولى الصالحين من عباده وينصُرَهم ولا يخذُلَهم { والذين تَدْعُونَ } أي تعبدونهم { مِن دُونِهِ } تعالى أو تدعونهم للاستعانة بهم عليّ حسبما أمرتُكم به { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ } أي في أمر من الأمور أو في خصوص الأمرِ المذكور { وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } إذا نابتْهم نائبةٌ { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى } إلى أن يهدوكم إلى ما تحصّلون به مقاصدَكم على الإطلاق أو في خصوص الكيدِ المعهود { لاَ يَسْمَعُواْ } أي دعاءَكم فضلاً عن المساعدة والإمدادِ ، وهذا أبلغُ من نفي الاتباعِ ، وقوله تعالى : { وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } بيانٌ لعجزهم عن الإبصار بعد بيانِ عجزِهم عن السمع وبه يتم التعليلُ فلا تكرارَ أصلاً ، والرؤيةُ بصريةٌ ، وقوله تعالى : { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } حالٌ من المفعول ، والجملةُ الاسميةُ حالٌ من فاعل ينظرون ، أي وترى الأصنامَ رأيَ العين يُشبهون الناظرين إليك ويخيّل إليك بأنهم يُبْصِرونك لما أنهم صنعوا لها أعيناً مركبةً بالجواهر المضيئة المتلألئة وصوّروها بصورة مَنْ قلبَ حدَقتَه إلى الشيء ينظُر إليه ، والحالُ أنهم غيرُ قادرين على الإبصار ، وتوحيدُ الضمير في تراهم مع رجوعه إلى المشركين لتوجيه الخِطابِ إلى كل واحد منهم لا إلى الكل من حيث هو كلٌّ كالخطابات السابقةِ تنبيها على أن رؤية الأصنامِ على الهيئة المذكورةِ لا تتسنّى للكل معاً بل لكل من يواجهها ، وقيل : ضميرُ الفاعل في تراهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وضميرُ المفعولِ على حاله ، وقيل : للمشركين على أن التعليلَ قد تم عند قوله تعالى : { لاَ يَسْمَعُواْ } أي وترى المشركين ينظُرون إليك والحال أنهم لا يبصِرونك كما أنت عليه . وعن الحسن أن الخِطابَ في قوله تعالى : { وَأَنْ تَدْعُواْ } للمؤمنين على أن التعليلَ قد تم عند قوله تعالى : { يُنصَرُونَ } أي وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الإسلام لا يلتفتوا إليكم ، ثم خوطب عليه السلام بطريق التجريدِ بأنك تراهم ينظُرون إليك والحالُ أنهم لا يُبصرونك حقَّ الإبصار تنبيهاً على أن ما فيه عليه السلام من شواهد النبوةِ ودلائلِ الرسالةِ من الجلاء بحيث لا يكاد يخفى على الناظرين .(3/87)
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
{ خُذِ العفو } بعد ما عُدّ من أباطيلِ المشركين وقبائحِهم ما لا يطاق تحمُّله أُمر عليه الصلاة والسلام بمجامع مكارمِ الأخلاق التي من جملتها الإغضاءُ عنهم ، أي خذْ ما عفا لك من أفعال الناسِ وتسهل ولا تكلِّفْهم ما يشُقُّ عليهم ، من العفو الذي هو ضدُّ الجَهدِ ، أو خذ العفوَ من المذنبين أو الفضلَ من صدقاتهم وذلك قبل وجوبِ الزكاة { وَأْمُرْ بالعرف } بالجميل المستحسَن من الأفعال فإنها قريبةٌ من قَبول الناس من غير نكير { وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين } من غير مماراةٍ ولا مكافأة ، قيل : ( لما نزلت سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريلَ عليه السلام فقال : لا أدري حتى أسأل ثم رجع فقال : يا محمدُ إن ربك أمرك أن تصِل مَنْ قطعك وتعطيَ من حَرَمك وتعفُوَ عمّن ظلمك ) وعن جعفرٍ الصادقِ : أمر الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق ، وروي أنه لما نزلت الآيةُ الكريمةُ قال عليه الصلاة والسلام : « كيف يا ربّ والغضبُ متحقق؟ » فنزل قوله تعالى : { وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ } النزغُ والنسْغُ والنخْسُ : الغرزُ شُبّهت وسوستُه للناس وإغراؤه لهم على المعاصي بغَرْز السائق لما يسوقه ، وإسنادُه إلى النزغ من قَبيل جَدّ جِدُّه أي وإما يحمِلنّك من جهته وسوسةٌ ما على خلاف ما أُمرتَ به من اعتراء غضبٍ أو نحوه { فاستعذ بالله } فالتجِىءْ إليه تعالى من شره { إِنَّهُ سَمِيعٌ } يسمع استعاذتَك به قولاً { عَلِيمٌ } يعلم تضرُّعَك إليه قلباً في ضمن القولِ أو بدونه فيعصمُك من شره . وقد جُوّز أن يرادَ بنزغ الشيطانِ اعتراءُ الغضبِ على نهج الاستعارة كما في قول الصديقِ رضي الله عنه : إن لي شيطاناً يعتريني . ففيه زيادةُ تنفيرٍ عنه وفرطُ تحذيرٍ عن العمل بموجبه ، وفي الأمر بالاستعاذة بالله تعالى تهويلٌ لأمره وتنبيهٌ على أنه من الغوائل الصعبةِ التي لا يُتخَلّص من مَضَرَّتها إلا بالالتجاء إلى حُرَم عصمتِه عز وجل ، وقيل : يعلم ما فيه صلاحُ أمرِك فيحملك عليه ، أو سميعٌ بأقوال مَنْ آذاك عليمٌ بأفعاله فيجازيه عليها .
{ إِنَّ الذين اتقوا } استئنافٌ مقررٌ لما قبله ببيان أن ما أمر به عليه الصلاة والسلام من الاستعاذة بالله تعالى سنةٌ مسلوكةٌ للمتقين والإخلالُ بها ديدنُ الغاوين ، أي إن الذين اتصفوا بوقاية أنفسِهم عما يضُرّها { إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشيطان } أدنى لمّةٍ منه ، على أن تنوينَه للتحقير وهو اسمُ فاعلِ يطوف ، كأنها تطوف بهم وتدور حولهم لتوقِعَ بهم ، أو من طاف به الخيالُ يطيفُ طيفاً أي ألمَّ وقرىء طيفٌ على أنه مصدر ، أو تخفيفٌ من طيِّف من الواوي أو اليائي كهيّن وليّن ، والمرادُ الشيطان الجنسُ ولذلك جُمع ضميرُه فيما سيأتي { تَذَكَّرُواْ } أي الاستعاذةَ به تعالى والتوكلَ عليه { فَإِذَا هُم } بسبب ذلك التذكّرِ { مُّبْصِرُونَ } مواقِعَ الخطأ ومكايدَ الشيطانِ فيحترزون عنها ولا يتبعونه .(3/88)
وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
{ وإخوانهم } أي إخوانُ الشياطين وهم المنهمِكون في الغي المعرضون عن وقاية أنفسِهم عن المضار { يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى } أي يكون الشياطين مدداً لهم فيه ويعضدونهم بالتزيين والحملِ عليه ، وقرىء يُمِدّونهم من الإمداد ويُمادّونهم كأنهم يُعينونهم بالتسهيل والإغراء ، وهؤلاء بالاتباع والامتثال { ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } أي لا يمسكون عن الإغواء حتى يردوهم بالكلية ويجوز أن يكون الضمير للإخوان أي لا يرعون عن الغي ولا يقصرون كالمتقين ، ويجوز أن يراد بالإخوان الشياطين ويرجعُ الضميرُ إلى الجاهلين فيكون الخبرُ جارياً على من هو له .
{ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِئَايَةٍ } من القرآن عند تراخي الوحي أو بآية مما اقترحوه { قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها } اجتبى الشيءَ بمعنى جباه لنفسه ، أي هلاّ جمعتَها من تلقاء نفسِك تقوّلا ، يرون بذلك أن سائرَ الآياتِ أيضاً كذلك أو هلا تلقيتها من ربك استدعاءً { قُلْ } رداً عليهم { إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَىَّ مِن رَّبّى } من غير أن يكون لي دخلٌ ما في ذلك أصلاً على معنى تخصيص حالهِ عليه الصلاة والسلام باتباع ما يوحى إليه بتوجيه للقصر المستفادِ من كلمة إنما إلى نفس الفعلِ بالنسبة إلى مقابله الذي كلفوه إياه عليه الصلاة والسلام لا على معنى تخصيصِ اتباعِه عليه الصلاة والسلام بما يوحى إليه بتوجيه القصرِ إلى المفعول بالقياس إلى مفعول آخرَ كما هو الشائع في موارد الاستعمال وقد مر تحقيقه في قوله تعالى { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ } كأنه قيل : ما أفعل إلا اتباعَ ما يوحى إلي منه تعالى وفي التعرض لوصف الربوبيةِ المنبئةِ عن المالكية والتبليغِ إلى الكمال اللائقِ مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من تشريفه عليه الصلاة والسلام والتنبيهِ على تأييده ما لا يخفى { هذا } إشارةٌ إلى القرآن الكريم المدلولِ عليه بما يوحى إلي { بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ } بمنزلة البصائرِ للقلوب بها تُبصِر الحقَّ وتدرك الصواب ، وقيل : حججٌ بينةٌ وبراهينُ نيِّرةٌ . و ( من ) متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لبصائرَ مفيدةٌ لفخامتها أي بصائرُ كائنةٌ منه تعالى ، والتعّرضُ لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد وجوبِ الإيمانِ بها وقوله تعالى : { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } عطفٌ على بصائرُ ، وتقديمُ الظرفِ عليهما وتعقيبُهما بقوله تعالى : { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } للإيذان بأن كونَ القرآنِ بمنزلة البصائرِ للقلوب متحققٌ بالنسبة إلى الكل وبه تقوم الحجة على الجميع ، وأما كونُه هدى ورحمةً فمختصٌّ بالمؤمنين به إذ هم المقتبِسون من أنواره والمغتنِمون بآثاره ، والجملةُ من تمام القولِ المأمورِ به .(3/89)
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
{ وَإِذَا قُرِىء القرءان فاستمعوا لَهُ } إرشادٌ إلى طريق الفوز بما أشير إليه من المنافع الجليلةِ التي ينطوي عليها القرآن ، أي وإذا قرىء القرآنُ الذي ذُكرت شؤونُه العظيمةُ فاستمعوا له استماعَ تحقيقٍ وقَبول { وَأَنصِتُواْ } أي واسكُتوا في خلال القراءةِ وراعوها إلى انقضائها تعظيماً له وتكميلاً للاستماع { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي تفوزون بالرحمة التي هي أقصى ثمراتِه . وظاهرُ النظم الكريمِ يقتضي وجوبَ الاستماعِ والإنصاتِ عند قراءةِ القرآن في الصلاة وغيرِها وقيل : معناه إذا تلا عليكم الرسولُ القرآنَ عند نزولِه فاستمعوا له وجمهورُ الصحابة رضي الله تعالى عنهم على أنه في استماع المؤتمِّ ، وقد روي أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة فأُمروا باستماع قراءةِ الإمامِ والإنصاتِ له . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المكتوبة وقرأ أصحابُه خلفه فنزلت وأما خارج الصلاة فعامةُ العلماءِ على استحبابهما والآيةُ إما من تمام القولِ المأمورِ به أو استئنافٌ من جهته تعالى .
{ واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ } على الأول عطفٌ على قل وعلى الثاني فيه تجريد للخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عام في الأذكار كافةً فإن الإخفاءَ أدخلُ في الإخلاص وأقربُ من الإجابة { تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } أي متضرعاً وخائفاً { وَدُونَ الجهر مِنَ القول } أي ومتكلماً كلاماً دون الجهر فإنه أقرب إلى حسن التفكر { بالغدو والاصال } متعلقٌ باذكر أي اذكره في وقت الغُدوات والعشيات وقرىء والإيصال وهو مصدر آصَلَ أي دخل في الآصيل موافقٌ للغدو { وَلاَ تَكُنْ مّنَ الغافلين } عن ذكر الله تعالى { إِنَّ الذين عِندَ رَبّكَ } وهم الملائكةُ عليهم السلام ومعنى كونِهم عنده سبحانه وتعالى قربُهم من رحمته وفضلِه لتوفرهم على طاعته تعالى { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } بل يؤدونها حسبما أمروا به { وَيُسَبّحُونَهُ } أي ينزّهونه عن كل ما لا يليق بجناب كبريائه { وَلَهُ يَسْجُدُونَ } أي يخُصّونه بغاية العبوديةِ والتذللِ لا يشركون به شيئاً وهو تعريضٌ بسائر المكلفين ولذلك شُرع السجود عند قراءته . عن النبي صلى الله عليه وسلم : « إذا قرأ ابنُ آدمَ آيةَ السجدة فسجد اعتزل الشيطانُ يبكي فيقول : يا ويله أُمر هذا بالسجود فسجد فله الجنةُ ، وأُمرت بالسجود فعصَيت فلي النار » وعنه عليه الصلاة والسلام : « من قرأ سورةَ الأعرافِ جعل الله تعالى يوم القيامة بينه وبين إبليسَ ستراً وكان آدمُ عليه السلام شفيعاً له يوم القيامة »(3/90)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
( سورة الأنفال مدنية . وهى خمس وسبعون آية )
{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم } { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفال } النفل الغنيمةُ سُمّيت به لأنها عطيةٌ من الله تعالى زائدة على ما هو أصلُ الأجرِ في الجهاد من الثواب الأخروي ، ويطلق على ما يعطى بطريق التنفيل زيادةً على السهم من المغنم وقرىء عَلنفال بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدغام نون عن في اللام . روي أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر وفي قسمتها فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تُقسم ولمن الحُكم فيها أللمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعاً؟ وقيل : إن الشبانَ قد أبلَوا يومئذ بلاء حسناً فقتلوا سبعين وأسروا سبعين فقالوا : نحن المقاتلون ولنا الغنائم ، وقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات : كنا رِدءاً لكم وفئةً تنحازون إليها حتى قال سعد بن معاذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم : والله ما منعنا أن نطلبَ ما طلب هؤلاء زهادةٌ في الأجر ولا جبنٌ من العدو ولكن كرِهنا أن نعرِّيَ مصافّك فيعطِفَ عليك خيلٌ من المشركين فنزلت .
وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم قد شرط لمن كان له بلاءٌ أن يُنَفِّله ، ولذلك فعل الشبانُ ما فعلوا من القتل والأسر فسألوه عليه الصلاة والسلام ما شرطه لهم فقال الشيوخُ : المغنمُ قليلٌ والناسُ كثيرٌ وإن تُعطِ هؤلاءِ ما شرطتَ لهم حرمتَ أصحابَك فنزلت . والأولُ هو الظاهُر لما أن السؤالَ استعلامٌ لحكم الأنفالِ بقضية كلمةِ ( عن ) لا استعطاءٌ لنفسها كما نطقَ به الوجهُ الأخير وادعاءُ زيادةٍ عن تعسف ظاهر ، والاستدلالُ عليه بقراءة ابن مسعودٍ ، وسعد بن أبي وقاص ، وعليِّ بنِ الحسين وزيدٍ ، ومحمد الباقر ، وجعفرِ الصادق ، وعكرمةَ ، وعطاءٍ ، يسألونك الأنفالَ ، غيرُ منتهضٍ فإن مبناها كما قالوا على الحذف والإيصالِ كما يعرب عنه الجوابُ بقوله عز وجل : { قُلِ الانفال لِلَّهِ والرسول } أي حكمُها مختصٌّ به تعالى يقسمها الرسولُ عليه الصلاة والسلام كيفما أُمر به من غير أن يدخُل فيه رأيُ أحدٍ ولو كان السؤالُ استعطاءً لما كان هذا جواباً له فإن اختصاصَ حكمِ ما شُرط لهم من الأنفال بالله والرسول لا ينافي إعطاءَها إياهم بل يحقّقه لأنهم إنما يسألونها بموجب شرطِ الرسولِ عليه الصلاة والسلام الصادرِ عنه بإذن الله تعالى لا بحكم سبَق أيديَهم إليها ونحوِ ذلك مما يُخِلّ بالاختصاص المذكورِ ، وحملُ الجوابِ على معنى أن الأنفالَ بالمعنى المذكور مختصةٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم لا حق فيها للمُنفَّل كائناً من كان مما لا سبيل إليه قطعاً ضرورةَ ثبوتِ الاستحقاقِ بالتنفيل ، وادعاءُ أن ثبوتَه بدليل متأخرٍ التزامٌ لتكرر النسخِ من غير علمٍ بالناسخ الأخير ، ولا مساغَ للمصير إلى ما ذهب إليه مجاهدٌ وعكرمةُ والسديّ من أن الأنفالَ كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصةً ليس لأحد فيها شيءٌ بهذه الآية فنسخت بقوله تعالى :(3/91)
{ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } لما أن المرادَ بالأنفال فيما قالوا هو المعنى الأولُ حتماً كما نطَق قوله تعالى : { واعلموا أَنَّمَا * تَذَرُ مِن شَىْء } الآية ، على أن الحقَّ أنه لا نسخَ حينئذ أيضاً حسبما قاله عبدُ الرحمن بنُ زيدِ بنِ أسلم بل بيّن في صدر السورة الكريمة إجمالاً أن أمرَها مفوضٌ إلى الله تعالى ورسولهِ ثم بيّن مصاريفَها وكيفيةَ قسمتِها على التفصيل ، وادعاءُ اقتصارِ هذا الحُكمِ أعني الاختصاصَ برسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنفال المشروطةِ يوم بدر بجعل اللامِ للعهد مع بقاء استحقاقِ المُنفَّل في سائر الأنفالِ المشروطةِ يأباه مقامُ بيانِ الأحكامِ كما ينبي عنه إظهارُ الأنفالِ في موقع الإضمارِ على أن الجوابَ عن سؤال الموعودِ ببيان كونهِ له عليه الصلاة والسلام خاصةً مما لا يليق بشأنه الكريمِ أصلاً ، وقد روي عن سعد بنِ أبي وقاصٍ بن أبي وقاصٍ أنه قال : قُتل أخي عميرٌ يوم بدرٍ فقتلتُ به ( سعيدَ بنَ العاص ) وأخذتُ سيفَه فأعجبني فجئتُ به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إن الله تعالى قد شفى صدري من المشركين فهَبْ لي هذا السيفَ ، فقال عليه الصلاة والسلام : " ليس هذا لي ولا لك اطرَحْه في القبض " فطرحتُه وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذِ سلبي فما جاوزتُ إلا قليلاً حتى نزلت سورةُ الأنفال فقال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " يا سعُد إنك سألتَنى السيفَ وليس لي وقد صار لي فاذهبْ فخُذْه " وهذا كما ترى يقتضي عدمَ وقوعِ التنفيلِ يومئذ ، وإلا لكان سؤالُ السيفِ من سعد بموجب شرطِه ووعدِه عليه السلام لا بطريق الهِبَة المبتدَأةِ ، وحُمل ذلك من سعدٍ على مراعاة الأدبِ مع كون سؤالِه بموجب الشرط يرده عليه الصلاة والسلام قبل النزولِ ، وتعليلُه بقوله : «ليس هذا لي» لاستحالة أن يعِدَ عليه الصلاة والسلام بما لا يقدِرُ على إنجازه ، وإعطاؤُه صلى الله عليه وسلم بعد النزولِ وترتيبُه على قوله : «وقد صار لي» ضرورةَ أن مناطَ صيرورتِه له عليه الصلاة السلام قولُه تعالى : { الانفال لِلَّهِ والرسول } والفرضُ أنه المانعُ من إعطاء المسؤولِ ومما هو نصٌّ في الباب قوله عز وجل : { فاتقوا الله } أي إذا كان أمرُ الغنائم لله تعالى ورسوله فاتقوه تعالى واجتنبوا ما كنتم من المشاجرة فيها والاختلاف الموجِبِ لسَخَط الله تعالى أو فاتقوه في كل ما تأتون وما تذرون فيدخُل فيه دخولاً أولياً ولو كان السؤالُ طلباً للمشروط لمّا كان فيه محذورٌ يجب اتقاؤُه ، وإظهارُ الاسم الجليلِ لتربية المهابة وتعليلِ الحُكم { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } جُعل ما بينهم من الحال لملابستها التامةِ لبَيْنهم صاحبةً له كما جُعلت الأمورُ المضمرةُ في الصدور ذاتَ الصدور أي أصلِحوا ما بينكم من الأحوال بالمواساة والمساعدةِ فيما رزقكم الله تعالى وتفضل به عليكم .(3/92)
وعن عبادة بن الصامت نزلت فينا معشرَ أصحابِ بدرٍ حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقُنا فنزعه الله تعالى من أيدينا فجعله لرسوله فقسمه بين المسلمين على السواء وكان في ذلك تقوى الله وطاعةُ رسوله وإصلاحُ ذات البين وعن عطاء كان الإصلاحُ بينهم أن دعاهم وقال اقسموا : غنائمَكم بالعدل فقالوا : قد أكلْنا وأنفقْنا فقال : ليرُدَّ بعضُكم على بعض { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } بتسليم أمرِه ونهيه ، وتوسيطُ الأمر بإصلاح ذاتِ البين بين الأمرِ بالتقوى والأمرِ بالطاعة لإظهار كمالِ العناية بالإصلاح بحسب المقام وليندرجَ الأمرُ به بعينه تحت الأمرِ بالطاعة { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } متعلقٌ بالأوامرَ الثلاثةِ والجوابُ محذوفٌ ثقةً بدلالة المذكورِ عليه أو هو الجوابُ على الخلاف المشهور ، وأياً ما كان فالمقصودُ تحقيقُ المعلقِ بناءً على تحقيق المعلقِ به ، وفيه تنشيطٌ للمخاطَبين وحثٌّ لهم على المسارعة إلى الامتثال ، والمرادُ بالإيمان كمالُه أي إن كنتم كاملي الإيمانِ فإن كمالَ الإيمان يدور على هذه الخِصالِ الثلاثِ : طاعةُ الأوامرِ واتقاءُ المعاصي وإصلاحُ ذاتِ البينِ بالعدل والإحسان .(3/93)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
{ إِنَّمَا المؤمنون } جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيان مَنْ أريد بالمؤمنين بذكر أوصافِهم الجليلةِ المستتبِعةِ لما ذكر من الخصال الثلاثِ ، وفيه مزيدُ ترغيبٍ لهم في الامتثال بالأوامر المذكورةِ أي إنما الكاملون في الإيمان المخلِصون فيه { الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } أي فِزعت لمجرد ذكرِه من غير أن يُذكرَ هناك ما يوجب الفزَعَ من صفاته وأفعالِه واستعظاماً لشأنه الجليلِ وتهيباً منه وقيل : هو الرجلُ يُهمّ بمعصية فيقال له : اتقِ الله فينزِعُ عنها خوفاً من عقابه ، وقرىء وجَلت بفتح الجيم وهي لغة وقرىء فرِقَتْ أي خافت { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } أيَّ آيةٍ كانت { زَادَتْهُمْ إيمانا } أي يقيناً وطُمأنينةَ نفسٍ فإن تظاهُرَ الأدلةِ وتعاضُدَ الحُججِ والبراهينِ موجبٌ لزيادة الاطمئنانِ وقوة اليقين ، وقيل : إن نفسَ الإيمانِ لا يقبل الزيادةَ والنقصانَ وإنما زيادتُه باعتبار زيادةِ المؤمَنِ به فإنه كلما نزلت صدّق بها المؤمنُ فزاد إيمانُه عداً ، وأما نفسُ الإيمان فهو بحاله وقيل : باعتبار أن الأعمالَ تُجعل من الإيمان فيزيد بزيادتها ، والأصوبُ أن نفسَ التصديقِ يقبل القوةَ وهي التي عبر عنها بالزيادة للفرق النيّر بين يقينِ الأنبياءِ وأربابِ المكاشفات ويقينِ آحادِ الأمةِ ، وعليه مبنى ما قال علي رضي الله عنه : لو كُشف الغِطاءُ ما ازددتُ يقيناً ، وكذا بين ما قام عليه دليلٌ واحد وما قامت عليه أدلةٌ كثيرة { وعلى رَبّهِمْ } مالكِهم ومدبرِ أمورِهم خاصة { يَتَوَكَّلُونَ } يفوّضون أمورَهم لا إلى أحد سواه والجملةُ معطوفةٌ على الصلة ، وقوله تعالى : { الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } مرفوعٌ على أنه نعتٌ للموصول الأول أو بدلٌ منه أو بيانٌ له أو منصوبٌ على القطع المنبىءِ عن المدح ذَكَر أولاً من أعمالهم الحسنةِ أعمالَ القلوب من الخشية والإخلاصِ والتوكل ثم عقّب بأعمال الجوارحِ من الصلاة والصدقة .
{ أولئك } إشارةٌ إلى من ذُكرت صفاتُهم الحميدةُ من حيث أنهم متصفون بها ، وفيه دلالةٌ على أنهم متمِّيزون بذلك عمن عداهم أكملَ تميزٍ منتظمون بسببه في سلك الأمور المشاهدةِ ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلو رتبتِهم وبُعدِ منزلتِهم في الشرف { هُمُ المؤمنون حَقّاً } لأنهم حققوا إيمانَهم بأن ضمّو إليه ما فصل من أفاضل الأعمالِ القلييةِ والقالَبية ، وحقاً صفةٌ لمصدر محذوفٍ ، أي أولئك هم المؤمنون إيماناً حقاً ، أو مصدرٌ مؤكدٌ للجملة أي حقَّ ذلك حقاً كقولك : هو عبدُ الله حقاً { لَّهُمْ درجات } من الكرامة والزلفى وقيل : درجاتٌ عاليةٌ في الجنة ، وهو إما جملةٌ مبتدأةٌ مبنيةٌ على سؤال نشأ من تعداد مناقبهم كأنه قيل : ما لهم بمقابلة هذه الخِصالِ؟ فقيل : لهم كيت وكيت أو خبرٌ ثانٍ لأولئك ، وقوله تعالى : { عِندَ رَبّهِمْ } إما متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لدرجاتٌ مؤكدةٌ لما أفاده التنوينُ من الفخامة الذاتيةِ بالفخامة الإضافيةِ أي كائنةٌ عنده تعالى أو بما تعلق به الخبرُ أعني لهم من الاستقرار ، وفي إضافة الظرفِ إلى الرب المضافِ إلى ضميرهم مزيدُ تشريفٍ ولطفٍ لهم وإيذانٌ بأن ما وعد لهم متيقَّنُ الثبوتِ والحصولِ مأمونُ الفواتِ { وَمَغْفِرَةٌ } لما فرَط منهم { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } لا ينقضي أمدُه ولا ينتهي عددُه وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة .(3/94)
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)
{ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق } الكافُ في محل الرفعِ على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه : هذه الحالُ كحال إخراجِك يعني أن حالَهم في كراهتهم لِما رأيتَ مع كونه حقاً كحالهم في كراهتهم لخروجك للحرب وهو حقٌّ أو في محل النصبِ على أنه صفةٌ لمصدر مقدرٍ في قوله تعالى : { الانفال لِلَّهِ } أي الأنفالُ ثبتتْ لله والرسولِ مع كراهتهم ثباتاً مثلَ ثباتِ إخراجِ ربِّك إياك من بيتك في المدينة أو من المدينة إخراجاً ملتبساً بالحق { وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ } أي والحالُ أن فريقاً منهم كارهون للخروج إما لنفرة الطبعِ عن القتالِ أو لعدم الاستعدادِ ( وذلك أن عِيرَ قريشٍ أقبلت من الشام وفيها تجارةٌ عظيمةٌ ومعها أربعون راكباً منهم أبو سفيانَ ، وعمرو بنُ العاص ، وعمْرُو بنُ هشام ، فأخبر جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبر المسلمين فأعجَبَهم تلقِّي العِيرِ لكثرة الخيرِ وقلةِ القوم ، فلما خرجوا بلغ أهلَ مكةَ خبرُ خروجِهم فنادى أبو جهلٍ فوق الكعبةِ يا أهل مكةَ النجاءَ النجاءَ على كل صَعْب وذَلَول عِيرُكم أموالُكم إن أصابها محمدٌ لم تُفلِحوا بعدها أبداً ، وقد رأت أختُ العباسِ بنِ عبد المطلبِ رضي الله عنه رؤيا فقالت لأخيها : إني رأيتُ عجباً رأيت كأن ملَكاً نزل من السماء فأخذ صخْرةً من الجبل ثم حلّق بها فلم يبق بيتٌ من بيوت مكةَ إلا أصابه حجرٌ من تلك الصخرة فحدّث بها العباسُ رضي الله عنه فقال أبو جهل : ما يرضى رجالُهم أن يتنبّأوا حتى تتنبأَ نساؤُهم فخرج أبو جهلٍ بجميع أهلِ مكةَ وهم النفيرُ فقيل له : إن العِيرَ أخذت طريقَ الساحلِ ونجحت فارجِعْ بالناس إلى مكَة فقال : لا واللاتِ لا يكون أبداً ننحَرَ الجَزورَ ونشربَ الخمور ونُقيمَ القينات والمعازِفَ ببدر فيتسامع جميعُ العرب بمَخْرَجنا وأن محمداً لم يُصِب العِيرَ وأنا قد أعناه فمضى بهم إلى بدر ، ماءٍ كانت العربُ تجتمع فيه لسوقهم يوماً في السنة فنزل جبريلُ عليه السلام فقال : يا محمدُ إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العِيرَ وإما قريشاً فاستشار النبي عليه الصلاة والسلام أصحابَه فقال : « ما تقولون؟ إن القومَ قد خرجوا من مكةَ على كل صَعْبٍ وذَلولٍ فالعِيرُ أحبُّ إليكم أم النفيرُ؟ » فقالوا : بل العيرُ أحبُّ إلينا من لقاء العدوِّ فتغير وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ردّد عليهم ، فقال : « إن العير قد مضت على ساحل البحرِ ، وهذا أبو جهل قد أقبل » فقالوا : يا رسول الله عليك بالعِير ودعِ العدوَّ فقام عندما غضِبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمرُ رضي الله عنهما فأحسنا قام سعدُ بن عُبادةَ فقال : انظُر أمرَك فامضِ فوالله لو سِرتَ إلى عدنِ أَبْيَنَ ما تخلف عنك رجلٌ من الأنصار ثم قال المقدادُ بنُ عمرو رضي الله عنه : يا رسولَ الله امضِ لما أمرك الله فإنا معك حيثما أحببْتَ ، لا نقول لك كما قال بنو إسرائيلَ لموسى عليه السلام : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ما دامت عينٌ منا تطرِفُ ، فضحِك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثم قال :(3/95)
" أشيروا علي أيها الناس " وهو يريد الأنصار لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة : إنا بُرَآءُ من ذِمامِك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلتَ إلينا فأنت في ذمامنا نمنعُك مما نمنع منه أبناءَنا ونساءَنا فكان النبي عليه الصلاة والسلام يتخوّف أن تكون الأنصارُ لا ترى عليهم نُصرتَه إلا على عدو دَهِمَهُ بالمدينة فقام سعدُ بن معاذ فقال : لكأنك تريدنا يا رسولَ الله قال : «أجل» ، قال : قد آمنا بك وصدقناك وشهِدنا أن ما جئت به هو الحقُّ وأعطيناك على ذلك عهودَنا ومواثيقَنا على السمع والطاعةِ فامضِ يا رسولَ الله لما أردتَ فوالذي بعثك بالحق لو استعرضتَ بنا هذا البحرَ فخُضتَه لخُضناه معك ما تخلّف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا وإنا لصُبرٌ عند الحرب صُدقٌ عند اللقاء ولعل الله يُريك منا ما تَقَرُّ به عينُك فسِرْ بنا على بركة الله ففرح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وبسَطه قولُ سعد ثم قال : " سيروا على بركة الله وأبشِروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظرُ إلى مصارع القوم " ورُوي : ( أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرَغ من بدر : عليك بالعِير ليس دونها شيءٌ فناداه العباس رضي الله عنه وهو في وِثاقه لا يصلح ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام : «لم؟» قال : لأن الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك ) .(3/96)
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)
{ يجادلونك فِي الحق } الذي هو تلقّي النفيرِ لإيثارهم عليه تلقيَ العير ، والجملةُ استئنافٌ أو حالٌ ثانية أي أخرجك في حال مجادلِتهم إياك ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في لَكارهون وقوله تعالى : { بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ } منصوبٌ بيجادلونك ، وما مصدرية أي بعد تبين الحقِّ لهم بإعلامك أنهم يُنصَرون أينما تواجهوا ويقولون : ما كان خروجُنا إلا للعِير ، وهلا قلتَ لنا لنستعدَّ ونتأهَّبَ وكان ذلك لكراهتهم القتالَ { كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت } الكافُ في محل النصبِ على الحالية من الضمير في لَكارهون أي مُشبّهين بالذين يُساقون بالعنف والصَّغار إلى القتل { وَهُمْ يَنظُرُونَ } حال من ضمير يساقون أي والحالُ أنهم ينظرُون إلى أسباب الموتِ ويشاهدونها عِيانا ، وما كانت هذه المرتبةُ من الخوف والجزعِ إلا لقلة عددِهم وعدمِ تأهُّبِهم وكونهم رِجالة . روي أنه لم يكن فيهم إلا فارسان .
{ وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين } كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لبيان جميلِ صنعِ الله عز وجل بالمؤمنين مع ما بهم من قلة الحزم ودناءةِ الهِمّةِ وقُصورِ الرأي والخوفِ والجزعِ ، وإذْ منصوبٌ على المفعولية بمضمر خوطب به المؤمنون بطريق التلوينِ والالتفات ، وإحدى الطائفتين مفعولٌ ثانٍ ليعدُكم أي اذكروا وقتَ وعدِ الله إياكم إحدى الطائفتين ، وتذكيرُ الوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما فيه من الحوادث لما مر مراراً من المبالغة في إيجاب ذكرِها لِما أن إيجابَ ذكر الوقتِ إيجابٌ لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهاني ولأن الوقتَ مشتملٌ على ما وقع فيه من الحوادث بتفاصيلها ، فإذا استُحضر كان ما وقع فيه حاضراً مفصّلاً كأنه مشاهَدٌ عياناً ، وقرىء يَعدْكم بسكون الدال تخفيفاً ، وصيغةُ المضارعِ لحكاية الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتِها وقوله تعالى : { أَنَّهَا لَكُمْ } بدلُ اشتمالٍ من إحدى الطائفتين مُبينٌ لكيفية الوعدِ أي يعدكم أن إحدى الطائفتين كائنةٌ لكم مختصّةٌ بكم مسخّرةٌ لكم تتسلطون عليها تسلّطَ الُملاّكِ وتتصرفون فيهم كيف شئتم { وَتَوَدُّونَ } عطفٌ على يعدكم داخلٌ تحت الأمرِ بالذكر أي تحبون { أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ } من الطائفتين لا ذاتَ الشوْكةِ وهي النفيرُ ورئيسُهم أبو جهلٍ وهم ألفُ مقاتلٍ ، وغيرُ ذاتِ الشَّوكة هي العِيرُ إذ يكن فيها إلا أربعون فارساً ورأسُهم أبو سفيانَ . والتعبيرُ عنهم بهذا العنوانِ للتنبيه على سبب ودادتهم لملاقاتهم وموجبِ كراهتِهم ونفرتِهم عن موافاة النفيرِ ، والشوْكةُ : العدةُ ، مستعارةٌ من واحدة الشَّوْك وشوك القنا سباها { وَيُرِيدُ الله } عطفٌ على تودّون منتظمٌ معه في سلك التذكيرِ ليُظهِرَ لهم عظيمَ لطفِ الله بهم مع دناءة هِممِهم وقصور آرائِهم ، أي اذكُروا وقت وعِده تعالى إياكم إحدى الطائفتين وودادتِكم لأدناهما وإرادتَه تعالى لأعلاهما وذلك قوله تعالى : { أَن يُحِقَّ الحَقَّ } أي يُثْبِتَه ويُعلِيَه { بكلماته } أي بآياته المنزلةِ في هذا الشأن أو بأوامره للملائكة بالإمداد وبما قضَى من أسرهم وقتلهم وطرحِهم في قَليب بدر ، وقرىء بكلمته { وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين } أي آخِرَهم ويستأصِلَهم بالمرة ، المعنى أنتم تريدون سَفْسافَ الأمور والله عز وعلا يريد معالِيَها وما يرجِعُ إلى علو كلمةِ الحقِّ وسموِّ رتبةِ الدين ، وشتان بين المُرادَين .(3/97)
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
وقوله تعالى : { لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل } جملةٌ مستأنفةٌ سيقت لبيان الحِكمةِ الداعيةِ إلى اختيار ذاتِ الشوكة ونصرِهم عليها مع إرادتهم لغيرها ، واللامُ متعلقةٌ بفعل مقدر مؤخر عنها ، أي لهذه الغايةِ الجليلةِ فعَل ما فعَل لا لشيء آخرَ وليس فيه تكرارٌ إذ الأولُ لبيان تفاوتِ ما بين الإرادتين ، وهذا لبيان الحِكمةِ الداعية إلى ما ذكر ، ومعنى إحقاقِ الحقِّ إظهارُ حقّيتِه لا جعلُه حقاً بعد أن لم يكن كذلك وكذا حال إبطال الباطل { وَلَوْ كَرِهَ المجرمون } أي المشركون ذلك أي إحقاق الحق وإبطال الباطل { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } بدلٌ من إذ يعدكم معمولٌ لعامله ، فالمراد تذكيرُ استمدادِهم منه سبحانه والتجائِهم إليه تعالى حين ضاقت عليهم الحِيلُ وعيَّتْ بهم العِللُ ، وإمدادُه تعالى حينئذ وقيل : متعلقٌ بقوله تعالى ليحق الحق على الظرفية ، وما قيل من أن قولَه تعالى ليُحِق مستقبلٌ لأنه منصوبٌ بأن فلا يمكن عملُه في إذا لأنه ظرف لما مضى ليس بشيء لأن كونَه مستقبَلاً إنما هو بالنسبة إلى زمان ما هو غايةٌ له في الفعل المقدرِ لا بالنسبة إلى زمان الاستغاثةِ حتى لا يعملَ فيه بل هما في وقت واحدٍ وإنما عبّر عن زمانها بإذ نظراً إلى زمان النزولِ ، وصيغةُ الاستقبالِ في تستغيثون لحكاية الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتِها العجيبة ، وقيل : متعلقٌ بمضمر مستأنفٍ أي اذكروا وقت استغاثتِكم وذلك أنهم لما علموا أنه لا بد من القتال جعلوا يدعون الله تعالى قائلين : أيْ ربُّ انصُرنا على عدوك يا غياثَ المستغيثين أغِثْنا ، ( وعن عمرَ رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى المشركين وهم ألفٌ وإلى أصحابه وهو ثلثُمائة وبضعةَ عشرَ فاستقبل القِبلةَ ومد يديه يدعو : « اللهَّم أنجِزْ لي ما وعدتني اللهم إنْ تهلِكْ هذه العِصابةُ لا تعبَدْ في الأرض » فما زال كذلك حتى سقط رداؤُه فأخذه أبو بكر رضى الله عنه فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه وقال : يا نبيَّ الله كفاك مناشدتُك ربَّك فإنه سيُنجز لك ما وعدك ) .
{ فاستجاب لَكُمْ } عطفٌ على تستغيثون داخلٌ معه في حكم التذكيرِ لِما عرفت أنه ماضٍ وصيغةُ الاستقبال لاستحضار الصورة { أَنّي مُمِدُّكُمْ } أي بأني ، فحُذف الجارُّ وسُلّط عليه الفعلُ فنصَب محلَّه ، وقرىء بكسر الهمزة على إرادة القولِ أو على إجراء استجابَ مجرى قال لأن الاستجابةَ من مقولة القول { بِأَلْفٍ مّنَ الملئكة مُرْدِفِينَ } أي جاعلين غيرَهم من الملائكة رديفاً لأنفسهم فالمراد بهم رؤساؤُهم المستتبِعون لغيرهم ، وقد اكتُفي هاهنا بهذا البيانِ الإجماليِّ وبيِّن في سورة آلِ عمرانَ مقدارُ عدِّهم ، وقيل : معناه مُتْبعِين أنفسَهم ملائكةً آخرين أو متْبعين المؤمنين أو بعضَهم بعضاً ، من أردفتُه إذا جئتُ بعده ، أو متبعين بعضَهم بعضَ المؤمنين أو أنفسَهم المؤمنين ، من أردفتُه إياه فردِفَه ، وقرىء مردَفين بفتح الدال أي مُتْبَعين أو متبعين بمعنى أنهم كانوا مقدمة الجيش أو ساقَتَهم وقرىء مرُدّفين بكسر الراء وضمها وتشديد الدال وأصلُهما مرتدفين بمعنى مترادفين فأدغمت التاءُ في الدال فالتقى الساكنان فحركت الراء بالكسر على الأصل أو بالضم على الإتباع ، وقرى بآلاف ليوافقَ ما في سورة آل عمران .
ووجهُ التوفيق بينه وبين المشهورِ أن المرادَ بالألفِ الذين كانوا على المقدمة أو الساقةُ أو وجوهُهم وأعيانُهم أو من قاتل منهم واختُلف في مقاتلتهم وقد روي أخبارٌ تدل على وقوعها .(3/98)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
{ وَمَا جَعَلَهُ الله } كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان أن الأسبابَ الظاهرةَ بمعزل من التأثير وإنما التأثيُر مختصٌّ به عز وجل ليثق المؤمنون ولا يقنَطوا من النصر عند فُقدانِ أسبابِه ، والجعلُ متعدَ إلى مفعول واحد هو الضميرُ العائد إلى مصدر فعلٍ مقدرٍ يقتضيه المقامُ اقتضاءً ظاهراً مُغنياً عن التصريح به ، كأنه قيل : فأمدكم بهم وما جعل إمدادَكم بهم { إِلاَّ بشرى } وهو استثناءٌ مفرّغٌ من أعم العلل أي وما جعل إمدادَكم بإنزال الملائكة عياناً لشيء من الأشياء إلا للبشرى لكم بأنكم تنصرون { وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ } أي بالإمداد { قُلُوبُكُمْ } وتسكنَ إليه نفوسُكم كما كانت السكينةُ لبني إسرائيلَ كذلك ، فكلاهما مفعولٌ له للجعل ، وقد نُصب الأولُ لاجتماع شرائطِه وبقي الثاني على حاله لفقدانها ، وقيل : للإشارة إلى أصالته في العِلّية وأهميتِه في نفسه كما قيل في قوله تعالى : { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } وفي قصر الإمدادِ عليهما إشعارٌ بعدم مباشرةِ الملائكةِ للقتال وإنما كان إمدادُهم بتقويه قلوب المباشرين وتكثيرِ سوادِهم ونحوه كما هو رأيُ بعضِ السلف وقيل : الجعلُ متعدَ إلى اثنين ثانيهما إلا بشرى على أنه استثناءٌ من أعم المفاعيل ، أي وما جعله الله شيئاً من الأشياء إلا بشارةً لكم فاللام في ولتطمئن متعلقةٌ بمحذوف مؤخر تقديره ولتطمئن به قلوبُكم فعَلَ ذلك لا لشيء آخَرَ { وَمَا النصر } أي حقيقةُ النصر على الإطلاق { إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } أي إلا كائنٌ من عنده عز وجل من غير أن يكون فيه شركةٌ من جهة الأسبابِ والعددِ ، وإنما هي مظاهرُ له بطريق جريانِ السنةِ الإلهية { أَنَّ الله عَزِيزٌ } لا يغالَب في حُكمه ولا يُنازَع في أقضيته { حَكِيمٌ } يفعل كلَّ ما يفعل حسبما تقتضيه الحِكمةُ والمصلحةُ ، والجملةُ تعليلٌ لما قبلها متضمنٌ للإشعار بأن النصرَ الواقعَ على الوجه المذكورِ من مقتَضَيات الحِكَم البالغةِ .(3/99)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)
{ إِذْ يُغَشّيكُمُ النعاس } أي يجعله غاشياً لكم ومحيطاً بكم وهو بدلٌ ثانٍ من إذ يعدكم لإظهار نعمةٍ أخرى ، وصيغةُ الاستقبالِ فيه وفيما عُطف عليه لحكاية الحال الماضيةِ كما في تستغيثون ، أو منصوبٌ بإضمار اذكُروا ، وقيل : هو متعلقٌ بالنصر أو بما في ( من عند الله ) من معنى الفعلِ ، أو بالجعل وليس بواضح ، وقرىء يُغْشيكم من الإغشاء بمعنى التغشية ، والفاعلُ في الوجهين هو الباري تعالى وقرىء يغشاكم على إسناد الفعل إلى النعاس وقوله تعالى : { أَمَنَةً مّنْهُ } على القراءتين الأُوليين منصوبٌ على العلية بفعل مترتبٍ على الفعل المذكور أي يغشيّكم النعاسَ فتنعَسون أمناً كائناً من الله تعالى لا كَلالاً وإعياءً أو على أنه مصدرٌ لفعل آخرَ كذلك أي فتأمنون أمناً كما في قوله تعالى : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } على أحد الوجهين ، وقيل : منصوبٌ بنفس الفعلِ المذكورِ ، والأَمَنةُ بمعنى الأمان وعلى القراءة الأخيرة منصوبٌ على العِلّية بيغشاكم باعتبار المعنى فإنه في حكم تنعسون أو على أنه مصدرٌ لفعل مترتبٍ عليه كما مر ، وقرىء أمْنةً كرحمة { وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء مَاءً } تقديمُ الجار والمجرور على المفعول به لما مر مراراً من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر فإن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقبةً له ، فعند ورودِه يتمكّن عندها فضلُ تمكنٍ ، وتقديمُ عليكم لما أن بيانَ كونِ التنزيلِ عليهم أهمَّ من بيان كونه من السماء وقرىء بالتخفيف من الإنزال { لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ } أي من الحديث الأصغرِ والأكبر .
{ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان } الكلامُ في تقديم الجارّ والمجرور كما مر آنفاً ، والمرادُ برجز الشيطانِ وسوستُه وتخويفُه إياهم من العطش . ( روي أنهم نزلوا في كَثيب أعفرَ تسوخُ فيه الأقدامُ على غير ماءٍ وناموا فاحتلم أكثرُهم وقد غلب المشركون على الماء فتمثل لهم الشيطانُ فوسوس إليهم وقال : أنتم يا أصحابَ محمدٍ تزعُمون أنكم على الحق ، وإنكم تصلّون على غير وضوء وعلى الجنابة وقد عطِشتم ولو كنتم على الحق ما غلبكمِ هؤلاءِ على الماء ، وما ينتظرون بكم إلا أن يَجهدَكم العطشُ فإذا قطَع أعناقَكم مشَوا إليكم فقتلوا مَنْ أحبّوا وساقوا بقيتَكم إلى مكة فحزِنوا حُزناً شديداً وأشفقوا فأنزل الله عز وجل المطرَ فمُطِروا ليلاً حتى جرى الوادي فاغتسلوا وتوضأوا وسَقَوا الرِكابَ وتلبّد الرملُ الذي كان بينهم وبين العدوِّ حتى ثبتت عليه الأقدامُ وزالت وسوسةُ الشيطانِ وطابت النفوسُ وقوِيَت القلوبُ ) وذلك قوله تعالى : { وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ } أي يقوّيها بالثقة بلُطف الله تعالى فيما بعدُ بمشاهَدة طلائعِه { وَيُثَبّتَ بِهِ الاقدام } فلا تسوخ في الرمل ، فالضميرُ للماء كالأول ويجوز أن يكون للربط فإن القلبَ إذا قوِي وتمكّن فيه الصبرُ والجَراءةُ لا تكاد تزِلُّ القدمُ في معارك الحروب .(3/100)
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
وقوله تعالى : { إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الملئكة } منصوبٌ بمضمر مستأنفٍ خوطب به النبيُّ عليه الصلاة والسلام بطريق التجريدِ حسبما تنطِق به الكافُ لِما أن المأمورَ به مما لا يستطيعه غيرُه عليه الصلاة والسلام فإن الوحيَ المذكورَ قبل ظهورِه بالوحي المتلوِّ على لسانه عليه الصلاة والسلام ليس من النعم التي يقف عليها عامةُ الأمةِ كسائر النعمِ السابقة التي أُمروا بذكر وقتِها بطريق الشكرِ ، وقيل : منصوب بقوله تعالى : { وَيُثَبّتَ بِهِ الاقدام } فلا بد حينئذٍ من عود الضميرِ المجرورِ في به إلى الربط على القلوب ليكون المعنى : ويثبتَ أقدامَكم بتقوية قلوبِكم وقتَ إيحائِه إلى الملائكة وأمرِه بتثبيتهم إياكم وهو وقتُ القتال ، ولا يخفى أن تقييدَ التثيبتِ المذكورِ بوقت مبْهمٍ عندهم ليس فيه مزيدُ فائدةٍ ، وأما انتصابُه على أنه بدلٌ ثالثٌ من إذ يعدكم كما قيل فيأباه تخصيصُ الخِطاب به عليه الصلاة والسلام مع ما عرفتَ من أن المأمورَ به ليس من الوظائف العامةِ للكل كسائر أخواتِه . وفي التعرض لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من التنويه والتشريفِ ما لا يخفى ، والمعنى اذكُر وقتَ إيحائِه تعالى إلى الملائكة { إِنّى مَعَكُمْ } أي بالإمداد والتوفيقِ في أمر التثبيتِ فهو مفعولُ يوحي ، وقرىء بالكسر على إرادة القول أو إجراءِ الوحي مُجراه . وما يُشعِر به دخولُ كلمةِ مع من متبوعية الملائكةِ إنما هي من حيث إنهم المباشرون للتثبيت صورةً فلهم الأصالةُ من تلك الحيثيةِ كما في أمثال قولهِ تعالى : { إِنَّ الله مَعَ الصابرين } والفاءُ في قوله تعالى : { فَثَبّتُواْ الذين ءامَنُواْ } لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن إمدادَه تعالى إياهم من أقوى موجباتِ التثبيتِ ، واختلفوا في كيفية التثبيتِ فقالت جماعةٌ : إنما أُمروا بتثبيتهم بالبِشارة وتكثيرِ السوادِ ونحوِهما مما تقوى به قلوبُهم وتصِحّ عزائمهُم ونياتُهم ويتأكد جِدُّهم في القتال وهو الأنسبُ بمعنى التثبيتِ وحقيقتِه التي هي عبارةٌ عن الحمل على الثبات في موطن الحربِ والجِدّ في مقاساة شدائد القتال . وقد روي أنه كان الملَكُ يتشبّه بالرجل الذي يعرفونه بوجهه فيأتي ويقول : إنى سمعتُ المشركين يقولون : والله لئن حَملوا علينا لننكَشِفنّ ويمشي بين الصفين فيقول : أبشِروا فإن الله تعالى ناصرُكم وقال آخرون : أُمروا بمحاربة أعدائِهم وجعلوا قولَه تعالى : { سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } تفسيراً لقوله تعالى : { إِنّى مَعَكُمْ } وقولَه تعالى : { فاضربوا } الخ ، تفسيراً لقوله تعالى : { فَثَبّتُوا } مبيناً لكيفية التثبيت . وقد روي عن أبي داود المازنى رضي الله عنه وكان ممن شهد بدراً أنه قال : اتبعتُ رجلاً من المشركين يوم بدر لأضرِبَه فوقعتْ رأسُه بين يديَّ قبل أن يصِلَ إليه سيفي . وعن سهل بن حُنيفٍ رضي الله عنه أنه قال : لقد رأيُتنا يوم بدر وإن أحدَنا يُشيرُ بسيفه إلى المشرك فتقعُ رأسُه عن جسده قبل أن يصِلَ إليه السيفُ .(3/101)
وأنت خبيرٌ بأن قتلَهم للكفرة مع عدم ملاءمته لمعنى تثبيتِ المؤمنين مما لا يتوقف على الإمدادِ بإلقاء الرعبِ فلا يتجه ترتيبُ الأمر به عليه بالفاء وقد اعتذر الأولون بأن قوله تعالى : { فَثَبّتُواْ الذين ءامَنُواْ } تلقيناً للملائكة ما يثبّتونهم به ، كأنه قيل : قولوا لهم قوْلي : سألقي في قلوب الذين كفروا الرعبَ فاضرِبوا الخ فالضاربون هم المؤمنون ، وأما ما قيل من أن ذلك خطابٌ منه تعالى للمؤمنين بالذات على طريق التلوينِ فمبناه توهُّمُ ورودِه قبل القتالِ وأنّى ذلك والسورةُ الكريمة إنما نزلت بعد تمامِ الوقعة ، وقوله تعالى : { فَوْقَ الاعناق } أي أعاليَها التي هي المذابح أو الهامات { واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } قيل : البنانُ أطرافُ الأصابع من اليدين والرجلين ، وقيل : هي الأصابعُ من اليدين والرجلين وقال أبو الهيثم البنان : المفاصلُ ، وكلُّ مَفصِلٍ بنانه وقال ابن جريج والضحاك : يعني الأطرافَ أي اضرِبوهم في جميع الأعضاء من أعاليها إلى أسافلها . وقيل : المرادُ بالبنان الأداني وبفوق الأعناق الأعالي والمعنى فاضرِبوا الصناديدَ والسَّفَلةَ وتكريرُ الأمر بالضرب لمزيد الاعتناءِ بأمره و ( منهم ) متعلقٌ به أو بمحذوف وقع حالاً مما بعده .(3/102)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
{ ذلك } إشارةٌ إلى ما أصابهم من العقاب ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد درجتِه في الشدة والفظاعةِ ، والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحدٍ ممن يليق بالخطاب ، ومحلُّه الرفعُ على الابتداء وخبرُه قوله تعالى : { بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ الله وَرَسُولَهُ } أي ذلك العقابُ الفظيعُ واقعٌ عليهم بسبب مُشاقّتِهم ومغالبتِهم مَنْ لا سبيلَ إلى مغالبته أصلاً ، واشتقاقُ المشاقةِ من الشِّق لِما أن كلاًّ من المُشاقَّين في شِقّ الآخر كما أن اشتقاقَ المُعاداةِ والمُخاصمة من العَدْوة والخَصْم أي الجانب لأن كلاًّ من المتعاديَيْن والمتخاصمَين في عَدوةٍ وخصمٍ غيرِ عدوةِ الآخر وخصمِه { وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ } الإظهارُ في موضع الإضمار لتربية المهابةِ وإظهار كمالِ شناعة ما اجترأوا عليه والإشعارِ بعلة الحُكم . وقوله تعالى : { فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } إما نفسُ الجزاءِ قد حُذف منه العائد إلى ( مَنْ ) عند من يلتزمه ، أي شديدُ العقاب له ، أو تعليلٌ للجزاء المحذوف أي يعاقبْه الله فإن الله شديدُ العقاب ، وأياً ما كان فالشرطيةُ تكملةٌ لما قبلها وتقريرٌ لمضمونه وتحقيقٌ للسببية بالطريق البرهاني ، كأنه قيل : ذلك العقابُ الشديد بسبب مشاقّتِهم لله تعالى ورسولِه وكلُّ من يشاقق الله ورسولَه كائناً مَنْ كان فله بسبب ذلك عقابٌ شديدٌ فإذن لهم بسبب مشاقّتِهم لهما عقابٌ شديد ، وأما أنه وعيدٌ لهم بما أعد لهم في الآخرة بعد ما حاق بهم في الدنيا كما قيل فيرده ما بعده من قوله تعالى : { ذلكم فَذُوقُوهُ وَأَنَّ للكافرين عَذَابَ النار } فإنه مع كونه هو المسوقَ للوعيد بما ذُكر ناطقٌ بكون المرادِ بالعقاب المذكورِ ما أصابهم عاجلاً سواءٌ جُعل ذلكم إشارةً إلى نفس العقابِ أو إلى ما تفيده الشرطيةُ من ثبوت العقابِ لهم ، أما على الأول فلأن الأظهرَ أن محلَّه النصبُ بمضمر يستدعيه قولُه تعالى : { فَذُوقُوهُ } ، والواو في قوله تعالى : { وَأَنَّ للكافرين } الخ بمعنى مع فالمعنى باشروا ذلكم العقابَ الذي أصابكم فذوقوه عاجلاً مع أن لكم عذابَ النارِ آجلاً ، فوضْعُ الظاهر موضعَ الضميرِ لتوبيخهم بالكفر وتعليلِ الحُكم به ، وأما على الثاني فلأن الأقربَ أن محله الرفعُ على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، وقولُه تعالى : { وَأَنَّ للكافرين } الخ معطوفٌ عليه ، والمعنى حُكمُ الله ذلكم ، أي ثبوتُ هذا العقابِ لكم عاجلاً وثبوتُ عذابِ النارِ آجلاً ، وقوله تعالى : { فَذُوقُوهُ } اعتراضٌ وُسِّط بين المعطوفَيْن للتهديد ، والضميرُ على الأول لنفس المشارِ إليه وعلى الثاني لما في ضمنه ، وقد ذُكر في إعراب الآيةِ الكريمةِ وجوهٌ أُخَرُ ، ومدارُ الكلِّ على أن المرادَ بالعقاب ما أصابهم عاجلاً والله تعالى أعلم ، وقرىء بكسر إن على الاستئناف .(3/103)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } خطابٌ للمؤمنين بحكم كليَ جارٍ فيما سيقع من الوقائع والحروبِ جيءَ به في تضاعيف القصةِ إظهاراً للاعتناء بشأنه ومبالغةً في حثهم على المحافظة عليه { إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً } الزحفُ الدبيبُ يقال : زحَف الصبيُّ زحفاً إذا دبّ على استه قليلاً قليلاً ، سُمّي به الجيشُ الداهُم المتوجِّهُ إلى العدو لأنه لكثرته وتكاثفِه يُرى كأنه يزحَف وذلك لأن الكلَّ يرى كجسم واحدٍ متصلٍ فيُحَسُّ حركتُه بالقياس إليه في غاية البُطء وإن كانت في نفس الأمر على غاية السرعة قال قائلهم :
وأرعنَ مثلِ الطَّوْدِ تحسَب أنهم ... وُقوفٌ لِجاجٌ والركابُ تُهملَج
ونصبُه إما على أنه إما حالٌ من مفعول لقِيتم أي زاحفين نحوَكم وإما على أنه مصدرٌ مؤكدٌ لفعل مضمرٍ هو الحالُ منه أي يزحَفون زحفاً ، وأما كونُه حالاً من فاعله أو منه ومن مفعوله معاً كما قيل فيأباه قوله تعالى : { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الادبار } إذ لا معنى لتقييد النهي عن الإدبار بتوجههم السابقِ إلى العدو أو بكثرتهم بل توجُّهُ العدوِّ إليهم وكثرتُهم هو الداعي إلى الإدبار عادةً والمُحوِجُ إلى النهي عنه ، وحملُه على الإشعار بما سيكون منهم يومَ حُنينٍ حيث تَوَلَّوا مدْبرين وهم زحفٌ من الزحوف اثنا عشر ألفاً بعيدٌ ، والمعنى إذ لقِيتموهم للقتال وهم كثيرٌ جمٌّ وأنتم قليلٌ فلا تولوهم أدبارَكم فضلاً عن الفرار بل قابلوهم وقاتِلوهم مع قلتكم فضلاً عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم { وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ } أي يوم اللقاء { دُبُرَهُ } فضلاً عن الفرار ، وقرىء بسكون الباء { إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ } إما بالتوجه إلى قتال طائفةٍ أخرى أهم من هؤلاء وإما بالفرّ للكرّ بأن يُخيِّل لعدوّه أنه منهزمٌ ليغُرَّه ويُخرِجَه من بين أعوانه ثم يعطِفَ عليه وحدَه أو مع مَنْ في الكمين من أصحابه وهو باب من خِدعِ الحربِ ومكايدِها { أَوْ مُتَحَيّزاً إلى فِئَةٍ } أي منحازاً إلى جماعة أخرى من المؤمنين لينضمّ إليهم ثم يقاتلَ معهم العدو . ( عن ابن عمرَ رضي الله عنهما قال : إن سريةً فرّوا وأنا معهم فلما رجعوا إلى المدينة استحيَوْا ودخلوا البيوتَ فقلت : يا رسولَ الله نحن الفرارون فقال صلى الله عليه وسلم : « بل أنتم العكّارون أي الكرارون من عكر أي رجع وأنا فئتُكم » ، وانهزم رجلٌ من القادسية فأتى المدينةَ إلى عمرَ رضي الله عنه فقال : يا أميرَ المؤمنين هلكتُ ففرَرْتُ من الزحف فقال رضي الله عنه : أنا فئتُك ، ووزنُ متحيِّز متفيعل لا متفعّل وإلا لكان متحوزاً لأنه من حاز يحوز وانتصابُهما إما على الحالية وإلا لغوٌ لا عمَلَ لها وإما على الاستثناء من المُولّين أي ومن يولهم دبرَه إلا رجلاً منهم متحرفاً أو متحيزاً { فَقَدْ بَاء } أي رجع { بِغَضَبٍ } عظيم لا يقادر قدرُه و ( من ) في قوله تعالى : { مِنَ الله } متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لغضب مؤكدةٌ لما أفاده التنوينُ من الفخامة والهولِ بالفخامة الإضافية أي بغضب كائنٍ منه تعالى { وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ } أي بدلَ ما أراد بفراره أن يأويَ إليه من مأوى ينجيه من القتل { وَبِئْسَ المصير } في إيقاع البَوْءِ في موقع جوابِ الشرطِ الذي هو التوليةُ مقروناً بذكر المأوى والمصير من الجزالة ما لا مزيدَ عليه .(3/104)
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الفرارَ من الزحف من أكبر الكبائرِ وهذا إذا لم يكن العدوُّ أكثرَ من الضِّعف لقوله تعالى : { الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ } الآية ، وقيل : الآية مخصوصةٌ بأهل بيتهِ والحاضرين معه في الحرب .(3/105)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ } رجوعٌ إلى بقية أحكامِ الوقعةِ وأحوالِها وتقريرُ ما سبق منها والفاءُ جوابُ شرطٍ مقدر يستدعيه ما مر من ذكر إمدادِه تعالى وأمرِه بالتثبيت وغيرِ ذلك ، كأنه قيل : إذا كان الأمرُ كذلك فلم تقتُلوهم أنتم بقوتكم وقدرتِكم { ولكن الله قَتَلَهُمْ } بنصركم وتسليطِكم عليهم وإلقاءِ الرعب في قلوبهم ويجوز أن يكون التقدير : إذا علمتم ذلك فلم تقتُلوهم أي فاعلَموا ، أو فأُخبركم أنكم لم تقتُلوهم ، وقيل : التقديرُ إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتُلوهم على أحد التأويلين ، لما ( رُوي أنهم لما انصرفوا من المعركة غالبين غانمين أقبلوا يتفاخرون يقولون : قتلتُ وأسرتُ وفعلتُ وتركتُ فنزلت ) ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طلعت قريشٌ من العقنقل قال : « هذه قريشٌ جاءت بخُيلائها وفخرِها يكذّبون رسولَك ، اللهم إني أسألك ما وعدتني » فأتاه جبريلُ عليه السلام فقال : خُذْ قبضةً من تراب فارمِهم بها فلما التقى الجمعانِ قال لعلي رضي الله تعالى عنه : « أعطني قبضةً من حصباءِ الوادي » فرمى بها في وجوههم وقال : « شاهت الوجوهُ فلم يبْقَ مُشركٌ إلا شُغل بعينيه » فانهزموا ) وذلك قوله عز وجل بطريق تلوينِ الخطاب : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } تحقيقاً لكون الرمي الظاهرِ على يده عليه الصلاة والسلام حينئذٍ من أفعاله عز وجل ، وتجريدُ الفعلِ عن المفعول به لما أن المقصودَ الأصليَّ بيانُ حالِ الرمي نفياً وإثباتاً ، إذ هو الذي ظهر منه ما ظهر وهو المنشأ لتغيّر المرميِّ به في نفسه وتكثّرِه إلى حيث أصاب عينَيْ كلِّ واحد من أولئك الأمةِ الجمّةِ شيءٌ من ذلك ، أي وما فعلت أنت يا محمدُ تلك الرميةَ المستتبِعةَ لهذه الآثارِ العظيمةِ حقيقةً حين فعلتَها صورةً وإلا لكان أثرُها من جنس آثارِ الأفاعيلِ البشرية ولكن الله فعلَها أي خلقها حيث باشَرْتها لكن لا على نهج عادتِه تعالى في خلق أفعالِ العبادِ بل وجه غيرِ معتادٍ ولذلك أثرت هذا التأثيرَ الخارجَ عن طوق البشرِ ودائرةِ القُوى والقدر ، فمدارُ إثباتِها لله تعالى ونفِيها عنه عليه الصلاة والسلام كونُ أثرِها من أفعالِه عليه الصلاة والسلام . وقرىء ولكنِ الله بالتخفيف والرفع في المحلين ، واللام في قوله تعالى :
{ وَلِيُبْلِىَ المؤمنين مِنْهُ } أي ليعطيهم من عنده تعالى { بَلاء حَسَنًا } أي عطاءً جميلاً غيرَ مَشوبٍ بمقاساة الشدائدِ والمكاره ، واللام إما متعلقةٌ بمحذوف متأخرٍ فالواوُ اعتراضيةٌ أي وللإحسان إليهم بالنصر والغنيمة فعَلَ ما فعل ، لا لشيء غيرِ ذلك مما لا يُجديهم نفعاً ، وإما برمى فالواوُ للعطف على علةٍ محذوفةٍ أي ولكن الله رمى ليمحَق الكافرين وليُبلي الخ ، وقوله تعالى : { إِنَّ الله سَمِيعٌ } أي لدعائهم واستغاثتهم { عَلِيمٌ } أي بنياتهم وأحوالِهم الداعيةِ إلى الإجابة ، تعليلٌ للحكم .(3/106)
ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)
{ ذلكم } إشارة إلى البلاء الحسنِ ومحلُّه الرفعُ على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ وقوله تعالى : { وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين } بالإضافة معطوفٌ عليه أي المقصِدُ إبلاءُ المؤمنين وتوهينُ كيدِ الكافرين وإبطالُ حِيلِهم ، وقيل : المشارُ إليه القتلُ والرميُ والمبتدأ الأمر ، أي القتل فيكون قوله تعالى : { وَأَنَّ الله } الآية ، من قبيل عطفِ البيانِ ، وقرىء مُوهِّن بالتنوين مخففاً ومشدداً ونصبِ كيد الكافرين .
{ إِن تَسْتَفْتِحُواْ } خطابٌ لأهل مكةَ على سبيل التهكم بهم وذلك أنهم حين أرادوا الخروجَ تعلقوا بأستار الكعبةِ وقالوا : اللهم انصُرْ أعلى الجُندَيْن وأهدي الفئتين وأكرمَ الحِزبين ، أي إن تستنصروا لأعلى الجندين { فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح } حيث نصَر أعلاهما وقد زعمتم أنكم الأعلى فالتهكمُ في المجيء ، أو فقد جاءكم الهزيمةُ والقهرُ فالتهكم في نفس الفتحِ حيث وضع موضعَ ما يقابله { وَإِن تَنتَهُواْ } عما كنتم عليه من الحِراب ومعاداةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم { فَهُوَ } أي الانتهاء { خَيْرٌ لَّكُمْ } أي من الحِراب الذي ذُقتم غائلته لِما فيه من السلامة من القتل والأسرِ ، ومبنى اعتبارِ أصلِ الخيرية في المفضل عليه هو التهكم { وَإِن تَعُودُواْ } أي إلى حِرابه عليه الصلاة والسلام { نَعُدُّ } لما شاهدتموه من الفتح { وَلَن تُغْنِىَ } بالتاء الفوقانية وقرىء بالياء التحتانية لأن تأنيثَ الفئةِ غيرُ حقيقي وللفصل أي لن تَدفعَ أبداً { عَنكُمْ فِئَتُكُمْ } جماعتُكم التي تجمعونهم وتستعينون بهم { شَيْئاً } أي من الإغناء أو من المضاربة وقوله تعالى : { وَلَوْ كَثُرَتْ } جملةٌ حالية وقد مر التحقيق { وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين } أي ولأن الله معينُ المؤمنين كان ذلك ، أو والأمرُ أن الله مع المؤمنين ، ويقرب منه بحسب المعنى قراءةُ الكسر على الاستئناف ، وقيل : الخطاب للمؤمنين والمعنى إن تستنصِروا فقد جاءكم النصرُ وإن تنتهوا عن التكاسل والرغبةِ عما يرغّب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو خير لكم من كل شيء لما أنه مناطٌ لنيل سعادة الدارين وإن تعودوا إليه نعُدْ عليكم بالإنكار وتهييجِ العدو ولن تغنيَ حينئذٍ كثرتُكم إذا لم يكن الله معكم بالنصر والأمرُ أن الله مع الكاملين في الإيمان .
{ المؤمنين يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ } بطرح إحدى التاءين وقرىء بإدغامها { عَنْهُ } أي لا تتولوا عن الرسول ، فإن المرادَ هو الأمرُ بطاعته والنهيُ عن الإعراض عنه ، وذكرُ طاعتِه تعالى للتمهيد والتنبيه على أن طاعتَه تعالى في طاعة رسولِه عليه الصلاة والسلام { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } وقيل : الضمير للجهاد وقيل : للأمر الذي دل عليه الطاعة وقوله تعالى : { وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ } جملةٌ حالية واردةٌ للتأكيد بوجوب الانتهاء عن التولي مطلقاً كما في قوله تعالى : { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } لا لتقييد النهي عنه بحال السماع كما في قوله تعالى : { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى } أي لا تتولوا عنه والحال أنكم تسمعون القرآن الناطق بطاعتِه والمواعظ الزاجرة عن مخالفته أي سماعَ فهمٍ وإذعان .(3/107)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
{ وَلاَ تَكُونُواْ } تقريرٌ للنهي السابق وتحذيرٌ عن مخالفته بالتنبيه على أنه مؤديةٌ إلى انتظامهم في سلك الكفرةِ بكون سماعِهم كَلا سماعٍ أي لا تكونوا بمخالفة الأمر والنهي { كالذين قَالُواْ سَمِعْنَا } بمجرد الادعاءِ من غير فهمٍ وإذعانٍ كالكفرة والمنافقين الذي يّدعون السماعَ { وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } حالٌ من ضمير قالوا أي قالوا ذلك والحالُ أنهم لا يسمعون حيث لا يصدّقون ما سمعوه ولا يفهمونه حقَّ فهمِه فكأنهم لا يسمعونه رأساً .
{ إِنَّ شَرَّ الدواب } استئنافٌ مَسوقٌ لبيان كمالِ سوءِ حالِ المشبه بهم مبالغةً في التحذير وتقريراً النهي إثرَ تقريرٍ ، أي إن شرَّ ما يدب على الأرض أو شرَّ البهائم { عَندَ الله } أي في حكمه وقضائه { الصم } الذين لا يسمعون الحق { البكم } الذين لا ينطِقون به ، وُصفوا بالصمم والبَكَم لأن ما خُلق له الأذنُ واللسانُ سماعُ الحق والنطقِ به ، وحيث لم يوجد فيهم شيءٌ من ذلك صاروا كأنهم فاقدون للجارحتين رأساً ، وتقديم الصمِّ على البكم لِما أن صُمَّهم متقدمٌ على بُكمهم ، فإن السكوتَ عن النطق لِما لحِقَ من فروع عدمِ سماعِهم له كما أن النطقَ به من فروعِ سماعِه ثم وُصفوا بعدم التعقل فقيل : { الذين لاَ يَعْقِلُونَ } تحقيقاً لكمال سوءِ حالِهم فإن الأصمَّ الأبكمَ إذا كان له عقلٌ ربما يفهم بعضَ الأمور ويُفهمُه غيرُه بالإشارة ويهتدي بذلك إلى بعض مطالبِه ، وأما إذا كان فاقداً للعقل أيضاً فهو الغايةُ في الشرّية وسوءِ الحال ، وبذلك يظهرُ كونُهم شراً من البهائم حيث أبطلوا ما به يمتازون عنها وبه يفضّلون على كثير من خلق الله عز وجل فصاروا أخسّ من كل خسيس { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا } شيئاً من جنس الخيرِ الذي من جملته صرفُ قواهم إلى تحرّي الحقِّ واتباعِ الهدى { لاسْمَعَهُمْ } سماعَ تفهمٍ وتدبر ولوقفوا على حقّية الرسولِ عليه الصلاة والسلام وأطاعوه وآمنوا به ولكن لم يعلم فيهم شيئاً من ذلك لخلوّهم عنه بالمرة فلم يُسمِعْهم كذلك لخلوه عن الفائدة وخروجِه عن الحكمة وإليه أشير بقوله تعالى : { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ } أي لو أسمعهم سماعَ تفهّمٍ وهم على هذه الحالة العارية من الخير بالكلية لتولّوا عما سمِعوه من الحق ولم ينتفعوا به قطُّ أو ارتدوا بعد ما صدقوه وصاروا كأن لم يسمعوه أصلاً وقوله تعالى : { وَهُم مُّعْرِضُونَ } إما حالٌ من ضمير تولوا أي لتولوا على أدبارهم والحالُ أنهم معرضون عما سمعوه بقلوبهم ، وإما اعتراضٌ تذييلىٌّ أي وهم قومٌ عادتُهم الإعراضُ وقيل : كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أحّيِ قُصَيّاً فإنه كان شيخَاً مباركاً حتى يشهدَ لك ونؤمنَ بك فالمعنى ولو أسمعهم كلام قصيَ الخ وقيل : هم بنو عبد الدار بن قصي ، لم يُسلم منهم إلا مصعبُ بنُ عميرٍ وسويدُ بن حرْملة كانوا يقولون : نحن صمٌّ بكمٌ عميٌ عما جاء به محمدٌ لا نسمعه ولا نجيبه قاتلهم الله تعالى فقُتلوا جميعاً بأحد وكانوا أصحابَ اللواءِ وعن ابن جريج أنهم المنافقون وعن الحسن رضي الله عنه أنهم أهلُ الكتاب .(3/108)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } تكريرُ النداء مع وصفهم بنعت الإيمانِ لتنشيطهم إلى الإقبال على الامتثال بما يردُ بعدَه من الأوامر وتنبيهِهم على أن فيهم ما يوجب ذلك { استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } بحسن الطاعة { إِذَا دَعَاكُمْ } أي الرسولُ إذ هو المباشرُ لدعوة الله تعالى { لِمَا يُحْيِيكُمْ } من العلوم الدينيةِ التي هي مناطُ الحياة الأبدية كما أن الجهَل مدارُ الموتِ الحقيقيِّ أو هي ماءُ حياةِ القلبِ كما أن الجهلَ موجبٌ موتَه ، وقيل : لمجاهدة الكفارِ لأنهم لو رفضوها لغلبوهم وقتلوهم كما في قوله تعالى : { وَلَكُمْ فِي القصاص حياة } روي أنه عليه الصلاة والسلام ( مر على أُبيَّ بن كعب وهو يصلي فدعاه فعجّل في صلاته ثم جاء فقال عليه الصلاة والسلام : « ما منعك من إجابتي؟ » قال : كنت في الصلاة قال : « ألم تخبَرْ فيما أوحِيَ إلي { استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ » الخ ) . واختلف فيه فقيل : هذا من خصائص دعائه عليه الصلاة والسلام وقيل : لأن إجابته عليه الصلاة والسلام لا تقطع الصلاةَ وقيل : كان ذلك الدعاءُ لأمر مهمَ لا يحتمل التأخيرَ وللمصلي أن يقطع الصلاةَ لمثله { واعلموا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } تمثيلٌ لغاية قربِه تعالى من العبد كقوله تعالى : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } وتنبيهٌ على أنه تعالى مطلعٌ من منكونات القلوب على ما عسى يغفُل عنه صاحبُها أو حثٌّ على المبادرة إلى إخلاص القلوبِ وتصفيتِها قبل إدراك المنيةِ فإنها حائلةٌ بين المرء وقلبِه أو تصويرٌ وتخييلٌ لتملّكه على العبد قلبَه بحيث يفسخ عزائمهُ ويغيّر نياتِه ومقاصدَه ويحول بينه وبين الكفر إن إراد سعادتَه ويبدله بالأمن خوفاً وبالذكر نسياناً وما أشبه ذلك من الأمور المعترضةِ المفوتةِ للفرصة ، وقرىء ( بين المرِّ ) بتشديد الراء على حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الراء وإجراء الوصل مجرى الوقف { وَأَنَّهُ } أي الله عز وجل أو الشأن { إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } لا إلى غيره فيجازيكم بحسب مراتبِ أعمالِكم فسارعوا إلى طاعته تعالى وطاعةِ رسولِه وبالغوا في الاستجابة لهما .
{ واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } أي لا تختصّ إصابتُها بمن يباشر الظلمَ منكم بل يعُمه وغيرَه كإقرار المُنكَر بين أظهُرِهم والمداهنةِ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وافتراقِ الكلمةِ وظهورِ البدع والتكاسلِ في الجهاد ، على أن قوله : لا تصيبن الخ إما جوابُ الأمر على معنى أن إصابتكم لا تصيبن الخ وفيه أن جوابَ الشرط مترددٌ فلا يليق به النونُ المؤكدةُ لكنه لما تضمن معنى النهي ساغ فيه كقوله تعالى : { ادخلوا مساكنكم لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } وإما صفةٌ لفتنة ولا للنفي وفيه شذوذٌ لأن النون لا تدخُل المنفيَّ في غير القسمِ ، أو للنهي على إرادة القولِ كقول من قال :
فحتى إذا جَنّ الظلامُ واختلط ... جاؤوا بمذْقٍ هل رأيتَ الذئب قطّ
وإما جوابُ قسم محذوفٍ كقراءة من قرأ : لتصيبن وإن اختلف المعنى فيهما ، وقد جُوِّز أن يكون نهياً عن التعرض للظلم بعد الأمرِ باتقاء الذنبِ فأن وبالَه يصيب الظالمَ خاصةً ويعود عليه ومِنْ في منكم على الوجوه الأُوَلِ للتبعيض وعلى الأخرين للتبيين ، وفائدتُه التنبيهُ على أن الظلمَ منكم أقبحُ منه من غيركم { واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } ولذلك يصيب بالعذاب من لم يباشِرْ سببَه .(3/109)
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
{ واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ } أي وقتَ كونِكم قليلاً في العدد ، وإيثارُ الجملةِ الاسمية للإيذان باستمرار ما كانوا فيه من القلة وما يتبعها من الضعف والخوف ، وقوله تعالى : { مُّسْتَضْعَفُونَ } خبرٌ ثانٍ أو صفةٌ لقليل وقوله تعالى : { فِى الارض } أي في أرض مكةَ تحت أيدى قريشٍ والخطابُ للمهاجرين ، أو تحت أيدي فارسَ والرومَ ، والخطاب للعَرَب كافةً فإنهم كانوا أذلأَ تحت أيدي الطائفتين ، وقوله تعالى : { تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس } خبرٌ ثالثٌ أو صفةٌ ثانية لقليلٌ وُصِفَ بالجملة بعد ما وصف بالمُفرد ، أو حالٌ من المستكنِّ في مستضعفون والمرادُ بالناس على الأول وهو الأظهرُ إما كفارُ قريشٍ وإما كفارُ العرب لقربهم منهم وشدةِ عداوتهم لهم ، وعلى الثاني فارس والروم أي واذكروا وقت قِلتِكم وذِلتكم وهَوانِكم على الناس وخوفِكم من اختطافهم { فَآوَاكُمْ } إلى المدينة أو جعل لكم مأوى تتحصنون به من أعدائكم { وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ } على الكفار أو بمظاهرة الأنصار أو بإمداد الملائكة { وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات } من الغنائم { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } هذه النعمَ الجليلة .
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول } أصلُ الخَوْنِ النقصُ كما أن أصلَ الوفاءِ التمام ، واستعمالهُ في ضد الأمانة لتضمنه إياه أي لا تخونوهما بتعطيل الفرائضِ والسنن أو بأن تُضمِروا خلافَ ما تظهرون ، أو في الغلول في الغنائم ، روي ( أنه عليه الصلاة والسلام حاصَر بني قُريظةَ إحدى وعشرين ليلةً فسألوا الصُّلْحَ كما صالح بني النضيرِ على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرِعاتٍ وأريحاءَ من الشام ، فأبى إلا أن ينزِلوا على حكم سُعد بن معاذ رضي الله عنه فأبوا وقالوا : أرسل إلينا أبا لُبابةَ وكان مناصِحاً لهم لِما أن ماله وعيالَه كانا في أيديهم ، فبعثه إليهم فقالوا : ما ترى هل ننزل على حُكم سعدٍ فأشار إلى حلقه إنه الذبحُ قال أبو لبابة : فما زالت قدماي حتى عملتُ أني خُنتُ الله ورسولَه فنزلت فشد نفسَه على سارية من سواري المسجدِ وقال : والله لا أذوقُ طعاماً ولا شراباً حتى أموتَ أو يتوبَ الله عليّ فمكث سبعةَ أيامٍ حتى خرَّ مغشياً عليه ثم تاب الله عليه ، فقيل له : قد تيبَ عليك فحُلَّ نفسَك ، قال : لا والله لا أحُلّها حتى يكونَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحُلّني فجاءه عليه الصلاة والسلام فحلّه فقال : إن من تمام توبتي أن أهجُرَ دارَ قومي التي أصبتُ فيها الذنبَ وأن أنخلِع من مالي فقال عليه الصلاة والسلام : « يُجزِئُك الثلثُ أن تتصدقَ به » ) { وَتَخُونُواْ أماناتكم } فيما بينكم وهو مجزومٌ معطوفٌ على الأول أو منصوبٌ على الجواب بالواو { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنكم تخونون أو وأنتم علماءُ تميِّزون الحسنَ من القبيح .(3/110)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
{ واعلموا أَنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ } لأنها سببُ الوقوعِ في الإثم والعقاب أو محنةٌ من الله عز وجل ليبلُوَكم في ذلك فلا يحمِلَنّكم حبُّهما على الخيانة كأبي لُبابة { وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } لمن آثرَ رضاه تعالى عليهما وراعى حدودَه فيهما فنيطوا هِممَكم بما يؤديكم إليه . { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } تكريرُ الخطابِ والوصفِ بالإيمان لإظهار كمالِ العنايةِ بما بعده والإيذانِ بأنه مما يقتضي الإيمان يقتضي الإيمانُ مراعاتَه والمحافظةَ عليه كما في الخطابين السابقين { إَن تَتَّقُواْ الله } أي في كل ما تأتون وما تذرون { يَجْعَل لَّكُمْ } بسبب ذلك { فُرْقَانًا } هدايةً في قلوبكم تفرِّقون بها بين الحقِّ والباطل أو نصراً يفرّق بين المُحِقِ والمُبطل بإعزاز المؤمنين وإذلالِ الكافرين ، أو مخرجاً من الشبهات أو نجاةً عما تحذرون في الدارين أو ظهوراً يشهَرُ أمرَكم وينشرُ صِيتَكم ، من قولهم بتّ أفعلُ كذا حتى سطَع الفُرقانُ أي الصبح { وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ } أي يسترها { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } ذنوبَكم بالعفو والتجاوزِ عنها ، وقيل : السيئاتُ الصغائرُ والذنوبُ الكبائرُ ، وقيل : المرادُ ما تقدم وما تأخر لأنها في أهل بدر وقد غفرها الله تعالى لهم وقوله تعالى : { والله ذُو الفضل العظيم } تعليلٌ لما قبله وتنبيهٌ على أن ما وعده الله تعالى لهم على التقوى تفضّلٌ منه وإحسانٌ لا أنه مما يوجبه التقوى كما إذا وعد السيدُ عبدَه إنعاماً على عمل .
{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ } منصوبٌ على المفعولية بمضمر خوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم معطوفٍ على قوله تعالى : واذكروا إِذْ أَنتُمْ الخ مسوقٌ لتذكير النعمةِ العامةِ للكل ، أي واذكر وقتَ مكِرهم بك { لِيُثْبِتُوكَ } بالوَثاق ، ويعضُده قراءةُ من قرأ : ليقيدوك ، أو الإثخانِ بالجرح ، من قولهم : ضربه حتى أثبته لا حَراك به ولا بَراح ، وقرىء ليثبّتوك بالتشديد وليبّيتوك من البيات .
{ أَوْ يَقْتُلُوكَ } أي بسيوفهم { أَوْ يُخْرِجُوكَ } أي من مكة ( وذلك أنهم لما سمعوا بإسلام الأنصارِ ومبايعتِهم له عليه الصلاة والسلام فرِقوا واجتمعوا في دار الندوة يتشاورون في أمره صلى الله عليه وسلم فدخل إبليسُ عليهم في صورة شيخٍ وقال : أنا من نجد سمعتُ باجتماعكم فأردت أن أحضُركم ولن تعدَموا منى رأياً ونُصحاً فقال أبو البَحْتري : رأيي أن تحبِسوه في بيت وتسدّوا منافذه غيرَ كوّةٍ تلقون إليه طعامَه وشرابَه منها حتى يموت فقال الشيخ : بئسُ الرأيُ يأتيكم من يقاتلُكم من قومه ويخلِّصه من أيديكم فقال هشامُ بنُ عمْرو : رأيي أن تحمِلوه على جمل وتُخرجوه من أرضكم فلا يضركم ما صنع فقال : وبئس الرأي يُفِسدُ قوماً غيرَكم ويقاتلكم بهم فقال أبو جهل : أنا أرى أن تأخُذوا من كل بطنٍ غلاماً وتعطوه سيفاً فيضرِبوه ضربةً واحدة فيتفرقَ دمُه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريشٍ كلِّهم فإذا طلبوا العقلَ عقَلْناه فقال : صدق هذا الفتى فتفرقوا على رأيه فأتى جبريلُ النبي عليهما الصلاة والسلام وأخبره بالخبر وأمره بالهجرة فبيّت عليّاً رضي الله تعالى عنه على مضجعه وخرج هو مع أبي بكر رضي الله عنه إلى الغار ) { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله } أي يرد مكرَهم عليهم أو يجازيهم عليه أو يعاملهم معاملةَ الماكرين وذلك بأن أخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حمَلوا عليهم فلقُوا منهم ما لقُوا { والله خَيْرُ الماكرين } لا يُعبأ بمكرهم عند مكرِه ، وإسنادُ أمثالِ هذا إليه سبحانه مما يحسن للمشاكلة ، ولا مساغَ له ابتداءً لما فيه من إيهام ما لا يليق به سبحانه .(3/111)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
{ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا } التي حقها أن يخِرَّ لها صُمُّ الجبال { قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا } قاله اللعينُ النضْرُ بنُ الحارث ، وإسنادُه إلى الكل لما أنه كان رئيسَهم وقاضيَهم الذي يقولون بقوله ويأخُذون برأيه وقيل : قاله الذين ائتمروا في أمره صلى الله عليه وسلم في دار الندوة ، وهذا كما ترى غايةُ المكابرة ونهايةُ العِناد كيف لا ولو استطاعوا شيئاً من ذلك فما الذي كان يمنعهم من المشيئة وقد تُحُدّوا عشرَ سنين وقُرعوا على العجز وذاقوا من ذلك الأمرَّيْن ثم قورعوا بالسيف فلم يعارضوا بما سواه مع أنَفتهم وفرْطِ استنكافِهم أن يُغلَبوا لاسيما في باب البيان { إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين } أي ما يسطرونه من القصص .
{ وَإِذَا قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } هذا أيضاً من أباطيل ذلك اللعين . روي أنه لما قال : إنْ هذا إلا أساطيرُ الأولين قال له النبي صلى الله عليه وسلم : « ويلَك إنه كلامُ الله تعالى » فقال ذلك والمعنى أن القرآن إن كان حقاً منزلاً من عندك فأمطِرْ علينا الحجارةَ عقوبةً على إنكارنا أو ائتنا بعذاب أليم سواه ، والمرادُ منه التهكمُ وإظهارُ اليقينِ والجزمِ التامِّ على أنه ليس كذلك وحاشاه ، وقرىء الحقُّ بالرفع على أن هو مبتدأٌ لا فصلٌ ، وفائدةُ التعريفِ فيه الدِلالةُ على أن المعلق به كونُه حقاً على الوجه الذي يدّعيه صلى الله عليه وسلم وهو تنزيلُه لا الحقُّ مطلقاً لتجويزهم أن يكون مطابقاً للواقع غيرَ منزلٍ كالأساطير { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } جوابٌ لكلمتهم الشنعاءِ وبيانٌ للموجِب لإمهالهم والتوقفِ في إجابة دعائِهم واللامُ لتأكيد النفي والدِلالةِ على أن تعذيبَهم عذابَ استئصالٍ والنبيُّ عليه الصلاة والسلام بين أظهرِهم خارجٌ عن عادته تعالى غيرُ مستقيمٍ في حُكمه وقضائه ، والمرادُ باستغفارهم في قوله تعالى : { وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } إما استغفارُ مَنْ بقِيَ منهم من المؤمنين أو قولُهم : اللهم اغفِرْ أو فرضُه على معنى لو استغفروا لم يعذبوا كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ }(3/112)
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
{ وَمَا لَهُمْ أَن لا يُعَذّبْهُمُ الله } بيانٌ لاستحقاقهم العذابَ بعد بيانِ أن المانعَ ليس من قِبَلهم ، أي وما لهم مما يمنع تعذيبَهم متى زال ذلك وكيف لا يعذّبون { وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام } أي وحالُهم ذلك ، ومِنْ صدّهم عنه إلجاءُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة وإحصارُهم عام الحديبية { وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ } حالٌ من ضمير يصدون مفيدةٌ لكمال قُبحِ ما صنعوا من الصد فإن مباشرتَهم للصد عنه مع عدم استحقاقِهم لولاية أمرِه في غاية القُبح وهو ردٌّ لما كانوا يقولون : نحنُ ولاةُ البيتِ والحرم فنصد من نشاء ونُدخِل من نشاء { إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون } من الشرك الذين لا يعبُدون فيه غيرَه تعالى { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أنه لا ولايةَ لهم عليه ، وفيه إشعارٌ بأن منهم من يعلم ذلك ولكنه يعاند ، وقيل : أريد بأكثرهم كلُّهم كما يراد بالقلة العدم { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت } أي دعاؤهم أو مايسمونه صلاةً أو ما يضعون موضعها { إِلاَّ مُكَاءً } أي صفيراً فُعال من مكا يمكو إذا صفر وقرىء بالقصر كالبُكى { وَتَصْدِيَةً } أي تصفيقاً ، تفعِلةً من الصَّدَى أو من الصدّ على إبدال أحدِ حرفي التضعيف بالياء ، وقرىء صلاتَهم بالنصب على أنه الخبرُ لكان ، ومساقُ الكلام لتقرير استحقاقِهم العذابَ أو عدمِ ولايتِهم للمسجد فإنها لا تليق بمن هذه صلاتُه . رُوي أنهم كانوا يطوفون عراةً الرجالُ والنساء مشبكين بين أصابعِهم يصفرون فيها ويصفقون وقيل : كانوا يفعلون ذلك إذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي يخلِطون عليه ويُرَون أنهم يصلون أيضاً { فَذُوقُواْ العذاب } أي القتلَ والأسرَ يوم بدرٍ وقيل : عذابَ الآخرة ، واللامُ يحتمل أن تكون للعهد والمعهودُ ائتنا بعذاب أليم { بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } اعتقاداً وعملاً .
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } نزلت في المطعِمين يوم بدر ( وكانوا اثنيْ عشَرَ رجلاً من قريش يُطعم واحد منهم كلَّ يوم عشْرَ جُزُرٍ ، أو في أبي سفيان استأجر ليوم أحُد ألفين سوى من استجاش من العرب وأنفق فيهم أربعين أوقيةً أو في أصحاب العِير فإنه لما أصيب قريش يوم بدر قيل لهم : أعينوا بهذا المالِ على حرب محمد لعلنا ندرك ثأرَنا منه ففعلوا والمرادُ بسبيل الله دينُه واتباعُ رسوله { فَسَيُنفِقُونَهَا } بتمامها ، ولعل الأول إخبارٌ عن إنفاقهم في تلك الحالِ وهو إنفاقُ يوم بدرٍ ، والثاني إخبارٌ عن إنفاقهم فيما يُستقبل وهو إنفاقُ يوم أحدٍ ، ويحتمل أن يُرادَ بهما واحدٌ على مساق الأول لبيان الغرضِ من الانفاق ، ومساق الثاني لبيان عاقبتِه وأنه لم يقع بعد { ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } ندماً وغماً لفواتها من غير حصول المقصودِ ، جُعل ذاتُها حسرة وهي عاقبةُ إنفاقها مبالغةً { ثُمَّ يُغْلَبُونَ } آخرَ الأمر وإن كان الحربُ بينهم سجالاً قبل ذلك { والذين كَفَرُواْ } أي تموا على الكفر وأصروا عليه { إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } أي يساقون لا إلى غيرها .(3/113)
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
{ لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب } أي الكافر من المؤمن ، أو الفسادَ من الصلاح واللامُ متعلقةٌ بيحشرون أو بيغلبون أو ما أنفقه المشركون في عداوته صلى الله عليه وسلم مما أنفقه المسلمون في نُصرته واللامُ متعلقةٌ بقوله : ثم تكون عليهم حسرةً وقرىء ليُميِّز بالتشديد { وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً } أي يضم بعضَه إلى بعض حتى يتراكموا لفرط ازدحامِهم فيجمعه أو يضم إلى الكافر ما أنفقه ليزيد به عذابَه كما للكافرين { فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ } كلَّه .
{ أولئك } إشارةٌ إلى الخبيث إذ هو عبارةٌ عن الفريق أو إلى المنفقين ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد درجتِهم في الخبث { هُمُ الخاسرون } الكاملون في الخسران لأنهم خسِروا أنفسَهم وأموالَهم .
{ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } هم أبو سفيانَ وأصحابُه أي قل لأجلهم { إِن يَنتَهُواْ } عما هم فيه من معاداة النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالدخول في الإسلام { يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } من الذنوب وقرىء إن تنتهوا يُغفرْ لكم ويَغفِرْ لكم على البناء للفاعل وهو الله تعالى { وَإِن يَعُودُواْ } إلى قتالهم { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاولين } الذين تحزّبوا على الأنبياء عليهم السلام بالتدمير كما جرى على أهل بدر فليتوقعوا مثلَ ذلك { وقاتلوهم } عطف على قل ، وقد عُمّم الخطابُ لزيادة ترغيبِ المؤمنين في القتال لتحقيق ما يتضمنه قولُه تعالى : { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاولين } من الوعيد { حتى لاَ تَكُونَ فتناه } أي لا يوجَدَ منهم شركٌ { وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ } وتضمحِلَّ الأديانُ الباطلةُ إما بإهلاك أهلِها جميعاً أو برجوعهم عنها خشية القتل { فَإِنِ انْتَهَوْاْ } عن الكفر بقتالكم { فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فيجازيهم على انتهائهم عنه وإسلامِهم ، وقرىء بتاء الخطاب أي بما تعملون من الجهاد المُخرِجِ لهم إلى الإسلام ، وتعليقُه بانتهائهم للدلالة على أنهم يثابون بالسببية كما يثاب المباشِرون بالمباشرة { وَإِن تَوَلَّوْاْ } ولم ينتهوا عن ذلك { فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ } ناصرُكم فثِقوا به ولا تبالوا بمعاداتهم { نِعْمَ المولى } لا يَضيعُ مَنْ تولاه { وَنِعْمَ النصير } لا يُغلب مَنْ نصره .(3/114)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
{ واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم } عن الكلبي أنها نزلت ببدر وقال الواقدي : كان الخُمسُ في غزوة بني قينُقاع بعد بدر بشهر وثلاثةِ أيامٍ للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً من الهجرة ، وما موصولةٌ وعائدُها محذوفٌ أي الذي أصبتموه من الكفار عُنوةً وأصلُ الغنيمة إصابةُ الغَنَم من العدو ثم اتُسع وأُطلق على كل ما أصيب منهم كائناً ما كان ، وقوله تعالى : { مِن شَىْء } بيانٌ للموصول محلُّه النصبُ على أنه حالٌ من عائد الموصول قصد به الاعتناءُ بشأن الغنيمة وأن لا يشِذّ عنها شيءٌ أي ما غنِمتموه كائناً مما يقع عليه اسمُ الشيءِ حتى الخيطُ والمَخيطُ خلا أن سلَبَ المقتولِ للقاتل إذا نفّله الإمامُ وأن الأسارى يُخيَّر فيها الإمامُ وكذا الأراضي المغنومةُ ، وقوله تعالى : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ أي فحقٌّ أو واجب أن له تعالى خُمسَه ، وهذه الجملةُ خبرٌ لأنما الخ وقرىء بالكسر والأوُلى آكَدُ وأقوى في الأيجاب لِما فيه من تكرر الإسنادِ كأنه قيل : فلا بد من ثبات الخُمس ولا سبيل إلى الإخلال به ، وقرىء فلله خُمسُه وقرىء خمْسَه بسكون الميم والجمهورُ على أن ذكرَ الله تعالى للتعظيم كما في قوله تعالى : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } وأن المرادَ قسمةُ الخُمس على المعطوفِين عليه بقوله تعالى : { وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } وإعادةُ اللامِ في ذي القربى دون غيرِهم من الأصناف الثلاثة لدفع توهُّمِ اشتراكِهم في سهم النبي صلى الله عليه وسلم لمزيد اتصالِهم به عليه الصلاة والسلام وهم بنو هاشمٍ وبنو المطلب دون بني عبدِ شمس وبني نَوْفل لما روي عن عثمانَ وجبير بنِ مطعمٍ رضي الله عنهما أنهما قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هؤلاء إخوتُك بنو هاشم لا نُنكر فضلَهم لمكانك الذي جعلك الله منهم أرأيتَ إخوانَنا بني المطلب أعطيتَهم وحرمتنَا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة فقال صلى الله عليه وسلم : « إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام إنما بنو هاشمٍ وبنو المطلب شيءٌ واحد » وشبّك بين أصابعِه وكيفيةُ قسمِتها عندنا أنها كانت في عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم ، سهمٌ له عليه الصلاة والسلام وسهمٌ للمذكورين من ذوي قرباه ، وثلاثةُ أسهمٍ للأصناف الثلاثة الباقية وأما بعده صلى الله عليه وسلم فسهمُه ساقطٌ وكذا سهمُ ذوي القُربى وإنما يعطَوْن لفقرهم فهم أسوةٌ لسائر الفقراء ولا يُعطي أغنياؤهم فيقسم على الأصناف الثلاثة ، ويؤيده ما رُوي عن أبي بكر رضى الله عنه أنه منع بني هاشمٍ الخمسَ وقال : إنما لكم أن يُعطى فقيرُكم وتُزوَّجَ أيِّمُكم ويخدَمَ من لا خادم له منكم . ومن عداهم فهو بمنزلة ابنِ السبيل الغني لا يعطى من الصدقة شيئاً وعن زيد بن علي مثلُه قال : ليس بنا أن نبنيَ منه قصورا ولا نركَب منه البراذينَ وقيل : سهمُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم لوليّ الأمرِ بعده ، وأما عند الشافعيِّ رحمه الله فيقسم على خمسة أسهم : سهمٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم يُصرف إلى ما كان يصرِفه عليه الصلاة والسلام من مصالح المسلمين كعُدّة الغُزاة من الكُراعِ والسلاح ونحوِ ذلك ، وسهمٌ لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائِهم يُقسم بينهم للذكر مثلُ حظ الأنثيين والباقي للفِرَق الثلاث ، وعند مالك رحمه الله الأمرُ فيه مفوَّضٌ إلى اجتهاد الإمامِ إن رأى قسمَه بين هؤلاءِ وإن رأى أعطاه بعضاً منهم دون بعض وإن رأى غيرَهم أولى وأهمَّ فغيرُهم .(3/115)
وتعلق أبو العالية بظاهر الآية الكريمة فقال : يُقسم ستةَ أسهمٍ ويُصرف سهمُ الله تعالى إلى رتاج الكعبة لما روي ( أنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ منه قبضةً فيجعلها لمصالح الكعبة ثم يقسِمُ ما بقيَ على خمسة أسهمٍ ) وقيل : سهمُ الله لبيت المال وقيل : هو مضمومٌ إلى سهم الرسولِ عليه الصلاة والسلام هذا شأنُ الخمسِ وأما الأخماسُ الأربعةُ فتقسم بين الغانمين للراجل سهمٌ وللفارس سهمان عند أبي حنيفة رضى الله عنه وثلاثةُ أسهم عندهما رحمهما الله . قال القرطبيُّ : لما بين الله تعالى حكمَ الخمسِ وسكت عن الباقي دل ذلك على أنه ملك للغانمين وقوله تعالى : { إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُم بِاللهِ } متعلق بمحذوف ينبىء عنه المذكورُ أي إن كنتم آمنتم به تعالى فاعلموا أن الخمسَ من الغنيمة يجب التقربُ به إلى الله فاقطعوا أطماعَكم منه واقتنعوا بالأخماس الأربعة ، وليس المرادُ به مجردَ العلم بذلك بل العلمَ المشفوعَ بالعمل والطاعةِ لأمره تعالى .
{ وَمَا أَنزَلْنَا } عطف على الاسم الجليل أي إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلناه { على عَبْدِنَا } وقرىء عُبُدِنا وهو اسمُ جمعٍ أريد به الرسولُ عليه الصلاة والسلام والمؤمنون فإن بعضَ ما نزل نازلٌ عليهم بالذات كما ستعرفه { يَوْمَ الفرقان } يوم بدرٍ سمي به لفَرْقه بين الحقِّ والباطل ، وهو منصوبٌ بأنزلنا أو بآمنتم { يَوْمَ التقى الجمعان } أي الفريقان من المؤمنين والكافرين وهو بدلٌ من ( يومَ الفرقان ) أو منصوبٌ بالفرُقان ، والمرادُ ما أُنزل عليه عليه الصلاة والسلام يومئذٍ من الوحي والملائكةِ والفتحِ ، على أن المرادَ بالإنزال مجردُ الإيصالِ والتيسير فينتظم الكلَّ انتظاماً حقيقياً ، وجعلُ الإيمانِ بإنزال هذه الأشياءِ من موجبات العلم بكون الخُمس لله تعالى على الوجه المذكور من حيث أن الوحيَ ناطقٌ بذلك وأن الملائكةَ والفتحَ لمّا كانا من جهته تعالى وجب أن يكون ما حصل بسببهما من الغنيمة مصروفةً إلى الجهات التي عينها الله تعالى { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } يقدِر على نصر القليلِ على الكثير والذليلِ على العزيز كما فعل بكم ذلك اليوم .(3/116)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
{ إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدنيا } بدلٌ ثانٍ من ( يومَ الفرقان ) والعُدوةُ بالضم شطُّ الوادي وكذا بالفتح والكسر وقد قرىء بهما أيضاً { وَهُم بالعدوة القصوى } أي البُعدى من المدينة وهي تأنيثُ الأقصى وكان القياسُ قلبَ الواوِ ياءً كالدنيا والعليا مع كونهما من بنات الواو ، لكنها جاءت على الأصل كالقود واستُصوب وهو أكثرُ استعمالاً من القُصيا { والركب } أي العِيرُ أو قُوّادُها { أَسْفَلَ مِنكُمْ } أي في مكانٍ أسفلَ من مكانكم يعني الساحلَ وهو نصبٌ على الظرفية واقعٌ موقعَ الخبر والجملةُ حالٌ من الظرف قبله وفائدتُها للدلالة على قوة العدو واستظهارِهم بالركب وحِرصِهم على المقاتلة عنها وتوطينِ نفوسِهم على أن لا يُخْلوا مراكزَهم ويبذُلوا منتهى جهدِهم وضعفِ شأن المسلمين والتياثِ أمرِهم واستبعادِ غَلَبتِهم عادةً وكذا ذكرُ مراكزِ الفريقين ، فإن العُدوةَ الدنيا كانت رِخوةً تسوخُ فيها الأرجلُ ولا يمشى فيها إلا بتعب ولم يكن فيها ماءٌ بخلاف العُدوة القصوى وكذا قوله تعالى : { وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد } أي لو تواعدتم أنتم وهم القتالَ ثم علمتم حالَكم وحالَهم لاختلفتم أنتم في الميعاد هَيْبةً منهم ويأساً من الظفر عليهم ليتحققوا أن ما اتفق لهم من الفتح ليس إلا صُنعاً من الله عز وجل خارقاً للعادات فيزدادوا إيماناً وشكراً وتطمئن نفوسُهم بفرض الخُمس { ولكن } جمع بينكم على هذه الحال من غير ميعاد { لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } حقيقاً بأن يُفعل مِن نصْرِ أوليائِه وقهرِ أعدائِه ، أو مقدراً في الأزل وقوله تعالى : { لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيُحْىِ مِنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ } بدلٌ منه أو متعلقٌ بمفعولاً أي ليموتَ من يموتُ عن بينة عاينها ويعيشَ من يعيش عن بينة شاهدها لئلا يكونَ له حجةٌ ومعذرةٌ فإن وقعةَ بدرٍ من الآيات الواضحة أو ليصدُرَ كفرُ من كفر وإيمانُ من آمن عن وضوح بينةٍ على استعارة الهلاك والحياةِ للكفر والإيمان ، والمرادُ بمن هلك ومن حييَّ المشارفُ للهلاكِ والحياة أو مَنْ حالُه في علم الله تعالى الهلاكُ والحياة ، وقرىء ليهلَك بالفتح وحيِيَ بفك الإدغام حملاً على المستقبل { وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي بكفر من كفر وعقابِه وإيمانِ من آمن وثوابِه ، ولعل الجمعَ بين الوصفين لاشتمال الأمرين على القول والاعتقاد .(3/117)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
{ إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً } منصوبٌ باذكُرْ أو بدلٌ آخرُ من ( يومَ الفرقان ) أو متعلقٌ بعليم أي يعلم المصالحَ إذ يقلّلهم في عينك في رؤياك وهو أن تخبِرَ به أصحابَكم فيكونَ تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم { وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ } أي لجبُنتم وهِبتم الإقدام { ولتنازعتم فِى الامر } أي أمر القتال وتفرقتْ آراؤُكم في الثبات والقرار { ولكن الله سَلَّمَ } أي أنعم بالسلامة من الفشل والتنازعِ { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } يعلم ما سيكون فيها من الجراءة والجُبن والصبر والجزَعِ ولذلك دبّر ما دبر { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً } منصوبٌ بمضمر خوطب به الكلُّ بطريق التلوينِ والتعميم معطوفٌ على المضمر السابقِ ، والضميرانِ مفعولا يُري وقليلاً حالٌ من الثاني وإنما قللهم في أعين المسلمين حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه لمن إلى جنبه : أتراهم سبعين فقال : أراهم مائة تثبيتاً لهم وتصديقاً لرؤيا الرسولِ صلى الله عليه وسلم { وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ } حتى قال أبو جهل : إنما أصحابُ محمد أكلةُ جَزور . قللهم في أعينهم قبل التحامِ القتالِ ليجترئوا عليهم ولا يستعدّوا لهم ثم كثّرهم حتى رأوْهم مثليهم لِتُفاجِئَهم الكثرةُ فيُبهَتوا ويهابوا ، وهذه من عظائم آياتِ تلك الوقعةِ فإن البصرَ قد يرى الكثيرَ قليلاً والقليلَ كثيراً لكن لا على هذا الوجه ولا إلى هذا الوجهِ ولا إلى هذا الحد وإنما ذلك بصد الله تعالى الأبصارَ عن إبصار بعضٍ دون بعض مع التساوي في الشرائط { لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } كُرر لاختلاف الفعل المعلَّلِ به أو لأن المرادَ بالأمر ثَمةَ الالتقاءُ على الوجه المذكور وهاهنا إعزازُ الإسلام وأهلِه وإذلالُ الكفر وحِزبه { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور } كلُّها يصرِفها كيفما يريد لا رادَّ لأمره ولا مُعقّبَ لحُكمه وهو الحكيم المجيد .(3/118)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } صُدِّر الخطابُ بحرفي النداء والتنبيه إظهاراً لكمال الاعتناءِ بمضمون ما بعده { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً } أي حاربتم جماعةً من الكفرة وإنما لم يوصَفوا بالكفر لظهور أن المؤمنين لا يحارِبون إلا الكفَرة ، واللقاءُ مما غلبَ في القتال { فاثبتوا } أي للقائهم في مواطن الحربِ { واذكروا الله كَثِيراً } أي في تضاعيف القتالِ مستمدّين منه متسعينين به مستظهِرين بذكره مترقّبين لنصره { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي تفوزون بمرامكم وتظفَرون بمُرادكم من النُّصرة والمَثوبةِ ، وفيه تنبيهٌ على أن العبدَ ينبغي أن لا يشغَلَه شيءٌ عن ذكر الله تعالى وأن يلتجِيءَ عند الشدائد ويُقبلَ إليه بكليته فارغَ البال واثقاً بأن لطفَه لا ينفكّ عنه في حال من الأحوال { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } في كل ما تأتون وما تذرون فيندرج فيه ما أُمروا به هاهنا اندراجاً أولياً { وَلاَ تنازعوا } باختلاف الآراءِ كما فعلتم ببدر أو أحُد { فَتَفْشَلُواْ } جوابٌ للنهي وقيل : عطفٌ عليه { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } بالنصب عطفٌ على جواب النهي وقرىء بالجزم على تقدير عطفِ فتفشلوا على النهي أي تذهبَ دولتُكم وشَوْكتُكم فإنها مستعارةٌ للدولة من حيث إنها في تمشّي أمرِها ونفاذِه مشبهةٌ بها في هُبوبها وجَرَيانها . وقيل : المرادُ بها الحقيقةُ فإن النُصرةَ لا تكون إلا بريح يبعثها الله تعالى وفي الحديث « نُصِرتُ بالصَّبا وأُهكلتْ عادٌ بالدَّبور » { واصبروا } على شدائد الحرب { إِنَّ الله مَعَ الصابرين } بالنُصرة والكَلاءة وما يفهم من كلمة مع من أصالتهم إنما هي من حيث إنهم المباشرون للصبر فهم متّبعون من تلك الحيثية ، ومعيَّتُه تعالى إنما هي من حيث الإمدادُ والإعانة .
{ وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم } بعد ما أُمروا بما أُمروا به من أحاسن الأعمالِ ونُهوا عما يقابلها من قبائحها ، والمرادُ بهم أهلُ مكةَ حين خرجوا لحماية العِير { بَطَراً } أي فخراً وأشَراً { وَرِئَاء الناس } ليُئنوا عليهم بالشجاعة والسماحة ، وذلك أنهم لما بلغوا جَحفةَ أتاهم رسولُ أبي سفيان وقال : ارجِعوا فقد سلِمت عِيرُكم فأبَوا إلا إظهارَ آثارِ الجلادة فلقُوا ما لقوا حسبما ذُكر في أوائل السورةِ الكريمة فنُهي المؤمنون أن يكونوا أمثالَهم مرائين بطِرين وأُمروا بالتقوى والإخلاص من حيث إن النهيَ عن الشيء مستلِزمٌ للأمر بضده { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } عطفٌ على بطَر إن جُعل مصدراً في موضع الحال وكذا إن جُعل مفعولاً له لكن على تأويل المصدر { والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } فيجازيهم عليه .(3/119)
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم } منصوبٌ بمضمر خوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم بطريق التلوينِ ، أي واذكُر وقتَ تزيينِ الشيطانِ أعمالَهم في معاداة المؤمنين وغيرِها بأن وسوس إليهم { وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ } أي ألقَى في رُوعِهم وخيّل إليهم أنهم لا يُغلبون ولا يطاقون لكثرة عددِهم وعُددهم ، وأوهمهم أن اتّباعَهم إياه فيما يظنون أنها قُربات مجيرٌ لهم حتى قالوا : اللهمَّ انصُرْ إحدى الفئتين وأفضلَ الدينَين ، ولكم خبرُ ( لا غالب ) أو صفتُه وليس صلتَه ، وإلا لانتصب كقولك : لا ضارباً زيداً عندنا .
{ فَلَمَّا تَرَاءتِ الفئتان } أي تلاقى الفريقان { نَكَصَ على عَقِبَيْهِ } رجَع القهقرى أي بطل كيدُه وعاد ما خيَّل إليهم أنه مجيرُهم سبباً لهلاكهم { وَقَالَ إِنّي بَرِىء مّنْكُمْ إِنّي أرى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنّي أَخَافُ الله } أي تبرأ منهم وخاف عليهم ويئِس من حالهم لما رأى إمدادَ الله تعالى للمسلمين بالملائكة ، وقيل : لما اجتمعت قريشٌ على المسير ذَكَرت ما بينهم وبين كِنانةَ من الإحنةِ فكاد ذلك يَثْنيهم فتمثل لهم إبليسُ في صورة سُراقةَ بنِ مالك الكِناني وقال : لا غالبَ لكم اليوم من الناس وإني مجيرُكم من كِنانةَ فلما رأى الملائكةَ تنزِل نكَص وكان يدُه في يد الحارث بن هشام فقال له : إلى أين؟ أتخذُلنا في هذه الحالة فقال : إني أرى مالا ترون ودفع في صدر الحارثِ وانطلق فانهزموا فلما بلغوا مكةَ قالوا : هزَم الناسَ سراقةُ ، فبلغه ذلك فقال : والله ما شعَرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتُكم فلما أسلموا علِموا أنه الشيطانُ وعلى هذا يحتمل أن يكون معنى قولهِ : إني أخاف الله أخافه أن يُصيبَني بمكروه من الملائكة أو يُهلكَني ويكونُ الوقتُ هو الوقتُ الموعود إذ رأى فيه ما لم يرَه قبله ، والأول ما قاله الحسنُ واختاره ابن بحر { والله شَدِيدُ العقاب } يجوز أن يكون من كلامه أو مستأنفاً من جهة الله عز وجل .
{ إِذْ يَقُولُ المنافقون } منصوبٌ بزيّن أو بنكَص أو بشديد العقاب { والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي الذين لم تطمئن قلوبُهم بالإيمان بعد وبقيَ فيها نوعُ شُبهةٍ وقيل : هم المشركون وقيل : هم المنافقون في المدينة ، والعطفُ لتغايُر الوصفين كما في قوله :
يالهفَ زيابةَ للحارث الصابحِ فالغانم فالآيبِ ... { غَرَّ هَؤُلاء } يعنون المؤمنين { دِينَهُمُ } حتى تعرّضوا لما طاقةَ لهم به فخرجوا وهم ثلثُمائةٍ وبضعةَ عشرَ إلى زُهاء ألف { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله } جوابٌ لهم من جهته تعالى وردٌّ لمقالتهم { فَإِنَّ الله عَزِيزٌ } غالبٌ لا يذِلُّ من توكل عليه واستجار به وإن قلَّ { حَكِيمٌ } يفعل بحكمته البالغةِ ما تستبعده العقولُ وتحار في فهمه ألبابُ الفحول ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدِلالة المذكور عليه .(3/120)
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)
{ وَلَوْ تَرَى } أي ولو رأيتَ ، فإن لو الامتناعيةَ تردّ المضارعَ ماضياً كما أن إنْ تردّ الماضيَ مضارعاً ، والخطابُ إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحدٍ ممن له حظٌّ من الخطاب وقد مر تحقيقُه في قوله تعالى : { وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار } ( سورة الأنعام ، الآية 27 ) وكلمةُ إذ في قوله تعالى : { إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملئكة } ظرفٌ لترى والمفعولُ محذوفٌ أي ولو ترى الكفرةَ ، أو حالَ الكفرةِ حين يتوفاهم الملائكةُ ببدر ، وتقديمُ المفعولِ للاهتمام به ، وقيل : الفاعلُ ضميرٌ عائدٌ إلى الله عز وجل ، والملائكةُ مبتدأٌ وقوله تعالى : { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ } خبرُه ، والجملةُ حالُ من الموصول قد استُغني فيها بالضمير عن الواو ، وهو على الأول حالٌ منه أو من الملائكة أو منهما لاشتماله على ضميريهما { وأدبارهم } أي وأستاهَهم أو ما أَقبل منهم وما أَدبر من الأعضاء { وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } على إرادة القولِ معطوفاً على يضربون أو حالاً من فاعله أي ويقولون أو قائلين : ذوقوا بشارةً لهم بعذاب الآخرة وقيل : كانت معهم مقامِعُ من حديد كلما ضَربوا التهبت النارُ منها ، وجوابُ لو محذوفٌ للإيذان بخروجه عن حدود البيانِ أي لرأيتَ أمراً فظيعاً لا يكاد يوصف .
{ ذلك } إشارةٌ إلى ما ذكر من الضرب والعذابِ ، وما فيه من معنى البُعد للإشعار بكونهما في الغاية القاصيةِ من الهول والفظاعةِ ، وهو مبتدأٌ خبرُه { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } أي ذلك الضربُ واقعٌ بسبب ما كسبتم من الكفر والمعاصي ، ومحلُّ أن في قوله : { وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ } الرفعُ على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي والأمُر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنبٍ من قِبَلهم والتعبيرُ عن ذلك بنفي الظلمِ مع أن تعذيبَهم بغير ذنب ليس بظلم قطعاً على ما تقرر من قاعدة أهل السنة فضلاً عن كونه ظلماً بالغاً قد مر تحقيقُه في سورة آل عمران ، والجملُة اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لمضمون ما قبلها ، وأما ما قيل من أنها معطوفةْ على ما للدِلالة على أن سببيته مقيدةٌ بانضمامه إليه إذ لولاه لأمكن أن يعذبَهم بغير ذنوبِهم فليس ( ذلك ) بسديد لما أن إمكانَ تعذيبِه تعالى لعبيده بغير ذنب بل وقوعَه لا ينافي كونَ تعذيبِ هؤلاء الكفرةِ المعينة بسبب ذنوبِهم حتى يُحتاجَ إلى اعتبار عدمِه معه ، نعم لو كان المدعى كونَ جميعِ تعذيباتِه تعالى بسبب ذنوب المعذبين لاحتيج إلى ذلك .
{ كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ } في محل الرفع على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ والجملةُ استثنافٌ مَسوقٌ لبيان أن ما حل بهم من العذاب بسبب كفرِهم لا بشيء آخرَ ، من جهة غيرِهم بتشبيه حالِهم بحال المعرفين بالإهلاك بسبب جرائمِهم لزيادة تقبيحِ حالِهم وللتنبيه على أن ذلك سنةٌ مطردةٌ فيما بين الأمم المهلَكةِ أي شأنُهم الذي استمروا عليه مما فعلوا وفُعل بهم من الأخذ كدأب آل فرعونَ المشهورين بقباحة الأعمالِ وفظاعةِ العذابِ والنكال { والذين مِن قَبْلِهِمْ } أي من قبل آلِ فوعونَ من الأمم التي فعلوا من المعاصي ما فعلوا ولقُوا من العقاب ما لقُوا كقوم نوحٍ وعادٍ وأضرابِهم من أهل الكفر والعناد وقوله تعالى : { كَفَرُواْ بئايات الله } تفسيرٌ لدأبهم الذي فعلوه لا لدأب آلِ فرعونَ ونحوِهم كما قيل ، فإن ذلك معلومٌ منه بقضية التشبيهِ ، وقوله تعالى : { فَأَخَذَهُمُ الله } تفسيرٌ لدأبهم الذي فُعل بهم ، وإلقاءٌ لبيان كونِه من لوازم جناياتِهم وتبعاتِها المتفرِّعةِ عليها ، وقوله تعالى : { بِذُنُوبِهِمْ } لتأكيد ما أفاده الفاءُ من السببية مع الإشارةِ إلى أن لهم مع كفرهم ذنوباً أُخَرَ لها دخلٌ في استتباع العقابِ ، ويجوز أن يكون المرادُ بذنوبهم معاصيَهم المتفرِّعةَ على كفرهم فتكونُ الباءُ للملابسة أي فأخذهم متلبسين بذنوبهم غيرَ تائبين عنها فدأبُهم مجموعُ ما فعلوا وفُعل بهم لا ما فعلوه فقط كما قيل .(3/121)
قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن آلَ فرعون أيقنوا أن موسى عليه السلام نبيُّ الله فكذّبوه كذلك هؤلاء جاء محمدٌ صلى الله عليه وسلم بالصدق فكدبوه فأنزل الله تعالى بهم عقوبتَه كما أنزل بآل فرعونَ ، وجعلُ العذابِ من جملة دأبِهم مع أنه ليس مما يُتصوَّر مداومتُهم عليه واعتيادُهم إياه كما هو المعتبرُ في مدلول الدأبِ إما لتغليب ما فعلوه على ما فُعل بهم أو لتنزيل مداومتِهم على ما يوجبه من الكفر والمعاصي منزلةَ مداومتِهم عليه لما بينهما من الملابسة التامةِ ، وقوله تعالى : { إِنَّ الله قَوِىٌّ شَدِيدُ العقاب } اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله من الأخذ .(3/122)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)
وقوله تعالى : { ذلك } الخ استئنافٌ مَسوقٌ لتعليل ما يفيده النظمُ الكريمُ من كون ما حل بهم من العذاب منوطاً بأعمالهم السيئةِ غيرَ واقعٍ بلا سابقةِ ما يقتضيه وهو المشارُ إليه لا نفسُ ما حل بهم من العذاب والانتقام كما قيل ، فإنه مع كونه معللاً بما ذُكر من كفرهم وذنوبِهم لا يتصور تعليلُه بجريان عادتِه تعالى على عدم تغييرِ نعمتِه على قوم قبل تغييرِهم لحالهم وتوهُّمِ أن السببَ ليس ما ذكر كما هو منطوقُ النظم الكريم بل ما يستفاد من مفهوم الغايةِ من جريان عادتِه تعالى على تغيير نعمتِهم عند تغييرِ حالِهم بناءً على تخيل أن المعلِّلَ ترتبَ عقابِهم على كفرهم من غير تخلُّف عنه ركوبٌ شططٌ هائل وإبعادٌ عن الحق بمراحلَ ، وتهوينٌ لأمر الكفر بآيات الله وإسقاطٌ له عن رتبة إيجابِ العقاب في مقام تهويله والتحذيرِ منه ، فالمعنى ذلك أي ترتبُ العقاب على أعمالهم السيئة دون أن يقع ابتداءً مع قدرته تعالى على ذلك { بِأَنَّ الله } أي بسبب أنه تعالى { لَمْ يَكُ } في حد ذاتِه { مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا } أي لم ينْبغِ له سبحانه ولم يصِحَّ في حكمته أن يكون بحيث يغير نعمةً أنعم بها { على قَوْمٍ } من الأقوام أيَّ نعمةٍ كانت جلّت أو هانت { حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ } من الأعمال والأحوال التي كانوا عليها وقت ملابستِهم بالنعمة ويتصفوا بما ينافيها سواءٌ كانت أحوالُهم السابقةُ مرضيةً صالحة أو قريبةً من الصلاحِ بالنسبة إلى الحادثة كدأب هؤلاءِ الكفرةِ حيث كانوا قبل البعثةِ كفَرةً عبدةَ أصنامٍ مستمرِّين على حالة مصحِّحة لإفاضة نعمةِ الإمهال وسائر النعمِ الدنيوية عليهم فلما بُعث إليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالبينات غيّروها إلى أسوأَ منها وأسخطَ حيث كذبوه عليه الصلاة والسلام وعادوه ومن تبِعه من المؤمنين وتحزّبوا عليهم يبغونهم الغوائلَ فغيّر الله تعالى ما أنعم به عليهم من نعمة الإمهالِ وعاجلَهم بالعذاب والنَّكال ، وأصلُ يكُ يكن فحذُفت النونُ تخفيفاً لشبهها بالحروف اللينة { وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } عطفٌ على أن الله الخ داخلٌ معه في حيز التعليل أي وبسبب أنه تعالى سميع عليم يسمع ويعلم جميعَ ما يأتون وما يذرون من الأقوال والأفعالِ السابقةِ واللاحقة فيرتب على كل منها ما يليق بها من إبقاء النعمةِ وتغييرِها ، وقرىء وإن الله بكسر الهمزةِ فالجملةُ حينئذٍ استئنافٌ مقرر لمضمون ما قبلها .(3/123)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
وقوله تعالى : { كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ } في محل النصبِ على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي حتى يغيروا ما بأنفسهم تغييراً كائناً كدأبِ آلِ فرعونَ أي كتغييرهم على أن دأبهَم عبارةٌ عما فعلوه فقط كما هو الأنسبُ بمفهوم الدأبِ وقوله تعالى : { كَذَّبُواْ بآيات رَبّهِمْ } تفسيرٌ بتمامه وقوله تعالى : { فأهلكناهم } إخبارٌ بترتب العقوبةِ عليه لا أنه من تمام تفسيرِه ، ولا ضيرَ في توسط قوله تعالى : { وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } بينهما كما مر نظيرُه في سورة آل عمرانَ حيث جوّزوا انتصابَ محلِّ الكافِ بلن تغنيَ مع ما بينهما من قوله تعالى : { وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النار } وهذا على تقدير عطفِ الجملةِ على ما قبلها وأما على تقدير كونِها اعتراضاً فلا غبارَ في توسطها قطعاً وقيل : في محل الرفعِ على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ كما قبله فالجملة حينئذٍ استئنافٌ آخَرُ مَسوقٌ لتقرير ما سبق له الاستئنافُ الأول بتشبيه دأبِهم بدأب المذكورين لكن لا بطريق التكرير المحضِ بل بتغيير العُنوانِ ، وجعل الدأبِ في الجانبين عبارةً عما يلازم معناه الأول من تغيير الحالِ وتغييرِ النعمة أخذاً مما نطق به قوله تعالى : { ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً } الآية ، أي دأبُ هؤلاء وشأنُهم الذي هو عبارةٌ عن التغييرَيْن المذكورين كدأب أولئِك حيث غيّروا حالهم فغير الله تعالى نعمتَه عليهم فقوله تعالى : { كَذَّبُواْ بآيات رَبّهِمْ } تفسير لدأبهم الذي فعلوه من تغيير لحالهم ، وقوله تعالى { فأهلكناهم } تفسيرٌ لدأبهم الذي فُعل بهم من تغييره تعالى ما بهم من نعمته ، وأما دأبُ قريشٍ فمستفادٌ منه بحكم التشبيهِ فلله درُّ شأنِ التنزيل حيث اكتَفى في كل من التشبيهين بتفسير أحدِ الطرفين .
وإضافة الآياتِ إلى الرب المضافِ إلى ضميرهم لزيادة تقبيحِ ما فعلوا بها من التكذيب ، والالتفاتُ إلى نون العظمةِ في أهلكنا جرياً على سَنن الكِبرياء لتهويل الخطبِ ، والكلامُ في الفاء وفي قوله تعالى : { بِذُنُوبِهِمْ } كالذي مر ، وعطفُ قوله تعالى : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ } على أهلكنا مع اندراجه تحته للإيذان بكمال هولِ الإغراقِ وفظاعتِه كعطف جبريلَ عليه السلام على الملائكة { وَكُلٌّ } أي وكلٌّ من الفِرَق المذكورين أو كلٌّ من هؤلاء وأولئك أو كلٌّ من غرقى القِبط وقتلى قريشٍ { كَانُواْ ظَالِمِينَ } أي أنفسَهم بالكفر والمعاصي حيث عرَّضوها للهلاك أو واضعين للكفر والتكذيب مكانَ الإيمانِ والتصديق ولذلك أصابهم ما أصابهم .(3/124)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
{ يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدواب } بعد ما شرَح أحوال المهلَكين من شرار الكَفَرة شرَع في بيان أحوالِ الباقين منهم وتفصيلِ أحكامِهم .
وقوله تعالى : { عَندَ الله } أي في حكمه وقضائه { الذين كَفَرُواْ } أي أصروا على الكفر ولجّوا فيه ، جُعلوا شرَّ الدوابِّ لا شرَّ الناسِ إيماءً إلى أنهم بمعزل من مجانستهم وإنما هم من جنس الدوابِّ ومع ذلك شرٌّ من جميع أفرادِها حسبما نطقَ به قوله تعالى : { إِنْ هُمْ إِلاَّ كالانعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ } ( سورة الفرقان ، الآية 44 ) وقوله تعالى : { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } حكمٌ مترتبٌ على تماديهم في الفكر ورسوخِهم فيه وتسجيلٌ عليهم بكونهم من أصل الطبع لا يَلْويهم صارفٌ ولا يثنيهم عاطفٌ أصلا جيء به على وجه الاعتراضِ لا أنه عطفٌ كفروا داخلٌ معه في حيز الصلةِ التي لا حكمَ فيه بالفعل ، وقوله تعالى : { الذين عاهدت مِنْهُمْ } بدلٌ من الموصول الأولِ أو عطفُ بيانٍ له أو نصبٌ على الذم أي عاهدتَهم ، ومِنْ للإيذان بأن المعاهدَة التي هي عبارةٌ عن إعطاء العهدِ وأخذه من الجانبين معتبرةٌ هاهنا من حيث أخذُه عليه الصلاة والسلام عهدَهم إذ هو المناطُ لقباحة ما نُعيَ عليهم من النقض لا إعطاؤُه عليه الصلاة والسلام إياهم عهدَه كأنه قيل : الذين أخذت منهم عهدَهم ، وقيل : هي للتبعيض لأن المباشِرَ بالذات للعهد بعضُهم لا كلُّهم { ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ } عطفٌ على عاهدتَ داخلٌ معه في حكم الصلةِ ، وصيغة الاستقبالِ للدِلالة على تجدّد النقضِ وتعدُّدِه وكونِهم على نيته في كل حالٍ ، أي ينقضون عهدَهم الذي أخذتَه منهم { فِي كُلّ مَرَّةٍ } أي من مرات المعاهدةِ إذ هي التي يُتوقعُ فيها عدمُ النقضِ ويُستقبح وجودُه لا من مرات المحاربة كما قيل إذ لا يتوقع فيها عدمُ النقضِ بل لا يُتصور أصلاً حتى يُستقبَح فيها وجودُه لكونها مَظِنةً لعدمه ، فلا فائدةَ في تقييد النقضِ بالوقوع في كل مرةٍ من مراتها بل لا صِحةَ له قطعاً لأن النقضَ لا يتحقق إلا في المرة الواردةِ على المعاهدة لا في المرات الواقعةِ بعدها بلا معاهدة ، ولئن سلم أن المرادَ هي المراتُ الواقعةُ إثرَ المعاهدةِ يبقى النقضُ الواقعُ بلا محاربةٍ كبيع السلاحِ ونحوه خارجاً من البيان ، ولئن عُدّ ذلك من المحاربة فلا محيصَ من لزوم خلوِّ الكلامِ عن الفائدة بالمرة لأن المحاربةَ بهذا المعنى عينُ النقضِ فيؤولُ الأمرُ إلى أن يقال : ينقضون عهدَهم في كل مرةٍ من مرات النقض ، وحملُ المحاربةِ على محاربة غيرهِم ليكونَ المعنى ينقضون عهدَهم في كل مرة من مرات محاربة الأعداءِ مع كونه في غاية البُعد والركاكة يستلزِمُ خروجَ بدئِهم بالنقض من البيان { وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } حالٌ من فاعل ينقضون أي يستمرون على النقض والحالُ أنهم لا يتقون سُبّةَ الغدرِ ولا يبالون بما فيه من العار والنار ، وقوله تعالى : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ } شروعٌ في بيان أحكامِهم بعد تفصيلِ أحوالِهم والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي فإذا كان حالُهم كما ذكر فإمّا تصادِفَنَّهم وتظفَرَنَّ بهم { فِى الحرب } أي في تضاعيفهم { فَشَرّدْ بِهِم } أي ففرِّقْ عن مناصبتك تفريقاً عنيفاً موجباً للاضطرار والاضطراب ونكِّلْ عنها بأن تفعل بهم من النِكاية والتعذيبِ ما يوجب أن تُنَكّل { مّنْ خَلْفِهِمْ } أي مَنْ وراءَهم من الكفرة ، وفيه إيماءٌ إلى أنهم بصدد الحرب قريبٌ من هؤلاء ، وقرىء شرِّذْ بالذال المعجمةِ ، ولعله مقلوبُ شذِّر بمعنى فرق ، وقرىء مِنْ خلفِهم أي افعلِ التشريدَ من ورائهم ، والمعنى واحدٌ لأن إيقاعَ التشريد في الوراء لا يتحقّقُ إلا بتشريد مَنْ وراءَهم { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } يتعظون بما شاهدوا مما نزل بالناقضِين فيرتدعوا عن النقض أو عن الكفر .(3/125)
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
وقوله تعالى : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً } بيانٌ لأحكام المشرِفين إلى نقض العهدِ إثرَ بيانِ أحكامِ الناقضين له بالفعل ، والخوفُ مستعارٌ للعلم أي وإما تعلَمنَّ من قوم من المعاهِدين نقضَ عهدٍ فيما سيأتي بما لاح لك منهم من دلائلِ الغدرِ ومخايلِ الشر { فانبذ إِلَيْهِمْ } أي فاطرَح إليهم عهدَهم { على سَوَاء } على طريق مستوٍ قَصْدٍ بأن تُظهر لهم النقصَ وتُخبِرَهم إخباراً مكشوفاً بأنك قد قطعتَ ما بينك وبينهم من الوصلة ولا تناجِزْهم الحربَ وهم على توهم بقاءِ العهدِ كيلا يكونَ من قِبَلك شائبةُ خيانةٍ أصلا فالجارُّ متعلقٌ بمحذوف هو حالٌ من النابذ أي فانِبذْ إليهم ثابتاً على سواءٍ وقيل : على استواءٍ في العلم بنقض العهدِ بحيث يستوى فيه أقصاهم وأدناهم ، أو تستوى فيه أنت وهم فهو على الأول حالٌ من المنبوذ إليهم وعلى الثاني من الجانبين { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين } تعليلٌ للأمر بالنبذ إما باعتبار استلزامِه للنهي عن المناجزة التي هي خيانةٌ فيكونُ تحذيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم منها وإما باعتبار استتباعِه للقتال بالآخرة فيكونُ حثاً له عليه الصلاة والسلام على النبذ أولاً وعلى قتالهم ثانياً ، كأنه قيل : وإما تعلَمنَّ من قوم خيانةً فانبذْ إليهم ثم قاتِلْهم إن الله لا يحب الخائنين وهم من جملتهم لما علمت من حالهم .
{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ } أي أنفسَهم فحُذف للتكرار وقوله تعالى { سَبَقُواْ } أي فاتوا وأفلتوا من أن يُظفَرَ بهم مفعولٌ ثانٍ ليحسبن والمرادُ إقناطُهم من الخلاص وقطعُ أطماعِهم الفارغةِ من الانتفاعِ بالنبذ والاقتصارِ على دفع هذا التوهمِ مع أن مقاومةَ المؤمنين بل الغلبةَ عليهم أيضاً مما تتعلق به أمانيهم الباطلةُ للتنبيه على أن ذلك مما لا يحوم حوله وهمُهم وحُسبانُهم وإنما الذي يمكن أن يدورَ في خلدهم حسبانُ المناصِ فقط ، وقيل : الفعلُ مسندٌ إلى أحد أو إلى مَنْ خلفهم والمفعولُ الأولُ الموصولُ المتناولُ لهم أيضاً وقيل : هو الفاعلُ وأنْ محذوفةٌ مِنْ سبقوا ، وهي مع ما في حيزها سادةٌ مسدَّ المفعولين ، والتقديرُ ولا يحسبن الذين كفروا أنْ سبقوا ويعضُده قراءة من قرأ أنهم سبقوا ونظيرُه في الحذف قوله تعالى : { وَمِنْ ءاياته يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً } وقولُه تعالى : { أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ } الآية ، قاله الزجاج وقرىء بالتاء على خطاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهي قراءة واضحة وقرىء ولا تحسبن الذين بكسر الباء وبفتحها على حذف النون الخفيفة وقوله تعالى { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } أي لا يفوتون ولا يجدون طالبَهم عاجزاً عن إدراكهم ، تعليلٌ للنهي على طريقة الاستئنافِ ، وقرىء بفتح الهمزة على حذف لام التعليلِ ، وقيل : الفعلُ واقعٌ عليه ولا زائدةٌ ، وسبَقوا حالٌ بمعنى سابقين أي مُفْلتين هاربين وهذا على قراءة الخطاب لإزاحة ما عسى يُحذر من عاقبة النبذِ لِما أنه إيقاظٌ للعدو وتمكينٌ لهم الهرب والخلاصِ من أيدي المؤمنين وفيه نفيٌ لقدرتهم على المقاومة والمقابلة على أبلغ وجهٍ وآكَدِه كما أشير إليه ، وقيل : نزلت فيمن أفلت من فَلِّ المشركين وقرىء لا يعجزونِ بكسر النون ولا يعجزونِّ بالتشديد .(3/126)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
{ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ } توجيهُ الخطاب إلى المؤمنين لما أن المأمورَ به من وظائف الكلِّ كما أن توجيهَه فيما سبق وما لحِق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكون ما في حيزه من وظائفه عليه الصلاة والسلام أي أعِدّوا لقتال الذين نُبذ إليهم العهدُ وهيِّئوا لحِرابهم أو لقتال الكفار على الإطلاق وهو الأنسبُ بسياق النظمِ الكريم { مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ } من كل ما يُتقوَّى به في الحرب كائناً ما كان وعن عقبةَ بن عامرٍ رضي الله عنه سمعتُه عليه الصلاة والسلام يقول على المنبر : « ألا إن القوةَ الرميُ » قالها ثلاثاً . ولعل تخصيصَه عليه الصلاة والسلام إياه بالذكر لإنافته على نظائره من القُوى { وَمِن رّبَاطِ الخيل } الرباطُ اسمٌ للخيل التي ترُبط في سبيل الله تعالى فِعال بمعنى مفعول أو مصدرٌ سميت هي به يقال : رَبَط ربطاً ورِباطاً ورابط مُرابطة ورِباطاً ، أو جمعُ رَبيطٍ كفصيل وفصال ، أو جمع رَبْطٍ ككعْبٍ وكَعاب وكلب وكلاب ، وقرىء رُبُط الخيل بضم الباء وسكونها جمع رباط ، وعطفُها على القوة مع كونها من جملتها للإيذان بفضلها على بقية أفرادِها كعطف جبريلَ وميكائيلَ على الملائكة { تُرْهِبُونَ بِهِ } أي تخوّفون وقرىء تُرهّبون بالتشديد وقرىء تُخزون به والضميرُ لما استطعتم أو للإعداد وهو الأنسبُ ومحلُّ الجملةِ النصبُ على الحالية من فاعل أعدوا مرهِبين به أو من الموصول أو من عائده المحذوفِ أي أعدوا ما استطعتموه مُرهَباً به { عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } وهم كفارُ مكة خُصّوا بذلك من بين الكفار مع كون الكلِّ كذلك لغاية عتوِّهم ومجاوزتِهم الحدَّ في العداوة { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا } من غيرهم من الكفرة وقيل : هم اليهودُ وقيل : المنافقون وقيل : الفرسُ { لاَ تَعْلَمُونَهُمُ } أي لا تعرفونهم بأعيانهم أو لا تعلمونهم كما هم عليه من العداوة وهو الأنسبُ بقوله تعالى : { الله يَعْلَمُهُمْ } أي لا غيرُه تعالى أيضاً : { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء } لإعداد العَتادِ قلَّ أو جل : { فِى سَبِيلِ الله } الذي أوضحه الجهاد { يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } أي جزاؤه كاملاً { وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } بترك الإثابة أو بنقض الثوابِ ، والتعبيرُ عن تركها بالظلم مع أن الأعمالَ غيرُ موجبةٍ للثواب حتى يكون تركُ ترتيبِه عليها ظلماً لبيان كمالِ نزاهتِه سبحانه عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدورُه عنه تعالى من القبائح ، وإبرازُ الإثابةِ في معرِضِ الأمور الواجبةِ عليه تعالى كما مر في تفسير قولِه تعالى : { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ } { وَإِن جَنَحُواْ } الجُنوحُ الميلُ ومنه الجنَاح ويعدّى باللام وبإلى ، أي إن مالوا { لِلسَّلْمِ } أي للصلح بوقوع الرهبةِ في قلوبهم بمشاهدة ما بكم من الاستعدادِ وإعتادِ العتاد { فاجنح لَهَا } أي للسلم ، والتأنيثُ لحمله على نقيضه قال :
السِّلمُ تأخذ منها ما رضيتَ به ... والحربُ يكفيكَ من أنفاسها جُرَعُ
وقرىء فاجنُحْ بضم النون { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } ولا تخَفْ أن يُظهروا لك السلمَ وجوانحُهم مطويةٌ على المكر والكيد { أَنَّهُ } تعالى { هُوَ السميع } فيسمع ما يقولون في خلواتهم من مقالات الخِداع { العليم } فيعلم نياتِهم فيؤاخذهم بما يستحقونه ويردُّ كيدَهم في نحرهم والآيةُ خاصّةٌ باليهود وقيل : عامة نسختها آيةُ السيف .(3/127)
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
{ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ } بإظهار السلم وإبطالِ الحراب { فَإِنَّ حَسْبَكَ الله } أي فاعلم بأن محسبك الله من شرورهم وناصرُك عليهم { هُوَ الذى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ } تعليلٌ لكفايته تعالى إياه عليه الصلاة والسلام بطريق الاستئنافِ ، فإن تأييدَه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام فيما سلف على ما ذكر من الوجه البعيدِ من الوقوع من دلائل تأييدِه تعالى فيما سيأتي أي هو الذي أيدك بإمداد مِنْ عنده بلا واسطة كقوله تعالى : { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } أو بالملائكة مع خَرقه للعادات { وبالمؤمنين } من المهاجرين والأنصار { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } مع ما كان بينهم قبل ذلك من العصبية والضغينة والتهالُك على الانتقام بحيث لا يكاد يأتلف فيهم قلبان حتى صاروا بتوفيقه تعالى كنفس واحدة ، وهذا من أبهر معجزاتِه عليه الصلاة والسلام { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الارض جَمِيعاً } أي لتأليف ما بينهم { مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } استئنافٌ مقررٌ لما قبله ومبين لعزة المطلبِ وصعوبةِ المأخذ أي تناهي التعادي فيما بينهم إلى حد لو أنفقٌ منفقٌ في إصلاح ذاتِ البين جميعَ ما في الأرض من الأموال والذخائر لم يقدِرْ على التأليف والإصلاحِ ، وذكرُ القلوب للإشعار بأن التأليفَ بينها لا يتسنى وإن أمكن التأليفُ ظاهراً { ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } قلباً وقالَباً بقدرته الباهرة { إِنَّهُ عَزِيزٌ } كاملُ القدرةِ والغلبة لا يستعصي عليه شيءٌ مما يريده { حَكِيمٌ } يعلم كيفيةَ تسخيرِ ما يريده وقيل : الآيةُ في الأوس والخزرج كان بينهم إِحَنٌ لا أمدَ لها ووقائعُ أفنت ساداتِهم وأعاظِمَهم ودقت أعناقَهم وجماجمَهم فأنسى الله عز وجل جميع ذلك وألف بينهم بالإسلام حتى تصافَوا وأصبحوا يرمون عن قوس واحدة وصاروا أنصاراً .
{ ياأيها النبى } شروعٌ في بيان كفايتِه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام في مادة خاصةٍ وتصديرُ الجملة بحرفي النداءِ والتنبيهِ للتنبيه على مزيد الاعتناءِ بمضمونها ، وإيرادهُ عليه الصلاة والسلام بعنوان النبوة للإشعار بعليتها للحكم { حَسْبَكَ الله } أي كافيك في جميع أمورِك أو فيما بينك وبين الكفرة من الحِراب { وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } في محل النصبِ على أنه مفعولٌ معه أي كفاك وكفي أتباعَك الله ناصراً كما في قول من قال :
فحسبُك والضحّاكَ عضْبٌ مهندُ ... وقيل : في موضع الجر عطفاً على الضمير كما هو رأيُ الكوفيين أي كافيك وكافيهم أو في محل الرفعِ عطفاً على اسم الله تعالى أي كفاك الله والمؤمنين والآيةُ نزلت في البيداء في غزوة بدرٍ قبل القتالِ . وقيل : أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثةٌ وثلاثون رجلاً وستُّ نسوةٍ ثم أسلم عمرُ رضى الله عنه فنزلت ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في إسلام عمر رضي الله عنه .(3/128)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)
{ ياأيها النبى } بعد ما بين كفايتَه إياهم بالنصر والإمدادِ أُمر عليه الصلاة والسلام بترتيب مبادي نصرِه وإمدادِه وتكريرُ الخطاب على الوجه على المذكور لإظهار كمالِ الاعتناءِ بشأن المأمور به { حَرّضِ المؤمنين عَلَى القتال } أي بالِغْ في حثّهم عليه وترغيبِهم فيه بكل ما أمكن من الأمور المرغّبة التي أعظمُها تذكيرُ وعدِه تعالى بالنصر وحُكمُه بكفايته تعالى أو بكفايتهم وأصلُ التحريضِ الحَرَضُ وهو أن ينهكه المرضُ حتى يُشفيَ على الموت وقال الراغب : كأنه في الأصل إزالةُ الحَرَض وهو ما لا خير فيه ولا يعتد به قلت : فالأوجهُ حينئذ أن يُجعل الحرَضُ عبارةً عن ضعف القلب الذي هو من باب نَهْكِ المرض ، وقيل : معنى تحريضِهم تسميتُهم حرضاً بأن يقال : إني أراك في هذا الأمر حَرَضاً أي محرّضاً فيه لتهييجه إلى الأقدام وقرىء حرِّص بالصاد المهملة وهو واضح .
{ إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } وعدٌ كريمٌ منه تعالى بتغليب كلِّ جماعةٍ من المؤمنين على عشرة أمثالِهم بطريق الاستئنافِ بعد الأمر بتحريضهم ، وقوله تعالى : { وَإِن يَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا } مع انفهام مضمونِه مما قبله لكون كل منهما عدةً بتأييد الواحدِ على العشرة لزيادة التقريرِ المفيدةِ لزيادة الاطمئنان على أنه قد يجري بين الجمعين القليلين ما لا يجري بين الجمعين الكثيرين مع أن التفاوتَ فيما بين كلَ من الجمعين القليلين والكثيرين على نسبة واحدة فبيّن أن ذلك لا يتفاوت في الصورتين وقوله تعالى : { مّنَ الذين كَفَرُواْ } بيانٌ للألف وهذا القيدُ معتبرٌ في المِائتين أيضاً وقد تُرك ذكرُه تعويلاً على ذكره هاهنا كما ترك قيدُ الصبر هاهنا مع كونه معتبراً حتماً ثقةً بذكره هناك { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } متعلق بيغلبوا أي بسبب أنهم قومُ جَهلةٌ بالله تعالى وباليوم الآخر لا يقاتلون احتساباً وامتثالاً بأمر الله تعالى وإعلاءً لكلمته وابتغاءً لرضوانه كما يفعله المؤمنون وإنما يقاتلون للحمية الجاهليةِ واتّباعِ خطواتِ الشيطانِ وإثارةِ ثائرةِ البغي والعُدوانِ فلا يستحقون إلا القهرَ والخِذلانَ ، وأما ما قيل من أن مَنْ لا يؤمن بالله واليوم الآخِر لا يؤمن بالميعاد فالسعادةُ عنده ليست إلا هذه الحياة الدنيوية فيشِحّ بها ولا يعرِّضها للزوال بمزاولة الحروبِ واقتحامِ مواردِ الخطوب فيميل إلى ما فيه السلامةُ فيفِر فيُغلب ، وأما من اعتقد أن لا سعادةَ في هذه الحياة الفانية وإنما السعادةُ هي الحياةُ الباقيةُ فلا يبالي بهذه الحياةِ الدنيا ولا يقيم لها وزناً فيُقدم على الجهاد بقلب قوي وعزمٍ صحيحٍ فيقوم الواحدُ من مثله مقامُ الكثير فكلامٌ حقٌّ لكنه لا يلائم المقام .(3/129)
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)
{ الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } لمّا كان الوعدُ السابقُ متضمناً ألا يجابَ مقاومةُ الواحد للعشرة وثباتُه لهم كما نقل عن ابن جريج أنه كان عليهم أن لا يفِرّوا ويثبُتَ الواحدُ للعشرة وقد بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حمزةَ في ثلاثين راكباً فلقي أبو جهل في ثلمثمائة راكبٍ فهزمهم ثقُل عليهم ذلك وضجّوا منه بعد مدة فنُسخ وخُفف عنهم بمقاومة الواحدِ للاثنين وقيل : قلةٌ في الابتداء ثم لما كثُروا نزل التخفيفُ والمرادُ بالضعف ضعفُ البدنِ وقيل : ضعفُ البصيرةِ وكانوا متفاوتين في الاهتداء إلى القتال لا الضعفِ في الدين كما قيل ، وقرىء ضُعفاً بضم الضاد وهي لغةٌ فيه كالفَقر والفُقر والمَكْث والمُكث وقيل : الضعفُ بالفتح ما في الرأي والعقل ، وبالضم ما في البدن وقرىء ضُعفاءَ جمعُ ضعيف والمرادُ بعلمه تعالى بضعفهم علمه تعالى به من حيث هو متحققٌ بالفعل لا علمُه تعالى به مطلقاً كيف لا وهو ثابتٌ في الأزل ، وقوله تعالى : { فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } تفسيرٌ للتخفيف وبيانٌ لكيفيته وقرىء ( تكن ) هاهنا وفيما سبق بالتاء الفوقانية { وَإِن يَكُن مّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله } أي بتيسيره وتسهيلِه وهذا القيدُ معتبرٌ فيما سبق من غلبة المائةِ المائتين والألفِ وغلبة العشرين المائتين كما أن قيد الصبرِ معتبرٌ هاهنا وإنما تُرك ذكرُه ثقةً بما مر وبقوله تعالى { والله مَعَ الصابرين } فإنه اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ لمضمون ما قبله والمرادُ بالمعية معيَّةُ نصرِه وتأييدِه ، ولم يُتعرَّض هاهنا لحال الكفرةِ من الخذلان كما لم يتعرض هناك لحال المؤمنين مع أن مدارَ الغلبة في الصورتين مجموعُ الأمرين أعني نصرَ المؤمنين وخذلانَ الكفرةِ اكتفاءً بما ذُكر في كل مقامٍ عما ترك في المقام الآخر وما تشعرُ به كلمةُ مع من متبوعية مدخولِها لأصالتهم من حيث إنهم المباشرون للصبر كما مر مراراً .
{ مَا كَانَ لِنَبِىٍّ } وقرىء للنبي على العهد والأولُ أبلغُ لما فيه من بيان أن ما يذكر سنةٌ مطردة فيما بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أي ما صح وما استقام لنبيَ من الأنبياء عليهم السلام { أَن يَكُونَ لَهُ أسرى } وقرىء بتأنيث الفعلِ وأُسارى أيضاً { حتى يُثْخِنَ فِي الارض } أي يُكثر القتلَ ويبالغَ فيه حتى يذِل الكفرُ ويقِلُ حزبُه ويعِزّ الإسلامُ ويستوليَ أهلُه ، من أثخنه المرَضُ والجُرحُ إذا أثقله وجعله بحيث لا حَراك به ولا براحَ ، وأصلُه الثخانةُ التي هي الغِلَظ والكثافة وقرىء بالتشديد للمبالغة { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا } استئنافٌ مَسوقٌ للعتاب أي تريدون حُطامَها يأخذكم الفداءَ وقرىء يريدون بالياء { والله يُرِيدُ الاخرة } أي يريد لكم ثوابَ الآخرة الذي لا مقدار عنده للدنيا وما فيها أو يريد سببَ نيلِ الآخرة من إعزاز دينِه وقمعِ أعدائِه وقرىء بجر الآخرةِ على إضمار المضاف كما في قوله :(3/130)
أكلَّ امرىء تحسبين أمرا ... ونارٍ تَوقَّدُ بالليل ناراً
{ والله عَزِيزٌ } يغلّب أولياءَه على أعدائه { حَكِيمٌ } يعلم ما يليق بكل حال ويخصصه بها كما أمر بالإثخان ونهى عن أخذ الفداء حين كانت الشوْكةُ للمشركين وخيّر بينه وبين المنِّ بقوله تعالى : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } لما تحولت الحال وصارت الغلبةُ للمؤمنين . روي ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتيَ بسبعين أسيراً فيهم العباسُ وعقيل بنُ أبي طالب فاستشار فيهم فقال أبو بكر : قومُك وأهلك استَبْقِهم لعل الله يتوب عليهم وخُذ منهم فديةً تقوِّي أصحابَك ، وقال عمر : اضرِبْ فلنضرِبْ أعناقَهم فإنهم أئمةُ الكفر والله أغناك من الفداء ، مكّنْ علياً من عقيلٍ وحمزةَ من العباس ، ومكني من فلان نسيبٍ له فلنضرِب أعناقَهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : « إن الله ليُلين قلوبَ رجالٍ حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشدد قلوبَ رجالٍ حتى تكون أشدَّ من الحجارة وإن مثلَك يا أبا بكر مثلُ إبراهيم قال : فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ومثلُك يا عمرُ مثل نوحٍ قال : ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين دياراًَ » فخيّر أصحابَه فأخذوا الفداء فنزلت فدخل عمرُ رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال : يا رسولَ الله أخبرني فإني إن وجدت بكاءً بكَيْتُ وإلا تباكيتُ فقال : « أبكي على أصحابك في أخذهم الفداءَ ولقد عُرِضَ على عذابُهم أدنى هذه الشجرةِ » لشجرة قريبةِ منه وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال : « لو نزل عذابٌ من السماء لما نجا غيرُ عمرَ وسعدُ بنُ معاذ » وكان هو أيضاً ممن أشار بالإثخان .(3/131)
لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
{ لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ } أي لولا حكمٌ منه تعالى سبق إثباتُه في اللوح المحفوظِ وهو أن لا يعاقبَ المخطىءَ في اجتهاده أو أن لا يعذب أهلَ بدر أو قوماً لم يصرِّح لهم بالنهي ، وأما أن الفدية التي أخذوها ستحِل لهم فلا يصلح أن يعد من موانع مساسِ العذاب فإن الحِلَّ اللاحقَ لا يرفع حكمَ الحرمةِ السابقة كما أن الحرمةَ اللاحقة كما في الخمر مثلاً لا ترفع حكمَ الإباحةِ السابقة على أنه قادحٌ في تهويل ما نُعي عليهم من أخذ الفداء { لَمَسَّكُمْ } أي لأصابكم { فِيمَا أَخَذْتُمْ } أي لأجل ما أخذتم من الفداء { عَذَابٌ عظِيمٌ } لا يقادَر قدرُه .
{ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ } رُوي أنهم أمسكوا عن الغنائم فنزلت قالوا : الفاء لترتيب ما بعدها على سبب محذوفٍ أي قد أبحت لكم الغنائمَ فكلوا ما غنمتم والأظهر أنها للعطف على مقدر يقتضيه المقامُ أي دعوه فكلوا مما غنمتم وقيل : ما عبارة عن الفدية فإنها من جملة الغنائم ويأباه سباقُ النظمِ الكريم وسياقُه { حلالا } حال من المغنوم أو صفةٌ للمصدر أي أكلاً حلالاً وفائدتهُ الترغيبُ في أكلها وقوله تعالى : { طَيّباً } صفةٌ لحلالاً مفيدةٌ لتأكيد الترغيبِ { واتقوا الله } أي في مخالفة أمرِه ونهيِه { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فيغفرُ لكم ما فرَط منكم من استباحة الفداءِ قبل ورود الإذنِ فيه ويرحمُكم ويتوبُ عليكم إذا اتقيتموه { ياأيها النبى قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم } أي في مِلكتكم كأن أيديَكم قابضةٌ عليهم { مّنَ الاسرى } وقرىء من الأُسارى { إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً } خلوصَ إيمانٍ وصحةَ نيةٍ { يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ } من الفداء ، وقرىء أخَذَ على البناء للفاعل . روي أنها نزلت في العباس كلفه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يَفدِيَ ابني أخيه عَقيلَ بن أبي طالب ونوفلَ بنَ الحارث فقال : يا محمد تركتَني أتكفف قريشاً ما بقِيتُ فقال له عليه الصلاة والسلام : " فأين الذهبُ الذي دفعتَه إلى أم الفضلِ وقت خروجِك من مكة وقلت لها : ما أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدثٌ فهو لك ولعبد اللَّه وعبيد اللَّه والفضلِ " فقال العباس : ما يدريك؟ فقال : «أخبرني به ربي» ، قال العباس : فأنا أشهد أنك صادقٌ وأن لا إله إلا الله وأنك عبدُه ورسوله ، والله لم يطلعْ عليه أحدٌ إلا الله ولقد دفعتُه إليها في سواد الليل ولقد كنت مرتاباً في أمرك فأما إذا أخبرتني بذلك فلا ريب ، قال العباس بعد حين : فأبدلني الله خيراً من ذلك لي الآن عشرون عبداً وإنّ أدناهم ليُضرب في عشرين ألفاً وأعطاني زمزمَ ما أُحب أن لي بها جميعَ أموالِ أهل مكة وأنا أنتظر المغفرةَ من ربي ، يتأول به ما في قوله تعالى : { وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فإنه وعدٌ بالمغفرة مؤكدٌ بما بعده من الاعتراض التذييلي .(3/132)
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
{ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ } أي نكثَ ما بايعوك عليه من الإسلام وهذا كلامٌ مسوقٌ من جهته تعالى لتسليته عليه الصلاة والسلام بطريق الوعدِ له والوعيد لهم { فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ } بكفرهم ونقضِ ما أخذ على كل عاقلٍ من ميثاقه { فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } أي أقدرَك عليهم حسبما رأيتَ يومَ بدر فإن أعادوا الخيانةَ فاعلم أنه سيُمكنك منهم أيضاً ، وقيل : المرادُ بالخيانة منعُ ما ضمِنوا من الفداء وهو بعيد { والله عَلِيمٌ } فيعلم ما في نياتهم وما يستحقونه من العقاب { حَكِيمٌ } يفعل كلَّ ما يفعله حسبما تقتضيه حكمتُه البالغة { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ } هم المهاجرون هاجروا أوطانَهم حباً لله تعالى ولرسوله { وجاهدوا بأموالهم } بأن صرفوها إلى الكُراع والسلاح وأنفقوها على المحاويج { وَأَنفُسِهِمْ } بمباشرة القتال واقتحامِ المعارك والخوضِ في المهالك { فِى سَبِيلِ الله } متعلقٌ بجاهدوا ، قيدٌ لنوعي الجهادِ ، ولعل تقديمَ الأموال على الأنفس لما أن المجاهدةَ بالأموال أكثرُ وقوعاً وأتمُّ دفعاً للحاجة حيث لا يُتصور المجاهدةُ بالنفس بلا مجاهدة بالمال { والذين ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ } هم الأنصارُ آوَوا المهاجرين وأنزلوهم منازلَهم وبذلوا إليهم أموالَهم وآثروهم على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة ونصروهم على أعدائهم { أولئك } إشارةٌ إلى الموصوفين بما ذكر من النعوت الفاضلةِ ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلو طبقتِهم وبُعدِ منزلِتهم في الفضيلة وهو مبتدأ وقوله تعالى : { بَعْضُهُمْ } إما بدلٌ منه وقوله تعالى : { أَوْلِيَاء بَعْضٍ } خبرُه وإما مبتدأٌ ثانٍ وأولياءُ بعضٍ خبرُه والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأول أي بعضُهم أولياءُ بعضٍ في الميراث ، وقد كان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنُصرة دون الأقاربِ حتى نُسخ بقوله تعالى : { وَأُوْلُو الارحام } الآية ، وقيل : في النُصرة والمظاهرة ، ويردُه قوله تعالى : { فَعَلَيْكُمُ النصر } بعد نفي موالاتِهم { والذين آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا } كسائر المؤمنين { مَا لَكُم مّن ولايتهم مّن شَىْء } أي من تولّيهم في الميراث وإن كانوا من أقرب أقاربِكم { حتى يُهَاجِرُواْ } وقرىء بكسر الواو تشبيهاً بالعمل والصناعة كالكتابة والإمارة { وَإِنِ استنصروكم فِى الدين فَعَلَيْكُمُ النصر } فواجبٌ عليكم أن تنصُروهم على المشركين { إِلاَّ على قَوْمٍ } منهم { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق } معاهدةٌ فإنه لا يجوز نقضُ عهدِهم بنصرهم عليهم { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فلا تخالفوا أمرَه كيلا يحِلَّ بكم عقابُه .(3/133)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
{ والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } آخرَ منهم أي في الميراث أو في المؤازرة وهذا بمفهومة مُفيدٌ لنفي الموارثةِ والمؤازرةِ بينهم وبين المسلمين وإيجابِ المباعدةِ والمصارمة وإن كانوا أقارب .
{ إِلا تَفْعَلُوه } أي ما أُمرتم به من التواصل بينكم وتولِّي بعضِكم بعضاً حتى التوارثُ ومن قطع العلائق بينكم وبين الكفار { تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الارض } أن تحصُل فتنةٌ عظيمة فيها وهي ضعفُ الإيمان وظهورُ الكفر { وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } في الدارين وقرىء كثير { والذين ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله والذين ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً } كلامٌ مسوقٌ للثناء عليهم والشهادة لهم بفوزهم بالقدح المعلَّى من الإيمان مع الوعد الكريم بقوله تعالى : { لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } لا تبعةَ له ولا منة فيه فلا تكرارَ لما أن مساقَ الأولِ لإيجاب التواصلِ بينهم { والذين ءامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ } بعد هجرتِكم { وجاهدوا مَعَكُمْ } في بعض مغازيكم { فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ } أي من جملتكم أيها المهاجرون والأنصارُ وهم الذين جاؤوا من بعدهم يقولون : ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ألحقهم الله تعالى بالسابقين وجعلهم منهم تفضلاً منه وترغيباً في الإيمان والهجرة وفي توجيه الخطاب إليهم بطريق الالتفات من تشريفهم ورفعِ محلِّهم ما لا يخفى { وَأُوْلُو الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } آخرَ منهم في التوارث من الأجانب { فِى كتاب الله } أي في حُكمه أو في اللوح أو في القرآن واستُدِل به على توريث ذوي الأرحام { أَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } ومن جملته ما في تعليق التوارثِ بالقرابة الدينيةِ أولاً وبالقرابة النسبيةِ آخِراً من الحِكَم البالغة . عن النبي صلى الله عليه وسلم : « من قرأ سورةَ الأنفالِ وبراءةٌ فأنا شفيعٌ له يوم القيامة وشاهدٌ أنه بريءٌ من النفاق ، وأُعطِيَ عشرَ حسناتٍ بعدد كلِّ منافقٍ ومنافقةٍ وكان العرشُ وحملتُه يستغفرون له أيامَ حياتِه » والله تعالى أعلم .(3/134)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)
( سورة براءة مدنية وهى مائة وتسع وعشرون آية )
{ بَرَاءةٌ } خبرُ مبتدأ محذوفٍ وتنوينُه للتفخيم وقرىء بالنصب أي اسمعوا براءةً ومِنْ في قوله تعالى : { مّنَ الله وَرَسُولِهِ } ابتدائيةٌ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لها ليفيدَها زيادةَ تفخيمٍ وتهويلٍ أي هذه براءةٌ مبتدأةٌ من جهة الله تعالى ورسوله واصلة { إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مّنَ المشركين } وإنما لم يذكر ما تعلق به للبراءة حسبما ذكر في قوله تعالى : { أَنَّ الله بَرِىء مّنَ المشركين } اكتفاءً بما في حيز الصلةِ فإنه منبىءٌ عنه إنباءً ظاهراً واحترازاً عن تكرير لفظة من ، وقيل : هي مبتدأٌ لتخصصها بالصفة وخبرُه إلى الذين الخ والذي تقتضيه جزالةُ النظمِ هو الأولُ لأن هذه البراءةَ أمرٌ حادثٌ لم يُعهَدْ عند المخاطَبين ذاتُها ولا عنوانُ ابتدائِها من الله تعالى ورسولِه حتى يخرُجَ ذلك العنوانُ مخرَجَ الصفةِ لها ويُجعلَ المقصودَ بالذات ، والعمدةُ في الإخبار شيئاً آخرَ هو وصولُها إلى المعاهَدين ، وإنما الحقيقُ بأن يعتنى بإفادته حدوثُ تلك البراءةِ من جهته تعالى ووصولِها إليهم فإن حق الصفاتِ قبل علم المخاطَب بثبوتها لموصوفاتها أن تكون أخباراً ، وحقُّ الأخبار بعد العلمِ بثبوتها لما هيَ له أن تكون صفاتٍ كما حقق في موضعه ، وقرىء منِ الله بكسر النون على أن الأصلَ في تحريك الساكنِ الكسرُ ولكن الوجهَ هو الفتحُ في لام التعريفِ خاصةً لكثرة الوقوع ، والعهدُ العقدُ الموثقُ باليمين والخطابُ في عاهدتم للمسلمين وقد كانوا قد عاهدوا مشركي العربِ من أهل مكةَ وغيرِهم بإذن الله تعالى واتفاقِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم فنكَثوا إلا بني ضَمْرَةَ وبني كِنانةَ فأُمر المسلمون بنبذ العهدِ إلى الناكثين وأُمهلوا أربعةَ أشهر ليسيروا أين شاؤوا ، وإنما نُسبت البراءةُ إلى الله ورسوله مع شمولها للمسلمين واشتراكِهم في حكمها ووجوبِ العملِ بموجبها وعُلّقت المعاهدةُ بالمسلمين خاصةً مع كونها بإذن الله تعالى واتفاقِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم للإنباء عن تنجُّزها وتحتُّمها من غير توقفٍ على رأي المخاطبين لأنها عبارةٌ عن إنهاء حكمِ الأمانِ ورفعِ الحظْرِ المترتبِ على العهد السابقِ من التعرض للكفرة ، وذلك مَنوطٌ بجناب الله عز وجل لأنه أمرٌ كسائر الأوامرِ الجاريةِ على حسب حكمةٍ تقتضيها وداعيةٍ تستدعيها تترتب عليها آثارُها من غير توقفٍ على شيء أصلاً ، واشتراكُ المسلمين في حكمها ووجوبِ العمل بموجبها إنما هو طريقةُ الامتثالِ بالأمر لا على أن يكونَ لهم مدخلٌ في إتمامها أو في ترتب أحكامِها عليها ، وأما المعاهدةُ فحيث كانت عقداً كسائر العقود الشرعيةِ لا تتحصّل في نفسها ولا تترتب عليها أحكامُها إلا بمباشرة المتعاقدين على وجوه مخصوصةٍ اعتبرها الشرعُ لم يُتصوَّرْ صدورُها عنه سبحانه وإنما الصادرُ عنه في شأنها هو الإذنُ فيها وإنما الذي يباشرُها ويتولى أمرَها المسلمون .(3/135)
ولا يخفى أن البراءةَ إنما تتعلق بالعهد لا بالإذن فيه فنُسبت كلُّ واحدة منهما إلى من هو أصلٌ فيها على أن في ذلك تفخيماً لشأن البراءةِ وتهويلاً لأمرها وتسجيلاً على الكفرة بغاية الذلِّ والهوانِ ونهايةِ الخِزْيِ والخِذلان وتنزيهاً لساحة السبحان والكبرياءِ عما يوهم شائبةَ النقصِ والبداء تعالى عن ذلك علواً كبيراً وإدراجُه عليه الصلاة والسلام في النسبة الأولى وإخراجُه عن الثانية لتنويه شأنه الرفيعِ وإجلالِ قدرِه المنيع في كلا المقامين صلى الله عليه وسلم ، وإيثارُ الجملة الاسميةِ على الفعلية كأن يقال : قد بِرىءَ الله ورسولُه من الذين أو نحوُ ذلك للدلالة على دوامها واستمرارِها وللتوسل إلى تهويلها بالتنوين التفخيميِّ كما أشير إليه .(3/136)
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
{ فَسِيحُواْ } السياحةُ والسَّيْحُ الذهابُ في الأرض والسيرُ فيها بسهولة على مقتضى المشيئةِ كسيح الماءِ على موجب الطبيعة ففيه من الدِلالة على كمال التوسعةِ والتوفية ما ليس في سيروا ونظائِره ، وزيادةُ قولِه عز وجل { فِى الارض } لقصد التعميمِ لأقطارها من دار الإسلامِ وغيرِها والمرادُ إباحةُ ذلك لهم وتخليتُهم وشأنَهم من الاستعداد للحرب أو تحصينِ الأهلِ والمالِ وتحصيلِ المهرَبِ أو غيرِ ذلك لا تكليفُهم بالسياحة فيها ، وتلوينُ الخطاب بصرفه عن المسلمين وتوجيهِه إليهم مع حصول المقصودِ بصيغة أمرِ الغائبِ أيضاً للمبالغة في الإعلام بالإمهال حسماً لمادة تعلّلِهم بالغفلة وقطعاً لشأفة اعتذارِهم بعدم الاستعداد ، وإيثارُ صيغةِ الأمرِ مع تسنّي إفادةِ ذلك المعنى بطريق الإخبارِ أيضاً كأن يقالَ مثلاً : فلكم أن تسيحوا أو نحوُ ذلك لإظهار كمالِ القوةِ والغلبةِ وعدمِ الاكتراث لهم ولاستعدادهم فكأن ذلك أمرٌ مطلوبٌ منهم والفاءُ لترتيب الأمرِ بالسياحة وما يعقُبه على ما تؤذن به البراءةُ المذكورةُ من الحِراب ، على أن الأولَ مترتبٌ على نفسه والثاني بكلا متعلِّقَيْه على عنوان كونِه من الله العزيز لا لترتيب الأولِ عليه والثاني على الأول كما في قوله تعالى : { قُلْ سِيرُواْ فِى الارض فَاْنظُرُواْ } الخ كأنه قيل : هذه براءةٌ موجبةٌ لقتالكم فاسعَوْا في تحصيل العددِ والأسباب وبالغوا في إعتاد العَتادِ من كل باب { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ واعلموا أَنَّكُمْ } بسياحتكم في أقطار الأرضِ في العَرْض والطول وإن ركبتم متنَ كل صعبٍ وذلول { غَيْرُ مُعْجِزِي الله } أي لا تفوّتونه بالهرب والتحصُّن .
{ وَأَنَّ الله } وُضع الاسمُ الجليلُ موضِعَ المضمر لتربية المهابةِ وتهويلِ أمر الإخزاءِ وهو الإذلالُ بما فيه فضيحةٌ وعار { مُخْزِى الكافرين } أي مخزيكم ومُذِلُّكم في الدنيا بالقتل والأسرِ وفي الآخرة بالعذاب ، وإيثارُ الإظهارِ على الإضمارِ لذمهم بالكفر بعد وصفِهم بالإشراك وللإشعار بأن علةَ الإخزاءِ هي كفرُهم ويجوز أن يكون المرادُ جنسَ الكافرين فيدخلُ فيه المخاطَبون دخولاً أولياً والمرادُ بالأشهر الأربعةُ هي الأشهرُ الحرمُ التي عُلِّق القتالُ بانسلاخها فقيل : هي شوالٌ وذو القَعدةِ وذو الحِجة والمُحرَّم ، وقيل : هي عشرون من ذي الحجة والمحرَّمُ وصفرُ وشهرُ ربيعٍ الأول وعشرٌ من ربيعٍ الآخَر ، وجُعلت حُرَماً لحرمة قتالِهم فيها أو لتغليب ذي الحجة والمحرَّم على البقية ، وقيل : من عشر ذي القعدة إلى عشرٍ من شهر ربيعٍ الأول لأن الحجَّ في تلك السنةِ كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم ثم صار في العام القابل في ذي الحجة ، وذلك قوله عليه الصلاة والسلام : « إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السمواتِ والأرض » روي أنه عليه الصلاة والسلام أمر أبا بكر رضي الله تعالى عنه على موسم سنةِ تسعٍ ثم أتبعه علياً رضي الله تعالى عنه على العضباء ليقرأَها على أهل الموسم فقيل له عليه الصلاة والسلام : لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال صلى الله عليه وسلم :(3/137)
« لا يؤدّي عني إلا رجلٌ مني » وذلك لأن عادة العرب أن لا يتولى أمرَ العهد والنقض على القبيلة إلا رجلٌ منها فلما دنا على سمع أبو بكر الرُّغاءُ فوقف فقال : هذا رُغاءُ ناقةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فلما لحِقه قال : أميرٌ أو مأمورٌ قال : مأمورٌ فمضياً فلما كان قبل يوم الترويةِ خطَب أبو بكر رضي الله عنه وحدثهم عن مناسكهم وقام علي رضي الله عنه يومَ النحِر عند جَمرةِ العقبة فقال : يا أيها الناسُ إني رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليكم فقالوا : بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية ثم قال : أُمرت بأربعٍ أن لا يقرَبَ البيتَ بعد العام مشركٌ ولا يطوفَ بالبيت عُريانٌ ولا يدخلَ الجنةَ إلا كلُّ نفسٍ مؤمنة وأن يُتمَّ إلى كل ذي عهد عهدُه .(3/138)
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
{ وَأَذَانٌ مّنَ الله وَرَسُولِهِ } أي إعلامٌ منهما فعَال بمعنى الإفعال كالعطاء بمعنى الإعطاء ورفعُه كرفع براءةٌ والجملةُ معطوفةٌ على مثلها وإنما قيل : { إِلَى الناس } أي كافةً لأن الأذانَ غيرُ مختصٍ بقوم دون آخَرين كالبراءة الخاصة بالناكثين بل هو شاملٌ لعامة الكفرةِ وللمؤمنين أيضاً { يَوْمَ الحج الاكبر } هو يومُ العيدِ لأن فيه تمامَ الحجِّ ومعظَم أفعالِه ولأن الإعلامَ كان فيه ولما روي أنه عليه الصلاة والسلام وقف يوم النحِر عند الجَمَرات في حَجة الوداع فقال : « هذا يومُ الحجِّ الأكبر » وقيل : يومُ عرفةَ لقوله عليه الصلاة والسلام : « الحج عرفة » ووصفُ الحجِّ بالأكبر لأن العُمرة تسمى الحجَّ الأصغرَ أو لأن المرادَ بالحج ما يقع في ذلك اليوم من أعماله فإنه أكبرُ من باقي الأعمال ، أو لأن الحج اجتمع فيه المسلمون والمشركون أو لأنه ظهر فيه عزُّ المسلمين وذلُّ المشركين { أَنَّ الله } أي بأن الله وقرىء بالكسر لِما أن الأذانَ فيه معنى القول { بَرِىء مّنَ المشركين } أي المعاهِدين الناكثين { وَرَسُولُهُ } عطف على المستكنِّ في بريء أو على محل أنّ واسمِها على قراءة الكسر وقرىء بالنصب عطفاً على اسم أنّ أو لأن الواوَ بمعنى مع أي بريءٌ معه منهم ، وبالجر على الجوار وقيل : على القسم { فَإِن تُبْتُمْ } من الشرك والغدر التفاتٌ من الغَيبة إلى الخطاب لزيادة التهديدِ والتشديد ، والفاءُ لترتيب مقدّمِ الشرطيةِ على الأذان بالبراءة المذيّلةِ بالوعيد الشديد المُؤذِنِ بلِين عَريكتِهم وانكسارِ شدة شكيمتِهم { فَهُوَ } أي فالتوب { خَيْرٌ لَّكُمْ } في الدارين { وَإِن تَوَلَّيْتُمْ } عن التوبة أو ثبَتُّم على التولي عن الإسلام والوفاء { فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى الله } غيرُ سابقين ولا فائتين { وَبَشّرِ الذين كَفَرُواْ } تلوينٌ للخطاب وصرفٌ له عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن البشارة { بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وإن كانت بطريق التهكمِ إنما تليق بمن يقفُ على الأسرار الإلهية .(3/139)
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
{ إِلاَّ الذين عاهدتم مّنَ المشركين } استدراكٌ من النبذ السابقِ الذي أُخّر فيه القتالُ أربعةَ أشهرٍ كأنه قيل : لا تُمهلوا الناكثين فوق أربعةِ أشهرٍ لكن الذين عاهدتموهم ثم لم ينكُثوا عهدَهم فلا تُجْروهم مُجرى الناكثين في المسارعة إلى قتالهم بل أتِمّوا إليه عهدَهم ، ولا يضُرّ في ذلك تخللُ الفاصلِ بقوله تعالى : { وَأَذَانٌ مّنَ الله وَرَسُولِهِ } الخ لأنه ليس بأجنبي بالكلية بل هو أمر بإعلام تلك البراءةِ كأنه قيل : وأَعلِموها ، وقيل : هو استثناءٌ متصلٌ من المشركين الأوّل ، ويرده بقاءُ الثاني على العموم مع كونهما عبارةً عن فريق واحد وجعلُه استثناءً من الثاني يأباه بقاء الأولُ كذلك وقيل : هو استداركٌ من المقدر في ( فسيحوا ) أي قولوا لهم : سيحوا أربعةَ أشهر لكن الذين عاهدتم منهم { ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } من شروط الميثاقِ ولم يقتُلوا منكم أحداً ولم يضروكم قط وقرىء بالمعجمة أي لم ينقضوا عهدَكم شيئاً من النقض ، وكلمة ثم للدِلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادي المدة { وَلَمْ يظاهروا } أي لم يعاونوا { عَلَيْكُمْ أَحَداً } من أعدائكم كما عدَتْ بنو بكر على خُزاعةَ في غَيْبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فظاهَرَتْهم قريشٌ بالسلاح { فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ } أي أدوه إليهم كاملاً { إلى مُدَّتِهِمْ } ولا تفاجئوهم بالقتال عند مضيِّ الأجل المضروبِ للناكثين ولا تعاملوهم معاملتهم . قال ابن عباس رضي الله عنهما : بقي لِحيَ من بني كنانةَ من عهدهم تسعةُ أشهر فأتم إليهم عهدَهم { إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } تعليلٌ لوجوب الامتثال وتنبيهٌ على أن مراعاةَ حقوقِ العهدِ من باب التقوى وأن التسويةَ بين الوفيِّ والغادر منافيةٌ لذلك وإن كان المعاهَدُ مشركاً .(3/140)
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
{ فَإِذَا انسلخ } أي انقضى ، استُعير له من الانسلاخ الواقعِ بين الحيوان وجلدِه والأغلبُ إسناده إلى الجلد ، والمعنى إذا انقضى { الاشهر الحرم } وانفصلت عما كانت مشتملةً عليه ساترةً له انفصالَ الجلدِ عن الشاة وانكشف عنه انكشافَ الحجاب عما وراءَه كما ذكره أبو الهيثم من أنه يقال : أهلَلْنا شهرَ كذا أي دخلنا فيه ولبِسناه فنحن نزداد كلَّ ليلة لباساً منه إلى مُضيِّ نصفِه ثم نسلَخُه عن أنفسنا جزءاً فجزءاً حتى نسلَخَه عن أنفسنا كلَّه فينسلِخ وأنشد :
إذا ما سلختُ الشهرَ أهلَلْتُ مثلَه ... كفى قاتلاً سَلْخي الشهورَ وإهلالي
وتحقيقُه أن الزمانَ محيطٌ بما فيه من الزمانيات مشتملٌ عليه اشتمالَ الجلد للحيوان وكذا كلُّ جزءٍ من أجزائه الممتدة من الأيام والشهورِ والسنين فإذا مضى فكأنه انسلخ عما فيه ، وفيه مزيدُ لطفٍ لما فيه من التلويح بأن تلك الأشهرَ كانت حِرْزاً لأولئك المعاهَدين عن غوائل أيدي المسلمين فنيط قتالُهم بزوالها والمرادُ بها إما ما مر من الأشهر الأربعةِ فقط ، ووضعُ المظهر موضعَ المضمرِ ليكون ذريعةً إلى وصفها بالحُرمة تأكيداً لما يُنبىء عنه إباحةُ السياحةِ من حرمة التعرضِ لهم مع ما فيه من مزيد الاعتناءِ بشأنها ، أو هي مع ما فُهم من قوله تعالى : { فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ } من تتمة مدةٍ بقِيَتْ لغير الناكثين فعلى الأول يكون المرادُ بالمشركين في قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين } الناكثين خاصةً فلا يكون قتالُ البالغين مفهوماً من عبارة النصِّ من دِلالته ، وعلى الثاني مفهوماً من العبارة إلا أنه يكون الانسلاخُ وما نيط به من القتال حينئذ شيئاً فشيئاً لا دفعةً واحدةً كأنه قيل : فإذا تم ميقاتُ كلِّ طائفةٍ فاقتُلوهم ، وحملُها على الأشهر المعهودةِ الدائرةِ في كل سنة لا يساعده النظمُ الكريمُ ، وأما أنه يستدعي بقاءَ حُرمةِ القتالِ فيها إذ ليس فيما نزل بعدُ ما ينسخها فلا اعتدادَ به لا لأنها نُسخت بقوله تعالى : { وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } كما تُوهم فإنه رجمٌ بالغيب لأنه إن أريد به ما في سورة الأنفال فإنه نزل عَقيبَ غزوةِ بدرٍ وقد صح أن المرادَ بالذين كفروا في قوله تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } أبو سفيانَ وأصحابُه وقد أسلم في أواسط رمضانَ عام الفتحِ سنة ثمانٍ وسورةُ التوبةِ إنما نزلت في شوالٍ سنةَ تِسعٍ وإن أريد ما في سورة البقرة فإنه أيضاً نزل قبل الفتح كما يعرب عنه ما قبله من قوله تعالى : { وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } أي من مكة وقد فعل ذلك يوم الفتح فكيف يُنسخ به ما ينزِل بعده؟ بل لأن انعقادَ الإجماعِ على انتساخها كافٍ في الباب من غير حاجةٍ إلى كون سندِه منقولاً إلينا . وقد صح أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم حاصرَ الطائفَ لعشرٍ بقِين من المحرم { حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } من حِلّ وحِرْم { وَخُذُوهُمْ } أي أْسِروهم والأَخيذُ : الأسير { واحصروهم } أي قيّدوهم أو امنعوهم من التقلب في البلاد .(3/141)
قال ابن عباس رضي الله عنهما : حِيلوا بينهم وبين المسجدِ الحرام { واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } أي كلَّ ممرٍ ومُجتازٍ يجتازون منه في أسفارهم ، وانتصابُه على الظرفية أي ارصُدوهم وارقبُوهم حتى لا يُمرّوا به ، وفائدتُه على التفسير الثاني دفعُ احتمالِ أن يُراد بالحصر المحاصرةُ المعهودة .
{ فَإِن تَابُواْ } عن الشرك بالإيمان بعد ما اضطُرّوا بما ذكر من القتل والأسر والحصر { وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتُوا الزَّكَاةَ } تصديقاً لتوبتهم وإيمانِهم ، واكُتفى بذكرهما عن ذكر بقيةِ العبادات لكونهما رأسَي العباداتِ البدنية والمالية { فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } فدعوهم وشأنَهم ولا تتعرَّضوا لهم بشيء مما ذكر { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر ويثبتهم بإيمانهم وطاعاتِهم وهو تعليل للأمر بتخلية السبيل .(3/142)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
{ وَإِنْ أَحَدٌ } شروعٌ في بيان حكم المتصدِّين لمبادي التوبة من سماع كلامِ الله تعالى والوقوفِ على شعائر الدين إثرَ بيانِ حُكمِ التائبين عن الكفر والمُصِرِّين عليه وهو مرتفعٌ بشرط مضمرٍ يفسِّره الظاهرُ لا بالابتداء لأن إنْ لا تدخل إلا على الفعل { مّنَ المشركين استجارك } بعد انقضاءِ الأجل المضروبِ أي سألك أن تُؤَمِّنه وتكونَ له جاراً { فَأَجِرْهُ } أي أمِّنه { حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله } ويتدبرَه ويطّلع على حقيقة ما يدعو إليه . والاقتصارُ على ذكر السماعِ لعدم الحاجةِ إلى شيء آخرَ في الفهم لكونهم من أهل اللسَنِ والفصاحةِ ، و ( حتى ) سواءٌ كانت للغاية أو للتعليل متعلقةٌ بما بعدها لا بقوله تعالى : { استجارك } لأنه يؤدّي إلى إعمال حتى في المضمر وذلك مما لا يكاد يرتكب في غير ضرورةِ الشعر كما في قوله :
فلا والله لا يلفى أناس ... فتىً حتاك يا ابنَ أبي يزيدِ
كذا قيل إلا أن تعلّق الإجارةِ بسماع كلامِ الله تعالى بأحد الوجهين يستلزمُ تعلقَ الاستجارةِ أيضاً بذلك أو بما في معناه من أمور الدينِ ، وما رُوي عن عليَ رضي الله عنه أنه أتاه رجلٌ من المشركين فقال : إن أراد الرجلُ منا أن يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجلِ لسماع كلامِ الله تعالى أو لحاجة قتل؟ قال : لا لأن الله تعالى يقول : { وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ } الخ فالمرادُ بما فيه من الحاجة هي الحاجةُ المتعلقةُ بالدين لا ما يعمها وغيرَها من الحاجات الدنيوية كما ينبىء عنه قوله : أن يأتي محمداً ، فإن من يأتيه عليه السلام إنما يأتيه للأمور المتعلقةِ بالدين { ثُمَّ أَبْلِغْهُ } بعد استماعِه له إن لم يؤمِنْ { مَأْمَنَهُ } أي مسكنَه الذي يأمَن فيه وهو دارُ قومِه { ذلك } يعنى الأمرَ بالإجارة وإبلاغِ المأمن { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } ما الإسلامُ وما حقيقتُه ، أو قومٌ جَهَلةٌ فلا بد من إعطاء الأمانِ حتى يفهموا الحقَّ ولا يبقى لهم معذرة أصلاً . { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ } شروعٌ في تحقيق حقيقةِ ما سبق من البراءة وأحكامِها المتفرِّعة عليها وتبيينِ الحكمة الداعيةِ إلى ذلك ، والمرادُ بالمشركين الناكثون لأن البراءةَ إنما هي في شأنهم ، والاستفهامُ إنكاريٌّ لا بمعنى إنكار الواقعِ كما في قوله تعالى { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله } الخ ، بل بمعنى إنكار الوقوعِ ويكون من الكون التامِّ وكيف في محل النصب على التشبيه بالحال أو الظرف وقيل : من الكون الناقصِ وكيف خبرُ يكون قُدّم على اسمه وهو عهدٌ لاقتضائه الصدارة ، وللمشركين متعلق بمحذوف وقع حالاً من عهد ولو كان مؤخراً لكان صفةً له أو بيكون عند من يجوز عملَ الأفعالِ الناقصة في الظروف ، وعند متعلقٌ بمحذوف وقعَ صفةً لعهدٌ أو بنفسه لأنه مصدرٌ أو بيكون كما مر ، ويجوزُ أن يكون الخبرُ للمشركين وعند كما ذكر أو متعلقٌ بالاستقرار الذي تعلق به للمشركين ويجوز أن يكون الخبرُ عند الله ، وللمشركين إما تبيينٌ وإما حالٌ من عهدٌ وإما متعلقٌ بيكون أو بالاستقرار الذي تعلق به الخبرُ ولا يبالى بتقديم معمولِ الخبرِ على الاسم لكونه حرفَ جرّ ، وكيف على الوجهين الآخيرين نُصب على التشبيه بالظرف أو الحال كما في صورة الكون التام وهو الأولى لأن في إنكار ثبوتِ العهد في نفسه من المبالغة ما ليس في إنكار ثبوتِه للمشركين ، لأن ثبوتَه الرابطي فرعُ ثبوتِه العيني فانتفاءُ الأصلِ يوجب انتفاءَ الفرعِ رأساً ، وفي توجيه الإنكارِ إلى كيفية ثبوتِ العهدِ من المبالغة ما ليس في توجهه إلى ثبوته لأن كلَّ موجودٍ يجب أن يكون وجودُه على حال من الأحوال قطعاً ، فإذا انتفى جميعُ أحوال وجودِه فقد انتفى وجودُه على الطريق البرهاني أي أو في أي حالٍ يوجد لهم عهدٌ معتدٌ به؟ { عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ } يستحِقُّ أن يراعى حقوقُه ويُحافَظَ عليه إلى إتمام المدة ولا يُتعرَّضَ لهم بحسَبه قتلاً ولا أخذاً ، وأما أن يأمنوا به من عذاب الآخرة كما قيل فلا سبيلَ إلى اعتباره أصلاً إذ لا دخلَ لعهدهم في ذلك الأمنِ قطعاً وإن كان مرعياً عند الله تعالى وعند رسولِه كعهد غيرِ الناكثين ، وتكريرُ كلمة عند للإيذان بعدم الاعتدادِ به عند كلَ منهما على حدة { إِلاَّ الذين } استدراكٌ من النفي المفهومِ من الاستفهام المتبادرِ شمولُه لجميع المعاهَدين أي لكون الذين { عاهدتم عِندَ المسجد الحرام } وهم المستثنَوْن فيما سلف ، والتعرُّضُ لكون المعاهَدةِ عند المسجدِ الحرامِ لزيادة بيانِ أصحابِها والإشعارِ بسبب وكادتِها ، ومحلُّه الرفعُ على الابتداء خبره قوله تعالى :
{ فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ } والفاءُ لتضمنه معنى الشرط وما إما منصوبةُ المحلِّ على الظرفية فتقديرُ المضافِ أي فاستقيموا لهم مدةَ استقامتِهم لكم وإما شرطيةٌ منصوبةُ المحلِّ على الظرفية الزمانية أي أيّ زمانَ استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، أو مرفوعةٌ على الابتداء والعائدُ محذوفٌ أي أيُّ زمان استقاموا لكم فيه فاستقيموا لهم فيه وقيل : الاستثناءُ متصلٌ محلُّه النصبُ على الأصل أو الجرُّ على البدل من المشركين والمرادُ بهم الجنسُ لا المعهودُ وأياً ما كان فحكمُ الأمر بالاستقامة ينتهي بانتهاء مدةِ العهدِ لأن استقامتَهم التي وُقّت بوقتها الاستقامةُ المأمورُ بها عبارةٌ عن مراعاة حقوقِ العهدِ ، وبعد انقضاءِ مدتِه لا عهدٌ ولا استقامةٌ فصار عينَ الأمرِ الواردِ فيما سلف حيث قيل : فأتِمُّوا إليهم عهدَهم إلى مدتهم خلا أنه فد صرّح به هناك مع كونه معتبراً قطعاً وهو تقييدُ الإتمامِ المأمور به ببقائهم على ما كانوا عليه من من الوفاء { إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } تعليلٌ للأمر بالاستقامة وإشعارٌ بأن القيامَ بموجب العهدِ من أحكام التقوى كما مر .(3/143)
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
{ كَيْفَ } تكريرٌ لاستنكار ما مر من أن يكون للمشركين عهدٌ حقيقٌ بالمراعاة عند الله سبحانه وعند رسولِه صلى الله عليه وسلم ، وأما ما قيل من أنه لاستبعاد ثباتِهم على العهد فكما ترى لأن ما يُذكر بصدد التعليلِ للاستبعاد عينُ عدمِ ثباتِهم على العهد لا أنه شيءٌ يستدعيه ، وإنما أعيد الاستنكارُ والاستبعادُ تأكيداً لهما وتمهيداً لتعداد العللِ الموجبةِ لهما لإخلال تخلّلِ ما في البين من الارتباط والتقريب ، وحذفُ الفعل المستنكَر للإيذان بأن النفسَ مستحضِرةٌ له مترقِّبةٌ لورود ما يوجب استنكارَه لا لمجرد كونِه معلوماً كما في قوله :
وخبّرتماني أنما الموتُ بالقُرى ... فكيف وهاتا هضبةٌ وقليبُ
فإنه علةٌ مصححةٌ لا مرجِّحةٌ أي كيف يكون لهم عهدٌ متعدٌّ به عند الله تعالى وعند رسولِه صلى الله عليه وسلم { وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } أي وحالُهم أنهم إن يظهروا عليكم أي يظفَروا بكم { لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ } أي لا يُراعوا في شأنكم ، وأصلُ الرقوبِ النظرُ بطريق الحفظِ والرعايةِ ومنه الرقيبُ ثم استُعمل في مطلق الرعايةِ ، والمراقبةُ أبلغُ منه كالمراعاة ، وفي نفي الرقوبِ من المبالغة ما ليس في نفيها { إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } أي حِلفاً وقيل : قرابةً ولا عهداً ، أو حقاً يُعاب على إغفاله مع ما سبق لهم من تأكيد الأَيمان والمواثيقِ ، يعني أن وجوبَ مراعاةِ حقوقِ العهد على كل من المتعاهدين مشروطٌ بمراعاة الآخَر لها فإذا لم يُراعِها المشركون فكيف تراعونها؟ على منوال قولِ من قال :
علامَ تُقبلُ منهم فديةٌ وهم ... لا فضةً قبِلوا منّا ولا ذهبا
وقيل : الإلُّ من أسماء الله عز وجل أي لا يُراعوا حقَّ الله تعالى وقيل : الجِوار ومآلهُ الحِلفُ لأنهم إذا تماسحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتَهم لتشهيره ، ولما كان تعليقُ عدمِ رعايةِ العهدِ بالظفر موهماً للرعاية عند عدمِه كُشف عن حقيقة شؤونِهم الجليةِ والخفية بطريق الاستئنافِ وبيِّن أنهم في حالة العجزِ أيضاً ليسوا من الوفاء في شيء ، وأن ما يُظهرونه مداهنةٌ لا مهادنه فقيل :
{ يُرْضُونَكُم بأفواههم } حيث يُظهرون الوفاءَ والمصافاةَ ويعِدون لكم بالإيمان والطاعةِ ويؤكدون ذلك بالأَيمان الفاجرةِ ويتعللون عند ظهورِ خلافِه بالمعاذير الكاذبة ، ونسبةُ الإرضاءِ إلى الأفواه للإيذان بأن كلامَهم مجردُ ألفاظٍ يتفوّهون بها من غير أن يكون لها مِصداقٌ في قلوبهم { وتأبى قُلُوبُهُمْ } ما يفيد كلامُهم { وَأَكْثَرُهُمْ فاسقون } خارجون عن الطاعة فإن مراعاةَ حقوقِ العهد من باب الطاعةِ متمرِّدون ليست لهم مروءةٌ رادعةٌ ولا عقيدةٌ وازعةٌ ولا يتسترون كما يتعاطاه بعضُهم ممن يتفادى عن الغدر ويتعفّف عما يجرُّ أُحدوثةَ السوء .(3/144)
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)
{ اشتروا بئايات الله } بآياته الآمرةِ بالإيفاء بالعهود والاستقامةِ في كل أمرٍ أو بجميع آياتهِ فيدخُل فيها ما ذكر دخولاً أولياً أي تركوها وأخذوا بدلها { ثَمَناً قَلِيلاً } أي شيئاً حقيراً من حُطام الدنيا وهو أهواؤُهم وشهواتُهم التي اتبعوها ، أو ما أنفقه أبو سفيانَ من الطعام وصَرَفه إلى الأعراب { فَصَدُّواْ } أي عدَلوا ونكبوا ، من صدّ صدوداً أو صرَفوا غيرَهم من صدّ صداً والفاء للِدلالة على سببية الاشتراءِ لذلك { عَن سَبِيلِهِ } أي الدينِ الحق الذي لا محيدَ عنه ، والإضافةُ للتشريف أو سبيل بيته الحرام حيث كانوا يصُدّون الحجّاجَ والعُمّارَ عنه { إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي بئس ما كانوا يعملونه أو عملُهم المستمرّ ، والمخصوصُ بالذم محذوفٌ وقد جُوِّز أن تكون كلمةُ ساء على أصلها من التصرف لازمةً بمعنى قبُح ، أو متعديةً والمفعولُ محذوفٌ أي ساءهم الذي يعملونه أو عملُهم .(3/145)
لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
وقوله عز وعلا : { لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } ناعٍ عليهم عدمَ مراعاةِ حقوقِ عهدِ المؤمنين على الإطلاق فلا تكرارَ ، وقيل : هذا في اليهود أو في الأعراب المذكورين ومَنْ يحذو حذوهم ، وأما ما قيل من أنه تفسير لقوله تعالى : { يَعْمَلُونَ } أو دليلٌ على ما هو مخصوصٌ بالذم فمُشعِرٌ باختصاص الذمِّ والسوء بعملهم هذا دون غيره { وَأُوْلئِكَ } الموصوفون بما عُدّد من الصفات السيئةِ { هُمُ المعتدون } المجاوزون الغايةَ القُصوى من الظلم والشرارة { فَإِن تَابُواْ } أي عما هم عليه من الكفر وسائرِ العظائمِ ، والفاءُ للإيذان بأن تقريعَهم بما نُعيَ عليهم من مساوىء أعمالِهم مزجرةٌ عنه ومِظنةٌ للتوبة { وَأَقَامُواْ الصلاة وآتَوْا الزَّكَاةَ } أي التزموهما وعزموا على إقامتهما { فَإِخوَانُكُمْ } أي فهم إخوانُكم وقوله تعالى : { فِى الدين } متعلقٌ بإخوانُكم لما فيه من معنى الفعلِ أي لهم ما لكم وعليهم ما عليكم فعاملوهم معاملةَ الإخوان ، وفيه من استمالتهم واستجلابِ قلوبِهم ما لا مزيدَ عليه ، والاختلافُ بين جوابِ هذه الشرطيةِ وجوابِ التي مرت من قبلُ مع اتحاد الشرطِ فيهما لما أن الأولى سيقت إثرَ الأمرِ بالقتل ونظائرِه فوجب أن يكون جوابُها أمراً بخلافِ ذلك وهذه سيقت بعد الحُكم عليهم بالاعتداء وأشباهِه فلا بد من كون جوابِها حُكماً بخلافه البتة { وَنُفَصّلُ الايات } أي نبيّنها ، والمرادُ بها إما ما مر من الآيات المتعلقةِ بأحوال المشركين من الناكثين وغيرِهم وأحكامِهم حالتي الكفرِ والإيمان وإما جميعُ الآياتِ فيندرج فيها تلك الآياتُ اندراجاً أولياً { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي ما فيها من الأحكام أو لقوم عالمين وهو اعتراضٌ للحث على التأمل في الأحكام المندرجةِ في تضاعيفها والمحافظةِ عليها .
{ وَإِن نَّكَثُواْ } عطفٌ على قوله تعالى : { فَإِن تَابُواْ } أي وإن لم يفعلوا ذلك بل نقضوا { أيمانهم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ } الموثقِ بها وأظهروا ما في ضمائرهم من الشر وأخرجوه من القوة إلى الفعل حسبما ينبىء عنه قوله تعالى : { وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ } الآية ، أو ثبتوا على ما هم عليه من النَّكْث لا أنهم ارتدوا بعد الإيمان كما قيل { وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ } قدَحوا فيه بصريح التكذيبِ وتقبيحِ الأحكام { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } أي فقاتلوهم ، وإنما أوثر ما عليه النظمُ الكريم للإيذان بأنهم صاروا بذلك ذوي رياسةٍ وتقدم في الكفر أحقّاءَ بالقتل والقتال ، وقيل : المرادُ بأئمتهم رؤساؤُهم وصناديدُهم ، وتخصيصُهم بالذكر إما لأهمية قتلِهم أو للمنع من مراقبتهم لكونهم مظِنةً لها أو للدِلالة على استئصالهم ، فإن قتلَهم غالباً يكون بعد قتلِ مَنْ دونهم ، وقرىء ( أئمة ) بتحقيق الهمزتين على الأصل والأفصحُ إخراج الثانية بينَ بينَ وأما التصريحُ بالياء فلحنٌ ظاهرٌ عند الفراء { إِنَّهُمْ لا أيمان لَهُمْ } أي على الحقيقة حيث لا يراعونها ولا يعدّون نقضَها محذوراً وإن أجْرَوها على ألسنتهم ، وإنما علّق النفيُ بها كالنَكْث فيما سلف لا بالعهد المؤكدِ بها لأنها العُمدةُ في المواثيق ، وجعلُ الجملة تعليلاً للأمر بالقتال لا يساعده تعليقُه بالنكث والطعنِ لأن حالَهم في أن لا أيمانَ لهم حقيقةً بعد النكثِ والطعن كحالهم قبل ذلك وحملُه على معنى عدمِ بقاءِ أيمانِهم بعد النَّكثِ والطعن مع أنه لا حاجةَ إلى بيانه خلافُ الظاهرِ ، ولعل الأولى جعلُها تعليلاً لمضمون الشرطِ كأنه قيل : وإن نكثوا وطعَنوا كما هو المتوقَّعُ منهم إذ لا أيمانَ لهم حقيقةً حتى لا ينكُثوها أو لاستمرار القتالِ المأمورِ به المستفادِ من سياق الكلامِ ، كأنه قيل : فقاتلوهم إلى أن يؤمنوا إنهم لا أَيمانَ لهم حتى يُعقدَ معهم عهدٌ آخر ، وقرىء بكسر الهمزة على أنه مصدر بمعنى إعطاءِ الأمانِ أي لا سبيلَ إلى أن تُعطوهم أماناً بعد ذلك أبداً وأما العكسُ كما قيل فلا وجه له لإشعاره بأن معاهدتَهم معنا على طريقة أن يكون إعطاءُ الأمانِ من قِبَلهم وذلك بيِّنُ البُطلان أو بمعنى الإسلام ففي كونه تعليلاً للأمر بالقتال إشكالٌ بل استحالةٌ لأنه إن حُمل على انتفاء الإسلامِ مطلقاً فهو بمعزل عن العِلّية للقتال أو للأمر به كما قبل النكثِ والطعن ، وإن حُمل على انتفائه فيما سيأتي فلا يلائم جعلَ الانتهاءِ غايةً للقتال فيما سيجيء فالوجهُ أن يُجعل تعليلاً لما ذُكر من مضمون الشرطِ كأنه قيل : إن نكثوا وطعَنوا وهو الظاهرُ من حالهم لأنه لا إسلامَ لهم حتى يرتدعوا عن نقض جنسِ أَيمانهم وعن الطعن في دينكم { لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } متعلقٌ بقوله تعالى : { فقاتلوا } أي قاتلوهم إرادةَ أن ينتهوا أي ليكن غرضُكم من القتال انتهاءَهم عما هم عليه من الكفر وسائرِ العظائمِ التي يرتكبونها لا إيصالَ الأذية بهم كما هو ديدنُ المؤذِين .(3/146)
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
{ أَلاَ تقاتلون } الهمزةُ الداخلةُ على انتفاء مقاتَلتِهم للإنكار والتوبيخِ تدل على تخصيصهم على المقاتلة بطريق حملِهم على الإقرار بانتفائها كأنه أمرٌ لا يمكن أن يُعترف به طائعاً لكمال شناعتِه فيلجأون إلى ذلك ولا يقدرون على الإقرار به فيختارون المقاتلة { قَوْماً نَّكَثُواْ أيمانهم } التي حلَفوها عند المعاهدة على أن لا يعاوِنوا عليهم فعاوَنوا بني بكرٍ على خُزاعة { وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول } من مكةَ حين تشاوروا في أمره بدار الندوة حسبما ذكر في قوله تعالى { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ } فيكون نعياً عليهم جنايتُهم القديمةُ وقيل : هم اليهودُ نكثوا عهدَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وهموا بإخراجه من المدينة { وَهُم بَدَءوكُمْ } بالمعاداة والمقاتلة { أَوَّلَ مَرَّةٍ } لأن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولاً بالكتاب المبين وتحداهم به فعدلوا عن المُحاجّة لعجزهم عنها إلى المقاتلة أو بدءوا بقتال خزاعةَ حلفاءِ النبي صلى الله عليه وسلم لأن إعانة بني بكر عليهم قتالٌ معهم { أَتَخْشَوْنَهُمْ } أي أتخشون أن ينالَكم منهم مكروهٌ حتى تتركوا قتالَهم ، وبّخهم أولاً بترك مقاتلتِهم وحضَّهم عليها ثم وصفهم بما يوجب الرغبةَ فيها ويحقق أن مَنْ كان على تلك الصفاتِ السيئةِ حقيقٌ بأن لا تترك مصادمتُه ويوبَّخَ من فرّط فيها { فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } بمخالفة أمرِه وترك قتالِ أعدائهِ { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } فإن قضيةَ الإيمانِ تخصيصُ الخشيةِ به تعالى وعدمُ المبالاة بمن سواه وفيه من التشديد ما لا يخفى .(3/147)
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
{ قاتلوهم } تجريدٌ للأمر بالقتال بعد التوبيخِ على تركه ووعدٌ بنصرهم وبتعذيب أعدائِهم وإخزائِهم وتشجيعٌ لهم { يُعَذّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ } قتلاً وأسراً { وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ } أي يجعلُكم جميعاً غالبين عليهم أجمعين ولذلك أُخّر عن التعذيب والإخزاء { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } ممن لم يشهد القتالَ وهم خُزاعةُ ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : هم بطونٌ من اليمن وسبإٍ قدِموا مكةَ فأسلموا فلقُوا من أهلها أذىً كثيراً فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه فقال عليه والسلام : « أبشِروا فإن الفرجَ قريب » { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } بما كابدوا من المكاره والمكايدِ ولقد أنجز الله سبحانه جميع ما وعدهم به على أجمل ما يكون فكان إخبارُه عليه الصلاة والسلام بذلك قبل وقوعِه معجزةً عظيمة { وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَاء } كلامٌ مستأنفٌ ينبىء عما سيكون من بعض أهلِ مكةَ من التوبة المقبولةِ بحسب مشيئتِه تعالى المبنيةِ على الحِكَم البالغةِ فكان كذلك حيث أسلم ناسٌ منهم وحسُن إسلامُهم . وقرىء بالنصب بإضمار أن ودخولُ التوبةِ في جملة ما أجيب به الأمرُ بحسب المعنى فإن القتالَ كما هو سببٌ لفشل شوكتِهم وإلانةِ شَكيمتِهم فهو سبب للتدبر في أمرهم وتوبتِهم من الكفر والمعاصي وللاختلاف في وجه السببية غُيِّر السبكُ والله تعالى أعلم { والله } إيثارُ إظهارِ الجلالة على الإضمار لتربية المهابةِ وإدخالِ الروعة { عَلِيمٌ } لا يخفى عليه خافية { حَكِيمٌ } لا يفعل ولا يأمر إلا بما فيه حكمةٌ ومصلحةٌ { أَمْ حَسِبْتُمْ } أم منقطةٌ جيء بها للدِلالة على الانتقال من التوبيخ السابقِ إلى آخَرَ وما فيها من همزة الاستفهامِ الإنكاريِّ توبيخٌ لهم على الحُسبان المذكورِ أي بل أحسِبتم { أَن تُتْرَكُواْ } على ما أنتم عليه ولا تُؤمروا بالجهاد ولا تُبْتلوا بما يُمحِّصكم والخطابُ إما لمن شق عليهم القتالُ من المؤمنين أو للمنافقين { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ } الواو حالية ولمّا للنفي مع التوقع ، والمرادُ من نفي العلم نفيُ المعلومِ بالطريق البرهاني إذ لو شُمَّ رائحةُ الوجود لعُلم قطعاً فلما لم يُعلم لزِم عدمُه قطعاً أي أم حسبتم أن تتركوا والحالُ أنه لم يتبين الخُلّصُ من المجاهدين منكم من غيرهم ، وما في لما من التوقع منبِّهٌ على أن ذلك سيكون ، وفائدةُ التعبير عما ذكر من عدم التبينِ بعدم علم الله تعالى أن المقصودَ هو التبينُ من حيث كونُه متعلقاً للعلم ومداراً للثواب ، وعدمُ التعرّضِ لحال المقصّرين لما أن ذلك بمعزل من الاندراج تحت إرادةِ أكرم الأكرمين .
{ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ } عطف على جاهدوا داخلٌ في حيز الصلةِ أو حال من فاعله أي جاهدوا حالَ كونِهم غيرَ متّخذين { مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً } أي بِطانةً وصاحب سِرّ ، وهو الذي تُطلعه على ما في ضميرك من الأسرار الخفيةِ ، من الولوج وهو الدخولُ ومن دون الله متعلقٌ بالاتخاذ إن أُبقيَ على حاله أو مفعولٌ ثانٍ إن جُعل بمعنى التصيير { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي بجميع أعمالِكم وقرىء على الغَيبة وهو تذييلٌ يُزيح ما يُتوَهّم من ظاهر قوله تعالى : { وَلَمَّا يَعْلَمِ } الخ ، أو حال متداخلةٌ من فاعله أو من مفعوله ، والمعنى ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم والحالُ أنه يعلم جميعَ أعمالِكم لا يخفى عليه شيءٌ منها .(3/148)
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)
{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ } أي ما صح وما استقام لهم على معنى نفي الوجودِ والتحققِ ، لا نفيِ الجواز كما في قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ } أي ما وقع وما تحقق لهم { أَن يَعْمُرُواْ } عمارةً معتداً بها { مساجد الله } أي المسجدَ الحرامَ وإنما جُمع لأنه قِبلةُ المساجد وإمامُها فعامرُه كعامرها أو لأن كلَّ ناحيةٍ من نواحيه المختلفةِ الجهات مسجدٌ على حياله بخلاف سائرِ المساجدِ إذ ليس في نواحيها اختلافُ الجهةِ ويؤيده القراءةُ بالتوحيد وقيل : ما كان لهم أن يعمُروا شيئاً من المساجد فضلاً عن المسجد الحرام الذي هو صدرُ الجنسِ ، ويأباه أنهم لا يتصَدَّوْن لتعمير سائرِ المساجدِ ولا يفتخرون بذلك على أنه مبنيٌ على كون النفي بمعنى نفي الجوازِ واللياقةِ دون نفي الوجود { شَهِدِينَ على أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ } أي بإظهار آثارِ الشركِ من نصب الأوثان حول البيتِ والعبادةِ لها فإن ذلك شهادةٌ صريحةٌ على أنفسهم بالكفر وإن أبَوْا أن يقولوا : نحن كفارٌ كما نقل عن الحسن رضي الله عنه ، وهو حالٌ من الضمير في يعمُروا أي محالٌ أن يكون ما سمَّوْه عمارةً عمارةَ بيتِ الله مع ملابستهم لما ينافيها ويُحبِطها من عبادة غيرِه تعالى فإنها ليست من العمارة في شيء وأما ما قيل من أن المعنى ما استقام لهم أن يجمَعوا بين أمرين متنافيين : عمارةِ بيتِ الله تعالى وعبادةِ غيرِه تعالى فليس بمُعربٍ عن كُنه المرامِ فإن عدمَ استقامةِ الجمعِ بين المتنافيَيْن إنما يستدعي انتفاءَ أحدِهما بعينه لا انتفاء العمارة الذي هو المقصود . روي أن المهاجرين والأنصارَ أقبلوا على أُسارى بدرٍ يعيِّرونهم بالشرك وطفِق عليٌّ رضي الله تعالى عنه يوبِّخ العباسَ بقتال النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقطيعةِ الرحم وأغلظَ له في القول فقال العباس : تذكُرون مساوينا وتكتمون محاسننا فقال : ولكم محاسنُ؟ قالوا : نعم ، إنا لنعمُر المسجدَ الحرام ونحجّب الكعبة ونسقي الحجيجَ ونفك العاني فنزلت { أولئك } الذين يدّعون عمارةَ المسجدِ وما يضاهيها من أعمال البرِ مع ما بهم من الكفر { حَبِطَتْ أعمالهم } أي التي يفتخرون بها بما قارنها من الكفر فصارت هباء منثوراً { وَفِى النار هُمْ خالدون } لكفرهم ومعاصيهم ، وإيرادُ الجملةِ الاسمية للمبالغة في الدلالة على الخلود ، والظرفُ متعلقٌ بالخبر قدم عليه للاهتمام به ، ومراعاةِ الفاصلة ، وكلتا الجملتين مستأنفةٌ لتقرير النفيِ السابق . الأولى من جهة نفيِ استتباعِ الثواب والثانيةُ من جهة نفي استدفاعِ العذاب .(3/149)
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله } الكلامُ في إيراد صيغةِ الجمعِ كما مر فيما مر ، خلا أن إرادةَ جميعِ المساجدِ وإدراجَ الحرامِ في ذلك غيرُ مخالفةٍ لمقتضى الحال ، فإن الإيجابَ ليس كالسلب وقد قرىء بالإفراد أيضاً والمرادُ هاهنا أيضاً قصرُ تحققِ العِمارةِ ووجودها على المؤمنين لا قصر جوازها ولياقتها أي إنما يصح ويستقيم أن يعمرها عمارةً يُعتدّ بها { مَنْ ءامَنَ بالله } وحده { واليوم الاخر } بما فيه من البعد والحساب والجزاءِ حسبما نطَق به الوحيُ { وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } على ما علم من الدين فيندرجُ فيه الإيمانُ بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم حتماً وقيل : هو مندرجٌ تحت الإيمانِ بالله خاصةً فإن أحدَ جُزْأي كلمتي الشهادة علمٌ للكل أي إنما يعمُرها مَنْ جمع هذه الكمالاتِ العلميةَ والعمليةَ ، والمرادُ بالعمارة ما يعم مَرَمَّةَ ما استرمّ منها وقمُّها وتنظيفُها وتزيينُها بالفُرُش وتنويرُها بالسُّرُج وإدامةُ العبادة والذكرُ ودراسةُ العلوم فيها ونحوُ ذلك وصيانتُها مما لم تُبنَ له كحديث الدنيا . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الحديثُ في المسجد يأكلُ الحسناتِ كما تأكل البهيمةُ الحشيش " وقال عليه الصلاة والسلام : " قال الله تعالى : «إن بيوتي في أرضي المساجدُ وإن زوّاري فيها عُمّارُها فطوبي لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحقّ على المَزورِ أن يكرم زائرِه " وعنه عليه الصلاة والسلام : " من ألِفَ المسجدَ ألِفَه الله تعالى " وقال عليه الصلاة والسلام : " إذا رأيتم الرجلَ يعتادُ المساجدَ فاشهدوا له بالإيمان " وعن أنس رضى الله عنه : «من أسرج في مسجد سِراجاً لم تزل الملائكةُ وحملةُ العرشِ تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤُه» { وَلَمْ يَخْشَ } في أمور الدين { إِلاَّ الله } فعمِل بموجب أمرِه ونهيه غيرَ آخذٍ له في الله لومةُ لائمٍ ولا خشيةُ ظالم فيندرج فيه عدمُ الخشية عن القتال ونحوُ ذلك ، وأما الخوفُ الجِبِليُّ من الأمور المَخوفةِ فليس من هذا الباب ولا مما يدخُل تحت التكليفِ والخطاب ، وقيل : كانوا يخشَوْن الأصنام ويرجونها فأريد نفيُ تلك الخشيةِ عنهم { فعسى أُوْلَئِكَ } المنعوتون بتلك النعوتِ الجميلة { أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين } إلى مباغيهم من الجنة وما فيها من فنون المطالبِ العليةِ ، وإبرازُ اهتدائِهم مع ما بهم من الصفات السنيةِ في معرِض التوقعِ لقطع أطماعِ الكفرةِ عن الوصول إلى مواقف الاهتداء والانتفاعِ بأعمالهم التي يحسَبون أنهم في ذلك محسنون ، ولتوبيخهم بقطعهم بأنهم مهتدون ، فإن المؤمنين مع ما بهم من هذه الكمالاتِ ، إذا كان أمرُهم دائراً بين لعل وعسى فما بالُ الكفرة وهم هُمْ ، وأعمالهم أعمالُهم وفيه لطفٌ للمؤمنين وترغيبٌ لهم في ترجيح جانبِ الخوفِ على جانب الرجاءِ ورفض الاعتذار بالله تعالى .(3/150)
{ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام } أي في الفضيلة وعلوِّ الدرجة { كَمَنْ ءامَنَ بالله واليوم الاخر وجاهد فِى سَبِيلِ الله } السقايةُ والعِمارةُ مصدران لا يتصور تشبيهُهما بالأعيان فلا بد من تقدير مضافٍ في أحد الجانبين أي أجعلتم أهلَهما كمن آمن بالله الخ ، ويؤيده قراءةُ من قرأ سُقاةَ الحاجِّ وعُمرةَ المسجد الحرام أو أجعلتموهما كإيمان من آمن الخ ، وعلى التقديرين فالخطابُ إما للمشركين على طريقة الالتفاتِ وهو المتبادر من تخصيص ذكرِ الإيمانِ بجانب المشبَّهِ به ، وإما لبعض المؤمنين المؤثِرين للسقاية والعِمارةِ ونحوِهما على الهجرة والجهادِ ونظائرِهما وهو المناسبُ للاكتفاء في الرد عليهم ببيان عدمِ مساواتِهم عند الله للفريق الثاني وبيانِ أعظميةِ درجتِهم عند الله تعالى على وجه يُشعر بعدم حِرمانِ الأوّلين بالكلية ، وجعلُ معنى التفضيلِ بالنسبة إلى زعم الكفرةِ لا يُجدي كثيرَ نفعٍ لأنه إن لم يُشعِرْ بعدم الحِرمانِ فليس بمُشعر بالحِرمان أيضاً أما على الأول فهو توبيخٌ للمشركين ومدارُه على إنكار تشبيهِ أنفسِهم من حيث اتصافُهم بوصفيهم المذكورين مع قطع النظرِ عما هم عليه من الشرك بالمؤمنين من حيث اتصافُهم بالإيمان والجهاد ، أو على إنكار تشبيهِ وصفيهم المذكورين في حد ذاتِهما مع الإغماض عن مقارنتهما للشرك بالإيمان والجهادِ ، وأما اعتبارُ مقارنتِهما له كما قيل فيأباه المقامُ ، كيف لا وقد بيِّن آنفاً حبوطُ أعمالِهم بذلك الاعتبارِ بالمرة وكونُها بمنزلة العدم ، فتوبيخُهم بعد ذلك على تشبيههما بالإيمان والجهادِ ثم رَدُّ ذلك بما يُشعر بعدم حِرمانِهم عن أصل الفضيلة بالكلية كما أشير إليه ، مما لا يساعده النظمُ التنزيليُّ ولو اعتُبر ذلك لما احتيج إلى تقرير إنكارِ التشبيهِ وتأكيدِه بشيء آخرَ إذ لا شيءَ أظهرُ بطلاناً من تشبيه المعدومِ بالموجود ، فالمعنى أجعلتم أهلَ السقايةِ والعمارةِ في الفضيلة كمن آمن بالله واليومِ الآخرِ وجاهد في سبيله أو أجعلتموهما في ذلك كالإيمان والجهادِ وشتانَ بينهما فإن السقايةَ والعمارةَ وإن كانتا في أنفسِهما من أعمال البرِّ والخيرِ لكنهما وإن خَلَتا عن القوادح بمعزل عن صلاحيةِ أن يُشبَّه أهلُهما بأهل الإيمان والجهادِ أو يُشَّبهَ أنفسُهما بنفس الإيمان والجهادِ ، وذلك قوله عز وجل : { لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله } أي لا يساوي الفريقُ الأول الثانيَ من حيث اتصافُ كلَ منهما بوصفيهما ومن ضرورته عدمُ التساوي بين الوصفَين الأولين وبين الآخَرَين لأنه المدارَ في التفاوت بين الموصوفَين ، وإسنادُ عدمِ الاستواءِ إلى الموصوفين ، لأن الأهمَّ بيانُ تفاوتِهم ، وتوجيهُ النفي هاهنا والإنكارُ فيما سلف إلى الاستواء والتشبيهِ مع أن دعوى المفتخِرين بالسقاية والعمارةِ من المشركين والمؤمنين إنما هي الأفضليةُ دون التساوي والتشابه للمبالغة في الرد عليهم فإن نفيَ التساوي والتشابهِ نفيٌ للأفضلية بالطريق الأولى ، والجملةُ استئنافٌ لتقرير الإنكارِ المذكورِ وتأكيدِه ، أو حال من مفعولي الجَعل ، والرابطُ هو الضميرُ كأنه قيل : أسوَّيتم بينهم حال كونِهم متفاوتين عنده تعالى وقوله تعالى : { والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } حُكمٌ عليهم بأنهم مع ظلمهم بالإشراك ومعاداةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم ضالون في هذا الجعلِ غيرُ مهتدين إلى طريق معرفةِ الحقِّ وتمييزِ الراجحِ من المرجوح ، وظالمون بوضع كلَ منهما موضعَ الآخَر وفيه زيادةُ تقريرٍ لعدم التساوي بينهم .(3/151)
الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
وقوله تعالى : { الذين ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ * فِى سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ } استئنافٌ لبيان مراتبِ فضلِهم إثرَ بيانِ عدمِ الاستواءِ وضلالِ المشركين وظلمِهم . وزيادةُ الهجرةِ وتفصيلُ نوعي الجهاد للإيذان بأن ذلك من لوازم الجهادِ لا أنه اعتُبر بطريق التدارك أمراً لم يُعتبر فيما سلف أي هم باعتبار اتصافِهم بهذه الأوصافِ الجميلة { أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله } أي أعلى رتبةً وأكثرَ كرامةً ممن لم يتصف بها كائناً مَنْ كان وإن حاز جميعَ ما عداها من الكمالات التي من جملتها السقايةُ والعمارة { وَأُوْلئِكَ } أي المنعوتون بتلك النعوتِ الفاضلةِ ، وما في اسم الإشارةِ من معنى البُعد للدِلالة على بُعد منزلتِهم في الرفعة { هُمُ الفائزون } المختصون بالفوز العظيمِ أو بالفوز المطلقِ كأن فوزَ مَنْ عداهم ليس بفوزٍ بالنسبة إلى فوزهم ، وأما على الثاني فهو توبيخٌ لمن يؤثِر السِّقايةَ والعِمارةَ من المؤمنين على الهجرة والجهاد ، روي أن علياً قال للعباس رضي الله عنهما بعد إسلامِه : يا عمّ ألا تهاجرون ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ألستُ في أفضلَ من الهجرة أَسقي حاجَّ بيتِ الله وأعمُر المسجدَ الحرام؟ فلما نزلت قال : ما أُراني إلا تاركَ سقايتِنا فقال عليه السلام : « أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيراً » وروى النعمانُ بن بشير قال : كنت عند منبرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال رجلٌ : ما أبالي ألا أعملَ عملاً بعد أن أسقي الحاجَّ ، وقال آخَرُ : ما أبالي ألا أعملَ عملاً بعد أن أعمُرَ المسجدَ الحرام ، وقال آخرُ : الجهادُ في سبيل الله أفضلُ مما قلتم ، فزجرهم عمرُ رضي الله عنه وقال : لا ترفعوا أصواتَكم عند منبر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليتم استفتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه فدخل فأنزل الله عز وجل هذه الآيةَ ، والمعنى أجعلتم أهلَ السقايةِ والعمارةِ من المؤمنين في الفضيلة والرفعةِ كمن آمن بالله واليومِ الآخر وجاهد في سبيله ، أو أجعلتموهما كالإيمان والجهادِ ، وإنما لم يُذكر الإيمانُ في جانب المشبَّه مع كونه معتبَراً فيه قطعاً تعويلاً على ظهور الأمرِ وإشعاراً بأن مدارَ إنكارِ التشبيه هو السقايةُ والعمارةُ دون الإيمانِ وإنما لم يُترك ذكرُه في جانب المشبَّه به أيضاً تقويةً للإنكار وتذكيراً لأسباب الرجحانِ ومبادىءِ الأفضلية وإيذاناً بكمال التلازمِ بين الإيمان وما تلاه ، ومعنى عدمِ الاستواء عند الله تعالى على هذا التقدير ظاهرٌ وكذا أعظميةُ درجةِ الفريقِ الثاني ، وأما قوله تعالى : { والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } فالمرادُ به عدمُ هدايتِه تعالى إلى معرفة الراجحِ من المرجوح وظلمُهم بوضع كل منهما موضعَ الآخر لا عدمُ الهدايةِ مطلقاً ولا الظلمُ عموماً ، والقصرُ في قوله تعالى : { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفائزون } بالنسبة إلى درجة الفريقِ الثاني ، أو إلى الفوز المطلق ادعاءٌ كما مر والله أعلم .(3/152)
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
{ يُبَشّرُهُمْ } وقرىء بالتخفيف { رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ } عظيمة { مّنْهُ ورضوان } كبير { وجنات } عاليةٍ { لَّهُمْ فِيهَا } في تلك الجنات { نَعِيمٌ مُّقِيمٌ } نِعمٌ لا نفادَ لها ، وفي التعُّرض لعنوان الربوبيةِ تأكيدٌ للمبشَّر به وتربيةٌ له { خالدين فِيهَا } أي في الجنات { أَبَدًا } تأكيدٌ للخلود لزيادة توضيحِ المرادِ به إذ قد يُراد به المُكث الطويل { إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } لا قدرَ عنده لأجور الدنيا أو للأعمال التي في مقابلته ، والجملةُ استئنافٌ وقع تعليلاً لما سبق .(3/153)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وإخوانكم أَوْلِيَاء } نهيٌ لكل فردٍ من أفراد المخاطَبين عن موالاة فردٍ من المشركين بقضية مقابلةِ الجمعِ بالجمع الموجبةِ لانقسام الآحادِ إلى الآحاد كما في قوله عز وجل : { وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ } لا عن موالاة طائفةٍ منهم فإن ذلك مفهومٌ من النظم دِلالةً لا عبارةً والآية نزلت في المهاجرين فإنهم لما أُمروا بالهجرة قالوا : إنْ هاجرنا قطَعْنا آباءَنا وأبناءَنا وعشيرتَنا وذهبت تجارتُنا وهلكتْ أموالُنا وخَرِبَتْ ديارُنا وبقِينا ضائعين فنزلت فهاجروا فجعل الرجلُ يأتيه ابنُه أو أبوه أو أخوه أو بعضُ أقاربه فلا يلتفت إليه ولا يُنزِله ولا يُنفق عليه ثم رُخِّصَ لهم في ذلك . وقيل : نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحِقوا بمكةَ نهياً عن موالاتهم ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يطعَمُ أحدُكم طعمَ الإيمانِ حتى يُحب في الله أبعدَ الناس منه ويُبغضَ في الله أقربَ الناس إليه » { إِنِ استحبوا الكفر } أي اختاروه { عَلَى الإيمان } وأصرّوا عليه إصراراً لا يُرجى معه الإقلاعُ عنه أصلاً ، وتعليقُ النهي عن الموالاة بذلك لما أنها قبلَ ذلك ربما تؤدي بهم إلى الإسلام بسبب شعورِهم بمحاسن الدين { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ } أي واحداً منهم كما أشير إليه ، وإفرادُ الضميرِ في الفعل لمراعاة لفظِ الموصولِ وللإيذان باستقلال كلِّ واحدٍ منهم في الاتصاف بالظلمِ لا أن المرادَ تولي فردٍ واحدٍ ، وكلمةُ مِنْ في قوله تعالى : { مّنكُمْ } للجنس لا للتبعيض { فَأُوْلَئِكَ } أي أولئك المتولّون { هُمُ الظالمون } بوضعهم الموالاةَ في غير موضعِها كأنّ ظلمَ غيرِهم كلا ظلمٍ عند ظلمِهم .
{ قُلْ } تلوين للخطاب وأمرٌ له عليه الصلاة والسلام بأن يُثبِّت المؤمنين ويقوّيَ عزائمَهم على الانتهاء عما نُهوا عنه من موالاة الآباءِ والإخوانِ ويزهِّدَهم فيهم وفيمن يجري مجراهم من الأبناء والأزواج ويقطعَ علائقَهم عن زخارف الدنيا وزينتِها على وجه التوبيخ والترهيب { إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وإخوانكم وَأَزْوَاجُكُم } لم يُذكر الأبناءُ والأزواجُ فيما سلف لأن موالاةَ الأبناءِ والأزواجِ غيرُ معتادةٍ بخلاف المحبة { وَعَشِيرَتُكُمْ } أي أقرباؤُكم مأخوذ من العِشرة أي الصحبة وقيل : من العشَرة فإنهم جماعةٌ ترجِع إلى عَقد كعقد العشرة ، وقرىء عشيراتكم وعشائرُكم { وأموال اقترفتموها } أي اكتسبتموها وإنما وصفت بذلك إيماءً إلى عزتها عندهم لحصولها بكد اليمين { وتجارة } أي أمتعةٌ اشتريتموها للتجارة والربح { تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا } بفوات وقتِ رواجِها بغَيْبتكم عن مكةَ المعظمةِ في أيام الموسم { ومساكن تَرْضَوْنَهَا } أي منازلُ تعجبكم الإقامةُ فيها من الدور والبساتينِ ، والتعرُّضُ للصفات المذكورة للإيذان بأن اللومَ على محبة ما ذكر من زينة الحياةِ الدنيا ليس لتناسي ما فيها من مبادي المحبة وموجباتِ الرغبة فيها وأنها مع ما لها من فنون المحاسنِ بمعزل عن أن يُؤثَرَ حبُّها على حبه تعالى وحبِّ رسولِه عليه الصلاة والسلام كما في قوله عز وجل :(3/154)
{ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم } { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ الله وَرَسُولِهِ } بالحب الاختياري المستتبع لأثره الذي هو الملازمة وعدمُ المفارقةِ لا الحُبُّ الجِبِليُّ الذي لا يخلو عنه البشرُ فإنه غيرُ داخلٍ تحت التكليفِ الدائرِ على الطاقة .
{ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } نُظم حبُّه في سلك حبِّ الله عز وجل وحبِّ رسولِه صلى الله عليه وسلم تنويهاً لشأنه وتنبيهاً على أنه مما يجب أن يُحَبَّ فضلاً عن أن يُكرَه وإيذاناً بأن محبتَه راجعةٌ إلى محبتهما فإن الجهادَ عبارةٌ عن قتال أعدائِهما لأجل عداوتِهم فمَن يحبُّهما يجب أن يحِبَّ قتالَ من لا يحبُّهما { فَتَرَبَّصُواْ } أي انتظروا { حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ } عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه فتحُ مكةَ وقيل : هي عقوبةٌ عاجلةٌ أو آجلة { والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين } الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين أو القومَ الفاسقين كافةً فيدخل في زمرتهم هؤلاءِ دخولاً أولياً ، أي لا يرشدهم إلى ما هو خيرٌ لهم وفي الآية الكريمة من الوعيد ما لا يكاد يَتخلّص منه إلا من تداركه لطفٌ من ربه والله المستعان .(3/155)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)
{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله } الخطابُ للمؤمنين خاصة { فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ } من الحروب وهي مواقُعها ومقاماتها والمرادُ بها وقَعاتُ بدر وقُرَيظةَ والنَّضيرِ والحُدَيبية وخيبَر وفتحُ مكة { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ } عطفٌ على محل ( في مواطن ) بحذف المضافِ في أحدهما أي وموطنِ يوم حنين ، أو في أيامِ مواطنَ كثيرةٍ ويومَ حنين ولعل التغييرَ للإيماء إلى ما وقع فيه من قلة الثباتِ من أول الأمر وقيل : المرادُ بالموطِن الوقتُ كمقتل الحسين ، وقيل : يومَ حنين منصوبٌ بمضمر معطوفٍ على نصركم أي ونصرَكم يومَ حنين .
{ إِذَ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } بدلٌ من يومَ حنينٍ ولا منعَ فيه من عطفه على محل الظرفِ بناءً على أنه لم يكن في المعطوف عليه كثرةٌ ولا إعجابٌ إذ ليس من قضية العطفِ مشاركةُ المعطوفين فيما أضيف إليه المعطوفُ ، أو منصوبٌ بإضمار اذكُرْ ، ( وحنينٌ وادٍ بين مكةَ والطائفِ كانت فيه الوقعةُ بين المسليمن وهم اثنا عشر ألفاً ، عشرةُ آلافٍ منهم ممن شهد فتحَ مكةَ من المهاجرين والأنصار وألفانِ من الطلقاء ، وبين هَوازِنَ وثقيفٍ وكانوا أربعةَ آلافٍ فيمن ضامهم من أمداد سائر العرب وكانوا الجمَّ الغفيرَ فلما التَقْوا قال رجلٌ من المسلمين اسمُه سلمةُ بنُ سلامةَ الأنصاري : لن نُغلَبَ اليومَ من قلة فساءت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فاقتتلوا قتالاً شديداً فانهزم المشركون وخلَّوا الذراريَ فأكبَّ المسلمون على الغنائم فتنادى المشركون يا حُماة السوء اذكروا الفضائحَ فتراجعوا فأدركت المسلمين كلمةُ الإعجاب فانكشفوا وذلك قوله عز وجل : { فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } والإغناءُ إعطاءُ ما يُدفع به الحاجةُ أي لم تُعطِكم تلك الكثرةُ ما تدفعون به حاجتَكم شيئاً من الإغناء { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الارض بِمَا رَحُبَتْ } أي برَحْبها وسَعتها على أن ( ما ) مصدريةٌ والباء بمعنى مع أي لا تجِدون فيها مفرّاً تطمئنُّ إليه نفوسُكم من شدة الرعبِ ولا تثبُتون فيها كمن لا يسعه مكان { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } رُوي أنه بلغ فَلُّهم مكةَ وبقي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وحده ليس معه إلا عمُّه العباسُ آخذاً بلجام بغلته وابنُ عمِّه أبو سفيانَ بنُ الحارث آخذاً بركابه وهو يركُض البغلةَ نحو المشركين وهو يقول : " أنا النبيُّ لا كذِب أنا ابنُ عبد المطلب " روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يحمِلُ على الكفار فيفِرُّون ثم يحمِلون عليه فيقف لهم فعلَ ذلك بضعَ عشْرَةَ مرة قال العباس : كنت أكُفَّ البغلة لئلا تُسرِعَ به نحوَ المشركين ، وناهيك بهذه الواحدةِ شهادةَ صدقٍ على أنه عليه الصلاة والسلام كان في الشجاعة ورباطةِ الجأش سبّاقاً للغايات القاصيةِ وما كان ذلك إلا لكونه مؤيداً من عند الله العزيز الحكيم فعند ذلك قال : " يا رب ائتني بما وعدتَني " وقال للعباس وكان صيِّتاً : «صِحْ بالناس» فنادى الأنصارَ فخِذاً فخِذاً ثم نادى يا أصحابَ الشجرةِ يا أصحابَ سورةِ البقرة فكرّوا عنقاً واحداً وهم يقولون : لبيك لبيك وذلك .(3/156)
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
قوله تعالى : { ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ } أي رحمتَه التي تسكُن بها القلوبُ وتطمئنُّ إليها اطمئناناً كلياً مستتبِعاً للنصر القريبِ ، وأما مطلقُ السكينةِ فقد كانت حاصلةً له عليه الصلاة والسلام قبل ذلك أيضاً { وَعَلَى المؤمنين } عطفٌ على رسولِه ، وتوسيطُ الجارِّ بينهما للدِلالة على ما بينهما من التفاوت أي المؤمنين الذين انهزموا وقيل : على الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم أو على الكل وهو الأنسبُ ولا ضيرَ في تحقيق أصلِ السكينةِ في الثابتين من قبل ، والتعرُّضُ لوصف الإيمانِ للإشعار بعلية الإنزال { وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } أي بأبصاركم كما يرى بعضُكم بعضاً وهم الملائكةُ عليهم السلام عليهم البياضُ على خيول بُلْقٍ فنظر النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى قتال المسلمين فقال هكذا حين حمِيَ الوطيسُ فأخذ كفاً من التراب فرمى به نحو المشركين وقال : « شاهت الوجوه » فلم يبقَ منهم أحدٌ إلا امتلأت به عيناه ثم قال عليه الصلاة والسلام : « انهزَموا وربِّ الكعبة » واختلفوا في عدد الملائكة يومئذ فقيل : خمسةُ آلافٍ ، وقيل : ثمانيةُ آلافٍ ، وقيل : ستةَ عشَرَ ألفاً ، وفي قتالهم أيضاً فقيل : قاتلوا ، وقيل : لم يقاتلوا إلا يومَ بدر وإنما كان نزولُهم لتقوية قلوب المؤمنين بإلقاء الخواطِر الحسنةِ وتأييدِهم بذلك وإلقاءِ الرعبِ في قلوب المشركين . قال سعيد بن المسيِّب : حدثني رجل كان في المشركين يوم حُنين قال : لما كشَفْنا المسلمين جعلْنا نسوقُهم فلما انتهينا إلى صاحب البغلةِ الشهباءِ تلقانا رجالٌ بِيضُ الوجوه فقالوا : شاهت الوجوهُ ارجِعوا فرجَعنا فركِبوا أكتافنا { وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ } بالقتل والأسر والسبي { وَذَلِكَ } أي ما فُعل بهم مما ذكر { جَزَاء الكافرين } لكفرهم في الدنيا { ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَاء } أن يتوبَ عليه منهم لحكمة تقتضيه أي يوفقه للإسلام { والله غَفُورٌ } يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي { رَّحِيمٌ } يتفضل عليهم ويثيبهم . ( روي أن ناساً منهم جاءوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وقالوا : يا رسول الله أنت خيرُ الناسِ وأبرُّ الناس وقد سُبيَ أهلونا وأولادنا وأُخذت أموالُنا . قيل : سُبيَ يومئذ ستةُ آلافِ نفسٍ وأُخذ من الإبل والغنمِ ما لا يُحصى فقال عليه الصلاة والسلام : « إن عندي ما ترون إن خيرَ القولِ أصدقُه ، اختاروا إما ذرارِيَكم ونساءَكم وإما أموالَكم » قالوا : ما كنا نعدِل بالأحساب شيئاً فقام النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال : « إن هؤلاء جاءونا مسلمين وإنا خيَّرناهم بين الذراري والأموالِ فلم يعدِلوا بالأحساب شيئاً فمن كان بيده سبْيٌ وطابت نفسُه أن يرُدَّه فشأنُه ، ومن لا فليُعطِنا وليكُنْ قَرْضاً علينا حتى نُصيبَ شيئاً فنعُطِيَه مكانه » ، قالوا : قد رضِينا وسلّمنا فقال عليه الصلاة والسلام : « إنا لا ندري لعل فيكم من لا يرضى فمُروا عُرفاءَكم فليرفعوا ذلك إلينا » فرَفَعتْ إليه العرفاءُ أنهم قد رضُوا .(3/157)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } وُصفوا بالمصدر مبالغةً كأنهم عينُ النجاسةِ أو هم ذوو نجسٍ لخُبث باطنِهم أو لأن معهم الشركَ الذي هو بمنزلة النجَس أو لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاساتِ فهي ملابسةٌ لهم . عن ابن عباس رضى الله عنهما أن أعيانَهم نجِسةٌ كالكلاب والخنازير ، وعن الحسن من صافح مشرِكاً توضأ ، وأهلُ المذاهبِ على خلاف هذين القولين ، وقرىء نِجْسٌ بكسر النون وسكون الجيم وهو تخفيف نجس ككِبْدٍ في كَبِد كأنه قيل : إنما المشركون جنسٌ نجسٌ أو ضرْبٌ نجس ، وأكثرُ ما جاء تابعاً لرِجْس { فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام } تفريعٌ على نجاستهم وإنما نُهي عن القرب للمبالغة أو للمنع عن دخولِ الحرمِ ، وهو مذهبُ عطاءٍ ، وقيل : المرادُ به النهيُ عن الدخول مطلقاً ، وقيل : المرادُ المنعُ عن الحج والعمرةِ وهو مذهبُ أبي حنيفةَ رحمه الله تعالى ويؤيده قوله عز وجل : { بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } فإن تقييدَ النهي بذلك يدل على اختصاص المنهيِّ عنه بوقت من أوقات العام ، أي لا يحجُّوا ولا يعتمِروا بعد حجِّ عامِهم هذا ، وهو عامُ تسعةٍ من الهجرة حين أُمّر أبو بكر رضي الله عنه على الموسم ويدل عليه قولُ عليَ رضي الله عنه حين نادى ببراءة : ألا لا يحُجَّ بعد عامِنا هذا مشركٌ ، ولا يُمنعون من دخول الحرمِ والمسجد الحرام وسائرِ المساجدِ عنده ، وعند الشافعي يمنعون من المسجد الحرام خاصة ، وعند مالك يمنعون من جميع المساجد ، ونهيُ المشركين أن يقرَبوه راجعٌ إلى نهي المسلمين عن تمكينهم من ذلك ، وقيل : المرادُ أن يُمنعوا من تولي المسجد الحرام والقيامِ بمصالحه ويُعزَلوا عن ذلك .
{ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } أي فقراً بسبب منعِهم من الحج وانقطاعِ ما كانوا يجلُبونه إليكم من الإرفاق والمكاسب ، وقرىء عائلةً على أنها مصدرٌ كالعافية أو حالاً عائلة { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ } من عطائه أو من تفضله بوجهٍ آخَرَ فأرسل الله تعالى السماء عليهم مدراراً أغزر بها خيرَهم وأكثر ميرَهم وأسلم أهلُ تبالةَ وجرشٍ فحمَلوا إلى مكة الطعامَ وما يُعاش به فكان ذلك أعودَ عليهم مما خافوا العَيلةَ لفواته ثم فتح عليهم البلادَ والغنائمَ وتوجه إليهم الناسُ من أقطار الأرض { إِن شَاء } أن يغنيَكم مشيئةً تابعةً للحِكمة الداعيةِ إليها وإنما قيد ذلك بها لتنقطعَ الآمالُ إلى الله تعالى ولأن الإغناءَ ليس مطرداً بحسب الأفراد والأحوال والأوقات { إِنَّ الله عَلِيمٌ } بمصالحكم { حَكِيمٌ } فيما يُعطي ويمنع .(3/158)
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
{ قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الاخر } أمرَهم بقتال أهلِ الكتابين إثرَ أمرِهم بقتال المشركين وبمنعهم من أن يحرموا حول ما كانوا يفعلونه من الحج والعمرةِ غيرَ خائفين من الفاقة المتوهَّمةِ من انقطاعهم ، ونبّههم في تضاعيف ذلك على بعض طرقِ الإغناء الموعودِ على الوجه الكليِّ وأرشدهم إلى سلوكه ابتغاءً لفضله واستنجازاً لوعده ، والتعبيرُ عنهم بالموصول للإيذان بعلِّية ما في حيز الصلةِ للأمر بالقتال وبانتظامهم بسبب ذلك في سلك المشركين ، فإن اليهودَ مُثَنّيةٌ والنصارى مُثلِّثةٌ ، فهم بمعزل من أن يؤمنوا بالله سبحانه وباليوم الآخر فإن عِلمَهم بأحوال الآخرة كلا علمٍ ، فإيمانُهم المبنيُّ عليه ليس بإيمان به { وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ } أي ما ثبت تحريمُه بالوحي متلوّاً أو غيرَ متلوٍ . وقيل : المرادُ برسوله الرسولُ الذي يزعُمون اتباعَه أي يخالفون أصلَ دينهم المنسوخِ اعتقاداً وعملاً { وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق } الثابتَ الذي هو ناسخٌ لسائر الأديان وهو دينُ الإسلام وقيل : دين الله { مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } من التوراة والإنجيل ، فمن بيانيةٌ لا تبعيضيةٌ حتى يكونَ بعضُهم على خلاف ما نُعت { حتى يُعْطُواْ } أي يقبَلوا أن يعطوا { الجزية } أي ما تقرَّرَ عليهم أن يُعطوه ، مشتقٌّ من جزَى دَينَه أي قضاه ، أو لأنهم يَجْزُون بها مَنْ مَنّ عليهم بالإعفاء عن القتل { عَن يَدٍ } حالٌ من الضمير في يُعطوا أي عن يد مؤاتيةٍ مطيعةٍ بمعنى منقادين ، أو من يدهم بمعنى مسلّمين بأيديهم غيرَ باعثين بأيدي غيرِهم ولذلك مُنع من التوكيل فيه ، أو عن غِنىً ولذلك لم تجِب الجزيةُ على الفقير العاجزِ ، أو عن يد قاهرةِ عليهم أي بسبب يد بمعنى عاجزين أذلأَ أو عن إنعام عليهم ، فإن إبقاءَ مُهجتِهم بما بذلوا من الجِزية نعمةٌ عظيمةٌ عليهم ، أو من الجزية أي نقداً مسلّمةً عن يد إلى يد ، وغايةُ القتالِ ليست نفسَ هذا الإعطاء بل قبولَه كما أشير إليه { وَهُمْ صاغرون } أي أذلاءُ وذلك بأن يأتيَ بها بنفسه ماشياً غيرَ راكبٍ ويسلِّمَها وهو قائمٌ والمتسلِّمُ جالسٌ ويُؤخَذَ بتَلْبيبه ويقال له : أدِّ الجزية وإن كان يؤديها ، وهي تؤخذ عند أبي حنيفة رضي الله عنه من أهل الكتاب مطلقاً ومن مشركي العجَم لا من مشركي العرب ، وعند أبي يوسف رضي الله عنه لا تؤخذ من الأعجميِّ كتابياً كان أو مشركاً وعند الشافعي رضي الله عنه تؤخذ من أهل الكتابِ عربياً أو عجمياً ، ولا تؤخذ من أهل الأوثانِ مطلقاً ، وذهب مالكٌ والأوزاعيُّ إلى أنها تؤخذ من جميع الكفارِ ، وأما المجوسُ فقد اتفقت الصحابةُ رضي الله عنهم على أخذ الجزيةِ منهم لقوله عليه الصلاة والسلام : « سُنّوا بهم سُنَّةَ أهلِ الكتاب »(3/159)
وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان لهم كتابٌ يدرُسونه فأصبحوا وقد أسرى على كتابهم فرُفع من بين أظهُرِهم ، واتفقوا على تحريم ذبيحتِهم ومناكحتِهم لقوله عليه الصلاة والسلام في آخر ما نقل من الحديث « غيرَ ناكحي نسائِهم ولا آكلي ذبيحتِهم » ووقت الأخذ عند أبي حنيفة رضي الله عنه أولُ السنة وتسقطُ بالموت والإسلام ، ومقدارُها على الفقير المعتمِل اثنا عشر درهماً وعلى المتوسط الحالِ أربعةٌ وعشرون درهماً وعلى الفتى ثمانيةٌ وأربعون درهماً ولا جزيةَ على فقير عاجزٍ عن الكسب ولا على شيخ فانٍ أو زَمِنٍ أو صبيَ أو امرأةٍ ، وعند الشافعي رضي الله عنه تؤخذ في آخر السنة من كل واحد دينارٌ غنياً كان أو فقيراً كان له كسبٌ أو لم يكن .(3/160)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
{ وَقَالَتِ اليهود } جملةٌ مبتدأةٌ سيقت لتقريرٍ ما من عدم إيمانِ أهلِ الكتابين بالله سبحانه وانتظامِهم بذلك في سلك المشركين { عُزَيْرٌ ابن الله } مبتدأٌ وخبرٌ وقرىء بغير تنوينٍ على أنه اسمٌ أعجميٌّ كعازَرَ وعزَارَ غيرُ منصرفٍ للعجمة والتعريف ، وأما تعليلُه بالتقاء الساكنين أو بجعل الابن وصفاً على أن الخبرَ محذوفٌ فتعسّفٌ مستغنىً عنه . قيل : هو قولُ قدمائِهم ثم انقطع فحَكى الله تعالى ذلك عنهم ، ولا عبرةَ بإنكار اليهودِ وقيل : قولُ بعضٍ ممن كان بالمدينة . عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ناسٌ منهم وهم سلامُ بنُ مِشْكَم ونعمانُ بنُ أوفى وشاسُ بنُ قيسٍ ومالكُ بنُ الصيف فقالوا ذلك وقيل : قاله فنحاصُ بنُ عازوراءَ وهو الذي قال : ( إن الله فقيرٌ ونحن أغنياء ) وسببُ هذا القولِ أن اليهودَ قتلوا الأنبياءَ بعد موسى عليه السلام فرفع الله تعالى عنهم التوراةَ ومحاها من قلوبهم ، فخرج عزيرٌ وهو غلامٌ يَسيح في الأرض فأتاه جبريلُ عليه السلام فقال له : أين تذهب ، قال : أطلبُ العلم فحفّظه التوراةَ فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لا يخرِم حرفاً ، فقالوا : ما جمع الله التوراةَ في صدره وهو غلامٌ إلا أنه ابنُه . قال الإمام الكلبي : لما قَتل بُختُ نَصَّرُ علماءَهم جميعاً وكان عزيرٌ إذ ذاك صغيراً فاستصغره ولم يقتُلْه فلما رجع بنو إسرائيلَ إلى بيت المقدس وليس فيهم من يقرأ التوارةَ بعث الله تعالى عزيراً ليجدد لهم التوراةَ ويكونَ آيةً بعد ما أماته مائةَ عامٍ ، يقال إنه أتاه ملكٌ بإناء فيه ماءٌ فسقاه فمثلت في صدره فلما أتاهم فقال لهم : إني عزيرٌ كذّبوه فقالوا : إن كنت كما تزعُم فأمْلِ علينا التوراةَ ففعل فقالوا : إن الله تعالى لم يقذِف التوراةَ في قلب رجلٍ إلا لأنه ابنُه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن اليهود أضاعوا التوارةَ وعمِلوا بغير الحقِ فأنساهم الله تعالى التوراةَ ونسخها من صدورهم ورفع التابوتَ فتضرع عزيرٌ إلى الله تعالى وابتهل إليه فعاد حفظُ التوراةِ إلى قلبه فأنذر قومه به ثم إن التابوت نزلَ فعرضوا ما تلاه عزيرٌ على ما فيه فوجدوه مثلَه فقالوا ما قالوا .
{ وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله } هو أيضاً قولٌ لبعضهم وإنما قالوه استحالةً لأن يكون ولدٌ بغير أبٍ أو لأن يفعَلَ ما فعله من إبراء الأكمهِ والأبرصِ وإحياءِ الموتى مَنْ لم يكن إلها { ذلك } إشارةٌ إلى ما صدر عنهم من العظيمتين ، وما فيه معنى البُعد للدِلالة على بُعد درجةِ المشار إليه في الشناعة والفظاعة { قَوْلُهُم بأفواههم } إما تأكيدٌ لنسبة القولِ المذكورِ إليهم ونفي التجوّزِ عنها أو إشعارٌ بأنه قولٌ مجرد عن برهان وتحقيقٍ مماثل للمُهمل الموجودِ في الأفواه من غير أن يكون له مصِداقٌ في الخارج { يضاهئون } أي في الكفر والشناعةِ وقرىء بغير همز { قَوْلَ الذين كَفَرُواْ } أي يشابه قولُهم على حذف المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامَه عند انقلابِه مرفوعاً قولَ الذين كفروا { مِن قَبْلُ } أي من قبلهم وهم المشركون الذين يقولون : الملائكةُ بناتُ الله أو اللاتُ والعزّى بناتُ الله لا قدماؤهم كما قيل إذا لا تعددَ في القول حتى يتأتّى التشبيهُ ، وجعلُه بين قولي الفريقين مع اتحاد المقولِ ليس فيه مزيدُ مزيةٍ وقيل : الضميرُ للنصارى أي يضاهي قولُهم : المسيحُ ابنُ الله قولَ اليهودِ عزيزٌ الخ لأنهم أقدمُ منهم وهو أيضاً كما ترى فإنه يستدعي اختصاصَ الردِّ والإبطالَ بقوله تعالى : { ذلك قَوْلُهُم بأفواههم } بقول النصارى : { قاتلهم الله } دعاءٌ عليهم جميعاً بالإهلاك فإن مَنْ قاتله الله هلك ، أو تعجّبٌ من شناعة قولِهم { أنى يُؤْفَكُونَ } كيف يُصْرفون من الحق إلى الباطل والحالُ أنه لا سبيل إليه أصلاً .(3/161)
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
{ اتخذوا } زيادةُ تقريرٍ لما سلف من كفرهم بالله تعالى { أحبارهم } وهم علماءُ اليهود ، واختُلف في واحده ، قال الأصمعي : لا أدري أهو حَبْرٌ أم حِبْرٌ وقال أبو الهيثم : بالفتح لا غير ، وكان الليثُ وابنُ السِّكِّيتِ يقولان : حِبْرٌ وحَبْرٌ للعالِم ذمياً كان أو مسلماً بعد أن كان من أهل الكتاب { ورهبانهم } وهم علماءُ النصارى من أصحاب الصوامعِ أي اتخذ كلُّ واحد من الفريقين علماءَهم لا الكلُّ الكلَّ { أَرْبَابًا مّن دُونِ الله } بأن أطاعوهم في تحريم ما أحله الله تعالى وتحليلِ ما حرمه أو بالسجود لهم ونحوِه تسميةُ اتِّباعِ الشيطان عبادةً له كما في قوله تعالى : { سَوِيّاً ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان } وقوله تعالى : { بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن } قال عدي بن حاتم : أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليبٌ من ذهب وكان إذ ذاك على دين يسمَّى الركوسية فريق من النصارى وهو يقرأ سورةَ براءة فقال : « يا عديُّ اطرَحْ هذا الوثنَ » فطرحتُه فلما انتهى إلى قوله تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله } قلت : يا رسولَ الله لم يكونوا يعبُدونهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : « أليس يحرِّمون ما أحل الله فتُحرِّمونه ويُحِلّون ما حرم الله فتَستحلّونه؟ » فقلتُ : بلى ، قال : « ذلك عبادتُهم » قال الربيع : قلت لأبي العالية : كيف كانت تلك الربوبيةُ في بني إسرائيلَ؟ قال : إنهم ربما وجدوا في كتاب الله تعالى ما يخالف أقوالَ الأحبارِ فكانوا يأخُذون بأقوالهم ويترُكون حُكمَ كتابِ الله { والمسيح ابن مَرْيَمَ } عطفٌ على رهبانهم أي اتخذه النصارى رباً معبوداً بعد ما قالوا إنه ابنُه ، تعالى عن ذلك علواً كبيراً ، وتخصيصُ الاتخاذِ به يشير إلى أن اليهودَ ما فعلوا ذلك بعزيرٍ ، وتأخيرُه في الذكر مع أن اتخاذَهم له عليه الصلاة والسلام رباً معبوداً أقوى من مجرد الإطاعةِ في أمر التحليل والتحريمِ كما هو المرادُ باتخاذهم الأحبارَ والرهبانَ أرباباً ، لأنه مختصٌّ بالنصارى ، ونسبتُه عليه الصلاة والسلام إلى أمه من حيث دلالتُها على مربوبيته المنافيةِ للربوبية للإيذان بكمال ركاكةِ رأيِهم والقضاءِ عليهم بنهاية الجهل والحماقة .
{ وَمَا أُمِرُواْ } أي والحالُ أن أولئك الكفرةَ ما أُمروا في كتابيهم { إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا } عظيمَ الشأنِ هو الله سبحانه وتعالى ويطيعوا أمرَه ولا يطيعوا أمرَ غيرِه بخلافه ، فإن ذلك مُخِلٌّ بعبادته تعالى فإن جميعَ الكتبِ السماوية متفقةٌ على ذلك قاطبةً وقد قال المسيح عليه السلام : ( إنه من يشرِكْ بالله فقد حرم الله عليه الجنة ) وأما إطاعة الرسولِ صلى الله عليه وسلم وسائرِ مَنْ أمر الله تعالى بطاعته فهي في الحقيقة إطاعةٌ لله عز وجل أو وما أُمر الذين اتخذهم الكفرةُ أرباباً من المسيح والأحبارِ والرهبانِ إلا ليوحِّدوا الله تعالى فكيف يصِحُّ أن يكونوا أرباباً وهم مأمورون مستعبَدون مثلَهم ولا يقدح في ذلك كونُ ربوبيةِ الأحبار والرهبان بطريق الإطاعةِ فإن تخصيصَ العبادة به تعالى لا يتحقق إلا بتخصيص الطاعَةِ أيضاً به تعالى وحيث لم يخُصوها به تعالى لم يخصّوا العبادةَ به سبحانه { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } صفةٌ ثانيةٌ لإلها أو استئنافٌ مقرِّرٌ للتوحيد { سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ } عن الإشراك به في العبادة والطاعةِ .(3/162)
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
{ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله } إطفاءُ النار عبارةٌ عن إزالة لَهبِها الموجبةِ لزوال نورِها لا عن إزالة نورِها كما قيل ، لكن لما كان الغرضُ من إطفاء نارٍ لا يراد بها إلا النورُ كالمصباح إزالةَ نورِها جُعل إطفاؤُها عبارةً عنها ثم شاع ذلك حتى كان عبارةً عن مطلق إزالةِ النور وإن كان لغير النار ، والسرِّ في ذلك انحصارُ إمكانِ الإزالةِ في نورها والمرادُ بنور الله سبحانه إما حجتُه النيرةُ الدالةُ على وحدانيته وتنزُّهِه عن الشركاء والأولادِ أو القرآن العظيمِ الناطقِ بذلك أي يريد أهلُ الكتابين أن يردّوا القرآنَ ويكذِّبوه فيما نطَق به من التوحيد والتنزُّه عن الشركاء والأولادِ والشرائعِ التي من جملتها ما خالفوه من أمر الحِلِّ والحُرمة { بأفواههم } بأقاويلهم الباطلةِ الخارجةِ منها من غير أن يكونَ لها مصداقٌ تنطبقُ عليه أو أصلٌ تستند إليه حسبما حُكي عنهم . وقيل : المرادُ به نُبوةُ النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا وقد قيل : مُثِّلت حالُهم فيما ذكر بحال مَنْ يريد طمسَ نورٍ عظيم منبثَ في الآفاق بنفخة { ويأبى الله } أي لا يريد { إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ } بإعلاء كلمةِ التوحيدِ وإعرازِ دينِ الإسلامِ وإنما صح الاستثناءُ المفرَّغُ من الموجَب لكونه بمعنى النفي كما أشير إليه لوقوعه في مقابلة قوله تعالى : { يُرِيدُونَ } وفيه من المبالغة والدِلالة على الامتناع ما ليس في نفي الإرادةِ ، أي لا يريد شيئاً من الأشياء إلا إتمامَ نورِه فيندرج في المستثنى منه بقاؤه على ما كان عليه فضلاً عن الإطفاء ، وفي إظهار النورِ في مَقام الإضمارِ مضافاً إلى ضميره عز وجل زيادةُ اعتناءٍ بشأنه وتشريفٌ له على تشريف وإشعارٌ بعِلة الحُكم { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } جوابُ لو محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه ، والجملةُ معطوفةٌ على جملة قبلها مقدرةٍ وكلتاهما في موقع الحال ، أي لا يريد الله إلا إتمامَ نورِه لو لم يكرَهِ الكافرون ذلك ولو كرهوه ، أي على كل حال مفروضٍ وقد حُذفت الأولى في الباب حذفاً مطرداً لدلالة الثانيةِ عليها دَلالةً واضحةً لأن الشيء إذا تحقق عند المانِع فلأَنْ يتحققَ عند عدمِه أولى وعلى هذا السرِّ يدور ما في أن ولو الوصليتين من التأكيد وقد مر زيادةُ تحقيق لهذا مراراً .
{ هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ } ملتبساً { بالهدى } أي القرآن الذي هو هدى للمتقين { وَدِينِ الحق } الثابتِ وهو دينُ الإسلام { لِيُظْهِرَهُ } أي رسولُه { عَلَى الدين كُلّهِ } أي على أهل الأديانِ كلِّهم أو ليُظهرَ الدينَ الحقِّ على سائر الأديان بنسخه إياها حسبما تقتضيه الحِكمةُ ، والجملةُ بيانٌ وتقريرٌ لمضمون الجملةِ السابقة ، والكلامُ في قوله عز وجل : { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } كما فيما سبق خلاً أن وصفَهم بالشرك بعد وصفِهم بالكفر للدلالة على أنهم ضمُّوا الكفرَ بالرسول إلى الكفر بالله .(3/163)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
{ يأيها الذين آمنوا } شروعٌ في بيان حال الأحبارِ والرهبانِ في إغوائهم لأراذلهم إثرَ بيانِ سوءِ حالِ الأتباع في اتخاذهم ( لهم ) أرباباً يُطيعونهم في الأوامر والنواهي واتباعِهم لهم فيما يأتون وما يذرون { إِنَّ كَثِيراً مّنَ الاحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل } يأخذونها بطريق الرِّشوةِ لتغيير الأحكامِ والشرائعِ والتخفيفِ والمسامحة فيها ، وإنما عبِّر عن ذلك بالأكل بناءً على أنه معظمُ الغرَضِ منه وتقبيحاً لحالهم وتنفيراً للسامعين عنهم { وَيَصُدُّونَ } الناس { عَن سَبِيلِ الله } عن دين الإسلامِ أو عن المسلك المقرَّر في التوراة والإنجيل إلى ما افتَرَوْه وحرَّفوه بأخذ الرشا ويصُدُّون عنه بأنفسهم بأكلهم الأموالَ بالباطل { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة } أي يجمعونهما ويحفَظونهما سواءٌ كان ذلك بالدفن أو بوجه آخرَ والموصولُ عبارةٌ إما عن الكثير من الأحبار والرهبانِ فيكون مبالغةً في الوصف بالحِرْص والضّنِّ بهما بعد وصفِهم بما سبق من أخذ الرشا والبراطيلِ في الأباطيل وإما عن المسلمين الكانزين غيرِ المنفقين وهو الأنسبُ بقوله عز وجل { وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله } فيكون نظمُهم في قَرْن المرتشين من أهل الكتابِ تغليظاً ودِلالةً على كونهم أسوةً لهم في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم ، فالمرادُ بالإنفاق في سبيل الله الزكاةُ ( لما رُوي أنه لما نزل كبُرَ ذلك على المسلمين فذكر عمرُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « إن الله تعالى لم يفرِض الزكاةَ إلا ليُطيِّبَ بها ما بقيَ من أموالكم » ولقوله عليه الصلاة والسلام : « ما أُدِّي زكاتُه فليس بكنز » أي بكنزٍ أوُعد عليه فإن الوعيدَ عليه مع عدم الإنفاقِ فيما أمر الله بالإنفاق فيه . وأما قوله عليه الصلاة والسلام : « مَنْ تَرَكَ صفراءَ أو بيضاءَ كُوي بها » ونحوُه فالمرادُ بها ما لم يؤدِّ حقَّها لقوله عليه الصلاة والسلام : « ما من صاحب ذهبٍ ولا فضة لا يؤدّي منها حقَّها إلا إذا كان يوم القيامة صُفحَتْ له صفائحُ من نار فيُكوى بها جنبُه وجبينُه وظهرُه » { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } خبرٌ للموصول والفاءُ لتضمنه معنى الشرطِ ويجوز أن يكون الموصولُ منصوباً بفعل يفسِّره فبشرهم { يَوْمَ } منصوبٌ بعذاب أليمٍ أو بمضمر يدلُّ عليه ذلك أي يعذّبون أو باذكر { يحمى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ } أي يوم توقد النارُ ذاتُ حَمْيٍ شديدٍ عليها ، وأصلُه تُحمى النارُ فجعل الإحماءُ للنار مبالغةً ثم حُذفت النارُ وأسند الفعلُ إلى الجارِّ والمجرور تنبيهاً على المقصود فانتقل من صيغة التأنيثِ إلى التذكير كما تقول : رُفعت القصةُ إلى الأمير فإن طرحْتَ القِصةَ قلت : رُفع إلى الأمير وإنما قيل : عليها والمذكورُ شيآن لأن المرادَ بهما دنانيرُ ودراهمُ كثيرةٌ ( كما قال علي رضي الله عنه : أربعةُ آلافٍ وما دونها نفقةٌ ، وما فوقها كنزٌ ) وكذا الكلام في قوله تعالى : { وَلاَ يُنفِقُونَهَا } وقيل : الضميرُ للأموال والكنوزِ فإن الحُكمِ عامٌّ وتخصيصُهما بالذكر لأنهما قانونُ التموّلِ ، أو للفضة وتخصيصُها لقربها ودَلالة حكمِها على أن الذهبَ كذلك بل أولى { فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } لأن جمعَهم لها وإمساكَهم كان لطلب الوجاهةِ بالغنى والتنعُّم بالمطاعم الشهيةِ والملابس البهيةِ أو لأنهم ازوَرُّوا عن السائل وأعرضوا عنه وولَّوْه ظهورَهم أو لأنها أشرفُ الأعضاءِ الظاهرةِ فإنها المشتملةُ على الأعضاء الرئيسيةِ التي هي الدماغُ والقلبُ والكبِدُ أو لأنها أصولُ الجهات الأربعةِ التي هي مقاديمُ البدن ومآخِرُه وجنباه { هذا مَا كَنَزْتُمْ } على إرادة القول { لانفُسِكُمْ } لمنفعتها فكان عينَ مَضرَّتها وسببَ تعذيبها { فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } أي وبالَ كنزِكم أو ما تكنِزونه وقرىء بضم النون .(3/164)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
{ إِنَّ عِدَّةَ الشهور } أي عددَها { عَندَ الله } أي في حكمه وهو معمولٌ لها لأنها مصدرٌ { اثنا عَشَرَ } خبرٌ لإن { شَهْراً } تمييزٌ مؤكدٌ كما في قولك : عندي من الدنانير عشرون ديناراً والمرادُ الشهورُ القمريةُ إذ عليها يدور فلكُ الأحكام الشرعية { فِى كتاب الله } في اللوحِ المحفوظِ أو فيما أثبته وأوجبه ، وهو صفةُ اثنا عشر أي اثنا عشر شهراً مُثبتاً في كتاب الله ، وقولُه عز وجل : { يَوْمَ خَلَقَ السموات والارض } متعلقٌ بما في الجارِّ والمجرور من معنى الاستقرار أو بالكتاب على أنه مصدرٌ والمعنى إن هذا أمرٌ ثابتٌ في نفس الأمرِ منذ خلق الله تعالى الأجرامَ والحركاتِ والأزمنة { مِنْهَا } أي من تلك الشهورِ الاثنىْ عشر { أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } هي ذو القَعدة وذو الحِجة والمحرَّم ورجبٌ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في خُطبته في حجة الوداع : « ألا إن الزمانَ قد استدار كهيئته يومَ خلقَ الله السمواتِ والأرضَ السنةُ اثنا عشرَ شهراً منها أربعةٌ حرُمٌ ثلاثٌ متوالياتٌ : ذو القَعدةِ وذو الحِجة والمحرَّم ، ورجبُ مُضَرَ الذي بين جمادى وشعبانَ » والمعنى رجعت الأشهرُ إلى ما كانت عليه من الحِل والحُرمة وعاد الحجُّ إلى ذي الحِجّة بعد ما كانوا أزالوه عن محله بالنسيءِ الذي أحدثوه في الجاهلية وقد وافقت حَجةُ الوَداعِ ذا الحِجة ، وكانت حَجةُ أبي بكر رضي الله عنه قبلها في ذي القَعدة { ذلك } أي تحريم الأشهرِ الأربعة المعينة المعدودةِ ، وما في ذلك من معنى البُعد لتفخيم المشار إليه هو { الدين القيم } المستقيمُ دينُ إبراهيَم وإسماعيلَ عليهما السلام وكانت العرب قد تمسكت به وراثةً منهما وكانوا يعظّمون الأشهرَ الحرمَ ويكرهون القتال فيها حتى إنه لو لقيَ رجلٌ قاتلَ أبيه أو أخيه لم يَهِجْهُ وسمَّوا رجباً الأصمَّ ومنصل الأسنة حتى أحدثوا النسيء فغيروا { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ } بهتك حرمتِهن وارتكابِ ما حرّم فيهن ، والجمهورُ على أن حرمةَ القتال فيهن منسوخةٌ وأن الظلم ارتكابُ المعاصي فيهن فإنه أعظمُ وزراً كارتكابها في الحرَم وعن عطاء أنه لا يحِلّ للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرُم إلا أن يقاتلَوا وما نسخت ويؤيد الأولَ أنه عليه الصلاة والسلام حصرَ طائفاً وغَزَا هَوازنَ بحُنين في شوال وذي القعدة .
{ وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً كَمَا يقاتلونكم كَافَّةً } أي جميعاً وهو مصدرُ كفّ عن الشيء فإن الجميع مكفوفٌ عن الزيادة وقع موقعَ الحال { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } أي معكم بالنصر والإمداد فيما تباشِرونه من القتال وإنما وضع المُظهرُ موضعَه مدحاً لهم بالتقوى وحثاً للقاصرين عليه وإيذاناً بأنه المدارُ في النصر وقيل : هي بشارةٌ وضمانٌ لهم بالنصرة بسبب تقواهم .(3/165)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
{ إِنَّمَا النسىء } هو مصدرُ نسَأَه إذا أخَّره نسْأً ونَساءً ونسيئاً نحوُ مسَّ مسّاً ومَساساً ومسيساً وقرىء بهن جميعاً وقرىء بقلب الهمزة ياءً وتشديدِ الياء الأولى فيها كانوا إذا جاء شهرٌ حرامٌ وهم محارِبون أحلُّوه وحرَّموا مكانه شهراً آخر حتى رفضوا خصوصَ الأشهر واعتبروا مجردَ العددِ وربما زادوا في عدد الشهور بأن يجعلوها ثلاثةَ عشرَ أو أربعةَ عشَر ليتسعَ لهم الوقت ويجعلوا أربعةَ أشهر من السنة حُرُماً ولذلك نصّ على العدد المعين في الكتاب والسنة أي إنما تأخيرُ حرمةِ شهرٍ إلى شهر آخر { زِيَادَةٌ فِى الكفر } لأنه تحليلُ ما حرمه الله وتحريمُ ما حلله فهو كفرٌ آخرُ مضمومٌ إلى كفرهم { يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ } ضلالاً على ضلالهم القديم ، وقرىء على البناء للفاعل من الأفعال على أن الفعلَ لله سبحانه أي يخلُق فيهم الضلال عند مباشرتِهم لمباديه وأسبابِه وهو المعنيُّ على القراءة الأولى أيضاً ، وقيل : المُضِلّون حينئذ رؤساؤُهم والموصولُ عبارةٌ عن أتباعهم ، وقرىء يَضَلُّ بفتح الياء والضاد من ضَلِل ونُضِلّ بنون العظمة { يُحِلُّونَهُ } أي الشهرَ المؤخر { عَاماً } من الأعوام ويحرِّمون مكانه شهراً آخرَ مما ليس بحرام { وَيُحَرّمُونَهُ } أي يحافظون على حُرمته كما كانت ، والتعبيرُ عن ذلك بالتحريم باعتبار إحلالِهم له في العام الماضي أو لإسنادهم له إلى آلهتهم كما سيجيء { عَاماً } آخرَ إذا لم يتعلقْ بتغييره غرضٌ من أغراضهم . قال الكلبي : أولُ من فعل ذلك رجلٌ من كنانة يقال له نُعيم بنُ ثعلبة وكان إذا همّ الناسُ بالصدَر من الموسم يقوم فيخطب ويقول : لا مردَّ لما قضيْتُ وأنا الذي لا أُعاب ولا أُجاب فيقول له المشركون : لبيك ثم يسألونه أن يَنْسئَهم شهراً يغيِّرون فيه فيقول : إن صفرَ العامَ حرامٌ فإذا قال ذلك حلّوا الأوتارَ ونزعوا الأسنةَ والأزِجّة وإن قال : حلالٌ عقدوا الأوتار وشدّوا الأزجةَ وأغاروا ، وقيل : هو جُنادةُ بنُ عوفٍ الكنانيُّ وكان مطاعاً في الجاهلية كان يقوم على جمل في الموسم فينادي بأعلى صوتِه : إن آلهتَكم قد أحلت لكم المحرَّم فأحِلّوه ثم يقوم في العام القابل فيقول : إن آلهتَكم قد حرمت عليكم المحرَّمَ فحرِّموه ، وقيل : هو رجلٌ من كنانةَ يقال له القَلمّسُ قال قائلهم :
ومنا ناسىءُ الشهرِ القَلَمَّسْ ... وعن ابن عباس رضي الله عنهما أولُ من سنَّ النسيءَ عمرُ بنُ قُمعةَ بن خندِفَ والجملتان تفسيرٌ للضلال أو حالٌ من الموصول والعاملُ عاملُه { لّيُوَاطِئُواْ } أي ليوافقوا { عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله } من الأشهر الأربعةِ واللام متعلقةٌ بالفعل الثاني أو بما يدل عليه مجموعُ الفعلين { فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله } بخصوصه من الأشهر المعينة { زُيّنَ لَهُمْ سُوء أعمالهم } وقرىء على البناء للفاعل وهو الله سبحانه والمعنى جَعلَ أعمالَهم مشتهاةً للطبع محبوبةً للنفس وقيل : خَذَلهم حتى حسِبوا قبيحَ أعمالِهم حسناً فاستمروا على ذلك { والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } هدايةً موصلةً إلى المطلوب البتةَ وإنما يهديهم إلى ما يوصل إليه عند سلوكِه وهم قد صدّوا عنه بسوء اختيارِهم فتاهوا في تيه الضلال .(3/166)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
{ يأيها الذين آمنوا } رجوعٌ إلى حث المؤمنين وتجريدِ عزائمِهم على قتال الكفرةِ إثرَ بيان طرَفٍ من قبائحهم الموجبةِ لذلك { مَا لَكُمْ } استفهامٌ فيه معنى الإنكارِ والتوبيخ { إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِى سَبِيلِ الله اثاقلتم } تباطأتم وتقاعستم أصلهُ تثاقلتم وقد قرىء كذلك ، أي أيُّ شيءٍ حصل أو حاصلٌ لكم أو ما تصنعون حين قال لكم النبيُّ صلى الله عليه وسلم : «انفِروا» أي اخرُجوا إلى الغزو في سبيل الله متثاقلين ، على أن الفعلَ ماضٍ لفظاً مضارعٌ معنىً كأنه قيل : تتثاقلون ، فالعاملُ في الظرف الاستقرارُ المقدرُ في لكم أو معنى الفعلِ المدلولِ عليه بذلك ويجوز أن يعملَ فيه الحالُ أي ما لكم متثاقلين حين قيل لكم : انفِروا وقرىء أَثّاقلتم على الاستفهام الإنكاريِّ التوبيخيِّ ، فالعاملُ في الظرف حينئذ إنما هو الأول { إِلَى الارض } متعلقٌ باثاقلتم على تضمينه معنى المَيْلِ والإخلادِ أي اثاقلتم مائلين إلى الدنيا وشهواتِها الفانيةِ عما قليل ، وكرِهتم مشاقَّ الغزوِ ومتاعبَه المستتبِعةَ للراحة الخالدة ، كقوله تعالى : { أَخْلَدَ إِلَى الارض واتبع هَوَاهُ } أو إلى الإقامة بأرضكم وديارِكم وكان ذلك في غزوة تبوكَ في سنة عشرٍ بعد رجوعِهم من الطائف استُنفِروا في وقت عُسرةٍ وقَحطٍ وقَيْظ ، وقد أدركت ثمارُ المدينة وطابت ظلالُها مع بعد الشُّقةِ وكثرةِ العدوِّ فشق عليهم ذلك ، وقيل : ما خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا ورَّى بغيرها إلا في غزوة تبوكَ فإنه عليه الصلاة والسلام بيّن لهم المقصِدَ فيها ليستعدوا لها { أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وغرورِها { مِنَ الاخرة } أي بدلَ الآخرة ونعيمِها الدائم { فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا } أظهر في مقام الإضمارِ لزيادة التقرير أي فما التمتعُ بها وبلذائذها { فِى الاخرة } أي في جنب الآخرة { إِلاَّ قَلِيلٌ } أي مستحقَرٌ لا يُؤبَه له ، وفي ترشيح الحياةِ الدنيا بما يُوذِن بنفاستها ويستدعي الرغبةَ فيها وتجريدِ الآخرة عن مثل ذلك مبالغةٌ في بيان حقارة الدنيا ودناءتِها وعِظَمِ شأن الآخرةِ وعلوِّها { إِلاَّ تَنفِرُواْ } أي إن لا تنفِروا إلى ما استُنفرتم إليه { يُعَذّبُكُم } أي الله عز وجل { عَذَاباً أَلِيماً } أي يُهلكْكم بسبب فظيعٍ هائل كقَحط ونحوِه { وَيَسْتَبْدِلْ } بكم بعد إهلاكِكم { قَوْماً غَيْرَكُمْ } وصفهم بالمغايرة لهم لتأكيد الوعيدِ والتشديد في التهديد بالدِلالة على المغايرةِ الوصفيةِ والذاتيةِ المستلزِمة للاستئصال ، أي قوماً مطيعين مُؤْثرين للآخرة على الدنيا ليسوا من أولادكم ولا أرحامِكم كأهل اليمنِ وأبناءِ فارسَ ، وفيه من الدِلالة على شدة السُّخط ما لا يخفى { وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا } أي لا يقدح تثاقلُكم في نُصرة دينِه أصلاً فإنه الغنيُّ عن كل شيءٍ في كل شيءٍ ، وقيل : الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل وعده بالعصمة والنصرةِ وكان وعدُه مفعولاً لا محالة { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } فيقدر على إهلاككم والإتيانِ بقوم آخرين .(3/167)
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
{ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله } أي إن لم تنصُروه فسينصُره الله الذي قد نصره في وقت ضرورةٍ أشدَّ من هذه المرة ، فحُذف الجزاءُ وأقيم سببُه مُقامَه أو إن لم تنصُروه فقد أوجب له النُصرة حتى نصره في مثل ذلك الوقت فلن يخذُله في غيره { إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ } أي تسببوا لخروجه حيث أُذن له عليه الصلاة والسلام في ذلك حين همّوا بإخراجه { ثَانِيَ اثنين } حالٌ من ضميره عليه الصلاة والسلام ، وقرىء بسكون الياء على لغة من يُجري الناقصَ مُجرى المقصور في الإعراب ، أي أحدَ اثنين من غير اعتبار كونِه عليه الصلاة والسلام ثانياً فإن معنى قولِهم : ثالثُ ثلاثةٍ ورابعُ أربعةٍ ونحوُ ذلك أحدُ هذه الأعدادِ مطلقاً لا الثالثُ والرابعُ خاصة ، ولذلك منع الجمهورُ أن يُنصَبَ ما بعده بأن يقال : ثالثٌ ثلاثةً ورابعٌ أربعةً ، وقد مر في قوله تعالى : { لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله ثالث ثلاثة } من سورة المائدة وجعلُه عليه الصلاة والسلام ثانيَهما لمشي الصديقِ أمامَه ودخولِه في الغار أولاً لكنسه وتسويةِ البِساط له كما ذكر في الأخبار تمحّلٌ مُستغنىً عنه { إِذْ هُمَا فِى الغار } بدلٌ من إذ أخرجه بدلَ البعضِ إذ المرادُ به زمانٌ متسعٌ والغارُ ثقبٌ في أعلى ثوْرٍ وهو جبلٌ في يمنى مكةَ على مسيرة ساعةٍ مكثاً فيه ثلاثاً .
{ إِذْ يَقُولُ } بدلٌ ثانٍ أو ظرفٌ لثانيَ { لِصَاحِبِهِ } أي الصدّيق { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا } بالعون والعصمةِ والمرادُ بالمعية الولايةُ الدائمةُ التي لا تحوم حول صاحبِها شائبةُ شيءٍ من الحزن ، وما هو المشهورُ من اختصاص مَعَ بالمتبوع فالمرادُ بما فيه من المتبوعية في الأمر المباشر ، ( روي أن المشركين لما طلعوا فوق الغار فأشفق أبو بكر رضى الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنْ نُصَبْ اليومَ ذهب دينُ الله فقال عليه الصلاة والسلام : « ما ظنُّك باثنين الله ثالثُهما؟ » وقيل : ( لما دخلا الغارَ بعث الله تعالى حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوتَ فنسَجت عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللهم أعمِ أبصارَهم » فجعلوا يترددون حول الغار ولا يفطَنون قد أخذ الله تعالى أبصارهم عنه ) ، وفيه من الدِلالة على علو طبقةِ الصّدّيق رضي الله عنه وسابقةِ صُحبتِه ما لا يخفى ، ولذلك قالوا : من أنكر صُحبةَ أبي بكر رضى الله عنه فقد كفر لإنكاره كلامَ الله سبحانه وتعالى { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ } أمَنتَه التي تسكُن عندها القلوب { عَلَيْهِ } على النبي صلى الله عليه وسلم فالمرادُ بها ما لا يحوم حوله شائبةُ الخوفِ أصلاً أو على صاحبه إذ هو المنزعِج ، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فكان على طُمَأْنينة من أمره { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } عطفٌ على نصره الله والجنودُ هم الملائكةُ النازلون يوم بدرٍ والأحزابِ وحُنينٍ ، وقيل : هم الملائكةُ أنزلهم الله ليحرِسوه في الغار ويأباه وصفُهم بعدم رؤيةِ المخاطَبين لهم وقوله عز وعلا : { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى } يعني الشركَ أو دعوةَ الكفرِ فإن ذلك الجعلَ لا يتحقق بمجرد الأنجاءِ بالقتل والأسر ونحو ذلك { وَكَلِمَةُ الله } أي التوحيدُ أو دعوةُ الإسلام { هِىَ العليا } لا يدانيها شيءٌ ، وتغييرُ الأسلوب للدِلالة على أنها في نفسها كذلك لا يتبدل شأنُها ولا يتغيرُ حالُها دون غيرِها من الكلم ولذلك وُسِّط ضميرُ الفصلِ ، وقرىء بالنصب عطفاً على كلمة الذين { والله عَزِيزٌ } لا يغالب { حَكِيمٌ } في حكمه وتدبيره .(3/168)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
{ انفروا } تجريدٌ للأمر بالنفور بعد التوبيخِ على تركه الأنكار على المساهلة فيه وقوله تعالى : { خِفَافًا وَثِقَالاً } حالان من ضمير المخاطبين أي على أيّ حالٍ كان من يُسر وعُسر حاصلَين بأي سببٍ كان من الصِحة والمرض ، أو الغِنى والفقر ، وقلةِ العيال وكثرتِهم أو غير ذلك مما ينتظمه مساعدةُ الأسباب وعدمُها بعد الإمكان والقدرةِ في الجملة ، وما ذكر في تفسيرهما من قولهم : خفافاً لقلة عيالِكم وثقالاً لكثرتها أو خِفافاً من السلاح وثِقالاً منه أو رُكباناً ومُشاةً أو شباناً وشيوخاً أو مهازيلَ وسِماناً أو صِحاحاً ومِراضاً ليس لتخصيص الأمرَين المتقابلَين بالإرادة من غير مقارنةٍ للباقي وعن ابن أمّ مكتومٍ أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أعليّ أن أنفِر؟ قال عليه الصلاة والسلام : «نعم» حتى نزل { لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ } وعن ابن عباس رضي الله عنهما نسخت بقوله عز وجل : { لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى } الآية { وجاهدوا بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ الله } إيجابٌ للجهاد بهما إن أمكن وبأحدهما عند إمكانِه وإعوازِ الآخَر ، حتى إن من ساعده النفسُ والمالُ يجاهدُ بهما ومن ساعده المالُ دون النفسِ يغزو مكانَه مَنْ حالُه على عكس حالِه . إلى هذا ذهب كثيرٌ من العلماء وقيل : هو إيجابٌ للقسم الأول فقط { ذلكم } أي ما ذكر من النفير والجهادِ ، وما في اسم الإشارةِ من معنى البعدِ للإيذان ببعد منزلِته في الشرف { خَيْرٌ لَّكُمْ } أي خيرٌ عظيمٌ في نفسه أو خبر مما يبتغى بتركه من الراحة والدعةِ وسَعةِ العيشِ والتمتع بالأموال والأولاد { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي تعلمون الخيرَ علمتم أنه خيرٌ أو إن كنتم تعلمون أنه خيرٌ إذ لا احتمال لغير الصدقِ في أخبار الله تعالى فبادروا إليه .
{ لَّوْ كَانَ } صرفٌ للخطاب عنهم وتوجيهٌ له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تعديداً لما صدَر عنهم من الهَنات قولاً وفعلاً على طريق المباثةِ وبياناً لدناءة هممِهم وسائرِ رذائلِهم أي لو كان ما دعَوا إليه { عَرَضًا قَرِيبًا } العرَضُ ما عرَض لك من منافعِ الدنيا أي لو كان ذلك غُنماً سَهلَ المأخذِ قريبَ المنال { وَسَفَرًا قَاصِدًا } ( ذا قصدٍ ) بين القريبِ والبعيد { لاَّتَّبَعُوكَ } في النفير طمعاً في الفوز بالغنيمة ، وتعليقُ الاتباعِ بكلا الأمرين يدل على عدم تحققِه عند توسّط السفرِ فقط { ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة } أي المسافةُ الشاطّةُ التي تُقطع بمشقة وقرىء بكسر العين والشين { وَسَيَحْلِفُونَ } أي المتخلفون عن الغزو وقوله تعالى : { بالله } إما متعلقٌ بسيحلفون أو هو من جملة كلامِهم والقولُ مرادٌ على الوجهين أي سيحلفون بالله اعتذاراً عند قفولك قائلين : { لَوِ استطعنا } أو سيحلِفون قائلين : بالله لو استطعنا الخ ، أي ولو كان لنا استطاعةٌ من جهة الصحةِ أو من جهتهما جميعاً حسبما عنّ لهم من الكذب والتعللِ ، وعلى كلا التقديرين فقوله تعالى : { لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } سادٌّ مسدَّ جوابي القسمِ والشرط جميعاً .(3/169)
أما على الثاني فظاهرٌ وأما على الأول فلأن قولَهم : لو استطعنا في قوة بالله لو استطعنا لأنه بيانٌ لقوله تعالى : { سَيَحْلِفُونَ بالله } وتصديقٌ له ، والإخبارُ بما سيكون منهم بعد القُفولِ وقد وقع حسبما أُخبر به من جملة المعجزات الباهرة ، وقرىء لو استطعنا بضم الواو تشبيهاً لها بواو الجمع كما في قوله عز وجل : { فَتَمَنَّوُاْ الموت } { يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ } بدلٌ من سيحلفون لأن الحلِفَ الكاذبَ إهلاكٌ للنفس ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : « اليمينُ الفاجرةُ تدع الديارَ بلاقِعَ » أو حالٌ من فاعله أي مهلِكين أنفسَهم أو من فاعل خرَجْنا ، جيء به على طريقة الإخبارِ عنهم كأنه قيل : نهلك أنفسَنا أي لخرَجْنا معكم مهلِكين أنفسَنا كما في قولك : حلَف ليفعلن مكان لأفعلن { والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لكاذبون } أي في مضمون الشرطيةِ وفيما ادّعَوا ضمناً من انتفاء تحققِ المقدم حيث كانوا مستطيعين للخروج ولم يخرجوا .(3/170)
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
{ عَفَا الله عَنكَ } صريحٌ في أنه سبحانه وتعالى قد عفا عنه عليه الصلاة والسلام ما وقع منه عند استئذانِ المتخلفين في التخلف معتذرين بعدم الاستطاعةِ ، وإذنُه كان اعتماداً على أَيْمانهم ومواثيقِهم لخلوها عن المزاحِم من ترك الأولى والأفضلِ الذي هو التأنّي والتوقفُ إلى انجلاء الأمرِ وانكشافِ الحالِ ، وقولُه عز وجل : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } أي لأي سببٍ أذِنْتَ لهم في التخلف حين اعتلّوا بعللهم بيانٌ لما أشير إليه بالعفو من ترك الأولى وإشارةٌ إلى أنه ينبغي أن تكون أمورُه عليه الصلاة والسلام منوطةً بأسباب قويةٍ موجبةٍ لها أو مصححةٍ وأن ما أبرزوه في معرض التعلل والاعتذارِ مشفوعاً بالأيمان كان بمعزل من كونه سبباً للإذن قبل ظهورِ صدقِه ، وكلتا اللامَين متعلقةٌ بالإذن لاختلافهما في المعنى فإن الأولى للتعليل والثانيةُ للتبليغ ، والضميرُ المجرورُ لجميع المستأذِنين ، وتوجهُ الإنكار إلى الإذن باعتبار شمولِه للكل لا باعتبار تعلّقِه بكل فردٍ لتحقق عدمِ استطاعةِ بعضِهم كما ينبىء عنه قوله سبحانه : { حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ } أي فيما أَخبروا به عند الاعتذارِ من عدم الاستطاعةِ من جهة المالِ أو من جهة البدن أو من جهتهما معاً حسبما عنّ لهم هناك .
{ وَتَعْلَمَ الكاذبين } في ذلك فتعامِلَ كلاًّ من الفريقين بما يستحقه وهو بيانٌ لذلك الأولى والأفضلِ ، وتحضيضٌ له عليه الصلاة والسلام عليه ، فإن كلمة حتى سواءٌ كانت بمعنى اللامِ أو بمعنى إلى لا يمكن تعلقُها بقوله تعالى : { لِمَ أَذِنتَ } لاستلزامه أن يكون إذنُه عليه الصلاة والسلام لهم معلّلاً أو مُغيّاً بالتبين والعلم ويكون توجُّهُ الاستفهامِ إليه من تلك الحيثيةِ وذلك بيِّنُ الفسادِ بل بما يدل عليه ذلك ، كأنه قيل : لم سارعت إلى الإذن لهم وهلاّ تأنّيت حتى ينجليَ الأمر كما هو قضيةُ الحزْم
قال قتادة وعمرو بنُ ميمون : اثنان فعلهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمَر فيهما بشيء : إذنُه للمنافقين وأخذهُ الفداءَ من الأُسارى فعاتبه الله تعالى كما تسمعون . وتغييرُ الأسلوب بأن عبّر عن الفريق الأولِ بالموصول الذي صلتُه فعلٌ دالٌّ على الحدوث وعن الفريق الثاني باسم الفاعلِ المفيدِ للدوام للإيذان بأن ما ظهر من الأوّلين صدقٌ حادثٌ في أمر خاص غيرُ مصحِّحٍ لنظمهم في سلك الصادقين ، وأن ما صدر من الآخَرين وإن كان كذباً حادثاً متعلقاً بأمر خاص لكنه أمرٌ جارٍ على عادتهم المستمرةِ ناشىءٌ عن رسوخهم في الكذب . والتعبيرُ عن ظهور الصدقِ بالتبين وعما يتعلق بالكذب بالعلم لما هو المشهورُ من أن مدلولَ الخبر هو الصدقُ والكذبُ احتمالٌ عقلي فظهورُ صدقِه إنما هو تبيّنُ ذلك المدلولِ وانقطاعُ احتمالِ نقيضِه بعد ما كان محتمِلاً له احتمالاً عقلياً وأما كذبُه فأمرٌ حادثٌ لا دِلالة للخبر عليه في الجملة حتى يكونَ ظهورُه تبيّناً له بل هو نقيضٌ لمدلوله فما يتعلق به يكون عِلْماً مستأنفاً ، وإسنادُه إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لا إلى المعلومين ببناء الفعلِ للمفعول مع إسناد التبيّنِ إلى الأولين لما أن المقصودَ هاهنا علمُه عليه الصلاة والسلام بهم ومؤاخذتُهم بموجبه بخلاف الأولين حيث لا مؤاخذةَ عليهم ومن لم يتنبَّه لهذا قال : حتى يتبين لك مَنْ صدق في عذره ممن كذَب فيه ، وإسنادُ التبيُّنِ إلى الأولين وتعليقُ العلمِ بالآخَرين مع أن مدارَ الإسنادِ والتعلقِ أو لا وبالذات هو وصفُ الصدقِ والكذب كما أشير إليه لما أن المقصِدَ هو العلمُ بكلا الفريقين باعتبار اتصافِهما بوصفهما المذكورَين ومعاملتِهما بحسب استحقاقِهما لا العلمُ بوصفيهما بذاتيهما أو باعتبار قيامِهما بموصوفيهما .(3/171)
هذا وفي تصدير فاتحةِ الخطابِ ببشارة العفوِ دون ما يوهم العتابَ من مراعالاة جانبِه عليه الصلاة والسلام وتعهده بحسن المفاوضةِ ولُطفِ المراجعةِ ما لا يخفى على أولي الألباب . قال سفيانُ بن عيينة : انظرُ إلى هذا اللطفِ بدأ بالعفو قبل ذكر المعفوّ .
ولقد أخطأ وأساء الأدبَ وبئسما فعل فيما قال وكتب مَنْ زعم أن الكلام كنايةٌ عن الجناية وأن معناه أخطأتَ وبئسما فعلتَ . هبْ أنه كنايةٌ أليس إيثارُها على التصريح بالجناية للتلطيف في الخطاب والتخفيفِ في العتاب ، وهب أن العفوَ مستلزِمٌ للخطأ فهل هو مستلزمٌ لكونه من القبح واستتباعِ اللائمة بحيث يصصِّح هذه المرتبةَ من المشافهة بالسوء أو يسوِّغُ إنشاءَ الاستقباحِ بكلمة بئسما المنبئةِ عن بلوغِ القبحِ إلى رتبة يتُعجَّب منها ولا يخفى أنه لم يكن في خروجهم مصلحةٌ للدين أو منفعةٌ للمسلمين بل كان فساداً وخَبالاً حسبما نطَق به قولُه عز وجل : { لَوْ خَرَجُواْ } الخ ، وقد كرِهه سبحانه كما يفصح عنه قوله تعالى : { ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم } الآية . نعم كان الأولى تأخيرُ الإذن حتى يظهر كذبُهم آثرَ ذي أثيرٍ ويفتضحوا على رؤوس الأشهادِ ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش على الأمن والدعةِ ولا يتسنّى لهم الابتهاجُ فيما بينهم بأنهم غرُّوه عليه الصلاة والسلام وأرضَوْه بالأكاذيب على أنه لم يهنأ لهم عيشٌ ولا قرت لهم عينٌ إذ لم يكونوا على أمن واطمئنانٍ بل كانوا على خوف من ظهور أمرِهم وقد كان .(3/172)
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)
{ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر } تنبيهٌ على أنه كان ينبغي أن يُستدل باستئذانهم على حالهم ولا يُؤذَنَ لهم أي ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في { أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ } وإن الخُلَّصَ منهم يبادرون إليه من غير توقفٍ على الإذن فضلاً عن أن يستأذنوك في التخلف ، وحيث استأذنك هؤلاء في التخلف كان ذلك مَئِنّةً للتأني في أمرهم بل دليلاً على نفاقهم ، وقيل : المستأذَنُ فيه محذوفٌ ومعنى قوله تعالى : { أَن يجاهدوا } كراهةَ أن يجاهدوا ثم قيل : المحذوفُ هو التخلّفُ والمعنى لا يستأذنك المؤمنون في التخلف كراهةَ الجهاد ، فيتوجّه النفيُ إلى القيد وبه يمتاز المؤمنُ من المنافق ، وهو وإن كان في نفسه أمراً خفياً لا يوقف عليه بادىءَ الأمرِ لكن عامةَ أحوالِهم لما كانت مُنبئةً عن ذلك جُعل أمراً ظاهراً مقرراً وقيل : هو الجهادُ أي لا يستأذنك المؤمنون في الجهاد كراهةَ أن يجاهدوا بناءً على أن الاستئذان في الجهاد ربما يكون لكراهتة ولا يخفى أن الاستئذان في الشيء لكراهته مما لا يقع بل لا يُعقل ولو سَلِم وقوعُه ، فالاستئذانُ لعلة الكراهة مما لا يمتاز بحسب الظاهرِ من الاستئذان لعلة الرغبةِ ولو سلِم فالذي نُفيَ عن المؤمنين يجب أن يثبُتَ للمنافقين وظاهرٌ أنهم لم يستأذِنوا في الجهاد لكراهتهم له بل إنما استأذنوا في التخلف { والله عَلِيمٌ بالمتقين } شهادةٌ لهم بالانتظام في سلك المتقين وعِدَةٌ لهم بأجزل الثوابِ وتقريرٌ لمضمون ما سبق ، كأنه قيل : والله عليم بأنهم كذلك وإشعارٌ بأن ما صدر عنهم معلَّلٌ بالتقوى .(3/173)
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
{ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ } أي في التخلف مطلقاً على الأول أو لكراهة الجهادِ على الثاني { الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر } تخصيصُ الإيمان بهما في الموضعين للإيذان بأن الباعثَ على الجهاد ببذل النفسِ والمالِ إنما هو الإيمانُ بهما إذ به يتسنى للمؤمنين استبدالُ الحياةِ الأبدية والنعيمِ المقيمِ الخالدِ بالحياة الفانية والمتاعِ الكاسد { وارتابت قُلُوبُهُمْ } عطفٌ على الصلة ، وإيثارُ صيغةِ الماضي للدِلالة على تحقق الريب وتقرُّره { فَهُمُ } حالَ كونهم { فِى رَيْبِهِمْ } وشكِّهم المستقرِّ في قلوبهم { يَتَرَدَّدُونَ } أي يتحيرون فإن الترددَ ديدنُ المتحيَّرِ كما أن الثباتَ ديدنُ المستبصِر ، والتعبيرُ عنه به مما لا يخفى حسنُ موقعِه { وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج } يدل على أن بعضَهم قالوا عند الاعتذارِ : كنا نريد الخروجَ لكن لم نتهيأ له ، وقد قرُب الرحيلُ بحيث لا يمكننا الاستعدادُ ، فقيل تكذيباً لهم : لو أرادوه { لاعَدُّواْ لَهُ } أي للخروج في وقته { عِدَّةَ } أي أُهبةً من العَتاد والراحلة والسلاح وغيرِ ذلك مما لا بد منه للسفر ، وقرىء عُدَّه بحذف التاءِ ، والإضافةِ إلى ضمير الخروج كما فعل بالعِدَة مَنْ قال :
وأخلفوك عِدَ الأمرِ الذي وعَدوا ... أي عِدتَه وقرىء عِدّةً بكسر العين وعِدَّهُ بالإضافة { ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم } أي نهوضَهم للخروج . قيل : هو استدراك عما يُفهم من مقدم الشرطيةِ فإن انتفاءَ إرادتِهم للخروج يستلزم انتفاءَ خروجِهم ، وكراهةَ الله تعالى انبعاثَهم تستلزم تثبيطَهم عن الخروج ، فكأنه قيل : ما خرجوا ولكن تثبَّطوا والاتفاق في المعنى لا يمنع الوقوعَ بين طرَفي لكنْ بعد تحققِ الاختلافِ نفياً وإثباتاً في اللفظ كقولك : ما أحسن إلى زيد ولكنْ أساء والأظهرُ أن يكون استدراكاً من نفس المقدم عن نهج ما في الأقيسة الاستثنائيةِ والمعنى لو أرادوا الخروجَ لأعدوا له عُدةً ولكن ما أرادوه لِما أنه تعالى كره انبعاثَهم لما فيه من المفاسد التي ستَبِين { فَثَبَّطَهُمْ } أي حبسهم بالجُبن والكسلِ فثبطوا عنه ولم يستدعوا له { وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين } تمثيلٌ لإلقاء الله تعالى كراهةَ الخروجِ في قلوبهم أو لوسوسة الشيطانِ بالأمر بالقعود أو هو حكايةُ قولِ بعضِهم لبعض أي هو إذنُ الرسول صلى الله عليه وسلم لهم في القعود ، والمرادُ بالقاعدين إما المعذورون أو غيرُهم ، وأياً ما كان فغيرُ خالٍ عن الذم .(3/174)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
{ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم } بيانٌ لسر كراهتِه تعالى لانبعاثهم أي لو خرجوا مخالطين لكم { مَّا زَادُوكُمْ } أي ما أورثوكم شيئاً من الأشياء { إِلاَّ خَبَالاً } أي فساداً وشراً فالاستثناءُ مفرَّغٌ متصلٌ وقيل : منقطعٌ وليس بذلك { ولاَوْضَعُواْ خلالكم } أي ولسعَوْا فيما بينكم بالنمائم والتضريبِ وإفسادِ ذاتِ البين من وضَع البعيرُ وضعاً إذا أسرع وأوضعتُه أنا أي حملتُه على الإسراع والمعنى لأوضعوا ركائبَهم بينكم ، والمرادُ به المبالغة في الإسراع بالنمائم لأن الراكبَ أسرعُ من الماشي وقرىء ولأوقصوا من وقصت الناقةُ أسرعتْ وأوقصتُها أنا وقرىء ولأوفضوا أي أسرعوا { يَبْغُونَكُمُ الفتنة } يحاولون أن يفتنوكم بإيقاع الخلافِ فيما بينكم وإلقاءِ الرعبِ في قلوبكم وإفسادِ نياتِكم ، والجملةُ حالٌ من ضمير أوضعوا أو استئنافٌ { وَفِيكُمْ سماعون لَهُمْ } أي نمّامون يسمعون حديثَكم لأجل نقلِه إليهم أو فيكم قومٌ ضَعَفةٌ يسمعون للمنافقين أي يُطيعونهم ، والجملةُ حالٌ من مفعول يبغونكم أو من فاعله لاشتمالها على ضميريهما ، أو مستأنَفةٌ ، ولعلهم لم يكونوا في كمية العددِ وكيفية الفسادِ بحيث يُخِل مكانُهم فيما بين المؤمنين بأمر الجهادِ إخلالاً عظيماً ، ولم يكن فسادُ خروجِهم معادلاً لمنفعته ، ولذلك لم تقتضِ الحكمةُ عدمَ خروجِهم فخرجوا مع المؤمنين ، ولكن حيث كان انضمامُ المنافقين القاعدين إليهم مستتبِعاً لخلل كليَ كرِه الله انبعاثَهم فلم يتسنَّ اجتماعُهم فاندفع فسادُهم . ووجهُ العتابِ على الأذن في قعودهم مع تقرُّره لا محالة وتضمُّنِ خروجِهم لهذه المفاسد أنهم لو قعدوا بغير إذنٍ منه عليه الصلاة والسلام لظهر نفاقُهم فيما بين المسلمين من أول الأمرِ ولم يقدِروا على مخالطتهم والسعي فيما بينهم بالأراجيف ولم يتسنَّ لهم التمتعُ بالعيش إلى أن يظهرَ حالُهم بقوارعِ الآيات النازلة { والله عَلِيمٌ بالظالمين } علماً محيطاً بضمائرهم وظواهرِهم وما فعلوا فيما مضى وما يتأتى منهم فيما سيأتي ، ووضعُ المظهَرِ موضِعَ المضمرِ للتسجيل عليهم بالظلم والتشديد في الوعيد والإشعارِ بترتّبه على الظلم ولعله شاملٌ للفريقين السّماعين والقاعدين .
{ لَقَدِ ابتغوا الفتنة } تشتيتَ شملِك وتفريقَ أصحابِك منك { مِن قَبْلُ } أي يومَ أحُدٍ حين انصرف عبدُ اللَّه بنُ أُبيِّ بنِ سَلولٍ المنافقُ بمن معه وقد تخلف بمن معه عن تبوكَ أيضاً بعدما خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي جُدّة ، أسفلَ من ثنية الوداع ، وعن ابن جريج رضي الله عنه وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الثنية ليلةَ العقبةِ وهم اثنا عشر رجلاً من المنافقين ليفتِكوا به عليه الصلاة والسلام فردّهم الله تعالى خاسئين { وَقَلَّبُواْ لَكَ الامور } تقليبُ الأمر تصريفُه من وجه إلى وجه وترديدُه لأجل التدبير والاجتهادِ في المكر والحيلة ، يقال للرجل المتصرِّف في وجوه الحِيَل : حُوَّلٌ وقُلّبٌ ، أي اجتهدوا ودبروا لك الحِيلَ والمكايدَ ودّوروا الآراءَ في إبطال أمرِك ، وقرىء بالتخفيف { حتى جَاء الحق } أي النصرُ والتأييدُ الإلهي { وَظَهَرَ أَمْرُ الله } غلب دينُه وعلا شرعُه { وَهُمْ كارهون } والحالُ أنهم كارهون لذلك أي على رغم منهم والآيتان لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن تخلف المتخلفين وبيانُ ما ثبّطهم الله تعالى لأجله وهتَك أستارَهم وكشف أسرارَهم ، وإزاحةِ أعذارِهم تداركاً لما عسى يفوت بالمبادرة إلى الإذن وإيذاناً بأن ما فات بها ليس مما لا يمكن تلافيه تهويناً للخطب .(3/175)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)
{ وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لّي } في القعود { وَلاَ تَفْتِنّى } أي لا توقِعْني في الفتنة وهي المعصيةُ والإثمُ يريد إني متخلِّفٌ لا محالة أذِنتَ أو لم تأذَنْ فائذن لي حتى لا أقعَ في المعصية بالمخالفة أو لا تُلقِني في الهلكة فإني إن خرجتُ معك هلَك مالي وعيالي لعدم مَنْ يقوم بمصالحهم . وقيل : قال الجدُّ بنُ قيس : قد علمت الأنصارُ أني مشتهرٌ بالنساء فلا تفتنّي ببنات الأصفر ، يعنى نساءَ الروم ولكن أُعينُك بمالي فاترُكني ، وقرىء ولا تُفْتِنِّي من أفْتنَه بمعنى فتنه { أَلا فِى الفتنة } أي في عينها ونفسها وأكملِ أفرادِها الغنيِّ عن الوصف بالكمال الحقيقِ باختصاص اسمِ الجنسِ به { سَقَطُواْ } لا في شيء مُغايرٍ لها فضلاً عن أن يكون مهرَباً ومخلَصاً عنها وذلك بما فعلوا من العزيمة على التخلف والجراءةِ على الاستئذان بهذه الطريقة الشنيعةِ ومن القعود بالإذن المبنيِّ عليه وعلى الاعتذارات الكاذبةِ وقرىء بإفراد الفعلِ محافظةً على لفظ ( مَن ) وفي تصدير الجملةِ بحرف التنبيه مع تقديم الظرفِ إيذانٌ بأنهم وقعوا فيها وهم يحسَبون أنها مَنْجى من الفتنة زعماً منهم أن الفتنةَ إنما هي التخلفُ بغير إذن ، وفي التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة تنزيلٌ لها منزلةَ المَهواة المُهلِكةِ المُفصحةِ عن تردّيهم في دَركات الرَّدى أسفلَ سافلين .
وقوله عز وجل : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } وعيدٌ لهم على ما فعلوا معطوفٌ على الجملة السابقة داخلٌ تحت التنبيهِ أي جامعةٌ لهم يوم القيامة من كل جانب ، وإيثارُ الجملةِ الاسميةِ للدِلالة على الثبات والاستمرارِ أو محيطةٌ بهم الآن تنزيلاً لشيء سيقع عن قريب منزلَة الواقعِ أو وضعاً لأسباب الشيءِ موضعَه فإن مباديءَ إحاطةِ النارِ بهم من الكفر والمعاصي محيطةٌ بهم الآن من جميع الجوانبِ ومن جملتها ما فرّوا منه وما سقطوا فيه من الفتنة ، وقيل : تلك المبادىء المتشكلةُ بصور الأعمالِ والأخلاق هي النارُ بعينها ولكن لا يظهر ذلك في هذه النشأةِ وإنما يظهر عند تشكُّلِها بصورها الحقيقيةِ في النشأة الآخرة ، والمرادُ بالكافرين إما المنافقون وإيثارُ وضعِ المُظهَر موضعَ المضمرِ للتسجيل عليهم بالكفر والإشعارِ بأنه معظمُ أسبابِ الإحاطة المذكورة وإما جميعُ الكافرين الشاملين للمنافقين شمولاً أولياً .
{ إِن تُصِبْكَ } في بعض مغازيك { حَسَنَةٌ } من الظَفَر والغنيمة { تَسُؤْهُمْ } تلك الحسنةُ أي الحسنةُ أي تورِثُهم مساءةً لفرط حسَدِهم وعداوتهم لك { وَإِن تُصِبْكَ } في بعضها { مُّصِيبَةٌ } من نوع شدة { يَقُولُواْ } متبجّحين بما صنعوا حامدين لآرائهم { قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا } أي تلافَيْنا ما يُهمّنا من الأمر ، يعنون به الاعتزالَ عن المسلمين والقعودَ عن الحرب والمداراةَ مع الكفرة وغيرَ ذلك من أمور الكفر والنفاقِ قولاً وفعلاً { مِن قَبْلُ } أي من قبلِ إصابةِ المصيبة في وقت تدارُكِه ، يشيرون بذلك إلى أن المعاملةَ المذكورةَ إنما تروّج عند الكفرةِ بوقوعها حالَ قوةِ الإسلامِ لا بعد إصابةِ المصيبة { وَيَتَوَلَّواْ } عن مجلس الاجتماعِ والتحدثِ إلى أهاليهم أو يُعرِضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم { وَّهُمْ فَرِحُونَ } بما صنعوا من أخذ الأمرِ وبما أصابه عليه الصلاة والسلام ، والجملة حالٌ من الضمير في ( يقولوا ) و ( يتولوا ) لا في الأخير فقط ، لمقارنة الفرَحِ لهما معاً ، وإيثارُ الجملةِ الاسمية للدِلالة على دوام السرورِ ، وإسنادُ المَساءة إلى الحسنة والمَسرَّة إلى أنفسهم دون المصيبة بأن يقال : وإن تُصِبْك مصيبةٌ تَسْرُرْهم للإيذان باختلاف حاليهم حالتي عروضِ المَساءة والمسرةِ بأنهم في الأولى مضطرون وفي الثانية مختارون .(3/176)
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
{ قُلْ } بياناً لبطلان ما بنَوْا عليه مسرتَهم من الاعتقاد { لَّن يُصِيبَنَا } أبداً وقرىء هل يصيبنا وهل يصيِّبُنا من فيعل لا من فعل لأنه واويٌّ ، يقال : صاب السهمُ يصوب واشتقاقُه من الصواب { إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا } أي أثبته لمصلحتنا الدنيويةِ أو الأخروية من النُّصرة عليكم أو الشهادة المؤديةِ إلى النعيم الدائم { هُوَ مولانا } ناصرُنا ومتولِّي أمورِنا { وَعَلَى الله } وحده { فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } التوكلُ تفويضُ الأمر إلى الله والرضا بما فعله وإن كان ذلك بعد ترتيب المبادي العادية ، والفاءُ للدلالة على السببية والأصل ليتوكلِ المؤمنون على الله ، قدّم الظرفُ على الفعل لإفادة القصْرِ ثم أُدخل الفاءُ للدَلالة على استيجابه تعالى للتوكل عليه كما في قوله تعالى : { وإياى فارهبون } والجملةُ إن كانت من تمام الكلامِ المأمورِ به فإظهارُ الاسمِ الجليلِ في مقام الإضمارِ لإظهار التبرُّكِ والتلذذِ به وإن كانت مَسوقةً من قِبله تعالى أمراً للمؤمنين بالتوكل إثرَ أمرِه عليه الصلاة والسلام بما ذكر فالأمرُ ظاهرٌ وكذا إعادةُ الأمر في قوله وجل :
{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا } لانقطاع حُكم الأمرِ الأولِ بالثاني وإن كان أمرَ الغائب وأما على الوجه الأولِ فهي لإبراز كمالِ العنايةِ بشأن المأمورِ به والإشعارِ بما بينه وبين ما أُمر به أولاً من الفرق في السياقِ ، والتربُّصُ التمكّثُ مع انتظار مجيءِ شيءٍ خيراً كان أو شراً ، والباءُ للتعدية وإحدى التاءين محذوفةٌ أي ما تنتظرون بنا { إِلا إِحْدَى الحسنيين } أي العاقبتين اللتين كلُّ واحدةٍ منهما هي حُسنى العواقبِ وهما النصرُ والشهادةُ وهذا نوعُ بيانٍ لما أُبهم في الجواب الأول وكشفٌ لحقيقة الحالِ بإعلام أن ما يزعُمونه مضرَّةً للمسلمين من الشهادة أنفعُ مما يعُدّونه منفعةً من النصر والغنيمة { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ } أحدى السوأَيَيْن من العواقب إما { أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ } كما أصاب مَن قبلكم من الأمم المهلَكة والظرفُ صفةُ عذاب ، ولذلك حُذف عاملُه وجوباً { أَوْ } بعذاب { بِأَيْدِينَا } وهو القتلُ على الكفر { فَتَرَبَّصُواْ } الفاءُ فصيحةٌ أي إذا كان الأمر كذلك فتربصوا بنا ما هو عاقبتُنا { إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ } ما هو عاقبتُكم فإذا لقِيَ كلٌّ منا ومنكم ما يتربصه لا تشاهدون إلا ما يُسرنا ولا نشاهد إلا ما يسوءُكم .(3/177)
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)
{ قُلْ أَنفِقُواْ } أموالَكم في سبيل الله { طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } مصدران وقعا موقعَ الفاعل أي طائعين أو كارهين وهو أمرٌ في معنى الخبر كقوله تعالى : { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } والمعنى أنفقتم طوعاً أو كرهاً { لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } ونظمُ الكلامِ في سلك الأمرِ للمبالغة في بيان تساوي الأمرين في عدم القَبولِ كأنهم أُمروا بأن يمتحنوا الحال فينفقوا على الحالين فينظروا هل يُتقبّل منهم فيشاهدوا عدمَ القبولِ وهو جوابُ قولِ جدِّ بنِ قيس : ولكن أُعينك بمالي ، ونفيُ التقبُّلِ يحتمل أن يكون بمعنى عدم الأخذِ منهم وأن يكون بمعنى عدمِ الإثابةِ عليه وقوله عز وجل : { إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فاسقين } أي عانين متمرّدين تعليلٌ لرد إنقاقِهم { وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ } وقرىء بالتحتانية { نفقاتهم إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ } استثناءٌ من أعم الأشياءِ أي ما منعهم قَبولَ نفقاتِهم منهم شيءٌ من الأشياء إلا كفرُهم ، وقرىء يَقبَلَ على البناء للفاعل وهو الله تعالى { وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى } أي لا يأتونها في حال من الأحوال إلا حالَ كونهم متثاقلين { وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارهون } لأنهم لا يرجون بهما ثواباً ولا يخافون على تركهما عقاباً فقوله تعالى : { طَوْعاً } أي رغبة من غير إلزامٍ من جهته عليه الصلاة والسلام أو هو فرْضيٌّ لتوسيع الدائرة .
{ فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم } فإن ذلك استدراجٌ لهم ووبالٌ عليهم حسبما ينبىء عنه قولُه عز وجل : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله } بما يكابدون لجمعها وحفظِها من المتاعب وما يقاسون فيها من الشدائد والمصائب { وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون } فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتع عن النظر في العاقبة فيكون ذلك لهم نقمةً لا نعمةً وأصلُ الزهوقِ الخروجُ بصعوبة { وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ } في الدين والإسلام { وَمَا هُم مّنكُمْ } في ذلك { ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } يخافون أن يُفعلَ بهم ما يفعل بالمشركين فيظهرون الإسلام تقيةً ويؤيدونه بالأيمان الفاجرة .(3/178)
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
{ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأَ } استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمون ما سبق من أنهم ليسوا من المسلمين وأن التجاءَهم إلى الانتماء إليهم إنما هو للتقية اضطراراً حتى إنهم لو وجدوا غيرَ ذلك ملجأ أي مكاناً حصيناً يلجأون إليه من رأس جبل أو قلعةٍ أو جزيرة ، وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ في الشرط وإن كان المعنى على المُضِيّ لإفادة استمرارِ عدمِ الوجدانِ فإن المضارعَ المنفيَّ الواقعَ موقعَ الماضي ليس نصاً في إفادة انتفاءِ استمرارِ الفعلِ كما هو الظاهرُ بل قد يفيد استمرارَ انتفائِه أيضاً حسبما يقتضيه المقامُ فإن معنى قولِك : لو تحسن إليّ لشكرتك أن انتفاءَ الشكر بسبب استمرارِ انتفِاء الإحسانِ لا أنه بسبب انتفاءِ استمرارِ الإحسانِ فإن الشكرَ يتوقف على وجود الإحسانِ لا على استمرارِه كما حقق في موضعه { أَوْ مغارات } أي غِيراناً وكهوفاً يُخفون فيها أنفسهَم وقرىء بضم الميم من أغار الرجلُ إذا ذخل الغَور وقيل : هو متعد من غار إذا دخل الغور أي أمكنة يغيرون فيها أشخاصهم وأهليهم يجوز أن يكون من أغار الثعلب إذا أسرع بمعنى مهارب ومفار { أَوْ مُدَّخَلاً } أي نفقاً يندسّون فيه وينجحرون وهو مفتعلٌ من الدخول وقرىء مَدخْلاً من الدخول ومُدْخلاً من الإدخال ، أي مكاناً يُدخِلون فيه أنفسَهم وقرىء مُتدخَّلاً ومنْدخَلاً من التدخل والاندخال { لَوَلَّوُاْ } أي لصرفوا وجوهَهم وأقبلوا ، وقرىء لوالَوْا أي لالتجأوا { إِلَيْهِ } أي إلى أحد ما ذكر { وَهُمْ يَجْمَحُونَ } أي يُسرعون بحيث لا يردُّهم شيء من الفرس الجَموحِ وهو الذي لا يثنيه اللجام ، وفيه إشعارٌ بكمال عتوِّهم وطُغيانِهم وقرىء يجمزون بمعنى يجمحون ويشتدون ومنه الجمازة .
{ وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ } بكسر الميم وقرىء بضمها أي يَعيبُك سراً وقرىء يُلمِّزك ويلامزُك مبالغة { فِي الصدقات } أي في شأنها وقسمتها { فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا } بيانٌ لفسادِ لمزِهم وأنه لا منشأ له سوى حرصِهم على حطام الدنيا أي إن أُعطوا منها قدرَ ما يريدون { رَضُواْ } بما وقع من القسمة واستحسنوها { وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا } ذلك المقدارَ { إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } أي يفاجِئون بالسُخط ، وإذا نائبٌ منابَ فاءِ الجزاء . قيل : نزلت الآية في أبي الجوّاظِ المنافقِ حيث قال : ألا تَروْن إلى صاحبكم ، يقسِم صدقاتِكم في رعاة الغنم ويزعُم أنه يعدل . وقيل : في ابن ذي الخُويصِرَةِ واسمُه حُرقوصُ بنُ زهير التميمي رأسُ الخوارج كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسمُ غنائمَ حُنينٍ فاستعطف قلوبَ أهلِ مكةَ بتوفير الغنائم عليهم فقال : اعدِلْ يا رسول الله فقال عليه الصلاة السلام : « ويلك إن لم أعدِلْ فمن يعدِلُ؟ » وقيل : هم المؤلفةُ قلوبُهم والأولُ هو الأظهر { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا ءاتاهم الله وَرَسُولُهُ } أي ما أعطاهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم من الصدقات طيِّبي النفوسِ به وإن قلَّ ، وذكرُ الله عز وجل للتعظيم والتنبيه على أن ما فعله الرسولُ صلى الله عليه وسلم كان بأمره سبحانه { وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله } أي كفانا فضلُه وصنعُه بنا وما قسمه لنا { سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } بعد هذا حسبما نرجو ونؤمّل { إِنَّا إِلَى الله راغبون } في أن يُخوِّلنا فضلَه ، والآيةُ بأسرها في حيز الشرطِ ، والجوابُ محذوفٌ بناء على ظهوره أي لكان خيراً لهم .(3/179)
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
{ إِنَّمَا الصدقات } شروعٌ في تحقيق حقِّيةِ ما صنعه الرسولُ صلى الله عليه وسلم من القسمة ببيان المصارفِ وردٌّ لمقالة القالةِ في ذلك وحسمٌ لأطماعهم الفارغة المبنيةِ على زعمهم الفاسدِ ببيان أنهم بمعزل من الاستحقاق ، أي جنسُ الصدقات المشتملةِ على الأنواع المختلفة { لِلْفُقَرَاء والمساكين } أي مخصوصةٌ بهؤلاء الأصنافِ الثمانيةِ الآتية لا تتجاوزهم إلى غيرهم ، كأنه قيل : إنما هي لهم لا لغيرهم فما للذين لا علاقةَ بينها وبينهم يقولون فيها ما يقولون وما سوّغ لهم أن يتكلموا فيها وفي قاسمها؟ والفقيرُ من له أدنى شيءٍ والمسكينُ من لا شيء له هو المرويُّ عن أبي حنيفة رضي الله عنه وقد قيل : على العكس ولكل منهما وجهٌ يدل عليه { والعاملين عَلَيْهَا } الساعين في جمعها وتحصليها { والمؤلفة قُلُوبُهُمْ } هم أصنافٌ فمنهم أشرافٌ من العرب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستألفهم ليُسلموا فيرضَخ لهم ومنهم قومٌ أسلموا ونيّاتُهم ضعيفةٌ فيؤلّف قلوبَهم بإجزال العطاء كعيينةَ بنِ حصن ، والأقرعِ بن حابس ، والعباسِ بن مرداس ، ومنهم من يُترقَّب بإعطائهم إسلامُ نظرائِهم ، ولعل الصنفَ الأولَ كان يعطيهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم من خُمس الخُمسِ الذي هو خالصُ مالَه ، وقد عد منهم من يؤلَّف قلبُه بشيء منها على قتال الكفار وما نعي الزكاة وقد سقط سهمُ هؤلاء بالإجماع لما أن ذلك كان لتكثير سوادِ الإسلامِ فلما أعزّه الله عز وعلا وأعلى كلمتَه استُغنيَ عن ذلك { وَفِي الرقاب } أي وللصَّرف في فك الرقاب بأن يُعانَ المكاتَبون بشيء منها على أداء نجومِهم ، وقيل : بأن يُفدَى الأُسارى وقيل : بأن يُبتاع منها الرقابُ فتُعتق ، وأياً ما كان فالعدولُ عن اللام لعدم ذكرِهم بعنوان مصحّحٍ للمالكية والاختصاص كالذين من قبلهم أو للإيذان بعدم قرارِ ملكِهم فيما أعطوا كما في الوجهين الأولين أو بعدم ثبوتِه رأساً كما في الوجه الأخير أو للإشعار برسوخهم في استحقاق الصدقةِ لما أن ( في ) للظرفية المنبئةِ عن إحاطتهم بها وكونِهم محلَّها ومركزَها .
{ والغارمين } أي الذين تداينوا لأنفسهم في غير معصيةٍ إذا لم يكن لهم نصابٌ فاضلٌ عن ديونهم وكذلك عند الشافعيِّ رضي الله عنه غُرمٍ لإصلاح ذاتِ البين وإطفاءِ الثائرة بين القبيلتين وإن كانوا أغنياء { وَفِى سَبِيلِ الله } أي فقراءِ الغزاةِ والحجيج والمنقطَعِ بهم { وابن السبيل } أي المسافر المنقطِع عن ماله ، وتكريرُ الظرف في الأخيرين للإيذان بزيادة فضلِهما في الاستحقاق أو لما ذكر من إيرادهما بعنوان غيرِ مصحَّحٍ للمالكية والاختصاص فهذه مصارفُ الصدقاتِ ، فللمتصدق أن يدفع صدقتَه إلى كل واحدٍ منهم وأن يقتصرَ على صنف منهم لأن اللام لبيان أنهم مصارفُ لا تخرُج عنهم لا لإثبات الاستحقاق ، وقد روي ذلك عن عمرَ وابنِ عباس وحذيفةَ رضي الله عنهم وعند الشافعيِّ لا يجوز إلا أن يُصرَف إلى ثلاثة من تلك الأصناف { فَرِيضَةً مّنَ الله } مصدرٌ مؤكدٌ لما دل عليه صدْرُ الآية أي فرَضَ لهم الصدقاتِ فريضةً . ونُقل عن سيبويه أنه منصوبٌ بفعله مقدراً أي فرَض الله ذلك فريضةً أو حالٌ من الضمير المستكنّ في قوله : للفقراء ، أي إنما الصدقاتُ كائنةٌ لهم حالَ كونها فريضةً أي مفروضة { والله عَلِيمٌ } بأحوال الناسِ ومراتبِ استحقاقِهم { حَكِيمٌ } لا يفعلُ إلا ما تقتضيه الحِكمةُ من الأمور الحسنةِ التي من جملتها سَوْقُ الحقوقِ إلى مستحقّيها .(3/180)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
{ وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبى } نزلت في فِرقة من المنافقين قالوا في حقه عليه الصلاة والسلام ما لا ينبغي فقال بعضُهم : لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلُغه ذلك فيقعَ بنا فقال الجُلاَسُ بنُ سُوَيْد : نقول ما شئنا ثم نأتيه فننكر ما قلنا ونحلِف فيصدقنا بما نقول ، إنما محمدٌ أذُنٌ سامعة وذلك قوله عز وجل { وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ } أي سمع كلَّ ما قيل من غير أن يتدبَّرَ فيه ويميّزَ بين ما يليق بالقَبول لمساعدة أَمارات الصدقِ له وبين ما لا يليق به ، وإنما قالوه لأنه عليه الصلاة والسلام كان لا يواجههم بسوء ما صنعوا ويصفَحُ عنهم حِلماً وكرماً فحملوه على سلامة القلبِ وقالوا ما قالوا { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } من قبيل رجلُ صدقٍ في الدلالة على المبالغة في الجودة والصلاح ، كأنه قيل : نعم هو أذنٌ ولكن نِعمَ الأذُنُ ، ويجوز أن يكون المرادُ أذناً في الخير والحقِّ وفيما ينبغي سماعُه وقَبولُه لا في غير ذلك كما يدل عليه قراءةُ رحمةٍ بالجر عطفاً عليه أي هو أذنُ خيرٍ ورحمةٍ لا يسمع غيرَهما ولا يقبله ، وقرىء أذْن بسكون الذال فيهما وقرىء أذن خير على أنه صفةٌ أو خبرٌ ثان وقوله عز وجل { يُؤْمِنُ بالله } تفسيرٌ لكونه أذنَ خيرٍ لهم أي يصدق بالله تعالى لما قام عنده من الأدلة الموجبةِ له ، وكونُ ذلك خيراً للمخاطَبين كما أنه خيرٌ للعالمين مما لا يخفى { وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } أي يصدّقهم لِما علم فيهم من الخلوص ، واللامُ مزيدةٌ للتفرقة بين الإيمان المشهورِ وبين الإيمان بمعنى التسليمِ والتصديق كما في قوله تعالى : { أَنُؤْمِنُ لَكَ } الخ وقوله تعالى : { فَمَا ءامَنَ لموسى } الخ .
{ وَرَحْمَةً } عطفٌ على أذنُ خيرٍ أي وهو رحمةٌ بطريق إطلاقِ المصدرِ على الفاعل للمبالغة { لّلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ } أي للذين أظهروا الإيمانَ منكم حيث يقبله منهم لكن لا تصديقاً لهم في ذلك بل رفقاً بهم وترحماً عليهم ولا يكشف أسرارَهم ولا يهتِك أستارَهم ، وإسنادُ الإيمان إليهم بصيغة الفعلِ بعد نسبتِه إلى المؤمنين بصيغة الفاعل المنبئةِ عن الرسوخ والاستمرارِ للإيذان بأن إيمانَهم أمرٌ حادثٌ ما له من قرار ، وقرىء بالنصب على أنها علةٌ لفعل دلَّ عليه أذنُ خيرٍ أي يأذن لكم رحمةً { والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله } بما نُقل عنهم من قولهم : هو أذنٌ ونحوِه ، وفي صيغة الاستقبالِ المُشعِرة بترتب الوعيدِ على الاستمرار على ما هم عليه إشعارٌ بقبول توبتِهم كما أفصح عنه قولُه تعالى فيما سيأتي : { فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ } { لَهُمْ } بما يجترئون عليه من أذيَّته عليه الصلاة والسلام كما ينبىء عنه بناءُ الحُكمِ على الموصول { عَذَابٌ أَلِيمٌ } وهذا اعتراضٌ مَسوقٌ من قِبَله عز وجل على نهج الوعيدِ غيرُ داخلٍ تحت الخطابِ وفي تكرير الإسنادِ بإثبات العذابِ الأليم لهم ثم جعلِ الجملةِ خبراً للموصول ما لا يخفى من المبالغة ، وإيرادُه عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالةِ مضافاً إلى الاسم الجليلِ لغاية التعظيمِ والتنبيهِ على أن أذيته راجعةٌ إلى جنابه عز وجل موجبةٌ لكمال السخطِ والغضب .(3/181)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
{ يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ } الخطابُ للمؤمنين خاصةً وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرَهم بالأيمان ليعذُروهم ويرضَوا عنهم أي يحلفون لكم أنهم ما قالوا ما نُقل إليهم مما يورث أذاةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأما التخلفُ عن الجهاد فليس بداخل في هذا الاعتذارِ { لِيُرْضُوكُمْ } بذلك ، وإفرادُ إرضائِهم بالتعليل مع أن عمدةَ أغراضِهم إرضاءُ الرسول صلى الله عليه وسلم وقد قبِل عليه الصلاة والسلام ذلك منهم ولم يكذّبْهم للإيذان بأن ذلك بمعزل من أن يكون وسيلةً إلى إرضائه عليه الصلاة والسلام وأنه صلى الله عليه وسلم إنما لم يكذبهم رفقاً بهم وستراً لعيوبهم لا عن رضا بما فعلوه كما أشير إليه { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } أي أحقُّ بالإرضاء ولا يتسنى ذلك إلا بالطاعة والمتابعةِ وإيفاءِ حقوقِه عليه الصلاة والسلام في باب الإجلالِ والإعظامِ مَشهداً ومَغيباً وأما ما أتَوا به من الأَيمان الفاجرة فإنما يرضى به من انحصر طريقُ علمِه في الأخبار إلى أن يجيءَ الحقُّ ويزهَقَ الباطلُ . والجملةُ نصبٌ على الحالية من ضمير يحلفون أي يحلفون لكم لإرضائكم والحالُ أنه تعالى ورسولُه أحقُّ بالإرضاء منكم أي يُعرضون عما يُهِمُّهم ويجديهم ويشتغلون بما لا يَعنيهم ، وإفرادُ الضمير في يُرْضوه إما للإيذان بأن رضاه عليه الصلاة السلام مندرجٌ تحت رضاه سبحانه وإرضاؤُه عليه الصلاة والسلام إرضاءٌ له تعالى لقوله تعالى : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } وإما لأنه مستعارٌ لاسم الإشارةِ الذي يشار به إلى الواحد والمتعدد بتأويل المذكور كما في قول رؤبة :
فيها خطوطٌ من سوادٍ وبَلَق ... كأنه في الجلد توليعُ البهقْ
أي كأن ذلك . لا يقال أيُّ حاجةٍ إلى الاستعارة بعد التأويل المذكورِ لأنا نقول : لولا الاستعارةُ لم يتسنَّ التأويل لما أن الضميرَ لا يتعرض إلا لذات ما يرجِع إليه من غير تعرضٍ لوصف من أوصافه التي من جملتها المذكوريةُ وإنما المتعرضُ لها اسمُ الإشارةِ وإما لأنه عائدٌ إلى رسوله ، والكلامُ جملتان حُذف خبرُ الأولى لدلالة خبرِ الثانية عليه كما ذهب إليه سيبويه ، ومنه قولُ من قال :
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرأيُ مختلف
أو إلى الله على أن المذكورَ خبرُ الجملة الأولى وخبرُ الثانيةِ محذوفٌ كما هو رأي المبرد { إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } جوابُه محذوفٌ تعويلاً على دِلالة ما سبق عليه أي إن كانوا مؤمنين فليُرْضوا الله ورسولَه بما ذكر فإنهما أحقُّ بالإرضاء .
{ أَلَمْ يَعْلَمُواْ } أي أولئك المنافقون ، والاستفهامُ للتوبيخ على ما أقدَموا عليه من العظيمة مع علمهم بسوء عاقبتِها ، وقُرىء بالتاء على الالتفات لزيادةِ التقريعِ والتوبيخ أي ألم يعلموا بما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من فنون القوارعِ والإنذارات { أَنَّهُ } أي الشأنَ { مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ } المحادَّةُ من الحدّ كالمُشاقّة من الشَّق والمعاداةُ من العُدوة بمعنى الجانبِ فإن كلَّ واحدٍ من مباشري كلِّ الأًفعالِ المذكورة في محل غيرِ محلِّ صاحبِه ، ومَنْ شرطيةٌ جوابُها قوله تعالى : { فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } على أن خبرَه محذوفٌ أي فحَقٌّ أن له نارَ جهنم ، وقرىء بكسر الهمزةِ والجملةُ الشرطيةُ في محلّ الرفعِ على أنها خبرٌ لأن وهي مع خبرها سادةٌ مسدَّ مفعولي يعلموا ، وقيل : المعنى فله ، وإنّ تكريرٌ للأولى تأكيداً لطول العهدِ لا من باب التأكيدِ اللفظيِّ المانعِ للأولى من العمل ، ودخولُ الفاءِ كما في قول من قال :(3/182)
لقد علم الحيُّ اليمانُونَ أنني ... إذا قلتُ : أما بعدُ ، أني خطيبُها
وقد جوّز أن يكون فإن له معطوفاً على أنه ، وجوابُ الشرط محذوفٌ تقديرُه ألم يعلموا أنه من يحاددِ الله ورسولَه يهلِكْ فإن له الخ ، ورُدّ بأن ذلك إنما يجوز عند كونِ فعلِ الشرط ماضياً أو مضارعاً مجزوماً بلم { خَالِداً فِيهَا } حالٌ مقدّرةٌ من الضمير المجرورِ إن اعتُبر في الظرف ابتداءُ الاستقرار وحدوثُه وإن اعتبر مطلقُ الاستقرارِ فالأمرُ ظاهر { ذلك } أشير إلى ما ذكر من العذاب الخالدِ بذلك إيذاناً ببُعد درجتِه في الهول والفظاعةِ { الخزى العظيم } الخزيُ الذلُّ والهوانُ المقارِنُ للفضيحة والندامة ، وهي ثمراتُ نفاقِهم حيث يفتضحون على رؤوس الأشهادِ بظهورها ولُحوقِ العذاب الخالدِ بهم ، والجملةُ تذييلٌ لما سبق .(3/183)
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)
{ يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ } في شأنهم فإن ما نزل في حقهم نازلٌ عليهم { سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم } من الأسرار الخفيةِ فضلاً عما كانوا يُظهِرونه فيما بينهم من أقاويل الكفرِ والنفاقِ ، ومعنى تَنْبئتِها إياهم بما في قلوبهم مع أنه معلومٌ لهم وأن المحذورَ عندهم إطلاعُ المؤمنين على أسرارهم لا إطلاعُ أنفسِهم عليها أنها تُذيع ما كانوا يُخفونه من أسرارهم فتنتشرُ فيما بين الناس فيسمعونها من أفواه الرجالِ مُذاعةً ، فكأنها تخبرهم بها أو المرادُ بالتنبئة المبالغةُ في كون السورة مشتملةً على أسرارهم كأنها تعلم من أحوالهم الباطنةِ ما لا يعلمونه فتنبئهم بها وتنعي عليهم قبائحَهم ، وقيل : معنى يحذر لِيحذر ، وقيل : الضميران الأولان للمؤمنين والثالث للمنافقين ولا يبالى بالتفكيك عند ظهورِ الأمرِ بعَوْد المعنى إليه أي يحذر المنافقون أن تنزَّلَ على المؤمنين سورةٌ تخبرهم بما في قلوب المنافقين وتهتِك عليهم أستارَهم . قال أبو مسلم : كان إظهارُ الحذرِ منهم بطريق الاستهزاءِ فإنهم كانوا إذا سمعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يذكر كلَّ شيء ويقول إنه بطريق الوحي يكذبونه ويستهزئون به ولذلك قيل : { قُلْ استهزءوا } أي افعلوا الاستهزاءَ وهو أمر تهديد { إِنَّ الله مُخْرِجٌ } أي من القوة إلى الفعل أو من الكُمون إلى البروز { مَّا تَحْذَرُونَ } أي ما تحذرونه من إنزال السورةِ ومن مخازيكم ومثالبِكم المستكنةِ في قلوبكم الفاضحةِ لكم على ملأ الناسِ ، والتأكيدُ لرد إنكارِهم بذلك لا لدفع ترددِهم في وقوع المحذورِ إذ ليس حذرُهم بطريق الحقيقة { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ } عما قالوا { لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } رُوي أنه عليه الصلاة والسلام كان يسير في غزوة تبوكَ وبين يديه ركبٌ من المنافقين يستهزئون بالقرآن وبالرسول صلى الله عليه وسلم ويقولون : انظُروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتحَ حُصون الشامِ وقصورَها هيهاتَ هيهات . فأطلع الله تعالى نبيه على ذلك فقال : «احبِسوا على الركب» فأتاهم فقال : «قلتم كذا ، وكذا؟» فقالوا : يا نبيَّ الله لا والله ما كنا في شيء من أمرك ولا من أمر أصحابِك ولكن كنا في شيء مما يخوض فيه الركبُ ليقصُرَ بعضنا على بعض السفر { قُلْ } غيرَ ملتفتٍ إلى اعتذارهم ناعياً عليهم جناياتِهم منزِّلاً لهم منزلةَ المعترفِ بوقوع الاستهزاء موبخاً لهم على أخطائهم موقعَ الاستهزاء { أَبِاللهِ وَرَسُولِهِ كُنتُم تَسْتَهْزِئُون } حيث عقب حرف التقرير بالمستهزأ به ولا يستقيم ذلك إلا بعد تحققِ الاستهزاءِ وثبوتِه .(3/184)
لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
{ لاَ تَعْتَذِرُواْ } لا تشتغلوا بالاعتذار وهو عبارةٌ عن محو أثرِ الذنبِ فإنه معلومُ الكذبِ بيِّنُ البطلان { قَدْ كَفَرْتُمْ } أظهرتم الكفر بإيذاء الرسولِ صلى الله عليه وسلم والطعن فيه { بَعْدَ إيمانكم } بعد إظهارِكم له { إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ } لتوبتهم وإخلاصِهم أو تجنّبهم ( عن ) الإيذاء والاستهزاءِ ، وقرىء إن يعفُ على إسناد الفعلِ إلى الله سبحانه وقرىء على البناء للمفعول مسنَداً إلى الظرف بتذكير الفعلِ وبتأنيثه أيضاً ذهاباً إلى المعنى كأنه قيل : إن ترحم طائفةٌ { نُعَذّبْ } بنون العظمة وقرىء بالياء على البناء للفاعل وبالتاء على البناء للمفعول مسنداً إلى ما بعده { طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } مصِرِّين على الإجرام وهو غيرُ التائبين أو مباشرين له وهم غير المجتنبين . قال محمد بن إسحاقَ : الذي عُفي عنه رجلٌ واحدٌ هو يحيى بنُ حُمَيِّر الأشجعيُّ لما نزلت هذه الآيةُ تاب عن نفاقه وقال : اللهم إني لا أزال أسمع آيةً تقشعر منها الجلودُ وتجِبُ منها القلوب اللهم اجعل وفاتي قتلاً في سبيلك لا يقولُ أحدٌ : أنا غسلتُ أنا كفنتُ أنا دفنتُ فأصيب يومَ اليمامة فما أحدٌ من المسلمين إلا عُرِفَ مصرعُه غيرَه .
{ المنافقون والمنافقات } التعرّضُ لأحوال الإناثِ للإيذان بكمال عراقتِهم في الكفر والنفاق { بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ } أي متشابهون في النفاق والبُعدِ عن الإيمان كأبعاض الشيء الواحدِ بالشخص ، وقيل : أريد به نفيُ أن يكونوا من المؤمنين وتكذيبُهم في حلفهم بالله إنهم لمنكم وتقريرٌ لقوله تعالى : { وَمَا هُم مّنكُمْ } وقوله تعالى : { يَأْمُرُونَ بالمنكر } أي بالكفر والمعاصي { وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف } أي عن الإيمان والطاعةِ استئنافٌ مقررٌ لمضمون ما سبق ومُفصِحٌ عن مضادة حالِهم لحال المؤمنين أو خبرٌ ثان { وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } أي عن المبرات والإنفاق في سبيل الله فإن قبضَ اليد كنايةٌ عن الشح { نَسُواْ الله } أغفلوا ذكرَه { فَنَسِيَهُمْ } فتركهم من رحمته وفضلِه وخذلَهم ، والتعبيرُ عنه بالنسيان للمشاكلة { إِنَّ المنافقين هُمُ الفاسقون } الكاملون في التمرد والفسقِ الذي هو الخروجُ عن الطاعة والانسلاخُ عن كل خيرٍ والإظهارُ في موقع الإضمار لزيادة التقرير كما في قوله تعالى :
{ وَعَدَ الله المنافقين والمنافقات والكفار } أي المجاهرين { نَارَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا } مقدرين الخلود فيها { هِىَ حَسْبُهُمْ } عقاباً وجزاءً وفيه دليلٌ على عظم عقابِها وعذابِها { وَلَعَنَهُمُ الله } أي أبعدهم من رحمته وأهانهم ، وفي إظهار الاسمِ الجليلِ من الإيذان بشدة السخط ما لا يخفى { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } أي نوعٌ من العذاب غيرَ عذابِ النار دائمٌ لا ينقطع أبداً أو لهم عذاب مقيمٌ في الدنيا لا ينفك عنهم وهو ما يقاسونه من تعب النفاقِ الذي هم منه في بلية دائمةٍ لا يأمنون ساعةً من خوف الفضيحةِ ونزولِ العذاب إن اطُّلع عن أسرارهم .(3/185)
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
{ كالذين مِن قَبْلِكُمْ } التفاتٌ من الغَيبة إلى الخطاب للتشديد والكافُ في محل الرفعِ على الخبرية ، أي أنتم مثلُ الذين مِن قبلكم { كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أموالا وأولادا } تفسيرٌ وبيانٌ لِشَبَههم بهم وتمثيلٌ لحالهم بحالهم { فاستمتعوا } تمتعوا ، وفي صيغة الاستفعالِ ما ليس في صيغة التفعلِ من الاستزادة والاستدامةِ في التمتع { بخلاقهم } بنصيبهم من ملاذ الدنيا ، واشتقاقُه من الخَلْق بمعنى التقدير وهو ما قُدّر لصاحبه { فَاسْتَمْتَعْتُمْ بخلاقكم كَمَا اسْتَمْتَعَ } الكاف في محل النصبِ على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي استمتاعاً كاستمتاع { الذين مِنْ قَبْلِكُم بخلاقهم } ذمّ الأولين باستمتاعهم بحظوظهم الخسيسةِ من الشهوات الفانيةِ والتهائِهم بها عن النظر في العواقب الحقةِ واللذائذ الحقيقيةِ تمهيداً لذم المخاطبين بمشابهتهم إياهم واقتفائِهم أثرَهم { وَخُضْتُمْ } أي دخلتم في الباطل { كالذي خَاضُواْ } أي كالذين بإسقاط النونِ أو كالفوج الذي أو كالخوض الذي خاضوه { أولئك } إشارةٌ إلى المتصفين بالأوصاف المعدودةِ من المشبَّهين والمشبَّهة بهم لا إلى الفريق الأخير فقط فإن ذلك يقتضي أن يكون حُبوطُ أعمالِ المشبهين وخسرانُهم مفهومَين ضمناً لا صريحاً ويؤدي إلى خلوّ تلوينِ الخطابِ عن الفائدة إذ الظاهرُ حينئذ أولئكم والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلُح للخطاب أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الأفعال الذميمة .
{ حَبِطَتْ أعمالهم } ليس المرادُ بها أعمالَهم المعدودةَ كما يُشعر به التعبيرُ عنهم باسم الإشارةِ فإن غائلتَها غنيةٌ عن البيان بل أعمالَهم التي كانوا يستحقون بها أجوراً حسنةً لو قارنت الإيمان ، أي ضاعت وبطَلت بالكلية ولم يترتب عليها أثرٌ { فِى الدنيا والاخرة } بطريق المثوبةِ والكرامةِ ، أما في الآخرة فظاهرٌ وأما في الدنيا فلأنّ ما يترتب على أعمالهم فيها من الصحةِ والسعة وغيرِ ذلك حسبما ينبىء عنه قولُه عز وجل : { مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } ليس ترتبُه عليها على طريقه المثوبةِ والكرامة بل بطريق الاستدراج { وَأُوْلئِكَ } أي الموصوفون بحُبوط الأعمالِ في الدارين { هُمُ الخاسرون } الكاملون في الخسران في الدارين الجامعون لمباديه وأسبابِه طراً فإنه قد ذهبت رؤوسُ أموالِهم التي هي أعمالُهم فيما ضرَّهم ولم تنفعْهم قطّ ولو أنها ذهبت فيما لا يضرهم ولا ينفعهم لكفى به خسراناً ، وإيرادُ اسمِ الأشارة في الموضعين للإشعار بعلية الأوصافِ المُشارِ إليها للحبوط والخسران .(3/186)
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
{ أَلَمْ يَأْتِهِمْ } أي المنافقين { نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي خبرُهم الذي له شأنٌ وهو ما فعل بهم والاستفهامُ للتقرير والتحذير { قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إبراهيم وأصحاب مَدْيَنَ } وهم قومُ شعيبٍ { والمؤتفكات } قَرْياتُ قومِ لوطٍ ائتفَكَت بهم أي انقلبت بهم فصار عاليها سافلَها وأُمطروا حجارةً من سجيل وقيل : قرياتُ المكذبين بهم وائتفاكُهن انقلابُ أحوالِهن من الخير إلى الشر { أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات } استئنافٌ لبيان نبئهم { فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ } الفاءُ للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلامُ ويستدعيه النظامُ أي فكذبوهم فأهلكهم الله تعالى فما ظلمهم بذلك ، وإيثارُ ما عليه النظمُ الكريمُ للمبالغة في تنزيه ساحةِ السُّبحان عن الظلم ، أي ما صح وما استقام له أن يظلِمهم ولكنهم ظلموا أنفسَهم ، والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل في قوله عز وجل : { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } للدِلالة على استمرار ظلمِهم حيث لم يزالوا يعرِّضونها للعقاب بالكفر والتكذيب ، وتقديمُ المفعول لمجرد الاهتمام به مع مراعاة الفاصلةِ من غير قصدٍ إلى قصر المظلومية عليهم على رأي من لا يرى التقديمَ موجباً للقصر فيكون كما في قوله تعالى : { وَمَا ظلمناهم ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } من غير قصر للظلم على الفاعل أو المفعول وسيجيء لهذا مزيدُ بيان في قوله سبحانه : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
{ والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } بيانٌ لحسن حالِ المؤمنين والمؤمنات حالاً ومآلاً إثرَ بيانِ قبحِ حالِ أضدادِهم عاجلاً وآجلاً ، والتعبيرُ عن نسبة هؤلاء بعضِهم إلى بعض بالولاية وعن نسبة أولئك بمن الاتصالية للإيذان بأن نسبةَ هؤلاء بطريق القرابة الدينيةِ المبنية على المعاقدة المستتبعةِ للآثار من المعونة والنصرة وغيرِ ذلك ونسبةُ أولئك بمقتضى الطبيعةِ والعادة { يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } أي جنسِ المعروف والمنكرِ المنتظمَين لكل خير وشر { وَيُقِيمُونَ الصلاة } فلا يزالون يذكرون الله سبحانه فهو في مقابلة ماسبق من قوله تعالى : نسُوا الله { وَيُؤْتُونَ الزكواة } بمقابلة قوله تعالى : { وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } { وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ } أي في كل أمر ونهي ، وهو بمقابله وصفِ المنافقين بكمال الفسقِ والخروج عن الطاعة { أولئك } إشارة إلى المؤمنين والمؤمنات باعتبار اتصافِهم بما سلف من الصفات الفاضلة وما فيه من معنى البعدِ للإشعار ببُعد درجتِهم في الفضل أي أولئك المنعوتون بما فصل من النعوت الجليلة { سَيَرْحَمُهُمُ الله } أي يُفيض عليهم آثارَ رحمتِه من التأييد والنصرة البتة لما أن السين مؤكدةٌ للوقوع كما في قولك : سأنتقم منك { أَنَّ الله عَزِيزٌ } تعليلٌ للوعد أي قويٌّ قادرٌّ على إعزاز أوليائه وقهر أعدائه { حَكِيمٌ } يبني أحكامَه على أساس الحِكمةِ الداعيةِ إلى إيصال الحقوقِ من النعمة والنقمة إلى مستحقيها من أهل الطاعة وأهلِ المعصية وهذا وعدٌ للمؤمنين متضمِّنٌ لوعيد المنافقين كما أن ما سبق في شأن المنافقين من قوله تعالى : { فَنَسِيَهُمْ } وعيدٌ لهم متضمنٌ لوعد المؤمنين فإن منعَ لطفِه تعالى عنهم لطفٌ في حق المؤمنين .(3/187)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
{ وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات } تفصيلٌ لآثار رحمتِه الدنيوية ، والإظهارُ في موقع الإضمارِ لزيادة التقريرِ والإشعارِ بعلية وصفِ الإيمان لحصول ماتعلق به الوعدُ ، وعدمُ التعرض لذكر ما مر من الأمر بالمعروف وغيرِ ذلك للإيذان بأنه من لوازمه ومستتبِعاته أي وعَدهم وعداً شاملاً لكل أحدٍ منهم على اختلاف طبقاتِهم في مراتب الفضل كيفاً وكماً { جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا } فإن كلَّ أحد منهم فائزٌ بها لا محالة { ومساكن طَيّبَةً } أي وعد بعضَ الخواصِّ الكمل منهم منازل تستطيبها النفوس أو يطيب فيها العيش . في الخبر ( أنها قصورٌ من اللؤلؤ والزبرجدِ والياقوتِ الأحمر ) { فِى جنات عَدْنٍ } هي أبهى أماكنِ الجناتِ وأسناها . عن النبي صلى الله عليه وسلم : « عدْنٌ دارُ الله لم ترها عينٌ ولم تخطُرْ على قلب بشر لا يسكنها غيرُ ثلاثة النبيون والصديقون والشهداء يقول الله تعالى : طوبى لمن دخلك » وعن ابن عمرو رضى الله عنهما إن في الجنة قصراً يقال له عدْن حوله البروج والمروج وله خمسةُ آلاف باب على كل باب خمسةُ آلافِ حَوْراء لا يدخُله إلا نبيٌّ أو صدّيقٌ أو شهيد ، وعن ابن مسعود رضى الله عنه هي بُطنانُ الجنة وسُرَّتُها . فعدن على هذا عَلَم . وقيل : هو بمعناه اللغوي أعني الإقامة والخلود فمرجِعُ العطفِ إلى اختلاف الوصفِ وتغايُرِه فكأنه وصَفه أولاً بأنه من جنس ما هو أشرفُ الأماكنِ المعروفة عندهم من الجنات ذاتِ الأنهار الجارية ليميل إليها طباعُهم أولَ ما يقرع أسماعَهم ، ثم وصفه بأنه محفوفٌ بطيب العيشِ مُعرّى عن شوائب الكدوراتِ التي لا تكاد تخلو عنها أماكنُ الدنيا وفيها ما تشتهي الأنفسُ وتلذ الأعينُ ثم وصفه بأنه دارُ إقامةٍ وثباتٍ في جوار العلّيين لا يعتريهم فيها فناءٌ ولا تغيُّرٌ ثم وعدهم بما هو أعلى من ذلك كله فقال : { ورضوان مّنَ الله } أي وشيء يسيرٌ من رضوانه تعالى { أَكْبَرُ } إذ عليه يدور فوزُ كل خيرٍ وسعادة وبه يُناط نيلُ كلِّ شرفٍ وسيادة ولعل عدمَ نظمِه في سلك الوعد مع عزته في نفسه لأنه متحققٌ في ضمن كل موعودٍ ولأنه مستمرٌّ في الدارين . روي أنه تعالى يقول لأهل الجنة : ( هل رضِيتم؟ فيقولون : ما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحداً من خلقك فيقول : أنا أُعطيكم أفضلَ من ذلك قالوا : وأيُّ شيء أفضلُ من ذلك قال : أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخطُ عليكم أبداً .
{ ذلك } إشارةٌ إلى ذكرُه وما فيه من معنى البعد للإيذان ببُعدِ درجتِه في العِظَم والفخامة { هُوَ الفوز العظيم } دون مايعده الناس فوزاً من حظوظ الدنيا فإنها مع قطع النظرِ عن فنائها وتغيُّرِها وتنغُّصِها وتكدّرِها ليست بالنسبة إلى أدنى شيءٍ من نعيم الآخرة بمثابة جناحِ البعوض ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو كانَتِ الدنيَا تَزِنُ عِنْدَ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ما سقى الكافرَ منها شربة ماء » ونِعِمّا قال من قال :
تالله لو كانت الدنيا بأجمعها ... تبقي علينا ويأتي رزقُها رغَدا
ما كان من حق حرٍ أن يذِلّ بها ... فكيف وهي متاعٌ يضمحلّ غدا(3/188)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
{ ياأيها النبى جاهد الكفار } أي المجاهرين منهم بالسيف { والمنافقين } بالحجة وإقامة الحدود { واغلظ عَلَيْهِمْ } في ذلك ولا تأخُذْك بهم رأفة . قال عطاء : نسَخت هذه الآيةُ كلَّ شيء من العفو والصفح { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } جملةٌ مستأنفةٌ لبيان آجل أمرِهم إثرَ بيانِ عاجلِه ، وقيل : حالية { وَبِئْسَ المصير } تذييلٌ لما قبله والمخصوصُ بالذم محذوف { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ } استئنافٌ لبيان ما صدر عنهم من الجرائمِ الموجبةِ لما مر من الأمر بالجهاد والغِلظة عليهم ودخولِ جهنم . ( روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام في غزوة تبوكَ شهرين ينزلِ عليه القرآنُ ويَعيب المنافقين المتخلّفين فيسمعه مَنْ كان منهم معه عليه الصلاة والسلام فقال الجُلاَّس بنُ سويد منهم : لئن كان ما يقول محمد حقاً لإخواننا الذين خلّفناهم وهم سادتُنا وأشرافنا فنحن شرٌّ من الحمير ) ، فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس : أجل والله إن محمداً لصادقٌ وأنت شرٌّ من الحمار ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستُحضر فحلف بالله ما قال فرفع عامرٌ يده فقال : اللهم أنزِل على عبدك ونبيِّك تصديقَ الصادق وتكذيبَ الكاذب فنزل . وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ في يحلفون لاستحضار الصورةِ أو للدلالة على تكرير الحلف ، وصيغةُ الجمعِ في قالوا مع أن القائلَ هو الجلاس للإيذان بأن بقيتَهم برضاهم بقوله : صاروا بمنزلة القائل .
{ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر } هي ما حُكي آنفاً والجملةُ مع ما عطف عليها اعتراضٌ { وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم } أي وأظهروا ما في قلوبهم من الكفر بعد إظهارِهم الإسلامَ { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ } هو الفتكُ برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وذلك أنه ( توافقَ خمسةَ عشرَ منهم على أن يدفعوه عليه الصلاة والسلام عن راحلته إذا تسنّم العقبةَ بالليل وكان عمارُ بنُ ياسر آخذاً بخِطام راحلته يقودها وحذيفةُ بنُ اليمان خلفها يسوقُها فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفافِ الإبل وبقعقعة السلاحِ فالتفت فإذا قومٌ متلثّمون فقال : إليكم إليكم يا أعداءَ الله فهربوا ) . وقيل : هم المنافقون همّوا بقتل عامر لرده على الجلاس ، وقيل : أرادوا أن يتوِّجوا عبدَ اللَّه بنَ أبيِّ بنِ سَلول وإن لم يرضَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم { وَمَا نَقَمُواْ } أي وما أنكروا وما عابوا أو ما وجدوا ما يورث نَقِمتَهم { إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ } سبحانه وتعالى وذلك أنهم كانوا حين قدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ في غاية ما يكون من ضنْك العيشِ لا يركبون الخيلَ ولا يحوزون الغنيمة فأثروا بالغنائم وقُتل للجلاس مولى فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بديته اثنى عشَرَ ألفَ درهم فاستغنى ، والاستثناء مفرَّغٌ من أعم المفاعيل أو من أعم العلل أي وما أنكروا شيئاً من الأشياء إلا إغناءَ الله تعالى إياهم أو وما أنكروا لعلة من العلل إلا لإغناء الله إياهم { فَإِن يَتُوبُواْ } عما هم عليه من الكفر والنفاق { يَكُ خَيْراً لَّهُمْ } في الدارين .(3/189)
قيل : لما تلاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال الجلاس : يا رسول الله لقد عرض الله عليّ التوبةَ والله لقد قلت وصدق عامرٌ فتاب الجلاسُ وحسُنت توبته { وَإِن يَتَوَلَّوْا } أي استمروا على ما كانوا عليه من التولي والإعراض عن الدين أو أعرضوا عن التوبة بعد هذا العرض { يُعَذّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدنيا } بالقتل والأسرِ والنهب وغيرِ ذلك من فنون العقوبات { والاخرة } بالنار وغيرها من أفانين العقاب { وَمَا لَهُمْ فِى الارض } مع سعتها وتباعُدِ أقطارِها وكثرة أهلِها المصحّحة لوجدان ما نُفيَ بقوله عز وجل : { مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ } ينقذهم من العذاب بالشفاعة أو المدافعة .(3/190)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)
{ وَمِنْهُمُ } بيانٌ لقبائح بعضٍ آخرَ منهم { مَّنْ عاهد الله لَئِنْ ءاتانا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ } لنؤتين الزكاةَ وغيرَها من الصدقات { وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين } قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما : يريد الحج وقرىء بالنون الخفيفة فيهما . قيل : نزلت في ثعلبةَ بنِ حاطب أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله : ادعُ الله أن يرزُقَني مالاً فقال عليه الصلاة والسلام : " يا ثعلبةُ قليلٌ تؤدّي حقه خيرٌ من كثير لا تطيقه " فراجعه وقال : والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالاً لأعطين كلَّ ذي حق حقَّه فدعا له فاتخذ غنماً فنمت كما ينمي الدودُ حتى ضاقت بها المدينةُ فنزل وادياً وانقطع عن الجماعة والجمعة فسأل عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقيل : كثرُ مالُه حتى لا يسعُه وادٍ فقال : «يا ويحَ ثعلبةَ» فبعث مصدِّقين لأخذ الصدقات فاستقبلها الناسُ بصدقاتهم ومرا بثعلبةَ فسألاه الصدقة وأقرآه كتابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه الفرائضُ فقال : ما هذه إلا أختُ الجزية وقال : ارجعا حتى أرى رأيي وذلك قوله عز وجل : { فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ } أي منعوا حق الله منه { وَتَوَلَّواْ } أي أعرضوا عن طاعة الله سبحانه فلما رجعا قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه : «يا ويحَ ثعلبةَ» مرتين فنزلت فجاء ثعلبةُ بالصدقة فقال عليه الصلاة والسلام : «إن الله منعني أن أقبل منك» فجعل يحثو التراب على رأسه فقال عليه الصلاة والسلام : «هذا عملُك قد أمرتك فلم تُطعني» فقُبض عليه الصلاة والسلام فجاء بها إلى أبي بكر رضى الله عنه فلم يقبلها وجاء بها إلى عمرَ رضي الله عنه في خلافته فلم يقبلها وهلك في خلافة عثمانَ رضي الله عنه وقيل : نزلت فيه وفي سهل بن الحارثِ وجَدِّ بنِ قيس ومعتب بن قُشير والأول هو الأشهرُ { وَهُم مُّعْرِضُونَ } جملة معترضة أي وهم قوم عادتُهم الإعراضُ أو حالية أي تولوا بإجرامهم وهم معرضون بقلوبهم .
{ فَأَعْقَبَهُمْ } أي جعل الله عاقبةَ فعلِهم ذلك { نِفَاقاً } راسخاً { فِى قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } إلى يوم موتِهم الذي يلقون الله تعالى عنده أو يلقَون فيه جزاءَ عملِهم وهو يومُ القيامة وقيل : فأورثهم البخلَ نفاقاً متمكناً في قلوبهم ولا يلائمه قوله عز وجل : { بِمَا أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ } أي بسبب إخلافِهم ما وعده تعالى من التصدق والسلاح { وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } أي وبكونهم مستمرِّين على الكذب في جميع المقالاتِ التي من جملتها وعدُهم المذكورُ ، وتخصيصُ الكذبِ به يؤدّي إلى تخلية الجمعِ بين صيغتي الماضي والمستقبلِ عن المزية فإن تسببَ الإعقابِ المذكورِ بالإخلاف والكذب يقضي بإسناده إلى الله عز وجل إذ لا معنى لكونهما سببين لإعقاب البخلِ للنفاق ، والتحقيقُ أنه لما كانت الفاءُ الدالةُ على الترتيب والتفريعِ منبئةً عن ترتب إعقابِ النفاقِ المخلّدِ على أفعالهم المحكيةِ عنهم من المعاهدة بالتصدق والصلاح والبخل والتولي والإعراض وفيها ما لا دخل له في الترتيب المذكور كالمعاهدة أزيح ما في ذلك من الإبهام بتعيين ما هو المدارُ في ذلك والله تعالى أعلم وقرىء بتشديد الذال .(3/191)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
{ أَلَمْ يَعْلَمُواْ } أي المنافقون أو من عاهد الله وقرىء بالتاء الفوقانية خطاباً للمؤمنين فالهمزةُ على الأول للإنكار والتوبيخِ والتهديد أي ألم يعلموا { أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ } أي ما أسرُّوا به في أنفسهم وما تناجَوا به فيما بينهم من المطاعن وتسميةِ الصدقةِ جزيةً وغيرِ ذلك مما لا خيرَ فيه ، وسرُّ تقديمِ السر على النجوى سيظهر في قوله سبحانه : { وَسَتُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة } { وَأَنَّ الله علام الغيوب } فلا يخفى عليه شيءٌ من الأشياء حتى اجترأوا على ما اجترأوا عليه من العظائم ، وإظهارُ اسمِ الجلالةِ في الموقعين لإلقاء الروعةِ وتربيةِ المهابةِ ، وفي إيراد العلم المتعلّق بسرهم ونجواهم بصيغة الفِعلِ الدالِّ على الحدوث والتجدد ، والعلمِ المتعلقِ بالغيوب الكثيرةِ الدائمةِ بصيغة الاسم الدالِّ على الدوام والمبالغة من الفخامة والجزالةِ ما لا يخفى وعلى الثاني لتقرير عِلمِ المؤمنين بذلك وتنبُّههم على أنه تعالى مؤاخِذُهم ومجازيهم بما علم من أعمالهم { الذين يَلْمِزُونَ } نصبٌ أو رفع على الذم ، ويجوز جرُّه على البدلية من الضمير في سرَّهم ونجواهم وقرىء بضم الميم وهي لغة أي يعيبون { المطوعين } أي المتطوعين المتبرِّعين { مِنَ المؤمنين } حالٌ من المطّوعين وقوله تعالى : { فِي الصدقات } متعلق بيلمزون . ( روي أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حث الناسَ على الصدقة فأتى عبدُ الرحمن بنُ عوف بأربعين أوقيةً من ذهب وقيل : بأربعةِ آلافِ درهم وقال : لي ثمانيةُ آلافٍ فأقرضتُ ربي أربعة وأمسكتُ لعيالي أربعة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت» فبارك له حتى صولحت تُماضِرُ رابعةُ نسائِه عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً ، وتصدق عاصمُ بنُ عدي بمائة وَسْقٍ من تمر وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع من تمر ، فقال : بتُّ ليلتي أجرُّ بالجرير على صاعين فتركت صاعاً لعيالي وجئت بصاع فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثُره على الصدقات فلمَزَهم المنافقون وقالوا : ما أعطى عبدُ الرحمن وعاصمٌ إلا رياءً وإنْ كان الله ورسولُه لغنيَّيْن عن صاع أبي عقيل ولكنه أحب أن يذكِّر بنفسه ليعطى من الصدقات فنزلت ) .
{ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ } عطف على المطوعين أي ويلمزون الذين لا يجدون إلا طاقاتِهم وقرىء بفتح الجيم وهو مصدر جهد في الأمر إذا بالغ فيه وقيل : هو بالضم الطاقةُ وبالفتح المشقة { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ } عطف على يلمِزون أي يهزءون بهم والمرادُ بهم الفريقُ الأخير { سَخِرَ الله مِنْهُمْ } إخبارٌ بمجازاته تعالى إياهم على ما فعلوا من السخرية والتعبيرُ عنها بذلك للمشاكلة { وَلَهُمْ } أي ثابت لهم { عَذَابٌ أَلِيمٌ } التنوينُ للتهويل والتفخيم ، وإيرادُ الجملةِ اسميةً للدلالة على الاستمرار .(3/192)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
{ استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } إخبارٌ باستواء الأمرَين الاستغفارُ لهم وتركُه في استحالة المغفرة ، وتصويرُه بصورة الأمر للمبالغة في بيان استوائِهما كأنه عليه الصلاة والسلام أُمر بامتحان الحالِ بأن يستغفر تارة ويتركَ أخرى ليظهرَ له جليةُ الأمر كما في قوله عز وجل : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } { إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ } بيانٌ لاستحالة المغفرة بعد المبالغةِ في الاستغفار إثرَ بيانِ الاستواءِ بينه وبين عدمِه . ( روي أن عبدَ اللَّه بنَ عبدِ اللَّه بنِ أُبيّ وكان من المخلِصين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض أبيه أن يستغفرَ له ففعل عليه الصلاة والسلام فنزلت فقال عليه الصلاة والسلام محافظةً على ما هو الأصلُ من أن مراتبَ الأعداد حدودٌ معينةٌ يخالف حكمُ كلَ منها حكمَ ما فوقها : « إن الله قد رخّص لي فسأزيد على السبعين » فنزلت { سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ } وقد شاع استعمالُ السبعةِ والسبعين والسبعِمائةِ في مطلق التكثيرِ لاشتمال السبعة على جملة أقسام العددِ فكأنها العددُ بأسره وقيل : هي أكملُ الأعدادِ لجمعها معانيَها ولأن الستة أولُ عددٍ تامَ لتعادل أجزائِها الصحيحةِ إذ نصفُها ثلاثة وثلثُها اثنان وسدسُها واحد وجملتها ستةٌ وهي مع الواحد سبعةٌ فكانت كاملةً إذ لا مرتبةَ بعد التمام إلا الكمالُ ثم السبعون غايةُ الكمالِ إذ الآحادُ غايتُها العشرات والسبعُمائة غايةُ الغايات .
{ ذلك } إشارةٌ إلى امتناع المغفرةِ لهم ولو بعد المبالغةِ في الاستغفار ، أي ذلك الامتناعُ ليس لعدم الاعتدادِ باستغفارك بل { بِأَنَّهُمْ } أي بسبب أنهم { كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ } كفراً متجاوزاً عن الحد كما يلوح به وصفُهم بالفسق في قوله تعالى عز وجل : { والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين } فإن الفسقَ في كل شيء عبارةٌ عن التمرُّد والتجاوز عن حدوده أي لا يهديهم هدايةً مُوصلةً إلى المقصد البتةَ لمخالفة ذلك للحكمة التي عليها يدور فلكُ التكوينِ والتشريعِ ، وأما الهدايةُ بمعنى الدِلالة على ما يوصِل إليه فهي متحققةٌ لا محالة ولكنهم بسوء اختيارِهم لم يقبلوها فوقعوا فيما وقعوا ، وهو تذييلٌ مؤكدٌ لما قبله من الحُكم فإن مغفرةَ الكافرِ إنما هي بالإقلاع عن الكفر والإقبالِ إلى الحق ، والمنهمكُ فيه المطبوعُ عليه بمعزل من ذلك ، وفيه تنبيهٌ على عذر النبيِّ صلى الله عليه وسلم في استغفاره لهم وهو عدمُ يأسِه من إيمانهم حيث لم يعلم أنهم مطبوعون على الغي والضلالِ إذ الممنوعُ هو الاستغفارُ لهم بعد تبيُّن حالِهم كما سيتلى من قوله عز وجل : { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ } الآية .(3/193)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
{ فَرِحَ المخلفون } أي الذين خلّفهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالإذن لهم في القعود عند استئذانِهم أو خلّفهم الله بتثبيطه إياهم لِما علم في ذلك من الحِكمة الخفية أو خلّفهم كسلُهم أو نفاقُهم { بِمَقْعَدِهِمْ } متعلقٌ بفرِحَ أي بقعودهم وتخلّفِهم عن الغزو { خلاف رَسُولِ الله } أي خلفه وبعد خروجِه حيث خرج ولم يخرُجوا يقال : أقام خلافَ الحيِّ أي بعدهم ، ظعنوا ولم يظعَن ، ويؤيده قراءةُ من قرأ خلفَ رسولِ الله ، فانتصابُه على أنه ظرفٌ لمقعدهم إذ لا فائدة في تقييد فرحِهم بذلك ، وقيل : هو بمعنى المخالفة ويعضُده قراءة من قرأ خُلفَ رسولِ الله بضم الخاء فانتصابُه على أنه مفعولٌ له والعاملُ إما ( فرح ) أي فرحوا لأجل مخالفتِه عليه الصلاة والسلام بالقعود وإما ( مقعدِهم ) أي فرحوا بقعودهم لأجل مخالفته عليه الصلاة والسلام أو على أنه حالٌ والعامل أحدُ المذكورَيْن أي فرحوا مخالفين له عليه الصلاة والسلام أو فرحوا بالقعود مخالفين له عليه الصلاة والسلام { وَكَرِهُواْ أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله } لا إيثاراً للدعةِ والخفْضِ على طاعة الله تعالى فقط بل مع ما في قلوبهم من الكفر والنفاقِ ، فإن إيثارَ أحدِ الأمرين قد يتحقق بأدنى رُجْحانٍ منه من غير أن يبلُغ الآخرُ مرتبةَ الكراهيةِ وإنما أوثر ما عليه النظمُ الكريمُ على أن يقال : وكرهو أن يخرُجوا إلى الغزو إيذاناً بأن الجهادَ في سبيل الله مع كونه من أجلّ الرغائبِ وأشرفِ المطالبِ التي يجب أن يتنافسَ فيها المتنافسون قد كرهوه كما فرحوا بأقبح القبائحِ الذي هو القعودُ خلافَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم { وَقَالُواْ } أي لإخوانهم تثبيتاً لهم على التخلف والقعودِ وتواصياً فيما بينهم بالشر والفساد أو للمؤمنين تثبيطاً لهم عن الجهاد ونهياً عن المعروف وإظهاراً لبعض العللِ الداعيةِ لهم إلى ما فرِحوا به من القعود ، فقد جمَعوا ثلاثَ خلالٍ من خصال الكفر والضلالِ : الفرحُ بالقعودِ وكراهيةُ الجهاد ونهيُ الغير عن ذلك { لاَ تَنفِرُواْ فِى الحر } فإنه لا يستطاع شدّتُه { قُلْ } رداً عليهم وتجهيلاً لهم { نَارُ جَهَنَّمَ } التي ستدخُلونها بما فعلتم { أَشَدُّ حَرّا } مما تحذرون من الحر المعهودِ وتحذّرون الناسَ منه ، فما لكم لا تحذَرونها وتعرِّضون أنفسَكم لها بإيثار القعودِ على النفير { لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } اعتراضٌ تذييلىٌّ من جهته سبحانه وتعالى غيرُ داخلٍ تحت القولِ المأمور به مؤكدٌ لمضمونه وجوابُ لو إما مقدرٌ أي لو كانوا يفقهون أنها كذلك ، أو كيف هي أو إنْ آل مآلُهم إليها لَما فعلوا ، أو لتأثروا بهذا الإلزامِ ، وإما غيرُ منويَ على أن لو لمجرد التمني المنبىء عن امتناع تحققِ مدخولِها أي لو كانوا من أهل الفَطانةِ والفِقه كما في قوله عز وجل :(3/194)
{ قُلِ انظروا مَاذَا فِى السموات والارض وَمَا تُغْنِى الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا } إخبارٌ عن عاجل أمرِهم وآجلِه من الضحِك القليلِ والبكاءِ الطويلِ المؤدِّي إليه أعمالُهم السيئةُ التي من جملتها ما ذكر من الفرح ، والفاءُ لسببية ما سبق للإخبار بما ذُكر من الضحِك والبكاءِ لا لنفسهما ، إذ لا يُتصوَّر السببيةُ في الأول أصلاً ، وقليلاً وكثيراً منصوبان على المصدرية أو الظرفية أي ضَحِكاً قليلاً وبكاءً كثيراً أو زماناً قليلاً وزماناً كثيراً ، وإخراجُه في صورة الأمرِ للدِلالة على تحتم وقوعِ المُخبَرِ به ، فإن أمرَ الآمرِ المطاعِ مما لا يكاد يتخلّف عنه المأمورُ به خلا أن المقصودَ إفادتُه في الأول هو وصفُ القِلة فقط وفي الثاني وصفُ الكثرةِ مع الموصوف .
يروى أن أهلَ النفاق يبكون في النار عمُرَ الدنيا لا يرقأ لهم دمعٌ ولا يكتحلون بنوم . ويجوز أن يكون الضحِكُ كنايةً عن الفرح والبكاءُ عن الغم وأن تكون القِلةُ عبارةً عن العدم والكثرةُ عن الدوام { جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من فنون المعاصي ، والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبلِ للدلالة على الاستمرار التجدّدي ما داموا في الدنيا ، وجزاءً مفعولٌ له للفعل الثاني أي ليبكوا جزاءً أو مصدرٌ حُذف ناصبُه أي يُجزَون بما ذكر من البكاء الكثيرِ جزاءً بما كسبوا من المعاصي المذكورة .(3/195)
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
{ فَإِن رَّجَعَكَ الله } الفاء لتفريع الأمرِ الآتي على ما بيِّن من أمرهم والفعلُ من الرجْع المتعدّي دون الرجوع اللازم أي فإن ردّك الله تعالى { إلى طَائِفَةٍ مّنْهُمْ } أي إلى المنافقين من المتخلفين في المدينة فإنّ تخلّف بعضهم إنما كان لعذر عائقٍ مع الإسلام أو إلى من بقيَ من المنافقين المتخلفين بأن ذهب بعضُهم بالموت أو بالغَيبة عن البلد أو بأن لم يستأذِن البعضُ . عن قتادة أنهم كانوا اثنيْ عشرَ رجلاً قيل فيهم ما قيل { فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ } معك إلى غزوة أخرى بعد غزوتِك هذه { فَقُلْ } إخراجاً لهم عن ديوان الغُزاةِ وإبعاداً لمحلهم عن محفِل صُحبتِك { لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تقاتلوا مَعِىَ عَدُوّا } من الأعداء ، وهو إخبارٌ في معنى النهي للمبالغة وقد وقع كذلك { إِنَّكُمْ } تعليلٌ لما سلف أي لأنكم { رَضِيتُمْ بالقعود } أي عن الغزوة وفرِحتم بذلك { أَوَّلَ مَرَّةٍ } هي غزوةُ تبوكَ { فاقعدوا } الفاءُ لتفريع الأمرِ بالقعود بطريق العقوبةِ على ما صدر عنهم من الرضا بالقعود أي إذا رضِيتم بالقعود أولَ مرة فاقعُدوا من بعدُ { مَعَ الخالفين } أي المتخلّفين الذين ديدنُهم القعودُ والتخلفُ دائماً وقرىء الخَلِفين على القصر ، فكان محوُ أساميهم من دفتر المجاهدين ولزُّهم في قَرن الخالفين عقوبةً لهم أيَّ عقوبةٍ ، وتذكيرُ اسم التفضيل المضاف إلى المؤنث هو الأكثرُ الدائرُ على الألسنة فإنك لا تكاد تستمع قائلاً يقول : هي كبرى امرأةٍ أو أُولى مرة .
{ وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ } صفةٌ لأحد وإنما جيء بصيغة الماضي تنبيهاً على تحقق الوقوعِ لا محالة { أَبَدًا } متعلقٌ بالنهي أي لا تدْعُ ولا تستغفرْ لهم أبداً { وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ } أي لا تقِفْ عليه للدفن أو للزيارة والدعاء . ( روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يقوم على قبور المنافقين ويدعو لهم فلما مرِض رأسُ النفاق عبدُ اللَّه بنُ أُبيِّ بنِ سَلول بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتيَه فلما دخل عليه قال عليه السلام : « أهلكك حبُّ اليهود » فقال : يا رسول بعثتُ إليك لتستغفرَ لي لا لتؤنِّبني وسأله أن يكفِّنه في شِعاره الذي يلي جلدَه ويصليَ عليه ، فلما مات دعاه ابنُه وكان مؤمناً صالحاً فأجابه عليه السلام تسليةً له ومراعاةً لجانبه وأرسل إليه قميصَه فكُفّن فيه فلما همّ بالصلاة أو صلّى نزلت ) وعن عمرَ رضي الله عنه أنه قال : لما هلك عبدُ اللَّه بن أبيّ ووضعناه ليصلى عليه قام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقلت : أتصلي على عدوّ الله القائلِ يومَ كذا كذا وكذا والقائلِ يوم كذا كذا وكذا وعدّدتُ أيامَه الخبيثةَ فتبسم عليه السلام وصلى عليه ثم مشى معه وقام على حُفرته حتى دُفن فوالله ما لبث إلا يسيراً حتى نزل { وَلاَ تُصَلّ } الخ فما صلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك على منافق ولا قام على قبره ، وإنما لم يُنْهَ عن التكفين بقميصه صلى الله عليه وسلم لأن الضنَّةَ بالقميص كانت مظِنّةَ الإخلالِ بالكرم على أنه كان مكافأةً لقميصه الذي كان ألبسه العباسَ رضي الله تعالى عنه حين أُسر ببدر والخبرُ مشهور { إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ } تعليلٌ للنهي على معنى أن الاستغفارَ للميت والوقوفَ على قبره إنما يكون لاستصلاحه وذلك مستحيلٌ في حقهم لأنهم استمرّوا على الكفر بالله ورسوله مدةَ حياتِهم { وَمَاتُواْ وَهُمْ فاسقون } أي متمرِّدون في الكفر خارجون عن حدوده كما بين من معنى الفسق .(3/196)
وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)
{ وَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وأولادهم } تكريرٌ لما سبق وتقريرٌ لمضمونه بالإخبار بوقوعه ويجوز أن يكون هذا في حق فريقٍ غيرِ الفريقِ الأولِ ، وتقديمُ الأموالِ في أمثال هذه المواقعِ على الأولاد مع كونهم أعزَّ منها إما لعموم مِساسِ الحاجةِ إليها بحسب الذاتِ وبحسب الأفراد والأوقات ، فإنها مما لا بد منه لكل أحدٍ من الآباء والأمهاتِ والأولادِ في كل وقت وحينٍ حتى إن من له أولادٌ ولا مالَ له فهو وأولادُه في ضيق ونَكالٍ وأما الأولادُ فإنما يَرغب فيهم مَنْ بلغ مبلغَ الأُبوةِ وإما لأن المالَ مناطٌ لبقاء النفسِ والأولادُ لبقاء النوعِ وإما لأنها أقدمُ في الوجود من الأولاد لأن الأجزاءَ المَنويةَ إنما تحصُل من الأغذية كما سيأتي في سورة الكهف { أَنَّمَا يُرِيدُ الله } بما متعهم به من الأموال والأولاد { أَن يُعَذّبَهُمْ بِهَا فِى الدنيا } بسبب معاناتِهم المشاقَّ ومكابدتِهم الشدائدَ في شأنها { وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون } أي فيموتوا كافرين باشتغالهم بالتمتع بها والالتهاء عن النظر والتدبّرِ في العواقب .
{ وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ } من القرآن ويجوز أن يُراد بها بعضُها { أَنْ آمِنُواْ بِاللهِ } ( أنْ ) مفسرةٌ لما في الإنزال من معنى القولِ والوحي ، أو مصدريةٌ حذف عنها الجارُّ أي بأن آمِنوا { وجاهدوا مَعَ رَسُولِهِ } لإعزاز دينِه وإعلاءِ كلمتِه { استأذنك أُوْلُواْ الطول مِنْهُمْ } أي ذووا الفضل والسَّعةِ والقُدرة على الجهاد بدناً ومالاً { وَقَالُواْ } عطفٌ تفسيريٌّ لاستأذنك مغنٍ عن ذكر ما استأذنوا فيه يعني القعودَ { ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ القاعدين } أي الذين قعدوا عن الغزو لما بهم من عذر .(3/197)
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
{ رَضُواْ } استئنافٌ لبيان سوءِ صنيعِهم وعدمِ امتثالِهم لكلا الأمرين وإن لم يرُدّوا الأول صريحاً { بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف } مع النساء اللاتي شأنُهن القعودُ ولزومُ البيوتِ ، جمعُ خالفةٍ وقيل : الخالفةُ من لا خير فيه { وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ } بسبب ذلك { لاَّ يَفْقَهُونَ } ما في الإيمان بالله وطاعتِه في أوامره ونواهيه واتباعِ رسولِه عليه السلام والجهادِ من السعادة وما في أضداد ذلك من الشقاوة { لكن الرسول والذين ءامَنُواْ مَعَهُ } بالله وبما جاء من عنده تعالى ، وفيه إيذانٌ بأنهم ليسوا من الإيمان بالله في شيء وإن لم يُعرضوا عنه صريحاً إعراضَهم عن الجهاد باستئذانهم في القعود { جاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ } أي إنْ تخلّف هؤلاء عن الغزو فقد نهَدَ إليه ونهضَ له من هو خيرٌ منهم وأخلصُ نيةً ومعتقَداً وأقاموا أمرَ الجهادِ بكلا نوعيه كقوله تعالى : { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين } { وَأُوْلئِكَ } المنعوتون بالنعوت الجليلة { لَهُمْ } بواسطة نعوتِهم المزبورة { الخَيْرَاتِ } أي منافعُ الدارين النصرُ والغنيمةُ في الدنيا والجنةُ والكرامة في العُقبى ، وقيل : الحورُ كقوله عز قائلاً : { فِيهِنَّ خيرات حِسَانٌ } وهي جمعُ خَيْرة تخفيف خيّرة { وأولئك هُمُ المفلحون } أي الفائزون بالمطلوب لا مَنْ حاز بعضاً من الحظوظ الفانية عما قليل ، وتكريرُ اسمِ الإشارة تنويهٌ لشأنهم وربْءٌ لمكانهم { أَعَدَّ الله لَهُمْ } استئنافٌ لبيان كونِهم مفلحين أي هيأ لهم في الآخرة { جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا } حالٌ مقدرةٌ من الضمير المجرورِ والعامل أعدّ { ذلك } إشارةٌ إلى ما فُهم من إعداد الله سبحانه لهم الجناتِ المذكورةَ من نيل الكرامةِ العظمى { الفوز العظيم } الذي لا فوزَ وراءه .
{ وَجَاء المعذرون مِنَ الاعراب لِيُؤْذَنَ لَهُمْ } شروعٌ في بيان أحوالِ منافقي الأعرابِ إثرَ بيانِ منافقي أهلِ المدينةِ ، والمعذّرون من عذّر في الأمر إذا قصّر فيه وتوانى ولم يجِدَّ ، وحقيقتُه أن يوهِمَ أن له عذراً فيما يفعل ولا عذرَ له أو المعتذرون بإدغام التاءِ في الذال ونقلِ حركتِها إلى العين وهم المعتذرون بالباطل ، وقرىء المُعْذِرون من الإعذار وهو الاجتهاد في العذرُ والاحتشادُ فيه ، قيل : هم أسَدٌ وغطَفانُ قالوا : إن لنا عيالاً وإن بنا لجَهداً فائذن لنا في التخلف . وقيل : هم رهطُ عامِر بنِ الطفيل قالوا : إن غزَوْنا معك أغار أعرابُ طيءٍ على أهالينا ومواشينا فقال عليه السلام : « سيغنيني الله تعالى عنكم » وعن مجاهد : نفرٌ من غِفارٍ اعتذروا فلم يعذُرهم الله سبحانه . وعن قتادة : اعتذروا بالكذب . وقرىء المُعّذّرون بتشديد العين والذال من تعذر بمعنى اعتذر وهو لحنٌ إذ التاءُ لا تُدغم في العين إدغامَها في الطاء والزاي والصاد في المطّوعين وازّكى واصّدق . وقيل : أريد بهم المعتذرون بالصحة وبه فُسّر المعذّرون والمُعْذِرون أي الذين لم يُفرطوا في العذر { وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ } وهم منافقوا الأعرابِ الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا فظهر أنهم كذبوا الله ورسولَه بادعائهم الإيمانَ والطاعة { سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ } أي من الأعراب أو من المعذّرين فإن منهم من اعتذر لكسله لا لكفره { عَذَابٌ أَلِيمٌ } بالقتل والأسرِ في الدنيا والنارِ في الآخرة .(3/198)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
{ لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى } كالهرمى والزَّمْنى { وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } لفقرهم كمُزَينةَ وجُهينة وبني عذرة { حَرَجٌ } إثمٌ في التخلف { إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } وهو عبارةٌ عن الإيمان بهما والطاعةِ لهما في السر والعلنِ وتولِّيهما في السراء والضراءِ والحبِّ فيهما والبغضِ فيهما كما يفعل المَوْلى الناصحُ بصاحبه { مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ } استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمون ما سبق أي ليس عليهم جناحٌ ولا إلى معاتبتهم سبيلٌ ، ومن مزيدةٌ للتأكيد ، ووضْعُ المحسنين موضِعَ الضمير للدِلالة على انتظامهم بنُصحهم لله ورسولِه في سلك المحسنين ، أو تعليلٌ لنفي الحرجِ عنهم ، أي ما على جنس المحسنين من سبيل وهم من جملتهم { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تذييلٌ مؤيدٌ لمضمون ما ذُكر مشيرٌ إلى أن بهم حاجةً إلى المغفرة وإن كان تخلُّفهم بعذر .
{ وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ } عطفٌ على المحسنين كما يُؤذِن به قولُه عز وجل فيما سيأتي : { إِنَّمَا السبيل } الآية ، وقيل : عطفٌ على الضعفاء وهم البكّاؤون ، سبعةٌ من الأنصار : معقِلُ بنُ يسارَ وصخرُ بنُ خنساءَ وعبدُ اللَّه بنُ كعبٍ وسالمُ بنُ عميرٍ وثعلبةُ بنُ غنمةَ وعبدُ اللَّه بنُ معقِلٍ وعلبةُ بنُ زيد أتوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : نذرْنا الخروجَ فاحمِلنا على الخِفافِ المرقوعة والنعالِ المخصوفة نغْزُ معك فقال عليه السلام : «لا أجد» ، فتولَّوا وهم يبكون ، وقيل : هم بنو مُقرِّن معقِلٌ وسويدٌ ونُعمانُ وقيل : أبو موسى الأشعريُّ وأصحابُه رضي الله عنه تعالى عنهم { قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } حالٌ من الكاف في أتوك بإضمار قد وما عامةٌ لِما سألوه عليه السلام وغيرَه مما يُحمل عليه عادة وفي إيثار ( لا أجد ) على ليس عندي من تلطيف الكلامِ وتطييبِ قلوبِ السائلين ما لا يخفى كأنه عليه السلام يطلب ما يسألونه على الاستمرار فلا يجده { تَوَلَّوْاْ } جوابُ إذا { وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ } أي تسيل بشدة { مِنَ الدمع } أي دمعاً فإن من البيانية مع مجرورها في حيز النصب على التمييز وهو أبلغُ من يفيض دمعُها لإفادتها أن العينَ بعينها صارت دمعاً فيّاضاً والجملةُ حاليةٌ وقوله عزّ اسمُه : { حَزَناً } نُصب على العلية أو الحالية أوالمصدرية لفعل دل عليه ما قبله أي تفيض للحزن فإن الحزنَ يُسند إلى العين مجازاً كالفيض ، أو تولوا له أو حزِنين أو يحزنون حزناً فتكون هذه الجملةُ حالاً من الضمير في تفيض { أَلاَّ يَجِدُواْ } على حذف لامٍ متعلقة بحَزَناً أو تفيض أي لئلا يجدوا { مَا يُنْفِقُونَ } في شراء ما يحتاجون إليه إذ لم يجدوه عندك .(3/199)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
{ إِنَّمَا السبيل } بالمعاتبة { عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ } في التخلف { وَهُمْ أَغْنِيَاء } واجدون لأُهبة الغزوِ مع سلامتهم { رَضُواْ } استئنافٌ تعليليٌّ لما سبق كأنه قيل : ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء؟ فقيل : رضوا { بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف } الذين شأنُهم الضَّعة والدناءة { وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ } أي خذلهم فغفَلوا عن وخامة العاقبة { فَهُمُ } بسبب ذلك { لاَّ يَعْلَمُونَ } أبداً غائلةَ ما رضُوا به وما يستتبعه آجلاً كما لم يعلموا بخساسة شأنِه عاجلاً .
{ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ } استئنافٌ لبيان ما يتصدَّوْن له عند القفولِ إليهم . روي أنهم كانوا بضعةً وثمانين رجلاً فلما رجع عليه السلام إليهم جاؤوا يعتذرون إليه بالباطل والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ فإنهم كانوا يعتذرون إليهم أيضاً لا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط أي يعتذرون إليكم في التخلف { إِذَا رَجَعْتُمْ } من الغزو منتهين { إِلَيْهِمُ } وإنما لم يقل إلى المدينة إيذاناً بأن مدارَ الاعتذار هو الرجوعُ إليهم لا إلى الرجوع إلى المدينة فلعل منهم مَنْ بادر إلى الاعتذار قبل الرجوعِ إليها { قُلْ } تخصيصُ هذا الخطابِ برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تعميمِه فيما سبق لأصحابه أيضاً لِما أن الجوابَ وظيفتُه عليه السلام ، وأما اعتذارُهم فكان شاملاً للمسلمين شمولَ الرجوعِ لهم { لاَ تَعْتَذِرُواْ } أي لا تفعلوا الاعتذارَ كقوله تعالى : { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ } أو لا تعتذروا بما عندكم من المعاذير ، وأما التعرُّضُ لعنوان كذبها فلا يساعُده قوله تعالى : { لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ } أي لن نصدِّقَكم في ذلك أبداً فإنه استئنافٌ تعليليٌّ للنهي مبنيٌّ على سؤال نشأ من قِبَلهم متفرّعٌ على ادعاء الصّدقِ في الاعتذار كأنهم قالوا : لمَ نعتذر؟ فقيل : لأنا لا نصدقكم أبداً فيكون عبثاً إذ لا يترتب عليه غرضُ المعتذِر وقوله عز وجل : { قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ } تعليلٌ لانتفاء التصديقِ أي أُعلِمْنا بالوحي بعضَ أخباركم المنافيةِ للتصديق مما باشرتموه من الشر والفساد وأضمرتموه في ضمائركم وهيأتموه للإبراز في معرِض الاعتذارِ من الأكاذيب ، وجمعُ ضميرِ المتكلم في الموضعين للمبالغة في حسم أطماعِهم من التصديق رأساً ببيان عدمِ رواج اعتذارِهم عند أحدٍ من المؤمنين أصلاً فإن تصديقَ البعض لهم ربما يطمعهم في تصديق الرسولِ صلى الله عليه وسلم أيضاً بواسطة المصدِّقين وللإيذان بأن افتضاحَهم بين المؤمنين كافة { وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ } فيما سيأتي أتُنيبون إليه تعالى مما أنتم فيه من النفاق أم تثبُتون وكأنه استتابةٌ وإمهالٌ للتوبة ، وتقديمُ مفعول الرؤية على ما عطف على فاعله من قوله تعالى : { وَرَسُولُهُ } للإيذان باختلاف حالِ الرؤيتين وتفاوتِهما وللإشعار بأن مدارَ الوعيد هو علمُه عز وجل بأعمالهم { ثُمَّ تُرَدُّونَ } يوم القيامة { إلى عالم الغيب والشهادة } للجزاء بما ظهر منكم من الأعمال ، ووضعُ المُظهرِ موضعَ المضمرِ لتشديد الوعيدِ فإن علمَه سبحانه وتعالى بجميع أعمالِهم الظاهرةِ والباطنةِ وإحاطتَه بأحوالهم البارزةِ والكامنةِ مما يوجب الزجرَ العظيم { فَيُنَبّئُكُمْ } عند ردِّكم إليه ووقوفِكم بين يديه { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي بما كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار من الأعمال السيئةِ السابقةِ واللاحقة ، على أن ما موصولةٌ والعائدُ إليها محذوفٌ أو بعملكم على أنها مصدريةٌ ، والمرادُ بالتنبئة بذلك المجازاةُ به ، وإيثارُها عليها لمراعاة ما سبق من قوله تعالى : { قَدْ نَبَّأَنَا الله } الخ ، فإن المنبأَ به الأخبارُ المتعلِّقةُ بأعمالهم وللإيذان بأنهم ما كانوا عالمين في الدنيا بحقيقة أعمالِهم وإنما يعلمونها يومئذ .(3/200)
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
{ سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ } تأكيداً لمعاذيرهم الكاذبةِ وتقريراً لها ، والسين للتأكيد ، والمحلوفُ عليه محذوفٌ يدل عليه الكلامُ وهو ما اعتذروا به من الأكاذيب ، والجملةُ بدلٌ من يعتذرون أو بيانٌ له { إِذَا انقلبتم } أي انصرفتم من الغزو { إِلَيْهِمُ } ومعنى الانقلابِ هو الرجوعُ والانصرافُ مع زيادة معنى الوصولِ والاستيلاء ، وفائدةُ تقييدِ حَلفِهم به الإيذانُ بأنه ليس لدفع ما خاطبهم النبي عليه السلام به من قوله تعالى : { لاَ تَعْتَذِرُواْ } الخ ، بل هو أمرٌ متبدأ { لِتُعْرِضُواْ } وتصفحوا { عَنْهُمْ } صفحَ رضا فلا توبّخوهم ولا تعاتبوهم كما يُفصح عنه قوله تعالى : { لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ } { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ } لكن لا إعراضَ رضا كما هو طِلْبتُهم بل إعراضَ اجتنابٍ ومقتٍ كما يعرب عنه قوله عز وجل : { إِنَّهُمْ رِجْسٌ } فإنه صريحٌ في أن المرادَ بالإعراض عنهم إما الاجتنابُ عنهم لما فيهم من الرجس الروحاني ، وإما تركُ استصلاحِهم بترك المعاتبةِ لأن المقصودَ بها التطهيرُ بالحمل على الإنابة ، وهؤلاء أرجاسٌ لا تقبل التطهير ، فلا يُتعرّضُ لهم بها وقوله عز وعلا : { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } إما من تمام التعليلِ فإن كونَهم من أهل النارِ من دواعي الاجتناب عنهم وموجباتِ تركِ استصلاحِهم باللوم والعتاب ، وإما تعليلٌ مستقلٌ أي وكفتْهم النارُ عتاباً وتوبيخاً فلا تتكلفوا أنتم في ذلك { جَزَاء } نُصب على أنه مصدرٌ مأكدٌ لفعل مقدر من لفظه وقع حالاً أي يُجزَون جزاءً أو لمضمون الجملةِ السابقة فإنها مفيدةٌ لمعنى المجازاةِ قطعاً كأنه قيل : مجزيّون جزاءً { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } في الدنيا من فنون السيئاتِ أو على أنه مفعولٌ له { يَحْلِفُونَ لَكُمْ } بدلٌ مما سبق ، وعدمُ ذكر المحلوفِ به لظهوره أي يحلِفون به لظهوره أي يحلفون به تعالى { لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ } بحلفهم وتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم .
{ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ } حسبما راموا وساعدتموهم في ذلك { فَإِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين } أي فإن رضاكم عنهم لا يُجديهم نفعاً لأن الله ساخطٌ عليهم ولا أثرَ لرضاكم عند سخطِه سبحانه ، ووضعُ الفاسقين موضعَ ضميرِهم للتسجيل عليهم بالخروج عن الطاعة المستوجبِ لما حل بهم من السُخط وللإيذان بشمول الحُكمِ لمن شاركهم في ذلك والمرادُ به نهيُ المخاطبين عن الرضا عنهم والاغترارِ بمعاذيرهم الكاذبةِ على أبلغ وجهٍ وآكدِه فإن الرضا عمن لا يرضى عنه الله تعالى مما لا يكاد يصدرُ عن المؤمن ، وقيل ذلك لئلا يَتوهمَ متوهمٌ أن رضا المؤمنين من دواعي رضا الله تعالى . قيل : هم جدُّ بنُ قيس ومعتبُ بنُ قشير وأصحابُهما وكانوا ثمانين منافقاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين حين قدم المدينةَ : « لا تجالسوهم ولا تكلموهم » ، وقيل : جاء عبد اللَّه بن أبي يحلف أن لا يتخلفُ عنه أبداً .(3/201)
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
{ الاعراب } هي صيغةُ جمعٍ وليست بجمع للعرب قاله سيبويه لئلا يلزمَ كونُ الجمع أخصَّ من الواحد فإن العربَ هو هذا الجيلُ الخاصُّ سواء سكنَ البواديَ أم القرى ، وأما الأعرابُ فلا يطلق إلا على من يسكن البواديَ ولهذا نسب إلى الأعراب على لفظه فقيل : أعرابيٌّ وقال أهلُ اللغة : رجلٌ عربيٌ وجمعُه العَرَبُ كما يقال : مَجوسيٌّ ويهوديٌّ ثم يحذف ياء النسب في الجمع فيقال : المجوس واليهود ورجلٌ أعرابي ويجمع على الأعراب والأعاريب أي أصحاب البدو { أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا } من أهل الحضَر لجفائهم وقسوةِ قلوبهم وتوحُّشهم ونشئِهم في معزل من مشاهدة العلماء ومفاوضتهم ، وهذا من باب وصف الجنسِ بوصف بعض أفرادِه كما في قوله تعالى : { وَكَانَ الإنسان كَفُورًا } إذ ليس كلُّهم كما ذُكر على ما ستحيط به خُبراً { وَأَجْدَرُ أَن لا يَعْلَمُواْ } أي أحقُّ وأخلقُ بأن لا يعلموا { حُدُودَ مَا أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ } لبعدهم عن مجلسه صلى الله عليه وسلم وحِرمانِهم من مشاهدة معجزاتِه ومعاينةِ ما ينزل عليه من الشرائع في تضاعيف الكتابِ والسنة { والله عَلِيمٌ } بأحوال كلَ من أهل الوَبر والمدَر { حَكِيمٌ } فيما يصيب به مسيئَهم ومحسنَهم من العقاب والثواب .
{ وَمِنَ الاعراب } شروعٌ في بيان تشعّبِ جنسِ الأعرابِ إلى فريقين وعدم انحصارِهم في الفريق المذكورِ كما يتراءى من ظاهر النظم الكريم ، وشرحٌ لبعض مثالبِ هؤلاء المتفرعةِ على الكفر والنفاق بعد بيانِ تماديهم فيهما ، وحملُ الأعراب على الفريق المذكورِ خاصةً وإن ساعده كونُ من يحكي حالَه بعضاً منهم وهم الذين بصدد الإنفاقِ من أهل النفاقِ دون فقرائِهم أو أعرابِ أسدٍ وغطفانَ وتميم كما قيل لكن لا يساعده ما سيأتي من قوله تعالى : { وَمِنَ الاعراب مَن يُؤْمِنُ } الخ ، فإن أولئك ليسوا من هؤلاء قطعاً وإنما هم من الجنس أي ومن جنس الأعرابِ الذي نُعت بنعت بعضِ أفردِه { مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ } من المال أي يعُدّ ما يصرِفه في سبيل الله ويتصدق به صورةً { مَغْرَمًا } أي غرامةً وخُسراناً لازماً إذ لا ينفقه احتساباً ورجاءً لثواب الله تعالى ليكون له مغنماً وإنما ينفقه رياءً وتقيّةً فهي غرامةٌ محضةٌ ، وما في صيغة الاتخاذِ من معنى الاختيارِ والانتفاعِ بما يتخذ إنما هو باعتبار غرضِ المنفقِ من الرياء والتقيةِ لا باعتبار ذاتٍ منفِقَةٍ أعني كونَها غرامة { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر } أصلُ الدائرة ما يحيط بالشيء والمرادُ ما لا محيص عنه من مصائب الدهرِ أي ينتظر بكم دوائرَ الدهرِ ونُوَبَه ودَوَلَه ليذهب غلَبتُكم عليه فليتخلص مما ابتُلي به { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء } دعاءٌ عليهم بنحو ما أرادوا بالمؤمنين على نهج الاعتراض كقوله سبحانه : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } بعد قول اليهود ما قالوا والسوءُ مصدرٌ ثم أطلق على كل ضُرَ وشر وأضيفت إليه الدائرةُ ذماً كما يقال : رجلُ سوءٍ لأن مَن دارت عليه يذمّها ، وهي من باب إضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه فوصفت في الأصل بالمصدر مبالغةً ثم أضيفت إلى صفتِها كقوله عز وجل : { مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْء } وقيل : معنى الدائرةِ يقتضي معنى السَّوءِ فإنما هي إضافةُ بيانٍ وتأكيدٍ كما قالوا : «شمسُ النهارِ ولَحْيا رأسِه» وقرىء بالضم وهو العذابُ كما قيل له سيئة { والله سَمِيعٌ } لما يقولونه عند الإنفاقِ مما لا خيرَ فيه { عَلِيمٌ } بما يُضمِرونه من الأمور الفاسدةِ التي من جملتها أن يتربّصوا بكم الداوائرَ وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى .(3/202)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
{ وَمِنَ الاعراب } أي من جنسهم على الإطلاق { مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الاخر وَيَتَّخِذُ } أي يأخذ لنفسه على وجه الاصطفاءِ والادخارِ { مَا يُنفِقُ } أي ينفقه في سبيل الله تعالى { قربات } أي ذرائعَ إليها وللإيذان بما بينهما من كمال الاختصاصِ جُعل كأنه نفسُ القرُبات ، والجمعُ باعتبار أنواعِ القرُباتِ أو أفرادِها ، وهي ثاني مفعولَي يتخذ وقولُه تعالى : { عندَ الله } صفتُها أو ظرفٌ ليتخذ { وصلوات الرسول } أي وسائلَ إليها فإنه عليه الصلاة والسلام كان يدعو للمتصدِّقين بالخير والبركة ويستغفرُ لهم ولذلك سُنّ للمُصدِّق أن يدعوَ للمتصدِّق عند أخذِ صدقتِه لكن ليس له أن يصليَ عليه كما فعله عليه الصلاة والسلام حين قال : «اللهم صلَّ على آل أبي أوْفى» فإن ذلك منصِبُه فله أن يتفضلَ به على من يشاء ، والتعرُّضُ لوصف الإيمان بالله واليوم الآخر في الفريق الأخيرِ مع أن مساقَ الكلامِ لبيان الفرقِ بين الفريقين في شأن اتخاذِ ما ينفقانه حالاً ومآلاً وأن ذكرَ اتخاذِه ذريعةً إلى القربات والصلوات مغنٍ عن التصريح بذلك لكمال العنايةِ بإيمانهم وبيانِ اتصافِهم به وزيادةِ الاعتناءِ بتحقيق الفرق بين الفرقين من أول الأمرِ ، وأما الفريقُ الأولُ فاتصافُهم بالكفر والنفاقِ معلومٌ من سياق النظم الكريمِ صريحاً { أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ } شهادةٌ لهم من جناب الله تعالى بصحة ما اعتقدوه وتصديقٌ لرجائهم ، والضميرُ لما ينفَق والتأنيثُ باعتبار الخبرِ مع ما مر من تعدّده بأحد الوجهين ، والتنكيرُ للتفخيم المغني عن الجمع أي قربةٌ عظيمةٌ لا يُكتَنه كُنهُها . وفي إيراد الجملةِ اسميةً وتصديرِها بحرفي التنبيةِ والتحقيقِ من الجزالة ما لا يخفى ، والاقتصارُ على بيان كونِها قربةً لهم لأنها الغايةُ القصوى وصلواتُ الرسول من ذرائعها ، وقوله تعالى : { سَيُدْخِلُهُمُ الله فِى رَحْمَتِهِ } وعدٌ لهم بإحاطة رحمتِه الواسعةِ بهم وتفسيرٌ للقربة كما أن قوله عز وعلا : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وعيدٌ للأولين عَقيبَ الدعاءِ عليهم والسينُ للدلالة على تحقق ذلك وتقررِه البتةَ وقوله تعالى : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تعليلٌ لتحقق الوعدِ على نهج الاستئنافِ التحقيقيّ قيل هذا في عبد اللَّه ذي البجادَيْن وقومِه ، وقيل : في بني مُقَرِّنٍ من مُزينةَ وقيل : في أسلمَ وغِفارٍ وجهُينةَ . وروى أبو هريرة رضى الله عنه أنه قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " أسلمُ وغفارٌ وشيءٌ من جُهينةَ ومُزينةَ خيرٌ عند الله يومَ القيامة من تميمٍ وأسدِ بنِ خزيمةَ وهوازِنَ وغَطَفان "(3/203)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
{ والسابقون الاولون مِنَ المهاجرين } بيانٌ لفضائل أشرافِ المسلمين إثرَ بيانِ فضيلةِ طائفةٍ منهم ، والمرادُ بهم الذين صلَّوا إلى القبلتين أو الذين شهِدوا بدْراً أو الذين أسلموا قبل الهجرة { والانصار } أهلُ بَيْعةِ العقبةِ الأولى وكانوا سبعين رجلاً والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زُرارةَ مصعبُ بنُ عمير . وقرىء بالرفع عطفاً على والسابقون { والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ } أي ملتبسين به ، والمرادُ به كلُّ خَصلةٍ حسنة وهم اللاحقون بالسابقين من الفريقين على أن ( من ) تبعيضيةٌ أو الذين اتبعوهم بالإيمان والطاعةِ إلى يوم القيامة ، فالمرادُ بالسابقين جميعُ المهاجرين والأنصارِ ومن بيانية { رَّضِىَ الله عَنْهُمْ } خبرٌ للمبتدأ أي رضي الله عنهم بقَبول طاعتِهم وارتضاءِ أعمالِهم { وَرَضُواْ عَنْهُ } بما نالوه من رضاه المستتبِعِ لجميع المطالبِ طراً { وَأَعَدَّ لَهُمْ } في الآخرة { جنات تَجْرِي تَحْتَهَا الانهار } وقرىء من تحتها كما في سائر المواقع { خالدين فِيهَا أَبَداً } من غير انتهاءٍ { ذلك الفوز العظيم } الذي لا فوزَ وراءه وما في اسم الإشارةِ من معنى البُعد لبيان بُعدِ منزلتِهم في مراتب الفضلِ وعظمِ الدرجةِ من مؤمني الأعراب .
{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ الاعراب } شروعٌ في بيان أحوالِ منافقي أهلِ المدينة ومن حولها من الأعراب بعد بيانِ حالِ أهلِ الباديةِ أي ممن حول بلدتِكم { منافقون } «وهم جهينةُ ومزينةُ وأسلمُ وأشجَعُ وغفارٌ» كانوا نازلين حولها { وَمِنْ أَهْلِ المدينة } عطفٌ على ممن حولكم عطفَ مفردٍ على مفرد وقوله تعالى : { مَرَدُواْ عَلَى النفاق } إما جملةٌ مستأنفةٌ لا محل لها من الإعراب مَسوقةٌ لبيان غلوِّهم في النفاق إثرَ بيانِ اتصافِهم به وإما صفةٌ للمبتدأ المذكورِ فُصل بينهما وبينه بما عُطفَ على خبره ، أو صفةٌ لمحذوف أقيمت هي مُقامه وهو مبتدأ خبرُه من أهل المدينة كما في قوله :
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... والجملةُ عطفٌ على الجملة السابقة أي ومن أهل المدينةِ قومٌ مردوا على النفاق أي تمهّروا فيه من مرَن فلانٌ على عمله ومرَد عليه إذا درب به وضرِي حتى لانَ عليه ومهَر فيه ، غير أن مرَدَ لا يكاد يستعمل إلا في الشر ، فالتمرّدُ على الوجهين الأولين شاملٌ للفريقين حسب شمولِ النفاقِ وعلى الوجه الأخير خاصٌّ بمنافقي أهلِ المدينةِ وهو الأظهر والأنسبُ بذكر منافقي أهلِ البادية أولاً ثم ذكرِ منافقي الأعرابِ المجاورين للمدينة ثم ذكرِ منافقي أهلِها والله تعالى أعلم وقوله عز شأنه : { لاَ تَعْلَمُهُمْ } بيانٌ لتمرّدهم أي تعرفِهم أنت لكن لا بأعيانهم وأسمائِهم وأنسابِهم بل بعنوان نفاقِهم يعني أنهم بلغوا من المهارة في النفاق والتنوُّق في مراعاة التقيةِ والتحامي عن مواقع التهم إلى مبلغ يخفى عليك حالُهم مع ما أنت عليه من علو الكعبِ وسموِّ الطبقة في كمال الفِطنةِ وصِدقِ الفِراسةِ ، وفي تعليق نفي العلمِ بهم مع أنه متعلقٌ بحالهم مبالغةٌ في ذلك وإيماءٌ إلى أن ما هم فيه من صفة النفاقِ لعَراقتهم ورسوخِهم فيها صارت بمنزلة ذاتياتِهم أو مشخَّصاتِهم بحيث لا يُعَدّ من لا يعرِفهم بتلك الصفة عالماً بهم ، وحُمل عدم علمِه عليه الصلاة والسلام بأعيانهم على عدم علمِه عليه الصلاة والسلام بعد مجيء هذا البيانِ على أنه عليه الصلاة والسلام يعلم أن فيهم منافقين لكن لا يعلمهم بأعيانهم وهو مع كونه خلافَ الظاهر عارٍ عما ذكر من المبالغة .(3/204)
وقوله عز وجل : { نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } تقريرٌ لما سبق من مهارتهم في فن النفاقِ أي لا يقف على سرائرهم المركوزةِ في ضمائرهم إلا مَنْ لا تخفى عليه خافيةٌ لِما هم عليه من شدة الاهتمامِ بإبطان الكفرِ وإظهارِ الإخلاصِ ، وفي تعليق العلمِ بهم مع أن المقصودَ بيانُ تعلقِه بحالهم ما مر في تعليق نفيِه بهم ، وقولُه عز شأنُه : { سَنُعَذّبُهُم } وعيدٌ لهم وتحقيقٌ لعذابهم حسبما علم الله فيهم من موجباته ، والسين للتأكيد { مَّرَّتَيْنِ } عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيباً يوم الجمعة فقال : «اخرُجْ يا فلانُ فإنك منافقٌ اخرجْ يا فلان فإنك منافقٌ» فأخرج ناساًوفضحَهم فهذا هو العذابُ الأولُ ، والثاني إما القتلُ وإما عذابُ القبرِ أو الأولُ هو القتلُ والثاني عذابُ القبرِ أو الأولُ أخذُ الزكاةِ لما أنهم يعُدّونها مغرماً بحتاً والثاني نهكُ الأبدان وإتعابُها بالطاعات الفارغةِ عن الثواب . ولعل تكريرَ عذابِهم لما فيهم من الكفر المشفوعِ بالنفاق أو النفاقِ المؤكدِ بالتمرد فيه ، ويجوز أن يكون المرادُ بالمرتين مجردَ التكثيرِ كما في قوله تعالى : { ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } أي كرةً بعد أخرى { ثُمَّ يُرَدُّونَ } يوم القيامة { إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ } هو عذابُ النارِ ، وفي تغيير السبكِ بإسناد عذابِهم السابقِ إلى نونِ العظمةِ حسب إسنادِ ما قبله من العلم وإسناد ردِّهم إلى العذاب الللاحقِ إلى أنفسهم إيذانٌ باختلافهم حالاً وأن الأولَ خاصٌّ بهم وقوعاً وزماناً يتولاه سبحانه وتعالى والثاني شاملٌ لعامة الكفرةِ وقوعاً وزماناً وإن اختلفت طبقاتُ عذابِهم .(3/205)
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
{ وَءاخَرُونَ } بيانٌ لحال طائفةٍ من المسلمين ضعيفةِ الهِمَمِ في أمور الدينِ وهو عطفٌ على منافقون أي ومنهم يعني وممن حولَكم ومن أهل المدينة قومٌ آخرون { اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ } التي هي تخلُّفهم عن الغزو ، وأيثارُ الدعةِ عليه والرضا بسوء جِوارِ المنافقين ، وندموا على ذلك ولم يعتذروا بالمعاذير الكاذبةِ ولم يُخفوا ما صدر عنهم من الأعمال السيئةِ كما فعله من اعتاد إخفاءَ ما فيه وإبرازَ ما ينافيه من المنافقين الذين اعتذروا بما لا خيرَ فيه من المعاذير المؤكدةِ بالأيمان الفاجرةِ حسب ديدنِهم المألوفِ ( وهم رهطٌ من المتخلفين أوثقوا أنفسَهم على سواري المسجدِ عندما بلغهم ما نزل في المتخلّفين فقدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد فصلى ركعتين حسب عادتِه الكريمةِ ورآهم كذلك فسأل عن شأنهم فقيل : أنهم أقسموا أن لا يَحُلوا أنفسَهم حتى تحُلَّهم فقال عليه الصلاة والسلام : « وأنا أقسم أن لا أحُلَّهم حتى أُومرَ فيهم » فنزلت ) { خَلَطُواْ عَمَلاً صالحا } هو ما سبق منهم من الأعمال الصالحةِ والخروجِ إلى المغازي السابقةِ وغيرِها وما لحِق من الاعتراف بذنوبهم في التخلف عن هذه المرة وتذمُّمِهم وندامتِهم على ذلك وتخصيصُه بالاعتراف لا يناسب الخلْطَ لا سيما على وجه يُؤذِن بتوارد المختلطَيْن وكونِ كلَ منهما مخلوطاً ومخلوطاً به كما يؤذن به تبديلُ الواوِ بالباء في قوله تعالى : { وَآخَرَ سَيِّئاً } فإن قولك : خلطتُ الماءَ باللبن يقتضي إيرادَ الماءِ على اللبن دون العكس وقولك : خلطتُ الماءَ واللبنَ معناه إيقاعُ الخلطِ بينهما من غير دلالةٍ على اختصاص أحدِهما بكونه مخلوطاً والآخرِ بكونه مخلوطاً به ، وتركُ تلك الدلالةِ للدلالةِ على جعل كلَ منهما متصفاً بالوصفين جميعاً وذلك فيما نحن فيه بورود كلَ من العملين على الآخر مرةً بعد أخرى ، والمرادُ بالعمل السيء ما صدر عنهم من الأعمال السيئة أولاً وآخراً . وعن الكلبي التوبةُ والإثمُ وقيل : الواوُ بمعنى الباء كما في قولهم : بعتُ الشاءَ شاةً ودرهماً بمعنى شاةً بدرهم { عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } أي يقبل توبتَهم المفهومةَ من اعترافِهم بذنوبهم { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يتجاوز عن سيئات التائبِ ويتفضل عليه وهو تعليلٌ لما تفيده كلمةُ عسى من وجوب القَبولِ فإنها للإطماع الذي هو من أكرم الأكرمين إيجابٌ وأيُّ إيجاب .(3/206)
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
{ خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً } روي أنهم لما أُطلقوا قالوا : يا رسولَ الله هذه أموالُنا التي خلَّفتْنا عنك فتصدقْ بها وطهِّرْنا فقال عليه الصلاة والسلام : « ما أُمرتُ أن آخذَ من أموالكم شيئاً » فنولت فليست هي الصدقةُ المفروضةُ لكونها مأموراً بها ولِما رُوي أنه عليه الصلاة والسلام أخذ منهم الثلثَ وتركَ لهم الثلثين فوقع ذلك بياناً لِما في صدقةً من الإجمال ، وإنما هي كفارةٌ لذنوبهم حسبما ينبىء عنه قولُه عز وجل : { تُطَهّرُهُمْ } أي عما تلطخوا به من أوضار التخلفِ ، والتاءُ للخطاب والفعل مجزومٌ على أنه جواب للأمر وقرىء بالرفع على أنه حالٌ من ضمير المخاطبِ في خذ أو صفةٌ لصدقةً والتاء للخطاب أو للصدقة والعائدُ على الأول محذوفٌ ثقةً بما بعده وقرىء تُطْهِرهم من أطْهره بمعنى طَهّره { وَتُزَكّيهِمْ بِهَا } بإثبات الياءِ وهو خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ والجملةُ حال من الضمير في الأمر أو في جوابه ، أي وأنت تزكيهم بها أي تُنْمي بتلك الصدقةِ حسناتِهم إلى مراتب المخلِصين أو أموالَهم أو تبالغ في تطهيرهم ، هذا على قراءة الجزم في تطهرْهم وأما على قراءة الرفع فسواءٌ جُعلت التاءُ للخطاب أو للصدقة وكذا جعلت الجملةُ الأولى حالاً من ضمير المخاطَب أو صفةً للصدقة على الوجهين فالثانيةُ عطفٌ على الأولى حالاً وصفةً من غير حاجةٍ إلى تقدير المبتدأ لتوجيه دخولِ الوالو في الجملة الحالية { وَصَلّ عَلَيْهِمْ } أي واعطِف عليهم بالدعاء والاستغفار لهم { ءانٍ } وقرىء صلواتِك مراعاةً لتعدد المدعوِّ لهم { صلواتك سَكَنٌ لَّهُمْ } تسكُن نفوسُهم إليها وتطمئن قلوبُهم بها ويثقون بأنه سبحانه قبل توبتَهم ، والجملةُ تعليلٌ للأمر بالصلاة عليهم { والله سَمِيعٌ } يسمع ماصدر عنهم من الاعتراف بالذنب والتوبةِ والدعاء { عَلِيمٌ } بما في ضمائرهم من الندم والغمّ لما فرَط منهم ومن الإخلاص في التوبة والدعاء أو سميع يجيب دعاءَك لهم عليم بما تقتضيه الحكمةُ ، والجملةُ حينئذ تذييلٌ للتعليل مقررٌ لمضمونه ، وعلى الأول تذييلٌ لما سبق من الآيتين محقِّقٌ لما فيهما .(3/207)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
{ أَلَمْ يَعْلَمُواْ } وقرىء بالتاء ، والضمير إما للتائبين فهو تحقيقٌ لما سبق من قبول توبتِهم وتطهيرِ الصدقة وتزكيتِها لهم ، وتقريرٌ لذلك وتوطينٌ لقلوبهم ببيان أن المتوليَ لقبول توبتِهم وأخذِ صدقاتِهم هو الله سبحانه وإن أُسند الأخذُ والتطهيرُ والتزكيةُ إليه عليه الصلاة والسلام أي ألم يعلمْ أولئك التائبون { أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة } الصحيحةَ الخالصةَ { عَنْ عِبَادِهِ } المخلِصين فيها ويتجاوز عن سيئاتهم كما يُفصح عنه كلمةُ عن والمرادُ بهم إما أولئك التائبون ، ووضعُ المظهرِ في موضع المضمرِ للإشعار بعلّية العبادةِ لقبولها ، وإما كافةُ العباد وهم داخلون في ذلك دخولاً أولياً { وَيَأْخُذُ الصدقات } أي يقبل صدقاتِهم على أن اللامَ عوضٌ عن المضاف إليه أو جنسُ الصدقاتِ المندرجُ تحته صدقاتُهم اندراجاً أولياً أي هو الذي يتولى قَبولَ التوبةِ وأخذَ الصدقاتِ وما يتعلق بها من التطهير والتزكية ، وإن كنتَ أنتَ المباشرَ لها ظاهراً ، وفيه من تقرير ما ذكر ورفعِ شأنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على نهج قوله تعالى : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } ما لا يخفى { وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم } تأكيدٌ لما عُطف عليه وزيادةُ تقريرٍ لما يقرره مع زيادةِ معنى ليس فيه ، أي ألم يعلموا أنه المختصُّ المستأثرُ ببلوغ الغايةِ القصوى من قبول التوبةِ والرحمةِ وأن ذلك سُنةٌ مستمرةٌ له وشأنٌ دائم ، والجملتان في حيز النصبِ بيعلموا بسدّ كلِّ واحدةٍ منهما مسدّ مفعوليه . وإما لغير التائبين من المؤمنين فقد روي أنهم قالوا لما تِيب على الأولين : هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلَّمون ولا يجالَسون فما لهم فنزلت . أي ألم يعلموا ما للتائبين من الخصال الداعيةِ إلى التكرِمة والتقريبِ والانتظامِ في سلك المؤمنين والتلقّي يحسن القَبولِ والمجالسة فهو ترغيبٌ لهم في التوبة والصدقة .
وقوله تعالى : { وَقُلِ اعملوا } زيادةُ ترغيبٍ لهم في العمل الصالحِ الذي من جملته التوبةُ وللأولين في الثبات على ما هم عليه أي قل لهم بعد ما بان لهم شأنُ التوبةِ : اعملوا ما تشاؤون من الأعمال فظاهرُه ترخيصٌ وتخييرٌ وباطنُه ترغيبٌ وترهيبٌ وقوله عز وجل : { فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ } أي خيراً كان أو شراً وتعليلٌ لما قبله وتأكيدٌ للترغيب والترهيب ، والسينُ للتأكيد { وَرَسُولُهُ } عطفٌ على الاسم الجليل وتأخيرُه عن المفعول للإشعار بما بين الرؤيتين من التفاوت .
{ والمؤمنون } في الخبر ( لو أن رجلاً عمل في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائناً ما كان ) . والمعنى أن أعمالَكم غيرُ خافيةٍ عليهم كما رأيتم وتبين لكم ، ثم إن كان المرادُ بالرؤية معناها الحقيقيَّ فالأمرُ ظاهرٌ وإن أريد بها مآلُها من الجزاء خيراً أو شراً فهو خاصٌّ بالدنيوي من إظهار المدحِ والثناءِ والذكرِ الجميلِ والإعزازِ ونحو ذلك من الأجزية وأضدادها { وَسَتُرَدُّونَ } أي بعد الموتِ { إلى عالم الغيب والشهادة } في وضع الظاهِرِ موضِعَ المضمَرِ من تهويل الأمرِ وتربية المهابةِ ما لا يخفى .(3/208)
ووجهُ تقديمِ الغيبِ في الذكر لسعة عالَمِه وزيادةِ خطرِه على الشهادة غنيٌّ عن البيان . وقيل : إن الموجوداتِ الغائبةَ عن الحواس عللٌ أو كالعلل للموجودات المحسوسةِ والعلمُ بالعلل علةٌ للعلم بالمعلومات فوجب سبقُ العلمِ بالغيب على العلم بالشهادة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما الغيبُ ما يُسِرّونه من الأعمال ، والشهادةُ ما يظهرونه كقوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } فالتقديمُ حينئذ لتحقيق أن نسبةَ علمِه المحيطِ بالسر والعلنِ واحدةٌ على أبلغ وجهٍ وآكَدِه لا لإيهام أن علمَه سبحانه بما يسرونه أقدمُ منه بما يعلنونه كيف لا وعلمه سبحانه بمعلوماته منزهٌ عن أن يكون بطريق حصولِ الصورة بل وجودُ كل شيءٍ وتحققُه في نفسه علمٌ بالنسبة إليه تعالى ، وفي هذا المعنى لا يختلف الحالُ بين الأمور البارزةِ والكامنةِ ، وإما للإيذان بأن رتبةَ السرِّ متقدمةٌ على رتبة العلن ، إذ ما من شيء يُعلن إلا وهو أو مباديه القريبةُ أو البعيدةُ مضمرٌ قبل ذلك في القلب فتعلقُ علْمِه تعالى به في حالته الأولى متقدمٌ على تعلقه به في حالته الثانية { فَيُنَبّئُكُمْ } عقّب الردّ الذي هو عبارةٌ عن الأمر الممتد إلى يوم القيامة { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } قبل ذلك في الدنيا والمرادُ بالتنبئة بذلك الجزاءُ بحسَبه إن خيراً فخيرٌ وإن شراً فشر فهو وعدٌ ووعيد .(3/209)
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)
{ وَءاخَرُونَ } عطفٌ على آخرون قبله أي ومن المتخلفين من أهل المدينةِ ومَنْ حولها من الأعراب قومٌ آخرون غيرُ المعترفين المذكورين { مُرْجَوْنَ } وقرىء مُرْجَئون من أرجيتُه وأرجأتُه أي أخرتُه ومنه المُرْجِئة الذين لا يقطعون بقبول التوبة { لاْمْرِ الله } في شأنهم . قال ابن عباس رضي الله عنهما : هم كعبُ بنُ مالك ومَرارةُ بنُ الربيع وهلالُ بنُ أميةَ لم يسارعوا إلى التوبة والاعتذار كما فعل أبو لُبابةَ وأصحابُه من شد أنفسِهم على السواري وإظهارِ الغمّ والجزَعِ والندمِ على ما فعلوا فوقَفهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ونهى أصحابَه عن أن يسلّموا عليهم ويكلموهم وكانوا من أصحاب بدر فهجروهم ، والناسُ في شأنهم على اختلاف فمن قائلٍ : هلكوا وقائل : عسى الله أن يغفرَ لهم فصاروا عندهم مُرجَئين لأمره تعالى { إِمَّا يُعَذّبُهُمْ } إن بقوُا على ما هم عليه من الحال وقيل : إن أصروا على النفاق وليس بذاك فإن المذكورين ليسوا من المنافقين { وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } إن خلَصت نيتُهم وصحت توبتُهم والجملةُ في محل النصبِ على الحالية أي منهم هؤلاء إما معذَّبين وإما مَتوباً عليهم ، وقيل : آخرون مبتدأٌ ومرجون صفتُه وهذه الجملةُ خبره { والله عَلِيمٌ } بأحوالهم { حَكِيمٌ } فيما فعل بهم من الإرجاء وما بعده وقرىء والله غفور رحيم { والذين اتخذوا مَسْجِدًا } عطفٌ على ما سبق أي ومنهم الذين أو نصبٌ على الذم وقرىء بغير واو لأنها قصة على حيالها { ضِرَارًا } أي مضارّةً للمؤمنين وانتصابُه على أنه مفعولٌ ثانٍ لاتخذوا أو على أنه مصدرٌ مؤكدٌ لفعل مقدر منصوبٍ على الحالية أي يضارّون بذلك ضراراً أو على أنه مصدرٌ بمعنى الفاعل وقع حالاً من ضمير اتخذوا أي مضارِّين للمؤمنين . ( روي أن بني عمرو بنِ عَوْف لما بنَوا مسجدَ قُباءَ بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهَم فيصليَ بهم في مسجدهم فلما فعله عليه الصلاة والسلام حسدتْهم إخوتُهم بنو غنم بنِ عوف وقالوا : نبني مسجداً ونرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيه ، ويصلي فيه أبو عامرٍ الراهب أيضاً إذا قدم من الشام ) وهو الذي سماه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الفاسقَ ( وقد كان قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد : لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتُك معهم فلم يزل يفعل ذلك إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازنُ يومئذ ولّى هارباً إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استعدتم من قوة وسلاح فإني ذاهبٌ إلى قيصرَ وآتٍ بجنود ومخرجٌ محمداً وأصحابَه من المدينة ) ( فبنَوا مسجداً إلى جنب مسجد قباءَ وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : بنينا مسجداً لذي العلّة والحاجةِ والليلةِ المطيرة والشاتية ونحن نحب أن تصليَ لنا فيه وتدعوَ لنا بالبركة فقال عليه الصلاة والسلام :(3/210)
« إني على جناح سفر وحالِ شُغْلٍ وإذا قدِمنا إن شاء الله تعالى صلينا فيه » فلما قفَل عليه الصلاة والسلام من غزوة تبوكَ سألوه إتيانَ المسجد فنزلت عليه فدعا بمالك بنِ الدخشم ومعنِ بن عدي وعامر بنِ السكن ووحشي فقال لهم : « انطلقوا إلى هذا المسجد الظالمِ أهلُه فاهدِموه وأحرِقوه » ففعلوا وأمر أن يتخذ مكانه كُناسةٌ تلقى فيها الجيفُ والقُمامة وهلك أبو عامر الفاسقُ بالشام بقِنَّسْرين ) { وَكُفْراً } تقوية للكفر الذي يُضمِرونه { وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المؤمنين } الذين كانوا يصلون في مسجد قباءَ مجتمعين فيغص بهم فأرادوا أن يتفرقوا وتختلف كلمتُهم { وَإِرْصَادًا } إعداداً وانتظاراً وترقباً { لّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ } وهو الراهبُ الفاسقُ أي لأجله حتى يجيءَ فيصليَ فيه ويظهرَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم { مِن قَبْلُ } متعلقٌ باتخذوا أي اتخذوا من قبل أن ينافقوا بالتخلف حيث كانوا بنوه قبل غزوة تبوك ، أو بحارب أي جارٍ بهما قبل اتخاذِ هذا المسجد { وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا } أي ما أردنا ببناء هذا المسجد { إِلاَّ الحسنى } إلا الخَصلةَ الحسنى وهي الصلاةُ وذكرُ الله والتوسعةُ على المصلين أو إلا الإرادةَ الحسنى { والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون } في حلِفهم ذلك .(3/211)
لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
{ لاَ تَقُمْ } للصلاة { فِيهِ } في ذلك المسجدِ حسبما دعَوْك إليه { أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ } أي بُني أصلُه { عَلَى التقوى } يعني مسجدَ قباءَ أسسه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيامَ مقامِه بقباء وهي يومُ الاثنين والثلاثاءِ والأربعاءِ والخميسِ وخرج يومَ الجمعة ، وقيل : هو مسجدُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وعن أبي سعيد رضي الله عنه سألت النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أُسس على التقوى فأخذ حصباءَ فضرب بها الأرضَ وقال : «مسجدُكم هذا مسجدُ المدينة» ، واللامُ إما للابتداء أو للقسم المحذوفِ أي والله لَمسجدٌ ، وعلى التقديرين فمسجدٌ مبتدأٌ وما بعده صفتُه وقوله تعالى : { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } أي من أيام تأسيسِه ، متعلقٌ بأسس وقوله تعالى : { أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } أي للصلاة وذكرِ الله تعالى خبرُه وقوله تعالى : { فِيهِ رِجَالٌ } جملةٌ مستأنفةٌ مبينةٌ لأحقّيته لقيامه عليه الصلاة والسلام فيه من جهة الحال بعد بيانِ أحقيتِه له من حيث المحلُّ ، أو صفةٌ أخرى للمبتدأ أو حالٌ من الضمير في فيه وعلى كل حالٍ ففيه تحقيقٌ وتقريرٌ لاستحقاقه القيامَ فيه والمرادُ بكونه أحق نفس كونه حقيقاً به إذ لا استحقاقَ في مسجد الضرارِ رأساً وإنما عبر عنه بصيغة التفضيلِ لفضله في نفسه أو الأفضلية في الاستحقاق المتناولِ لما يكون باعتبار زعمِ الباني ومن يشايعُه في الاعتقاد وهو الأنسب بما سيأتي { يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } من المعاصي والخصالِ الذميمةِ لمرضاة الله سبحانه وقيل : من الجنابة فلا ينامون عليه .
{ والله يُحِبُّ المطهرين } أي يرضى عنهم ويُدْنيهم من جنابه إدناءَ المحبِّ حبيبَه . قيل : ( لما نزلت مشى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباءَ فإذا الأنصارُ جلوسٌ فقال : " أمؤمنون أنتم؟ " فسكت القومُ ثم أعادها فقال عمرُ رضي الله تعالى عنه : يا رسولَ الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم فقال عليه الصلاة والسلام : " أترضَوْن بالقضاء؟ " قالوا نعم قال أتشكرون في الرخاء؟ قالوا : نعم ، قال عليه الصلاة والسلام : " أتصبِرون على البلاء؟ " قالوا : نعم ، قال عليه الصلاة والسلام : " مؤمنون وربِّ الكعبة " فجلس ثم قال : " يا معشرَ الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط؟ " فقالوا : نُتبعُ الغائطَ الأحجارَ الثلاثة ثم نتبع الأحجارَ الماءَ ، فتلا النبيُّ عليه الصلاة والسلام { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } وقرىء أن يطّهروا بالإدغام وقيل : هو عام في التطهر عن النجاسات كلِّها وكانوا يُتبعون الماءَ إثرَ البول . وعن الحسن رضي الله عنه هو التطهرُ عن الذنوب بالتوبة وقيل : يحبّون أن يتطهروا بالحُمّى المكفرةِ لذنوبهم فحُمُّوا عن آخرهم .(3/212)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ } على بناء الفعلِ للفاعل والنصبِ ، وقرىء على البناء للمفعول والرفعِ وقرىء أُسسُ بنيانِه على الإضافة جمع أساس ، وإءَساسُ بالفتح والكسر جمع أُسّ وقرىء أَساسُ بنيانِه جمع أُس أيضاً وأُسُّ بنيانِه ، وهي جملةٌ مستأنفة مبينةٌ لخيرية الرجالِ المذكورين من أهل مسجد قُباء والهمزةُ للإنكار والفاء للعطف على مقدر أي أبعدَ ما عَلِمَ حالَهم : مَنْ أسّس بنيانَ دينِه { على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ } أي على قاعدةٍ محكمة هي التقوى من الله وابتغاءُ مرضاتِه بالطاعة ، والمرادُ بالتقوى درجتُها الثانية التي هي التوقّي عن كل ما يُؤثِمَ من فعل أو ترك ، وقرىء تقوىً بالتنوين على أن الألف للإلحاق دون التأنيث { خَيْرٌ أَمِّن أَسَّسَ بُنْيَانَهُ } تركُ الإضمار للإيذان باختلاف البُنيانين ذاتاً مع اختلافهما وصفاً وإضافةً { على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } الشفا الحَرْف والشفير والجُرُف ما جرفه السيلُ أي استأصله واحتفَر ما تحته فبقىَ واهياً يريد الانهدام ، والهارُ الهائرُ المتصدِّعُ المشرِفُ إلى السقوط من هار يهورُ ويهار أو هار يهير قُدّمت لامُه على عينه فصار كغازٍ ورامٍ وقيل : حذفت عينه اعتباطاً أي بغير موجب فجرى وجوهُ الإعرابِ على لامه { فانهار بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ } مثّل ما بنَوا عليه أمرَ دينِهم في البُطلان وسرعةِ الانطماسِ بما ذُكر ثم رشّح بانهياره في النار ، ووُضع بمقابلة الرضوانِ تنبيهاً على أن تأسيسَ ذلك على أمر يحفظه من النار ويوصله إلى الرضوان ومقتضياتِه التي أدناها الجنةُ وتأسيسَ هذا على ما هو بصدر الوقوعِ في النار ساعةً فساعة ثم مصيرُهم إليها لا محالة . وقرىء جُرْف بسكون الراء { والله لاَ يَهْدِى القوم الظَّالِمِينَ } أي لأنفسهم أو الواضعين للأشياء في غير مواضِعها أي لا يُرشدهم إلى ما فيه نجاتُهم وصلاحُهم إرشاداً موجباً له لا محالة ، وأما الدلالةُ على ما يرشدهم إليه إن استرشدوا به فهو متحققٌ بلا اشتباه .(3/213)
لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
{ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذى بَنَوْاْ } البنيانُ مصدرٌ أُريد به المفعولُ ، ووصفُه بالموصول الذي صلتُه فعله للإيذان بكيفية بنائِهم له وتأسيسِه على أوهن قاعدةٍ وأوهى أساسٍ وللإشعار بعلة الحُكم ، أي لا يزال مسجدُهم ذلك مبنياً ومهدوماً { رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ } أي سببَ ريبةٍ وشكَ في الدين كأنه نفسُ مُريبِه . أما حالَ بنيانه فظاهرٌ لِما أن اعتزالَهم من المؤمنين واجتماعَهم في مجمع على حياله يُظهرون فيه ما في قلوبهم من آثار الكفرِ والنفاقِ ويدبِّرون فيه أمورَهم ويتشاورون في ذلك ، ويُلقي بعضُهم إلى بعض ما سمعوا من أسرار المؤمنين مما يزيدهم ريبة وشكاً في الدين ، وأما حالَ هدمِه فلما أنه رسَخ به ما كان في قلوبهم من الشر وتضاعفت آثارُه وأحكامُه أو سبّب ريبةً في أمرهم حيث ضعُفت قلوبُهم ووهَى اعتقادُهم بخفاء أمرِهم على أمر المؤمنين لأنهم أظهروا من أمرهم بعد البناءِ أكثرَ مما كانوا يُظهرونه قبل ذلك وقت اختلاطِهم بالمؤمنين وساءت ظنونُهم بأنفسهم فلما هُدم بنيانُهم تضاعف ذلك الضَّعفُ وتقوّى وصاروا مُرتابين في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يتركهم على ما كانوا عليه من قبل أو يأمرُ بقتلهم ونهبِ أموالِهم . وقال الكلبي : معنى ريبةً حسرةً وندامة . وقال السدي وحبيب والمبرد : لا يزال هدمُ بنيانِهم حزازةً وغيظاً في قلوبهم { إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ } من التفعل بحذف إحدى التاءين أي إلا أن تتقطع { قُلُوبِهِمْ } قِطعاً وتتفرّقَ أجزاءً بحيث لا يبقى لها قابليةُ إدراكٍ وإضمار قطعاً ، وهو استثناءٌ من أعم الأوقاتِ أو أعم الأحوال ومحلُّه النصبُ على الظرفية أي لا يزال بنيانُهم ريبةً في كل الأوقات أو كلِّ الأحوال إلا وقتَ تقطُّع قلوبهم أو حالَ تقطعِ قلوبِهم ، فحينئذ يسْلُون عنها وأما ما دامت سالمةً فالريبةُ باقيةٌ فيها فهو تصويرٌ لامتناع زوالِ الريبةِ عن قلوبهم ، ويجوزُ أن يكون المرادُ حقيقةً تقطُّعُها عند قتلِهم أو في القبور أو في النار ، وقرىء تُقَطّع على بناء المجهول من التفعيل وعلى البناء للفاعل منه على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم أي إلا أن تُقطِّع أنت قلوبَهم بالقتل ، وقرىء على البناء للمجهول من الثلاثي مذكراً ومؤنثاً وقرىء إلى تقطُّعِ قلوبهم وإلى أن تُقطِّع قلوبَهم على الخطاب ، وقرىء ولو قُطِّعت قلوبُهم على إسناد الفعل مجهولاً إلى قلوبهم ولو قَطَّعتَ قلوبَهم على الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد يصلُح للخطاب . وقيل : إلا أن يتوبوا توبةً تتقطّع بها قلوبُهم ندماً وأسفاً على تفريطهم { والله عَلِيمٌ } بجميع الأشياءِ التي من جملتها ما ذكر من أحوالهم { حَكِيمٌ } في جميع أفعالِه التي من زمرتها أمرُه الواردُ في حقهم .
{ إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم } ترغيبٌ للمؤمنين في الجهاد ببيان فضيلتِه إثرَ بيانِ حالِ المتخلفين عنه ، ولقد بولغ في ذلك على وجه لا مزيدَ عليه حيث عبّر عن قَبول الله تعالى من المؤمنين أنفسَهم وأموالَهم التي بذلوها في سبيله تعالى وإثابتِه إياهم بمقابلتها الجنةَ بالشراء على طريقة الاستعارةِ التبعية ثم جُعل المبيعُ الذي هو العُمدةُ والمقصِدُ في العقد أنفُسَ المؤمنين وأموالَهم والثمنُ الذي هو الوسيلةُ في الصفقة الجنةُ ولم يُجعل الأمرُ على العكس بأن يقال : إن الله باع الجنةَ من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ليدل على أن المقصِد في العقد هو الجنةُ وما بذله المؤمنون في مقابلتها من الأنفس والأموال وسيلةٌ إليها إيذاناً بتعليق كمالِ العنايةِ بهم وبأموالهم ثم إنه لم يقل بالجنة بل قيل : { بِأَنَّ لَهُمُ الجنة } مبالغةً في تقرير وصولِ الثمنِ إليهم واختصاصِه بهم كأنه قيل : بالجنة الثابتةِ لهم المختصةِ بهم .(3/214)
وأما ما يقال من أن ذلك لمدح المؤمنين بأنهم بذلوا أنفسَهم وأموالَهم بمجرد الوعدِ لكمال ثقتِهم بوعده تعالى وأن تمامَ الاستعارةِ موقوفٌ على ذلك إذ لو قيل : بالجنة لاحتمل كونُ الشراء حقيقةً لأنها صالحةٌ للعِوضية بخلاف الوعيدِ بها فليس بشيء لأن مناطَ دِلالةِ ما عليه النظمُ الكريمُ على الوعد ليس كونُه جملةً ظرفيةَ مصدّرةً بأن فإن ذلك بمعزل من الدلالة على الاستقبال بل هو الجنةُ التي يستحيل وجودُها في الدنيا ولو سلم ذلك يكون العوضُ الجنةَ الموعودَ بها { يقاتلون فِى سَبِيلِ الله } استئنافٌ لكن لا لبيان ما لأجله الشراءُ ولا لبيان نفسِ الاشتراء لأن قتالَهم في سبيل الله تعالى ليس باشتراء الله تعالى منهم أنفسَهم وأموالَهم بل هو بذلٌ لهما في ذلك بل لبيان البيعِ الذي يستدعيه الاشتراءُ المذكورُ كأنه قيل : كيف يبيعون أنفسَهم وأموالَهم بالجنة؟ فقيل : يقاتلون في سبيل الله وهو بدلٌ منهم لأنفسهم وأموالهم إلى جهة الله سبحانه وتعريضٌ لهما للهلاك وقوله تعالى : { فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } بيانٌ لكون القتالِ في سبيل الله بذلاً للنفس وأن المقاتِلَ في سبيله باذلٌ لها وإن كانت سالمةً غانمة ، فإن الإسنادَ في الفعلين ليس بطريق اشتراطِ الجمعِ بينهما ولا اشتراطِ الاتصافِ بأحدهما البتةَ بل بطريق وصفِ الكلِّ بحال البعضِ فإنه يتحقق القتالُ من الكل سواءٌ وجد الفعلان أو أحدَهما منهم أو من بعضهم بل يتحقق ذلك وإن لم يصدُرْ منهم أحدُهما أيضاً كما إذا وُجدت المضاربةُ ولم يوجد القتلُ من أحد الجانبين أو لم توجد المضاربةُ أيضاً فإنه يتحقق للجهادُ بمجرد العزيمة والنفير وتكثيرِ السواد ، وتقديمُ حالةِ القاتلية على حالة المقتوليةِ للإيذان بعدم الفرقِ بينهما في كونهما مصداقاً لكون القتالِ بذلاً للنفس وقرىء بتقديم المبنيِّ للمفعول رعايةً لكون الشهادة عريقةً في الباب وإيذاناً بعدم مبالاتِهم بالموت في سبيل الله تعالى بل بكونه أحبَّ إليهم من السلامة كما قيل في حقهم :(3/215)
لا يفرحون إذا نالت رماحهم ... قوماً وليسوا مَجازيعاً إذا نِيلوا
لا يقع الطعنُ إلا في نحورِهم ... وما لهم عن حِياض الموتِ تهليلُ
وقيل : في يقاتلون الخ معنى الأمر كما في قوله تعالى : { وتجاهدون فِى سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ } { وَعْدًا عَلَيْهِ } مصدرٌ مؤكدٌ لما يدل عليه كونُ الثمنِ مؤجلاً { حَقّاً } نعتٌ لوعداً والظرفُ حال منه لأنه لو تأخر لكان صفةً له وقوله تعالى : { فِي التوراة والإنجيل والقرءان } متعلقٌ بمحذوف وقعَ صفةً لوعداً أي وعداً مثبتاً في التوراة والإنجيل كما هو مثبتٌ في القرآن { وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله } اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله من حقية الوعدِ على نهج المبالغةِ في كونه سبحانه أوفى بالعهد من كل وافٍ فإن اختلافَ الميعاد مما لا يكاد يصدُر عن كرام الخلقِ مع إمكان صدورِه عنهم فكيف بجناب الخلاقِ الغنيِّ عن العالمين جل جلاله وسبكُ التركيب وإن كان على إنكارِ أن يكون أحدٌ أوفى بالعهد منه تعالى من غير تعرّضٍ لإنكار المساواةِ ونفيها لكن المقصودَ به قصداً مطرداً إنكارُ المساواةِ ونفيُها قطعاً فإذا قيل : مَنْ أكرمُ من فلان؟ أو لا أفضلَ منه ، فالمرادُ به حتماً أنه أكرمُ من كل كريمٍ وأفضلُ من كل فاضل { فاستبشروا } التفاتٌ إلى الخطاب تشريفاً لهم على تشريف وزيادةً لسرورهم على سرور ، والاستبشارُ إظهارُ السرور ، والسينُ فيه ليس للطلب ، كاستوقَدَ وأوقد ، والفاء لترتيب الاستبشارِ أو الأمر به على ما قبله أي فإذا كان كذاك فسُرّوا نهايةَ السرور وافَرحوا غايةَ الفرحِ بما فُزتم به من الجنة ، وإنما قيل : { بِبَيْعِكُمُ } مع أن الابتهاجَ به باعتبار أدائِه إلى الجنةِ لأن المرادَ ترغيبُهم في الجهاد الذي عبّر عنه بالبيع وإنما لم يُذكر العقدُ بعنوان الشراءِ لأن ذلك من قبل الله سبحانه لا من قبلهم ، والترغيبُ إنما يكون فيما يتم من قبلهم ، وقوله تعالى : { الذى بَايَعْتُمْ بِهِ } لزيادة تقرير بيعِهم وللإشعار بكونه مغايراً لسائر البياعات فإنه بيعٌ للفاني بالباقي ولأن كِلا البدلين له سبحانه وتعالى . عن الحسن رضي الله عنه أنفُساً هو خلقها وأموالاً هو رزقها . روي أن الأنصارَ لما بايعوه عليه الصلاة والسلام على العقبة قال عبدُ اللَّه بنُ رواحةَ رضي الله تعالى عنه : اشترِطْ لربك ولنفسك ما شئت . قال عليه الصلاة والسلام : " أشترطُ لربي أن تعبُدوه ولا تشرِكوا به شيئاً ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون به أنفسَكم " ، قال : فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال : «لكم الجنة» ، قالوا : ربِحَ البيعُ لا نُقيل ولا نستقيل . ومر برسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابيٌّ وهو يقرأها قال : كلامُ مَنْ؟ قال : «كلامُ الله عز وجل» قال : بيعٌ والله مُربحٌ لا نُقيله ولا نستقيله ، فخرج إلى الغزو واستُشهد . { وَذَلِكَ } أي الجنةُ التي جعلت ثمناً بمقابلة ما بذلوا من أنفسهم وأموالِهم { هُوَ الفوز العظيم } الذي لا فوزَ أعظمُ منه ، وما في ذلك من معنى البُعد إشارةٌ إلى بُعد منزلةِ المشارِ إليه وسموِّ رتبتِه في الكمال ، ويجوز أن يكون ذلك إشارةً إلى البيع الذي أُمروا بالاستبشار به ويجعل ذلك كأنه نفسُ الفوز العظيم أو يُجعل فوزاً في نفسه ، فالجملةُ على الأول تذييلٌ للآية الكريمة وعلى الثاني لقوله تعالى : { فاستبشروا } مقرِّرٌ لمضمونه .(3/216)
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
{ التائبون } رُفع على المدح أي هم التائبون يعني المؤمنين المذكورين كما يدل عليه القراءةُ بالياء نصباً على المدح ويجوز أن يكون مجروراً على أنه صفةٌ للمؤمنين ، وقد جوِّز الرفع على الابتداء والخبرُ محذوفٌ أي التائبون من أهل الجنةِ أيضاً وإن لم يجاهدوا كقوله تعالى : { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } ويجوز أن يكون خبرُه قولَه تعالى : { العابدون } وما بعده خبرٌ بعد خبرٍ أي التائبون من الكفر على الحقيقة هُمُ الجامعون لهذه النعوتِ الفاضلةِ أي المخلِصون في عبادة الله تعالى { الحامدون } لنَعمائه أو لما نابهم من السراء والضراء { السائحون } الصائمون لقوله عليه الصلاة والسلام : « سياحةُ أمتي الصومُ » شبّه بها لأنه عائقٌ عن الشهوات أو لأنه رياضةٌ نفسانيةٌ يُتوسّل بها إلى العثور على خفايا المُلك والملَكوتِ وقيل : هم السائحون في الجهاد وطلبِ العلم { الركعون الساجدون } في الصلاة { الامرون بالمعروف } بالإيمان والطاعة { والناهون عَنِ المنكر } عن الشرك والمعاصي ، والعطفُ فيه للِدلالة على أن المتعاطِفَيْن بمنزلة خَصلةٍ واحدة وأما قوله تعالى : { والحافظون لِحُدُودِ الله } أي فيما بيّنه وعيّنه من الحقائق والشرائع عَملاً وحمْلاً للناس عليه فلئلاً يُتوهمَ اختصاصُه بأحد الوجهين { وَبَشّرِ المؤمنين } أي الموصوفين بالنعوت المذكورةِ ، ووضعُ المؤمنين موضعَ ضميرِهم للتنبيه على أن مِلاك الأمرِ هو الأيمانُ وأن المؤمن الكاملَ مَنْ كان كذلك ، وحُذف المبشَّرُ به للإيذان بخروجه عن حد البيانِ ، وفي تخصيص الخطابِ بالأولين إظهارُ زيادةِ اعتناءٍ بأمرهم من الترغيب والتسلية .(3/217)
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
{ مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ } بالله وحده ، أي ما صح لهم في حكم الله عز وجل وحكمتِه وما استقام { أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } به سبحانه { وَلَوْ كَانُواْ } أي المشركين { أُوْلِى قربى } أي ذوي قرابةٍ لهم ، وجوابُ لو محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه والجملةُ معطوفةٌ على جملة أخرى قبلها محذوفةٍ حذفاً مطّرداً كما بُيّن في قوله تعالى : { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } ونظائرِه . روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لعمه أبي طالب لما حضرتْه الوفاةُ : « يا عمّ قل كلمةً أحُاجُّ لك بها عند الله » فأبي فقال عليه الصلاة والسلام : « لا أزال أستغفرُ لك ما لم أُنُهَ عنه » فنزلت . وقيل : لما افتتَح مكةَ خرج إلى الأبواء فزار قبرَ أمِّه ثم قام مستعبِراً فقال : « إني استأذنتُ ربي في زيارة قبرِ أمّي فأذِن لي ، واستأذنتُه في الاستغفار لها فلم يأذَنْ لي ، وأنزل علي الآيتين » { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ } أي للنبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنين { أَنَّهُمْ } أي المشركين { أصحاب الجحيم } بأن ماتوا على الكفر أو نزل الوحيُ بأنهم يموتون على ذلك { وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لأَبِيهِ } بقوله : { واغفر لاِبِى } والجملةُ استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير ما سبق ودفعِ ما يتراءى بحسب الظاهرِ من المخالفة ، وقرىء وما استغفر إبراهيمُ لأبيه ، وقرىء وما يستغفر إبراهيمُ على حكاية الحال الماضية وقوله تعالى : { إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ } استثناءٌ مفرَّعٌ من أعم العللِ أي لم يكن استغفارُه عليه السلام لأبيه آزرَ ناشئاً عن شيء من الأشياء إلا عن موعدة { وَعَدَهَا } إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام { إياه } أي أباه وقد قرىء كذلك بقوله : { لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } وقولِه : { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي } بناءً على رجاء إيمانِه لعدم تبيُّنِ حقيقةِ أمرِه وإلا لما وعدها إياه كأنه قيل : وما كان استغفارُ إبراهيمَ لأبيه إلا عن موعدة مبْنيةٍ على عدم تبيُّنِ أمرِه كما ينبىء عنه قولُه تعالى : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ } أي لإبراهيمَ بأن أوحِيَ إليه أنه مُصِرٌّ على الكفر غيرُ مؤمنٍ أبداً ، وقيل : بأن مات على الكفر والأولُ هو الأنسبُ بقوله تعالى : { أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ } فإن وصفَه بالعداوة مما يأباه حالةُ الموت { تَبَرَّأَ مِنْهُ } أي تنزّه عن الاستغفار له وتجانبَ كلَّ التجانب ، وفيه من المبالغة ما ليس في تركه ونظائرِه { إِنَّ إبراهيم لاوَّاهٌ } لكثيرُ التأوّهِ وهو كنايةٌ عن كمال الرأفةِ ورقةِ القلب { حَلِيمٌ } صبورٌ على الأذية والمحنة ، وهو استئنافٌ لبيان ما كان يدعوه عليه الصلاة والسلام إلى ما صدر عنه من الاستغفار ، وفيه إيذانٌ بأن إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام كان أواهاً حليماً فلذلك صدَر عنه ما صدر من الاستغفار قبل التبينِ فليس لغيره أن يأتسيَ به في ذلك ، وتأكيدٌ لوجوب الاجتناب عنه بعد التبين بأنه عليه الصلاة والسلام تبرأ منه بعد التبينِ وهو في كمال رقةِ القلبِ والحلم ، فلا بد أن يكون غيرُه أكثرَ منه اجتناباً وتبرُّؤاً ، وأما أن الاستغفارَ قبل التبينِ لو كان غيرَ محظورٍ لما استُثنيَ من الائتساء به في قوله تعالى : { إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لأَبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } فقد حُقق في سورة مريم بإذن الله تعالى .(3/218)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
{ وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً } أي ليس من عادته أن يصفَهم بالضلال عن طريق الحق ويُجريَ عليهم أحكامَه { بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ } للإسلام { حتى يُبَيّنَ لَهُم } بالوحي صريحاً أو دِلالةً { مَّا يَتَّقُونَ } أي ما يجب اتقاؤُه من محظورات الدينِ فلا ينزجروا عما نُهوا عنه ، وأما قبل ذلك فلا يسمى ما صدَر عنهم ضلالاً ولا يؤاخَذون به فكأنه تسليةٌ للذين استغفروا للمشركين قبل ذلك ، وفيه دليلٌ على أن الغافَل غيرُ مكلفٍ بما لا يستبدُّ بمعرفته العقلُ { إِنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } تعليلٌ لما سبق أي أنه تعالى عليمٌ بجميع الأشياءِ التي من جملتها حاجتُهم إلى بيان قُبحِ ما لا يستقلُّ العقلُ في معرفته فيبيِّنُ لهم ذلك كما فعل هاهنا { إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والارض } من غير شريك له فيه { إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والارض يُحْىِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } لمّا منعهم من الاستغفار للمشركين وإن كانوا أولي قربى وضمّن ذلك التبرُّؤَ منهم رأساً بيَّن لهم أن الله تعالى مالكُ كلِّ موجودٍ ومتولي أمورِه والغالبُ عليه ، ولا يتأتى لهم نصرٌ ولا ولايةٌ إلا منه تعالى ليتوجهوا إليه متبرِّئين عما سواه غيرَ قاصدين إلا إياه { لَقَدْ تَابَ الله على النبى } قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هو العفوُ عن إذنه للمنافقين في التخلف عنه { والمهاجرين والانصار } قيل : هو في حق زلاتٍ سبقت منهم يوم أحُدٍ ويوم حُنينٍ ، وقيل : المرادُ بيانُ فضلِ التوبةِ وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاجٌ إليها حتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم لِما صدرَ عنه في بعض الأحوالِ من ترك الأَوْلى { الذين اتبعوه } ولم يتخلفوا عنه ولم يُخِلّوا بأمر من أوامره { فِى سَاعَةِ العسرة } أي في وقتها ، والتعبيرُ عنه بالساعة لزيادة تعيينِه وهي حالُهم في غزوة تبوكَ كانوا في عُسرةٍ من الظَّهر ، يعتقِبُ عشرةٌ على بعير واحد ، ومن الزاد تزوّدوا التمرَ المدوّد والشعيرَ المسوّس والإهالة الزَّنِخة ، وبلغت بهم الشدةُ إلى أن اقتسم التمرةَ اثنان وربما مصّها الجماعةُ ليشربوا عليها الماء المتغيِّرَ ، وفي عسرة من الماء ، حتى نحَروا الإبلَ واعتصروا فروثَها وفي شدة زمانٍ من حِمارة القَيظ ومن الجدب والقَحط والضيقة الشديدةِ ، ووصفُ المهاجرين والأنصارِ بما ذكر من اتباعهم له عليه الصلاة والسلام في مثل هاتيك المراتبِ من الشدة للمبالغة في بيان الحاجةِ إلى التوبة فإنه ذلك حيث لم يُغنهم عنها فلأَنْ لا يستغنيَ عنها غيرُهم أولى وأحرى { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ } بيانٌ لتناهي الشدة وبلوغِها إلى ما لا غايةَ وراءَها وهو إشرافُ بعضهم على أن يَميلوا إلى التخلف عن النبي عليه الصلاة والسلام وفي كاد ضميرُ الشأنِ أو ضميرُ القوم الراجعُ إليه الضميرُ في منهم ، وقرىء بتأنيث الفعل وقرىء من بعد ما زاغت قلوبُ فريقٍ منهم يعني المتخلفين من المؤمنين كأبي لُبابةَ وأضرابِه { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } تكريرٌ للتأكيد وتنبيهٌ على أنه يتاب عليهم من أجل ما كابدوا من العُسرة والمرادُ أنه تاب عليهم لكيدودتهم { إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ } استئنافٌ تعليليٌ فإن صفةَ الرأفةِ والرحمةِ من دواعي التوبةِ والعفوِ ويجوز كونُ الأولِ عبارةً عن إزالة الضررِ والثاني عن إيصالِ المنفعةِ وأن يكون أحدُهما للسوابق والآخَرُ لِلّواحق .(3/219)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
{ وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ } أي وتاب الله على الثلاثة الذين أُخِّر أمرُهم عن أمر أبي لُبابةَ وأصحابِه حيث لم يقبَلْ معذرتَهم مثلَ أولئك ولا رُدَّتْ ولم يُقطَعْ في شأنهم بشيء إلى أن نزل فيهم الوحيُ وهم كعبُ بنُ مالكٍ وهلالُ بنُ أميةَ ومَرارةُ بنُ الربيع ، وقرىء خَلَّفوا أي خلَّفوا الغازين بالمدينة أو فسَدوا ، من الخالفة وخُلوف الفم ، وقرىء على المخلّفين والأولُ هو الأنسبُ لأن قوله تعالى : { حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارض } غايةٌ للتخليف ولا يناسبُه إلا المعنى الأولُ ، أي خُلّفوا وأخّر أمرُهم إلى أن ضاقت عليهم الأرضُ { بِمَا رَحُبَتْ } أي برُحبها وسَعتِها لإعراض الناسِ عنهم وانقطاعِهم عن مفاوضتهم وهو مثلٌ لشدة الحَيْرة كأنه لا يستقِرُّ به قرارٌ ولا تطمئن له دار { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ } أي إذا رجَعوا إلى أنفسهم لا يطمئنّون بشيء لعدم الأنسِ والسرورِ واستيلاءِ الوحشة والحَيْرة { وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ } أي علِموا أنه لا ملجأَ من سُخطه تعالى إلا إلى استغفاره { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } أي وفقّهم للتوبة { لِيَتُوبُواْ } أو أنزل قَبولَ توبتِهم ليصيروا من جملة التوّابين أو رجَع عليهم بالقَبول والرَّحمة مرةً بعد أخرى ليستقيموا على توبتهم { إِنَّ الله هُوَ التواب } المبالغُ في قَبول التوبةِ كمّاً وكيفاً وإن كثُرت الجناياتُ وعظمُت { الرحيم } المتفضل عليهم بفنون الآلاءِ مع استحقاقهم لأفانينِ العقاب . رُوي أن ناساً من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مَنُ بدا له وكره مكانه فلحِق به عليه الصلاة والسلام . عن الحسن رضي الله عنه أنه قال : بلغني أنه كان لأحدهم حائطٌ كان خيراً من ألف درهم فقال : يا حائطاه ما خلّفني إلا ظلُّك وانتظارُ ثمارِك اذهبْ فأنت في سبيل الله ولم يكن لآخرَ إلا أهلُه فقال : يا أهلاه ما بطّأني ولا خلّفني إلا الفتنُ بك فلا جرَم والله لأكابدنّ الشدائدَ حتى ألحقَ برسول الله صلى الله عليه وسلم فتأبط زادَه ولحِق به عليه الصلاة والسلام ، قال الحسن رضي الله عنه : كذلك والله المؤمنُ يتوب من ذنوبه ولا يُصِرُّ عليها ( وعن أبي ذر الغفاري أن بعيرَه أبطأ به فحمَل متاعَه على ظهره واتّبع أثرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ماشياً فقال عليه الصلاة والسلام لما رأى سوادَه : «كنْ أبا ذر» فقال الناسُ : هو ذلك فقال عليه الصلاة والسلام : " رحِم الله أبا ذر يمشي وحدَه ويموت وحده ويُبعث وحده " ( وعن أبي خيثمةَ أنه بلغ بستانُه وكانت له امرأةٌ حسناءُ فرَشت له في الظل وبسَطت له الحصيرَ وقرّبت إليه الرطَبَ والماءَ الباردَ فنظر فقال : ظلٌ ظليلٌ ورُطبٌ يانعٌ وماء باردٌ وامرأةٌ حسناء ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الضِحّ والريح ، ما هذا بخير ، فقام ورحل ناقتَه وأخذ سيفَه ورُمحَه ، ومرَّ كالريح ، فمد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم طْرفَه إلى الطريق فإذا براكب يزهاه السرابُ ، فقال : «كن أبا خيثمةَ» فكانَهُ ففرِح به رسول الله واستغفرَ له ) ومنهم من بقيَ لم يلحَقْ به عليه الصلاة والسلام منهم الثلاثة .(3/220)
قال كعب رضي الله عنه : لما قفَل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سلّمتُ عليه فرد عليّ كالمغضب بعد ما ذكرني ، وقال : «ياليت شعري ما خلّف كعباً» فقيل له : ما خلفه إلا حسنُ بُردَيه والنظرُ في عِطْفيه فقال عليه الصلاة والسلام : ما أعلم إلا فضلاً وإسلاماً» ونهى عن كلامنا أيها الثلاثةُ فتنكر لنا الناسُ ولم يكلمنا أحدٌ من قريب ولا بعيد فلما مضت أربعون ليلةً أُمرنا أن نعتزل نساءَنا ولا نقرَبَهن فلما تمت خمسون ليلةً إذا أنا بنداء من ذُروة سلعٍ : أبشرْ يا كعبُ بنَ مالكٍ فخرَرْتُ لله ساجداً وكنتُ كما وصفني ربي وضاقت عليهم الأرضُ بما رحبت وضاقت عليهم أنفسُهم وتتابعت البِشارةُ فلبست ثوبي وانطلقتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالسٌ في المسجد وحوله المسلمون فقام إليّ طلحةُ بنُ عبيد اللَّه يُهرْوِل إلي حتى صافحني وقال : لتهنِكَ توبةُ الله عليك فلن أنساها لطلحةَ رضي الله عنه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستنير استنارةَ القمر : «أبشر يا كعبُ بخير يوم مر عليك منذ ولدتْك أمُّك» ثم تلا علينا الآية . وعن أبي بكر الوراق أنه سئل عن التوبة النَّصوح فقال : أن تَضيق على التائب الأرضُ بما رحبَتْ وتضيقَ عليه نفسُه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه .(3/221)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
{ يأيها الذين آمنوا } خطابٌ عام يندرج فيه التائبون اندراجاً أولياً وقيل : لمن تخلف عليه من الطلقاء عن غزوة تبوكَ خاصة { اتقوا الله } في كل ما تأتون وما تذرون فيدخل فيه المعاملةُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر المغازي دخولاً أولياً { وَكُونُواْ مَعَ الصادقين } في إيمانهم وعهودِهم أو في دين الله نيةً وقولاً وعملاً أو في كل شأنٍ من الشؤون فيدخل ما ذُكر ، أو في توبتهم وإنابتهم فيكون المرادُ بهم حينئذ هؤلاء الثلاثةَ وأضرابَهم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه خطابٌ لمن آمن من أهل الكتابِ أي كونوا مع المهاجرين والأنصارِ وانتظِموا في سلكهم في الصدق وسائرِ المحاسن ، وقرىء من الصادقين .
{ مَا كَانَ لاهْلِ المدينة } ما صح وما استقام لهم { وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الاعراب } كمزينةَ وجهينةَ وأشجعَ وغِفارٍ وأضرابهِم { أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله } عند توجهِه عليه الصلاة والسلام إلى الغزو { وَلاَ يَرْغَبُواْ } على النصب وقد جُوِّز الجزمُ { بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } أي لا يصرِفوها عن نفسه الكريمةِ ولا يصونوها عما لم يصُن عنه نفسَه بل يكابدوا معه ما يكابده من الأهوال والخطوب ، والكلامُ في معنى النهي وإن كان على صورة الخبر { ذلك } إشارةٌ إلى ما دل عليه الكلامُ من وجوب المشايعة { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ } أي عطشٌ يسير { وَلاَ نَصَبٌ } ولا تعب ما { وَلاَ مَخْمَصَةٌ } أي مجاعةٌ وهي ما لا يستباح عنده المحرمات من مراتبها ، فإن الظمأَ والنصبَ اليسيرين حين لم يخلُوَا من الثواب فلأَنْ لا يخلو ذلك منه أولى فلا حاجة إلى تأكيد النفي بتكرير كلمة لا ، ويجوز أن يراد بها تلك المرتبةُ ويكونُ الترتيبُ بناءً على كثرة الوقوع وقِلّته فإن الظمأَ أكثرُ وقوعاً من المخمصة بالمعنى المذكور فتوسيطُ كلمةِ لا حينئذ ليس لتأكيد النفي بل للدلالة على استقلال كلِّ واحدٍ منها بالفضيلة والاعتداد به { فِى سَبِيلِ الله } وإعلاء كلمتِه { وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكفار } أي لا يدوسون بأرجلهم وحوافِر خيولِهم وأخفافِ رواحلِهم دَوْساً أو مكاناً يداس { وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً } مصدرٌ كالقتل والأسرِ والنهب أو مفعول أي شيئاً يُنال من قِبَلهم { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ } أي بكل واحدٍ من الأمور المعدودة { عَمَلٌ صَالِحٌ } وحسنةٌ مقبولةٌ مستوجبةٌ بحكم الوعد الكريمِ للثواب الجميلِ ونيل الزُّلفى ، والتنوينُ للتفخيم وكونُ المكتوبِ عينَ ما فعلوه من الأمور لا يمنع دخولَ الباء ، فإن اختلافَ العنوان كافٍ في ذلك { إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } على إحسانهم ، تعليلٌ لما سلف من الكتب والمرادُ بالمحسنين إما المبحوثُ عنهم ووضعُ المظهرِ موضِعَ المضمرِ لمدحهم والشهادةِ عليهم بالانتظام في سلك المحسنين وأن أعمالَهم من قبيل الإحسانِ وللإشعار بعلية المأخَذ للحكم ، وإما جنسُ المحسنين وهم داخلون فيه دخولاً أولياً .(3/222)
وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
{ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً } ولو تمرةً أو علاقةَ سَوْط { وَلاَ كَبِيرَةً } كما أنفق عثمانُ رضى الله عنه والترتيب باعتبار ما ذُكر من كثرة الوقوعِ وقلته وتوسيطُ لا للتنصيص على استبداد كلَ منهما بالكتْب والجزاءِ لا لتأكيد النفي كما في قوله عز وجل : { وَلاَ يَقْطَعُونَ } أي لا يجتازون في مسيرهم { وَادِيًا } وهو في الأصل كلُّ منفرَجٍ من الجبال والآكامِ يكون منفذاً للسيل ، اسمُ فاعلٍ من ودَى إذا سال ثم شاع في الأرض على الإطلاق { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ } ذلك الذي فعلوه من الإنفاق والقطع { لِيَجْزِيَهُمُ الله } بذلك { أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أحسنَ جزاءِ أعمالِهم أو جزاءَ أحسنِ أعمالِهم .
{ وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً } أي ما صح وما استقام لهم أن ينفِروا جميعاً لنحو غزْوٍ أو طلب علمٍ كما لا يستقيم لهم أن يتثبّطوا جميعاً فإن ذلك مُخِلٌّ بأمر المعاش .
{ فَلَوْلاَ نَفَرَ } فهلا نفَر { مِن كُلّ فِرْقَةٍ } أي طائفة كثيرة { مِنْهُمْ } كأهل بلدةٍ أو قبيلةٍ عظيمة { طَائِفَةٌ } أي جماعة قليلة { لّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدين } أي يتكلفوا الفَقاهةَ فيه ويتجشموا مشاقَّ تحصيلِها { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ } أي وليجعلوا غايةَ سعيِهم ومرمى غرضِهم من ذلك إرشادَ القومِ وإنذارَهم { إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ } وتخصيصُه بالذكر لأنه أهم ، وفيه دليلٌ على أن التفقهَ في الدين من فروض الكفايةِ وأن يكون غرضُ المتعلمِ الاستقامةَ والإقامةَ لا الترفعَ على العباد والتبسّط في التلاد كما هو ديدن أبناء الزمان والله المستعان { لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } إرادةَ أن يحذروا عما ينذَرون واستدلوا به على أن أخبارَ الآحادِ حجةٌ لأن عمومَ كلِّ فرقةٍ يقتضي أن ينفِرَ من كل ثلاثةٍ تفردوا بقرية طائفةٌ إلى التفقه لتنذر قرقتَها كي يتذكروا ويحذروا فلو لم يعتبر الإخبارُ ما لم يتواتر لم يُفِدْ ذلك ، وقد قيل : للآية وجهٌ آخرُ وهو أن المؤمنين لما سمعوا ما نزل في المتخلفين سارعوا إلى النفير رغبةً ورهبةً وانقطعوا عن التفقه فأُمروا أن ينفِر من كل فرقةٍ طائفةٌ إلى الجهاد ويبقى أعقابُهم يتفقهون حتى لا ينقطع الفقهُ الذي هو الجهادُ الأكبرُ لأن الجدالَ بالحجة هو الأصلُ والمقصودُ من البعثة ، فالضميرُ في ليتفقهوا ولينذِروا لبواقي الفِرَق بعد الطوائفِ النافرةِ للغزو ، وفي رجعوا للطوائف ، أي ولينذر البواقي قومَهم النافرين إذا رجَعوا إليهم بما حصلوا في أيام غَيبتهم من العلوم .(3/223)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مّنَ الكفار } أُمروا بقتال الأقربِ منهم فالأقرب كما أُمر عليه الصلاة والسلام أولاً بإنذار عشيرتِه فإن الأقربَ أحقُّ بالشفقة والاستصلاحِ . قيل : هم اليهودُ حوالي المدينة كبني قرُيظةَ والنَّضير وخيبَر ، وقيل : الرومُ فإنهم كانوا يسكنون الشامَ وهو قريبٌ من المدينة بالنسبة إلى العراق وغيره { وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } أي شدة وصبراً على القتال وقرىء بفتح الغين كسَخْطة وبضمها وهما لغتان فيها { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } بالعصمة والنصرة والمرادُ بهم إما المخاطَبون ، ووضعُ الظاهرِ موضعَ الضمير للتنصيص على أن الإيمانَ والقتالَ على الوجه المذكور من باب التقوى والشهادةِ بكونه من ومرة المتقين ، وإما الجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً والمرادُ بالمعية الولايةُ الدائمةُ ، وقد ذُكر وجهُ دخولِ مع على المتبوع في قوله تعالى : { إِنَّ الله مَعَنَا } { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ } من سور القرآن { فَمِنْهُمْ } أي من المنافقين { مَن يِقُولُ } لإخوانه ليثبِّتهم على النفاق أو لعوامّ المؤمنين وضعفتِهم ليصُدّهم عن الإيمان { أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه } السورةُ { إيمانا } وقرىء بنصب أيَّكم على تقدير فعلٍ يفسِّره المذكورُ أي أيُّكم زادتْه هذه الخ ، وإيرادُ الزيادةِ مع أنه لا إيمانَ فيهم أصلاً باعتبار اعتقادِ المؤمنين حسبما نطَق به قوله تعالى : { إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءاياته زَادَتْهُمْ إيمانا } { فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ } جوابٌ من جهته سبحانه وتحقيقٌ للحق وتعيينٌ لحالهم عاجلاً وآجلاً أي فأما الذين آمنوا بالله تعالى وبما جاء من عنده { فَزَادَتْهُمْ إيمانا } بزيادة العلمِ اليقينيِّ الحاصلِ من التدبر فيها . والوقوفِ على ما فيها من الحقائق وانضمامِ إيمانِهم بما فيها بإيمانهم السابق { وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } بنزولها وبما فيه من المنافع الدينيةِ والدنيوية .(3/224)
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
{ وَأَمَّا الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي كفرٌ وسوءُ عقيدة { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ } أي كُفراً بها مضموماً إلى الكفر بغيرها وعقائدَ باطلةً وأخلاقاً ذميمةً كذلك { وَمَاتُواْ وَهُمْ كافرون } واستحكم ذلك إلى أن يموتوا عليه { أَوْ لاَ يَرَوْنَ } الهمزةُ للإنكار والتوبيخ والواوُ للعطف على مقدر أي ألا ينظُرون ولا يرَوْن { أَنَّهُمْ } أي المنافقين { يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ } من الأعوام { مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ } والمرادُ مجردُ التكثيرِ لا بيانُ الوقوع حسب العدِّ المزبورِ ، أي يُبتلَوْن بأفانينِ البليات من المرض والشدةِ وغيرِ ذلك مما يذكّر الذنوبَ والوقوفَ بين يدي رب العزة فيؤدي إلى الإيمان به تعالى أو بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعاينون ما ينزل عليه من الآيات لا سيما القوارعُ الزائدةُ للإيمان الناعيةُ عليهم ما فيهم من القبائح المخزيةِ لهم { ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ } عطف على لا يَرَوْن داخلٌ تحت الإنكار والتوبيخِ وكذا قوله تعالى : { وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ } والمعنى أو لا يَرَون افتتانَهم الموجبَ لإيمانهم ثم لا يتوبون عما هم عليه من النفاق ولا هم يتذكرون بتلك الفِتن الموجبةِ للتذكر والتوبة ، وقرىء بالتاء والخطابُ للؤمنين والهمزةُ للتعجيب أي ألا تنظرون ولا ترَوْن أحوالَهم العجيبة التي هي افتتانُهم على وجه التتابعِ وعدمَ التنبّهِ لذلك فقوله تعالى : { ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ } وما عطف عليه معطوفٌ على يفتنون .
{ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ } بيان لأحوالهم عند نزولِها وهم في مجال تبليغِ الوحي كما أن الأولَ بيانٌ لمقالاتهم وهم غائبون عنه { نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ } تغامزوا بالعيون إنكاراً لها أو سخريةً بها أو غيظاً لما فيها من مخازيهم { هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ } أي قائلين : هل يراكم أحدٌ من المسلمين لننصرف ، مظهرين أنهم لا يصطبرون على استماعها ويغلبُ عليهم الضحِكُ فيفتَضِحون أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروجِ والانسلال لِواذاً يقولون : هل يراكم من أحد إن قمتم من المجلس ، وإيرادُ ضمير الخطابِ لبعث المخاطَبين على الجد في انتهاز الفرصةِ فإن المرءَ بشأنه أكثرُ اهتماماً منه بشأن أصحابِه كما في قوله تعالى : { وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا } وقيل : المعنى وما أنزلت سورةٌ في عيوب المنافقين { ثُمَّ انصرفوا } عطفٌ على نظَر بعضُهم والتراخي باعتبار وُجدانِ الفرصةِ والوقوفِ على عدمِ رؤيةِ أحدٍ من المؤمنين ، أي انصرفوا جميعاً عن محفِل الوحيِ خوفاً من الافتضاح أو غير ذلك { صَرَفَ الله قُلُوبَهُم } أي عن الإيمان حسَب انصرافِهم عن المجلس ، والجملةُ اختباريةٌ أو دعائية { بِأَنَّهُمْ } أي بسبب أنهم { قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } لسوء الفهم أو لعدم التدبّر .(3/225)
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
{ لَقَدْ جَاءكُمْ } الخطابُ للعرب { رَّسُولٌ } أي رسول عظيمُ الشأن { مّنْ أَنفُسِكُمْ } من جنسكم عربيٌّ قرشيٌّ مثلُكم وقرىء بفتح الفاء أي أشرفِكم وأفضِلكم { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } أي شاقٌّ شديدٌ عليه عَنَتُكم ولقاؤكم المكروهَ فهو يخاف عليكم سوءَ العاقبةِ والوقوعَ في العذاب ، وهذا من نتائج ما سلف من المجانسة { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } في إيمانكم وصلاحِ حالِكم { بالمؤمنين } منكم ومن غيركم { رَءوفٌ رَّحِيمٌ } قدِّم الأبلغُ منهما وهي الرأفةُ التي هي عبارةٌ عن شدة الرحمةِ محافظةً على الفواصل { فَإِن تَوَلَّوْاْ } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسليةً له أي إن أعرضوا عن الإيمان بك { فَقُلْ حَسْبِىَ الله } فإنه يكفيك ويُعينك عليهم { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } استئناف مقرِّرٌ لمضمون ما قبله { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } فلا أرجو ولا أخاف إلا منه { وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم } أي المُلك العظيمِ أو الجِسم الأعظمِ المحيط الذي تنزل منه الأحكامُ والمقادير ، وقرىء العظيمُ بالرفع . وعن أبي هريرة أن آخِرَ ما نزل هاتان الآيتان . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « ما نزل القرآنُ إلا آيةً آيةً وحرفاً حرفاً ما خلا سورةَ براءةٌ وسورةَ { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } فإنهما أُنزلتا عَليّ ومعهما سبعون ألفَ صفٍ من الملائكة »(3/226)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
( سورة يونس عليه السلام مكية وهى مائة وتسع آيات ) .
{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم } { الر } بتفخيم الراءِ المفتوحةِ وقرىء بالإمالة إجراءً للأصلية مُجرى المنقلبة عن الياء وقرىء بينَ بين وهو إما مسرودٌ على نمط التعديدِ بطريق التحدّي على أحد الوجهين المذكورين في فاتحة سورة البقرة فلا محلَّ له من الإعراب وإما اسمٌ للسورة كما عليه إطباقُ الأكثرِ فمحلُّه الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي هذه السورةُ مسماةٌ بألر ، وهو أظهرُ من الرفع على الابتداء لعدم سبق العلمِ بالتسمية بعدُ ، فحقُّها الإخبارُ بها لا جعلُها عنوانَ الموضوع لتوقفه على علم المخاطب بالانتساب كما مر . والإشارةُ إليها قبل جَرَيانِ ذكرها لِما أنها باعتبار كونِها على جناح الذكْرِ وبصدده صارت في حكم الحاضِر كما يقال : هذا ما اشترى فلان ، أو النصب بتقدير فعل لائقٍ بالمقام نحوُ اذكر أو اقرأ ، وكلمةُ { تِلْكَ } إشارةٌ إليها إما على تقدير كونِ الر مسرودةً على نمط التعديدِ فقد نُزّل حضورُ مادتِها التي هي الحروفُ المذكورةُ منزلةَ ذكِرها فأشير إليها كأنه قيل : هذه الكلماتُ المؤلفةُ من جنس هذه الحروفِ المبسوطةِ الخ ، وأما تقدير كونِه اسماً للسورة فقد نوّهتُ بالإشارة إليها بعد تنويهِها بتعيين اسمِها أو الأمر بذكرها أو بقراءتها ، وما في اسم الإشارة من معنى البُعد للتنبيه على بُعد منزلِتها في الفخامة ومحلُّه الرفعُ على أنه مبتدأ خبرُه قوله تعالى : { آيَات الكتاب } وعلى تقدير كون الر مبتدأً فهو مبتدأٌ ثانٍ أو بدلٌ من الأول والمعنى هي آياتٌ مخصوصةٌ منه مترجمةٌ باسم مستقلٍ والمقصودُ ببيانِ بعضيَّتِها منه وصفُها بما اشتهر اتصافُه به من النعوت الفاضلةِ والصفاتِ الكاملةِ ، والمرادُ بالكتاب إما جميعُ القرآنِ العظيم وإن لم ينزل الكلُّ حينئذ إما باعتبار تعيّنِه وتحققِه في علم الله عز وعلا أو في اللوح أو باعتبار أنه أُنزل جملةً إلى السماء الدنيا كما هو المشهورُ فإن فاتحةَ الكتاب كانت مسماةً بهذا الاسم وبأم القرآن في عهد النبوة ولمّا يحصُلِ المجموعُ الشخصي إذ ذاك فلا بد من ملاحظة كلَ من الكتاب القرآن بأحد الاعتباراتِ المذكورةِ وما جميعُ القرآنِ النازلِ وقتئذ المتفاهَمِ بين الناسِ إذ ذاك فإنه كما يُطلق على المجموع الشخصيّ يُطلق على مجموع ما نزل في كل عصرٍ ، ألا يُرى إلى ما رُوي عن جابر رضي الله عنه أنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحُدٍ في ثوب واحد ثم يقول : «أيُّهم أكثرُ أخذاً للقرآن؟» فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد فإن ما يفهمه الناسُ من القرآن في ذلك الوقت ويحافظون على التفاوت في أخذه إنما هو المجموعُ النازلُ حينئذ من غير ملاحظةٍ لتحقق المجموعِ الشخصيِّ في علم الله سبحانه أو في اللوح ولا لنزوله جملةً إلى السماء الدنيا .(3/227)
{ الحكيم } ذي الحِكمة وصُف به لاشتماله على فنون الحِكَم الباهرةِ ونُطقِه بها ، أو هو من باب وصفِ الكلامِ بصفة صاحبِه أو من باب الاستعارة المكنيةِ المبنيةِ على تشبيه الكتابِ بالحكيم الناطق بالحكمة ، هذا وقد جعل الكتابُ عبارةً عن نفس السورةِ ، وكلمةُ تلك إشارةٌ إلى ما في ضمنها من الآي فإنها في حكم الحاضرِ لا سيما بعد ذكر ما يتضمنها من السورة عند بيان اسمِها أو الأمرِ بذكرها أو بقراءتها ، وينبغي أن يكون المشارُ إليه حينئذ كلَّ واحدةٍ منها لا جميعَها من حيث هو جميعٌ لأنه عينُ السورةِ فلا يكون للإضافة وجهٌ ولا لتخصيص الوصفِ بالمضاف إليه حكمةٌ فلا يتأتى ما قُصد من مدح المضافِ بما للمضاف إليه من صفات الكمال ولأن في بيان اتصافِ كلَ منها بالكمال من المبالغة ما ليس في بيان اتصافِ الكلِّ بذلك ، والمتبادرُ من الكتاب عند الإطلاقِ وإن كان كلُّه بأحد الوجهين المذكورين لكنّ صحةَ إطلاقِه على بعضه أيضاً مما لا ريب فيها ، والمعهودُ المشهورُ وإن كان اتصافُ الكل بأحد الاعتبارين بما ذُكر من نعوت الكمالِ إلا أن شهرةَ اتصافِ كل سورةٍ منه بما اتصف به الكلُّ مما لا ينكر ، وعليه يدور تحققُ مدحِ السورةِ بكونها بعضاً من القرآن الكريم إذ لولا أن بعضَه منعوتٌ بنعت كلِّه داخلٌ تحت حكمهِ لما تسنى ذلك ، وفيه ما لا يخفى من التكلف والتعسف .(3/228)
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
{ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا } الهمزةُ لإنكار تعجّبِهم ولتعجب السامعين منه لكونه في غير محلِّه ، والمرادُ بالناس كفارُ مكةَ ، وإنما عبِّر عنهم باسم الجِنسِ من غير تعرُّضٍ لكفرهم مع أنه المدارُ لتعجبهم كما تُعُرِّض له في قوله عز وجل : { قَالَ الكافرون } الخ لتحقيق ما فيه الشركةُ بينهم وبين رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتعيينِ مدارِ التعجبِ في زعمهم ثم تبيينِ خطئِهم وإظهارِ بطلانِ زعمِهم بإيراد الإنكارِ والتعجيب ، واللامُ متعلقةٌ بمحذوف وقع حالاً من عجباً وقيل : بعجباً على التوسع المشهورِ في الظروف ، وقيل : المصدرُ إذا كان بمعنى اسم الفاعلِ أو اسمِ المفعول جاز تقديمُ معمولِه عليه ، وقيل : متعلقةٌ بكان وهو مبنيٌّ على دلالة كان الناقصةِ على الحدث { أَنْ أَوْحَيْنَا } اسمُ كان قُدِّم عليه خبرُها اهتماماً بشأنه لكونه مدارَ الإنكارِ والتعجيبِ وتشويقاً إلى المؤخَّر ولأن في الاسم ضربَ تفصيلٍ ففي مراعاة الأصلِ نوعُ إخلالٍ يتجاوب أطرافِ الكلام ، وقرىء برفع عجب على أنه الاسمُ وهو نكرةٌ والخبرُ أن أوحينا وهو معرفةٌ لأن أن مع الفعل في تأويل المصدرِ المضافِ إلى المعرفة البتةَ والمختارُ حينئذ أن تجعل كان تامةٌ وأن أوحينا متعلقاً بعجبٌ على حذف حرف التعليل أي أحدث للناس عجبٌ لأن أوحينا أو من أن أوحينا ، أو بدلاً من عجبٌ لكن لا على توجيه الإنكارِ والتعجيب إلى حدوثه بل إلى كونه عجباً ، فإن كونَ الإبدال في حكم تنحيةِ المبدَلِ منه ليس معناه إهدارَه بالمرة وإنما قيل : للناس لا عند الناس للدِلالة على أنهم اتخذوه أعجوبةً لهم ، وفيه من زيادة تقبيحِ حالِهم ما لا يخفى { إلى رَجُلٍ مّنْهُمْ } أي إلى بشر من جنسهم كقولهم : أبعث الله بشراً رسولاً أو من حيث المال لا من عظمائهم كقولهم : { لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ } وكلا الوجهين من ظهور البطلانِ بحيث لا مزيد عليه . أما الأولُ فلأن بعثَ الملَكِ إنما يكون عند كون المبعوثِ إليهم ملائكةً كما قال سبحانه : { قُل لَوْ كَانَ فِى الارض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً } وأما عامة البشر فهم بمعزل من استحقاق المفاوضةِ الملكية كيف لا وهي منوطةٌ بالتناسب والتجانس ، فبعثُ الملَكِ إليهم مزاحِمٌ للحكمة التي عليها يدور فلكُ التكوين والتشريع وإنما الذي تقتضيه الحكمةُ أن يُبعث الملكُ من بينهم إلى الخواصّ المختصين بالنفوس الزكية المؤيَّدين بالقوة القدسيةِ المتعلّقين بكلا العالَمين الروحانيِّ والجُسماني ليتلقَّوْا من جانب ويُلْقوا إلى جانب . وأما الثاني فلما أن مناطَ الاصطفاء للنبوة والرسالةِ هو التقدُم في الاتصاف بما ذكر من النعوت الجميلةِ والصفاتِ الجليلة والسبْقِ في إحراز الفضائلِ العلية وحيازةِ الملَكات السنية جِبِلّةً واكتساباً ، ولا ريب لأحد منهم في أنه عليه الصلاة والسلام في ذلك الشأنِ في غاية الغاياتِ القاصيةِ ونهايةِ النهاياتِ النائيةِ ، وأما التقدمُ في الرياسات الدنيويةِ والسبْقِ في نيل الحظوظِ الدنية فلا دخلَ له في ذلك قطعاً بل له إخلالٌ به غالباً قال عليه الصلاة والسلام :(3/229)
« لو كانت الدنيا تزنُ عند الله جَناحَ بعوضةٍ ما سقى الكافرَ منها شربةَ ماء »
{ أَنْ أَنذِرِ الناس } أن مصدريةٌ لجواز كونِ صلتِها أمراً كما في قوله تعالى : { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ } وذلك لأن الخبرَ والإنشاءَ في الدلالة على المصدر سيانِ فساغ وقوعُ الأمرِ والنهي صلةً حسبَ وقوعِ الفعل فلا يجرد عند ذلك عن معنى الأمرِ والنهي نحوَ تجرُّدِ الصلةِ الفعليةِ عن معنى المضيِّ والاستقبالِ ، ووجوبُ كونِ الصلةِ في الموصول الاسميِّ خبريةً إنما هو للتوصل بها إلى وصف المعارفِ بالجمل لا لقصور في دلالة الإنشاءِ على المصدر ، أو مفسرةٌ إذ الإيحاءُ فيه معنى القولِ وقد جوز كونُها مخفّفة من المثقّلة على حذف ضميرِ الشأنِ والقولِ من الخبر والمعنى أن الشأنَ قولُنا : أنذر الناسَ ، والمرادُ به جميعُ الناسِ كافةً لا ما أريد بالأول وهو النكتةُ في إيثار الإظهارِ على الإضمار ، وكونُ الثاني عينَ الأولِ عند إعادة المعرفةِ ليس على الإطلاق { وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ } بما أوحيناه وصدّقوه { أَنَّ لَهُمْ } أي بأن لهم { قَدَمَ صِدْقٍ } أي سابقةً ومنزلةً رفيعة { عِندَ رَبّهِمْ } وإنما عبر عنها بها إذ بها يحصُل السبْقُ والوصولُ إلى المنازل الرفيعةِ كما يعبر عن النعمة باليد لأنها تعطى بها ، وقيل : مقامَ صدقٍ ، والوجهُ أن الوصولَ إلى المقام إنما يحصُل بالقدم وإضافتُها إلى الصدق للدلالة على تحققها وثباتِها ، وللتنبيه على أن مدارَ نيلِ ما نالوه من المراتب العليةِ هو صدقُهم فإن التصديقَ لا ينفك عن الصدق { قَالَ الكافرون } هم المتعجبون ، وإيرادُهم هاهنا بعنوان الكفر مما لا حاجة إلى ذكر سببِه ، وتركُ العاطفِ لجرَيانه مَجرى البيانِ للجملة التي دخلت عليها همزةُ الإنكار أو لكونه استئنافاً مبنياً على السؤال ، كأنه قيل : ماذا صنعوا بعد التعجبِ هل بقُوا على التردد والاستبعادِ أو قطعوا فيه بشيء؟ فقيل : قال : الكافرون على طريقة التأكيدِ : { إِنَّ هَذَا } يعنون به ما أوحيَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن الحكيم المنطوي على الإنذار والتبشير { لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } أي ظاهرٌ وقرىء لساحْر على أن الإشارةَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرىء ما هذا إلا سحرٌ مبينٌ ، وهذا اعترافٌ من حيث لا يشعرون بأن ما عاينوه خارجٌ عن طَوْق البشر نازلٌ من جناب خلاق القُوى والقدَر ولكنهم سمَّوه بما قالوا تمادياً في العناد كما هو ديدنُ المكابرِ اللَّجوجِ ودأبُ المُفحَمِ المحجوج .(3/230)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
{ إِنَّ رَبَّكُمُ } كلامٌ مستأنفٌ سيق لإظهار بطلانِ تعجُّبهم المذكورِ وما بنَوا عليه من المقالة الباطلةِ غِبَّ الإشارةِ إليه بالإنكار والتعجيبِ وحُقّق فيه حقيةُ ما تعجبوا منه وصِحّةُ ما أنكروه بالتنبيه الإجمالي على بعض ما يدل عليها من شؤون الخلقِ والتقديرِ وأحوالِ التكوينِ والتدبيرِ ، ويُرشدهم إلى معرفتها بأدنى تذكيرٍ لاعترافهم به من غير نكيرٍ لقوله تعالى : { قُلْ مَن رَّبُّ السموات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } وقوله تعالى : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض } إلى قوله تعالى : { وَمَن يُدَبّرُ الامر فَسَيَقُولُونَ الله } أي إن ربكم ومالكَ أمرِكم الذي تتعجبون من أن يرسِل إليكم رجلاً منكم بالإنذار والتبشيرِ وتُعدّون ما أوحيَ إليه من الكتاب الحكيم سحراً هو { الله الذى خَلَقَ السموات والارض } وما فيهما من أصول الكائنات { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أي في ستة أوقاتٍ أو في مقدار ستةِ أيام معهودةٍ فإن نفسَ اليوم الذي هو عبارةٌ عن زمان كونِ الشمس فوق الأرض مما لا يتصور تحققُه حين لا أرضَ ولا سماء ، وفي خلقها مدرّجاً مع القدرة التامةِ على إبداعها دفعةً دليلٌ على الاختيار واعتبارٌ للنظّار وحثٌّ لهم على التأنيّ في الأحوال والأطوار ، وأما تخصيصُ ذلك بالعدد المعينِ فأمرٌ قد استأثر بعلم ما يستدعيه علامُ الغيوب جلت قدرتُه ودقتْ حكمتُه وإيثارُ صيغةِ الجمعِ في السموات لما هو المشهورُ من الإيذان بأنها أجرامٌ مختلفةُ الطباعِ متباينةُ الآثارِ والأحكام { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } العرشُ هو الجسمُ المحيطُ بسائر الأجسامِ سمِّي به لارتفاعه أو للتشبيه بسرير الملِك فإن الأوامرَ والتدابير منه تنزل ، وقيل : هو المُلك ومعنى استوائِه سبحانه عليه استيلاؤُه عليه أو استواءُ أمرِه . وعن أصحابنا أن الاستواءَ على العرش صفةٌ له سبحانه بلا كيف . والمعنى أنه سبحانه استوى على العرش على الوجه الذي عناه منزَّهاً عن التمكن والاستقرار ، وهذا بيانٌ لجلالة مُلكه وسلطانِه بعد زمان عظمةِ شأنِه وسَعة قدرتِه بما مر من خلق هاتيك الأجرامِ العظام .
{ يُدَبّرُ الامر } التدبيرُ النظرُ في أدبار الأمورِ وعواقبِها لتقعَ على الوجه المحمودِ والمرادُ هاهنا التقديرُ على الوجه الأتمِّ الأكملِ والمرادُ بالأمر أمرُ ملكوتِ السمواتِ والأرضِ والعرشِ وغيرُ ذلك من الجزيئات الحادثةِ شيئاً فشيئاً على أطوار شتى وأنحاء لا تكاد تحصى من المناسبات والمبايناتِ في الذوات والصفاتِ والأزمنةِ والأوقاتِ أي يقدّر ما ذُكر من أمر الكائناتِ الذي ما تعجبوا منه من أمر البعث والوحي فردٌ من جملته وشُعبةٌ من دوحته ، ويهييء أسبابَ كل منها حدوثاً وبقاءً في أوقاتها المعينةِ ويرتب مصالحَها على الوجه الفائقِ والنمطِ اللائقِ حسبما تقتضيه الحكمةُ وتستدعيه المصلحةُ ، والجملةُ في محل النصبِ على أنها حالٌ من ضمير استوى وقد جوز كونُها خبراً ثانياً لإن أو مستأنفةٌ لا محل لها من الإعراب مبنيةٌ على سؤال نشأ من ذكر الاستواءِ على العرش المنبىءِ عن إجراء أحكامِ المُلك .(3/231)
وعلى كل حال فإيثارُ صيغةِ المضارعِ للدلالة على تجدد التدبيرِ واستمرارِه وقوله عز وجل : { مَا مِن شَفِيعٍ } بيانٌ لاستبداده سبحانه في التقدير والتدبيرِ ونفيٌ للشفاعة على أبلغ الوجوهِ فإن نفيَ جميعِ أفرادِ الشفيعِ بمن الاستغراقية يستلزم نفيَ الشفاعةِ على أتم الوجوه كما في قوله تعالى : { لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله } وهذا بعد قوله تعالى : { يُدَبّرُ الامر } جارٍ مجرى قوله تعالى : { وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ } عقيب قوله تعالى : { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء } وقوله تعالى { إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } استثناءٌ مفرغٌ من أعم الأوقاتِ أي ما من شفيع يشفع لأحد في وقت من الأوقات إلا بعد إذنِه المبنيِّ على الحكمة الباهرةِ ، وذلك عند كون الشفيع من المصطَفْين الأخيارِ والمشفوعُ له ممن يليق بالشفاعة كقوله تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً } وفيه من الدِلالة على عظمة جلالِه سبحانه ما لا يخفى { ذلكم } إشارةٌ إلى المعلوم بتلك العظمةِ أي ذلكم العظيمُ الشأنِ المنعوتُ بما ذكر من نعوت الكمالِ التي عليها يدور استحقاقُ الألوحية { الله } وقوله تعالى : { رَبُّكُمْ } بيانٌ له أو بدلٌ منه أو خبرٌ ثانٍ لاسم الإشارةِ ، وهذا بعد بيانِ أن ربَّهم الله الذي خلق السمواتِ والأرضَ الخ ، لزيادة التقريرِ والمبالغةِ في التذكير ولتفريع الأمرِ بالعبادة عليه بقوله تعالى : { فاعبدوه } أي وحّدوه من غير أن تشركوا به شيئاً من ملَك أو نبيَ فضلاً عن جماد لا يُبصر ولا يَسمع ولا يضر ولا ينفع وآمِنوا بما أنزله إليكم { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي تعلمون أن الأمرَ كما فُصل فلا تتذكرون ذلك حتى تقِفوا على فساد ما أنتم عليه فترتدوا عنه .(3/232)
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
{ إِلَيْهِ } لا إلى أحد سواه استقلالاً أو اشتراكاً { مَرْجِعُكُمْ } أي بالبعث كما ينبىء عنه قوله تعالى : { جَمِيعاً } فإنه خالٍ من الضمير المجرورِ لكونه فاعلاً في المعنى أي إليه رجوعُكم مجتمعين والجملةُ كالتعليل لوجوب العبادة { وَعَدَ الله } مصدرٌ مؤكدٌ لنفسه لأن قوله عز وجل : { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } وعد منه سبحانه بالبعث أو لفعل مقدر أي وعَدَ الله وعداً ، وأياً ما كان فهو دليلٌ على أن المرادَ بالمرجِع هو الرجوعُ بالبعث لأن ما بالموت بمعزل من الوعد كما أنه بمعزل من الاجتماع وقرىء بصيغة الفعل { حَقّاً } مصدرٌ آخرُ مؤكدٌ لما دل عليه الأول { إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق } وقرىء يُبدِىء { ثُمَّ يُعِيدُهُ } وهو استئنافٌ عُلّل به وجوبُ المرجعِ إليه سبحانه وتعالى فإن غايةَ البدءِ والإعادةِ وهو جزاءُ المكلّفين بأعمالهم حسنةً أو سيئةً ، وقرىء بالفتح أي لأنه ، ويجوز كونُه منصوباً بما نصب وعدَ الله أي وعَد الله وعداً بدءَ الخلقِ الخلق ثم إعادتَه ، ومرفوعاً بما نصب حقاً أي حق بدءُ الخلقِ الخ { ليجزى الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ } أي بالعدل وهو حالٌ من فاعل يجزي أي ملتبساً بالعدل أو متعلق بيجزي أي ليجزيَهم بقسطه ويوفيَهم أجورَهم ، وإنما أُجمل ذلك إيذناً بأنه لا يفي به الحصرُ أو بقسطهم وعدلِهم عند إيمانِهم ومباشرتِهم للأعمال الصالحة وهو الأنسبُ بقوله عز وجل : { والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } فإن معناه ويجزي الذين كفروا بسبب كفرِهم ، وتكريرُ الإسناد بجعل الجملةِ الظرفية خبراً للموصول لتقوية الحكمِ والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبلِ للدلالة على مواظبتهم على الكفر ، وتغييرُ النظمِ للإيذان بكمال استحقاقِهم للعقاب وأن التعذيبَ بمعزل عن الانتظام في سلك العلةِ الغائيّة للخلق بدءاً وإعادةً وإنما يحيقُ ذلك بالكفرة على موجَبِ سوءِ اختيارِهم ، وأما المقصودُ الأصليُّ من ذلك فهو الإثابة .(3/233)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
{ هُوَ الذى جَعَلَ الشمس ضِيَاء } تنبيهٌ على الاستدلال على وجوده تعالى ووحدتِه وعلمِه وقدرتِه وحكمتِه بآثار صُنعِه في النّيِّريْن بعد التنبيه على الاستدلال بما مر من إبداع السمواتِ والأرضِ والاستواءِ على العرش وغيرِ ذلك وبيانٌ لبعض أفرادِ التدبيرِ الذي أشير إليه إشارةً إجماليةً وإرشادٌ إلى أنه حيث دبّرت أمورُهم المتعلقة بمعاشهم هذا التدبيَر البديعَ فلأن يدبّرَ مصالحَهم المتعلقةَ بالمعاد بإرسال الرسولِ وإنزالِ الكتابِ وتبيينِ طرائقِ الهدى وتعيينِ مهاوي الردى أولى وأحرى ، والجعلُ إن جُعل بمعنى الإنشاءِ والإبداعِ فضياءً حالٌ من مفعوله أي خلقها حالَ كونِها ذاتَ ضياءٍ على حذف المضافِ أو ضياءً محضاً للمبالغة ، وإن جُعل بمعنى التصييرِ فهو مفعولُه الثاني أي جعلها ضياءً على أحد الوجهين المذكورين لكن لا بعد أن كانت خاليةً عن تلك الحالةِ بل أبدعها كذلك كما في قولهم : ضيِّقْ فم الركية ووسِّعْ أسفلها ، والضياءُ مصدرٌ كقيام أو جمعُ ضوءٍ كسياط وسَوْط وياؤه منقلبة من الواو لانكسار ما قبلها وقرىء ضِئاء بهمزتين بينهما ألفٌ بتقديم اللام على العين .
{ والقمر نُوراً } الكلامُ فيه كالكلام في الشمس والضياءُ أقوى من النور وقيل : ما بالذات ضوءٌ وما بالعرَض نور ، ففيه إشعارٌ بأن نورَه مستفادٌ من الشمس { وَقَدَّرَهُ } أي قدّر له وهيأ { مَنَازِلَ } أو قدّر مسيرَه في منازلَ أو قدره ذا منازلَ على تضمين التقديرِ معنى التصييرِ ، وتخصيصُ القمر بهذا التقديرِ لسرعة سيرِه ومعاينةِ منازِله وتعلقِ أحكامِ الشريعة به وكونِه عمدةً في تواريخ العرب ، وقد جُعل الضميرُ لكل منهما وهي ثمانيةٌ وعشرون منزلاً ، ينزل القمرُ كل ليلةٍ في واحد منها لا يتخطّاه ولا يتقاصر عنه على تقدير مستوٍ لا يتفاوت ، يسير فيها من ليلة المستهلِّ إلى الثامنة والعشرين فإذا كان في آخر منازلِه دقّ واستقوس ثم يستسرّ ليلتين أو ليلةً إذا نقص الشهرُ ويكون مقامُ الشمس في كل منزلةٍ منها ثلاثةَ عشرَ يوماً ، وهذه المنازلُ هي مواقعُ النجومِ التي نسَبت إليها العربُ الأنواءَ المستمطَرةَ وهي السرطانُ والبطينُ والثريا الدبَرانُ الهقعةُ الهنعةُ الذراعُ النثرةُ الطرفُ الجبهةُ الزبرةُ الصّرفةُ العواءُ السّماك الغفرُ الزبانى الإكليلُ القلبُ الشوْلةُ النعائمُ البلدةُ سعدُ الذابحُ سعدُ بلَع سعدُ السعودِ سعدُ الأخبيةِ فرغُ الدلوِ المقدّم فرغُ الدلو المؤخّرُ الرّشا وهو بطن الحوت { لّتَعْلَمُواْ } إما بتعاقب الليلِ والنهارِ المنوطَين بطلوع الشمسِ وغروبِها أو باعتبار نزولِ كلَ منهما في تلك المنازل { عَدَدَ السنين } التي يتعلق بها غرضٌ علميٌّ لإقامة مصالحِكم الدينية والدنيوية { والحساب } أي حسابَ الأوقاتِ من الأشهر والأيام والليالي وغيرِ ذلك مما نيط به شيءٌ من المصالح المذكورةِ ، وتخصيصُ العدد بالسنين والحسابِ بالأوقات لما أنه لم يُعتبرْ في السنينَ المعدودةِ معنى مغايرٌ لمراتب الأعداد كما اعتُبر في الأوقات المحسوبةِ ، وتحقيقُه أن الحسابَ إحصاءُ ما له كميةٌ انفصاليةٌ بتكرير أمثالِه من حيث يتحصل بطائفة معيّنةٍ منها حدٌّ معيَّنٌ له اسمٌ خاصٌّ وحكمٌ مستقلٌّ كالسنة المتحصِّلةِ من اثنى عشرَ شهراً قد تحصل كلٌّ من ذلك من ثلاثين يوماً قد تحصّل كلٌ من ذلك من أربع وعشرين ساعةً مثلاً ، والعدُّ مجردُ إحصائِه بتكرير أمثالِه من غير اعتبارِ أن يتحصل بذلك شيءٌ كذلك ، ولما لم يُعتبر في السنين المعدودةِ تحصُّلُ حدَ معيَّنٍ له اسمٌ خاصٌّ غيرُ أسامي مراتبِ الأعدادِ وحكم مستقلٌّ أضيف إليها العدد وتحصّلُ مراتبِ الأعدادِ من العشرات والمئاتِ والألوفِ اعتباريٌّ لا يُجدي في تحصل المعدودِ نفعاً وحيث اعتُبر في الأوقات المحسوبةِ وتحصلَ ما ذُكر من المراتب التي لها أسامٍ خاصةٌ وأحكامٌ مستقلةٌ علّق بها الحسابُ المنبىءُ عن ذلك والسنةُ من حيث تحقّقُها في نفسها مما يتعلق به الحسابُ وإنما الذي يتعلق به العدُّ طائفةٌ منها وتعلقُه في ضمن ذلك بكل واحدةٍ من تلك الطائفةِ ليس من الحيثية المذكورةِ أعني حيثيةَ تحصّلِها من عدة أشهرٍ قد تحصل كلُّ واحدٍ منها من عدة أيامٍ قد حصل كلٌ منها بطائفة من الساعات فإن ذلك وظيفةُ الحسابِ بل من حيث إنها فردٌ من تلك الطائفةِ المعدودةِ من غير أن يُعتبرَ معها شيءٌ غيرُ ذلك ، وتقديمُ العددِ على الحساب مع أن الترتيبَ بين متعلّقيهما وجوداً وعلماً على العكس لأن العلمَ المتعلّقَ بعدد السنين علمٌ إجماليٌّ بما تعلق به الحسابُ تفصيلاً وإن لم تتّحِد الجهةُ ، أو لأن العددَ من حيث إنه لم يعتبر فيه تحصُّلُ أمرٍ آخرَ حسبما حُقق آنفاً نازلٍ من الحساب الذي اعتُبر فيه ذلك منزلةَ البسيطِ من المركب { مَا خَلَقَ الله ذلك } أي ما ذكر من الشمس والقمر على ما حُكي من الأحوال وفيه إيذانٌ بأن معنى جعلِهما على تلك الأحوالِ والهيئاتِ ليس إلا خلقَهما كذلك كما أشير إليه ، ولا يقدح في ذلك أن استفادةَ القمرِ النورَ من الشمس أمرٌ حادثٌ فإن المرادَ بجعله نوراً إنما هو جعلُه بحيث يتصف بالنور عند وجودِ شرائطِ الاتصافِ به بالفعل { إِلاَّ بالحق } استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم أحوالِ الفاعل أو المفعول أي ما خلق ذلك ملتبساً بشيء من الأشياء إلا ملتبساً بالحق مراعياً لمقتضى الحِكمة البالغةِ أو مراعىً فيه ذلك ، وهو ما أشير إليه إجمالاً من العلم بأحوال السنينَ والأوقاتِ المنوطِ به أمورُ معاملاتِهم وعباداتِهم { يُفَصّلُ الآيات } أي الآياتِ التكوينيةَ المذكورةَ أو جميعَ الآياتِ فيدخلُ فيها الآياتُ المذكورةُ دخولاً أولياً أو يفصل الآياتِ التنزيليةَ المنبِّهة على ذلك ، وقرىء بنون العظمة { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } الحكمةَ في إبداع الكائناتِ فيستدلون بذلك على شؤون مُبدعِها جل وعلا أو يعلمون ما في تضاعيف الآياتِ المنزلةِ فتؤمنون بها ، وتخصيصُ التفصيلِ بهم لأنهم المنتفِعون به .(3/234)
إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
{ إِنَّ فِى اختلاف اليل والنهار } تنبيهٌ آخرُ إجماليٌّ على ما ذكر أي في تعاقبهما وكونِ كلَ منهما خِلْفةً للآخر بحسب طلوعِ الشمسِ وغروبِها التابعين لحركات السموات وسكونِ الأرضِ أو في تفاوتهما في أنفسهما بازدياد كلَ منهما بانتقاص الآخرِ وانتقاصِه بازدياده باختلاف حالِ الشمسِ بالنسبة إلينا قُرباً وبعداً بحسب الأزمنة ، أو في اختلافهما وتفاوتِهما بحسب الأمكنةِ إما في الطول والقِصَر فإن البلادَ القريبةَ من القُطب الشماليِّ أيامُها الصيفيةُ أطولُ ولياليها الصيفية أقصرُ من أيام البلاد البعيدةِ منه ولياليها ، وإما في أنفسها فإن كروية الأرضِ تقضي أن يكون بعضُ الأماكن ليلاً وفي مقابله نهاراً { وَمَا خَلَقَ الله فِى السماوات والارض } من أصناف المصنوعات { لاَيَاتٍ } عظيمةً أو كثيرةً دالةً على وجود الصانعِ تعالى ووحدتِه وكمالِ علمِه وقدرتِه وبالغِ حكمتِه التي من جملة مقتضياتِها ما أنكروه من إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم وإنزالِ الكتابِ والبعثِ والجزاء { لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } خصّهم بذلك لأن الداعيَ إلى النظر والتدبر إنما هو تقوى الله تعالى والحذرُ من العاقبة فهم الوافقون على أن جميعَ المخلوقاتِ آياتٌ دون غيرِهم { وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ فِى السماوات والارض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }(3/235)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)
{ إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } بيانٌ لمآل أمرِ مَنْ كفر بالبعث وأعرضَ عن البينات الدالةِ عليه بعد تحقيقِ أن مرجِعَ الكلِّ إليه تعالى وأنه يعيدهم بعد بدئِهم للجزاء ثواباً وعقاباً وتفصيلِ بعض الآياتِ الشاهدة بذلك ، والمرادُ بلقائه إما الرجوعُ إليه تعالى بالبعث أو لقاءُ الحساب كما في قوله عز وعلا : { إِنّى ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ } وأياً ما كان ففيه مع الالتفات إلى ضمير الجلالةِ من تهويل الأمر ما لا يخفى والمرادُ بعدم الرجاءِ عدمُ التوقعِ مطلقاً المنتظمِ لعدم الأملِ وعدمِ الخوف فإن عدمَهما لا يستدعي عدمَ اعتقادِ وقوعِ المأمولِ والخوف أي لا يتوقعون الرجوعَ إلينا أو لقاءَ حسابِنا المؤدِّي إما إلى حسن الثوابِ أو إلى سوء العذابِ فلا يأمُلون الأولَ وإليه أشير بقوله عز وجل : { وَرَضُواْ بالحياة الدنيا } فإنه منبىءٌ عن إيثار الأدنى الخسيسِ على الأعلى النفيسِ كقوله تعالى : { ياأيها الذين ءامَنُواْ مَا لَكُمْ } ولا يخافون الثانيَ وإليه أشير بقوله تعالى : { واطمأنوا بِهَا } أي سكَنوا فيها سكونَ مَنْ لا بَراحَ له منها آمنين مِن اعتراء المزعجاتِ غيرَ مُخطرين ببالهم ما يسوؤهم من عذابنا ، وقيل : المرادُ بالرجاء معناه الحقيقيُّ وباللقاء حسنُ اللقاءِ أي لا يأمُلون حسنَ لقائِنا بالبعث والإحياءِ بالحياة الأبدية ورضُوا بدلاً منها ومما فيها من فنون الكراماتِ السنيةِ بالحياة الدنيا الدنيةِ الفانيةِ واطمأنوا بها أي سكَنوا إليها مُكِبّين عليها قاصرين مجامعَ هِممِهم على لذائذها وزخارفِها من غير صارفٍ يَلويهم ولا عاطفٍ يَثنيهم ، وإيثارُ الباءِ على كلمة إلى المنبئة عن مجرد الوصولِ والانتهاء للإيذان بتمام الملابسةِ ودوام المصاحبةِ والمؤانسة ، وحملُ الرجاءِ على الخوف فقط يأباه كلمةُ الرضا بالحياة الدنيا فإنها مُنبئةٌ عما ذُكر من ترك الأعلى وأخذِ الأدنى ، واختيارُ صيغةِ الماضي في الصلتين الأخيرتين للدِلالة على التحقق والتقّررِ كما أن اختيارَ صيغةِ المستقبلِ في الأولى للإيذان باستمرارِ عدم الرجاء .
{ والذين هُمْ عَنْ ءاياتنا } المفصلةِ في صحائف الأكوانِ حسبما أشير إلى بعضها أو آياتِنا المنزلِة المنبّهةِ على الاستشهاد بها المتفقةِ معها في الدلالة على حقية ما لا يرجونه من اللقاء المترتبِ على البعث وعلى بطلان ما رضُوا به واطمأنوا إليه من الحياة الدنيا { غافلون } يتفكرون فيها أصلاً وإن نُبّهوا على ذلك وذُكّروا بأنواع القوارعِ لانهماكهم فيما يصُدهم عنها من الأحوال المعدودةِ ، وتكريرُ الموصولِ للتوسل به إلى جعل صلتِه جملةً اسميةً منبئةً عما هم عليه من استمرار الغفلةِ ودوامِها ، وتنزيلُ التغايرِ الوصفيِّ منزلةَ التغايرِ الذاتي إيذاناً بمغايرة الوصفِ الأخير للأوصاف الأُوَل واستقلالِه باستتباع العذابِ .
هذا وأما ما قيل من أن العطفَ إما لتغاير الوصفين والتنبيهِ على أن الوعيدَ على الجمع بين الذهولِ عن الآيات رأساً والانهماكِ في الشهوات بحيث لا يخطُر ببالهم الآخرةُ أصلاً وإما لتغاير الفريقين والمرادُ بالأولين من أنكر البعثَ ولم يُرد إلا الحياةَ الدنيا وبالآخِرين مَنْ ألهاه حبُّ العاجل عن التأمل في الآجل فكلامٌ ناءٍ عن السداد فليُتأملْ .(3/236)
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
{ أولئك } الموصوفون بما ذكر من صفات السوء { مَأْوَاهُمُ } أي مسكنُهم ومقرُّهم الذي لا بَراحَ لهم منه { النار } لا ما اطمأنوا بها من الحياة الدنيا ونعيمُها { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من الأعمال القلبيةِ المعهودةِ وما يستتبعه من أصناف المعاصي والسيئاتِ أو بكسبهم إياها ، والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل للدِلالة على الاستمرار التجددي والباء متعلقةٌ بمضمون الجملةِ الأخيرةِ الواقعةِ خبراً عن اسم الإشارةِ وهو مع خبرِه خبرٌ لإن في قوله تعالى : { إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } الخ .
{ إِنَّ الذين ءامَنُواْ } أي فعلوا الإيمانَ أو آمنوا بما يشهَد به الآياتُ التي غفَل عنها الغافلون أو بكل ما يجب أن يؤمَنَ به فيندرجُ فيه ذلك اندراجاً أولياً { وَعَمِلُواْ الصالحات } أي الأعمالَ الصالحةَ في أنفسها اللائقةَ بالإيمان ، وإنما تُرك ذكرُ الموصوف لجريانها مَجرى الأسماءِ { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ } أُوثر الالتفاتُ تشريفاً لهم بإضافة الربِّ وإشعاراً بعلة الهِداية { بِإِيمَانِهِمْ } أي يهديهم بسبب إيمانِهم إلى مأواهم ومقصِدِهم وهي الجنةُ ، وإنما لم تُذكر تعويلاً على ظهورها وانسياقِ النفسِ إليها لا سيما بملاحظة ما سبق من بيان مأوى الكفَرة وما آواهم إليه من أعمالهم السيئةِ ومشاهدةِ ما لحق من التلويح والتصريحِ ، وفي النظم الكريم إشعارٌ بأن مجردَ الإيمانِ والعملِ الصالحِ لا يكفي في الوصول إلى الجنةَ بل لا بد بعد ذلك من الهداية الربانية وأن الكفرَ والمعاصيَ كافيةٌ في دخول النارِ ثم إنه لا نزاعَ في أن المرادَ بالإيمان الذي جعل سبباً لتلك الهداية هو إيمانُهم الخاصُّ المشفوعُ بالأعمال الصالحةِ لا الإيمانُ المجردُ عنها ولا ما هو أعمُّ منهما ، إلا أن ذلك بمعزل عن الدِلالة على خلاف ما عليه أهلُ السنةِ والجماعة من أن الإيمانَ الخاليَ عن العمل الصالحِ يُفضي إلى الجنة في الجملة ولا يخلّد صاحبُه في النار فإن منطوقَ الآيةِ الكريمةِ أن الإيمانَ المقرونَ بالعمل الصالحِ سببٌ للهداية إلى الجنة ، وأما أن كلَّ ما هو سببٌ لها يجب أن يكون كذلك فلا دلالةَ لها ولا لغيرها عليه قطعاً ، كيف لا وقولُه عز وجل : { الذين ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الامن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } منادٍ بخلافه فإن المرادَ بالظلم هو الشركُ كما أطبق عليه المفسرون والمعنى لم يخلِطوا إيمانَهم بشرك ، ولئن حُمل على ظاهره أيضاً يدخُل في الاهتداء من آمن ولم يعمل صالحاً ثم مات قبل أن يظلم بفعل حرامٍ أو بترك واجب { تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانهار } أي بين أيديهم كقوله سبحانه : { وهذه الانهار تَجْرِى مِن تَحْتِى } وهم على سرر مرفوعةٍ وأرائِكَ مصفوفةٍ ، والجملةُ مستأنفةٌ أو خبرٌ ثانٍ لإن أو حالٌ من مفعول يهديهم على تقدير كون المهديِّ إليه ما يريدونه في الجنة كما قيل ، وقيل : يهديهم ويسدّدهم للاستقامة على سلوك السبيلِ المؤدي إلى الثواب والجنة ، وقوله : { تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانهار } جارٍ مجرى التفسيرِ والبيان فإن التمسكَ بحبل السعادةِ في حكم الوصولِ إليها وقيل : يهديهم إلي إدراك الحقائقِ البديعةِ بحسب القوةِ العملية كما قال عليه الصلاة والسلام : « من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم » { فِي جنات النعيم } خبر آخر أو حال أخرى منه أو من الأنهار أو متعلق بتجري أو بيهدي فالمراد بالمهدى إليه إما منازلهم في الجنة أو ما يريدونه فيها .(3/237)
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
{ دَعْوَاهُمْ } أي دعاؤُهم وهو مبتدأٌ وقوله عز وجل : { فِيهَا } متعلقٌ به وقوله تعالى : { سبحانك اللهم } خبرُه أي دعاؤهم هذا الكلامُ وهو معمولٌ لمقدر لا يجوز إظهارُه والمعنى اللهم إنا نسبّحك تسبيحاً ، ولعلهم يقولونه عندما عاينوا فيها من تعاجيبِ آثارِ قدرتِه تعالى ونتائجِ رحمتِه ورأفتِه ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلب بشر تقديساً لمقامه تعالى عن شوائب العجز والنقصانِ وتنزيهاً لوعده الكريمِ عن سمات الخُلف { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا } التحيةُ التكرمةُ بالحالة الجليلة أصلُها أحياك الله حياةً طيبة ، أي ما يحيي به بعضُهم بعضاً أو تحيةُ الملائكةِ إياهم كما في قوله تعالى : { يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سلام } أو تحيةُ الله عز وجل لهم كما في قوله تعالى : { سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ } { سلام } أي سلامةٌ من كل مكروه { دعواهم فِيهَا } أي خاتمةُ دعائِهم { أَنِ الحمد للَّهِ رَبّ العالمين } أي أن يقولوا ذلك نعتاً له عز وجل بصفات الإكرام إثرَ نعتِه تعالى بصفات الجلال ، أي دعاؤهم منحصِرٌ فيما ذُكر إذ ليس لهم مطلبٌ مترقّبٌ حتى ينتظموا في سلك الدعاء ، وأن هي المخففةُ من أنّ المثقلة أصلُه أنه الحمدُ لله فحُذف ضميرُ الشأنِ كما في قوله :
أنْ هالكٌ كلُّ من يحفى وينتعلُ ... وقرىء أنّ الحمدَ لله بالتشديد ونصبِ الحمدُ ولعل توسيط ذكرِ تحيتِهم عند الحكايةِ بين دعائِهم وخاتمتِه للتوسل إلى ختم الحكايةِ بالتحميد تبرّكاً مع أن التحيةَ ليست بأجنبية على الإطلاق ، ودعوى كونِ ترتيبِ الوقوعِ أيضاً كذاك بأن كانوا حين دخلوا الجنةَ وعاينوا عظمة الله تعالى وكبرياءَه مجدّوه ونعتوه بنعوت الجلالِ ثم حياهم الملائكةُ بالسلامة من الآفات والفوزِ بأصناف الكراماتِ أو حياهم بذلك ربُّ العزةِ فحمِدوه تعالى وأثنَوا عليه يأباها إضافةُ الآخرِ إلى دعواهم وقد جوز أن يكون المرادُ بالدعاء العبادةَ كما في قوله تعالى : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ } الخ ، إيذاناً بأنْ لا تكليفَ في الجنة أي ما عبادتُهم إلا أن يسبحوه ويحمَدوه وليس ذلك بعبادة إنما يُلْهمونه وينطِقونه تلذذاً ولا يساعده تعيينُ الخاتمة .
{ وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ } هم الذين لا يرجون لقاءَ الله تعالى لإنكارهم البعثَ وما يترتب عليه من الحساب والجزاءِ ، أشير إلى بعض من عظائمِ معاصيهم المتفرّعةِ على ذلك وهو استعجالُهم بما أُوعدوا به من العذاب تكذيباً واستهزاءً وإيرادُهم باسم الجنسِ لما أن تعجيلَ الخيرِ لهم ليس دائراً على وصفهم المذكور إذ ليس كلُّ ذلك بطريق الاستدراجِ أي لو يعجل الله لهم { الشر } الذي كانوا يستعجلون به فإنهم كانوا يقولون : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ونحو ذلك وقوله تعالى { استعجالهم بالخير } نصبَ على أنه مصدرٌ تشبيهيٌّ وُضع موضِعَ مصدرٍ ناصبِه دلالةً على اعتبار الاستعجالِ في جانب المشبّهِ كاعتبار التعجيلِ في جانب المشبه به وإشعاراً بسرعة إجابتِه تعالى لهم حتى كان استعجالُهم بالخير نفسَ تعجيلِه لهم ، والتقديرُ ولو يعجل الله لهم الشرَّ عند استعجالِهم به تعجيلاً مثلَ تعجيلِه لهم الخيرَ عند استعجالِهم به فحُذف ما حذف تعويلاً على دلالة الباقي عليه { لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } لأدى إليهم الأجلَ الذي عيّن لعذابهم وأُميتوا وأهلِكوا بالمرة وما أُمهلوا طرفةَ عينٍ ، وفي إيثار صيغةِ المبنيِّ للمفعول جريٌ على سنن الكبرياءِ مع الإيذان بتعيين الفاعلِ ، وقرىء على البناء للفاعل كما قرىء لقضينا ، واختيارُ صيغةِ الاستقبال في الشرط وإن كان المعنى على المضيِّ لإفادة أن عدم قضاءِ الأجلِ لاستمرار عدمِ التعجيل ، فإن المضارعَ المنفيَّ الواقعَ موقعَ الماضي ليس بنص في إفادة انتفاءِ استمرارِ الفعل بل قد يفيد استمرارَ انتفائِه أيضاً بحسب المقامِ كما حقق في موضعه ، واعلم أن مدارَ الإفادةِ في الشرطية أن يكون التالي أمراً مغايراً للمقدّم في نفسه مترتباً عليه في الوجود كما في قوله عز وجل :(3/238)
{ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مّنَ الامر لَعَنِتُّمْ } فإن العنَتَ أي الوقوعَ في المشقة والهلاكِ أمرٌ مغايرٌ لطاعته عليه الصلاة والسلام لهم مترتبٌ عليها في الوجود أو يكون فرداً كاملاً من أفراده ممتازاً عن البقية بأمر يخصّه كما في الأجزية المحذوفة في مثل قولِه تعالى : { وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبّهِمْ } وقوله تعالى : { وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار } وقوله تعالى : { وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون } ونظائرِها أي لرأيت أمراً هائلاً فظيعاً أو نحوَ ذلك وكما في قوله تعالى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ } إذا فسر الجوابُ بالاستئصال فإنه فردٌ كاملٌ من أفراد مطلقِ المؤاخذة قد عبّر عنه بما لا مزيدَ عليه في الدلالة على الشدة والفظاعةِ ، فحسنُ موقعِه في معرض التالي للمؤاخذة المطلقةِ وأما ما نحن فيه من القضاء فليس بأمر مغايرٍ لتعجيل الشرِّ في نفسه ، وهو ظاهرٌ بل هو إما نفسُه أو جزئيٌّ منه كسائر جزئياتِه من غير مزّيةٍ له على البقية إذا لم يُعتبر في مفهومه ما ليس مفهوم تعجيلِ الشرِّ من الشدة والهولِ فلا يكونُ في ترتّبه عليه وجوداً أو عدماً مزيدُ فائدةٍ مصحِّحة لجعله تالياً له فالحقُّ أن المقدمَ ليس نفسَ التعجيلِ المذكورِ بل هو إرادتُه المستتبعةِ للقضاء المذكورِ وجوداً وعدماً كما في قوله تعالى : { لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب } أي لو يريد مؤاخذتهم ، فإن تعجيلَ العذاب لهم نفسُ المؤاخذةِ أو جزئيٌّ من جزئياتها غيرُ ممتازٍ عن البقية فليس في بيان ترتبِه عليها وجوداً أو عدماً مزيدُ وإنما الفائدة في ترتبه على إرادتها حسبما ذكر ، وأيضاً في ترتب التالي على إرادة المقدمِ ما ليس في ترتبه على نفسه من الدِلالة على المبالغة وتهويلِ الأمر والدلالةِ على أن الأمور منوطةٌ بإرادته تعالى المبنيّة على الحِكم البالغة { فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } بنون العظمة الدالة على التشديد في الوعيد وهو عطفٌ على مقدر تنبىء عنه الشرطيةُ كأنه قيل : لكن لا نفعل ذلك لما تقتضيه الحكمةُ فنتركهم إمهالاً واستدراجاً { فِي طغيانهم } الذي هو عدمُ رجاءِ اللقاء ، وإنكارُ البعثِ والجزاءِ وما يتفرع على ذلك من أعمالهم السيئةِ ومقالاتهم الشنيعة { يَعْمَهُونَ } أي يترددون ويتحيرون ففي وضع الموصولِ موضعَ الضمير نوعٌ بيانٍ للطغيان بما في حيز الصلةِ وإشعارٌ بعليّته للترك والاستدارج .(3/239)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)
{ وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر } أي أصابه جنسُ الضرِّ من مرض وفقرٍ وغيرِهما من الشدائد إصابةً يسيرة { دَعَانَا } لكشفه وإزالتِه { لِجَنبِهِ } حالٌ من فاعل دعا بشهادة ما عُطف عليه من الحالين واللام بمعنى على كما في قوله تعالى : { يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ } أي دعانا كائناً على جنبه أي مضطجعاً { أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا } أي في جميع الأحوالِ مما ذُكر وما لم يذكر ، وتخصيصُ المعدوداتِ بالذكر لعدم خلوِّ الإنسانِ عنها عادةً أو دعانا في جميع أحوالِ مرضِه على أنه المرادُ بالضر خاصة مُضجَعاً عاجزاً عن القعود وقاعداً غيرَ قادرٍ على النهوض وقائماً لا يستطيع الحَراك { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ } الذي مسه غِبَّ ما دعانا حسبما ينبىء عنه الفاء { مَرَّ } أي مضى واستمرَّ على طريقته التي كان ينتحيها قبل مساسِ الضرِّ ونسيَ حالةَ الجَهْدِ والبلاءِ ، أو مر عن موقف الضراعةِ والابتهالِ ونأى بجانبه { كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا } أي كأنه لم يدعُنا فخُفف وحُذف ضميرُ الشأن كما في قوله :
كأنْ لم يكن بين الحَجون إلى الصفا ... والجملةُ التشبيهيةُ في محل النصبِ على الحالية من فاعل مرّ أي مرّ مشبَّهاً بمن لم يدْعنا { إلى ضُرّ } أي إلى كشف ضرَ { مَسَّهُ } وهذا وصفٌ للجنس باعتبار حال بعضِ أفرادِه ممن هو متصفٌ بهذه الصفات { كذلك } نصبٌ على المصدرية وذلك إشارةٌ إلى مصدر الفعلِ الآتي ، وما فيه من معنى البعدِ للتفخيم والكافُ مقحَمةٌ للدلالة على زيادة فخامةِ المشارِ إليه إقحاماً لا يكاد يُترَك في لغة العرب ولا في غيرها ومن ذلك قولهم : مثلُك لا يَبخلُ مكان أنت لا تبخل أي مثلَ ذلك التزيينِ العجيب { زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ } أي للموصوفين بما ذكر من الصفات الذميمةِ وإسرافُهم لما إن الله تعالى إنما أعطاهم القُوى والمشاعرَ ليصرِفوها إلى مصارفها ويستعملوها فيما خُلقت له من العلوم والأعمالِ الصالحة ، فلما صرفوها إلى ما لا ينبغي وهي رأسُ مالِهم فقد أتلفوها وأسرفوا إسرافاً ظاهراً ، والتزيينُ إما من جهة الله سبحانه على طريقه التخليةِ والخِذلانِ أو من الشيطان بالوسوسة والتسويل { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من الاعراض عن الذكر والدعاءِ والانهماكِ في الشهوات ، وتعلقُ الآيةِ الكريمة بما قبلها من حيث إن في كل منهما إملاءً للكفرة على طريقة الاستدراجِ بعد الأنقاذِ من الشر المقدّرِ في الأولى ومن الضرِّ المقررِ في الأخرى .
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون } أي القرونَ الخاليةَ مثلَ قومِ نوحٍ وعادٍ وأضرابِهم و ( من ) في قوله تعالى : { مِن قَبْلِكُمْ } متعلقةٌ بأهلكنا أي أهلكناهم من قبل زمانِكم والخطابُ لأهل مكةَ على طريقة الالتفاتِ للمبالغة في تشديد التهديدِ بعد تأييدِه بالتوكيد القسمي { لَمَّا ظَلَمُواْ } ظرفٌ للإهلاك أي أهلكناهم حين فعلوا الظلمَ بالتكذيب والتمادي في الغي والضلالِ من غير تأخير ، وقوله تعالى : { وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم } حالٌ من ضمير ظلموا بإضمار قد ، وقوله تعالى : { بالبينات } متعلقٌ بجاءتهم على أن الباءَ للتعدية أو بمحذوف وقع حالاً من رسلهم ، دالةٌ على إفراطهم في الظلم وتناهيهم في المكابرة ، أي ظلموا بالتكذيب وقد جائتهم رسلُهم بالآيات البينةِ الدالةِ على صدقهم أو ملتبسين بها حين لا مجالَ للتكذيب ، وقد جُوِّز أن يكون قولُه تعالى : { وَجَاءتْهُمْ } عطفاً على ظلموا فلا محلَّ له من الإعراب عند سيبويه ، وعند غيره محلُّه الجرُّ لأنه معطوفٌ على ما هو مجرورٌ بإضافة الظرفِ إليه ، وليس الظلمُ منحصراً في التكذيب حتى يُحتاج إلى الاعتذار بأن الترتيبَ للذكرى لا يجب كونُه على وفق الترتيبِ الوقوعيّ كما في قوله تعالى :(3/240)
{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ } الخ ، بل هو محمولٌ على سائر أنواعِ الظلم والتكذيبُ مستفادٌ من قوله تعالى : { وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } على أبلغ وجهٍ وآكده فإن اللامَ لتأكيد النفي أي وما صح وما استقام لهم أن يؤمنوا لفساد استعدادِهم وخذلانِ الله تعالى إياهم لعلمه بأن الألطافَ لا تنجع فيهم ، والجملةُ على الأول عطفٌ على ظلموا لأنه إخبارٌ بإحداث التكذيب ، وهذا بالإصرار عليه ، وعلى الثاني عطفٌ على ما عطف عليه ، وقيل : اعتراضٌ بين الفعلِ وما يجري مَجرى مصدرِه التشبيهيِّ أعني قولَه تعالى : { كذلك } فإن الجزاءَ المشارَ إليه عبارةٌ عن مصدره أي مثلَ ذلك الجزاءِ الفظيعِ أي الإهلاكِ الشديدِ الذي هو الاستئصالُ بالمرة { نَجْزِي القوم المجرمين } أي كلَّ طائفةٍ مجرمة ، وفيه وعيدٌ شديدٌ وتهديدٌ أكيدٌ لأهل مكةَ لاشتراكهم لأولئك المهلَكين في الجرائم والجرائر التي هي تكذيبُ الرسولِ والإصرارُ عليه وتقريرٌ لمضمون ما سبق من قوله تعالى : { وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير } وقرىء بالياء على الالتفات إلى الغَيبة وقد جُوِّز أن يكون المرادُ بالقوم المجرمين أهلَ مكةَ على طريقة وضع الظاهرِ موضعَ ضميرِ الخطابِ إيذاناً بأنهم أعلامٌ في الإجرام ويأباه كلَّ الإباء .(3/241)
ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
قولُه عز وجل : { ثُمَّ جعلناكم خلائف فِى الارض مِن بَعْدِهِم } فإنه صريحٌ في أنه ابتداءٌ تعرّضَ لأمورهم وأن ما بينّ فيه إنما هو مبادي أحوالِهم لاختبار كيفياتِ أعمالِهم على وجه يُشعر باستمالتهم نحوَ الإيمان والطاعةِ فمُحالٌ أن يكون ذلك إثرَ بيانِ منتهى أمرِهم وخطابِهم ببتّ القولِ بإهلاكهم لكمال إجرامِهم والمعنى ثم استخلفناكم في الأرض من بعد إهلاكِ أولئك القرونِ التي تسمعون أخبارَها وتشاهدون آثارَها استخلافَ من يَختبر { لِنَنظُرَ } أي لنعاملَ معاملةَ من ينظُر { كَيْفَ تَعْمَلُونَ } فهي استعارةٌ تمثيلية ، وكيف منصوبٌ على المصدرية بتعملون لا بننظر فإن ما فيه من معنى الاستفهام مانعٌ من تقدم عاملِه عليه أي أيَّ عملٍ أو على الحالية أي على أيّ حالٍ تعملون الأعمالَ اللائقةَ بالاستخلاف من أوصاف الحُسن كقوله عز وعلا : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } ففيه إشعارٌ بأن المرادَ بالذات والمقصودَ الأصليَّ من الاستخلاف إنما هو ظهورُ الكيفياتِ الحسنةِ للأعمال الصالحةِ ، وأما الأعمالُ السيئةُ فبمعزل من أن تصدُرَ عنهم لا سيما بعد ما سمِعوا أخبارَ القرونِ المهلَكه وشاهَدوا آثارَ بعضِها فضلاً عن أن يُنظمَ ظهورُها في سلك العلة الغائيةِ للاستخلاف ، وقيل : منصوبٌ على أنه مفعولٌ به أي أيَّ عملٍ تعملون أخيراً أم شراً فنعاملَكم بحسبه فلا يكون في كلمة كيف حينئذ دلالةٌ على أن المعتبرَ في الجزاء جهاتُ الأعمالِ وكيفياتُها لا ذواتُها كما هو رأيُ القائل بل تكون حينئذ مستعارةً لمعنى أيّ شيء .(3/242)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
{ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ } التفاتٌ من خطابهم إلى الغَيبة إعراضاً عنهم وتوجيهاً للخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعديد جناياتِهم المضادةِ لما أريد منهم بالاستخلاف ، من تكذيب الرسولِ والكفر بالآيات البيناتِ وغيرِ ذلك كدأب مَنْ قبلهم من القرون المهلَكة ، وصيغةُ المضارعِ للدِلالة على تجدد جوابِهم الآتي حسبَ تحددِ التلاوة { ءاياتنا } الدالةُ على حقية التوحيدِ وبُطلانِ الشركِ ، والإضافةُ لتشريف المضافِ والترغيبِ في الإيمان به والترهيبِ عن تكذيبه { بينات } حالَ كونِها واضحاتِ الدِلالةِ على ذلك ، وإيرادُ فعل التلاوةِ مبنياً للمفعول مسنداً إلى الآيات دون رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ببنائه للفاعل للإشعار بعدمِ الحاجةِ لتعيّن التالي وللإيذان بأن كلامَهم في نفس المتلوِّدون التالي { قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } وضعَ الموصولُ موضعَ الضميرِ إشعاراً بعلّية ما في حيز الصلةِ العظيمةِ المحكيةِ عنهم وأنهم إنما اجترءوا عليها لعدم خوفِهم من عقابه تعالى يوم اللقاءِ لإنكارهم له ولما هو من مباديه من البعث وذماً لهم بذلك أي قالوا لمن يتلوها عليهم وهو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وإنما لم يذكر إيذاناً بتعينه { ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا } أشاروا بهذا إلى القرآنِ المشتملِ على تلك الآياتِ لا إلى نفسها فقط قصداً إلى إخراج الكلِّ من البين أي ائت بكتاب آخرَ نقرؤه ليس فيه ما نستبعده من البعث والحسابِ والجزاءِ وما نكرهه من ذم آلهتِنا ومعايبِها والوعيدِ على عبادتها { أَوْ بَدّلْهُ } بتغيير ترتيبِه بأن تجعلَ مكانَ الآيةِ المشتملةِ على ذلك آيةً آخرى خاليةً عنها وإنما قالوه كيداً وطمعاً في المساعدة ليتوسلوا به إلى الإلزام والاستهزاء به { قُلْ } لهم { مَا يَكُونُ لِى } أي ما يصح وما يستقيم لي ولا يمكنني أصلاً { أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى } أي من قبل نفسي وهو مصدرٌ استعمل ظرفاً ، وقرىء بفتح التاءِ وقصر الجواب ببيان امتناعِ ما اقترحوه على اقتراحهم الثاني للإيذان بأن استحالةَ ما اقترحوه أولاً من الظهور بحيث لا حاجة إلى بيانها وأن التصدّيَ لذلك مع كونه ضائعاً ربما يُعد من قبيل المجاراةِ مع السفهاء إذ لا يصدُر مثلُ ذلك الاقتراحِ عن العقلاء ، ولأن ما يدل على استحالة الثاني يدل على استحالة الأولِ بالطريق الأولى .
{ إِنْ أَتَّبِعُ } أي ما أتبع في شيء مما آتي وأذَرُ { إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ } من غير تغيير له في شيء أصلاً على معنى قصرِ حالِه عليه السلام على اتباع ما يوحى إليه لا قصرِ اتباعِه على ما يوحى إليه كما هو المتبادرُ من ظاهر العبارةِ كأنه قيل : ما أفعل إلا اتباعَ ما يوحى إلي وقد مر تحقيقُ المقامِ في سورة الأنعام ، وهو تعليلٌ لصدر الكلامِ ، فإن مَنْ شأنُه اتباعُ الوحي على ما هو عليه لا يستبد بشيء دونه قطعاً ، وفيه جوابٌ للنقض بنسخ بعضِ الآياتِ ببعض وردٌّ لما عرّضوا به عليه الصلاة والسلام بهذا السؤال من أن القرآنَ كلامُه عليه الصلاة والسلام ولذلك قيّد التبديلُ في الجواب بقوله : { مِن تِلْقَاء نَفْسِى } وسماه عصياناً عظيماً مستتبِعاً لعذاب عظيم بقوله تعالى : { إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } فإنه تعليلٌ لمضمون ما قبله من امتناع التبديلِ واقتصارِ أمرِه عليه الصلاة والسلام على اتباع الوحي ، أي أخاف إن عصيتُه تعالى بتعاطي ما ليس لي من التبديل من تلقاء نفسي والإعراضِ عن اتباع الوحي عذابَ يوم عظيم هو يومُ القيامة أو يومُ اللقاءِ الذي لا يرجونه ، وفيه إشعارٌ بأنهم استوجبوه بهذا الاقتراحِ .(3/243)
والتعرضُ لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام لتهويل أمرِ العصيان وإظهارِ كمالِ نزاهتِه عليه السلام عنه ، وإيرادُ اليوم بالتنوين التفخيميّ ووصفُه بالعظم لتهويل ما فيه من العذاب وتفظيعِه ، ولا مساغَ لحمل مُقترَحِهم على التبديل والإتيانِ بقرآن آخرَ من جهة الوحي بتفسير قوله تعالى : { مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى } بأنه لا يتسهّلُ لي أن أبدلَه بالاستدعاء من جهة الوحي ، ما أتبع إلا ما يوحى إليّ من غير صنعٍ ما من الاستدعاء وغيرِه من قِبلي ، لأنه يرده التعليلُ المذكورُ لا لأن المقترَحَ حينئذٍ ليس فيه معصيةٌ أصلاً كما تُوُهم ، فإن استدعاءَ تبديلِ الآياتِ النازلِة حسبما تقتضيه الحكمةُ التشريعيةُ بعضِها ببعض ، لا سيما بموجب اقترحِ الكفرة مما لا ريبَ في كونه معصيةً بل لأنه ليس فيه معصيةُ الافتراءِ مع أنها المقصودةُ بما ذُكر في التعليل ، ألا يُرى إلى ما بعده من الآيتين الكريمتين فإنه صريحٌ في أن مقترحَهم الإتيانُ بغير القرآنِ وتبديلُه بطريق الافتراءِ وأن زعمَهم في الأصل أيضاً كذلك .(3/244)
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
وقوله عز وجل : { قُل لَّوْ شَاء الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ } تحقيقٌ لحقية القرآنِ وكونِه من عند الله تعالى إثرَ بيانِ بطلانِ ما اقترحوا الإتيانَ به واستحالتِه عبارةً ودلالةً ، وإنما صدر بالأمر المستقلِّ مع كونه داخلاً تحت الأمرِ السابقِ إظهاراً لكمال الاعتناءِ بشأنه وإيذاناً باستقلاله مفهوماً وأسلوباً ، فإنه برهانٌ دالٌّ على كونه بأمر الله تعالى ومشيئتِه كما سيأتي ، وما سبق مجردُ إخبارٍ باستحالة ما اقترحوه ، ومفعولُ شاء محذوفٌ ينبىء عنه الجزاءُ لا غيرُ ذلك كما قيل فإن مفعولَ المشيئةِ إنما يحذف إذا وقعت شرطاً وكان مفعولُها مضمونَ الجزاءِ ولم يكن في تعلقها به غرابةٌ كما في قوله :
لو شئتُ أن أبكي دماً لبكَيتُه ... حيث لم يحُذف لفقدان الشرطِ الأخيرِ ولأن المستلزِمَ للجزاء أعني عدمَ تلاوتِه عليه الصلاة والسلام للقرآن عليهم إنما هو مشيئتُه تعالى له لا مشيئتُه لغير القرآن ، والمعنى أن الأمرَ كلَّه منوطٌ بمشيئته تعالى وليس لي منه شيء قط ، ولو شاء عدمَ تلاوتي له عليكم لا بأن شاء عدمَ تلاوتي له من تلقاء نفسي بل بأن يُنزِلْه عليّ ولم يأمُرْني بتلاوته كما ينبىء عنه إيثارُ التلاوة على القراءة ما تلوتُه عليكم { وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ } أي ولا أعلمَكم به بواسطتي ، والتالي وهو عدمُ التلاوةِ والإدراءِ منتفٍ فينتفي المقدّم أعني مشيئتَه عدمَ التلاوة ، ولا يخفى أنها مستلزمةٌ لعدم مشيئتِه التلاوة قطعاً ، فانتفاؤُها مستلزمٌ لانتفائه حتماً وانتفاءُ عدمِ مشيئتِه التلاوةَ إنما يكون بتحقق مشيئةِ التلاوةِ فثبت أن تلاوتَه عليه الصلاة والسلام للقرآن بمشيئته تعالى وأمرِه ، وإنما قيدنا الإدراءَ بكونه بواسطته عليه الصلاة والسلام لأن عدمَ الإعلامِ مطلقاً ليس من لوازم الشرطِ الذي هو مشيئةُ عدمِ تلاوتِه عليه السلام فلا يجوز نظمُه في سلك الجزاءِ ، وفي إسناد عدمِ الإدراءِ إليه تعالى المنبىءِ عن استناد الإدراءِ إليه تعالى إيذانٌ بأنْ لا دخلَ له عليه السلام في ذلك حسبما يقتضيه المقامُ ، وقرىء ولا أدرَأْنُكم ولا أدرَأَكم بالهمزة فيهما على لغة من يقول : أعطأتُ وأرضأتُ في أعطيت وأرضيتُ أو على أنه من الدرء بمعنى الدفعِ أي ولا جعلتُكم بتلاوته عليكم خصَماءَ تدرَؤُني بالجِدال ، وقرىء ولا أنذرتُكم به وقرىء لأدْرَاكم بلام الجوابِ ، أي لو شاء الله ما تلوتُه عليكم أنا ولأَعلَمكم به على لسان غيري ، على معنى أنه الحقُّ الذي لا محيصَ عنه ، لو لم أُرسل به أنا لأُرسل به غيري البتة ، أو على معنى أنه تعالى يمُنّ على من يشاء فخصّني بهذه الكرامة .
{ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً } تعليلٌ للملازمة المستلزِمةِ لكون تلاوتِه بمشيئة الله تعالى وأمره حسبما بيّن آنفاً ، لكن لا بطريق الاستدلالِ عليها بعدم تلاوتِه عليه الصلاة والسلام فيما سبق بسبب مشيئتِه تعالى إياه بل بطريق الاستشهادِ عليها بما شاهدوا منه عليه الصلاة والسلام في تلك المدةِ الطويلةِ من الأمور الدالةِ على استحالة كونِ التلاوةِ من جهته عليه الصلاة والسلام بلا وحيٍ ، وعمراً نُصب على التشبيه بظرف الزمانِ ، والمعنى قد أقمتُ فيما بينكم دهراً مديداً مقدارَ أربعين سنةً تحفظون تفاصيلَ أحوالي طرّاً وتحيطون بما لديّ خبراً { مِن قَبْلِهِ } أي من قبل نزولِ القرآن لا أتعاطى شيئاً مما يتعلق به لا من حيث نظمه المعجز ولا من حيث معناه الكاشفُ عن أسرار الحقائقِ وأحكامِ الشرائع { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي ألا تلاحِظون ذلك فلا تعقلون امتناعَ صدورِه عن مثلي ، ووجوبَ كونِه منزلاً من عند الله العزيز الحكيم فإنه غيرُ خافٍ على من له عقلٌ سليمٌ .(3/245)
والحق الذي لا محيدَ عنه أن مَنْ له أدنى مَسَكةٍ من العقل إذا تأمل في أمره عليه الصلاة والسلام وأنه نشأ فيما بينهم هذا الدهرَ الطويلَ من غير مصاحبةِ العلماء في شأن من الشؤون ولا مراجعةٍ إليهم في فن من الفنون ولا مخالطةِ البلغاءِ في المفاوضة والحِوار ولا خوضٍ معهم في إنشاء الخُطبِ والأشعار ثم أتى بكتاب بهَرتْ فصاحتُه كلَّ فصيح فائقٍ وبزّت بلاغتُه كلَّ بليغٍ رائقٍ أو علا نظمُه كلَّ منثور ومنظومٍ وحوى فحواه بدائعَ أصنافِ العلومِ ، كاشفٌ أسرارَ الغيبِ من وراء أستارِ الكمُون ناطقٌ بأخبار ما قد كان وما سيكون ، مصدقٌ لما بين يديه من الكتب المنزلةِ مهيمنٌ عليها في أحكامها المُجْملة والمفصّلة لا يبقى عنده شائبةُ اشتباهٍ في أنه وحيٌ منزلٌ من عند الله ، هذا هو الذي اتفقت عليه كلمةُ الجمهور ، ولكن الأنسبَ ببناء الجوابِ فيما سلف على مجرد امتناعِ صدورِ التغيير والتبديلِ عنه عليه الصلاة والسلام لكونه معصيةً موجبةً للعذاب العظيم واقتصارِ حالِه عليه الصلاة والسلام على اتباع الوحي وامتناعِ الاستبدادِ بالرأي من غير تعرضٍ هناك ولا هاهنا لكون القرآنِ في نفسه أمراً خارجاً عن طَوْق البشرِ ولا لكونه عليه الصلاة والسلام غيرَ قادرٍ على الإتيان بمثله أن يُستشهدَ هاهنا على المطلب بما يلائم ذلك من أحواله المستمرةِ في تلك المدةِ المتطاولةِ من كمال نزاهتِه عليه الصلاة والسلام عما يوهم شائبةَ صدورِ الكذبِ والافتراءِ عنه في حق أحدٍ كائناً مَنْ كان كما ينبىء عنه تعقيبُه بتظليم المفتري على الله تعالى ، والمعنى قد لبثتُ فيما بين ظَهْرانيكم قبل الوحي لا أتعرض لأحد قط بتحكم ولا جدالٍ ولا أحوم حولَ مقالٍ فيه شائبةُ شبهةٍ فضلاً عما فيه كذبٌ أو افتراءٌ ، ألا تلاحظون فلا تعقِلون أن مَنْ هذا شأنُه المطردُ في هذا العهد البعيدِ مستحيلٌ أن يقتريَ على الله عز وجل ويتحكم على كافة الخلقِ بالأوامر والنواهي الموجبةِ لسلب الأموالِ وسفكِ الدماءِ ونحو ذلك ، وأن ما أتى به وحيٌ مبينٌ تنزيلٌ من رب العالمين .(3/246)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
وقوله عز وجل : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا } استفهامٌ إنكاريٌّ معناه الجحدُ أي لا أحدَ أظلمُ منه على معنى أنه أظلم من كل ظالم ، وإن كان سبكُ التركيب مفيداً لإنكار أن يكون أحدٌ أظلم منه من غير تعرضٍ لإنكار المساواةِ ونفيها ، فإنه إذا قيل : مَنْ أفضلُ من فلان أو لا أعلمَ منه يُفهم منه حتماً أنه أفضلُ من كل فاضل وأعلمُ من كل عالم ، وزيادةُ قوله تعالى : { كَذِبًا } مع أن الافتراءَ لا يكون إلا كذلك للإيذان بأن ما أضافوه إليه ضِمْناً وحملوه عليه الصلاة والسلام صريحاً مع كونه افتراءً على الله تعالى كذبٌ في نفسه ، فربّ افتراءٍ يكون كذبُه في الإسناد فقط كما إذا أسند ذنبُ زيدٍ إلى عمرو ، وهذا للمبالغة منه عليه الصلاة والسلام في التفادي عما ذُكر من الافتراء على الله سبحانه { أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } فكفر بها ، وهذا تظليمٌ للمشركين بتكذيبهم للقرآن وحملِهم على أنه من جهته عليه الصلاة والسلام ، والفاءُ لترتيب الكلامِ على ما سبق من بيان كونِ القرآنِ بمشيئته تعالى وأمرِه ، فلا مجال لحمل الافتراءِ باتخاذ الولدِ والشريك ، أي وإذا كان الأمرُ كذلك فمن افترى عليه تعالى بأن يختلقَ كلاماً فيقول : هذا من عند الله أو يبدل بعضَ آياتِه تعالى ببعض كما تجوّزون ذلك في شأني ، وكذلك مَن كذب بآياته تعالى كما تفعلونه أظلمُ من كل ظالم { إِنَّهُ } الضمير للشأن وقع اسماً لإن والخبرُ ما يعقُبه من الجملة ، ومدارُ وضعِه موضعَه ادعاءُ شهرتِه المغنيةِ عن ذكره ، وفائدةُ تصديرِها به الإيذانُ بفخامة مضمونِها مع ما فيه من زيادة تقريرِه في الذهن فإن الضميرَ لا يُفهم منه من أول الأمرِ إلا شأنٌ مبْهمٌ له خطرٌ فيبقى الذهنُ مترقباً لما يعقُبه فيتمكن عند ورودِه عليه فضلُ تمكنٍ ، فكأنه قيل : إن الشأنَ هذا أي { لاَ يُفْلِحُ المجرمون } أي لا ينجُون من محذور ولا يظفَرون بمطلوب ، والمرادُ جنسُ المجرمين فيندرج فيه المفتري والمكذب اندراجاً أولياً .
{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } حكايةٌ لجناية أخرى لهم نشأتْ عنها جنايتُهم الأولى معطوفةٌ على قوله تعالى : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ } الآية ، عطفَ قصةٍ على قصة ، ومن دون متعلقٌ بيعبدون ومحلُّه النصبُ على الحالية من فاعله أي متجاوزين الله سبحانه لا بمعنى تركِ عبادتِه بالكلية بل بمعنى عدم الاكتفاءِ بها وجعلها قريناً لعبادة الأصنامِ كما يُفصح عنه سياقُ النظمِ الكريم { مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } أي ما ليس من شأنه الضرُّ والنفعُ من الأصنام التي هي جمادات ، وما موصولةٌ أو موصوفةٌ ، وتقديمُ نفي الضررِ لأن أدنى أحكامِ العبادةِ دفعُ الضررِ الذي هو أولُ المنافع ، والعبادةُ أمرٌ حادث مسبوقٌ بالعدم الذي هو مظِنّةُ الضرر فحيث لم تقدِر الأصنامُ على الضرر لم يوجد لإحداث العبادة سببٌ ، وقيل : لا يضرّهم إن تركوا عبادتَها ولا ينفعهم إن عبدوها .(3/247)
كان أهلُ الطائفِ يعبُدون اللاتَ وأهلُ مكةَ عزى ومَناةَ وهُبَل وإسافاً ونائلةً { وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله } عن النضْر بن الحارثِ إذا كان يوم القيامة يشفع لى اللاتُ . قيل : إنهم كانوا يعتقدون أن المتوليَ لكل إقليمٍ روحٌ معينٌ من أرواح الأفلاكِ فعيّنوا لذلك الروحِ صنماً معيناً من الأصنام واشتغلوا بعبادته ومقصودُهم ذلك الروحُ ثم اعتقدوا أن ذلك الروحَ يكون عند الإله الأعظمِ مشتغلاً بعبوديته وقيل : إنهم كانوا يعبدون الكواكبَ فوضعوا لها أصناماً معينة واشتغلوا بعبادتها قصداً إلى عبادة الكواكبِ ، وقيل : إنهم وضعوا طلسماتٍ معينةً على تلك الأصنام ثم تقربوا إليها ، وقيل : إنهم وضعوا هذه الأصنامَ على صور أنبيائِهم وأكابرِهم وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيلِ فإن أولئك الأكابرَ يشفعون لهم عند الله تعالى .
{ قُلْ } تبكيتاً لهم { أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ } أي أتخبرونه بما لا وجودَ له أصلاً وهو كونُ الأصنامِ شفعاءَهم عند الله تعالى إذ لولاه لعلمه علامُ الغيوبِ ، وفيه تقريعٌ لهم وتهكّمٌ بهم وبما يدعونه من المُحال الذي لا يكاد يدخُل تحت الصحة والإمكانِ ، وقرىء أتنبِّيون بالتخفيف وقوله تعالى : { فِي السموات وَلاَ فِى الارض } حالٌ من العائد المحذوفِ في يعلم مؤكدةٌ للنفي ، لأن ما لا يوجد فيهما فهو منتفٍ عادة { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } عن إشراكهم المستلزمِ لتلك المقالةِ الباطلةِ أو عن شركائهم الذين يعتقدونهم شفعاءَهم عند الله تعالى وقرىء تُشركون بتاء الخطاب على أنه من جملة القولِ المأمورِ به ، وعلى الأول هو اعتراضٌ تذييليٌّ من جهته سبحانه وتعالى .(3/248)
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
{ وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً } بيانٌ لأن التوحيدَ والإسلامَ ملةٌ قديمةٌ أجمعت عليها الناسُ قاطبة فطرةً وتشريعاً وأن الشركَ وفروعَه جهالاتٌ ابتدعها الغواةُ خلافاً للجمهور وشقاً لعصا الجماعةِ ، وأما حملُ اتحادِهم على الاتفاق على الضلال عند الفترةِ واختلافُهم على ما كان منهم من الاتباع والإصرارِ فمما لا احتمالَ له ، أي وما كان الناسُ كافةً من أول الأمرِ إلا متفقين على الحق والتوحيد من غير اختلافٍ ، وذلك من عهد آدمَ عليه الصلاة والسلام إلى أن قتل قابيلُ هابيلَ ، وقيل : إلى زمن إدريسَ عليه السلام وقيل : إلى زمن نوحٍ عليه السلام وقيل : من حينِ الطوفانِ حينَ لم يذر الله من الكافرين دياراً إلى أن ظهر فيما بينهم الكفرُ ، وقيل : من لدُنْ إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام إلى أن أظهر عمْرُو بنُ لحيَ عبادةَ الأصنام ، فالمرادُ بالناس العربُ خاصةً وهو الأنسب بإيراد الآيةِ الكريمة إثرَ حكايةِ ما حُكي عنهم من الهَنات وتنزيهِ ساحةِ الكبرياء عن ذلك { فاختلفوا } بأن كفرَ بعضُهم وثبت آخرون على ما هم عليه فخالف كلٌّ من الفريقين الآخرَ لا أن كلاًّ منهما أحدث ملةً على حدة من ملل الكفرِ مخالفةً لملة الآخر ، فإن الكلامَ ليس في ذلك الاختلافِ إذ كلٌّ منهما مبطِلٌ حينئذ فلا يُتصوَّر أن يقضى بينهما بإبقاء المُحقّ وإهلاكِ المبطل ، والفاء التعقيبيةُ لا تنافي امتدادَ زمانِ الاتفاقِ إذ المرادُ بيانُ وقوعِ الاختلاف عقيبَ انصرامِ مدةِ الاتفاقِ لا عقيبَ حدوثِ الاتفاق { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ } بتأخير القضاءِ بينهم أو بتأخير العذابِ الفاصل بينهم إلى يوم القيامة فإنه يومُ الفصل { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } عاجلاً { فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } بتمييز الحقِّ من الباطل بإبقاء الحقِّ وإهلاكِ المبطل . وصيغةُ الاستقبال لحكاية الحالِ الماضيةِ وللدلالة على الاستمرار .(3/249)
وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
{ وَيَقُولُونَ } حكاية لجناية أخرى لهم معطوفةٌ على قوله تعالى : { وَيَعْبُدُونَ } وصيغةُ المضارعِ لاستحضار صورةِ مقالتهم الشنعاءِ والدلالةِ على الاستمرار والقائلون أهلُ مكة { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } أرادوا آيةً من الآيات التي اقترحوها كأنهم لفرط العتوِّ والفساد ونهايةِ التمادي في المكابرة والعِناد لم يعدّوا البيناتِ النازلةَ عليه عليه الصلاة والسلام من جنس الآياتِ واقترحوا غيرَها مع أنه قد أُنزل عليه من الآيات الباهرةِ والمعجزاتِ المتكاثرةِ ما يضطرهم إلى الانقياد والقبولِ لو كانوا من أرباب العقولِ { فَقُلْ } لهم في الجواب { إِنَّمَا الغيب للَّهِ } اللامُ للاختصاص العلميِّ دون التكوينيِّ فإن الغيبَ والشهادةَ في ذلك الاختصاصِ سيان والمعنى أن ما اقترحتموه زعمتم أنه من لوازمِ النبوة وعلّقتم إيمانَكم بنزوله من الغيوب المختصّة بالله تعالى لا وقوف لي عليه { فانتظروا } نزولَه { إِنّى مَعَكُم مّنَ المنتظرين } أي لما يفعل الله بكم لاجترائكم على مثل هذه العظيمةِ من جحود الآياتِ واقتراحِ غيرِها وجعلُ الغيبِ عبارةً عن الصارف عن إنزال الآياتِ المقترحةِ يأباه ترتيبُ الأمرِ بالانتظار على اختصاص الغيبِ به تعالى . { وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً } صِحةً وسَعةً { مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ } أي خالطتْهم حتى أحسوا بسوء أثرِها فيهم ، وإسنادُ المساسِ إلى الضراء بعد إسنادِ الإذاقةِ إلى ضمير الجلالِة من الآداب القرآنيةِ كما في قوله تعالى : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } ونظائرِه . وقيل : سلط الله تعالى على أهل مكةَ القحطَ سبع سنينَ حتى كادوا يهلِكون ثم رحمهم بالحَيا فطفقوا يطعنون في آياته تعالى ويعادون رسولَه عليه الصلاة والسلام ويكيدونه وذلك قوله تعالى : { وَإِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِى آيَاتِنَا } أي بالطعن فيها وعدمِ الاعتداد بها والاحتيالِ في دفعها ، وإذا الأولى شرطيةٌ والثانيةُ جوابُها كأنه قيل : فاجأوا وقوع المكرِ منهم وتنكيرُ مكرٌ للتفخيم ، وفي متعلقةٌ بالاستقرار الذي يتعلق به اللام { قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْرًا } أي أعجلُ عقوبةً أي عذابُه أسرعُ وصولاً إليكم مما يأتي منكم في دفع الحقِّ ، وتسميةُ العقوبةِ بالمكر لوقوعها في مقابلة مكرِهم وجوداً أو ذكراً { إِنَّ رُسُلَنَا } الذين يحفظون أعمالَكم والإضافةُ للتشريف { يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } أي مكرَكم أو ما تمكُرونه وهو تحقيقٌ للانتقام منهم وتنبيهٌ على أن ما دبروا في إخفائه غيرُ خافٍ على الحفَظة فضلاً عن العليم الخبير ، وصيغةِ الاستقبال في الفعلين للدِلالة على الاستمرار التجدّدي والجملةُ تعليلٌ من جهته تعالى لأسرعية مكرِه سبحانه غيرُ داخل في الكلام الملقن كقوله تعالى : { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } فإن كتابةَ الرسلِ لما يمكرون من مبادىء بطلانِ مكرِهم وتخلف أثرِه عنه بالكلية وفيه من المبالغة ما لا يوصف ، وتلوينُ الخطاب بصرفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم للتشديد في التوبيخ ، وقرىء على لفظ الغَيبة فيكون حينئذٍ تعليلاً لما ذُكر أو للأمر .(3/250)
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)
{ هُوَ الذى يُسَيّرُكُمْ } كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيان جنايةٍ أخرى لهم مبنيةٍ على ما مر آنفاً من اختلاف حالِهم حسب اختلافِ ما يعتريهم من السراء والضراءِ ، أي يمكّنكم من السير تمكيناً مستمراً عند الملابسة به وقبلها { فِى البر } مشاةً ورُكباناً وقرىء ينشُركم من النشر ومنه قوله عز وجل : { بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } { والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك } أي السفن فإنه جمعُ فَلك على زنة أُسْد جمعُ أسَد لا على وزن قفل ، وغايةُ التسييرِ ليست ابتداءَ ركوبِهم فيها بل مضمونُ الشرطيةِ بتمامه كما ينبىء عنه إيثارُ الكونِ المؤذنِ بالدوام على الركوب المُشعِرِ بالحدوث { وَجَرَيْنَ } أي السفن { بِهِمُ } بالذين فيها ، والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذان مما لهم من سوء الحالِ الموجبِ للإعراض عنهم كأنه يُذكر لغيرهم مساوىءُ أحوالِهم ليعجِّبهم منها ويستدعيَ منه الإنكارَ والتقبيحَ ، وقيل : ليس فيه التفاتٌ بل معنى قوله تعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك } إذا كان بعضُكم فيها إذ الخطابُ للكل ومنهم المسيَّرون في البر ، فالضميرُ الغائبُ عائدٌ إلى ذلك المضافِ المقدر كما في قوله تعالى : { أَوْ كظلمات فِى بَحْرٍ لُّجّىّ يغشاه } أي أو كذى ظلماتٍ يغشاه موجٌ { بِرِيحٍ طَيّبَةٍ } ليّنةِ الهُبوب موافقةٍ لمقصدهم { وَفَرِحُواْ بِهَا } بتلك الريحِ لطيبها وموافقتها { جَاءتْهَا } جوابُ إذا والضميرُ المنصوبُ للريح الطيبةِ أي تلقتْها واستولتْ عليها من طرف مخالِفٍ لها فإن الهبوبَ على وفقها لا يسمى مجيئاً لريح أخرى عادةً بل هو اشتدادٌ للريح الأولى وقيل : للفُلك والأول أظهرُ لاستلزامه للثاني من غير عكس لأن الهبوبَ على طريقة الريح اللينةِ يعد مجيئاً بالنسبة إلى الفُلك دون الريح اللينة مع أنه لا يستتبع تلاطمَ الأمواجِ الموجبِ لمجيئها من كل مكان ، ولأن التهويلَ في بيان استيلائِها على ما فرحوا به وعلَّقوا به حبالَ رجائِهم أكثرُ { رِيحٌ عَاصِفٌ } أي ذاتُ عصْفٍ وقيل : العصُوفُ مختصٌّ بالريح فلا حاجة إلى الفارق وقيل : الريحُ قد يذكّر { وَجَاءهُمُ الموج } في الفلك { مّن كُلّ مَكَانٍ } أي من أمكنة مجيءِ الموجِ عادةً ولا بُعدَ في مجيئه من جميع الجوانبِ أيضاً إذ لا يجب أن يكون مجيئُه من جهة هبوبِ الريح فقط بل قد يكون من غيرها بحسب أسبابٍ تتفق له { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } أي هلَكوا فإن ذلك مثلٌ في الهلاك أصلُه إحاطةُ العدو بالحيّ أو سدّت عليهم مسالكُ الخلاص { دَّعَوَا الله } بدلٌ من ظنوا بدل اشتمال لما بينهما من الملابسة والتلازم أو استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال ينساقُ إليه الأذهانُ كأنه قيل : فماذا صنعوا؟ فقيل : دعوُا الله { مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } من غير أن يشركوا به شيئاً من آلهتهم لا مخصّصين لدعاء به تعالى فقط بل للعبادة أيضاً فإنهم بمجرد تخصيصِ الدعاء به تعالى لا يكونون مخلِصين له الدين .
{ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا } اللامُ موطئةٌ للقسم على إرادة القولِ أي قائلين : والله لئن أنجيتنا { مِنْ هذه } الورطة { لَنَكُونَنَّ } البتةَ بعد ذلك أبداً { مِنَ الشاكرين } لنعمك التي من جملتها هذه النعمةُ المسؤولةُ وقيل : الجملةُ مفعولُ دعَوا لأن الدعاءَ من قبيل القولِ والأولُ هو الأَولى لاستدعاء الثاني لاقتصار دعائِهم على ذلك فقط وفي قوله : { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } من المبالغة في الدِلالة على كونهم ثابتين في الشكر مثابرين عليه منتظِمين في سلك المنعوتين بالشكر الراسخين فيه ما ليس في أن يقال لنشكُرن .(3/251)
فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
{ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ } مما غشِيَهم من الكُربة والفاءُ للدِلالة على سرعة الإجابة { إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الارض } أي فاجئوا الفسادَ فيها وسارعوا إليه متراقين في ذلك متجاوزين عما كانوا عليه من حدود العيثِ ، من قولهم : بغى الجرحُ إذا ترامى في الفساد ، وزيادةُ في الأرض للدِلالة على التجدد والاستمرارِ وقوله تعالى : { بِغَيْرِ الحق } تأكيدٌ لما يفيده البغيُ أو معناه أنه بغير الحقِّ عندهم أيضاً بأن يكون ذلك ظلماً ظاهراً لا يخفى قبحُه على أحد كما في قوله تعالى : { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق } وأما ما قيل من أنه للاحتراز عن البغي بحق كتخريب الغزاةِ ديارَ الكفرة وقطعِ أشجارِهم وإحراق زرعِهم فلا يساعده النظمُ الكريم لابتنائه على كون البغي بمعنى إفسادِ صورةِ الشيء وإبطالِ منفعتِه دون ما ذكر من المعنى اللائق بحال المفسدين .
{ يَا أَيُّهَا الناس } توجيهٌ للخطاب إلى أولئك الباغين للتشديد في التهديد والمبالغةِ في الوعيد { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ } الذي تتعاطَوْنه وهو مبتدأ وقوله تعالى : { على أَنفُسِكُمْ } خبرُه أي عليكم في الحقيقة لا على الذين تبغون عليهم وإن ظُنَّ كذلك وقوله تعالى : { مَّتَاعَ الحياة الدنيا } بيانٌ لكون ما فيه من المنفعة العاجلةِ شيئاً غيرَ معتدَ به سريعَ الزوال دائمَ الوبال ، وهو نصبٌ على أنه مصدرٌ مؤكدٌ لفعل مقدر بطريق الاستئنافِ أي تتمتعون متاعَ الحياةِ الدنيا وقيل : على أنه مصدرٌ وقع موقِعَ الحال أي متمتعين بالحياة الدنيا والعاملُ هو الاستقرارُ الذي في الخبر لا نفسُ البغي لأنه يؤدي إلى الفصل بين المصدرِ ومعمولِه بالخبر ولا يخبر عن الموصولِ إلا بعد تمامِ صلتِه وأنت خبيرٌ بأنه ليس في تقييد كونِ بغيهم على أنفسهم بحال تمتعِهم بالحياة الدنيا معنىً يعتدّ به ، وقيل : على أنه ظرفُ زمانٍ نحو مقدمَ الحاجِّ أي زمنَ متاعِ الحياةِ الدنيا وفيه ما مر بعينه ، وقيل : على أنه مفعولٌ لفعل دل عليه المصدرُ أي تبغون متاعَ الحياة الدنيا ولا يخفى أنه لا يدل على البغي بمعنى الطلَب وجعلُ المصدر أيضاً بمعناه مما يُخلُّ بجزالة النظمِ الكريم لأن الاستئنافَ لبيان سوءِ عاقبةِ ما حُكيَ عنهم من البغي المفسّر بالإفساد المفْرطِ اللائقِ بحالهم فأيُّ مناسبةٍ بينه وبين البغي بمعنى الطلب؟ وجعلُ الأول أيضاً بمعناه مما يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عنه وقيل : على أنه مفعولٌ له أي لأجل متاعِ الحياة الدنيا والعاملُ ما ذكر من الاستقرار ، وفيه أن المعلّلَ بما ذُكر نفسُ البغي لا كونُه على أنفسهم ، وقيل : العاملُ فيه فعلٌ مدلولٌ عليه بالمصدر أي تبغون لأجل متاعِ الحياةِ الدنيا على أن الجملةَ مستأنفةٌ ، وقيل : على أنه مفعولٌ صريحٌ للمصدر وعلى أنفسكم ظرفٌ لغوٌ متعلقٌ به ، والمرادُ بالأنفس الجنسُ والخبرُ محذوفٌ لطول الكلامِ والتقديرُ إنما بغيُكم على أبناء جنسِكم متاعَ الحياة الدنيا محذورٌ أو ظاهرُ الفساد أو نحوُ ذلك ، وفيه ما مر من ابتنائه على ما يليق بالمقام من كون البغي بمعنى الطلب .(3/252)
نعم لو جُعل نصبُه على العلة أي إنما بغيُكم على أبناء جنسِكم لأجل متاعِ الحياةِ الدنيا محذورٌ كما اختاره بعضُهم لكان له وجهٌ في الجملة لكن الحقَّ الذي تقتضيه جزالةُ التنزيلِ إنما هو الأولُ وقرىء متاعُ بالرفع على أنه الخبرُ والظرفُ صلةٌ للمصدر أو خبرٌ ثانٍ لمبتدإٍ محذوفٍ أي هو متاعُ الخ ، كما في قوله تعالى : { إِلاَّ سَاعَةً مّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ } أي هذا بلاغٌ فالمرادُ بأنفسهم على الوجه الأول أبناءُ جنسِهم وإنما عبّر عنهم بذلك هزاً لشفقتهم عليهم وحثاً لهم على ترك إيثارِ التمتعِ المذكورِ على حقوقهم ولا مجال للحمل على الحقيقة لأن كونَ بغيهم وَبالاً عليهم ليس بثابت عندهم حسبما يقتضيه ما حُكي عنهم ولم يُخبَر به بعدُ حتى يُجعلَ من تتمة الكلام ويجعل كوُنه متاعاً مقصودَ الإفادِة ، على أن عنوانَ كونِه وبالاً عليهم قادحٌ في كونه متاعاً فضلاً عن كونه من مبادي ثبوتِه للمبتدأ كما هو المتبادرُ من السَّوْق .
وأما كونُ البغي على أبناء الجنسِ فمعلومُ الثبوتِ عندهم ومتضمنٌ لمبادىء التمتعِ من أخذ المالِ والاستيلاءِ على الناس وغيرِ ذلك ، وأما على الوجهين الأخيرين فلا موجبَ للعدول عن الحقيقة فإن المبتدأَ إما نفسُ البغي أو الضميرُ العائدُ إليه من حيث هو هو لا من حيث كونُه وبالاً عليهم كما في صورة كونِ الظرفِ صلةً للمصدر فتدبر . وقرىء متاعاً الحياةَ الدنيا ، أما نصبُ متاعاً فعلى ما مر وأما نصبُ الحياةَ فعلى أنه بدلٌ من متاعاً بدلَ اشتمالٍ ، وقيل : على أنه مفعولٌ به لمتاعاً إذا لم يكن انتصابُه على المصدرية لأن المصدرَ المؤكدَ لا يعمل . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا تمكُرْ ولا تُعِن ماكراً ولا تبغِ ولا تُعن باغياً ولا تنكُث ولا تُعِن ناكثاً » وكان يتلوها وقال محمد بن كعب : ثلاثٌ من كنّ فيه كنّ عليه : البغيَ والنكثَ والمكر قال تعالى : { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ } { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ } { فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ } وعنه عليه الصلاة والسلام : « وأسرعُ الخير ثواباً صلةُ الرحم وأعجلُ الشر عقاباً البغيُ واليمينُ الفاجرة » وروي ( ثنتان يعجّلهما الله تعالى في الدنيا البغيُ وعقوقُ الوالدين ) وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ( لو بغى جبلٌ على جبل لدُكّ الباغي ) { ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ } عطفٌ على ما مر من الجملة المستأنفةِ المقدرةِ كأنه قيل : تتمتعون متاعَ الحياة الدنيا ثم ترجِعون إلينا وإنما غُيّر السبكُ إلى الجملة الاسمية مع تقديم الجارِّ والمجرور للدِلالة على الثبات والقصرِ { فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } في الدنيا على الاستمرار من البغي وهو وعيدٌ بالجزاء والعذابِ كقول الرجل لمن يتوعّده : سأخبرك بما فعلت ، وفيه نكتةٌ خفيةٌ مبنيةٌ على حِكمة أبيةٍ وهي أن كلَّ ما يظهر في هذه النشأةِ من الأعيان والأعراضِ فإنما يظهر بصورة مغايرةٍ لصورته الحقيقيةِ التي بها يظهر في النشأة الآخرة فإن المعاصيَ مثلاً سمومٌ قاتلةٌ قد برزت في الدنيا بصورة تستحسنها نفوسُ العصاةِ وكذا الطاعاتُ مع كونها أحسنَ الأحاسن قد ظهرت عندهم بصور مكروهةٍ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام :(3/253)
« حُفت الجنةُ بالمكارة وحفّت النارُ بالشهوات » فالبغي في هذه النشأة وإن برز بصورة تشتهيها البغاةُ وتستحسنها الغواةُ لتمتعهم به من حيث أخذُ المالِ والتشفّي من الأعداء ونحوُ ذلك لكن ذلك ليس بتمتع في الحقيقة بل هو تضرّر من حيث لا يحتسبون وإنما يظهرُ لهم ذلك عند إبرازِ ما كانوا يعملونه من البغي بصورته الحقيقيةِ المضادّةِ لِما كانوا يشاهدونه على ذلك من الصورة وهو المرادُ بالتنبئة المذكورةِ والله سبحانه وتعالى أعلم .(3/254)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
{ إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا } كلامٌ مستأنف مسوقٌ لبيان شأنِ الحياةِ الدنيا وقصرِ مدة التمتعِ بها وقربِ زمانِ الرجوع الموعودِ ، وقد شبِّه حالُها العجبية الشأنِ البديعةُ المثالِ المنتظمةُ لغرابتها في سلك الأمثالِ في سرعة تقضِّيها وانصرامِ نعيمها غِبَّ إقبالِها واغترارِ الناسِ بها بحال ما على الأرض من أنواع النباتِ في زوال رونقِها ونضارتِها فجأةً وذهابِها حُطاماً لم يبق لها أثرٌ أصلاً بعد ما كانت غضّةً طرية قد التف بعضُها ببعض وزُيِّنت الأرضُ بألوانها وتقوّت بعد ضعفِها بحيث طمِع الناسُ وظنوا أنها سلِمت من الجوائح ، وليس المشبَّهُ به ما دخله الكافُ في قوله عز وجل : { كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الارض } بل ما يفهم من الكلام فإنه من التشبيه المركب { مِمَّا يَأْكُلُ الناس والانعام } من البقول والزروعِ والحشيش { حتى إِذَا أَخَذَتِ الارض زُخْرُفَهَا } جُعلت الأرضُ في تزينها بما عليها من أصناف النباتاتِ وأشكالِها وألوانِها المختلفة المونقةِ آخذةً زخْرُفَها على طريقة التمثيلِ بالعروس التي قد أخذت من ألوان الثيابِ والزَّيْن فتزيّنت بها { وازينت } أصله تزينت فأدغم ، وقرىء على الأصل وقرىء وأزْينت كأغيلت من غير إعلالٍ والمعنى صارت ذاتَ زينةٍ وازْيانَّت كابياضّت { وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا } متمكنون من حصدها ورفعِ غَلّتها { أَتَاهَا أَمْرُنَا } جوابُ إذا أي ضرب زرعَها ما يجتاحه من الآفات والعاهات { لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا } أي زرعَها وسائرَ ما عليها { حَصِيداً } أي شبيهاً بما حُصد من أصله { كَأَن لَّمْ تَغْنَ } كأن لم يغنَ زرعُها والمضافُ محذوفٌ للمبالغة وقرىء بتذكير الفعل { بالامس } أي فيما قبلُ بزمان قريبٍ فإن الأمسَ مثلٌ في ذلك كأنه قيل : لم تغنَ آنفاً { كذلك } أي مثلَ ذلك التفصيلِ البديعِ { نُفَصّلُ الآيات } أي الآيات القرآنيةَ التي من جملتها هذه الآيةُ المنبهةُ على أحوال الحياةِ الدنيا أي نوضّحها ونبيِّنها { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } في تضاعيفها ويقفون على معانيها ، وتخصيصُ تفصيلِها بهم لأنهم المنتفعون بها ، ويجوز أن يرادَ بالآيات ما ذُكر في أثناء التمثيلِ من الكائنات والفاسداتِ وبتفصيلها تصريفُها على الترتيب المحكيِّ إيجاداً وإعداماً فإنها آياتٌ وعلاماتٌ يستدل بها من يتفكر فيها على أحوال الحياةِ الدنيا حالاً ومآلاً .
{ والله يَدْعُو إلى دَارِ السلام } ترغيبٌ للناس في الحياة الأخرويةِ الباقيةِ إثرَ ترغيبهم عن الحياة الدنيوية الفانية أي يدعو الناسَ جميعاً إلى دار السلامةِ عن كل مكروهٍ وآفةٍ وهي الجنةُ ، وإنما ذُكرت بهذا الاسم لذكر الدنيا بما يقابله من كونها معَرْضاً للآفات أو إلى دار الله تعالى وتخصيصُ الإضافةِ التشريفية بهذا الاسم الكريمِ للتنبيه على ذلك أو إلى دار يسلّم الله أو الملائكةُ فيها على من يدخلها أو يسلم بعضُهم علي بعض { وَيَهْدِى مَن يَشَاء } هدايتَه منهم { إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } موصلٍ إليها وهو الإسلامُ والتزودُ بالتقوى ، وفي تعميم الدعوة وتخصيصِ الهدايةِ بالمشيئة دليلٌ على أن الأمرَ غيرُ الإرادة وإن من أصر على الضلالة لم يُرِد الله رشده .(3/255)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
{ لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } أي أعمالَهم أي عمِلوها على الوجه اللائقِ وهو حسنُها الوصفيُّ المستلزمُ لحسنها الذاتي ، وقد فسره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقوله : « أن تعبدَ الله كأنك تراه فإن لم تكنْ تراه فإنه يراك » { الحسنى } أي المثوبةُ الحسنى { وَزِيَادَةٌ } أي ما يزيد على تلك المثوبة تفضلاً لقوله عز اسمه : { وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } وقيل : الحسنى مثلُ حسناتِهم والزيادةُ عشرُ أمثالهِا إلى سبعمائة ضعفٍ وأكثر ، وقيل : الزيادةُ مغفرةٌ من الله ورِضوانٌ ، وقيل : الحُسنى الجنةُ والزيادة اللقاء { وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ } أي لا يغشاها { قَتَرٌ } غبرةٌ فيها سوادٌ { وَلاَ ذِلَّةٌ } أي أثرُ هوانٍ وكسوفُ بالٍ ، والمعنى لا يرهقهم ما يرهَق أهلَ النار أو لا يرهَقُهم ما يوجب ذلك من الحزن وسوءِ الحالِ ، والتنكيرُ للتحقير أيْ شيءٌ منهما والجملةُ مستأنفةٌ لبيان أمنِهم من المكاره إثرَ بيان فوزِهم بالمطالب والثاني وإن اقتضى الأولَ إلا أنه ذُكر إذكاراً بما ينقذهم الله تعالى منه برحمته ، وتقديمُ المفعولِ على الفاعل للاهتمام بيان أن المصونَ من الرهَق أشرفُ أعضائِهم وللتشويق إلى المؤخر فإن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخّر تبقى النفسُ مترقبةً لوروده فعند ورودِه عليها يتمكن عندها فضلُ تمكن ولأن في الفاعل ضربَ تفصيلٍ كما في قوله تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } وقوله عز وجل : { وَجَاءكَ فِى هذه الحق وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ } { أولئك } إشارةٌ إلى المذكروين باعتبار اتصافِهم بالصفات المذكورةِ ، وما في اسم الإشارةِ من معنى البُعدِ للإيذان بعلو درجتِهم وسموّ طبقتِهم أي أولئك الموصوفون بما ذكر من النعوت الجميلةِ الفائزون بالمثوبات الناجون عن المكاره { أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون } بلا زوالٍ دائمون بلا انتقال .
{ والذين كَسَبُواْ السيئات } أي الشركَ والمعاصيَ وهو مبتدأٌ بتقدير المضافِ خبرُه قوله تعالى : { جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا } أي جزاءُ الذين كسبوا السيئاتِ أن يجازى سيئةً واحدةً بسيئة مثلها ، لا يزاد عليها كما يزاد في الحسنة ، وتغييرُ السبكِ حيث لم يقل : وللذين كسبوا السيئاتِ السوآى لمراعاة ما بين الفريقين من كمال التنائي والتبايُن ، وإيرادُ الكسب للإيذان بأن ذلك إنما هو لسوء صنيعِهم وبسبب جنايتِهم على أنفسهم ، أو الموصولُ معطوفٌ على الموصول الأولِ كأنه قيل : وللذين كسبوا السيئاتِ جزاءُ سيئةٍ بمثلها كقولك : في الدار زيدٌ والحجرةِ عمروٌ وفيه دلالةٌ على أن المرادَ بالزيادة الفضلُ { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } وأيُّ ذلةٍ كما ينبىء عنه التنوينُ التفخيميُّ ، وفي إسناد الرَهق إلى أنفسهم دون وجوهِهم إيذانٌ بأنها محيطةٌ بهم غاشيةٌ لهم جميعاً وقرىء يرهَقهم بالياء التحتانية { مَّا لَهُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ } أي لا يعصِمُهم أحدٌ من سُخطه وعذابِه تعالى أو ما لهم من عنده تعالى مَن يعصمهم كما يكون للمؤمنين ، وفي نفي العاصمِ من المبالغة في نفي العصمةِ ما لا يخفى ، والجملةُ مستأنفةٌ أو حال من ضمير ترهقهم { كَأَنَّمَا أُغْشِيَت وُجُوههم قطعاً مِنَ اللَّيْلِ } لفرط سوادِها وظلمتِها { مُظْلِماً } حالٌ من الليل والعاملُ فيه أغشيت لأنه العاملُ في قِطَعاً وهو موصوفٌ بالجار والمجرور والعاملُ في الموصوف عاملٌ في الصفة ، أو معنى الفعلِ في ( مِنَ الليل ) وقرىء قِطْعاً بسكون الطاء وهو طائفة من الليل قال :(3/256)
افتحي الباب وانظُري في النجوم ... كم علينا من قِطْع ليلٍ بهيم
فيجوزُ كونُ مظلماً صفةً له أو حالاً منه وقرىء كأنما يغشى وجوهَهم قِطعٌ من الليل مظلمٌ ، والجملةُ كما قبلها مستأنفةٌ أو حال من ضمير ترهقهم { أولئك } أي الموصوفون بما ذكر من الصفات الذميمة { أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } وحيث كانت الآيةُ الكريمةُ في حق الكفارِ بشهادة السياقِ والسباقِ لم يكن فيها تمسك للوعيدية .(3/257)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } كلامٌ مسأنفٌ مسوقٌ لبيان بعضٍ آخرَ من أحوالهم الفظيعةِ ، وتأخيرُه في الذكر مع تقدمه في الوجود على بعض أحوالِهم المحكيةِ سابقاً للإيذان باستقلال كلَ من السابق واللاحقِ بالاعتبار ، ولو روعيَ الترتيبُ الخارجيُّ لعُدَّ الكلُّ شيئاً واحداً كما مر في قصة البقرة ولذلك فصل عما قبله ، ويومَ منصوبٌ على المفعولية بمضمر أي أنذرْهم أو ذكرْهم ، وضمير نحشُرهم لكلا الفريقين الذين أحسنوا والذين كسبوا السيئاتِ لأنه المتبادرُ من قوله تعالى : { جَمِيعاً } ومن أفراد الفريقِ الثاني بالذكر في قوله تعالى : { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } أي نقول للمشركين من بينهم ولأن توبيخَهم وتهديدَهم على رؤوس الأشهادِ أفظعُ والإخبارُ بحشر الكلِّ في تهويل اليومِ أدخل ، وتخصيصُ وصفِ إشراكهم بالذكر في حيز الصلةِ من بين سائر ما اكتسبوه من السيئات لابتناء التوبيخِ والتقريعِ عليه مع ما فيه من الإيذان بكونه معظمَ جناياتِهم وعمدةَ سيئاتِهم ، وقيل : للفريق الثاني خاصةً فيكون وضعُ الموصولِ موضعَ الضميرِ لما ذكر آنفاً { مَكَانَكُمْ } نُصب على أنه في الأصل ظرفٌ لفعيل أقيم مُقامه لا على أنه اسمُ فعل ، وحركتُه حركةُ بناءٍ كما هو رأيُ الفارسي ، أي الزَموه حتى تنظُروا ما يفعل بكم { أَنتُمْ } تأكيدٌ للضمير المنتقل إليه من عامله لسده مسدَّه { وَشُرَكَاؤُكُمْ } عطفٌ عليه وقرىء بالنصب على أن الواوَ بمعنى مع { فَزَيَّلْنَا } من زيّلت الشيء مكانه أُزيِّله أي أزلتُه ، والتضعيف للتكثير لا للتعدية وقرىء فزايلنا بمعناه نحو كلّمتُه وكالمته وهو معطوفٌ على نقول ، وإيثارُ صيغةِ الماضي للدِلالة على التحقق المورِّثِ لزيادة التوبيخِ والتحسيرِ ، والفاءُ للدِلالة على وقوع التزييل ومباديه عقيبَ الخطابِ من غير مُهلةٍ إيذاناً بكمال رخاوةِ ما بين الفريقين من العلاقة والوصلةِ أي ففرقنا { بَيْنَهُمْ } وقطّعنا أقرانَهم والوصائل التي كانت بينهم في الدنيا لكن لا من الجانبين بل من جانب العبَدةِ فقط لعدم احتمالِ شمولِ الشركاءِ للشياطين كما سيجيء فخابت آمالُهم وانصرمت عُرى أطماعِهم وحصل لهم اليأسُ الكليُّ من حصول ما كانوا يرجونه من جهتهم ، والحالُ وإن كانت معلومةً لهم من حين الموتِ والابتلاءِ بالعذاب لكن هذه المرتبةَ من اليقين إنما حصلت عند المشاهدةِ والمشافهةِ ، وقيل : المرادُ بالتزييل التفريقُ الحسيُّ أي فباعدنا بينهم بعد الجمعِ في الموقفِ وتبرُّؤ شركائِهم منهم ومن عبادتهم كما في قوله تعالى : { أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا } فالواو حينئذ في قوله تعالى : { وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ } حاليةٌ بتقدير كلمةِ قد عند من يشترطها وبدونه عند غيرِه ولا عاطفة كما في التفسير الأول لاستدعاء المحاورةِ المحاضرةَ الفائتةَ بالمباعدة وليس في ترتيب التزييلِ بهذا المعنى على الأمر بلزوم المكانِ ما في ترتيبه عليه بالمعنى الأول من النكتة المذكورةِ ليُصار لأجل رعايتِها إلى تغيير الترتيبِ الخارجيِّ فإن المباعدةَ بعد المحاورةِ حتماً ، وأما قطعُ الأقران والعلائق فليس كذلك بل ابتداؤُه حاصلٌ من حين الحشر ، بل بعضُ مراتبه حاصلٌ قبله أيضاً وإنما الحاصلُ عند المحاورةِ أقصاها كما أشير إليه اعتداداً بما في تقديمه من التغيير لا سيما مع رعاية ماذكر من النكتة ، ولو سلم تأخرُ جميعِ مراتبِه عن المحاورة فمراعاةُ تلك النكتةِ كافيةٌ في استدعاء تقديمِه عليها ويجوز أن تكون حاليةً على هذا التقديرِ أيضاً ، والمرادُ بالشركاء قيل : الملائكةُ وعُزيرٌ والمسيحُ وغيرُهم ممن عبدوه من أولي العلم ففيه تأييدٌ لرجوع الضميرِ إلى الكل وقولهم :(3/258)
{ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ }
عبارةٌ عن تبرئهم من عبادتهم وأنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءَهم وشياطينَهم الذين أغوَوْهم لأنها الآمرةُ لهم بالإشراك دونهم كقولهم : { سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ } الآية ، وقيل : الأصنامُ يُنطِقها الله الذي أنطق كلَّ شيء فتُشافِهُهم بذلك مكانَ الشفاعةِ التي كانوا يتوقعونها .(3/259)
فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
{ فكفى بالله شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } فإنه العليمُ الخبير { إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لغافلين } أي عن عبادتكم لنا ، وتركهُ للظهور وللإيذان بكمال الغفلةِ عنها ، والغفلةُ عبارةٌ عن عدم الارتضاءِ وإلا فعدمُ شعورِ الملائكةِ بعبادتهم لهم غيرُ ظاهرٍ وهذا يقطع احتمالَ كونِ المرادِ بالشركاء الشياطينَ كما قيل فإن ارتضاءَهم بإشراكهم مما لا ريب فيه وإن لم يكونوا مُجْبِرين لهم على ذلك وإنْ مخففةٌ من إنّ واللامُ فارقة { هُنَالِكَ } أي في ذلك المقام الدهِش ، أو في ذلك الوقت على استعارة ظرفِ المكان للزمان { تبلو } أي تختبر وتذوق { تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ } مؤمنةً كانت أو كافرةً سعيدةً أو شقية { مَّا أَسْلَفَتْ } من العمل وتعاينه بكُنهه مستتبِعاً لآثاره من نفع أوضُرَ وخيرٍ أو شر ، وأما ما علِمتْ من حالها من حين الموتِ والابتلاءِ بالعذاب في البرزخ فأمرٌ مجملٌ وقرىء نبلو بنونِ العظمةِ ونصبِ كلُّ وإبدالِ ما منه أي نعاملها معاملةَ من يبلوها ويتعرّفُ أحوالَها من السعادة والشقاوةِ باختبار ما أسلفت من العمل ، ويجوزُ أن يُراد نُصيب بالبلاء أي العذاب كلَّ نفسٍ عاصيةٍ بسبب ما أسلفت من الشر فيكون ما منصوبةً بنزع الخافضِ وقرىء تتلو أي تتبع لأن عملَها هو الذي يهديها إلى طريق الجنةِ أو إلى طريق النارِ ، أو تقرأ في صحيفه أعمالِها ما قدمت من خير أو شر { وَرُدُّواْ } الضمير الذين أشركوا على أنه معطوفٌ على زيلنا وما عطف عليه قوله عز وجل : { هُنَالِكَ تَبْلُواْ } الخ ، اعتراضٌ في أثناء الحكايةِ مقرّرٌ لمضمونها { إِلَى الله } أي جزائه وعقابه { مولاهم } ربِّهم { الحق } أي المتحقق الصادِق ربوبيتُه لا ما اتخذوه باطلاً وقرىء الحقَّ بالنصب على المدح كقولهم : الحمدُ لله أهلَ الحمد أو على المصدر المؤكد .
{ وَضَلَّ عَنْهُم } وضاع أي ظهر ضَياعُه وضلالُه لا أنه كان قبل ذلك غيرَ ضالٍ ، أو ضل في اعتقادهم أيضاً { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من أن آلهتَهم تشفع لهم أو ما كانوا يدعون أنها آلهةٌ ، هذا وجُعل الضميرُ في رُدوا للنفوسِ المدلولِ عليها بكل نفسٍ على أنه معطوفٌ على تبلو وأن العدولَ إلى الماضي للدِلالة على التحقق والتقرر ، وأن إيثارَ صيغةِ الجمعِ للإيذان بأن ردّهم إلى الله يكون على طريقة الاجتماعِ لا يلائمه التعرُّض لوصف الحقيةِ في قوله تعالى : { مولاهم الحق } فإنه للتعريض بالمردودين حسبما أشير إليه ، ولئن اكتُفيَ فيه بالتعريض ببعضهم أو حُمل ( الحقِّ ) على معنى العدل في الثواب والعقاب فقوله عز وجل : { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } مما لا مجال فيه للتدارك قطعاً ، فإن ما فيه من الضمائر الثلاثةِ للمشركين فليزم التفكيكُ حتماً وتخصيصُ ( كلُّ نفس ) بالنفوس المشتركةِ مع عموم البلوى للكل يأباه مقامُ تهويلِ المقام والله تعالى أعلم .(3/260)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)
{ قُلْ } أي لأولئك المشركين الذين حُكيت أحوالُهم وبيّن ما يؤدي إليه أعمالُهم احتجاجاً على حقية التوحيدِ وبُطلانِ ما هم عليه من الإشراك { مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض } أي منهما جميعاً فإن الأرزاقَ تحصُل بأسباب سماوية وموادَّ أرضيةٍ أو من كل واحدة منهما توسعةً عليكم وقيل : مِنْ لبيان كلمة مَنْ على حذف المضافِ أي مِنْ أهل السماء والأرض { أَم مَّنْ يَمْلِكُ السمع والابصار } أم منقطعةٌ وما فيها من كلمة بل للإضراب عن الاستفهام الأولِ لكن لا على طريقة الإبطالِ بل على وجه الانتقالِ وصرفِ الكلام عنه إلى استفهام آخرَ تنبيهاً على كفايته فيما هو المقصودُ ، أي من يستطيع خلقَهما وتسويتَهما على هذه الفطرةِ العجبيةِ أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها وسرعة انفعالِهما من أدنى شيءٍ يصيبهما { وَمَن يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى } أي ومن يحيي ويميت أو ومن ينشىء الحيوانَ من النطفة والنطفةَ من الحيوان { وَمَن يُدَبّرُ الامر } أي ومن يلي تدبيرَ أمرِ العالم جميعاً ، وهو تعميمٌ بعد تخصيصِ بعضِ ما اندرج تحته من الأمور الظاهرةِ بالذكر { فَسَيَقُولُونَ } بلا تلعثم ولا تأخير { الله } إذ لا مجال للمكابرة لغاية وضوحِه ، والخبرُ محذوف أي الله يفعل ما ذكر من الأفاعيل لا غيرُه .
{ فَقُلْ } عند ذلك تبكيتاً لهم { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } الهمزةُ لإنكار عدمِ الاتقاء بمعنى إنكارِ الواقع كما في أتضرب أباك؟ لا بمعنى إنكار الوقوع في أأضربُ أبي؟ والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظمُ الكريمُ أي أتعلمون ذلك فلا تقون أنفسَكم عذابَه الذي ذَكر لكم بما تتعاطَونه من إشراككم به ما لا يشاركه في شيء مما ذُكر من خواصّ الإلهية .(3/261)
فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)
{ فَذَلِكُمُ } فذلكةٌ لما تقدم أي ذلكم الذي اعترفتم باتصافه بالنعوت المذكورةِ وهو مبتدأٌ وقوله تعالى : { الله } خبرُه وقوله تعالى : { رَبُّكُمْ } أي مالكُكم ومتولي أمورِكم على الإطلاق بدلٌ منه أو بيان له ، وقوله تعالى : { الحق } صفةٌ له أي ربكم الثابتُ ربوبيتُه والمتحققُ ألوهيتُه تحققاً لا ريب فيه { فَمَاذَا } يجوز أن يكون الكلُّ اسماً واحداً قد غلب فيه الاستفهامُ على اسم الإشارةِ وأن يكون ذا موصولاً بمعنى الذي أي ما الذي { بَعْدَ الحق } أي غيرُه بطريق الاستعارةِ ، وإظهارُ الحق إما لأن المرادَ به غيرُ الأول وإما لزيادة التقريرِ ومراعاةِ كمالِ المقابلةِ بينه وبين الضلالِ ، والاستفهامُ إنكاريٌّ بمعنى الوقوعِ ونفيِه أي ليس غيرُ الحق { إِلاَّ الضلال } الذي لا يختاره أحدٌ فحيث ثبت أن عبادةَ من هو منعوتٌ بما ذكر من النعوت الجميلةِ حقٌّ ظهر أن ما عداها من عبادة الأصنامِ ضلالٌ محضٌ إذ لا واسطة بينهما ، وإنما سُميت ضلالاً مع كونها من أعمال الجوارحِ باعتبار ابتنائِها على ما هو ضلالٌ من الاعتقاد ، والرأيُ هذا على تقدير كونِ الحقِّ عبارةً عن التوحيد ، وأما على تقدير كونِه عبارةً عن الأول فالمرادُ بالضلال هو الأصنامُ لا عبادتُها ، والمعنى فماذا بعد الربِّ الحقِّ الثابتِ ربوبيّتُه إلا الضلالُ أي الباطلُ الضائعُ المضمحلُّ ، وإنما سمي بالمصدر مبالغةً كأنه نفسُ الضلالِ والضياعِ وهذا أنسبُ بقوله تعالى : { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } على التفسير الثاني .
{ فأنى تُصْرَفُونَ } استفهامٌ إنكاريٌّ بمعنى إنكارِ الواقعِ واستبعادِه والتعجيبِ منه ، وفيه من المبالغة ما ليس في توجيه الإنكارِ إلى نفس الفعلِ لأن كلَّ موجودٍ لا بد من أن يكون وجودُه على الحال من الأحوال قطعاً فإذا انتفى جميعُ أحوالِ وجودِه فقد انتفى وجودُه على الطريق البرهاني كما مر مراراً ، والفاءُ لترتيب الإنكارِ على ما قبله أي كيف تُصرفون من الحق الذي لا محيدَ عنه وهو التوحيدُ إلى الضلال عن السبيل المستبينِ وهو الإشراكُ وعبادةُ الأصنام أو من عبادة ربكم الحقِّ الثابتِ ربوبيتُه إلى عبادة الباطلِ الذي سمعتم ضلالَه وضياعَه في الآخرة ، وفي إيثار صيغةِ المبنيِّ للمفعول إيذانٌ بأن الانصرافَ من الحق إلى الضلال مما لا يصدُر عن العاقل بإرادته وإنما يقع عند وقوعِه بالقسر من جهة صارفٍ خارجيَ .
{ كذلك } أي كما حقت الربوبيةُ لله تعالى أو كما أنه ليس بعد الحقِّ إلا الضلالُ أو أنهم مصروفون عن الحق { حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ } وحكمُه وقضاؤُه { عَلَى الذين فَسَقُواْ } أي تمردوا في الكفر وخرجوا من أقصى حدودِه { أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } بدلُ الكلمةِ أو تعليلٌ لحقيتها والمرادُ بها العِدَةُ بالعذاب .
{ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ } احتجاجٌ آخرُ على حقية التوحيدِ وبطلانِ الإشراكِ بإظهار كونِ شركائِهم بمعزل من استحقاق الإلهية ببيان اختصاصِ خواصِّها من بدء الخلقِ وإعادتِه به سبحانه وتعالى وإنما لم يُعطف على ما قبله إيذاناً باستقلاله في إثبات المطلوبِ ، والسؤالُ للتبكيت والإلزامِ وقد جُعلت أهليةُ الإعادةِ وتحققُها لوضوح مكانِها وسُنوحِ برهانِها بمنزلة بدءِ الخلقِ فنُظمت في سلكه حيث قيل : { مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } إيذاناً بتلازمهما وجوداً وعدماً يستلزم الاعترافَ بها وإن صدهم عن ذلك ما بهم من المكابرة والعِناد ، ثم أُمر عليه الصلاة والسلام بأن يبين لهم مَنْ يفعل ذلك فقيل له : { قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } أي هو يفعلهما لا غيرُ كائناً ما كان لا بأن ينوبَ عليه الصلاة والسلام عنهم في ذلك كما قيل لأن القولَ المأمورَ به غيرُ ما أريد منهم من الجواب وإن كان مستلزِماً له إذ ليس المسؤولُ عنه مَنْ يبدأ الخلق ثم يعيده كما في قوله تعالى :(3/262)
{ قُلْ مَن رَّبُّ السموات والارض قُلِ الله } حتى يكونَ القولُ المأمورُ بين عينِ الجوابِ الذي أريد منهم ويكونَ عليه الصلاة والسلام نائباً عنهم في ذلك بل إنما هو وجودُ مَنْ يفعل البدءَ والإعادةَ من شركائهم فالجوابُ المطلوبُ منهم لا غير نعم أمر عليه الصلاة والسلام بأن يضمِّنه مقالتَه إيذاناً بتعينه وتحققِه وإشعاراً بأنهم لا يجترئون على التصريح به مخافةَ التبكيتِ وإلقامِ الحجر لا مكابرةً ولَجاجاً فتدبر . وإعادهُ الجملةِ في الجواب السابق لمزيد التأكيدِ والتحقيق { فأنى تُؤْفَكُونَ } الإفكُ الصرْفُ والقلبُ عن الشيء وقد يُخصّ بالقلب عن الرأي وهو الأنسبُ بالمقام أي كيف تُقلبون من الحق إلى الباطل ، والكلامُ فيه كما ذكر في تُصرفون .(3/263)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
{ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ } احتجاجٌ آخرُ على ما ذكر جيء به إلزاماً لهم غِبَّ إلزامٍ وإفحاماً إثرَ إفحام وفصلُه عما قبله لما ذُكر من الدلالة على استقلاله { مَّن يَهْدِى إِلَى الحق } أي بوجه من الوجوه فإن أدنى مراتبِ المعبودية هدايةُ المعبودِ لعبَدته إلى ما فيه صلاحُ أمرِهم وأما تعيينُ طريقِ الهدايةِ وتخصيصُه بنصب الحجج وإرسالِ الرسلِ والتوفيقِ للنظر والتدبر كما قيل فمُخِلٌّ بما يقتضيه المقام من كمال التبكيتِ والإلزامِ فإن العجزَ عن الهداية على وجه خاصَ لا يستلزم العجزَ عن مطلق الهدايةِ . وهدى كما يُستعمل بكلمة إلى لتضمّنه معنى الانتهاءِ يُستعمل باللام للدلالة على أن المنتهى غايةُ الهداية وأنها لم تتوجه نحوه على سبيل الاتفاق ولذلك استُعمل بها ما أسند إلى الله تعالى حيث قيل : { قُلِ الله يَهْدِى لِلْحَقّ } أي هو يهدي له دون غيره وذلك بما ذكر من نصب الأدلةِ والحججِ وإرسالِ الرسل وإنزال الكتبِ والتوفيقِ للنظر والتدبر وغيرِ ذلك من فنون الهداياتِ ، والكلامُ في الأمر بالسؤال والجوابِ كما مر فيما مر { أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الحق } وهو الله عز وجل { أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّى } بكسر الهاء أصله يهتدي فأُدغم وكُسرت الهاء لالتقاء الساكنين وقرىء بكسر الياء إتباعاً لها لحركة الهاء وقرىء بفتح الهاء نقلاً لحركة التاء إليها أي لا يهتدي بنفسه فضلاً عن هداية غيرِه ، وفيه من المبالغة ما لا يخفى وإنما نُفي عنه الاهتداءُ مع أن المفهومَ مما سبق نفيُ الهدايةِ لما أن نفيَها مستتبعٌ لنفيه غالباً فإن من اهتدى إلى الحق لا يخلو عن هداية غيرِه في الجملة وأدناها كونُه قدوةً له بأن يراه فيسلُكَ مسلَكَه من حيث لا يدري ، والفاءُ لترتيب الاستفهامِ على ما سبق من تحقق هدايتِه تعالى صريحاً وعدمِ هدايةِ شركائِهم المفهومِ من القصر ومن عدم الجوابِ المنبىء عن الجواب بالعدم فإن ذلك مما يَضطرهم إلى الجواب الحقِّ لا لتوجُّبِه الاستفهامَ إلى الترتيب كما يقع في بعض المواقعِ فإن ذلك مختصٌّ بالإنكاري كما في قوله تعالى : { أَفَمَنِ اتبع رضوان الله } الخ ونحوه ، والهمزةُ متأخرةٌ في الاعتبار وإنما تقديمُها في الذكر لإظهار عراقتِها في اقتضاء الصدارةِ كما هو رأيُ الجمهورِ حتى لو كان السؤالُ بكلمة أي لأخِّرت حتماً ، ألا يُرى إلى قوله تعالى : { فَأَىُّ الفريقين أَحَقُّ بالامن } إثرَ تقديرِ ما يُلجىء المشركين إلى الجواب من حالهم وحالِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرىء لا يهدي بمعنى لا يهتدي لمجيئه لازماً أو لا يهدي غيرَه ، وصيغةُ التفضيلِ إما على حقيقتها والمفضلُ عليه محذوف كما اختاره مكي والتقدير أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع ممن لا يهدي أم من لا يهدي أحق الخ .(3/264)
وإما بمعنى حقيقتي كما اختاره أبو حيان ، وأياً ما كان فالاستفهامُ للإلزام وأن يُتَّبعَ في حيز النصب ، أو الجرِّ بعد حذفِ الجارِّ على الخلاف المعروفِ أي بأن يتبع { إِلا أَنْ يَهْدِى } استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوالِ أي لا يهتدي أو لا يهتدي غيره في حال من الأحوال إلا حالَ هدايتِه تعالى له إلى الاهتداء أو إلى هداية الغير ، وهذا حالُ أشرافِ شركائِهم من الملائكة والمسيحِ وعزيرٍ عليهم السلام وقيل : المعنى أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقلُ إليه إلا أن يُنقل إليه أو إلا أن ينقُلَه الله تعالى من حاله إلى أن يجعله حيواناً مكلفاً فيهديَه . وقرىء إلا أن يهتدي من التفعيل للمبالغة { فَمَا لَكُمْ } أي أيُّ شيءٍ لكم في اتخاذكم هؤلاء شركاءَ لله سبحانه وتعالى والاستفهامُ للإنكار التوبيخيِّ وفيه تعجيبٌ من حالهم وقوله تعالى : { كَيْفَ تَحْكُمُونَ } أي بما يقضي صريحُ العقل ببطلانه إنكارٌ لحكمهم الباطلِ وتعجبٌ منه وتشنيعٌ لهم بذلك ، والفاءُ لترتيب كلا الإنكارين على ما ظهر من وجوب اتباعِ الهادي إلى الحق .
إن قلت : التبكيتُ بالاستفهام السابقِ إنما يظهر في حق من يعكسُ جوابَه الصحيحَ فيحكم بأحقية من لا يَهدي بالاتباع دون مَنْ يهدي ، وهم ليسوا حاكمين بأحقية شركائِهم لذلك دون الله سبحانه وتعالى بل باستحقاقهما جميعاً مع رجحان جانبه تعالى حيث يقولون : هؤلاء شفعاؤُنا عند الله قلتُ : حكمُهم باستحقاقه تعالى للاتباع بطريق الاشتراكِ حكمٌ منهم بعدم استحقاقِه تعالى لذلك بطريق الاستقلال فصاروا حاكمين باستحقاق شركائِهم له دون الله تعالى من حيث لا يحتسبون .(3/265)
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
{ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ } كلامٌ مبتدأٌ غيرُ داخلٍ في حيز الأمرِ مَسوقٌ من قِبله تعالى لبيان عدمِ فهمِهم لمضمون ما أفحمهم وألقمهم الحجرَ من البرهان النيّر الموجبِ لاتباع الهادي إلى الحق الناعي عليهم بطلانَ حكمِهم وعدمَ تأثرِهم من ذلك لعدم اهتدائِهم إلى طريق العلم أصلاً أي ما يتبع أكثرهم في معتقداتهم ومحارواتِهم { إِلاَّ ظَنّا } واهياً من غير التفاتٍ إلى فرد من أفراد العِلم فضلاً عن أن يسلُكوا مسالكَ الأدلةِ الصحيحةِ الهادية إلى الحق المبنيةِ على المقدمات اليقينية الحقةِ فيفهموا مضمونَها ويقفوا على صحتها وبُطلانِ ما يخالفها من أحكامهم الباطلةِ فيحصُل التبكيتُ والإلزامُ فالمراد بالاتباع مطلقُ الاعتقادِ الشامل لما يقارن القَبولَ والانقيادَ وما لا يقارنه ، وبالقصر ما أشير إليه من أن لا يكونَ لهم في أثنائه اتباعٌ لفرد من أفراد العلمِ والتفاتٌ إليه ، ووجهُ تخصيصِ هذا الاتباعِ بأكثرهم الإشعارُ بأن بعضَهم قد يتبعون العلم فيقفون على حقية التوحيدِ وبطلانِ الشركِ لا يقبلونه مكابرةً وعناداً فيحصل بالنسبة إليهم التأثرُ من البرهان المزبورِ وإن لم يُظهروه وكونُهم أشدَّ كفراً وأكثرَ عذاباً من الفريق الأولِ لا يقدح فيما يُفهم من فحوى الكلامِ عُرفاً من كون أولئك أسوأَ حالاً من غيرهم ، إذ المعتبرُ سوءُ الحالِ من حيث الفهمُ والإدراكُ لا من حيث الكفرُ والعذابُ ، أو ما يتبع أكثرُهم مدةَ عمرِهم إلا ظناً ولا يتركونه أبداً ، فإن حرفَ النفي الداخلِ على المضارع يُفيد استمرارَ النفي بحسب المقامِ فالمرادُ بالاتباع حينئذٍ هو الإذعانُ والانقيادُ والقصرُ باعتبار الزمان ، ووجهُ تخصيصِ هذا الاتباعِ بأكثرهم مع مشاركة المعاندين لهم في ذلك التلويحُ بما سيكون من بعضهم من اتباع الحقِّ والتوبةِ كما سيأتي هذا وقد قيل : المعنى وما يتبع أكثرُهم في إقرارهم بالله تعالى إلا ظناً غيرَ مستندٍ إلى برهان عندهم وقيل : وما يتبع أكثرُهم في قولهم للأصنام : إنها آلهةٌ إلا ظناً ، والمرادُ بالأكثر الجميعُ فتأمل . وقيل : الضميرُ في أكثرهم للناس فلا حاجةَ إلى التكلف { إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق } من العلم اليقينيِّ والاعتقادِ الصحيحِ المطابقِ للواقع { شَيْئاً } من الإغناء ، ويجوز أن يكون مفعولاً به ، ومن الحق حالاً فيه والجملةُ استئنافٌ ببيان شأنِ الظنِّ وبُطلانِه ، وفيه دِلالةٌ على وجوب العلمِ في الأصول وعدمِ جوازِ الاكتفاءِ بالتقليد { إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } وعيدٌ لهم على أفعالهم القبيحةِ فيندرج تحتها ما حُكي عنهم من الإعراض عن البراهين القاطعةِ والاتباعِ للظنون الفاسدةِ اندراجاً أولياً ، وقرىء تفعلون بالالتفات إلى الخطاب لتشديد الوعيد .(3/266)
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)
{ وَمَا كَانَ هذا القرءان } شروعٌ في بيان ردِّهم للقرآن الكريم إثرَ بيانِ ردهم للأدلة العقليةِ المندرجةِ في تضاعيفه ، أي وما صح وما استقام أن يكون هذا القرآنُ المشحونُ بفنون الهداياتِ المستوجبةِ للاتّباع التي من جملتها هاتيك الحججُ البينةُ الناطقةُ بحقية التوحيدِ وبطلان الشرك { أَنٍ يُفْتَرَى مِن دُونِ الله } أي افتراءً من الخلق أي مفترىً منهم سُمّي بالمصدر مبالغة { ولكن تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ } من الكتب الإلهية المشهودِ على صدقها أي مصدّقاً لها كيف لا وهو لكونه معجزاً دونها عيارٌ عليها شاهدٌ بصحتها ، ونصبُه بأنه خبرُ كان مقدراً وقد جوّز كونُه علةً لفعل محذوفٍ تقديرُه لكن أنزله الله تصديقَ الخ وقرىء بالرفع على تقدير المبتدإ أي ولكن هو تصديقُ الخ { وَتَفْصِيلَ الكتاب } عطفٌ عليه نصباً ورفعاً أي وتفصيلَ ما كُتب وأثبت من الحقائق والشرائع { لاَ رَيْبَ فِيهِ } خبرٌ ثالثٌ داخلٌ في حكم الاستدراكِ أي منتفياً عنه الريبُ أو حالٌ من الكتاب وإن كان مضافاً إليه فإنه مفعولٌ في المعنى أو استئنافٌ لا محلَّ له من الإعراب { مِن رَّبّ العالمين } خبرٌ آخرُ أي كائناً من رب العالمين ، أو متعلقٌ بتصديق أو بتفصيل أو بالفعل المعللِ بهما ، و ( لا ريب فيه ) اعتراضٌ كما في قولك : زيد لا شك فيه كريمٌ أو حالٌ من الكتاب أو من الضمير في فيه ، ومساقُ الآية الكريمةِ بعد المنعِ عن اتباع الظنِّ لبيان ما يجب اتباعُه .(3/267)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
{ أَمْ يَقُولُونَ افتراه } أي بل أيقولون افتراه محمد عليه الصلاة والسلام والهمزةُ لإنكار الواقِع واستبعادِه { قُلْ } تبكيتاً لهم وإظهاراً لبطلان مقالتِهم الفاسدةِ إن كان الأمر كما تقولون { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ } أي في البلاغة وحسنِ الصياغةِ وقوةِ المعنى على وجه الافتراءِ فإنكم مثلي في العربية والفصاحةِ وأشدُّ تمرناً مني في النظم والعبارة ، وقرىء بسورةِ مثلِه على الإضافة أي بسورة كتابٍ مثلِه { وادعوا } للمظاهرة والمعاونة { مَنِ استطعتم } دعاءَه والاستعانةَ به من آلهتكم التي تزعُمون بأنها مُمِدةٌ لكم في المُهمات والمُلماتِ ، ومدارِهِكم الذين تلجأون إلى آرائهم في كل ما تأتون وما تذرون { مِن دُونِ الله } متعلقٌ بادعوا ، ودون جارٍ مجرى أداةِ الاستثناءِ وقد مر تفصيله في قوله تعالى : { وادعوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ الله } أي ادعُوا سواه تعالى من استطعتم من خلقه فإنه لا يقدِر عليه أحدٌ وأخرجه سبحانه من حكم الدعاءِ للتنصيص على براءتهم منه تعالى وكونِهم في عُدوة المضادة والمُشاقّة لا لبيان استبدادِه تعالى بالقدرة على ما كُلّفوه فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دعَوْه تعالى لأجابهم إليه { إِن كُنتُمْ صادقين } أي في أني افتريته فإن ذلك مستلزمٌ لإمكان الاتيانِ بمثله وهو أيضاً مستلزِمٌ لقدرتكم عليه ، والجوابُ محذوفٌ لدلالة المذكور عليه .
{ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } إضرابٌ وانتقالٌ عن إظهار بطلانِ ما قالوا في حق القرآن العظيم بالتحدِّي إلى إظهاره ببيانِ أنه كلامٌ ناشيءٌ عن جهلهم بشأنه الجليلِ ( فما ) عبارةٌ عن كله لا عما فيه من ذكر البعث والجزاءِ وما يخالف دينَهم كما قيل ، فإنه مما يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عن مثله أي سارعوا إلى تكذيبه آثرَ ذي أثيرٍ من غير أن يتدبروا فيه ويقِفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الدالةِ على كونه كما وُصف آنفاً ويعلموا أنه ليس مما يمكن أن يكون له نظيرٌ يقدر عليه المخلوقُ ، والتعبيرُ عنه بما لم يحيطوا بعلمه دون أن يقال : بل كذبوا به من غير أن يحيطوا بعلمه أو نحو ذلك للإيذان بكمال جهلِهم به وأنهم لم يعلموه إلا بعنوان عدمِ العلمِ به وبأن تكذيبَهم به إنما هو بسبب عدم علمِهم به لما أن إدارةَ الحكم على الموصول مشعرةٌ بعلية ما في حيز الصلةِ له { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } عطف على الصلة أو حالٌ من الموصول أي ولم يقِفوا بعدُ على تأويله ولم يبلُغ أذهانَهم معانيه الرائقةُ المنبئةُ عن علو شأنِه ، والتعبيرُ عن ذلك بإتيان التأويل للإشعار بأن تأويلَه متوجّهٌ إلى الأذهان منساقٌ إليها بنفسه أو لم يأتِهم بعدُ تأويلُ ما فيه من الإخبار بالغيوب حتى يتبين أنه صدقٌ أم كذبٌ . والمعنى أن القرآنَ معجزٌ من جهة النظمِ والمعنى ومن جهة الإخبار بالغيب ، وهم قد فاجأوا تكذيبَه قبل أن يتدبروا نظمَه ويتفكروا في معناه أو ينتظروا وقوعَ ما أخبر به من الأمور المستقبلةِ ، ونفيُ إتيان التأويل بكلمة لمّا الدالةِ على التوقع بعد نفي الإحاطةِ بعلمه بكلمة لم لتأكيد الذمِّ وتشديد التشنيعِ فإن الشناعةَ في تكذيب الشيء قبل علمِه المتوقّعِ إتيانُه أفحشُ منها في تكذيبه قبل علمِه مطلقاً ، والمعنى أنه كان يجب عليهم أن يتوقفوا إلى زمان وقوعِ المتوقَّعِ فلم يفعلوا ، وأما أن المتوقعَ قد وقع بعدُ وأنهم استمرّوا عند ذلك أيضاً على ما هم عليه أو لا فلا تعرّضَ له هاهنا والاستشهادُ عليه بعدم انقطاعِ الذمِّ أو ادعاءُ أن قولَهم افتراه تكذيبٌ بعد التدبر ناشىءٌ من عدم التدبر فتدبر ، كيف لا وهم لم يقولوه بعد التحدي بل قبل وادعاءُ كونِه مسبوقاً بالتحدي الواردِ في سورة البقرة يردّه أنها مدنية وهذه مكيةٌ وإنما الذي يدل عليه ما سيتلى عليك من قوله تعالى : { وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ } الخ ، وقوله تعالى : { كذلك } الخ ، وصفٌ لحالهم المحكيِّ وبيانٌ لما يؤدّي إليه من العقوبة أي مثلَ ذلك التكذيبِ المبنيِّ على بادي الرأي والمجازفةِ من غير تدبرٍ وتأمل { كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي فعلوا التكذيبَ أو كذبوا ما كذبوا من المعجزات التي ظهرت على أيدي أنبيائِهم أو كذبوا أنبياءَهم { فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين } وهم الذين من قبلهم من المكذبين ، وإنما وضع المُظهرُ موضعَ المضمر للإيذان بكون التكذيبِ ظلماً أو بعليته لإصابة ما أصابهم من سوء العاقبةِ وبدخول هؤلاء الظالمين في زُمرتهم جزماً ووعيداً دخولاً أولياً .(3/268)
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
وقوله عز وجل : { وَمِنْهُمُ } الخ ، وصفٌ لحالهم بعد إتيانِ التأويل المتوقع ، إذ حينئذٍ يمكن تنويعُهم إلى المؤمِن به وغير المؤمن ضرورةَ امتناعِ الإيمان بشيء من غير علمٍ به واشتراكِ الكلِّ في التكذيب والكفرِ به قبل ذلك حسبما أفاده قولُه تعالى : { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } أي ومن هؤلاء المكذبين { مَن يُؤْمِنُ بِهِ } عند الإحاطةِ بعلمه وإتيانِ تأويله وظهورِ حقّيتِه بعد ما سعَوا في المعارضة ورازُوا قواهم فيها فتضاءلت دونها أو بعد ما شاهدوا وقوعَ ما أَخبر به كما أَخبر به مراراً ، ومعنى الإيمانِ به إما الاعتقادُ بحقيته فقط أي يصدّق به في نفسه ويعلم أنه حقٌّ ولكنه يعاند ويكابر وهؤلاءِ هم الذين أُشير بقصْر اتباعِ الظنِّ على أكثرهم إلى أنهم يعلمون الحقَّ على التفسير الأول كما أشير إليه فيما سلف ، وإما الإيمانُ الحقيقيُّ أي سيؤمن به ويتوب عن الكفر وهم الذي أشير بالقصْر المذكورِ على التفسير الثاني إلى أنهم سيتبعون الحقَّ كما مر { وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ } أي لا يصدق به في نفسه كما لا يصدّق به ظاهراً لفرْط غباوتِه المانعةِ عن الإحاطة بعلمه كما ينبغي وإن كان فوق مرتبةِ عدمِ الإحاطةِ به أصلاً أو لسخافة عقلِه واختلالِ تمييزِه وعجزِه عن تخليص علومِه من مخالطة الظنونِ والأوهام التي ألِفَها فيبقى على ما كان عليه من الشك ، وهذا القدرُ من الإحاطة وإتيانِ التأويلِ كافٍ في مقابلة ما سبق من عدم الإحاطةِ بالمرة ، وهؤلاء هم الذين أريدوا فيما سلف بقوله عز وجل : { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا } على التفسير الأول ، أو لا يؤمِن به فيما سيأتي بل يموت على كفره معانداً كان أو شاركاً ، وهم المستمرّون على اتباع الظن على التفسير الثاني من غير إذعانٍ للحق وانقيادٍ له { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين } أي بكلا الفريقين على الوجه الأول لا بالمعاندين فقط كما قيل ، لاشتراكهما في أصل الإفسادِ المستدعي لاشتراكهما في الوعيد ، أو بالمُصرّين الباقين على الكفر على الوجه الثاني من المعاندين والشاكين .(3/269)
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)
{ وَإِن كَذَّبُوكَ } أي إن استمروا على تكذيبك وأصروا عليه حسبما أُخبر عنهم بعد إلزامِ الحجةِ بالتحدي { فَقُل لّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ } أي تبرأ منهم فقد أعذرتَ كقوله تعالى : { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِىء } والمعنى لي جزاءُ عملي ولكم جزاءُ عملِكم حقاً كان أو باطلاً ، وتوحيدُ العمل المضافِ إليهم باعتبار الاتحادِ النوعيِّ ولمراعاة كمالِ المقابلة { أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ } تأكيدٌ لما أفادته لامُ الاختصاص من عدم تعدّي جزاءِ العمل إلى غير عاملِه أي لا تؤاخَذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم ، ولما فيه من إيهام المتاركةِ وعدم التعرضِ لهم قيل : إنه منسوخٌ بآية السيف .
{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } بيانٌ لكونهم مطبوعاً على قلوبهم بحيث لا سبيل إلى إيمانهم ، وإنما جمع الضميرُ الراجعُ إلى كلمة مَنْ رعايةً لجانب المعنى كما أفرد فيما سيأتي محافظةً على ظاهر اللفظِ ، ولعل ذلك للإيماء إلى كثرة المستمعين بناءً على عدم توقفِ الاستماع على ما يتوقف عليه النظرُ من المقابلة وانتفاءِ الحجاب والظُلمة ، أي ومنهم ناسٌ يستمعون إليك عند قراءتِك القرآنَ وتعليمِك الشرائعَ { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم } همزةُ الاستفهامِ إنكاريةٌ والفاءُ عاطفةٌ وليس الجمعُ بينهما لترتيب إنكارِ الإسماعِ كما هو رأيُ سيبوبهِ والجمهور على أن يجعل تقديمُ الهمزة على الفاء لاقتضائها الصدارةَ كما تقرر في موضعه بل لإنكار ترتُّبِه عليه حسبما هو المعتادُ لكن لا بطريق العطفِ على الفعل المذكورِ لأدائه إلى اختلال المعنى ، لأنه إما صلةٌ أو صفةٌ وأياً ما كان فالعطفُ عليه يستدعي دخولَ المعطوفِ في حيزه وتوجّهَ الإنكارِ إليه من تلك الحيثية ولا ريب في فسادة ، بل بطريق العطفِ على مقدر مفهومٍ من فحوى النظمِ ، كأنه قيل : أيستمعون إليك فأنت تسمعهم لا إنكاراً لاستماعهم فإنه أمر محقق بل إنكاراً لوقوع الاستماعِ عقيبَ ذلك وترتبِه عليه حسب العادةِ الكليةِ بل نفياً لإمكانه أيضاً كما ينبىء عنه وضع الصمِّ موضعَ ضميرِهم ووصفِهم بعدم العقلِ بقوله تعالى : { وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ } أي ولو انضم إلى صممهم عدمُ عقولِهم لأن الأصمَّ العاقلَ ربما تفرس إذا وصل إلى صِماخه صوتٌ وأما إذا اجتمع فقدانُ السمع فقد تم الأمر { وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ } ويعاين دلائلَ نبوّتك الواضحة { أَفَأَنتَ } أي أعقيبَ ذلك أنت تهديهم وإنما قيل : { تَهْدِى العمى } تربيةً لإنكار هدايتِهم وإبرازاً لوقوعها في معرض الاستحالةِ وقد أكد ذلك حيث قيل : { وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ } أي ولو انضم إلى عدم البصَر عدمُ البصيرة فإن المقصودَ من الإبصارِ الاعتبارُ والاستبصارُ ، والعمدةُ في ذلك هي البصيرةُ ولذلك يحدس الأعمى المستبصرُ ويتفطن لما لا يدركه البصيرُ الأحمقُ فحيث اجتمع فيهم الحمَقُ والعمى فقد انسد عليهم بابُ الهدى ، وجوابُ لو في الجملتين محذوف لدلالة قوله تعالى : { تُسْمِعُ الصم } و { تَهْدِى العمى } عليه وكلٌّ منهما معطوفةٌ على جملة مقدرةٍ مقابلةٍ لها في الفحوى كلتاهما في موضع الحال من مفعول الفعلِ السابق ، أي أفأنت تسمع الصم لو كانوا يعقلون ولو كانوا لا يعقلون ، أفأنت تهدي العميَ لو كانوا يبصرون ولو كانوا لا يبصرون ، أي على كل حال مفروضٍ ، وقد حذفت الأولى في الباب حذفاً مطرداً لدِلالة الثانية عليها دِلالةً واضحةً فإن الشيءَ إذا تحقق عند تحققِ المانعِ أو المانع القويِّ فلأَنْ يتحققَ عند عدمِه أو عند تحققِ المانعِ الضعيفِ أولى ، وعلى هذه النُكتةِ يدور ما في لو وأن الوصلتين من التأكيد وقد مر الكلام في قوله تعالى : { وَلَوْ كَرِهَ } ونظائرِه مراراً .(3/270)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
{ إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس } إشارةٌ إلى أن ما حكيَ عنهم من عدم اهتدائِهم إلى طريق الحقِّ وتعطّلِ مشاعرِهم من الإدراك ليس لأمر مستندٍ إلى الله عز وجل من خلقهم مؤفي المشاعرِ ونحو ذلك بل إنما هو من قِبلهم أي لا ينقُصهم { شَيْئاً } مما نيط به مصالحُهم الدينيةُ والدنيويةُ وكمالاتُهم الأولويةُ والأُخْروية من مبادىء إدراكِهم وأسبابِ علومِهم من المشاعر الظاهرةِ والباطنةِ والإرشادِ إلى الحق بإرسال الرسلِ وإنزالِ الكتب بل يوفيهم ذلك من غير إخلالٍ بشيء أصلاً { ولكن الناس } وقرىء بالتخفيف ورفعِ الناس ، وضع الظاهرُ موضَع الضمير لزيادة تعيينٍ وتقريرٍ ، أي لكنهم بعدم استعمالِ مشاعِرهم فيما خُلقت له وإعراضِهم عن قبول دعوةِ الحق وتكذيبِهم للرسل والكتب { أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي ينقُصون ما ينقصون مما يُخِلّون به من مبادىء كمالِهم وذرائعِ اهتدائِهم ، وإنما لم يُذكر لما أن مرمى الغرضِ إنما هو قصرُ الظلمِ على أنفسهم لا بيانُ ما يتعلق به الظلمُ ، والتعبيرُ عن فعلهم بالنقص مع كونِه تفويتاً بالكلية وإبطالاً بالمرة لمراعاة جانبِ قرينتِه ، قولُه عز وجل : { أَنفُسِهِمْ } إما تأكيدٌ للناس فيكونُ بمنزلة ضمير الفصلِ في قوله تعالى : { وَمَا ظلمناهم ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين } في قصر الظالمية عليهم وإما مفعولٌ ليظلمون حسبما وقع سائر المواقع ، وتقديمُه عليه لمجرد الاهتمامِ به مع مراعاة الفاصلةِ من غير قصدٍ إلى قصر المظلوميةِ عليهم على رأي من لا يرى التقديمَ موجباً للقصر فيكون كما في قوله تعالى : { وَمَا ظلمناهم ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } من غير قصر للظلم لا على الفاعل ولا على المفعول ، وأما على رأي من يراه موجباً له فلعل إيثارَ قصرِها دون قصرِ الظالمية عليهم للمبالغة في بيان بطلان أفعالِهم وسخافةِ عقولِهم لما أن أقبحَ الأمرين عند اتحادِ الفاعلِ والمفعولِ وأشدَّهما إنكاراً عند العقل ونفرةً لدى الطبع وأوجبَهما حذراً منه عند كل أحدٍ هو المظلوميةُ لا الظالمية ، على أن قصرَ الأولى عليهم مستلزِمٌ لما يقتضيه ظاهرُ الحالِ من قصر الثانية عليهم ضرورةَ أنه إذا لم يظِلمْ أحدٌ من الناس إلا نفسَه يلزم أن لا يظلِمَه إلا نفسُه ، إذ لو ظلمه غيرُه يلزم كونُ ذلك الغيرِ ظالماً لغير نفسِه ، والمفروضُ أن لا يظلم أحدٌ إلا نفسَه فاكتُفي بالقصر الأولِ عن الثاني مع رعاية ما ذكر من الفائدة ، وصيغةُ المضارع للاستمرار نفياً وإثباتاً ، فإن حرفَ النفي إذا دخل على المضارع يفيد بحسب المقامِ استمرارَ النفي لا نفيَ الاستمرارِ ، ألا يرى أن قولكَ : ما زيدا ضربتُ يدل على اختصاص النفي لا على نفي الاختصاص ، ومساقُ الآيةِ الكريمةِ لإلزام الحجةِ ويجوز أن يكون للوعيد فالمضارعُ المنفيُّ للاستقبال والمُثبتُ للاستمرار ، والمعنى أن الله لا يظلِمُهم بتعذيبهم يومَ القيامة شيئاً من الظلم ولكنهم أنفسَهم يظلِمون ظلماً مستمراً ، فإن مباشرتَهم المستمرةَ للسيئات الموجبةِ للتعذيب عينُ ظلمِهم لأنفسهم ، وعلى الوجهين فالآيةُ الكريمة تذييلٌ لما سبق .(3/271)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } منصوبٌ بمضمر وقرىء بالنون على الالتفات أي اذكر لهم أو أنذِرْهم يوم يحشرهم { كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ } أي كأنهم لم يلبثوا { إِلاَّ سَاعَةً مّنَ النهار } أي شيئاً قليلاً منه فإنها مثَلٌ في غاية القِلة ، وتخصيصُها بالنهار لأن ساعاتِه أعرفُ حالاً من ساعاتِ الليلِ ، والجملةُ في موقع الحال من ضمير المفعولِ أي يحشرهم مشبَّهين في أحوالهم الظاهرةِ للناس بمَنْ لم يلبَثْ في الدنيا ولم يتقلب في نعيمها إلا ذلك القدرَ اليسيرَ فإن مَنْ أقام بها دهراً وتمتع بمتاعها لا يخلو عن بعض آثارِ نعمةٍ وأحكامِ بهجةٍ منافيةٍ لما بهم من رثاثة الهيئةِ وسوء الحالِ ، أو بمن لم يلبَث في البرزخ إلا ذلك المقدارَ ففائدة التقييدِ بيانُ كمالِ يُسرِ الحشرِ بالنسبة إلى قدرته تعالى ولو بعد دهرٍ طويلٍ وإظهارِ بطلانِ استبعادِهم وانكارِهم بقولهم : أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون؟ ونحوِ ذلك ، أو بيانُ تمامِ الموافقةِ بين النشأتين في الأشكال والصورِ فإن قلةَ اللُّبثِ في البرزخ من موجبات عدمِ التبدلِ والتغيرِ فيكون قوله عز وعلا : { يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } بياناً وتقريراً له لأن التعارفَ مع طول العهدِ ينقلب تناكراً ، وعلى الأول يكون استئنافاً أي يعرِف بعضُهم بعضاً كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلاً ، وذلك أولَ ما خرجوا من القبور ، إذ هم حينئذٍ على ما كانوا عليه من الهيئة المتعارَفةِ فيما بينهم ثم ينقطع التعارفُ بشدة الأهوالِ المذهلة واعتراءِ الأحوالِ المُعضلة المغيِّرةِ للصور والأشكالِ المبدّلة لها من حال إلى حال { قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله } شهادةٌ من الله سبحانه وتعالى على خُسرانهم وتعجبٌ منه ، وقيل : حالٌ من ضمير يتعارفون على إرادة القولِ ، والتعبيرُ عنهم بالموصول مع كون المقامِ مقامَ إضمارٍ لذمهم بما في حيز الصلةِ ، والإشعارُ بعليته لما أصابهم ، والمرادُ بلقاء الله إن كان مطلقَ الحسابِ والجزاءِ أو حسنَ اللقاءِ فالمراد بالخسران الوضيعةُ ، والمعنى وضَعوا في تجاراتهم ومعاملاتهم واشترائِهم الكفرَ بالإيمان والضلالةَ بالهدى ومعنى قوله تعالى : { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } ما كانوا عارفين بأحوال التجارةِ مهتدين لطرقها وإن كان سوءَ اللقاءِ فالخَسارُ الهلاك والضلالُ أي قد ضلوا وهلكوا بتكذيبهم وما كانوا مهتدين إلى طريق النجاة .
{ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ } أصله إن نُرِكَ وما مزيدةٌ لتأكيد معنى الشرطِ ومِنْ ثَمةَ أُكد الفعلُ بالنون أي بنُصرتك بأن نُظهرَ لك { بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ } أي وعدناهم من العذاب ونعجِّلَه في حياتك فتراه ، والعدولُ إلى صيغة الاستقبالِ لاستحضار الصورةِ أو للدلالة على التجدد والاستمرارِ أي نعِدُهم وعداً متجدداً حسبما تقتضيه الحكمةُ من إنذارٍ غِبَّ إنذار ، وفي تخصيص البعضِ بالذكر رمزٌ إلى العِدَة بإراءةِ بعضِ الموعودِ ، وقد أراه يومَ بدر { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } قبل ذلك { فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } أي كيفما دارت الحالُ أريناك بعضَ ما وعدناهم أو لا فإلينا مرجعُهم في الدنيا والآخرةِ فننجزُ ما وعدناهم البتةَ ، وقيل : المذكورُ جوابٌ للشرط الثاني كأنه قيل : فإلينا مرجعُهم فنريكَه في الآخرة وجوابُ الأول محذوفٌ لظهوره أي فذاك { ثُمَّ الله شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ } من الأفعال السيئةِ التي حُكيت عنهم ، والمرادُ بالشهادة إما مقتضاها ونتيجتُها وهي معاقبتُه تعالى إياهم وإما إقامتُها وأداؤُها بإنطاق الجوارحِ ، وإظهارُ اسمِ الجلالةِ لإدخال الروعةِ وتربيةِ المهابةِ وتأكيدِ التهديد ، وقرىء ثَمّةَ أي هناك .(3/272)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
{ وَلِكُلّ أُمَّةٍ } من الأمم الخالية { رَّسُولٌ } يُبعث إليهم بشريعة خاصةٍ مناسبة لأحوالهم ليدعُوَهم إلى الحق { فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ } فبلغهم ما أُرسل به فكذبوه وخالفوه { قُضِىَ بَيْنَهُمْ } أي بين كلِّ أمةٍ ورسولِها { بالقسط } بالعدل وحُكم بنجاة الرسول والمؤمنين به وإهلاك المكذِبين كقوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } في ذلك القضاءِ المستوجِب لتعذبهم لأنه من نتائج أعمالِهم أو ولكل أمةٍ من الأمم يوم القيامةِ رسولٌ تُنسَبُ إليه وتدعى به فإذا جاء رسولُهم الموقفَ ليشهدَ عليهم بالكفر والإيمان كقوله عز وجل : { وَجِىء بالنبيين والشهداء وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ }
{ وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد } استعجالاً لما وُعدوا من العذاب على طريقة الاستهزاءِ به والإنكارِ حسبما يرشد إليه الجوابُ لا طلباً لتعيين وقتِ مجيئِه على وجه الإلزام كما في سورة الملك { إِن كُنتُمْ صادقين } أي في أنه يأتينا والخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يتلون عليهم الآياتِ المتضمنةَ للوعد المذكورِ ، وجوابُ الشرط محذوفٌ اعتماداً على ما تقدم حسبما حُذف في مثل قوله تعالى : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } فإن الاستعجالَ في قوة الأمرِ بالإتيان عجلةً كأنه قيل : فليأتنا عجَلةً إن كنتم صادقين ، ولِما فيه من الإشعار بكون إتيانِه بواسطة النبيِّ صلى الله عليه وسلم قيل : { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا وَلاَ نَفْعًا } أي لا أقدِر على شيء منهما بوجه من الوجوه ، وتقديمُ الضر لِما أن مساقَ النظمِ لإظهار العجزِ عنه ، وأما ذكرُ النفعِ فلتوسيع الدائرةِ تكملةً للعجز ، وما وقع في سورة الأعرافِ من تقديم النفعِ للإشعار بأهميته والمقامُ مقامُه ، والمعنى إني لا أملك شيئاً من شؤوني رداً وإيراداً مع أن ذلك أقربُ حصولاً فكيف أملك شؤونَكم حتى أتسبّبَ في إتيان عذابِكم الموعودِ { إِلاَّ مَا شَاء الله } استثناءٌ منقطعٌ أي ولكن ما شاء الله كائناً وحملُه على الاتصال على معنى إلا ما شاء الله أن املِكَه يأباه مقامُ التبُّرؤ من أن يكون له عليه السلام دخلٌ في إتيان الوعدِ فإن ذلك يستدعي بيانَ كونِ المتنازَعِ فيه مما لا يشاء الله أن يملِكه عليه السلام ، وجعلُ ( ما ) عبارةً عن بعض الأحوالِ المعهودةِ المنوطةِ بالأفعال الاختياريةِ المفوضة إلى العباد على أن يكون المعنى لا أملك لنفسي شيئاً من الضر والنفعِ إلا ما شاء الله أن أملِكه منهما من الضر والنفعِ المترتبَيْن على الأكل والشربِ عدماً ووجوداً تعسّفٌ ظاهرٌ ، وقوله تعالى : { لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } بيانٌ لما أُبهم في الاستثناء وتقييدٌ لما في القضاء السابقِ من الإطلاق المُشعِر بكون المقضيِّ به أمراً مُنجزاً غيرَ متوقَّفٍ على شيء غيرِ مجيءِ الرسولِ وتكذيبِ الأمة أي لكل أمةٍ أمة ممن قُضي بينهم وبين رسولِهم أجلٌ معينٌ خاصٌّ بهم لا يتعدى إلى أمة أخرى مضروبٍ لعذابهم يحِلّ بهم عند حلولِه { إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ } إن جُعل الأجلُ عبارةً عن حد معينٍ من الزمان فمعنى مجيئِه ظاهرٌ ، وإن أريد به ما امتدّ إليه من الزمان فمجيئُه عبارةٌ عن انقضائِه إذ هناك يتحقق مجيئُه بتمامه ، والضميرُ إن جُعل للأمم المدلولِ عليها بكل أمةٍ فإظهارُ الأجلِ مضافاً إليه لإفادة المعنى المقصودِ الذي هو بلوغُ كل أمةٍ أجلَها الخاصِّ بها ، ومجيئُه إياها بعينها من بين الأممِ بواسطة اكتسابِ الأجل بالإضافة عموماً يفيده معنى الجمعيةِ كأنه قيل : إذا جاءهم آجالُهم بأن يجيءَ كلَّ واحدةٍ من تلك الأممِ أجلُها الخاصُّ بها ، وإن جُعل لكل أمةٍ خاصةً كما هو الظاهرُ فالإظهارُ في موقع الإضمارِ لزيادة التقريرِ ، والإضافةُ إلى الضمير لإفادة كمالِ التعيين أي إذا جاءها أجلُها الخاصُّ بها { فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ } عن ذلك الأجلِ { سَاعَةً } أي شيئاً قليلاً من الزمان فإنها مثَلٌ في غاية القلةِ منه أي لا يتأخرون عنه أصلاً ، وصيغةُ الاستفعال للإشعار بعجزهم عن ذلك مع طلبهم له { وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } أي لا يتقدمون عليه وهو عطفٌ على يستأخرون لكنْ لا لبيان انتفاءِ التقدم مع إمكانه في نفسه كالتأخر ، بل للمبالغة في انتفاءِ التأخرِ بنظمه في سلك المستحيلِ عقلاً كما في قوله سبحانه وتعالى :(3/273)
{ وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّى تُبْتُ الان وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } فإن من مات كافراً مع ظهور أن لا توبةَ له رأساً قد نُظم في عدم قَبولِ التوبةِ في سلك من سوّفها إلى حضور الموتِ إيذاناً بتساوي وجودِ التوبةِ حينئذٍ وعدِمها بالمرة ، كما مر في سورة الأعراف ، وقد جُوز أن يراد بمجيء الأجلِ دنوُّه بحيث يمكن التقدمُ في الجملة كمجيء اليومِ الذي ضُرب لهلاكهم ساعةٌ معينةٌ منه لكن ليس في تقييد عدمِ الاستئخار بدنوه مزيدُ فائدةٍ ، وتقديمُ بيان انتفاءِ الاستئخار على بيان انتفاءِ الاستقدامِ لأن المقصودَ الأهمَّ بيانُ عدمِ خلاصِهم من العذاب ولو ساعةً وذلك بالتأخر ، وأما ما في قوله تعالى : { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَخِرُونَ } من سبق السبْقِ في الذكر فلما أن المرادَ هناك بيانُ سرِّ تأخيرِ عذابِهم مع استحقاقهم له حسبما ينبيء عنه قوله عز وجل : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الامل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } فالأهمُّ إذ ذاك بيانُ انتفاءِ السبقِ كما ذكر هناك .(3/274)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)
{ قُلْ } لهم غِبَّ ما بيّنتَ كيفيةَ جريانِ سنةِ الله عز وجل فيما بين الأمم على الإطلاق ونبهتَهم على أن عذابَهم أمرٌ مقررٌ محتومٌ لا يتوقف إلا على مجيء أجله المعلومِ إيذاناً بكمال دنوِّه وتنزيلاً له منزلةَ إتيانِه حقيقة { أَرَءيْتُمْ } أي أخبروني { إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ } الذي تستعجلون به { بَيَاتًا } أي وقتَ بياتٍ واشتغالٍ بالنوم { أَوْ نَهَارًا } أي عند اشتغالِكم بمشاغلكم حسبما عُيِّن لكم من الأجل بمقتضى المشيئةٍ التابعةِ للحكمة كما عيّن لسائر الأممِ المهلَكة ، وقوله عز وجل : { مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون } جوابٌ للشرط بحذف الفاءِ كما في قولك : إن أتيتُك ماذا تطعمني؟ والمجرمون موضوعٌ موضعَ المضمر لتأكيد الإنكارِ ببيان مباينةِ حالِهم للاستعجال ، فإن حقَّ المجرمِ أن يَهلك فزَعاً من إتيان العذابِ فضلاً عن استعجاله ، والجملةُ الشرطيةُ متعلقةٌ بأرأيتم ، والمعنى أخبروني إن أتاكم عذابُه تعالى أيَّ شيءٍ تستعجلون منه سبحانه والشيءُ لا يمكن استعجالُه بعد إتيانِه ، والمرادُ به المبالغةُ في إنكار استعجالِه بإخراجه عن حيز الإمكانِ ، وتنزيلُه في الاستحالة منزلةَ استعجالِه بعد إتيانِه بناءً على تنزيل تقرر إتيانِه ودنوِّه منزلةَ إتيانه حقيقةً كما أشير إليه ، وهذا الإنكارُ بمنزلة النهي في قوله عز وعلا : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } خلا أن التنزيلَ هناك صريحٌ وهنا ضمنيٌّ كما في قول من قال لغريمه الذي يتقضّاه حقَّه : أرأيتَ إن أعطيتُك حقَّك فماذا تطلُب مني؟ يريد المبالغةَ في إنكار التقاضي بنظمه في سلك التقاضي بعد الإعطاءِ بناءً على تنزيل تقرّرِه منزلةَ نفسِه .(3/275)
أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
وقوله عز وجل : { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءامَنْتُمْ بِهِ } إنكارٌ لإيمانهم بنزول العذابِ بعد وقوعِه حقيقةً داخلٌ مع ما قبله من إنكار استعجالِهم به بعد إتيانِه حكماً تحت القولِ المأمورِ به أي أبعد ما وقع العذابُ وحل بكم حقيقةً آمنتم به حين لا ينفعُكم الإيمانُ إنكاراً لتأخيره إلى هذا الحد وإيذاناً باستتباعه للندم والحسرةِ ليُقلعوا عما هم عليه من العناد ويتوجهوا نحوَ التدارُك قبل فوتِ الوقتِ ، فتقديمُ الظرفِ للقصر ، وقيل : ماذا يستعجل منه متعلِّقٌ بأرأيتم ، وجوابُ الشرطِ محذوفً أي تندموا على الاستعجال أو تعرِفوا خطأه ، والشرطيةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمون الاستخبار ، وقيل : الجوابُ قوله تعالى : { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ } الخ ، والاستفهاميةُ الأولى اعتراضٌ والمعنى أخبروني إن أتاكم عذابُه آمنتم به بعد وقوعِه حين لا ينفعكم الإيمانُ ثم جيء بكلمة التراخي دِلالةً على الاستبعاد ، ثم زيد أداةُ الشرطِ دِلالةً على استقلاله بالاستبعاد وعلى أن الأولَ كالتمهيد له وجيء ( بإذا ) مؤكداً ( بما ) ترشيحاً لمعنى الوقوعِ وزيادةً للتجهيل وأنهم لم يؤمنوا إلا بعد أن لم ينفعْهم الإيمانُ البتةَ وقولُه تعالى :
{ الئان } استئنافٌ من جهته تعالى غيرُ داخل تحت القول الملقن مَسوقٌ لتقرير مضمونِ ما سبق على إرادة القولِ ، أي قيل لهم عند إيمانهم بعد وقوعِ العذاب : آلآن آمنتم به؟ إنكاراً للتأخير وتوبيخاً عليه ببيان أنه لم يكن ذلك لعدم سبق الإنذارِ به ولا للتأمل والتدبرِ في شأنه ولا لشيء آخرَ مما عسى يُعدّ عذراً في التأخير ، كان ذلك على طريق التكذيبِ والاستعجالِ به على وجه الاستهزاءِ ، وقرىء آلان بحذف الهمزةِ وإلقاء حركتِها على اللام وقوله تعالى : { وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } أي تكذيباً واستهزاءً ، جملةٌ وقعت حالاً من فاعل آمنتم المقدرِ لتشديد التوبيخِ والتقريعِ وزيادةِ التنديمِ والتحسيرِ ، وتقديمُ الجارِّ والمجرور على الفعل لمراعاة الفواصلِ دون القصرِ ، وقوله تعالى : { ثُمَّ قِيلَ } الخ ، تأكيدٌ للتوبيخ والعتابِ بوعيد العذابِ والعقابِ وهو عطفٌ على ما قدّر قبل آلآن { لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } إن وضعوا الكفرُ والتكذيبُ موضعَ الإيمان والتصديقِ ، أو ظلموا أنفسَهم بتعريضها للعذاب والهلاكِ ، ووضعُ الموصول موضع الضمير لذمهم بما في حيز الصلة والإشعارِ بعلّيته لإصابة ما أصابهم { ذُوقُواْ عَذَابَ الخلد } المؤلمَ على الدوام { هَلْ تُجْزَوْنَ } اليوم { إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } في الدنيا من أصناف الكفر والمعاصي التي من جملتها ما مرّ من الاستعجال .(3/276)
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)
{ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ } أي يستخبرونك فيقولون على طريقة الاستهزاءِ أو الإنكار : { أَحَقٌّ هُوَ } أحقٌّ خبرٌ قُدم على المبتدإ الذي هو الضميرُ للاهتمام به ويؤيده قوله تعالى : { إِنَّهُ لَحَقٌّ } أو مبتدأٌ والضميرُ مرتفعٌ به سادٌّ مسدَّ الخبر ، والجملةُ في موقع النصب بيستنبئونك ، وقرىء أألحقُّ هو ، تعريضاً بأنه باطلٌ كأنه قيل : أهو الحق لا الباطل؟ أو أهو الذي سميتموه الحقَّ؟ { قُلْ } لهم غيرَ ملتفتٍ إلى استهزائهم مغضياً عما قصدوا وبانياً للأمر على أساس الحكمة { إِى وَرَبّى } ( إي ) من حروف الإيجابِ بمعنى نعم في القسم خاصةً كما أن هل بمعنى قد في الاستفهام خاصةً ، ولذلك يوصل بواوه { إِنَّهُ } أي العذابُ الموعودُ { لَحَقُّ } لثابتٌ البتةَ ، أُكّد الجوابُ بأتم وجوهِ التأكيدِ حسب شدةِ إنكارِهم وقوتِه ، وقد زيد تقريراً وتحقيقاً بقوله عز اسمُه : { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } أي بفائتين العذابَ بالهرب وهو لاحقٌ بكم لا محالة وهو إما معطوفٌ على جواب القسم أو مستأنفٌ سيق لبيانِ عجزِهم عن الخلاص مع ما في من التقدير المذكور { وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ } بالشرك أو التعدّي على الغير أو غيرِ ذلك من أصناف الظلمِ ولو مرةً حسبما يفيده كونُ الصفةِ فعلاً { مَّا فِى الارض } أي ما في الدنيا من خزائنها وأموالِها ومنافعها قاطبةً بما كثُرت { لاَفْتَدَتْ بِهِ } أي لجعلتْه فديةً لها من العذاب من افتداه بمعنى فداه { وَأَسَرُّواْ } أي النفوسُ المدلولُ عليها بكل نفسٍ ، والعدولُ إلى صيغة الجمعِ مع تحقق العمومِ في صورة الإفرادِ أيضاً لإفادة تهويلِ الخطبِ بكون الإسرارِ بطريق المعيةِ والاجتماع ، وإنما لم يُراعَ ذلك فيما سبق لتحقيق ما يتوخى من فرض كونِ جميعِ ما في الأرض لكل واحدةٍ من النفوس ، وإيثارُ صيغةِ جمعِ المذكرِ لحمل لفظ النفسِ على الشخص أو لتغليب ذكورِ مدلولِه على إناثه { الندامة } على ما فعلوا من الظلم أي أخفَوْها ولم يظهروها لكن لا للاصطبار والتجلد هيهاتَ ولاتَ حينَ اصطبارٍ بل لأنهم بُهتوا { لَمَّا رَأَوُاْ العذاب } أي عند معاينتِهم من فظاعة الحالِ وشدةِ الأهوالِ ما لم يكونوا يحتسبوا فلم يقدروا على أن ينطِقوا بشيء ، ( فلما ) بمعنى حين منصوبٌ بأسرّوا أو حرفُ شرطٍ حذف جوابُه لدِلالة ما تقدم عليه ، وقيل : أسرها رؤساؤُهم ممن أضلوهم حياءً منهم وخوفاً من توبيخهم ، ولكن الأمرَ أشدُّ من أن يعترِيَهم هناك شيءٌ غيرَ خوفِ العذاب ، وقيل : أسروا الندامةَ أخلصوها لأن إسرارها إخلاصُها أو لأن سرَّ الشيءِ خالصتُه حيث تخفى ويُضَنّ بها ، ففيه تهكمٌ بهم . وقيل : أظهروا الندامةَ من قولهم : أسرَّ الشيء وأشره إذا أظهره حين عيل صبرُه وفنِيَ تجلُّده { وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ } أي أُوقع القضاءُ بين الظالمين من المشركين وغيرِهم من أصناف أهل الظلمِ بأن أُظهر الحقُّ سواءٌ كان من حقوق الله سبحانه أو من حقوق العبادِ من العباد من الباطل ، وعومل أهلُ كل منهما بما يليق به { بالقسط } بالعدل ، وتخصيصُ الظلم بالتعدي وحملُ القضاء على مجرد الحكومةِ بين الظالمين والمظلومين من غير أن يُتعرَّضَ لحال المشركين وهم أظلمُ الظالمين لا يساعدُه المقامُ فإن مقتضاه كونُ الظلم عبارةً عن الشرك أو عما يدخُل فيه دخولاً أولياً { وَهُمْ } أي الظالمون { لاَ يُظْلَمُونَ } فيما فعل بهم من العذاب بل هو من مقتضيات ظلمِهم ولوازمِه الضرورية .(3/277)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)
{ أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السموات والارض } أي ما وجد فيهما داخلاً في حقيقتهما أو خارجاً عنهما متمكناً فيهما ، وكلمةُ ما لتغليب غيرِ العقلاءِ على العقلاء ، فهو تقريرٌ لكمال قدرتِه سبحانه على جميع الأشياءِ وبيانٌ لاندراج الكلِّ تحت ملكوتِه يتصرف فيه كيفما يشاء إيجاداً وإعداماً وإثابةً وعقاباً .
{ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله } إظهارُ الاسمِ الجليلِ لتفخيم شأنِ الوعدِ والإشعارِ بعلة الحكم ، وهو إما بمعنى الموعودِ أي جميعِ ما وُعد به كائناً ما كان فيندرج فيه العذابُ الذي استعجلوه وما ذُكر في أثناء بيان حالِه اندراجاً أولياً ، أو بمعناه المصدريِّ أي وعدَه بجميع ما ذكر فمعنى قولِه تعالى : { حَقٌّ } على الأول ثابتٌ واقعٌ لا محالة وعلى الثاني مطابقٌ للواقع ، وتصديرُ الجملتين بحرفي التنبيهِ والتحقيقِ للتسجيل على تحقق مضمونِها المقرِّر لمضمون ما سلف من الآيات الكريمة والتنبيهِ على وجوب استحضارِه والمحافظةِ عليه { ولكن أَكْثَرَهُمْ } لقصور عقولِهم واستيلاءِ الغفلة عليهم والفهمِ بالأحوال المحسوسةِ المعتادة { لاَّ يَعْلَمُونَ } ذلك فيقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون { هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ } في الدنيا من غير دخلٍ لأحد في ذلك { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } في الآخرة بالبعث والحشرِ { يأَيُّهَا الناس } التفاتٌ ورجوعٌ إلى استمالتهم نحوَ الحق واستنزالِهم إلى قَبوله واتباعه غِبَّ تحذيرِهم من غوائل الضلالِ بما تُليَ عليهم من القوارع الناعيةِ عليهم سوءَ عاقبتِهم وإيذانٌ بأن جميعَ ذلك مسوقٌ لمصالحهم ومنافعِهم { قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ } هي والوعظُ والوعظة التذكيرُ بالعواقب سواءٌ كان بالزجر والترهيبِ أو بالاستمالة والترغيبِ وكلمة من في قوله تعالى : { مّن رَّبّكُمْ } ابتدائيةٌ متعلقةٌ بجاءتكم أو تبعيضيةٌ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لموعظة أي موعظةٌ كائنةٌ من مواعظ ربِّكم ، وفي التعرض لعنوان الربوبيةِ من حسن الموقِع ما لا يخفى { وَشِفَاء لِمَا فِى الصدور وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ } أي كتاب جامعٌ لهذه الفوائد والمنافِع فإنه كاشفٌ عن أحوال الأعمالِ حسناتِها وسيئاتِها مرغب في الأولى ورادِعٌ عن الأخرى ومبينٌ للمعارف الحقةِ التي هي شفاءٌ لما في الصدور من الأدواء القلبيةِ كالجهل والشكِّ والشِّرْكِ والنفاق وغيرِها من العقائد الزائغةِ وهادٍ إلى طريق الحقِّ واليقين بالإرشاد إلى الاستدلال بالدلائل المنصوبةِ في الآفاق والأنفسِ وفي مجيئه رحمةً للمؤمنين حيث نجَوا به من ظلمات الكفرِ والضلال إلى نور الإيمانِ وتخلصوا من دركاتِ النيرانِ وارتقَوا إلى درجات الجنانِ ، والتنكيرُ في الكل للتفخيم .(3/278)
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)
{ قُلْ } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمرَ الناسَ بأن يغتنموا ما في مجيء القرآن العظيمِ من الفضل والرحمة { بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ } المرادُ بهما إما ما في مجيء القرآنِ من الفضل والرحمةِ وإما الجنسُ وهما داخلان فيه دخولاً أولياً ، والباء متعلقةٌ بمحذوف ، وأصلُ الكلام ليفرَحوا بفضل الله وبرحمته للإيذان باستقلالها في استيجاب الفرحِ ثم قُدّم الجارُّ والمجرورُ على الفعل لإفادة القصرِ ثم أُدخل عليه الفاءُ لإفادة معنى السببيةِ فصار بفضل الله وبرحمته فليفرَحوا ثم قيل : { فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } للتأكيد والتقريرِ ثم حُذف الفعلُ الأول لدلالة الثاني عليه والفاءُ الأولى جزائيةٌ والثانيةُ للدلالة على السببية والأصلُ إن فرِحوا بشيء فبذلك ليفرحوا لا بشيء آخرَ ، ثم أُدخل الفاءُ للدلالة على السببية ثم حذف الشرطُ ، ومعنى البُعد في اسم الإشارةِ للدلالة على بُعد درجةِ فضل الله تعالى ورحمتِه ويجوز أن يراد بفضل الله وبرحمته فلْيعتنوا فبذلك فليفرحوا ، ويجوز أن يتعلق الباءُ بجاءتكم أي جاءتكم موعظةٌ بفضل الله وبرحمته فبذلك أي فبمجيئها فليفرَحوا وقرىء فلتفرحوا وقرأ أُبيّ : فافرَحوا ، وعن أُبي بن كعب أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تلا : «قل بفضلِ الله وبرحمتِهِ» فقالَ : «بكتاب الله والإسلامِ» ، وقيل : فضلُه الإسلامُ ورحمتُه ما وعَد عليه .
{ هُوَ } أي ما ذكر من فضل الله ورحمته { خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ } من حُطام الدنيا وقرىء تجمعون أي فبذلك فليفرَحِ المؤمنون هو خير مما تجمعون أيها المخاطَبون .
{ قُلْ أَرَءيْتُمْ } أي أخبروني { مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مّن رّزْقٍ } ( ما ) منصوبةُ المحلِّ بما بعدها أو بما قبلها واللامُ للدِلالة على أن المرادَ بالرزق ما حل لهم ، وجعلُه منزلاً لأنه مقدّرٌ في السماء محصّلٌ هو أو ما يتوقف عليه وجوداً أو بقاءً بأسباب سماويةٍ من المطر والكواكبِ في الإنضاج والتلوين { فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ } أي جعلتم بعضَه { حَرَامًا } أي حكمتم بأنه حرامٌ { وَحَلاَلاً } أي وجعلتم بعضَه حلالاً أي حكمتم بحِلّه مع كون كلِّه حلالاً وذلك قولُهم : { هذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ } الآية ، وقولهم : { مَا فِى بُطُونِ هذه الانعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا } ونحوُ ذلك ، وتقديمُ الحرامِ لظهور أثرَ الجعلِ فيه ودورانِ التوبيخِ عليه { قُلْ } تكريرٌ لتأكيد الأمرِ بالاستخبار أي أخبروني { الله أَذِنَ لَكُمْ } في ذلك الجعلِ فأنتم فيه ممتثلون بأمره تعالى { أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } أم متصلةٌ والاستفهامُ للتقرير والتبكيتِ لتحقق العلمِ بالشق الأخير قطعاً كأنه قيل : أم لم يأذنْ لكم بل تفترون عليه سبحانه ، فأظهر الاسمَ الجليلَ وقدّم على الفعل دِلالةً على كمال قبحِ افترائِهم وتأكيداً للتبكيت إثرَ تأكيدٍ مع مراعاة الفواصلِ ، ويجوز أن يكون الاستفهامُ للإنكار وأمْ منقطعةً ، ومعنى بل فيها الإضرابُ والانتقال من التوبيخ والزجرِ بإنكار الإذنِ إلى ما تفيده همزتُها من التوبيخ على الافتراء عليه سبحانه وتقريرِه ، وتقديمُ الجارِّ والمجرور على هذا يجوز أن يكون للقصر كأنه قيل : بل أعلى الله تعالى خاصة تفترون .(3/279)