قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98)
{ قُلْ ياأهل الكتاب } هم اليهودُ والنصارى وإنما خُوطبوا بعنوان أهليةِ الكتابِ الموجبةِ للإيمان به وبما يصدّقه من القرآن العظيمِ مبالغةً في تقبيح حالِهم في كفرهم بها وقوله عز وجل : { لِمَ تَكْفُرُونَ بئيات الله } توبيخٌ وإنكارٌ لأن يكون لكفرهم بها سببٌ من الأسباب وتحقيقٌ لما يوجِبُ الاجتنابَ عنه بالكلية ، والمرادُ بآياته تعالى ما يعُمُّ الآياتِ القرآنيةَ التي من جملتها ما تُليَ في شأن الحجِّ وغيرِه وما في التوراة والأنجيلِ من شواهد نبوَّتِه عليه السلام ، وقولُه تعالى : { والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } حال من فاعل تكفُرون مفيدةٌ لتشديد التوبيخِ وتأكيدِ الإنكار ، وإظهارُ الجلالةِ في موقع الإضمارِ لتربية المهابةِ وتهويلِ الخطبِ ، وصيغةُ المبالغةِ في شهيدٌ للتشديد في الوعيد ، وكلمةُ { مَا } إما عبارةٌ عن كفرهم أو هي على عمومها وهو داخلٌ فيها دُخولاً أولياً ، والمعنى لأي سبب تكفُرون بآياته عز وعلا؟ والحالُ أنه تعالى مبالِغٌ في الاطلاع على جميع أعمالِكم وفي مجازاتكم عليها ولا ريبَ في أن ذلك يسُدُّ جميعَ أنحاءِ ما تأتونه ويقطع أسبابَه بالكلية .(1/424)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
{ قُلْ ياأهل الكتاب } أمرٌ بتوبيخهم بالإضلال إثرَ توبيخِهم بالضلال ، والتكريرُ للمبالغة في حمله عليه السلام على تقريعهم وتوبيخِهم ، وتركُ عطفِه على الأمر السابقِ للإيذان باستقلالهم كما أن قطْعَ قولِه تعالى : { لِمَ تَصُدُّونَ } عن قوله تعالى : { لِمَ تَكْفُرُونَ } للإشعار بأن كلَّ واحدٍ من كُفرهم وصدِّهم شناعةٌ على حيالها مستقِلةٌ في استتباع اللائمةِ والتقريعِ ، وتكريرُ الخطابِ بعنوان أهليةِ الكتابِ لتأكيد الاستقلالِ وتشديدِ التشنيع فإن ذلك العنوانَ كما يستدعي الإيمانَ بما هو مصدِّقٌ لما معهم يستدعي ترغيبَ الناسِ فيه ، فصدُّهم عنه في أقصى مراتبِ القَباحةِ ولكون صدِّهم في بعض الصورِ بتحريف الكتابِ والكفرِ بالآياتِ الدالةِ على نبُوَّته عليه السلام ، وقرىء تُصِدّون من أصَدَّه { عَن سَبِيلِ الله } أي دينِه الحقِّ الموصلِ إلى السعادة الأبدية ، وهو التوحيدُ وملةُ الإسلام { مَنْ ءامَنَ } مفعول لتصُدُّون قُدِّم عليه الجارُّ والمجرورُ للاهتمام به . كانوا يفتِنون المؤمنين ويحتالون لصدهم عنه ويمنعون من أراد الدخولَ فيه بجُهدهم ، ويقولون : إن صفتَه عليه السلام ليست في كتابهم ولا تقدّمت البِشارةُ به عندهم ، وقيل : أتت اليهودُ الأوسَ والخزرجَ فذكّروهم ما كان بينهم في الجاهلية من العداوات والحروبِ ليعودا إلى ما كانوا فيه { تَبْغُونَهَا } على إسقاط الجارِّ وإيصالِ الفعل إلى الضمير كما في قوله :
فتولى غلامُهم ثم نادى ... أظليماً أصيدُكم أم حمارا
بمعنى أصيدُ لكم أي تطلُبون لسبيل الله التي هي أقومُ السبل { عِوَجَا } اعوجاجاً بأن تَلْبِسوا على الناس وتُوهِموا أن فيه ميلاً عن الحق بنفي النسخِ وتغييرِ صفةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم عن وجهها ونحو ذلك . والجملةُ حالٌ من فاعل تصُدّون وقيل : من سبيل الله { وَأَنْتُمْ شُهَدَاء } حالٌ من فاعل تصُدون باعتبار تقييدِه بالحال الأولى أو من فاعل تبغونها أي والحالُ أنكم شهداءُ تشهدون بأنها سبيلُ الله لا يحوم حولَها شائبةُ اعوجاجٍ وأن الصدَّ عنها إضلالٌ قال ابن عباس رضي الله عنهما : أي شهداءُ ( على ) أن في التوراة إن دينَ الله الذي لا يُقبل غيرُه هو الإسلامُ أو وأنتم عدولٌ فيما بينكم يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في القضايا وعظائمِ الأمور { وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } اعتراضٌ تذييليٌ فيه تهديدٌ ووعيدٌ شديدٌ ، قيل : لما كان صدُّهم للمؤمنين بطريق الخُفْية خُتمت الآيةُ الكريمة بما يحسِمُ مادةَ حيلتهم من إحاطة علمِه تعالى بأعمالهم كما أن كفرَهم بآياتِ الله تعالى لمّا كان بطريق العلانيةِ خُتمت الآية السابقةُ بشهادته تعالى على ما يعملون .(1/425)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمانكم كافرين } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى المؤمنين تحذيراً لهم عن طاعة أهلِ الكتابِ والافتتانِ بفتنتهم إثرَ توبيخِهم بالإغواء والإضلالِ ردعاً لهم عن ذلك ، وتعليقُ الردِّ بطاعة فريقٍ منهم للمبالغة في التحذير عن طاعتهم وإيجابِ الاجتنابِ عن مصاحبتهم بالكلية فإنه في قوة أن يُقال : لا تُطيعوا فريقاً الخ ، كما أن تعميمَ التوبيخِ فيما قبله للمبالغة في الزجر أو للمحافظة على سبب النزولِ فإنه رُوي أن نفراً من الأوس والخزرج كانوا جُلوساً يتحدثون فمرّ بهم شاسُ بنُ قيسٍ اليهوديُّ وكان عظيمَ الكفرِ شديدَ الحسَدِ للمسلمين فغاظه ما رأى منهم من تآلُفِ القلوبِ واتحادِ الكلمةِ واجتماعِ الرأي بعد ما كان بينهم ما كان من العداوة والشنَآنِ ، فأمر شاباً يهودياً كان معه بأن يجلِسَ إليهم ويذكِّرَهم يوم بُعاثَ وكان ذلك يوماً عظيماً اقتتل فيه الحيانِ وكان الظفرُ فيه للأوس ويُنشِدُهم ما قيل فيه من الأشعار ففعل فتفاخرَ القومُ وتغاضبوا حتى تواثبوا وقالوا : السلاحَ السلاحَ فاجتمع من القبيلتين خلقٌ عظيم فعند ذلك جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابُه فقال : « أتدْعون الجاهليةَ وأنا بين أظهُرِكم بعد أن أكرمكم الله تعالى بالإسلام وقطع به عنكم أمرَ الجاهلية وألَّف بينكم؟ » فعلِموا أنها نزعةٌ من الشيطان وكيدٌ من عدوهم فألقَوُا السلاح واستغفروا وعانق بعضُهم بعضاً ، وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الإمامُ الواحديُّ : اصطفوا للقتال فنزلت الآيةُ إلى قوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى قام بين الصفَّيْن فقرأهنّ ورفعَ صوتَه فلما سمعوا صوتَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنصَتوا له وجعلوا يستمعون له فلما فرَغ ألقَوا السلاح وعانق بعضُهم بعضاً وجعلوا يبكون . وقوله تعالى : { كافرين } إما مفعولٌ ثانٍ ليردُّوكم ، على تضمين الردِّ معنى التصيير كما في قوله :
رمى الحِدْثانُ نسوةَ آلِ سعد ... بمقدار سمَدْن له سُمودا
فردَّ شعورَهن السودَ بِيضا ... ورد وجوهَهن البيضَ سودا
أو حالٌ من مفعوله ، والأول أدخَلُ في تنزيه المؤمنين عن نسبتهم إلى الكفر لما فيه من التصريح بكون الكفرِ المفروضِ بطريق القسر ، وإيرادُ الظرفِ مع عدم الحاجةِ إليه ضرورةَ سبقِ الخطابِ بعنوان المؤمنين واستحالةِ تحققِ الردِّ إلى الكفر بدون سبْقِ الإيمانِ مع توسيطه بين المفعولين لإظهار كمالِ شناعةِ الكفرِ وغايةِ بُعدِه من الوقوع إما لزيادة قُبحِه الصارفِ العاقلِ عن مباشرته أو لممانعة الإيمانِ له كأنه قيل : بعد إيمانِكم الراسخِ وفيه من تثبيت المؤمنين ما لا يخفى .(1/426)
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
{ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ } استفهامٌ إنكاريٌّ بمعنى إنكارِ الوقوعِ كما في قوله تعالى : { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ } الخ لا بمعنى إنكار الواقعِ كما في قوله تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا } الخ وفي توجيه الإنكارِ والاستبعادِ إلى كيفية الكفرِ من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى نفسه بأن يقال : أتكفرون؟ لأن كلَّ موجودٍ لا بد أن يكون وجودُه على حال من الأحوال فإذا أُنكِرَ ونُفيَ جميعُ أحوالِ وجودِه فقد انتفى وجودُه بالكلية على الطريق البرهاني وقوله تعالى : { وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيات الله } جملةٌ وقعتْ حالاً من ضمير المخاطَبين في تكفُرون مؤكِّدةٌ للإنكار والاستبعادِ بما فيها من الشؤون الداعيةِ إلى الثبات على الإيمان ، الرادعةِ عن الكفر ، وقوله تعالى : { وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } معطوفٌ عليها داخلٌ في حكمها فإن تلاوةَ آياتِ الله تعالى عليهم وكونَ رسولِه عليه الصلاة والسلام بين أظهُرِهم يعلِّمهم الكتابَ والحِكمةَ ويزكِّيهم بتحقيق الحقِّ وإزاحةِ الشُّبَهِ من أقوى الزواجر عن الكفر ، وعدمُ إسنادِ التلاوة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للإيذان باستقلالِ كلَ منهما في الباب .
{ وَمَن يَعْتَصِم بالله } أي ومن يتمسَّكْ بدينه الحقِّ الذي بيَّنه على لسان رسولِه عليه الصلاة والسلام وهو الإسلامُ والتوحيدُ المعبَّرُ عنه فيما سبق بسبيل الله { فَقَدْ هُدِىَ } جوابٌ للشرط وقد لإفادة معنى التحقيقِ كأن الهدى قد حصل فهو يُخْبَر عنه حاصلاً ، ومعنى التوقُّع فيه ظاهرٌ فإن المعتصم به تعالى متوقع للهدى كما أن قاصدَ الكريم متوقّعٌ للندى { إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } موصلٍ إلى المطلوب ، والتنوينُ للتفخيم ، والوصفُ بالاستقامة للتصريح بالرد على الذين يبغون له عوجاً ، وهذا وإن كان هو دينَه الحقَّ في الحقيقة والاهتداءُ إليه هو الاعتصامُ به بعينه لكن لمّا اختلف الاعتبارانِ وكان العنوانُ الأخيرُ مما يتنافس فيه المتنافسون أُبرز في معرِض الجوابِ للحثّ والترغيب ، على طريقة قولِه تعالى : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ . } تكريرُ الخطابِ بعنوان الإيمانِ تشريفٌ إثرَ تشريفٍ { اتقوا الله } الاتقاءُ افتعالٌ من الوقاية وهي فرْطُ الصيانة { حَقَّ تُقَاتِهِ } أي حقَّ تقواه وما يجب منها وهو استفراغُ الوُسعِ في القيام بالموَاجب والاجتنابِ عن المحارم كما في قوله تعالى : { فاتقوا الله مَا استطعتم } وعن ابن مسعود رضي الله عنه : «هو أن يُطاعَ ولا يعصى ويُذكرَ ولا يُنْسَى ويُشكَرَ ولا يُكْفَرَ» وقد روي مرفوعاً إليه عليه السلام . وقيل : هو أن لا تأخُذَه في الله لومةُ لائمٍ ويقومَ بالقسط ولو على نفسه أو ابنِه أو أبيه . وقيل : وهو أن يُنزِّهَ الطاعةَ عن الالتفات إليها وعن توقع المجازاةِ ، وقد مر تحقيقُ الحقِّ في ذلك عند قوله عز وجل : { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } والتقاةُ مِن اتقى كالتُّؤَدة من اتّأَدَ ، وأصلها وُقْيَة قلبت واوُها المضمومةُ تاءً كما في تُهمة وتُخمة وياؤها المفتوحة ألفاً .(1/427)
{ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } أي مُخلصون نفوسَكم لله تعالى لا تجعلون فيها شِرْكةً لما سواه أصلاً كما في قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله } وهو استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوال أي لا تموتُنَّ على حال من الأحوال إلا حالَ تحققِ إسلامِكم وثباتِكم عليه كما تنبىء عنه الجملةُ الاسميةُ ، ولو قيل : إلا مسلمين لم يُفِدْ بفائدتها . والعاملُ في الحال ما قبل { إِلا } بعد النقض ، وظاهرُ النظمِ الكريم وإن كان نهياً عن الموت المقيَّد بقيدٍ هو الكونُ على أي حالٍ غيرِ حالِ الإسلام لكنَّ المقصودَ هو النهيُ عن ذلك القيدِ عند الموتِ المستلزمِ للأمر بضده الذي هو الكونُ على حال الإسلامِ حينئذ ، وحيث كان الخطابُ للمؤمنين كان المرادُ إيجابَ الثباتِ على الإسلام إلى الموت ، وتوجيهُ النهي إلى الموت للمبالغة في النهي عن قيده المذكورِ ، فإن النهيَ عن القيَّد في أمثاله نهيٌ عن القيد ورفعٌ له من أصله بالكلية ، مفيدٌ لما لا يفيده النهيُ عن نفس القيدِ ، فإن قولَك : لا تُصلِّ إلا وأنت خاشعٌ يفيد في المبالغة في إيجاب الخشوعِ في الصلاة ما لا يفيده قولُك : لا تترُكِ الخشوعِ في الصلاة ، لما أن هذا نهيٌ عن ترك الخشوعِ فقط وذاك نهيٌ عنه وعما يقارِنُه ومفيدٌ لكون الخشوعِ هو العمدةَ في الصلاة وأن الصلاةَ بدونه حقُّها أن لا تُفعل ، وفيه نوعُ تحذيرٍ عما وراءَ الموتِ .(1/428)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
وقوله عز وجل : { واعتصموا بِحَبْلِ الله } أي بدين الإسلامِ أو بكتابه لقوله عليه الصلاة والسلام : « القرآنُ حبلُ الله المتينُ لا تنقضي عجائبُه ولا يخلَقُ من كثرة الردِّ ، مَنْ قال به صدَقَ ، ومن عمِل به رَشَد ، ومن اعتصم به هُديَ إلى صراط مستقيم » إما تمثيلٌ للحالة الحاصلةِ من استظهارهم به ووثوقِهم بحمايته بالحالة الحاصلةِ من تمسك المتدلي من مكان رفيعٍ بحبل وثيقٍ مأمونِ الانقطاعِ من غير اعتبار مجازٍ في المفردات ، وإما استعارةٌ للحبل لما ذُكر من الدين أو الكتابِ أو الاعتصامِ ترشيحٌ لها أو مستعارٌ للوثوق به والاعتمادِ عليه { جَمِيعاً } حال من فاعل اعتصموا أي مجتمعين في الاعتصام { وَلاَ تَفَرَّقُواْ } أي لا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلافِ بينكم كأهل الكتابِ أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية يحارب بعضُكم بعضاً أو لا تُحدِثوا ما يوجب التفرقَ ويُزيل الأُلفةَ التي أنتم عليها { واذكروا نِعْمَةَ الله } مصدر مضافٌ إلى الفاعل ، وقولُه تعالى : { عَلَيْكُمْ } متعلق به أو بمحذوف وقع حالاً منه وقوله تعالى : { إِذْ كُنتُم } ظرفٌ له أو للاستقرار في عليكم أي اذكروا إنعامَه عليكم أوِ اذْكُروا إنعامَه مستقِراً عليكم وقت كونِكم { أَعْدَاء } في الجاهلية بينكم الإحَنُ والعداواتُ والحروبُ المتواصلة ، وقيل : هم الأوسُ والخزرجُ كانا أخوَين لأب وأمٍ فوقعت بين أولادِهما العداوةُ والبغضاءُ وتطاولت الحروبُ فيما بينهم مائةً وعشرين سنةً { فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } بتوفيقكم للإسلام { فَأَصْبَحْتُم } أي فصِرْتم { بِنِعْمَتِهِ } التي هي ذلك التأليفُ { إِخْوَانًا } خبرُ أصبحتم أي إخواناً متحابّين مجتمعين على الأُخوّة في الله متراحمين متناصحين متفقين على كلمة الحقِّ وقيل : معنى فأصبحتم فدخلتم في الصباح فالباء حينئذ متعلقةٌ بمحذوف وقع حالاً من الفاعل وكذا إخواناً أي فأصبحتم ملتبسين حالَ كونِكم إخواناً .
{ وَكُنتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النار } شفا الحفرةِ وشفَتُها حَرْفها أي كنتم مشرفين على الوقوع في نار جهنَّم لكفركم إذ لو أدرككم الموتُ على تلك الحالةِ لوقعتم فيها { فَأَنقَذَكُمْ } بأن هداكم للإسلام { مِنْهَا } الضميرُ للحفرة أو للنار أو للشَفا والتأنيثُ للمضاف إليه كما في قوله :
كما شرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدمِ ... أو لأنه بمعنى الشَّفة فإن شَفا البئرِ وشفَتَها جانبُها كالجانب والجانبة ، وأصلُه شَفَوٌ قلبت الواوُ ألفاً في المذكر وحذفت في المؤنث { كذلك } إشارةٌ إلى مصدر الفعل الذي بعده ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلوّ درجةِ المشارِ إليه وبُعدِ منزلتِه في الفضل وكمالِ تميُّزِه به عما عداه وانتظامِه بسببه في سلك الأمور المشاهَدة ، والكافُ مقحمةٌ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة ومحلُّها النصبُ على أنها صفةٌ لمصدر محذوف أي مثلَ ذلك التبيينِ الواضحِ { يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته } أي دلائلَه { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } طلباً لثباتكم على الهدى وازديادِكم فيه .(1/429)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
{ وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير } أمرهم الله سبحانه بتكميل الغير وإرشادِه إثرَ أمرِهم بتكميل النفس وتهذيبِها بما قبله من الأوامر والنواهي تثبيتاً للكل على مراعاة ما فيها من الأحكام بأن يقومَ بعضُهم بمواجبها ويحافظَ على حقوقها وحدودِها ويذكرَها الناسَ كافةً ويردَعَهم عن الإخلال بها ، والجمهورُ على إسكان لامِ الأمرِ ، وقرىء بكسرها على الأصل وهو من كان التامة ومِنْ تبعيضيةٌ متعلقةٌ بالأمر أو بمحذوف وقع حالاً من الفاعل وهو { أُمَّةٍ } ويدْعون صفتُها أي لِتوجَدْ منكم أمةٌ داعيةٌ إلى الخير ، والأمةُ هي الجماعةُ التي يؤُمُّها فِرَقُ الناسِ أي يقصِدونها ويقتدون بها ، أو من الناقصة وأمةٌ اسمُها ويدْعون خبرُها ، أي لتكن منكم أمةٌ داعين إلى الخير وأياً ما كان فتوجيهُ الخطابِ إلى الكل مع إسناد الدعوةِ إلى البعض لتحقيق معنى فرضيّتِها على الكفاية وأنها واجبةٌ على الكل لكن بحيث إنْ أقامها البعضُ سقطت عن الباقين ، ولو أخل بها الكلُّ أثِموا جميعاً لا بحيث يتحتّم على الكل إقامتُها على ما يُنبىء عنه قولُه عز وجل : { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً } الآية ، ولأنها من عظائم الأمورِ وعزائمِها التي لا يتولاها إلا العلماءُ بأحكامه تعالى ومراتبِ الاحتساب وكيفية إقامتِها ، فإن من لا يعلمُها يوشِكُ أن يأمرَ بمنكر وينهى عن معروف ويُغلِظَ في مقام اللينِ ويُلينَ في مقام الغِلْظة وينكِرَ على من لا يزيده الإنكارُ إلا التماديَ والإصرارَ ، وقيل : مِنْ بيانية كما في قوله تعالى : { وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم } الآية ، والأمرُ من كان الناقصة والمعنى كونوا أمةً تدعون الآية كقوله تعالى : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } الآية ، ولا يقتضي ذلك كونَ الدعوةِ فرضَ عينٍ ، فإن الجهادَ من فروض الكفايةِ مع ثبوته بالخطاب العامِّ ، والدعاءُ إلى الخير عبارةٌ عن الدعاء إلى ما فيه صلاحٌ دينيٌّ أو دنيويٌّ ، فعطفُ الأمرِ بالمعروف والنهْيِ عن المنكر عليه بقوله تعالى : { وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } مع اندراجهما فيه من باب عطفِ الخاصِّ على العامّ لإظهار فضلِهما وعلوِّهما على سائر الخيراتِ كعطف جبريلَ وميكالَ على الملائكة عليهم السلام ، وحذْفُ المفعولِ الصريحِ من الأفعال الثلاثة إما للإيذان بظهوره أي يدْعون الناسَ ويأمُرونهم وينهَوُنهم وإما القصدِ إلى إيجاد نفسِ الفعل كما في قولك : فلان يعطي ويمنع أي يفعلون الدعاءَ إلى الخير والأمرَ بالمعروف والنهْيَ عن المنكر { وَأُوْلئِكَ } إشارةٌ إلى الأمة المذكورة باعتبار اتصافِهم بما ذُكر من النعوت الفاضلةِ وكمالِ تميُّزِهم بذلك عمنْ عداهم وانتظامِهم بسببه في سلك الأمور المشاهَدة ، وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعلو طبقتِهم وبُعدِ منزلتِهم في الفضل ، والإفرادُ في كاف الخطابِ إما لأن المخاطَب كلُّ من يصلُح للخطاب وإما لأن التعيينَ غيرُ مقصودٍ ، أي أولئك الموصوفون بتلك الصفاتِ الكاملة { هُمُ المفلحون } أي هم الأحِقاءُ بكمال الفلاحِ ، وهم ضميرُ فصلٍ يفصِلُ بين الخبر والصفةِ ويؤكد النسبةَ ويفيد اختصاصَ المسندِ بالمسند إليه أو مبتدأٌ خبرُه المفلحون والجملةُ خبرٌ لأولئك ، وتعريفُ { المفلحون } إما للعهد أو للإشارة إلى ما يعرِفُه كلُّ أحدٍ من حقيقة المفلحين .(1/430)
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سُئل عن خير الناسِ فقال : " آمَرُهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلُهم للرحم " وعنه عليه السلام : " مَنْ أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفةُ الله في أرضه وخليفةُ رسولِه وخليفةُ كتابِه " وعنه عليه السلام : " والذي نفسي بِيَدِهِ لتأمُرُنّ بالمعروفِ ولتنهَوُنَّ عن المُنْكَرِ أو لَيُوشِكَنَّ الله أن يَبْعَثَ عَلَيْكُم عذاباً من عنده ثم لتَدْعُنَّه فلا يُستجاب لكم " وعن علي رضي الله عنه : «أفضلُ الجهادِ الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر ، ومن شنَأَ الفاسقين وغضِب لله غضِبَ الله له» والأمرُ بالمعروف في الوجوب والندبِ تابعٌ للمأمور به ، وأما النهيُ عن المنكر فواجبٌ كلُّه فإن جميعَ ما أنكره الشرعُ حرامٌ والعاصي يجب عليه النهيُ عما ارتكبه إذ يجب عليه تركُه وإنكارُه فلا يسقط بترك أحدِهما وجوبُ شيءٍ منهما ، والتوبيخُ في قوله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } إنما هو على نسيان أنفسِهم لا على أمرهم بالبر ، وعن السلف مُروا بالخير وإن لم تفعلوا .(1/431)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)
{ وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ } هم أهلُ الكتابين حيث تفرقت اليهودُ فِرَقاً والنصارى فِرَقاً { واختلفوا } باستخراج التأويلاتِ الزائغةِ وكتمِ الآياتِ الناطقةِ وتحريفِها بما أخلدوا إليه من حُطام الدنيا الدنيئة { مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ البينات } أي الآياتُ الواضحةُ المبينةُ للحق للاتفاق عليه واتحادِ الكلمة ، فالنهيُ متوجهٌ إلى المتصدِّين للدعوة أصالةً وإلى أعقابهم تَبَعاً ، ويجوز تعميمُ الموصولِ للمختلِفين من الأمم السالفةِ المشارِ إليهم بقوله عز وجل : { وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات } وقيل : هم المبتدِعة من هذه الأمة ، وقيل : هم الحرَورية وعلى كل تقدير فالمنهيُّ عنه إنما هو الاختلافُ في الأصول دون الفروعِ إلا أن يكون مخالفاً للنصوص البيِّنة أو الإجماعِ لقوله عليه الصلاة والسلام : « اختلافُ أمتي رحمةٌ » وقولِه عليه السلام : « من اجتهد فأصاب فله أجرانِ ومن أخطأ فله أجرٌ واحدٌ »
{ وَأُوْلئِكَ } إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافِهم بما في حيز الصلة وهو مبتدأٌ وقولُه تعالى : { لَهُمْ } خبرُه وقوله تعالى : { عَذَابٌ عظِيمٌ } مرتفع بالظرف على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ ، أو مبتدأٌ والظرفُ خبرُه والجملة خبر للمبتدأ الأول . وفيه من التأكيد والمبالغةِ في وعيد المتفرِّقين والتشديدِ في تهديدِ المشبَّهين بهم ما لا يخفى .(1/432)
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)
{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ } أي وجوه كثيرةٌ وقرىء تبياضُّ { وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } كثيرة وقرىء تسْوادُّ ، وعن عطاءٍ تبيضُّ وجوهُ المهاجرين والأنصارِ وتسْوَدّ وجوهُ بني قرَيظةَ والنَّضير . ويومَ منصوبٌ على أنه ظرفٌ للاستقرار في لهم أي لثبوت العذابِ العظيمِ لهم ، أو على أنه مفعولٌ لمضمر خوطب به المؤمنون تحذيراً لهم عن عاقبة التفرقِ بعد مجيءِ البيناتِ ، وترغيباً في الاتفاق على التمسك بالدين أي اذكُروا يوم تبيض الخ وبياضُ الوجهِ وسوادُه كنايتان عن ظهور بهجةِ السرورِ وكآبةِ الخوفِ فيه ، وقيل : يوسَمُ أهلُ الحقِّ ببياض الوجهِ والصحيفةِ وإشراقِ البَشرَة وسعْيِ النورِ بين يديه وبيمينه ، وأهلُ الباطلِ بأضداد ذلك { فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ } تفصيلٌ لأحوال الفريقين بعد الإشارةِ إليها إجمالاً ، وتقديمُ بيانِ هؤلاءِ لما أن المَقام مقامُ التحذيرِ عن التشبه بهم مع ما فيه من الجمع بين الإجمال والتفصيلِ والإفضاءِ إلى ختم الكلامِ بحسن حالِ المؤمنين كما بُدىء بذلك عند الإجمالِ { أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكم } على إرادة القولِ أي فيقال لهم ذلك ، والهمزةُ للتوبيخ والتعجيبِ من حالهم ، والظاهرُ أنهم أهلُ الكتابين وكفرُهم بعد إيمانِهم كفرُهم برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إيمانِ أسلافِهم أو إيمانِ أنفسِهم به قبل مبعثِه عليه الصلاة والسلام ، أو جميعُ الكفرة حيث كفروا بعد ما أقروا بالتوحيد يومَ الميثاقِ أو بعد ما تمكنوا من الإيمان بالنظر الصحيحِ والدلائلِ الواضحةِ والآياتِ البينةِ ، وقيل : المرتدون ، وقيل : أهلُ البدعِ والأهواءِ والفاء في قوله عز وعلا : { فَذُوقُواْ العذاب } أي العذابَ المعهودَ الموصوفَ بالعِظَم للدِلالة على أن الأمرَ بذَوْق العذابِ على طريق الإهانةِ مترتبٌ على كفرهم المذكورِ كما أن قوله تعالى : { بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } صريحٌ في أن نفسَ الذوْقِ معلَّلٌ بذلك ، والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبلِ للدَلالةِ على استمرار كفرِهم أو على مُضيِّه في الدنيا { وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ الله } أعني الجنةَ والنعيمَ المخلِّدَ ، عُبِّر عنها بالرحمة تنبيهاً على أن المؤمنَ وإن استغرق عمرَه في طاعة الله تعالى فإنه لا يدخُل الجنةَ إلا برحمته تعالى ، وقرىء ابياضَّتْ كما قرىء اسوادَّتْ { هُمْ فِيهَا خالدون } استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال نشأ من السياق كأنه قيل : كيف يكونون فيها؟ فقيل : هم فيها خالدون لا يظعَنون عنها ولا يموتون . وتقديمُ الظرفِ للمحافظة على رؤوس الآي { تِلْكَ } إشارةٌ إلى الآيات المشتملةِ على تنعيم الأبرارِ وتعذيبِ الكفارِ ، ومعنى البُعدِ للإيذان بعلو شأنِها وسُمّو مكانِها في الشرف وهو مبتدأ وقوله تعالى : { آيات الله } خبرُه وقوله تعالى : { نَتْلُوهَا } جملةٌ حالية من الآيات ، والعاملُ فيها معنى الإشارةِ أو هي الخبرُ وآياتُ الله بدلٌ من اسم الإشارةِ ، والالتفاتُ إلى التكلم بنون العظمةِ مع كون التلاوةِ على لسان جبريلَ عليه السلام لإبراز كمالِ العنايةِ بالتلاوة ، وقرىء يتلوها على إسناد الفعلِ إلى ضميره تعالى وقوله تعالى : { عَلَيْكَ } متعلقٌ بنتلوها ، وقوله تعالى : { بالحق } حالٌ مؤكدةٌ من فاعل نتلوها أو من مفعوله أي ملتبسين ، أو ( التلاوةَ ) ملتبسةً بالحق والعدل ليس في حكمها شائبةُ جَوْر بنقص ثوابِ المحسنِ أو بزيادة عقابِ المسيءِ ، أو بالعقاب من غير جُرْم ، بل كلُّ ذلك مُوفًّى لهم حسبَ استحقاقِهم بأعمالهم بموجب الوعدِ والوعيدِ ، وقوله : { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً للعالمين } تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه ، فإن تنكيرَ الظلم وتوجيهَ النفي إلى إرادته بصيغة المضارعِ دون نفسِه وتعليقَ الحكمِ بآحاد الجمعِ المعروفِ ، والالتفات إلى الاسم الجليلِ إشعارٌ بعلة الحكمِ وبيانٌ لكمال نزاهتِه عز وجل عن الظلم بما لا مزيدَ عليه أي ما يريد فرداً من أفراد الظلم لفرد من أفراد العالمين في وقت من الأوقات فضلاً عن أن يظلِمَهم ، فإن المضارعَ كما يفيد الاستمرارَ في الإثبات يفيده في النفي بحسب المقامِ كما أن الجملةَ الاسميةَ تدلُّ بمعرفة المقامِ على دوام الثبوتِ ، وعند دخولِ حرفِ النفي تدل على دوامِ الانتفاءِ لا على انتفاء الدوامِ وفي سبك الجملةِ نوعُ إيماءٍ إلى التعريض بأن الكفرَةَ هم الظالمون ظلموا أنفسَهم بتعريضها للعذاب الخالد كما في قوله تعالى :(1/433)
{ إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }(1/434)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
{ وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض } أي له تعالى وحده من غير شِرْكةٍ أصلاً ، ما فيهما من المخلوقات الفائتةِ للحصر مُلكاً وخلقاً إحياءً وإماتةً وإثابةً وتعذيباً ، وإيرادُ كلمةِ { مَا } إما لتغليب غيرِ العقلاءِ وإما لتنزيلهم منزلةَ غيرِهم إظهاراً لحقارتهم في مقام بيانِ عظمتِه تعالى { وإلى الله } أي إلى حُكمه وقضائِه لا إلى غيره شِرْكةً أو استقلالاً { تُرْجَعُ الامور } أي أمورُهم فيجازي كلاً منهم بما وَعد له وأوعده من غير دخلٍ في ذلك لأحد قطُّ . فالجملةُ مقررةٌ لمضمون ما ورد في جزاء الفريقين ، وقيل : هي معطوفةٌ على ما قبلها مقرّرةٌ لمضمونه فإن كونَ العالمين عبيدَه تعالى ومخلوقَه ومرزوقَه يستدعي إرادةَ الخير بهم
{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } كلامٌ مستأنفٌ سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الاتفاق على الحق والدعوةِ إلى الخير ، وكنتم من كان الناقصةِ التي تدل على تحقق شيءٍ بصفة في الزمان الماضي من غير دَلالةٍ على عدم سابقٍ أو لاحق كما في قوله تعالى : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } وقيل : كنتم كذلك في علم الله تعالى أو في اللوح أو فيما بين الأمم السالفةِ ، وقيل : معناه أنتم خيرُ أمة { أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } صفةٌ لأمة واللام متعلقةٌ بأخرجت أي أظهِرَت لهم ، وقيل : بخير أمةٍ أي كنتم خيرَ الناسِ للناس ، فهو صريحٌ في أن الخيريةَ بمعنى النفعِ للناس وإن فُهم ذلك من الإخراج لهم أيضاً أي أخرجَتْ لأجلهم ومصلحتِهم ، قال أبو هريرة رضي الله عنه : معناه كنتم خيرَ الناسِ للناس تأتون بهم في السلاسل فتُدخِلونهم في الإسلام . وقال قتادة : هم أمةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم لم يُؤمر نبيٌّ قبله بالقتال فهم يقاتلون الكفارَ فيدخلونهم في الإسلام فهم خيرُ أمةٍ للناس .
{ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } استئنافٌ مبينٌ لكونهم خيرَ أمة كما يقال : زيدٌ كريمٌ يطعم الناسَ ويكسوهم ويقوم بمصالحهم ، أو خبرٌ ثانٍ لكنتم ، وصيغةُ المستقبلِ للدِلالة على الاستمرار ، وخطابُ المشافهةِ وإن كان خاصاً بمن شاهد الوحيَ من المؤمنين لكن حُكمَه عامٌ للكل . قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد أمةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم . وقال الزجاج : أصلُ هذا الخطابِ لأصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو يعمُّ سائرَ أمتِه . وروى الترمذيُّ عن بَهْزِ بنِ حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } : « أنتم تُتِمّون سبعين أمةً أنتم خيرُها وأكرمُها على الله تعالى » . وظاهرٌ أن المرادَ بكل أمةٍ أوائلُهم وأواخرُهم لا أوائلُهم فقط فلا بد أن تكون أعقابُ هذه الأمةِ أيضاً داخلةً في الحكم ، وكذا الحالُ فيما رُوي أن مالك بنَ الصيف ووهْبَ بنَ يهوذا اليهوديَّين مرّا بنفرٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ابنُ مسعود وأبيُّ بنُ كعبٍ ومعاذُ بنُ جبل وسالمٌ مولى حذيفةَ رضوانُ الله عليهم فقالا لهم : نحن أفضلُ منكم ودينُنا خيرٌ مما تدعوننا إليه .(1/435)
وروى سعيدُ بنُ جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ورُوي عن الضحاك أنهم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصةً الرواةُ والدعاةُ الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم .
{ وَتُؤْمِنُونَ بالله } أي إيماناً متعلقاً بكل ما يجب أن يؤمَنَ به من رسول وكتابٍ وحساب وجزاءٍ وإنما لم يصرِّح به تفصيلاً لظهور أنه الذي يؤمِن به المؤمنون وللإيذان بأنه هو الإيمانُ بالله تعالى حقيقةً وأن ما خلا عن شيء من ذلك كإيمان أهلِ الكتابِ ليس من الإيمان بالله تعالى في شيء ، قال تعالى : { وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون حَقّاً } وإنما أُخِّر ذلك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع تقدمه عليهما وجوداً ورُتبةً لأن دَلالتَهما على خيريتهم للناس أظهرُ من دلالته عليها وليقترن به قوله تعالى : { وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } أي لو آمنوا كإيمانكم لكان ذلك خيراً لهم مما هم عليه من الرياسة واستتباعِ العوامِّ ولازدادت رياستُهم وتمتُّعهم بالحظوظ الدنيويةِ مع الفوز بما وُعِدوه على الإيمان من إيتاء الأجرِ مرتين ، وقيل : مما هم فيه من الكفر ، فالخيريةُ إنما هي باعتبار زعمِهم ، وفيه ضربُ تهكّمٍ بهم وإنما لم يتعرَّضْ للمؤمَنِ به أصلاً للإشعار بظهور أنه الذي يُطلق عليه اسمُ الإيمانِ لا يذهب الوهمُ إلى غيره ولو فُصِّل المؤمَنُ به هاهنا أو فيما قبلُ لربما فُهم أن لأهل الكتاب أيضاً إيماناً في الجملة لكن إيمانَ المؤمنين خيرٌ منه وهيهاتَ ذلك { مّنْهُمُ المؤمنون } جملةٌ مستأنفة سيقت جواباً عما نشأ من الشرطية الدالةِ على انتفاء الخيريةِ لانتفاء الإيمانِ عنهم كأنه قيل : هل منهم من آمن أو كلُّهم على الكفر؟ فقيل : منهم المؤمنون المعهودون الفائزون بخير الدارين كعبد اللَّه بن سلام وأصحابه .
{ وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } المتمرِّدون في الكفر الخارجون عن الحدود .(1/436)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)
{ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } استثناءٌ مفرّغٌ من المصدر العام أي لن يضروكم أبداً ضرراً ما إلا ضررَ أذىً لا يبالى به من طعنٍ وتهديدٍ لا أثر له { وَإِن يقاتلوكم يُوَلُّوكُمُ الادبار } أي ينهزمون من غير أن ينالوا منكم شيئاً من قتل أو أسرٍ { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } عطفٌ على الشرطية وثم للتراخي في الرتبة أي لا يُنصرون من جهة أحدٍ ولا يُمنعون منكم قتلاً وأخذاً . وفيه تثبيتٌ لمن آمن منهم فإنهم كانوا يؤذونهم بالتلهي بهم وتوبيخِهم وتضليلِهم وتهديدِهم ، وبشارةٌ لهم بأنهم لا يقدِرون على أن يتجاوزوا الأذى بالقول إلى ضرر يُعبأ به مع أنه وعدهم الغلَبةَ عليهم والانتقامَ منهم وأن عاقبةَ أمرِهم الخِذلانُ والذلُّ ، وإنما لم يُعطَفْ نفيُ منْصوريّتِهم على الجزاء لأن المقصودَ هو الوعدُ بنفي النصرِ مطلقاً ولو عطف عليه لكان مقيداً بمقاتلتهم كتولية الأدبارِ ، وكم بين الوعدين كأنه قيل : ثم شأنُهم الذي أخبركم عنه وأبشرَكم به أنهم مخذولون مُنتفٍ عنهم النصرُ والقوةُ لا ينهضون بعد ذلك بجَناحٍ ولا يقومون على ساق ولا يستقيم لهم أمرٌ وكان كذلك حيث لقيَ بنو قريظةَ والنضيرِ وبنو قينُقاع ويهودُ خيبرَ ما لقُوا .(1/437)
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)
{ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة } أي هدرُ النفسِ والمالِ والأهلِ وذلُّ التمسكِ بالباطل { أَيْنَمَا ثُقِفُواْ } أي وُجدوا { إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ الله وَحَبْلٍ مّنَ الناس } استثناءٌ من أعم الأحوال أي ضربت عليهم الذلةُ ضربَ القُبةِ على مَنْ هي عليه في جميع الأحوال إلا حالَ كونِهم معتصمين بذمة الله أو كتابِه الذي أتاهم وذمةِ المسلمين أو بذمة الإسلام واتباعِ سبيلِ المؤمنين { وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ الله } أي رجعوا مستوجبين له ، والتنكيرُ للتفخيم والتهويل ومن متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لغضب مؤكدةً لما أفاده التنكيرُ من الفخامة والهول أي كائنٍ من الله عز وجل { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة } فهي محيطةٌ بهم من جميع جوانبِهم واليهودُ كذلك في غالب الحالِ مساكينُ تحت أيدي المسلمين والنصارى .
{ ذلك } إشارةٌ إلى ما ذكر من ضَرْب الذِلةِ والمسكنةِ عليهم والبَوْءِ بالغضب العظيم { بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله } أي ذلك الذي ذكر كائنٌ بسبب كفرِهم المستمرِّ بآياتِ الله الناطقةِ بنبوة محمدٍ عليه الصلاة والسلام وتحريفِهم لها وبسائر الآياتِ القرآنية { وَيَقْتُلُونَ الانبياء بِغَيْرِ حَقّ } أي في اعتقادهم أيضاً ، وإسناد القتلِ إليهم مع أنه فعلُ أسلافِهم لرضاهم به كما أن التحريفَ مع كونه من أفعال أحبارِهم يُنسَبُ إلى كل من يسير بسيرتهم { ذلك } إشارةٌ إلى ما ذُكر من الكفر والقتل { بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } أي كائنٌ بسبب عصيانِهم واعتدائِهم حدودَ الله تعالى على الاستمرار فإن الإصرارَ على الصغائر يُفضي إلى مباشرة الكبائِر والاستمرارَ عليها يؤدي إلى الكفر ، وقيل : معناه أن ضربَ الذلةِ والمسكنةِ في الدنيا واستيجابَ الغضبِ في الآخرة كما هو معلَّلٌ بكفرهم وقتلِهم فهو مسبَّبٌ عن عصيانهم واعتدائِهم من حيث إنهم مخاطَبون بالفروع من حيث المؤاخذة { لَيْسُواْ سَوَاء } جملةٌ مستأنفة سيقت تمهيداً لتعداد محاسِن مؤمني أهلِ الكتابِ وتذكيراً لقوله تعالى : { مّنْهُمُ المؤمنون } والضميرُ في ليسوا لأهل الكتاب جميعاً لا للفاسقين منهم خاصة وهو اسمُ ليس وخبرُه سواءً ، وإنما أُفرد لأنه في الأصل مصدرٌ والمرادُ بنفي المساواةِ نفيُ المشاركةِ في أصل الاتصافِ بالقبائح المذكورةِ لا نفيُ المساواةِ في مراتب الاتصافِ بها مع تحقق المشاركة في أصل الاتصافِ بها أي ليس جميعُ أهل الكتابِ متشاركين في الاتصاف بما ذُكر من القبائح والابتلاءِ بما يترتب عليها من العقوبات وقوله تعالى : { مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ } استئنافٌ مبينٌ لكيفية عدمِ تساويهم ، ومزيل لما فيه من الإبهام كما أن ما سبق من قوله تعالى : { تَأْمُرُونَ بالمعروف } الآية ، مبينٌ لقوله تعالى : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } الخ ، ووضعُ أهلِ الكتابِ موضعَ الضميرِ العائد إليهم لتحقيق ما به الاشتراكُ بين الفرقين والإيذانِ بأن تلك الأمةَ ممن أوتي نصيباً وافراً من الكتاب لا من أراذلهم . والقائمةُ : المستقيمةُ العادلةُ مِن أقمتُ العودَ فقام بمعنى استقام وهم الذين أسلموا منهم كعبدِ اللَّه بنِ سلام ، وثعلبةَ بنِ سعيد وأُسَيْدِ بنِ عبيد ، وأضرابِهم وقيل : هم أربعون رجلاً من أهل نجرانَ واثنان وثلاثون من الحبشة وثلاثةٌ من الروم كانوا على دين عيسى وصدّقوا محمداً عليهما الصلاة والسلام ، وكان من الأنصار فيهم عدةٌ قبل قدومِ النبي عليه السلام منهم أسعدُ بنُ زُرارة ، والبراءُ بن معرورٍ ، ومحمدُ بنُ مسلمةَ ، وأبو قيس صرمةُ بنُ أنسٍ ، كانوا موحّدين يغتسلون من الجنابة ويقومون بما يعرِفون من شرائع الحنيفيةِ حتى بعث الله النبيُّ صلى الله عليه وسلم فصدّقوه ونصَروه .(1/438)
وقوله تعالى : { يَتْلُونَ ءايات الله } في محل الرفع على أنه صفةٌ أخرى لأمة ، وقيل : في محل النصب على أنه حالٌ منها لتخصُّصها بالنعت ، والعاملُ فيه الاستقرارُ الذي يتضمنه الجارُّ أو من ضميرها في { قَائِمَةً } أو من المستكنّ في الجار لوقوعه خبراً لأمة والمرادُ بآياتِ الله القرآنُ ، وقوله تعالى : { آناءَ اللَّيْل } ظرفٌ ليتلون أي في ساعاته جمع أَنىً بزنة عصا أو إِنىً بزنة مِعىً ، أو أنْي بزنة ظبْي ، أو إنْي بزنة نِحْي ، أو إنْو بزنة جِرْو .
{ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } أي يصلّون إذ لا تلاوة في السجود ، قال عليه الصلاة والسلام : « ألا إني نُهيت أن أقرأ راكعاً وساجداً » وتخصيصُ السجودِ بالذكر من بين سائر أركانِ الصلاةِ لكونه أدلَّ على كمال الخضوعِ ، والتصريحُ بتلاوتهم آياتِ الله في الصلاة مع أنها مشتملةٌ عليها قطعاً لزيادة تحقيقِ المخالفةِ وتوضيحِ عدمِ المساواةِ بينهم وبين الذين وُصفوا آنفاً بالكفر بها وهو السرُّ في تقديم هذا النعتِ على نعت الإيمانِ ، والمرادُ بصلاتهم التهجدُ إذ هو أدخلُ في مدحهم وفيه تتسنى لهم التلاوةُ فإنها في المكتوبة وظيفةُ الإمامِ ، واعتبارُ حالِهم عند الصلاةِ على الانفراد يأباه مقامُ المدحِ ، وهو الأنسبُ بالعدول عن إيرادها باسم الجنسِ المتبادرِ منه الصلاةُ المكتوبة وبالتعبير عن وقتها بالآناء المُبهمة ، وقيل : صلاةُ العِشاءِ لأن أهلَ الكتاب لا يصلّونها ، لما رُوي أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أخّرها ليلةً ثم خرجَ فإذا الناسُ ينتظرون الصلاةَ فقال : « أما إنه ليس من أهل الأديان أحدٌ يذكرُ الله هذه الساعةَ غيرُكم » وقرأ هذه الآية . وإيرادُ الجملةِ اسميةً للدَلالة على الاستمرار ، وتكريرُ الإسنادِ لتقوية الحكمِ وتأكيدِه ، وصيغةُ المضارعِ للدِلالة على التجدد ، والجملةُ حالٌ من فاعل يتلون ، وقيل : هي مستأنفةٌ والمعنى أنهم يقومون تارةً ويسجدون أخرى يبتغون الفضلَ والرحمةَ بأنواع ما يكون في الصلاة من الخضوع لله عز وجل كما في قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وقياما } وقيل : المرادُ بالسجود هو الخضوعُ كما في قوله تعالى : { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السموات والارض }(1/439)
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
{ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر } صفةٌ أخرى لأُمةٌ مبينةٌ لمُباينتهم اليهودَ من جهة أخرى أي يؤمنون بهما على الوجه الذي نطقَ به الشرعُ ، والإطلاقُ للإيذان بالغنى عن التقييد ، لظهور أنه الذي يُطلق عليه الإيمانُ بهما فلا يذهبُ الوهمُ إلى غيره ، وللتعريض بأن إيمانَ اليهودِ بهما مع قولهم : عزيرٌ ابنُ الله وكفرِهم ببعض الكتبِ والرسلِ ووصفِهم اليومَ الآخِرَ بخلاف صفتِه ليس من الإيمان بهما في شيء أصلاً ولو قُيد بما ذُكر فربما تُوُهِّم أن المنتفيَ عنهم هو القيدُ المذكورُ مع جواز إطلاقِ الإيمانِ على إيمانهم بالأصل وهيهات .
{ وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } صفتان أُخْرَيان لأُمةٌ أُجرِيتا عليهم تحقيقاً لمخالفتهم اليهودَ في الفضائل المتعلقةِ بتكميل الغيرِ إثرَ بيانِ مُباينتِهم لهم في الخصائص المتعلقةِ بتكميل النفسِ ، وتعريضاً بمداهنتهم في الاحتساب بل بتعكيسهم في الأمر بإضلال الناسِ وصدِّهم عن سبيل الله فإنه أمرٌ بالمنكر ونهيٌ عن المعروف { ويسارعون فِى الخيرات } صفةٌ أخرى لأمةٌ جامعةٌ لفنون المحاسنِ المتعلقةِ بالنفس وبالغير ، والمسارعةُ في الخير فرطُ الرغبةِ فيه لأن من رغِب في الأمر سارع في تولّيه والقيامِ به وآثر الفَورَ على التراخي أي يبادرون مع كمال الرغبةِ في فعل أصنافِ الخيراتِ اللازمةِ والمتعدية ، وفيه تعريضٌ بتباطؤ اليهودِ فيها بل مبادرتهم إلى الشرور ، وإيثارُ كلمةِ { فِى } على ما وقع في قوله تعالى : { وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ } الخ للإيذان بأنهم مستقِرّون في أصل الخيرِ متقلّبون في فنونه المترتبةِ في طبقات الفضلِ لا أنهم خارجون عنها منتهون إليها { وَأُوْلئِكَ } إشارةٌ إلى الأمة باعتبار اتصافِهم بما فُصّل من النعوت الجليلةِ ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلوّ درجتِهم وسموّ طبقتِهم في الفضل ، وإيثارُه على الضمير للإشعار بعلة الحُكم والمدح أي أولئك المنعوتون بتلك الصفاتِ الفاضلة بسبب اتصافِهم بها { مّنَ الصالحين } أي من جملة من صلَحَت أحوالُهم عند الله عز وجل واستحقوا رضاه وثناءَه { وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } كائناً ما كان مما ذُكر أو لم يُذكر { فَلَنْ يُكْفَروهُ } أي لن يعدَموا ثوابَه اْلبتةَ ، عبّر عنه بذلك كما عبر عن تَوْفية الثوابِ بالشكر إظهاراً لكمال تنزّهِه سبحانه وتعالى عن ترك إثابتِهم بتصويره بصورة ما يستحيل صدورُه عنه تعالى من القبائح ، وتعديتُه إلى مفعولين بتضمين معنى الحرمانِ ، وإيثارُ صيغةِ البناءِ للمفعول للجري على سنن الكبرياء وقرىء الفعلانِ على صيغة الخطاب .
{ والله عَلِيمٌ بالمتقين } تذييلٌ مقرِّرٌ ما قبله ، فإن علمَه تعالى بأحوالهم يستدعي تَوْفيةَ أجورِهم لا محالة ، والمرادُ بالمتقين إما الأمةُ المعهودةُ ، وضع موضِعَ الضميرِ العائدِ إليهم مدحاً لهم وتعييناً لعُنوان تعلّقِ العلمِ بهم وإشعاراً بمناط إثابتِهم هو التقوى المنطويةُ على الخصائص السالفةِ وإما جنسُ المتقين عموماً وهم مندرجون تحت حُكمِه اندراجاً أولياً .(1/440)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ } أي بما يجب أن يؤمَن به . قال ابن عباسرضي الله عنهما : هم بنو قُريظةَ والنضير فإن معاندتَهم كانت لأجل المالِ ، وقيل : هم مشركو قريشٍ فإن أبا جهلٍ كان كثيرَ الافتخار بماله ، وقيل : أبو سفيان وأصحابُه فإنه أنفق مالاً كثيراً على الكفار يومَ بدرٍ وأحُد ، وقيل : هم الكفارُ كافةً فإنهم فاخروا بالأموال والأولادِ حيث قالوا : نحن أكثرُ أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذّبين ، فردَّ الله عز وجل عليهم وقال : { لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ } أي لن تدفَع عنهم { أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله } أي من عذابه تعالى { شَيْئاً } أي شيئاً يسيراً منه أو شيئاً من الإغناء { وَأُوْلئِكَ أصحاب النار } أي مصاحبوها على الدوام وملازموها { هُمْ فِيهَا خالدون } أبداً .
{ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِى هذه الحياة الدنيا } بيانٌ لكيفية عدمِ إغناءِ أموالِهم التي كانوا يعوِّلون عليها في جلب المنافعِ ودفعِ المضارِّ ويعلِّقون بها أطماعَهم الفارغةَ ، و { مَا } موصولةٌ اسميةٌ حُذف عائدُها أي حالُ ما ينفقه الكفرةُ قربةً أو مفاخرةً وسُمعةً أو المنافقون رياءً وخوفاً وقصتُه العجيبةُ التي تجري مجرى المثل في الغرابة { كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ } أي بردٌ شديدٌ فإنه في الأصل مصدرٌ وإن شاع إطلاقُه على الريح الباردةِ كالصَّرْصَر ، وقيل : كلمة في تجريدية كما في قوله تعالى : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } { أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } بالكفر والمعاصي فباءوا بغضب من الله ، وإنما وُصفوا بذلك لأن الإهلاكَ عن سَخَط أشدُّ وأفظع { فَأَهْلَكَتْهُ } عقوبةً لهم ولم تدَعْ منه أثراً ولا عِثْيَراً والمرادُ تشبيهُ ما أنفقوا في ضياعه وذهابِه بالكلية من غير أن يعودَ إليهم نفعٌ ما بحرْثِ ( قومٍ ) كفارٍ ضربتْه صِرٌّ فاستأصلتْه ولم يبقَ لهم فيه منفعةٌ ما بوجه من الوجوه ، وهو من التشبيه المركبَ الذي مرَّ تفصيلُه في تفسير قولِه تعالى : { كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً } ولذلك لم يبالِ بإيلاء كلمةِ التشبيهِ الريحَ دون الحرثِ ، ويجوز أن يرادَ مثَلُ إهلاكِ ما ينفقون كمثَل إهلاكِ ريحٍ أو مثلُ ما ينفقون كمثَل مهلِكِ ريحٍ وهو الحرثُ وقرىء تنفقون { وَمَا ظَلَمَهُمُ الله } بما بيَّنه من ضياع ما أنفقوا من الأموال { ولكن أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } لما أضاعوها بإنفاقها لا على ما ينبغي ، وتقديمُ المفعولِ لرعاية الفواصلِ لا للتخصيص ، إذ الكلامُ في الفعل باعتبار تعلّقِه بالفاعل لا بالمفعول أي ما ظلمهم الله ولكن ظلموا أنفسَهم ، وصيغةُ المضارعِ للدَّلالة على التجدد والاستمرارِ ، وقد جُوِّز أن يكون المعنى وما ظلم الله تعالى أصحابَ الحرْثِ بإهلاكه ولكنهم ظلموا أنفسَهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبةَ ، ويأباه أنه قد مر التعرُّضُ له تصريحاً ، وقرىء ولكنّ بالتشديد على أن أنفسَهم اسمُها ويظلِمون خبرُها والعائدُ محذوفٌ للفاصلة أي ولكنَّ أنفسَهم يظلِمونها ، وأما تقديرُ ضميرِ الشأن فلا سبيلَ إليه لاختصاصه بالشعر ضرورةً كما في قوله :
ولكنَّ منْ يُبصِر جفونَك يعشقِ ...(1/441)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً } بطانةُ الرجل ووَليجتُه مَنْ يُعرِّفه أسرارَه ثقةً به ، شُبِّه ببطانة الثوب كما شُبِّه بالشِّعار ، قال عليه الصلاة والسلام : « الأنصارُ شِعار والناسُ دِثار » قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان رجال من المؤمنين يواصلون اليهودَ لما بينهم من القرابة والصداقةِ والمحالفة فأنزل الله تعالى هذه الآيةَ ، وقال مجاهد : نزلتْ في قوم من المؤمنين كانوا يواصِلون المنافقين فنُهوا عن ذلك ويؤيده قوله تعالى : { هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ } وهي صفةُ المنافق وإياً ما كان فالحكمُ عامٌ للكفرة كافةً { مّن دُونِكُمْ } أي من دون المسلمين وهو متعلقٌ بلا تتخذوا أو بمحذوف وقعَ صفةً لبِطانة أي كائنةً من دونكم مجاوزةً لكم .
{ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } جملةٌ مستأنفةٌ مبينةٌ لحالهم داعيةٌ إلى الاجتناب عنهم أو صفةُ بطانةً ، يقال : أَلا في الأمر إذا أقصَرَ فيه ثم استُعمل مُعدًّى إلى مفعولين في قولهم : لا آلوكَ نُصحاً ولا آلوك جُهداً على تضمين معنى المنْعِ والنقصِ ، والخَبالُ الفسادُ أي لا يُقْصِرون لكم في ( تمني ) الفسادِ { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } أي تمنَّوْا عَنَتَكم أي مشقتَكم وشدةَ ضررِكم وهو أيضاً استئنافٌ مؤكدٌ للنهي موجبٌ لزيادة الاجتنابِ عن المنهيِّ عنه { قَدْ بَدَتِ البغضاء مِنْ أفواههم } استئنافٌ آخرُ مفيدٌ لمزيد الاجتنابِ عن المنهيِّ عنه أي قد ظهرت البغضاءُ في كلامهم لِما أنهم لا يتمالكون مع مبالغتهم في ضبط أنفسِهم وتحاملِهم عليها أن ينفلِتَ من ألسنتهم ما يُعلم به بغضُهم للمسلمين . وقرىء قد بدا البغضاءُ ، والأفواهُ جمعُ فم وأصلُه فوهٌ فلامُه هاءٌ يدل على ذلك جمعُه على أفواه وتصغيرُه على فُوَيه والنسبةُ إليه فوهيٌّ { وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } مما بدا لأن بُدُوَّه ليس عن رَويَّة واختيار { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الايات } الدالةَ على وجوب الإخلاصِ في الدين وموالاةِ المؤمنين ومعاداةِ الكافرين { إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } أي إن كنتم من أهل العقلِ أو إن كنتم تعقِلون ما بُيِّن لكم من الآيات ، والجوابُ محذوفٌ لدِلالة المذكورِ عليه .
{ هَاأَنتُمْ أُوْلاء } جملةٌ من مبتدإٍ وخبرٍ صُدِّرت بحرف التنبيهِ إظهاراً لكمال العنايةِ بمضمونها أي أنتم أولاءِ المخطِئون في موالاتهم . وقوله تعالى : { تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } بيانٌ لخطئهم في ذلك وهو خبرٌ ثانٍ لأنتم أو خبرٌ لأولاءِ والجملةُ خبرٌ لأنتم كقولك : أنت زيدٌ تحبُّه ، أو صلةٌ له أو حالٌ والعاملُ معنى الإشارةِ ، ويجوز أن ينتصِبَ أولاءِ بفعل يفسِّره ما بعده وتكونُ الجملةُ خبراً { وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلّهِ } أي بجنس الكتبِ جميعاً وهو حالٌ من ضمير المفعول في { لا يُحِبُّونَكُمْ } والمعنى لا يحبونكم والحالُ أنكم تؤمنون بكتابهم فما بالُكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم؟ وفيه توبيخٌ بأنهم في باطلهم أصلبُ منكم في حقكم { هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ } نفاقاً { وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الانامل مِنَ الغيظ } أي من أجله تأسفاً وتحسراً حيث لم يجدوا إلى التشفي سبيلاً { قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } دعاءٌ عليهم بدوام الغيظِ وزيادتِه بتضاعف قوةِ الإسلامِ وأهلِه إلى أن يهلِكوا به أو باشتداده إلى أن يهلكهم { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } فيعلم ما في صدوركم من العداوة والبغضاء والحنَقِ وهو يحتملُ أن يكون من المَقول أي وقل لهم : إن الله تعالى عليمٌ بما هو أخفى مما تُخفونه من عضّ الأناملِ غيظاً ، وأن يكون خارجاً عنه بمعنى لا تتعجْب من اطْلاعي إياك على أسرارهم فإني عليمٌ بذات الصدور .(1/442)
وقيل : هو أمرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطيب النفسِ وقوة الرجاءِ والاستبشار بوعد الله تعالى أن يَهلِكوا غيظاً بإعزاز الإسلامِ وإذلالِهم بقوته من غير أن يكون ثمةَ قولٌ كأنه قيل : حدِّث نفسَك بذلك .(1/443)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
{ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا } بيانٌ لتناهي عداوتِهم إلى حدِّ أنْ حسَدوا ما نالهم من خير ومنفعة وشمِتُوا بما أصابهم من ضر وشدة . وذكرُ المسِّ مع الحسنة والإصابة مع السيئة إما للإيذان بأن مدارَ مساءتِهم أدنى مراتبِ إصابةِ الحسنةِ ومناطَ فرحِهم تمامُ إصابةِ السيئةِ ، وإما لأن المسَّ مستعارٌ لمعنى الإصابة { وَأَن تَصْبِرُواْ } أي على عداوتهم أو على مشاقّ التكاليفِ { وَتَتَّقُواْ } ما حرّم الله تعالى عليكم ونهاكم عنه { لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ } مكرُهم وحيلتُهم التي دبّروها لأجلكم ، وقرىء لا يضِرْكم بكسر الضاد وجزم الراء على جواب الشرط من ضارَه يضيرُه بمعنى ضرّه يضُرّه ، وضمةُ الراءِ في القراءة المشهورة للإتباع كضمة مَدّ { شَيْئاً } نُصب على المصدرية أي لا يضركم شيئاً من الضرر بفضل الله وحفظِه الموعودِ للصابرين والمتقين ولأن المُجِدَّ في الأمر المتدرِّبَ بالاتقاء والصبرِ يكون جريئاً على الخصم { إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ } في عداوتكم من الكيد { مُحِيطٌ } علماً فيعاقبهم على ذلك . وقرىء بالتاء الفوقية أي بما تعملون من الصبر والتقوى فيجازيكم بما أنتم أهلُه .
{ وَإِذْ غَدَوْتَ } كلامٌ مستأنفٌ سيق للاستشهاد بما فيه من استتباع عدمِ الصبرِ والتقوى للضرر ، على أن وجودَهما مستتبِعٌ لما وُعِد من النجاة من مضرَّة كيدِ الأعداءِ وإذْ نُصبَ على المفعولية بمضمر خوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم خاصة مع عموم الخطابِ فيما قبله وما بعده له وللمؤمنين لاختصاص مضمونِ الكلامِ به عليه السلام أي واذكر لهم وقت غُدُوِّك ليتذكروا ما وقع فيه من الأحوال الناشئةِ عن عدم الصبرِ فيعلموا أنهم إن لزِموا الصبرَ والتقوى لا يضرُهم كيدُ الكفرةِ ، وتوجيهُ الأمرِ بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات للمبالغةِ في إيجابها كُرْهاً واستحضارِ الحادثةِ بتفاصيلها كما سلف بيانُه في تفسير قولِه تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة } الخ والمرادُ به خروجُه عليه السلام إلى أُحد وكان ذلك من منزل عائشةَ رضي الله عنها وهو المرادُ بقوله تعالى : { مِنْ أَهْلِكَ } أي من عند أهلِك { تبوئ المؤمنين } أي تنْزِلُهم أو تهيِّيءُ وتسوّي لهم { مقاعد } ويؤيده قراءتُه من قرأ تبويءُ المؤمنين ، والجملة حالٌ من فاعل غدوتَ لكن لا على أنها حالٌ مقدرةٌ أي ناوياً وقاصداً للتبْوِئة كما قيل بل على أن المقصودَ تذكيرُ الزمانِ الممتدِّ المتسعِ لابتداء الخروجِ والتبْوِئة وما يترتب عليها إذْ هو المُذكِّرُ للقصة ، وإنما عُبّر عنه بالغدو الذي هو الخروجُ غُدوةً مع كون خروجِه عليه السلام بعد صلاةِ الجمعةِ كما ستعرفه ، إذْ حينئذٍ وقعت التبوئةُ التي هي العُمدةُ في الباب إذِ المقصودُ بتذكير الوقت تذكيرُ مخالفتِهم لأمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتزايُلِهم عن أحيازهم المعيَّنةِ لهم عند التبوئة وعدمِ صبرِهم ، وبهذا يتبين خللُ رأي من احتج به على جواز أداءِ صلاةِ الجمعة قبل الزوال ، واللام في قوله تعالى : { لِلْقِتَالِ } إما متعلقةٌ بتبوِّيء أي لأجل القتالِ وإما بمحذوف وقع صفةً لمقاعدَ أي كائنةً .(1/444)
ومقاعدُ القتالِ أماكنُه ومواقِفُه فإن استعمالَ المقعدِ والمقامِ بمعنى المكانِ اتساعاً شائعٌ ذائعٌ كما في قوله تعالى : { فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ } وقوله تعالى : { قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ }
روي أن المشركين نزلوا بأُحد يومَ الأربَعاءِ فاستشار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه ودعا عبدُ اللَّه عبدِ اللَّه بنِ أُبيِّ بنِ سَلول ولم يكن دعاه قبل ذلك ، فاستشاره فقال عبدُ اللَّه وأكثرُ الأنصار : يا رسولَ الله أقِم بالمدينة ولا تخرُجْ إليهم فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ولا دخلها علينا إلا أصبْنا منه ، فكيف وأنت فينا؟ فدَعْهم فإن أقاموا أقاموا بشرِّ مَحبِس ، وإن دخلوا قاتلهم الرجالُ في وجوههم ورماهم النساءُ والصبيانُ بالحجارة ، وإن رجعوا رجعوا خائبين ، وقال بعضُهم : يا رسول الله اخرُجْ بنا إلى هؤلاء الأكلُبِ لا يرَوْن أنا قد جبُنّا عنهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : " إني قد رأيت في منامي بقراً مُذَبَّحةً حولي فأوّلتُها خيراً ورأيت في ذُباب سيفي ثُلَماً فأولتُه هزيمةً ، ورأيتُ كأني أدخلتُ يدي في درعٍ حصينةٍ فأولتُها المدينة ، فإن رأيتم أن تُقيموا بالمدينة فتدعوهم " فقال رجال من المسلمين قد فاتتهم بدرٌ وأكرمهم الله تعالى بالشهادة يومئذ : اخرُجْ بنا إلى أعدائنا ، وقال النعمانُ بنُ مالكٍ الأنصاريُّ رضي الله عنه : يا رسول الله لا تحرِمْني الجنةَ فوالذي بعثك بالحق لأدخُلَنَّ الجنة ثم قال بقوليْ : { أُشْهِدُ أَن لاَّ إله إِلاَّ الله } وأني لا أفِرُّ من الزحف ، فلم يزالوا به عليه السلام حتى دخل فلبِس لاَءْمتَه فلما رأَوْه كذلك ندِموا وقالوا : بئسما صنعنا نشير على رسول الله والوحيُ يأتيه وقالوا : اصنعْ يا رسولَ الله ما رأيت ، فقال : " ما ينبغي لنبيَ أن يلبَسَ لاَءْمتَه فيضعَها حتى يقاتل " فخرج يومَ الجمعة بعد صلاةِ الجمعةِ وأصبح بالشِّعب من أحُد يوم السبْتِ للنصف من شوالٍ لسنةِ ثلاثٍ من الهجرة فمشى على رجليه فجعل يصُفُّ أصحابَه للقتال فكأنما يقوّم بهم القِدْحَ إن رأى صدراً خارجاً قال : «تأخَّرْ» ، وكان نزولُه في عُدوة الوادي وجعل ظهرَه وعسكرَه إلى أحُد وأمَّر عبدَ اللَّه بنَ جُبيرٍ على الرماة وقال لهم : انضَحُوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا ولا تبرَحوا من مكانكم فلن نزالَ غالبين ما ثبتم مكانَكم { والله سَمِيعٌ } لأقوالكم { عَلِيمٌ } بضمائركم والجملةُ اعتراضٌ للإيذان بأنه قد صدر عنهم هناك من الأقوال والأفعال ما لا ينبغي صدورُه عنهم .(1/445)
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
{ إِذْ هَمَّتْ } بدلٌ من إذ غدوت مبينٌ لما هو المقصودُ بالتذكير أو ظرفٌ لسميعٌ عليمٌ ، على معنى أنه تعالى جامعٌ بين سماعِ الأقوالِ والعلمِ بالضمائر في ذلك الوقتِ إذ لا وجهَ لتقييد كونِه تعالى سميعاً عليماً بذلك الوقت . قال الفراءُ : معنى قولِك : ضربتُ وأكرمتُ زيداً أن زيداً منصوبٌ بهما وأنهما تسلّطا عليه معاً . { طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ } متعلقٌ بهمَّتْ والباءُ محذوفةٌ أي بأن تفشَلا أي تجبُنا وتضعُفا وهما حيانِ من الأنصار بنو سلمةَ من الخزرج وبنو حارثةَ من الأوس ، وهما الجناحانِ من عسكر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا ألفَ رجل وقيل : تسعَمائةٍ وخمسين وَعَدهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الفتحَ إن صبَروا فلما قاربوا عسكرَ الكفرةِ وكانوا ثلاثةَ آلافٍ انخذل عبدُ اللَّه بنُ أبيَ بثلث الناسِ فقال : يا قومُ علامَ نَقتُل أنفسَنا وأولادَنا فتبِعَهم عمروُ بنُ حزم الأنصاري فقال : أنشُدكم الله في نبيكم وأنفسِكم ، فقال عبدُ اللَّه : لو نعلم قتالاً لاتّبعناكم فهمّ الحيانِ باتِّباع عبدِ اللَّه فعصمَهم الله تعالى فمضَوْا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أضمَروا أن يرجِعوا فعزم الله لهم على الرشد فثبَتوا والظاهرُ أنها ما كانت إلا همَّةً وحديثَ نفس قلما تخلو النفسُ عنه عند الشدائدِ { والله وَلِيُّهُمَا } أي عاصِمُهما عن اتباع تلكِ الخَطرةِ ، والجملةُ اعتراضٌ ويجوز أن تكون حالاً من فاعل همَّتْ أو من ضميره في تفشلا مفيدةٌ لاستبعاد فشلِهما أو همِّهما به مع كونهما في ولاية الله تعالى ، وقرىء والله وليُّهم كما في قوله تعالى : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } { وَعَلَى الله } وحده دون ما عداه مطلقاً استقلالاً أو اشتراكاً { فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } في جميع أمورِهم فإنه حسبُهم . وإظهارُ الاسمِ الجليلِ للتبرك والتأميل فإن الألوهيةَ من موجبات التوكلِ عليه تعالى ، واللامُ في المؤمنين للجنس فيدخلُ فيه الطائفتان دخولاً أولياً ، وفيه إشعارٌ بأن وصفَ الإيمان من دواعي التوكلِ وموجباتِه .(1/446)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)
{ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ } جملةٌ مستأنفةٌ سيقت لإيجاب الصبرِ والتقوى بتذكير ما ترتب عليهما من النصر إثرَ تذكيرِ ما ترتب على عدمهما من الضرر ، وقيل : لإيجاب التوكلِ على الله تعالى بتذكير ما يوجبه ، وبدرٌ اسمُ ماءٍ بين مكةَ والمدينة ، كان رجل اسمُه بدرُ بنُ كِلْدةَ فسُمِّيَ باسمِه ، وقيل : سمِّي به لصفائه كالبدر واستدارتِه ، وقيل : هو اسمُ الموضِعِ أو الوادي وكانت وقعةُ بدرٍ في السابعَ عشرَ من شهر رمضانَ سنةَ اثنتين من الهجرة { وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ } حالٌ من مفعول نصركم وأذلةٌ جمعُ ذليلٍ وإنما جُمع جَمْعُ قِلةً للإيذان باتصافهم حينئذ بوصفي القِلة والذِلة إذ كانوا ثلثَمائةٍ وبضعةَ عشرَ وكان ضعفُ حالِهم في الغاية خرجوا على النواضِح يعتقِبُ النفرُ منهم على البعير الواحدِ ولم يكن في العسكر إلا فرسٌ واحدٌ ، وقيل : فرَسانِ للمقداد ومرْثَد وتسعون بعيراً وستُّ أدرعٍ وثمانيةُ سيوفٍ وكان العدو زهاءَ ألفٍ ومعهم مائةُ فرسٍ وشكة وشوْكة { فاتقوا الله } اقتصر على الأمر بالتقوى مع كونه مشفوعاً بالصبر فيما سبق وما لحِق للإشعار بأصالته ، وكونِ الصبرِ من مباديه اللازمةِ له ولذلك قُدم عليه في الذكر وفي ترتيب الأمرِ بالتقوى على الإخبار بالنصر إيذانٌ بأن نصرَهم المذكورَ كان بسبب تقواهم أي إذا كان الأمرُ كذلك فاتقوا الله كما اتقيتم يومئذ { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي راجين أن تشكُروا ما يُنعِم به عليكم بتقواكم من النصرة كما شكرتم فيما قبلُ ، أو لعلكم يُنعم الله عليكم بالنصر كما فعل ذلك من قبل ، فوُضِع الشكرُ موضِعَ سببِه الذي هو الإنعامُ .
{ إِذْ تَقُولُ } تلوينٌ للخطاب بتخصيصه برسول الله صلى الله عليه وسلم لتشريفه والإيذانِ بأن وقوعَ النصرِ كان ببشارته عليه السلام { لَهُمْ } وإذ ظرفٌ لنصَرَكم قدِّم عليه الأمرُ بالتقوى لإظهار كمالِ العنايةِ به ، والمرادُ به الوقتُ الممتدُ الذي وقع فيه ما ذكر بعده وما طُويَ ذكرُه تعويلاً على شهادة الحالِ مما يتعلق به وجودُ النصرِ ، وصيغةُ المضارعِ لحكاية الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتِها أي نصركم وقت قولك : { لِلْمُؤْمِنِينَ } حين أظهروا العجزَ عن المقاتلة . قال الشعبي : بلغ المؤمنين أن كُرْزَ بنَ جابرٍ الحنفي يريد أن يُمِدَّ المشركين فشق ذلك على المؤمنين فنزل حينئذ ثم حكي هاهنا { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ ربكم بثلاثة آلافٍ } الكفايةُ سدُّ الخَلّةِ والقيامُ بالأمر ، والإمدادُ في الأصل إعطاءُ الشيءِ حالاً بعد حال . قال المفضّل : ما كان منه بطريق التقويةِ والإعانةِ يقال فيه : أمَدَّه يُمِدُّه إمداداً وما كان بطريق الزيادة يقال فيه : مَدَّه يمُدّه مداً ومنه { والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ } وقيل : المَدّ في الشر كما في قوله تعالى : { وَيَمُدُّهُمْ فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ } وقولِه : { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً } والإمدادُ في الخير كما في قوله تعالى : { وأمددناكم بأموال وَبَنِينَ } والتعرُّضُ لعنوان الربوبية هاهنا وفيما سيأتي مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار العنايةِ بهم والإشعارِ بعلةِ الإمداد ، والمعنى إنكارُ عدمِ كفايةِ الإمدادِ بذلك المقدار ونفيُه . وكلمة { لَنْ } للإشعار بأنهم كانوا حينئذ كالآيسين من النصر لضعفهم وقلّتِهم وقوةِ العدوّ وكثرتهم { مِنَ الملئكة } بيانٌ أو صفة لآلافٍ أو لما أُضيف إليه أي كائنين من الملائكة { مُنزَلِينَ } صفةٌ لثلاثةِ آلافٍ ثم خمسةِ آلافٍ . وقرىء مبنياً للفاعل من الصيغتين أي مُنزِلين النصرَ .(1/447)
بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
{ بلى } إيجابٌ لما بعد { لَنْ } وتحقيقٌ له أي بلى يكفيكم ذلك ثم وعدَهم الزيادةَ بشرط الصبرِ والتقوى حثاً لهم عليهما وتقويةً لقلوبهم فقال : { إِن تَصْبِرُواْ } على لقاء العدو ومناهضتِهم { وَتَتَّقُواْ } معصيةَ الله ومخالفةَ نبيِّه عليه الصلاة والسلام { وَيَأْتُوكُمْ } أي المشركون { مّن فَوْرِهِمْ هذا } أي من ساعتهم هذه ، وهو في الأصل مصدرُ فارَت القِدرُ أي اشتد غَلَيانُها ثم استُعير للسرعة ثم أُطلق على كل حالةٍ لا ريث فيها أصلاً ، ووصفُه بهذا لتأكيد السرعةِ بزيادة تعيينِه وتقريبِه . ونظمُ إتيانِهم بسرعة في سلك شرطَي الإمداد المستتبِعَيْن له وجوداً وعدماً أعني الصبرَ والتقوى مع تحقق الإمدادِ لا محالةَ سواءٌ أسرعوا أو أبطأوا لتحقيق أصلِه أو لبيانِ تحقّقِه على أي حال فُرِضَ ، على أبلغ وجهٍ وآكَدِه بتعليقه بأبعدِ التقاديرِ ليُعلم تحقُّقُه على سائرها بالطريق الأوْلى ، فإن هجومَ الأعداءِ وإتيانَهم بسرعة من مظانّ عدمِ لُحوق المددِ عادةً ، فعُلِّق به تحققُ الإمدادِ إيذاناً بأنه حيث تحقق مع ما ينافيه عادةً فلأَنْ يتحقَّقَ بدونه أولى وأحرى كما إذا أردتَ وصفَ درعٍ بغاية الحَصانة تقول : إن لبستَها وبارزتَ بها الأعداءَ فضربوك بأيدٍ شدادٍ وسيوفٍ حِدادٍ لم تتأثرْ منها قطعاً { يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الملئكة مُسَوّمِينَ } من التسويم الذي هو إظهارُ سيما الشيءِ أي مُعْلِمين أنفسَهم أو خيلَهم ، فقد رُوي أنهم كانوا بعمائمَ بيضٍ إلا جبريلَ عليه السلام فإنه كان بعمامة صفراءَ على مثال الزبير بنِ العوام ، وروي أنهم كانوا على خيل بُلْقٍ . قال عروةُ بنُ الزبير : كانت الملائكةُ على خيل بُلْق عليهم عمائمُ بيضٌ قد أرسلوها بين أكتافِهم . وقال هشامُ بنُ عروة : عمائمُ صُفْرٌ . وقال قتادة والضحاك : كانوا قد أَعْلموا بالعِهْن في نواصي الخيلِ وأذنابِها ، روي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : « تسوَّموا فإن الملائكةَ قد تسوَّمت » وقرىء مسوَّمين على البناء للمفعول ومعناه مُعْلِمين من جهته سبحانه ، وقيل : مرسَلين من التسويم بمعنى الإسامة .(1/448)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)
{ وَمَا جَعَلَهُ الله } كلامٌ مبتدأٌ غيرُ داخلٍ في حيز القول مَسوقٌ من جنابه تعالى لبيان أن الأسبابَ الظاهرةَ بمعزل من التأثير وأن حقيقةَ النصرِ مختصٌّ به عز وجل ليثق به المؤمنون ولا يقنَطوا منه عند فُقدان أسبابِه وأماراتِه ، معطوفٌ على فعل مقدرٍ ينسحبُ عليه الكلامُ ويستدعيه النظامُ فإن الإخبارَ بوقوع النصرِ على الإطلاق وتذكيرَ وقتِه وحكايةَ الوعدِ بوقوعه على وجه مخصوصٍ هو الإمدادُ بالملائكة مرةً بعد أخرى ، وتعيينُ وقتِه فيما مضى يقضي بوقوعه حينئذ قضاءً قطعياً لكن لم يصرَّحْ به تعويلاً على تعاضُد الدلائلِ وتآخُذ الأماراتِ والمخايل وإيذاناً بكمال الغِنى عنه بل احتراز عن شائبة التكريرِ أو عن إيهام احتمالِ الخُلفِ في الوعد المحتومِ كأنه قيل : عَقيبَ قولِه تعالى : { يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الملئكة مُسَوّمِينَ } فأمدَّكم بهم وما جعله الله الخ . والجَعلُ متعدٍ إلى واحد هو الضميرُ العائد إلى مصدر ذلك الفعلِ المقدر وأما عَوْدُه إلى المصدر المذكورِ أعني قولَه تعالى : { أَن يُمِدَّكُمْ } أو إلى المصدر المدلولِ عليه بقوله تعالى : { يُمْدِدْكُمْ } كما قيل فغيرُ حقيقٍ بجزالة التنزيلِ لأن الهيئةَ البسيطةَ متقدمةٌ على المركبة ، فبيانُ العلةِ الغائبةِ لوجود الإمداد كما هو المرادُ بالنظم الكريم حقُّه أن يكون بعد بيانِ وجودِه في نفسه ، ولا ريب في أن المصدرَيْنِ المذكورين غيرُ معتبَرَيْنِ من حيث الوجودُ والوقوعُ كمصدر الفعلِ المقدرِ حتى يتصدى لبيان أحكامِ وجودِهما بل الأولُ معتبرٌ من حيث الكفايةُ والثاني من حيث الوعدُ على أن الأولَ هو الإمدادُ بثلاثة آلافٍ وقوله تعالى : { إِلاَّ بشرى لَكُمْ } استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم العللِ ، وتلوينُ الخطابِ لتشريف المؤمنين وللإيذان بأنهم المحتاجون إلى البِشارة وتسكينِ القلوب بتوفيق الأسبابِ الظاهرةِ وأن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم غنيٌ عنه بما له من التأييد الروحاني أي وما جعل إمدادَكم بإنزال الملائكةِ عِياناً لشيء من الأشياء إلا للبشرى لكم بأنكم تُنْصَرون { وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ } أي بالإمداد وتسكُنَ إليه كما كانت السكينةُ لبني إسرائيلَ كذلك ، فكلاهما عِلةٌ غائيةٌ للجعل ، وقد نُصب الأولُ لاجتماع شرائطِه من اتحاد الفاعلِ والزمانِ وكونِه مصدراً مَسوقاً للتعليل ، وبقيَ الثاني على حاله لفُقدانها ، وقيل : للإشارة أيضاً إلى أصالته في العلِّية وأهميتِه في نفسه كما في قوله تعالى : { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } وفي قصر الإمدادِ عليهما إشعارٌ بأن الملائكةَ عليهم السلام لم يباشروا يومئذ القتالَ وإنما كان إمدادُهم بتقويةِ قلوبِ المباشرين بتكثير السَّواد ونحوِه كما هو رأيُ بعضِ السلفِ رضي الله عنه . وقيل : الجعلُ متعدٍ إلى اثنين وقولُه عز وجل : { إِلاَّ بشرى لَكُمْ } استثناءٌ من أعمّ المفاعيلِ أي وما جعله الله تعالى شيئاً من الأشياء إلا بشارةً لكم فاللام في قوله تعالى : { وَلِتَطْمَئِنَّ } متعلقةٌ بمحذوف تقديرُه ولتطمئن قلوبُكم به فُعِل ذلك .(1/449)
{ وَمَا النصر } أي حقيقةُ النصرِ على الإطلاق فيندرِجُ في حكمة النصرُ المعهودُ اندراجاً أولياً { إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } أي إلا كائنٌ من عنده تعالى من غير أن يكون فيه شِرْكةٌ من جهة الأسبابِ والعَدد ، وإنما هي مظاهرُ له بطريق جَرَيانِ سنتِه تعالى أو وما النصرُ المعهودُ إلا من عنده تعالى لا من عند الملائكةِ فإنهم بمعزلٍ من التأثير وإنما قصارى أمرِهم ما ذُكر من البِشارة وتقويةِ القلوب { العزيز } أي الذي لا يغالَب في حكمه وأقضيتِه ، وإجراءُ هذا الوصفِ عليه تعالى للإشعار بعلة اختصاصِ النصرِ به تعالى كما أن وصفَه بقوله : { الحكيم } أي الذي يفعل كلَّ ما يفعل حسبما تقتضيه الحِكمةُ والمصلحة للإيذان بعلة جعْلِ النصرِ بإنزال الملائكةِ فإن ذلك من مقتَضيات الحِكم البالغة .(1/450)
لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
{ لِيَقْطَعَ } متعلقٌ بقوله تعالى : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ } ، وما بينهما تحقيقٌ لحقيقته وبيانٌ لكيفية وقوعِه والمقصورُ على التعليل بما ذُكر من البُشرى والاطمئنانِ إنما هو الإمدادُ بالملائكة على الوجه المذكورِ فلا يقدَح ذلك في تعليل أصلِ النصرِ بالقطع وما عُطف عليه أو بما تعلق به الخبرُ في قوله عز وعلا : { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } على تقدير كونِه عبارةً عن النصر المعهودِ ، وقد أُشير إلى أن المعلَّلَ بالبشارة والاطمئنانِ إنما هو الإمدادُ الصوريُّ لا ما في ضِمنه من النصر المعنويِّ الذي هو مَلاكُ الأمر ، وأما تعلقُه بنفس النصرِ كما قيل فمع ما فيه من الفصل بين المصدرِ ومعمولِه بأجنبي هو الخبرُ مُخلٌّ بسَداد المعنى ، كيف لا ومعناه قصرُ النصرِ المخصوصِ المعلَّلِ بعلل معيّنةٍ على الحصول من جهته تعالى ، وليس المرادُ إلا قصرَ حقيقةِ النصرِ أو النصرِ المعهودِ على ذلك ، والمعنى لقد نصركم الله يومئذ أو وما النصرُ الظاهرُ عند إمدادِ الملائكةِ إلا ثابتٌ من عند الله ليقطعَ أي يُهلِكَ ويَنْقُصَ { طَرَفاً مّنَ الذين كَفَرُواْ } أي طائفةٌ منهم بقتل وأسر وقد وقع ذلك حيث قُتل من رؤسائهم وصناديدِهم سبعون وأُسر سبعون { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } أي يخزيَهم ويُغيظَهم بالهزيمة ، فإن الكبتَ شدةُ غيظٍ أو وهنٌ يقع في القلب من كَبتَه بمعنى كَبده إذا ضرب كِبدَه بالغيظ والحُرقة ، وقيل : الكبتُ الإصابةُ بمكروه ، وقيل : هو الصرعُ للوجه واليدين ، فالتاء حينئذ غيرُ مُبْدَلةٍ وأو للتنويع { فَيَنقَلِبُواْ خَائِبِينَ } أي فينهزموا منقطعي الآمالِ غيرَ فائزين من مبتغاهم بشيء كما في قوله تعالى : { وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً }
{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الامر شَىْء } اعتراضٌ وُسِّط بين المعطوف عليه المتعلّقِ بالعاجل والمعطوفِ المتعلّقِ بالآجل لتحقيق أن لا تأثيرَ للمنصورين إثرَ بيانِ أن لا تأثيرَ للناصرين ، وتخصيصُ النفيِ برسول الله صلى الله عليه وسلم على طريق تلوينِ الخطابِ للدلالة على الانتفاءِ من غيره بالطريق الأولى ، وإنما خُصّ الاعتراضُ بموقعه لأن ما قبله من القطع والكبْتِ من مظانِّ أن يكونَ فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولسائر مباشري القتالِ مدخَلٌ في الجملة { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ } عطفٌ على يكبِتَهم والمعنى أن مالِكَ أمرِهم على الإطلاق هو الله عز وجل نصرَكم عليهم ليُهلِكَهم أو يكبتَهم أو يتوبَ عليهم إن أسلموا أو يعذبَهم إن أصرّوا ( على الكفر ) وليس لك من أمرهم شيءٌ إنما أنت عبدٌ مأمورٌ بإنذارهم وجهادِهم والمرادُ بتعذيبهم التعذيبُ الشديدُ الأخرويُّ المخصوصُ بأشد الكفَرةِ كُفراً ، وإلا فمطلقُ التعذيبِ الأخرويِّ متحققٌ في الفريقين الأولين أيضاً ، ونظمُ التوبةِ والتعذيبِ المذكورِ في سلك العلةِ الغائيةِ للنصر المترتبةِ عليه في الوجود من حيث إن قبولَ توبتِهم فرْعُ تحققِها الناشىءِ من علمهم بحقية الإسلامِ بسبب غلبةِ أهلِه المترتبةِ على النصر ، وأن تعذيبَهم بالعذاب المذكورِ مترتبٌ على إصرارهم على الكفر بعد تبيُّنِ الحقِّ على الوجه المذكورِ .(1/451)
هذا وقيل : إن عتبة بنَ أبي وقاصٍ شج رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يومَ أحُد وكسرَ رَباعِيَتَه فجعل عليه الصلاة والسلام يمسح الدمَ عن وجهه وسالمٌ مولى أبي حُذيفةَ يغسِلُ عن وجهه الدمَ وهو يقول : كيف يُفلحُ قومٌ خضَبوا وجهَ نبيِّهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم فنزلت { لَيْسَ لَكَ مِنَ الامر شَىْء } الآية . كأنه نوعُ معاتبةٍ على إنكاره عليه السلام لفلاحهم ، وقيل : أراد أن يدعوَ عليهم فنهاه الله تعالى لعلمه بأن منهم من يؤمن فقولُه تعالى : { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } حينئذ معطوفٌ على الأمر أو على شيء بإضمار أنْ أي ليس لك من أمرهم أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيءٌ ، أو ليس لك من أمرهم شيءٌ أو التوبةِ عليهم أو تعذيبِهم . ونُقل عن الفراء وابنِ الأنباري أن { أَوْ } بمعنى إلا أن والمعنى ليس لك من أمرهم شيءٌ إلا أن يتوبَ الله عليهم فتفرَحَ به أو يعذبَهم فتتشفَّى منهم ، وأياً ما كان فهو كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان بعضِ الأمورِ المتعلقة بغزوة أحُدٍ إثرَ بيانِ بعضِ ما يتعلق بغزوة بدرٍ لِما بينهما من التناسُب الظاهرِ لأن كلاًّ منهما مبنيٌّ على اختصاص الأمرِ كلِّه بالله تعالى ومنبىءٌ عن سلبه عما سواه .
وأما تعلقُ كلِّ القصةِ بغزوة أُحد ، على أن قولَه تعالى : { إِذْ تَقُولُ } بدلٌ ثانٍ من إذ غدوتَ وأن ما حُكي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقع يومَ أحدٍ وأن الإمدادَ الموعودَ كان مشروطاً بالصبر والتقوى فلما لم يفعلوا لم يتحققِ الموعودُ كما قيل فلا يساعدُه النظمُ الكريمُ أما أوّلاً فلأن المشروطَ بالصبر والتقوى إنما هو الإمدادُ بخمسة آلافٍ لا بثلاثة آلافٍ مع أنه لم يقع الإمدادُ يومئذ ولا بمَلكٍ واحدٍ ، وأما ثانياً فلأنه كان ينبغي حينئذ أن ينعى عليهم جنايتَهم وحِرْمانَهم بسببها تلكَ النعمةَ الجليلة ، ودعوى ظهورِه مع عدم دِلالةِ السباقِ والسياقِ عليه بل مع دَلالتهما على خلافه مما لا يكاد يُسمع ، وأما ثالثاً فلأنه لا سبيل إلى جعل الضمير في قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَهُ الله } الخ ، عائداً إلى الإمداد الموعودِ لأنه لم يتحققْ فكيف يبيِّنُ علّته الغائيةَ ، ولا إلى الوعدِ به على معنى أنه تعالى إنما جعل ذلك الوعدَ لبِشارتكم واطمئنانِ قلوبكم فلم تفعلوا ما شرَطَ عليكم من الصبر والتقوى فلم يقع إنجازُ الموعودِ لما أن قوله تعالى : { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله العزيز الحكيم } صريحٌ في أنه قد وقع الإمدادُ الموعودُ لكن أثرَه إنما هو مجردُ البِشارة والاطمئنانِ وقد حصلا ، وأما النصرُ الحقيقيُ فليس ذلك إلا من عنده تعالى .(1/452)
وجعلُه استئنافاً مقرّراً لعدم وقوعِ الإمداد على معنى أن النصرَ الموعودَ مخصوصٌ به تعالى فلا ينصُر من خالف أمرَه بترك الصبر والتقوى اعتسافٌ بيّنٌ يجب تنزيهُ التنزيلِ عن أمثاله على أن قولَه تعالى : { لِيَقْطَعَ طَرَفاً } الآية ، متعلقٌ حينئذ بما تعلق به قولُه تعالى : { مِنْ عِندِ الله } من الثبوت والاستقرارِ ضرورةَ أن تعلقَه بقوله تعالى : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ } الآية ، مع كون ما بينهما من التفصيل متعلقاً بوقعة أحُدٍ من قبيل الفصلِ بين الشجرِ ولِحائِه فلا بد من اعتبار وجودِ النصرِ قطعاً لأن تفصيلَ الأحكامِ المترتبةِ على وجود شيءٍ بصدد بيانِ انتفائِه مما لا يُعهدْ في كلام الناسِ فضلاً عن الكلام المَجيد . فالحقُّ الذي لا محيدَ عنه أن قولَه تعالى : { إِذْ تَقُولُ } ظرفٌ لنصرَكم وأن ما حُكي في أثنائه إلى قوله تعالى : { خَائِبِينَ } متعلقٌ بيومِ بدرٍ قطعاً وما بعده محتملٌ للوجهين المذكورين ، وقوله تعالى : { فَإِنَّهُمْ ظالمون } تعليلٌ على كل حال لقوله تعالى : { أَوْ يُعَذّبَهُمْ } مبينٌ لكون ذلك من جهتهم وجزاءٌ لظلمهم .(1/453)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)
{ وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض } كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان اختصاصِ ملكوتِ كلِّ الكائناتِ به عز وجل إثرَ بيانِ اختصاصِ طرَفٍ من ذلك به سبحانه تقريراً لما سبق وتكملةً له . وتقديمُ الجارِّ للقصر ، وكلمةُ { مَا } شاملةٌ للعقلاء أيضاً تغليباً أي له ما فيهما من الموجودات خلقاً ومُلكاً لا مدخَلَ فيه لأحد أصلاً فله الأمرُ كلُّه { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء } أن يغفرَ له مشيئةً مبنيةً على الحِكمة والمصلحة { وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } أن يعذِّبَه بعمله مشيئةً كذلك . وإيثارُ كلمة { مِنْ } في الموضعين لاختصاص المغفرةِ والتعذيبِ بالعقلاء ، وتقديمُ المغفرة على التعذيب للإيذان بسبق رحمتِه تعالى غضبَه وبأنها من مقتَضيات الذاتِ دونه فإنه من مقتضيات سيئاتِ العُصاة ، وهذا صريحٌ في نفي وجوبِ التعذيبِ ، والتقييدُ بالتوبة وعدمِها كالمنافي له { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تذييلٌ مقرر لمضمون قوله تعالى : { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء } مع زيادة ، وفي تخصيص التذييلِ به دون قرينةٍ من الاعتناء بشأن المغفرةِ والرحمةِ ما لا يخفى .
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا } كلامٌ مبتدأٌ مشتمِلٌ على ما هو مَلاكُ الأمرِ في كل باب لا سيما في باب الجهادِ من التقوى والطاعةِ وما بعدهما من الأمور المذكورةِ على نهج الترغيبِ والترهيبِ جيء به في تضاعيفِ القصةِ مسارعةً إلى إرشاد المخاطَبين إلى ما فيه ، وإيذاناً بكمالِ وجوبِ المحافظةِ عليه فيما هم فيه من الجهاد ، فإن الأمورَ المذكورةَ فيه مع كونها مناطاً للفوز في الدارين على الإطلاق عُمدةٌ في أمر الجهادِ ، عليها يدورُ فلكُ النُّصرةِ والغلَبة ، كيف لا ولو حافظوا على الصبر والتقوى وطاعةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم لما لقُوا ما لقُوا ، ولعل إيرادَ النهي عن الربا في أثنائها لِما أن الترغيبَ في الإنفاق في السراء والضراءِ الذي عُمدتُه الإنفاقُ في سبيل الجهادِ متضمنٌ للترغيب في تحصيل المالِ فكان مظِنةَ مبادرةِ الناسِ طرق الاكتساب ومن جملتها الربا ، فنُهوا عن ذلك ، والمرادُ بأكله أخذُه ، وإنما عُبر عنه بالأكل لما أنه مُعظم ما يقصَد بالأخذ ، ولشيوعه في المأكولات مع ما فيه من زيادة تشنيعٍ ، وقولُه عز وجل : { أضعافا مضاعفة } ليس لتقييد النهي به بل لمراعاةِ ما كانوا عليه ممن العادة توبيخاً لهم بذلك إذ كان الرجلُ يُرْبي إلى أجلٍ فإذا حل قال للمَدين : زدْني في المال حتى أزيدك في الأجل فيفعلُ ، وهكذا عند محلِّ كلِّ أجلٍ فيستغرق بالشيء الطفيفِ مالَه بالكلية . ومحلُه بالنصبُ على الحالية من الربا وقرىء مُضَعَّفَةً { واتقوا الله } فيما نُهيتم عنه من الأعمال التي من جملتها الربا { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } راجين للفلاح { واتقوا النار التى أُعِدَّتْ للكافرين } بالتحرُّر عن متابعتهم وتعاطي ما يتعاطَوْنه . كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول : هي أخوفُ آيةٍ في القرآن حيث أوعدَ الله المؤمنين بالنار المُعَدَّة للكافرين إن لم يتّقوه في اجتناب محارمِه .(1/454)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
{ وَأَطِيعُواْ الله } في كل ما أمركم به ونهاكم عنه { والرسول } الذي يبلّغكم أوامرَه ونواهيَه { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } راجين لرحمته . عقّب الوعيدَ بالوعد ترهيباً عن المخالفة وترغيباً في الطاعة ، وإيرادُ { لَعَلَّ } في الموضعين للإشعار بعزة منالِ الفلاحِ والرحمة . قال محمدُ بنُ إسحاقَ : هذه الآيةُ معاتبةٌ للذين عصَوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بما أمرهم يومَ أحُد .
{ وَسَارِعُواْ } عطفٌ على أطيعوا ، وقرىء بغير واو على وجه الاستئنافِ أي بادروا وأقبلوا وقرىء وسابقوا { إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ } أي إلى ما يؤدي إليهما ، وقيل : إلى الإسلام ، وقيل : إلى التوبة ، وقيل : إلى الإخلاص ، وقيل : إلى الجهاد ، وقيل : إلى أداء جميعِ الواجباتِ وتركِ جميعِ المنهيَّاتِ فيدخُل فيها ما مر من الأمور المأمورِ بهاوالمنهيَّ عنها دخولاً أولياً . وتقديمُ المغفرةِ على الجنة لما أن التخليةَ متقدِّمةٌ على التحلية ومِنْ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لمغفرة أي كائنةٍ من ربكم . والتعرض لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضمير المخاطَبين لإظهار مزيدِ اللطفِ بهم ، وقولُه تعالى : { عَرْضُهَا السموات والارض } أي كعرضهما صفةٌ لجنةٍ ، وتخصيصُ العَرْض بالذكر للمبالغة في وصفها بالسِّعة والبسطةِ على طريقة التمثيلِ فإن العَرْضَ في العادة أدنى من الطول . وعن ابن عباس رضي الله عنهما كسبع سمواتٍ وسبعِ أرضينَ لو وُصل بعضُها ببعض { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } في حيز الجرِّ على أنه صفةٌ أخرى لجنة أو في محل النصبِ على الحالية منها لتخصُّصها بالصفة ، أي هُيِّئَتْ لهم . وفيه دليلٌ على أن الجنةَ مخلوقةٌ الآن وأنها خارجةٌ عن هذا العالم { الذين يُنفِقُونَ } في محل الجر على أنه نعتٌ للمتقين مادحٌ لهم أو بدلٌ منه أو بيانٌ أو في حيز النصبِ أو الرفعِ على المدح ، ومفعولُ ينفقون محذوفٌ ليتناولَ كلَّ ما يصلُح للإنفاق أو متروكٌ بالكلية كما في قولك : يُعطي ويمنَع { فِى السَّرَّاء والضراء } في حالتي الرخاءِ والشدة واليُسر والعُسر ، أو في الأحوال كلِّها إذ الإنسانُ لا يخلو عن مَسَرة أو مضَرَّة أي لا يخلُون في حالٍ بإنفاق ما قدَروا عليه من قليل أو كثير .
{ والكاظمين الغيظ } عطفٌ على الموصول ، والعدولُ إلى صيغة الفاعلِ للدِلالة على الاستمرار ، وأما الإنفاقُ فحيث كان أمراً متجدداً عبّر عنه بما يفيد الحدثَ وهو التجدد ، والكظمُ الحبسُ يقال : كظَم غيظه أي حبَسه ، قال المُبرِّدُ : تأويلُه أنه كتمه على امتلائه منه ، يقال : كظمتُ السقاءَ إذا ملأتُه وشددتُ عليه أي المُمْسِكين عليه الكافّين عن إمضائه مع القُدرة عليه ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « من كظم غيظاً وهو قادرٌ على إنفاذِه ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً » { والعافين عَنِ الناس } أي التركين عقوبةَ من استحق مؤاخذتَه . رُوي أنه ينادي منادٍ يومَ القيامة : أين الذين كانت أجورُهم على الله تعالى؟ فلا يقوم إلا من عفا .(1/455)
وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « إن هؤلاءِ في أمتي قليلٌ ألا من عصَم الله وقد كانوا كثيراً في الأمم التي مضت » وفي هذين الوصفين إشعارٌ بكمال حُسنِ موقعِ عفوِه عليه الصلاة والسلام عن الرماة وتركِ مؤاخذتِهم بما فعلوا من مخالفة أمرِه عليه السلام وندبٌ له عليه السلام إلى ترك ما عزَم عليه من مجازاة المشركين بما فعلوا بحمزةَ رضي الله عنه حيث قال حين رآه قد مُثِّل به : « لأمثّلنّ بسبعين مكانك »
{ والله يُحِبُّ المحسنين } اللامُ إما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً وإما للعهد ، عبّر عنهم بالمحسنين إيذاناً بأن النعوتَ المعدودةَ من باب الإحسانِ الذي هو الإتيانُ بالأعمال على الوجه اللائقِ الذي هو حُسنُها الوصفيُّ المستلزِمُ لحُسنها الذاتي ، وقد فسره عليه السلام بقوله : « أن تعبدَ الله كأنكَ تَرَاهُ فإنْ لم تكُنْ تراهُ فإنَّهُ يَرَاكَ » والجملةُ تذييلٌ يقرِّر مضمونَ ما قبلها .(1/456)
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)
{ والذين } مرفوعٌ على الابتداء ، وقيل : مجرورٌ معطوفٌ على ما قبله من صفات المتقين ، وقوله تعالى : { والله يُحِبُّ المحسنين } اعتراضٌ بينهما مشيرٌ إلى ما بينهما من التفاوت ، فإن درجةَ الأولين من التقوى أعلى من درجة هؤلاءِ وحظِّهم ، أو على نفس المتقين فيكونُ التفاوتُ أكثرَ وأظهرَ { إِذَا فَعَلُواْ فاحشة } أي فَعلةً بالغةً في القُبح كالزنا { أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } بأن أتَوْا ذنباً أيَّ ذنبٍ كان ، وقيل : الفاحشةُ الكبيرةُ ، وظلمُ النفسِ الصغيرة ، أو الفاحشةُ ما يتعدّى إلى الغير ، وظلمُ النفس ما ليس كذلك . قيل : قال المؤمنون : يا رسولَ الله كانت بنو إسرائيلَ أكرمَ على الله تعالى منا ، كان أحدُهم إذا أذنب أصبحت كفارةُ ذنبِه مكتوبةً على عَتَبة دارِه افعلْ كذا فأنزل الله تعالى هذه الآيةَ . وقيل : إن نبهانَ التمار أتتْه امرأةٌ حسناءُ تطلُب منه تمراً فقال لها : هذا التمرُ ليس بجيد وفي البيت أجودُ منه فذهب بها إلى بيته فضمّها إلى نفسه وقبّلها فقالت له : اتق الله فتركها وندِم على ذلك وأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وذكر له ذلك فنزلت ، وقيل : جرى مثلُ هذا بين أنصاريُّ وامرأةِ رجلٍ ثقفي كان بينهما مؤاخاةٌ فندم الأنصاريُّ وحثا على رأسه الترابَ وهام على وجهه وجعل يسيح في الجبال تائباً مستغفِراً ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت . وأياً ما كان فإطلاقُ اللفظِ ينتظم ما فعله الزُناةُ انتظاماً أولياً { ذَكَرُواْ الله } تذكّروا حقَّه العظيمَ وجلالَه الموجبَ للخشية والحياء أو وعيدَه أو حُكمَه وعقابَه .
{ فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ } بالتوبة والندمِ ، والفاء للدَلالة على أن ذكرَه تعالى مستتبعٌ للاستغفار لا محالة { وَمَن يَغْفِرُ الذنوب } استفهامٌ إنكاريٌّ ، والمرادُ بالذنوب جنسُها كما في قولك : فلان يلبَس الثيابَ ويركب الخيلَ لا كلُّها حتى يُخِلّ بما هو المقصودُ من استحالة صدورِ مغفرةِ فردٍ منها عن غيره تعالى ، وقوله تعالى : { إِلاَّ الله } بدلٌ من الضمير المستكن في يغفر أي لا يغفرُ جنسَ الذنوبِ أحدٌ إلا الله خلا أن دَلالة الاستفهامِ عن الانتفاء أقوى وأبلغُ لإيذانه بأن كلَّ أحدٍ ممن له حظٌّ من الخطاب يعرِف ذلك الانتفاءَ فيسارع إلى الجواب به ، والمرادُ به وصفُه سبحانه بغاية سَعةِ الرحمةِ وعمومِ المغفرةِ ، والجملةُ معترضةٌ بين المعطوفين أو بين الحالِ وصاحبِها لتقرير الاستغفارِ والحث عليه والإشعارِ بالوعد بالقَبول { وَلَمْ يُصِرُّواْ } عطفٌ على فاستغفروا ، وتأخيرُه عنه مع تقدم عدمِ الإصرار على الاستغفار رتبةً لإظهار الاعتناءِ بشأن الاستغفارِ واستحقاقِه للمسارعة إليه عَقيبَ ذكرِه تعالى أو حال من فاعله ولم يُقيموا أو غيرَ مقيمين { على مَا فَعَلُواْ } أي ما فعلوه من الذنوب فاحشةً كانت أو ظلماً أو على فعلهم . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرةً » وأنه لا كبيرةَ مع الاستغفار ولا صغيرةَ مع الإصرار { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } حال من فاعل يُصِروا أي لم يُصروا على ما فعلوا وهم عالمون بقُبحه والنهيِ عنه والوعيدِ عليه . والتقييدُ بذلك لما أنه قد يُعذر من لا يعلم ذلك إذا لم يكن التقصيرُ في تحصيل العلم به .(1/457)
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
{ أولئك } إشارةٌ إلى المذكورين آخِراً باعتبار اتصافِهم بما مرَّ من الصفات الحميدةِ ، وما فيه من معنى البُعد للإشعار ببعيد منزلتِهم وعلوِّ طبقتِهم في الفضل ، وهو مبتدأٌ وقوله تعالى : { جَزَآؤُهُمْ } بدلُ اشتمالٍ منه وقوله تعالى : { مَغْفِرَةٌ } خبرٌ له أو جزاؤهم مبتدأٌ ثانٍ ومغفرةٌ خبر له ، والجملةُ خبرٌ لأولئك ، وهذه الجملةُ خبر لقوله تعالى { والذين إِذَا فَعَلُواْ } الخ على الوجه الأولِ وهو الأظهرُ الأنسبُ بنظم المغفرةِ المنبئةِ عن سابقة الذنبِ في سلك الجزاءِ ، إذ على الوجهين يكون قولُه تعالى : { أولئك } الخ جملةً مستأنفةً مبينةً لما قبلها كاشفةً عن حال كلا الفريقين المحسنين والتائبين ، ولم يُذكَرْ من أوصاف الأولين ما فيه شائبةُ الذنبِ حتى يُذكَرَ في مطلَع الجزاءِ الشاملِ لهما المغفرةُ ، وتخصيصُ الإشارةِ بالآخِرين مع اشتراكهما في حكم إعدادِ الجنةِ لهما تعسُّفٌ ظاهر { مّن رَّبّهِمُ } متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لمغفرةٌ مؤكدةً لما أفاده التنوينُ من الفخامة الذاتيةِ بالفخامة الإضافيةِ أي كائنةٌ من جهته تعالى . والتعرضُ لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميرهم للإشعار بعلة الحُكمِ والتشريفِ { وجنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار } عطفٌ على مغفرةٌ ، والتنكيرُ المُشعِرُ بكونها أدنى من الجنة السابقةِ مما يؤيد رُجحانَ الوجهِ الأول { خالدين فِيهَا } حالٌ مقدّرةٌ من الضمير في جزاؤهم لأنه مفعولٌ به في المعنى لأنه في قوة يجزيهم الله جناتٌ خالدين فيها ، ولا مَساغَ لأن يكون حالاً من جناتٌ في اللفظ وهي لأصحابها في المعنى إذ لو كان كذلك لبرز الضمير .
{ وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } المخصوصُ بالمدح محذوفٌ أي ونعم أجرُ العاملين ذلك ، أي ما ذُكر من المغفرة والجناتِ ، والتعبيرُ عنهما بالأجر المشعرِ بأنهما يُستحقان بمقابلة العمل وإن كان بطريق التفضُّل لمزيد الترغيبِ في الطاعات والزجرِ عن المعاصي ، والجملةُ تذييلٌ مختصٌّ بالتائبين حسبَ اختصاصِ التذييلِ السابقِ بالأولين وناهيك مضمونُهما دليلاً على ما بين الفريقين من التفاوت النيِّرِ والتبايُنِ البيِّن ، شتانَ بين المحسنين الفائزين بمحبة الله عز وجل وبين العاملين الحائزين لأُجرتهم وعمالتِهم .
{ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } رجوعٌ إلى تفصيل بقيةِ القصةِ بعد تمهيدِ مبادىءِ الرشدِ والصلاح وترتيبِ مقدماتِ الفوزِ والفلاحِ . والخلوُّ المُضِيُّ ، والسننُ الوقائعُ ، وقيل : الأممُ . والظرفُ إما متعلقٌ بخلَتْ أو بمحذوف وقع حالاً من سننٌ أي قد مضت من قبل زمانِكم أو كائنةً من قبلكم وقائعُ سنّها الله تعالى في الأمم المكذِّبة كما في قوله تعالى : { وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً سُنَّةَ الله فِى الذين خَلَوْاْ } الخ ، والفاءُ في قوله تعالى : { فَسِيرُواْ فِى الارض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين } للدِلالة على سببية خلوِّها للسير والنظر أو للأمر بهما ، وقيل : المعنى على الشرط : أي إنْ شككتم فسيروا الخ ، وكيف خبرٌ مقدمٌ لكان معلقٌ بفعل النظر ، والجملةُ في محل النصبِ بعد نزعِ الخافضِ لأن الأصلَ استعمالُه بالجار .(1/458)
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
{ هذا } إشارةٌ إلى ما سلف من قوله تعالى : { قَدْ خَلَتْ } إلى آخره { بَيَانٌ لّلنَّاسِ } أي تبيينٌ لهم ، على أن اللامَ متعلقةٌ بالمصدر أو كائنٌ لهم على أنها متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً له ، وتعريفُ الناس للعهد وهم المكذبون أي هذا إيضاحٌ لسوء عاقبةِ ما هم عليه من التكذيب فإن الأمرَ بالسير والنظرِ وإن كان خاصاً بالمؤمنين لكن العملَ بموجبه غيرُ مختصَ بواحد دون واحدٍ ففيه حملٌ للمكذبين أيضاً على أن ينظُروا في عواقب مَنْ قبلَهم من أهل التكذيبِ ويعتبروا بما يعانون من آثار دمارِهم وإن لم يكن الكلامُ مَسوقاً لهم { وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ } أي وزيادةُ بصيرةٍ وموعظةٍ لكم وإنما قيل : { لّلْمُتَّقِينَ } للإيذان بعلة الحُكمِ فإن مدارَ كونِه هدىً وموعظةً لهم إنما هو تقواهم . ويجوز أن يُرادَ بالمتقين الصائرين إلى التقوى والهدى والموعظة على ظاهرهما ، أي هذا بيانٌ لمآل أمرِ الناسِ وسوءِ مَغبّتِه ، وهدايةٌ لمن اتقى منهم وزجرٌ لهم عما هم عليه من التكذيب ، وأن يُراد به ما يعُمّهم ويعُم غيرَهم من المتقين بالفعل ، ويُرادَ بالهدى والموعظةِ أيضاً ما يعُم ابتداءَهما والزيادةَ فيهما ، وإنما قُدّم كونُه بياناً للمكذبين مع أنه غيرُ مَسوق له على كونه هدىً وموعظةً للمتقين ، مع أنه المقصودُ بالسياق لأن أولَ ما يترتب على مشاهدة آثارِ هلاكِ أسلافِهم ظهورُ حالِ أخلافِهم ، وأما زيادةُ الهدى أو أصلِه فأمرٌ مترتبٌ عليه ، وتخصيصُ البيانِ للناس مع شموله للمتقين أيضاً لما أن المرادَ به مجردُ البيانِ العاري عن الهدى والعظةِ ، والاقتصار عليهما في جانب المتقين مع ترتّبهما على البيان لما أنهما المقصِدُ الأصليُّ ، ويجوز أن يكون تعريفُ الناسِ للجنس أي هذا بيانٌ للناس كافةً ، وهدى وموعظةٌ للمتقين منهم خاصة . وقيل : كلمةُ هذا إشارةٌ إلى ما لُخِّص من أمر المتقين والتائبين والمُصِرِّين . وقوله تعالى : { قَدْ خَلَتْ } الآية ، اعتراضٌ للحث على الإيمان وما يُستحَقّ به ما ذُكر من أجر العاملين . وأنت خبيرٌ بأن الاعتراضَ لا بد أن يكون مقرِّراً لمضمون ما وقع في خلاله ، ومعاينةُ آثارِ هلاكِ المكذبين مما لا تعلقَ له بحال أحدِ الأصنافِ الثلاثةِ للمؤمنين وإن كان باعثاً على الإيمان زاجراً عن التكذيب ، وقيل : إشارةٌ إلى القرآن ولا يخفى بُعدُه .
{ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا } تشجيعٌ للمؤمنين وتقويةٌ لقلوبهم وتسليةٌ عما أصابهم يوم أحُدٍ من القتل والقرحِ ، وكان قد قُتل يومئذ خمسةٌ من المهاجرين : حمزةُ بنُ عبدِ المطلّب ومصعبُ بنُ عميرٍ صاحبُ رايةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وعبدُ اللَّه بنُ جحشٍ ابنُ عمةِ النبي صلى الله عليه وسلم وعثمانُ بنُ مظعونٍ وسعدٌ مولى عتبةَ رضوانُ الله تعالى عليهم أجمعين ، ومن الأنصار سبعون رجلاً رضي الله عنهم أي لا تضعُفوا عن الجهاد بما نالكم من الجراح ولا تحزَنوا على مَنْ قتل منكم { وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ } جملةٌ حاليةٌ من فاعل الفعلين ، أي والحالُ أنكم الأعلَوْن الغالبون دون عدوِّكم فإن مصيرَ أمرِهم إلى الدمار حسبما شاهدتم من أحوال أسلافِهم فهو تصريحٌ بالوعد بالنصر والغلبةِ بعد الإشعارِ به فيما سبق ، أو وأنتم المعهودون بغاية علوِّ الشانِ لما أنكم على الحق وقتالُكم لله عز وجل وقَتْلاكم في الجنة ، وهم على الباطل وقتالُهم للشيطان وقَتْلاهم في النار ، وقيل : وأنتم الأعلَوْن حالاً منهم ، حيث أصبتم منهم يومَ بدرٍ أكثرَ مما أصابوا منكم اليوم { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } متعلقٌ بالنهي أو بالأعلون وجوابُه محذوفٌ لدَلالة ما تعلق به عليه ، أي إن كنتم مؤمنين فلا تهِنوا ولا تحزَنوا فإن الإيمانَ يوجب قوةَ القلب والثقةَ بصنع الله تعالى وعدمَ المبالاة بأعدائه ، أو إن كنتم مؤمنين فأنتم الأعلَوْن فإن الإيمانَ يقتضي العلوَّ لا محالةَ أو إن كنتم مصدقين بوعد الله تعالى فأنتم الأعلَوْن .(1/459)
وأياً ما كان فالمقصودُ تحقيقُ المعلَّقِ به كما في قوله الأجير : إن كنتُ عمِلتُ لك فأعطني أجري ولذلك قيل : معناه إذ كنتم مؤمنين ، وقيل : معناه إنْ بقِيتم على الإيمان .(1/460)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
{ ِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مّثْلُهُ } القرحُ بالفتح والضم لغتان كالضَّعف والضُّعف وقد قرىء بهما ، وقيل : هو بالفتح الجراحُ وبالضم ألَمُها ، وقرىء بفتحتين ، وقيل : القرح والقرح كالطرد والطرد ، والمعنى إن نالوا منكم يومَ أحُدٍ فقد نِلتم منهم قبله يومَ بدرٍ ثم لم يُثَبِّطْهم عن معاودتكم بالقتال فأنتم أحقُّ بأن لا تضعُفوا فإنكم ترجون من الله ما لا يرجون . وقيل : كلا المَسَّيْنِ كان يوم أحُد فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، قَتلوا منهم نيفاً وعشرين رجلاً منهم صاحبُ لوائِهم وجرحوا عدداً كثيراً وعقَروا عامة خيلِهم بالنبل { وَتِلْكَ الايام } إشارةٌ إلى الأيام الجاريةِ فيما بين الأممِ الماضيةِ والآتيةِ كافةً لاإلى الأيامِ المعهودةِ خاصةً من يوم بدرٍ ويومِ أحدٍ بل هي داخلةٌ فيها دخولاً أولياً ، والمرادُ بها أوقاتُ الظَفَرِ والغَلَبةِ { نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } نُصَرِّفها بينهم نُديلُ لهؤلاء تارةً ولهؤلاء أخرى كقول من قال :
فيوماً علينا ويوماً لنا ... ويوماً نُساءُ ويوماً نُسَرّ
والمداولةُ كالمعاورة ، يقال : داولتُه بينهم فتداولوه أي عاورْتُه فتعاوروه . واسمُ الإشارةِ مبتدأ والأيامُ إما صفةٌ له أو بدلٌ منه أو عطفُ بيانٍ له ونداولها خبرُه أو خبره ونداولها حالٌ من الأيام والعاملُ معنى اسمِ الإشارةِ أو خبرٌ بعد خبرٍ وصيغةُ المضارعِ الدالةُ على التجدد والاستمرارِ للإيذان بأن تلك المداولةَ سنةٌ مسلوكةٌ فيما بين الأممِ قاطبةً سابقتِها ولاحقتِها وفيه ضربٌ من التسلية ، وقوله عز وجل : { وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءامَنُواْ } إما من باب التمثيلِ أي ليعامِلَكم معاملةَ من يريد أن يَعلمَ المخلِصين الثابتين على الإيمان من غيرهم ، أو العلمُ فيه مجازٌ عن التمييز بطريق إطلاقِ اسمِ السببِ على المسبَّب أي ليُميِّزَ الثابتين على الإيمان من غيرهم كما في قوله تعالى : { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب } أو هو على حقيقته معتبَرٌ من حيث تعلُّقُه بالمعلوم من حيث إنه موجودٌ بالفعل إذ هو الذي يدور عليه فلكُ الجزاءِ لا من حيث أنه موجودٌ بالقوة .
وإطلاقُ الإيمانِ مع أن المرادَ هو الرسوخُ والإخلاصُ فيه للإيذان بأن اسمَ الإيمانِ لا ينطلق على غيره ، والالتفاتُ إلى الغَيبة بإسناده إلى اسم الذاتِ المستجمِعِ للصفات لتربية المهابةِ والإشعارِ بأن صدورَ كلِّ واحدٍ مما يُذكر بصدد التعليلِ من أفعاله تعالى باعتبار منشإٍ معيّنٍ من صفاته تعالى مغايرٌ لمنشإ الآخَر ، والجملةُ علةٌ لما هو فردٌ من أفراد مُطلقِ المداولةِ التي نطقَ بها قولُه تعالى : { نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } من المداولة المعهودةِ الجاريةِ بين فريقي المؤمنين والكافرين ، واللامُ متعلقةٌ بما دل عليه المطلقُ من الفعل المقيَّدِ بالوقوع بين الفريقين المذكورين أو بنفس الفعلِ المطلقِ باعتبار وقوعِه بينهما ، والجملةُ معطوفةٌ على علة أخرى لها معتبرةٍ إما على الخصوص والتعيينِ محذوفة لدَلالة المذكورةِ عليها لكونها من مبادئها ، كأنه قيل : نداولها بينكم وبين عدوِّكم ليظهرَ أمرُكم وليَعلَمَ الخ ، فإن ظهورَ أعمالِهم وخروجَها من القوة إلى الفعل من مبادىء تمييزِهم عن غيرهم ومواجبِ تعلّقِ العلمِ الأزليِّ بها من تلك الحيثيةِ ، وكذا الحالُ في باب التمثيل فتأملْ .(1/461)
وإما على العموم والإبهامِ للتنبيه على أن العللَ غيرُ منحصِرَةٍ فيها عُدِّد من الأمور وأن العبدَ يسوؤه ما يجري عليه من النوائب ، ولا يشعُر بأن الله تعالى جعل له في ذلك من الألطاف الخفيةِ ما لا يخطرُ ببال . كأنه قيل : نداولُها بينكم ليكونَ من المصالح كيت وكيت وليَعلَمَ الخ ، وفيه من تأكيد التسليةِ ومزيدِ التبصِرَة ما لا يخفى . وتخصيصُ البيان بعلة هذا الفردِ من مطلقِ المداولةِ دون سائر أفرادِها الجاريةِ فيما بين بقيةِ الأممِ تعييناً أو إبهاماً لعدم تعلقِ الغرضِ العلميِّ ببيانها ولك أن تجعلَ المحذوفَ المبْهَمَ عبارةً عن علل سائرِ أفرادِها للإشارة إجمالاً إلى أن كلَّ فردٍ من أفرادها له علةٌ داعيةٌ إليه كأنه قيل : نداولها بين الناس كافةً ليكونَ كيت وكيت من الحِكَم الداعيةِ إلى تلك الأفرادِ وليَعلمَ الخ ، فاللامُ الأولى متعلقةٌ بالفعل المطلقِ باعتبار تقيُّدِه بتلك الأفرادِ ، والثانيةُ باعتبار تقيّدِه بالفرد المعهودِ ، وقيل : هي متعلقةٌ بمحذوفٍ مؤخَّرٍ تقديرُه وليعلمَ الله الذين آمنوا فَعَل ذلك .
{ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء } جمعُ شهيدٍ أي ويُكرِمَ ناساً منكم بالشهادة ، وهم شهداءُ أحُدٍ . فمِنْ ابتدائيةٌ أو تبعيضيةٌ متعلقةٌ بيتخذ ، أو بمحذوف وقعَ حالاً من شهداءَ أو جمعُ شاهدٍ أي ويتخذ منكم شهوداً معدلين بما ظهر منهم من الثبات على الحق والصبرِ على الشدائد وغيرِ ذلك من شواهد الصدقِ ليشهدوا على الأمم يومَ القيامةِ ، فمِنْ بيانيةٌ لأن تلك الشهادةَ وظيفةُ الكلِّ دون المستشهَدين فقط ، وأياً ما كان ففي لفظ الاتخاذ المُنْبىءِ عن الاصطفاء والتقريبِ من تشريفهم وتفخيمِ شأنِهم ما لا يخفى . وقوله تعالى : { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } اعتراضٌ مقررٌ لمضمون ما قبله ، ونفيُ المحبةِ كنايةٌ عن البغض ، وفي إيقاعه على الظالمين تعريضٌ بمحبته تعالى لمقابليهم ، والمرادُ بهم إما غيرُ الثابتين على الإيمان فالتقريرُ من حيث إن بغضَه تعالى لهم من دواعي إخراجِ المخلِصينَ المصطَفَيْنَ للشهادة من بينهم ، وإما الكفرةُ الذين أُديل لهم ، فالتقريرُ من حيث إن ذلك ليس بطريق النُصرةِ لهم ، فإنها مختصةٌ بأوليائه تعالى ، بل لِما ذُكر من الفوائد العائدةِ إلى المؤمنين .(1/462)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
وقوله تعالى : { وَلِيُمَحّصَ الله الذين ءامَنُواْ } أي ليُصَفِّيَهم ويُطهرَهم من الذنوب ، عطفٌ على يتخذ ، وتكريرُ اللامِ لتذكير التعليلِ لوقوع الفصلِ بينهما بالاعتراض ، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لإبراز مزيدِ الاعتناءِ بشأن التمحيصِ ، وهذه الأمورُ الثلاثة عللٌ للمداولة المعهودةِ باعتبار كونِها على المؤمنين قُدِّمت في الذكر لأنها المحتاجةُ إلى البيان . ولعل تأخيرَ العلةِ الأخيرةِ عن الاعتراض لئلا يُتوَهَّمَ اندراجُ المذنبين في الظالمين ، أو ليقترِنَ بقوله عز وجل : { وَيَمْحَقَ الكافرين } فإن التمحيصَ فيه محوُ الآثارِ وإزالةُ الأوضارِ كما أن المَحْقَ عبارةٌ عن النقض والإذهابِ . قال المفضِّلُ : هو أن يذهبَ الشيءُ بالكلية حتى لا يرى منه شيءٌ ومنه قولُه تعالى : { يَمْحَقُ الله الربا } أي يستأصله وهذه علة للمداولة باعتبار كونها على الكافرين والمرادُ بهم الذين حاربوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يومَ أحُدٍ وأصرّوا على الكفر وقد محقَهم الله عز وجل جميعاً .(1/463)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
{ أَمْ حَسِبْتُمْ } كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان ما هي الغايةُ القصوى من المُداولة والنتيجةِ لما ذُكر من تمييز المخلِصين وتمحيصِهم واتخاذِ الشهداءِ وإظهارِ عزةِ منالِها ، والخطابُ للذين انهزموا يوم أحُدٍ وأمْ منقطعةٌ وما فيها من كلمةِ بل للإضراب عن التسلية ببيان السببِ فيما لقُوا من الشدّة إلى تحقيق أنها مبادىءُ الفوزِ بالمطلب الأسني ، والهمزةُ للإنكار والاستبعادِ أي بل أحسِبتم { أَن تَدْخُلُواْ الجنة } وتفوزوا بنعيمها . وقوله تعالى : { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ } حالٌ من ضمير تدخُلوا مؤكدةٌ للإنكار ، فإن رجاءَ الأجرِ بغير عملٍ ممن يعلم أنه منوطٌ به مستبعَدٌ عند العقولِ ، وعدمُ العلم كنايةٌ عن عدم المعلومِ لما بينهما من اللزومِ المبنيِّ على لزوم تحققِ الأولِ لتحقق الثاني ضرورةَ استحالةِ تحققِ شيءٍ بدون علمِه تعالى به ، وإيثارُها على التصريح للمبالغة في تحقيق المعنى المرادِ فإنها إثباتٌ لعدم جهادِهم بالبرهان ، وللإيذان بأن مدارَ ترتبِ الجزاءِ على الأعمال إنما هو علمُ الله تعالى بها كأنه قيل : والحالُ أنه لم يوجَد الذين جاهدوا منكم ، وإنماوجِّه النفيُ إلى الموصوفين مع أن المنفيَّ هو الوصفُ فقط وكان يكفي أن يقال : ولما يعلمِ الله جهادَكم كنايةً عن معنى ولما تجاهدوا للمبالغة في بيان انتفاءِ الوصفِ وعدمِ تحققِه أصلاً ، وفي كلمة لما إيذانٌ بأن الجهادَ متوقَّعٌ منهم فيما يُستقبل إلا أنه غيرُ معتبَرٍ في تأكيد الإنكارِ ، وقرىء يعلمَ بفتح الميم على أن أصله يعلَمَن فحُذفت النونُ ، أو على طريقة إِتباعِ الميمِ لما قبلها في الحركة لإبقاء تفخيمِ اسمِ الله تعالى ، و { مّنكُمْ } حالٌ من الذين { وَيَعْلَمَ الصابرين } منصوبٌ بإضمار أن على أن الواوَ للجمع كما في قولك : لا تأكُلِ السمكَ وتشرَبَ اللبن أي لا يكن منك أكلُ السمك وشربُ اللبن والمعنى أم حسبتم أن تدخُلوا الجنة والحالُ أنه لم يتحقق منكم الجهادُ والصبرُ أي الجمعُ بينهما ، وإيثارُ اسمِ الفاعلِ على الموصول للدِلالة على أن المعتبرَ هو الاستمرارُ على الصبر ، وللمحافظة على الفواصلِ ، وقيل : مجزومٌ معطوفٌ على المجزوم قبله قد حُرِّك لالتقاء الساكنين بالفتح للخِفة والإتباعِ كما مر ، ويؤيِّده القراءةُ بالكسر على ما هو الأصلُ في تحريك الساكن ، وقرىء يعلمُ بالرفع على أن الواوُ للحال وصاحبُها الموصولُ ، والمبتدأُ محذوفٌ أي وهو يعلمُ الصابرين كأنه قيل : ولما تجاهدوا وأنتم صابرون؟(1/464)
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
{ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت } أي تتمنُّون الحربَ فإنها من مبادىء الموتِ ، أو الموتَ بالشهادة ، والخطابُ للذين لم يشهدوا بدراً وكانوا يتمنَّوْن أن يشهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً لينالوا ما ناله شهداءُ بدرٍ من الكرامة فألحُّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج ثم ظهر منهم خلافُ ذلك { مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ } متعلقٌ بتَمنَّون مبينٌ لسبب إقدامِهم على التمني أي من قبل أن تشاهدوه وتعرِفوا هولَه وشدَّته ، وقرىء تلاقوه { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } أي ما تتمنَّونه من أسباب الموتِ ، أو الموتَ بمشاهدة أسبابِه ، وقولُه تعالى : { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } حال من ضمير المخاطبين ، وفي إيثار الرؤيةِ على الملاقاة وتقييدِها بالنظر مزيدُ مبالغةٍ في مشاهدتهم له ، والفاءُ فصيحةٌ كأنه قيل : إن كنتم صادقين في تمنيكم ذلك فقد رأيتُموه معاينين له حين قُتل بين أيديكم مَنْ قُتل من إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تُقتلوا فلِمَ فعلتم ما فعلتم؟ وهو توبيخٌ لهم على تمنِّيهم الحربَ وتسبُّبهم لها ثم جُبنِهم وانهزامِهم ، لا على تمني الشهادةِ بناءً على تضمُّنها لغلَبة الكفارِ ، لما أن مطلبَ من يتمنّاها نيلُ كرامةِ الشهداءِ من غير أن يخطرُ بباله شيءٌ غيرُ ذلك فلا يستحِقُّ العتابَ من تلك الجهة .
{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } مبتدأٌ وخبرٌ ولا عمل لما بالاتفاق ، لانتقاض نفيِه بإلا وقوله تعالى : { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } صفةٌ لرسول منبئةٌ عن كونه في شرف الخُلوِّ ، فإن خلوَّ مشاركيه في منصِب الرسالةِ من شواهد خلوِّه عليه الصلاة والسلام لا محالة كأنه قيل : قد خلت من قبله أمثالُه فسيخْلو كما خلَوْا ، والقصرُ قلبيٌّ ، فإنهم لمّا انقلبوا على أعقابهم فكأنهم اعتقدوا أنه عليه الصلاة والسلام رسولٌ لا كسائر الرسلِ في أنه يخلو كما خلَوْا ، أو يجب التمسكُ بدينه بعده كما يجب التمسك بدينهم بعدَهم فرُدَّ عليهم بأنه ليس إلا رسولاً كسائر الرسلِ ، فسيخلو كما خلَوْا ويجب التمسكُ بدينه كما يجب التمسكُ بدينهم ، وقيل : هو قصرُ إفرادٍ فإنهم لما استعظموا عدمَ بقائِه عليه الصلاة والسلام لهم نُزِّلوا منزلةَ المستبعِدين لهلاكه كأنهم يعتقدون فيه عليه الصلاة والسلام وصفَيْن : الرسالة والبعدَ عن الهلاك فرُدَّ عليهم بأنه مقصورٌ على الرسالة لا يتجاوزها إلى البعد عن الهلاك فلا بد حينئذ من جعل قوله تعالى : { قَدْ خَلَتْ } الخ ، كلاماً مبتدأً مَسوقاً لتقرير عدمِ براءتِه عليه الصلاة والسلام من الهلاك وبيانِ كونِه أُسوةً لمن قبله من الرسل عليهم السلام وأياً ما كان فالكلامُ يخرج على خلاف مقتضى الظاهرِ { أفَإِنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلى أعْقَابِكُمْ } إنكارٌ لارتدادهم وانقلابِهم عن الدين بخُلوِّه بموتٍ أو قتلٍ بعد علمِهم بخلوِّ الرسلِ قبله وبقاءِ دينِهم متمسَّكاً به ، وقيل : الفاءُ للسببية والهمزةُ لإنكار أن يجعلوا خُلوَّ الرسلِ قبله سبباً لانقلابهم بعد وفاتِه مع كونه سبباً في الحقيقة لثباتهم على الدين ، وإيرادُ الموتِ بكلمة إن مع علمهم به اْلبتةَ لتنزيل المخاطَبيين منزلةَ المتردِّدين فيه لما ذُكر من استعظامهم إياه ، وهكذا الحالُ في سائر المواردِ فإن كلمةَ إنْ في كلام الله تعالى لا تجري على ظاهرها قطُّ ضرورة علمِه تعالى بالوقوع أو اللاوقوعِ ، بل تُحملُ على اعتبار حالِ السامعِ أو أمرٍ آخرَ يناسب المقامَ ، وتقديمُ تقديرِ الموتِ مع أن تقديرَ القتلِ هو الذي ثار منه الفتنةُ وعظُم فيه المحنةُ لِما أن الموتَ في شرف الوقوعِ فزجرُ الناسِ عن النُكوص عنده وحملُهم على التثبُّت هناك أهمُّ ، ولأن الوصفَ الجامعَ بينه وبين الرسلِ عليهم السلام وهو الخلوُّ بالموت دون القتل .(1/465)
روي أنه لما التقى الفئتانِ حمل أبو دجانةَ في نفر من المسلمين على المشركين فقاتل قِتالاً شديداً ، وقاتل عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه قتالاً عظيماً حتى التوى سيفُه ، وكذا سعدُ بنُ أبي قاصٍ فقتلوا جماعةً من المشركين وهزموهم ، فلما نظر الرماةُ إليهم ورأَوْا أنهم قد انهزموا أقبلوا على النَّهْب ولم يلتفتوا إلى نهي أميرِهم عبدِ اللَّهِ بنِ جبيرٍ ، فلم يبقَ منهم عنده إلا ثمانيةُ نفرٍ فلما رآهم خالدُ بنُ الوليدِ قد اشتغلوا بالغنيمة حمل عليهم في مائتين وخمسين فارساً من المشركين من قِبَل الشِّعبِ وقتلوا من بقيَ من الرُماة ودخلوا خلفَ أقفيةِ المسلمين ففرّقوهم وهزموهم ، وحملوا على أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وقاتلوهم حتى أصيب هناك نحوُ ثلاثين رجلاً كلٌّ منهم يجثو بين يديه ويقول : وجهي لوجهك وقاءٌ ، نفسي لنفسك فداءٌ وعليك سلامُ الله غيرَ مُودَّعٍ . ورمى عبدُ اللَّه بنُ قميئةَ الحارثيُّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رَباعيتَه وشج وجهَه الكريمَ فذبّ عنه مصعبُ بنُ عميرٍ رضي الله عنه وكان صاحبَ الرايةِ حتى قتله ابنُ قميئة وهو يزعُم أنه قتل النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال : قتلتُ محمداً . وصرخ صارخ قيل إنه إبليسُ : ألا أن محمداً قد قُتل فانكفأ الناسُ وجعل الرسولُ صلى الله عليه وسلم يدعو : إليَّ عبادَ الله ، قال كعبُ بنُ مالك : كنت أولُ من عرف رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين فناديت بأعلى صوتي : يا معشرَ المسلمين هذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فانحاز إليه ثلاثون من أصحابه وحملوه حتى كشفوا عنه المشركين وتفرّق الباقون وقال بعضُهم : ليت ابنَ أُبيَ يأخذ لنا أماناً من أبي سفيانَ ، وقال ناس من المنافقين : لو كان نبياً لما قُتل ارجِعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم ، فقال أنسُ بنُ النضر وهو عمُّ أنس بنِ مالك : يا قوم إن كان قُتل محمدٌ فإن ربَّ محمدٍ حيٌّ لا يموت ، وما تصنعون بالحياة بعد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقاتِلوا على ما قاتل عليه وموتوا كِراماً على ما مات عليه .(1/466)
ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاءِ وأبرَأُ إليك مما جاء به هؤلاء ، ثم شدّ بسيفه وقاتل حتى قُتل .
وتجويزُهم لقتله عليه الصلاة والسلام مع قوله تعالى : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } لما أن كلَّ آيةٍ ليس يسمعها كلُّ أحدٍ ولا كلُّ من يسمعها يستحضِرُها في كل مقام لا سيما في مثل ذلك المقامِ الهائل ، وقد غفَل عمرُ رضي الله عنه عن هذه الآية الكريمةِ عند وفاتِه عليه الصلاة والسلام وقام في الناس فقال : إن رجالاً من المنافقين يزعُمون أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم توفي وإن رسولَ الله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بنُ عمرانَ غاب عن قومه أربعين ليلةً ثم رجع ، والله ليرجِعَنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولأُقطِّعن أيديَ رجالٍ وأرجلَهم يزعُمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ولم يزل يكرِّرُ ذلك إلى أن قام أبو بكر رضي الله عنه فحمِد الله عز وجل وأثنى عليه ثم قال : أيها الناسُ من كان يعبُد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبُد الله فإن الله حيٌّ لا يموت ثم تلا { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } الآية ، قال الراوي : والله لكأن الناسَ لم يعلموا أن هذه الآيةَ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تلاها أبو بكر ، وقال عمرُ رضي الله عنه : والله ما هو إلا أن سمعتُ أبا بكر رضي الله عنه يتلوها فعقِرتُ حتى ما تحمِلُني رجلاي وعرفتُ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد مات { وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ } بإدباره عما كان يُقبل عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من أمر الجهادِ وغيرِه وقيل : بارتداده عن الإسلامِ ، وما ارتد يومئذ أحدٌ من المسلمين إلا ما كان من المنافقين { فَلَن يَضُرَّ الله } بما فعل من الانقلاب { شَيْئاً } أي شيئاً من الضرر وإنما يضُرُّ نفسَه بتعريضها للسُخط والعذاب { وَسَيَجْزِى الله الشاكرين } أي الثابتين على دين الإسلامِ الذي هو أجلُّ نعمةٍ وأعزُّ معروفٍ . سُمّوا بذلك لأن الثباتَ عليه شكرٌ له وعِرفانٌ لحقه وفيه إيماءٌ إلى كُفران المنقلبين . ورُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بهم الطائعون لله تعالى من المهاجرين والأنصارِ ، وعن علي رضي الله عنه أبو بكرٍ وأصحابُه رضي الله عنهم . وعنه رضي الله عنه أنه قال : أبو بكر من الشاكرين ، ومن أحبّاء الله تعالى ، وإظهارُ الاسمِ الجليل في موقع الإضمار لإبراز مزيدِ الاعتناءِ بشأن جزائِهم .(1/467)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ } كلامٌ مستأنفٌ سيق للتنبيه على خطئهم فيما فعلوا حذراً من قتلهم ، وبناءً على الإرجاف بقتله عليه الصلاة والسلام ببيان أن موتَ كلِّ نفسٍ منوطٌ بمشيئة الله عز وجل لا يكاد يقع بدون تعلقها به وإن خاضت مواردَ الحتوفِ واقتحمت مضايقَ كلِّ هولٍ ومَخُوفٍ ، وقد أشير بذلك إلى أنها لم تكن متعلقةً بموتهم في الوقت الذي حذِروه فيه ولذلك لم يُقتلوا حينئذ لا لإحجامهم عن مباشرة القتالِ ، وكلمة كان ناقصةٌ اسمُها أن تموت وخبرُها الظرفُ على أنه متعلقٌ بمحذوف .
وقوله تعالى : { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأسباب أي وما كان الموتُ حاصلاً لنفس من النفوس بسبب من الأسباب إلا بمشيئته تعالى على أن الإذنَ مَجازٌ منها لكونها من لوازمه أو إلا بإذنه لملك الموتِ في قبض روحِها ، وسَوْقُ الكلامِ مَساقَ التمثيل بتصوير الموتِ بالنسبة إلى النفوس بصورةِ الأفعالِ الاختياريةِ التي لا يتسنى للفاعل إيقاعُها والإقدامُ عليها بدون إذنِه تعالى أو بتنزيل إقدامِها على مباديه أعني القتالَ منزلةَ الإقدام على نفسه للمبالغة في تحقيق المرامِ فإن موتَها حيث استحال وقوعُه عند إقدامِها عليه أو على مباديه وسعْيِها في إيقاعه فلأَنْ يستحيلَ عند عدمِ ذلك أولى وأظهر ، وفيه من التحريض على القتال ما لا يخفى { كتابا } مصدرٌ مؤكّدٌ لمضمون ما قبله ، أي كتبه الله كتاباً { مُّؤَجَّلاً } مؤقتاً بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخَّرُ ولو ساعةً . وقرىء مُوَجّلاً بالواو بدلَ الهمزةِ على قياس التخفيفِ ، وبعد تحقيقِ أن مناطَ الموتِ والحياةِ محضُ مشيئةِ الله عز وجل من غير أن يكونَ فيه مدخلٌ لأحد أصلاً أشير إلى أن توفيةَ ثمراتِ الأعمالِ دائرةٌ على إرادتهم ليصْرِفوها عن الأغراض الدنيئةِ إلى المطالب السنيةِ فقيل : { وَمَن يُرِدِ } أي بعمله { ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ } بنون العظمةِ على طريق الالتفات { مِنْهَا } أي من ثوابها ما نشاء أن نؤتيَه إياه كما في قوله عز وجل : { مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ } وهو تعريضٌ بمن شغلتهم الغنائمُ يومئذ وقد مر تفصيلُه { وَمَن يُرِدِ } أي بعمله { ثَوَابَ الاخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا } أي من ثوابها ما نشاء من الأضعاف حسبما جريَ به الوعدُ الكريمُ { وَسَنَجْزِى الشاكرين } نعمةَ الإسلامِ الثابتين عليه الصارفين لما آتاهم الله تعالى من القُوى والقدر إلى ما خُلِقت هي لأجله من طاعة الله تعالى لا يَلْويهم عن ذلك صارفٌ أصلاً ، والمرادُ بهم إما المجاهدون المعهودون من الشهداءِ وغيرهم وإما جنسُ الشاكرين وهم داخلون فيه دخولاً أولياء . والجملة اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله ووعدٌ بالمزيد عليه وفي تصديرها بالسين وإبهامِ الجزاءِ من التأكيد والدَّلالة على فخامة شأنِ الجزاءِ وكونِه بحيث يقصُر عنه البيانُ ما لا يخفى . وقرىء الأفعالُ الثلاثةُ بالياء .(1/468)
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
{ وَكَأَيّن } كلامٌ مبتدأٌ ناعٍ عليهم تقصيرَهم وسوءَ صنيعِهم في صدودهم عن سَنن الربانيين المجاهدين في سبيل الله مع الرسل الخالين عليهم السلام ، و { كأين } لفظةٌ مركبةٌ من كاف التشبيهِ وأي ، حدث فيها بعد التركيب معنى التكثيرِ كما حدث في كذا وكذا ، والنون تنوينٌ أُثبتت في الخط على غير قياسٍ ، وفيها خمسُ لغاتٍ هي إحداهن والثانيةُ كائِنْ مثلُ كاعن والثالثة كأْيِن مثل كعْيِن والرابعةُ كَيْئِن بياء ساكنة بعدها همزة مكسورة وهي قلبُ ما قبلها والخامسةُ كأْن مثلُ كعن ، وقد قرىء بكل منها ومحلُّها الرفعُ بالابتداء وقولُه تعالى : { مّن نَّبِىٍّ } تمييزٌ لها لأنها مثلُ كم الخبرية ، وقد جاء تمييزُها منصوباً كما في قوله :
أطرُد اليأسَ بالرجا فكأيِّن ... آملاً حُمَّ يسرُه بعد عُسرِ
وقوله تعالى : { قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ } خبرٌ لها على أن الفعلَ مسندٌ إلى الظاهر ، والرابطُ هو الضمير المجرورُ في معه ، وقرىء قُتِل وقُتّل على صيغة المبني للمفعول مخففةً ومشددةً ، والرِّبِّيُّ منسوبٌ إلى الرب كالرَّباني وكسرُ الراء من تغييرات النّسْبِ وقرىء بضمها وبفتحها أيضاً على الأصل وقيل : هو منسوبٌ إلى الرَّبة وهي الجماعة ، أي كثيرٌ من الأنبياء قاتلَ معه لإعلاء كلمةِ الله وإعزاز دينِه علماءُ أتقياءُ أو عابدون أو جماعاتٌ كثيرة ، فالظرفُ متعلقٌ بقاتل أو بمحذوف وقع حالاً من فاعله كما في القراءتين الأخيرتين إذ لا احتمالَ فيهما لتعلقه بالفعل أي قُتلوا أو قُتّلوا كائنين معه في القتال لا في القتل . قال سعيد بن جبير : ما سمعنا بنبي قُتل في القتال ، وقال الحسنُ البصري وجماعةٌ من العظماء : لم يقتَلْ نبي في حرب قطُّ ، وقيل : الفعلُ مسنَدٌ إلى ضمير النبي والظرفُ متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً منه ، والرابطُ هو الضميرُ المجرورُ الراجعُ إليه ، وهذا واضحٌ على القراءة المشهورةِ بلا خوف أي كم نبيَ قاتلَ كائناً معه في القتال ربيون كثير ، وأما على القراءتين الأخيرتين فغيرُ ظاهرٍ لا سيما على قراءة التشديد وقد جوّزه بعضُهم وأيّده بأن مدارَ التوبيخِ انخذالُهم للإرجاف بقتلِه عليه السلام أي كم من نبي قُتل كائناً معه في القتل أو في القتال ربيون الخ ، وقوله تعالى : { فَمَا وَهَنُواْ } عطفٌ على قاتل على أن المرادَ به عدمُ الوهنِ المتوقَّعِ من القتال كما في قولك : وعظتُه فلم يتَّعِظْ وصِحْتُ به فلم ينزجِرْ فإن الإتيانَ بالشيء بعد ورودِ ما يوجب الإقلاعَ عنه وإن كان استمراراً عليه بحسب الظاهرِ ولكنه بحسب الحقيقةِ صنعٌ جديدٌ مصحِّحٌ لدخول الفاءِ المرتبةِ له على ما قبله أي فما فتَروا وما انكسرت هِمتُهم { لِمَا أَصَابَهُمْ } في أثناء القتالِ وهو علةٌ للمنفيّ دون النفيِ ، نعم يُشعِرُ بعلّته قوله تعالى : { فِى سَبِيلِ الله } فإن كونَ ذلك في سبيله عز وجل مما يقوِّي قلوبَهم ويُزيلُ وهنَهم ، وما موصولةٌ أو موصوفةٌ ، فإن جُعِل الضميران لجميع الرِّبيِّين فهي عبارةٌ عما عدا القتلِ من الجراح وسائرِ المكارِه المعتريةِ للكل ، وإن جعلاً للبعض الباقين بعد ما قُتل الآخَرون كما هو الأليقُ بمقام توبيخِ المنخذِلين بعد ما استُشهد الشهداءُ فهي عبارةٌ عما ذُكر مع ما اعتراهم من قتل إخوانِهم من الخوف والحُزْن وغيرِ ذلك .(1/469)
هذا على القراءة المشهورةِ وأما على القراءتين الأخيرتين : فإن أُسندَ الفعلُ إلى الرّبيّين فالضميران للباقين منهم حتماً ، وإن أُسند إلى ضمير النبي كما هو الأنسبُ بالتوبيخ على الانخذال بسبب الإرجافِ بقتله عليه الصلاة والسلام فهما للباقين أيضاً إن اعتُبر كونُ الرّبيّين مع النبي في القتل وللجميع إن اعتُبر كونُهم معه في القتال { وَمَا ضَعُفُواْ } عن العدو ، وقيل : عن الجهاد ، وقيل : في الدين { وَمَا استكانوا } أي وما خضَعوا للعدو وأصلُه استكنَ من السكون لأن الخاضعَ يسكُن لصاحبه ليفعلَ به ما يريدُه ، والألفُ من إشباع الفتحةِ أو استكْوَن من الكون لأنه يُطلب أن يكون لمن يُخضَع له . وهذا تعريضٌ بما أصابهم من الوهن والانكسارِ عند استيلاءِ الكفرةِ عليهم والإرجافِ بقتل النبيِّ صلى الله عليه وسلم وبضَعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتِهم لهم حين أرادوا أن يعتضِدوا بابن أُبيّ المنافق في طلب الأمانِ من أبي سفيان { والله يُحِبُّ الصابرين } أي على مقاساة الشدائدِ ومعاناةِ المكاره في سبيل الله فينصُرهم ويُعظّم قدرَهم ، والمرادُ بالصابرين إما المعهودون ، والإظهارُ في موضع الإضمارِ للثناء عليهم بحسن الصبرِ والإشعارِ بعلة الحُكم ، وإما الجنسُ وهم داخلون فيه دخولاً أولياً والجملة تذييل لما قبلها .(1/470)
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)
{ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ } كلامٌ مبينٌ لمحاسنهم القوليةِ معطوفٌ على ما قبله من الجُمل المبيِّنةِ لمحاسنهم الفعلية ، و { قَوْلُهُمْ } بالنصب خبرٌ لكان ، واسمُها أن وما بعدها في قوله تعالى : { إِلاَّ أَن قَالُواْ } والاستثناءُ مفرَّغٌ من أعم الأشياء أي ما كان قولاً لهم عند لقاءِ العدوِ واقتحامِ مضايق الحربِ وإصابةِ ما أصابهم من فنون الشدائدِ والأهوال لشيءٍ من الأشياء إلا أن قالوا { ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا } أي صغائرَنا { وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا } أي تجاوزْنا الحدَّ في ركوب الكبائرِ ، أضافوا الذنوبَ والإسرافَ إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين بُرَآءَ من التفريط في جنب الله تعالى هضماً لهم واستصغاراً لهممهم وإسناداً لما أصابهم إلى أعمالهم وقدّموا الدعاءَ بمغفرتها على ما هو الأهمُّ بحسب الحال من الدعاء بقولهم { وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا } أي في مواطن الحربِ بالتقوية والتأييدِ من عندك أو ثبتْنا على دينك الحقِّ { وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } تقريباً له إلى حيز القَبول ، فإن الدعاءَ المقرونَ بالخضوع الصادرَ عن زكاء وطهارةٍ أقربُ إلى الاستجابة ، والمعنى لم يزالوا مواضبين على هذا الدعاءِ من غير أن يصدُرَ عنهم قولٌ يوهم شائبةَ الجزَعِ والخَوَرِ والتزلزُلِ في مواقف الحربِ ومراصدِ الدين . وفيه من التعريض بالمنهزمين ما لا يخفى . وقرأ ابنُ كثير وعاصمٌ في رواية عنهما برفع { قَوْلُهُمْ } على أنه الاسمُ والخبرُ أن وما في حيزها أي ما كان قولُهم حينئذ شيئاً من الأشياء إلا هذا القولَ المنبىءَ عن أحسن المحاسنِ ، وهذا كما ترى أقعدُ بحسب المعنى وأوفق بمقتضى المقام لما أن الإخبارَ بكون قولِهم المطلقِ خصوصيةَ قولِهم المحكيِّ عنهم مفصلاً كما تفيده قراءتهما أكثرُ إفادةٍ للسامع من الإخبار بكون خصوصيةِ قولِهم المذكورِ قولَهم ، لما أن مصبَّ الفائدةِ وموقِعَ البيانِ في الجمل الخبرية هو الخبرُ ، فالأحقُّ بالخبرية ما هو أكثرُ إفادةً وأظهرُ دِلالةً على الحدث وأوفرُ اشتمالاً على نِسَب خاصةٍ بعيدةٍ من الوقوع في الخارج وفي ذهن السامعِ . ولا يخفى أن ذلك هاهنا في أنْ مع ما في حيُّزها أتمَّ وأكملَ ، وأما ما تفيده الإضافةُ من النسبة المطلقةِ الإجماليةِ فحيث كانت سهلةَ الحصولِ خارجاً وذِهناً كان حقُّها أن تلاحَظَ ملاحظةً إجماليةً وتُجعلَ عنواناً للموضوع ، لا مقصوداً بالذات في باب البيانِ وإنما اختار الجمهورُ ما اختاره لقاعدة صناعيةٍ هي أنه إذا اجتمع معرفتان فالأعرفُ منهما أحقُّ بالاسمية ، ولا ريب في أعرفية { أَن قَالُواْ } لدلالته على جهة النسبةِ وزمانِ الحدثِ ولأنه يشبه المضمرَ من حيث أنه لا يوصف ولا يوصف به ، وقولَهم مضافٌ إلى مضمر فهو بمنزلة العَلَم فتأمل .(1/471)
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)
{ فاتاهم الله } بسبب دعائِهم ذلك { ثَوَابَ الدنيا } أي النصرَ والغنيمةَ والعزَّ والذكرَ الجميلَ { وَحُسْنَ ثَوَابِ الاخرة } الحسنُ وهو الجنةُ والنعيمُ المخلّدُ ، وتخصيصُ وصفِ الحسن به للإيذان بفضله ومزيتِه وأنه المعتدُّ به عنده تعالى { والله يُحِبُّ المحسنين } تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله ، فإن محبةَ الله تعالى للعبد عبارةٌ عن رضاه عنه وإرادةِ الخيرِ به ، فهي مبدأٌ لكل سعادة ، واللامُ إما للعهد ، وإنما وُضع المُظهرُ موضِعَ ضميرِ المعهودين للإشعار بأن ما حُكيَ عنهم من الأفعال والأقوالِ من باب الإحسانِ ، وإما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً وهذا أنسبُ بمقام ترغيبِ المؤمنين في تحصيل ما حُكي عنهم من المناقب الجليلة .
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ } شروعٌ في زجرهم عن متابعة الكفارِ ببيان استتباعِها لخسران الدنيا والآخرة إثرَ ترغيبِهم في الاقتداء بأنصار الأنبياءِ ببيان إفضائه إلى فوزهم بسعادة الدارين ، وتصديرُ الخطابِ بالنداء والتنبيهِ لإظهار الاعتناءِ بما في حيِّزه ، ووصفُهم بالإيمان لتذكير حالِهم وتثبيتِهم عليها بإظهار مباينتِها لحال أعدائِهم كما أن وصفَ المنافقين بالكفر في قوله تعالى : { إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ } لذلك قصداً إلى مزيد التنفيرِ عنهم والتحذيرِ عن طاعتهم ، قال علي رضي الله عنه : نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمةِ : ارجِعوا إلى إخوانكم وادخُلوا في دينهم ، فوقوعُ قوله تعالى : { يَرُدُّوكُمْ على أعقابكم } جواباً للشرط مع كونِه في قوة أن يقال : إن تُطيعوهم في قولهم : ارجِعوا إلى إخوانكم وادخُلوا في دينهم يُدخِلونكم في دينهم باعتبار كونه تمهيداً لقوله تعالى : { فَتَنقَلِبُواْ خاسرين } أي للدنيا والآخرة غيرَ فائزين بشيء منهما واقعين في العذاب الخالدِ على أن الارتدادَ على العقِب عَلَمٌ على انتكاس الأمرِ ومثَلٌ في الحور بعد الكور وقيل : المراد بهم اليهودُ والنصارى حيث كانوا يستَغْنونهم ويُوقِعون لهم الشُّبَه في الدين ويقولون : لو كان نبياً حقاً لما غُلب ولمَا أصابه وأصحابَه ما أصابهم وإنما هو رجلٌ حالُه كحال غيرِه من الناس يوماً عليه ويوماً له ، وقيل : أبو سفيان وأصحابُه والمرادُ بطاعتهم استئمانُهم والاستكانةُ لهم ، وقيل : الموصولُ على عمومه والمعنى نهيُ المؤمنين عن طاعتهم في أمر من الأمور حتى لا يستجرّوهم إلى الارتداد عن الدين فلا حاجةَ على هذه التقاديرِ إلى ما مر من البيان .(1/472)
بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
{ بَلِ الله مولاكم } إضرابٌ عما يُفهم من مضمون الشرطيةِ كأنه قيل : فليسوا أنصارَكم حتى تطيعوهم بل الله ناصرُكم لا غيرُه فأطيعوه واستعينوا به عن موالاتهم ، وقرىء بالنصب كأنه قيل : فلا تطيعوهم بل أطيعوا الله و { مولاكم } نُصب على أنه صفةٌ له { وَهُوَ خَيْرُ الناصرين } فخُصّوه بالطاعة والاستعانة { سَنُلْقِى } بنون العظمةِ على طريقة الالتفاتِ جرياً على سَنن الكبرياءِ لتقوية المهابةِ ، وقرىء بالياء والسين لتأكيد الإلقاءِ { فِى قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } بسكون العين وقرىء بضمها على الأصل وهو ما قُذف في قلوبهم من الخوف يوم أحُد حتى تركوا القتالَ ورجعوا من غير سببٍ ، ولهم القوةُ والغلبة ، وقيل : ذهبوا إلى مكةَ فلما كانوا ببعض الطريقِ قالوا : ما صنعنا شيئاً قتلنا منهم ثم تركناهم ونحن قاهرون ارجِعوا فاستأصِلوهم فعند ذلك ألقى الله تعالى في قلوبهم الرُّعْبَ فأمسكوا . فلا بد من كون نزولِ الآيةِ في تضاعيف الحربِ أو عَقيب انقضائِها ، وقيل : هو ما أُلقيَ في قلوبهم من الرعب يومَ الأحزاب { بِمَا أَشْرَكُواْ بالله } متعلقٌ بنُلقي دون الرعب ، وما مصدرية أي بسبب إشراكِهم به تعالى فإنه من موجبات خِذْلانِهم ونصرِ المؤمنين عليهم ، وكلاهما من دواعي الرعب { مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ } أي بإشراكه { سلطانا } أي حجةً سمِّيت به لوضوحها وإنارتها أو لقوّتها أو لحِدّتها ونفوذِها ، وذكرُ عدمِ تنزيلِها مع استحالة تحققِها في نفسها من قبيل قوله :
ولا ترَى الضبَّ بها ينجحِرُ ... أي لا ضبَّ ولا انجحارَ ، وفيه إيذانٌ بأن المتَّبعَ في الباب هو البرهانُ السماويُّ دون الآراءِ والأهواءِ الباطلة .
{ وَمَأْوَاهُمُ } بيانٌ لأحوالهم في الآخرة إثرَ بيانِ أحوالِهم في الدنيا وهي الرعبُ أي ما يأوون إليه في الآخرة { النار } لا ملجأَ لهم غيرَها { وَبِئْسَ مثوى الظالمين } أي مثواهم وإنما وُضع موضعَه المظهرُ المذكورُ للتغليظ والتعليلِ والإشعارِ بأنهم في إشراكهم ظالمون واضعون للشيء في غير موضعِه ، والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي بئس مثوى الظالمين النارُ وفي جعلها مثواهم بعد جعلِها مأواهم نوعُ رمزٍ إلى خلودهم فيها فإن المثوى مكانُ الإقامةِ المنبئة عن المُكثْ وأما المأوى فهو المكانُ الذي يأوي إليه الإنسان { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ } نُصب على أنه مفعولٌ ثانٍ لصَدَق صريحاً ، وقيل : بنزع الجارِّ أي في وعده نزلت حين قال ناسٌ من المؤمنين عند رجوعِهم إلى المدينة : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله تعالى بالنصر؟ وهو ما وعدهم على لسان نبيِّه عليه السلامُ من النصر حيث قال للرماة : « لا تبرَحوا مكانَكم فلن نزال غالبين ما ثبتُّم مكانَكم » وفي رواية أخرى : « لا تبرَحوا عن هذا المكانِ فإنا لا نزال غالبين ما دمتم في هذا المكان » وقد كان كذلك فإن المشركين لما أقبلوا جعل الرماةُ يرشُقونهم والباقون يضرِبونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم يقتُلونهم قتلاً ذريعاً وذلك قوله تعالى : { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } أي تقتُلونهم قتلاً كثيراً فاشياً ، من حسَّه إذا أبطل حِسَّه وهو ظرفٌ لصدقكم وقوله تعالى : { بِإِذْنِهِ } أي بتيسيره وتوفيقِه لتحقيق أنّ قتلَهم بما وعدهم الله تعالى بالنصر ، وقيل : هو ما وعدهم بقوله تعالى :(1/473)
{ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ } الآية ، وقد مر تحقيقُ أن ذلك كان يومَ بدر كيف لا والموعودُ بما ذكر إمدادُه عز وجل بإنزال الملائكةِ عليهم السلام ، وتقييدُ صدقِ وعدِه تعالى بوقت قتلِهم بإذنه تعالى صريحٌ في أن الموعودَ هو النصرُ المعنويُّ والتيسيرُ ، لا الإمدادُ بالملائكة ، وقيل : هو ما وعده تعالى بقوله : { سَنُلْقِى } الخ ، وأنت خبيرٌ بأن إلقاءَ الرعبِ كان عند تركِهم القتالَ ورجوعِهم من غير سبب أو بعد ذلك في الطريق على اختلاف ( في ) الروايتين وأياً ما كان فلا سبيل إلى كونه مُغياً بقوله تعالى : { حتى إِذَا فَشِلْتُمْ } أي جبُنتم وضعُف رأيُكم أو مِلتم إلى الغنيمة ، فإن الحرصَ من ضعف القلب { وتنازعتم فِى الامر } فقال بعضُ الرماةِ حين انهزم المشركون وولَّوْا هاربين والمسلمون على أعقابهم قتلاً وضرباً : فما موقفُنا هاهنا بعد هذا؟ وقال أميرُهم عبدُ اللَّه بنُ جبيرٍ رضي الله عنه : لا نخالف أمرَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم فثبت مكانه في نفر دون العشرةِ من أصحابه ونفَرَ الباقون للنهب وذلك قوله تعالى : { وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } أي من الظفر والغنيمةِ وانهزامِ العدوِّ ، فلما رأى المشركون ذلك حَملوا عليهم من قبل الشِّعْبِ وقتلوا أميرَ الرماةِ ومن معه من أصحابه حسبما فُصِّل في تفسير قولِه تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن } وجوابُ إذا محذوفٌ وهو منعُكم نصْرَه ، وقيل : امتَحَنكم ، ويردُّه جعلُ الابتلاءِ غايةً للصَّرْف المترتِّبِ على منع النصرِ ، وقيل : هو : انقسمتم إلى قسمين كما ينبىء عنه قوله تعالى : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } وهم الذين تركوا المركزَ وأقبلوا على النهب { وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاخرة } وهم الذين ثبتوا مكانَهم حتى نالوا شرفَ الشهادة .
هذا على تقدير كونِ إذا شرطيةً وحتى ابتدائيةً داخلةً على الجملة الشرطيةِ ، وقيل : { إِذَا } اسمٌ كما في قولهم : إذا يقوم زيد يقوم عمرو ، و { حتى } حرفُ جرٍ بمعنى إلى المتعلقة بقوله تعالى : { صَدَقَكُمُ } باعتبار تضمُّنِه لمعنى النصرِ كأنه قيل : لقد نصركم الله إلى وقت فشلِكم وتنازُعِكم الخ ، وعلى هذا فقولُه تعالى : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } حتى حالت الحالُ ودالت الدولةُ ، وفيه من اللطف بالمسلمين ما لا يخفى ، { لِيَبْتَلِيَكُمْ } أي يعاملَكم معاملةَ من يمتحنكم بالمصائب ليَظهرَ ثباتُكم على الإيمان عندها { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } تفضّلاً ، ولِمَا علم من ندمكم على المخالفة { والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين } تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله ومؤْذِنٌ بأن ذلك العفوَ بطريق التفضّلِ والإحسانِ لا بطريق الوجوبِ عليه ، أي شأنُه أن يتفضلَ عليهم بالعفو أو هو متفضلٌ عليهم في جميع الأحوالِ أديل لهم أو أُديل عليهم ، إذ الابتلاءُ أيضاً رحمةٌ ، والتنكيرُ للتفخيم ، والمرادُ بالمؤمنين إما المخاطبون ، والإظهارُ في موقع الإضمارِ للتشريفِ والإشعارِ بعلة الحُكم ، وإما الجنس وهم داخلون في الحكم دخولاً أولياً .(1/474)
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
{ إِذْ تُصْعِدُونَ } متعلق بصَرَفكم أو بقوله تعالى : { لِيَبْتَلِيَكُمْ } أو بمقدّر كما ذكروا . والإصعادُ الذهابُ والإبعادُ في الأرض ، وقرىء بثلاثي أي في الجبل ، وقرىء تَصَعَّدون من التفعل بطرح إحدى التاءين وقرىء تصعدون من يصعدون بالالتفات إلى الغيبة { وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ } أي لا تلتفتون إلى ما وراءكم ولا يقف واحدٌ منكم لواحد ، وقرىء تلْوُنَ بواو واحدة بقلب الواوِ المضمومةِ همزةً وحذفِها تخفيفاً ، وقرىء يلوون كيصعدون { والرسول يَدْعُوكُمْ } كان عليه الصلاة والسلام يدعوهم : « إليَّ عبادَ الله أنا رسولُ الله من يكُرُّ فله الجنةُ » وإيرادُه عليه السلام بعنوان الرسالة للإيذان بأن دعوتَه عليه السلام كانت بطريق الرسالةِ من جهته سبحانه إشباعاً في توبيخ المنهزمين { فِى أُخْرَاكُمْ } في ساقتكم وجماعتِكم الأخرى { فأثابكم } عطفٌ على صرفَكم أي فجازاكم الله تعالى بما صنعتم { غَمّاً } موصولاً { بِغَمّ } من الاغتمام بالقتل والجرْحِ وظَفَرِ المشركين والإرجافِ بقتل الرسولِ صلى الله عليه وسلم وفوْتِ الغنيمة ، فالتنكيرُ للتكثير أو غماً بمقابلة غمَ أذَقْتموه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعِصيانكم له { لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أصابكم } أي لتتمرَّنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزَنوا على نفعٍ فاتَ أو ضُرَ آتٍ ، وقيل : لا زائدة والمعنى لتتأسفوا على ما فاتكم من الظفَر والغنيمةِ وعلى ما أصابكم من الجراح والهزيمةِ عقوبةً لكم . وقيل : الضميرُ في أثابكم للرسول صلى الله عليه وسلم أي واساكم في الاغتنام فاغتمّ بما نزل عليكم كما اغتممتم بما نزل عليه ، ولم يُثرِّبْكم على عِصيانكم تسليةً لكم وتنفيساً لكم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من النصر وما أصابكم من الجراح وغيرِ ذلك { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي عالمٌ بأعمالكم وبما أردتم بها .
{ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ } عطفٌ على قوله تعالى : { فأثابكم } ، والخطابُ للمؤمنين حقاً { مّن بَعْدِ الغم } أي الغمِّ المذكور ، والتصريحُ بتأخُّر الإنزالِ عنه مع دَلالة { ثُمَّ } عليه وعلى تراخيه عنه لزيادة البيانِ وتذكيرِ عِظَم النعمةِ كما في قوله تعالى : { ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ } الآية ، { ءامِنَةً } أي أمناً نُصب على المفعولية ، وقوله تعالى : { نُّعَاساً } بدلٌ منها أو عطفُ بيانٍ وقيل : مفعولٌ له أو هو المفعول وأمنةً حالٌ منه متقدمةٌ عليه أو مفعول له حالٌ من المخاطبين على تقدير مضافٍ أي ذو أمنةٍ أو على أنه جمعُ آمن كبارّ وبرَرَة وقرىء بسكون الميم كأنها مرّةٌ من الأمنِ ، وتقديمُ الظرفين على المفعول الصريحِ لِمَا مر غيرَ مرةٍ من الاعتناء بشأن المقدّمِ والتشويقِ إلى المؤخر ، وتخصيصُ الخوفِ من بين فنونِ الغمِّ بالإزالة لأنه المهمُّ عندهم حينئذ لما أن المشركين لما انصرفوا كانوا يتوّعدون المسلمين بالرجوع فلم يأمنوا كرَّتَهم وكانوا تحت الحَجَفِ متأهّبين للقتال فأنزل الله تعالى عليهم الأمنةَ فأخذهم النعاسُ .(1/475)
قال ابن عباس رضي الله عنهما : أمنَّهم يومئذ بنعاس تغشّاهم بعد خوفٍ وإنما ينعَسُ من أمِنَ ، والخائفُ لا ينام . وقال الزبير رضي الله عنه : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوفُ فأنزل الله علينا النومَ والله إني أسمع قولَ مُعتبِ بنِ قشير والنعاسُ يغشاني ما أسمعه إلا كالحُلُم يقول : لو كان لنا من الأمر شيءٌ ما قُتلنا هاهنا . وقال أبو طلحةَ رضي الله عنه : «رفعتُ رأسي يومَ أحُدٍ فجعلتُ لا أرى أحداً من القوم إلا وهو يَميدُ تحت حَجَفَتِه من النعاس» . قال : «وكنتُ ممن أُلقِيَ عليه النعاسُ يومئذ فكان السيفُ يسقُط من يدي فآخذُه ثم يسقُط السَّوْطُ من يدي فآخُذه» ، وفيه دِلالةٌ على أن من المؤمنين من لم يُلْقَ عليه النعاسُ كما ينبىء عنه قوله عز وجل : { يغشى طَائِفَةً مّنْكُمْ } قال ابن عباس : هم المهاجرون وعامةُ الأنصار ولا يقدَح ذلك في عموم الإنزالِ للكل ، والجملةُ في محل النصب على أنها صفةٌ لنعاساً ، وقرىء بالتاء على أنها صفة لأمَنةً ، وفيه أن الصفةَ حقُّها أن تتقدم على البدل وعطفِ البيان وأن لا يُفصل بينها وبين الموصوفِ بالمفعول له ، وأن المعهودَ أن يحدُث عن البدل دون المُبدلِ منه { وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } أي أوقعتهم في الهموم والأحزانِ ، أو ما بهم إلا همُّ أنفسِهم وقصدُ خلاصِها ، من قولهم : همّني الشيءُ أي كان من هِمّتي وقصدي ، والقصرُ مستفادٌ بمعونة المقامِ ، { وَطَائِفَةٌ } مبتدأٌ وما بعدها إما خبرُها ، وإنما جاز ذلك مع كونها نكرةً لاعتمادها على واو الحال كما في قوله :
سرينا ونجمٌ قد أضاء فمذ بدا ... محياكِ أخفى ضوؤُه كلَّ شارقِ
أو لوقوعها في موضع التفصيل كما في قوله :
إذا ما بكى من خلفها انصرَفَتْ له ... بشِقَ وتحتي شِقُّها لم يُحَوَّلِ
وإما صفتُها والخبرُ محذوفٌ أي ومعكم طائفةٌ أو وهناك طائفةٌ ، وقيل : تقديره ومنكم طائفةٌ ، وفيه أنه يقتضي دخولَ المنافقين في الخطاب بإنزال الأمنةِ وأياً ما كان فالجملةُ إما حاليةٌ مبيِّنةٌ لفظاعة الهولِ مؤكِّدةٌ لعِظَم النعمةِ في الخلاص عنه كما في قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } وإما مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيان حالِ المنافقين وقوله عز وجل : { يَظُنُّونَ بالله } حال من ضمير أهمتْهم أو من طائفةٌ لتخصصها بالصفة ، أو صفةٌ أخرى لها أو خبرٌ بعد خبرٍ أو استئنافٌ مبينٌ لما قبله وقوله تعالى : { غَيْرَ الحق } في حُكم المصدرِ أي يظنون به تعالى غيرَ الظنِّ الحقِّ الذي يجب أن يُظنَّ به سبحانه ، وقوله تعالى : { ظَنَّ الجاهلية } بدلٌ منه وهو الظنُّ المختصُّ بالملة الجاهليةِ والإضافة كما في حاتم الجودِ ورجلِ صِدْقٍ وقوله تعالى : { يَقُولُونَ } بدلٌ من يظنون لما أن مسألتَهم كانت صادرةً عن الظن أي يقولون لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم على صورة الاسترشاد : { هَل لَّنَا مِنَ الامر } أي من أمر الله ووعدِه من النصر والظفَرِ { مِن شَىْء } أي من نصيب قط أو هل لنا من التدبير من شيء؟ وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الامر كُلَّهُ للَّهِ } أي إن الغلبةَ بالآخرة لله تعالى ولأوليائه فإن حزبَ الله هم الغالبون أو إن التدبيرَ كلَّه لله فإنه تعالى قد دبر الأمرَ كما جرى في سابق قضائِه فلا مردَّ له وقرىء كلُّه بالرفع على الابتداء وقوله تعالى : { يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم } أي يُضمرون فيها أو يقولون فيما بينهم بطريق الخُفية { مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ } استئنافٌ أو حال من ضمير يقولون وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الامر } الخ ، اعتراضٌ بين الحال وصاحبِها أي يقولون ما يقولون مُظْهِرين أنهم مسترشِدون طالبون للنصر مُبْطنين الإنكارَ والتكذيبَ ، وقوله تعالى : { يَقُولُونَ } استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل : أيَّ شيء يخفون؟ فقيل : يحدثون أنفسَهم أو يقول بعضُهم لبعض فيما بينهم خُفيةً : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الامر شَىْء } كما وعد محمد عليه الصلاة والسلام من أن الغلبةَ لله تعالى ولأوليائه وأن الأمرَ كلَّه لله أو لو كان لنا من التدبير والرأيِّ شيءٌ { مَّا قُتِلْنَا هاهنا } أي ما غُلبنا أو ما قُتل مَنْ قُتل منا في هذه المعركةِ على أن النفيَ راجعٌ إلى نفس القتلِ لا إلا وقوعه فيها فقط ، ولما برحنا من منازلنا كما رآه ابنُ أُبي ويؤيده تعيينُ مكانِ القتلِ وكذا قوله تعالى : { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ } أي لو لم تخرُجوا إلى أُحُد وقعدتم بالمدينة كما تقولون { لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل } أي في اللوح المحفوظِ بسبب من الأسباب الداعيةِ إلى البروز { إلى مَضَاجِعِهِمْ } إلى مصارعهم التي قدَّر الله تعالى قتلَهم فيها وقُتلوا هنالك البتةَ ولم تنفَعِ العزيمةُ على الإقامة بالمدينة قطعاً ، فإن قضاءَ الله تعالى لا يُرَدّ وحكمُه لا يُعقَّب ، وفيه مبالغةٌ في رد مقالتِهم الباطلةِ حيث لم يُقتَصرْ على تحقيق نفسِ القتلِ كما في قوله عز وجل :(1/476)
{ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت } بل عُيِّن مكانُه أيضاً ، ولا ريب في تعيُّن زمانِه أيضاً لقوله تعالى : { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } رُوي أن ملك الموتِ حضر مجلسَ سليمانَ عليه الصلاة والسلام فنظر إلى رجل من أهل المجلسِ نَظرةً هائلة فلما قام قال الرجلُ : من هذا؟ فقال سليمانُ عليه السلام : ملكُ الموتِ ، قال : أرسِلْني مع الريح إلى عالم آخَرَ فإني رأيتُ منه مرأىً هائلاً فأمرها عليه السلام فألقتْه في قُطر سحيقٍ من أقطار العالم فما لبث أن عاد ملكُ الموتِ إلى سليمانَ عليه السلام فقال : كنت أُمِرْتُ بقبض روحِ ذلك الرجلِ في هذه الساعةِ في أرض كذا فلما وجدتُه في مجلسك قلت : متى يصِلُ هذا إليها وقد أرسلتَه بالريح إلى ذلك المكانِ فوجدتُه هناك فقُضي أمرُ الله عز وجل في زمانه ومكانِه من غير إخلالٍ بشيء من ذلك ، وقرىء كَتَبَ على البناء للفاعل ونصبِ القتلُ ، وقرىء كُتب عليهم القتالُ وقرىء لبُرِّز بالتشديد على البناء للمفعول { وَلِيَبْتَلِىَ الله مَا فِى صُدُورِكُمْ } أي ليعاملَكم معاملةَ مَنْ يبتلي ما في صدوركم من الإخلاص والنفاقِ ويُظهرَ ما فيها من السرائر ، وهو علةٌ لفعل مقدرٍ قبلها معطوفةٌ على علل لها أخرى مطويةٍ للإيذان بكثرتها ، كأنه قيل : فعلَ ما فعل لمصالحَ جمةٍ وليبتليَ الخ ، وجعلُها عِللاً لبَرَز يأباه الذوقُ السليمُ فإن مقتضى المقامِ بيانُ حكمةِ ما وقع يومئذ من الشدة والهولِ لا بيانُ حِكمةِ البروزِ المفروضِ ، أو لفعلٍ مقدرٍ بعدها أي وللابتلاء المذكورِ فعلَ ما فعل ، لا لعدم العنايةِ بأمر المؤمنين ونحو ذلك ، وتقديرُ الفعل مقدماً خالٍ عن هذه المزية .(1/477)
{ وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ } من مخفيات الأمورِ ويكشِفَها أو يُخلِّصَها من الوساوس { والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أي السرائر والضمائرِ الخفيةِ التي لا تكاد تفارقُ الصدورَ بل تلازمها وتصاحبُها ، والجملةُ إما اعتراضٌ للتنبيه على أن الله تعالى غنيٌ عن الابتلاء ، وإنما يُبرِز صورةَ الابتلاءِ لتمرين المؤمنين وإظهارِ حالِ المنافقين ، أو حالٌ من متعلَّق الفعلين أي فَعل ما فَعل للابتلاء والتمحيصِ والحال أنه تعالى غنيٌ عنهما مُحيطٌ بخفيات الأمورِ ، وفيه وعدٌ ووعيد .(1/478)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
{ إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان } وهم الذين انهزموا يومَ أحُدٍ حسبما مرت حكايتُهم { إِنَّمَا استزلهم الشيطان } أي إنما كان سببَ انهزامِهم أن الشيطانَ طلب منهم الزللَ { بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } من الذنوب والمعاصي التي هي مخالفةُ أمرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وتركُ المركزِ والحِرصُ على الغنيمة أو الحياةِ ، فحُرِموا التأييدَ وقوةَ القلب ، وقيل : استزلالُ الشيطانِ تولِّيهم وذلك بذنوب تقدمت لهم فإن المعاصيَ يجُرّ بعضُها إلى بعض كالطاعة ، وقيل : استزلّهم بذنوب سبَقتْ منهم وكرِهوا القتلَ قبل إخلاصِ التوبةِ والخروجِ من المظلِمة { وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ } لتوبتهم واعتذارِهم { أَنَّ الله غَفُورٌ } للذنوب { حَلِيمٌ } لا يعاجل بعقوبة المذنبِ ليتوب ، والجملةُ تعليلٌ لما قبلها على سبيل التحقيق ، وفي إظهار الجلالةِ تربيةٌ للمهابة وتأكيدٌ للتعليل .(1/479)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ } وهم المنافقون القائلون : لو كان لنا من الأمر شيءٌ ما قتلنا هاهنا ، وإنما ذُكر في صدر الصلةِ كفرُهم تصريحاً بمباينة حالِهم لحال المؤمنين ، وتنفيراً عن مماثلتهم آثِرَ ذي أثيرٍ ، وقولُه تعالى : { وَقَالُواْ لإخوانهم } تعيينٌ لوجه الشبهِ والمماثلةِ التي نُهوا عنها أي قالوا لأجلهم وفي حقهم ، ومعنى أُخوّتِهم اتفاقُهم نسباً أو مذهباً { إِذَا ضَرَبُواْ فِى الارض } أي سافروا فيها وأبعدوا للتجارة أو غيرِها ، وإيثارُ إذا المفيدةِ لمعنى الاستقبالِ على إذا المفيدةِ لمعنى المُضيِّ لحكاية الحالِ الماضيةِ إذِ المرادُ بها الزمانُ المستمرُّ المنتظمُ للحال الذي عليه يدور أمرُ استحضارِ الصورة . قال الزجاج : إذا هاهنا تنوبُ عما مضى من الزمان وما يُستقبل يعني أنها لمجرد الوقتِ أو يُقصد بها الاستمرارُ ، وظرفيتُها لقولهم إنما هي باعتبار ما وقع فيها بل التحقيقُ أنها ظرفٌ له لا لقولهم ، كأنه قيل : قالوا لأجل ما أصاب إخوانَهم حين ضربوا الخ ، { أَوْ كَانُواْ } أي إخوانُهم { غُزّاً } جمعُ غازٍ كعُفّىً جمعُ عافٍ ، قال :
ومُغْبّرةِ الآفاقِ خاشعةِ الصُّوى ... لها قلب عفى الحياض أجون
وقرىء بتخفيف الزاي على حذف التاء من غُزاة ، وإفرادُ كونِهم غُزاةً بالذكر مع اندراجه تحت الضربِ في الأرض لأنه المقصودُ بيانُه في المقام ، وذكرُ الضربِ في الأرض توطئةٌ له ، وتقديمُه لكثرة وقوعِه على أنه قد يوجد بدون الضربِ في الأرض إذ المرادُ به السفرُ البعيدُ ، وإنما لم يقُلْ أو غَزَوْاً للإيذان باستمرار اتصافِهم بعنوان كونِهم غزاةً أو بانقضاء ذلك ، أي كانوا غُزّاً فيما مضى ، وقولُه تعالى : { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا } أي مقيمين { مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } مفعولٌ لقالوا دليلٌ على أن هناك مضمَراً قد حُذف ثقةً به أي إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو كانوا غزّاً فقُتلوا ، وليس المقصودُ بالنهي عدمَ مماثلتِهم في النطق بهذا القولِ بل في الاعتقاد بمضمونه والحُكمِ بموجبه كما أنه المنكرُ على قائليه ، ألا يُرى إلى قوله عز وجل : { لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ } فإنه الذي جُعل حسرةً فيها قطعاً وإليه أشير بذلك كما نقل عن الزجاج أنه إشارةٌ إلى ظنهم أنهم لو لم يحضُروا القتالَ لم يُقتلوا ، وتعلّقُه بقالوا ليس باعتبار نطقِهم بذلك القولِ بل باعتبار ما فيه من الحُكم والاعتقاد ، واللامُ لامُ للعاقبة كما في قوله تعالى : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } أي قالوا ذلك واعتقدوه ليكون حسرةً في قلوبهم ، والمرادُ بالتعليل المذكورِ بيانُ عدمِ ترتُّبِ فائدةٍ ما على ذلك أصلاً ، وقيل : هو تعليلٌ للنهي بمعنى لا تكونوا مثلَهم في النطق بذلك القولِ واعتقادِه ليجعلَه الله تعالى حسرةً في قلوبهم خاصة ويصونَ منها قلوبَكم ، فذلك كما مر إشارةٌ إلى ما دل عليه قولُهم من الاعتقاد ويجوز أن يكون إشارةً إلى ما دل عليه النهيُ أي لا تكونوا مثلَهم ليجعل الله انتفاءَ كونِكم مثلَهم حسرةً في قلوبهم فإن مضادّتَكم لهم في القول والاعتقادِ مما يغُمُّهم ويَغيظهم { والله يُحْيىِ وَيُمِيتُ } ردٌّ لباطلهم إثرَ بيانِ غائلتِه أي هو المؤثِّرُ في الحياة والممات وحده من غير أن يكون للإقامة أو للسفر مدخلٌ في ذلك فإنه تعالى قد يُحيي المسافرَ والغازيَ مع اقتحامهما لموارد الحتوفِ ويُميتُ المقيمَ والقاعدَ مع حيازتهما لأسباب السلامة { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } تهديدٌ للمؤمنين على أن يماثلوهم ، وقرىء بالياء على أنه وعيدٌ للذين كفروا ، و { مَا يَعْمَلُونَ } عامٌ متناولٌ لقولهم المذكورِ ولِمُنشئه الذي هو اعتقادُهم ، ولما ترتب على ذلك من الأعمال ، ولذلك تعرَّض لعنوان البَصَر لا لعنوان السمعِ ، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لتربية المهابةِ وإلقاءِ الرَّوْعةِ والمبالغةِ في التهديد والتشديدِ في الوعيد .(1/480)
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
{ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ } شروعٌ في تحقيق أن ما يحذرون ترتُّبَه على الغزو والسفر من القتل والموتِ في سبيل الله تعالى ليس مما ينبغي أن يُحذر ، بل مما يجب أن يتنافسَ فيه المتنافسون إثرَ إبطالِ ترتُّبِه عليهما ، واللامُ هي الموطئةُ للقسم واللام في قوله تعالى : { لَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله وَرَحْمَةٌ } لامُ الابتداء ، والتنوينُ في الموضعين للتقليل ، ومِنْ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً للمبتدأ ، وقد حُذفت صفةُ رحمةٌ لدِلالة المذكورِ عليها ، والجملةُ جوابٌ للقسم سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرطِ والمعنى أن السفرَ والغزوَ ليس مما يجلُب الموتَ ويقدّم الأجلَ أصلاً ولئن وقع ذلك بأمر الله تعالى لنفحةٌ يسيرةٌ من مغفرة ورحمةً كائنتين من الله تعالى بمقابلة ذلك { خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ } أي الكفرةُ من منافعِ الدنيا وطيّباتها مدةَ أعمارِهم .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما خيرٌ من طِلاع الأرضِ ذَهَبةً حمراءَ . وقرىء بالتاء أي مما تجمعونه أنتم لو لم تموتوا ، والاقتصارُ على بيان خيريتِهما من ذلك بلا تعرّضٍ للإخبار بحصولهما لهم للإيذان بعدم الحاجةِ إليه بناءً على استحالة التخييبِ منه تعالى بعد الإطماعِ وقد قيل : لا بد من حذفٍ آخَرَ أي لمغفرةٌ لكم من الله الخ ، وحينئذ يكون أيضاً إخراجُ المقدَّرِ مُخرَجَ الصفةِ دون الخبر لنحو ما ذُكر من ادعاء الظهورِ والغِنى عن الإخبار به ، وتغييرُ الترتيب الواقعِ في قولهم : ما ماتوا وما قتلوا المبنيِّ على كثرة الوقوعِ وقلته للمبالغة في الترغيب في الجهاد ببيان زيادةِ مزيةِ القتلِ في سبيل الله وإنافتِه في استجلاب المغفرةِ والرحمةِ ، وفيه دَلالةٌ واضحةٌ على ما مر من أن المقصودَ بالنهي إنما هو عدمُ مماثلتِهم في الاعتقاد بمضمون القولِ المذكورِ والعملِ بموجبه لا في النطق به وإضلالِ الناسِ به .
{ وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ } أي على أيِّ وجهٍ اتفق هلاكُكم حسب تعلُّقِ الإرادةِ الإلهية وقرىء مِتّم بكسر الميمِ من مات { لإِلَى الله } أي إلى المعبود بالحق العظيمِ الشأنِ الواسعِ الرحمةِ الجزيلِ الإحسانِ { تُحْشَرُونَ } لا إلى غيره فيوفيكم أجورَكم ويُجزِل عطاءَكم ، والكلام في لامَي الجملة كما مر في أختها .(1/481)
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والفاءُ لترتيب مضمونِ الكلامِ على ما يُنبىء عنه السياقُ من استحقاقهم لِلاّئمة والتعنيفِ بموجب الجِبلَّةِ البشرية ، أو من سَعة ساحةِ مغفرتِه تعالى ورحمتِه ، والباءُ متعلِّقة بلنتَ قُدِّمت عليه للقصر ، وما مزيدةٌ للتوكيد ، أو نكرةٌ و { رَحْمَةً } بدلٌ منها مُبينٌ لإبهامها ، والتنوينُ للتفخيم ومِنْ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لرحمةٍ أي فبرحمةٍ عظيمة لهم كائنةٍ من الله تعالى ، وهي ربطُه على جأشه وتخصيصُه بمكارم الأخلاقِ ، كنتَ ليِّنَ الجانبِ لهم وعامَلْتَهم بالرفق والتلطّفِ بهم حيث اغتمَمْتَ لهم بعد ما كان منهم ما كان من مخالفة أمرِك وإسلامِك للعدو .
{ وَلَوْ } لم تكن كذلك بل { كُنْتَ فَظّاً } جافياً في المعاشرة قولاً وفعلاً ، وقال الراغبُ : الفَظُّ هو الكَرِيهُ الخلُقِ . وقال الواحديُّ : هو الغليظُ الجانبِ السيءُ الخلُق { غَلِيظَ القلب } قاسِيَه ، وقال الكلبي : فظَّاً في القول غليظَ القلبِ في الفعل ، { لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } لَتفرَّقوا من عندك ولم يسكُنوا إليك وتردَّوْا في مهاوي الردى والفاء في قوله عز وجل : { فاعف عَنْهُمْ } لترتيب العفوِ أو الأمرِ به على ما قبله ، أي إذا كان الأمرُ كما ذُكر فاعفُ عنهم فيما يتعلق بحقوقك كما عفا الله عنهم { واستغفر لَهُمُ } الله فيما يتعلق بحقوقه تعالى إتماماً للشفقة عليهم وإكمالاً للبِرّ بهم { وَشَاوِرْهُمْ فِى الامر } أي في أمر الحربِ إذ هو المعهودُ ، أو فيه وفي أمثاله مما تجري فيه المشاورةُ عادةً استظهاراً بآرائهم وتطييباً لقلوبهم وتمهيداً لسُنّة المشاورةِ للأُمة . وقرىء وشاورهم في بعض الأمر .
{ فَإِذَا عَزَمْتَ } أي عَقيبَ المشاورةِ على شيء واطمأنتْ به نفسُك { فَتَوَكَّلْ عَلَى الله } في إمضاء أمرِك على ما هو أرشدُ لك وأصلحُ ، فإن عِلمَه مختصٌّ به سبحانه وتعالى . وقرىء فإذا عزمتُ على صيغة التكلّم أي عزمتُ لك على شيء وأرشدتُك إليه فتوكلْ عليَّ ولا تشاوِرْ بعد ذلك أحداً ، والالتفاتُ لتربية المهابةِ وتعليلِ التوكلِ أو الأمرِ به فإن عنوانَ الألوهيةِ الجامعةِ لجميع صفاتِ الكمالِ مستدعٍ للتوكل عليه تعالى أو الأمرِ به { إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين } عليه تعالى فينصُرهم ويُرشِدهم إلى ما فيه خيرُهم وصلاحُهم . والجملةُ تعليلٌ للتوكل عليه تعالى وقوله تعالى : { إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } جملةٌ مستأنفةٌ سيقت بطريق تلوينِ الخطابِ تشريفاً للمؤمنين لإيجاب توكّلِهم عليه تعالى وحثَّهم على اللَّجَأ إليه وتحذيرِهم عما يُفضي إلى خِذلانه أي إن ينصُركم كما نصركم يومَ بدرٍ فلا أحدَ يغلِبُكم على طريق نفي الجنسِ المنتظِم لنفي جميعِ أفرادِ الغالبِ ذاتاً وصفةً ولو قيل : فلا يغلبُكم أحدٌ لدل على نفي الصفة فقط ، ثم المفهومُ من ظاهر النظمِ الكريمِ وإن كان نفيَ مغلوبيّتِهم من غير تعرضٍ لنفي المساواةِ أيضاً ، وهو الذي يقتضيه المقامُ لكن المفهومَ منه فهماً قطعياً هو نفيُ المساواةِ وإثباتُ الغالبيةِ للمخاطبين ، فإذا قلتَ : لا أكرمُ من فلان أو لا أفضلُ منه فالمفهومُ منه حتماً أنه أكرمُ من كل كريمٍ وأفضلُ من كل فاضلٍ وهذا أمرٌ مطردٌ في جميع اللغات ولا اختصاصَ له بالنفي الصريحِ بل هو مطردٌ فيما ورد على طريق الاستفهامِ الإنكاريِّ كما في قوله تعالى :(1/482)
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } في مواقعَ كثيرةٍ من التنزيل ، ومما هو نصٌ قاطعٌ فيما ذكرنا ما وقع في سورة هودٍ حيث قيل بعده في حقهم : { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاخرة هُمُ الاخسرون } فإن كونَهم أخسرَ من كل خاسرٍ يستدعي قطعاً كونَهم أظلمَ من كل ظالم { وَإِن يَخْذُلْكُمْ } كما فعل يومَ أحُدٍ وقرىء يُخذِلْكم من أخذله إذا جعله مخذولاً { فَمَن ذَا الذى يَنصُرُكُم } استفهامٌ إنكاريٌّ مفيدٌ لانتفاء الناصرِ ذاتاً وصفةً بطريق المبالغة { مِن بَعْدِهِ } أي من بعد خِذلانه تعالى أو من بعد الله تعالى على معنى إذا جاوزتموه { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } تقديمُ الجارِّ والمجرورِ على الفعل لإفادة قصرِه عليه تعالى ، والفاءُ لترتيبه أو ترتيبِ الأمرِ به على ما مر من غلبة المخاطَبين على تقدير نُصرتِه تعالى لهم ومغلوبيّتِهم على تقدير خِذلانِه تعالى إياهم ، فإن العِلمَ بذلك مما يقتضي قصرَ التوكلِ عليه تعالى لا محالة ، والمرادُ بالمؤمنين إما الجنسُ والمخاطبون داخلون فيه دخولاً أولياً وإما هم خاصةً بطريق الالتفاتِ ، وأياً ما كان ففيه تشريفٌ لهم بعنوان الإيمانِ اشتراكاً أو استقلالاً ، وتعليلٌ لتحتم التوكلِ عليه تعالى فإن وصفَ الإيمانِ مما يوجبه قطعاً .(1/483)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
{ وَمَا كَانَ لِنَبِىّ } أي وما صح لنبي من الأنبياء ولا استقام له { أَنْ يَغُلَّ } أي يخونَ في المغنم فإن النبوةَ تنافيه منافاةً بيِّنة ، يقال : غَلَّ شيئاً من المغنم يغُل غلولاً وأَغل إغلالاً إذا أخذه خُفْيةً . والمرادُ إما تنزيهُ ساحةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عما ظن به الرماةُ يومَ أحُدٍ حين تركوا المركزَ وأفاضوا في الغنيمة ، وقالوا : نخشى أن يقولَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : من أخذ شيئاً فهو له ولا يقسِمَ الغنائمَ كما لم يقسمْها يوم بدرٍ ، فقال لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " ألم أعهَدْ إليكم أن لا تترُكوا المركزَ حتى يأتيَكم أمري؟ " فقالوا : تركنا بقيةَ إخوانِنا وقوفاً ، فقال عليه السلام : " بل ظننتم أنا نغُلّ ولا نقسِمُ بينكم " وإما المبالغةُ في النهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما رُوي أنه بعث طلائِعَ فغنِم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعدهم غنائِمَ فقسمها بين الحاضرين ولم يترك للطلائع شيئاً فنزلت . والمعنى ما كان لنبي أن يعطيَ قوماً من العسكر ويمنَعَ آخَرين بل عليه أن يقسِمَ بين الكلِّ بالسوية ، وعُبّر عن حِرمان بعضِ الغزاةِ بالغُلول تغليظاً . وأما ما قيل من أن المرادَ تنزيهُه عليه السلام عما تفوَّه به بعضُ المنافقين إذ رُوي : «أن قَطيفةً حمراءَ فقدت يوم بدر فقال بعضُ المنافقين : لعل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أخذها» فبعيدٌ جداً ، وقرىء على البناء للمفعول والمعنى ما كان له أن يوجَدَ غالاًّ أو يُنسَبَ إلى الغُلول .
{ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة } يأتِ بالذي غله بعينه يحمِلُه على عنُقه كما ورد في الحديث الشريف وروي أنه عليه السلام قال : " ألا لاَ أعْرِفَنَّ أحدَكُم يأتي ببعير له رُغاءٌ وببقرةٍ لها خُوارٌ وبشاة لها ثُغاءٌ فينادي يا محمد فأقول : لا أملِك لك من الله شيئاً فقد بلّغتُك " أو يأتِ بما احتمل من إثمه ووبالِه { ثُمَّ توفَّى كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } أي تعطى وافياً جزاءَ ما كسبت خيراً أو شراً كثيراً أو يسيراً ، ووضعُ المكسوبِ موضعَ جزائِه تحقيقاً للعدْل ببيان ما بينهما من تمام التناسُبِ كمّاً وكيفاً كأنهما شيءٌ واحد . وفي إسناد التَوْفيةِ إلى كل كاسبٍ وتعليقِها بكل مكسوبٍ مع أن المقصودَ بيانُ حالِ الغالِّ عند إتيانِه بما غله يوم القيامة من الدلالة على فخامة شأنِ اليومِ وهولِ مطلَعِه والمبالغةِ في بيان فظاعةِ حالِ الغالِّ ما لا يخفى ، فإنه حيث وُفيّ كلُّ كاسبٍ جزاءَ ما كسبه ولم يُنْقَصْ منه شيءٌ ، وإن كان جُرْمُه في غاية القِلّة والحقارةِ ، فلأَنْ لا يُنقَصَ من جزاء الغالِّ شيءٌ وجُرمُه من أعظم الجرائم أظهرُ وأجلى { وَهُمْ } أي كلُّ الناسِ المدلولِ عليهم بكل نفس { لاَ يُظْلَمُونَ } بزيادة عقابٍ أو بنقص ثواب .(1/484)
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
{ أَفَمَنِ اتبع رضوان الله } أي سعى في تحصيله وانتحى نحوَه حيثما كان بفعل الطاعاتِ وتركِ المنكرات كالنبي ومن يسير بسيرته { كَمَن بَاء } أي رجع { بِسَخْطٍ } عظيم لا يقادَرُ قدرُه كائنٍ { مِنَ الله } تعالى بسبب معاصيه كالغالِّ ومن يَدين بدينه ، والمرادُ تأكيدُ نفي الغلولِ عن النبي عليه الصلاة والسلام وتقريرُه بتحقيق المباينةِ الكليةِ بينه وبين الغالِّ حيث وُصف كلٌّ منهما بنقيض ما وُصف به الآخَرُ فقوبل رضوانُه تعالى بسَخَطه ، والاتِّباعُ بالبَوْء ، والجمع بين الهمزةِ والفاءِ لتوجيه الإنكارِ إلى ترتب توهُّمِ المماثلةِ بينهما والحُكمِ بها على ما ذُكر من حال الغالِّ كأنه قيل : أبعد ظهورِ حالِهِ يكونُ مَنْ ترقّى إلى أعلى عِلِّيين كمَنْ ترَدَّى إلى أسفلِ سافلين؟ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمارِ لإدخال الرَّوْعةِ وتربيةِ المهابة { وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ } إما كلامٌ مستأنَفٌ مَسوقٌ لبيان مآلِ أمْرِ مَنْ باء بسَخَطه تعالى ، وإما معطوفٌ على قوله تعالى باء بسخط عطفَ الصِلةِ الاسميةِ على الفعلية ، وأياً ما كان فلا محلَّ له من الإعراب { وَبِئْسَ المصير } اعتراضٌ تذييليٌّ ، والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي وبئس المصيرُ جهنمُ ، والفرقُ بينه وبين المرجِعِ أو الأولَ يُعتبر فيه الرجوعُ على خلاف الحالةِ الأولى بخلاف الثاني .
{ هُمْ } راجعٌ إلى الموصولَين باعتبار المعنى { درجات عِندَ الله } أي طبقاتٌ متفاوتةٌ في علمه تعالى وحُكمِه ، شُبِّهوا في تفاوت الأحوالِ وتبايُنِها بالدرجات مبالغةً وإيذاناً بأن بينهم تفاوتاً ذاتياً كالدرجات أو ذوو درجاتٍ { والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } من الأعمال ودرجاتِها فيجازيهم بحسبها .
{ لَقَدْ مَنَّ الله } جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي والله لقد منّ الله أي أنعم { عَلَى المؤمنين } أي من قومه عليه السلام { إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ } أي من نسبَهم أو من جنسهم عربياً مثلَهم ليفقهوا كلامَه بسهولة ليكونوا واقفين على حاله في الصدق والأمانةِ مفتخرين به ، وفي ذلك شرف لهم عظيم ، قال الله تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } وقرىء من أنفَسِهم أي أشرافهم فإنه عليه السلام كان من أشرف قبائلِ العربِ وبطونِها وقرىء لَمِنْ منِّ الله على المؤمنين إذ بعث الخ ، على أنه خبر لمبتدأ محذوفٍ أي منُّه إذ بعث الخ ، أو على أن إذ في محل الرفعِ على الابتداء بمعنى لمن منّ الله عليه من المؤمنين وقتُ بعثِه ، وتخصيصُهم بالامتنان مع عموم نعمةِ البعثةِ الأسود والأحمرِ لما مرّ من مزيد انتفاعِهم بها وقوله تعالى : { مّنْ أَنفُسِهِمْ } متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لرسولاً أي كائناً من أنفسهم وقوله تعالى : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياته } صفةٌ أخرى أي يتلو عليهم القرآنَ بعد ما كانوا أهلَ جاهليةٍ لم يطرُق أسماعَهم شيءٌ من الوحي { وَيُزَكّيهِمْ } عطفٌ على يتلو أي يطهرهم من دنس الطبائعِ وسوءِ العقائدِ وأوضارِ الأوزار { وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة } أي القرآنَ والسنةَ وهو صفةٌ أخرى لرسولاً مترتبةٌ في الوجود على التلاوة ، وإنما وُسِّط بينهما التزكيةُ التي هي عبارةٌ عن تكميل النفسِ بحسَب القوةِ العلميةِ وتهذيبِها المتفرِّعَ على تكميلها بحسَب القوةِ النظريةِ الحاصلِ بالتعليم المترتبِ على التلاوة ، للإيذان بأن كلَّ واحدٍ من الأمور المترتبةِ نعمةٌ جليلةٌ على حيالها مستوجِبةٌ للشكر فلو رُوعيَ ترتيبُ الوجودِ كما في قوله تعالى : { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكّيهِمْ } لتبادر إلى الفهم عدُّ الجميعِ نعمةً واحدةً ، وهو السرُّ في التعبير عن القرآن بالآياتِ تارةً وبالكتاب والحكمةِ ( تارةً ) أخرى رمزاً إلى أنه باعتبار كلِّ عنوانٍ نعمةٌ على حِدَة ، ولا يقدح في ذلك شمولُ الحكمةِ لما في مطاوي الأحاديثِ الكريمةِ من الشرائع كما سلف في سورة البقرة { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ } أي من قبلِ بعثتِه عليه السلام وتزليتِه وتعليمِه { لَفِى ضلال مُّبِينٍ } أي بيِّن لا ريب في كونه ضلالاً وإن هي المخففةُ من الثقيلة ، وضميرُ الشأنِ محذوفٌ واللامُ فارقةٌ بينها وبين النافية ، والظرفُ الأولُ لغوٌ متعلقٌ بكان ، والثاني خبرُها وهي مع خبرها خبرٌ لأن المخففة التي حُذف اسمُها أعني ضميرَ الشأن ، وقيل : هي نافية واللامُ بمعنى إلا ، أي وما كانوا من قبل إلا في ضلال مبين ، وأياً ما كان فالجملةُ إما حالٌ من الضمير المنصوبِ في يعلمهم أو مستأنفةٌ ، وعلى التقديرين فهي مبيِّنة لكمال النعمةِ وتمامِها .(1/485)
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
{ أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا } كلامٌ مبتدأ مَسوقٌ لإبطال بعضِ ما صدر عنهم من الظنون الفاسدةِ والأقاويلِ الباطلةِ الناشئةِ منها ، إثرَ إبطالِ بعضٍ آخرَ منها ، والهمزةُ للتقريع والتقريرِ ، والواو عاطفةٌ لمدخولها على محذوف قبلها ، و { لَّمّاً } ظرف لقلتم مضافٌ إلى ما بعده ، و { قَدْ أَصَبْتُمْ } في محل الرفعِ على أنه صفةٌ لمصيبة ، والمرادُ بها ما أصابهم يومَ أحدٍ من قتل سبعين منهم ، وبمِثْليها ما أصاب المشركين يومَ بدرٍ من قتل سبعين منهم وأسْرِ سبعين . و { أنى هذا } مقولُ قلتم ، وتوسيطُ الظرفِ وما يتعلق به بينه وبين الهمزةِ ، مع أن المقصودَ إنكارُه والمعطوفُ بالواو حقيقةً لتأكيد النكيرِ وتشديد التقريعِ فإن فعلَ القبيحِ في غير وقتِه أقبحُ ، والإنكارَ على فاعله أدخلُ ، والمعنى أحين أصابكم من المشركين نصفُ ما قد أصابهم منكم قبل ذلك جزِعتم وقلتم : من أين أصابنا هذا؟ وقد تقدم الوعدُ بالنصر على توجيه الإنكارِ والتقريعِ إلى صدور ذلك القولِ عنهم في ذلك الوقتِ خاصة بناءً على عدم كونِه مَظِنةً له داعياً إليه بل على كونه داعياً إلى عدمه ، فإن كونَ مصيبةِ عدوِّهم ضعفَ مصيبتِهم مما يُهوِّن الخطْبَ ويورث السَّلْوةَ ، أو أفعلتم ما فعلتم ولما أصابتكم غائلتُه قلتم : أنى هذا؟ على توجيه الإنكارِ إلى استبعادهم الحادثةَ مع مباشرتهم لسببها ، وتذكيرُ اسمِ الإشارةِ في { أنى هذا } مع كونه إشارةً إلى المصيبة ليس لكونها عبارةً عن القتل ونحوِه بل لما أن إشارتَهم ليست إلا إلى ما شاهدوه في المعركة من حيث هو من غير أن يخطُر ببالهم تسميتُه باسمٍ ما فضلاً عن تسميته باسم المصيبةِ وإنما هي عند الحكاية ، وقوله عز وجل : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } أمرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يُجيب عن سؤالهم الفاسدِ إثرَ تحقيقِ فسادِه بالإنكار والتقريعِ ويُبكّتهم ببيان أن ما نالهم إنما نالهم من جهتهم بتركهم المركزَ وحِرصِهم على الغنيمة وقيل : باختيارهم الخروجَ من المدينة ، ويأباه أن الوعدَ بالنصر كان بعد ذلك كما ذكر عند قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ } الآية ، وأن عملَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بموجبه قد رَفَع الخطرَ عنه وخفف جنايتَهم فيه ، على أن اختيارَ الخروجِ والإصرارَ عليه كان ممن أكرمهم الله تعالى بالشهادة يومئذ وأين هم من التفوّه بمثل هذه الكلمة؟ وقيل : بأخذهم الفداءَ يوم بدر قبل أن يُؤذَن لهم ، والأولُ هو الأظهرُ والأقوى ، وإنما يعضُده توسيطُ خطابِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم بين الخِطابين المتوجهَيْن إلى المؤمنين وتفويضُ التبكيتِ إليه عليه السلام ، فإن توبيخَ الفاعل على الفعل إذا كان ممن نهاه عنه كان أشدَّ تأثيراً { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } ومن جملته النصرُ عند الطاعةِ والخِذلانُ عند المخالفةِ وحيث خرجتم عن الطاعة أصابكم منه تعالى ما أصابكم . والجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبلها داخلٌ تحت الأمرِ .(1/486)
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
{ وَمَا أصابكم } رجوعٌ إلى خطاب المؤمنين إثرَ خطابِه عليه السلام بسر يقتضيه ، وإرشادٌ لهم إلى طريق الحقِّ فبما سألوا عنه وبيانٌ لبعض ما فيه من الحِكَم والمصالحِ ودفعٌ لما عسى أن يُتوهمَ من قوله تعالى : { هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } من استقلالهم في وقوع الحادثةِ ، والعدولُ عن الإضمار إلى ما ذكر للتهويل وزيادةِ التقريرِ ببيان وقتِه بقوله تعالى : { يَوْمَ التقى الجمعان } أي جمعُكم وجمعُ المشركين { فَبِإِذْنِ الله } أي فهو كائن بقضائه وتخليتِه الكفارَ ، سُمّيَ ذلك إذناً لكونها من لوازمه { وَلِيَعْلَمَ المؤمنين } عطفٌ على قوله تعالى : { فَبِإِذْنِ الله } عطفَ المسبَّب على السبب ، والمرادُ بالعلم التمييزُ والإظهارُ فيما بين الناسِ ، { وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ } عطف على ما قبله من مثله ، وإعادةُ الفعل لتشريف المؤمنين وتنزيهِهم عن الانتظام في سلك المنافقين وللإيذان باختلاف حالِ العلم بحسب التعلقِ بالفريقين فإنه متعلقٌ بالمؤمنين على نهج تعلقِه السابقِ وبالمنافقين على وجه جديدٍ ، وهو السرُّ في إيراد الأولِين بصيغة اسمِ الفاعلِ المنبئةِ عن الاستمرار والآخِرين بموصول صِلتُه فعلٌ دالٌ على الحدوث ، والمعنى وما أصابكم يومئذ فهو كائن لتمييز الثابتين على الإيمان والذين أظهروا النفاقَ { وَقِيلَ لَهُمْ } عطفٌ على نافقوا داخلٌ معه في حيز الصلةِ أو كلامٌ مبتدأ . قال ابنُ عباس رضي الله عنهما : هم عبدُ اللَّه بنُ أُبي وأصحابُه حيث انصرفوا يوم أحُدٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم عبدُ اللَّه بنُ عمرو بنِ حرامٍ : أذكِّرُكم الله لا تخذُلوا نبيَّكم وقومَكم ودعاهم إلى القتال وذلك قوله تعالى : { تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا } قال السدي : ادفعوا عنا العدوَّ بتكثير سوادِنا إن لم تقاتلوا معنا ، وقيل : أو ادفعوا عن أهلكم وبلدِكم وحريمِكم إن لم تقاتلوا في سبيل الله تعالى ، وتركُ العطفِ بين تعالَوْا وقاتِلوا لما أن المقصودَ بهما واحد وهو الثاني ، وذِكْرُ الأولِ توطئةٌ له وترغيبٌ فيه لما فيه من الدَلالة على التظاهر والتعاون { قَالُواْ } استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال ينسحب عليه الكلامُ كأنه قيل : فماذا صنعوا حين خُيِّروا بين الخَصْلتين المذكورتين؟ فقيل قالوا : { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتبعناكم } أي لو نُحسِن قتالاً ونقدِر عليه . وإنما قالوه دغَلاً واستهزاءً ، وإنما عبّر عن نفي القدرة على القتال بنفي العِلم به لما أن القدرةَ على الأفعال الاختياريةِ مستلزِمةٌ للعلم بها ، أو لو نعلم ما يصِحُّ أن يسمَّى قِتالاً لاتبعناكم ولكن ما أنتم بصدده ليس بقتال أصلاً وإنما هو إلقاءُ النفسِ إلى التهلُكة . وفي جعلهم التالي مجردَ الاتباعِ دون القتالِ الذي هو المقصودُ بالدعوة دليلٌ على كمال تثبُّطِهم عن القتال حيث لا ترضى نفوسُهم بجعله تالياً لمقدَّم مستحيلِ الوقوعِ { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ للإيمان } الضميرُ مبتدأٌ وأقربُ خبرُه واللامُ في للكفر وللإيمان متعلقةٌ به كذا يومئذٍ ومنهم ، وعدمُ جوازِ تعلقِ حرفين متّحدين لفظاً ومعنى بعامل واحدٍ بلا عطفٍ أو بدليةٍ إنَّما هو فيما عدا أفعلِ التفضيلِ من العوامل ، لاتحاد حيثيةِ عملِها ، وأما أفعلُ التفضيلُ فحيث دل على أصل الفعلِ وزيادتِه جرى مَجرى عاملين كأنه قيل : قُربُهم للكفر زائدٌ على قربهم للإيمان ، وقيل : تعلقُ الجارَّيْن به لشَبَهِهما بالظرفين ، أي هم للكفر يوم إذْ قالوا ما قالوا أقربُ منهم للإيمان فإنهم كانوا قبل ذلك يتظاهرون بالإيمان ، وما ظهرت منهم أَمارةٌ مُؤذِنةٌ بكفرهم فلما انخذلوا عن عسكر المسلمين وقالوا ما قالوا تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنونُ بهم واقتربوا من الكفر ، وقيل : هم لأهل الكفرِ أقربُ نُصرةً منهم لأهل الإيمانِ لأن تقليلَ سوادِ المسلمين بالانخذال تقويةٌ للمشركين وقوله تعالى : { يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } جملةٌ مستأنفةٌ مقرِّرةٌ لمضمون ما قبلها وذِكرُ الأفواهِ والقلوبِ تصويرٌ لنفاقهم وتوضيحٌ لمخالفة ظاهرِهم لباطنهم ، و { مَا } عبارةٌ عن القول ، والمرادُ به إما نفسُ الكلامِ الظاهرِ في اللسان تارةً وفي القلب أخرى ، فالمثبَتُ والمنفيُّ متحدان ذاتاً وإن اختلفا مظهراً ، وإما القولُ الملفوظُ فقط فالمنفيُّ حينئذٍ منشؤُه الذي لا ينفك عنه القولُ أصلاً وإنما عبّر عنه به إبانةً لما بينهما من شدة الاتصالِ ، أي يتفوّهون بقول لا وجودَ له أو لِمَنشَئه في قلوبهم أصلاً من الأباطيل التي من جملتها ما حُكي عنهم آنفاً فإنهم أظهروا فيه أمرين ليس في قلوبهم شيءٌ منهما ، أحدُهما عدمُ العلمِ بالقتال والآخَرُ الاتباعُ على تقدير العِلمِ به ، وقد كذَبوا فيهما كذِباً بيّناً حيث كانوا عالمين به غيرَ ناوين للاتّباع بل كانوا مُصِرِّين مع ذلك على الانخذال عازمين على الارتداد ، وقوله عز وجل : { والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } زيادةُ تحقيقٍ لكفرهم ونفاقِهم ببيان اشتغالِ قلوبِهم بما يخالف أقوالَهم من فنون الشرِّ والفسادِ إثرَ بيانِ خُلوِّها عما يوافقها ، وصيغةُ التفضيلِ لما أن بعضَ ما يكتُمونه من أحكام النفاقِ وذمِّ المؤمنين وتخطئةِ آرائِهم والشماتةِ بهم وغيرِ ذلك يعلمه المؤمنون على وجه الإجمال ، وأن تفاصيلَ ذلك وكيفياتِه مختصةٌ بالعلم الإلهي .(1/487)
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
{ الَّذِينَ قَالُواْ } مرفوعٌ على أنه بدلٌ من واو يكتُمون أو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، وقيل : مبتدأ خبرُه ( قل فادرؤا ) بحذف العائدِ تقديرُه { قُلْ لَهُمْ } الخ ، أو منصوبٌ على الذم أو على أنه نعتٌ للذين نافقوا أو بدلٌ منه ، وقيل : مجرورٌ على أنه بدلٌ من ضمير أفواهِهم أو قلوبِهم كما في قوله :
على جودِه لضن بالماء حاتمُ ... والمرادُ بهم عبدُ اللَّه بنُ أُبيّ وأصحابُه { لإخوانهم } أي لأجلهم وهم من قُتل يومَ أحدٍ من جنسهم أو من أقاربهم فيندرج فيهم بعضُ الشهداءِ { وَقَعَدُواْ } حال من ضمير قالوا بتقدير قد ، أي قالوا : وقد قعدوا عن القتال بالانخذال { لَوْ أَطَاعُونَا } أي فيما أمرناهم به ووافقونا في ذلك { مَا قُتِلُوا } كما لم نُقتلْ ، وفيه إيذانٌ بأنهم أمروهم بالانخذال حين انخذلوا وأغْوَوْهم كما غَوَوْا ، وحملُ القعودِ على ما استصوبه ابنُ أُبيّ عند المشاورةِ من الإقامة بالمدينة ابتداءً ، وجعلُ الإطاعةِ عبارةً عن قبول رأيِه والعملِ به يرُده كونُ الجملةِ حاليةً فإنها لتعيين ما فيه العصيانُ والمخالفةُ مع أن ابنَ أبيَ ليس من القاعدين فيها بذلك المعنى ، على أن تخصيصَ عدمِ الطاعةِ بإخوانهم ينادي باختصاص الأمرِ أيضاً ، بهم فيستحيل أن يُحمَلَ على ما خوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم عند المشاورة { قُلْ } تبكيتاً لهم وإظهاراً لكذبهم { فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ } جوابٌ لشرط قد حُذف تعويلاً على ما بعده من قوله تعالى : { إِن كُنتُمْ صادقين } كما أنه شرطٌ حُذف جوابُه لدِلالة الجوابِ المذكورِ عليه أي أن كنتم صادقين فيما يُنبىء عنه قولُكم من أنكم قادرون على دفع القتلِ عمن كُتب عليه فادفعوا عن أنفسكم الموتَ الذي كُتب عليكم مُعلَّقاً بسبب خاصَ موقتاً بوقت معيّنٍ بدفع سببِه ، فإن أسبابَ الموتِ في إمكان المدافعةِ بالحال وامتناعِها سواءٌ ، وأنفسُكم أعزُّ عليكم من إخوانكم وأمرُها أهمُّ لديكم من أمرهم ، والمعنى أن عدمَ قتلِكم كان بسبب أنه لم يكن مكتوباً عليكم لا بسبب أنكم دفعتموه بالقُعود مع كتابته عليكم فإن ذلك مما لا سبيلَ إليه ، بل قد يكون القتالُ سبباً للنجاة والقعود مؤدياً إلى الموت . رُوي أنه مات يوم قالوا سبعون منافقاً ، وقيل : أريد { إِن كُنتُمْ صادقين } في مضمون الشرطية ، والمعنى أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقُتلوا قاعدين كما قُتلوا مقاتِلين فقوله تعالى : { فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ } حينئذ استهزاءٌ بهم ، أي إن كنتم رجالاً دفّاعين لأسباب الموتِ فادرؤا جميعَ أسبابِه حتى لا تموتوا كما درأتم في زعمكم هذا السببَ الخاصَّ .
{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله أمواتا } كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيان أن القتلَ الذي يَحذَرونه ويُحذّرون الناسَ منه ليس مما يُحذر بل هو من أجل المطالبِ التي يتنافسُ فيها المتنافسون إثرَ بيانِ أن الحذرَ لا يُجدي ولا يغني .(1/488)
وقرىء ولا تحسِبن بكسر السين ، والمرادُ بهم شهداءُ أحدٍ وكانوا سبعين رجلاً : أربعةٌ من المهاجرين حمزةُ بنُ عبدِ المطلب ومُصعبُ بنُ عميرٍ وعثمانُ بنُ شهابٍ وعبدُ اللَّه بنُ جحشٍ وباقيهم من الأنصار رضوان الله تعالى عليهم أجمعين . والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحدٍ ممن له حظٌّ من الخطاب . وقرىء بالياء على الإسناد إلى ضميره عليه السلام أو ضمير مَنْ يحسَب ، وقيل : إلى الذين قُتلوا ، والمفعولُ الأولُ محذوفٌ لأنه في الأصل مبتدأٌ جائزُ الحذفِ عند القرينةِ ، والتقديرُ ولا يحسَبنّهم الذين قُتلوا أمواتاً أي لا يحسبن الذين قُتلوا أنفسَهم أمواتاً ، على أن المرادَ من توجيه النهي إليهم تنبيهُ السامعين على أنهم أحِقاءُ بأن يَسْلُوا بذلك ويَبْشُروا بالحياة الأبديةِ والكرامةِ السنية والنعيمِ المقيمِ ، لكن لا في جميع أوقاتِهم بل عند ابتداءِ القتلِ إذ بعد تبيُّن حالِهم لهم لا يبقى لاعتبار تسليتِهم وتبشيرِهم فائدة ولا لتنبيه السامعين وتذكيرهم وجه وقرىء قتلوا بالتشديد لكثرة المقتولين { بَلْ أَحْيَاء } أي بل هم أحياء ، وقرىء منصوباً أي بلِ احسَبْهم أحياءً على أن الحُسبانَ بمعنى اليقين كما في قوله :
حسِبتُ التقي والمجدَ خيرَ تجارة ... رَباحاً إذا ما المرءُ أصبح ثاقلاً
أو على أنه واردٌ على طريق المشاكلةِ { عِندَ رَبّهِمْ } في محل الرفعِ على أنه خبرٌ ثانٍ للمبتدأ المقدرِ ، أو صفةٌ لأحياءٌ ، أو في محل النصبِ على أنه حالٌ من الضمير في أحياءٌ ، وقيل : هو ظرفٌ لأحياء ، أو للفعل بعده ، والمرادُ بالعندية التقربُ والزلفى . وفي التعرض لعنوان الربوبيةِ المنبئةِ عن التربية والتبليغِ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرهم مزيدُ تكرمةٍ لهم { يُرْزَقُونَ } أي من الجنة ، وفيه تأكيدٌ لكونهم أحياءً وتحقيقٌ لمعنى حياتِهم .
قال الإمام الواحدي : الأصحُ في حياة الشهداءِ ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن أرواحَهم في أجواف طيورٍ خُضْرٍ وأنهم يُرزقون ويأكْلون ويتنعمون . ورُوي عنه عليه السلام أنه قال : « لما أصيب إخوانُكم بأحُدٍ جعل الله أرواحَهم في أجواف طيورٍ خضْرٍ تدور في أنهار الجنة » وروي : « ترِدُ أنهارَ الجنةِ وتأكُل من ثمارها وتسرَح من الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديلَ من ذهب معلقةٍ في ظل العرشِ » وفيه دَلالةٌ على أن روحَ الإنسانِ جسمٌ لطيفٌ لا يفنى بخراب البَدَن ولا يتوقف عليه إدراكُه وتألُّمه والتذاذُه ، ومن قال بتجريد النفوسِ البشريةِ يقول : المرادُ أن نفوسَ الشهداءِ تتمثل طيوراً خُضْراً أو تتعلق بها فتلتذّ بما ذكر . وقيل : المرادُ أنها تتعلق بالأفلاك والكواكبِ فتلتذ بذلك وتكتسب زيادةَ كمالٍ .(1/489)
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
{ فَرِحِينَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ } وهو شرفُ الشهادةِ والفوزُ بالحياة الأبديةِ والزلفى من الله عز وجل والتمتُّع بالنعيم المخلِّد عاجلاً .
{ وَيَسْتَبْشِرُونَ } يُسِرّون بالبشارة { بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم } أي بإخوانهم الذين لم يُقتلوا بعدُ في سبيل الله فيلحقوا بهم { مّنْ خَلْفِهِمْ } متعلقٌ بيلحقوا والمعنى أنهم بقُوا بعدهم وهم قد تقدموهم ، أو بمحذوف وقع حالاً من فاعل يلحقوا أي لم يلحقوا بهم حالَ كونِهم متخلِّفين عنهم باقين في الدنيا { أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } بدلٌ من الذين بدلَ اشتمالٍ مبينٍ لكون استبشارِهم بحال إخوانِهم لا بذواتهم . وأن هي المخففةُ من أنّ واسمُها ضميرُ الشأنِ المحذوفِ ، وخبرُها الجملةُ المنفيةُ أي يستبشرون بما تبين لهم من حسن حالِ إخوانِهم الذين تركوهم وهو أنهم عند قتلِهم يفوزون بحياة أبديةٍ لا يكدِّرُها خوفٌ ( ولا ) وقوعُ محذور ولا حزنٌ ( على ) فوات مطلوبٍ ، أو لا خوفٌ عليهم في الدنيا من القتل فإنه عينُ الحياةِ التي يجب أن يُرغَبَ فيها فضلاً عن أن تُخافَ وتحذَر ، أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم ذلك لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ، والمرادُ بيانُ دوامِ انتفاءِ الخوفِ والحزنِ لا بيانُ انتفاءِ دوامِهما كما يوهمه كونُ الخبرِ في الجملة الثانيةِ مضارعاً ، فإن النفيَ وإن دخل على نفس المضارعِ يفيدُ الدوامَ والاستمرارَ بحسب المقام .(1/490)
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
{ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ } كُرِّر لبيان أن الاستبشارَ المذكورَ ليس بمجرد عدمِ الخوفِ والحزنِ بل به وبما يقارِنُه من نعمةٍ عظيمةٍ لا يقادَرُ قَدْرُها ، وهي ثوابُ أعمالِهم ، وقد جُوِّز أن يكون الأولُ متعلقاً بحال إخوانِهم ، وهذا بحال أنفسِهم بياناً لبعض ما أُجمل في قوله تعالى : { فَرِحِينَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ } { مِنَ الله } متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لنعمةٍ مؤكدةً لما أفاده التنكيرُ من الفخامة الإضافيةِ ، أي كائنةٍ منه تعالى { وَفَضَّلَ } أي زيادةٍ عظيمةٍ كما في قوله تعالى : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ }
{ وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين } بفتح أن ، عطفٌ على فضلٍ منتظمٌ معه في سلك المستبشَرِ به ، والمرادُ بالمؤمنين إما الشهداءُ والتعبيرُ عنهم بالمؤمنين للإيذان بسمو رُتبة الإيمانِ وكونِه مناطاً لما نالوه من السعادة ، وإما كافةُ أهلِ الإيمانِ من الشهداء وغيرِهم ذُكرت توفيةُ أجورِهم على إيمانهم وعُدَّت من جملة ما يستبشَرُ به الشهداء بحكم الأخُوَة في الدين . وقرىء بكسرها على أنه استئنافٌ معترضٌ دالٌّ على أن ذلك أجرٌ لهم على أن إيمانهم مُشعِرٌ بأن من لا إيمانَ له أعمالُه مُحبطةٌ لا أجرَ له . وفيه من الحث على الجهاد والترغيبِ في الشهادة والبعثِ على ازدياد الطاعةِ وبشرى المؤمنين بالفلاح ما لا يخفى . { الَّذِينَ استجابوا لِلَّهِ والرسول مِن بَعْدِ مَا أصابهم القرح } صفةٌ مادحةٌ للمؤمنين لا مخصِّصة ، أو نُصب على المدح أو رُفع على الابتداء ، والخبرُ قوله تعالى : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ } بجملته ، ومن للبيان ، والمقصودُ من الجمع بين الوصفين المدحُ والتعليلُ لا التقييدُ لأن المستجيبين كلَّهم محسنون ومتقون .
روي أن أبا سفيان وأصحابَه لما انصرفوا من أحُد فبلغوا الرّوحاءَ ندِموا وهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يُرهِبهم ويُريَهم من نفسه وأصحابِه قوةً فندَب أصحابَه للخروج في طلب أبي سفيان ، وقال : « لا يخرُجنَّ معنا إلا من حضر يومَنا بالأمس » فخرج صلى الله عليه وسلم مع جماعة حتى بلغوا حمراءَ الأسدِ وهي من المدينة على ثمانية أميالٍ وكان بأصحابه القرْحُ فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتَهم الأجرُ وألقى الله تعالى الرعبَ في قلوب المشركين فذهبوا فنزلت { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } يعني الركبُ الذين استقبلوهم من عبد قيسٍ أو نُعيم بنِ مسعودٍ الأشجعي ، وإطلاقُ الناس عليه لما أنه من جنسهم وكلامُه كلامُهم ، يقال : فلان يركبُ الخيلَ ويلبَسُ الثيابَ وما له سوى فرسٍ فردٍ وغيرُ ثوبٍ واحد ، أو لأنه انضم إليه ناسٌ من المدينة وأذاعوا كلامَه { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم } ( رُوي أن أبا سفيان نادى عند انصرافِه من أحُد : يا محمدُ موعدُنا موسمُ بدرٍ القابلُ إن شئت ، فقال عليه السلام :(1/491)
« إن شاء الله تعالى » فلما كان القابلُ خرج أبو سفيان في أهل مكةَ حتى نزل مرَّ الظهرانِ فألقى الله تعالى في قلبه الرعبَ وبدا له أن يرجِع فمر به ركبٌ من بني عبدِ قيسٍ يُريدون المدينةَ للمِيرَة فشرَط لهم حِملَ بعيرٍ من زبيب إن ثبّطوا المسلمين ) ، وقيل : لقيَ نُعيمُ بنَ مسعودٍ وقد قدِم معتمِراً فسأله ذلك والتزم له عشراً من الإبل وضمِنها منه سهيلُ بنُ عمرو ، فخرج نُعيمٌ ووجد المسلمين يتجهزون للخروج فقال لهم : أتَوْكم في دياركم فلم يُفلت منكم أحدٌ إلا شريدٌ أفترَوْن أن تخرُجوا وقد جمعوا لكم ففِرُّوا ، فقال عليه السلام : « والذي نفسي بيده لأخرُجَنَّ ولو لم يخرُجْ معي أحدٌ » فخرج في سبعين راكباً كلُّهم يقولون : حسبُنا الله ونعم الوكيل . قيل : هي الكلمة التي قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار .
{ فَزَادَهُمْ إيمانا } الضميرُ المستكنّ للمقول أو لمصدرِ قال أو لفاعله إن أُريد به نُعيمٌ وحدَه ، والمعنى أنهم لم يلتفتوا إلى ذلك بل ثبَت به يقينُهم بالله تعالى وازداد اطمئنانُهم وأظهروا حميةَ الإسلامِ وأخلصوا النيةَ عنده ، وهو دليلٌ على أن الإيمانَ يتفاوت زيادةً ونقصاناً فإن ازديادَ اليقينِ بالإلْفِ وكثرةِ التأملِ وتناصُرِ الحجج مما لا ريب فيه ، ويعضُده قولُ ابنِ عمرَ رضي الله تعالى عنهما قلنا : يا رسولَ الله الإيمانُ يزيدُ وينقص ، قال : « نعم يزيد حتى يُدخِلَ صاحبَه الجنةَ وينقُص حتى يدخِلَ صاحبَه النار » { وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله } أي مُحْسِبُنا الله وكافينا من أحسبه إذا كفاه . والدليلُ على أنه بمعنى المُحسب أنه لا يستفيد بالإضافة تعريفاً في قولك : هذا رجلٌ حسبُك { وَنِعْمَ الوكيل } ، أي نعم الموكولُ إليه ، والمخصوصُ بالمدح محذوفٌ أي الله عز وجل .(1/492)
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
{ فانقلبوا } عطفٌ على مقدّر ينسحبُ عليه الكلامُ أي فخرجوا إليهم ووافَوا الموعِد . روي أنه عليه الصلاة والسلام وافى بجيشه بدراً وأقام بها ثمانيَ ليالٍ وكانت معهم تجاراتٌ فباعوها وأصابوا خيراً كثيراً ، والباء في قوله تعالى : { بِنِعْمةٍ } متعلقةٌ بمحذوف وقع حالاً من الضمير في فانقلبوا ، والتنوينُ للتفخيم أي فرَجَعوا من مقصِدهم ملتبسين بنعمة عظيمةٍ لا يقادَر قدرُها وقوله عز وجل : { مِنَ الله } متعلقٌ بمحذوف وقعَ صفةً لنعمة مؤكدةً لفخامتها الذاتيةِ التي يفيدها التنكيرُ بالفخامة الإضافيةِ أي كائنةٍ من الله تعالى وهي العافيةُ والثباتُ على الإيمان والزيادةُ فيه وحذَرُ العدوِّ منهم { وَفَضْلٍ } أي ربحٍ في التجارة وتنكيره أيضاً للتفخيم { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء } حالٌ أخرى من الضمير في فانقلبوا أو من المستكنِّ في الحال كأنه قيل : منعّمين حالَ كونِهم سالمين عن السوء والحالُ إذا كان مضارعاً منفياً بلم وفيه ضميرُ ذي الحالِ جاز فيه دخولُ الواوِ كما في قوله تعالى : { أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْء } وعدمُه كما في هذه الآية الكريمة وفي قوله تعالى : { وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } { واتبعوا } في كل ما أتَوا من قول وفعل { رضوان الله } الذي هو مناطُ الفوزِ بخير الدارين { والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } حيث تفضَّل عليهم بالتثبيت وزيادةِ الإيمانِ والتوفيقِ للمبادرة إلى الجهاد والتصلبِ في الدين وإظهارِ الجراءةِ على العدو ، وحفِظَهم عن كل ما يسوءهم مع إصابة النفعِ الجليلِ ، وفيه تحسيرٌ لمن تخلّف عنهم وإظهارٌ لخطأ رأيِهم حيث حرَموا أنفسَهم ما فاز به هؤلاء . روي أنهم قالوا : هل يكون هذا غزواً؟ فأعطاهم الله تعالى ثوابَ الغزوِ ورضي عنهم .(1/493)
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
{ إِنَّمَا ذلكم } إشارةٌ إلى المثبَّط أو إلى مَنْ حمله على التثبيط والخطابُ للمؤمنين وهو مبتدأ وقولُه تعالى : { الشيطان } إما خبرُه وقوله تعالى : { يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ } جملةٌ مستأنفةٌ مبيِّنة لشيطنته أو حالٌ كما في قوله تعالى : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } الخ ، وإما صفتُه والجملةُ خبرُه ويجوز أن تكون الإشارةُ إلى قوله على تقدير مضافٍ أي إنما ذلكم قولُ الشيطانِ أي إبليسَ ، والمستكنُّ في { يُخَوّفُ } إما للمقدر وإما للشيطان بحذف الراجعِ إلى المقدر أي يخوِّف به ، والمرادُ بأوليائه إما أبو سفيان وأصحابُه فالمفعولُ الأولُ محذوفٌ أي يخوفكم أولياءَه كما هو قراءةُ ابنِ عباس وابنِ مسعودٍ ويؤيِّده قولُه تعالى : { فَلاَ تَخَافُوهُمْ } أي أولياءَه { وَخَافُونِ } في مخالفة أمري ، وإما القاعدون فالمفعولُ الثاني محذوفٌ أي يخوفهم الخروجَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والضميرُ البارزُ في { فَلاَ تَخَافُوهُمْ } للناس الثاني أي فلا تخافوهم فتقعُدوا عن القتال وتجبُنوا وخافوني فجاهدوا مع رسولي وسارعوا إلى ما يأمُركم به . والخطابُ لفريقَي الخارجين والقاعدين ، والفاءُ لترتيب النهي أو الانتهاءِ على ما قبلَها فإن كونَ المَخوفِ شيطاناً مما يوجب عدمَ الخوفِ والنهي عنه { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } فإن الإيمانَ يقتضي إيثارَ خوفِ الله تعالى على خوف غيرِه ويستدعي الأمنَ من شر الشيطانِ وأوليائِه .
{ وَلاَ يَحْزُنكَ } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتشريفه بتخصيصه بالتسلية والإيذانِ بأصالته في تدبير أمورِ الدينِ والاهتمامِ بشؤونه { الذين يسارعون فِى الكفر } أي يقعون فيه سريعاً لغاية حرصِهم عليه وشدةِ رَغبتِهم فيه ، وإيثارُ كلمةِ { فِى } على ما وقع في قوله تعالى : { وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ } الآية ، للإشعار باستقرارهم في الكفر ودوام ملابستهم له في مبدأ المسارعة ومنتهاها كما في قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ يسارعون فِى الخيرات } فإن ذلك مؤذِنٌ بملابستهم للخيرات وتقلّبِهم في فنونها في طرفي المسارعةِ وتضاعيفِها ، وأما إيثار كلمة { إلى } في قوله تعالى : { وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ } الخ ، فلأن المغفرةَ والجنةَ منتهى المسارعةِ وغايتُها ، والمرادُ بالموصول المنافقون من المتخلفين وطائفةٌ من اليهود حسبما عُيِّن في قوله تعالى : { يأَيُّهَا الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِى الكفر مِنَ الذين قَالُواْ ءامَنَّا بأفواههم وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الذين هِادُواْ } وقيل : قوم ارتدوا عن الإسلام ، والتعبيرُ عنهم بذلك للإشارة بما في حيز الصلةِ إلى مَظِنة وجودِ المنهيِّ عنه واعترائِه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي لا يَحْزُنوك بمسارعتهم في الكفر ومبادرتِهم إلى تنفيذ أحكامِه ومُظاهرتِهم لأهله ، وتوجيهُ النهي إلى جهتهم مع أن المقصودَ نهيُه عليه الصلاة والسلام عن التأثر منهم للمبالغة في ذلك لما أن النهيَ عن التأثير نهيٌ عن التأثّر بأصله ونفيٌ له بالمرة ، وقد يُوجِّه النهيُ إلى اللازم والمرادُ هم النهيُ عن الملزوم كما في قولك : لا أُرَينّك هاهنا .(1/494)
وقُرىء لا يُحزِنْك من أحزن المنقولِ من حزِن بكسر الزاء ، والمعنى واحدٌ ، وقيل : معنى حزَنه جعل فيه حُزْناً كما في دهَنه أي جعل فيه دُهْناً ومعنى أحزنه جعله حزيناً ، وقيل : معنى حزَنه أحدث له الحزَن ومعنى أحزنه عرَّضه للحُزْن .
{ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله } تعليلٌ للنهي وتكميلٌ للتسلية بتحقيق نفيِ ضررِهم أبداً ، أي لن يضروا بذلك أولياءَ الله البتةَ ، وتعليقُ نفي الضررِ به تعالى لتشريفهم والإيذانِ بأن مُضارَّتَهم بمنزلة مضارَّتِه سبحانه ، وفيه مزيدُ مبالغةٍ في التسلية ، وقوله تعالى : { شَيْئاً } في حيز النصبِ على المصدرية أي شيئاً من الضرر ، والتنكيرُ لتأكيد ما فيه من القلة والحقارةِ ، وقيل : على نزع الجارِّ أي بشيء ما أصلاً ، وقيل : المعنى لن يَنقصُوا بذلك من مُلكه تعالى وسلطانِه شيئاً كما روى أبو ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقول الله تعالى : «لو أنَّ أولَكم وآخِرَكم وجِنّكم وإنسَكُم كانوا على قلب أتقى رجُلٍ منكم ما زادَ ذلكَ في مُلكي شيئاً . ولو أنَّ أولَكم وآخرَكم وجنَّكُم وإنسَكُم كانوا على قلب أفجرِ رجلٍ منكم ما نَقَصَ ذلكَ من مُلكي شيئاً " والأولُ هو الأنسبُ بمقام التسليةَ والتعليل .
{ يُرِيدُ الله أَن لا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الاخرة } استئنافٌ مبينٌ لسرّ ابتلائهم بما هم فيه من انهماكٍ في الكفر ، وفي ذكر الإرادةِ من الإيذان بكمال خلوصِ الداعي إلى حرمانهم وتعذيبِهم حيث تعلّقت بهما إرادةُ أرحمِ الراحمين ما لا يخفى ، وصيغةُ الاستقبالِ للدِلالة على دوام الإرادةِ واستمرارِها ، أي يريد الله بذلك أن لا يجعلَ لهم في الآخرة حظاً ما من الثواب ولذلك تركهم في طغيانهم يعمهون إلى أن يهلِكوا على الكفر { وَلَهُمْ } مع ذلك الحِرمانِ الكلي { عَذَابٌ عظِيمٌ } لا يقادَرُ قدرُه ، قيل : لمّا دلت المسارعةُ في الشيء على عِظَم شأنِه وجلالةِ قدرِه عند المسارِعِ وُصف عذابُه بالعِظَم رعايةً للمناسبة وتنبيهاً على حقارة ما سارعوا فيه وخساستِه في نفسه ، والجملةُ إما مبتدَأةٌ مبيِّنةٌ لحظهم من العقاب إثرَ بيانِ أن لا شيءَ لهم من الثواب ، وإما حالٌ من الضمير في لهم أي يريد الله حِرمانَهم من الثواب مُعدّاً لهم عذابٌ عظيم .(1/495)
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)
{ إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان } أي أخذوه بدلاً منه رغبةً فيما أخذوه وإعراضاً عما تركوه ، وقد مر تحقيقُ القولِ في هذه الاستعارةِ في تفسير قوله عز وجل : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } مستوفى .
{ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } تفسيرُه كما مر ، غيرَ أن فيه تعريضاً ظاهراً باقتصار الضررِ عليهم كأنه قيل : وإنما يضُرون أنفسَهم ، فإن جُعل الموصولُ عبارةً عن المسارعين المعهودين بأن يُرادَ باشتراء الكفرِ بالإيمان إيثارُه عليه إما بأخذه بدلاً من الإيمان الحاصلِ بالفعل كما هو حالُ المرتدين أو بالقوة القريبةِ منه الحاصلةِ بمشاهدة دلائلِه في التوراة كما هو شأنُ اليهودِ ومنافقيهم فالتكريرُ لتقرير الحُكم وتأكيدِه ببيان علتِه بتغيير عنوانِ الموضوعِ ، فإن ما ذكر في حيز الصلةِ من الاشتراء المذكورِ صريحٌ في لُحوق ضررِه بأنفسِهم وعدم تعدّيه إلى غيرهم أصلاً ، كيف لا وهو عَلَمٌ في الخسران الكليِّ والحِرمانِ الأبدي دالٌّ على كمال سخافةِ عقولِهم وركاكةِ آرائِهم فكيف يتأتى منهم ما يتوقفُ على قوة الحزمِ ورزانةِ الرأيِ ورصانةِ التدبيرِ من مُضارّة حزبِ الله تعالى وهي أعزُّ من الأبلقِ الفردِ وأمنعُ من عُقاب الجوِّ . وإن أُجري الموصولُ على عمومه بأن يراد بالاشتراء المذكورِ القدرُ المشتركُ الشاملُ للمعنيين المذكورين ولأخذ الكفرِ بدلاً مما نُزل منزلةَ نفسِ الإيمانِ من الاستعداد القريبِ له الحاصلِ بمشاهدة الوحيِ الناطقِ وملاحظةِ الدلائلِ المنصوبةِ في الآفاق والأنفسِ كما هو دأبُ جميعِ الكفرةِ فالجملةُ مقرِّرةٌ لمضمون ما قبلها تقريرَ القواعدِ الكليةِ لما اندرج تحتها من جزئيات الأحكامِ . هذا وقد جوِّز كونُ الموصولِ الأولِ عاماً للكفار والثاني خاصاً بالمعهودين ، وأنت خبيرٌ بأنه مع خلوّه عن النكَتِ المذكورةِ مما لا يليق بفخامة شأنِ التنزيلِ لما أن صدورَ المسارعةِ في الكفر بالمعنى المذكورِ وكونَها مظِنةً لإيراث الحَزَنِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يفهم من النهي عنه إنما يُتصور مما عُلم اتصافُه بها ، وأما من لا يُعرف حالُه من الكفرة الكائنين في الأماكن البعيدةِ فإسنادُ المسارعةِ المذكورةِ إليهم باعتبار كونِها من مبادىء حُزْنِه عليه السلام مما لا وجه له وقوله تعالى : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } جملةٌ مبتدأة مبينةٌ لكمال فظاعةِ عذابِهم بذكر غايةِ إيلامِه بعد ذكرِ نهايةِ عِظَمِه . قيل : لما جرت العادةُ باغتباط المشتري بما اشتراه وسرورِه بتحصيله عند كونِ الصفقةِ رابحةً وبتألمه عند كونِها خاسرةً وُصف عذابُهم بالإيلام مراعاةً لذلك .(1/496)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ } عطفٌ على قوله تعالى : { وَلاَ يَحْزُنكَ الذين } الآية ، والفعلُ مسندٌ إلى الموصول و { ءانٍ } بما في حيّزها سادةٌ مسدَّ مفعوليه عند سيبويهِ لتمام المقصودِ بها وهو تعلقُ الفعلِ القلبيِّ بالنسبة بين المبتدأ والخبرِ أو مسدَّ أحدِهما والآخرُ محذوفٌ عند الأخفش ، وما مصدريةٌ أو موصولةٌ حذف عائدُها ووصلُها في الكتابة لاتّباع الإمامِ أي لا يحسبن الكافرون أن إملأَنا لهم أو أن ما نُمليه لهم خيرٌ لأنفسهم ، أو لا يحسبن الكافرون خيريةَ إملائِنا لهم أو خيريةَ ما نُمليه لهم ثابتةٌ أو واقعةٌ ومآلُه نهيُهم عن السرور بظاهر إملائِه تعالى لهم بناءً على حُسبان خيريّتِه لهم وتحسيرِهم ببيان أنه شرٌّ بحتٌ وضررٌ محضٌ كما أن مآلَ المعطوفِ عليه نهيُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم عن الحزن بظاهر حالِ الكفرةِ بناءً على توهم الضررِ من قِبَلهم وتسليتِه عليه السلام ببيان عجزِهم عن ذلك بالكلية ، والمرادُ بالموصول إما جنسُ الكفرةِ فيندرج تحت حكمِه الكليِّ أحكامُ المعهودين اندراجاً أولياً ، وإما المعهودون خاصة فإيثارُ الإظهارِ يدلّ على الإضمار لرعاية المقارنةِ الدائمة بين الصلةِ وبين الإملاءِ الذي هو عبارةٌ عن إمهالهم وتخليتِهم وشأنَهم دهراً طويلاً ، فإن المقارنَ له دائماً إنما هو الكفرُ المستمرُّ لا المسارعةُ المذكورةُ ولا الاشتراءُ المذكورُ فإنهما من الأحوال المتجددةِ المنْقضيةِ في تضاعيف الكفرِ المستمرِّ .
وقرىء لا تحسبن بالتاء والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأنسبُ بمقام التسليةِ ، أو لكل من يتأتى منه الحُسبانُ قصداً إلى إشاعة فظاعةِ حالِهم ، والموصولُ مفعولٌ و { إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ } إما بدلٌ منه وحيث كان التعويلُ على البدل وهو سادٌّ مسدَّ المفعولين كما في قوله تعالى : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ } اقتُصر على مفعولٍ واحدٍ كما في قولك : جعلتُ المتاعَ بعضَه فوق بعضٍ ، وإما مفعولٌ ثانٍ بتقدير مضافٍ : إما فيه أي لا تحسبن الذين كفروا أصحابَ أن الإملاءِ خيرٌ لأنفسهم أو في المفعول الأولِ أي لا تحسبن حالَ الذين كفروا أن الإملأَ خيرٌ لأنفسهم ، ومعنى التفضيلِ باعتبارِ زعمِهم .
{ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً } استئنافٌ مبينٌ لحكمةِ الإملاءِ ، وما كافة واللامُ لامُ الإرادة وعند المعتزلةِ لامُ العاقبة ، وقرىء بفتح الهمزة هاهنا على إيقاع الفعلِ عليه ، وكسرُها فيما سبق على أنه اعتراضٌ بين الفعل ومعمولِه مفيدٌ لمزيد الاعتناءِ بإبطال الحسبانِ وردِّه على معنى لا يحسَبن الكافرون أن إملأَنا لهم لازدياد الإثمِ حسبما هو شأنُهم بل إنما هو لتلافي ما فَرَط منهم بالتوبة والدخولِ في الإيمان { وَلَهُمْ } في الآخرة { عَذَابٌ مُّهِينٌ } لمّا تضمّنَ الإملاءُ التمتيعَ بطيبات الدنيا وزينتِها وذلك مما يستدعي التعزّزَ والتجبّر وُصف عذابُهم بالإهانة ليكون جزاؤهم جزاءً وفاقاً ، والجملةُ إما مبتدأةٌ مبيّنةٌ لحالهم في الآخرة إِثرَ بيانِ حالِهم في الدنيا ، وإما حالٌ من الواو أي ليزدادوا إثماً مُعداً لهم عذابٌ مهين ، وهذا متعيِّن على القراءة الأخيرة .(1/497)
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
{ مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ } كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لوعد المؤمنين ووعيدِ المنافقين بالعقوبة الدنيويةِ التي هي الفضيحةُ والخِزْيُ إثرَ بيانِ عقوبتِهم الأخرويةِ ، والمرادُ بالمؤمنين المخلصون ، وأما الخطابُ فقد قيل : إنه لجمهور المصدِّقين من أهل الإخلاصِ وأهلِ النفاقِ ، ففيه التفاتٌ في ضمن التلوينِ ، والمرادُ بما هم عليه اختلاطُ بعضِهم بعضاً واستواؤهم في إجراء أحكامِ الإسلامِ عليهم ، إذ هو القدرُ المشترك بين الفريقين ، وقيل : إنه للكفار والمنافقين وهو قولُ ابنِ عباسٍ والضحاكِ ومقاتلٍ والكلبيِّ وأكثرِ المفسرين ، ففيه تلوين فقط ، ولعل المنافقين عطفٌ تفسيريٌ للكفار وإلا فلا شركةَ بين المؤمنين والمنافقين في أمر من الأمور ، والمرادُ بما هم عليه ما مر من القدر المشتركِ فإنه كما يجوز نسبتُه إلى الفريقين معاً يجوز نسبتُه إلى كل منهما لا الكفرُ والنفاقُ كما قيل ، فإن المؤمنين ما كانوا مشاركين لهم في ذلك حتى لا يُتركوا عليه ، وقيل : إنه للمؤمنين خاصة وهو قولُ أكثرِ أهلِ المعاني ففيه تلوينٌ والتفاتٌ كما مر ، والتعرضُ لإيمانهم قبل الخطابِ للإشعار بعلة الحُكم ، والمرادُ بما هم عليه ما مر غيرَ مرةٍ ، والأولُ هو الأقربُ وإليه جنَح المحقِّقون من أهل التفسير لكونه صريحاً في كون المرادِ بما هم عليه ما ذُكر من القدر المشتركِ بين الفريقين من حيث هو مشترَكٌ بينهما بخلاف القولين الأخيرين فإنهما بمعزل من ذلك ، كيف لا والمفهومُ مما عليه المنافقون هو الكفرُ والنفاقُ ، ومما عليه المؤمنون هو الإيمانُ والإخلاصُ لا القدرُ المشتركُ بينهما ، ولئن فُهم ذلك فإنما يفهم من حيث الانتسابُ إلى أحدهما لا من حيث الانتسابُ إليهما معاً ، وعليه يدور أمرُ الاختلاطِ المُحوِجِ إلى الإفراز .
واللام في ليذر إما متعلقةٌ بالخبر المقدّرِ لكان كما هو رأيُ البَصْريةِ ، وانتصابُ الفعل بعدها بأن المقدرةِ أي ما كان الله مريداً أو متصدياً لأن يذَرَ المؤمنين الخ ، ففي توجيهِ النفيِ إلى إرادة الفعلِ تأكيدُ مبالغةٍ ليست في توجيهه إلى نفسه ، وإما مزيدةٌ للتأكيد ناصبةٌ للفعل بنفسها كما هو رأيُ الكوفية ، ولا يقدح في ذلك زيادتُها كما لا يقدح زيادةُ حروفِ الجرِّ في عملها . وقوله عز وجل : { حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب } غايةٌ لما يفيده النفيُ المذكورُ كأنه قيل : ما يتركهم الله تعالى على ذلك الاختلاطِ بل يقدِّر الأمورَ ويرتب الأسبابَ حتى يعزِلَ المنافقَ من المؤمن ، وفي التعبير عنهما بما ورد به النظمُ الكريمُ تسجيلٌ على كلَ منهما بما يليق به ، وإشعارٌ بعلة الحُكمِ . وإفرادُ الخبيثِ والطيبِ مع تعددهما أريد بكل منهما وتكثره لا سيما بعد ذكرِ ما أريد بأحدهما أعني المؤمنين بصيغة الجمعِ للإيذان بأن مدارَ إفرازِ أحدِ الفريقين من الآخر هو اتصافُهما بوصفهما لا خصوصيةُ ذاتِهما وتعددُ آحادِهما كما في مثل قوله تعالى :(1/498)
{ ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ } ونظيرُه قولُه تعالى : { تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ } حيث قصد الدَلالةَ على الاتصاف بالوصف من غير تعرضٍ لكون الموصوفِ من العقلاء أو غيرِهم ، وتعليقُ المَيْزِ بالخبيث المعبَّرِ به عن المنافق مع أن المتبادرَ مما سبق من عدم تركِ المؤمنين على الاختلاطِ تعلقُه بهم وإفرازُهم عن المنافقين لما أن المَيْزَ الواقع بين الفريقين إنما هو بالتصرف في المنافقين وتغييرِهم من حال إلى حال مغايرةٍ للأولى مع بقاء المؤمنين على ما كانوا عليه من أصل الإيمانِ وإن ظهر مزيدُ إخلاصِهم لا بالتصرف فيهم وتغييرِهم من حال إلى حالٍ أخرى مع بقاء المنافقين على ما هم عليه من الاستتار ، ولأن فيه مزيدَ تأكيدٍ للوعيد كما أشير إليه في قوله تعالى : { والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح } وإنما لم يُنسَبْ عدمُ التركِ إليهم لما أنه مُشعِرٌ باعتناءٍ بشأنِ من نُسب إليه فإن المتبادرَ منه عدمُ تركِه على حالة غيرِ ملائمةٍ كما يشهد به الذوقُ السليمُ ، وقرىء حتى يُميِّزَ من التمييز ، وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب } تمهيدٌ لبيان المَيزِ الموعودِ على طريق تجريدِ الخطابِ للمخلِصين تشريفاً لهم وقوله عز وجل : { وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء } إشارةٌ إلى كيفية وقوعِه على سبيل الإجمالِ ، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في الموضعين لتربية المهابةِ ، فالمعنى ما كان الله ليترُك المخلِصين على الاختلاط بالمنافقين بل يرتبُ المبادىءَ حتى يُخرِجَ المنافقين من بينهم وما يفعل ذلك باطلاعكم على ما في قلوبهم من الكفر والنفاقِ ولكنه تعالى يوحي إلى رسوله عليه السلام فيخبرُه بذلك وبما ظهر منهم من الأقوال والأفعال حسبما حُكي عنهم بعضُه فيما سلف فيفضحهم على رؤوس الأشهادِ ويخلّصكم من خسة الشركاءِ وسوءِ جوارِهم ، والتعرضُ للاجتباء للإيذان بأن الوقوفَ على أمثال تلك الأسرار الغيبيةِ لا يتأتى إلا ممن رشحه الله تعالى لمنصِب جليلٍ تقاصرت عنه هممُ الأممِ واصطفاه على الجماهير لإرشادهم ، وتعميمُ الاجتباء لسائر الرسل عليهم السلام للدِلالة على أن شأنَه عليه السلام في هذا البابِ أمرٌ متينٌ له أصلٌ أصيلٌ جارٍ على سنة الله تعالى المسلوكةِ فيما بين الرسلِ الخاليةِ عليهم السلام .
وتعميمُ الأمر في قوله تعالى : { فآمنوا بالله ورسله } مع أن سَوْقَ النظمِ الكريم للإمان بالنبي عليه الصلاة والسلام لإيجاب الإيمانِ بالطريق البرهاني والإشعارِ بأن ذلك مستلزِمٌ للإيمان بالكل ، لأنه مصدِّقٌ لما بين يديه من الرسل وهم شهداءُ بصحة نبوتِه عليه الصلاة والسلام ، والمأمورُ به الإيمانُ بكل ما جاء به عليه الصلاة والسلام فيدخُل فيه تصديقُه عليه السلام فيما أخبَر به من أحوال المنافقين دخولاً أولياً هذا هو الذي تقتضيه جزالةُ النظمِ الكريمِ . وقد جُوِّز أن يكون المعنى لا يتركُكم مختلطين حتى يميزَ الخبيثَ من الطيب بأن يكلّفَكم التكاليفَ الصعبةَ التي لا يصبِر عليها إلا الخُلّصُ الذين امتحن الله تعالى قلوبَهم كبذل الأرواحِ في الجهاد وإنفاقِ الأموالِ في سبيل الله تعالى فيُجعل ذلك عِياراً على عقائدكم وشاهداً بضمائركم حتى يعلمَ بعضُكم بما في قلب بعض بطريق الاستدلالِ من جهة الوقوفِ على ذات الصدورِ فإن ذلك مما استأثر الله تعالى به .(1/499)
وأنت خبيرٌ بأن الاستدراكَ باجتباء الرسلِ المنبىءَ عن مزيد مزيتِهم وفضلِ معرفتِهم على الخلق إثرَ بيانِ قصورِ رتبتِهم عن الوقوف على خفايا السرائرِ صريحٌ في أن المرادَ إظهارُ تلك السرائرِ بطريق الوحيِ لا بطريق التكليفِ بما يؤدي إلى خروج أسرارِهم عن رتبة الخفاءِ ، وأقربُ من ذلك حملُ الآيةِ الكريمةِ على أن تكون مسوقةً لبيان الحِكمة في إملائه تعالى للكفرة إثرَ بيانِ شريعتِه لهم فالمعنى ما كان الله ليذر المخلِصين على الاختلاط أبداً كما تركهم كذلك إلى الآن لسرَ يقتضيه بل يفرُز عنهم المنافقين ، ولذلك فعله يومئذ حيث خلّى الكفرةَ وشأنَهم فأبرز لهم صورةَ الغَلَبةِ فأظهر مَنْ في قلوبهم مرضٌ ما فيها من الخبائث وافتُضحوا على رؤوس الأشهادِ . وقيل : قال الكافرون : إن كان محمدٌ صادقاً فليُخبِرْنا مَنْ يؤمن منا ومن يكفرُ فنزلت . { وَإِن تُؤْمِنُواْ } أي بما ذكر حقَّ الإيمان { وَتَتَّقُواْ } أي عدمَ مراعاةِ حقوقِه أو النفاقَ { فَلَكُمْ } بمقابلة ذلك الإيمانِ والتقوى { أَجْرٌ عَظِيمٌ } لا يُبلغ كُنهُه .(1/500)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ } بيانٌ لحال البخلِ ووخامةِ عاقبتِه وتخطئةٌ لأهله في توهم خِيرتِه حسَبَ بيانِ حالِ الإملاءِ ، وإيرادُ ما بخِلوا به ، بعنوان إيتاءِ الله تعالى إياه من فضله ، للمبالغة في بيان سوءِ صنيعِهم فإن ذلك من موجبات بَذلِه في سبيله كما في قوله تعالى : { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } والفعلُ مسندٌ إلى الموصول ، والمفعولُ الأولُ محذوفٌ لدِلالة الصلةِ عليه ، وضميرُ الفصل راجعٌ إليه أي لا يحسَبن الباخلون بما آتاهم الله من فضله من غير أن يكون لهم مَدخلٌ فيه أو استحقاقٌ له هو خيراً لهم من إنفاقه ، وقيل : الفعلُ مسندٌ إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى ضمير من يحسَبُ ، والمفعولُ الأولُ هو الموصولُ بتقدير مضافٍ ، والثاني ما ذُكر كما هو كذلك على قراءة الخِطاب أي ولا تحسبن بخلَ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم { بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } التنصيصُ على شرِّيته لهم مع إدراكها من نفي خيريّتِه للمبالغة في ذلك ، والتنوينُ للتفخيم ، وقوله تعالى : { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة } بيانٌ لكيفية شرِّيته أي سيلزَمون وبالَ ما بخِلوا به من الزكاة حيةً في عنقه تنهشُه من قَرنه إلى قدمه وتنقُر رأسَه وتقول : أنا مالُك .
{ وَللَّهِ } وحده لا لأحد غيرِه استقلالاً أو اشتراكاً { مِيرَاثُ السموات والارض } أي ما يتوارثه أهلُهما من مال وغيرِه من الرسالات التي يتوارثها أهلُ السمواتِ والأرض فما لهم يبخلون عليه بمُلكه ولا يُنفقونه في سبيله؟ أو أنه يرث منهم ما يُمسِكونه ولا ينفقونه في سبيله تعالى عند هلاكِهم وتدوم عليهم الحسرةُ والندامة { والله بِمَا تَعْمَلُونَ } من المنع والبخلِ { خَبِيرٌ } فيجازيكم على ذلك . وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمارِ لتربية المهابةِ ، والالتفاتُ للمبالغة في الوعيد ، والإشعارِ باشتداد غضبِ الرحمن الناشىءِ من ذكر قبائحِهم ، وقرىء بالياء على الظاهر .(2/1)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)
{ لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء } قالته اليهودُ لما سمعوا قوله تعالى : { مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا } وروي أنه عليه السلام كتب مع أبي بكر رضي الله عنه إلى يهودِ بني قَينُقاعَ يدعوهم إلى الإسلام وإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ وأن يُقرضوا الله قرضاً حسناً ، فقال فنحاصُ : إن الله فقيرٌ حتى سألنا القَرْضَ فلطمه أبو بكر رضي الله عنه في وجهه وقال : لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عُنقَك فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجحد ما قاله فنزلت . والجمعُ حينئذ مع كون القائلِ واحداً لرضا الباقين بذلك والمعنى أنه لم يخْفَ عليه تعالى وأعد له من العذاب كِفاءً . والتعبيرُ عنه بالسماع للإيذان بأنه من الشناعة والسماجة بحيث لا يرضى قائلُه بأن يسمَعَه سامعٌ ، والتوكيدُ القَسَميُّ للتشديد في التهديد والمبالغةِ في الوعيد .
{ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ } أي سنكتب ما قالوه من العظيمة الشنعاءِ في صحائف الحفَظةِ أو سنحفظه ونُثبته في علمنا لا ننساه ولا نَهمله كما يثبت المكتوب ، والسين للتأكيد أي لن يفوتنا أبداً تدوينُه وإثباتُه لكونه في غاية العِظم والهولِ كيف لا وهو كفرٌ بالله تعالى واستهزاءٌ بالقرآن العظيم والرسولِ الكريمِ ولذلك عُطف عليه قوله تعالى : { وَقَتْلِهِمُ الانبياء } إيذاناً بأنهما في العِظم إخوانٌ وتنبيهاً على أنه ليس بأول جريمةٍ ارتكبوها بل لهم فيه سوابقُ ، وأن من اجترأ على قتل الأنبياءِ لم يُستبعَدْ منه أمثالُ هذه العظائمِ ، والمرادُ بقتلهم الأنبياءَ رضاهم بفعل أسلافِهم ، وقوله تعالى : { بِغَيْرِ حَقّ } متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من قتلهم ، أي كائناً بغير حقَ في اعتقادهم أيضاً كما هو في نفس الأمرِ ، وقرىء سيَكتُب على البناء للفاعل وسيُكتَبُ على البناء للمفعول وقتلُهم بالرفع { وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } أي وننتقم منهم بعد الكَتْبةِ بأن نقول لهم : ذوقوا العذابَ المُحرِقَ كما أذقتم المسلمين الغُصَصَ . وفيه من المبالغات ما لا يخفى ، وقرىء ويقول بالياء ويُقال على البناء للمفعول { ذلك } إشارةٌ إلى العذاب المذكورِ وما فيه من معنى البعدِ للدِلالة على عِظَم شأنِه وبُعدِ منزلتِه في الهول والفظاعةِ ، وهو مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } أي بسبب ما اقترفتموه من قتل الأنبياءِ والتفوُّه بمثل تلك العظيمةِ وغيرِها من المعاصي ، والتعبيرُ عن الأنفس بالأيدي لما أن عامة أفاعيلِها تزاوَلُ بهن ، ومحلُّ { ءانٍ } في قوله تعالى : { وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ } الرفعُ على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ ، والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لمضمون ما قبلها ، أي والأمرُ أنه تعالى ليس بمعذِّب لعبيده بغير ذنبٍ من قِبلهم ، والتعبيرُ عن ذلك بنفي الظلمِ مع أن تعذيبَهم بغير ذنبٍ ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة أهلِ السنة ، فضلاً عن كونه ظلماً بالغاً لبيان كمالِ نزاهتِه تعالى عن ذلك بتصويره بصورةِ ما يستحيلُ صدورُه عنه سبحانه من الظلم ، كما يعبّر عن ترك الإثابةِ على الأعمال بإضاعتها مع أن الأعمالَ غيرُ موجبةٍ للثواب حتى يلزَمَ مِنْ تخلُّفِه عنها ضياعُها .(2/2)
وصيغةُ المبالغةِ لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذُكر من التعذيب بغير ذنبٍ في صورة المبالغةِ في الظلم ، وقيل : هي لرعاية جمعيةِ العبيدِ من قولهم : فلانٌ ظالمٌ لعبده وظلاّم لعبيده على أنها للمبالغة كماً لا كيفاً .
هذا وقد قيل : محلُّ { ءانٍ } الجرُّ بالعطف على ما قدَّمت وسببيتُه للعذاب من حيث أن نفيَ الظلمِ مستلزِمٌ للعدل المقتضي لإثابة المحسِنِ ومعاقبةِ المُسيءِ ، وفسادُه ظاهرٌ فإن تركَ التعذيبِ من مستحِقه ليس بظلم شرعاً ولا عقلاً حتى ينتهضَ نفيُ الظلم سبباً للتعذيب حسبما ذكره القائلُ في سورة الأنفالِ ، وقيل : سببيةُ ذنوبهم لعذابهم مقيّدةٌ بانضمام انتفاءِ ظلمِه تعالى إليها إذ لولاه لأمكن أن يعذبَهم بغير ذنوبهم . وأنت خبير بأن إمكانَ تعذيبِه تعالى لعبيده بغير ذنبٍ بل وقوعُه لا ينافي كونَ تعذيبِ هؤلاءِ الكفرةِ بسبب ذنوبهم حتى يُحتاجَ إلى اعتبار عدمِه معه ، وإنما يُحتاج إلى اعتبار عدمِه معه ، وإنما يحتاج إلى ذلك أنْ لو كان المدعى أن جميعَ تعذيباتِه تعالى بسبب ذنوبِ المعذبين .(2/3)
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
{ الَّذِينَ قَالُواْ } نُصِب أو رُفع على الذم ، وهم كعبُ بنُ الأشرف ومالكُ بن صيفي وحُيَيُّ بنُ أخطبَ وفنحاصُ بنُ عازوراءَ ووهْبُ بنُ يهوذا { إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا } أي أمرنا في التوراة وأوصانا { أَن لا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار } كما كان عليه أمرُ أنبياءِ بني إسرائيلَ حيث كان يُقرَّب بالقربان فيقوم النبيُّ فيدعو فتنزل نارٌ من السماء فتأكُله أي تُحيله إلى طبعها بالإحراق ، وهذا من مُفترَياتهم وأباطيلِهم فإن أكلَ النارِ القربانَ لم يوجب الإيمانَ إلا لكونه معجزةً ، فهو وسائرُ المعجزاتِ سواءٌ ، ولما كان مُحصّلُ كلامِهم الباطلِ أن عدمَ إيمانِهم برسول الله صلى الله عليه وسلم لعدم إتيانه بما قالوا ولو تحقق الإتيانُ به لتحقق الإيمانُ رُدّ عليهم بقوله تعالى : { قُلْ } أي تبكيتاً لهم وإظهاراً لكذبهم { قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ } كثيرةُ العددِ كبيرةُ المقدار { مِّن قَبْلِى بالبينات } أي المعجزات الواضحةِ { وبالذى قُلْتُمْ } بعينه من القُربان الذي تأكله النارُ { فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صادقين } أي فيما يدل عليه كلامُكم من أنكم تؤمنون لرسول يأتِيكم بما اقترحتموه ، فإن زكريا ويحيى وغيرَهما من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد جاءوكم بما قلتم في معجزات أُخَرَ فما لكم لم تؤمنوا لهم حتى اجترأتم على قتلهم؟ { فَإِن كَذَّبُوكَ } شروعٌ في تسلية رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إثرَ ما أوحي إليه مما يُحزِنه عليه الصلاة والسلام من مقالات الكفرةِ من المشركين واليهود ، وقوله تعالى : { فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ } تعليلٌ لجواب الشرطِ أي فتَسَلَّ فقد كُذب الخ ، ومِنْ متعلقةٌ بكُذب أو بمحذوف هو صفةٌ لرسلٌ أي كائنةٌ من قبلك { جَاءوا بالبينات } أي المعجزات الواضحةِ صفةٌ لرسلٌ { والزبر } هو جمعُ زَبورٍ وهو الكتابُ المقصورُ على الحِكَم من زَبَرْتُه إذا حسنته ، وقيل : الزُبُرُ المواعظُ والزواجرُ من زبَرتُه إذا زجَرتُه { والكتاب المنير } قيل : أي التوراةِ والإنجيلِ والزبورِ ، والكتابُ في عرف القرآنِ ما يتضمن الشرائعَ والأحكامَ ولذلك جاء الكتابُ والحكمةُ متعاطِفَيْن في عامة المواقعِ ، وقرىء وبالزُبُر بإعادة الجارِّ دَلالةً على أنها مغايِرةٌ بالذات للبينات .(2/4)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت } وعدٌ ووعيدٌ للمصدِّق والمكذبِ ، وقرىء ذائقةٌ الموتَ بالتنوين وعدمِه كما في قوله : ولا ذاكرٌاً الله إلا قليلاً { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ } أي تُعطَوْن جزاءَ أعمالِكم على التمام والكمالِ { يَوْمُ القيامة } أي يوم قيامِكم من القبور ، وفي لفظ التوفيةِ إشارةٌ إلى أن بعضَ أجورِهم يصل إليهم قبله كما ينبىء عنه قوله عليه الصلاة والسلام : « القبرُ روضةٌ من رياض الجنة أو حُفرةٌ من حُفَر النيرانِ » { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار } أي بعُد عنها يومئذ ونجا والزحزحةُ في الأصل تكريرُ الزحِّ وهو الجذبُ بعجلة { وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ } بالنجاة ونيلِ المرادِ والفوزِ الظفر بالبُغية وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « من أحب أن يُزَحْزحَ عن النار ويدْخَلَ الجنةَ فلتُدْرِكْه منيّتُه وهو يؤمن بالله واليومِ الآخِر ويأتي إلى الناس بما يحب أن يؤتى إليه » { وَمَا الحياة الدنيا } أي لذاتها وزخارفُها { إِلاَّ متاع الغرور } شبِّهت بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويُغَرّ حتى يشتريَه ، وهذا لمن آثرها على الآخرة فأما من طلب بها الآخِرةَ فهي له متاعٌ بلاغٌ ، والغُرور إما مصدرٌ أو جمعُ غار { لَتُبْلَوُنَّ } شروعٌ في تسلية رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وممن معه من المؤمنين عما سيلقَوْنه من جهة الكفرةِ من المكاره إثرَ تسليتِهم عما قد وقع منهم ليوطِّنوا أنفسَهم على احتماله عند وقوعِه ويستعدوا للقائه ويقابلوه بحسن الصبرِ والثباتِ ، فإن هجومَ الأوجالِ مما يزلزل أقدامَ الرجالِ وللاستعدادِ للكروب مما يهوِّن الخطوبَ ، وأصلُ البلاء الاختبارُ أي تُطلب الخِبرةُ بحال المُختَبِر بتعريضه لأمر يشُقُّ عليه غالباً ملابستُه ومفارقتُه ، وذلك إنما يُتصورُ حقيقةً مما لا وقوفَ له على عواقب الأمورِ ، وأما من جهة العليم الخبيرِ فلا يكونُ إلا مجازاً من تمكينه للعبدِ من اختيار أحدِ الأمرين أو الأمورِ قبل أن يرتب عليه شيئاً هو من مباديه العاديةِ كما مر ، والجملةُ جوابُ قسمِ محذوف أي والله لتُبلونَّ أي لتعامَلُن معاملةَ المُختبَرِ ليَظهر ما عندكم من الثبات على الحق والأعمالِ الحسنة . وفائدةُ التوكيدِ إما تحقيقُ معنى الابتلاءِ تهويناً للخطب وإما تحقيقُ وقوعِ المبتلى به مبالغةً في الحث على ما أريد منهم من التهيؤ والاستعدادِ { فِى أموالكم } بما يقع فيها من ضروب الآفاتِ المؤديةِ إلى هلاكها ، وأما إنفاقُها في سبيل الخيرِ مطلقاً فلا يليق نظمُه في سلك الابتلاءِ لما أنه من باب الإضعافِ لا من قبيل الإتلافِ { وأَنفُسَكُمْ } بالقتل والأسرِ والجراحِ وما يرِدُ عليها من أصناف المتاعبِ والمخاوفِ والشدائدِ ونحوِ ذلك ، وتقديمُ الأموالِ لكثرة وقوعِ الهلكةِ فيها { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } أي من قبل إيتائِكم القرآنَ وهم اليهودُ والنصارى ، عبّر عنهم بذلك للإشعار بمدار الشقاقِ والإيذان بأن بعضَ ما يسمعونه منهم مستنِدٌ على زعمهم إلى الكتاب كما في قوله تعالى :(2/5)
{ إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا } الخ ، والتصريحُ بالقَبْلية لتأكيد الإشعارِ وتقويةِ المدارِ فإن قِدَمَ نزولِ كتابِهم مما يؤيد تمسّكَهم به { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً } من الطعن في الدين الحنيف والقدحِ في أحكام الشرعِ الشريفِ وصدِّ من أراد أن يؤمِنَ وتخطئةِ من آمن ، وما كان من كعب بنِ الأشرفِ وأضرابِه من هجاء المؤمنين وتحريضِ المشركين على مضادة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ونحوِ ذلك مما لا خير فيه { وَإِن تَصْبِرُواْ } أي على تلك الشدائد والبلوى عند ورودِها وتقابلوها بحسن التجمُّل { وَتَتَّقُواْ } أي تَبَتَّلوا إلى الله تعالى بالكلية معرضين عما سواه بالمرة بحيث يتساوى عندكم وصولُ المحبوب ولقاءُ المكروه { فَإِنَّ ذلك } إشارةٌ إلى الصبر والتقوى ، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجتِهما وبُعدِ منزلتِهما ، وتوحيدُ حرفِ الخطابِ إما باعتبار كلِّ واحدٍ من المخاطبين وإما لأن المرادَ بالخطاب مجرد التنبيه من غير ملاحظةِ خصوصيةِ أحوالِ المخاطبين { مِنْ عَزْمِ الامور } من معزوماتها التي يتنافس فيها المتنافسون أي مما تجب أن يعزِمَ عليه كلُّ أحدٍ لما فيه من كمال المزيَّةِ والشرفِ أو مما عزَم الله تعالى عليه وأمر به وبالغَ فيه ، يعني أن ذلك عزمةٌ من عَزَمات الله تعالى لا بد أن تصبِروا وتتقوا ، والجملةُ تعليلٌ لجواب الشرطِ واقعٌ موقِعَه كأنه قيل : وإن تصبروا وتتقوا فهو خيرٌ لكم أو فافعلوا أو فقد أحسنتم أو فقد أصبتم فإن ذلك الخ ، ويجوزُ أن يكون ذلك إشارةً إلى صبر المخاطَبين وتقواهم ، فالجملةُ حينئذٍ جوابُ الشرط ، وفي إبراز الأمرِ بالصبر والتقوى في صورة الشرطيةِ من إظهار كمالِ اللطفِ بالعباد ما لا يخفى .(2/6)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
{ وَإِذْ أَخَذَ الله } كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان بعضِ أذِيّاتِهم وهو كِتمانُهم ما في كتابهم من شواهدِ نبوتِه عليه الصلاة والسلام وغيرِها وإذ منصوبٌ على المفعولية بمضمر أُمر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم خاصة بطريق تجريدِ الخطابِ إثرَ الخطابِ الشامل له عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين لكون مضمونِه من الوظائف الخاصةِ به عليه الصلاة والسلام ، وتوجيهُ الأمرِ بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات للمبالغة في إيجاب ذكرِها على ما مر بيانُه في تفسير قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّي جَاعِلٌ } الخ ، أي اذكر وقت أخذِه تعالى { ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب } وهم علماءُ اليهودِ والنصارى ، ذُكروا بعنوان إيتاءِ الكتابِ مبالغةً في تقبيح حالِهم { لَتُبَيّنُنَّهُ } حكايةٌ لما خوطبوا به ، والضميرُ للكتاب وهو جوابٌ لقسم يُنبىء عنه أخذُ الميثاقِ كأنه قيل لهم : بالله لتُبيِّنُنه { لِلنَّاسِ } وتُظْهِرُنّ جميعَ ما فيه من الأحكام والأخبارِ التي من جملتها أمرُ نبوتِه عليه الصلاة والسلام وهو المقصودُ بالحكاية . وقرىء بالياء لأنهم غُيَّب { وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } عطفٌ على الجواب وإنما لم يؤكدْ بالنون لكونه منفياً كما في قولك : والله لا يقوم زيد ، وقيل : اكتُفي بالتأكيد في الأول لأنه تأكيدٌ له ، وقيل : هو حالٌ من ضمير المخاطبين إما على إضمار مبتدإٍ بعد الواوِ ، أي وأنتم لا تكتمونه ، وإما على رأي مَنْ جوز دخولَ الواوِ على المضارع المنفيِّ عند وقوعِه حالاً أي لتبينُنّه غيرَ كاتمين ، والنهيُ عن الكتمان بعد الأمرِ بالبيان إما للمبالغة في إيجاب المأمورِ به وإما لأن المرادَ بالبيان المأمورِ به ذكرُ الآياتِ الناطقةِ بنبوته عليه الصلاة والسلام ، وبالكتمان المنهيِّ عنه إلقاءُ التأويلاتِ الزائغةِ والشبهاتِ الباطلة ، وقرىء بالياء كما قبله { فَنَبَذُوهُ } النبذُ الرميُ والإبعادُ أي طرحوا ما أُخذ منهم من الميثاق الموثقِ بفنون التأكيدِ وألقَوْه { وَرَاء ظُهُورِهِمْ } ولم يراعوه ولم يلتفتوا إليه أصلاً فإن نبذَ الشيءِ وراءَ الظهرِ مَثَلٌ في الاستهانة به والإعراضِ عنه بالكلية ، كما أن جعلَه نُصبَ العينِ علمٌ في كمال العنايةِ به ، وفيه من الدَلالة على تحتّم بيانِ الحقِّ على علماء الدين وإظهارِ ما مُنحوه من العلم للناس أجمعين وحُرمةِ كتمانِه لغرض من الأغراض الفاسدة أو لطمع في عرض من الأعراض الفانيةِ الكاسدةِ ما لا يخفى . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « من كتم علماً عن أهله أُلجم بلجامٍ من نار » وعن طاوس أنه قال لوهْب بن منبّه : إني أرى الله سوف يعذبك بهذه الكتُب وقال : والله لو كنتَ نبياً فكتمتَ العلم كما تكتُمه لرأيت أن الله سيعذبك . وعن محمد بن كعب : لا يحِلُّ لأحد من العلماء أن يسكُت على علمه ولا يحِلُّ لجاهل أن يسكُت على جهله حتى يَسأل .(2/7)
وعن علي رضي الله عنه : «ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يُعلِّموا» { واشتروا بِهِ } أي بالكتاب الذي أُمروا ببيانه ونُهوا عن كِتمانه فإن ذكرَ نبذِ الميثاقِ يدل على ذلك دَلالةً واضحةً ، وإيقاعُ الفعل على الكل مع أن المرادَ به كتمُ بعضِه كدلائل نبوتِه عليه الصلاة والسلام ونحوِها لما أن ذلك كتمٌ للكل إذْ به يتم الكتابُ ، كما أن رفضَ بعضِ أركانِ الصلاة رفضٌ لكلها ، أو بمنزلة كتمِ الكلِّ من حيث إنهما سيان في الشناعة واستجرار العقاب كما في قوله تعالى : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } والاشتراءُ مستعارٌ لاستبدال متاعِ الدنيا بما كتَموه أي تركوا ما أُمروا به وأخذوا بدلاً منه { ثَمَناً قَلِيلاً } أي شيئاً تافهاً حقيراً من حُطام الدنيا وأعراضِها ، وفي تصوير هذه المعاملةِ بعقد المعاوضةِ لا سيما بالاشتراء المُؤْذِنِ بالرغبة في المأخوذ والإعراض عن المعطى والتعبيرِ عن المشترى الذي هو العُمدةُ في العقد والمقصودُ بالمعاملة بالثمن الذي شأنُه أن يكون وسيلةً إليه ، وجعلِ الكتابِ الذي حقُّه أن يتنافسَ فيه المتنافسون مصحوباً بالباء الداخلةِ على الآلات والوسائلِ من نهاية الجزالةِ والدلالةِ على كمال فظاعةِ حالِهم وغايةِ قبحِها بإيثارهم الدنيءِ الحقير على الشريف الخطيرِ وتعكيسِهم بجعلهم المقصِدَ الأصليَّ وسيلةً والوسيلةَ مقصِداً ما لا يخفى جلالةُ شأنِه ورفعةُ مكانِه { فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } { مَا } نكرةٌ منصوبةٌ مفسرةٌ لفاعل بئس ، و { يَشْتَرُونَ } صفتُه ، والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي بئس شيئاً يشترونه ذلك الثمن .(2/8)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
{ لاَ تَحْسَبَنَّ } الخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحدٍ ممن يصلُح له { الذين يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ } أي بما فعلوا كما في قوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } ويدل عليه قراءة أُبيّ : يفرحون بما فعلوا ، وقرىء بما آتَوا بمعنى أعطَوا وبما أُوتوا أي بما أوتوه عن علم التوراة . قال ابن عباس رضي الله عنهما : هم اليهودُ حرفوا التوراةَ وفرِحوا بذلك وأحبوا أن يوصفوا بالديانة والفضل . روي أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سأل اليهودَ عن شيء مما في التوراة فكتموا الحقَّ وأخبروه بخلافه وأرَوْه أنهم قد صدقوه واستحمدوا إليه وفرِحوا بما فعلوا ، وقيل : فرِحوا بكِتمان النصوصِ الناطقةِ بنبوته عليه الصلاة والسلام ، وأحبوا أن يُحمَدوا بأنهم متبعون ملةَ إبراهيمَ عليه السلام . فالموصولُ عبارةٌ عن المذكورين أو عن مشاهيرهم وضع موضِعَ ضميرهم ، والجملةُ مَسوقةٌ لبيان ما تستتبعُه أعمالُهم المحكيةُ من العقاب الأخرويِّ إثرَ بيانِ قباحتِها ، وقد أُدمج فيها بيانُ بعضٍ آخرَ من شنائعهم وهو إصرارُهم على ما هم عليه من القبائح وفرَحُهم بذلك ومحبتُهم لأن يوصَفوا بما ليس فيهم من الأوصاف الجميلةِ ، وقد نُظم ذلك في سلك الصلةِ التي حقُّها أن تكون معلومةَ الثبوتِ للموصول عند المخاطَبِ إيذاناً بشهرة اتصافِهم بذلك ، وقيل : هو قومٌ تخلّفوا عن الغزو ثم اعتذروا بأنهم رأوا المصلحةَ في ذلك واستحمدوا به ، وقيل : هم المنافقون كافةً وهو الأنسبُ بظاهر قوله تعالى : { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } لشهرةِ أنهم كانوا يفرحون بما فعلوا من إظهار الإيمانِ وقلوبُهم مطمئنةٌ بالكفر ويستحمِدون إلى المسلمين بالإيمان وهم عن فعله بألفِ منزلٍ ، وكانوا يُظهرون محبةَ المؤمنين وهم في الغاية القاصيةِ من العداوة ، فالموصولُ عبارةٌ عن طائفة معهودةٍ من المذكورين وغيرِهم ، فإن أكثرَ المنافقين كانوا من اليهود ، ولعل الأولى إجراءُ الموصولِ على عمومه شاملاً لكل من يأتي بشيء من الحسنات فيفرحُ به فرحَ إعجابٍ ويوَدُّ أن يمدحَه الناسُ بما هو عارٍ منه من الفضائل منتظماً للمعهودين انتظاماً أولياً ، وأياً ما كان فهو مفعولٌ أولٌ لتحسبن ، وقوله تعالى : { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ } تأكيدٌ له والفاءُ زائدةٌ والمفعولُ الثاني قوله تعالى : { بِمَفَازَةٍ مّنَ العذاب } أي ملتبسين بنجاة منه ، على أن المفازةَ مصدرٌ ميميٌ ولا يضُر تأنيثُها بالتاء لما أنها مبنية عليها وليست للدلالة على الوحدة كما في قوله :
فلولا رجاءُ النصرِ منك ورهبة ... عقابَك قد كانوا لنا بالمواردِ
ولا سبيل إلى جعلها اسمَ مكانٍ على أن الجارَّ متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لها أي بمفازة كائنةٍ من العذاب لأنها ليست من العذاب ، وتقديرُ فعلٍ خاصَ ليصِحَّ به المعنى أي بمفازة مُنْجيةٍ من العذاب مع كونه خلافَ الأصلِ تعسفٌ مستغنىً عنه .(2/9)
وقرىء بضم الباء في الفعلين على أن الخطابَ شاملٌ للمؤمنين أيضاً ، وقرىء بياء الغَيبة وفتحِ الباءِ فيهما على أن الفعلَ له عليه الصلاة والسلام أو لكل أحد ممن يتأتى منه الحُسبان ، ومفعولاه كما ذكر ، وقرىء بضم الباء في الثاني فقط على أن الفعلَ للموصول ، والمفعولُ الأولُ محذوفٌ لكونه عينَ الفاعلِ ، والثاني بمفازة أي لا يحسبَنّ الذين يفرحون أنفسَهم فائزين ، وقوله تعالى : { فَلا } تأكيدٌ للأول ، والفاءُ زائدةٌ كما مر ويجوز أن يُحملَ الفعلُ الأولُ على حذف المفعولين معاً اختصاراً لدِلالة مفعولي الثاني عليهما على عكس ما في قوله :
بأيِّ كتابٍ أو بأيةِ سنة ... ترى حبَّهم عاراً عليَّ وتحسَبُ
حيث حُذف فيه مفعولا الثاني لدَلالة مفعولي الأولِ عليهما ، أو على أن الفعلَ الأولَ للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل حاسب ، ومفعولُه الأولُ الموصولُ والثاني محذوفٌ لدَلالة مفعولِ الفعلِ الثاني عليه ، والفعلُ الثاني مسندٌ إلى ضمير الموصولِ والفاءُ للعطف لظهور تفرُّعِ حُسبانِهم على عدم حُسبانِه عليه السلام ومفعولاه الضميرُ المنصوبُ وقوله تعالى : { تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ } ، وتصديرُ الوعيدِ بنهيهم عن الحسبان المذكورِ للتنبيه على بُطلان آرائِهم الركيكةِ وقطعِ أطماعِهم الفارغةِ حيث كانوا يزعُمون أنهم ينجون بما صنعوا من عذاب الآخرةِ كما نجَوْا به من المؤاخذة الدنيويةِ وعليه كان مبني فرحِهم وأما نهيُه عليه السلام فللتعريض بحسبانهم المذكورِ لا لاحتمال وقوعِ الحُسبانِ من جهته عليه السلام { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } بعد ما أُشير إلى عدم نجاتِهم من مطلق العذابِ حُقِّق أن لهم فرداً منه لا غايةَ له في المدة والشدة ، كما تلوحُ به الجملةُ الاسميةُ والتنكيرُ التفخيميُّ والوصفُ .(2/10)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)
{ وَللَّهِ } أي خاصةً { مُلْكُ السموات والارض } أي السلطانُ القاهرُ فيهما بحيث يتصرف فيهما وفيما فيهما كيفما يشاء ويريد ، إيجاداً وإعداماً إحياءً وإماتةً تعذيباً وإثابةً من غير أن يكون لغيره شائبةُ دخلٍ في شيء من ذلك بوجه من الوجوه ، فالجملةُ مقرِّرة لما قبلها ، وقوله تعالى : { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } تقريرٌ لاختصاص مُلكِ العالَمِ الجُسماني المعبَّر عنه بقُطريه به سبحانه وتعالى قادراً على الكل بحيث لا يشِذ من ملكوته شيءٌ من الأشياء يستدعي كونَ ما سواه كائناً ما كان مقدوراً له ومن ضرورته اختصاصُ القدرةِ به تعالى واستحالةُ أن يشاركه شيءٌ من الأشياء في القُدرة على شيء من الأشياء فضلاً عن المشاركة في ملك السمواتِ والأرضِ ، وفيه تقريرٌ لما مر من ثبوت العذابِ الأليمِ لهم وعدمِ نجاتِهم منه . وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لتربية المهابةِ والإشعارِ بمناطِ الحكمِ ، فإن شمولَ القدرةِ لجميع الأشياءِ من أحكام الألوهيةِ مع ما فيه من الإشعار باستقلال كلَ من الجملتين بالتقرير .
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السموات } جملةٌ مستأنفة سيقت لتقرير ما سبق من اختصاصه تعالى بالسلطان القاهرِ والقُدرة التامةِ صُدِّرت بكلمة التأكيدِ اعتناءً بتحقيق مضمونِها أي في إنشائها على ما هي عليه في ذواتها وصفاتِها من الأمور التي يَحار في فهم أجلاها العقولُ { والارض } على ما هي عليه ذاتاً وصفةً { واختلاف اليل والنهار } أي في تعاقُبهما في وجه الأرضِ وكونِ كلَ منهما خِلْفةً للآخر بحسَب طلوعِ الشمسِ وغروبِها التابعَين لحركات السمواتِ وسكونِ الأرض ، أو في تفاوتهما بازدياد كلَ منهما بانتقاص الآخرِ وانتقاصِه بازدياده ، باختلاف حالِ الشمسِ بالنسبة إلينا قُرباً وبُعداً بحسب الأزمنةِ أو في اختلافهما وتفاوتِهما بحسب الأمكنةِ ، أما في الطول والقِصَر فإن البلادَ القريبةَ من القُطب الشماليِّ أيامُها الصيفيةُ أطولُ ولياليها الصيفيةُ أقصرُ من أيام البلادِ البعيدةِ منه ولياليها ، وأما في أنفسها فإن كرويةَ الأرضِ تقتضي أن يكون بعضُ الأماكنِ ليلاً وفي مقابله نهاراً وفي بعضها صباحاً وفي بعضها ظهراً أو عصراً أو غيرَ ذلك .
والليلُ قيل : إنه اسمُ جنسٍ يُفرَّق بين واحدِه وجمعِه بالتاء كتمْر وتمرةٍ ، والليالي جمعُ جمعٍ والصحيحُ أنه مفردٌ ولا يُحفظ له جمعٌ ، والليالي جمعُ ليلةٍ وهو جمعٌ غريبٌ كأنهم توهموا أنها ليلاةٌ كما في كَيْكة وكياكي كأنها جمعُ كيكاة ، والنهارُ اسمٌ لما بين طلوعِ الفجرِ وغروبِ الشمسِ قاله الراغب ، وقال ابن فارس : هو ضياءُ ما بينهما ، وتقديمُ الليلِ على النهار إما لأنه الأصل فإن غُررَ الشهورِ تظهر في الليالي ، وإما لتقدمه في الخلفية حسبما ينبىء عنه قوله تعالى : { وَءايَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } أي نزيلُه منه فيخلُفه { لاَيَاتٍ } اسمُ إن دخلته اللامُ لتأخُّره عن خبرها ، والتنكيرُ للتفخيم كماً وكيفاً أي لآياتٍ كثيرةً عظيمةً لا يُقادر قدرُها دالةٌ على تعاجيب شؤونِه التي من جُملتها ما مر من اختصاص المُلكِ العظيمِ والقدرةُ التامةُ به سبحانه .(2/11)
وعدمُ التعرضِ لما ذُكر في سورة البقرة من الفُلك والمطرِ وتصريفِ الرياحِ والسحابِ لما أن المقصودَ هاهنا بيانُ استبدادِه تعالى بما ذُكر من المُلك والقدرةِ فاكتُفي بمعظم الشواهدِ الدالةِ على ذلك ، وأما هناك فقد قُصِد في ضمن بيانِ اختصاصِه تعالى بالألوهية بيانُ اتصافِه تعالى بالرحمة الواسعةِ فنُظمت دلائلُ الفضلِ والرحمةِ في سلك دلائلِ التوحيدِ فإن ما فصل هناك ( هو ) من آيات رحمتِه تعالى كما أنه من آيات ألوهيتِه ووحدتِه .
{ لاِوْلِى الالباب } أي لذوي العقول المجلُوَّة الخالصةِ عن شوائب الحسِّ والوهمِ المتجرِّدَين عن العلائق النفسانيةِ المتخلّصين من العوائق الظُلمانيةِ ، المتأملين في أحوال الحقائقِ وأحكامِ النعوتِ ، المراقبين في أطوار الملكِ وأسرارِ الملكوتِ ، المتفكرين في بدائع صنائعِ الملِكِ الخلاق ، المتدبرين في روائع حُكمِه المودَعةِ في الأنفس والآفاق ، الناظرين إلى العالم بعين الاعتبارِ والشهودِ ، المتفحّصين عن حقيقة سرِّ الحقِّ في كل موجود ، المثابرين على مراقبته وذِكراه غيرَ ملتفتين إلى شيء مما سواه إلا من حيث إنه مرآةٌ لمشاهدة جمالِه وآلةٌ لملاحظة صفاتِ كمالِه ، فإن كلَّ ما ظهر في مظاهر الإبداعِ وحضر محاضِرَ التكوينِ والاختراع سبيلٌ سوِيّ إلى عالم التوحيد ودليلٌ قوي على الصانع المجيدِ ناطقٌ بآيات قدرتِه ، فهل من سامع واعٍ ومخبِرٍ بأنباء علمِه وحكمتِه فهل له من داعٍ يكلم الناسَ على قدر عقولِهم ويرُدّ جوابَهم بحسب مقولِهم ، يحاور تارة بأوضح عبارةٍ ويلوّح أخرى بألطفِ إشارةٍ مراعياً في الحوار إبهامَهم وتصريحَهم : { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } فتأمل في هذه الشؤونِ والأسرارِ إن في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار . عن عائشة رضي الله عنها أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : « هل لك يا عائشةُ أن تأذني لي الليلةَ في عبادة ربي؟ » فقلت : يا رسولَ الله إني لأُحِبُّ قُربَك وأحِبُّ هواك قد أذِنت لك ، فقام إلى قِربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يُكثر من صب الماءِ ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى بلغ الدموعُ حِقْوَيه ثم جلس فحمِد الله تعالى وأثنى عليه وجعل يبكي ثم رفع يديه فجعل يبكي حتى رأيت دموعَه قد بلت الأرضَ فأتاه بلالٌ يؤْذِنه بصلاة الغداةِ فرآه يبكي فقال له : يا رسولَ الله أتبكي وقد غفَر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال : « يا بلال أفلا أكونُ عبداً شكوراً؟ » ثم قال : « ومالي لا أبكي وقد أنزل الله تعالى علي هذه الليلةِ إن في خلق السموات والأرض؟ » الخ ، ثم قال : « ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها » وروي : « ويلٌ لمن لاكها بين فكّيه ولم يتأملْها » وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتسوّك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول : « إن في خلق السموات والأرض » الخ .(2/12)
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله } الموصولُ إما موصولٌ بأولي الألباب مجرورٌ على أنه نعتٌ كاشفٌ له بما في حيز الصلةِ وإما مفصولٌ عنه مرفوعٌ أو منصوبٌ على المدح ، أو مرفوعٌ على أنه خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ ، وقيل : هو مرفوعٌ على الابتداء والخبرُ هو القولُ المقدرُ قبل قولِه تعالى : { رَبَّنَا } ، وفيه من تفكيك النظمِ الجليلِ ما لا يخفى . وأياً ما كان فقد أشير بما في حيز صلتِه أن المرادَ بهم الذين لا يغفُلون عنه تعالى في عامة أوقاتِهم لاطمئنان قلوبِهم بذكره واستغراقِ سرائرِهم في مراقبته لما أيقنوا بأن كلَّ ما سواه فائضٌ منه وعائدٌ إليه فلا يشاهدون حالاً من الأحوال في أنفسهم ، وإليه أشير بقوله عز وجل : { قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبُهُمْ } ولا في الآفاق وإليه أشير بما بعده إلا وهم يعاينون في ذلك شأناً من شؤونه تعالى ، فالمرادُ به ذكرُه تعالى مطلقاً سواءٌ كان ذلك من حيث الذاتُ أو من حيث الصفاتُ والأفعالُ ، وسواءٌ قارنه الذكرُ اللسانيُّ أو لا .
وأما ما يُحكى عن ابن عمرَ وعروةَ بنِ الزبير وجماعةٍ رضي الله عنهم من أنهم خرجوا يوم العيدِ إلى المصلى فجعلوا يذكرون الله تعالى فقال بعضُهم : أما قال الله تعالى : { الذين يَذْكُرُونَ الله قياما وَقُعُوداً } فقاموا يذكرون الله على أقدامهم فليس مرادُهم به تفسيرَ الآيةِ وتحقيقَ مِصداقِها على التعيين وإنما أرادوا به التبركَ بنوع موافقةٍ لها في ضمن الإتيانِ بفرد من أفرادِ مدلولِها ، وأما حملُ الذكرِ على الصلاة في هذه الأحوالِ حسب الاستطاعةِ كما قال عليه السلام لعِمرانَ بنِ الحصين : « صلِّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطعْ فعلى جنب تومىء إيماءً » فمما لا يساعده سباقُ النظمِ الجليلِ ولا سياقُه .
والقيامُ والقعودُ جمعُ قائمٍ وقاعدٍ كنيام ورُقودٍ جمعُ نائمٍ وراقد ، وانتصابُهما على الحالية من ضمير يذكرُون أي يذكرونه قائمين وقاعدين ، وقولُه تعالى : { وعلى جُنُوبِهِمْ } متعلقٌ بمحذوف معطوفٍ على الحالين أي وكائنين على جنوبهم أي مضطجعين ، والمرادُ تعميمُ الذكرِ للأوقات كما مر ، وتخصيصُ الأحوالِ المذكورةِ بالذكر ليس لتخصيص الذكرِ بها بل لأنها الأحوالُ المعهودةُ التي لا يخلو عنها الإنسانُ غالباً { وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السموات والارض } عطفٌ على { يَذَّكَّرُونَ } منتظمٌ معه في حيِّز الصلةِ فلا محلَّ له من الإعراب ، وقيل : محلُّه النصبُ على أنه معطوفٌ على الأحوال السابقةِ وليس بظاهر ، وهو بيانٌ لتفكرهم في أفعاله سبحانه إثرَ بيانِ تفكرِهم في ذاته تعالى على الإطلاق وأشار إلى نتيجته التي يؤدّي إليها من معرفة أحوالِ المعادِ حسبما نطقت به ألسنةُ الرسلِ وآياتُ الكتبِ ، فكما أنها آياتٌ تشريعيةٌ هاديةٌ للخلق إلى معرفته تعالى ووجوبِ طاعتِه كذلك المخلوقاتُ آياتٌ تكوينيةٌ مرشدةٌ لهم إلى ذلك ، فالأُولى منبِّهاتٌ لهم على الثانية ودواعٍ إلى الاستشهاد بها كهذه الآيةِ الكريمةِ ونحوِها مما ورد في مواضعَ غيرِ محصورةٍ من التنزيل ، والثانيةُ مؤيِّداتٌ للأولى وشواهدُ دالةٌ على صحة مضمونِها وحقّيةِ مكنونِها ، فإن من تأمل في تضاعيف خلقِ العالَمِ على هذا النمطِ البديعِ قضى باتصاف خالقِه تعالى بجميع من نطقت به الرسلُ والكتبُ من الوجوب الذاتيِّ والوَحدةِ الذاتيةِ والمُلك القاهِرِ والقُدرةِ التامةِ والعلمِ الشاملِ والحِكمةِ البالغةِ وغيرِ ذلك من صفات الكمالِ ، وحكمَ بأن مَن قدَر على إنشائه بلا مثال يِحتذيه أو قانونٍ ينتحيه فهو على إعادته بالبعث أقدرُ ، وحكمَ بأن ذلك ليس إلا لحكمة باهرةٍ هي جزاءُ المكلَّفين بحسب استحقاقِهم المنوطِ بأعمالهم أي علومِهم واعتقاداتِهم التابعةِ لأنظارهم فيما نُصب لهم من الحُجج والدلائلِ والأَماراتِ والمَخايلِ وسائرِ أعمالِهم المتفرّعةِ على ذلك ، فإن العملَ غيرُ مختصَ بعمل الجوارحِ بل متناولٌ للعمل القلبيِّ ، وهو أشرفُ أفراده لما أن لكلٍ من القلب والقالَب عملاً خاصاً .(2/13)
ومن قضية كونِ الأولِ أشرفَ من الثاني كونُ عملِه أيضاً أشرفَ من عملِه ، كيف لا ، ولا عملَ بدون معرفتِه تعالى التي هي أولُ الواجباتِ على العباد ، والغايةُ القُصوى من الخلق على ما نطَق به عز وجل : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } أي ليعرفونِ كما أَعرَب عنه قولُه عليه الصلاة والسلام : " يقول الله تعالى : «كُنتُ كنزاً مخفياً فأحببتُ أن أُعْرَفَ فخلقتُ الخلقَ لأُعرف " وإنما طريقُها النظرُ والتفكرُ فيما ذُكر من شؤونه تعالى . وقد روي عنه عليه السلام أنه قال : " لا تُفضِّلوني على يونسَ بنِ متى فإنه كان يُرفع له كلَّ يومٍ مثلُ عملِ أهلِ الأرض "
قالوا : وإنما كان ذلك التفكّرَ في أمر الله تعالى ولذلك قال عليه السلام : " لا عبادةَ مثلُ التفكر " وقد عرفت أنه مستتبِعٌ لتحقيق ما جاءت به الشريعةُ الحقةُ ، وإلا لما فسَّر النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : { وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والارض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } بقوله عليه الصلاة والسلام : " أيُكم أحسنُ عقلاً وأورَعُ عن محارم الله تعالى " فإن التورعَ عن محارمه سبحانه موقوفٌ على معرفة الحلالِ والحرامِ المنوطةِ بالكتاب والسنة ، فحينئذ تتصادقُ الآياتُ التكوينيةُ وتتوافق الأدلةُ السمعيةُ والعقليةُ وهو السرُّ في نظم ما حُكي عن المتفكرين من الأمور المستدعِيةِ للإيمان بالشريعة في سلك نتيجةِ تفكُّرِهم كما ستقف عليه .
وإظهارُ خلقِ السمواتِ والأرضِ مع كفاية الإضمارِ لإبراز كمالِ العنايةِ ببيان حالِهم ، والإيذانِ بكون تفكرِهم على وجه التحقيقِ والتفصيلِ وعدمِ التعرضِ لإدراج اختلافِ المَلَوْينِ في سلك التفكر مع ذكره فيما سلف إما للإيذان بظهور اندراجِه فيه لما أن ذلك من الأحوال التابعةِ لأحوال السمواتِ والأرضِ كما أشير إليه ، وإما للإشعار بمسارعتهم إلى الحُكم بالنتيجة بمجرد تفكرِهم في بعض الآياتِ من غير حاجةٍ إلى بعض آخَرَ منها في إثبات المطلوب .(2/14)
والخلقُ مصدرٌ على حاله أي يتفكرون في إنشائهما وإبداعِهما بما فيهما من عجائبِ المصنوعات ، وقيل : بمعنى المخلوقِ على أن الإضافةَ بمعنى في أي يتفكرون فيما خُلق فيهما أعمُّ من أن يكون بطريق الجزئيةِ منهما أو بطريق الحلولِ فيهما أو على أنها بيانية .
{ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا } كلمةُ { هذا } إشارةٌ إلى السموات والأرضِ متضمّنةٌ لضرب من التعظيم كما في قوله تعالى : { إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } والتذكيرُ لما أنهما باعتبار تعلّقِ الخلقِ بهما في معنى المخلوقِ ، أو إلى الخلق على تقدير كونِه بمعنى المخلوقِ ، و { باطلا } إما صفةٌ لمصدر مؤكدٍ محذوفٍ أو حالٌ من المفعول به ، أي ما خلقتَ هذا المخلوقَ البديعَ العظيمَ الشأنِ عبثاً عارياً عن الحكمة خالياً عن المصلحة كما تُنبىء عنه أوضاعُ الغافلين عن ذلك ، المعرِضين عن التفكر فيه ، بل منتظِماً لحكمة جليلةٍ ومصالحَ عظيمةٍ من جملتها أن يكون مداراً لمعايش العبادِ ومناراً يُرشدهم إلى معرفة أحوالِ المبدأ والمعادِ حسبما أَفْصحت عنه الرسلُ والكتبُ الإلهية كما تحققتَه مفصلاً .
والجملة بتمامها في حيز النصبِ بقولٍ مقدرٍ هو على تقدير كونِ الموصولِ نعتاً لأولي الألباب استئنافٌ مبينٌ لنتيجة التفكرِ ومدلولِ الآياتِ ، ناشىءٌ مما سبق فإن النفسَ عند سماعِ تخصيصِ الآياتِ المنصوبةِ في خلق العالمِ بأولي الألباب ثم وصفَهم بذكر الله تعالى والتفكرِ في محالِّ تلك الآياتِ تبقى مترقبةً لما يظهر منهم من آثارها وأحكامِها ، كأنه قيل : فماذا يكونُ عند تفكرِهم في ذلك وماذا يترتب عليه من النتيجة؟ فقيل : كيتَ وكيتَ مما ينبىء عن وقوفهم على سر الخلقِ المؤدِّي إلى معرفة صدقِ الرسلِ وحقية الكُتب الناطقةِ بتفاصيل الأحكامِ الشرعيةِ على التفصيل الذي وقفت عليه . هذا وأما جعلُه حالاً من المستكنِّ في الفعل كما أطبق عليه الجمهورُ فمما لا يساعده جزالةُ النظمِ الكريمِ لما أن ما في حيز الصلةِ وما هو قيدٌ له حقُّه أن يكون من مبادىء الحُكمِ الذي أُجريَ على الموصول ودواعي ثبوته له ، كذكرهم الله عز وجل في عامة أوقاتِهم وتفكرِهم في خلق السموات والأرض ، فإنهما مما يؤدي إلى اجتلاء تلك الآياتِ والاستدلالِ بها على المطلوب ، ولا ريب في أن قولَهم ذلك ليس من مبادىء الاستدلال المذكورِ بل من نتائجه المترتبةِ عليه فاعتبارُه قيداً لما في حيز الصلةِ مما لا يليق بشأن التنزيلِ الجليلِ . نعم هو حال من ذلك على تقدير كونِ الموصولِ مرفوعاً أو منصوباً على المدح ، أو مرفوعاً على أنه خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ إذ لا اشتباهَ في أن قولَهم ذلك مبادىءُ مدحِهم ومحاسنُ مناقبهم ، وفي إبراز هذا القولِ في معرض الحالِ دون الخبرِ إشعارٌ بمقارنته لتفكرهم من غير تلعثم وترددٍ في ذلك .(2/15)
وقوله تعالى : { سبحانك } أي تنزيهاً لك عما لا يليق بك من الأمور التي من جملتها خلقُ ما لا حكمةَ فيه اعتراضٌ مؤكدٌ لمضمون ما قبله ممهّد لما بعده من قوله تعالى : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } فإن معرفةَ سرِّ خلقِ العالمِ وما فيه من الحكمةِ البالغةِ والغايةِ الحميدةِ والقيامَ بما تقتضيه من الأعمال الصالحةِ وتنزيهَ الصانعِ تعالى عن العبث من دواعي الاستعاذة مما يَحيق بالمُخلِّين بذلك من وجهين : أحدُهما الوقوفُ على تحقق العذابِ فالفاءُ لترتيب الدعاءِ على ما ذُكر والثاني الاستعدادُ لقبول الدعاءِ ، فالفاءُ لترتيب المدعوِّ أعني الوقايةَ على ذلك كأنه قيل : وإذ قد عرَفنا سرَّك وأطعنا أمرَك ونزّهناك عما لا ينبغي فقِنا عذابَ النارِ الذي هو جزاءُ الذين لا يعرِفون ذلك . { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله } الموصولُ إما موصولٌ بأولي الألباب مجرورٌ على أنه نعتٌ كاشفٌ له بما في حيز الصلةِ وإما مفصولٌ عنه مرفوعٌ أو منصوبٌ على المدح ، أو مرفوعٌ على أنه خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ ، وقيل : هو مرفوعٌ على الابتداء والخبرُ هو القولُ المقدرُ قبل قولِه تعالى : { رَبَّنَا } ، وفيه من تفكيك النظمِ الجليلِ ما لا يخفى . وأياً ما كان فقد أشير بما في حيز صلتِه أن المرادَ بهم الذين لا يغفُلون عنه تعالى في عامة أوقاتِهم لاطمئنان قلوبِهم بذكره واستغراقِ سرائرِهم في مراقبته لما أيقنوا بأن كلَّ ما سواه فائضٌ منه وعائدٌ إليه فلا يشاهدون حالاً من الأحوال في أنفسهم ، وإليه أشير بقوله عز وجل : { قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبُهُمْ } ولا في الآفاق وإليه أشير بما بعده إلا وهم يعاينون في ذلك شأناً من شؤونه تعالى ، فالمرادُ به ذكرُه تعالى مطلقاً سواءٌ كان ذلك من حيث الذاتُ أو من حيث الصفاتُ والأفعالُ ، وسواءٌ قارنه الذكرُ اللسانيُّ أو لا .
وأما ما يُحكى عن ابن عمرَ وعروةَ بنِ الزبير وجماعةٍ رضي الله عنهم من أنهم خرجوا يوم العيدِ إلى المصلى فجعلوا يذكرون الله تعالى فقال بعضُهم : أما قال الله تعالى : { الذين يَذْكُرُونَ الله قياما وَقُعُوداً } فقاموا يذكرون الله على أقدامهم فليس مرادُهم به تفسيرَ الآيةِ وتحقيقَ مِصداقِها على التعيين وإنما أرادوا به التبركَ بنوع موافقةٍ لها في ضمن الإتيانِ بفرد من أفرادِ مدلولِها ، وأما حملُ الذكرِ على الصلاة في هذه الأحوالِ حسب الاستطاعةِ كما قال عليه السلام لعِمرانَ بنِ الحصين : « صلِّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطعْ فعلى جنب تومىء إيماءً » فمما لا يساعده سباقُ النظمِ الجليلِ ولا سياقُه .
والقيامُ والقعودُ جمعُ قائمٍ وقاعدٍ كنيام ورُقودٍ جمعُ نائمٍ وراقد ، وانتصابُهما على الحالية من ضمير يذكرُون أي يذكرونه قائمين وقاعدين ، وقولُه تعالى : { وعلى جُنُوبِهِمْ } متعلقٌ بمحذوف معطوفٍ على الحالين أي وكائنين على جنوبهم أي مضطجعين ، والمرادُ تعميمُ الذكرِ للأوقات كما مر ، وتخصيصُ الأحوالِ المذكورةِ بالذكر ليس لتخصيص الذكرِ بها بل لأنها الأحوالُ المعهودةُ التي لا يخلو عنها الإنسانُ غالباً { وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السموات والارض } عطفٌ على { يَذَّكَّرُونَ } منتظمٌ معه في حيِّز الصلةِ فلا محلَّ له من الإعراب ، وقيل : محلُّه النصبُ على أنه معطوفٌ على الأحوال السابقةِ وليس بظاهر ، وهو بيانٌ لتفكرهم في أفعاله سبحانه إثرَ بيانِ تفكرِهم في ذاته تعالى على الإطلاق وأشار إلى نتيجته التي يؤدّي إليها من معرفة أحوالِ المعادِ حسبما نطقت به ألسنةُ الرسلِ وآياتُ الكتبِ ، فكما أنها آياتٌ تشريعيةٌ هاديةٌ للخلق إلى معرفته تعالى ووجوبِ طاعتِه كذلك المخلوقاتُ آياتٌ تكوينيةٌ مرشدةٌ لهم إلى ذلك ، فالأُولى منبِّهاتٌ لهم على الثانية ودواعٍ إلى الاستشهاد بها كهذه الآيةِ الكريمةِ ونحوِها مما ورد في مواضعَ غيرِ محصورةٍ من التنزيل ، والثانيةُ مؤيِّداتٌ للأولى وشواهدُ دالةٌ على صحة مضمونِها وحقّيةِ مكنونِها ، فإن من تأمل في تضاعيف خلقِ العالَمِ على هذا النمطِ البديعِ قضى باتصاف خالقِه تعالى بجميع من نطقت به الرسلُ والكتبُ من الوجوب الذاتيِّ والوَحدةِ الذاتيةِ والمُلك القاهِرِ والقُدرةِ التامةِ والعلمِ الشاملِ والحِكمةِ البالغةِ وغيرِ ذلك من صفات الكمالِ ، وحكمَ بأن مَن قدَر على إنشائه بلا مثال يِحتذيه أو قانونٍ ينتحيه فهو على إعادته بالبعث أقدرُ ، وحكمَ بأن ذلك ليس إلا لحكمة باهرةٍ هي جزاءُ المكلَّفين بحسب استحقاقِهم المنوطِ بأعمالهم أي علومِهم واعتقاداتِهم التابعةِ لأنظارهم فيما نُصب لهم من الحُجج والدلائلِ والأَماراتِ والمَخايلِ وسائرِ أعمالِهم المتفرّعةِ على ذلك ، فإن العملَ غيرُ مختصَ بعمل الجوارحِ بل متناولٌ للعمل القلبيِّ ، وهو أشرفُ أفراده لما أن لكلٍ من القلب والقالَب عملاً خاصاً .(2/16)
ومن قضية كونِ الأولِ أشرفَ من الثاني كونُ عملِه أيضاً أشرفَ من عملِه ، كيف لا ، ولا عملَ بدون معرفتِه تعالى التي هي أولُ الواجباتِ على العباد ، والغايةُ القُصوى من الخلق على ما نطَق به عز وجل : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } أي ليعرفونِ كما أَعرَب عنه قولُه عليه الصلاة والسلام : " يقول الله تعالى : «كُنتُ كنزاً مخفياً فأحببتُ أن أُعْرَفَ فخلقتُ الخلقَ لأُعرف " وإنما طريقُها النظرُ والتفكرُ فيما ذُكر من شؤونه تعالى . وقد روي عنه عليه السلام أنه قال : " لا تُفضِّلوني على يونسَ بنِ متى فإنه كان يُرفع له كلَّ يومٍ مثلُ عملِ أهلِ الأرض "
قالوا : وإنما كان ذلك التفكّرَ في أمر الله تعالى ولذلك قال عليه السلام : " لا عبادةَ مثلُ التفكر " وقد عرفت أنه مستتبِعٌ لتحقيق ما جاءت به الشريعةُ الحقةُ ، وإلا لما فسَّر النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : { وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والارض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً }(2/17)
بقوله عليه الصلاة والسلام : « أيُكم أحسنُ عقلاً وأورَعُ عن محارم الله تعالى » فإن التورعَ عن محارمه سبحانه موقوفٌ على معرفة الحلالِ والحرامِ المنوطةِ بالكتاب والسنة ، فحينئذ تتصادقُ الآياتُ التكوينيةُ وتتوافق الأدلةُ السمعيةُ والعقليةُ وهو السرُّ في نظم ما حُكي عن المتفكرين من الأمور المستدعِيةِ للإيمان بالشريعة في سلك نتيجةِ تفكُّرِهم كما ستقف عليه .
وإظهارُ خلقِ السمواتِ والأرضِ مع كفاية الإضمارِ لإبراز كمالِ العنايةِ ببيان حالِهم ، والإيذانِ بكون تفكرِهم على وجه التحقيقِ والتفصيلِ وعدمِ التعرضِ لإدراج اختلافِ المَلَوْينِ في سلك التفكر مع ذكره فيما سلف إما للإيذان بظهور اندراجِه فيه لما أن ذلك من الأحوال التابعةِ لأحوال السمواتِ والأرضِ كما أشير إليه ، وإما للإشعار بمسارعتهم إلى الحُكم بالنتيجة بمجرد تفكرِهم في بعض الآياتِ من غير حاجةٍ إلى بعض آخَرَ منها في إثبات المطلوب . والخلقُ مصدرٌ على حاله أي يتفكرون في إنشائهما وإبداعِهما بما فيهما من عجائبِ المصنوعات ، وقيل : بمعنى المخلوقِ على أن الإضافةَ بمعنى في أي يتفكرون فيما خُلق فيهما أعمُّ من أن يكون بطريق الجزئيةِ منهما أو بطريق الحلولِ فيهما أو على أنها بيانية .
{ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا } كلمةُ { هذا } إشارةٌ إلى السموات والأرضِ متضمّنةٌ لضرب من التعظيم كما في قوله تعالى : { إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } والتذكيرُ لما أنهما باعتبار تعلّقِ الخلقِ بهما في معنى المخلوقِ ، أو إلى الخلق على تقدير كونِه بمعنى المخلوقِ ، و { باطلا } إما صفةٌ لمصدر مؤكدٍ محذوفٍ أو حالٌ من المفعول به ، أي ما خلقتَ هذا المخلوقَ البديعَ العظيمَ الشأنِ عبثاً عارياً عن الحكمة خالياً عن المصلحة كما تُنبىء عنه أوضاعُ الغافلين عن ذلك ، المعرِضين عن التفكر فيه ، بل منتظِماً لحكمة جليلةٍ ومصالحَ عظيمةٍ من جملتها أن يكون مداراً لمعايش العبادِ ومناراً يُرشدهم إلى معرفة أحوالِ المبدأ والمعادِ حسبما أَفْصحت عنه الرسلُ والكتبُ الإلهية كما تحققتَه مفصلاً .
والجملة بتمامها في حيز النصبِ بقولٍ مقدرٍ هو على تقدير كونِ الموصولِ نعتاً لأولي الألباب استئنافٌ مبينٌ لنتيجة التفكرِ ومدلولِ الآياتِ ، ناشىءٌ مما سبق فإن النفسَ عند سماعِ تخصيصِ الآياتِ المنصوبةِ في خلق العالمِ بأولي الألباب ثم وصفَهم بذكر الله تعالى والتفكرِ في محالِّ تلك الآياتِ تبقى مترقبةً لما يظهر منهم من آثارها وأحكامِها ، كأنه قيل : فماذا يكونُ عند تفكرِهم في ذلك وماذا يترتب عليه من النتيجة؟ فقيل : كيتَ وكيتَ مما ينبىء عن وقوفهم على سر الخلقِ المؤدِّي إلى معرفة صدقِ الرسلِ وحقية الكُتب الناطقةِ بتفاصيل الأحكامِ الشرعيةِ على التفصيل الذي وقفت عليه . هذا وأما جعلُه حالاً من المستكنِّ في الفعل كما أطبق عليه الجمهورُ فمما لا يساعده جزالةُ النظمِ الكريمِ لما أن ما في حيز الصلةِ وما هو قيدٌ له حقُّه أن يكون من مبادىء الحُكمِ الذي أُجريَ على الموصول ودواعي ثبوته له ، كذكرهم الله عز وجل في عامة أوقاتِهم وتفكرِهم في خلق السموات والأرض ، فإنهما مما يؤدي إلى اجتلاء تلك الآياتِ والاستدلالِ بها على المطلوب ، ولا ريب في أن قولَهم ذلك ليس من مبادىء الاستدلال المذكورِ بل من نتائجه المترتبةِ عليه فاعتبارُه قيداً لما في حيز الصلةِ مما لا يليق بشأن التنزيلِ الجليلِ .(2/18)
نعم هو حال من ذلك على تقدير كونِ الموصولِ مرفوعاً أو منصوباً على المدح ، أو مرفوعاً على أنه خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ إذ لا اشتباهَ في أن قولَهم ذلك مبادىءُ مدحِهم ومحاسنُ مناقبهم ، وفي إبراز هذا القولِ في معرض الحالِ دون الخبرِ إشعارٌ بمقارنته لتفكرهم من غير تلعثم وترددٍ في ذلك .
وقوله تعالى : { سبحانك } أي تنزيهاً لك عما لا يليق بك من الأمور التي من جملتها خلقُ ما لا حكمةَ فيه اعتراضٌ مؤكدٌ لمضمون ما قبله ممهّد لما بعده من قوله تعالى : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } فإن معرفةَ سرِّ خلقِ العالمِ وما فيه من الحكمةِ البالغةِ والغايةِ الحميدةِ والقيامَ بما تقتضيه من الأعمال الصالحةِ وتنزيهَ الصانعِ تعالى عن العبث من دواعي الاستعاذة مما يَحيق بالمُخلِّين بذلك من وجهين : أحدُهما الوقوفُ على تحقق العذابِ فالفاءُ لترتيب الدعاءِ على ما ذُكر والثاني الاستعدادُ لقبول الدعاءِ ، فالفاءُ لترتيب المدعوِّ أعني الوقايةَ على ذلك كأنه قيل : وإذ قد عرَفنا سرَّك وأطعنا أمرَك ونزّهناك عما لا ينبغي فقِنا عذابَ النارِ الذي هو جزاءُ الذين لا يعرِفون ذلك .(2/19)
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)
{ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } مبالغةٌ في استدعاء الوقايةِ وبيانٌ لسببه . وتصديرُ الجملةِ بالنداء للمبالغةِ في التضرع والجُؤار ، وتأكيدُها لإظهار كمالِ اليقينِ بمضمونها والإيذانِ بشدة الخوفِ ، وإظهارُ النارِ في موضع الإضمارِ لتهويلِ أمرِها ، وذكرُ الإدخالِ في مورد العذابِ لتعيين كيفيتِه وتبيينِ غاية فظاعتِه . قال الواحدي : للإخزاء معانٍ متقاربةٌ يقال : أخزاه الله أي أبعده ، وقيل : أهانه ، وقيل : أهلكه ، وقيل : فضحه . قال ابن الأنباري : الخزيُ لغةً الهلاكُ بتلف أو بانقطاع حجةٍ أو بوقوع في بلاء ، والمعنى فقد أخزيته خِزياً لا غايةَ وراءَه كقولهم : من أدرك مَرْعى الصمّانِ فقد أدرك ، أي المرعى الذي لا مرعى بعدَه ، وفيه من الإشعار بفظاعة العذابِ الروحاني ما لا يخفى . وقولُه تعالى : { وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ } تذييلٌ لإظهار نهايةِ فظاعةِ حالِهم ببيان خلودِ عذابِهم بفُقدان من ينصُرهم ويقوم بتخليصهم ، وغرضُهم تأكيدُ الاستدعاءِ ووضعُ الظالمين موضعَ ضميرِ المُدخَلين لذمهم والإشعارِ بتعليل دخولِهم النارَ بظلمهم ووضعِهم الأشياء في غير مواضعِها ، وجمعُ الأنصارِ بالنظر إلى جمع الظالمين أي ما لظالم من الظالمين نصيرٌ من الأنصار ، والمرادُ به من ينصُر بالمدافعة والقهر فليس في الآية دِلالةٌ على نفي الشفاعةِ ، على أن المرادَ بالظالمين هم الكفارُ .
{ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى للإيمان } حكايةٌ لدعاء آخرَ لهم مبنيٌّ على تأملهم في الدليل السمعيِّ بعد حكايةِ دعائِهم السابقِ المبنيِّ على التفكر في الأدلة العقليةِ ، وتصديرُ مقدمةِ الدعاءِ بالنداء لإظهار كمالِ الضراعةِ والابتهالِ ، والتأكيدُ للإيذان بصدور المقالِ عنهم بوفور الرغبةِ وكمالِ النشاطِ ، والمرادُ بالنداء الدعاءُ وتعديتُهما بإلى لتضمُّنهما معنى الإنهاءِ ، وباللام لاشتمالها على معنى التخصيص والمرادُ بالمنادي الرسولُ صلى الله عليه وسلم ، وتنوينُه للتفخيم ، وإيثارُه على الداعي للدلالة على كمال اعتنائِه بشأن الدعوةِ وتبليغِها إلى الداني والقاصي لما فيه من الأيذان برفع الصوتِ و { يُنَادِى } صفةٌ لمنادياً عند الجمهورِ كما في قولك : سمعتُ رجلاً يقول : كيت وكيت ولو كان معرفةً لكان حالاً منه كما إذا قلت : سمعت زيداً يقول الخ ، ومفعولٌ ثانٍ لسمعنا عند الفارسي وأتباعِه ، وهذا أسلوبٌ بديعٌ يُصار إليه للمبالغة في تحقيق السماعِ والإيذانِ بوقوعه بلا واسطةٍ عند صدورِ المسموعِ عن المتكلم وللتوسل إلى تفصيله واستحضارِ صورتِه ، وقد اختص النظمُ الكريمُ بمزية زائدةٍ على ذلك حيث عبَّر عن المسموع منه بالمنادي ثم وَصَفه بالنداء للإيمان على طريقة قولك : سمعت متكلماً يتكلم بالحِكمة لما أن التفسيرَ بعد الإبهامِ والتقييدَ بعد الإطلاقِ أوقعُ عند النفسِ وأجدرُ بالقبول . وقيل : المنادي القرآنُ العظيمُ { أنْ آمِنُوا } أي آمنوا على أن { ءانٍ } تفسيريةٌ أو بأنْ آمِنوا على أنها مصدريةٌ { بِرَبّكُمْ } بمالككم ومتوليِّ أمورِكم ومبلِّغِكم إلى الكمال ، وفي إطلاق الإيمانِ ثم تقييدِه تفخيمٌ لشأنه .
{ فَئَامَنَّا } أي فامتثلنا بأمره وأجبنا نداءَه { رَبَّنَا } تكريرٌ للتضرُّع وإظهارٌ لكمال الخضوعِ وعرضٌ للاعتراف بربوبيته مع الإيمان به ، والفاءُ في قوله تعالى : { فاغفر لَنَا } الفاء لترتيب المغفرةِ أو الدعاءِ بها على الإيمان به تعالى والإقرار بربوبيته فإن ذلك من دواعي المغفرةِ والدعاءِ بها { ذُنُوبَنَا } أي كبائرَنا فإن الإيمان يجُبُّ ما قبله { وَكَفّرْ عَنَّا سيئاتنا } أي صغائرَنا فإنها مكفَّرةٌ عمن اجتنبَ الكبائرَ { وَتَوَفَّنَا مَعَ الابرار } أي مخصوصين بصُحبتهم مغتنمين لجوارهم ، معدودين من زُمرتهم ، وفيه إشعارٌ بأنهم كانوا يحبون لقاءَ الله «ومن أحب لقاءَ الله أحب الله لقاءَه» والأبرارُ جمع بارَ أو بَرَ كأصحاب وأرباب .(2/20)
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
{ رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ } حكايةٌ لدعاءٍ آخرَ لهم مسبوقٍ بما قبله معطوفٍ عليه لتأخّر التحليةِ عن التخلية ، وتكريرُ النداء لما مر مكرراً ، والمرادُ بالموعود الثوابُ و { على } إما متعلقةٌ بالوعد كما في قولك : وعد الله الجنةَ على الطاعة أي وعدتَنا على تصديق رسلِك ، أو بمحذوف وقع صفةً لمصدر مؤكدٍ محذوفٍ أي وعدتنا وعداً كائناً على ألسنة رسلِك ، وقيل : التقديرُ منزلاً على رسلك أو محمولاً على رسلك ، ولا يخفى أن تقديرَ الأفعالِ الخاصةِ في مثل هذه المواقعِ تعسفٌ ، وجمعُ الرسلِ مع أن المناديَ هو الرسولُ صلى الله عليه وسلم وحده لما أن دعوتَه عليه السلام لا سيما في باب التوحيدِ وما أجمع عليه الكلُّ من الشرائع منطويةٌ على دعوة الكلِّ فتصديقُه تصديقٌ لهم عليهم السلام ، كيف لا وقد أخذ منهم الميثاقَ بالإيمان به عليه السلام لقوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كتاب } الآية ، وكذا الموعودُ على لسانه من الثواب موعودٌ على ألسنة الكلِّ ، وإيثارُ الجمعِ لإظهار كمالِ الثقةِ بإنجاز الموجودِ بناءً على كثرة الشهود .
{ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة } قصَدوا بذلك تذكيرَ وعدِه تعالى بقوله : { يَوْمٌ لاَّ يخزِى الله النَّبىّ والَّذِينَ آمنُوا مَعَهُ } مُظْهرين أنهم ممن آمن معه رجاءً للانتظام في سلكهم يومئذ ، وقوله تعالى : { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد } تعليلٌ لتحقيق ما نَظَموا في سلك الدعاءِ ، وهذه الدعواتُ وما في تضاعيفها من كمالِ الضراعةِ والابتهالِ ليست لخوفهم من إخلاف الميعادِ بل لخوفهم من ألا يكونوا من جملة الموجودين بتغير الحالِ وسوءِ الخاتمةِ والمآلِ ، فمرجِعُها إلى الدعاء بالتثبيت ، أو للمبالغة في التعبُّد والخشوعِ . والميعادُ الوعدُ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه البعثُ بعد الموت وفي الآثار عن جعفر الصادق : من حزَ به أمرٌ فقال ربنا خمسَ مراتٍ أنجاه اللَّهُ مما يخاف وأعطاه ما أراد ، وقرأ هذه الآية .(2/21)
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
{ فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ } الاستجابةُ بمعنى الإجابة ، وقال تاجُ القراء : الإجابة عامةٌ والاستجابة خاصةٌ بإعطاء المسؤولِ ، وتتعدى باللام وبنفسها كما في قوله :
فلم يستجبْهُ عند ذاك مُجيبُ ... وهو عطفٌ على الاستئنافِ المقدَّرِ فيما سلف ، مترتبٌ على ما في حيزه من الأدعية كما أن قوله عز وجل : { ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } الخ عطفٌ على قيل المقدَّرِ قبل الآنَ ، أي قيل لهم آلآْنَ آمنتم به؟ ثم قيل الآية وكما أن قوله تعالى في سورة الأعراف : { وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ } معطوفٌ على ما دل عليه معنى { أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ } الخ كأنه قيل يغفُلون عن الهداية ونطبَع الخ ولا ضيرَ في اختلافهما صيغةً لما أن صيغةَ المستقبلِ هناك للدِلالة على الاستمرار المناسبِ لمقام الدعاءِ ، وصيغةَ الماضي هاهنا للإيذان بتحقيق الاستجابةِ وتقرّرِها كما لا ضير في الاختلاف بين قوله تعالى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } وبين ما عُطف عليه من قوله تعالى : { فاستجاب لَكُمْ } كما سيأتي ، ويجوز أن يكون معطوفاً على مضمَرٍ ينساق إليه الذهنُ ، أي دَعَوا بهذه الأدعيةِ فاستجاب الخ وأما على تقدير كونِ المقدرِ حالاً فهو عطفٌ على يتفكرون باعتبار مقارنتِه لما وقع حالاً من فاعله ، أعني قوله تعالى ربنا ربنا الخ فإن الاستجابةَ مترتبةٌ على دَعَواتهم لا على مجرد تفكّرِهم ، وحيث كانت هي من أوصافهم الجميلةِ المترتبةِ على أعمالهم بالآخرة استحقت الانتظامَ في سلك محاسِنهم المعدودةِ في أثناء مدحِهم ، وأما على تقدير كونِ الموصولِ نعتاً لأولي الألبابِ فلا مَساغَ لهذا العطفِ أصلاً لما عرفتَ من أن حقَّ ما في حيِّز الصلةِ أن يكون من مبادي جَرَيانِ الحُكمِ على الموصول ، وقد عرفت أن دَعَواتِهم السابقةَ ليست كذلك ، فأين الاستجابةُ المتأخرةُ عنها؟ وفي التعرض لعنوان الربوبيةِ المنبئةِ عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافةِ إلى ضميرهم من تشريفهم وإظهارِ اللطفِ بهم ما لا يخفى .
{ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ } أي بأني ، وهكذا قرأ أُبيٌّ رضي الله عنه ، والباءُ للسببية كأنه قيل فاستجاب لهم ربُّهم بسبب أنه لا يُضيع عملَ عامل منهم أي سُنّتُه السنيةُ مستمرَّةٌ على ذلك ، والالتفاتُ إلى التكلم ، والخطابُ لإظهار كمالِ الاعتناءِ بشأن الاستجابةِ وتشريفِ الداعين بشرف الخطاب ، والمرادُ تأكيدُها ببيان سببها والإشعارُ بأن مدارَها أعمالهم التي قدموها على الدعاء لا مجردُ الدعاءِ . وتعميمُ الوعدِ لسائر العاملين وإن لم يبلُغوا درجةَ أولي الألبابِ لتأكيد استجابةِ الدعواتِ المذكورةِ ، والتعبيرُ عن ترْك الإثابةِ بالإضاعة مع أنه ليس بإضاعة حقيقةٍ إذ الأعمالُ غيرُ موجبةٍ للثواب حتى يلزَمَ من تخلّفه عنها ضياعُها لبيان كمالِ نزاهتِه تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدورُه عنه من القبائح ، وإبرازِ الإثابةِ في معرض الأمورِ الواجبةِ عليه .
وقرىء بكسر الهمزةِ على إرادة القولِ أي قائلاً إني الخ فلا التفاتَ حينئذٍ وقرىء لا أُضيِّع بالتشديد ، ومِنْ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لعامل ، أي عاملٍ كائنٍ منكم ، وقولُه تعالى : { مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } بيانٌ لعامل وتأكيدٌ لعمومه ، وقوله تعالى : { بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ } جملةٌ معترضةٌ مبينةٌ لسبب انتظامِ النساءِ في سلك الرجالِ في الوعد ، فإن كونَ كلَ منهما من الآخَر لتشعُّبهما من أصل واحدٍ أو لفرط الاتصالِ بينهما أو لاتفاقهما في الدين والعملِ بما يستدعي الشركةَ والاتحادَ في ذلك .(2/22)
روي أن أمَّ سلمةَ رضي الله عنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أسمعُ اللَّهَ تعالى يذكرُ الرجالَ في الهجرة ولا يذكرُ النساءَ فنزلت .
وقوله تعالى : { فالذين هاجروا } ضربُ تفصيلٍ لما أُجمل في العمل وتعدادٌ لبعض أحاسنِ أفرادِه على وجه المدحِ والتعظيمِ ، أي فالذين هجَروا الشركَ أو الأوطانَ والعشائرَ للدين ، وقوله تعالى : { وَأُخْرِجُواْ مِن ديارهم } على الأول عبارةٌ عن نفس الهجرةِ وعلى الثاني عن كيفيتها وكونِها بالقسر والاضطرار { وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى } أي بسبب اللَّهِ ومن أجله ، وهو متناولٌ لكل أذيةٍ نالتهم من قِبَل المشركين { وَقَاتِلُواْ } أي الكفارَ في سبيل اللَّهِ تعالى { وَقُتّلُواْ } استُشهدوا في القتال ، وقرىء بالعكس لما أن الواوَ لا تستدعي الترتيبَ أو لأن المرادَ قتلُ بعضِهم وقتالُ آخَرين ، إذ ليس المعنى على اتصاف كلِّ فردٍ من أفراد الموصولِ المذكورِ بكل واحدٍ مما ذكر في حيز الصلةِ بل على اتصاف الكلِّ بالكل في الجملة ، سواءً كان ذلك باتصاف كلِّ فردٍ من الموصول بواحد من الأوصاف المذكورةِ أو بإثنين منها أو بأكثرَ ، إما بطريق التوزيعِ أو بطريق حذفِ بعضِ الموصولاتِ من البعض كما هو رأيُ الكوفيين كيف لا ولو أُدير الحُكمُ على اتصاف كلِّ فردٍ بالكل لكان قد أُضيع عملُ من اتصف بالبعض ، وقرىء وقتِّلوا بالتشديد .
{ لاكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سيئاتهم } جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي واللَّهِ لأكفِّرن ، والجملةُ القسميةُ خبرٌ للمبتدأ الذي هو الموصولُ ، وهذا تصريحٌ بوعد ما سأله الداعون بخصوصه بعد ما وَعَد ذلك عموماً وقوله تعالى : { وَلاَدْخِلَنَّهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار } إشارة إلى ما عبَّر عنه الداعون فيما قبلُ بقولهم وآتنا ما وعدتنا على رسلك وتفسيرٌ له { ثَوَاباً } مصدرٌ مؤكِّدٌ لما قبله ، فإن تكفيرَ السيئاتِ وإدخالَ الجنَّةِ في معنى الإثابة ، وقوله تعالى : { مِنْ عِندِ الله } متعلق بمحذوف هو صفةٌ له مبينةٌ لشرفه أي لأُثيبنَّهم إثابةً كائنةً أو تثويباً كائناً من عنده تعالى بالغاً إلى المرتبة العاليةِ من الشرف ، وقوله تعالى : { والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب } اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله ، والاسمُ الجليلُ مبتدأٌ خبرُه عنده ، وحسنُ الثوابِ مرتفعٌ بالظرف على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ ، أو هو مبتدأٌ ثانٍ والظرفُ خبرُه والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأولِ ، والعنديةُ عبارةٌ عن الاختصاص به تعالى مثلُ كونِه بقدرته تعالى وفضلِه بحيث لا يقدِرُ عليه غيرُه بحال شيءٍ يكون بحضرة أحدٍ لا يدَ عليه لغيره ، فالاختصاصُ مستفادٌ من التمثيل سواءٌ جُعل عنده خبراً مقدماً لحسن الثوابِ أو لا ، وفي تصدير الوعدِ الكريمِ بعدم إضاعةِ العملِ ثم تعقيبه بمثل هذا الإحسانِ الذي لا يُقدَّر قدرُه من لُطف المسلكِ المُنبىءِ عن عظم شأنِ المحسِنِ ما لا يخفى .(2/23)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
{ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِى البلاد } بيانٌ لقبح ما أوتي الكفرةُ من حظوظ الدنيا وكشفٌ عن حقارة شأنِها وسوءِ مَغَبَّتِها إثرَ بيانِ حُسنِ ما أوتيَ المؤمنون من الثواب ، والخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم على أن المرادَ تثبيتهُ على ما هو عليه كقوله تعالى : { فَلاَ تُطِعِ المكذبين } أو على أن المرادَ نهيُ المؤمنين كما يُوجَّهُ الخطابُ إلى مَدارِهِ القومِ ورؤسائِهِم ، والمرادُ أفناؤهم ، ولكل أحد ممن يصلُح للخطاب من المؤمنين والنهيُ للمخاطب ، وإنما جُعل للتقلب مبالغةً أي لا تنظُر إلى ما عليه الكفرةُ من السعة ووفورِ الحظِّ ولا تغترَّ بظاهر ما ترى منهم من التبسّط في المكاسب والمتاجرِ والمزارع . روي أن بعضَ المؤمنين كانوا يرَوْن المشركين في رخاء ولين عيشٍ فيقولون إن أعداءَ اللَّهِ تعالى فيما نرى من الخير وقد هلَكْنا من الجوع والجهد فنزلت . وقرىء لا يغُرَّنك بالنون الخفيفة { متاع قَلِيلٌ } خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي هو متاعٌ قليلٌ لا قدرَ له في جنب ما ذُكر من ثواب اللَّهِ تعالى قال عليه السلام : « ما الدنيا في الآخرة إلا مثلُ ما يجعل أحدُكم أصبَعَه في اليمّ فلينظُر بم يرجِعُ » فإذن لا يُجدي وجودُه لواجديه ولا يضُرُّ فقدانُه لفاقديه { ثُمَّ مَأْوَاهُمْ } أي مصيرُهم الذي يأوون إليه لا يبرَحونه { جَهَنَّمُ } التي لا يوصف عذابُها وقوله تعالى : { وَبِئْسَ المهاد } ذمٌّ لها وإيذانٌ بأن مصيرَهم إليها مما جنته أنفسُهم وكسبتْه أيديهم ، والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي بئس ما مَهدوا لأنفسهم جهنَّمُ { لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا } بيانٌ لكمال حسنِ حالِ المؤمنين غِبَّ بيانٍ وتكريرٌ له إثرَ تقرير مع زيادة خلودِهم في الجنَّاتِ ليتم بذلك سرورُهم ويزدادَ تبجُّحُهم ، ويتكاملَ به سوءُ حالِ الكفرةِ .
وإيرادُ التقوى في حيز الصلةِ للإشعار بكون الخصالِ المذكورةِ من باب التقوى ، والمرادُ به الاتقاءُ من الشرك والمعاصي ، فالموصولُ مبتدأ والظرفُ خبرُه وجناتٌ مرتفعٌ به على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ ، أو الظرفُ خبرٌ لجناتٌ والجملةُ خبرٌ للموصول ، وخالدين فيها أي في الجنات حالٌ مقدرةٌ من الضمير أو من جناتٌ لتخصّصها بالوصف ، والعاملُ ما في الظرف من معنى الاستقرارِ { نُزُلاٍ مّنْ عِندِ الله } وقرىء بسكون الزاي وهو ما يُعدّ للنازل من طعام وشرابٍ وغيرِهما قال أبو الشعر الضبي :
وكنا إذا الجبارُ بالجيش ضافنا ... جعلنا القَنا والمرهفاتِ له نُزْلا
وانتصابُه على الحالية من جناتٌ لتخصصها بالوصف ، والعاملُ فيه ما في الظرف من معنى الاستقرارِ ، وقيل هو مصدرٌ مؤكدٌ كأنه قيل رِزقاً أو عطاءً من عند الله { وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ } مبتدأ وخبرٌ وقوله تعالى : { لّلابْرَارِ } متعلقٌ بمحذوف هو صفةٌ لخيرٌ أي ما عنده تعالى من الأمور المذكورةِ الدائمةِ خيرٌ كائنٌ للأبرار ، أي مما يتقلب فيه الفجارُ من المتاع القليلِ الزائلِ ، والتعبيرُ عنهم بالأبرار للإشعار بأن الصفاتِ المعدودَة من أعمال البرِّ كما أنها من قبيل التقوى ، والجملةُ تذييل لما قبلها .(2/24)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله } جملةٌ مستأنفةٌ سيقت لبيان أن أهلَ الكتابِ ليس كلُّهم كمن حُكِيت هَناتُهم من نبذ الميثاقِ وتحريفِ الكتابِ وغير ذلك ، بل منهم من له مناقبُ جليلةٌ . قيل هم عبدُ اللَّهِ بنُ سلامٍ وأصحابُه وقيل هم أربعون من أهل نجرانَ واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانيةٌ من الروم كانوا نصارى فأسلموا ، وقيل المرادُ به أصحْمةُ النجاشيُّ فإنه لما مات نعاه جبريلُ إلى النبي عليه فقال عليه السلام : « أخرُجوا فصلُّوا على أخٍ لكم ماتَ بغير أرضكم » ، فخرج إلى البقيع فنظر إلى أرض الحبشةِ فأبصر سريرَ النجاشيِّ وصلى عليه واستغفر له ، فقال المنافقون انظُروا إلى هذا يصلي على عِلْج نصراني لم يرَه قطُّ وليس على دينه ، فنزلت . وإنما دخلت لامُ الابتداءِ على اسم إنّ لفصل الظرفِ بينهما كما في قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ } { وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ } من القرآن { وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ } من الكتابَين ، وتأخيرُ إيمانِهم بهما عن إيمانهم بالقرآن في الذكر مع أن الأمرَ بالعكس في الوجود لما أنه عيارٌ ومهيمِن عليهما ، فإن إيمانَهم بهما إنما يُعتبر بتبعية إيمانِهم به إذ لا عبرةَ بأحكامهما المنسوخةِ ، وما لم يُنسَخْ منها إنما يعتبر من حيث ثبوتُه بالقرآن ، ولتعلّق ما بعده بهما ، والمرادُ بإيمانهم بهما إيمانُهم بهما من غير تحريفٍ ولا كَتْمٍ كما هو دَيدَنُ المحرِّفين وأتباعِهم من العامة { خاشعين للَّهِ } حالٌ من فاعل يؤمن ، والجمعُ باعتبار المعنى { لاَ يَشْتَرُونَ بئايات الله ثَمَناً قَلِيلاً } تصريحٌ بمخالفتهم للمحرِّفين ، والجملةُ حالٌ كما قبله ونظمُها في سلك محاسِنهم ليس من حيث عدمُ الاشتراءِ فقط بل لتضمُّن ذلك لإظهار ما في الكتابَيْن من شواهدِ نبوته عليه السلام { أولئك } إشارةٌ إليهم من حيث اتصافُهم بما عُدّ من صفاتهم الحميدةِ ، وما فيه من معنى البعد للدَلالة على رتبتهم وبُعد منزلتِهم في الشرف والفضيلةِ ، وهو مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى : { لَهُمْ } وقوله { أَجْرَهُمْ } أي المختصُّ بهم الموعودُ لهم بقوله تعالى : { أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } وقولهِ تعالى : { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } مرتفعٌ بالظرف على الفاعلية أو على الابتداء ، والظرفُ خبره والجملةُ خبرٌ لأولئك ، وقوله تعالى : { عِندَ رَبّهِمْ } نُصب على الحالية من ( أجرُهم ) والمرادُ به التشريفُ كالصفة .
{ إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } لنفوذ علمِه بجميع الأشياءِ فهو عالمٌ بما يستحقه كلُّ عاملٍ من الأجر من غير حاجةٍ إلى تأمل ، والمرادُ بيانُ سرعةِ وصولِ الأجر الموعودِ إليهم .
{ يا أيُّهَا الذين آمَنُوا } إثرَ ما بيّن في تضاعيف السورةِ الكريمةِ فنونَ الحُكم والأحكامِ خُتمت بما يوجب المحافظة عليها فقيل { اصبروا } أي على مشاقِّ الطاعاتِ وغيرِ ذلك من المكاره والشدائدِ { وَصَابِرُواْ } أي غالبوا أعداءَ اللَّهِ تعالى بالصبر في مواطن الحروبِ ، وأعدى عدوِّكم بالصبر على مخالفة الهوى ، وتخصيصُ المصابرةِ بالأمر بعد الأمرِ بمطلق الصبرِ لكونها أشدَّ منه وأشقَّ { وَرَابِطُواْ } أي أقيموا في الثغور رابطين خيلَكم فيها مترصِّدين للغزو مستعدّين له قال تعالى :(2/25)
{ وَمِن رّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « مَنْ رابط يوماً وليلةً في سبيل اللَّهِ كان كعَدْل صيامِ شهرِ رمضانَ وقيامه لا يُفطِرُ ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة » { واتقوا الله } في مخالفة أمرِه على الإطلاق فيندرجُ فيه ما ذكر في تضاعيف السورةِ الكريمةِ اندراجاً أولياً { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } كي تنتظِموا في زُمرة المفلحين الفائزين بكل مطلوبٍ الناجين من كل الكروب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : { من قرأ سورةَ آلِ عِمرانَ أعطيَ بكل آيةٍ منها أماناً على جسر جهنَّم } وعنه صلى الله عليه وسلم : « من قرأ السورةَ التي يُذكر فيها آلُ عمرانَ يوم الجمعةِ صلى الله عليه وملائكتُه حتى تُحجَبَ الشَّمسُ » والله أعلم .(2/26)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
سورة النساء مدنية وهي مائة وست وسبعون آية
{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم }
{ يا أَيُّهَا الناس } خطابٌ يعمُّ حكمُه جميعَ المكلفين عند النزولِ ومَنْ سينتظِمُ في سلكهم من الموجودين حينئذٍ والحادثين بعد ذلك إلى يوم القيامةِ عند انتظامِهم فيه لكنْ لا بطريق الحقيقةِ فإن خطابَ المشافهةِ لا يتناول القاصرين عن درجة التكليفِ إلا عند الحنابلةِ بل إما بطريق تغليبِ الفريقِ الأولِ على الأخيرين وإما بطريق تعميمِ حُكمِه لهما بدليل خارجيَ فإن الإجماعَ منعقدٌ على أن آخِرَ الأمةِ مكلفٌ بما كُلّف به أولُها كما ينبىء عنه قولُه عليه السلام : « الحلالُ ما جرى على لساني إلى يوم القيامةِ والحرامُ ما جرى على لساني إلى يوم القيامة » وقد فُصل في موضعه وأما الأممُ الدارجةُ قبل النزولِ فلا حظَّ لهم في الخطاب لاختصاص الأوامرِ والنواهي بمن يُتصوَّر منه الامتثالُ ، وأما اندراجُهم في خطاب ما عداهما مما له دخلٌ في تأكيد التكليفِ وتقويةِ الإيجابِ فستعرِفُ حالَه ، ولفظُ النَّاسِ ينتظمُ الذكورَ والإناثَ حقيقةً ، وأما صيغةُ جمعِ المذكرِ في قوله تعالى : { اتقوا رَبَّكُمُ } فواردةٌ على طريقة التغليب لعدم تناولِها حقيقةً للإناث عند غيرِ الحنابلة ، وأما إدخالهن في الأمر بالتقوى بما ذُكر من الدليل الخارجيِّ وإن كان فيه مراعاةُ جانبِ الصيغةِ لكنه يستدعي تخصيصَ لفظِ النَّاسِ ببعض أفرادِه . والمأمورُ به إما مطلقُ التقوى التي هي التجنبُ عن كل ما يؤثِمُ من فعلٍ أو تركٍ وإما التقوى فيما يتعلق بحقوق أبناءِ الجنسِ أي اتقوه في مخالفة أوامره ونواهيه على الإطلاق أو في مخالفة تكاليفه الواردةِ هاهنا .
وأيًّا ما كان فالتعرضُ لعنوان الربوبيةِ المنبئةِ عن المالكية والتربيةِ مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأييد الأمرِ وتأكيدِ إيجابِ الامتثالِ به على طريقة الترغيبِ والترهيبِ ، وكذا وصفُ الرب بقوله تعالى : { الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة } فإن خلْقَه تعالى إياهم على هذا النمطِ البديعِ لإنبائه عن قدرة شاملةٍ لجميع المقدوراتِ التي من جُملتها عقابُهم على معاصيهم وعن نعمة كاملةٍ لأقدارها من أقوى الدواعي إلى الاتقاء من موجبات نقمتهِ وأتمِّ الزواجرِ عن كُفران نعمته ، وكذا جعلُه تعالى إياهم صِنواناً مُفرَّعةً من أرومةٍ واحدة هي نفسُ آدمَ عليه السلام من موجبات الاحترازِ عن الإخلال بمراعاة ما بينهم من حقوق الأخوةِ . وتعميمُ الخطابِ في ربّكم وخلقَكم للأمم السالفة أيضاً مع اختصاصه فيما قبلُ بالمأمورين بناءً على أن تذكيرَ شمولِ ربوبيته تعالى وخلقِه للكل من مؤكِّدات الأمرِ بالتقوى وموجباتِ الامتثالِ به تفكيك للنظم الكريمِ مع الاستغناء عنه ، لأن خلقَه تعالى للمأمورين من نفس آدم عليه السلام حيث كان بواسطة ما بينهم وبينه عليه السلام من الآباء والأمهاتِ كان التعرّضُ لخلقهم متضمِّناً للتعرّض لخلق الوسايطِ جميعاً ، وكذا التعرضُ لربوبيته تعالى لهم متضمِّنٌ للتعرض لربوبيته تعالى لأصولهم قاطبةً لا سيما وقد نطقَ بذلك قوله عز وجل : { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } فإنه مع ما عُطف عليه صريحٌ في ذلك وهو معطوفٌ إما على مقدر ينبىءُ عنه سَوقُ الكلامِ لأن تفريغَ الفروعِ من أصل واحد يستدعي إنشاءَ ذلك الأصلِ لا محالة ، كأنه قيل خلقكم من نفس واحدةٍ خلقها أولاً وخلق منها زوجَها إلخ وهو استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير وَحدةِ المبدأ وبيانِ كيفيةِ خلْقِهم منه وتفصيلِ ما أُجمل أولاً ، أو صفةٌ لنفسٍ مفيدةٌ لذلك ، وإما على خلقَكم داخلٌ معه في حيز الصلةِ مقررٌ ومبينٌ لما ذكر ، وإعادةُ الفعلِ مع جواز عطفِ مفعوله على مفعول الفعلِ الأول كما في قوله تعالى : { ياأيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ } الخ لإظهار ما بين الخلقين من التفاوت ، فإن الأولَ بطريق التفريعِ من الأصل والثاني بطريق الإنشاءِ من المادة ، فإنه تعالى خلقَ حواءَ من ضِلْعِ آدمَ عليه السلام .(2/27)
روي أنه عز وجل لما خلقه عليه السلام وأسكنه الجنة ألقى عليه النومَ فبينما هو بين النائمِ واليقظانِ خَلَق حواءَ من ضِلْع من أضلاعه اليسرى فلما انتبه وجدها عنده ، وتأخيرُ ذكرِ خلقِها عن ذكر خلقِهم لما أن تذكيرَ خلقهم أدخلُ في تحقيق ما هو المقصودُ من حملهم على الامتثال بالأمر بالتقوى من تذكير خلقها ، وتقديمُ الجار والمجرور للاعتناء ببيان مبدئيتهِ عليه السلام لها مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر كما مر مراراً ، وإيرادُها بعنوان الزوجيةِ تمهيدٌ لما بعده من التناسل .
{ وَبَثَّ مِنْهُمَا } أي نشرَ من تلك النفس وزوجها المخلوقةِ منها بطريقِ التوالدِ والتناسلِ { رِجَالاً كَثِيراً } نعتٌ لرجالاً مؤكّدٌ لما أفادَهُ التنكيرُ من الكثرةِ والإفرادِ باعتبار معنى الجمع أو العددِ وقيلَ هو نعتٌ لمصدرٍ مؤكدٍ للفعل أي بثاً كثيراً { وَنِسَاء } أي كثيرة ، وتركُ التصريحِ بها للاكتفاء بالوصف المذكورِ ، وإيثارُهما على ذكوراً وإناثاً لتأكيد الكثرةِ والمبالغةِ فيها بترشيح كلِّ فردٍ من الأفراد المبثوثةِ لمبدئيّة غيره ، وقرىء وخالقٌ وباثٌّ على حذف المبتدأ أي وهو خالقٌ وباث { واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ } تكريرٌ للأمر وتذكيرٌ ببعض آخَرَ من موجبات الامتثالِ به فإن سؤالَ بعضِهم بعضاً بالله تعالى بأن يقولوا أسألُك بالله وأنشُدك اللَّهَ على سبيل الاستعطافِ يقتضي الاتقاءَ من مخالفة أوامرِه ونواهيه ، وتعليقُ الاتقاءِ بالاسمِ الجليلِ لمزيد التأكيدِ والمبالغةِ في الحمل على الامتثال بتربية المهابةِ وإدخالِ الروعةِ ، ولوقوع التساؤل به لا بغيره من أسمائه تعالى وصفاته وتساءلون أصلُه تتساءلون فطُرحت إحدى التاءين تخفيفاً ، وقرىء بإدغام تاءِ التفاعلِ في السين لتقاربهما في الهمس وقرىء تَسْألون من الثلاثي أي تسألون به غيرَكم ، وقد فسِّر به القراءةُ الأولى والثانية ، وحملُ صيغةِ التفاعلِ على اعتبار الجمعِ كما في قولك رأيت الهلال وتراءياه وبه فسر عم يتساءلون على وجه وقرىء تَسَلون بنقل حركةِ الهمزةِ إلى السين .(2/28)
{ والارحام } بالنصب عطفاً على محل الجارِّ والمجرور كقولك مررتُ بزيد وعمراً وينصره قراءةُ تساءلون به وبالأرحام فإنهم كانوا يقرُنونها في السؤال والمناشدةِ بالله عز وجل ، ويقولون أسألك بالله وبالرَّحمِ ، أو عطفاً على الاسم الجليلِ أي اتقوا اللَّهَ والأرحامَ وصِلوها ولا تقطعوها فإن قطعيتها مما يجب أن يُتقّى وهو قولُ مجاهدٍ وقتادة والسدي والضحاك والفراءِ والزجاج ، وقد جَوّز الواحديُ نصبَه على الإغراء أي والزَموا الأرحامَ وصِلوها وقرىء بالجر عطفاً على الضمير المجرورِ وبالرفع على أنه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ تقديره : والأرحامُ كذلك أي مما يُتقى أو يُتساءلُ به ، وقد نبه سبحانه وتعالى حيث قرنها باسمه الجليلِ على أن صلتَها بمكان منه كما في قوله تعالى : { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه وبالوالدين إحسانا } وعنه عليه السلام : « الرحِمُ معلقةٌ بالعرش تقول : مَنْ وَصَلني وصله اللَّهُ ومَنْ قَطَعني قَطَعَهُ اللَّه » { إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } أي مراقباً ، وهي صيغةٌ من رقَب يرقُب رَقْباً ورُقوباً ورُقباناً إذا أحدّ النظرَ لأمر يريد تحقيقَه ، أي حافظاً مطلعاً على جميع ما يصدُر عنك من الأفعال والأقوالِ وعلى ما في ضمائركم من النيات مُريداً لمجازاتكم بذلك ، وهو تعليلٌ للأمر ووجوبِ الامتثالِ به ، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتأكيده وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ لرعاية الفواصل .(2/29)
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
{ وَءاتُواْ اليتامى أموالهم } شروعٌ في تفصيل مواردِ الاتقاءِ ومظانّةِ بتكليف ما يقابلها أمراً ونهياً عَقيبَ الأمرِ بنفسِه مرة بعد أخرى ، وتقديمُ ما يتعلق باليتامى لإظهار كمالِ العنايةِ بأمرهم ولملابستهم بالأرحام إذ الخِطابُ للأولياء والأوصياءِ وقلما تُفوَّض الوصايةُ إلى الأجانب ، واليتيمُ من مات أبوه ، من اليُتم وهو الانفرادُ ومنه الدرةُ اليتيمةُ ، وجمعُه على يتامى إما أنه لما جرى مَجرى الأسماءِ جُمع على يتائِمَ ثم قُلب فقيل : يتامى ، أو لأنه لما كان من وادي الآفاتِ جُمع على يَتْمى ثم جُمع يَتمى على يتامى ، والاشتقاقُ يقتضي صحةَ إطلاقِه على الكبار أيضاً ، واختصاصُه بالصغار مبنيٌّ على العُرف ، وأما قولُه عليه السلام : « لا يُتمَ بعد الحُلُم » ، فتعليمٌ للشريعة لا تعيينٌ لمعنى اللفظِ أي لا يجري على اليتيم بعده حكمُ الأيتام .
والمرادُ بإيتاء أموالِهم قطعُ المخاطَبين أطماعَهم الفارغةَ عنها وكفُّ أكُفِهم الخاطفةِ عن اختزالها ، وتركُها على حالها غيرَ مُتعرَّضٍ لها بسوء حتى تأتيَهم وتصلَ إليهم سالمةً كما ينبىء عنه ما بعده عن النهي عن التبدّل والأكلِ لا الإعطاءِ بالفعل فإنه مشروطٌ بالبلوغ وإيناسِ الرُشدِ على ما ينطِق به قوله تعالى : { حتى إِذَا بَلَغُواْ } الآية ، وإنما عبّر عما ذُكر بالإيتاء مجازاً للإيذان بأنه ينبغي أن يكونَ مرادُهم بذلك إيصالاً إليهم لا مجردَ تركِ التعرّضِ لها ، فالمرادُ بهم إما الصغارُ على ما هو المتبادرُ ، والأمرُ خاصٌّ بمن يتولى أمرَهم من الأولياء والأوصياءِ وشمولُ حكمِه لأولياء مَن كان بالغاً عند نزولِ الآيةِ بطريق الدِلالةِ دون العبارة ، وأما من جرى عليه اليتمُ في الجملة مجازاً أعمُّ من أن يكون كذلك عند النزولِ ، أو بالغاً فالأمرُ شاملٌ لأولياء الفريقين صيغة موجب عليهم ما ذكر من حفظ أموالِهم والتحفظِ عن إضاعتها مطلقاً ، وأما وجوبُ الدفعِ إلى الكبار فمستفادٌ مما سيأتي من الأمر به ، وقيل : المرادُ بهم الصغارُ وبالإيتاء الإعطاءُ في الزمان المستقبلِ ، وقيل : أُطلق اسمُهم على الكبار بطريق الاتساعِ لقرب عهدِهم باليتم حثاً للأولياء على المسارعة إلى دفع أموالِهم إليهم أولَ ما بلغوا قبل أن يزولَ عنهم اسمُهم المعهودُ ، فالإيتاءُ بمعنى الإعطاءِ بالفعل ، ويأباهما ما سيأتي من قوله تعالى : { وابتلوا اليتامى } الخ ، فإن ما فيه من الأمر بالدفع واردٌ على وجه التكليفِ الابتدائيِّ لا على وجه تعيينِ وقتِه أو بيانِ شرطِه فقط كما هو مقتضى القولين ، وأما تعميمُ الاسمِ للصغار والكبارِ مجازاً بطريق التغليبِ مع تعميم الإيتاءِ للإيتاء حالاً وللإيتاء مآلاً وتعميمِ الخطابِ لأولياء كِلا الفريقين على أن مَنْ بلغ منهم فوليُّه مأمورٌ بالدفع إليه بالفعل وأن من لم يبلُغْ بعدُ فوليُّه مأمورٌ بالدفع إليه عند بلوغِه الرشدَ ، فمع ما سبق تكلفٌ لا يخفى ، فالأنسبُ ما تقدم من حمل إيتاءِ أموالِهم إليهم على ما يؤدي إليه من ترك التعرضِ لها بسوءٍ كما يلوحُ من التعبير عن الإعطاء بالفعل بالدفع سواءٌ أريد باليتامى الصغارُ أو ما يعمُّ الصغارَ والكبارَ حسبما ذُكر آنفاً .(2/30)
وأما ما روي من أن رجلاً من غطَفان كان معه مال كثيرٌ لابن أخٍ له فلما بلغ طلب منه مالَه فمنعه فنزلت فلما سمِعها قال : أطعنا الله وأطعنا الرسولَ نعوذ بالله من الحُوب الكبير ، فغيرُ قادحٍ في ذلك لما أن العبرةَ بعموم اللفظِ لا بخصوص السببِ . { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب } نهيٌ عن أخذ مالِ اليتيمِ على الوجه المخصوصِ بعد النهي الضِّمني عن أخذه على الإطلاق . وتبدلُ الشيء بالشيء واستبدالُه به أخذُ الأول بدلَ الثاني بعد أن كان حاصلاً له أو في شرف الحصولِ يُستعملان أبداً بإفضائهما إلى الحاصل بأنفسهما وإلى الزائل بالياء كما في قوله تعالى : { وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان } الخ ، وقوله تعالى : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الذى هُوَ أدنى بالذى هُوَ خَيْرٌ } وأما التبديلُ فيستعمل تارة كذلك كما في قوله تعالى : { وبدلناهم بجناتهم جَنَّتَيْنِ } الخ ، وأخرى بالعكس كم في قولك : بدّلت الحلقةَ بالخاتم إذا أذبتَها وجعلتَها خاتماً نص عليه الأزهري ، وتارة أخرى بإفضائه إلى مفعوليه بنفسه كما في قوله تعالى : { يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات } والمرادُ بالخبيث والطيبِ إن كان هو الحرامُ والحلالُ فالمنهيُّ عنه استبدالُ مالِ اليتيمِ بمال أنفسِهم مطلقاً كما قال الفراءُ والزجاجُ ، وقيل : معناه لا تذَروا أموالَكم الحلالَ وتأكُلوا الحرامَ من أموالهم فالمنهيُّ عنه أكلُ مالِه مكانَ مالِهم المحقّقِ أو المقدّرِ ، وقيل : هو اختزالُ مالِه مكان حفظِه ، وأياً ما كان فإنما عبّر عنهما بهما تنفيراً عما أخذوه وترغيباً فيما أُعْطوُه وتصويراً لمعاملتهم بصورة ما لا يصدُر عن العاقل ، وإن كان هو الرديءُ والجيدُ فموردُ النهي ما كانوا عليه من أخذ الجيّدِ من مال اليتيمِ وإعطاءِ الرديءِ من مال أنفسِهم وبه قال سعيدُ بنُ المسيِّب والنخعيُّ والزُّهري والسدي ، وتخصيصُ هذه المعاملةِ بالنهي لخروجها مَخرجَ العادةِ لا لإباحة ما عداها ، وأما التعبيرُ عنها بتبدُّل الخبيثِ بالطيب مع أنها تبديلُه به أو تبدلُ الطيبِ بالخبيث فللإيذان بأن الأولياءَ حقُّهم أن يكونوا في المعاوضات عاملين لليتيم لا لأنفسهم مُراعين لجانبه قاصدين لجلب المجلوبِ إليه مشترىً كان أو ثمناً لا لسَلَب المسلوبِ عنه { وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم } نهيٌ عن منكر آخرَ كانوا يتعاطَوْنه أي لا تأكلوها مضمومةً إلى أموالكم ولا تُسوّوا بينهما وهذا حلالٌ وذاك حرامٌ وقد خُصَّ من ذلك مقدارُ أجرِ المِثلِ عند كونِ الولي فقيراً { إِنَّهُ } أي الأكلُ المفهومُ من النهي { كَانَ حُوباً } أي ذنباً عظيماً ، وقرىء بفتح الحاء وهو مصدرُ حاب حَوْباً وقرىء حاباً وهو أيضاً مصدرٌ كقال قولاً وقالا : { كَبِيراً } مبالغةٌ في بيان عِظَمِ ذنبِ الأكلِ المذكورِ كأنه قيل : من كبار الذنوبِالعظيمةِ لا من أفنائها .(2/31)
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى اليتامى } الإقساطُ العدلُ وقرىء بفتح التاء فقيل : هو مِنْ قَسَط أي جار ولا مزيدةٌ كما في قوله تعالى : { لّئَلاَّ يَعْلَمَ } وقيل : هو بمعنى أقسطَ فإن الزجاجَ حَكى أن قسَط يُستعمل استعمالَ أقسطَ ، والمرادُ بالخوف العلمُ كما في قوله تعالى : { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا } عبّر عنه بذلك إيذاناً بكون المعلومِ مَخوفاً محذوراً لا معناه الحقيقي لأن الذي عُلّق به الجوابُ هو العلمُ بوقوع الجَورِ المَخوفِ لا الخوفُ منه وإلا لم يكنِ الأمرُ شاملاً لمن يُصِرُّ على الجور ولا يخافه ، وهذا شروعٌ في النهي عن منكر آخَرَ كانوا يباشرونه متعلقٌ بأنفس اليتامى أصالةً وبأموالهم تبعاً عَقيبَ النهي عما يتعلق بأموالهم خاصةً ، وتأخيرُه عنه لقلة وقوعِ المنهيِّ عنه بالنسبة إلى الأول ونزولِه منه بمنزلة المركّبِ من الفرد وذلك أنهم كانوا يتزوّجون من تحِلُّ لهم من اليتامى اللاتي يلُونهنّ لكن لا لرغبة فيهن بل في مالهن ويُسيئون في الصحبة والمعاشرةِ ويتربّصون بهن أن يمُتْنَ فيرِثوهن ، وهذا قولُ الحسنِ وقيل : هي اليتيمةُ التي تكونُ في حِجْر وليِّها فيرغب في مالها وجمالِها ويريد أن ينكِحَها بأدنى مِنْ مَهر نسائِها فنُهوا أن ينكِحوهن إلا أن يُقسِطوا لهن في إكمال الصَّداقِ ، وأُمروا أن ينكِحوا ما سواهن من النساء ، وهذا قولُ الزهري روايةً عن عروةَ عن عائشة رضي الله عنها ، وأما اعتبارُ اجتماعِ عددِ كثيرٍ منهن كما أطبق عليه أكثرُ أهلِ التفسيرِ حيث قالوا : كان الرجلُ يجد اليتيمةَ لها مالٌ وجمالٌ ويكون وليَّها فيتزوجها ضَناً بها عن غيره فربما اجتمعت عنده عشرٌ منهن الخ فلا يساعده الأمرُ بنكاح غيرِهن فإن المحذورَ حينئذ يندفع بتقليل عددِهن ، أي وإن خفتم أن لا تعدِلوا في حق اليتامى إذا تزوجتم بهن بإساءة العِشرةِ أو بنقصِ الصَّداق { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ } { مَا } موصولةٌ أو موصوفةٌ ، ما بعدها صلتُها أو صفتُها أُوثِرَت على مَنْ ذهاباً إلى الوصف وإيذاناً بأنه المقصودُ بالذات والغالبُ في الاعتبار لا بناءً على أن الإناثَ من العقلاء يجرين مَجرى غيرِ العقلاءِ لإخلاله بمقام الترغيبِ فيهن ، وقرأ ابنُ أبي عَبْلةَ : من طاب . و { مِنْ } في قوله تعالى : { مّنَ النساء } بيانيةٌ وقيل : تبعيضيةٌ والمرادُ بهن غيرُ اليتامى بشهادة قرينةِ المقامِ أي فانكِحوا مَن استطابَتْهن نفوسُكم من الأجنبيات ، وفي إيثار الأمرِ بنكاحهن على النهي عن نكاح اليتامى مع أنه المقصودُ بالذات مزيدُ لطفٍ في استنزالهم عن ذلك ، فإن النفسَ مجبولةٌ على الحِرص على ما مُنِعت منه كما أن وصفَ النساءِ بالطيب على الوجه الذي أشير إليه فيه مبالغةٌ في الاستمالة إليهن والترغيبِ فيهن ، وكلُّ ذلك للاعتناء بصَرْفهم عن نكاح اليتامى ، وهو السرُّ في توجيه النهي الضمنيِّ إلى النكاح المُتَرقَّبِ مع أن سببَ النزولِ هو النكاحُ المحققُ لما فيه من المسارعة إلى دفع الشرِّ قبل وقوعِه فرب واقعٍ لا يُرفع ، والمبالغةِ في بيان حالِ النكاحِ المحققِ فإن محظوريةَ المترقَّبِ حيث كانت للجَور المترقَّبِ فيه فمحظوريةُ المحقِّقِ مع تحقق الجَوْر فيه أولى ، وقيل : المرادُ بالطيب الحِلُّ أي ما حل لكم شرعاً لأن ما استطابوه شاملٌ للمحرمات ، ولا مخصصَ له بمن عداهن وفيه فِرارٌ من محذور ووقوعٍ فيما هو أفظعُ منه لأن ما حل لهم مُجملٌ ، وقد تقرر أن النصَّ إذا تردد بين الإجمالِ والتخصيصِ يُحمل على الثاني لأن العامَّ المخصوصَ حجةٌ في غير محلّ التخصيصِ والمُجملُ ليس بحجة قبل ورودِ البيانِ أصلاً ، ولئن جُعل قوله تعالى :(2/32)
{ حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ } الخ ، دالاً على التفصيل بناءً على ادعاء تقدّمِه في التنزيل فلْيُجْعل دالاً على التخصيص { مثنى وثلاث وَرُبَاعَ } معدولةٌ عن أعداد مكررةٍ غيرُ منصرفةٍ لما فيها من العدْلين : عدلِها عن صِيَغها وعدلِها عن تكرُّرِها ، وقيل : للعدل والصفةِ ، فإنها بُنيت صفاتٍ وإن لم تكن أصولُها كذلك . وقرىء وثُلَثَ ورُبَعَ على القصر من ثلاثَ ورُباعَ ومحلُّهن النصبُ على أنها حالٌ من فاعل طاب مؤكدةٌ لما أفاده وصفُ الطيّبِ من الترغيب فيهن والاستمالةِ إليهن بتوسيع دائرةِ الإذْنِ ، أي فانكِحوا الطيباتِ لكم معدوداتٍ هذا العددَ ثنتين ثنتين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً حسبما تريدون على معنى أن لكل واحدٍ منهم أن يختار أيَّ عددٍ شاء من الأعداد المذكورةِ لاأن بعضَها لبعض منهم وبعضَها لبعض آخرَ كما في قولك : اقتسِموا هذه البَدْرةَ درهمينِ درهمينِ وثلاثةً ثلاثةً وأربعةً أربعة ، ولو أُفردت لفُهم منه تجويزُ الجمعِ بين تلك الأعدادِ دون التوزيعِ ، ولو ذكرت بكلمة أو لفات تجويزُ الاختلافِ في العدد ، هذا وقد قيل في تفسير الآيةِ الكريمةِ لما نزلت الآية في اليتامى وما في أكل أموالِهم من الحُوب الكبيرِ : أخذ الأولياءُ يتحرّجون من ولايتهم خوفاً من لُحوق الحُوب بترك الإقساطِ مع أنهم كانوا لا يتحرّجون من ترك العدلِ في حقوق النساءِ حيث كان تحت الرجلِ منهم عشرٌ منهن فقيل لهم : إن خفتم تركَ العدلِ في حقوق اليتامى فتحرّجتم منها فخافوا أيضاً تركَ العدلِ بين النساءِ فقلِّلوا عددَ المنكوحاتِ لأن من تحرّج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكبٌ مثلَه فهو غيرُ متحرِّجٍ ولا تائبٍ عنه وقيل : كانوا لا يتحرجون من الزنى وهم يتحرّجون من ولاية اليتامى ، فقيل : إن خفتم الجَوْرَ في حق اليتامى فخافوا الزنى فانكِحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حولَ المحرَّماتِ ، ولا يخفى أنه لا يساعدهما جزالةُ النظمِ الكريمِ لبنائهما على تقدّم نزولِ الآيةِ الأولى وشيوعِها بين الناسِ مع ظهور توقفِ حُكمِها على ما بعدها من قوله تعالى : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم }(2/33)
إلى قوله تعالى : { وكفى بالله حَسِيباً } { فَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تَعْدِلُواْ } أي فيما بينهن ولو في أقل الأعدادِ المذكورةِ كما خِفتُموه في حق اليتامى أو كما لم تعدِلوا في حقهن أو كما لم تعدِلوا فيما فوق هذه الأعدادِ { فواحدة } أي فالزَموا أو فاختاروا واحدةً وذروا الجمعَ بالكلية ، وقرىء بالرفع أي فالمُقنِعُ واحدةٌ أو فحسبُكم واحدةٌ { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم } أي من السراري بالغةً ما بلغت من مراتب العددِ وهو عطفٌ على واحدةً على أن اللزومَ والاختيارَ فيه بطريق التسرِّي لا بطريق النكاحِ كما فيما عُطف عليه لاستلزامه ورودَ ملكِ النكاحِ على ملك اليمينِ بموجب اتحادِ المخاطَبين في الموضعين بخلاف ما سيأتي من قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم } فإن المأمورَ بالنكاح هناك غيرُ المخاطَبين بملك اليمين وإنما سُوِّي في السهولة واليُسرِ بين الحرةِ الواحدةِ وبين السراري من غير حصرٍ في عددٍ لقلةِ تَبِعتِهن وخِفةِ مؤنتِهن وعدمِ وجوبِ القَسْمِ بينهن . وقرىء { أَوْ ما مَلَكَتْ أيمانكم } وما في القراءة المشهورةِ للإيذان بقصور رتبتِهن عن رتبة العقلاءِ { ذلك } إشارةٌ إلى اختيار الواحدةِ والتسرّي { أدنى أَن لا تَعُولُواْ } العَول الميلُ من قولهم : عال الميزانُ عَوْلاً إذا مال ، وعال في الحكم أي جار ، والمرادُ هنا الميلُ المحظورُ المقابلُ للعدل أي ما ذُكر من اختيار الواحدةِ والتسرّي أقربُ بالنسبة إلى ما عداهما من أن لا تميلوا ميلاً محظوراً لانتفائه رأساً بانتفاء محلِّه في الأول وانتفاءِ خطرِه في الثاني بخلاف اختيارِ العددِ في المهائر فإن الميلَ المحظورَ متوقَّعٌ فيه لتحقق المحلِّ والخطرِ ، ومن هاهنا تبين أن مدارَ الأمرِ هو عدمُ العولِ لا تحققُ العدلِ كما قيل ، وقد فُسِّر بأن لا يكثُر عيالُكم على أنه من عال الرجلُ عيالَه يعولُهم أي مانَهم ، فعبر عن كثرة العيالِ بكثرة المَؤُونةِ على طريقة الكتابةِ ويؤيده قراءةُ أن تُعيلوا من أعال الرجلُ إذا كثُر عيالُه ، ووجهُ كونِ التسري مَظِنَّةَ قلةِ العِيالِ مع جواز الاستكثارِ من السراري أنه يجوز العزلُ عنهن بغير رضاهن ولا كذلك المهائرُ ، والجملةُ مستأنفةٌ جارية مما قبلها مَجرى التعليلِ .(2/34)
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
{ وَءاتُواْ النساء } أي اللاتي أُمر بنكاحهن { صدقاتهن } جمعُ صَدُقة كسمُرة وهي المَهرُ وقرىء بسكون الدالِ على التخفيف وبضم الصادِ وسكونِ الدال جمعُ صُدْقة كغرفة ، وبضمهما على التوحيد وهو تثقيلُ صُدْقة كظُلُمة في ظُلْمة { نِحْلَةً } قال ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد : فريضةً من الله تعالى لأنها مما فرضه الله في النِحْلة أي المِلةِ والشِرْعة والديانةِ ، فانتصابُها على الحالية من الصَّدُقات أي أعطوهن مهورَهن حالَ كونِها فريضةً منه تعالى ، وقال الزجاجُ : تديُّناً فانتصابُها على أنها مفعولٌ له أي أعطوهن ديانةً وشِرْعيةً ، وقال الكلبي : نحلةً أي هِبةً وعطيةً من الله وتفضّلاً منه عليهن فانتصابُه على الحالية منها أيضاً وقيل : عطيةً من جهة الأزواجِ من نَحَله كذا إذا أعطاه إياه ووهبَه له عن طِيبةٍ من نفسه نِحْلةً ونُحْلاً ، والتعبير عن إيتاء المهورِ بالنِّحلة مع كونها واجبةً على الأزواج لإفادة معنى الإيتاءِ عن كمال الرضا وطيبِ الخاطرِ ، وانتصابُها على المصدرية لأن الإيتاءَ والنحلةَ بمعنى الإعطاءِ ، كأنه قيل : وانحَلوا النساءَ صَدُقاتِهن نِحْلةً أي أعطوهن مهورَهن عن طيبةِ أنفسِكم ، أو على الحالية من ضمير { أَتَوْا } أي آتوهن صَدُقاتِهن ناحلين طيِّبي النفوسِ بالإعطاء أو من الصَّدُقات أي منحولةً مُعطاةً عن طيبة الأنفسِ ، فالخطابُ للأزواج وقيل : للأولياء لأنهم كانوا يأخُذون مهورَ بناتِهم وكانوا يقولون : هنيئاً لك النافجةُ ، لِمَن يولدُ له بنتٌ ، يعنون تأخُذ مَهرَها فتنفج به مالَك أي تعظّمه { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ } الضميرُ للصدُقات وتذكيرُه لإجرائه مُجرى ذلك فإنه يشار به إلى المتعدد كما في قوله عز وجل : { قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم } بعد ذكر الشهواتِ المعدودةِ وقد رُوي عن رؤبةَ أنه حين قيل له في قوله :
فيها خطوطٌ من سوادٍ وبَلَق ... كأنه في الجِلْد تَوليعُ البَهَقْ
إن أردت الخطوطَ ينبغي أن تقول : كأنها وإن أردت السوادَ والبلَقَ ينبغي أن تقول : كأنهما ، قال : لكني أردتُ كأن ذلك . أو للصَّداق الواقعِ موقعَه صدُقاتِهن كأنه قيل : وآتوا النساءَ صَداقَهن كما في قوله تعالى : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن } حيث عَطفَ أكنْ على ما دل عليه المذكورُ ووقع موقعَه ، كأنه قيل : إن أخرتني أصَّدقْ وأكنْ ، واللامُ متعلقةٌ بالفعل وكذا عن لكن بتضمينه معنى التجافي والتجاوزِ ، ومن متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لشيء أي كائنٍ من الصَّداق ، وفيه بعثٌ لهن على تقليل الموهوبِ { نَفْساً } تمييزٌ والتوحيدُ لما أن المقصودَ بيانُ الجنسِ أي إن وهَبْن لكم شيئاً من الصَّداق متجافياً عنه نفوسُهن طيباتٍ غيرَ مُخْبثاتٍ بما يَضطرُّهن إلى البذل من شكاسة أخلاقِكم وسوءِ معاشرتِكم لهن ، عَدَل عن لفظ الهبةِ والسماحةِ إلى ما عليه النظمُ الكريمُ إيذاناً بأن العُمدة في الأمر إنما هو طيبُ النفسِ وتجافيها عن الموهوب بالمرة { فَكُلُوهُ } أي فخذوا ذلك الشيءَ الذي طابت به نفوسُهن وتصرفوا فيه تملُّكاً ، وتخصيصُ الأكلِ بالذكر لأنه معظمُ وجوهِ التصرفاتِ المالية { هَنِيئاً مَّرِيئاً } صفتان من هنُؤَ الطعامُ ومرُؤَ إذا كان سائغاً لا تنغيصَ فيه ، وقيل : الهنيءُ الذي يلَذُّه الآكِلُ والمريءُ ما يُحمد عاقبتُه ، وقيل : ما ينساغ في مجراه الذي هو المريءُ وهو ما بين الحُلْقوم إلى فم المعِدةِ سُمِّي بذلك لمروءِ الطعامِ فيه أي انسياغِه ، ونصبُهما على أنهما صفتانِ للمصدر أي أكلاً هنيئاً مريئاً أو على أنهما حالانِ من الضمير المنصوبِ أن كُلوه وهو هنيءٌ مريءٌ وقد يوقف على كلوه ، ويبتدأ هنيئاً مريئاً على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مُقامَ المصدرين ، كأنه قيل : هنْأً ومَرْأً ، وهذه عبارةٌ عن التحليل والمبالغةِ في الإباحة وإزالةِ التبعة .(2/35)
روي أن ناساً كانوا يتأثمون أن يَقْبل أحدُهم من زوجته شيئاً مما ساقه إليها فنزلت .(2/36)
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
{ وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم } رجوعٌ إلى بيان بقيةِ الأحكامِ المتعلقةِ بأموال اليتامى ، وتفصيلُ ما أُجمل فيما سبق من شرط إيتائِها ووقتِه وكيفيتِه إثرَ بيانِ بعضِ الأحكامِ المتعلقةِ بأنفسهن ، أعني نكاحَهن وبيانِ بعضِ الحقوقِ المتعلقةِ بغيرهن من الأجنبيات من حيث النفسُ ومن حيث المالُ استطراداً ، والخطابُ للأولياء ، نُهوا أن يؤتوا المبذرين من اليتامى أموالَهم مخافةَ أن يضيِّعوها وإنما أضيفت إليهم وهي لليتامى لا نظراً إلى كونها تحتَ ولايتِهم كما قيل فإنه غيرُ مصحِّحٍ لاتصافها بالوصف الآتي بل تنزيلاً لاختصاصها بأصحابها منزلةَ اختصاصِها بالأولياء ، فكأن أموالَهم عينُ أموالِهم لما بينهم وبينهم من الاتحاد الجنسيِّ والنَّسَبي مبالغةً في حملهم على المحافظة عليها كما في قوله تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } أي لا يقتُلْ بعضُكم بعضاً حيث عبّر عن بني نوعِهم بأنفسهم مبالغةً في زجرهم عن قتلهم فكأن قتلَهم قتلُ أنفسِهم ، وقد أيد ذلك حيث عبّر عن جعلها مناطاً لمعاشِ الأولياء فقيل : { التى جَعَلَ الله لَكُمْ قياما } أي جعلها الله شيئاً تقومون به وتنتعشون على حذف الأولِ ، فلو ضيَّعتُموه لضِعْتم ثم زيد في المبالغة حتى جُعل ما به القيامُ قياماً فكأنها في أنفسها قيامُكم وانتعاشُكم ، وقيل : إنما أضيفت إلى الأولياء لأنها من جنس ما يقيم به الناسُ معايشَهم حيث لم يُقصَدْ بها الخصوصيةُ الشخصيةُ بل الجنسيةُ التي هي معنى ما يقام به المعاشُ وتميل إليه القلوبُ ويُدّخر لأوقات الاحتياج ، وهي بهذا الاعتبارِ لا تختص باليتامى ، وأنت خبيرٌ بأن ذلك بمعزل من حمل الأولياءِ على المحافظة المذكورةِ كيف لا والوحدةُ الجنسيةُ الماليةُ ليست مختصّةً بما بين أموال اليتامى وأموالِ الأولياءِ بل هي متحققةٌ بين أموالِهم وأموالِ الأجانبِ ، فإذن لا وجهَ لاعتبارها أصلاً وقرىء اللاتي واللواتي وقرىء قَيْماً بمعنى قياماً كما جاء عَوْذاً بمعنى عِياذاً وقرىء قِواماً بكسر القاف وهو ما يقام به الشيءُ ، أو مصدرُ قاوم وقرىء بفتحها { وارزقوهم فِيهَا واكسوهم } أي واجعلوها مكاناً لرزقهم وكسوتِهم بأن تتّجروا وتربحوا حتى تكون نفقاتُهم من الأرباح لا من صُلْب المالِ ، وقيل : الخطابُ لكل أحدٍ كائناً مَنْ كان ، والمرادُ نهيُه عن أن يفوِّض أمرَ مالِه إلى من لا رُشدَ له من نسائه وأولادِه ووكلائِه وغير ذلك ، ولا يخفى أن ذلك مُخِلٌّ بجزالة النظمِ الكريم { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } أي كلاماً ليناً تطيب به نفوسُهم ، وعن سعيد بن جبير ومجاهد وابن جريج : عِدوْهم عِدةً جميلةً بأن تقولوا إذا صلَحتم ورشَدتم سلَّمْنا إليكم أموالَكم ، وكلُّ ما سكَنت إليه النفسُ لحسنه شرعاً أو عقلاً من قول أو عمل فهو معروفٌ وما أنكَرَتْه لقُبحه شرعاً أو عقلاً فهو منكر .(2/37)
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
{ وابتلوا اليتامى } شروعٌ في تعيين وقتِ تسليمِ أموالِ اليتامى إليهم وبيانِ شرطِه بعد الأمرِ بإيتائها على الإطلاق والنهيِ عنه عند كونِ أصحابِها سفهاءَ ، أي واختبروا من ليس منهم بيِّن السَّفَهِ قبل البلوغِ بتتبُّع أحوالِهم في صلاح الدينِ والاهتداءِ إلى ضبط المالِ وحسنِ التصرفِ فيه ، وجرِّبوهم بما يليق بحالهم فإن كانوا من أهل التجارةِ فبأن تعطوهم من المال ما يتصرفون فيه بيعاً وشراءً وإن كانوا ممن له ضِياعٌ وأهلٌ وخدَمٌ فبأن تعطوهم منه ما يصرفونه إلى نفقة عبيدِهم وخدمِهم وأُجَرائِهم وسائرِ مصارفِهم حتى تتبين لكم كيفيةُ أحوالِهم { حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ } بأن يحتلموا لأنهم يصلُحون حينئذ للنكاح { وابتلوا اليتامى } أي شاهدتم وتبينتم وقرىء أحَسْتم بمعنى أحسستم كما في قول من قال :
خلا أن العتاقَ من المطايا ... أحَسْنَ به وهنّ إليه شوُسُ
{ مّنْهُمْ رُشْداً } أي اهتداءً إلى وجوه التصرفاتِ من غير عجز وتبذيرٍ ، وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعول للاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ، أو للاعتداد بمبدئيته له . والتنوينُ للدِلالة على كفاية رُشدٍ في الجملة وقرىء بفتح الراء والشين وبضمهما { فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم } من غير تأخيرٍ عن حد البلوغِ ، وفي إيثار الدفعِ على الإيتاء الواردِ في أول الأمرِ إيذانٌ بتفاوتهما بحسب المعنى كما أشير إليه فيما سلف ، ونظم الآية الكريمة أن حتى هي التي تقع بعدها الجملُ كالتي في قوله :
فما زالت القتلى تمُجُّ دماءَها ... بدِجلةَ حتى ماءُ دِجلةَ أشكلُ
وما بعدها جملةٌ شرطيةٌ جُعلت غايةً للابتلاء ، وفعلُ الشرطِ { بَلَغُواْ } وجوابُه الشرطيةُ الثانيةُ كأنه قيل : وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغِهم واستحقاقِهم دفعَ أموالِهم إليهم بشرط إيناسِ الرُشدِ منهم ، وظاهرُ الآيةِ الكريمةِ أن من بلغ غيرَ رشيدٍ إما بالتبذير أو بالعجز لا يدفع إليه مالُه أبداً وبه أخذ أبو يوسفَ ومحمدٌ ، وقال أبو حنيفة : ينتظر إلى خمس وعشرين سنةً لأن البلوغ بالسن ثماني عشرة سنةً فإذا زادت عليها سبعُ سنين وهي مدةٌ معتبرةٌ في تغير أحوالِ الإنسانِ لما قاله عليه الصلاة والسلام : « مروهم بالصلاة لسبع » دفع إليه مالَه أُونِسَ منه أو لم يُؤْنَس { وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } أي مسرفين ومبادرين كِبرَهم إو لإسرافكم ومبادرتِكم كِبرَهم تفرِّطون في إنفاقها وتقولون : نُنفق كما نشتهي قبل أن يكبَرَ اليتامى فينتزعوها من أيدينا ، والجملة تأكيدٌ للأمر بالدفع وتقريرٌ لها وتمهيدٌ لما بعدها من قوله تعالى : { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ } الخ ، أي من كان من الأولياء والأوصياءِ غنياً فليتنزَّهْ عن أكلها وليقنَعْ بما آتاه الله تعالى من الغنى والرزقِ إشفاقاً على اليتيم وإبقاءً على ماله { وَمَن كَانَ } من الأولياء والأوصياءِ { فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } بقدْر حاجتِه الضروريةِ وأُجرةِ سعيِه وخِدمتِه ، وفي لفظ الاستعفافِ والأكلِ بالمعروف ما يدل على أن للوصيّ حقاً لقيامه عليها .(2/38)
عن النبي عليه الصلاة والسلام أن رجلاً قال له : إن في حِجري يتيماً أفآكلُ من ماله؟ قال : « بالمعروف غيرَ متأثِّلٍ مالاً ولا واقٍ مالَك بماله » وعن ابن عباس رضي الله عنهما إن وليَّ يتيمٍ قال له : أفأشرب من لبن إبلِه؟ قال : « إن كنت تبغي ضالّتَها وتلوطُ حوضَها وتهنأ جَرْباها وتسقيها يوم ورودِها فاشرَبْ غير مُضِرٍ بنسل ولا ناهكٍ في الحلب » وعن محمد بن كعب يتقرَّمُ كما تتقرّم البهيمة ويُنزِل نفسَه منزلةَ الأجيرِ فيما لا بد منه . وعن الشعبي : يأكلُ من ماله بقدر ما يُعين فيه . وعنه : كالميتة يتناول عند الضرورة . وعن مجاهد : يستسلف فإذا أيسرَ أدى . وعن سعيد بن جبير : إن شاء شرِب فضلَ اللبن وركِبَ الظهرَ ولبس ما يستُره من الثياب وأخَذَ القوتَ ولا يجاوزُه فإن أيسر قضاه وإن أعسر فهو في حل . وعن عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه : إني أنزلت نفسي من مال الله تعالى منزلةَ وليَّ اليتيمِ إن استغنيتُ استعففتُ وإن افتقرتُ أكلتُ بالمعروف وإذا أيسرتُ قضيت . واستعفَّ أبلغُ من عفّ كأنه يطلب زيادةَ العفة { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم } بعد ما راعيتم الشرائطَ المذكورةَ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعول الصريحِ للاهتمام به { فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } بأنهم تَسَلَّموها وقبضوها وبرِئَتْ عنها ذممُكم لما أن ذلك أبعدُ من التهمة وأنفى للخصومة وأدخَلُ في الأمانة وبراءةِ الساحةِ وإن لم يكن ذلك واجباً عند أصحابنا ، فإن الوصيَّ مُصدِّقٌ في الدفع مع اليمين خلافاً لمالكٍ والشافعيِّ رحمهما الله { وكفى بالله حَسِيباً } أي محاسباً فلا تُخالفوا ما أمركم به ولا تُجاوزوا ما حَدَّ لكم .(2/39)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)
{ لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والاقربون } شروعٌ في بيان أحكامِ المواريثِ بعد بيانِ أحكامِ أموالِ اليتامى المنتقلةِ إليهم بالإرث ، والمرادُ بالأقربين المتوارثون منهم ، ومِنْ في مما متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لنصيبٌ أي لهم نصيبٌ كائنٌ مما ترَك ، وقد جُوِّز تعلُّقها بنصيب { وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والاقربون } إيرادُ حكمِهن على الاستقلال دون الدرْجِ في تضاعيف أحكامِهم بأن يقالَ للرجال والنساءِ الخ ، للاعتناء بأمرهن والإيذانِ بأصالتهن في استحقاق الإرثِ والإشارةِ من أول الأمرِ إلى تفاوت ما بين نصيبَي الفريقين والمبالغةِ في إبطال حكمِ الجاهليةِ فإنهم لم يكونوا يُورِّثون النساءَ والأطفالَ ويقولون : إنما يرث مَنْ يحارِبُ ويذُبُّ عن الحَوْزة .
روي أن أوسَ بنَ ثابت الأنصاريَّ خلّف زوجتَه أمَّ كجة وثلاثَ بناتٍ فزوى أبناءُ عمِّه سويدٌ وعرفطةُ أو قتادةُ وعَرْفجةُ ميراثَه عنهن على سنة الجاهلية فجاءت أمُّ كجةَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه فقال : « ارجِعي حتى أنظُر ما يُحدِثه الله تعالى » فنزلت ، فأرسل إليهما إن الله قد جعل لهن نصيباً ولم يبيِّنْ فلا تُفرِّقا من مال أوسٍ شيئاً حتى يبين فنزل يوصيكم الله الخ ، فأعطى أمَّ كجةَ الثمنَ والبناتِ الثلثين والباقي لابني العمِّ وهو دليلٌ على جواز تأخيرِ البيانِ عن الخطاب ، وقولُه تعالى : { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ } بدلٌ من { مَا } الأخيرةِ بإعادة الجارِّ وإليها يعود الضميرُ المجرورُ ، وهذا البدلُ مرادٌ في الجملة الأولى أيضاً محذوفٌ للتعويل على المذكور ، وفائدتُه دفعُ توهُّمِ تخصيصِ بعضِ الأموالِ ببعض الورثةِ كالخيل وآلاتِ الحربِ للرجال ، وتحقيقُ أن لكلَ من الفريقين حقاً من كل ما جلّ ودقّ { نَصِيباً مَّفْرُوضاً } نُصب على أنه مصدرٌ مؤكّدٌ كقوله تعالى : { فَرِيضَةً مّنَ الله } كأنه قيل : قسمةً مفروضةً أو على الحالية إذ المعنى ثبَت لهم نصيبٌ كائنٌ مما ترك الوالدان والأقربون حالَ كونِه مفروضاً ، أو على الاختصاص أي أعني نصيباً مقطوعاً مفروضاً واجباً لهم ، وفيه دليلٌ على أن الوارثَ لو أعرض عن نصيبه لم يسقُطْ حقُّه .(2/40)
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
{ وَإِذَا حَضَرَ القسمة } أي قسمةَ التركةِ ، وإنما قُدّمت مع كونها مفعولاً لأنها المبحوثُ عنها ولأن في الفاعل تعدداً فلو رُوعي الترتيبُ يفوتُ تجاوبُ أطرافِ الكلام { أُوْلُواْ القربى } ممن لا يرث { واليتامى والمساكين } من الأجانب { فارزقوهم مّنْهُ } أي أعطوهم شيئاً من المال المقسومِ المدلولِ عليه بالقسمة ، وقيل : الضميرُ لما وهو أمرُ ندبٍ كُلف به البالغون من الورثة تطييباً لقلوب الطوائفِ المذكورةِ وتصدقاً عليهم ، وقيل : أمرُ وجوبٍ ثم اختلف في نَسْخه { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } وهو أن يدعوا لهم ويستقِلّوا ما أعطَوْهم ويعتذروا من ذلك ولا يُمنّوا عليهم { وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضعافا خَافُواْ عَلَيْهِمْ } أمرٌ للأوصياء بأن يخشَوا الله تعالى ويتقوه في أمر اليتامى فيفعلوا بهم ما يُحبون أن يُفعلَ بذراريهم الضعافِ بعد وفاتِهم ، أو لمن حضر المريضَ من العُواد عند الإيصاء بأن يخشَوا ربَّهم أو يخشوا أولادَ المريضِ ويُشفقوا عليهم شفقتَهم على أولادهم فلا يتركوه أن يُضِرَّ بهم بصرف المالِ عنهم ، أو للورثة بالشفقة على من حضَر القسمةَ من ضعفاء الأقاربِ واليتامى والمساكينِ متصوّرين أنهم لو كانوا أولادَهم بقُوا خلفهم ضِعافاً مثلَهم هل يجوّزون حِرمانَهم؟ أو للموصين بأن ينظُروا للورثة فلا يُسرِفوا في الوصية .
و { لَوْ } بما في حيزها صلةٌ للذين على معنى وليخشَ الذين حالُهم وصفتُهم أنهم لو شارفوا أن يخلّفوا ورثةً ضِعافاً خافوا عليهم الضياعَ ، وفي ترتيب الأمرِ عليه إشارةٌ إلى المقصود منه ، والعلةِ فيه وبعثٌ على التراحم وأن يُحب لأولاد غيرِه ما يحب لأولاد نفسِه ، وتهديدٌ للمخالف بحال أولادِه ، وقرىء ضعفاءَ وضعافي وضعافى { فَلْيَتَّقُواّ الله } في ذلك ، والفاءُ لترتيب ما بعدَها على ما قبلَها { وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } أمرهم بالتقوى التي هي غايةُ الخشيةِ بعد ما أمرهم بها مراعاةً للمبدأ والمنتهى إذ لا نفعَ للأول بدون الثاني ، . ثم أمرهم بأن يقولوا لليتامى مثلَ ما يقولون لأولادهم بالشفقة وحُسنِ الأدبِ ، أو للمريض ما يصُده عن الإسراف في الوصية وتضييعِ الورثةِ يذكّره التوبةَ وكلمةَ الشهادةِ أو لحاضري القسمةِ عذراً ووعداً حسناً أو يقولوا في الوصية ما لا يؤدّي إلى تجاوز الثلث .(2/41)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
وقوله تعالى : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً } أي على وجه الظلمِ أو ظالمين ، استئنافٌ جيء به لتقرير مضمونِ ما فُصِّل من الأوامر والنواهي { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ } أي ملءَ بطونِهم { نَارًا } أي ما يُجرُّ إلى النار ويؤدِّي إليها ، وعن أبي برزة أنه صلى الله عليه وسلم قال : « يبعث الله تعالى قوماً من قبورهم تتأجّج أفواهُهم ناراً » فقيل : من هم؟ فقال عليه السلام : « ألم تر أن الله يقول : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً } » { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } أي سيدخُلون ناراً هائلةً مبْهمةَ الوصفِ وقرىء بضم الياء مخففاً ومشدداً من الإصلاء والتصلية ، يقال : صِليَ النار قاسي حرَّها وصلَيتُه وشويتُه وأصليتُه وصلّيتُه ألقيته فيها . والسعير فعيل بمعنى مفعول من سعَرتُ النارَ إذا ألهبتُها . روي أن آكلَ مالِ اليتيم يبعث يوم القيامةِ والدخانُ يخرج من قبره ومِنْ فيه وأنفِه وأُذنيه وعينيه فيعرف الناسُ أنه كان يأكلُ مالَ اليتيمِ في الدنيا . وروي أنه لما نزلت هذه الآيةُ ثقُل ذلك على الناس فاحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية فصعب الأمرُ على اليتامى فنزل قوله تعالى : { وَإِن تُخَالِطُوهُمْ } الأية .
{ يُوصِيكُمُ الله } شروعٌ في تفصيل أحكامِ المواريثِ المُجملةِ في قوله تعالى : { لّلرّجَالِ نَصِيبٌ } الخ ، وأقسامُ الورثةِ ثلاثةٌ : قسمٌ لا يسقُط بحال وهو الآباءُ والأولادُ والأزواج فهؤلاء قسمانِ والثالثُ الكلالة . أي يأمركم ويعهَدُ إليكم { فِى أولادكم } أولاد كلِّ واحدٍ منكم أي في شأن ميراثِهم . بُدىءَ بهم لأنهم أقربُ الورثةِ إلى الميتِ وأكثرُهم بقاءً بعد المورِّث { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الانثيين } جملةٌ مستأنفةٌ جيء بها لتبيين الوصيةِ وتفسيرِها ، وقيل : محلُّها النصبُ بيوصيكم على أن المعنى يفرِض عليكم ويشرَع لكم هذا الحُكمَ ، وهذا قريبٌ مما رآه الفراءُ فإنه يجري ما كان بمعنى القولِ من الأفعال مَجراه في حكاية الجملةِ بعدَه ، ونظيرُه قولُه تعالى : { وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ } الآية ، وقولُه تعالى : { لِلذّكْرِ } لا بد له من ضمير عائدٍ إلى الأولاد محذوفٍ ثقةً بظهوره كما في قولهم : السمنُ مَنَوانِ بدرهم . أي للذكر منهم ، وقيل : الألفُ واللامُ قائمٌ مقامَه ، والأصلُ لذكرهم ، ومِثلُ صفةٌ لموصوف محذوفٍ أي للذكر منهم حظُّ الأنثيين ، والبَداءةُ ببيان حكمِ الذكرِ لإظهار مَزيّتِه على الأنثى ، كما أنها المناطُ في تضعيف حظِّه ، وإيثارُ اسمَي الذكرِ والأنثى على ما ذُكر أولاً من الرجال والنساءِ للتنصيص على استواء الكبارِ والصغارِ من الفريقين في الاستحقاق من غير دخلٍ للبلوغ والكِبَرِ في ذلك أصلاً كما هو زعمُ أهلِ الجاهليةِ حيث كانوا لا يورِّثون الأطفالَ كالنساء . { فَإِن كُنَّ } أي الأولادُ والتأنيثُ باعتبار الخبرِ وهو قوله تعالى : { نِسَاء } أي خُلَّصاً ليس معهن ذكرٌ { فَوْقَ اثنتين } خبرٌ ثانٍ أو صفةٌ لنساءً أي نساءً زائداتٍ على اثنتين { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } أي المتوفى المدلولُ عليه بقرينة المقامِ { وَإِن كَانَتْ } أي المولودةُ { واحدة } أي امرأةً واحدةً ليس معها أخٌ ولا أختٌ .(2/42)
وعدمُ التعرّضِ للموصوف لظهوره مما سبق { فَلَهَا النصف } مما ترك ، وقرىء واحدةٌ على كان التامة .
واختلف في الثنتين فقال ابنُ عباس : حكمُهما حكمُ الواحدةِ لأنه تعالى جعل الثلثين لما فوقهما ، وقال الجمهورُ : حكمُهما حكمُ ما فوقهما لأنه تعالى لما بيّن أن حظَّ الذكرِ مثلُ حظِّ الأنثيين إذا كان معه أنثى وهو الثلثان اقتضى ذلك أن فرضَهما الثلثان ، ثم لما أوهم ذلك أن يُزاد النصيبُ بزيادة العددِ رُدَّ ذلك بقوله تعالى : { فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين } ويؤيد ذلك أن البنتَ الواحدةَ لما استحقَّت الثُلُثَ مع أخيها الأقوى منها في الاستحقاق فلأَنْ تستحِقَّه مع مثلها أولى وأحرى وأن البنتين أمسُّ رَحِماً من الأختين وقد فرض الله لهما الثلثين حيث قال تعالى : { فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ } .
{ وَلأَبَوَيْهِ } أي لأبوي الميت . غُيِّر النظمُ الكريمُ لعدم اختصاصِ حُكمِه بما قبله من الصور { لِكُلّ واحد مّنْهُمَا } بدلٌ منه بتكرير العاملِ ، وُسِّط بين المبتدأ الذي هو قوله تعالى : { السدس } وبين خبرِه الذي هو لأبويه ، ونُقل الخبريةُ إليه تنصيصاً على استحقاق كلَ منهما السدسَ وتأكيداً له بالتفصيل بعد الإجمالِ وقرىء السدْسُ بسكون الدال تخفيفاً ، وكذلك الثلْثُ والربْعُ والثمْنُ { مّمَّا تَرَكَ } متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من السدس ، والعاملُ الاستقرارُ المعتبرُ في الخبر أي كائناً مما ترك المتوفى { إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ } أو ولدُ ابنٍ ذكراً كان أو أنثى واحداً أو متعدداً غير أن الأبَ في صورة الأنوثةِ بعد ما أخذ فرضَه المذكورَ يأخذ ما بقيَ من ذوي الفروضِ بالعصوبة { فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ } ولا ولدُ ابنٍ { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ } فحسْبُ { فَلاِمّهِ الثلث } مما ترك والباقي للأب ، وإنما لم يُذكَرْ لعدم الحاجةِ إليه لأنه لما فُرض انحصارُ الوارثِ في أبويه ، وعُيِّن نصيبُ الأم عُلمَ أن الباقيَ للأب ، وتخصيصُ جانبِ الأمِّ بالذِكر وإحالةُ جانبِ الأبِ على دَلالة الحالِ مع حصولِ البيانِ بالعكس أيضاً لما أنَّ حظَّها أخصَرُ واستحقاقَه أتمُّ وأوفرُ ، أو لأن استحقاقَه بطريق العصوبةِ دون الفرضِ هذا إذا لم يكن معهما أحدُ الزوجين أما إذا كان معهما ذلك فللأم ثلثُ ما بقيَ بعد فرضِ أحدِهما لا ثلثُ الكلِّ كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما فإنه يُفضي إلى تفضيل الأمِّ على الأب مع كونه أقوى منها في الإرث بدليل إضعافِه عليها عند انفرادِهما عن أحد الزوجين وكونِه صاحبَ فرضٍ وعصبةٍ وذلك خلافُ وضعِ الشرع .
{ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } أي عددٌ ممن له أخوةٌ من غير اعتبارِ التثليثِ سواءٌ كانت من جهة الأبوين أو من جهة أحدِهما وسواءٌ كانوا ذكوراً أو إناثاً أو مختلِطين وسواءٌ كان لهم ميراثٌ أو كانوا محجوبين بالأب { فَلاِمِهِ السدس } أما السدسُ الذي حجبوها عنه فهو للأب عند وجودِه ولهم عند عدمِه وعليه الجمهورُ ، وعند ابنِ عباس رضي الله عنهما أنه لهم على كلِّ حالٍ خلا أن هذا الحجبَ عنده لا يتحقق بما دون الثلاثِ وبالأخوات الخُلَّص ، وقرىء فلإِمِّه بكسر الهمزةِ إتْباعاً لما قبلها { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ } خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ ، والجملةُ متعلقةٌ بما تقدم جميعاً لا بما يليها وحدَه ، أي هذه الأنصباءُ للورثة من بعد إخراجِ وصيةٍ { يُوصِى بِهَا } أي الميتُ وقرىء مبنياً للمفعول مخففاً ومبنياً للفاعل مشدداً يوصّي ، وفائدةُ الوصفِ الترغيبُ في الوصية والندبُ إليها { أَوْ دَيْنٍ } عطفٌ على وصيةٍ إلا أنه غيرُ مقيدٍ بما قُيدتْ به من الوصف بل هو مُطلقٌ يتناول ما ثبت بالبينة أو الإقرارِ في الصحةِ ، وإيثارُ { أَوْ } المفيدةِ للإباحة على الواو للدِلالة على تساويهما في الوجوب وتقدُّمِهما على القِسْمة مجموعَيْن أو منفردَيْن ، وتقديمُ الوصيةِ على الديْن ذكراً مع تأخّرها عنه حُكماً لإظهار كمالِ العنايةِ بتنفيذها لكونها مظِنةً للتفريط في أدائها ولاطّرادها بخلاف الدَّين { آباؤكم وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } الخطابُ للورثة فآباؤكم مبتدأ وأبناؤكم عطفٌ عليه ولا تدرون خبرُه وأيُّهم مبتدأٌ وأقربُ خبرُه ، ونفعاً نُصب على التمييز منه ، وهو منقول من الفاعلية كأنه قيل : أيُّهم أقربُ لكم نفعُه؟ والجملةُ في حيز النصبِ بلا تدرون ، والجملةُ الكبيرةُ اعتراضيةٌ مؤكِّدةٌ لوجوب تنفيذِ الوصيةِ أي أصولُكم وفروعُكم الذين يُتَوَفَّون لا تدرون أيُّهم أنفعُ لكم أمَنْ يوصي ببعض مالِه فيُعرِّضَكم لثواب الآخرةِ بتنفيذ وصيتِه أم مَنْ لا يوصي بشيء فيوفرَ عليكم عَرَضَ الدنيا؟ وليس المرادُ بنفي الدرايةِ عنهم بيانَ اشتباهِ الأمرِ عليهم وكونَ أنفعيةِ كلَ من الأول والثاني في حيز الاحتمال عندهم من غير رجحانِ أحدِهما على الآخر كما في قوله عليه الصلاة والسلام :(2/43)
« مثلُ أمتي مثلُ المطرِ لا يدرى أولُه خيرٌ أمْ آخرُه » فإن ذلك بمعزل من إفادة التأكيدِ المذكورِ والترغيبِ في تنفيذ الوصيةِ بل تحقيقَ أنفعيةِ الأولِ في ضمن التعريضِ بأن لهم اعتقاداً بأنفعية الثاني مبنياً على عدم الدراية ، وقد أشير إلى ذلك حيث عبّر عن الأنفعية بأقربيّة النفعِ تذكيراً لمناط زعمِهم وتعييناً لمنشأ خطئِهم ومبالغةً في الترغيب المذكورِ بتصوير الثوابِ الآجلِ بصورة العاجلِ لأن الطباعَ مجبولةٌ على حب الخيرِ الحاضرِ كأنه قيل : لا تدرون أيُّهم أنفعُ لكم فتحكُمون نظراً إلى ظاهر الحالِ وقربِ المنالِ بأنفعية الثاني مع أن الأمرَ بخلافه ، فإن ثوابَ الآخرةِ لتحقق وصولِه إلى صاحبه ودوامِ تمتّعِه به مع غاية قصْرِ مدةِ ما بينهما من الحياة الدنيا أقربُ وأحضرُ ، وعرَضُ الدنيا لسرعة نفادِه وفنائِه أبعدُ وأقصى . وقيل : الخطابُ للمورِّثين ، والمعنى لا تعلمون من أنفعُ لكم ممن يرِثُكم من أصولكم وفروعِكم عاجلاً وآجلاً فتحَرَّوا في شأنهم ما أوصاكم الله تعالى به ولا تعمِدوا إلى تفضيلِ بعضٍ وحرمانِ بعض .(2/44)
روي أن أحدَ المتوالدين إذا كان أرفعَ درجةً من الآخر في الجنة سأل الله تعالى أن يرفعَ إليه صاحبَه فيُرفعُ إليه بشفاعته . قيل : فالجملةُ الاعتراضيةُ حينئذ مؤكدةٌ لأمر القِسْمةِ وأنت خبيرٌ بأنه مُشعرٌ بأن مدارَ الإرثِ ما ذُكر من أقربية النفعِ أنه العلاقةُ النسبية { فَرِيضَةً مّنَ الله } نُصِبت نصْبَ مصدرٍ مؤكدٍ لفعل محذوفٍ أي فرض الله ذلك فرضاً أو لقوله تعالى : { يُوصِيكُمُ الله } فإنه في معنى يأمركم ويفرِض عليكم { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً } أي بالمصالح والرُّتَب { حَكِيماً } في كل ما قضى وقدر فيدخُل فيه الأحكامُ المذكورةُ دخولاً أولياً .(2/45)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
{ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم } من المال . شروعٌ في بيان أحكامِ القِسمِ الثاني من الورثة ، ووجهُ تقديمِ حكمِ ميراثِ الرجالِ مما لا حاجة إلى ذكره { إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ } أي ولدٌ وارثٌ من بطنها أو من صُلْب بنيها أو بني بنيها وإن سفَلَ ذكراً كان أو أنثى واحداً كان أو متعدداً لأن لفظ الولدِ ينتظِمُ الجميعَ منكم أو من غيركم ، والباقي لورثتهن من ذوي الفروضِ والعِصاباتِ أو غيرِهم ، ولبيت المالِ إن لم يكن لهن وارثٌ آخرُ أصلاً { فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ } على نحو ما فُصِّل والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن ذِكرَ تقديرِ عدمِ الولدِ وبيانِ حكمِه مستتبِعٌ لتقدير وجودِه وبيانِ حكمِه { فَلَكُمُ الربع مِمَّا تَرَكْنَ } من المال والباقي لباقي الورثةِ { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ } متعلق بكلتا الصورتين لا بما يليه وحده { يُوصِينَ بِهَا } في محل الجرِّ على أنه صفةٌ لوصيةٍ ، وفائدتُها ما مر من ترغيب الميتِ في الوصية وحثِّ الورثةِ على تنفيذها { أَوْ دَيْنٍ } عطفٌ على وصيةٍ سواءٌ كان ثبوتُه بالبينة أو بالإقرار ، وإيثارُ { أَوْ } على الواو لما مر من الدِلالة على تساويهما في الوجوب والتقدمِ على القسمة ، وكذا تقديمُ الوصيةِ على الدين ذِكْراً من إبراز كمالِ العنايةِ بتنفيذها { وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ } على التفصيل المذكورِ آنفاً والباقي لبقية ورثتِكم من أصحاب الفروضِ والعصباتِ أو ذوي الأرحامِ إو لبيت المالِ إن لم يكن لكم وارثٌ آخرُ أصلاً { فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ } على النحو الذي فُصل { فَلَهُنَّ الثمن مِمَّا تَرَكْتُم } من المال والباقي للباقين { مّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } الكلامُ فيه كما فُصِّل في نظيرَيْه ، فُرض للرجل بحق الزواجِ ضعفُ ما فرض للمرأة كما في النسب لمزيَّته عليها وشرفِه الظاهِرِ ، ولذلك اختُص بتشريف الخطابِ ، وهكذا قياسُ كلِّ رجلٍ وامرأةٍ اشتركا في الجهة والقُرب ، ولا يستثنى منه إلا أولادُ الأمِّ والمُعتِقُ والمعتقةُ ، وتستوي الواحدةُ والعددُ منهن في الربع والثمن .
{ وَإِن كَانَ رَجُلٌ } شروع في بيان أحكامِ القسمِ الثالثِ من الورثة المحتمِلِ للسقوط ، ووجهُ تأخيرِه عن الأولَيْن بيِّنٌ ، والمرادُ بالرجل الميتُ وقوله تعالى : { يُورَثُ } على البناء للمفعول من ورِث لا من أَوْرث ، خبر كان أي يورث منه { كلالة } الكلالةُ في الأصل مصدرٌ بمعنى الكَلالِ وهو ذهابُ القوةِ من الإعياء ، استُعيرت للقرابة من غير جهة الوالدِ والولدِ لضَعفهما بالإضافة إلى قرابتهما ، وتُطلق على من لم يخلِّفْ ولداً ولا والداً وعلى مَن ليس بوالد ولا ولد من المخلفين بمعنى ذي كلالة ، كما تطلق القَرابةُ على ذوي القرابة ، وقد جُوِّز كونُها صفةً كالهَجاجَة والفَقَاقة للأحمق ، فنصبُها إما على أنها مفعولٌ له أي يورثُ منه لأجل القرابةِ المذكورةِ أو على أنها حالٌ من ضمير يورث أي حالَ كونِه ذا كلالةٍ أو على أنها خبرٌ لكان ويورث صفةٌ لرجل أي إن كان رجلٌ موروثٌ ذا كلالةٍ ليس له والدٌ ولا ولدٌ وقرىء يُورِّثُ على البناء للفاعل مخففاً ومشدداً ، فانتصابُ كلالةً إما على أنها حالٌ من ضمير الفعلِ والمفعولُ محذوفٌ أي يُورِثُ وارثَه حال كونِه ذا كلالةً وإما على أنها مفعولٌ به أي يورِّث ذا كلالةً وإما على أنه مفعولٌ له أي يورَث لأجل الكلالة { أَو امرأة } عطف على رجلٌ مقيدٌ بما قُيِّد به أي أو امرأةٌ تورث كذلك ، ولعل فَصْلَ ذكرِها عن ذكره للإيذان بشرفه وأصالتِه في الأحكام { وَلَهُ } أي للرجل ففيه تأكيدٌ للإيذان المذكورِ حيث لم يتعرَّضْ لها بعد جَرَيانِ ذكرِها أيضاً ، وقيل : الضميرُ لكل منهما { أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } أي من الأم فحسب وقد قرىء كذلك فإن أحكامَ بني الأعيانِ والعَلاّتِ هي التي ذُكرت في آخر السورةِ الكريمةِ والجملةُ في محل النصبِ على أنها حالٌ من ضمير يورَث أو من رجلٌ على تقدير كونِ { يُورَثُ } صفةً ، وسيقت لتصوير المسألةِ ، وذكرُ الكَلالةِ لتحقيق جريانِ الحكمِ المذكورِ وإن كان مع مَنْ ذُكر ورَثةٌ أخرى بطريق الكلالة ، وأما جرَيانُه في صورة وجودِ الأمِّ أو الجدةِ مع أن قرابتَهما ليست بطريق الكَلالة فبإجماعٍ { فَلِكُلّ واحد مّنْهُمَا } من الأخ والأختِ { السدس } من غير تفضيلٍ للذكر على الأنثى لأن الإدلأَ إلى الميت بمحض الأنوثة .(2/46)
{ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذلك } أي أكثرَ من الأخ أو الأختِ المنفردَيْن بواحد أو بأكثرَ ، والفاءُ لما مر أن ذكرَ احتمالِ الانفرادِ مستتبِعٌ لذكر احتمالِ التعدد { فَهُمْ شُرَكَاء فِى الثلث } يقتسمونه بالسوية والباقي لبقية الورثةِ من أصحاب الفروضِ والعَصَباتِ . هذا وأما جوازُ أن يكون يُورَث في القراءة المشهورة مبنياً للمفعول من أورث على أن المرادَ به الوراثُ ، والمعنى وإن كان رجلٌ يجعل وارثاً لأجل الكلالةِ أو ذا كلالةٍ أي غيرَ والدٍ أو ولدٍ ، ولذلك الوارث أخٌ أو أختٌ فلكل واحدٍ من ذلك الوارثِ وأخيه أو أختِه السدسُ فإن كانوا أكثرَ من ذلك أي من الاثنين بأن كانوا ثلاثةً أو أكثرَ فهم شركاءُ في الثلث المُوزَّعِ للاثنين لا يزاد عليه شيءٌ فبمعزل من السَّداد ، أما أولاً : فلأن المعتبرَ على ذلك التقديرِ إنما هو الأخوةُ بين الوارثِ وبين شريكِه في الإرث من أخيه أو أختِه لا ما بينه وبين مورِّثه من الأخوة التي عليها يترتبُ حكمُ الإرثِ وبها يتِمُّ تصويرُ المسألةِ ، وإنما المعتبرُ بينهما الوراثةُ بطريق الكلالةِ وهي عامةٌ لجميع صورِ القَراباتِ التي لا تكون بالولادة فلا يكون نصيبُه ولا نصيبُ شريكِه مما ذكر بعينه ، ومن ادَّعى اختصاصَها بالإخوة لأمَ متمسكاً بالإجماع على أن المرادَ بالكلالة هاهنا أولادُ الأمِّ فقد اعترف ببطلان رأيه من حيث لا يحتسب ، كيف لا ومبناه إنما هو الإجماعُ على أن المرادَ بالإخوة في قوله تعالى : { وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } هو الإخوةُ لأم خاصةً حسبما شهِدت به القراءةُ المحْكيةُ والآيةُ الآتيةُ في آخر السورةِ الكريمةِ ، ولولا أن الرجلَ عبارةٌ عن الميت والأُخوّةُ معتبرةٌ بينه وبين ورثتِه لما أمكن كونُ الكلِّ أولادَ الأمِّ ، ثم إن الكلالةَ كما نبّهتُ عليه باقيةٌ على إطلاقها ليس فيها شائبةُ اختصاصٍ بأولاد الأمِّ فضلاً عن الإجماع على ذلك ، وإلا لاقتصر البيانُ على حكم صورةِ انحصارِ الورثةِ فيهم ، وإنما الإجماعُ فيما ذكر من أن المرادَ بالأخ والأختِ مَنْ كان لأمَ خاصةً ، وأنت خبير بأن ذلك في قوة الإجماعِ على أن يُورَثَ من ورِث لا من أَورَثَ فتدبر ، وأما ثانياً : فلأنه يقتضي أن يكون المعتبرُ في استحقاق الورثةِ في الفرض المذكورِ إخوةً بعضَهم لبعض من جهة الأمِّ فقط لما ذُكر من الإجماع مع ثبوت الاستحقاقِ على تقدير الأُخوةِ من الجهتين ، وأما ثالثاً : فلأن حُكمَ صورةِ انفرادِ الوارثِ عن الأخ والأختِ يبقى حينئذ غيرَ مُبيِّنٍ ، وليس من ضرورة كونِ حظِّ كلَ منهما السدسَ عند الإجماع كونُه كذلك عند الانفراد ، ألا يرى أن حظ كلَ من الأختين الثلثُ عند الاجتماعِ والنصفُ عند الانفراد؟ وأما رابعاً : فلأن تخصيصَ أحدِ الورثةِ بالتوريث وجعلَ غيرِه تبعاً له فيه مع اتحادِ الكلِّ في الإدلاءِ إلى المُورِّث مما لا عهدَ به .(2/47)
{ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } الكلامُ فيه كالذي مر في نظائره خلا أن الدَيْن هاهنا موصوفٌ بوصف الوصيةِ جرياً على قاعدة تقييدِ المعطوفِ مما قُيِّد به المعطوفُ عليه لاتفاق الجمهورِ على اعتبار عدمِ المُضارَّةِ فيه أيضاً وذلك إنما يتحقق فيما يكون ثبوتُه بالإقرار في المرض ، كأنه قيل أو دينٍ يوصى به { غَيْرَ مُضَارّ } حال من فاعل فعلٍ مُضمر يدل عليه المذكورُ وما حُذف من المعطوف اعتماداً عليه كما أنّ رجالٌ في قوله تعالى : { يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والاصال رِجَالٌ } على قراءة المبنيِّ للمفعول فاعل لفعل ينبىء عنه المذكورُ ومن فاعل الفعلِ المذكورِ والمحذوفِ اكتفاءً به على قراءة البناءِ للفاعل ، أي يوصى بما ذكر من الوصية والدَّيْن حالَ كونِه غيرَ مضارَ للورثة ، أي بأن يوصيَ بما زاد على الثلث أو تكونُ الوصية لقصد الإضرارِ بهم دون القُربةِ وبأن يُقِرَّ في المرض بدَين كاذباً ، وتخصيصُ هذا القيدِ بهذا المقام لما أن الورثةَ مَظِنةٌ لتفريط الميتِ في حقهم { وَصِيَّةً مّنَ الله } مصدرٌ مؤكدٌ لفعل محذوفٍ وتنوينُه للتفخيم ، ومن متعلقةٌ بمضمر وقع صفةً له مؤكدةً لفخامته الذاتية بالفخامة الإضافية ، أي يوصيكم بذلك وصيةً كائنةً من الله كقوله تعالى : { فَرِيضَةً مّنَ الله } ولعل السرَّ في تخصيص كلَ منهما بمحله الإشعارُ بما بين الأحكامِ المتعلقةِ بالأصول والفروعِ وبين الأحكامِ المتعلّقةِ بغيرهم من التفاوت حسب تفاوُتِ الفريضةِ والوصية وإن كانت كلتاهما واجبة المراعاةِ ، أو منصوبٌ بغيرَ مُضارَ على أنه مفعولٌ به فإنه اسمُ فاعلٍ معتمدٍ على ذي الحالِ ، أو منفيٌّ معنىً فيعمل في المفعول الصريحِ ، ويعضُده القراءةُ بالإضافة أي غيرَ مضارٍ لوصية اللَّهِ ، وعهدُه لا في شأن الأولادِ فقط كما قيل إذ لا تعلقَ لهم بالمقام بل في شأن الورثةِ المذكورةِ هاهنا ، فإن الأحكامَ المفصَّلةَ كلَّها مندرجةٌ تحت قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ الله } جاريةٌ مَجرى تفسيرِه وبيانه ، ومُضارّتُها الإخلالُ بحقوقهم ونقصُها بما ذُكر من الوصية بما زاد على الثلث والوصيةِ لقصد الإضرارِ دون القُربةِ والإقرارِ بالدين كاذباً ، وإيقاعُها على الوصية مع أنها واقعةٌ على الورثة حقيقةً كما في قوله :(2/48)
يا سارقَ اللَّيلةِ أهلَ الدارِ ... للمبالغة في الزجر عنها بإخراجها مُخرجَ مُضارَّةِ أمرِ اللَّهِ تعالى ومضادَّتهِ ، وجعلُ الوصيةِ عبارةً عن الوصية بالثلث فما دونه يقتضي أن يكونَ ( غيرَ مضارَ ) حالاً من ضمير الفعلِ المتعلقِ بالوصية فقط وذلك يؤدي إلى الفصل بين الحالِ وعاملِها بأجنبيَ هو المعطوفُ على وصية مع أنه لا تنحسِمُ به مادةُ المُضارّةِ لبقاء الإقرارِ بالدين عن إطلاقه { والله عَلِيمٌ } بالمُضارِّ وغيرِه { حَلِيمٌ } لا يعاجل بالعقوبة فلا يَغترَّ بالإمهال ، وإيرادُ الاسمِ الجليلِ مع كفاية الإضمارِ لإدخال الروعةِ وتربيةِ المهابة .(2/49)
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)
{ تِلْكَ } إشارةٌ إلى الأحكام التي تقدمت في شؤون اليتامى والمواريثِ وغيرِ ذلك { حُدُودُ الله } أي شرائعُه المحدودةُ التي لا تجوز مجاوزتُها { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } في جميع الأوامرِ والنواهي التي من جملتها ما فُصّل هاهنا ، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لما ذكر آنفاً { يُدْخِلْهُ جنات } نُصب على الظرفية عند الجمهورِ وعلى المفعولية عند الأخفشِ { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار } صفةٌ لجنات منصوبة حسب انتصابِها { خالدين فِيهَا } حالٌ مقدرةٌ من مفعول يدخِلْه ، وصيغةُ الجمعِ بالنظر إلى جمعية ( مَنْ ) بحسب المعنى كما أن إفرادَ الضميرِ بالنظر إلى إفراده لفظاً { وَذَلِكَ } إشارةٌ إلى ما مر من دخول الجناتِ الموصوفةِ على وجه الخلودِ ، وما فيه من معنى البُعدِ للإيذان بكمال علوِّ درجتِه { الفوز العظيم } الذي لا فوزَ وراءَه . وُصف الفوزُ وهو الظفرُ بالخير بالعظيم إما باعتبار مُتعلّقِه أو باعتبار ذاتهِ فإن الفوزَ بالعظيم عظيمٌ والجملةُ اعتراض .(2/50)
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)
{ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ } ولو في بعض الأوامرِ والنواهي قال مجاهد فيما اقتُصَّ من المواريث وقال عكرمة عن ابن عباس من لم يرضَ بقَسْم اللَّهِ تعالى ويتعدَّ ما قال اللَّهُ تعالى ، وقال الكلبي يعني ومن يكفرْ بقسمة اللَّهِ المواريثَ ويتعدَّ حدودَه استحلالاً . والإظهارُ في موقع الإضمارِ للمبالغة في الزجر بتهويل الأمرِ وتربيةِ المهابة { وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ } شرائعَه المحدودة في جميع الأحكامِ فيدخُل فيها ما نحن فيه دخولاً أولياً { يُدْخِلْهُ } وقرىء بنون العظمةِ في الموضعين { نَارًا } أي عظيمةً هائلةً لا يقادَرُ قدرُها { خَالِداً فِيهَا } حال كما سبق ، ولعل إيثارَ الإفرادِ هاهنا نظراً إلى ظاهر اللفظِ ، واختيارُ الجمعِ هناك نظراً إلى المعنى للإيذان بأن الخلودَ في دار الثوابِ بصفة الاجتماعِ أجلبُ للأنس كما أن الخلودَ في دار العذاب بصفة الانفرادِ أشدُّ في استجلاب الوحشة { وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي وله مع عذاب الحريقِ الجُسماني عذابٌ آخرُ مُبهمٌ لا يعرف كُنهُه ، وهو العذابُ الروحاني كما يُؤْذِنُ به وصفُه والجملةُ حالية .
{ واللاتى يَأْتِينَ الفاحشة مِن نّسَائِكُمْ } شروعٌ في بيان بعضٍ آخَرَ من الأحكام المتعلقةِ بالنساءِ إثرَ بيانِ أحكامِ المواريثِ ، واللاَّتي جمعُ التي بحسب المعنى دون اللفظِ وقيل جمعٌ على غير قياسٍ ، والفاحشةُ الفَعلةُ القبيحةُ أريد بها الزنا لزيادة قُبحِه ، والإتيانُ الفعلُ والمباشرةُ يقال أتى الفاحشةَ أي فعلها وباشرها وكذا جاءها ورهَقها وغشِيَها ، وقرىء بالفاحشة ، فالإتيانُ بمعناه المشهورِ ، و ( من ) متعلقةٌ بمحذوف وقعَ حالاً من فاعل يأتي أي اللاَّتي يفعلْن الزنا كائناتٍ من نسائكم أي من أزواجكم كما في قوله تعالى : { والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ } وقوله تعالى : { مّن نِّسَائِكُمُ اللاتى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } وبه قال السدي { فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مّنْكُمْ } خبرٌ للموصول ، والفاءُ للدلالة على سببية ما في حيز الصلةِ للحكم ، أي فاطلبوا أن يشهَدَ عليهن بإتيانها أربعةٌ من رجال المؤمنين وأحرارِهم .
{ فَإِن شَهِدُواْ } عليهن بذلك { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى البيوت } أي فاحبِسوهن فيها واجعلوها سِجْناً عليهن { حتى يَتَوَفَّاهُنَّ } أي إلى أن يستوفيَ أرواحَهن { الموت } وفيه تهويلٌ للموت وإبرازٌ له في صورة من يتولى قبضَ الأرواحِ ويتوفاها ، أو يتوفاهن ملائكةُ الموتِ { أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً } أي يشرع لهن حكماً خاصًّا بهن ولعل التعبيرَ عنه بالسبيل للإيذان بكونه طريقاً مسلوكاً فليس فيه دَلالةٌ على كونه أخفَّ من الحبس كما قاله أبو مسلم .(2/51)
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)
{ واللذان يأتيانها مِنكُمْ } هما الزاني والزانيةُ تغليباً ، قال السدي أُريد بهما البِكْران منهما كما ينبىء عنه كونُ عقوبتهِما أخفَّ من الحبس المخلّد وبذلك يندفع التكرارُ إلا أنه يبقى حكمُ الزاني المحصَنِ مبهماً لاختصاص العقوبةِ الأولى بالمحصنات ، وعدمِ ظُهورِ إلحاقهِ بأحد الحكمين دلالةٌ لخفاء الشِرْكة في المناط { فَئَاذُوهُمَا } أي بالتوبيخ والتقريعِ ، وقيل بالضرب بالنعال أيضاً والظاهرُ أن إجراءَ هذا الحكمِ أيضاً إنما يكون بعد الثبوتِ لكنْ ترك ذكره تعويلاً على ما ذكر آنفاً { فَإِن تَابَا } عما فعلا من الفاحشة بسبب ما لقيا من زواجرِ الأذيةِ وقوارعِ التوبيخِ كما ينبىء عنه الفاء { وَأَصْلَحَا } أي أعمالهما { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا } بقطع الأذيةِ والتوبيخِ فإن التوبةَ والصلاحَ مما يمنع استحقاقَ الذمِّ والعقابِ . وقد جُوِّز أن يكون الخطابُ للشهود الواقفين على هَناتهما ، ويراد بالإيذاء ذمُّهما وتعنيفُهما وتهديدُهما بالرفع إلى الولاة ، وبالإعراض عنهما تُرك التعرُّضُ لهما بالرفع إليهم . قيل كانت عقوبةُ الفريقين المذكورين في أوائل الإسلامِ على ما مر من التفصيل ثم نُسخ بالحدّ لما روي أن النبيّ عليه الصلاة والسلام قال : « خُذوا عني خُذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً الثيبُ تُرجم والبِكرُ تُجلد » . وقيل هذه الآية سابقة على الأولى نزولاً وكانت عقوبةُ الزناةِ الطلقاءِ الأذى ثم الحبسُ ثم الجلدُ ثم الرجمُ ، وقد جُوِّز أن يكون الأمرُ بالحبس غيرَ منسوخٍ بأن يُتركَ ذكرُ الحدِّ لكونه معلوماً بالكتاب والسنة ويوصى بإمساكهن في البيوت بعد إقامةِ الحدِّ صيانةً لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروجِ من البيوت والتعرُّضِ للرجال . ولا يخفى أنه مما لا يساعده النظمُ الكريمُ وقال أبو مسلم وعزاه إلى مجاهد : إن الأولى في السّحّاقات وهذه في اللوّاطين وما في سورة النورِ في الزناة والزواني متمسكاً بأن المذكورَ في الأولى صيغةُ الإناثِ خاصةً وفي الثانية صيغةُ الذكورِ ولا ضرورةَ للمصير إلى التغليب على أنه لا إمكانَ له في الأولى ويأباه الأمرُ باستشهاد الأربعةِ فإنه غيرُ معهودٍ في الشرع فيما عدا الزنا { إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً } مبالغاً في قبول التوبةِ { رَّحِيماً } واسعَ الرَّحمةِ وهو تعليلٌ للأمر بالإعراض .
{ إِنَّمَا التوبة عَلَى الله } استئنافٌ مَسوقٌ لبيان أن قبولَ التوبةِ من الله تعالى ليس على إطلاقه كما ينبىء عنه وصفُه تعالى بكونه تواباً رحيماً بل هو مقيدٌ بما سينطِق به النصُّ الكريمُ ، فقولُه تعالى التوبةُ مبتدأٌ وقوله تعالى : { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السوء } خبرُه ، وقولُه تعالى على الله متعلقٌ بما تعلق به الخبرُ من الاستقرار ، فإن تقديمَ الجارِّ والمجرورِ على عامله المعنويِّ مما لا نزاعَ في جوازه وكذا الظرفُ ، أو بمحذوف وقع حالاً من ضمير المبتدإ المستكنِّ فيما تعلق به الخبرُ على رأي من جوَّز تقديمَ الحالِ على عاملها المعنويِّ عند كونِها ظرفاً أو حرفَ جر كما سبق في تفسير قوله تعالى :(2/52)
{ وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } وأيًّا ما كان فمعنى كونِ التوبةِ عليه سبحانه صدورُ القَبولِ عنه تعالى ، وكلمةُ على للدِلالة على التحقق ألبتةَ بحكم جري العادةِ وسبْقِ الوعدِ حتى كأنه من الواجبات عليه سبحانه ، وهذا مُراد مَنْ قال : كلمةُ على بمعنى مِنْ وقيل هي بمعنى عند ، وعن الحسن يعني التوبةَ التي يقبلُها اللَّهُ تعالى وقيل هي التوبةُ التي أوجب اللَّهُ تعالى على نفسه بفضله قبولَها ، وهذا يشير إلى أن قوله تعالى : { عَلَى الله } صفةٌ للتوبة بتقديرِ مُتعلَّقِه معرفةً على رأي من جوّز حذفَ الموصولِ مع بعض صلتِه أي إنما التوبةُ الكائنةُ على الله ، والمرادُ بالسوء المعصيةُ صغيرةً كانت أو كبيرة ، وقيل الخبرُ على الله وقوله تعالى للذين متعلقٌ بما تعلق به الخبرُ أو بمحذوف وقع حالاً من الضمير المستكنِّ في مُتعلَّق الخبر ، وليس فيه ما في الوجه الأولِ من تقديم الحال على العامل المعنويِّ إلا أن الذي يقتضيه المقامُ ويستدعيه النظامُ هو الأولُ لما أن ما قبله من وصفه تعالى بكونه تواباً رحيماً إنما يقتضي بيانَ اختصاصِ قبولِ التوبةِ منه تعالى بالمذكورين وذلك إنما يكونُ بجعل قولهِ تعالى للذين الخ خبراً ، ألا ترى إلى قوله عز وجل : { وَلَيْسَتِ التوبة الذين يَعْمَلُونَ السيئات } الخ فإنه ناطقٌ بما قلنا كأنه قيل إنما التوبةُ لهؤلاء لا لهؤلاء { بِجَهَالَةٍ } متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من فاعل يعملون أي يعملون السوءَ متلبّسين بها أي جاهلين سفهاءَ ، أو بيعملون على أن الباءَ سببيةٌ أي يعملونه بسبب الجهالةِ لأن ارتكابَ الذنبِ مما يدعو إليه الجهلُ ، وليس المرادُ به عدمَ العلمِ بكونه سوءاً بل عدمَ التفكرِ في العاقبة كما يفعله الجاهلُ قال قتادة : اجتمع أصحابُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم فرأوْا أن كلَّ شيء عصى به ربَّه فهو جهالةٌ عمداً كان أو خطأ . وعن مجاهد من عصى الله تعالى فهو جاهلٌ حتى ينزِعَ عن جهالته وقال الزجاج يعني بقوله ( بجهالة ) اختيارَهم اللذة الفانيةَ على اللذة الباقية { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } أي من زمان قريب وهو ما قبلَ حضورِ الموتِ كما ينبىء عنه ما سيأتي من قوله تعالى : { حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت } الخ فإنه صريح في أن وقتَ الاحتضارِ هو الوقتُ الذي لا تقبل فيه التوبةُ فبقيَ ما وراءَه في حيِّز القَبول . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قبل أن ينزِلَ به سلطانُ الموتِ وعن الضحاك كلُّ توبةٍ قبل الموتِ فهو قريبٌ .
وعن إبراهيمَ النَخَعيِّ : ما لم يُؤخَذْ بكَظَمِه وهو مجرى النفَس ، وروى أبو أيوبَ عن النبي صلى الله عليه وسلم « أن اللَّهَ تعالى يقبل توبةَ العبدِ ما لم يُغرغِرْ » وعن عطاءٍ لو قبل موته بفُواق ناقة ، وعن الحسن أن إبليسَ قال حين أُهبط إلى الأرض وعزتِك لا أفارق ابنَ آدمَ ما دام روحُه في جسده ، فقال تعالى :(2/53)
« وعزتي لا أُغلق عليه بابَ التوبةِ ما لم يُغرغِرْ » ومن تبعيضيةٌ أي يتوبون بعضَ زمانٍ قريبٍ كأنه سُمِّي ما بين وجودِ المعصيةِ وبين حضورِ الموتِ زماناً قريباً ففي أي جُزءٍ تاب من أجزاب هذا الزمانِ فهو تائب { فَأُوْلَئِكَ } إشارةٌ إلى المذكورين من حيث اتصافُهم بما ذكر ، وما فيه من معنى البُعد باعتبار كونِهم بانقضاء ذكرِهم في حكم البعيدِ ، والخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلُح للخطاب وهو مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى : { يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ } وما فيه من تكرير الإسنادِ لتقوية الحكم وهذا وعدٌ بقَبول توبتهم إثرَ بيانِ أن التوبة لهم والفاءُ للدِلالة على سببيتها للقَبول { وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } مبالِغاً في العلم والحِكمةِ فيبني أحكامَه وأفعالَه على أساس الحِكمةِ والمصلحةِ والجملةُ اعتراضيةٌ مقرِّرةٌ لمضمون ما قبلَها ، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمارِ للإشعار بعلة الحُكمِ ، فإن الألوهية أصلٌ لاتصافه تعالى بصفات الكمالِ .(2/54)
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
{ وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات } تصريحٌ بما فُهم من قصر القَبولِ على توبة من تاب من قريب ، وزيادةُ تعيينٍ له ببيان أن توبةَ مَنْ عداهم بمنزلة العدمِ ، وجمعُ السيئاتِ باعتبار تكررِ وقوعِها في الزمان المديدِ لا لأن المرادَ بها جميعُ أنواعِها وبما مرّ من السوء نوعٌ منها { حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّى تُبْتُ الان } حتى حرفُ ابتداءٍ والجملةُ الشرطيةُ بعدها غايةٌ لما قبلها أي ليس قبولُ التوبةِ للذين يعملون السيئاتِ إلى حضور موتِهم وقولهم حينئذٍ إني تبتُ الآنَ ، وذكرُ الآن لمزيد تعيينِ الوقتِ ، وإيثارُ قال على تاب لإسقاط ذلك عن درجة الاعتبارِ والتحاشي عن تسميته توبةً { وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } عطفٌ على الموصول الذي قبله أي ليس قبولُ التوبةِ لهؤلاء ولا لهؤلاء وإنما ذُكر هؤلاء مع أنه لا توبةَ لهم رأساً مبالغةً في بيان عدمِ قبولِ توبةِ المُسوِّفين وإيذاناً بأن وجودَها كعدمها بل في تكرير حرفِ النفيِ في المعطوف إشعارٌ خفيٌّ بكون حالِ المسوِّفين في عدم استتباعِ الجدوى أقوى من حال الذين يموتون على الكفر ، والمرادُ بالموصولَيْن إما الكفارُ خاصةً وإما الفساقُ وحدهم ، وتسميتُهم في الجملة الحاليةِ كفاراً للتغليظ كما في قوله تعالى : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين } ، وأما ما يعمُّ الفريقين جميعاً فالتسميةُ حينئذٍ للتغليب ، ويجوز أن يراد بالأول الفسقَةُ وبالثاني الكفرةُ ، ففيه مبالغةٌ أخرى { أولئك } إشارةٌ إلى الفريقين ، وما فيه من معنى البُعدِ للإيذان بترامي حالهم في الفظاعة وبُعدِ منزلتِهم في السوء ، وهو مبتدأٌ خبرُه { أَعْتَدْنَا لَهُمْ } أي هيأنا لهم { عَذَاباً أَلِيماً } تكريرُ الإسناد لما مر من تقوية الحُكمِ ، وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعول الصريحِ لإظهار الاعتناءِ بكون العذابِ مُعدًّا لهم ووصفُه للتفخيم الذاتي والوصفي .
{ يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً } كان الرَّجلُ إذا مات قريبُه يُلْقي ثوبَه على امرأته أو على خِبائها ويقول أَرِثُ امرأته كما أرث مالَه فيصير بذلك أحقَّ بها من كل أحدٍ ثم إن شاء تزوّجها بلا صَداقٍ غيرَ الصَّداقِ الأولِ وإن شاء زوَّجَها غيرَه وأخذ صَداقَها ولم يُعْطِها منه شيئاً وإن شاء عضَلها لتفتديَ نفسها بما ورِثَتْ من زوجها ، وإن ذهبت المرأةُ إلى أهلها قبل إلقاءِ الثوبِ فهي أحقُّ بنفسها فنُهوا عن ذلك ، وقيل لهم لا يحِلُّ لكم أن تأخُذوهن بطريق الإرثِ على زعمكم كما تُحازُ المواريثُ وهن كارهاتٌ لذلك أو مُكْرهاتٌ عليه ، وقيل كانوا يُمسِكونهن حتى يَمُتْن ويرِثوا منهن فقيل لهم لا يحل لكم ذلك وهن غيرُ راضياتٍ بإمساككم ، وقرىء لا تحِلُّ بالتاء الفوقيةِ على أنّ ( أنْ ترثوا ) بمعنى الوراثة ، وقرىء كُرْهاً بضم الكاف وهي لغة كالضَّعْف والضُّعف ، وكان الرجلُ إذا تزوج امرأةً ولم تكن من حاجته حَبَسها مع سوء العِشرةِ والقهرِ وضيَّقَ عليها لتفتديَ نفسَها منه بمالها وتختلِعَ فقيل لهم { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } عطفاً على ترِثوا و ( لا ) لتأكيد النفْي ، والخطابُ للأزواج ، والعضْلُ الحبسُ والتضييقُ ومنه عضَلت المرأةُ بولدها إذا اختنقت رحِمُها فخرج بعضُه وبقيَ بعضُه أي ولا أن تُضَيِّقوا عليهن { لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ } أي من الصَّداق بأن يدفعن إليكم بعضَه اضطراراً فتأخُذوه منهن ، وإنما لم يُتعرَّضْ لفعلهن إيذاناً بكونه بمنزلة العدمِ لصدوره عنهن اضطراراً ، وإنما عُبّر عن ذلك بالذهاب به لا بالأخذ ولا بالإذهاب للمبالغة في تقبيحه ببيان تضمُّنِه لأمرين كلٌّ منهما محظورٌ شنيعُ الأخذِ والإذهابِ منهن ، لأنه عبارةٌ عن الذهاب مستصحباً به { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ } على صيغة الفاعلِ من بيَّن بمعنى تَبيَّن ، وقرىء على صيغة المفعولِ وعلى صيغة الفاعل من أبان بمعنى تبين أي بيِّنةِ القُبحِ : من النشوز وشكاسةِ الخلُقِ وإيذاءِ الزوجِ وأهلِه بالبَذاء والسَّلاطةِ ، ويعضُده قراءة أُبي إلا أن يُفْحِشْن عليكم ، وقيل الفاحشة الزنا ، وهو استثناءٌ من أعم الأحوالِ أو أعمِّ الأوقاتِ أو أعمِّ العللِ أي ولا يحلِ لكم عضْلُهن في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات أو لعلة من العِللِ إلا في حال إتيانِهن بفاحشة أو إلا في وقت إتيانِهن أو إلا لإتيانهن بها فإن السببَ حينئذٍ يكون من جهتهن وأنتم معذورون في طلب الخُلْع .(2/55)
{ وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف } خطابٌ للذين يُسيئون العِشرةَ معهن ، والمعروفُ ما لا يُنكِرُه الشرعُ والمروءةُ ، والمرادُ هاهنا النَّصَفَةُ في المبيت والنفقةُ والإجمالُ في القول ونحو ذلك { فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ } وسئِمْتم صُحبتَهن بمقتضى الطبيعةِ من غير أن يكون من قِبَلهن ما يوجب ذلك من الأمور المذكورةِ فلا تفارِقوهن بمجرد كراهةِ النفسِ واصبِروا على معاشرتهن { فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } علةٌ للجزاء أُقيمت مُقامه للإيذان بقوة استلزامِها إياه ، كأنه قيل فإن كرِهتُموهن فاصبِروا عليهن مع الكراهة فلعل لكم فيما تكرَهونه خيراً كثيراً ليس فيما تُحبّونه ، وعسى تامةٌ رافعةٌ لما بعدها مُستغنيةٌ عن تقدير الخبرِ ، أي فقد قرَّبتْ كراهتُكم شيئاً وجعل اللَّهُ فيه خيراً كثيراً ، فإن النفسَ ربما تكره ما هو أصلحُ في الدين وأحمدُ عاقبةً وأدنى إلى الخير ، وتحبُّ ما هو بخلافه فليكنْ نظرُكم إلى ما فيه خيرٌ وصلاحٌ دون ما تهوى أنفسُكم ، وذكرُ الفعلِ الأولِ مع الاستغناء عنه وانحصارُ العلية في الثاني للتوسل إلى تعميم مفعولِه ليُفيدَ أن ترتيبَ الخيرِ الكثيرِ من الله تعالى ليس مخصوصاً بمكروه دون مكروهٍ بل هو سنةٌ إلهية جاريةٌ على الإطلاق حسَبَ اقتضاءِ الحكمةِ ، وأن ما نحن فيه مادةٌ من موادّها ، وفيه من المبالغة في الحمل على ترك المفارقةِ وتعميمِ الإرشادِ ما لا يخفى . وقرىء ويجعلُ مرفوعاً على أنه خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ ، والجملةُ حاليةٌ تقديرُه وهو أي ذلك الشيءُ يجعل اللَّهُ فيه خيراً كثيراً ، وقيل تقديرُه واللَّهُ يجعل بوضع المُظهر موضِعَ المُضمرِ ، وتنوينُ خيراً لتفخيمه الذاتي ووصفُه بالكثرة لبيان فخامتِه الوصفيةِ والمرادُ بها هاهنا الولدُ الصالحُ وقيل الأُلفةُ والمحبة .(2/56)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)
{ وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ } أي تزوُّجَ امرأةٍ ترغبون فيها { مَّكَانَ زَوْجٍ } ترغبون عنها بأن تُطلقوها { وآتيتُمْ إحْدَاهُنَّ } أي إحدى الزوجاتِ فإن المرادَ بالزوج هو الجنسُ ، والجملةُ حاليةٌ بإضمار قد لا معطوفةٌ على الشرط أي وقد آتيتم التي تريدون أن تطلقوها { قِنْطَاراً } أي مالاً كثيراً { فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ } أي من ذلك القنطارِ { شَيْئاً } يسيراً فضلاً عن الكثير { أَتَأْخُذُونَهُ بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً } استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير النهْي والتنفيرِ عن المنهيِّ عنه ، والاستفهامُ للإنكار والتوبيخِ ، أي أتأخذونه باهتين وآثمين ، أو للبهتان والإثم ، فإن أحدَهم كان إذا تزوج امرأةً بَهَت التي تحته بفاحشة حتى يُلجِئَها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرِفه إلى تزوج الجديدةِ فنُهوا عن ذلك ، والبهتانُ الكذبُ الذي يبهَتُ المكذوبَ عليه ويُدهِشه ، وقد يستعمل في الفعل الباطلِ ولذلك فُسِّر هاهنا بالظلم .(2/57)
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
وقوله عز وجل : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } إنكارٌ لأخذه إثرَ إنكارٍ وتنفيرٌ عنه بعد تنفيرٍ ، وقد بولغ فيه حيث وُجّه الإنكارُ إلى كيفية الأخذِ إيذاناً بأنه مما لا سبيل له إلى التحقق والوقوعِ أصلاً لأن ما يدخُل تحت الوجودِ لا بد أن يكون على حال من الأحوال فإذا لم يكن لشيء حالٌ أصلاً لم يكن له حظٌّ من الوجود قطعاً ، وقوله عز وجل : { وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } حالٌ من فاعل تأخُذونه مفيدةٌ لتأكيد النكيرِ وتقريرِ الاستبعادِ ، أي على أي حالٍ أو في أي حالٍ تأخُذونه والحالُ أنه قد جرى بينكم وبينهن أحوالٌ منافيةٌ له من الخَلْوة وتقرُّرِ المَهرِ وثبوتِ حقِّ خِدْمتِهن لكم وغير ذلك { وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظاً } عطفٌ على ما قبله داخلٌ في حكمه أي أخذْنَ منكم عهداً وثيقاً وهو حقُّ الصحبةِ والمعاشرةِ أو ما وثّق اللَّهُ تعالى عليهم في شأنهن بقوله تعالى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان } أو ما أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام : « أخذتُموهن بأمانةِ اللَّهِ واستحللتم فروجَهن بكلمة الله تعالى »
{ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ } شروعٌ في بيان من يحْرُم نكاحُها من النساء ومَنْ لا يحرُم ، وإنما خُصَّ هذا النكاحُ بالنهي ولم يُنْظَمْ في سلك نكاحِ المحرِّماتِ الآتيةِ مبالغةً في الزجر عنه حيث كانوا مُصِرِّين على تعاطيه قال ابنُ عباسٍ وجمهورُ المفسِّرين : كان أهلُ الجاهليةِ يتزوّجون بأزواج آبائِهم فنُهوا عن ذلك ، واسمُ الآباءِ ينتظِمُ الأجدادَ مجازاً فتثبُت حرمةُ ما نكحوها نصاً وإجماعاً ، ويستقِلُّ في إثبات هذه الحُرمةِ نفس النكاحِ إذا كان صحيحاً وأما إذا كان فاسداً فلا بد في إثباتها من الوطء أو ما يجري مجراه من التقبيل والمسِّ بشهوة ونحوِهما ، بل هو المثبِتُ لها في الحقيقة حتى لو وقع شيءٌ من ذلك بحكم مِلكِ اليمينِ أو بالوجه المحرَّمِ تثبتُ به الحُرمةُ عندنا خلافاً للشافعي في المحرّم أي لا تنكحوا التي نكحها آباؤكم ، وإيثارُ ( ما ) على مَنْ للذهاب إلى الوصف ، وقيل ما مصدريةٌ على إرادة المفعولِ من المصدر { مّنَ النساء } بيانٌ لما نُكِح على الوجهين { إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } استثناءٌ مما نكَحَ مفيدٌ للمبالغة في التحريم بإخراج الكلامِ مُخرَجَ التعليقِ بالمُحال على طريقةِ قولهِ :
ولا عيبَ فيهم غيرَ أن سيوفَهم ... بهنّ فُلولٌ من قراع الكتائبِ
والمعنى لا تنكِحوا حلائلَ آبائِكم إلا من ماتت منهن ، والمقصودُ سدُّ طريقِ الإباحةِ بالكلية ونظيرُه قوله تعالى : { حتى يَلِجَ الجمل فِى سَمّ الخياط } وقيل : هو استثناء مما يستلزِمُه النهي ويستوجبه مباشرةً المنهيُّ عنه كأنه قيل : لا تنكِحوا ما نكح آباؤكم من النساء فإنه موجبٌ للعقاب إلا ما قد مضى فإنه معفوٌّ عنه ، وقيل : هو استثناءٌ منقطعٌ معناه لكنْ ما قد سلف لا مؤاخذةَ عليه لا أنه مقرَّرٌ ، ويأباهما قولُه تعالى : { إِنَّهُ كَانَ فاحشة وَمَقْتاً } فإنه تعليلٌ للنهي وبيانٌ لكون المنهيِّ عنه في غاية القُبحِ مبغوضاً أشدَّ البُغضِ وأنه لم يزَلْ في حكم الله تعالى وعلمِه موصوفاً بذلك ما رَخَّص فيه لأمة من الأمم فلا يلائم أن يُوسَّطَ بينهما ما يُهوِّن أمرَه من ترك المؤاخذةِ على ما سلفَ منه { وَسَاء سَبِيلاً } في كلمة { سَاء } قولانِ : أحدُهما أنها جاريةٌ مَجرى بئسَ في الذم والعملِ ففيها ضميرٌ مُبْهمٌ يفسِّره ما بعده والمخصوصُ بالذم محذوفٌ تقديرُه وساء سبيلاً سبيلُ ذلك النكاحِ كقوله تعالى :(2/58)
{ بِئْسَ الشراب } أي ذلك الماءُ ، وثانيهما أنها كسائر الأفعالِ وفيها ضميرٌ يعود إلى ما عاد إليه ضميرُ { أَنَّهُ } ، وسبيلاً تمييز ، والجملةُ إما مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب أو معطوفةٌ على خبر كان محكيةٌ بقول مُضْمرٍ هو المعطوفُ في الحقيقة تقديرُه ومقولاً في حقه ساء سبيلاً ، فإن ألسنةَ الأممِ كافةً لم تزَلْ ناطقةً بذلك في الأعصار والأمصار . قيل : مراتبُ القُبحِ ثلاثٌ : القبحُ الشرعيُّ والقبحُ العقليُّ والقبحُ العاديُّ ، وقد وصف الله تعالى هذا النكاحَ بكل ذلك ، فقولُه تعالى : { فاحشة } مرتبةُ قُبحِه العقليِّ وقولُه تعالى : { وَمَقْتاً } مرتبةُ قبحِه الشرعيِّ وقولُه تعالى : { وَسَاء سَبِيلاً } مرتبةُ قبحِه العاديِّ ، وما اجتمع فيه هذه المراتبُ فقد بلغَ أقصى مراتبِ القُبحِ .(2/59)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
{ حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وَبَنَاتُ الاخ الاخ وَبَنَاتُ الاخت } ليس المرادُ تحريمَ ذواتِهن بل تحريمَ نكاحِهن وما يُقصد به من التمتع بهن وبيانَ امتناعِ ورودِ مِلكِ النكاحِ عليهن وانتفاءِ محلِّيتِهن له أصلاً ، وأما حرمةُ التمتُّع بهن بملك اليمينِ في الموادّ التي يُتصور فيها قرارُ المِلكِ كما في بعض المعطوفاتِ على تقدير رِقِّهن فثابتةٌ بدِلالة النصِّ لاتحاد المدارِ الذي هو عدمُ مَحلّيةِ أبضاعِهن للمِلْك لا بعبارته بشهادة سباقِ النظمِ الكريمِ وسياقِه ، وإنما لم يوجب المدارُ المذكورُ امتناعَ ورودِ مِلكِ اليمينِ عليهن رأساً ، ولا حرمةَ سببِه الذي هو العقدُ أو ما يجري مَجراه كما أوجب حرمةَ عقدِ النكاحِ وامتناعَ ورودِ حُكمِه عليهن لأن مورِدَ مِلكِ اليمينِ ليس هو البُضعَ الذي هو مورِدُ ملكِ النكاحِ حتى يفوتَ بفوات مَحلِّيتِه له كملك النكاحِ فإنه حيث كان موردُه ذلك فات بفوات محلّيتِه له قطعاً ، وإنما مورِدُه الرقبةُ الموجودةُ في كل رقيق فيتحقق بتحقق محلِّه حتماً ثم يزول بوقوع العِتقِ في المواد التي سببُ حرمتِها محضُ القرابةِ النَّسَبية كالمذكورات ويبقى في البواقي على حاله مستتبِعاً لجميع أحكامِه المقصودةِ منه شرعاً ، وأما حلُّ الوطءِ فليس من تلك الأحكامِ فلا ضيرَ في تخلُّفه عنه كما في المجوسية . والأمهاتُ تعُمُّ الجداتِ وإن عَلَوْن ، والبناتُ تتناول بناتِهن وإن سفَلْن والأخواتُ ينتظِمْن الأخواتِ من الجهات الثلاثِ وكذا الباقياتُ ، والعمةُ كلُّ أنثى ولدَها مَنْ وَلدَ والدَك ، والخالةُ كلُّ أنثى ولدَها مَنْ ولدَ والدتَك قريباً أو بعيداً ، وبناتُ الأخِ وبناتُ الأختِ تتناول القريبةَ والبعيدةَ { وأمهاتكم الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتكم مّنَ الرضاعة } نزّل الله تعالى الرَّضاعة منزلةَ النَسَب حتى سمَّى المُرضِعةَ أماً للرضيع والمُرْضَعة أختاً ، وكذلك زوجُ المرضعةِ أبوه وأبواه جدّاه ، وأختُه عمتُه ، وكلُّ ولدٍ وُلد له من غير المُرْضِعة قبلَ الرّضاعِ وبعده فهم إخوتُه وأخواتُه لأبيه ، وأمُّ المرضعةِ جدتُه وأختُها خالتُه ، وكلٌّ مِنْ ولدِها من هذا الزوجِ فهم إخوتُه وأخواتُه لأبيه وأمه ، ومِنْ ولدها من غيره فهم إخوتُه وأخواتُه لأمه ، ومنه قولُه عليه السلام : « يحرُم من الرَّضاع ما يحرُم من النَسَب » وهو حكمٌ كليٌّ جارٍ على عمومه ، وأما أمُّ أخيه لأب وأختُ ابنِه لأم وأمُّ أمِّ ابنِه وأمُّ عمِّه وأمُّ خالِه لأب فليست حرمتُهن من جهة النسبِ حتى يحِلَّ بعمومه ضرورةَ حلِّهن في صور الرضاعِ بل من جهة المصاهرةِ ألا يرى أن الأولى موطوءةُ أبيه والثانيةَ بنتُ موطوءتِه والثالثةَ أمُّ موطوءتِه والرابعةَ موطوءةُ جدِّه الصحيحِ والخامسةَ موطوءةُ جدِّه الفاسد
{ وأمهات نِسَائِكُمْ } شروعٌ في بيان المحرَّماتِ من جهة المصاهرةِ إثرَ بيان المحرَّماتِ من جهة الرَّضاعةِ التي لها لُحمةٌ كلُحمةِ النَسبِ ، والمرادُ بالنساء المنكوحاتُ على الإطلاق سواءٌ كن مدخولاً بهن أو لا وعليه جمهورُ العلماء .(2/60)
روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال في رجل تزوج امرأةً ثم طلقها قبل أن يدخُلَ بها إنه لا بأس بأن يتزوجَ ابنتَها ولا يحِلُّ له أن يتزوجَ أمَّها . وعن عمرَ وعِمرانَ بنِ الحصين رضي الله عنهما : أن الأمَّ تحرُم بنفس العقدِ ، وعن مسروقٍ : هي مُرسلةٌ فأرسِلوا ما أرسلَ الله . وعن ابن عباس : أبهِموا ما أبهم الله ، خلا أنه روي عنه وعن علي وزيد وابنِ عمرَ وابنِ الزبيرِ رضي الله عنهم أنهم قرَؤا وأمهاتُ نسائِكم اللاتي دخلتم بهن ، وعن جابر روايتان وعن سعيدِ بنِ المسيِّبَ عن زيد أنه إذا ماتت عنده فأخذ ميراثَها كُره أن يخلُفَ على أمها وإذا طلقها قبل أن يدخُل بها فإن شاء فَعَل ، أقام الموتَ في ذلك مُقام الدخولِ كما قام مقامَه في باب المهرِ والعِدّةِ ، ويُلحقُ بهن الموطوءاتُ بوجه من الوجوه المعدودةِ فيما سبَق والممسوساتُ ونظائرُهن . والأمهاتُ تعم المرضِعاتِ كما تعم الجداتِ حسبما ذكر { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتى فِى حُجُورِكُمْ } الربائبُ جمعُ ربيبة فعيل بمعنى مفعول ، والتاء للنقل إلى الاسمية والربيبُ ولدُ المرأةِ من آخَرَ سمي به لأنه يرُبُّه غالباً كما يرُبُّ ولدَه وإن لم يكن ذلك أمراً مطَّرِداً ، وهو المعنيُّ بكونهن في الحُجور فإن شأنهن الغالبَ المعتادَ أن يكنّ في حضانة أمهاتِهن تحت حمايةِ أزواجِهن لا كونُهن كذلك بالفعل ، وفائدةُ وصفِهن بذلك تقويةُ عِلةِ الحُرمةِ وتكميلُها كما أنها هي النُّكتةُ في إيرادهن باسم الربائبِ دون بناتِ النساءِ فإن كونَهن بصدد احتضانِهم لهن وفي شرف التقلّبِ في حجورهم وتحت حمايتِهم وتربيتِهم مما يقوِّي الملابسةَ والشبَهَ بينهن وبين أولادِهم ويستدعي إجراءَهن مُجرى بناتِهم ، لا تقييدُ الحرمةِ بكونهن في حجورهم بالفعل ، كما روي عن علي رضي الله عنه وبه أخذ داودُ ، ومذهبُ جمهورِ العلماءِ ما ذكر أولاً بخلاف ما في قوله تعالى : { مّن نِّسَائِكُمُ اللاتى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } فإنه لتقييدها به قطعاً فإن كلمةَ مِنْ متعلقةٌ بمحذوف وقع حالاً من ربائبكم اللاتي استقرَرْنَ في حجوركم كائناتٍ من نسائكم الخ ، ولا مساغَ لجعله حالاً من أمهاتُ أو مما أضيفت هي إليه خاصةً وهو بيِّنٌ لا سِترةَ به ولا مع ما ذكر أو لا ضرورةَ أن حاليتَه من ربائبكم أو من ضميرها تقتضي كونَ كلمةِ مِنْ ابتدائيةً وحاليتُه من أمهاتُ أو من نسائكم تستدعي كونَها بيانيةً ، وادعاءُ كونِها اتصاليةً منتظمةٌ لمعنى الابتداءِ والبيان ، وجعلُ الموصولِ صفةً للنساءَيْنِ مع اختلاف عاملَيْهما مما يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عن أمثاله مع أنه سعيٌ في إسكات ما نطَق به النبيُّ عليه الصلاة والسلام واتفق عليه الجمهورُ حسبما ذُكر فيما قبلُ ، وأما ما نقل من القراءة فضعيفةُ الروايةِ وعلى تقدير الصحةِ محمولةٌ على النسخ ومعنى الدخولِ بهن إدخالُهن السِّترَ ، والباءُ للتعدية وهي كنايةٌ عن الجماع كقولهم : بنى عليها وضرَب عليها الحجابَ وفي حكمه اللمسُ ونظائرُه كما مر { فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ } أي فيما قبل { دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } أصلاً { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أي في نكاح الربائبِ ، وهو تصريحٌ بما أَشعَرَ به ما قبله ، والفاءُ الأولى لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فإن بيانَ حكمِ الدخولِ مستتبِعٌ لبيانِ حكمِ عدمِه { وحلائل أَبْنَائِكُمُ } أي زوجاتُهم ، سُمّيت الزوجةُ حليلةً لحِلّها للزوج أو لحلولها في محله ، وقيل : لَحِلّ كلَ منهما إزارَ صاحبِه ، وفي حكمهن مزْنياتُهم ومَن يجرين مَجراهن من الممسوسات ونظائرِهن ، وقولُه تعالى : { الذين مِنْ أصلابكم } لإخراج الأدعياءِ دون أبناءِ الأولادِ والأبناءِ من الرَّضاع فإنهم وإن سفَلوا في حكم الأبناءِ الصُلْبيين { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين } في حيز الرفعِ عطفاً على ما قبله من المحرمات ، والمرادُ به جمعُهما في النكاح لا في مِلك اليمينِ ، وأما جمعُهما في الوطء بملك اليمينِ فملحقٌ به بطريق الدِلالةِ لاتحادهما في المدار ولقوله عليه الصلاة والسلام :(2/61)
« مَنْ كان يؤمن بالله واليومِ الآخرِ فلا يجمَعَنّ ماءَه في رحم أختين » بخلاف نفسِ ملكِ اليمينِ فإنه ليس في معنى النكاحِ في الأفضاء إلى الوطء ولا مستلزِماً له ، ولذلك يصَحُّ شراءُ المجوسيةِ دون نكاحِها حتى لو وطِئهما لا يحِلّ له وطءُ إحداهما حتى يحرُمَ عليه وطءُ الأخرى بسبب من الأسباب ، وكذا لو تزوج أختَ أَمَتِه الموطوءةِ لا يحل له وطءُ إحداهما حتى يحرُم عليه الأخرى ، لأن المنكوحةَ موطوءةٌ حكماً فكأنه جمعهما وطئاً ، وإسنادُ الحرمةِ إلى جمعهما لا إلى الثانية منهما بأن يقال : وأخواتُ نسائِكم للاحتراز عن إفادة الحُرْمةِ المؤبدةِ كما في المحرماتِ السابقاتِ ولكونه بمعزل من الدِلالة على حرمة الجمعِ بينهما على سبيل المعية ، ويسترك في هذا الحكمِ الجمعُ بين المرأةِ وعمتِها ونظائرِها ، فإن مدارَ حرمةِ الجمعِ بين الأختين إفضاؤُه إلى قطع ما أمر الله بوصله وذلك متحققٌ في الجمع بين هؤلاءِ بل أولى ، فإن العمةَ والخالةَ بمنزلة الأمِّ فقوله عليه السلام : « لا تُنكحُ المرأةُ على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها » من قبيل بيان التفسيرِ لا بيانِ التغييرِ ، وقيل : هو مشهورٌ يجوز به الزيادةُ على الكتاب { إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } استثناءٌ منقطعٌ أي لكن ما قد مضى لا تؤاخذون به ولا سبيل إلى جعله متصلاً بقصد التأكيدِ والمبالغةِ كما مر فيما سلف لأن قوله تعالى : { إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } تعليلٌ لما أفاده الاستثناءُ فيتحتم الانقطاعُ ، وقال عطاء والسدي : معناه إلا ما كان من يعقوبَ عليه السلام فإنه قد جمع بين لي أمِّ يهوذا وبين راحيلَ أمِّ يوسفَ عليه الصلاة والسلام ، ولا يساعده التعليلُ لأن ما فعله يعقوبُ عليه السلام كان حلالاً في شريعته ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كان أهلُ الجاهليةِ يحرِّمون ما حرم الله تعالى إلا امرأةَ الأبِ والجمعَ بين الأختين . وروى هشامُ بنُ عبدِ اللَّه عن محمد بنِ الحسنِ أنه قال : كان أهلُ الجاهلية يعرِفون هذه المحرماتِ إلا اثنتين : نكاحَ امرأةِ الأبِ والجمعَ بين الأختين ، ألا يُرى أنه قد عُقِّب النهيُ عن كل منهما بقوله تعالى : { إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } وهذا يُشير إلى كون الاستثناءِ فيهما على سَنن واحدٍ ويأباه اختلافُ التعليلين .(2/62)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
{ والمحصنات } بفتح الصاد وهن ذواتُ الأزواجِ أحصنهنّ التزوجُ أو الأزواجُ أو الأولياءُ أي أَعَفَّهن عن الوقوع في الحرام ، وقرىء على صيغة اسمِ الفاعلِ فإنهن أحصَنَّ فزوجَهن عن غير أزواجِهن ، أو أحصَنَّ أزواجَهن . وقيل : الصيغةُ للفاعل على القراءة الأولى أيضاً وفتحُ الصادِ محمولٌ على الشذوذ كما في نظيريه مُلقَح ومسهَب من ألقح وأسهب ، قيل : قد ورد الإحصانُ في القرآن على أربعة معانٍ ، الأولُ : التزوجُ كما في هذه الآية الكريمةِ ، والثاني : العفةُ كما في قوله تعالى : { مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مسافحين } ، الثالث : الحريةُ كما في قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات } والرابع : الإسلامُ كما في قوله تعالى : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } قيل في تفسيره : أي أسلمن وهي معطوفةٌ على المحرمات السابقة ، وقوله تعالى : { مّنَ النساء } متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً منها أي كائناتٍ من النساء ، وفائدتُه تأكيدُ عمومِها في دفع توهُّمِ شمولِها للرجال بناءً على كونها صفةً للأنفس كما تُوهِّم { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم } استثناءٌ من المحصَنات استثناءَ النوعِ من الجنس ، أي ملكتُموه ، وإسنادُ المِلكِ إلى الأَيْمان لما أن سببَه الغالبَ هو الصفةُ الواقعةُ بها وقد اشتهر ذلك في الإرِقاء ، لا سيما في إناثهم وهن المراداتُ هاهنا رعايةً للمقابلة بينه وبين مِلكِ النكاحِ الواردِ على الحرائر ، والتعبيرُ عنهن بما لإسقاطهن بما فيهن من قصور الرقِّ عن رتبة العقلاءِ ، وهي إما عامةٌ حسب عمومِ صلتِها فالاستثناءُ حينئذ ليس لإخراج جميعِ أفرادِها من حكم التحريمِ بطريق شمولِ النفي بل بطريق نفيِ الشمولِ المستلزِمِ لإخراج بعضِها أي حُرمت عليكم المحصَناتُ على الإطلاق إلا المحصناتِ اللاتي ملكتُموهن فإنهن لسن من المحرمات على الإطلاق بل فيهن من لا يحرُم نكاحُهن في الجملة وهن المسْبياتُ بغير أزواجِهن أو مطلقاً حسب اختلافِ الرأيين ، وإما خاصةٌ بالمذكورات فالمعنى : حُرمت عليكم المحصناتُ إلا اللاتي سُبِين فإن نكاحَهن مشروعٌ في الجملة أي لغير مُلاّكِهن ، وأما حِلُّهن لهم بحكم ملكِ اليمينِ فمفهومٌ بدِلالة النصِّ لاتحاد المَناطِ لا بعبارته لما عرفت من أن مَساقَ النظمِ الكريمِ لبيان حرمةِ التمتعِ بالمحرمات المعدودةِ بحكم ملكِ النكاحِ ، وإنما ثبوتُ حرمةِ التمتعِ بهن بحكم مِلكِ اليمينِ بطريق دِلالةِ النصِّ وذلك مما لا يجري فيه الاستثناءُ قطعاً ، وأما عدُّهن من ذوات الأزواج مع تحقق الفُرقةِ بينهن وبين أزواجِهن قطعاً يالتبايُن أو بالسبْي على اختلاف الرأيين فمبنيٌّ على اعتقاد الناسِ حيث كانوا حينئذ غافلين عن الفُرقة ، ألا ترى إلى ما رُوي عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه من أنه قال : أصبْنا يومَ أوطاس سبايا لهن أزواجٌ فكرِهْنا أن نقَع عليهن فسألنا النبيَّ عليه السلام . وفي رواية عنه قلنا : يا رسولَ الله كيف نقَع على نساءٍ قد عرَفنا أنسابَهن وأزواجَهن؟ فنزلت ، والمحصناتُ من النساء إلا ما ملكت إيمانُكم فاستحللناهن .(2/63)
وفي رواية أخرى عنه ونادى منادي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : ألا لا توطأَ حاملٌ حتى تضَعَ ولا حائلٌ حتى تحيضَ فأباح وطأَهن بعد الاستبراءِ ، وليس في ترتيب هذا الحكمِ على نزول الآيةِ الكريمةِ ما يدل على كونها مَسوقةً له فإن ذلك إنما يتوقف على إفادتها له بوجه من وجوه الدِلالةِ لا على إفادتها بطريق العبارةِ أو نحوِها .
هذا وقد روي عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه قال : إنها نزلت من نساءٍ كنّ يهاجِرْن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهن أزواجٌ فيتزوجُهن بعضُ المسلمين ثم يقدَمُ أزواجُهن مهاجرين فنهى عن نكاحهن ، فالمحصناتُ حينئذ عبارةٌ عن المهاجرات اللاتي يَتَحقق أو يُتوقع من أزواجهن الإسلامُ والمهاجَرَة ، ولذلك لم يزُلْ عنهن اسمُ الإحصانِ ، والنهيُ للتحريم المحقق ، وتعرُّفِ حالِ المتوقعِ ، وإلا فما عداهن بمعزل من الحُرمة واستحقاقِ إطلاقِ الاسمِ عليهن ، كيف لا وحين انقطعت العلاقةُ بين المَسْبيةِ وزوجِها مع اتحادهما في الدين فلأَنْ تنقطِعَ ما بين المهاجِرَةِ وزوجِها أحقُّ وأولى كما يُفصح عنه قولُه عز وجل : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } الآية .
{ كتاب الله } مصدرٌ مؤكّدٌ أي كتَبَ الله { عَلَيْكُمْ } تحريمَ هؤلاءِ كتاباً وفرضه فرضاً ، وقيل : منصوبٌ على الإغراء بفعل مضمرٍ أي الزَموا كتابَ الله وعليكم متعلقٌ إما بالمصدر وإما بمحذوف وقع حالاً منه وقيل : هو إغراءٌ آخَرُ مؤكدٌ لما قبله قد حُذف مفعولُه لدِلالة المذكورِ عليه أو بنفس عليكم على رأي من جوّز تقديمَ المنصوبِ في باب الإغراءِ كما في قوله :
يا أيها المائحُ دَلْوي دونكا ... إني رأيتُ الناسَ يحمَدونكا
وقرىء كُتُبُ الله بالجمع والرفع أي هذه فرائضُ الله عليكم وقرىء كتَبَ الله بلفظ الفعل { وَأُحِلَّ لَكُمْ } عطفٌ على حُرّمت عليكم الخ ، وتوسيطُ قوله تعالى : { كتاب الله عَلَيْكُمْ } بينهما للمبالغة في الحمل على المحافظة عن المحرمات المذكورةِ ، وقرىء على صيغة المبنيِّ للفاعل فيكون معطوفاً على الفعل المقدّرِ ، وقيل : بل على حرمت الخ ، فإنهما جملتانِ متقابلتانِ مؤسِّستانِ للتحريم والتحليلِ المنوطَيْن بأمر الله تعالى ولا ضير في اختلاف المُسندِ إليه بحسب الظاهِرِ لا سيما بعد ما أُكّدت الأولى بما يدل على أن المحرِّمَ هو الله تعالى { مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } إشارةٌ إلى ما ذُكر من المحرمات المعدودةِ أي أُحِلَّ لكم نِكاحُ ما سواهن انفراداً وجمعاً ، ولعل إيثارَ اسمِ الإشارةِ المتعرِّضِ لوصف المشارِ إليه وعنوانِه على الضمير المتعرِّضِ للذات فقط لتذكير ما في كل واحدةٍ منهن من العنوان الذي يدور عليه حُكمُ الحرمةِ فيُفهم مشاركةُ مَنْ في معناهن لهن فيها بطريق الدلالةِ فإن حرمةَ الجمعِ بين المرأةِ وعمتِها وبينها وبين خالتِها ليست بطريق الدِلالةِ كما سلف ، وقيل : ليس المرادُ بالإحلالِ مطلقاً أي على جميع الأحوالِ حتى يردَ أنه يلزمُ منه حِلُّ الجمعِ بين المرأةِ وعمتِها وبينها وبين خالتِها ، بل إنما هو إحلالُهن في الجملة أي على بعض الأحوالِ ولا ريب في حل نكاحِهن بطريق الانفرادِ ، ولا يقدَحُ في ذلك حرمتُه بطريق الجمعِ ، ألا ترى أن حرمةَ نكاحِ المعتدّةِ والمطلقةِ ثلاثاً والخامسةِ ونكاحِ الأمةِ على الحرة ونكاحِ الملاعنةِ لا تقدَحُ في حل نكاحِهن بعد العدةِ ، وبعد التحليلِ ، وبعد تطليقِ الرابعةِ وانقضاءِ العدةِ ، وبعد تطليقِ الحرةِ ، وبعد إكذابِ الملاعِنِ نفسَه
وأنت خبير بأن الحلَّ يجب أن يتعلق هاهنا بما تعلق به الحرمةُ فيما سلف وقد تعلق هناك بالجمع فلا بد أن يتعلق الحِلُّ هاهنا به أيضاً { أَن تَبْتَغُواْ } متعلقٌ بالمفعولين المذكورين على أنه مفعولٌ له لكن لا باعتبار ذاتِهما بل باعتبار بيانِهما وإظهارِهما أي بيّن لكم تحريمَ المحرماتِ المعدودةِ وإحلالَ ما سواهن إرادةَ أن تبتغوا بأموالكم ، والمفعولُ محذوفٌ أي تبتغوا النساءَ ، أو متروكٌ أي تفعلوا الابتغاءَ { بأموالكم } بصَرْفها إلى مهورهن ، أو بدلُ اشتمالٍ مما وراءَ ذلكم بتقدير ضميرِ المفعولِ { مُّحْصِنِينَ } حالٌ من فاعل تبتغوا والإحصانُ العفةُ وتحصينُ النفسِ عن الوقوع فيما يوجب اللومَ والعِقابَ { غَيْرَ مسافحين } حالٌ ثانيةٌ منه أو حالٌ من الضمير محصِنين ، والسِفاحُ الزنا والفجورُ من السَّفْح الذي هو صبُّ المنيِّ ، سُمّي به لأنه الغرضُ منه ، ومفعولُ الفعلين محذوفٌ أي محصِنين فروجَكم غيرَ مسافحين الزّواني ، وهي في الحقيقة حالٌ مؤكدةٌ لأن المحصَنَ غيرُ مسافحٍ ألبتةَ ، وما في قوله تعالى : { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ } إما عبارةٌ عن النساء أو عما يتعلق بهن من الأفعال ، وعلى التقديرين فهي إما شرطيةٌ ما بعدها شرطُها ، وإما موصولةٌ ما بعدها صلتُها ، وأياً ما كان فهي مبتدأٌ خبرُها على تقدير كونِها شرطيةً : إما فعلُ الشرطِ أو جوابُه أو كلاهما على الخلاف المعروفِ ، وعلى تقدير كونِها موصولةً قولُه تعالى : { فآتوهنَّ أجورهُنَّ } والفاءُ لتضمُّن الموصولِ معنى الشرطِ ثم على تقدير كونِها عبارةً عن النساء فالعائدُ إلى المبتدأ هو الضميرُ المنصوبُ في فآتوهن ، سواءٌ كانت شرطيةً أو موصولةً ، ومن بيانيةٌ أو تبعيضيةٌ محلُّها النصبُ على الحالية من الضمير المجرورِ في به ، والمعنى فأيُّ فردٍ استمتعتم به أو فالفردُ الذي استمتعتم به حالَ كونِه من جنس النساءِ أو بعضِهن فآتوهن ، وقد روعيَ تارةً جانبُ اللفظِ فأُفرِدَ الضميرُ أولاً ، وأخرى جانبُ المعنى فجمع ثانياً وثالثاً ، وأما على تقدير كونِها عبارةً عما يتعلق بهن فمن ابتدائيةٌ متعلقةٌ بالاستمتاع والعائدُ إلى المبتدأ محذوفٌ والمعنى أيُّ فعلٍ استمتعتم به من جهتهن من نكاح أو خلوةٍ أو نحوِهما ، أو فالفعلُ الذي استمتعتم به من قِبَلهن من الأفعال المذكورةِ فآتوهن أجورَهن لأجله أو بمقابلته والمرادُ بالأجور المهورُ فإنها أجورُ أبضاعِهن .(2/64)
{ فَرِيضَةً } حالٌ من الأجور بمعنى مفروضةً أو نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي إيتاءً مفروضاً أو مصدرٌ مؤكدٌ أي فُرض ذلك فريضةً أي لهن عليكم { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ } أي لا إثمَ عليكم فيما تراضيتم به من الحط عن المهر أو الإبراءِ منه على طريقة قولِه تعالى :(2/65)
{ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ } إثرَ قولِه تعالى : { وَءاتُواْ النساء صدقاتهن } وقوله تعالى : { إَّلا أَن يَعْفُونَ } وتعميمُه للزيادة على المسمى لا يساعدُه رفعُ الجُناحِ عن الرجال لأنها ليست مَظِنةَ الجُناحِ إلا أن يُجعلَ الخِطابُ للأزواج تغليباً فإن أخذَ الزيادةِ على المسمّى مظِنةُ الجُناحِ على الزوجة ، وقيل : فيما تراضيتم به من نفقة ونحوِها ، وقيل : من مقام أو فِراقٍ ، ولا يساعدُه قوله تعالى : { مِن بَعْدِ الفريضة } إذ لا تعلقَ لهما بالفريضة إلا أن يكون الفِراقُ بطريق المخالعةِ ، وقيل : نزلت في المتعة التي هي النكاحُ إلى وقت معلومٍ من يوم أو أكثرَ ، سُمِّيت بذلك لأن الغرضَ منها مجردُ الاستمتاعِ بالمرأة واستمتاعِها بما يُعطى ، وقد أبيحت ثلاثةَ أيامٍ حين فُتحت مكةُ شرَّفها الله تعالى ثم نُسخت لما روي أنه عليه السلام أباحها ثم أصبح يقول : « ياأيها الناسُ إني كنتُ أمرتُكم بالاستمتاع من هذه النساءِ ألا أنَّ الله حَرَّمَ ذَلِكَ إلى يومِ القَيامَةِ » وقيل : أُبيح مرتين وحُرِّم مرتين ، ورُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رجَع عن القول بجوازه عند موتِه ، وقال : « اللهم إني أتوبُ إليك من قولي بالمتعة وقولي في الصرْف » { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً } بمصالح العبادِ { حَكِيماً } فيما شرَع لهم من الأحكام ولذلك شرَع لكم هذه الأحكامَ اللائقةَ بحالكم .(2/66)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
{ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ } مَنْ إما شرطيةٌ ما بعدها شرطُها ، أو موصولةٌ ما بعدها صلتُها والظرفُ متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من فاعل يستطِعْ أي حالَ كونِه منكم وقوله تعالى : { طُولاً } أي غنىً وسعة أي اعتلاءً ونيلاً ، وأصلُه الزيادةُ والفضلُ ، مفعولٌ ليستطِعْ وقوله عز وجل : { أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات } إما مفعولٌ صريح لطَولاً ، فإن أعمالَ المصدرِ المنوَّنِ شائعٌ ذائعٌ كما في قوله تعالى : { أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ } كأنه قيل : ومن لم يستطعْ منكم أن ينال نكاحَهن ، وإما بتقدير حرفِ الجرِّ أي ومن لم يستطعْ منكم غِنىً إلى نكاحهن أو لنكاحهن ، فالجارُّ في محل النصبِ صفةٌ لطولاً أي طَوْلاً مُوصِلاً إليه أو كائناً له أو على نكاحهن ، على أن الطَولَ بمعنى القُدرة . في القاموس الطَّوْلُ والطائلُ والطائلةُ الفَضْلُ والقُدْرَةُ والغِنَى والسَّعَةُ ، ومحلُّ أن بعد حذفِ الجارِّ نَصْبٌ عند سيبويهِ والفراءِ وجرٌّ عند الكسائيِّ والأخفشِ ، وإما بدلٌ من طولاً لأن الطَوْلَ فضلٌ والنكاحُ قدرةٌ ، وإما مفعولٌ ليستطِعْ وطَوْلاً مصدرٌ مؤكدٌ له لأنه بمعناه ، إذ الاستطاعةُ هي الطَّوْلُ ، أو تمييزٌ ، أي ومن لم يستطع منكم نكاحَهن استطاعةً أو من جهة الطَوْل والغِنى أي لا من جهة الطبيعةِ والمزاجِ فإن عدمَ الاستطاعةِ من تلك الجهةِ لا تعلقَ له بالمقام ، والمرادُ بالمحصنات الحرائرُ بدليل مقابلتِهن بالمملوكات ، فإن حريتَهن أحصَنَتْهن عن ذل الرقِّ والابتذالِ وغيرِهما من صفات القصورِ والنقصان . وقوله عز وجل : { وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم } إما جوابٌ للشرط أو خبرٌ للموصول ، والفاءُ لتضمُّنه معنى الشرطِ ، والجارُّ متعلقٌ بفعل مقدرٍ حُذف مفعولُه ، وما موصولةٌ أي فلينكِح امرأةً أو أمةً من النوع الذي ملكتْه أيمانُكم وهو في الحقيقة متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لذلك المفعولِ والمحذوفِ ، ومِنْ تبعيضيةٌ أي فلينكِح امرأةً كائنةً من ذلك النوعِ ، وقيل : مِنْ زائدةٌ والموصولُ مفعولٌ للفعل المقدر أي فلينكِحْ ما ملكتْه أيمانُكم وقولُه تعالى : { مّن فتياتكم المؤمنات } في محل النصبِ على الحالية من الضمير المقدر في ملكت الراجعِ إلى ما ، وقيل : هو المفعولُ للفعل المقدر على زيادة ومما ملكتْ متعلقٌ بنفس الفعلِ ومن لابتداء الغايةِ ، أو بمحذوف وقع حالاً من فتياتكم ومِنْ للتبعيض أي فلينكِحْ فتياتِكم كائناتٍ بعضَ ما ملكت أيمانُكم والمؤمناتِ صفةٌ لفتياتكم على كل تقدير ، وقيل : هو المفعولُ للفعل المقدرِ ومما ملكت على ما تقدم آنفاً ومن فتياتكم حالٌ من العائد المحذوفِ .
وظاهرُ النظمِ الكريمِ يفيد عدمَ جوازِ نكاحِ الأمةِ الكتابيةِ أصلاً كما هو رأيُ أهلِ الحجازِ ، وقد جوزهما أبو حنيفة رحمه الله تعالى متمسكاً بالعمومات فمَحْمَلُ الشرطِ والوصفِ هو الأفضليةُ ولا نِزاعَ فيها لأحد ، وقد رُوي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنه قال : ومما وسع الله على هذه الأمةِ نكاحُ الأمةِ واليهوديةِ والنصرانيةِ وإن كان موسِراً وقوله تعالى : { والله أَعْلَمُ بإيمانكم } جملةٌ معترضةٌ جيء بها لتأنيسهم بنكاح الإماءِ واستنزالِهم من رتبة الاستنكافِ منه ببيان أن مناطَ التفاضُل ومدارَ التفاخُرِ هو الإيمانُ دون الأحساب والأنسابِ على ما نطَق به قولُه عز قائلاً :(2/67)
{ يأَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَائِلَ لتعارفوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم } والمعنى أنه تعالى أعلمُ منكم بمراتبكم في الإيمان الذي به تنتظِمُ أحوالُ العبادِ وعليه يدور فلَكُ المصالحِ في المعاش والمعادِ ولا تعلّقَ له بخصوص الحريةِ والرقِّ ، فرُبّ أمةً يفوق إيمانُها إيمانَ الحرائرِ ، وقولُه تعالى : { بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ } إن أريد به الاتصالُ من حيث الدينُ فهو بيانٌ لتناسبهم من تلك الحيثيةِ إثرَ بيانِ تفاوتِهم في ذلك ، وإن أريد به الاتصالُ من حيث النسبُ فهو اعتراضٌ آخرُ مؤكدٌ للتأنيس من جهة أخرى ، والخطابُ في الموضعين إما لمن كما في الخطاب الذي يعقُبه قد روعيَ فيما سبق جانبُ اللفظِ وهاهنا جانبُ المعنى ، والالتفاتُ للاهتمام بالترغيب والتأنيس وإما لغيرهم من المسلمين كالخِطابات السابقةِ لحصول الترغيبِ بخطابهم أيضاً ، وأياً ما كان فإعادةُ الأمرِ بالنكاح على وجه الخطابِ في قوله تعالى : { فانكحوهن } مع انفهامه من قوله تعالى : { وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم } حسبما ذُكر لزيادة الترغيبِ في نكاحهن ، وتقييدُه بقوله تعالى : { بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } وتصديرُه بالفاء للإيذان بترتبه على ما قبله أي وإذْ قد وقفتم على جلية الأمرِ فانكِحوهن بإذن مواليهن ولا تترفعوا عنهن ، وفي اشتراط إذنِ الموالي دون مباشرتِهم للعقد إشعارٌ بجواز مباشرتِهن له { وآتوهنَّ أجُورَهُنَّ } أي مهورَهن { بالمعروف } متعلقٌ بآتوهن أي أدّوا إليهن مهورَهن بغير مَطْلٍ وضِرارٍ وإلجاءٍ إلى الاقتضاء واللزِّ حسبما يقتضيه الشرعُ والعادةُ ومن ضرورته أن يكون الأداءُ إليهن بإذن الموالي فيكونُ ذكرُ إيتائِهن لبيان جوازِ الأداءِ إليهن لا لكون المهورِ لهن ، وقيل : أصلُه آتُوا موالِيَهن فحُذف المضافُ وأُوصل الفعلُ إلى المضاف إليه { محصنات } حال من مفعول فانكِحوهن أي حال كونِهن عفائفَ عن الزنا .
{ غَيْرَ مسافحات } حالٌ مؤكدةٌ أي غيرَ مجاهراتٍ به { وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } عطفٌ على مسافحات و { لا } لتأكيد ما في { غَيْرِ } من معنى النفي ، والخِدْنُ : الصاحُب ، قال أبو زيد : الأخدانُ الأصدقاءُ على الفاحشة والواحد خِدنٌ وخَدين والجمعُ للمقابلة بالانقسام على معنى ألا يكونَ لواحدة منهن خِدنٌ لا على معنى ألا يكونَ لها أخدانٌ ، أي غيرَ مجاهراتٍ بالزنا ولا مُسِرّاتٍ له وكان الزنا في الجاهلية منقسماً إلى هذين قسمين { فَإِذَا أُحْصِنَّ } أي بالتزويج وقرىء على البناء للفاعل أي أحصَنَّ فزوجَهن أو أزواجَهن { فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة } أي فعلْن فاحشةً وهي الزنا { فَعَلَيْهِنَّ } وجبَ عليهن شرعاً { نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات } أي الحرائرِ الأبكارِ { مّنَ العذاب } من الحد الذي هو جَلدُ مائةٍ فنصفُه خمسون كما هو كذلك قبل الإحصانِ ، فالمرادُ بيانُ عدمِ تفاوتِ حدِّهن بالإحصان كتفاوت حدِّ الحرائرِ ، فالفاءُ في { فَإِنْ أَتَيْنَ } جواب إذا ، والثانيةُ جوابُ إنْ والشرطُ الثاني مع جوابه مترتبٌ على وجود الأولِ كما في قولك : إذا أتيتَني فإنْ لم أكرِمْك فعبدي حرٌّ { ذلك } أي نكاحُ الإماءِ { لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ } أي لمن خاف وقوعَه في الإثم الذي تؤدّي إليه غلبةُ الشهوةِ ، وأصلُ العنَتِ انكسارُ العظْمِ بعد الجبْرِ فاستُعير لكل مشقةٍ وضررٍ يعتري الإنسانَ بعد صلاحِ حالِه ولا ضررَ أعظمُ من مُواقَعه المآثمِ بارتكاب أفحشِ القبائحِ وقيل : أريد به الحدُّ لأنه إذا هَوِيَها يخشى أن يواقِعَها فيُحَدَّ .(2/68)
والأولُ اللائقُ بحال المؤمنِ دون الثاني لإيهامه أن المحذورَ عنده الحدُّ لا ما يوجبه { وَأَن تَصْبِرُواْ } أي عن نكاحهن متعفِّفين كآفّين أنفسَكم عما تشتهيه من المعاصي { خَيْرٌ لَّكُمْ } من نكاحهن وإن سبَقَت كلمةُ الرُّخصةِ فيه لما فيه من تعريض الولدِ للرق ، قال عمرُ رضي الله عنه : «أيُّما حرَ تزوّج بأمة فقد أرَقَّ نصفَه» . وقال سعيد بن جبير : «ما نكاحُ الأمةِ من الزنا إلا قريبٌ» . ولأن حقَّ المولى فيها أقوى فلا تخلُصُ للزوج خُلوصَ الحرائرِ ولأن المولى يقدِرُ على استخدامها كيفما يريد في السفر والحضَرِ وعلى بيعها للحاضرِ والبادي وفيه من اختلال حالِ الزوجِ وأولادِه ما لا مزيدَ عليه ، ولأنها مُمتهنةٌ مبتذَلةٌ خرّاجةٌ ولاّجةٌ ، وذلك كلُّه ذلٌّ ومهانةٌ ساريةٌ إلى الناكح ، والعزةُ هي اللائقةُ بالمؤمنين ولأن مَهرَها لمولاها فلا تقدِر على التمتع به ولا على هِبته للزوج فلا ينتظم أمرُ المنزلِ وقد قال عليه السلام : " الحرائِرُ صلاحُ البيتِ والإماءُ هلاكُ البيتِ " { والله غَفُورٌ } مبالِغٌ في المغفرة فيغفرُ لمن لم يصبِرْ عن نكاحهن ما في ذلك من الأمور المنافيةِ لحال المؤمنين { رَّحِيمٌ }
مبالغٌ في الرحمة ولذلك رَخّص لكم في نكاحهن .(2/69)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)
{ يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ } استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير ما سبق من الأحكام وبيانِ كونِها جاريةً على مناهج المهتدين من الأنبياء والصالحين ، قيل : أصلُ النظمِ الكريمِ يُريد الله أن يبين لكم فزيدت اللامُ لتأكيد معنى الاستقبالِ اللازمِ للإرادة ، ومفعولُ يبين محذوفٌ ثقةً بشهادة السباقِ والسياقِ ، أي يريد الله أن يبين لكم ما هو خفيٌ عنكم من مصالحكم وفضائلِ أعمالِكم أو ما تعبَّدَكم به من الحلال والحرامِ ، وقيل : مفعولُ يريد محذوفٌ تقديرُه يريد الله تشريعَ ما شرَع من التحريم والتحليلِ لأجل التبيينِ لكم ، وهذا مذهبُ البصريين ويعزى إلى سيبويهِ ، وقيل : إن اللامَ بنفسها ناصبةٌ للفعل من غير إضمارِ أن وهي وما بعدها مفعولٌ للفعل المتقدمِ فإن اللامَ قد تقام مَقامَ أن في فعل الإرادةِ والأمرِ فيقال : أردت لأذهبَ وأن أذهبَ وأمرتك لتقومَ وأن تقوم ، قال تعالى : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله } وفي موضع : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ } وقال تعالى : { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ } وفي موضع : { وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ } وفي آخر : { وَأُمِرْتُ لاِعْدِلَ بَيْنَكُمُ } أي أن أعدل بينكم وهذا مذهبُ الكوفيين ، ومنعه البصريون وقالوا : إن وظيفةَ اللامِ هي الجرُّ والنصبُ فيما قالوا بإضمار أن أي أُمِرنا بما أمرنا لنُسلم ويريدون ما يريدون ليطفئوا ، وقيل : يؤوّل الفعلُ الذي قبل اللامِ بمصدر مرفوعِ بالابتداء ويُجعل ما بعده خبراً له ، كما في : «تَسْمَعُ بالمُعَيْديّ خيرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ» أي أن تسمَعَ به ، ويُعزى هذا الرأيُ إلى بعض البصْريين { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ } من الأنبياء والصالحين لتقتدوا بهم { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } إذا أنبتم إليه تعالى عما يقع منكم من التقصير والتفريطِ في مراعاة ما كُلّفتموه من الشرائع فإن المكلفَ قلما يخلو من تقصير يستدعي تلافِيَه بالتوبة ، ويغفرُ لكم ذنوبَكم أو يُرشدُكم إلى ما يردعكم عن المعاصي ويحثُكم على التوبة أو إلى ما يكون كفارةً لسيئاتكم وليس الخطابُ لجميع المكلفين حتى يتخلفَ مرادُه تعالى عن إرادته فيمن لم يتُبْ منهم بل لطائفة معينةٍ حصَلت لهم هذه التوبةُ { والله عَلِيمٌ } مبالِغٌ في العلم بالأشياء التي من جملتها ما شرَع لكم من الأحكام { حَكِيمٌ } مُراعٍ في جميع أفعالِه الحكمةَ والمصلحةَ .(2/70)
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)
{ والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } جملةٌ مبتدأةٌ مَسوقةٌ لبيان كمالِ منفعةِ ما أراده الله تعالى وكمالِ مضرّةِ ما يريد الفَجَرةُ لا لبيان إرادتِه تعالى لتوبته عليهم حتى يكونَ من باب التكريرِ للتقرير ، ولذلك غُيّر الأسلوبُ إلى الجملة الاسميةِ دلالةً على دوام الإرادةِ ولم يُفعلْ ذلك في قوله تعالى : { وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات } للإشارة إلى الحدوثِ وللإيماء إلى كمالِ المباينةِ بين مضموني الجملتين كما مر في قوله تعالى : { الله وَلِيُّ الذين ءامَنُواْ } الآية ، والمراد بمتّبعي الشهواتِ الفَجَرةُ فإن اتّباعَها الائتمارُ بها ، وأما المتعاطي لما سوّغه الشرعُ من المشتهَيات دون غيرِه فهو متّبعٌ له لا لها ، وقيل : هم اليهودُ والنصارى ، وقيل : هم المجوسُ حيث كانوا يُحِلون الأخواتِ من الأب وبناتِ الأخِ وبناتِ الأختِ فلما حرَّمهن الله تعالى قالوا : فإنكم تُحِلون بنتَ الخالةِ مع أن العمةَ والخالةَ عليكم حرامٌ فانكِحوا بناتِ الأخِ والأختِ فنزلت { أَن تَمِيلُواْ } عن الحق بموافقتهم على اتباع الشهواتِ واستحلالِ المحرماتِ وتكونوا زناةً مثلَهم ، وقرىء بالياء التحتانية والضميرُ للذين يتبعون الشهواتِ { مَيْلاً عَظِيماً } أي بالنسبة إلى ميل من اقترف خطيئةً على نُدرة بلا استحلالٍ .
{ يُرِيدُ الله أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ } بما مر من الرُخَص فيما في عهدتكم من مشاقّ التكاليفِ ، والجملةُ مستأنفةٌ لا محل لها من الإعراب { وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } عاجزاً عن مخالفة هواه غيرَ قادرٍ على مقابلة دواعيه وقواه حيث لا يصبِرُ عن اتباع الشهواتِ ولا يستخدم قواه في مشاقِّ الطاعاتِ . وعن الحسن أن المرادَ ضَعفُ الخِلْقةِ ، ولا يساعده المقام ، فإن الجملةَ اعتراضٌ تذييليٌّ مَسوقٌ لتقرير ما قبله من التخفيف بالرُخصة في نكاح الإماءِ ، وليس لضعف البُنيةِ مدخلٌ في ذلك ، وإنما الذي يتعلق به التخفيفُ في العبادات الشاقةِ . وقيل : المراد به ضعفُه في أمر النساءِ خاصة حيث لا يصبِرُ عنهن ، وعن سعيد بن المسيِّب : ما أيِسَ الشيطانُ من بني آدمَ قطُّ إلا أتاهم من قبل النساءِ فقد أتى عليَّ ثمانون سنةً وذهبت إحدى عينيَّ وأنا أعشو بالأخرى وإن أخوفَ ما أخاف على نفسي فتنةُ النساءِ .
وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما وخَلَق الإنسانَ على البناء للفاعل والضميرُ لله عز وجل ، وعنه رضي الله عنه : ثماني آياتٍ في سورة النساء هنّ خيرٌ لهذه الأمةِ مما طلعت عليه الشمسُ وغربت { يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ } { والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } { يُرِيدُ الله أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ } { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها } { وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ } { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل } شروعٌ في بيان بعضِ الحرماتِ المتعلقةِ بالأموال والأنفسِ إثرَ بيانِ الحرماتِ المتعلقةِ بالأبضاع ، وتصديرُ الخطابِ بالنداء والتنبيهِ لإظهار كمالِ العنايةِ بمضمونه والمرادُ بالباطل ما يخالف الشرعَ كالغصب والسرقةِ والخيانةِ والقِمارِ وعقودِ الربا وغيرُ ذلك مما لا يُبِحْه الشرعُ ، أي لا يأكلْ بعضُكم أموالَ بعض بغير طريقٍ شرعي { إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ } استثناءٌ منقطِعٌ ، وعن متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لتجارةً أي إلا أن تكون التجارةُ تجارةً صادرةً عن تراض كما في قوله :(2/71)
إذا كان يوماً ذا كواكِبَ أشْعَنا ... أي إذا كان اليومُ يوماً الخ ، أو إلا أن تكون الأموالُ أموالَ تجارة ، وقرىء تجارةٌ بالرفع على أنّ كان تامةٌ أي ولكن اقصِدوا كونَ تجارةً عن تراض أي وقوعَها ، أو ولكن وجودَ تجارةً عن تراض غيرِ منهيَ عنه ، وتخصيصُها بالذكر من بين سائرِ أسبابِ المُلكِ لكونها معظَمَها وأغلبَها وقوعاً وأوفقَها لذوي المروءاتِ ، والمرادُ بالتراضي مراضاةُ المتبايعَيْن فيما تعاقدا عليه في حال المبايعةِ وقتَ الإيجابِ والقبولِ عندنا ، وعند الشافعيِّ رحمه الله حالةَ الافتراقِ عن مجلس العقد .
{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } أي مَنْ كان من جنسكم من المؤمنين فإن كلَّهم كنفس واحدةٍ ، وعن الحسن : لا تقتُلوا إخوانَكم ، والتعبيرُ عنهم بالأنفس للمبالغة في الزجر عن قتلهم بتصويره بصورة ما لا يكاد يفعلُه عاقلٌ ، أو لا تُهلِكوا أنفسَكم بتعريضها للعقاب باقتراف ما يُفضي إليه فإنه القتلُ الحقيقيُّ كما يُشعِرُ به إيرادُه عَقيبَ النهي عن أكل الحرامِ فيكونُ مقرَّراً للنهي السابقِ ، وقيل : لا تقتلوا أنفسَكم بالبخْع كما يفعله بعضُ الجهلةِ ، أو بارتكاب ما يؤدي إلى القتل من الجنايات ، وقيل : بإلقائها في التهلُكة ، وأُيِّد بما رُوي عن عمْرو بنِ العاص أنه تأوله بالتيمم لخوف البردِ فلم يُنْكر عليه النبي عليه الصلاة والسلام ، وقرىء ولا تُقتِّلوا بالتشديد للتكثير ، وقد جُمع في التوصية بين حفظِ النفسِ وحفظِ المالِ لما أنه شقيقُها من حيث إنه سببٌ لقِوامها وتحصيلِ كمالاتِها واستيفاءِ فضائلِها ، وتقديمُ النهي عن التعرض له لكثرة وقوعِه { إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } تعليل للنهي بطريق الاستئنافِ أي مبالغاً في الرحمة والرأفةِ ، ولذلك نهاكم عما نهاكم عنه ، فإن في ذلك رحمةً عظيمةً لكم بالزجر عن المعاصي وللذين هم في معرِض التعرُّض لهم بحفظ أموالِهم وأنفسِهم ، وقيل : معناه إنه كان بكم يا أمةَ محمدٍ رحيماً حيث أمرَ بني إسرائيلَ بقتلهم أنفسَهم ليكون توبةً لهم وتمحيصاً لخطاياهم ولم يكلِّفْكم تلك التكاليفَ الشاقةَ .(2/72)
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
{ وَمَن يَفْعَلْ ذلك } إشارةٌ إلى القتل خاصةً أو لما قبله من أكل الأموالِ ، وما فيه من معنى البُعدِ للإيذان ببُعْد منزلتِهم في الفساد { عدوانا وَظُلْماً } أي إفراطاً في التجاوز عن الحد وإتياناً بما لا يستحقّه ، وقيل : أُريد بالعدوان التعدّي على الغير وبالظلم الظلمُ على النفس بتعريضها للعقاب ، ومحلُّهما النصبُ على الحالية أو على التعليل ، أي متعدياً وظالماً أو للعدوان والظلم ، وقرىء عِدواناً بكسرالعين { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ } جوابٌ للشرط أي ندخلُه ، وقرىء بالتشديد من صلّى وبفتح النون من صَلاة يَصْليه ومنه شاةٌ مَصْليةٌ ، ويُصليه بالياء والضمير لله تعالى أو لذلك من حيث أنه سببٌ للصَّلْي { نَارًا } أي ناراً مخصوصةً هائلةً شديدةَ العذابِ { وَكَانَ ذلك } أي إصلاؤُه النار { عَلَى الله يَسِيراً } لتحقق الداعي وعدمِ الصارفِ ، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ بطريق الالتفاتِ لتربية المهابةِ وتأكيدِ استقلالِ الاعتراضِ التذييليِّ .(2/73)
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } أي كبائرَ الذنوبِ التي نهاكم الشرعُ عنها مما ذكر هاهنا وما لم يُذكرْ ، وقرىء كبيرَ على إرادة الجنسِ { نُكَفّرْ عَنْكُمْ } بنون العظمةِ على طريقة الالتفاتِ ، وقرىء بالياء بالإسنادِ إليه تعالى ، والتكفيرُ إماطةُ المستحَقِّ من العقاب بثوابٍ أُريد أو بتوبة أي نغفِرْ لكم { سَيّئَاتِكُمْ } صغائرَكم ونمحُها عنكم ، قال المفسرون : «الصلاةُ إلى الصلاة والجمعةُ إلى الجمعة ورمضانُ إلى رمضانَ مكفِّراتٌ لما بينهن من الصغائر إذا اجتُنِبَت الكبائرُ» . واختلف في الكبائر والأقربُ أن الكبيرةَ كلُّ ذنبٍ رتّب الشارعُ عليه الحدَّ أو صرح بالوعيد فيه ، وقيل : ما عُلم حرمتُه بقاطع ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنها سبعٌ : الإشراكُ بالله تعالى وقتلُ النفسِ التي حرمها الله تعالى وقذفُ المحصناتِ وأكلُ مالِ اليتيمِ والربا والفِرارُ من الزحف وعقوقُ الوالدين . وعن علي رضي الله عنه : التعقيبُ بعد الهجرةِ مكان عقوقِ الوالدين ، وزاد ابنُ عمر رضي الله عنهما : السحرَ واستحلالَ البيتِ الحرامِ ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال له : الكبائر سبعٌ ، قال : هي إلى سبعمائةٍ أقربُ منها إلى سبع ، وروي عنه إلى سبعين إذْ لا صغيرةَ مع الإصرار ولا كبيرةَ مع الاستغفار ، وقيل : أريد به أنواعُ الشركِ لقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } وقيل : صِغرُ الذنوب ( وكِبَرُها ) بالإضافة إلى ما فوقها وما تحتها وبحسب فاعلِها ( فقط ) بل بحسب الأوقاتِ والأماكنِ أيضاً ، فأكبرُ الكبائرِ الشركُ وأصغرُ الصغائرِ حديثُ النفسِ ، وما بينهما وسائطُ يصدُق عليه الأمران فمن له أمرانِ منهما ودعت نفسُه إليهما بحيث لا يتمالك فكفّها عن أكبرهما كُفّر عنه ما ارتكبه لِما استحق على اجتناب الأكبرِ من الثواب { وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً } بضم الميم اسمُ مكانٍ هو الجنة { كَرِيماً } أي حسَناً مَرْضياً أو مصدرٌ ميميٌّ أي إدخالاً مع كرامةً ، وقرىء بفتح الميم وهو أيضاً يحتمل المكانَ والمصدر ، ونصبُه على الثاني بفعل مقدرٍ مطاوِعٍ للمذكور أي ندخلكم فتدخلون مدخلاً أو دخولاً كريماً كما في قوله :
وعضّةُ دهرٍ يا ابنَ مروانَ لم تَدَع ... من المال إلا مُسْحَتٌ أو مُجلّفُ
أي لم تدع فلم يبْقَ إلا مسحتٌ الخ .
{ وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ } أي عليكم ، ولعل إيثارَ الإبهامِ عليه للتفادي عن المواجهة بما يشُقُّ عليهم . قال القفال : لما نهاهم الله تعالى عن أكل أموالِ الناسِ بالباطل وقتلِ الأنفسِ عقّبه بالنهي عما يؤدّي إليه من الطمع في أموالهم وتمنّيها ، وقيل : نهاهم أولاً عن التعرض لأموالهم بالجوارح ثم عن التعرّض لها بالقلب على سبيل الحسدِ لتطهير أعمالِهم الظاهرةِ والباطنةِ فالمعنى لا تتمنَّوْا ما أعطاه الله تعالى بعضَكم من الأمور الدنيويةِ كالجاه والمالِ وغيرِ ذلك مما يجري فيه التنافسُ دونكم فإن ذلك قسمةٌ من الله تعالى صادرةٌ عن تدبير لائقٍ بأحوال العبادِ مترتبٍ على الإحاطة بجلائلِ شؤونِهم ودقائقِها فعلى كلّ أحدٍ من المفضّل عليهم أن يرضى بما قسم الله له ولا يتمنى حظَّ المفضَّلِ ولا يحسُده عليه لما أنه معارَضةٌ لحكمِ القدرِ المؤسسِ على الحِكَم البالغةِ لا لأن عدمَه خيرٌ له ولا لأنه لو كان خلافَه لكان مفسدةً له كما قيل إذ لا يساعدُه ما سيأتي من الأمر بالسؤال من فضله تعالى فإنه ناطِقٌ بأن المنهيَّ عنه تمنِّي نصيبِ الغيرِ لا تمنِّي ما زاد على نصيبه مطلقاً .(2/74)
هذا وقد قيل : لما جعل الله تعالى في الميراث للذكر مثلَ حظِّ الأنثيين قالت النساءُ : نحن أحوجُ أن يكون لنا سهمانِ وللرجال سهمٌ واحد لأنا ضعفاءُ وهم أقوياءُ وأقدرُ على طلب المعاشِ منا فنزلت وهذا هو الأنسبُ بتعليل النهي بقوله عز وجل : { لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبوا وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبن } فإنه صريحٌ في جريان التمني بين فريقي الرجالِ والنساءِ ، ولعل صيغةَ المذكرِ في النهي بالبعض والمعنى لكلَ من الفريقين في الميراث نصيبٌ معينُ المقدارِ مما أصابه بحسَب استعدادِه ، وقد عُبّر عنه بالاكتساب على طريقة الاستعارةِ التبعيةِ المبنيةِ على تشبيه اقتضاءِ حالِه لنصيبه باكتسابه إياه تأكيداً لاستحقاق كلَ منهما لنصيبه وتقويةً لاختصاصه به بحيث لا يتخطاه إلى غيره فإن ذلك مما يوجبه الانتهاءُ عن التمني المذكور .
وقوله تعالى : { واسألوا الله مِن فَضْلِهِ } عطفٌ على النهي ، وتوسيطُ التعليلِ بينهما لتقرير الانتهاءِ مع ما فيه من الترغيب في الامتثالِ بالأمر كأنه قيل : لا تتمنَّوا ما يختصُّ بغيركم من نصيبه المكتَسبِ له واسألوا الله تعالى من خزائن نِعمِه التي لا تنفَذُ ، وحُذف المفعولُ الثاني للتعميم ، أي واسألوه ما تريدون فإنه تعالى يعطيكُموه ، أو لكونه معلوماً من السياق أي واسألوه مثلَه ، وقيل : مِنْ زائدةٌ والتقديرُ واسألوه فضلَه وقد جاء في الحديث : " لا يتمنّينّ أحدُكم مالَ أخيه ولكن ليقل : اللهم ارزُقني اللهم أعطِني مثلَه " وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : " سَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ فإنَّهُ يُحِبُّ أن يُسألَ ، وأفضلُ العبادةِ انتظارُ الفرجِ " . وحملُ النصيبِ على الأجر الأُخرويِّ وإبقاءُ الاكتسابِ على حقيقته بجعل سببِ النزولِ ما رُوي أن أمَّ سلَمةَ رضي الله عنها قالت : «ليت الله كتب علينا الجهادَ كما كتبه على الرجال فيكونَ لنا من الأجر مثلُ ما لَهم» على أن المعنى لكلَ من الفريقين نصيبٌ خاصٌّ به من الأجر مترتبٌ على عمله ، فللرجال أجرٌ بمقابلة ما يليق بهم من الأعمال كالجهاد ونحوِه فلا تَتَمنَّ النساءُ خصوصيةَ أجرِ الرجالِ ولْيَسألْنَ من خزائن رحمتِه تعالى ما يليق بحالهن من الأجر لا يساعده سياقُ النظمِ الكريمِ المتعلق بالمواريث وفضائلِ الرجالِ { إِنَّ الله كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً } ولذلك جعل الناسَ على طبقات ورفَع بعضَهم على بعض درجاتٍ حسب مراتبِ استعداداتِهم الفائضةِ عليهم بموجب المشيئةِ المبنيةِ على الحِكَم الأبية .(2/75)
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
{ وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ الوالدان والاقربون } جملةٌ مبتدأةٌ مقرِّرةٌ لمضمون ما قبلها ، ولكلَ مفعولٌ ثانٍ لجعلنا قُدّم عليه لتأكيد الشمولِ ودفعِ توهُّمِ تعلقِ الجعلِ بالبعض دون البعض كما في قوله تعالى : { لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا } أي ولكل تركةٍ جعلنا ورثة متفاوتةً في الدرجة يلونها ويُحرِزون منها أنصباءَهم بحسب استحقاقِهم المنوطِ بما بينهم وبين المورِّثِ من العلاقة ، ومما ترك بيانٌ لكلَ قد فُصل بينهما بما عَمِل فيه كما فُصِل في قوله تعالى : { قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ * السموات والارض } بين لفظِ الجلالةِ وبين صفتِه بالعامل فيما أضيف إليه أعني غيرَ ، أو لكل قومٍ جعلناهم مواليَ أي وارثٍ نصيبٌ معينٌ مغايرٌ لنصيب قومٍ آخرين مما ترك الوالدان والأقربون ، على أن جعلنا مواليَ صفةٌ لكلَ ، والضميرُ الراجعُ إليه محذوفٌ والكلامُ مبتدأٌ وخبرٌ على طريقة قولك : لكلِّ مَنْ خلقه الله إنساناً من رزق الله أي حظٌّ منه .
وأما ما قيل من أن المعنى لكل أحدٍ جعلنا موالي مما ترك أي وُرّاثاً منه على أن مِنْ صلةُ موالي لأنه في معنى الوارثِ وفي ترَك ضميرٌ مستكنٌّ عائدٌ إلى كل ، وقولُه تعالى : { الوالدان والاقربون } استئنافٌ مفسرٌ للموالي كأنه قيل : مَنْ هم؟ فقيل : الوالدانِ ففيه تفكيكٌ للنظم الكريمِ لأن ببيان الموالي بما ذُكر يفوتُ الإبهامُ المصحِّحُ لاعتبار التفاوتِ بينهم وبه يتحقق الانتظامُ كما أشير إليه في تقرير الوجهين الأولَيْن مع ما فيه من خروج الأولادِ من الموالي ، إذ لا يتناولهم الأقربون كما لا يتناول الوالدين . { والذين عَقَدَتْ أيمانكم } هم موالي الموالاةِ ، كان الحليفُ يرِثُ السدسَ من مال حليفِه فنُسخ بقوله تعالى : { وَأُوْلُو الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } وعند أبي حنيفة رحمه الله إذا أسلم رجلٌ على يد رجلٍ وتعاقدا على أن يرثَه ويعقِلَ عنه صح وعليه عقْلُه وله إرثُه إن لم يكن له وارثٌ أصلاً ، وإسنادُ العقدِ إلى الأَيْمان لأن المعتادَ هو المماسحةُ بها عند العقدِ ، والمعنى عقَدَتْ أَيمانُكم عهودَهم فحُذف العهودُ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه ثم حُذف ، وقرىء عقّدتْ بالتشديد وعاقدَتْ بمعنى عاقدتْهم أيمانُكم وماسحتُموهم وهو مبتدأٌ متضمِّنٌ لمعنى الشرطِ ، ولذلك صُدِّر الخبرُ أعني قولَه تعالى : { وَلِكُلٍ جَعَلْنَا } بالفاء ، أو منصوبٌ بمضمر يفسّره ما بعده كقولك : زيداً فاضرِبْه ، أو مرفوعٌ معطوفٌ على الوالدان والأقربون ، وقوله تعالى : { فَئَاتُوهُمْ } الخ ، جملةٌ مبيِّنةٌ للجملة قبلها ومؤكِّدةٌ لها والضميرُ للموالي { إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَىْء } من الأشياء التي من جملتها الإيْتاءُ والمنعُ { شَهِيداً } ففيه وعدٌ ووعيد .(2/76)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
{ الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النساء } كلامٌ مُستأنفٌ مَسوقٌ لبيان سببِ استحقاقِ الرجالِ الزيادةَ في الميراث تفصيلاً إثرَ بيانِ تفاوتِ استحقاقِهم إجمالاً ، وإيرادُ الجملةِ اسميةً والخبرِ على صيغة المبالغةِ للإيذان بعراقتهم في الاتصاف بما أُسند إليهم ورسوخِهم فيه ، أي شأنُهم القيامُ عليهن بالأمر والنهْي قيامَ الولاةِ على الرعية ، وعلل ذلك بأمرين : وهبيٌّ وكسبيٌّ فقيل : { بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } الباءُ سببيةٌ متعلقةٌ بقوامون أو بمحذوف وقع حالاً من ضميره وما مصدريةٌ والضميرُ البارزُ لكِلا الفريقين تغليباً أي قوامون عليهن بسبب تفضيلِ الله تعالى إياهم عليهن أو ملتبسين بتفضيله تعالى الخ ، ووضعُ البعضِ موضِعَ الضميرين للإشعار بغاية ظهورِ الأمرِ وعدمِ الحاجةِ إلى التصريح بالمفضّل والمفضّل عليه أصلاً ولذلك لم يصرَّحْ بما به التفضيلُ من صفات كمالِه التي هي كمالُ العقلِ وحسنُ التدبيرِ ورزانةُ الرأي ومزيدُ القوة في الأعمال والطاعاتِ ولذلك خُصّوا بالنبوة والإمامةِ والولايةِ وإقامةِ الشعائرِ والشهادةِ في جميع القضايا ووجوبِ الجهادِ والجمعةِ وغير ذلك { وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أموالهم } الباءُ متعلقةٌ بما تعلقت به الأولى وما مصدريةٌ وموصولةٌ حُذف عائدُها من الصلة ، ومِنْ تبعيضيةٌ أو ابتدائيةٌ متعلقةٌ بأنفقوا أو بمحذوف وقع حالاً من العائد المحذوفِ أي وبسبب إنفاقِهم من أموالِهم أو بسبب ما أنفقوه من أموالهم أو كائناً من أموالهم وهو ما أنفقوه من المَهر والنفقة . روي أن سعدَ بنَ الربيعِ أحدَ نقباءِ الأنصارِ رضي الله عنهم نشَزَت عليه امرأتُه حبيبةُ بنتُ زيدِ بنِ أبي زُهير فلَطَمها فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا فقال عليه السلام : « لتقتصَّ منه » فنزلت فقال عليه السلام : « أردْنا أمراً وأراد الله أمراً والذي أراده الله خيرٌ »
{ فالصالحات } شروعٌ في تفصيل أحوالِهن وبيانِ كيفية القيامِ عليهن بحسب اختلافِ أحوالِهن أي فالصالحاتُ منهن { قانتات } أي مطيعاتٌ لله تعالى قائماتٌ بحقوق الأزواج { حفظات لّلْغَيْبِ } أي لِمَواجب الغيبِ أي لما يجب عليهن حفظُه في حال غيبةِ الأزواجِ من الفروج والأموال . عن النبي صلى الله عليه وسلم : « خيرُ النساءِ امرأةٌ إن نظَرتَ إليها سرّتْك وإن أمرتها أطاعتْك وإذا غِبت عنها حفِظَتْك في مالها ونفسها » وتلا الآية ، وقيل : لأسرارهم وإضافةُ المالِ إليها للإيذان بأن مالَه في حق التصرفِ في حكم مالِها كما في قوله تعالى : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم } الآية { بِمَا حَفِظَ الله } ما مصدرية أي بحفظه تعالى إياهن بالأمر بحفظ الغيبِ والحثِّ عليه بالوعد والوعيد والتوعيدِ والتوفيقِ له ، أو موصولةٌ أي بالذي حفِظَ الله لهن عليهم من المَهر والنفقةِ والقيامِ بحفظهن والذبِّ عنهن وقرىء بما حفِظ الله بالنصب على حذف المضافِ أي بالأمر الذي حفِظ حقَّ الله تعالى وطاعتَه وهو التعففُ والشفقة على الرجال .(2/77)
{ واللاتى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } خطابٌ للأزواج وإرشادٌ لهم إلى طريق القيامِ عليهم . والخوفُ حالةٌ تحصُل في القلب عند حدوثِ أمرٍ مكروهٍ أو عند الظنِّ أو العلمِ بحدوثه وقد يُراد به أحدُهما أي تظنون عِصيانَهن وترفُّعَهن عن مطاوعتكم من النشَز وهو المرتفع من الأرض { فَعِظُوهُنَّ } فانصحوهن بالترغيب والترهيب { واهجروهن } بعد ذلك إن لم ينفَع الوعظُ والنصيحةُ { فِى المضاجع } أي في المراقد فلا تُدْخِلوهن تحت اللحف ولا تباشِروهن فيكون كنايةً عن الجماع ، وقيل : المضاجعُ المبايتُ أي لا تبايتوهن ، وقرىء في المضْجَع وفي المُضْطجع { واضربوهن } إن لم ينجَعْ ما فعلتم من العظة والهُجران ضرباً غيرَ مبرِّحٍ ولا شائنٍ { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ } بذلك كما هو الظاهرُ لأنه منتهى ما يعد زاجراً { فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً } بالتوبيخ والأذيةِ أي فأزيلوا عنهن التعرّضَ واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن فإن التائبَ من الذنب كمن لا ذنب له .
{ إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } فاحذَروه فإنه تعالى أقدرُ عليكم منكم على مَنْ تحت أيديكم أو أنه تعالى على علو شأنِه يتجاوز عن سيئاتكم ويتوبُ عليكم عند توبتِكم فأنتم أحقُّ بالعفو عن أزواجكم عند إطاعتِهن لكم أو أنه يتعالى ويكبُر أن يظلمَ أحداً أو ينقُصَ حقَّه ، وعدمُ التعرضِ لعدم إطاعتِهن لهم للإيذان بأن ذلك ليس مما ينبغي أن يتحققَ أو يُفرضَ تحققُه وأن الذي يُتوقع منهن ويليق بشأنهن لا سيما بعدما كان ما كان من الزواجر هو الإطاعةُ ولذلك صُدِّرت الشرطيةُ بالفاء المُنْبئةِ عن سببية ما قبلها لما بعدها .(2/78)
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
{ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى الحكام واردٌ على بناء الأمرِ على التقدير المسكوتِ عنه أعني عدمَ الإطاعةِ المؤدِّي إلى المخاصمة والمرافعةِ إليهم . والشقاقُ المخالفةُ إما لأن كلاً منهما يريد أن يشُق على الآخر وإما لأن كلاً منهما في شِق أي جانبٍ غيرِ شقِ الآخَر ، والخوفُ هاهنا بمعنى العلم قاله ابن عباس ، والجزمُ بوجود الشقاقِ لا ينافي بعثَ الحَكَمين لأنه لرجاء إزالتِه لا لتعرُّفِ وجودِه بالفعل وقيل : بمعنى الظنِّ وضميرُ التثنيةِ للزوجين وإن لم يجْرِ ذكرُهما لجري ما يدل عليهما ، وإضافةُ الشقاقِ إلى الظرف إما على إجرائه مُجرى المفعولِ به كما في قوله : يا سارقَ الليلةِ أو مُجرى الفاعل كما في قولك : نهارُه صائمٌ أي إن علمتم أو ظننتم تأكّدَ المخالفةِ بحيث لا يقدِر الزوجُ على إزالتها { فابعثوا } أي إلى الزوجين لإصلاح ذاتِ البَينِ { حُكْمًا } رجلاً وسطاً صالحاً للحكومة والإصلاحِ { مّنْ أَهْلِهِ } من أهل الزوج { وَحَكَماً } آخرَ على صفة الأولِ { مّنْ أَهْلِهَا } فإن الأقاربَ أعرفُ ببواطن الأحوالِ وأطلبُ للصلاح وهذا على وجه الاستحبابِ فلو نُصِبا من الأجانب جاز واختلف في أنهما هل يليان الجمعَ والتفريقَ إن رأيا ذلك فقيل : لهما ذلك وهو المروى عن علي رضي الله عنه وبه قال الشعبيُّ ، وعن الحسن : يَجمعان ولا يفرِّقان وقال مالكٌ : لهما أن يتخالعا إن كان الصلاحُ فيه { إِن يُرِيدَا } أي الحَكَمان { إصلاحا } أي إن قصدا إصلاحَ ذاتِ البينِ وكانت نيتُهما صحيحةً وقلوبُهما ناصحةً لوجه الله تعالى { يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا } يوقِع بين الزوجين الموافقةَ والأُلفةَ وألقى في نفوسهما المودةَ والرأفةَ ، وعدمُ التعرضِ لذكر عدمِ إرادتِهما الإصلاحَ لما ذُكر من الإيذان بأن ذلك ليس مما ينبغي أن يُفرَضُ صدورُه عنهما وأن الذي يليق بشأنهما ويُتوَقّعُ صدورُه عنهما هو إرادةُ الإصلاحِ ، وفيه مزيدُ ترغيبٍ للحَكَمين في الإصلاح وتحذيرٌ عن المساهلة لكيلا يُنسَبَ اختلالُ الأمرِ إلى عدم إرادتِهما فإن الشرطيةَ الناطقةَ بدَوَران وجودِ التوفيقِ على وجود الإرادةِ منبئةٌ عن دوران عدمِه على عدمها ، وقيل : كلا الضميرين للحكَمين أي إن قصدا الإصلاحِ يوفقِ الله بينهما فتتّفقَ كلمتُهما ويحصُلَ مقصودُهما ، وقيل : كلاهما للزوجين أي إن أرادا إصلاحَ ما بينَهما من الشقاق أوقع الله تعالى بينهما الأُلفةَ والوِفاقَ وفيه تنبيهٌ على أن من أصلح نيتَه فيما يتوخاه وفقه الله تعالى لمبتغاه { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } بالظواهر والبواطنِ فيعلم كيف يرفعُ الشقاقَ ويوقعُ الوفاقَ .(2/79)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
{ واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } كلامٌ مبتدأٌ مسوقٌ لبيان الأحكامِ المتعلقةِ بحقوق الوالدين والأقاربِ ونحوِهم إثرَ بيانِ الأحكامِ المتعلقةِ بحقوق الأزواجِ ، صُدِّر بما يتعلق بحقوق الله عز وجل التي هي آكَدُ الحقوقِ وأعظمُها تنبيهاً على جلالة شأنِ حقوقِ الوالدين بنظمها في سلكها في سائر المواقعِ وشيئاً نُصب على أنه مفعول أي لا تشركوا به شيئاً من الأشياء صنماً أو غيرَه أو على أنه مصدرٌ أي لا تشركوا به شيئاً من الإشراك جلياً أو خفياً { وبالوالدين إحسانا } أي أحسنوا إليهما إحساناً { وَبِذِى القربى } أي بصاحب القرابةِ من أخ أو عمَ أو خالٍ أو نحو ذلك { واليتامى والمساكين } من الأجانب { والجار ذِى القربى } أي الذي قرُب جوارُه وقيل له : مع الجِوار قُربٌ واتصالٌ بنسب أو دِين وقرىء بالنصب على الاختصاص تعظيماً لحق الجارِ ذي القربى { والجار الجنب } أي البعيدِ أو الذي لا قرابةَ له وعنه عليه الصلاة والسلام : « الجيرانُ ثلاثةٌ ، فجارٌ له ثلاثةُ حقوقٍ : حقُّ الجِوارِ وحقُّ القرابةِ وحق الإسلامِ وجارٌ له حقان : حقُّ الجوارِ وحقُّ الإسلام وجارٌ له حقٌّ واحدٌ وهو حقُّ الجِوارِ وهو الجارُ من أهل الكتابِ » وقرىء والجار الجنب { والصاحب بالجنب } أي الرفيقِ في أمر حسنٍ كتعلُّم وتصرُّف وصناعةٍ وسفرٍ فإنه صحِبَك وحصل بجانبك ، ومنهم من قعد بجنبك في مسجد أو مجلسٍ أو غيرِ ذلك من أدنى صحبةٍ التَأَمَتْ بينك وبينه . وقيل : هي المرأةُ { وابن السبيل } هو المسافرُ المنقطِعُ به أو الضيفُ { وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم } من العبيد والإماءِ { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً } أي متكبراً يأنف عن أقاربه وجيرانِه وأصحابِه ولا يلتفت إليهم { فَخُوراً } يتفاخرُ عليهم ، والجملةُ تعليلٌ للأمر السابق .(2/80)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
{ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل } بضم الباءِ وسكون الخاءِ وقرىء بفتح الأولِ وبفتحهما وبضمِّهما ، والموصولُ بدلٌ من قوله تعالى : { مَن كَانَ } أو نصبٌ على الذم أو رفعٌ عليه أي هم الذين أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ تقديرُه الذين يبخلون ويفعلون ويصنعون أحقّاءُ بكل مَلامةٍ { وَيَكْتُمُونَ مَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ } أي من المال والغِنى ، أو من نعوته عليه السلام التي بيّنها لهم في التوراة وهو أنسبُ بأمرهم للناس بالبخل ، فإن أحبارَهم كانوا يكتُمونها ويأمرون أعقابَهم بكتمها { وَأَعْتَدْنَا للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً } وُضع الظاهرُ موضعَ المُضمرِ إشعاراً بأن مَنْ هذا شأنُه فهو كافرٌ بنعمة الله تعالى ومن كان كافراً بنعمة الله تعالى فله عذابٌ يُهينُه كما أهان النعمةَ بالبخل والإخفاءِ ، والآيةُ نزلت في طائفة من اليهود كانوا يقولون للأنصار بطريق النصيحةِ : لا تُنفِقوا أموالَكم فإنا نخشى عليكم الفقرَ ، وقيل : في الذين كتموا نعتَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبلها .
{ والذين يُنْفِقُونَ أموالهم رِئَاء الناس } أي للفَخار وليقالَ : ما أسخاهم وما أجْودَهم لا ابتغاءَ وجهِ الله تعالى ، وهو عطفٌ على الذين يبخلون أو على الكافرين وإنما شاركوهم في الذم والوعيدِ لأن البخل والسَّرَفَ الذي هو الإنفاقُ فيما لا ينبغي من حيث إنهما طرفا تفريطٍ وإفراطٍ سواءٌ في القُبح واستتباعِ اللائمةِ والذمِّ ، ويجوز أن يكون العطفُ بناءً على إجراء التغايُرِ الوصفيِّ مُجرى التغايُرِ الذاتي كما في قوله :
إلى الملك القَرْمِ وابنِ الهُمام ... وليثِ الكتائبِ في المزْدَحَمْ
أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ يدل عليه قوله تعالى : { وَمَن يَكُنِ } الخ ، كأنه قيل : والذين ينفقون أموالَهم رثاءَ الناسِ { وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الاخر } ليتحرَّوْا بالإنفاق مراضِيَه تعالى وثوابَه وهم مشركو مكةَ المنفقون أموالَهم في عداوة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وقيل : المنافقون { وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً } أي فقرينُهم الشيطانُ وإنما حُذف للإيذان بظهوره واستغنائِه عن التصريح به ، والمرادُ به إبليسُ وأعوانُه حيث حَمَلوهم على تلك القبائحِ وزيَّنوها لهم كما في قوله تعالى : { إِنَّ المبذرين كَانُواْ إخوان الشياطين } ويجوز أن يكون وعيداً لهم بأن الشيطانَ يُقرَنُ بهم في النار .(2/81)
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
{ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ } أي على من ذُكر من الطوائف { لَوْ ءامَنُواْ بالله واليوم الاخر وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ الله } أي ابتغاءَ وجهِ الله تعالى وإنما لم يصرَّحْ به تعويلاً على التفصيل السابقِ واكتفاءً بذكر الإيمانِ بالله واليومِ الآخرِ فإنه يقتضي أن يكون الإنفاقُ لابتغاء وجهِه تعالى وطلَبِ ثوابه الْبتةَ أي وما الذي عليهم أو وأي تَبعةٍ ووبالٍ عليهم في الإيمان بالله والإنفاقِ في سبيله ، وهو توبيخٌ لهم على الجهل بمكان المنفعةِ والاعتقادِ في الشيء بخلاف ما هو عليه وتحريضٌ على التفكر لطلب الجوابِ لعله يؤدّي بهم إلى العلم بما فيه من الفوائد الجليلةِ والعوائدِ الجميلةِ وتنبيهٌ على أن المدعوَّ إلى أمر لا ضررَ فيه ينبغي أن يُجيبَ إليه احتياطاً فكيف إذا كان فيه منافعُ لا تحصى . وتقديمُ الإيمانِ بهما لأهميته في نفسه ولعدم الاعتدادِ بالإنفاق بدونه ، وأما تقديمُ إنفاقِهم رئاءَ الناسِ على عدم إيمانِهم بهما مع كون المؤخَّرِ أقبحَ من المقدَّمِ فلرعاية المناسبةِ بين إنفاقِهم ذلك وبين ما قبله من بُخلهم وأمرِهم للناس به { وَكَانَ الله بِهِم } وبأحوالهم المحقّقةِ { عَلِيماً } فهو وعيدٌ لهم بالعقاب أو بأعمالهم المفروضةِ ، وبيانٌ لإثابته تعالى إياهم ولو كانوا قد آمنوا وأنفقوا كما يُنْبىء عنه قولُه تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } المثقالُ مِفعالٌ من الثِقْل كالمقدار من القدْر وانتصابُه على أنه نعتٌ للمفعول قائمٌ مَقامَه سواءٌ كان الظلمُ بمعنى النقصِ أو بمعنى وضعِ الشيءِ في غير موضعِه أي لا ينقُص من الأجر ولا يزيد في العقاب شيئاً مقدارَ ذرةٍ ، أو على أنه نعتٌ للمصدر المحذوفِ نائبٌ منابَه أي لا يظلم ظلماً مقدارَ ذرةٍ وهي النملةُ الصغيرةُ أو كلُّ جزءٍ من أجزاء الهَباءِ في الكُوَّة وهو الأنسبُ بمقام المبالغةِ فإن قِلَّته في الثقل أظهرُ من قلة النملة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أدخَلَ يدَه في التراب ثم نفَخ فيه فقال : كلُّ واحدة من هؤلاء ذرة .
{ وَإِن تَكُ حَسَنَةً } أي وإن تك مثقالَ ذرةٍ حسنةً ، أنَّث لتأنيث الخبرِ أو لإضافته إلى الذرة ، وحُذِف النونُ من غير قياسٍ تشبيهاً بحروف العلةِ وتخفيفاً لكثرة الاستعمالِ ، وقرىء حسَنةٌ بالرفع على أن كان تامةٌ { يضاعفها } أي يضاعفْ ثوابَها ، جعل ذلك مضاعفةً لنفس الحسَنةِ تنبيهاً على كمال الاتصالِ بينهما كأنهما شيءٌ واحدٌ ، وقرىء يُضْعِفْها وكلاهما بمعنى واحد ، وقرىء نُضاعِفْها بنون العظمةِ على طريقة الالتفات . عن عثمانَ النهدي أنه قال لأبي هريرة رضي الله عنه : بلغني عنك أنك تقول : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الله تعالى يعطي عبدَه المؤمنَ بالحسنة ألفَ ألفِ حسنةٍ » قال أبو هريرة : لا بل سمعتُه صلى الله عليه وسلم يقول : « يُعطيه ألفَيْ ألفِ حسنةٍ » ثم تلا هذه الآيةَ ، والمرادُ الكثرةُ لا التحديد { وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ } ويعطِ صاحِبَها من عنده على نهج التفضُّلِ زائداً على ما وعده في مقابلة العملِ { أَجْراً عَظِيماً } عطاء جزيلاً وإنما سماه أجراً لكونه تابعاً للأجر مَزيداً عليه .(2/82)
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
{ فَكَيْفَ } محلُّها إما الرفعُ على أنها خبرٌ لمبتدإ محذوفٍ وإما النصبُ بفعل محذوفٍ على التشبيه بالحال كما هو رأيُ سيبويهِ أو على التشبيه بالظرف كما هو رأيُ الأخفش أي كيف حالُ هؤلاءِ الكفرةِ من اليهود والنصارى وغيرِهم ، أو كيف يصنعون { إِذَا جِئْنَا } يومَ القيامة { مِن كُلّ أمَّةٍ } من الأمم { بِشَهِيدٍ } يشهَدُ عليهم بما كانوا عليه من فساد العقائدِ وقبائحِ الأعمالِ ، وهو نبيُّهم كما في قوله تعالى : { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } والعاملُ في الظرف مضمونُ المبتدأ والخبرِ من هول الأمرِ وعِظَمِ الشأنِ أو الفعلُ المقدرُ ومِنْ متعلقةٌ بجئنا { وَجِئْنَا بِكَ } يا محمد { على هَؤُلاء } إشارةٌ إلى الشهداء المدلولِ عليهم بما ذكر { شَهِيداً } تشهَدُ على صدقهم لعلمك بعقائدهم لاستجماع شرعِك لمجامعِ قواعدِهم ، وقيل : إلى المكذبين المستفهَمِ عن حالهم تشهد عليهم بالكفر والعصيانِ كما يشهد سائرُ الأنبياءِ على أممهم ، وقيل : إلى المؤمنين كما في قوله تعالى : { لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول } استئنافٌ لبيان حالِهم التي أُشير إلى شدتها وفظاعتها بقوله تعالى : { فَكَيْفَ } فإن أريد بهم المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالتعبيرُ عنهم بالموصول لا سيما بعد الإشارةِ إليهم بهؤلاء لذمِّهم بما في حيِّز الصلةِ والإشعارِ بعلة ما اعتراهم من الحال الفظيعةِ والأمرِ الهائلِ ، وإيرادُه عليه السلام بعنوان الرسالةِ لتشريفه وزيادةِ تقبيحِ حالِ مكذّبيه فإن حقَّ الرسولِ أو يؤمَنَ به ويُطاعَ لا أن يُكفَرَ به ويعصى وإن أريد بهم جنسُ الكفرَةِ فهم داخلون في إمرتهم دخولاً أولياً ، والمرادُ بالرسول حينئذ الجنسُ المنتظِمُ للنبي عليه السلام انتظاماً أولياً ، وأياً ما كان ففيه من تهويل الأمرِ وتفظيعِ الحالِ ما لا يقادَر قدرُه وقوله تعالى : { وَعَصَوُاْ } عطفٌ على كفروا داخلٌ معه في الصلة ، والمرادُ معاصيهم المغايرةُ لكفرهم ففيه دلالةٌ على أن الكفارَ مخاطَبون بفروع الشرائعِ في حق المؤاخذةِ ، وقيل : حالٌ من ضمير كفروا ، وقيل : صلةٌ لموصول آخرَ أي يودّ في ذلك اليومِ الذين جمعوا بين الكفرِ وعصيانِ الرسولِ ، أو الذين كفروا وقد عصَوُا الرسولَ أو الذين كفروا والذين عصَوُا الرسول . و { لَوْ } في قوله تعالى : { لَوْ تسوى بِهِمُ الارض } إن جُعلت مصدريةً فالجملةُ مفعولٌ ليوَدّ أي يودون أن يُدفنوا فتُسوَّى بهم الأرضُ كالموتى ، وقيل : يودّون أنهم لم يُبْعثوا أو لم يُخلَقوا وكأنهم والأرضَ سواءٌ ، وقيل : تصير البهائمُ تراباً فيودّون حالَها ، وإن جُعلت على بابها فالمفعولُ محذوفٌ لدِلالة الجملةِ عليه أي يودون تسويةَ الأرضِ بهم ، وجوابُ لو أيضاً محذوفٌ إيذاناً بغاية ظهورِه أي لسُرُّوا بذلك ، وقوله تعالى : { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } عطف على يود أي ولا يقدِرون على كتمانه لأن جوارحَهم تشهد عليهم ، وقيل : الواو للحال أي يودون أن يُدفنوا في الأرض وهم لا يكتُمون منه تعالى حديثاً ولا يكذبونه بقولهم : { والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ( إذ رُوي أنهم إذا قالوا ذلك ختمَ الله على أفواههم فتشهدُ عليهم جوارحُهم فيشتد الأمرُ عليهم فيتمنَّوْن أن تُسوَّى بهم الأرضُ ) وقرىء تَسَّوَّى على أن أصله تتسوى فأُدغم التاءُ في السين وقرىء تَسَوَّى بحذف التاء الثانية ، يقال : سوّيتُه فتَسوَّى .(2/83)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
{ يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } لما نُهوا فيما سلف عن الإشراك به تعالى نُهوا هاهنا عما يؤدِّي إليه من حيث لا يحتسبون فإنه ( روى أن عبدَ الرحمن بنَ عوفٍ رضي الله عنه صنع طعاماً وشراباً حين كانت الخمرُ مباحةً فدعا نفراً من الصحابة رضي الله عنهم فأكلوا وشربوا حتى ثمِلوا وجاء وقتُ صلاةِ المغربِ فتقدم أحدُهم ليصليَ بهم فقرأ أعبُدُ ما تعبدون فنزلت ) . وتصديرُ الكلامِ بحرفَي النداءِ والتنبيهِ للمبالغة في حملهم على العمل بموجب النهي وتوجيهُ النهي إلى قُرب الصلاةِ مع أن المرادَ هو النهيُ عن إقامتها للمبالغة في ذلك ، وقيل : المرادُ النهيُ عن قُربان المساجدِ لقوله عليه السلام : « جنِّبوا مساجدَكم صِبيانَكم ومجانينَكم » ويأباه قوله تعالى : { حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } فالمعنى لا تُقيموها في حالة السُكرِ حتى تعلموا قبل الشروعِ ما تقولونه ، إذْ بتلك التجرِبةِ يظهر أنهم يعلمون ما سيقرؤونه في الصلاة . وحملُ ما تقولون على ما في الصلاة يستدعي تقدُّمَ الشروعِ فيها على غاية النهي ، وحملُ العلمِ على ما بالقوة على معنى حتى تكونوا بحيث تعلمون ما ستقرؤونه في الصلاة تطويلٌ بلا طائل لأن تلك الحيثيةِ إنما تظهرُ بما ذُكر من التجربة ، على أن إيثارَ ما تقولون على ما تقرؤون حينئذ يكون عارياً عن الداعي ، وقيل : المرادُ بالسكر سُكرُ النعاسِ وغلبةُ النوم ، وأياً ما كان فليس مرجِعُ النهي هو المقيدُ مع بقاء القيدِ مُرخصاً بحاله بل إنما هو القيدُ مع بقاء المقيدِ على حاله { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة فاذكروا الله قياما وَقُعُوداً } كأنه قيل : يا أيها الذين آمنوا لا تسْكَروا في أوقات الصلاة ، وقد روي أنهم كانوا بعد ما نزلت الآيةُ لا يشربون الخمرَ في أوقات الصلاة فإذا صلَّوُا العِشاءَ شرِبوها فلا يُصْبحون إلا وقد ذهب عنهم السكرُ وعلموا ما يقولون .
{ وَلاَ جُنُباً } عطفٌ على قوله تعالى : { وَأَنتُمْ سكارى } فإنه في حيز النصبِ كأنه قيل : لا تقرَبوا الصلاةَ سكارى ولا جنباً والجنبُ من أصابه الجنابةُ يستوي فيه المذكرُ والمؤنثُ والواحدُ والجمع لجَرَيانه مجرى المصدر { إِلاَّ عَابِرِى سبِيلِ } استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوالِ محلُّه النصبُ على أنه حالٌ من ضمير لا تقربوا باعتبار تقيُّدِه بالحال الثانيةِ دون الأولى ، والعاملُ فيه فعلُ النهي أي لا تقربوا الصلاةَ جُنباً في حال من الأحوال إلا حالَ كونِكم مسافرين على معنى أن في حالة السفرِ ينتهي حكمُ النهي لكن لا بطريق شمولِ النفْي لجميع صورِها بل بطريق نفي الشمّولِ في الجملة من غير دَلالةٍ على انتفاء خصوصيةِ البعضِ المنتفي ولا على بقاء خصوصيةِ البعضِ الباقي ولا على ثبوت نقيضِه لا كلياً ولا جزئياً ، فإن الاستثناءَ لا يدل على ذلك عبارةً .(2/84)
نعم يشير إلى مخالفة حكمِ ما بعده لما قبله إشارةً إجماليةً يكتفى بها في المقامات الخِطابيةِ لا في إثبات الأحكامِ الشرعيةِ فإن مَلاكَ الأمرِ في ذلك إنما هو الدليلُ وقد ورد عَقيبَه على طريقة البيانِ ، وقيل : هو صفةٌ لجنُباً على أن إلا بمعنى غير ، أي ولا جُنُباً غيرَ عابري سبيل ، ومن حَملَ الصلاةَ على مواضعها فسَّر العُبورَ بالاجتياز بها وجوّز للجنب عُبورَ المسجدِ وبه قال الشافعيُّ رحمه الله وعندنا لا يجوز ذلك إلا أن يكون الماءُ أو الطريقُ فيه ، وقيل : إن رجالاً من الأنصار كانت أبوابُهم في المسجد وكان يُصيبهم الجنابةُ ولا يجدون ممرّاً إلا في المسجد فرُخِّص لهم ذلك { حتى تَغْتَسِلُواْ } غايةٌ للنهي عن قُربان الصلاةِ حالةَ الجنابةِ ولعل تقديمَ الاستثناءِ عليه للإيذان من أول الأمرِ بأن حكمَ النهي في هذه الصورةِ ليس على الإطلاق كما في صورة السُّكرِ تشويقاً إلى البيان ورَوْماً لزيادة تقرّرِه في الأذهان ، وفي الآية الكريمةِ إشارةٌ إلى أن المصلِّي حقُّه أن يتحرَّزَ عما يُلْهيه ويشغَلُ قلبَه وأن يزكيَ نفسَه عما يدنّسها ولا يكتفي بأدنى مراتبِ التزكية عند إمكان أعاليها .
{ وَإِنْ كُنتُم مرضى } شروعٌ في تفصيل ما أُجملَ في الاستثناء وبيانِ ما هو في حكم المستثنى من الأعذار ، والاقتصارُ فيما قبلُ على استثناء السفرِ مع مشاركة الباقي له في حكم الترخيصِ للإشعار بأنه العذرُ الغالبُ المُنْبيءُ عن الضرورة التي عليها يدور أمرُ الرُخصةِ ، كأنه قيل : ولا جنباً إلا مضْطرين ، وإليه مرجِعُ ما قيل من أنه جُعل عابري سبيلٍ كنايةً عن مطلق المعذورين ، والمرادُ بالمرض ما يمنع من استعمال الماءِ مطلقاً سواءٌ كان ذلك بتعذر الوصولِ إليه أو بتعذر استعمالِه ، { أَوْ على سَفَرٍ } عطفٌ على مرضى أي أو كنتم على سفر ما طال أو قصُر ، وإيرادُه صريحاً مع سبق ذكرُه بطريق الاستثناءِ لبناء الحكمِ الشرعيِّ عليه وبيانِ كيفيتِه فإن الاستثناءَ كما أشير إليه بمعزل من الدِلالة على ثبوته فضلاً عن الدِلالة على كيفيته ، وتقديمُ المرضِ عليه للإيذان بأصالته واستقلالِه بأحكام لا توجد في غيره كالاشتداد باستعمال الماءِ ونحوِه { أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغائط } هو المكانُ الغائرُ المطمئنُّ ، والمجيءُ منه كنايةٌ عن الحدث لأن المعتادَ أو مَنْ يريدُه يذهب إليه ليُوارِيَ شخصَه عن أعين الناسِ ، وإسنادُ المجيءِ منه إلى واحد منهم من المخاطبين دونهم للتفادي عن التصريح بنسبتهم إلى ما يُستحيا منه أو يُستهجن التصريحُ به وكذلك إيثارُ الكنايةِ فيما عُطف عليه من قوله عز وجل : { أَوْ لامستم النساء } على التصريح بالجِماع ونظمُهما في سلك سَبَبَيْ سقوطِ الطهارةِ والمصيرُ إلى التيمم مع كونهما سببَيْ وجوبِها ليس باعتبار أنفسِهما بل باعتبار قيدِهما المستفادِ من قوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً } بل هو السببُ في الحقيقة وإنما ذُكرا تمهيداً له وتنبيهاً على أنه سببٌ للرخصة بعد انعقادِ سببِ الطهارةِ الصغرى والكبرى ، كأنه قيل : أوْلم تكونوا مرضى أو مسافرين بل كنتم فاقدين للماء بسبب من الأسباب مع تحقق ما يوجب استعمالَه ، وتخصيصُ ذكرِه بهذه الصورة مع أنه معتبرٌ في صورة المرضِ والسفرِ أيضاً لنُدرة وقوعِه فيها واستغنائِهما عن ذكره إما لأن الجنايةَ معتبرةٌ فيهما قطعاً فيُعلم من حكمها حكمُ الحدثِ الأصغرِ بدِلالة النصِّ لأن تقديرَ النظمِ : لا تقربوا الصلاةَ في حال الجنابةِ إلا حالَ كونِكم مسافرين فإن كنتم كذلك أو كنتم مرضى الخ ، وإما لما قيل من أن عمومَ إعوازِ الماءِ في حق المسافرِ غالبٌ ، والعجزُ عن استعمال الماءِ القائمِ مَقامَ عدمِه في حق المريض مغنٍ عن ذكره لفظاً ، وما قيل من أن هذا القيدَ راجعٌ إلى الكل وأن قيدَ وجوبِ التطهرِ المكنى عنه بالمجيء من الغائط والملامسةِ معتبرٌ في الكل مما لا يساعده النظمُ الكريم .(2/85)
{ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً } فتعمَّدوا شيئاً من وجه الأرضِ طاهراً ، قال الزجاجُ : الصعيدُ وجهُ الأرضِ تراباً أو غيرَه وإن كان صخراً لا ترابَ عليه لو ضرب المتيممُ يدَه عليه ومسَحَ لكان ذلك طَهورَه وهو مذهبُ أبي حنيفةَ رحمه الله ، وعند الشافعيِّ رحمه الله لا بد أن يعلَقَ باليد شيءٌ من التراب { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ } أي إلى المِرْفقين لما روي أنه عليه السلام تيمّم ومسح يديه إلى مِرْفقيه . ولأنه بدلٌ من الوضوء فيُقدّر بقَدَره { إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } تعليلٌ للترخيص والتيسيرِ وتقريرٌ لهما فإن مَنْ عادتُه المستمرَّةُ أن يعفوَ عن الخاطئين ويغفرَ للمذنبين لا بد أن يكون ميسِّراً لا معسراً ، وقيل : هو كنايةٌ عنهما فإن الترفيهَ والمسامحةَ من روادف العفوِ وتوابعِ الغُفران .(2/86)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب } كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لتعجب المؤمنين من سوء حالِهم والتحذيرِ عن موالاتهم ، والخطابُ لكل من يتأتّى منه الرؤيةُ من المؤمنين وتوجيهُه فيما بعدُ إلى الكل معاً للإيذان بكمال شهرةِ شناعةِ حالِهم وأنها بلغت من الظهور إلى حيث يتعجّبُ منها كلُّ مِنْ يراها والرؤيةُ بَصَريةٌ أي ألم تنظُرْ إليهم فإنهم أحِقّاءُ أن تشاهِدَهم وتتعجب من أحوالهم ، وتجويزُ كونِها قلبيةً على أن { إلى } تتضمن معنى الانتهاءِ لما فعلوه يأباه مقامُ تشهيرِ شنائعِهم ونظمِها في سلك الأمورِ المشاهدةِ والمرادُ بهم أحبارُ اليهود .
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في حَبْريْنِ من أحبار اليهودِ كانا يأتيان رأسَ المنافقين عبدَ اللَّه بنَ أُبيَ ورهطَه يُثبِّطانِهم عن الإسلام . وعنه رضي الله عنه أيضاً أنها نزلت في رُفاعةَ بنِ زيدٍ ومالكِ بنِ دخشم كانا إذا تكلم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لَوَيا لسانَهما وعاباه . والمرادُ بالكتاب هو التوراةُ وحملُه على جنس الكتابِ المنتظِمِ لها انتظاماً أولياً تطويلٌ للمسافة ، وبالذي أوتوه ما بُيِّن لهم فيها من الأحكام والعُلومِ التي من جملتها ما علِموه من نُعوت النبيِّ صلى الله عليه وسلم وحقِّيةِ الإسلامِ ، والتعبيرُ عنه بالنصيب المنبىءِ عن كونه حقاً من حقوقهم التي يجب مراعاتُها والمحافظةُ عليها للإيذان بكمال ركاكةِ آرائِهم حيث ضيّعوه تضييعاً ، وتنوينُه تفخيميٌّ مؤيدٌ للتشنيع عليهم والتعجيبِ من حالهم ، فالتعبيرُ عنهم بالموصول للتنبيه بما في حيز الصلةِ على كمال شناعتِهم والإشعارِ بمكان ما طُويَ ذكرُه في المعاملة المَحْكيةِ عنهم من الهدى الذي هو أحدُ العِوَضَيْنِ ، وكلمةُ { مِنْ } متعلقةٌ إما بأُوتوا أو بمحذوف وقع صفةً لنصيباً مبينةً لفخامته الإضافيةِ إثرَ بيانِ فخامتِه الذاتيةِ أي نصيباً كائناً من الكتاب وقوله تعالى : { يَشْتَرُونَ الضلالة } قيل : هو حالٌ مقدرةٌ من واوِ { أُوتُواْ } ولا ريب في أن اعتبارَ تقديرِ اشترائِهم المذكورِ في الإيتاء مما لا يليقُ بالمقام ، وقيل : هو حالٌ من الموصولِ أي ألم تنظُرْ إليهم حال اشترائِهم ، وأنت خبيرٌ بأنه خالٍ عن إفادة أن مادةَ التشنيعِ والتعجيبِ هو الاشتراءُ المذكورُ وما عطف عليه ، والذي تقتضيه جزالةُ النظمِ الكريمِ أنه استئنافٌ مبينٌ لمناط التشنيعِ ومدارِ التعجيبِ المفهومَيْن من صدر الكلامِ على وجه الإجمالِ والإبهامِ ، مبنيٌّ على سؤال نشأ منه كأنه قيل : ماذا يصنعون حتى يُنظَرَ إليهم؟ فقيل : يأخذون الضلالةَ ويترُكون ما أُوتوه من الهداية ، وإنما طُويَ ذكرُ المتروك لغاية ظهورِ الأمرِ لا سيما بعد الإشعارِ المذكورِ ، والتعبيرُ عن ذلك بالاشتراء الذي هو عبارةٌ عن استبدال السلعةِ بالثمن أي أخذِها بدلاً منه أخذاً ناشئاً عن الرغبة فيها والإعراضِ عنه للإيذان بكمال رغبتِهم في الضلالة التي حقُّها أن يُعرَضَ عنها كلَّ الإعراضِ ، وإعراضِهم عن الهداية التي يتنافس فيها المتنافسون ، وفيه من التسجيل على نهاية سخافةِ عقولِهم وغايةِ ركاكةِ آرائِهم ما لا يخفى حيث صُوِّرت حالُهم بصورة ما لا يكاد يتعاطاه أحدٌ ممن له أدنى تمييزٍ ، وليس المرادُ بالضلالة جنسَها الحاصلَ لهم من قبلُ حتى يُخِلَّ بمعنى الاشتراءِ المنبيءِ عن تأخُّرِها عنه بل هو فردُها الكاملُ وهو عنادُهم وتماديهم في الكفر بعد ما علموا بشأن النبيِّ عليه السلام وتيقنوا بحقِّية دينه وأنه هو النبيُّ العربيُّ المبشَّرُ به في التوراة ، ولا ريب في أن هذه الرتبةَ لم تكن حاصلةً لهم قبل ذلك وقد مر في أوائل سورة البقرة .(2/87)
{ وَيُرِيدُونَ } عطفٌ على يشترون شريكٌ له في بيان محلِّ التشنيعِ والتعجبِ ، وصيغةُ المضارعِ فيهما للدِلالة على الاستمرار التجدّدي ، فإن تجددَ حُكمِ اشترائِهم المذكورِ وتكررَ العملِ بموجبه في قوة تجدّدِ نفسِه وتكرُّرِه ، أي لا يكتفون بضلال أنفسِهم بل يريدون بما فعلوا من كتمان نعوتِه عليه السلام { أَن تَضِلُّواْ } أنتم أيضاً أيها المؤمنون { السبيل } المستقيمَ الموصِلَ إلى الحق .(2/88)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
{ والله أَعْلَمُ } أي منكم { بِأَعْدَائِكُمْ } جميعاً ومن جملتهم هؤلاءِ وقد أخبركم بعداوتهم لكم وما يريدون بكم لتكونوا على حذر منهم ومن مخالطتهم أو هو أعلمُ بحالهم ومآلِ أمرِهم ، والجملةُ معترضةٌ لتقرير إرادتِهم المذكورةِ { وكفى بالله وَلِيّاً } في جميع أمورِكم ومصالِحِكم { وكفى بالله نَصِيراً } في كل المواطنِ فثِقوا به واكتفُوا بولايته ونُصرتِه ولا تتولَّوْا غيرَه ، أو لا تُبالوا بهم وبما يسومونَكم من السوء فإنه تعالى يكفيكم مكرَهم وشرَّهم ففيه وعدٌ ووعيدٌ ، والباءُ مزيدةٌ في فاعل كفَى لتأكيد الاتصالِ الإسناديِّ بالاتصال الإضافيِّ ، وتكريرُ الفعلِ في الجملتين مع إظهار الجلالةِ في مقام الإضمارِ لا سيما في الثاني لتقوية استقلالِهما المناسبِ للاعتراض ، وتأكيدِ كفايتِه عز وجل في كلَ من الولاية والنُّصرةِ والإشعارِ بعلّيتهما ، فإن الألوهية من موجباتهما لا محالة { مّنَ الذين هَادُواْ } قيل : هو بيانٌ لأعدائكم وما بينهما اعتراضٌ ، وفيه أنه لا وجهَ لتخصيص علمِه سبحانه بطائفة من أعدائهم لا سيما في معرِض الاعتراضِ الذي حقُّه العمومُ والإطلاقُ وانتظامُ ما هو المقصودُ في المقام انتظاماً أولياً كما أشير إليه ، وقيل : هو صلةٌ لنصيراً أي ينصرُكم من الذين هادوا كما في قوله تعالى : { فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ الله } وفيه ما فيه من تحجير واسعِ نُصرتِه عز وجل مع أنه لا داعيَ إلى وضع الموصولِ موضِعَ ضميرِ الأعداءِ لأن ما في حيز الصلةِ ليس بوصفٍ ملائمٍ للنصر ، وقيل : هو خبرُ مبتدإٍ محذوف وقع وقوله تعالى : { يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه } صفةٌ له أي من الذين هادوا قومٌ أو فريق يحرفون الخ ، وفيه أنه يقتضي كونَ الفريقِ السابقِ بمعزل من التحريف الذي هو المصداقُ لاشترائهم في الحقيقة ، فالذي يليق بشأن التنزيلِ الجليلِ أنه بيانٌ للموصول الأولِ المتناولِ بحسب المفهومِ لأهل الكتابين قد وُسِّط بينهما ما وسط لمزيد الاعتناءِ ببيان محلِّ التشنيعِ والتعجيبِ والمسارعةِ إلى تنفير المؤمنين منهم وتحذيرِهم عن مخالطتهم والاهتمامِ بحملهم على الثقة بالله عز وجل ، والاكتفاءِ بولايته ونُصرتِه ، وأن قولَه تعالى : { يُحَرّفُونَ } وما عُطف عليه بيانٌ لاشترائهم المذكورِ وتفصيلٌ لفنون ضلالتِهم ، وقد رُوعيت في النظم الكريمِ طريقةُ التفسير بعد الإبهامِ والتفصيلِ إثرَ الإجمالِ رَوْماً لزيادة تقريرٍ يقتضيه الحالُ .
والكَلِمُ اسمُ جنسٍ واحدُه كلِمةٌ كتَمْر وتمرة ، وتذكيرُ ضميرِه باعتبار إفرادِه لفظاً ، وجمعيةُ مواضعِه باعتبار تعدُّدِه معنى ، وقرىء بكسر الكاف وسكون اللام جمع كِلْمة تخفيف كَلِمة وقرىء يحرِّفون الكلامَ والمرادُ به هاهنا إما ما في التوراة خاصةً وإما ما هو أعمُّ منه ومما سيحكى عنهم من الكلمات المعهودةِ الصادرةِ عنهم في أثناء المحاروةِ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مساغَ لإرادة تلك الكلماتِ خاصة بأن يُجعلَ عطفُ قولِه تعالى : { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } الخ ، على ما قبله عطفاً تفسيرياً لما ستقف على سره ، فإن أريد به الأولُ كما هو رأيُ الجمهورِ فتحريفُه إزالتُه عن مواضعه التي وضعه الله تعالى فيها من التوراة كتحريفهم في نعت النبيِّ عليه السلام ( أسمرُ رَبعةٌ ) عن موضعه في التوراة بأن وضعوا مكانه آدمُ طُوالٌ وكتحريفهم الرجمَ بوضعهم بدله الحدَّ أو صرفِه عن المعنى الذي أنزله الله تعالى فيه إلى ما لا صِحةَ له بالتأويلات الزائغةِ الملائمةِ لشهواتهم الباطلةِ ، وإن أُريد به الثاني فلا بد من أن يُرادَ بمواضعه ما يليق به مطلقاً سواءٌ كان ذلك بتعيينه تعالى صريحاً كمواضِعِ ما في التوراة ، أو بتعيين العقلِ أو الدين كمواضعِ غيرِه ، وأياً ما كان فقولُهم : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } ينبغي أن يجريَ على إطلاقه من غير تقييدٍ بزمان أو مكانٍ ولا تخصيصٍ بمادة دون مادةٍ ، بل وأن يُحمَلَ على ما هو أعمُّ من القول الحقيقيِّ ومما يُترجِم عنه عِنادُهم ومكابَرتُهم ليندرجَ فيه ما نَطقَتْ به ألسنةُ حالِهم عند تحريفِ التوراةِ فإن من لا يتفوّه بتلك العظيمةِ لا يكاد يتجاسرُ على مثل هذه الجنايةُ ، وإلا فحملُه على ما قالوه في مجلس النبيِّ صلى الله عليه وسلم من القبائح خاصةً يستدعي اختصاصَ حُكمِ الشرطيةِ الآتيةِ وما بعدها بهن من غير تعرُّضٍ لتحريفهم التوراةَ مع أنه معظمُ جناياتِهم المعدودةِ ، ومن هاهنا انكشف لك السرُّ الموعودُ فتأمل .(2/89)
أي يقولون في كل أمرٍ مخالفٍ لأهوائهم الفاسدةِ سواءٌ كان بمحضر النبيِّ صلى الله عليه وسلم أوْ لا ، بلسان المقالِ أو الحال : سمعنا وعصينا عِناداً وتحقيقاً للمخالفة وقوله تعالى : { واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ } عطف على سمِعنا وعصينا داخلٌ تحت القولِ أي ويقولون ذلك في أثناء مخاطبتِه عليه السلام خاصةً وهو كلامٌ ذو وجهين محتمِلٌ للشر بأن يُحملَ على معنى اسمَعْ حالَ كونِك غيرَ مسمَعٍ كلاماً أصلاً بصمم أو موت أي مدعواً عليك بلا سمِعْتَ أو غيرَ مسمَعٍ كلاماً ترضاه ، فحينئذ يجوز أن يكون نصبُه على المفعولية ، وللخير بأن يُحمل على اسمَعْ منا غيرَ مسمَعٍ مكروهاً . كانوا يخاطبون به النبيَّ صلى الله عليه وسلم استهزاءً به مُظْهرين له عليه السلام إرادةَ المعنى الأخيرِ وهم مضمِرون في أنفسهم المعنى الأولَ مطمئنون به { وراعنا } عطفٌ على اسمَعْ غيرَ مسمَعٍ ، أي ويقولون في أثناء خِطابِهم له عليه السلام هذا أيضاً ، يوردون كلاًّ من العظائمِ الثلاثِ في مواقعها . وهي أيضاً كلمةٌ ذاتُ وجهينِ محتملة للخير بحملها على معنى ارقُبْنا وانظُرْنا نُكلّمْك ، وللشر بحملها على السبّ بالرُّعونة أي الحَمق ، أو بإجرائها مجرى ما يُشبِهُها من كلمة عبرانيةٍ أو سريانية كانوا يتسابُّون بها وهي راعينا كانوا يخاطبونه عليه السلام بذلك ينوون الشتيمةَ والإهانةَ ويُظهرون التوقيرَ والاحترامَ ، ومصيرُهم إلى مسلك النفاقِ في القولين الأخيرَين مع تصريحهم بالعصيان في الأول لما قالوا من أن جميعَ الكفرةِ كانوا يواجهونه بالكفر والعصيانِ ولا يواجهونه بالسبِّ ودُعاءِ السوءِ وقيل : كانوا يقولون الأولَ فيما بينهم ، وقيل : يجوز أن لا ينطِقوا بذلك ولكنهم لمّا لم يؤمنوا به صاروا كأنهم نطَقوا به .(2/90)
{ لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ } أي فتْلاً بها وصرفاً للكلام عن نهجه إلى نسبة السبِّ حيث وضعوا غيرَ مُسمَعٍ لا أن سمعت مكروهاً وأجْرَوا راعِنا المشابِهةَ لراعينا مُجْرى انظُرنا أو فتلاً بها وضمّاً لما يُظهرونه من الدعاء والتوقير إلى ما يُضمِرونه من السبِّ والتحقير { وَطَعْناً فِى الدين } أي قدحاً فيه بالاستهزاءِ والسُّخريةِ ، وانتصابُهما على التعليل ليقولون باعتبار تعلّقِه بالقولين الأخيرين أي يقولون ذلك لصرف الكلامِ عن وجهه إلى السب والطعن في الدين ، أو على الحالية أي لاوِينَ طاعِنين في الدين { وَلَوْ أَنَّهُمْ } عندما سمعوا شيئاً من أوامر الله تعالى ونواهيه { قَالُواْ } بلسان المقالِ أو بلسان الحالِ مكانَ قولِهم : سمعنا وعصَينا { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } إنما أعيد سمِعْنا مع أنه متحقِّقٌ في كلامهم وإنما الحاجةُ إلى وضْعِ أطعنا مكانَ عصينا لا للتنبيه على عدم اعتبارِه بل على اعتبار عدمه كيف لا وسماعُهم سماعُ الردِّ ومُرادُهم بحكايته الإعلامُ بأن عِصيانَهم للأمر بعد سماعِه والوقوفِ عليه فلا بد من إزالته وإقامةِ سماعِ القَبول مُقامَه .
{ واسمع } أي لو قالوا عند مخاطبةِ النبي عليه الصلاة والسلام بدلَ قولِهم اسمَعْ غيرَ مُسمَعٍ : اسمع { وانظرنا } أي ولو قالوا ذلك بدلَ قولِهم : راعِنا ولم يدُسّوا تحت كلامِهم شراً وفساداً ، أي لو ثبت أنهم قالوا هذا مكانَ ما قالوا من الأقوال { لَكَانَ } قولُهم ذلك { خَيْراً لَّهُمْ } مما قالوا { وَأَقْوَمُ } أي أعدلَ وأسدَّ في نفسه ، وصيغةُ التفضيلِ إما على بابها واعتبارِ أصلِ الفضلِ في المفضَّلِ عليه بناءً على اعتقادهم أو بطريق التهكمِ ، وإما بمعنى اسمِ الفاعلِ وإنما قُدّم في البيان حالُه بالنسبة إليهم على حاله في نفسه لأن هِممَهم مقصورةٌ على ما ينفعهم .
{ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ } أي ولكن لم يقولوا ذلك واستمرُّوا على كفرهم فخذلهم الله تعالى وأبعدَهم عن الهدى بسبب كفرِهم بذلك { فَلاَ يُؤْمِنُونَ } بعد ذلك { إِلاَّ قَلِيلاً } قيل : أي إلا إيماناً قليلاً لا يُعبأ به وهو الإيمانُ ببعض الكتُبِ والرسلِ أو إلا زماناً قليلاً وهو زمانُ الاحتضارِ فإنهم يؤمنون حين لا ينفعهم الإيمانُ ، قال تعالى : { وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } وكلاهما ليس بإيمان قطعاً ، وقد جُوِّز أن يراد بالقِلة العدمُ بالكلية على طريقة قوله تعالى : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الاولى } أي إن كان الإيمانُ المعدومُ إيماناً فهم يُحدِثون شيئاً من الإيمان فهو في المعنى تعليقٌ بالمحال وأنت خبيرٌ بأن الكلَّ يأباه ما يعقُبه من الأمر بالإيمان بالقرآنِ الناطقِ بهذا لإفضائه إلى التكليف بالمُحال الذي هو إيمانُهم بعدم إيمانِهم المستمرِّ ، أما على الوجه الأخيرِ فظاهرٌ وأما على الأولين فلاِءَن أمرَهم بالإيمان المُنْجَزِ بجميع الكتبِ والرسلِ تكليفٌ لهم بإيمانهم ببعض الكتبِ والرسلِ وبعدم إيمانِهم إلى وقت الاحتضارِ ، فالوجهُ أن يُحملَ القليلُ على مَنْ يؤمنون لإفضائه إلى وقوعِ إيمانِ مَنْ لعنه الله تعالى وخَذَله مع ما فيه من نسبة القراء إلى الاتفاق على غير المختارِ بل بجعله ضميرَ المفعولِ في لعنهم أي ولكن لعنهم الله إلا فريقاً قليلاً فإنه تعالى لم يلعنْهم فلم ينسَدَّ عليهم بابُ الإيمانِ وقد آمن بعد ذلك فريقٌ من الأحبار كعبد اللَّه بنِ سلام وكعبٍ وأضرابِهما كما سيأتي .(2/91)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
{ يَأَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إما إلى من حُكِيتْ أحوالُهم وأقوالُهم خاصةً بطريق الالتفاتِ ، ووصفُهم تارةً بإيتاء الكتابِ أي التوراةِ وأخرى بإيتاء نصيبٍ منها لتوفية كلَ من المقامَين حقَّه ، فإن المقصودَ فيما سبق بيانُ أخذِهم الضلالةَ وإزالةُ ما أُوتوه بمقابلتها بالتحريف ، وليس ما أزالوه بذلك كلَّها حتى يوصَفوا بإيتائه ، بل هو بعضُها فوُصِفوا بإيتائه ، وأما هاهنا فالمقصودُ تأكيدُ إيجابِ الامتثالِ بالأمر الذي يعقُبه والتحذيرُ عن مخالفته من حيث أن الإيمانَ بالمصدَّق موجِبٌ للإيمان بما يصدِّقه ، والكفرَ بالثاني مقتضٍ للكفر بالأول قطعاً ، ولا ريب في أن المحذورَ عندهم إنما هو لزومُ الكفرِ بالتوراة نفسِها لا ببعضها ، وذلك إنما يتحقق بجعب القرآنِ مصدِّقاً لكلها وإن كان مناطُ التصديقِ بعضاً منها ضرورةَ أن مصدِّقَ البعضِ مصدَّقٌ للكل المتضمِّن له حتماً ، وإما إليهم وإلى غيرهم قاطبةً وهو الأظهرُ ، وأياً ما كان فتفصيلُ ما فُصّل لمّا كان من مظانّ إقلاعِ كل من الفريقين عما كانوا عليه من الضلالة عقّب ذلك بالأمر بالمبادرة إلى سلوك محَجّة الهدايةِ مشفوعاً بالوعيد الشديدِ على المخالفة فقال : { آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا } من القرآن ، عبّر عنه بالموصولِ تشريفاً له بما في حيز الصلةِ وتحقيقاً لكونه من عنده عز وعلا { مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ } من التوراة ، عبّر عنها بذلك للإيذان بكمالِ وقوفِهم على حقيقة الحالِ فإن المعيَّةَ المستدعِيةَ لدوام تلاوتِها وتكرُّر المراجعةِ إليها من موجبات العثور على ما في تضاعيفها المؤدّي إلى العلم بكون القرآنِ مصدِّقاً لها ، ومعنى تصديقِه إياها نزولُه حسبما نُعِتَ لهم فيها أو كونُه موافقاً لها في القصص والمواعيدِ والدعوةِ إلى التوحيد والعدلِ بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحِشِ ، وأما ما يتراءى من مخالفته لها في جزئيات الأحكامِ بسبب تفاوتِ الأممِ والأعصارِ فليست بمخالفة في الحقيقة بل هي عينُ الموافقة من حيث أن كلاًّ منها حقٌّ بالإضافة إلى عصره متضمِّنٌ للحكمة التي عليها يدور فَلَكُ التشريعِ حتى لو تأخر نزولُ المتقدِّم لنزل على وَفق المتأخِّرِ ، ولو تقدم نزولُ المتأخرِ لوافق المتقدّمَ قطعاً ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : « لو كان موسى حياً لما وسِعَه إلا اتّباعي » { مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً } متعلقٌ بالأمر مفيدٌ للمسارعة إلى الامتثال به والجِدِّ في الانتهاء عن مخالفته بما فيه من الوعيد الشديدِ الواردِ على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه ، حيث لم يعلَّقْ وقوعُ المتوعَّدِ به بالمخالفة ولم يصرَّحْ بوقوعه عندها تنبيهاً على أن ذلك أمرٌ محقَّقٌ غنيٌّ عن الإخبار به وأنه على شرف الوقوعِ متوجِّهٌ نحوَ المخاطَبين ، وفي تنكير الوجوهِ المفيدِ للتكثير تهويلٌ للخطب وفي إبهامها لطفٌ بالمخاطَبين وحسنُ استدعاءٍ لهم إلى الإيمان ، وأصلُ الطمسِ محوُ الآثارِ وإزالةُ الأعلام ، أي آمنوا من قبل أن نمحُوَ تخطيطَ صورِها ونزيلَ آثارَها ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : نجعلها كخُفّ البعيرِ أو كحافر الدابةِ ، وقال قتادة والضحاك : نُعْميها كقوله تعالى : { فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ } وقيل : نجعلها منابتَ الشعرِ كوجوه القِردة .(2/92)
{ فَنَرُدَّهَا على أدبارها } فنجعلَها على هيئة أدبارِها وأقفائِها مطموسةً مثلَها ، فالفاءُ للتسبيب أو نُنَكّسَها بعد الطمسِ فنردَّها إلى موضع الأقفاءِ ، والأقفاءَ إلى موضعها ، وقد اكتُفيَ بذكر أشدِّهما فالفاءُ للتعقيب ، وقيل : المرادُ بالوجوه الوجهاءُ على أن الطمْسَ بمعنى مُطلقِ التغييرِ ، أي من قبل أن نغيِّرَ أحوالَ وُجَهائِهم فنسلُبَ إقبالَهم ووجاهتَهم ونكسُوَهم صَغاراً وإدباراً ، أو نردَّهم من حيث جاءوا منه ، وهي أذرِعاتُ الشام ، فالمرادُ بذلك إجلاءُ بني النضيرِ ، ولا يخفى أنه لا يساعدُه مقامُ تشديدِ الوعيدِ وتعميمِ التهديدِ للجميع ، فالوجهُ ما سبق من الوجوه ، وقد اختُلف في أن الوعيدَ هل كان بوقوعه في الدنيا أو في الآخرة؟ فقيل : كان بوقوعه في الدنيا .
ويؤيده ما رُوي أن عبدَ اللَّهِ بنَ سلامٍ رضي الله تعالى عنه لما قدِم من الشام وقد سمع هذه الآيةَ أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتيَ أهلَه فأسلم ، وقال : يا رسولَ الله ما كنت أرى أن أصِلَ إليك حتى يتحوّلَ وجهي إلى قفايَ . وفي رواية جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويدُه على وجهه وأسلم وقال ما قال . وكذا ما رُوي أن عمرَ رضي الله عنه قرأ هذه الآيةَ على كعب الأحبارِ ، فقال كعبٌ : يا رب آمنتُ يا ربِّ أسلمتُ مخافةَ أن يصيبَه وعيدُها ، ثم اختلفوا فقيل : إنه مُنتَظَرٌ بعْدُ ، ولا بد من طمسٍ في اليهود ومسخٍ ، وهو قولُ المبرِّد . وفيه أن انصرافَ العذابِ الموعودِ عن أوائلهم وهم الذين باشروا أسبابَ نزولِه وموجباتِ حلولِه حيث شاهدوا شواهد النبوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذبوها وفي التوراة فحرّفوها وأصرُّوا على الكفر والضلالةِ وتعلَّقَ بهم خِطابُ المشافهةِ بالوعيد ثم نزولَه على من وُجد بعد مئاتٍ من السنين من أعقابهم الضالّين بإضلالهم العالَمين بما مهّدوا من قوانين الغِوايةِ بعيدٌ من حكمة الله تعالى العزيزِ الحكيم ، وقيل : أو وقوعَه كان مشروطاً بعدمِ الإيمانِ وقد آمن من أحبارهم المذكورانِ وأضرابُهما فلم يقعْ ، وفيه أن إسلامَ بعضِهم إن لم يكن سبباً لتأكد نزولِ العذابِ على الباقين لتشديدهم النكيرَ والعِنادَ بعد ازديادِ الحقِّ وضوحاً وقيامِ الحجةِ عليهم بشهادة أماثلِهم العدولِ فلا أقلَّ من ألا يكونَ سبباً لرفعه عنهم ، وقيل : كان الوعيدُ بوقوع أحدِ الأمرين كما ينطِقُ به قوله تعالى : { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أصحاب السبت } فإن لم يقعِ الأمرُ الأولُ فلا نزاعَ في وقوع الثاني ، كيف لا وهم ملعونون بكل لسانٍ في كل زمانٍ ، وتفسيرُ اللعن بالمسخ ليس بمقرَّرٍ الْبتّةَ ، وأنت خبير بأن المتبادرَ من اللعن المشبَه بلعن أصحابِ السبت هو المسخُ وليس في عطفه على الطمس والردِّ على الأدبارِ شائبةُ دلالةٍ على عدم إرادةِ المسخِ لضرورة أنه تغييرٌ مغايرٌ لما عُطف عليه ، على أن المتوعَّدَ به لا بد أن يكون أمراً حادثاً مترتباً على الوعيد محذوراً عندهم ، ليكون مَزْجرةً عن مخالفة الأمرِ ولم يُعهَدْ أنه وقع عليهم لعنٌ بهذا الوصف ، إنما الواقعُ عليهم ما تداولته الألسنةُ من اللعن المستمرِّ الذي ألِفُوه وهو بمعزل من صلاحية أن يكونَ حكماً لهذا الوعيدِ أو مزجرةً للعنيد ، وقيل : إنما كان الوعيدُ بوقوع ما ذُكر في الآخرة عند الحشرِ وسيقع فيها لا محالةَ أحدُ الأمرين أو كلاهما على سبيل التوزيعِ ، وأما ما روي عن عبد اللَّه بنِ سلامٍ وكعبٍ فمبنيٌّ على الاحتياط اللائقِ بشأنهما .(2/93)
والحق أن النظمَ الكريمَ ليس بنص في أحد الوجهين ، بل المتبادرُ منه بحسب المقامِ هو الأولُ لأنه أدخلُ في الزجر وعليه مبنيٌّ ما روي عن الحَبْرين ، لكن لمّا لم يتضِحْ وقوعُه عُلم أن المرادَ هو الثاني ، والله تعالى أعلم وأياً ما كان فلعل السرَّ في تخصيصهم بهذه العقوبةِ من بين العقوباتِ مراعاةُ المشاكلةِ بينهما وبين ما أوجبها من جنايتهم التي هي التحريفُ والتغييرُ والله هو العليمُ الخبير { وَكَانَ أَمْرُ الله } أي ما أمر به كائناً ما كان أو أمرُه بإيقاع شيءٍ ما من الأشياء { مَفْعُولاً } نافذاً كائناً لا محالة فيدخُل فيه ما أُوعِدْتم به دخولاً أولياً ، فالجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما سبق ، ووضعُ الاسمِ الجليلِ موضعَ الضميرِ بطريق الالتفاتِ لتربية المهابةِ وتعليلِ الحُكمِ وتقويةِ ما في الاعتراض من الاستقلال .(2/94)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)
{ إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لتقرير ما قبله من الوعيد وتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ بالأمر بالإيمان ببيان استحالةِ المغفرةِ بدونه فإنهم كانوا يفعلون ما يفعلون من التحريف ويطمَعون في المغفرة كما في قوله تعالى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الادنى } أي على التحريف { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } والمرادُ بالشرك مُطلقُ الكفرِ المنتظمِ لكفر اليهودِ انتظاماً أولياً فإن الشرْعَ قد نص على إشراك أهلِ الكتابِ قاطبةً وقضى بخلود أصنافِ الكفرةِ في النار ، ونزولُه في حق اليهود كما قال مقاتل وهو الأنسبُ بسباق النظمِ الكريم وسياقِه لا يقتضي اختصاصَه بكفرهم بل يكفي اندراجُه فيه قطعاً ، بل لا وجهَ له أصلاً لاقتضائه جوازَ مغفرةِ ما دون كفرِهم في الشدة من أنواع الكفرِ أي لا يغفِرُ الكفرَ لمن اتصف به بلا توبةٍ وإيمانٍ لأن الحكمةَ التشريعيةَ مقتضيةٌ لسدّ بابِ الكفرِ ، وجوازُ مغفرتِه بلا إيمان مما يؤدّي إلى فتحه ولأن ظلماتِ الكفرِ والمعاصي إنما يسترها نورُ الإيمانِ فمن لم يكن له إيمانٌ لم يغفَرْ له شيءٌ من الكفر والمعاصي { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } عطفٌ على خبر إن ، وذلك إشارةٌ إلى الشرك ، وما فيه من معنى البُعدِ مع قُربه في الذكر للإيذان ببُعدِ درجتِه وكونِه في أقصى مراتبِ القُبحِ ، أي ويغفر ما دونه في القبح من المعاصي صغيرةً كانت أو كبيرةً تفضلاً من لدنه وإحساناً من غير توبةٍ عنها لكن لا لكل أحدٍ بل { لِمَن يَشَاء } أي لمن يشاء أن يغفرَ له ممن اتصف به فقط لا بما فوقه ، فإن مغفرتَهما لمن اتصف بهما سواءٌ في استحالة الدخولِ تحت المشيئةِ المبْنيةِ على الحكمةِ التشريعيةِ ، فإن اختصاصَ مغفرةِ المعاصي من غير توبةٍ بأهل الإيمانِ من متمِّمات الترغيبِ فيه والزجْرِ عن الكفر ، ومن علق المشيئةَ بكلا الفعلين وجعل الموصولَ الأولَ عبارةً عمن لم يتُبْ والثاني عمن تاب فقد ضل سواءَ السبيلِ ، كيف لا وإن مساقَ النظمِ الكريمِ لإظهار كمالِ عِظَمِ جريمةِ الكفرِ وامتيازِه عن سائر المعاصي ببيان استحالةِ مغفرتِه وجوازِ مغفرتِها ، فلو كان الجوازُ على تقدير التوبةِ لم يظهَرْ بينهما فرقٌ ، للإجماع على مغفرتها بالتوبة ، ولم يحصُلْ ما هو المقصودُ من الزجر البليغِ عن الكفر والطغيانِ والحملِ على التوبة والإيمان .
{ وَمَن يُشْرِكْ بالله } إظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمارِ لزيادة تقبيحِ الإشراكِ وتفظيعِ حالِ من يتصف به ( ولإظهار المهابةِ من الكفر ) { فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً } أي افترى واختلق ، مرتكباً إثماً لا يقادَر قدْرُه ويُستحقر دونه جميعُ الآثامِ فلا تتعلق به المغفرةُ قطعاً .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ } تعجيبٌ من حالهم المنافيةِ لما هم عليه من الكفر والطغيانِ ، والمرادُ بهم اليهودُ الذين يقولون : نحن أبناءُ الله وأحبّاؤُه ، وقيل : ( ناسٌ من اليهود جاءوا بأطفالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : هل على هؤلاء ذنبٌ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : «لا» قالوا : ما نحن إلا كهيئتهم ما عمِلنا بالنهار كُفّر عنا بالليل وما عمِلنا بالليل كُفّر عنا بالنهار ) أي انظُر إليهم فتعجَّبْ من ادعائهم أنهم أزكياءُ عند الله تعالى مع ما هم عليه من الكفر والإثمِ العظيمِ أو من ادعائهم التكفيرَ مع استحالة أن يُغفرَ للكافر شيءٌ من كفره أو معاصيه ، وفيه تحذيرٌ من إعجاب المرءِ بنفسه وبعمله { بَلِ الله يُزَكّى مَن يَشَاء } عطفٌ على مقدَّر ينساقُ إليه الكلامُ كأنه قيل : هم لا يزكونها في الحقيقة لكَذِبهم وبُطلان اعتقادِهم ، بل الله يزكي من يشاء تزكيتَه ممن يستأهِلُها من المرتَضَيْن من عباده المؤمنين ، إذ هو العليمُ الخبيرُ بما ينطوي عليه البشرُ من المحاسن والمساوي وقد وصفهم الله بما هو متصفون به من القباح .(2/95)
وأصلُ التزكيةِ نفيُ ما يُستقبح بالفعل أو بالقول { وَلاَ يُظْلَمُونَ } عطفٌ على جملةٍ قد حُذفت تعويلاً على دِلالة الحالِ عليها وإيذاناً بأنها غنيةٌ عن الذكر أي يعاقَبون بتلك الفَعلةِ القبيحةِ ولا يظلمون في ذلك العقاب { فَتِيلاً } أي أدنى ظُلمٍ وأصغرَه ، وهو الخيطُ الذي في شِقّ النواةِ يُضرب به المثلُ في القِلة والحَقارةِ ، وقيل : التقديرُ يثاب المزكّون ولا يُنقص من ثوابهم شيءٌ أصلاً ، ولا يساعده مقامُ الوعيد .(2/96)
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)
{ انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ } { كَيْفَ } نُصب إما تشبيهاً بالظرف أو بالحال على الخلاف المشهورِ بين سيبويه والأخفشِ ، والعاملُ يفترون وبه تتعلق { على } أي في أي حالٍ ، أو على أي حالٍ يفترون عليه تعالى الكَذِب ، والمرادُ بيان شناعةِ تلك الحالِ وكمالُ فظاعتِها ، والجملةُ في محل النصبِ بعد نزعِ الخافض والنظرُ متعلقٌ بهما ، وهو تعجيبٌ وتنبيهٌ على أن ما ارتكبوه متضمِّنٌ لأمرين عظيمين موجبين للتعجب : إدعاؤُهم الاتصافَ بما هم متّصفون بنقيضه ، وافتراؤُهم على الله سبحانه . فإن ادعاءهم الزكاةَ عنده تعالى متضمِّنٌ لادعائهم قبولَ الله وارتضاءَه إياهم ، تعالى عن ذلك علواً كبيراً ، ولكون هذا أشنعَ من الأول جُرماً وأعظمَ قبحاً لما فيه من نسبته سبحانه وتعالى إلى ما يستحيل عليه بالكلية من قَبول الكفرِ وارتضائِه لعباده ومغفرةِ كفرِ الكافرِ وسائرِ معاصيه ، وُجِّه النظرُ إلى كيفيته تشديداً للتشنيع وتأكيداً للتعجيب . والتصريحُ بالكذب مع أن الافتراءَ لا يكون إلا كذباً للمبالغة في تقبيح حالِهم .
{ وكفى بِهِ } أي بافترائهم هذا من حيث هو افتراءٌ عليه تعالى مع قطع النظرِ عن مقارنته لتزكية أنفسِهم وسائرِ آثامِهم العظامِ { إِثْماً مُّبِيناً } ظاهراً بيّناً كونُه ( أشدَّ ) إثماً ، والمعنى كفى ذلك وحدَه في كونهم أشدَّ إثماً من كل كَفارٍ أثيم ، أو في استحقاقهم لأشدِّ العقوباتِ لما مر سرُّه ، وجعلُ الضميرِ لزعمهم مما لا مساغَ له لإخلاله بتهويل أمرِ الافتراءِ فتدبرْ .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب } تعجبٌ من حال أخرى لهم ، ووصفُهم بما ذكر من إيتاء النصيبِ لما مر من منافاته لما صدَر عنهم من القبائح ، وقولُه عز وجل : { يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت } استئنافٌ مُبينٌ لمادة التعجب مبنيٌّ على سؤال ينساق إليه الكلامُ كأنه قيل : ماذا يفعلون حين يُنظَر إليهم؟ فقيل : يؤمنون الخ ، والجبتُ الأصنامُ وكلُّ ما عُبد من دون الله تعالى فقيل : أصلُه الجِبسُ وهو الذي لا خير عنده فأُبدل السنُ تاءً ، وقيل : الجبتُ الساحرُ بلغة الحبشة ، والطاغوتُ الشيطانُ ، قيل : هو في الأصل كل ما يُطغي الإنسان . روي ( أن حُيَيَّ بنَ أخطبَ وكعبَ بنَ الأشرف اليهوديين خرجا إلى مكةَ في سبعين راكباً من اليهود ليحالفوا قريشاً على محاربة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وينقُضوا العهدَ الذي كان بينهم وبينه عليه السلام فقالوا : أنتم أهلُ كتابٍ وأنتم أقربُ إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكرَكم فاسجُدوا لآلهتنا حتى نطمئنَّ إليكم ففعلوا ) فهذا إيمانُهم بالجبت والطاغوتِ لأنهم سجَدوا للأصنام وأطاعوا إبليسَ فيما فعلوا ، وقال أبو سفيانَ لكعبٍ : إنك امرُؤٌ تقرأ الكتابَ وتعلم ، ونحن أُميون لا نعلم فأيُنا أهدى طريقاً نحن أم محمدٌ؟ فقال : ماذا يقول محمد؟ قال : يأمر بعبادة الله وحدَه وينهي عن الشرك ، قال : وما دينُكم؟ قالوا : نحن ولاةُ البيتِ نسقي الحاجَّ ونَقْري الضيفَ ونفُكّ العانيَ ، وذكروا أفعالَهم فقال : أنتم أهدى سبيلاً .
وذلك قولُه تعالى : { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي لأجلهم وفي حقّهم { هَؤُلاء } يعنُونهم { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ } أي أقومُ ديناً وأرشدُ طريقةً ، وإيرادُهم بعنوان الإيمانِ ليس من قِبلَ القائلين بل من جهة الله تعالى تعريفاً لهم بالوصف الجميلِ وتخطئةً لمن رجّح عليهم المتصفين بأقبحِ القبائحِ .(2/97)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)
{ أولئك } إشارةٌ إلى القائلين ، وما فيه من معنى البُعْد مع قربهم في الذكر للإشعار ببُعد منزلتِهم في الضلال ، وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى : { الذين لَعَنَهُمُ الله } أي أبعدهم عن رحمته وطردهم ، والجملةُ مستأنفةٌ لبيان حالِهم وإظهارِ مصيرِهم ومآلِهم { وَمَن يَلْعَنِ الله } أي يُبعده عن رحمته { فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً } يدفع عنه العذابَ دنيوياً كان أو أخروياً لا بشفاعة ولا بغيرها ، وفيه تنصيصٌ على حِرمانهم مما طلبوا من قريش ، وفي كلمة لن وتوجيهِ الخطابِ إلى كل أحد ممن يتسنى له الخطابُ وتوحيدِ النصيرِ مُنكّراً والتعبيرِ عن عدمه بعدم الوُجدانِ المُنْبىءِ عن سبق الطلبِ مُسنداً إلى المخاطبَ العامِّ من الدِلالة على حِرمانهم الأبديِّ بالكلية ما لا يخفى .
{ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الملك } شروعٌ في تفصيل بعضٍ آخرَ من قبائحهم ، وأمْ منقطعةٌ وما فيها من بل للإضراب والانتقالِ من ذمهم بتزكيتهم أنفسَهم وغيرِها مما حُكي عنهم إلى ذمهم بادّعائهم نصيباً من الملك وبُخلِهم المفرِطِ وشحِّهم البالغِ ، والهمزةُ لإنكار أن يكون لهم ما يدّعونه وإبطالِ ما زعموا أن المُلك سيصير إليهم ، وقولُه تعالى : { فَإذاَ لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً } بيانٌ لعدم استحقاقِهم له بل لاستحقاقهم الحِرمانَ منه بسبب أنهم من البخل والدناءةِ بحيث لو أوتوا شيئاً من ذلك لما أعطَوا الناسَ منه أقلَّ قليلٍ ، ومن حق مَنْ أوتي المُلكَ أن يُؤثِرَ الغيرَ بشيء منه ، فالفاءُ للسببية الجزائيةِ لشرط محذوفٍ ، أي إن جُعل لهم نصيبٌ منه فإذن لا يؤتون الناسَ مقدارَ نقيرٍ وهو ما في ظهر النواة من النُقرة ، يُضرب به المثلُ في القِلة والحقارةِ ، وهذا هو البيانُ الكاشفُ عن كُنه حالِهم ، وإذا كان شأنُهم كذلك وهم مُلوكٌ فما ظنُّك بهم وهم أذلاءُ متفاقرون .
ويجوز أن لا تكون الهمزةُ لإنكار الوقوعِ بل لإنكار الواقعِ والتوبيخِ عليه ، أي لعدِّه مُنكراً غيرَ لائقٍ بالوقوع ، على أن الفاءَ للعطف ، والإنكارُ متوجهٌ إلى مجموع المعطوفَين على معنى ألهمْ نصيبٌ وافرٌ من الملك حيث كانوا أصحابَ أموالٍ وبساتينَ وقصورٍ مَشيدةٍ كالملوك فلا يؤتون الناسَ مع ذلك نقيراً كما تقول لغنيَ لا يراعي أباه : ألك هذا القدرُ من المال فلا تُنفقُ على أبيك شيئاً؟ وفائدةُ إذن تأكيدُ الإنكارِ والتوبيخِ حيث يجعلون ثبوتَ النصيبِ سبباً للمنع مع كونِه سبباً للإعطاء ، وهي مُلغاةٌ عن العمل كأنه قيل : فلا يؤتون الناسَ إذن ، وقرىء فإذن لا يُؤتوا بالنصب على إعمالها .(2/98)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
{ أمْ يَحْسُدُونَ الناس } منقطعةٌ أيضاً مفيدةٌ للانتقال من توبيخهم بما سبق إلى توبيخهم بالحسد الذي هو شرُّ الرذائلِ وأقبحُها لا سيما على ما هم بمعزل من استحقاقه ، واللام في الناس للعهد والإشارةِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وحملُه على الجنس إيذاناً بحيازتهم للكمالات البشريةِ قاطبةً فكأنهم هم الناسُ لا غيرُ لا يلائمه ذكرُ حديثِ آلِ إبراهيمَ فإن ذلك لتذكير ما بين الفريقين من العلاقة الموجبةِ لاشتراكهما في استحقاق الفضلِ ، والهمزةُ لإنكار الواقعِ واستقباحِه فإنهم كانوا يطمعون أن يكون النبيُّ الموعودُ منهم فلما خصَّ الله تعالى بتلك الكرامةِ غيرَهم حسدوهم أي بل أيحسُدونهم { على مَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ } يعني النبوةَ والكتابَ وازديادَ العزِّ والنصرِ يوماً فيوماً ، وقولُه تعالى : { فَقَدْ ءاتَيْنَا } تعليلٌ للإنكار والاستقباحِ وإلزامٌ لهم بما هو مُسلَّمٌ عندهم وحسمٌ لمادة حسَدِهم واستبعادِهم المبنيَّيْن على توهّم عدمِ استحقاقِ المحسودِ لِما أوتيَ من الفضل ببيان استحقاقِه له بطريق الوراثةِ كابراً عن كابر ، وإجراءُ الكلامِ على سَنن الكبرياءِ بطريق الالتفاتِ لإظهار كمالِ العنايةِ بالأمر ، والمعنى أن حسدَهم المذكورَ في غاية القبحِ والبُطلانِ فإنا قد آتينا من قبلِ هذا { إبراهيم الكتاب } الذين هم أسلافُ محمدٍ عليه الصلاة والسلام أو أبناءُ أعمامِه { الكتاب والحكمة } أي النبوة { وءاتيناهم } مع ذلك { مُّلْكاً عَظِيماً } لا يقادَر قدرُه فكيف يستبعدون نبوتَه عليه الصلاة والسلام ويحسُدونه على إيتائها ، وتكريرُ الإيتاءِ لما يقتضيه مقامُ التفضيلِ مع الإشعار بما بين النبوةِ والمُلكِ من المغايرة ، فإن أريد به الإيتاءُ بالذات فالمرادُ بآل إبراهيمَ أنبياؤهم خاصة ، والضميرُ المنصوبُ في الفعل الثاني لبعضهم إما بحذف المضافِ أو بطريق الاستخدامِ لما أن المُلكَ لم يُؤتَ كلَّهم .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : الملكُ في آل إبراهيمَ مُلكُ يوسفَ وداودَ وسليمانَ عليهم السلام إن أريد به ما يعُمّه وغيرَه من الإيتاء بالواسطةِ وهو اللائقُ بالمقام والأوفقُ لما قبله من نسبة إيتاءِ الفضلِ إلى الناس ، فالمرادُ بآل إبراهيمَ كلُّهم فإن تشريفَ البعضِ بما ذُكر من إيتاء النبوةِ والمُلكِ تشريفٌ للكل لاعتنائهم بآثاره واقتباسِهم من أنواره ، وفي تفصيل ما أُوتوه وتكريرِ الفعلِ ووصفِ المُلكِ بالعِظَم وتنكيرِه التفخيميِّ مع تأكيد الإلزامِ وتشديدِ الإنكارِ ما لا يخفى .
هذا هو المتبادرُ من النظم الكريمِ وإليه جنحَ جمهورُ أئمةِ التفسيرِ لكن الظاهرَ حينئذ أن يكون قولُه تعالى : { فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ } حكايةً لما صدر عن أسلافهم عَقيبَ وقوعِ المحكيِّ من غير أن يكون له دخْلٌ في الإلزام الذي سيق له الكلامُ أي فمن جنس هؤلاءِ الحاسدين وآبائِهم مَن آمن بما أوتي آلُ إبراهيمَ ومنهم من أعرضَ عنه ، وأما جعلُ الضميرين لما ذُكر من حديث آلِ إبراهيمَ فيستدعي تراخيَ الآيةِ الكريمةِ عما قبلها نزولاً ، كيف لا وحكايةُ إيمانِهم لاحديث المذكورِ وإعراضِهم عنه بصيغة الماضي إنما يُتصوّر بعد وقوع الإيمانِ والإعراضِ المتأخِّرَين عن سماع الحديثِ المتأخرِ عن نزوله ، وكذا جعلُهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذِ الظاهرُ بيانُ حالِهم بعد هذا الإلزامِ .(2/99)
وحملُه على حكاية حالِهم السابقةِ لا تساعده الفاءُ المرتبةُ لما بعدها على ما قبلها ، ولا يبعُد كلَّ البعدِ أن تكون الهمزةُ لتقرير حسدِهم وتوبيخِهم بذلك ويكونَ قولُه تعالى : { فَقَدْ ءاتَيْنَا } الآية ، تعليلاً له بدِلالته على إعراضهم عما أوتي آلُ إبراهيم وإن لم يُذكرْ كونُه بطريق الحسدِ كأنه قيل : بل أيحسُدون الناسَ على ما آتاهم الله من فضله ولا يؤمنون به؟ وذلك دِيدنُهم المستمرُّ فإنا قد آتينا آلَ إبراهيمَ ما آتينا ، فمنهم أي من جنسهم مَنْ آمن بما آتيناهم ومنهم من أعرض عنه ولم يؤمن به والله سبحانه أعلمُ ، وفيه تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً } ناراً مسعرةً يعذّبون بها ، والجملةُ تذييلٌ لما قبلها .(2/100)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ بئاياتنا } إن أريد بهم الذين كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فالمرادُ بالآيات إما القرآنُ أو ما يعُمّ كلَّه وبعضَه أو ما يعم سائرَ معجزاتِه إيضاً وإن أريد بهم الجنسُ المتناولُ لهم تناولاً أولياً فالمرادُ بالآيات ما يعم المذكوراتِ وسائرَ الشواهدِ التي أوتيَها الأنبياءُ عليهم السلام { سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً } قال سيبويهِ : سوف كلمةٌ تُذكر للتهديد والوعيدِ وينوبُ عنها السينُ ، وقد يُذكران في الوعد فيفيدانِ التأكيدِ أي نُدخلهم ناراً عظيمةً هائلة { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } أي احترقت ، وكلما ظرفُ زمانٍ والعامل فيه { بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا } من قَبيل بدّله بخوفه أمناً ، لا من قبيل يبدل الله سيئاتِهم حسناتٍ أي أعطيناهم مكانَ كلِّ جلدٍ محترقٍ عند احتراقِه جلداً جديداً مغايراً للمحترق صورةً وإن كان عينَه مادةً بأن يُزالَ عنه الاحتراقُ ليعودَ إحساسُه للعذاب ، والجملةُ في محل النصبِ على أنها حالٌ من ضمير نُصليهم ، وقد جُوِّز كونُها صفةً لناراً على حذف العائدِ أي كلما نضِجت فيها جلودُهم ، فمعنى قولِه تعالى : { لِيَذُوقُواْ العذاب } ليدومَ ذَوْقُهم ولا ينقطِعَ ، كقولك للعزيز : أعزَّك الله ، وقيل : يخلُق مكانَه جلداً آخرَ ، والعذابُ للنفس العاصيةِ لا لآلة إدراكِها . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : يُبدَّلون جلوداً بيضاءَ كأمثال القراطيسِ ، وروي أن هذه الآيةَ قُرئت عند عمرَ رضي الله تعالى عنه فقال للقارىء : أعِدْها فأعادها وكان عنده معاذُ بنُ جبلٍ ، فقال معاذٌ : عندي تفسيرُها : يُبَدّل في ساعةٍ مائةَ مرةٍ ، فقال عمر رضي الله عنه : هكذا سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول . وقال الحسنُ : تأكلُهم النارُ كلَّ يومٍ سبعين ألفِ مرةٍ كلما أكلتْهم قيل لهم : عودوا فيعودون كما كانوا . وروى أبو هريرةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بين منكِبَي الكافرِ مسيرةَ ثلاثةِ أيامٍ للراكبِ المسرعِ ، وعن أبي هريرة أنه قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : « ضِرْسُ الكافرِ أو نابُ الكافرِ مثلُ أحُدٍ ، وغِلَظُ جلدِه مسيرةُ ثلاثةِ أيامٍ » . والتعبيرُ عن إدراك العذابِ بالذوق ليس لبيان قلّتِه بل لبيان أن إحساسَهم بالعذاب في كل مرةٍ كإحساس الذائقِ بالمذوق من حيث إنه لا يدخُله نقصانٌ بدوام الملابَسةِ إو للإشعار بمرارة العذابِ مع إيلامه أو للتنبيه على شدة تأثيرِه من حيث إن القوةَ الذائقةَ أشدُّ الحواسِّ تأثراً أو على سِرايته للباطن ، ولعل السرَّ في تبديل الجلودِ مع قدرتِه تعالى على إبقاء إدراكِ العذابِ وذوقِه بحاله مع الاحتراق أو مع إبقاء أبدانِهم على حالها مَصونةً عن الاحتراق أن النفسَ ربما تتوهّم زوالَ الإدراكِ بالاحتراق ولا تستبعد كلَّ الاستبعادِ أن تكون مصونةً عن التألم والعذابِ صيانةَ بدنِها عن الاحتراق .
{ إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً } لا يمتنع عليه ما يريده ولا يمانعه أحدٌ { حَكِيماً } يعاقِب مَنْ يعاقبه على وَفق حكمتِه ، والجملةُ تعليلٌ لما قبلها من الإصلاء والتبديلِ ، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ بطريق الالتفاتِ لتهويل الأمرِ وتربية المهابةِ وتعليلِ الحكم ، فإن عنوانَ الألوهيةِ مناطٌ لجميع صفاتِ كمالِه تعالى .(2/101)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
{ والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } عُقِّب بيانُ سوءِ حالِ الكفرةِ ببيان حُسنِ حالِ المؤمنين تكميلاً لِمَساءة الأولين ومسرَّةِ الآخَرين ، أي الذين آمنوا بآياتنا وعمِلوا بمقتضياتها ، وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى : { سَنُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار } وقرىء سيُدخِلُهم بالياء رداً على الاسم الجليلِ ، وفي السين تأكيدٌ للوعد { خالدين فِيهَا أَبَداً } حالٌ مقدّرةٌ من الضمير المنصوبِ في سندخلهم وقوله عز وعلا : { لَّهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ } أي مما في نساء الدنيا من الأحوال المستقذَرةِ البدنية والأدناسِ الطبيعية ، في محل النصبِ على أنه حالٌ من جناتٍ أو حالٌ ثانيةٌ من الضمير المنصوبِ أو على أنه صفةٌ لجناتٍ بعد صفةٍ ، أو في محل الرفعِ على أنه خبرٌ للموصول بعد خبرٍ { وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً } أي فيْناناً لا جَوْبَ فيه دائماً لا تنسَخُه شمسٌ اللهم ارزُقنا ذلك بفضلك وكرمِك يا أرحمَ الراحمين ، والظليلُ صفةٌ مشتقةٌ من لفظ الظلِّ للتأكيد كما في ليلٌ ألْيلُ ويومٌ أيومٌ وقرىء يُدخلهم بالياء وهو عطفٌ على سيُدخِلهم لا على أنه غيرُ الإدخالِ الأولِ بالذات بل بالعنوان كما في قوله تعالى : { وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إِلَى أَهْلِهَا } في تصدير الكلامِ بكلمة التحقيقِ وإظهارِ الاسمِ الجليلِ وإيرادِ الأمرِ على صورة الإخبارِ من الفخامة وتأكيدِ وجوبِ الامتثال به والدِلالةِ على الاعتناء بشأنه ما لا مزيدَ عليه ، وهو خطابٌ يعُمّ حكمُه المكلّفين قاطبة كما أن الأماناتِ تعمُّ جميعَ الحقوقِ المتعلقةِ بذمهم من حقوق الله تعالى وحقوقِ العبادِ سواءٌ كانت فعليةً أو قوليةً إو اعتقاديةً وإن ورد في شأن عثمانَ بنِ طلحةَ بنِ عبدِ الدارِ سادنِ الكعبةِ المعظمةِ وذلك أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكةَ يوم الفتح أغلق عثمانُ رضي الله عنه بابَ الكعبةِ وصعِدَ السطحَ وأبى أن يدفعَ المِفتاحَ إليه وقال : لو علمت أنه رسولُ الله لم أمنعْه فلوى علي بنُ أبي طالبٍ يدَه وأخذه منه وفتح ودخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباسُ أن يُعطِيَه المفتاحَ ويجمعَ له السِقاية والسِدانة فنزلت فأمر علياً أن يُردَّه إلى عثمانَ ويعتذرَ إليه فقال عثمان لعليّ : أكرهتَ وآذيتَ ثم جئت ترفو فقال : لقد أنزل الله تعالى في شأنك قرآناً فقرأ عليه الآية فقال عثمانُ : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فهبَط جبريلُ عليه الصلاة والسلام وأخبر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن السِّدانةَ في أولاد عثمانَ أبداً .
وقرىء الأمانةَ على التوحيد والمرادُ الجنسُ لا المعهودُ ، وقيل : هو أمرٌ للولاة بأداء الحقوقِ المتعلقةِ بذمهم من المناصب وغيرِها إلى مستحقيها كما أن قوله تعالى : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل } أمرٌ لهم بإيصال الحقوقِ المتعلقةِ بذمم الغيرِ إلى أصحابها ، وحيث كان المأمورُ به هاهنا مختصاً بوقت المرافعةِ قُيِّد به بخلاف المأمورِ به أو لا فإنه لما لم يتعلَّقْ بوقت دون وقت أُطلق إطلاقاً فقوله تعالى : { أَن تَحْكُمُواْ } عطفٌ على أن تؤدوا قد فُصِل بين العاطفِ والمعطوفِ بالظرف المعمولِ له عند الكوفيين ، والمقدرُ يدل هو عليه عند البصريين لأن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها عندهم أي وإن تحكموا إذا حكمتم الخ ، وقولُه تعالى : { بالعدل } متعلقٌ بتحكموا أو بمقدر وقع حالاً من فاعله أي ملتبسين بالعدل والإنصاف { إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِه } { مَا } إما منصوبةٌ موصوفةٌ بيعظكم به أو مرفوعةٌ موصولةٌ به كأنه قيل : نعم شيئاً يعظكم به أو نعم الشيءُ الذي يعظكم به والمخصوصُ بالمدح محذوفٌ أي نِعِمّاً يعظكم به ذلك وهو المأمورُ به من أداء الأماناتِ والعدلِ في الحكومات ، وقرىء نَعِمّاً بفتح النون ، والجملةُ مستأنفةٌ مقرِّرةٌ لما قبلها متضمنةٌ لمزيد لُطفٍ بالمخاطبين وحسنِ استدعاءٍ لهم إلى الامتثال بالأمر ، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتربية المهابةِ ( في القلوب ) { إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً } لأقوالكم { بَصِيراً } بأفعالكم فهو وعدٌ ووعيدٌ .(2/102)
وإظهارُ الجلالةِ لما ذُكر آنفاً فإن فيه تأكيداً لكلَ من الوعد والوعيد .(2/103)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
{ يأيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } بعد ما أمر الولاةَ بطريق العمومِ أو بطريق الخصوصِ بأداء الأماناتِ والعدلِ في الحكومات أمرَ سائرَ الناسِ بطاعتهم لكن لا مطلقاً بل في ضمن طاعةِ الله تعالى وطاعةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم حيث قيل : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِى الامر مِنْكُمْ } وهم أمراءُ الحقِّ وولاةُ العدلِ كالخلفاء الراشدين ومَنْ يقتدي بهم من المهتدين ، وأما أمراءُ الجَوْرِ فبمعزل من استحقاق العطفِ على الله تعالى والرسولِ عليه الصلاة والسلام في وجوب الطاعةِ لهم وقيل : هم علماءُ الشرعِ لقوله تعالى : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِى الامر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } ويأباه قوله تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى الله } إذ ليس للمقلد أن ينازعَ المجتهدَ في حكمه ، إلا أن يُجعلَ الخطابُ لأولي الأمر بطريق الالتفاتِ وفيه بُعدٌ ، وتصديرُ ( إن ) الشرطية بالفاء لترتبها على ما قبلها فإن بيانَ حكمِ طاعةِ أولي الأمرِ عند موافقتِها لطاعة الله تعالى وطاعةِ الرسولِ عليه السلام يستدعي بيانَ حكمِها عند المخالفةِ أي إن اختلفتم أنتم وأولوا الأمرِ منكم في أمر من أمور الدِّين فراجعوا فيه إلى كتاب الله { والرسول } أي إلى سننه وقد استدل به مُنكِروا القياسِ وهو في الحقيقة دليلٌ على حجيته كيف لا وردُّ المختلَفِ فيه إلى المنصوص عليه إنما يكون بالتمثيل والبناءِ عليه وهو المَعنيُّ بالقياس ، ويؤيده الأمرُ به بعد الأمرِ بطاعة الله تعالى وبطاعة رسولِه عليه الصلاة والسلام فإنه يدل على أن الأحكامَ ثلاثةٌ : ثابتٌ بالكتاب وثابتٌ بالسنة وثابتٌ بالرد إليهما بالقياس { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر } متعلقٌ بالأمر الأخيرِ الواردِ في محل النزاعِ إذ هو المحتاجُ إلى التحذير من المخالفة ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ عند جمهورِ البصريين ثقةً بدِلالة المذكورِ عليه أي إن كنتم تؤمنون بالله واليومِ الآخرِ فردوه الخ ، فإن الإيمانَ بهما يوجب ذلك أما الإيمانُ بالله تعالى فظاهرٌ ، وأما الإيمانُ باليوم الآخرِ فلما فيه من العقاب على المخالفة { ذلك } أي الرد المأمورُ به { خَيْرٌ } لكم وأصلح { وَأَحْسَنُ } في نفسه { تَأْوِيلاً } أي عاقبةً ومآلاً ، وتقديمُ خيْريّتِه لهم على أحسنيته في نفسه لما مر من تعلق أنظارِهم بما ينفعهم ، والمرادُ بيانُ اتصافِه في نفسه بالخيرية الكاملةِ والحُسْنِ الكاملِ في حد ذاتِه من غير اعتبار فضلِه على شيء يشاركه في أصل الخيريةِ والحسنِ كما ينبىء عنه التحذيرُ السابق .(2/104)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجيباً له من حال الذين يخالفون ما مرَّ من الأمر المحتومِ ولا يطيعون الله ولا رسولَه ، ووصفُهم بادعاء الإيمانِ بالقرآن وبما أنزل من قبله أعني التوراةَ لتأكيد التعجيبِ وتشديدِ التوبيخِ والاستقباحِ بإظهار كمالِ المبايَنةِ بين دعواهم وبين ما صدر عنهم ، وقرىء الفعلانِ على البناء للفاعل ، وقولُه عز وجل : { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت } استئنافٌ سيق لبيان محلِّ التعجيبِ مبنيٌّ على سؤال نشأ من صدر الكلامِ ، كأنه قيل : ماذا يفعلون؟ فقيل : يريدون الخ .
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن منافقاً خاصَم يهودياً فدعاه اليهوديُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاه المنافِقُ إلى كعب بنِ الأشرف ، ثم إنهما احتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرضَ بقضائه فقال عمرُ للمنافق : أهكذا؟ قال : نعم ، فقال عمرُ : مكانَكما حتى أخرُجَ إليكما فدخل فاشتمل على سيفه ثم خرج فضربَ به عُنقَ المنافق حتى بَرَد ، ثم قال : هكذا أقضي لمن لم يرضَ بقضاء الله وقضاء رسولِه فنزلت فهبَط جبريلُ عليه الصلاة والسلام وقال : إن عمرَ فرَّق بين الحقِّ والباطلِ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : « أنت الفاروقُ » ، فالطاغوتُ كعبُ بنُ الأشرفِ سُمِّيَ به لإفراطه في الطغيان وعداوةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو على التشبيه بالشيطان والتسميةِ باسمه ، أو جُعل اختيارُ التحاكمِ إلى غير النبيِّ صلى الله عليه وسلم على التحاكم إليه تحاكماً إلى الشيطان . وقال الضحاك : المرادُ بالطاغوت كَهَنةُ اليهودِ وسَحَرتُهم . وعن الشعبي : أن المنافقَ دعا خصمَه إلى كاهن من جُهَينةَ فتحاكما إليه . وعن السدي : أن الحادثةَ وقعت في قتيلٍ بين بني قُريظةَ والنَّضِير ، فتحاكم المسلمون من الفريقين إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبى المنافقون منهما إلا التحاكمَ إلى أبي بُرْدةَ الكاهنِ الأسلميِّ ، فتحاكموا إليه ، فيكون الاقتصارُ حينئذ في معرِض التعجيبِ والاستقباحِ على ذِكر إرادةِ التحاكمِ دون نفسِه مع وقوعِه أيضاً للتنبيه على أن إرادتَه مما يقضي منه العجَبَ ، ولا ينبغي أن يدخُلَ تحت الوقوعِ فما ظنُّك بنفسه وهذا أنسبُ بوضف المنافقين بادّعاء الإيمانِ بالتوراة فإنه كما يقتضي كونَهم من منافقي اليهودِ يقتضي كونَ ما صدَرَ عنهم من التحاكم ظاهِرَ المنافاةِ لادعاء الإيمانِ بالتوراة ، وليس التحاكمُ إلى كعب بن الأشرف بهذه المثابةِ من الظهور ، وأيضاً فالمتبادِرُ من قوله تعالى : { وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } كونُهم مأمورين بكفره في الكتابين وما ذاك إلا الشيطانُ وأولياؤُه المشهورون بولايته كالكَهنة ونظائرِهم لا مَنْ عداهم ممن لم يشتهِرْ بذلك ، وقرىء { أَن يَكْفُرُواْ بِهَا } على أن الطاغوتَ جمعٌ كما في قوله تعالى : { أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُم } والجملةُ حال من ضمير يريدون مفيدةٌ لتأكيد التعجيبِ وتشديد الاستقباحِ كالوصف السابقِ ، وقولُه عز وعلا : { وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ ضلالا بَعِيداً } عطفٌ على يريدون داخلٌ في حكم التعجيبِ فإن اتّباعَهم لمن يريد إضلالَهم وإعراضَهم عمن يريد هدايتَهم أعجبُ من كل عجيب . وضلالاً إما مصدرٌ مؤكّدٌ للفعل المذكورِ بحذف الزوائدِ كما في قوله تعالى : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } أي إضلالاً بعيداً وإما مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعله المدلولِ عليه بالفعل المذكورِ أي فيَضِلّوا ضلالاً ، وأياً ما كان فوصفُه بالبُعد الذي نُعِت موصوفُه للمبالغة .(2/105)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)
وقولُه تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول } تكملةٌ لمادة التعجيبِ ببيان إعراضِهم صريحاً عن التحاكم إلى كتاب الله تعالى ورسولِه إثرَ بيانِ إعراضِهم عن ذلك في ضمن التحاكُمِ إلى الطاغوت ، وقرىء تعالوا بضم اللام على أنه حذفُ لامِ الفعلِ تخفيفاً كما في قولهم : ما باليت بالةً أصلُها بالِية كعافية وكما قالوا في آية أن أصلُها آيِيَة فحُذفت اللام ووقعت واوُ الجمعِ بعد اللامِ في تعالَ فضُمت فصار تعالُوا ومنه قول أهلِ مكةَ للمرأة : تعالِي بكسر اللام وعليه قولُ أبي فراس الحمداني :
أيا جارتى ما أنصف الدهرُ بيننا ... تعالَيْ أُقاسمْك الهمومَ تعالِي
{ رَأَيْتَ المنافقين } إظهارُ المنافقين في مقام الإضمارِ للتسجيل عليهم بالنفاق وذمّهم به والإشعارِ بعلة الحُكمِ ، والرؤيةُ بصَريةٌ وقوله تعالى : { يَصُدُّونَ عَنكَ } حالٌ من المنافقين ، وقيل : الرؤيةُ قلبيةٌ والجملةُ مفعولٌ ثانٍ لها والأولُ هو الأنسبُ بظهور حالِهم ، وقولُه تعالى : { صُدُوداً } مصدرٌ مؤكدٌ لفعله أي يُعرِضون عنك إعراضاً وأيَّ إعراضٍ ، وقيل : هو اسمٌ للمصدر الذي هو الصدُّ والأظهرُ أنه مصدرٌ لصدَّ اللازمِ ، والصدُّ مصدرٌ للمتعدي يقال : صَدَّ عنه صُدوداً أي أعرض عنه وصدَّه عنه صداً أي منعه منه ، وقوله تعالى : { فَكَيْفَ } شروعٌ في بيان غائلةِ جناياتِهم المَحْكيةِ ووخامةِ عاقبتِها أي كيف يكون حالُهم { إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ } أي وقتَ إصابةِ المصيبةِ إياهم بافتضاحهم بظهور نفاقِهم { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } بسبب ما عمِلوا من الجنايات التي من جُملتها التحاكمُ إلى الطاغوت والإعراضُ عن حكمك { ثُمَّ جَاءوكَ } للاعتذار عما صنعوا من القبائح ، وهو عطفٌ على أصابتهم ، والمرادُ تفظيعُ حالِهم وتهويلُ ما دَهَمهم من الخطب واعتراهم من شدة الأمرِ عند إصابةِ المصيبةِ وعند المجيء للاعتذار { يَحْلِفُونَ بالله } حالٌ من فاعل جاؤوك { إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً } أي ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا الفصلَ بالوجه الحسَنِ والتوفيقِ بين الخصمين ولم نُرِدْ مخالفةً لك ولا لحكمك فلا تؤاخِذْنا بما فعلنا ، وهذا وعيدٌ لهم على ما فعلوا وأنهم سيندمون عليه حين لا ينفعُهم الندمُ ولا يغني عنهم الاعتذارُ . وقيل : جاء أولياءُ المنافقِ يطلُبون بدمه وقد أهدره الله تعالى فقالوا : ما أردنا أي ما أراد صاحبُنا المقتولُ بالتحاكم إلى عمرَ رضي الله تعالى عنه إلا أن يُحسِن إليه ويوفِّقَ بينه وبين خصمِه .(2/106)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
{ أولئك } إشارةٌ إلى المنافقين ، وما فيه من معنى البُعد للتنبيه على بُعد منزلتِهم في الكفر والنفاقِ ، وهو مبتدأٌ خبرُه { الذين يَعْلَمُ الله مَا فِى قُلُوبِهِمْ } أي من فنون الشرورِ والفسادِ المنافيةِ لما أظهروا لك من الأكاذيب .
{ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } جوابُ شرطٍ محذوفٍ أي إذا كان حالُهم كذلك فأعرِضْ عن قَبول معذرتِهم وقيل : عن عقابهم لمضلحة في استبقائهم ، ولا تُظهِرْ لهم علمَك بما في بواطنهم ولا تهتِكْ سترَهم حتى يبقَوْا على وجَلٍ وحذر { وَعِظْهُمْ } أي ازجُرْهم عن النفاق والكيد { وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ } في حق أنفسِهم الخبيثةِ وقلوبِهم المُنْطويةِ على الشرور التي يعلمها الله تعالى ، أو في أنفسهم خالياً بهم ليس معهم غيرُهم مُسارّاً بالنصيحة لأنها في السرّ أنجَعُ { قَوْلاً بَلِيغاً } مؤثراً واصِلاً إلى كُنه المرادِ مطابقاً لما سيق له من المقصود ، فالظرفُ على التقديرين متعلقٌ بالأمر ، وقيل : متعلقٌ ببليغاً على رأي من يُجيز تقديمَ معمولِ الصفةِ على الموصوف أي قل لهم قولاً بليغاً في أنفسهم مؤثراً في قلوبهم يغتمّون به اغتماماً ويستشعرون منه الخوفَ استشعاراً وهو التوعُّدُ بالقتل والاستئصالِ ، والإيذانُ بأن ما في قلوبهم من مكنونات الشرِّ والنفاقِ غيرُ خافٍ على الله تعالى وأن ذلك مستوجِبٌ لأشد العقوباتِ ، وإنما هذه المكافأةُ والتأخيرُ لإظهارهم الإيمانَ والطاعةَ وإضمارِهم الكفرَ ، ولئن أظهروا الشقاقَ وبرَزوا بأشخاصهم من نفق النفاقِ لَيَمسَّنهم العذابُ إن الله شديدُ العقاب .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله } كلامٌ مبتدأٌ جيء به تمهيداً لبيان خطئِهم في الاشتغال بسَتر جنايتِهم بالاعتذار بالأباطيل وعدمِ تلافيها بالتوبة ، أي وما أرسلنا رسولاً من الرسل لشيء من الأشياء إلا ليُطاعَ بسبب إذنِه تعالى في طاعته ، وأمرِه المرسلَ إليهم بأن يُطيعوه ويتبعوه لأنه مؤدَ عنه تعالى فطاعتُه طاعةُ الله تعالى ومعصيتُه معصيتُه تعالى { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } أو بتيسير الله تعالى وتوفيقِه في طاعته .
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } وعرَّضوها لعذاب ( زائد ) على عذاب النفاقِ بترك طاعتِك والتحاكمِ إلى غيرك { جَاءوكَ } من غير تأخيرٍ كما يُفصح عنه تقديمُ الظرفِ متوسِّلين بك في التنصُّل عن جناياتهم القديمةِ والحادثةِ ولم يزدادوا جنايةً على جناية بالقصد إلى سترها بالاعتذار الباطلِ والأَيْمانِ الفاجرة { فاستغفروا الله } بالتوبة والإخلاصِ وبالغوا في التضرُّع إليك حتى انتصبْتَ شفيعاً إلى الله تعالى واستغفرْتَ لهم وإنما قيل : { واستغفر لَهُمُ الرسول } على طريقة الالتفاتِ تفخيماً لشأن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتعظيماً لاستغفاره وتنبيهاً على أن شفاعتَه في حيِّز القَبول { لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً } لعَلِموه مبالغاً في قَبول توبتهم والتفضّل عليهم بالرحمة ، وإن فُسّر الوُجدانُ بالمصادفة كان قوله تعالى : { تَواباً } حالاً و { رَّحِيماً } بدلاً منه ، أو حالاً من الضمير فيه ، وأياً ما كان ففيه فضلُ ترغيبٍ للسامعين في المسارعة إلى التوبة والاستغفارِ ومزيدُ تنديمٍ لأولئك المنافقين على ما صنعوا لما أن ظهورَ تباشيرِ قَبولِ التوبةِ وحصولَ الرحمةِ لهم ومشاهدتَهم لآثارهما نعمةٌ زائدةٌ عليهما موجبةٌ لكمال الرغبةِ في تحصيلها وتمامِ الحسرةِ على فواتها .(2/107)
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
{ فَلاَ وَرَبّكَ } أي فوربِّك ولا مزيدةٌ لتأكيد معنى القَسَمِ لا لتأكيد النفيِ في جوابه أعني قولَه { لاَ يُؤْمِنُونَ } لأنها تزادُ في الإثبات أيضاً كما في قوله تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم } ونظائرِه { حتى يُحَكّمُوكَ } أي يتحاكموا إليك ويترافعوا إليك ، وإنما جيء بصيغة التحكيمِ مع أنه عليه الصلاةُ والسلام حاكمٌ بأمر الله سبحانه إيذاناً بأن حقَّهم أن يجعلوه حَكَماً فيما بينهم ويرْضَوا بحكمه وإن قُطع النظرُ عن كونه حاكماً على الإطلاق { فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } أي فيما اختَلف بينهم من الأمور واختَلط ومنه الشجرُ لتداخُل أغصانه { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ } عطفٌ على مقدر ينساق إليه الكلامُ أي فتقضي بينهم ثم لا يجدوا { فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً } ضِيقاً { مّمَّا قَضَيْتَ } أي مما قضيت به أو من قضائك وقيل : شكاً من أجله إذ الشاكُّ في ضيق من أمره { وَيُسَلّمُواْ } أي ينقادوا لأمرك ويُذعِنوا له { تَسْلِيماً } تأكيدٌ للفعل بمنزلة تكريرِه أي تسليماً تاماً بظاهرهم وباطنِهم ، يقال : سلّم لأمر الله وأسلم له بمعنىً ، وحقيقتُه سلّم نفسَه له وأسلمها إذا جعلها سالمةً له خالصةً ، أي ينقادوا لحكمك انقياداً لا شُبهةَ فيه بظاهرهم وباطنِهم ، قيل : نزلت في شأن المنافقِ واليهوديِّ ( السابقَين ) ، وقيل : في شأن الزبيرِ ورجلٍ من الأنصار حين اختصما إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في شِراجٍ من الحرة كانا يسقيان بها النخلَ فقال عليه الصلاة والسلام : « اسقِ يا زبيرُ ثم أرسلِ الماءَ إلى جارك » فغضِب الأنصاريُّ وقال : لاِءَنْ كان ابنَ عمتِك فتغير وجهُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : « اسقِ يا زبيرُ ثم احبِس الماءَ حتى يرجِعَ إلى الجُدُر واستوفِ حقّك ثم أرسلْه إلى جارك » ، كان قد أشار على الزبير برأي فيه سعةٌ له ولخصمه فلما أحفظَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استوعبَ للزبير حقَّه في صريح الحُكم . ثم خرجا فمرّا على المقدادِ بن الأسود فقال : لمن القضاءُ؟ فقال الأنصاريُّ : قضى لابن عمتِه ولوى شِدْقَه ففطِن يهوديٌّ كان مع المقداد فقال : قاتل الله هؤلاءِ يشهدون أنه رسولُ الله ثم يتّهمونه في قضاء يقضي بينهم وايمُ الله لقد أذنبنا ذنباً مرة في حياة موسى فدعانا إلى التوبة منه وقال : اقتُلوا أنفسَكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفاً في طاعة ربِّنا حتى رضيَ عنا فقال ثابتُ بنُ قيس بنِ شماس : أما والله إن الله ليعلم مني الصدقَ لو أمرني محمدٌ أن أقتُلَ نفسي لقتلتُها . وروي أنه قال ذلك ثابتٌ وابنُ مسعودٍ وعمارُ بن ياسرٍ رضي الله عنهم فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيده إن من أمتي رجالاً الإيمانُ أثبتُ في قلوبهم من الجبال الرواسي » فنزلت في شأن هؤلاء .(2/108)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)
{ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخرجوا مِن دياركم } أي لو أوجبْنا عليهم مثلَ ما أوجبنا على بني إسرائيلَ من قتلهم أنفسَهم أو خروجهم من ديارهم حين استتابتِهم من عبادة العجلِ ، و { ءانٍ } مصدريةٌ أو مفسرةٌ لأنّا كتبنا في معنى أمَرْنا { مَّا فَعَلُوهُ } أي المكتوبَ المدلولَ عليه بكتبْنا أو أحدِ مصدرَي الفعلين { إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ } أي إلا أناسٌ قليلٌ منهم وهم المخلِصون من المؤمنين ، وروي عن عمرَ رضي الله عنه أنه قال : والله لو أمَرَنا ربُّنا لفعلْنا والحمدُ لله الذي لم يفعلْ بنا ذلك ، وقيل : معنى اقتُلوا أنفسَكم تعرَّضوا بها للقتل بالجهاد ، وهو بعيدٌ وقرىء إلا قليلاً بالنصب على الاستثناء أو إلا فِعلاً قليلاً { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ } من متابعة الرسولِ عليه الصلاة والسلام وطاعتِه والانقيادِ لما يراه ويحكمُ به ظاهراً وباطناً ، وسُمِّيت أوامرُ الله تعالى ونواهيه مواعِظَ لاقترانها بالوعد والوعيد { لَكَانَ } أي فعلُهم ذلك { خَيْراً لَّهُمْ } عاجلاً وآجلاً { وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } لهم على الإيمان وأبعدَ من الاضطراب فيه وأشدَّ تثبيتاً لثواب أعمالِهم .
{ وَإِذاً لاتيناهم مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً } جوابٌ لسؤال مقدرٍ كأنه قيل : وماذا يكون لهم بعد التثبيتِ؟ فقيل : وإذن لو ثبتوا لآتيناهم فإن إذن جوابٌ وجزاءٌ . { ولهديناهم صراطا مُّسْتَقِيماً } يصِلون بسلوكه إلى عالم القدسِ ( والطهارة ) ويفتح لهم أبوابَ الغيبِ ، قال عليه الصلاة والسلام : « من عمِل بما علِم ورَّثه الله تعالى علمَ ما لم يعلَمْ » { وَمَن يُطِعِ الله والرسول } كلامٌ مستأنفٌ فيه فضلُ ترغيبٍ في الطاعة ومزيدُ تشويقٍ إليها ببيان أن نتيجتَها أقصى ما يَنتهي إليه هممُ الأممِ وأرفعُ ما يمتدُّ إليه أعناقُ عزائمِهم من مجاورة أعظمِ الخلائقِ مقداراً وأرفعِهم مناراً ، متضمِّنٌ لتفسير ما أُبهم في جواب الشرطيةِ السابقةِ وتفصيل ما أُجمل فيه ، والمرادُ بالطاعة هو الانقيادُ التامُّ والامتثالُ الكاملُ لجميع الأوامرِ والنواهي { فَأُوْلَئِكَ } إشارةٌ إلى المطيعين ، والجمعُ باعتبار معنى مَنْ كما أن الإفرادَ في فعل الشرطِ باعتبار لفظِها ، وما فيه من معنى البُعد مع القُرب في الذكر للإيذان بعلوّ درجتِهم وبُعد منزلتِهم في الشرف ، وهو مبتدأٌ خبرُه { مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم } والجملةُ جوابُ الشرطِ وتركُ ذكرِ المنعَمِ به للإشعار بقصور العبارةِ عن تفصيله وبيانِه { مّنَ النبيين } بيانٌ للمنعَم عليهم ، والتعرّضُ لمعيّة سائرِ الأنبياءِ عليهم الصلاةُ والسلام مع أن الكلامَ في بيان حكمِ طاعةِ نبيِّنا عليه الصلاة والسلام لجرَيانِ ذكرِهم في سبب النزولِ مع ما فيه من الإشارة إلى أن طاعتَه عليه الصلاةُ والسلام متضمِّنةٌ لطاعتهم لاشتمالِ شريعتِه على شرائعهم التي لا تتغيرُ بتغيّر الأعصار . رُوي أن نفراً من أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا نبيَّ الله إن صِرْنا إلى الجنة تفضُلُنا بدرجات النبوةِ فلا نراك .(2/109)
وقال الشعبي : جاء رجلٌ من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال : « ما يُبكيك يا فلان؟ » فقال : يا رسولَ الله بالله الذي لا إله إلا هو لأنت أحبُّ إليّ من نفسي وأهلي ومالي وولدي وإني لأذكرُك وأنا في أهلي فيأخذُني مثلُ الجنونِ حتى أراك وذكرتُ موتي وأنك تُرفع مع النبيين وإني إن أُدخِلْتُ الجنةَ كنتُ في منزلة أدنى من منزلتك ، فلم يرُدَّ النبيُّ عليه الصلاة والسلام فنزلتْ . وروي أن ثوبانَ مولى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كان شديدَ الحبِّ له عليه الصلاة والسلام قليلَ الصبرِ عنه فأتاه يوماً وقد تغيّر وجهُه ونحُل جِسمُه وعُرف الحزُنُ في وجهه فسأله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن حاله فقال : يا رسولَ الله ما بي من وجع غير إني إذا لم أرَك اشتقتُ إليك واستوحشتُ وحشةً شديدةً حتى ألقاك فذكرت الآخرةَ فخِفتُ أن لا أراك هناك لأني عرفتُ أنك ترفع مع النبيين وإن أُدخِلْتُ الجنةَ كنتُ في منزل دون منزلِك وإن لم أُدْخَلْ فذاك حين لا أراك أبداً ، فنزلت . فقال عليه الصلاة والسلام : « والذي نفسي بيده لا يؤمنُ عبدٌ حتى أكونَ أحبَّ إليه من نفسه وأبويه وأهلِه وولدِه والناسِ أجمعين » . وحُكي ذلك عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وروي أن أنساً قال : يا رسولَ الله الرجلْ يحب قوماً ولمّا يلحَقْ بهم ، قال عليه الصلاة والسلام : « المرءُ مع من أحبّ »
{ والصديقين } أي المتقدمين في تصديقهم المبالغين في الصدق والإخلاصِ في الأقوال والأفعالِ وهم أفاضلُ أصحابِ الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام وأماثلُ خواصِّهم المقربين كأبي بكر الصديقِ رضي الله عنه { والشهداء } الذين بذلوا أرواحَهم في طاعة الله تعالى وإعلاءِ كلمتِه { والصالحين } الصارفين أعمارَهم في طاعته وأموالَهم في مرضاته ، وليس المرادُ بالمعية الاتحادَ في الدرجة ولا مطلقَ الاشتراكِ في دخول الجنةِ بل كونَهم فيها بحيث يتمكن كلُّ واحدٍ منهم من رؤية الآخرَ وزيارتِه متى أراد وإن بعُد ما بينهما من المسافة { وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } الرفيقُ الصاحبُ مأخوذ من الرِّفق وهو لِينُ الجانبِ واللَّطافةُ في المعاشرة قولاً وفعلاً ، فإن جُعل { أولئك } إشارةً إلى النبيين ومَنْ بعدَهم على أن ما فيه من معنى البُعد لما مر مراراً فرفيقاً إما تمييزٌ أو حالٌ على معنى أنهم وُصفوا بالحُسن من جهة كونِهم رُفقاءَ للمطيعين أو حالَ كونِهم رفقاءَ ، وإفرادُه لما أنه كالصِّديق والخليط ، والرسولُ يستوي فيه الواحدُ والمتعدد ، أو لأنه أريد حُسنُ كلِّ واحدٍ منهم رفيقاً وإن جعل إشارةً إلى المطيعين فهو تمييزٌ على معنى أنهم وُصفوا بحُسن الرفيقِ من النبيين ومَنْ بعدهم لا بنفس الحُسن فلا يجوز دخولُ مَنْ ( بعدهم ) عليه كما يجوز في الوجه الأولِ ، والجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لما قبله مؤكدٌ للترغيب والتشويقِ ، قيل : فيه معنى التعجُّبِ كأنه قيل : وما أحسنَ أولئك رفيقاً ، ولاستقلاله بمعنى التعجبِ قرىء وحسن بسكون السين .(2/110)
ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
{ ذلك } إشارةٌ إلى ما للمطيعين من عظيم الأجرِ ومزيدِ الهدايةِ ومرافقةِ هؤلاءِ المُنعَمِ عليهم ، أو إلى فضلهم ومزيَّتِهم ، وما فيه من معنى البُعدِ للإشعار بعلو رتبتِه وبُعدِ منزلتِه في الشرف ، وهو مبتدأ وقولُه تعالى : { الفضل } صفتُه وقوله تعالى : { مِنَ الله } خبرُه أي ذلك الفضلُ العظيمُ من الله تعالى لا من غيره أو الفضلُ خبرُه و { مِنَ الله } متعلق بمحذوف وقعَ حالاً منه والعاملُ فيه معنى الإشارةِ أي ذلك الذي ذُكر فضلٌ كائناً من الله تعالى ، لا أن أعمالَ المكلفين موجِبةٌ له { وكفى بالله عَلِيماً } بجزاء من أطاعه وبمقادير الفضلِ واستحقاقِ أهلِه .(2/111)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
{ يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ } الحِذْرُ والحذَرُ واحدٌ كالإثرْ والأثَرِ والشِبْهِ والشَّبَهِ أي تيقظوا واحترزوا من العدو ولا تُمْكِنوه من أنفسكم ، يقال : أخذ حِذْرَه إذا تيقظ واحترز من المَخُوف ، كأنه جعَلَ الحذَرَ آلتَه التي يقي بها نفسَه ، وقيل : هو ما يُحذر به من السلاح والحزمِ ، أي استعدوا للعدو { فانفروا } بكسر الفاءِ وقرىء بضمها أي اخرُجوا إلى الجهاد عند خروجِكم { ثُبَاتٍ } جمعُ ثُبةٍ وهي الجماعةُ من الرجال فوق العشَرةِ ووزنها في الأصل فُعَلة كحُطَمة حُذفت لامُها وعوِّض عنها تاءُ التأنيثِ ، وهل هي واوٌ أو ياء؟ فيه قولان ، قيل : إنها مشتقةٌ من ثبا يثبو كحلا يحلو أي اجتمعَ ، وقيل : من ثبَيْتُ على الرجل إذا أثنيت عليه كأنك جمعتَ محاسنَه ويُجمع أيضاً على ثُبينَ جبراً لما حُذف من عَجْزه ، ومحلُّها النصبُ على الحالية أي انفِروا جماعاتٍ متفرقةً سَرِيةً بعد سرية { أَوِ انفروا جَمِيعاً } أي مجتمعين كوكبةً واحدةً ولا تتخاذلوا فتُلقوا بأنفسكم إلى التهلُكة .
{ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ } أي ليتثاقَلَنّ وليتَخَلَّفَنَّ عن الجهاد من بطّأ بمعنى أبطأ كعتّم بمعنى أعتم ، والخطابُ لعسكر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كلِّهم المؤمنين منهم والمنافقين ، والمُبَطِّئون منافقوهم الذين تثاقلوا وتخلّفوا عن الجهاد ، أو ليبطِّئن غيرَه ويُثَبِّطَنه ، مِنْ بطَّأ منقولاً من بطُؤ كثقّل من ثقُل كما بطّأ ابنُ أُبيَ ناساً يوم أُحُد . والأولُ أنسبُ لما بعده واللامُ الأولى للابتداء دخلت على اسم إنّ للفصل بالخبر ، والثانيةُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ والقسمُ بجوابه صلةُ مَنْ والراجعُ إليه ما استكنّ في ليبطِّئنَّ ، والتقديرُ وإن منكم لمَنْ أُقسم بالله ليبطِّئن { فَإِنْ أصابتكم مُّصِيبَةٌ } كقتل وهزيمة { قَالَ } أي المُبَطِّىءُ فرحاً بصنعه وحامداً لرأيه { قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَىَّ } أي بالقعود { إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً } أي حاضراً في المعركة فيصيبني ما أصابهم والفاءُ في الشرطية لترتيب مضمونِها على ما قبلها ، فإن ذِكرَ التبطئةِ مستتبِعٌ لذكر ما يترتب عليها كما أن نفسَ التبطئةِ مستدعِيةٌ لشيء ينتظر المُبطىءُ وقوعَه { وَلَئِنْ أصابكم فَضْلٌ } كفتح وغنيمة { مِنَ الله } متعلقٌ بأصابكم أو بمحذوف وقع صفةً لفضلٌ أي فضلٌ كائنٌ من الله تعالى ، ونسبتُه إصابةِ الفضلِ إلى جناب الله تعالى دون إصابةِ المصيبةِ من العادات الشريفةِ التنزيليةِ كما في قوله سبحانه : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } وتقديمُ الشرطيةِ الأولى لِما أن مضمونَها لمقصِدهم أوفقُ وأَثرَ نفاقِهم فيها أظهرُ { لَّيَقُولَنَّ } ندامةً على تَنبُّطه وقعودِه وتهالُكاً على حُطام الدنيا وتحسُّراً على فواته ، وقرىء ليقولُنَّ بضم اللام إعادةً للضمير إلى معنى مَنْ وقوله تعالى : { كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } اعتراضٌ وُسِّط بين الفعلِ ومفعولِه الذي هو { مَوَدَّةٌ ياليتنى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً } لئلا يُفهمَ من مطلع كلامِه أن تمنِّيَهُ لمعيّة المؤمنين لنُصرتهم ومظاهَرتِهم حسبما يقتضيه ما في البين من المودة ، بل هو للحِرص على المال كما ينطِق به آخِرُه وليس إثباتُ المودةِ في البين بطريق التحقيق بل بطريق التهكّمِ ، وقيل : الجملةُ التشبيهيةُ حالٌ من ضمير ليقولَن أي ليقولَنّ مُشَبَّهاً بمَنْ لا مودةَ بينكم وبينه ، وقيل : هي داخلةٌ في المقول أي ليقولن المُثبِّط لمن يُثبِّطه من المنافقين وضَعَفة المؤمنين كأن لم تكن بينكم وبين محمدٍ مودةٌ حيث لم يستصحِبْكم في الغزو حتى تفوزوا بما فاز : يا ليتني كنتُ معهم ، وغرضُه إلقاءُ العداوةِ بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام وتأكيدُها ، وكأنْ مخففةٌ من الثقيلة واسمُها ضميرُ الشأنِ وهو محذوفٌ ، وقرىء لم يكن بالياء والمنادى في يا ليتني محذوفٌ أي يا قومُ ، وقيل : يا أُطلق للتنبيه على الاتساع ، وقولُه تعالى : { فَأَفُوزَ } نُصب على جواب التمني ، وقرىء بالرفع على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أي فأنا أفوزُ في ذلك الوقت أو على أنه معطوفٌ على كنت داخلٌ معه تحت التمني .(2/112)
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
{ فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ الله } قدِّم الظرفُ على الفاعل للاهتمام به { الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالاخرة } أي يبيعونها بها وهم المؤمنون فالفاءُ جوابُ شرطٍ مقدرٍ أي إن بطّأ هؤلاءِ عن القتال فليقاتِلِ المُخلِصون الباذلون أنفسَهم في طلب الآخرةِ أو الذين يشترونها ويختارونها على الآخرة ، وهم المُبطِّئون فالفاءُ للتعقيب أي لِيترُكوا ما كانوا عليه من التثبُّط والنفاقِ ولْيُبدِّلوه بالقتال في سبيل الله { وَمَن يقاتل فِى سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ } بنون العظمةِ التفاتاً { أَجْراً عَظِيماً } لا يقادَرُ قَدْرُه ، وتعقيبُ القتالِ بأحد الأمرين للإشعار بأن المجاهدَ حقُّه أن يوطِّن نفسَه بإحدى الحسنيين ولا يُخطِرَ بباله القسمَ الثالثَ أصلاً ، وتقديمُ القتلِ للإيذان بتقدّمه في استتباع الأجرِ ، روى أبو هريرةَ رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : « تكفّل الله تعالى لمن جاهد في سبيله لا يُخرِجُه إلا جهادٌ في سبيله وتصديقُ كلمتِه أن يُدخِلَه الجنةَ أو يُرجِعَه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة »
{ وَمَا لَكُمْ } خطابٌ للمأمورين بالقتال على طريقة الالتفاتِ مبالغةً في التحريض عليه وتأكيداً لوجوبه وهو مبتدأٌ وخبرٌ وقولُه عز وجل : { لاَ تقاتلون فِى سَبِيلِ الله } حالٌ عاملُها ما في الظرف من معنى الفعلِ ، والاستفهامُ للإنكار والنفي ، أي أيُّ شيءٍ لكم غيرَ مقاتِلين ، أي لا عذرَ لكم في ترك المقاتلة { والمستضعفين } عطفٌ على اسم الله أي في سبيل المستضعفين وهو تخليصُهم من الأسر وصونُهم عن العدو أو على السبيل بحذف المضافِ أي في خلاص المستضعفين ، ويجوز نصبُه على الاختصاص ، فإن سبيلَ الله يعُمّ أبوابَ الخيرِ وتخليصُ ضعفاءِ المؤمنين من أيدي الكفرةِ أعظمُها وأخصُّها { مِنَ الرجال والنساء والولدان } بيانٌ للمستضعفين أو حالٌ منهم وهم المسلمون الذين بقُوا بمكةَ لصدّ المشركين أو لضعفهم عن الهجرة مستذَلّين ممتَهنين ، وإنما ذُكر الوِلْدان معهم تكميلاً للاستعطاف واستجلاباً للرحمة وتنبيهاً على تناهي ظلمِ المشركين بحيث بلغ أذاهم الصبيانَ لإرغام آبائِهم وأمهاتِهم وإيذاناً بإجابة الدعاءِ الآتي واقترابِ زمانِ الخَلاصِ ببيان شِرْكتِهم في التضرّع إلى الله تعالى ، كلُّ ذلك للمبالغة في الحث على القتال ، وقيل : المرادُ بالوِلدان العبيدُ والإماءُ إذ يقال لهما : الوليدُ والوليدةُ وقد غلَب الذكورُ على الإناث فأُطلق الولدانُ على الولائد أيضاً { الذين } محلُّه الجرُّ على أنه صفةٌ للمستضعفين أو لما في حيز البيانِ ، أو النصبُ على الاختصاص { يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا } بالشرك الذي هو ظلمٌ عظيمٌ ، وبأذِيَّة المسلمين ، وهي مكةُ والظالمِ صفتُها ، وتذكيرُه لما أسند إليه فإن اسمَ الفاعلِ والمفعولِ إذا أُجريَ على غير مَنْ هُوَله كان كالفعل في التذكير والتأنيثِ بحسب ما عمِل فيه { واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } كلا الجارَّيْنِ متعلقٌ باجْعل لاختلاف معنييهما ، وتقديمُ المجرورين على المفعول الصريحِ لإظهار الاعتناءِ بهما وإبرازِ الرغبةِ في المؤخَّر بتقديمِ أحوالِه فإن تأخيرَ ما حقُّه التقديمُ عما هو من أحواله المُرَغّبة فيه كما يورث شوقَ السامعِ إلى وروده يُنبىء عن كمال رغبةِ المتكلّمِ فيه واعتنائِه بحصوله لا محالة ، وتقديمُ اللامِ على مِنْ للمسارعة إلى إبراز كونِ المسؤولِ نافعاً لهم مرغوباً فيه لديهم ، ويجوزُ أن تتعلقَ كلمةُ مِن بمحذوف وقع حالاً من ولياً قُدِّمت عليه لكونه نكرةً وكذا الكلامُ في قوله تعالى : { واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً } قال ابن عباس رضي الله عنهما : أي ولِّ علينا والياً من المؤمنين يوالينا ويقوم بمصالحنا ويحفَظ علينا دينَنا وشَرْعَنا وينصُرنا على أعدائنا ولقد استجاب الله عز وجل دعاءَهم حيث يسّر لبعضهم الخروجَ إلى المدينة وجعل لمن بقيَ منهم خيرَ وليَ وأعزَّ ناصِر ، ففتح مكةَ على يدي نبيِّه عليه الصلاة والسلام فتولاهم أيَّ تولَ ونصرهم أيةَ نُصرةٍ ، ثم استعمل عليهم عتابَ بنَ أسيد ونصرهم حتى صاروا أعزَّ أهلِها ، وقيل : المرادُ واجعل لنا من لدنك ولايةً ونُصرةً أي كن أنت وليَّنا وناصِرَنا ، وتكريرُ الفعلِ ومتعلِّقَيْه للمبالغة في التضرع والابتهال .(2/113)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
{ الَّذِينَ ءامَنُواْ يقاتلون فِى سَبِيلِ الله } كلامٌ مبتدأٌ سيق لترغيب المؤمنين في القتال وتشجيعِهم ببيان كمالِ قوتِهم بإمداد الله تعالى ونُصرتِه وغايةِ ضعفِ أعدائِهم ، أي المؤمنون إنما يقاتلون في دين الله الحقِّ الموصِلِ لهم إلى الله عز وجل وفي إعلاء كلمتِه فهو وليُّهم وناصرُهم لا محالة { والذين كَفَرُواْ يقاتلون فِى سَبِيلِ الطاغوت } أي فيما يوصِلُهم إلى الشيطان فلا ناصرَ لهم سواه ، والفاءُ في قوله تعالى : { فقاتلوا أَوْلِيَاء الشيطان } لبيان استتباعِ ما قبلها لما بعدها ، وذُكر بهذا العُنوانِ للدِلالة على أن ذلك نتيجةٌ لقتالهم في سبيل الشيطانِ والإشعارِ بأن المؤمنين أولياءُ الله تعالى لما أن قتالَهم في سبيله ، وكلُّ ذلك لتأكيد رغبةِ المؤمنين في القتال وتقويةِ عزائمِهم عليه ، فإن ولايةِ الله تعالى عَلَمٌ في العزة والقوة كما أن ولايةَ الشيطانِ مَثَلٌ في الذلة والضَّعفِ ، كأنه قيل : إذا كان الأمرُ كذلك فقاتلوا ياأولياءَ الله أولياءَ الشيطانِ ثم صرح بالتعليل فقيل : { إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً } أي في حد ذاتِه فكيف بالقياس إلى قدرة الله تعالى ، ولم يتعرّضْ لبيان قوةِ جنابِه تعالى إيذاناً بظهورها . قالوا : فائدةُ إدخالِ كان في أمثال هذه المواقعِ التأكيدُ ببيان أنه منذ كان كذلك فالمعنى أن كيدَ الشيطانِ منذ كان كان موصوفاً بالضعف .(2/114)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
{ أَلَمْ تَرَ الذين قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ } تعجيبٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم من إحجامهم عن القتال مع أنهم كانوا قبل ذلك راغبين فيه حِراصاً عليه بحيث كادوا يباشرونه كما ينبىء عنه الأمرُ بكفّ الأيدي فإن ذلك مُشعرٌ بكونهم بصدد بسطِها إلى العدو بحيث يكادون يسطون بهم ، قال الكلبي : إن جماعةً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام منهم عبدُ الرحمن بنُ عوفٍ الزُّهري والمقداد بنُ الأسودِ الكنديُّ وقُدامةُ بنُ مظعونٍ الجُمَحي وسعدُ بنُ أبي وقاص الزُّهري رضي الله تعالى عنهم كانوا يلقَوْن من مشركي مكةَ قبل الهجرةِ أذى شديداً فيشكون ذلك إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويقولون : ائذنْ لنا في قتالهم ، فيقول لهم النبي عليه الصلاة والسلام : « كُفّوا أيديَكم { وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاة } فإني لم أُومْر بقتالهم » ، وبناءُ القولِ للمفعول مع أن القائلَ هو النبيُّ عليه الصلاة والسلام للإيذان بكون ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى ولأن المقصودَ بالذات والمعتبرَ في التعجيب إنما هو كمالُ رغبتِهم في القتال وكونُهم بحيث احتاجوا إلى النهي عنه ، وإنما ذُكر في حيز الصِّلةِ الأمرُ بكف الأيدي لتحقيقه وتصويرِه على طريقة الكنايةِ فلا يتعلق ببيان خصوصيةِ الأمرِ غرضٌ ، وكانوا في مدة إقامتِهم بمكةَ مستمرِّين على تلك الحالةِ فلما هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأُمروا بالقتال في وقعة بدرٍ كرِهَه بعضُهم وشق ذلك عليه لكنْ لا شكّاً في الدين ولا رغبةً عنه بل نفوراً عن الإخطار بالأرواح وخوفاً من الموت بموجَب الجِبِلَّة البشريةِ وذلك قولُه تعالى : { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال } الخ ، وهو عطفٌ على { قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ } باعتبار مدلولِه الكنائيِّ إذْ حينئذٍ يتحقق التبايُنُ بين مدلولَي المعطوفَين وعليه يدور أمرُ التعجيبِ كأنه قيل : ألم ترَ إلى الذين كانوا حِراصاً على القتال ، فلما كُتب عليهم كرِهَه بعضُهم ، وقولُه تعالى : { إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس } جوابُ لمّا على أن فريقٌ مبتدأٌ ، ومنهم متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً له ويخشَوْن خبرُه ، وتصديرُه بإذا المفاجَأةِ لبيان مسارعتِهم إلى الخشية آثِرَ ذي أثيرٍ من غير تلعثمٍ وتردد ، أي فاجأ فريقٌ منهم أن يخشوا الكفارَ أن يقتلوهم ولعل توجيهَ التعجيبِ إلى الكل مع صدور الخشيةِ عن بعضهم للإيذان بأنه ما كان ينبغي أن يصدُر عن أحدهم ما ينافي حالتَهم الأولى ، وقولُه تعالى : { كَخَشْيَةِ الله } مصدرٌ مضافٌ إلى المفعولِ محلُّه النصبُ على أنه حال من فاعل يخشَون أي يخشَوْنهم مُشْبِهين لأهل خشيةِ الله تعالى { أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } عطفٌ عليه بمعنى أو أشدَّ خشيةً من أهل خشيةِ الله ، أو على أنه مصدرٌ مؤكدٌ على جعل الخشيةِ ذاتَ خشيةٍ مبالغةً كما في جدّ جِدُّه أي يخشَوْنهم خشيةً مثلَ خشيةِ الله أو خشيةً أشدَّ خشيةً من خشية الله .(2/115)
وأياً ما كان فكلمةُ أو إما للتنويع على معنى أن خشيةَ بعضِهم كخشية الله وخشيةَ بعضِهم أشدُّ منها ، وإما للإبهام على السامع وهو قريبٌ مما في قوله تعالى : { وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } يعني أن من يبصرهم يقول إنهم مائة ألف أو يزيدون { وَقَالُواْ } عطف على جواب لما أي فلما كتب عليهم القتالُ هلع فريقٌ منهم خشيةَ الناسِ وقالوا : { رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال } في هذا الوقتِ لا على وجه الاعتراضِ على حكمه تعالى ، والإنكارِ لإيجابه ، بل على طريق تمنِّي التخفيفِ { لَوْلا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } استزادةٌ في مُدة الكفِّ واستمهالٌ إلى وقت آخرَ حذراً من الموت ، وقد جُوِّز أن يكون هذا مما نَطَقت به ألسنةُ حالِهم من غير أن يتفوهوا به صريحاً .
{ قُلْ } أي تزهيداً لهم فيما يؤمِّلونه بالقعود من المتاع الفاني وترغيباً فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقي { متاع الدنيا } أي ما يُتَمتّع ويُنتفع به في الدنيا { قَلِيلٌ } سريعُ التقضِّي وشيكُ الانصرامِ وإن أُخِّرتم إلى ذلك الأجلِ { والاخرة } أي ثوابُها الذي من جملته الثوابُ المنوطُ بالقتال { خَيْرٌ } أي لكم من ذلك المتاعِ القليلِ ، لكثرته وعدمِ انقطاعِه وصفائِه عن الكدورات وإنما قيل : { لِمَنِ اتقى } حثاً لهم على اتقاءِ العِصيانِ والإخلالِ بمواجب التكليفِ { وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } عطفٌ على مقدر ينسحب عليه الكلامُ أي تُجزَوْن فيها ولا تُنقَصون أدنى شيءٍ من أجور أعمالِكم التي من جملتها مسعاكم في شأن القتالِ فلا ترغبوا عنه ، والفتيلُ ما في شق النواةِ من الخيط يضرب به المثلُ في القلة والحقارة ، وقرىء يظلمون بالياء إعادةً للضمير إلى ظاهر مَنْ .(2/116)
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
{ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت } كلامٌ مبتدأٌ مَسوقٌ من قِبَله تعالى بطريق تلوينِ الخطابِ وصرفِه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المخاطَبين اعتناءً بإلزامهم إثرَ بيانِ حقارةِ الدنيا وعلوِّ شأنِ الآخرةِ بواسطته عليه الصلاة والسلام فلا محلَّ له من الإعراب أو في محل النصبِ داخلٌ تحت القولِ المأمورِ به أي أينما تكونوا في الحضَر والسفرِ يدركْكم الموتُ الذي لأجله تكرهون القتالَ زعماً منكم أنه من مظانِّه وتُحبُّون القعودَ عنه على زعم أن مَنْجاةٌ منه ، وفي لفظ الإدراكِ إشعارٌ بأنهم في الهرب من الموت وهو مُجِدٌّ في طلبهم ، وقرىء بالرفع على حذف الفاءِ كما في قوله :
من يفعلِ الحسناتِ الله يُشكرُها ... أو على اعتبار وقوعِ أينما كنتم في موقع أينما تكونوا أو على أنه كلامٌ مبتدأٌ ، وأينما تكونوا متصلٌ بلا تظلمون أي لا تُنقَصون شيئاً مما كتب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم الحروبِ ومعاركِ الخطوب .
{ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } في حصون رفيعةٍ أو قصور مُحصَّنة ، وقال السدي وقتادة : بروجُ السماء ، يقال : شادَ البناء وشيّده رفعه ، وقرىء مُشيِّدةٍ بكسر الياءِ وصفاً لها بفعل فاعلها مجازاً كما في قصيدةٌ شاعرةٌ ، ومَشِيدةٍ من شاد القصرَ إذا رفعه أو طلاه بالشِّيدِ وهو الجِصُّ ، وجوابُ لو محذوفٌ اعتماداً على دِلالة ما قبله عليه أي لو كنتم في بروج مشيدةٍ يدرككم الموتُ ، والجملةُ معطوفةٌ على أخرى مثلِها ، أي لو لم تكونوا في بروج مشيدةٍ ولو كنتم الخ ، وقد اطَّرد حذفُها لدِلالة المذكورِ عليها دِلالةً واضحةً ، فإن الشيءَ إذا تحقق عند وجودِ المانعِ فلأَنْ يتحقَّقَ عند عدمِه أولى ، وعلى هذه النكتةِ يدورُ ما في لو الوصليةِ من التأكيد والمبالغةِ وقد مر تحقيقُه في تفسير قوله تعالى : { أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يَهْتَدُون } { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله } كلامٌ مبتدأٌ جيء به عَقيبَ ما حُكي عن المسلمين لِمَا بينهما من المناسبة في اشتمالهما على إسناد ما يكرَهونه إلى بعض الأمورِ وكراهتِهم له بسبب ذلك ، والضميرُ لليهود والمنافقين ، روي أنه كان قد بُسط عليهم الرزقُ فلما قدِم النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ فدعاهم إلى الإيمان فكفروا أُمسِك عنهم بعضَ الإمساكِ فقالوا : ما زلنا نعرِف النقصَ في ثمارنا ومَزارِعنا منذ قدِمَ هذا الرجلُ وأصحابُه وذلك قوله تعالى : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ } أي وإن تصبْهم نِعمةٌ ورخاءٌ نسبوها إلى الله تعالى وإن تصبْهم بليةٌ من جَدْب وغلاءٍ أضافوها إليك كما حُكي عن أسلافهم بقوله تعالى : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ } فأُمر النبيُّ عليه الصلاة والسلام بأن يرُدَّ زعمَهم الباطلَ ويُرشِدَهم إلى الحق ويُلقِمَهم حجَراً ببيان إسنادِ الكلِّ إليه تعالى على الإجمال إذ لا يجترئون على معارضة أمر الله عز وجل حيث قيل : { قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله } أي كلُّ واحدةٍ من النعمة والبليةِ من جهة الله تعالى خلقاً وإيجاداً من غير أن يكون لي مَدخَلٌ في قوع شيءٍ منهما بوجه من الوجوه كما تزعُمون ، بل وقوعُ الأوُلى منه تعالى بالذات تفضلاً ووقوعُ الثانية بواسطة ذنوبِ من ابتُليَ بها عقوبةً كما سيأتي بيانُه فهذا الجوابُ المُجملُ في معنى ما قيل رداً على أسلافهم من قوله تعالى :(2/117)
{ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله } أي إنما سببُ خيرِهم وشرِّهم أو سببُ إصابةِ السيئةِ التي هي ذنوبُهم عند الله تعالى لا عند غيرِه حتى يسندوها إليه ويَطّيّروا به ، وقوله تعالى : { فَمَالِ هَؤُلاء القوم } الخ ، كلام معترضٌ بين المُبينِ وبيانِه مَسوقٌ من جهته تعالى لتعييرهم بالجهل وتقبيحِ حالِهم والتعجيبِ من كمال غباوتِهم ، والفاءُ لترتيبه على ما قبله ، وقولُه تعالى : { لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } حالٌ من هؤلاء والعاملُ فيها ما في الظروف من معنى الاستقرارِ ، أي وحيث كان الأمرُ كذلك فأيُّ شيءٍ حصل لهم حالَ كونِهم بمعزل من أن يفقَهوا حديثاً؟ أو استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من الاستفهام كأنه قيل : ما بالُهم وماذا يصنعون حتى يُتعجّبَ منه أو يُسألَ عن سببه؟ فقيل : لا يكادون يفقهون حديثاً من الأحاديث أصلاً فيقولون ما يقولون ، إذ لو فقِهوا شيئاً من ذلك لفهموا هذا النصَّ وما في معناه وما هو أوضحُ منه من النصوص القرآنية الناطقةِ بأن الكلَّ فائضٌ من عند الله تعالى وأن النعمةَ منه تعالى بطريق التفضلِ والإحسانِ ، والبليةَ بطريق العقوبةِ على ذنوب العبادِ لا سيما النصُّ الواردُ عليهم في صحف موسى { وإبراهيم الذى وفى * أَلاَّ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى } ولم يُسنِدوا جنايةَ أنفسِهم إلى غيرهم .(2/118)
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
وقولُه تعالى : { مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ } الخ ، بيانٌ للجواب المُجْملِ المأمورِ به ، وإجراؤُه على لسان النبيِّ عليه الصلاة والسلام ثم سَوْقُ البيانِ من جهته عز وجل بطريق تلوبنِ الخطابِ وتوجيهِه إلى كل واحدٍ من الناس ، والالتفاتُ لمزيد الاعتناءِ به والاهتمامُ بردِّ مقالتِهم الباطلةِ والإشعارِ بأن مضمونَه مبنيٌّ على حكمة دقيقةٍ حتى بأن يتولى بيانَها علامُ الغيوبِ ، وتوجيهُ الخطابِ إلى كل واحدٍ منهم دون كلِّهم كما في قوله تعالى : { وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } للمبالغة في التحقيق بقطع احتمالِ سببيّة معصيةِ بعضِهم لعقوبة الآخرين أي ما أصابك من نعمة من النعم { فَمِنَ الله } أي فهي منه تعالى بالذات تفضُلاً وإحساناً من غير استيجابٍ لها مِنْ قِبَلك ، كيف لا وأن كلَّ ما يفعله المرءُ من الطاعات التي يُفرض كونُها ذريعةً إلى إصابة نعمةٍ ما فهي بحيث لا تكاد تكافىءُ نعمةَ حياتِه المقارنةِ لأدائها ، ولا نعمةَ إقدارِه تعالى إياه على أدائها فضلاً عن استيجابها لنعمة أخرى ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " ما أحدٌ يدخُل الجنة إلا برحمة الله تعالى " قيل : ولا أنت يا رسولَ الله؟ قال : " ولا أنا "
{ وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ } أي بلية من البلايا { فَمِن نَّفْسِكَ } أي فهي منها بسبب اقترافِها المعاصيَ الموجبةَ لها ، وإن كانت من حيث الإيجادُ منسوبةً إليه تعالى نازلةً من عنده عقوبةً كقوله تعالى : { وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } وعن عائشةَ رضي الله عنها : «ما من مسلم يُصيبه وصَبٌ ولا نصَبٌ حتى الشوكةُ يُشاكُها وحتى انقطاعُ شِسْعِ نعلِه إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثرُ» ، وقيل : الخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما قبله وما بعده ، لكن لا لبيان حالِه عليه الصلاة والسلام بل لبيان حالِ الكفرةِ بطريق التصويرِ ، ولعل ذلك لإظهار كمالِ السخطِ والغضبِ عليهم والإشعارِ بأنهم لفرط جهلِهم وبلادتهم بمعزل عن استحقاق الخطابِ لا سيما بمثل هذه الحكمةِ الأنيقة { وأرسلناك لِلنَّاسِ رَسُولاً } بيانٌ لجلالة منصبِه عليه الصلاة والسلام ومكانتِه عند الله عز وجل بعد بيانِ بُطلانِ زعمِهم الفاسدِ في حقه عليه الصلاة والسلام بناءً على جهلهم بشأنه الجليلِ ، وتعريفُ الناسِ للاستغراق ، والجارُّ إما متعلقٌ برسولاً قُدّم عليه للاختصاص الناظرِ إلى قيد العمومِ أي مرسَلاً لكل الناس لا لبعضهم فقط كما في قوله تعالى : { وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ } وإما بالفعل ، فرسولاً حالٌ مؤكدةٌ وقد جُوِّز أن يكون مصدراً كما في قوله :
لقد كذَب الواشون ما فُهْتُ عندهم ... بسرَ ولا أرسلتُهم برسولِ
أي بإرسال بمعنى رسالة { وكفى بالله شَهِيداً } أي على رسالتك ، بنصب المعجزاتِ التي من جملتها هذا النصُّ الناطقُ والوحيُ الصادِقُ ، والالتفاتُ لتربية المهابةِ وتقويةِ الشهادة ، والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ .(2/119)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
{ مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } بيانٌ لأحكام رسالتِه عليه الصلاة والسلام إثرَ بيانِ تحقّقِها وثبوتِها وإنما كان كذلك لأن الآمرَ والناهيَ في الحقيقة هو الله تعالى ، وإنما هو عليه الصلاة والسلام مبلِّغٌ لأمره ونهيِه فمرجِعُ الطاعةِ وعدمُها هو لله سبحانه . روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : « من أحبّني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاعَ الله » فقال المنافقون : ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل؟ لقد قارف الشركَ وهو ينهي أن يُعبَدَ غيرُ الله ما يريد إلا أن نتخِذَه رباً كما اتخذت النصارى عيسى فنزلت ، والتعبيرُ عنه عليه الصلاة والسلام بالرسول دون الخطابِ للإيذان بأن مناطَ كونِ طاعتِه عليه الصلاة والسلام طاعةً له تعالى ليس خصوصيةَ ذاتِه عليه الصلاة والسلام بل من حيثية رسالتِه ، وإظهارُ الجلالةِ لتربية المهابةِ وتأكيدِ وجوبِ الطاعةِ بذكر عنوانِ الألوهيةِ ، وحملُ الرسولِ على الجنس المنتظِمِ له عليه الصلاة والسلام انتظاماً أولياً يأباه تخصيصُ الخطابِ به عليه السلام في قوله تعالى : { وَمَن تولى فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } وجوابُ الشرطِ محذوفٌ والمذكورُ تعليلٌ له أي ومن أعرض عن الطاعة عنه إنما أرسلناك رسولاً مبلِّغاً لا حفيظاً مهيمِناً تحفَظ عليهم أعمالَهم وتحاسِبُهم عليها وتعاقبهم بحسَبها . وحفيظاً حالٌ من الكاف ، وعليهم متعلقٌ به ، قُدِّم عليه رعايةً للفاصلة ، وجمعُ الضميرِ باعتبار معنى مَنْ كما أن الإفراد في تولى باعتبار لفظِه .(2/120)
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
{ وَيَقُولُونَ } شروعٌ في بيان معاملتِهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم بعد بيانِ وجوبِ طاعتِه ، أي يقولون إذا أمرتَهم بشيء { طَاعَةٌ } أي أمرُنا وشأنُنا طاعةٌ أو منا طاعةٌ ، والأصلُ النصبُ على المصدر ، والرفعُ للدِلالة على الثبات كسلام { فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ } أي خرجوا من مجلسك { بَيَّتَ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ } أي من القائلين المذكورين وهم رؤساؤُهم { غَيْرَ الذى تَقُولُ } أي زوَّرتْ طائفةٌ منهم وسوَّتْ خلافَ ما قالت لك من القَبول وضمانِ الطاعةِ ، لأنهم مُصِرُّون على الرد والعصيانِ ، وإنما يُظهرون ما يُظهرون على وجه النفاقِ ، أو خلافَ ما قلتَ لها ، والتبييتُ إما من البيتوته لأنه قضاءُ الأمرِ وتدبيرُه بالليل ، يقال : هذا أمرٌ بُيِّت بليل ، وإما من بيت الشِّعر لأن الشاعر يُدبِّره ويسوِّيه ، وتذكيرُ الفعلِ لأن تأنيثَ الطائفةِ غيرُ حقيقيَ ، وقرىء بإدغام التاء في الطاء لقُرب المخرَجِ ، وإسنادُه إلى طائفة منهم لبيان أنهم المتصدّون له بالذات والباقون أتباعٌ لهم في ذلك لا لأن الباقين ثابتون على الطاعة .
{ والله يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ } أي يكتُبه في جملة ما يوحى إليك فيُطلعُك على أسرارهم فلا يحسَبوا أن مكرَهم يخفى عليكم فيجدون بذلك إلى الإضرار بكم سبيلاً ، أو يُثبتُه في صحائفهم فيجازيهم عليه ، وأياً ما كان فالجملةُ اعتراضيةٌ { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي لا تُبالِ بهم وبما صنعوا ، أو تَجافَ عنهم ولا تتصدَّ للانتقام منهم ، والفاءُ لسببية ما قبلها لما بعدها .
{ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } في كل ما تأتي وما تذر لا سيما في شأنهم ، وإظهارُ الجلالةِ في مقام الإضمارِ للإشعار بعلة الحُكمِ { وكفى بالله وَكِيلاً } فيكفيك مَرَّتَهم وينتقم لك منهم ، والإظهارُ هاهنا أيضاً لما مر وللتنبيه على استقلال الجملةِ واستغنائِها عما عداها من كل وجه .
{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان } إنكارٌ واستقباحٌ لعدم تدبُّرِهم القرآنَ وإعراضِهم عن التأمل فيما فيه من موجبات الإيمانِ ، وتدبُّر الشيءِ تأمّلُه والنظرُ في أدباره ما يؤول إليه في عاقبته ومنتهاه ، ثم استعمل في كل تفكرٍ ونظرٍ ، والفاءُ للعطف على مقدر أي أيُعرِضون عن القرآن فلا يتأملون فيه ليعلموا كونَه من عند الله تعالى بمشاهدة ما فيه من الشواهد التي من جملتها هذا الوحيُ الصادقُ والنصُّ الناطقُ بنفاقهم المحكيِّ على ما هو عليه .
{ وَلَوْ كَانَ } أي القرآنُ { مِنْ عِندِ غَيْرِ الله } كما يزعُمون { لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } بأن يكون بعضُ أخبارِه غيرَ مطابقٍ للواقع ، إذ لا علمَ بالأمور الغيبيةِ ماضيةً كانت أو مستقبلةً لغيره سبحانه ، وحيث كانت كلُّها مطابقةً للواقع تعيَّن كونُه من عنده تعالى . قال الزجاج : ولولا أنه من عند الله تعالى لكان ما فيه من الإخبار بالغيب مما يُسِرُّه المنافقون وما يُبيِّتونه مختلفاً ، بعضُه حقٌّ وبعضُه باطلٌ ، لأن الغيبَ لا يعلمه إلا الله تعالى .(2/121)
وقال أبو بكرٍ الأصمُّ : إن هؤلاءِ المنافقين كانوا يتواطؤون في السر على أنواع كثيرةٍ من الكيد والمكرِ وكان الله تعالى يُطلِعُ الرسولَ عليه الصلاة والسلام على ذلك ويُخبره بها مفصَّلةً فقيل لهم : إن ذلك لو لم يحصُلْ بإخبار الله تعالى لما اطَّردَ الصِّدقُ فيه ولوقع فيه الاختلافُ فلما لم يقَعْ ذلك قطُّ عُلم أنه بإعلامه تعالى ، هذا هو الذي يستدعيه جزالةُ النظمِ الكريمِ ، وأما حملُ الاختلافِ على التناقض وتفاوُتِ النظمِ في البلاغة بأن كان بعضُه دالاً على معنى صحيحٍ عند علماءِ المعاني وبعضُه على معنى فاسدٍ غيرِ ملتئمٍ وبعضُه بالغاً حدَّ الإعجازِ وبعضُه قاصراً عنه يُمكن معارضتُه كما جنح إليه الجمهورُ فما لا يساعده السباقُ ولا السياقُ ، ومن رام التقريبَ وقال : لعل ذكرَه هاهنا للتنبيه على أن اختلافَ ما سبق من الأحكام ليس لِتناقضٍ في الحِكَم والمصالحِ المقتضيةِ لذلك فقد بعُد عن الحق بمراحلِ .(2/122)
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
{ وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الامن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ } يقال : أذاعَ السِّرَّ وأذاع به أي أشاعه وأفشاه ، وقيل : معنى أذاعوا به فعلوا به الإذاعةَ وهو أبلغُ من أذاعوه ، وهو كلامٌ مسوقٌ لدفع ما عسى يُتوهَّم في بعض الموادِّ من شائبة الاختلافِ بناءً على عدم فهمِ المرادِ ببيان أن ذلك لعدم وقوفِهم على معنى الكلامِ لا لتخلف مدلولِه عنه وذلك أن ناساً من ضَعَفة المسلمين الذين لا خِبرةَ لهم بالأحوال كانوا إذا أخبرهم الرسولُ عليه الصلاة والسلام بما أوحِيَ إليه من وعدٍ بالظفر أو تخويفٍ من الكَفَرة يُذيعونه من غير فهمٍ لمعناه ولا ضبطٍ لفحواه على حسب ما كانوا يفهمونه ويحمِلونه عليه من المحامل ، وعلى تقدير الفهمِ قد يكون ذلك مشروطاً بأمور تفوت بالإذاعة فلا يظهر أثرُه المتوقَّعُ فيكون ذلك منشأً لتوهم الاختلافِ فنُعيَ عليهم ذلك وقيل : { وَلَوْ رَدُّوهُ } أي ذلك الأمرَ الذي جاءهم { إِلَى الرسول } أي عرَضوه على رأيه عليه الصلاة والسلام مستكشفين لمعناه وما ينبغي له من التدبير والالتفاتِ لما أن عنوانَ الرسالةِ من موجبات الردِّ والمراجعةِ إلى رأيه عليه الصلاة والسلام { وإلى أُوْلِى الامر مِنْهُمْ } وهم كبراءُ الصحابةِ البصراءِ في الأمور رضي الله تعالى عنهم { لَعَلِمَهُ } أي لعلم الرادُّون معناه وتدبيرَه ، وإنما وُضع موضِعَ ضميرِهم الموصولُ فقيل : { الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } للإيذان بأنه ينبغي أن يكونَ قصدُهم يردُّه إليهم استكشافُ معناه واستيضاحُ فحواه ، أي لعَلِمه أولئك الرادّون الذين يستنبطونه أي يتلَّقوْنه ويستخرجون عليمه وتدبيرَه منهم أي من جهة الرسولِ عليه الصلاة والسلام وأولي الأمرِ من صحابته رِضوانُ الله عليهم أجمعين ، ولمّا فعلوا في حقه ما فعلوا فلم يقَعْ من الاشتباه وتوهّمِ الاختلافِ ، وقيل : لعَلمه الذين يستخرجون تدبيرَه بفِطَنهم وتجاربِهم ومعرفتِهم بأمور الحربِ ومكايدِها ، فكلمةُ مِنْ في { مِنْهُمْ } بيانية ، وقيل : إنهم كانوا إذا بلغهم خبرٌ عن سرايا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أمن وسلامةٍ أو خوفٍ وخللٍ أذاعوا به وكانت إذاعتُهم مفسدةً ، ولو ردوا ذلك الخبرَ إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وإلى أولي الأمرِ لعلم تدبيرَ ما أُخبروا به الذين يستنبطونه أي يستخرجون تدبيرَه بفِطَنهم وتجارِبِهم ومعرفتِهم بأمور الحربِ ومكايدِها ، وقيل : كانوا يقِفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمرِ على أمن ووثوقٍ بالظهور على بعض الأعداءِ ، أو على خوف فيُذيعونه فينتشرُ فيبلُغُ الأعداءَ فتعود إذاعتُهم مفسدةً ، ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمرِ وفوّضوه إليهم وكانوا كأنْ لم يسمعوا لعَلِم الذين يستنبطون تدبيرَه كيف يُدبِّرونه يأتون وما يذرون فيه ، وقيل : كانوا يسمعون من أفواه المنافقين شيئاً من الأخبار عن السرايا مظنوناً غيرَ معلومِ الصِحّةِ فيُذيعونه فيعود ذلك وبالاً على المؤمنين ، ولو ردّوه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وإلى أولي الأمرِ وقالوا : نسكُتُ حتى نسمَعَه منهم ونعلمَ هل هو مما يُذاع أو لا يذاع لعَلِم صِحَّتَه وهل هو مما يُذاع أو لا يذاع هؤلاء المذيعون وهم الذين يستنبطونه من الرسول وأولي الأمرِ أي يتلقَّوْنه منهم ويستخرجون عِلمَه من جهتهم فمَساقُ النظمِ الكريمِ حينئذ لبيان جنايةِ تلك الطائفةِ وسوءِ تدبيرِهم إثرَ بيانِ جنايةِ المنافقين ومكرِهم .(2/123)
والخطاب في قوله تعالى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } للطائفة المذكورةِ على طريقة الالتفاتِ أي لولا فضلُه تعالى عليكم ورحمتُه بإرشادكم إلى طريق الحقِّ الذي هو المراجعةُ في مظانِّ الاشتباهِ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأولي الأمرِ { لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان } وعمِلتم بآراء المنافقين فيما تأتون وما تذرون ولم تهتدوا إلى سُنن الصوابِ { إِلاَّ قَلِيلاً } وهم أولوا الأمرِ الواقفون على أسرار الكتابِ الراسخون في معرفة أحكامِه ، فالاستثناءُ منقطعٌ ، وقيل : ولولا فضلُه تعالى عليكم ورحمتُه بإرسال الرسولِ وإنزالِ الكتابِ لاتَّبعتم الشيطانَ وبقِيتم على الكفر والضلالةِ إلا قليلاً منكم قد تفضَّلَ عليه بعقل راجح اهتدى به إلى طريق الحقِّ والصوابِ وعصَمَه من متابعة الشيطانِ كقُسِّ بنِ ساعِدةَ الإياديِّ ، وزيدِ بنِ عمْرو بنِ نُفيل ، ووَرَقةَ بنِ نوفلٍ وأضرابِهم ، فالخطابُ للكل ، والاستثناءُ متصلٌ ، وقيل : المرادُ بالفضل والرحمة النُصرةُ والظفَرُ بالأعداء ، أي لولا حصولُ النصرِ والظفرِ على التواتر والتتابعِ لا تبعتم الشيطانَ وتركتم الدينَ إلا قليلاً منكم وهو أولوا البصائرِ النافذةِ والنياتِ القويةِ والعزائمِ الماضيةِ من أفاضل المؤمنين الواقفين على حقبة الدينِ البالغين إلى درجة حقِّ اليقينِ المستغنين عن مشاهدة آثارِ حقِّيتِه من الفتْح والظفَرِ وقيل : إلا اتباعاً قليلاً .(2/124)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
{ فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ الله } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الالتفاتِ ، وهو جوابُ شرطٍ محذوفٍ ينساق إليه النظمُ الكريمُ أي إذا كان الأمرُ كما حُكي من عدم طاعةِ المنافقين وكيدِهم وتقصيرِ الآخَرين في مراعاة أحكامِ الإسلامِ فقاتِلْ أنت وحدَك غيرَ مكترثٍ بما فعلوا ، وقولُه تعالى : { لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ } أي إلا فِعْلَ نفسِكْ ، استئنافٌ مقرِّرٌ لما قبله فإن اختصاصَ تكليفِه عليه الصلاة والسلام بفعل نفسِه من موجبات مباشرتِه للقتال وحدَه ، وفيه دَلالةٌ على أن ما فعلوا من التثبّط لا يضُرُّه عليه الصلاة والسلام ولا يؤاخَذ به ، وقيل : هو حالٌ من فاعل قاتِلْ أي فقاتِلْ غيرَ مُكلَّفٍ إلا نفسَك وقرىء لا تُكَلّفُ بالجزم على النهي ، وقيل : على جواب الأمرِ ، وقرىء بنون العَظَمةِ أي لا نُكلِّفُك إلا فعلَ نفسِك لا على معنى لا تُكلّفُ أحداً إلا نفسَك { وَحَرّضِ المؤمنين } عطفٌ على الأمر السابقِ داخلٌ في حكمه ، فإن كونَ حالِ الطائفتين كما حُكي سببٌ للأمر بالقتال وحدَه وبتحريض خُلَّصِ المؤمنين ، والتحريضُ على الشيء الحثُّ عليه والترغيبُ فيه . قال الراغبُ : كأنه في الأصل إزالةُ الحرض وهو ما لا خير فيه ولا يُعتدُّ به أي رغِّبْهم في القتال ولا تُعنِّفْ بهم وإنما لم يُذكر المُحرَّضُ عليه لغاية ظهورِه .
وقولُه تعالى : { عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ } عِدَةٌ منه سبحانه وتعالى محقَّقةُ الإنجازِ بكف شدةِ الكفَرَة ومكروهِهِم ، فإن ما صدر بلعل وعسى مقرَّرُ الوقوعِ من جهته عز وجل وقد كان كذلك ، حيث روي أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم واعد أبا سفيانَ بعد حربِ أُحدٍ موسِمَ بدرٍ الصغرى في ذي القَعدةِ فلما بلغ الميعادَ دعا الناسَ إلى الخروج فكرِهه بعضُهم فنزلت فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في سبعين راكباً ووافَوا الموعِدَ وألقى الله تعالى في قلوب الذين كفروا الرعبَ فرجعوا من مرِّ الظّهرانِ ، وروي أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وافى بجيشه بدراً وأقام بها ثمانيَ ليالٍ وكانت معهم تجاراتٌ فباعوها وأصابوا خيراً كثيراً وقد مر في سورة آل عمران { والله أَشَدُّ بَأْساً } أي من قريش { وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } أي تعذيباً وعقوبةً تُنكّل مَنْ يشاهدُها عن مباشرة ما يؤدي إليها ، والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبلها ، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتربية المهابةِ وتعليلِ الحُكمِ وتقويةِ استقلالِ الجُملة ، وتكريرُ الخبرِ لتأكيد التشديدِ .(2/125)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
وقوله تعالى : { مَّن يَشْفَعْ شفاعة حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا } أي من ثوابها ، جملةٌ مستأنفةٌ سيقت لبيان أن له عليه الصلاة والسلام فيما أُمر به من تحريض المؤمنين حظاً موفوراً ، فإن الشفاعةَ هي التوسُّطُ بالقول في وصول شخصٍ إلى منفعة من المنافع الدنيويةِ أو الأخروية ، أو خلاصِه من مضَرّة ما كذلك ، من الشفْع كأن المشفوعَ له كان فرداً فجعله الشفيعُ شَفْعاً ، والحسنةُ منها ما كانت في أمر مشروعٍ رُوعي بها حقُّ مسلمٍ ابتغاءً لوجه الله تعالى من غير أن يتضمَّن غرضاً من الأغراض الدنيويةِ ، وأيُّ منفعة أجلُّ مما قد حصل للمؤمنين بتحريضه عليه الصلاة والسلام على الجهاد من المنافع الدنيويةِ والأخرويةِ؟ وأيُّ مضرةٍ أعظمُ مما تخلّصوا منه بذلك من التثبّط عنه؟ ويندرج فيها الدعاءُ للمسلم فإنه شفاعةٌ إلى الله سبحانه وعليه مَساقُ آيةِ التحيةِ الآتية ، روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « من دعا لأخيه المسلمِ بظهر الغيبِ استُجيب له وقال له المَلَكُ : ولك مثلُ ذلك » وهذا بيانٌ لمقدار النصيبِ الموعود { وَمَن يَشْفَعْ شفاعة سَيّئَةً } وهي ما كانت بخلاف الحسنةِ { يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا } أي نصيب من وِزْرها مساوٍ لها في المقدار من غير أن يَنْقُصَ منه شيءٌ { وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء مُّقِيتاً } أي مقتدراً ، من أقات على الشيء إذا اقتدر عليه أو شهيداً حفيظاً ، واشتقاقُه من القُوت ، فإنه يقوِّي البدَنَ ويحفَظُه ، والجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لما قبلها على كلا المعنيين .
{ وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ } ترغيبٌ في فرد شائعٍ من أفراد الشفاعةِ الحسنةِ إثرَ ما رُغِّبَ فيها على الإطلاق وحُذِّر عما يقابلها من الشفاعة السيئةِ ، وإرشادٌ إلى توفية حقِّ الشفيعِ ، وكيفيةِ أدائِه ، فإن تحيةَ الإسلامِ من المسلم شفاعةٌ منه لأخيه إلى الله تعالى ، والتحيةُ مصدر حيَّا أصلُها تحْيِيَةٌ ، كتسمية من سمَّى وأصلُ الأصلِ تَحْيِيٌّ بثلاث ياءاتٍ فحُذفت الأخيرةُ وعُوِّضَ عنها تاءُ التأنيثِ وأُدغمت الأولى في الثانية بعد نقلِ حركتِها إلى الحاء . قال الراغبُ : أصلُ التحية الدعاءُ بالحياة وطولِها ثم استعملت في كل دعاءٍ ، وكانت العربُ إذا لقِيَ بعضُهم بعضاً يقول : حياك الله ، ثم استعملها الشرعُ في السلام وهي تحيةُ الإسلامِ ، وقال تعالى : { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام } وقال : { فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مّنْ عِندِ الله } قالوا : في السلام مزيةٌ على التحية لما أنه دعاءٌ بالسلامة من الآفات الدينيةِ والدنيويةِ ، وهي مستلزِمةٌ لطول الحياةِ وليس في الدعاء بطول الحياةِ ذلك ، ولأن السلامَ من أسمائه تعالى فالبَداءةُ بذكره مما لا ريبَ في فضله ومزّيتِه ، أي إذا سُلِّم عليكم من جهة المؤمنين { فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا } أي بتحيةٍ أحسنَ منها بأن تقولوا : وعليكم السلامُ ورحمةُ الله إن اقتصر المُسلمُ على الأول وبأن تَزيدوا وبركاتُه إن جمعهما المسلمُ وهي النهايةُ لانتظامها لجميع فنونِ المطالبِ التي هي السلامةُ عن المضارِّ ونيلُ المنافعِ ودوامُها ونماؤُها .(2/126)
{ أَوْ رُدُّوهَا } أي أجيبوها بمثلها . رُوي أن رجالاً قال أحدُهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم : السلامُ عليك ، فقال : " وعليك السلام ورحمةُ الله " وقال الآخرُ : السلامُ عليك ورحمةُ الله ، فقال : " وعليك السلامُ ورحمةُ الله وبركاتُه " ، وقال الآخرُ : السلامُ عليك ورحمةُ الله وبركاتُه ، فقال : " وعليك " فقال الرجل : نقصتَني فأين ما قال الله تعالى؟ وتلا الآية ، فقال عليه الصلاة والسلام : " إنك لم تترُكْ ليَ فضلاً فردَدْتُ عليك مثلَه " ، وجوابُ التسليم واجبٌ وإنما التخييرُ بين الزيادةِ وتركِها ، وعن النخعيّ : أن السلامَ سنةٌ والردَّ فريضةٌ ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : «الردُّ واجبٌ وما من رجل يمُرُّ على قوم مسلمين فيسلّم عليهم ولا يردّون عليه إلا نزَع الله منهم روُحَ القُدسِ وردَّت عليه الملائكة» ولا يردّ في الخُطبة وتلاوةِ القرآنِ جهراً ، وروايةِ الحديثِ وعند دراسةِ العلمِ والآذانِ والإقامةِ ، ولا يسلّم على لاعب النرْدِ والشطرنج والمغنّي والقاعدِ لحاجته ومُطيِّرِ الحَمام والعاري في الحمّام وغيرِه ، قالوا : ويسلم الرجلُ على امرأته لا على الأجنبية ، والسُّنةُ أن يسلِّم الماشي على القاعد والراكبُ على الماشي وراكبُ الفرسِ على راكب الحمارِ ، والصغيرُ على الكبير والقليلُ على الكثير ، وإذا التَقَيا ابتدرا . وعن أبي حنيفةَ رضي الله عنه لا يجهر بالرد يعني الجهرَ الكثيرَ ، وعن النبي عليه الصلاة والسلام : " إذا سلَّم عليكُم أهلُ الكتابِ فقولوا : وعليكُم " أي وعليكم ما قلتم حيث كان يقول بعضُهم : السامُ عليكم . وروي ( لا تبدأ اليهوديَّ بالسلام وإذا بدأك فقل : وعليك ) ، وعن الحسن : أنه يجوز أن يقول للكافر وعليك السلامُ دون الزيادة ، وقيل : التحيةُ بالأحسن عند كونِ المسلِّمِ مسلماً وردُّ مثلِها عند كونِه كافراً .
{ إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَىْء حَسِيباً } فيحاسبكم على كل شيءٍ من أعمالكم التي من جملتها ما أُمرتم به من التحية فحافِظوا على مراعاتها حسبما أُمرتم به .(2/127)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
{ اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } مبتدأٌ وخبرٌ وقولُه تعالى : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة } جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي والله ليحشُرَّنكم من قبوركم إلى يوم حساب يومِ القيامةِ ، وقيل : إلى بمعنى في والجملةُ القسميةُ إما مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب أو خبرٌ ثانٍ للمبتدأ أو هي الخبرُ ، و { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } اعتراضٌ وقوله تعالى : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي في يوم القيامةِ أو في الجمع حالٌ من اليوم أو صفةٌ للمصدر أي جمعاً لا ريب فيه { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً } إنكارٌ لأن يكون أحدٌ أصدقَ منه تعالى في وعده وسائرِ أخبارِه وبيانٌ لاستحالته كيف لا والكذِبُ مُحالٌ عليه سبحانه دون غيرِه .(2/128)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
{ فَمَا لَكُمْ } مبتدأٌ وخبرٌ ، والاستفهامُ للإنكار والنفي ، والخطابُ لجميع المؤمنين لكنّ ما فيه من معنى التوبيخِ متوجهٌ إلى بعضهم ، وقولُه تعالى : { فِى المنافقين } متعلقٌ إما بما تعلق به الخبرُ ، أي أيُّ شيءٍ كائنٌ لكم فيهم أي في أمرهم وشأنِهم ، فحُذف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه ، وإما بما يدل عليه قولُه تعالى : { فِئَتَيْنِ } من معنى الافتراقِ أي فما لكم تفترقون في المنافقين ، وإما بمحذوف وقع حالاً من فئتين أي كائنتين في المنافقين لأنه في الأصل صفةٌ فلما قُدّمت انتصبت على الحال كما هو شأنُ صفاتِ النكراتِ على الإطلاق ، أو من الضمير في تفترقون وانتصابُ فئتين عند البصْريين على الحالية من المخاطَبين والعاملُ ما في لكم من معنى الفعلِ ، كما في قوله تعالى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } وعند الكوفيين على خبرية كان مُضمرةً أي فما لكم في المنافقين كنتم فئتين ، والمرادُ إنكارُ أن يكون للمخاطبين شيءٌ يصحّح اختلافَهم في أمر المنافقين وبيانِ وجوبِ بتِّ القولِ بكفرهم ، وإجرائهم مُجرى المجاهرين بالكفر في جميع الأحكامِ . وذكرُهم بعنوان النفاقِ باعتبار وصفِهم السابق . روي ( أنهم قومٌ من المنافقين استأذنوا رسولَ الله عليه الصلاة والسلام في الخروج إلى البدو معتلين باجتواء المدينةِ فلما خرجوا لم يزالوا راحلين مَرْحلةً فمرحلة حتى لحِقوا بالمشركين ، فاختلف المسلمون في أمرهم ) وقيل : هم قوم هاجروا من مكةَ إلى المدينة ثم بدا لهم فرجعوا وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا على دينك وما أخرَجَنا إلا اجتواءُ المدينةِ والاشتياقُ إلى بلدنا ، وقيل : ( هم ناسٌ أظهروا الإسلامَ وقعدوا عن الهجرة ) ، وقيل : ( هم قومٌ خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ثم رجعوا ) ، ويأباه ما سيأتي من جعل هِجرتِهم غايةً للنهي عن تولِّيهم ، وقيل : هم العُرَنيّون الذين أغاروا على السَّرْح وقتلوا راعيَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ويردّه ما سيأتي من الآيات الناطقةِ بكيفية المعاملة معهم من السلم والحربِ وهؤلاء قد أُخذوا وفُعل بهم ما فُعل من المُثلةِ والقتلِ ولم يُنقلْ في أمرهم اختلافُ المؤمنين .
{ والله أَرْكَسَهُمْ } حال من المنافقين مفيدةٌ لتأكيد الإنكارِ السابقِ واستبعادِ وقوعِ المنكرِ ببيان وجودِ النافي بعد بيانِ عدمِ الداعي ، وقيل : من ضمير المخاطبين والرابطُ هو الواو أي أيُّ شيءٍ يدعوكم إلى الاختلاف في كفرهم مع تحقق ما يوجب اتفاقَكم على كفرهم ، وهو أن الله تعالى قد ردهم في الكفر كما كانوا { بِمَا كَسَبُواْ } بسبب ما كسَبوه من الارتداد واللّحوقِ بالمشركين والاحتيالِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والعائدُ إلى الموصول محذوفٌ ، وقيل : ما مصدريةٌ أي بكسبهم ، وقيل : معنى أركسهم نَكّسهم بأن صيَّرهم للنار وأصلُ الرِّكسِ ردُّ الشيءِ مقلوباً ، وقرىء رَكَّسهم مشدداً ورَكَسَهم أيضاً مخففاً { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله } تجريدٌ للخطاب وتخصيصٌ له بالقائلين بإيمانهم من الفئتين وتوبيخٌ لهم على زعمهم ذلك وإشعارٌ بأنه يؤدي إلى محاولة المُحالِ الذي هو هدايةُ من أضله الله تعالى ، وذلك بأن الحُكمَ بإيمانهم وادعاءِ اهتدائِهم وهم بمعزل من ذلك سعيٌ في هدايتهم وإرادةٌ لها ، ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِ المنافقين لتشديد الإنكارِ وتأكيدِ استحالةِ الهدايةِ بما ذكر في حيز الصلةِ .(2/129)
وتوجيهُ الإنكارِ إلى الإرادة لا إلى متعلَّقها بأن يقالَ : أتهدون الخ ، للمبالغة في إنكاره ببيان أنه مما لا يمكن إرادتُه فضلاً عن إمكان نفسِه ، وحملُ الهدايةِ والإضلالِ على الحُكم بهما يأباه قوله تعالى : { وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } أي ومن يَخْلُقْ فيه الضلالَ كائناً من كان فلن تجدَ له سبيلاً من السبل فضلاً عن أن تهدِيَه إليه ، وفيه من الإفصاح عن كمال الاستحالةِ ما ليس في قوله تعالى : { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } ونظائرِه . وحملُ إضلالِه تعالى على حُكمه وقضائِه بالضلال مُخِلٌّ بحسن المقابلة بين الشرطِ والجزاءِ ، وتوجيهُ الخطابِ إلى كل واحد من المخاطَبين للإشعار بشمول عدمِ الوجدان للكل على طريق التفصيلِ ، والجملةُ إما حالٌ من فاعل تريدون أو تهدوا والرابطُ هو الواو أو اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ للإنكار السابقِ ومؤكدٌ لاستحالة الهدايةِ فحينئذ يجوز أن يكون الخطابُ لكل أحدٍ ممن يصلُح له من المخاطَبين أولاً ومن غيرهم .(2/130)
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
{ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ } كلامٌ مستأنفٌ لبيان غلوِّهم وتماديهم في الكفر وتصدِّيهم لإضلال غيرِهم إثرَ بيانِ كفرِهم وضلالِهم في أنفسهم ، وكلمةُ لو مصدرية غنيةٌ عن الجواب ، وهي مع ما بعدها نصبٌ على المفعولية ، أي ودّوا أن تكفروا ، وقولُه تعالى : { كَمَا كَفَرُواْ } نُصب على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي كفراً مثلَ كفرِهم ، أو حالٌ من ضمير ذلك المصدرِ كما هو رأيُ سيبويهِ وقولُه تعالى : { فَتَكُونُونَ سَوَاء } عطفٌ على تكفرون داخلٌ في حكمه أي ودوا أن تكفروا فتكونوا سواءً مستوِين في الكفر والضلالِ ، وقيل : كلمةُ لو على بابها ، وجوابُها محذوفٌ كمفعول ودّوا لتقدير ودوا كفرَكم لو تكفرون كما كفروا لسخرّوا بذلك { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء } الفاء جوابُ شرطٍ محذوفٍ وجمعُ أولياءَ لمراعاة جمعِ المخاطَبين فإن المرادَ نهيُ أن يتخذ واحدٌ من المخاطبين ولياً واحداً منهم أي إذا كان حالُهم ما ذكر من وِدادة كفرِكم فلا توالوهم { حتى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ الله } أي حتى يؤمنوا ويحققوا إيمانَهم بهجرةٍ كائنةٍ لله تعالى ورسولِه عليه الصلاة والسلام لا لغرض من أغراض الدنيا .
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي عن الإيمان المؤيَّدِ بالهجرة الصحيحةِ المستقيمةِ { فَخُذُوهُمْ } أي إذا قدَرتم عليهم { واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } من الحِلّ والحرمِ فإن حُكمَهم حكمُ سائرِ المشركين أسراً وقتلاً { وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } أي جانبوهم مجانبةً كليةً ولا تقبَلوا منهم وِلايةً ولا نُصرةً إبداً { إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق } استثناءٌ من قوله تعالى : { فَخُذُوهُمْ واقتلوهم } ، أي إلا الذين يتصلون وينتهون إلى قوم عاهدوكم ولم يحاربوكم وهم الأسلميّون ( كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقتَ خروجِه من مكةَ قد وادَعَ هِلالَ بنَ عُويمِرٍ الأسلميَّ على أنه لا يُعينُه ولا يُعينُ عليه وعلى أن من وَصل إلى هلالٍ ولجأ إليه فله من الجِوار مثلُ الذي لهلال ) ، وقيل : هم بنو بكرِ بنِ زيدِ مَناةَ ، وقيل : هم خُزاعة .
{ أَوْ جَاءوكُمْ } عطفٌ على الصلة أي أو الذين جاءوكم كافّين عن قتالكم وقتالِ قومِهم . استُثني من المأمور بأخذهم وقتلِهم فريقان : أحدُهما من ترك المحاربين ولحِق بالمعاهَدين ، والآخرُ من أتى المؤمنين وكفّ عن قتال الفريقين .
أو على صفةِ قومٍ كأنه قيل : إلا الذين يصلون إلى قوم معاهَدين أو إلى قوم كافّين عن القتال لكم والقتالِ عليكم ، والأولُ هوالأظهرُ لما سيأتي من قوله تعالى : { فَإِنِ اعتزلوكم } الخ ، فإنه صريحٌ في أن كفَّهم عن القتال أحدُ سَبَبي استحقاقِهم لنفي التعرُّضِ لهم ، وقرىء جاءوكم بغير عاطفٍ على أنه صفةٌ بعد صفةٍ أو بيانٌ ليصِلون أو استئنافٌ { حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } حالٌ بإضمار قد بدليل أنه قُرىء حَصِرَةٌ صدورُهم وحَصِراتٌ صدورُهم ، وقيل : هو بيانٌ لجاءوكم وهم بنو مَدلج جاءوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم غيرَ مقاتلين ، والحصرُ الضيقُ والانقباض { ءانٍ يقاتلوكم أَوْ يقاتلوا قَوْمَهُمْ } أي من أن يقاتلوكم أي لأَنْ يقاتلوكم أو كراهةَ أن يقاتلوكم الخ { وَلَوْ شَاء الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ } جملةٌ مبتدأةٌ جاريةٌ مجرى التعليلِ لاستثناء الطائفةِ الأخيرةِ من حكم الأخذِ والقتلِ ونظمِهم في سلك الطائفةِ الأولى الجاريةِ مَجرى المعاهَدين مع عدم تعلّقِهم بنا ولا بمن عاهدونا كالطائفة الأولى ، أي لو شاء الله لسلطهم عليكم ببسط صدورِهم وتقويةِ قلوبِهم وإزالةِ الرعبِ عنها { فلقاتلوكم } عَقيبَ ذلك ولم يكفّوا عنكم ، واللامُ جوابُ لو على التكرير أو الإبدالِ من الأُولى ، وقرىء فلقَتّلوكم بالتخفيف والتشديد { فَإِنِ اعتزلوكم } ولم يتعرضوا لكم { فَلَمْ يقاتلوكم } مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك بمشيئة الله عزو وجل { وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم } أي الانقيادَ والاستسلام وقرىء بسكون اللام { فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } طريقاً بالأسر أو بالقتل فإن كفَّهم عن قتالكم وأن يقاتلوا قومَهم أيضاً وإلقاءَهم إليكم السَّلَم وإن لم يعاهدوكم كافيةٌ في استحقاقهم لعدم تعرُّضِكم لهم .(2/131)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
{ سَتَجِدُونَ ءاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ } هم قومٌ من أسَد وغطَفانَ كانوا إذا أتَوا المدينةَ أسلموا وعاهَدوا ليأْمَنوا المسلمين فإذا رجعوا إلى قومهم ونكَثوا عُهودَهم ليأمَنوا قومَهم ، وقيل : هم بنو عبدِ الدارِ وكان ديدنَهم ما ذكر { كُلَّمَا رُدُّواْ إِلَى الفتنة } أي دُعوا إلى الكفر وقتالِ المسلمين { أُرْكِسُواْ فِيِهَا } قُلبوا فيها أقبحَ قلْبٍ وأشنَعَه وكانوا فيها شراً من كل عدو شرَّيرٍ { فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ } بالكف عن التعرُّض لكم بوجه ما { وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السلم } أي لم يُلْقوا إليكم الصُلْحَ والعهدَ بل نَبَذوه إليكم { وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ } أي لم يكفّوها عن قتالكم { فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ } أي تمكّنتم منهم { وَأُوْلَئِكُمْ } الموصوفون بما ذُكر من الصفات القبيحةِ { جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سلطانا مُّبِيناً } حُجةً واضحةً في الإيقاع بهم قتلاً وسبْياً لظهور عداوتِهم وانكشافِ حالِهم في الكفر والغدرِ وإضرارِهم بأهل الإسلامِ أو تسلطاً ظاهراً حيث أذِنّا لكم في أخذهم وقتلِهم .(2/132)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ } أي وما صح له ولا لاقَ بحاله { أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً } بغير حقَ فإن الإيمانَ زاجرٌ عن ذلك { إِلا خطأ } فإنه ربما يقع لعدم دخولِ الاحترازِ عنه بالكلية تحت الطاقةِ البشريةِ ، وانتصابُه إما على أنه حالٌ أي وما كان له أن يقتلَ مؤمناً في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ أو على أنه المفعولُ له أي وما كان له أن يقتله لعِلّة من العلل إلا للخطأ أو على أنه صفةٌ للمصدر أي إلا قتلاً خطأً ، وقيل : إلا بمعنى ولا ، والتقديرُ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً عمداً ولا خطأً ، وقيل : { تَعْلَمُونَ مَا كَانَ } نفيٌ في معنى النهي ، والاستثناءُ منقطِعٌ أي لكنْ إن قتله خطأً فجزاؤُه ما يُذكر ، والخطأُ ما لا يقارِنه القصْدُ إلى الفعل أو إلى الشخص ، أو لا يُقصد به زُهوقُ الروحِ غالباً أو لا يقصد به محظورٌ كرمي مُسلمٍ في صف الكفارِ مع الجهل بإسلامه ، وقرىء خَطاءً بالمد وخَطاً كعصا بتخفيف الهمزة . روي أن عياشَ بنَ أبي ربيعةَ وكان أخا أبي جهلٍ لأمّه أسلم وهاجر إلى المدينة خوفاً من أهله وذلك قبل هجرةِ النبي عليه الصلاة والسلام فأقسمَتْ أمُّه لا تأكلُ ولا تشربُ ولا يَأْويها سقفٌ حتى يرجِع فخرج أبو جهل ومعه الحارثُ بنُ زيدِ بنِ أبي أنيسةَ فأتياه وهو في أطم ففتل منه أبو جهل في الذُّروة والغارب وقال : أليس محمدٌ يحثُّك على صلة الرحِمِ؟ انصرِفْ وبَرَّ أمَّك وأنت على دينك حتى نزل وذهب معهما فلما فسَحا من المدينة كتَفاه وجلَده كلُّ واحد منهما مائةَ جلدةٍ فقال للحارثِ : هذا أخي فمن أنت يا حارث؟ لله علي إن وجدتك خالياً أن أقتلَك ، وقدِما به على أمه فحلفت لا يُحَلُّ كِتافُه أو يرتدَّ ففعل بلسانه ثم هاجر بعد ذلك ، وأسلم الحارثُ وهاجر فلقِيَه عياشُ بظهر قُباءَ ولم يشعُرْ بإسلامه فأنحى عليه فقتله ثم أُخبر بإسلامه فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال : قتلتُه ولم أشعُرْ بإسلامه فنزلت { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أي فعليه أو فجزاؤُه تحريرُ رقبةٍ أي إعتاقُ نسمةٍ عبّر عنها بها كما يعبّر بالرأس { مُؤْمِنَةٍ } أي محكومٌ بإسلامها وإن كانت صغيرة { وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ } مؤدّاةٌ إلى ورثته يقتسِمونها كسائر المواريثِ لقول الضحاك بنِ سفيانَ الكِلابيّ : كتب إليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يأمُرني أن أُورّث امرأةَ أشيمَ الضبابيّ من عقْل زوجِها { إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } أي إلا أن يتصدق أهلُه عليه سمِّي العفوُ عنها صدقةً حثاً عليه وتنبيهاً على فضله ، وعن النبي عليه الصلاة والسلام : « كلُّ معروفٍ صدقةٌ » وقرىء إلا أن يتصدقوا وهو متعلقٌ بعليه أو بمُسلّمة أي تجب الديةُ أو يسلّمها إلى أهله إلا وقت تصدقِهم عليه فهو في محل النصبِ على الظرفية أو إلا حالَ كونِهم متصدِّقين عليه فهو حالٌ من الأهل أو القاتلِ { فَإن كَانَ } أي المقتولُ { مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ } كفارٍ محاربين { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } ولم يَعْلم به القاتلُ لكونه بين أظهُرِ قومِه بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقْهم أو بأن أتاهم بعدما فارقهم لِمُهمَ من المهمات { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } أي فعلى قاتله الكفارةُ دون الديةِ إذ لا وِراثة بينه وبين أهلِه لأنهم محارَبون { وَإِن كَانَ } أي المقتولُ المؤمنُ { مِن قَوْمٍ } كفرَة { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق } أي عهدٌ مؤقتٌ أو مؤبدٌ { فَدِيَةٌ } أي فعلى قاتله ديةٌ { مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ } من أهل الإسلامِ إن وجدوا .(2/133)
ولعل تقديمَ هذا الحكمِ هاهنا مع تأخيره فيما سلف للإشعار بالمسارعة إلى تسليم الديةِ تحاشياً عن توهّم نقضِ الميثاقِ { وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً } كما هو حكمُ سائرِ المسلمين ، ولعل إفرادَه بالذكر مع اندراجه في حكم ما سبق من قوله تعالى : { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً } خطأ الخ ، لبيان أن كونَه فيما بين المعاهَدين لا يمنع وجوبَ الديةِ كما منعه كونُه فيما بين المحارَبين ، وقيل : المرادُ بالمقتول الذميُّ أو المعاهَدُ لئلا يلزَمَ التكرارُ بلا فائدةٍ ولا التوريثُ بين المسلمِ والكافر ، وقد عرفت عدمَ لزومِهما { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } أي رقبةً ليُحرِّرها بأن لم يملِكْها ولا ما يُتوصّل به إليها من الثمن { فَصِيَامُ } أي فعليه صيامُ { شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } لم يتخللْ بين يومين من أيامهما إفطارٌ { تَوْبَةً } نُصب على أنه مفعولٌ له أي شُرع لكم ذلك توبةً أي قَبولاً لها ، من تاب الله عليه إذا قبِل توبتَه ، أو مصدرٌ مؤكدٌ لفعل محذوفٍ ، أي تاب عليكم توبةً ، وقيل : على أنه حالٌ من الضمير المجرورِ في عليه بحذف المضافِ أي فعليه صيامُ شهرين حالَ كونِه ذا توبةٍ ، وقولُه تعالى : { مِنَ الله } متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لتوبةً أي كائنةً منه تعالى { وَكَانَ الله عَلِيماً } بجميع الأشياءِ التي من جملتها حالُه { حَكِيماً } في كل ما شرَع وقضى من الشرائع والأحكامِ التي من جملتها ما شرعه في شأنه .(2/134)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً } لمّا بيّن حُكمَ القتلِ خطأً وفصَّل أقسامَه الثلاثةَ عقّب ذلك ببيان القتلِ عمداً خلا أن حكمَه الدنيويَّ لما بُيِّن في سورة البقرةِ اقتُصر هاهنا على حُكمه الأخرويِّ . روي أن مِقْيَسَ بنَ صُبَابةَ الكِنانيَّ وكان قد أسلم هو وأخوه هشامٌ وجَد أخاه قتيلاً في بني النجارِ ، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وذكر له القصةَ فأرسل عليه السلام معه زبيرَ بنَ عِياضٍ الفِهريَّ وكان من أصحاب بدرٍ إلى بني النجار يأمرُهم بتسليم القاتلِ إلى مقيسٍ ليقتصَّ منه إن علموه وبأداء الديةِ إن لم يعلموه ، فقالوا : سمعاً وطاعةً لله تعالى ولرسوله عليه السلام ما نعلم له قاتلاً ولكنا نؤدّي دِيتَه فأتَوْه بمائة من الإبل فانصَرفا راجعَيْن إلى المدينة حتى إذا كانا ببعض الطريقِ أتى الشيطانُ مِقْيَساً فوسوس إليه فقال : أتقبل دِيةَ أخيك فيكونَ مَسَبَّةً عليك؟ اقتُل الذي معك فيكونَ نفساً بنفس وفضلَ الديةِ فتغفّل الفِهريَّ فرماه بصخرة فشدَخَه ثم ركِب بعيراً من الإبل واستاق بقيتَها راجعاً إلى مكةَ كافراً وهو يقول :
قتلتُ به فِهراً وحمَّلْتُ عَقُلَه ... سَراةَ بني النجارِ أصحابَ قارعِ
وأدركتُ ثأري واضطجعتُ موسّدا ... وكنت إلى الأوثان أولَ راجعِ
فنزلت ، وهو الذي استثناه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتحِ ممن أمّنه فقُتل وهو متعلِّقٌ بأستار الكعبةِ ، وقوله تعالى : { مُّتَعَمّداً } حالٌ من فاعل يقتل ، وروي عن الكسائي سكونُ التاءِ كأنه فر من توالي الحركات { فَجَزَاؤُهُ } الذي يستحقه بجنايته { جَهَنَّمَ } وقولُه تعالى : { خَالِداً فِيهَا } حالٌ مقدرةٌ من فاعل فعلٍ مقدرٍ يقتضيه المقامُ كأنه قيل : فجزاؤه أن يدخُلَ جهنَّم خالداً فيها ، وقيل : هو حالٌ من ضمير يجزاها ، وقيل : من مفعول جازاه ، وأُيّد ذلك بأنه أنسبُ بعطف ما بعده عليه لموافقته له صيغةً ، ولا يخفى أن ما يُقدّر للحال أو للعطف عليه حقُّه أن يكون مما يقتضيه المقامُ اقتضاءً ظاهراً ويدل عليه الكلامُ دَلالةً بينةً ، وظاهرٌ أن كونَ جزائِه ما ذُكر لا يقتضي وقوعَ الجزاءِ البتةَ كما ستقف عليه حتى يُقدَّرَ يُجزاها أو جازاه بطريق الإخبارِ عن وقوعه ، وأما قولُه تعالى : { وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ } فمعطوفٌ على مقدر يدل عليه الشرطيةُ دِلالةً واضحةً كأنه قيل بطريق الاستئنافِ تقريراً وتأكيداً لمضمونها : حكمُ الله بأن جزاءَه ذلك وغضِب عليه أي انتقم منه { وَلَعَنَهُ } أي أبعده عن الرحمة بجعل جزائِه ما ذكر ، وقيل : هو وما بعده معطوفٌ على الخبر بتقدير أنّ ، وحملُ الماضي على معنى المستقبلِ كما في قوله تعالى : { وَنُفِخَ فِى الصور } ونظائرِه أي فجزاؤُه جهنمُّ وأن يغضَبَ الله عليه الخ { وَأَعَدَّ لَهُ } في جهنم { عَذَاباً عَظِيماً } لا يقادَر قَدْرُه ولِما ترى في الآية الكريمةِ من التهديد الشديدِ والوعيد الأكيدِ وفنونِ الإبراق والإرعادِ وقد تأيدت بما رُوي من الأخبار الشِّداد كقوله عليه الصلاة والسلام :(2/135)
« والذي نفسي بيده لَزَوالُ الدُّنيا عند الله أهونُ من قتلِ مؤمن » وقوله عليه الصلاة والسلام : « لو أن رجلاً قُتل بالمشرق وآخَرُ رضِي بالمغرب لأَشرَك في دمه » وقوله عليه الصلاة والسلام : من أعان على قتل مؤمنٍ ولو بشَطْر كلمةٍ جاء يوم القيامةِ مكتوبٌ بين عينيه آيسٌ من رحمة الله تعالى وبنحو ذلك من القوارع تمسكت الخوارجُ والمعتزلةُ بها في خلود مَنْ قتل المؤمنَ عمداً في النار ولا مُتمَسَّك لهم فيها إلا لِما قيل من أنها في حق المستحِلِّ كما هو رأيُ عِكرِمةَ وأضرابِه بدليل أنها نزلت في مقيسِ بنِ ضبابةَ الكِناني المرتدِّ حسبما مرت حكايتُه فإن العبرةَ بعموم اللفظِ لا بخصوص السببِ بل لأن المرادَ بالخلود هو المكثُ الطويلُ لا الدوامُ لتظاهر النصوصِ الناطقةِ بأن عصاةَ المؤمنين لا يدوم عذابُهم ، وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ( أنه لا توبةَ لقاتل المؤمنِ عمداً ) وكذا ما روي عن سفيانَ أن أهلَ العلم كانوا إذا سُئلوا قالوا : لا توبةَ له محمول على الاقتداء بسنة الله تعالى في التشديد والتغليظِ وعليه يُحمل ما روي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : « أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمنِ توبة » كيف لا وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً سأله : ألِقاتلِ المؤمنِ توبةٌ؟ قال : لا ، وسأله آخَرُ؟ ألقاتل المؤمن توبةٌ؟ فقال : نعم ، فقيل له : قلت لذلك كذا ولهذا كذا ، قال : كان الأولُ لم يقتُلْ بعد فقلت ما قلت كيلا يقتُلَ وكان هذا قد قتل فقلت له ما قلت لئلا ييأسَ ، وقد روي عنه جوازُ المغفرةِ بلا توبة أيضاً حيث قال في قوله تعالى : { فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ } الآيةُ ، هي جزاؤُه فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له ، ورُوي مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « هو جزاؤُه إن جازاه » وبه قال عونُ بنُ عبدِ اللَّهِ وبكرُ بنُ عبدِ اللَّه المزني وأبو صالح قالوا : قد يقول الإنسانُ لمن يزجُره عن أمر إن فعلتَه فجزاؤُك القتلُ والضربُ ثم إن لم يجازِه بذلك لم يكن ذلك منه كذباً ، قال الواحدي : والأصلُ في ذلك أن الله عز وجل يجوزُ أن يُخلِفَ الوعيدَ وإن امتنع أن يُخلِف الوعد . بهذا وردت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أنسٍ رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : « من وعده الله تعالى على عمله ثواباً فهو مُنجِزُه له ، ومن أوعده على عمله عِقاباً فهو بالخيار » والتحقيقُ أنه لا ضرورة إلى تفريع ما نحن فيه على الأصل المذكورِ لأنه إخبارٌ منه تعالى بأن جزاءَه ذلك لا بأنه يجزيه بذلك . كيف لا وقد قال الله تعالى : { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } ولو كان هذا إخباراً بأنه تعالى يجزي كلَّ سيئةٍ بمثلها لعارضه قوله تعالى : { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } .(2/136)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
{ يأيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } إثرَ ما بيّن حكمَ القتلِ بقسميه وأن ما يُتصوّر صدورُه عن المؤمن إنما هو القتلُ خطأً شرَعَ في التحذير عما يؤدي إليه من قلة المبالاةِ في الأمور { إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ الله } أي سافرتم في الغزو ، ولِمَا في إذا من معنى الشرطِ صُدِّر قولُه تعالى : { فَتَبَيَّنُواْ } بالفاء ، فاطلُبوا بيانَ الأمرِ في كل ما تأتوُن وما تذرون ولا تعجَلوا فيه بغير تدبرٍ ورويّة ، وقرىء فتثبّتوا أي اطلُبوا إثباته وقوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلام } نهيٌ عما هو نتيجةٌ لترك المأمورِ به وتعيينٌ لمادّة مُهمّةٍ من الموادّ التي يجب فيها التبيينُ ، وقرىء السِّلْمَ بغير ألف وبكسر السين وسكون اللام أي لا تقولوا بغير تدبرٍ لمن حياكم بتحية الإسلامِ أو لمن ألقى إليكم مقاليدَ الاستسلام والانقيادِ { لَسْتَ مُؤْمِناً } وإنما أظهرتَ ما أظهرتَ متعوِّذاً بلِ اقبَلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه ، وقرىء مُؤمَناً بالفتح أي مبذولاً لك الأمانُ ، وهذا أنسبُ بالقراءتين الأخيرتين ، والاقتصارُ على ذكر تحيةِ الإسلامِ في القراءة الأولى مع كونها مقرونةً بكلمتي الشهادةِ كما سيأتي في سبب النزول للمبالغة في النهي والزجرِ والتنبيهِ على كمال ظهورِ خطئِهم ببيان أن تحية الإسلامِ كانت كافيةً في المُكافّة والانزجارِ عن التعرض لصاحبها فكيف وهي مقرونةٌ بهما ، وقوله تعالى : { تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا } حال من فاعل لا تقولوا منبىءٌ عما يحمِلُهم على العَجَلة وتركِ التأنّي لكن لا على أن يكون النهيُ راجعاً إلى القيد فقط كما في قولك : لا تطلُبَ العلمَ تبتغي به الجاهَ ، بل إليهما جميعاً أي لا تقولوا له ذلك حالَ كونِكم طالبين لمالِه الذي هو حُطامٌ سريعُ النفادِ ، وقولُه تعالى : { فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } تعليلٌ للنهي عن ابتغاء مالِه بما فيه من الوعد الضِّمني كأنه قيل : لا تبتغوا مالَه فعند الله مغانمُ كثيرةٌ يُغنِمُكموها فيغنيكم عن ارتكاب ما ارتكبتموه ، وقولُه تعالى : { كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ } تعليلٌ للنهي عن القول المذكورِ ، ولعل تأخيرَه لما فيه من نوع تفصيل ربما يُخِلُّ تقديمُه بتجاوب أطرافِ النظمِ الكريم ، مع ما فيه من مراعاة المقارنةِ بين التعليلِ السابقِ وبين ما عُلِّل به كما في قوله تعالى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ } الخ ، وتقديمُ خبرِ كان للقصر المقيّدِ لتأكيد المشابهةِ بين طرفي التشبيهِ ، وذلك إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافِه بما في حيز الصلةِ والفاء في فمن للعطف على كنتم أي مثلَ ذلك الذي ألقى إليكم السلامَ كنتم أيضاً في بدء إسلامِكم لا يظهرُ منكم للناس غيرُ ما ظهر منه لكم من تحية الإسلامِ ونحوِها فمنّ الله عليكم بأن قبل منكم تلك المرتبةَ وعصَم بها دماءَكم وأموالَكم ولم يأمُرْ بالتفحُّص عن سرائركم ، والفاءُ في قوله تعالى : { فَتَبَيَّنُواْ } فصيحةٌ أي إذا كان الأمرُ كذلك فاطلُبوا بيانَ هذا الأمرِ البيِّنِ وقيسوا حالَه بحالكم وافعلوا به ما فُعل بكم في أوائلِ أمورِكم من قَبول ظاهرِ الحالِ من غير وقوفٍ على تواطُؤِ الظاهِرِ والباطنِ ، هذا هو الذي تقتضيه جزالةُ التنزيلِ وتستدعيه فخامةُ شأنِه الجليلِ ، و { مِنْ } حسِبَ أن المعنى أولُ ما دخلتم في الإسلام سُمعت من أفواهكم كلمةُ الشهادةِ فحصَّنَتْ دماءَكم وأموالَكم من غير انتظارِ الاطلاعِ على مواطأة قلوبِكم لألسنتكم فمنّ الله عليكم بالاستقامة والاشتهارِ بالإيمان والتقدّمِ فيه ، وأنْ صِرْتم أعلاماً فيه ، فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فُعل بكم وأن تعتبروا ظاهِرَ الإسلامِ في الكف ولا تقولوا الخ فقد أبعدَ عن الحق ، لأن المرادَ كما عرفتَ بيانُ أن تحصينَ الدماءِ والأموالِ حُكمٌ مترتِّبٌ على ما فيه المماثلةُ بينه وبينهم من مجرد التفوُّه بكلمة اشهادةِ وإظهارِ أن ترتُّبَه عليه في حقهم يقتضي ترتبه عليه في حقه أيضاً إلزاماً لهم وإظهاراً لخطئهم ، ولا يخفى أن ذلك إنما يتأتى بتفسيرٍ منه تعالى عليهم المترتب على كونهم مثلَه بتحصين دمائِهم وأموالِهم حسبما ذكر حتى يظهرَ عندهم وجوبُ تحصينِ دمِه ومالِه أيضاً بحكم المشاركةِ فيما يوجبه ، وحيث لم يفعل ذلك بل فسّره به لم يبقَ في النظم الكريمِ ما يدل على ترتب تحصينِ دمائِهم وأموالِهم على ما ذكر فمِنْ أين له أن يقول : فحصَّنَتْ دماءَكم وأموالَكم حتى يتأتى البيانُ وارتكابُ تقديرِه بناءً على اقتضاء ما ذُكر في تفسير المنِّ إياه بناءً على أساس واهٍ؟ كيف لا وإنما ذِكرُه بصدد التفسيرِ وإن كان أمراً متفرعاً على ما فيه المماثلةُ مبنياً عليه في حقهم لكنه ليس بحكم أريد إثباتُه في حقه بناءً على ثبوته في حقهم كالتحصين المذكورِ حتى يستحقَّ أن يُتعرَّض له ولا بأمر له دخلٌ في وجوب اعتبارِ ظاهرِ الإسلامِ من الداخلين فيه حتى يصِحَّ نظمُه في سلك ما فُرِّع عليه قولُه : فعليكم أن تفعلوا الخ .(2/137)
وحملُ الكلامِ على معنى أنكم في أول الأمرِ كنتم مثلَه في قصور الرتبة في الإسلام فمنّ الله عليكم وبلغتم هذه الرتبةَ العاليةَ منه فلا تستقصروا حالتَه نظراً إلى حالتكم هذه بل اعتدّوا بها نظراً إلى حالتكم السابقةِ يردُّه أن قتلَه لم يكن لاستقصار إسلامِه بل لتوهم عدمِ مطابقةِ قلبِه للسانه فإن الآيةَ الكريمةَ نزلت في شأن مِرْداسِ بنِ نهيكٍ من أهل فدَكٍ وكان قد أسلم ولم يُسلمْ من قومه غيرُه فغزتْهم سريةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم غالبُ بنُ فَضالةَ الليثي فهربوا وبقيَ مرداسٌ لثقته بإسلامه فلما رأى الخيلَ ألجأ غنمَه إلى عاقول من الجبل وصعِد فلما تلاحقوا وكبّروا كبّر وقال : لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله السلامُ عليكم فقتله أسامةُ بنُ زيدٍ واستاق غنمَه فأخبروا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فوجَد وجْداً شديداً وقال :(2/138)
" قتلتموه إرادةَ ما معه " فقال أسامةُ : إنه قال بلسانه دون قلبِه وفي رواية إنما قالها خوفاً من السلاح ، فقال عليه الصلاة والسلام : " هلا شقَقْتَ عن قلبه " وفي رواية " أفلا شقَقْتَ عن قلبه " ثم قرأ الآيةَ على أسامةَ فقال : يا رسولَ الله استغفِرْ لي ، فقال : " كيف بلا إله إلا الله " قال أسامة : فما زال عليه الصلاة والسلام يعيدُها حتى ودِدتُ أن لم أكن أسلمتُ إلا يومئذ ، ثم استغفرَ لي وقال : " أعتِقْ رقبة " وقيل : نزلت في رجل قال : يا رسول الله كنا نطلُب القومَ وقد هزمهم الله تعالى فقصَدْتُ رجلاً فلما أحسَّ بالسيف قال : إني مسلمٌ فقتلتُه ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «أقتلتَ مسلماً؟ قال : إنه كان متعوّذاً ، فقال عليه الصلاة والسلام : " أفلا شقَقْتَ عن قلبه " { إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ } من الأعمال الظاهرةِ والخفيةِ وبكيفياتها { خَبِيراً } فيجازيكم بحسبها إن خيراً فخيرٌ وإن شراً فشرٌّ فلا تتهاونوا في القتل واحتاطوا فيه ، والجملةُ تعليلٌ لما قبلها بطريق الاستئنافِ وقرىء بفتح إن على أنها معمولُه لِتَبَيَّنوا أو على حذف لامِ التعليل .(2/139)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
{ لاَّ يَسْتَوِى القاعدون } بيانٌ لتفاوت طبقاتِ المؤمنين بحسب تفاوتِ درجاتِ مساعيهم في الجهاد بعد ما مر من الأمر به وتحريضِ المؤمنين عليه ليأنَفَ القاعدُ عنه ويترفَّعَ بنفسه عن انحطاط رتبتِه فيهتزّ له رغبةً في ارتفاع طبقتِه ، والمرادُ بهم الذين أُذِن لهم في القعود عن الجهاد اكتفاءً بغيرهم . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هم القاعدون عن بدْر والخارجون إليها ، وهو الظاهرُ الموافقُ لتاريخ النزولِ لا ما روي عن مقاتل من أنهم الخارجون إلى تبوك ، فإنه مما لا يوافقه التاريخُ ولا يساعده الحالُ إذا لم يكن للمتخلّفين يومئذ هذه الرخصةُ .
وقولُه تعالى : { مِنَ المؤمنين } متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من القاعدين أي كائنين من المؤمنين وفائدتُها الإيذانُ من أول الأمرِ بعدم إخلالِ وصفِ القعودِ بإيمانهم ، والإشعارُ بعلة استحقاقِهم لما سيأتي من الحُسنى { غَيْرُ أُوْلِى الضرر } صفةٌ للقاعدين لجرَيانه مجرى النكرةِ حيث لم يُقصَدْ به قومٌ بأعيانهم ، أو بدلٌ منه ، وقرىء بالنصب على أنه حالٌ منه أو استثناء ، وبالجر على أنه صفةٌ للمؤمنين أو بدلٌ منه والضررُ المرضُ أو العاهةُ من عمىً أو عرَجٍ أو زَمانةٍ أو نحوها ، وفي معناه العجزُ عن الأُهبة . عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه أنه قال : كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشِيَتْه السكينةُ فوقعت فخِذُه على فخذي حتى خشِيتُ أن ترُضَّها ثم سُرِّيَ عنه فقال : «اكتبْ» فكتبتُ { لاَّ يَسْتَوِى القاعدون مِنَ المؤمنين والمجاهدون } فقال ابنُ أمِّ مكتومٍ وكان أعمى : يا رسول الله وكيف بمن لا يستطيع الجهادَ من المؤمنين فغشيتْه السكينةُ كذلك ثم سُرِّي عنه فقال : «اكتب» { لاَّ يَسْتَوِى القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِى الضرر } { والمجاهدون } إيرادُهم بهذا العنوانِ دون الخروجِ المقابلِ لوصف المعطوفِ عليه كما وقع في عبارة ابنِ عباس رضي الله تعالى عنهما وكذا تقييدُ المجاهدةِ بكونها { فِى سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ } لمدحهم بذلك والإشعارِ بعلة استحقاقِهم لعلو المرتبةِ مع ما فيه من حسن موقعِ السبيلِ في مقابلة القعودِ وتقديمِ القاعدين في الذكر ، والإيذانِ من أول الأمرِ بأن القصورَ الذي يُنبىء عنه عدمُ الاستواءِ من جهتهم لا من جهة مقابليهم ، فإن مفهومَ عدمِ الاستواءِ بين الشيئين المتفاوتين زيادةً ونُقصاناً وإن جاز اعتبارُه بحسب زيادةِ الزائدِ لكن المتبادِرَ اعتبارُه بحسب قصورِ القاصر ، وعليه قولُه تعالى : { هَلْ يَسْتَوِى الاعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظلمات والنور } إلى غير ذلك وأما قولُه تعالى : { هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ } فلعل تقديمَ الفاضلِ فيه لأن صلتَه ملكةٌ لصلة المفضولِ ، وقولُه عز وجل : { فَضَّلَ الله المجاهدين بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً } استئنافٌ مَسوقٌ لتفصيل ما بين الفريقين من التفاضل المفهومِ من ذكر عدمِ استوائِهما إجمالاً ببيان كيفيتِه وكمِّيتِه مبنيٌّ على سؤال ينساق إليه المقالُ كأنه قيل : كيف وقع ذلك؟ فقيل : فضّل الله الخ ، وأما تقديرُ ما لهم لا يستوون فإنما يليق بجعل الاستئنافِ تعليلاً لعدم الاستواءِ مَسوقاً لإثباته ، وفيه عكسٌ ظاهرٌ فإن الذي يحِقُّ أن يكونَ مقصوداً بالذات إنما هو بيانُ تفاضُلِ الفريقين على درجات متفاوتة ، وأما عدمُ استوائِهما فقُصارى أمرِه أن يكون توطئةً لذكره ، ولامُ المجاهدين والقاعدين للعهد ، فقيدُ كونِ الجهادِ في سبيل الله معتبرٌ في الأول كما أن قيدَ عدمِ الضررِ معتبرٌ في الثاني ، و { دَرَجَةً } نُصب على المصدرية لوقوعها موقعَ المرَّةِ من التفضيل أي فضل الله تفضيلةً أو على نزع الخافضِ أي بدرجة ، وقيل : على التمييز ، وقيل : على الحالية من المجاهدين أي ذوي درجةٍ وتنوينُها للتفخيم ، وقوله تعالى : { وَكُلاًّ } مفعولٌ أولٌ لما يعقُبه قُدّم عليه لإفادة القصرِ تأكيداً للوعد أي كلَّ واحدٍ من المجاهدين والقاعدين { وَعَدَ الله الحسنى } أي المثوبةَ الحسنى وهي الجنةُ لا أحدَهما فقط كما في قوله تعالى :(2/140)
{ وأرسلناك لِلنَّاسِ رَسُولاً } على أن اللامَ متعلقةٌ برسولاً والجملةُ اعتراضٌ جيء به تداركاً لما عسى أن يُوهِمَهُ تفضيلُ أحدِ الفريقين على الآخَر من حرمانِ المفضولِ ، وقولُه عز وجل : { وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين } عطفٌ على قوله تعالى : { فَضَّلَ الله } الخ ، واللامُ في الفريقين مُغْنيةٌ لهما عن ذكر القيودِ التي تُركت على سبيل التدريجِ وقوله تعالى : { أَجْراً عَظِيماً } مصدرٌ مؤكّدٌ لفضّل على أنه بمعنى أَجَر ، وإيثارُه على ما هو مصدرٌ من فعله للإشعار بكون ذلك التفضيلِ أجر لأعمالهم ، أو مفعولٌ ثانٍ له بتضمينه معنى الإعطاءِ أي أعطاهم زيادةً على القاعدين أجراً عظيماً ، وقيل : هو منصوبٌ بنزع الخافضِ أي فضّلهم بأجر عظيم .(2/141)
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
وقولُه تعالى : { درجات } بدلٌ من أجراً بدلَ الكلِّ مبينٌ لكمية التفضيلِ ، وقوله تعالى : { مِنْهُ } متعلق بمحذوف وقعَ صفةً لدرجاتٍ دالةً على فخامتها وجلالةِ قدْرِها أي درجاتٍ كائنةً منه تعالى . قال ابن محيريز : هي سبعون درجةً ما بين كلِّ درجتين عدْوُ الفرسِ الجوادِ المُضْمرِ سبعين خريفاً . وقال السدي : هي سبعُمائةِ درجةٍ ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : « إنَّ في الجنةِ مائةَ درجةٍ أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله ما بين الدرجتين كما بين السماءِ والأرضِ » ويجوز أن يكونَ انتصابُ درجاتٍ على المصدرية كما في قولك : ضربه أسواطاً أي ضرباتٍ كأنه قيل : فضّلهم تفضيلاً ، وقوله تعالى : { وَمَغْفِرَةٌ } بدلٌ من أجراً بدلَ البعضِ لأن بعضَ الأجرِ ليس من باب المغفرة ، أي مغفرةً لما فَرَط منهم من الذنوب التي لا يكفرها سائرُ الحسناتِ التي يأتي بها القاعدون أيضاً حتى تُعدَّ من خصائصهم وقولُه تعالى : { وَرَحْمَةً } بدل الكلِّ من أجراً ومثلُه درجاتٍ ويجوز أن يكون انتصابُهما بإضمار فعلِهما أي غَفَر لهم مغفرةً ورحِمَهم رحمة .
هذا ولعل تكريرَ التفضيلِ بطريق العطفِ المنبىءِ عن المغايرة ، وتقييدَه تارةً بدرجة وأخرى بدرجاتٍ مع اتحاد المفضّلِ والمفضلِ عليه حسبما يقتضيه الكلامُ ويستدعيه حسنُ النظامِ إما التنزيل الاختلاف العنوانيِّ بين التفضيلين وبين الدرجةِ والدرجاتِ منزلةَ الاختلافِ الذاتي تمهيداً لسلوك طريقِ الإبهامِ ثم التفسيرِ رَوْماً لمزيد التحقيقِ والتقريرِ كما في قوله تعالى : { وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } كأنه قيل : فضّل الله المجاهدين على القاعدين درجةً لا يقادَر قدرُها ولا يُبلَغُ كُنهُها وحيث كان تحقّقُ هذا البونِ البعيدِ بينهما مُوهِماً لحِرمان القاعدين قيل : وكلا وعد الله الحسنى ثم أريد تفسيرُ ما أفاده التنكيرُ بطريق الإبهامِ بحيث يقطَعُ احتمالَ كونِه للوِحْدة فقيل ما قيل ، ولله درُّ شأنِ التنزيلِ وإما للاختلاف بالذات بين التفضيلين وبين الدرجةِ والدرجاتِ على أن المرادَ بالتفضيل الأولِ ما خوّلهم الله تعالى عاجلاً في الدنيا من الغنيمة والظَّفَر والذِكْرِ الجميلِ الحقيقِ بكونه درجةً واحدةً وبالتفضيل الثاني ما أنعم به في الآخرة من الدرجات العاليةِ الفائتةِ للحصر ، كما ينبىء عنه تقديمُ الأولِ وتأخيرُ الثاني وتوسيطُ الوعدِ بالجنة بينهما كأنه قيل : وفضّلهم عليهم في الدنيا درجةً واحدةً ، وفي الآخرة درجاتٍ لا تحصى ، وقد وُسِّط بينهما في الذكر ما هو متوسِّط بينهما في الوجود أعني الوعدَ بالجنة توضيحاً لحالهما ومسارعةً إلى تسلية المفضولِ والله سبحانه أعلم . هذا ما بين المجاهدين وبين القاعدين غيرِ أولي الضررِ ، وأما أولو الضررِ فهم مساوون للمجاهدين عند القائلين بمفهوم الصفةِ وبأن الاستثناءَ من النفي إثباتٌ ، وأما عند من لا يقول بذلك فلا دِلالة لعبارة النصِّ عليه وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/142)
« لقد خلّفتم في المدينة أقواماً ما سِرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم » وهم الذين صحّت نياتُهم ونصَحَتْ جيوبُهم وكانت أفئدتُهم تهوى إلى الجهاد ، وبهم ما يمنعهم من المسير من ضرر أو غيره . وبعبارة أخرى « إن في المدينة لأقواماً ما سِرتم من مسير ولا قطعتم من وادٍ إلا كانوا معكم فيه » قالوا : يا رسولَ الله وهم بالمدينة؟ قال : « نعم وهم بالمدينة حبَسهم العُذرُ » قالوا : هذه المساواة مشروطة بشريطة أخرى سوى الضرر قد ذكرت في قوله تعالى : { لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى } إلى قوله : { إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } وقيل : القاعدون الأُوَلُ هم الأضراءُ والثاني غيرُهم وفيه من تفكيك النظمِ الكريمِ ما لا يخفى ، ولا ريب في أن الأضّراءَ أفضلُ من غيرهم درجةً كما لا ريب في أنهم دون المجاهدين بحسب الدرجةِ الدنيوية { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } تذييلٌ مقرِّرٌ لما وَعَد من المغفرة والرحمة .(2/143)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)
{ إِنَّ الذين توفاهم الملئكة } بيانٌ لحال القاعدين عن الهجرة بعد بيانِ حالِ القاعدين عن الجهاد ، وتوفاهم يحتمل أن يكون ماضياً ويؤيده قراءةُ من قرأ توفتْهم وأن يكون مضارعاً قد حُذف منه إحدى التاءينِ وأصلُه تتوفاهم على حكاية الحالِ الماضيةِ والقصدِ إلى استحضار صورتِها ، ويعضُده قراءةُ من قرأ تُوَفاهم على مضارع وُفِّيَتْ بمعنى أن الله تعالى يُوفيّ الملائكةَ أنفسِهم فيتوفّونها أي يمكنهم من استيفائها فيستوفونها { ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } حالٌ من ضمير تَوَفاهم فإنه وإن كان مضافاً إلى المعرفة إلا أنه نكرةٌ في الحقيقة لأن المعنى على الانفصال وإن كان موصولاً في اللفظ كما في قوله تعالى : { غَيْرَ مُحِلّى الصيد } و { هَدْياً بالغ الكعبة } و { ثَانِىَ عِطْفِهِ } أي مُحلّين الصّيدَ وبالغاً الكعبةَ وثانياً عِطْفَه كأنه قيل : ظالمين أنفسَهم وذلك بترك الهجرةِ واختيارِ مجاورةِ الكفارِ الموجبةِ للإخلال بأمور الدينِ فإنها نزلت في ناس من أهل مكةَ قد أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرةُ فريضة { قَالُواْ } أي الملائكةُ للمُتوفَّيْن تقريراً لهم بتقصيرهم في إظهار إسلامِهم وإقامةِ أحكامِه من الصلاة ونحوها وتوبيخاً لهم بذلك { فِيمَ كُنتُمْ } أي في أي شيءٍ كنتم من أمور دينِكم { قَالُواْ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من حكاية سؤالِ الملائكةِ ، كأنه قيل : فماذا قالوا في الجواب؟ فقيل : قالوا : متجانِفين عن الإقرار الصريحِ بما هم فيه من التقصير متعلِّلين بما يوجبه على زعمهم { كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الارض } أي في أرض مكةَ عاجزين عن القيام بمواجب الدينِ فيما بين أهلِها { قَالُواْ } إبطالاً لتعللهم وتبكيتاً لهم { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا } إلى قطر منها تقدِرون فيه على إقامة أمورِ الدينِ كما فعله من هاجر إلى المدينة وإلى الحبشة ، وأما حملُ تعلُّلِهم على إظهار العجزِ عن الهجرة وجعلُ جوابِ الملائكةِ تكذيباً لهم في ذلك فيرده أن سببَ العجز عنها لا ينحصر في فُقدان دار الهجرةِ بل قد يكون لعدم الاستطاعةِ للخروج بسبب الفقرِ أو لعدم تمكينِ الكفَرة منه فلا يكون بيانُ سعةِ الأرضِ تكذيباً لهم ورداً عليهم بل لا بد من بيان استطاعتِهم أيضاً حتى يتم التبكيتُ ، وقيل : كانت الطائفةُ المذكورةُ قد خرجت مع المشركين إلى بدرٍ منهم قيسُ بنُ الفاكِهِ بنِ المغيرةِ وقيسُ بنُ الوليدِ بنِ المغيرة وأشباهُهما فقُتلوا فيها فضَرَبت الملائكةُ وجوهَهم وأدبارَهم ، وقالوا لهم ما قالوا فيكون ذلك منهم تقريعاً وتوبيخاً لهم بما كانوا فيه من مساعدة الكَفَرةِ وانتظامِهم في عسكرهم ، ويكون جوابُهم بالاستضعاف تعلّلاً بأنهم مقهورين تحت أيديهم وأنهم أَخرجوهم كارهين فرُدَّ عليهم بأنهم كانوا بسبيل من الخلاص عن قهرهم متمكّنين من المهاجرة { فَأُوْلَئِكَ } الذين حُكِيت أحوالُهم الفظيعةُ { مَأْوَاهُمْ } أي في الآخرة { جَهَنَّمُ } كما أن مأواهم في الدنيا دارُ الكفرِ لتركهم الفريضةَ المحتومةَ فمأواهم مبتدأٌ وجهنمُ خبرُه ، والجملةُ خبرٌ لأولئك ، وهذه الجملةُ خبرُ إن والفاءُ فيه لتضمُّن اسمِها معنى الشرطِ ، وقولُه تعالى : { قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ } حالٌ من الملائكة بإضمار قد عند من يشترطه ، أو هو الخبرُ والعائدُ منه محذوفٌ أي قالوا لهم ، والجملةُ المصدرةُ بالفاء معطوفةٌ عليه مستنتَجَةٌ منه ومما في حيّزه { وَسَاءتْ مَصِيراً } أي مصيراً لهم أي جهنم ، وفي الآية الكريمةِ إرشادٌ إلى وجوب المهاجرةِ من موضع لا يتمكن الرجلُ من إقامة أمورِ دينِه بأي سبب كان ، وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم :(2/144)
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
{ إِلاَّ المستضعفين } استثناءٌ منقطعٌ لعدم دخولِهم في الموصول وضميرِه والإشارةِ إليه . ومِنْ في قوله تعالى : { مِنَ الرجال والنساء والولدان } متعلقةٌ بمحذوف وقع حالاً من المستضعفين أي كائنين منهم ، وذِكرُ الوِلدان إن أريد بهم المماليكُ أو المراهقون ظاهرٌ ، وأما إن أريد بهم الأطفالُ فللمبالغة في أمر الهجرةِ والإيذانِ بأنها بحيث لو استطاعها غيرُ المكلّفين لوجبت علهم ، والإشعارِ بأنهم لا محيصَ لهم عنها البتةَ تجب عليهم ( إذا ) بلغوا حتى كأنها واجبةٌ عليهم قبل البلوغِ لو استطاعوا أن يهاجروا بهم متى أمكنت ، وقوله تعالى : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } صفةٌ للمستضعفين فإن ما فيه من اللام ليس للتعريف ، أو حالٌ منه أو من الضمير المستكنِّ فيه ، وقيل : تفسيرٌ لنفس المستضعفين لكثرة وجوهِ الاستضعافِ ، واستطاعةُ الحيلةِ وُجدانُ أسبابِ الهجرةِ ومباديها ، واهتداءُ السبيلِ معرفةُ طريقِ الموضعِ المهاجَرِ إليه بنفسه أو بدليل { فَأُوْلَئِكَ } إشارةٌ إلى المستضعفين الموصوفين بما ذُكر من صفات العجزِ { عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ } جيء بكلمة الإطماعِ ولفظِ العفوِ إيذاناً بأن الهجرةَ من تأكُّدِ الوجوبِ بحيث ينبغي أن يُعدَّ تركُها ممن تحقق عدمُ وجوبِها عليه ذنباً يجب طلبُ العفوِ عنه رجاءً وطمعاً لا جزماً وقطعاً { وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً } تذييلٌ مقررٌ لما قبله .(2/145)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
{ وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الارض مُرَاغَماً كَثِيراً } ترغيبٌ في المهاجَرَة وتأنيسٌ لها أي يجدْ فيها متحوَّلاً ومهاجَراً وإنما عبّر عنه بذلك تأكيداً للترغيب لما فيه من الإشعار بكون ذلك المتحوَّلِ بحيث يصل فيه المهاجرُ من الخير والنعمةِ إلى ما يكون سبباً لرغم أنفِ قومِه الذين هاجرهم ، والرُّغمُ الذلُّ والهوانُ وأصلُه لصوقُ الأنفِ بالرَّغام وهو التراب ، وقيل : يجد فيها طريقاً يراغِمُ بسلوكه قومَه أي يفارقهم على رَغم أنوفِهم { واسعة } أي من الرزق { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مهاجرا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت } أي قبل أن يصل إلى المقصِد وإن كان ذلك خراجَ بابِه كما ينبىء عنه إيثارُ الخروجِ من بيته على المهاجَرة ، وهو عطفٌ على فعل الشرطِ وقرىء بالرفع على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ ، وقيل : هو حركةُ الهاءِ نُقلت إلى الكاف على نية الوقفِ ، كما في قوله :
من عنزي سبني إذ لم أضرِبُه ... عجبتُ والدهرُ كثيرٌ عجبُهْ
وقرىء بالنصب على إضمار أنْ كما في قوله :
وألحقُ بالحجاز فأستريحا ... { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } أي ثبت ذلك عنده تعالى ثبوتَ الأمرِ الواجبِ . روي ( أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لما بَعَث بالآيات المتقدمةِ إلى مسلمي مكةَ قال جُندُبُ بنُ ضَمْرةَ لبنيه وكان شيخاً كبيراً : احمِلوني فإني لستُ من المستضعفين وإني لأهتدي الطريقَ والله لا أبيتُ الليلةَ بمكةَ فحمَلوه على سرير متوجِّهاً إلى المدينة فلما بلغ التنعيمَ أشرفَ على الموت فصفق بيمينه على شماله ثم قال : اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايُعك على ما بايعك رسولُك فمات حميداً فبلغ خبرُه أصحابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : لو تُوفيَ بالمدينة لكان أتمَّ أجراً فنزلت . قالوا : كلُّ هجرةٍ في غرض دينيَ من طلبِ علمٍ أو حجَ أو جهادٍ أو نحو ذلك فهي هجرةٌ إلى الله عز وجل وإلى رسوله عليه الصلاة والسلام .
{ وَكَانَ الله غَفُوراً } مبالِغاً في المغفرة فيغفرُ له ما فَرَط منه من الذنوب التي من جملتها القعودُ عن الهجرة إلى وقت الخروجِ { رَّحِيماً } مبالِغاً في الرحمة فيرحَمُه بإتمام ثوابِ هجرتِه .
{ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الارض } شروعٌ في بيان كيفيةِ الصلاةِ عند الضروراتِ من السفر ولقاءِ العدوِّ والمرضِ والمطرِ ، وفيه تأكيدٌ لعزيمة المهاجِرِ على المهاجَرة وترغيبٌ له فيها لما فيه من تخفيف المؤنةِ ، أي إذا سافرتم أيَّ مسافرةٍ كانت ولذلك لم يُقيَّد بما قُيِّد به المهاجَرة { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أي لا حرجَ ( ولا ) مأثمَ { أَن تَقْصُرُواْ } أي في أن تقصُروا ، والقصرُ خلافُ المدِّ يقال : قصَرْت الشيءَ أي جعلته قصيراً بحذف بعضِ أجزائِه أو أوصافِه ، فمُتعلَّقُ القصرِ حقيقةً إنما هو ذلك الشيءُ لا بعضُه فإنه متعلَّقُ الحذفِ دون القصرِ وعلى هذا فقوله تعالى : { مِنَ الصلاة } ينبغي أن يكون مفعولاً لتقصُروا على زيادة مِنْ حسبما رآه الأخفش ، وأما على تقدير أن تكون تبعيضيةً ويكونَ المفعولُ محذوفاً كما هو رأيُ سيبويهِ أي شيئاً من الصلاة فينبغي أن يُصارَ إلى وصف الجزءِ بصفة الكلِّ أو يرادَ بالقصر معنى الحبْس ، يقال : قصَرتُ الشيءَ إذا حبستْه أو يرادَ بالصلاة الجنسُ ليكون المقصورُ بعضاً منها وهي الرُّباعياتُ ، أي فليس عليكم جُناحٌ في أن تقصروا بعضَ الصلاةِ بتنصيفها ، وقرىء تُقْصِروا من الإقصار وتُقَصِّروا من التقصير ، والكل بمعنى .(2/146)
وأدنى مدةِ السفرِ الذي يتعلق به القصرُ عند أبي حنيفةَ مسيرةَ ثلاثةِ أيام ولياليها بسير الإبلِ ، ومشيِ الأقدام بالاقتصاد ، وعند الشافعيِّ مسيرةَ يومين ، وظاهرُ الآية الكريمة التخييرُ وأفضليةُ الإتمام وبه قال الشافعيّ وبما رُوي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه أتم في السفر . وعن عائشة رضي الله عنها أنها أتمت تارةً وقصرت أخرى . وعن عثمانَ رضي الله عنه أنه كان يُتمّ ويَقصُر ، وعندنا يجب القصرُ لا محالة خلا أن بعضَ مشايخنا سماه عزيمةً وبعضُهم رُخصةَ إسقاطٍ بحيث لا مَساغَ للإتمام لا رخصةَ ترفيهٍ ، إذ لا معنى للتخيير بين الأخفِّ والأثقلِ وهو قولُ عمرَ وعليَ وابن عباس وابنِ عمرَ وجابر رضوانُ الله عليهم وبه قال الحسنُ وعمرُ بنُ عبد العزيز وقتادةُ وهو قول مالك .
وقد رُوي عن عمرَ رضي الله عنه ( صلاةُ السفر ركعتانِ تمامٌ غيرُ قصرٍ على لسان نبيِّكم عليه السلام ) وعن أنس رضي الله عنه ( خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكةَ فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة ) وعن عمرانَ بنِ حُصين رضي الله عنه ما رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر إلا ركعتين وصلى بمكةَ ركعتين ثم قال : « أتمُّوا فإنَّا قومٌ سَفْرٌ » وحين سمع ابنُ مسعودٍ أن عثمانَ رضي الله عنه صلى بمِنىً أربعَ ركعاتٍ استرجع ثم قال : صليت مع رسول الله عليه الصلاة والسلام بمنى ركعتين وصليتُ مع أبي بكر رضي الله عنه بمِنىً ركعتين وصليت مع عمرَ رضي الله عنه بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعاتٍ ركعتان مُتقبَّلتان . وقد اعتذر عثمانُ رضي الله عنه عن إتمامه بأنه تأهّل بمكة ، وعن الزهريّ أنه إنما أتمّ لأنه أزمع الإقامةَ بمكة ، وعن عائشة رضي الله عنها أولُ ما فُرضت الصلاةُ فُرضتْ ركعتين ركعتين فأُقِرَّت في السفر وزيدت في الحضر . وفي صحيح البخاري أنها قالت : فرضَ الله الصلاةَ حين فرضها ركعتين في الحضَر والسفر ، وزيد في صلاة الحضر ، وأما ما روي عنها من الإتمام فقد اعتذر عنه وقالت : أنا أمُّ المؤمنين فحيث حللتُ فهي داري ، وإنما ورد ذلك بنفي الجُناحِ لما أنهم ألِفوا الإتمامَ فكانوا مظِنةَ أن يخطُر ببالهم أن عليهم نقصاناً في القصر فصرح بنفي الجناحِ عنهم لتطيب به نفوسُهم ويطمئنوا إليه كما في قوله تعالى :(2/147)
{ فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } مع أن ذلك الطوافَ واجبٌ عندنا ركنٌ عند الشافعيِّ . وقوله تعالى : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ } جوابُه محذوفٌ لدِلالة ما قبله عليه أي إن خفتم أن يتعرّضوا لكم بما تكرهونه من القتال وغيرِه فليس عليكم جُناح الخ ، وهو شرطٌ معتبرٌ في شرعية ما يُذكر بعده من صلاة الخوفِ المؤداةِ بالجماعة ، وأما في حق مُطلقِ القصرِ فلا اعتبار له اتفاقاً لتظاهُر السننِ على مشروعيته حسبما وقفتَ على تفاصيلها . وقد ذكر الطحاويُّ في شرح الآثارِ مسنداً إلى يعلى بن أميةَ أنه قال : قلت لعمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه إنما قال الله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ } وقد أمِن الناسُ ، فقال عمر رضي الله عنه : عجبتُ مما عجبتَ منه فسألت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال : « صدقةٌ تصدّقَ الله بها عليكم فاقبَلوا صدقتَه » وفيه دليلٌ على عدم جوازِ الإكمالِ لأن التصدقَ بما لا يحتمل التمليكَ إسقاطٌ محضٌ لا يحتمل الردَّ كما حُقّق في موضعه ، ولا يُتَوهّمنّ أنه مخالفٌ للكتاب لأن التقييدَ بالشرط عندنا إنما يدل على ثبوت الحُكمِ عند وجودِ الشرطِ وأما عدمُه عند عدمِه فمسكوتٌ عنه فإن وجدَ له دليلٌ ثبت عنده أيضاً وإلا بقي على حاله لعدم تحققِ دليلِه لا لتحقق دليلِ عدمِه ، وناهيك بما سمعتَ من الأدلة الواضحةِ ، وأما عند القائلين بالمفهوم فلأنه إنما يدل على نفي الحُكمِ عند عدم الشرط إذا لم يكن له فائدةٌ أخرى وقد خرج الشرطُ هاهنا مخرجَ الأغلبِ كما في قوله تعالى : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } بل نقول : إن الآيةَ الكريمةَ مجملةٌ في حق مقدارِ القصرِ وكيفيتِه وفي حق ما يتعلق به من الصلوات وفي مقدار مدةِ الضربِ الذي نيط به القصرُ فكل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من القصر في حال الأمن وتخصيصِه بالرُباعيات على وجه التنصيف وبالضرب في المدة المعينة بيانٌ لإجمال الكتابِ ، وقد قيل : إن قوله تعالى : { إِنْ خِفْتُمْ } الخ ، متعلقٌ بما بعده من صلاة الخوفِ منفصلٌ عما قبله فإنه روي عن أبي أيوبَ الأنصاريِّ رضي الله عنه أنه قال : نزل قولُه تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الارض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة } ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد حولٍ فنزل : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ } { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } الخ ، وقد قرىء من الصلاة أن يفتنكم بغير إن خفتم على أنه مفعول له لما دل عليه الكلام ، كأنه قيل : شرُع لكم ذلك كراهةَ أن يفتنكم الخ ، فإن استمرارَ الاشتغالِ بالصلاة مَظِنةٌ لاقتدارهم على إيقاع الفتنةِ ، وقوله تعالى : { إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً } تعليلٌ لذلك باعتبار تعلُّلِه بما ذُكر أو لما يُفهم من الكلام من كون فتنتِهم متوقَّعةً فإن كمالَ عداوتِهم للمؤمنين من موجبات التعرُّض لهم بسوء .(2/148)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
وقولُه تعالى : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } بيانٌ لما قبله من النص المُجملِ الواردِ في مشروعية القصرِ بطريق التفريعِ ، وتصويرٌ لكيفيته عند الضرورةِ التامةِ . وتخصيصُ البيانِ بهذه الصورة مع الاكتفاء فيما عداها بالبيان بطريق السنةِ لمزيد حاجتِها إليه لما فيها من كثرة التغييرِ عن الهيئة الأصليةِ ، ومن هنا ظهر لك أن مورِدَ النصِّ الشريفِ على المقصورة ، وحكمُ ما عداها مستفادٌ من حكمها ، والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق التجريدِ ، وبظاهره يَتعلّق من لا يرى صلاةَ الخوفِ بعده عليه السلام ، ولا يخفى أن الأئمةَ بعده نُوّابُه عليه السلام قُوّامٌ بما كان يقوم به فيتناولهم حكمُ الخطابِ الواردِ له عليه السلام كما في قوله تعالى : { خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً } وقد روي أن سعيدَ بنَ العاصِ لما أراد أن يصليَ بطَبْرستانَ صلاةَ الخوفِ قال : من شهِد منكم صلاةَ الخوفِ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقام حُذيفةُ بنُ اليمانِ رضي الله عنه فوصف له ذلك فصلى بهم كما وصَف ، وكان ذلك بحضرة الصحابةِ رضي الله عنهم فلم يُنْكِرْه أحدٌ فحل محلَّ الإجماعِ . وروي في السنن أنهم غزَوْا معَ عبد الرحمن بنِ سَمُرةَ كابُل فصلى بهم صلاةَ الخوفِ { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } أي أردت أن تقيم بهم الصلاة .
{ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ } بعد أن جعلتَهم طائفتين ولتقِف الطائفةُ الأخرى بإزاء العدوِّ ليحرسوكم منهم ، وإنما لم يصرَّحْ به لظهوره { وَلْيَأْخُذُواْ } أي الطائفةُ القائمة معك { أَسْلِحَتَهُمْ } أي لا يضعوها ولا يُلْقوها إنما عبّر عن ذلك بالأخذ للإيذان بالاعتناء باستصحابها كأنهم يأخُذونها ابتداءً { فَإِذَا سَجَدُواْ } أي القائمون معك وأتمّوا الركعة { فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ } أي فلينصرِفوا إلى مقابلة العدوِّ للحراسة { وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّواْ } بعدُ ، وهي الطائفةُ الواقفة تجاه العدوِّ للحراسة وإنما لم تُعرَفْ لما أنها لم تُذكرْ فيما قبل { فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ } الركعةَ الباقيةَ ، ولم يبيِّنْ في الآية الكريمة حالَ الركعةِ الباقيةِ لكل من الطائفتين ، وقد بُيِّن ذلك بالسنة حيث روي عن ابن عمر وابنِ مسعود رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حين صلى صلاةَ الخوف صلى بالطائفة الأولى ركعةً وبالطائفة الأخرى ركعةً كما في الآية الكريمة ، ثم جاءت الطائفةُ الأولى وذهبت هذه إلى مقابلة العدوِّ حتى قضت الأولى الركعة الأخيرةَ بلا قراءة وسلّموا ، ثم جاءت الطائفةُ الأخرى وقضَوا الركعةَ الأولى بقراءة حتى صار لكل طائفة ركعتان { وَلْيَأْخُذُواْ } أي هذه الطائفة { حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } لعل زيادة الأمرِ بالحذرِ في هذه المرة لكونها مظِنّةً لوقوف الكَفَرة على كون الطائفةِ القائمةِ مع النبي صلى الله عليه وسلم في شغل شاغلً وأما قبلها فربما يظنونهم قائمين للحرب ، وتكليفُ كلَ من الطائفتين بما ذكر لما أن الاشتغالَ بالصلاة مظنةٌ لإلقاء السلاحِ والإعراض عن غيرها ، ومظِنةٌ لهجوم العدوِّ كما ينطِقُ به قوله تعالى : { وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً واحدة } فإنه استئنافٌ مَسوقٌ لتعليل الأمرِ المذكورِ والخطابُ للفريقين بطريق الالتفاتِ أي تمنَّوا أن ينالوا منكم غِرّةً وينتهزوا فرصةً فيشدّوا عليكم شدةً واحدةً ، والمرادُ بالأمتعة ما يُتمتع به في الحرب لا مطلقاً ، وهذا الأمرُ للوجوب لقوله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ } حيث رُخّص لهم في وضعها إذا ثقُل عليهم استصحابُها بسبب مطرٍ أو مرضٍ ، وأُمروا مع ذلك بالتيقظ والاحتياطِ فقيل : { وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ } لئلا يهجُمَ العدوُّ عليكم غِيلةً .(2/149)
روى الكلبي عن أبي صالح أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم غزا محارباً وبني أنمار فنزلوا ولا يرَوْن من العدو أحداً فوضع الناسُ أسلحتَهم وخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لحاجة له وقد وضَع سلاحَه حتى قطع الواديَ والسماءُ ترُشّ فحال الوادي بينه عليه السلام وبين أصحابِه فجلس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فبصُرَ به غَوْرَثُ بنُ الحارثِ المحاربي فقال : قتلني الله إن لم أقتلْك ، ثم انحدر من الجبل ومعه السيفُ فلم يشعُرْ به رسولُ اللها صلى الله عليه وسلم إلا هو قائمٌ على رأسه وقد سل سيفَه من غِمْدِهِ فقال : يا محمد من يعصِمك مني الآن؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : « الله عز وجل » ثم قال : « اللهم اكفِني غَوْرَثَ بنَ الحارث بما شئت » ثم أهوى بالسيفِ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ليضرِبه فأكبَّ لوجهه من زلخة زلخها بين كتفيه فبدر سيفه فقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأخذه ثم قال : « يا غَوْرَثُ من يمنعك مني الآن؟ » قال : لا أحد ، قال عليه الصلاة والسلام : « تشهدُ أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبدُه ورسولُه وأعطيك سيفَك؟ » ، قال : لا ، ولكن أشهد أن لا أقاتِلَك أبداً ولا أُعينَ عليك عدواً ، فأعطاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سيفَه فقال غورثُ : والله لأنت خيرٌ مني ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : { أنا أحقُّ بذلك منك } فرجَع غَوْرَثُ إلى أصحابه فقصَّ عليهم قِصتَه فآمن بعضُهم ، قال : وسكن الوادي فقطع عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وأخبرهم بالخبر . وقوله تعالى : { إِنَّ الله أَعَدَّ للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً } تعليلٌ للأمر بأخذ الحذرِ أي أعد لهم عذاباً مهيناً بأن يخذُلهم وينصُرَكم عليهم فاهتموا بأموركم ولا تُهمِلوا في مباشرة الأسباب ليحِلَّ بهم عذابُه بأيديكم ، وقيل : لما كان الأمرُ بالحذر من العدو مُوهماً لتوقّع غلبتِه واعتزازِه نُفي ذلك الإيهامُ بأن الله تعالى ينصُرهم ويُهين عدوَّهم لتقوى قلوبُهم .(2/150)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
{ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة } أي صلاةَ الخوفِ أي أديتموها على الوجه المبيّنِ وفرَغتم منها { فاذكروا الله قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ } أي فداوموا على ذكر الله تعالى وحافِظوا على مراقبته ومناجاتِه ودعائِه في جميع الأحوالِ حتى في حال المسايفة والقتالِ ، كما في قوله تعالى : { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } { فَإِذَا اطمأننتم } سكنَت قلوبُكم من الخوف وأمِنتم بعدما وضعت الحربُ أوزارَها { فأقِيمُوا الصَّلاةَ } أي الصلاةَ التي دخل وقتُها حينئذ أي أدُّوها بتعديل أركانِها ومراعاةِ شرائطِها ، وقيل : المرادُ بالذكر في الأحوال الثلاثةِ الصلاةُ فيها أي فإذا أردتم أداءَ الصلاةِ فصلّوا قِياماً عند المسايفةِ وقعوداً جاثين على الرّكَب عند المراماةِ وعلى جنوبكم مُثخَنين بالجِراح ، فإذا اطمأننتم في الجملة فاقضُوا ما صليتم في تلك الأحوالِ التي هي ( من ) أحوال القلقِ والانزعاجِ ، وهو رأيُ الشافعيِّ رحمه الله وفيه من البعد ما لا يخفى .
{ إنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً } أي فرضاً موقتاً ، قال مجاهدٌ : وقّته الله عليهم فلا بد من إقامتها في حالة الخوفِ أيضاً على الوجه المشروحِ ، وقيل : مفروضاً مقدّراً في الحضَر أربَعَ ركعاتٍ وفي السفر ركعتين فلا بد أن تؤدى في كل وقتٍ حسبما قُدِّر فيه .
{ وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابتغاء القوم } أي لا تضعُفوا ولا تتوانَوا في طلب الكفارِ بالقتال والتعرّضِ لهم بالحِراب ، وقوله تعالى : { إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ } تعليلٌ للنهي وتشجيعٌ لهم ، أي ليس ما تقاسونه من الآلام مختصاً بكم بل هو مشترَكٌ بينكم وبينهم ، ثم إنهم يصبِرون على ذلك فما لكم لا تصبِرون؟ مع أنكم أولى به منهم حيث ترجُون من الله من إظهار دينِكم على سائر الأديانِ ومن الثواب في الآخرة ما لا يخطُر ببالهم . وقرىء أن تكونوا بفتح الهمزة أي لا تهِنوا لأن تكونوا تألمون ، وقوله تعالى : { فَإِنَّهُمْ } تعليلٌ للنهي عن الوهن لأجلهه ، والآيةُ نزلت في بدرٍ الصُّغرى { وَكَانَ الله عَلِيماً } مبالِغاً في العلم فيعلم أعمالَكم وضمائرَكم { حَكِيماً } فيما يأمُر وينهى فجِدُّوا في الامتثال بذلك فإن فيه عواقبَ حميدةً .(2/151)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)
{ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق } رُوي ( أن رجلاً من الأنصار يقال له طُعمةُ بنُ أُبيرِقَ من بني ظفَرٍ سرَق دِرعاً من جاره قتادةَ بنِ النعمانِ في جرابِ دقيقٍ فجعل الدقيقُ ينْتثِرُ من خَرْقٍ فيه فخبأها عند زيد بنِ السمين اليهودي فالتمست ( بنو ظفر ) الدرعَ عند طعمةَ فلم توجد ، وحلف ما أخذها وما لَه بها علمٌ فتركوه واتبعوا أثرَ الدقيقِ حتى انتهى إلى منزل اليهوديِّ فأخذوها فقال : دفعها إليّ طعمةُ وشهِد له ناسٌ من اليهود ، فقالت بنو ظفر : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وشهِدوا ببراءته وسرقةِ اليهوديِّ فهمّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل فنزلت ) . وروي ( أن طعمةَ هرب إلى مكةَ وارتدّ ونقَبَ حائطاً بمكةَ ليسرِقَ أهلَه فسقَط الحائطُ عليه فقتله ) . وقيل : ( نزل على رجل من بني سليم من أهل مكة يقال له الحجّاجُ بنُ علاط فنقَبَ بيتَه فسقط عليه حجرٌ فلم يستطِع الدخولَ ولا الخروجَ فأخذ ليقتل فقيل : دعه فإنه قد لجأ إليك فتركه وأخرجوه من مكةَ فالتحق بتجارٍ من قضاعةَ نحوَ الشام فنزلوا منزلاً فسرق بعضَ متاعِهم وهرب فأخذوه ورجموه بالحجارة حتى قتلوه ) . وقيل ( إنه ركب سفينةً إلى جُدّة فسرَق فيها كيساً فيه دنانيرُ فأُخذ وألقيَ في البحر ) .
{ لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَا أَرَاكَ الله } أي بما عرّفك وأوحى به إليك { وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ } أي لأجلهم والذبِّ عنهم وهم طُعمةُ ومن يُعينُه من قومه ، أو هو ومن يسير بسيرته { خَصِيماً } مخاصماً للبراءة أي لا تخاصِم اليهودَ لأجلهم ، والنهيُ معطوفٌ على أمر ينسحب عليه النظمُ الكريمُ كأنه قيل : فاحكم به ولا تكن الخ { واستغفر الله } مما هممتَ به تعويلاً على شهادتهم { إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } مبالغاً في المغفرة والرحمةِ لمن يستغفره .
{ وَلاَ تجادل عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ } أي يخونونها بالمعصية كقوله تعالى : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ } جُعلت معصيةُ العُصاةِ خيانةً منهم لأنفسهم كما جُعلت ظلماً لها لرجوع ضررِها إليهم ، والمرادُ بالموصول إما طعمةٌ وأمثالُه وأما هو ومن عاونه وشهد ببراءته من قومه فإنهم شركاءُ في الإثم والخيانةِ { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً } مُفرِطاً في الخيانة مُصِراً عليها { أَثِيماً } منهمكاً فيه ، وتعليقُ عدمِ المحبةِ الذي هو كنايةٌ عن البغضِ والسُّخطِ بالمبالِغ في الخيانة والإثمِ ليس لتخصيصه به ، بل لبيان إفراطِ طُعمةَ وقومِه فيهما .
{ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس } يستترون منهم حياءً وخوفاً من ضررهم { وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله } أي لا يستحيون منه سبحانه وتعالى وهو أحقُّ بأن يُستحيا منه ويُخافَ من عقابه { وَهُوَ مَعَهُمْ } عالمٌ بهم وبأحوالهم فلا طريقَ إلى الاستخفاء منه سوى تركِ ما يستقبِحُه ويؤاخِذُ به { إِذْ يُبَيّتُونَ } يدبرون ويزورون { مَا لاَ يَرْضَى مِنَ القول } مِنْ رَمْي البريءِ والحلِفِ الكاذب وشهادةِ الزور { وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ } من الأعمال الظاهرةِ والخافية { مُحِيطاً } لا يعزُب عنه شيءٌ منها ولا يفوت .(2/152)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
{ هأَنتُمْ هؤلاء } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إليهم بطريق الالتفاتِ إيذاناً بأن تعديد جناياتِهم يوجب مشافهتَهم بالتوبيخ والتقريعِ والجملةُ مبتدأٌ وخبرٌ وقوله تعالى : { جادلتم عَنْهُمْ فِى الحياة الدنيا } جملةٌ مبيِّنةٌ لوقوع أولاءِ خبراً ويجوز أن يكون أولاءِ اسماً موصولاً بمعنى الذين وجادلتم الخ صلة له ، والمجادَلةُ أشدُّ المخاصَمَة ، والمعنى هَبُوا أنكم خاصمتم عن طُعمةَ وأمثالِه في الدنيا { فَمَن يجادل الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة } فمن يخاصم عنهم يومئذ عند تعذيبهم وعقابِهم { أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } حافظاً ومحامياً من بأس الله تعالى وانتقامه .
{ وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً } قبيحاً ليَسوءَ به غيره كما فعلَ طُعمة بقتادةَ واليهوديِّ { أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } بما يختص به كالحلِف الكاذبِ ، وقيل : السوءُ ما دون الشركِ ، وقيل : هما الصغيرةُ والكبيرة { ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله } بالتوبة الصادقة { يَجِدِ الله غَفُوراً } لذنوبه كائنةً ما كانت { رَّحِيماً } متفضّلاً عليه . وفيه مزيدُ ترغيبٍ لطعمةَ وقومِه في التوبة والاستغفارِ لما أن مشاهَدةَ التائبِ لآثار المغفرةِ والرحمةِ نعمةٌ زائدةٌ كما مر .
{ وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً } من الآثام { فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ } حيث لا يتعدّى ضررُه ووبالُه إلى غيره فليحترز عن تعريضها للعقاب والعذابِ عاجلاً وآجلاً { وَكَانَ الله عَلِيماً } مبالغاً في العلم { حَكِيماً } مراعياً للحكمة في كل ما قَدَّر وقضى ، ولذلك لا تَحمِلُ وازِرَةٌ وزرَ أخرى { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً } صغيرة أو ما لا عمْدَ فيه من الذنوب وقرىء ومن يَكِسِّبْ بكسر الكاف وتشديد السين وأصله يكتسب { أَوْ إِثْماً } كبيرةً أو ما كان عن عمد { ثُمَّ يَرْمِ بِهِ } أي يقذِفْ به ويُسنده ( إليه ) ، وتوحيدُ الضميرِ مع تعدد المرجِعِ لمكان { أَوْ } وتذكيره لتغليب الإثم على الخطيئة كأنه قيل : ثو يرم بأحدهما ، وقرىء يرمِ بهما ، وقيل : الضمير للكسبِ المدلولِ عليه بقوله تعالى : { يَكْسِبْ } ، وثم للتراخي في الرتبة { بَرِيئاً } أي مما رماه به ليُحمِّلَه عقوبتَه العاجلةَ كما فعله طعمةُ بزيدٍ { فَقَدِ احتمل } أي بما فعل من تحميل جريرتِه على البريء { بهتانا } وهو الكذِبُ على الغير بما يُبَهتُ منه ويُتَحيَّر عند سَماعِه لفظاعته وهولِه ، وقيل : هو الكذبُ الذي يُتحيَّر في عِظَمه { وَإِثْماً مُّبِيناً } أي بيناً فاحشاً وهو صفة لإثماً وقد اكتُفي في بيان عِظَمِ البهتانِ بالتنكير التفخيميّ كأنه قيل : بهتاناً لا يقادَرُ قدرُه وإثماً مبيناً على أن وصفَ الإثمِ بما ذُكر بمنزلة وصفِ البهتانِ به لأنهما عبارةٌ عن أمر واحد هو رميُ البريءِ بجناية نفسِه ، قد عبّر عنه بهما تهويلاً لأمره وتفظيعاً لحاله ، فمدارُ العِظَم والفخامةِ كونُ المرميِّ به للرامي فإن رميَ البريءِ بجناية ما خطيئةً كانت أو إثماً بهتانٌ وإثمٌ في نفسه ، أما كونُه بهتاناً فظاهرٌ وأما كونُه إثماً فلأن كونَ الذنبِ بالنسبة إلى مَنْ فعله خطيئةً لا يلزم منه كونُه بالنسبة إلى مَنْ نسبه إلى البريءِ منه أيضاً كذلك بل لا يجوزُ ذلك قطعاً ، كيف لا وهو كذِبٌ محرَّمٌ في جميع الأديانِ فهو في نفسه بهتانٌ وإثمٌ لا محالةَ وبكون تلك الجنايةِ للرامي يتضاعفُ ذلك شدةً ويزداد قُبحاً لكنْ لا لانضمام جنايتِه المكسوبةِ إلى رمي البريءِ وإلا لكان الرميُ بغير جنايةٍ مع تبرئةِ نفسِه كذلك في العِظَم ، بل لاشتماله على قصد تحميلِ جنايتِه على البريء وإجراءِ عقوبتِها عليه كما يُنبىءُ عنه إيثارُ الاحتمالِ على الاكتساب ونحوِه لما فيه من الإيذان بانعكاس تقديرِه مع ما فيه من الإشعار بثِقَل الوِزرِ وصعوبةِ الأمرِ .(2/153)
نعم بما ذُكر من انضمام كسبِه وتبرئةِ نفسِه إلى رمي البريءِ تزداد الجنايةُ قبحاً لكنّ تلك الزيادةَ وصفٌ للمجموع لا للإثم .(2/154)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
{ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ } بإعلامك ما هم عليه بالوحي وتنبيهِك على الحق ، وقيل : بالنبوة والعِصمة { لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ } أي من بني ظفَر وهم الذابّون عن طُعمةَ ، وقد جُوِّز أن يكون المرادُ بالطائفة كلَّهم ، ويكونُ الضميرُ راجعاً إلى الناس وقيل : هم وفدُ بني ثقيفٍ قدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : جئناك لنبايعَك على أن لا تكسِرَ أصنامَنا ولا تعشِّرَنا فردّهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم { أَن يُضِلُّوكَ } أي بأن يضلوك عن القضاء بالحق مع علمهم بكُنه الأمرِ ، والجملةُ جوابُ لولا وإنما نفى همَّهم مع أن المنفيَّ إنما هو تأثيرُه فقط إيذاناً بانتفاء تأثيرِه بالكلية ، وقيل : المرادُ هم الهمُّ المؤثّر ، ولا ريب في انتفائه حقيقةً ، وقيل : الجوابُ محذوفٌ أي لأضلوك ، وقوله تعالى : { لَهَمَّتْ } جملةٌ مستأنفةٌ أي لقد همت طائفة الخ { وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ } لاقتصار وبالِ مكرِهم عليهم من غير أن يُصيبَك منه شيءٌ والجملةُ اعتراضٌ ، وقوله تعالى : { وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْء } عطفٌ عليه ومحلُّ الجارِّ والمجرور النصبُ على المصدرية أي وما يضرونك شيئاً من الضرر لما أنه تعالى عاصمُك ، وأما ما خطرَ ببالك فكان عملاً منك بظاهر الحالِ ثقةً بأقوال القائلين من غير أن يخطُر ببالك أن الحقيقةَ على خلاف ذلك { وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة } أي القرآنَ الجامعَ بين العنوانين ، وقيل : المرادُ بالحكمة السنة { وَعَلَّمَكَ } بالوحي من خفيّات الأمورِ التي من جملتها وجوهُ إبطالِ كيدِ المنافقين ، أو من أمور الدين وأحكامِ الشرع { مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } ذلك إلى وقت التعليم { وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً } إذ لا فضلَ أعظمُ من النبوة العامةِ والرياسة التامّة .(2/155)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
{ لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ } أي في كثير من تناجي الناسِ { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ } أي إلا في نجوى مَنْ أمرَ { بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ } وقيل : المرادُ بالنجوى المتناجون بطريق المجازِ ، وقيل : النجوى جمع نُجا نقله الكرماني وأياً ما كان فالاستثناءُ متصلٌ ويجوز الانقطاعُ أيضاً على معنى لكنْ مَنْ أمر بصدقة الخ ، ففي نجواه الخير . والمعروفُ كلُّ ما يستحسنه الشرعُ ولا يُنكره العقلُ فينتظم أصنافَ الجميلِ وفنونَ أعمالِ البِرِّ ، وقد فُسِّر هاهنا بالقَرْض وإغاثةِ الملهوف وصدقةِ التطوعِ على أن المرادَ بالصدقة الصدقةُ الواجبة { أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس } عند وقوعِ المُشاقّةِ والعِداءِ بينهم من غير أن يجاوزَ في ذلك حدودَ الشرعِ الشريفِ ، وبين إما متعلقٌ بنفس إصلاحٍ ، يقال : أصلحتُ بين القوم أو بمحذوف هو صفةٌ له أي كائنٍ بين الناسِ . عن أبي أيوبَ الأنصاري رضي الله تعالى عنه ( أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال له : « ألا أدلك على صدقةٍ خيرٍ لك من حُمْرِ النَّعَم » ، قال : بلى يا رسول الله ، قال : « تُصلح بين الناسِ إذا تفاسدوا وتُقرِّب بينهم إذا تباعدوا » ، قالوا : ولعل السرَّ في إفراد هذه الأقسامِ الثلاثةِ بالذكر أن عملَ الخيرِ المتعدِّي إلى الناس إما لإيصال المنفعةِ أو لدفع المضرَّةِ ، والمنفعةُ إما جُسمانية كإعطاء المالِ وإليه الإشارةُ بقوله تعالى : { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ } وإما روحانيةٌ وإليه الإشارةُ بالأمر بالمعروف ، وأما دفعُ الضرر فقد أشير إليه بقوله تعالى : { أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس } .
{ وَمَن يَفْعَلْ ذلك } إشارةٌ إلى الأمور المذكورةِ أعني الصدقةَ والمعروفَ والإصلاحَ فإنه يشار به إلى متعدد ، وما فيه من معنى البُعدِ مع قُرب العهدِ بها للإيذان ببُعد منزلتِها ورفعةِ شأنِها ، وترتيبُ الوعدِ على فعلها إثرَ بيانِ خيريةِ الأمرِ بها لما أن المقصودَ الأصليَّ هو الترغيبُ في الفعل وبيانُ خيريةِ الأمرِ به للدِلالة على خيريته بالطريق الأولى لما أن مدارَ حُسنِ الأمرِ وقُبحِه حسنُ المأمورِ به وقبحُه فحيث ثبت خيريةُ الأمرِ بالأمور المذكورةِ فخيريةُ فعلِها أثبتُ ، وفيه تحريضٌ للأمر بها على فعلها أو إشارةٌ إلى الأمر بها كأنه قيل : ومن يأمْر بها ، والكلامُ في ترتيب الوعدِ على فعلها كالذي مر في الخيرية فإن استتباعَ الأمرِ بها الأجر العظيمِ إنما هو لكونه ذريعةً ( وسبباً ) إلى فعلها فاستتباعُه له أولى وأحقُّ . { ابتغاء مَرْضَاتَ الله } علةٌ للفعل ، والتقييدُ به لأن الأعمالَ بالنيات وأن من فعل خيراً لغير ذلك لم يستحِقَّ به غيرَ الحِرْمان { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ } بنون العظمةِ على الالتفاتِ وقرىء بالياء { أَجْراً عَظِيماً } يقصُر عنه الوصفُ { وَمَن يُشَاقِقِ الرسول } التعرُّض لعنوان الرسالةِ لإظهار كمالِ شناعةِ ما اجترأوا عليه من المُشاقة والمخالفةِ ، وتعليلِ الحُكمِ الآتي بذلك { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى } ظهر له الحق بالوقوف على المعجزات الدالة على ثبوته { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين } أي غيرَ ما هم مستمرون عليه من عقد وعمل وهو الدين القيم { نُوَلّهِ مَا تولى } أي نجعله والياً لِمَا تولى من الضلال ونخذُله بأن نُخلِّيَ بينه وبين ما اختاره { وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ } أي نُدخله إياها ، وقرىء بفتح النون من صَلاه { وَسَاءتْ مَصِيراً } أي جهنم ، وفيها دِلالةٌ على حجية الإجماعِ وحُرمةِ مخالفتِه .(2/156)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)
{ إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } قد مر تفسيرُه فيما سبق ، وهو تكريرٌ للتأكيد والتشديد ، أو لقصة طُعمةَ وقد مرّ موتُه كافراً . وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ( أن شيخاً من العرب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني شيخٌ منهمِكٌ في الذنوب إلا أني لم أشرِكْ بالله شيئاً منذ عرفتُه وآمنتُ به ولم أتخذ من دونه ولياً ولم أواقع المعاصيَ جراءةً على الله تعالى وما توهّمتُ طرفةَ عينٍ أني أُعجِزُ الله هرباً وإني لنادم تائبٌ مستغفرٌ فما ترى حالي عند الله تعالى فنزلت ) { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضلالا بَعِيداً } عن الحق فإن الشركَ أعظمُ أنواعِ الضلالةِ وأبعدُها عن الصواب والاستقامةِ كما أنه افتراءٌ وإثمٌ عظيمٌ ، ولذلك جُعل الجزاءُ في هذه الشرطيةِ فقد ضل الخ ، فيما سبق فقد افترى إثماً عظيماً حسبما يقتضيهِ سباقُ النظمِ الكريم وسياقُه .
{ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } أي ما يعبدون من دونه عز وجل { إِلاَّ إناثا } يعني اللاتَ والعُزَّى ومناةَ ونحوَها . عن الحسن أنه لم يكن من أحياء العربِ حيٌّ إلا كان لهم صنمٌ يعبُدونه يسمُّونه أنثى بني فلان ، قيل : لأنهم كانوا يقولون في أصنامهم هن بناتُ الله ، وقيل : لأنهم كانوا يُلْبِسونها أنواعَ الحَلْي ويُزيِّنونها على هيئات النِّسوانِ ، وقيل : المرادُ الملائكةُ ، لقولهم : الملائكةُ بناتُ الله ، وقيل : تسميتُها إناثاً لتأنيث أسمائِها أو لأنها في الأصل جمادٌ والجماداتُ تؤنَّثُ من حيث أنها ضاهت الإناثَ لانفعالها ، وإيرادُها بهذا الاسم للتنبيه على فرط حماقةِ عَبَدتِها وتناهي جهلِهم ، والإناثُ جمع أنثى كرِباب وربى وقرىء على التوحيد ، وأُنُثاً أيضاً على أنه جمع أنيث كقليب وقلُب ، أو جمع أَنَثٍ كثمار وثمر وقرىء وثنا واثنا بالتخفيف والتثقيل جمع وثن كقولك : أسد وأسد وآسد على الأصل وقلبِ الواو ألفاً نحو أُجوه في وجوه { وَإِن يَدْعُونَ } وما يعبدون بعبادتها { إِلاَّ شيطانا مَّرِيداً } إذ هو الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم عليها فكانت طاعتُهم له عبادةً والمَريد والمارد هو الذي لا يتعلق بخير ، وأصلُ التركيبِ للملاسة ومنه صرحٌ مُمرّد وشجرةٌ مرداءُ للتي تناثر ورقُها { لَّعَنَهُ الله } صفةٌ ثانيةٌ لشيطاناً { وَقَالَ لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } عطفٌ على الجملة المتقدمةِ أي شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنةِ الله وهذا القولِ الشنيعِ الصادرِ عنه عند اللعنِ ولقد برهن على أن عبادةَ الأصنام غايةُ الضلال بطريق التعليلِ بأن ما يعبدونها ينفعل ولا يفعل فعلاً اختيارياً وذلك ينافي الألوهيةَ غايةَ المنافاةِ ثم استُدل عليه بأن ذلك عبادةٌ للشيطان وهو أفظعُ الضلالِ من وجوه ثلاثةٍ : الأولُ منهمكٌ في الغي لا يكاد يعلَق بشيء من الخير والهدى فتكون طاعتُه ضلالاً بعيداً عن الحق ، والثاني أنه ملعونٌ لضلاله فلا تستتبعُ مطاوعتُه سوى اللعنِ والضلالِ ، والثالثُ أنه في غاية السعي في إهلاكهم وإضلالِهم ، فموالاةُ مَنْ هذا شأنُه غايةُ الضلالِ فضلاً عن عبادته ، والمفروضُ : المقطوعُ أي نصيباً قُدّر لي وفُرض ، من قولهم : فرَضَ له في العطاء .(2/157)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
{ وَلاَضِلَّنَّهُمْ وَلامَنّيَنَّهُمْ } الأمانيَّ الباطلةَ كطول الحياةِ وألاّ بعْثَ ولا عقابَ ونحوَ ذلك { وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الانعام } أي فلَيقْطَعُنَّها بموجب أمري ويشُقُّنّها من غير تلعثم في ذلك ولا تأخير وذلك ما كانت العربُ تفعله بالبحائر والسوائب { وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ } ممتثلين به { خَلَقَ الله } عن نهجه صورةً أو صفةً وينتظم فيه ما قيل من فقءِ عين الحامي وخِصاءِ العبيدِ والوشمِ والوشْرِ ونحوِ ذلك ، وعمومُ اللفظِ يمنع الخِصاءَ مطلقاً لكن الفقهاء رخّصوا في البهائم لمكان الحاجةِ وهذه الجملُ المحكيةُ عن اللعين مما نطق به لسانُه مقالاً أو حالاً وما فيها من اللامات كلَّها للقَسَم ، والمأمورُ به في الموضعين محذوفٌ ثقةً بدلالة النظمِ عليه { وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مّن دُونِ الله } بإيثار ما يدعو إليه على ما أمر الله تعالى به ومجاوزتِه عن طاعة الله تعالى إلى طاعته { فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً } لأن ضيَّع رأسَ مالِه بالكلية واستبدل بمكانه من الجنة مكانَه من النار { يَعِدُهُمْ } أي ما لا يكاد يُنجِزُه { وَيُمَنّيهِمْ } أي الأمانيَّ الفارغةَ أو يفعل لهم الوعدَ والتمنيةَ على طريقة فلان يُعطي ويمنَعُ والضميران لمن والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في يتخذ وخسر باعتبار لفظها .
{ وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } وهو إظهارُ النفعِ فيما فيه الضررُ ، وهذا الوعدُ إما بإلقاء الخواطرِ الفاسدةِ أو بألسنة أوليائِه ، وغروراً إما مفعولٌ ثانٍ للوعد أو مفعولٌ لأجله أو نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي وعداً ذا غرورٍ أو مصدرٌ على غير لفظ المصدرِ لأنّ { يَعِدُهُمْ } في قوة يغرّهم بوعده ، والجملةُ اعتراضٌ وعدمُ التعرّضِ للتمنية لأنها بابٌ من الوعد { أولئك } إشارةٌ إلى أولياء الشيطان ، وما فيه من معنى البُعد للإشعار ببُعد منزلتِهم في الخُسران ، وهو مبتدأٌ وقوله تعالى : { مَأْوَاهُمْ } مبتدأٌ ثانٍ وقولُه تعالى : { جَهَنَّمُ } خبرٌ للثاني والجملةُ من الثاني ( وخبره ) خبرٌ للأول { وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً } أي معدِلاً ومهرَباً من حاص الحمارُ إذا عدَل ، وقيل : خلَص ونجا ، وقيل : الحَيْصُ هو الرَّوَغانُ بنفور ، و { عَنْهَا } متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من محيصاً أي كائناً عنها ، ولا مَساغَ لتعلُّقه بمحيصاً ، أما إذا كان اسمَ مكانٍ فظاهرٌ ، وأما إذا كان مصدراً فلأنه لا يعمل فيما قبله .(2/158)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
{ والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى : { سَنُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا أَبَداً } قرَن وعيدَ الكفرةِ بوعد المؤمنين زيادةً لمَسرَّة هؤلاءِ ومَساءةِ أولئك { وَعْدَ الله حَقّا } أي وعَده وعداً وحقَّ ذلك حقاً ، فالأولُ مؤكدٌ لنفسه لأن مضمونَ الجملةِ الاسميةِ وعدٌ ، والثاني مؤكدٌ لغيره ويجوز أن ينتصِبَ الموصولُ بمضمر يفسِّره ما بعده وينتصب { وَعَدَ الله } بقوله تعالى : { سَنُدْخِلُهُمْ } لأنه في معنى نعِدُهم إدخالَ جناتٍ الخ ، وحقاً على أنه حال من المصدر { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً } جملةٌ مؤكدةٌ بليغةٌ ، والمقصودُ من الآية معارضَةُ مواعيدِ الشيطانِ الكاذبةِ لقرنائه بوعد الله الصادقِ لأوليائه والمبالغةُ في تأكيده ترغيباً للعباد في تحصيله ، والقيلُ مصدرٌ كالقول والقال ، وقال ابنُ السِّكِّيتِ : القيلُ والقالُ اسمانِ لا مصدرانِ ونصبُه على التمييز وقرىء بإشمام الصادِ ، وكذا كلُّ صادٍ ساكنةٍ بعدها دالٌ .
{ لَّيْسَ بأمانيكم وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ الكتاب } أي ليس ما وعد الله تعالى من الثواب يحصُل بأمانيكم إيها المسلمون ولا بأمانيِّ أهلِ الكتابِ وإنما يحصُل بالإيمان والعملِ الصالحِ ، ولعل نظمَ أمانيِّ أهلِ الكتابِ في سلك أمانيِّ المسلمين مع ظهور حالِها للإيذان بعدم إجداءِ أمانيِّ المسلمين أصلاً كما في قوله تعالى : { وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } كما سلف ، وعن الحسن ليس الإيمانُ بالتمنِّي ولكنْ ما وقر في القلب وصدّقه العملُ ، إن قوماً ألهتْهم أمانيُّ المغفرةِ حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنةَ لهم وقالوا : نُحسِنُ الظنَّ بالله وكذَبوا لو أحسنوا الظنَّ به لأحسنوا العملَ . وقيل : ( إن المسلمين وأهلَ الكتاب افتخروا فقال أهلُ الكتاب : نبيُّنا قبل نبيِّكم وكتابُنا قبل كتابِكم فنحن أولى بالله تعالى منكم ، فقال المسلمون : نحنُ أولى منكم نبيُّنا خاتمُ النبيين وكتابُنا يقضي على الكتب المتقدمةِ فنزلت ) . وقيل : ( الخطابُ للمشركين ) ويؤيده تقدّمُ ذكرِهم أي ليس الأمرُ بأمانيِّ المشركين وهو قولُهم : لا جَنةَ ولا نارَ ، وقولُهم : إن كان الأمرُ كما يزعُم هؤلاء لنكونَنّ خيراً منهم وأحسنَ حالاً ، وقولُهم : لأوتين مالاً وولداً ، ولا أمانيِّ أهلِ الكتاب ، وهو قولُهم : { لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى } وقولُهم { لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } ثم قرر ذلك بقوله تعالى : { مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } عاجلاً أو آجلاً ( لما روي أَنَّهُ لما نزلت قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : فمن ينجو مع هذا يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أما تحزنُ أو تمرَضُ أو يصيبُك البلاء؟ » قال : بلى يا رسول الله ، قال : « هو ذاك » { وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله } أي مجاوزاً لموالاة الله ونُصرتِه { وَلِيّاً } يواليه { وَلاَ نَصِيراً } ينصُره في دفع العذاب عنه .(2/159)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
{ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات } أي بعضَها أو شيئاً منها فإن كلَّ أحدٍ لا يتمكن من كلها وليس مكلَّفاً بها { مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } في موضع الحالِ من المستكنّ في { يَعْمَلُ } ومن للبيان أو من الصالحات فمن للابتداء أي كائنةً من ذكر الخ ، { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } حالٌ ، شرَط اقترانَ العملِ بها في استدعاء الثوابِ المذكورِ تنبيهاً على أنه لا اعتدادَ به دونه { فَأُوْلَئِكَ } إشارةٌ إلى { مِنْ } بعنوان اتصافِه بالإيمان والعملِ الصالحِ ، والجمعُ باعتبار معناها كما أن الإفراد فيما سبق باعتبار لفظِها وما فيه من معنى البُعد لما مر غيرَ مرةٍ من الإشعار بعلوّ رُتبةِ المُشار إليه وبُعد منزلتِه في الشرف { يَدْخُلُونَ الجنة } وقرىء يُدخَلون مبنياً للمفعول من الإدخال { وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } أي لا يُنقصون شيئاً حقيراً من ثواب أعمالِهم فإن النقيرَ عَلَم في القلة والحَقارةِ وإذا لم يُنقص ثوابُ المطيعِ فلأَنْ لا يزادَ عقابُ العاصي أولى وأحرى ، كيف لا والمجازي ( هو ) أرحمُ الراحمين ، وهو السرُّ في الاقتصار على ذكره عَقيبَ الثواب .
{ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله } أي أخلص نفسَه له تعالى لا يعرِف له رباً سواه ، وقيل : بذل وجهَه له في السجود ، وقيل : أخلصَ عملَه له عز وجل ، وقيل : فوّض أمرَه إليه تعالى ، وهذا إنكارٌ واستبعادٌ لأن يكون أحدٌ أحسنَ ديناً ممن فعل ذلك أو مساوياً له وإن لم يكن سبكُ التركيبِ متعرِّضاً لإنكار المساواةِ ، ونفيُها يُرشِدُك إليه العُرفُ المطّردُ والاستعمالُ الفاشي ، فإنه إذا قيل : مَنْ أكرمُ من فلان أو لا أفضلَ من فلان ، فالمرادُ به حتماً أنه أكرمُ من كل كريم وأفضلُ من كل فاضلٍ ، وعليه مساقُ قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى } ونظائرِه ، وديناً نُصب على التمييز من أحسنُ منقولٌ من المبتدأ ، والتقديرُ ومن دينُه أحسنُ من دين مَنْ أسلم الخ ، فالتفضيلُ في الحقيقة جارٍ بين الدينين لا بين صاحبيهما ففيه تنبيه على أن ذلك أقصى ما تنتهي إليه القوةُ البشرية { وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي آتٍ بالحسنات تاركٌ للسيئات ، أو آتٍ بالأعمال الصالحة على الوجه اللائقِ الذي هو حسنُها الوصفيُّ المستلزِمُ لحسنها الذاتي ، وقد فسره عليه الصلاة والسلام بقوله : « أن تعبُدَ الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك » والجملةُ حال من فاعل أسلم { واتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم } الموافقةُ لدين الإسلامِ المتّفق على صحتها وقبولِها { حَنِيفاً } مائلاً عن الأديان الزائغةِ وهو حال من فاعل اتبع أو ( حال ) من إبراهيم .
{ واتخذ الله إبراهيم خَلِيلاً } اصطفاه وخصَّه بكرامات تُشبه كراماتِ الخليلِ عند خليلِه ، وإظهارُه عليه الصلاة والسلام في موقع الإضمار لتفخيم شأنِه والتنصيصِ على أنه الممدوحُ ، وتأكيدِ استقلالِ الجملةِ الاعتراضية ، والخُلّةُ من الخِلال فإنه ودٌّ تخلَّل النفسَ وخالطَها .(2/160)
وقيل : من الخَلَل فإن كل واحد من الخليلين يسد خلَلَ الآخَر ، أو من الخل وهو الطريقُ في الرمل فإنهما يتوافقان في الطريقة أو من الخَلّة بمعنى الخَصْلة فإنهما يتوافقان في الخِصال ، وفائدةُ الاعتراضِ جَمّةٌ من جملتها الترغيبُ في اتباع ملتِه عليه السلام فإن من بلغ من الزُّلفى عند الله تعالى مَبْلغاً مصحِّحاً لتسميته خليلاً حقيقٌ بأن يكون اتباعُ طريقتِه أهمَّ ما يمتد إليه أعناقُ الهِمم وأشرفَ ما يَرمُق نحوه أحداقُ الأُمم ، قيل : ( إنه عليه الصلاة والسلام بَعث إلى خليل له بمصرَ في أزمة أصابت الناسَ يمتارُ منه ، فقال خليلُه : لو كان إبراهيمُ يطلب المِيرةَ لنفسه لفعلت ، ولكنه يُريدها للأضياف ، وقد أصابنا ما أصاب الناسَ من الشدة ، فرجَع غِلمانُه عليه الصلاة والسلام فاجتازوا ببطحاءَ لينة فملأوا منها الغرائرَ حياءً من الناس وجاءوا بها إلى منزل إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام وألقَوْها فيه وتفرّقوا وجاء أحدُهم فأخبر إبراهيمَ بالقصة فاغتم لذلك غماً شديداً لا سيما لاجتماع الناسِ ببابه رجاءَ الطعام فغلبته عيناه وعمَدت سارةُ إلى الغرائر فإذا فيها أجودُ ما يكون من الحُوَّارَى فاختبزت ، وفي رواية فأطعمت الناسَ وانتبه إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام فاشتم رائحةَ الخبزِ فقال : من أين لكم ، قالت سارة : من خليلك المِصريِّ ، فقال : بل من عند خليلي الله عز وجل فسماه الله تعالى خليلاً .(2/161)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
{ وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض } جملةٌ مبتدأةٌ سيقت لتقرير وجوبِ طاعة الله تعالى على أهل السموات والأرضِ ببيانِ أن جميعَ ما فيهما من الموجودات له تعالى خلقاً ومُلكاً لا يخرُج عن مَلَكوته شيءٌ منها فيجازي كلاًّ بموجب أعمالِه خيراً أو شراً ، وقيل : لبيان أن اتخاذَه عز وجل لإبراهيمَ عليه السلام خليلاً ليس لاحتياجه سبحانه إلى ذلك في شأنٍ من شؤونه كما هو دأبُ الآدميين فإن مدار خُلَّتِهم افتقارُ بعضِهم إلى بعض في مصالحهم ، بل لمجرد تكرمتِه وتشريفِه عليه السلام ، وقيل : لبيان أن الخُلة لا تخرجه عن رتبة العبوديةِ ، وقيل : لبيان أن اصطفاءَه عليه السلام للخُلّة بمحض مشيئتِه تعالى أي له تعالى ما فيهما جميعاً يختار منهما ما يشاء لمن يشاء وقوله عز وجل : { وَكَانَ الله بِكُلّ شَىْء مُّحِيطاً } تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله على الوجوه المذكورةِ فإن إحاطتَه تعالى علماً وقُدرةً بجميع الأشياءِ التي من جملتها ما فيهما من المكلفين وأعمالِهم مما يقرِّرُ ذلك أكملَ تقرير .
{ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النساء } أي في حقهن على الإطلاق كما ينبىء عنه الأحكامُ الآتية لا في حق ميراثِهن خاصة فإنه صلى الله عليه وسلم قد سُئل عن أحوال كثيرةٍ مما يتعلق بهن ، فما بُيِّن حكمُه فيما سلف أحيل بيانُه على ما ورد في ذلك من الكتاب ، وما لم يُبيَّن حُكمُه بعدُ بُيِّن هاهنا ، وذلك قوله تعالى : { قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِى الكتاب } بإسناد الإفتاءِ الذي هو بيانُ المُبهم وتوضيحُ المُشكلِ إليه تعالى وإلى ما تُليَ من الكتاب فيما سبق باعتبارين على طريقة قولِك : أغناني زيدٌ وعطاؤُه بعطف { مَا } على المبتدأ أو ضميرِه في الخبر لمكان الفصلِ بالمفعول والجارِّ والمجرور ، وإيثارُ صيغة المضارعِ للإيذان باستمرار التلاوةِ ودوامِها و { فِى الكتاب } إما متعلقٌ بيُتلى أو بمحذوف وقع حالاً من المستكنّ فيه أي يتلى كائناً فيه ويجوز أن يكون ما يتلى عليكم مبتدأً وفي الكتاب خبرُه على أن المرادَ به اللوحُ المحفوظُ ، والجملةُ معترضةٌ مسوقةٌ لبيان عِظَمِ شأن المتلوِّ عليهم وأن العدلَ في الحقوق المبنيّة فيه من عظائم الأمورِ التي يجب مراعاتُها والمحافظةُ عليها فيما يتلى حينئذ متناولٌ لما تُليَ وما سيتلى ويجوز أن يكون مجروراً على القسم المُنبىءِ عن تعظيم المقسَم به وتفخيمِه كأنه قيل : قل الله يُفتيكم فيهن وأُقسِم بما يتلى عليكم في الكتاب ، فالمرادُ بقوله تعالى : { يُفْتِيكُمْ } بيانُه السابقُ واللاحقُ ولا مساغَ لعطفه على المجرور من فيهن لاختلاله لفظاً ومعنى ، وقولُه تعالى : { فِى يتامى النساء } على الوجه الأولِ وهو الأظهرُ متعلقٌ بيتلى أي ما يتلى عليكم في شأنهن ، وعلى الأخيرين بدلٌ من فيهن ، وهذه الإضافةُ بمعنى من لأنها إضافةُ الشيءِ إلى جنسه وقرىء ييامى بقلب همزةِ أيامى ياءً .(2/162)
{ اللاتى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } أي ما فُرض لهن من الميراث وغيره { وَتَرْغَبُونَ } عطفٌ على الصلة عطفَ جملةٍ مُثبتةٍ على جملة منفية ، وقيل : حال من فاعل تؤتونهن بتأويل وأنتم ترغبون ، ولا ريب في أنه لا يظهر لتقييدِ عدمِ الإيتاءِ بذلك فائدةٌ إلا إذا أريد بما كُتب لهن صَداقُهن { أَن تَنكِحُوهُنَّ } أي في أن تنكِحوهن لا لأجل التمتعِ بهن بل لأكل مالِهن أو في أن تنكوحهن بغير إكمالِ الصَّداقِ وذلك ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها من أنها اليتيمةُ تكون في حِجْر وليِّها فيرغب في مالها وجمالِها ويرد أن ينكِحَها بأدنى من سُنة نسائِها فنُهوا أن ينكِحوهن إلا أن يُقسِطوا لهن في إكمال الصَّداقِ أو عن أن تنكِحوهن ، وذلك ما روي عنها رضي الله عنها أنها يتيمةٌ يرغب وليُّها عن نكاحها ولا يُنكِحُها فيعضُلها طمعاً في ميراثها ، وفي رواية عنها رضي الله عنها هو الرجلُ يكون عنده يتيمةٌ هو وليُّها ووارثُها وشريكُها في المال حتى في العِذْق فيرغب أن ينكِحَها ويكره أن يزوِّجَها رجلاً فيَشرُكَه في ماله بما شرَكَتْه فيعضُلها ، فالمرادُ بما كُتب لهن على الوجه الأولِ والأخير ميراثُهن وبما يتلى في حقهن قولُه تعالى : { وَءاتُواْ اليتامى أموالهم } وقولُه تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُوهَا } ونحوُهما من النصوص الدالةِ على عدم التعرّضِ لأموالهم وعلى الوجه الثاني صَداقُهن وبما يتلى فيهن قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى اليتامى } الآية .
{ والمستضعفين مِنَ الولدان } عطفٌ على يتامى النساءِ وما يتلى في حقهم وقولِه تعالى : { يُوصِيكُمُ الله } الخ ، وقد كانوا في الجاهلية لا يورِّثونهم كما لا يورِّثون النساءَ ، وإنما يورِّثون الرجالَ القوّامين بالأمور . رُوي أن عيينةَ بنَ حصنٍ الفزاريَّ جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أُخبرنا بأنك تعطي الابنةَ النصفَ والأختَ النصفَ وإنما كنا نورِّث من يشهدُ القِتالَ ويجوز الغنيمة ، فقال عليه الصلاة والسلام : « كذلك أُمِرْتُ » { وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط } بالجر عطفٌ على ما قبله ، وما يتلى في حقهم قولُه تعالى : { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم } ونحوُ ذلك مما لا يكاد يحصُر هذا على تقدير كونِ { فِى يتامى النساء } متعلقاً بيتلى ، وأما على تقدير كونِه بدلاً من فيهن فالوجهُ نصبُه عطفاً على موضع { فِيهِنَّ } أي يفتيكم أن تقوموا ويجوز نصبُه بإضمار فعلٍ ، أي ويأمركم ، وهو خطابٌ للولاة أو الأولياء والأوصياءِ { وَمَا تَفْعَلُواْ } في حقوق المذكورين { مّنْ خَيْرٍ } حسبما أُمرتم به أو ما تفعلوه من خير على الإطلاق ، فيندرجُ فيه ما يتعلق بهم اندراجاً أولياً { فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً } فيجازيكم بحسبه .(2/163)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
{ وَإِنِ امرأة خافت } شروعٌ في بيان ما لم يُبيَّن فيما سلف من الأحكام أي إن توقعت امرأةٌ { مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً } أي تجافياً عنها وترفّعاً عن صحبتها كراهةً لها ومنعاً لحقوقها { أَوْ إِعْرَاضاً } بأن يُقِلَّ محادثَتَها ومؤانستَها لما يقتضي ذلك من الدواعي والأسباب { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } حينئذ { أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً } أي في أن يصلحا بينهما بأن تحُطَّ عنه المَهرَ أو بعضَه أو القَسْمَ كما فعلت سَودةُ بنتُ زَمعةٍ حين كرِهت أن يفارِقَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فوهَبت يومَها لعائشة رضي الله عنها أو بأن تهَبَ له شيئاً تستميلُه ، وقرىء يَصّالحا من يتصالحا ويصَّلِحا من يصطلحا ويُصالِحا من المفاعلة ، وصُلحاً إما منصوبٌ بالفعل المذكورِ على كل تقديرٍ على أنه مصدرٌ منه بحذف الزوائدِ ، وقد يُعبّر عنه باسم المصدرِ كأنه قيل : إصلاحاً أو تصَالُحاً أو اصطلاحاً حسبما قُرىء الفعل أو بفعل مترتبٍ على المذكور أي فيُصلِح حالَهما صلحاً ، وبينهما ظرفٌ للفعل أو حال من صُلحاً ، والتعرُّضُ لنفي الجُناحِ عنهما مع أنه ليس من جنابها الأخذُ الذي هو المَظِنَّةُ للجُناح لبيان أن هذا الصلحَ ليس من قبيل الرَّشوةِ المحرمة للمعطي والآخذ .
{ والصلح خَيْرٌ } أي من الفُرقة أو من سوء العِشرةِ أو من الخصومة فاللامُ للعهد أو هو خيرٌ من الخيور فاللامُ للجنس والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبله وكذا قوله تعالى : { وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح } أي جعلت حاضرةً له مطبوعةً عليه لا تنفك عنه أبداً ، فلا المرأةُ تسمح بحقوقها من الرجل ولا الرجلُ يجود بحسن المعاشرةِ مع دمامتها فإن فيه تحقيقاً للصلح وتقريراً له بحثِّ كلَ منهما عليه لكنْ لا بالنظر إلى حال نفسِه فإن ذلك يستدعي التماديَ في المماسكة والشقاقِ بل بالنظر إلى حال صاحبِه فإن شحَّ نفسِ الرجلِ وعدمَ ميلِها عن حالتها الجِبِلِّية بغير استمالةٍ مما يحمِل المرأةَ على بذل بعض حقوقِها إليه لاستمالته وكذا شحُّ نفسِها بحقوقها مما يحمل الرجلَ على أن يقتنع من قِبَلها بشيء يسير ولا يُكلّفَها بذلَ الكثيرِ فيتحقق بذلك الصلح { وَإِن تُحْسِنُواْ } في العِشرة { وَتَتَّقُواْ } النشوزَ والإعراضَ مع تعاضُد الأسبابِ الداعيةِ إليهما وتصبِروا على ذلك مراعاةً لحقوق الصُّحبةِ ولم تَضْطَرُّوهن إلى بذل شيءٍ من حقوقهن { فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي من الإحسان والتقوى أو بما تعملون جميعاً فيدخُل ذلك فيه دخولاً أولياً { خَبِيراً } فيجازيكم ويثبتُكم على ذلك البتةَ لاستحالة أن يُضيِّعَ أجرَ المحسنين . وفي خطاب الأزواجِ بطريق الالتفاتِ والتعبيرِ عن رعاية حقوقِهن بالإحسان ولفظِ التقوى المنبىءِ عن كون النشوزِ والإعراض مما يُتوقى منه وترتيبِ الوعدِ الكريمِ عليه من لطف الاستمالةِ والترغيب في حسن المعاملةِ ما لا يخفى . روي أنها نزلت في عَمرةَ بنتِ محمدِ بنِ مَسلمةَ وزوجِها سعدِ بنِ الربيع تزوّجها وهي شابةٌ فلما علاها الكِبَرُ تزوج شابةً وآثرها عليها وجفاها فأتت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وشكت إليه ذلك ، وقيل : نزلت في أبي السائب ، كانت له امرأةٌ قد كبِرَت وله منها أولادٌ فأراد أن يطلقَها ويتزوجَ غيرَها فقالت : لا تُطلِّقَني ودعني على أولادي فاقسِمْ لي من كل شهرين وإن شئت فلا تقسِمْ لي ، فقال : إن كان يصلُح ذلك فهو أحبُّ إلي فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فنزلت .(2/164)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)
{ وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النساء } أي مُحال أن تقدِروا على أن تعدِلوا بينهن بحيث لا يقع ميلٌ ما إلى جانب إحداهن في شأن من الشؤون البتةَ وقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقسِمُ بين نسائِه فيعدِلُ ثم يقول : « اللهم هذا قَسْمي فيما أملِك فلا تؤاخِذْني فيما تملِكُ ولا أملِكُ » وفي رواية « وأنت أعلم بما لا أملك » يعني فرطَ محبتِه لعائشة رضي الله عنها { وَلَوْ حَرَصْتُمْ } أي على إقامة العدلِ وبالغتم في ذلك { فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل } أي فلا تجوروا على المرغوب عنها كلَّ الجَوْرِ واعدِلوا ما استطعتم فإن عجْزَكم عن حقيقة العدلِ إنما يصحح عدمَ تكليفِكم بها لا بما دونها من المراتب الداخلةِ تحت استطاعتِكم { فَتَذَرُوهَا } أي التي مِلْتم عنها { كالمعلقة } التي ليست ذاتَ بعلٍ أو مطلقة وقرىء كالمسجونة وفي الحديث : « مَنْ كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحدُ شِقَّيه مائلٌ » { وَإِن تُصْلِحُواْ } ما كنتم تُفسِدون من أمورهن { وَتَتَّقُواْ } الميلَ فيما يستقبل { فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً } يغفرُ لكم ما فرَط منكم من الميل { رَّحِيماً } يتفضل عليكم برحمته .
{ وَإِن يَتَفَرَّقَا } وقرىء يتفارقا أي وإن يفارقْ كلٌّ منهما صاحبَه بأن لم يتفِقْ بينهما وِفاقٌ بوجه ما من الصلح وغيرِه { يُغْنِ الله كُلاًّ } منهما أي يجعلْه مستغنياً عن الآخَر ويُكْفِه مُهمّاتِه { مّن سَعَتِهِ } من غناه وقُدرته ، وفيه زجرٌ لهما عن المفارقة رُغماً لصاحبه { وَكَانَ الله واسعا حَكِيماً } مقتدراً متْقِناً في أفعاله وأحكامِه ، وقولُه تعالى : { وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض } أي من الموجودات كائناً ما كان من الخلائق وأرزاقُهم وغيرُ ذلك ، جملةٌ مستأنفةٌ منبّهةٌ على كمال سعتِه وعِظَم قدرتِه { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } أي أمرناهم في كتابهم وهم اليهودُ والنصارى ومَنْ قبلهم من الأمم ، واللامُ في الكتاب للجنس ، و { مِنْ } متعلقة بوصّينا أو بأوتوا { وإياكم } عطف على الموصول { أَنِ اتقوا الله } أي وصينا كلاًّ منكم ومنهم بأن اتقوا الله على أنّ أنْ مصدريةٌ حُذف منها الجارُّ ويجوز أن تكون مفسِّرةً ، لأن التوصيةَ في معنى القولِ فقوله تعالى : { وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض } حينئذ من تتمة القولِ المحكيِّ أي ولقد قلنا لهم ولكم : اتقوا الله وإن تكفروا إلى آخلا الآية ، وعلى تقدير كونِ أنْ مصدرية مبني الكلام وإرادة القول أي أمرناهم وإياكم بالتقوى وقلنا لهم ولكم : إن تكفروا الآية ، وقيل : هي جملةٌ مستأنفةٌ خوطب بها هذه الأمةُ ، وأياً ما كان فالمترتبُ على كفرهم ليس مضمونَ قولِه تعالى : { فَإِنَّ الله } الآية ، بل هو الأمرُ بعلمه كأنه قيل : وإن تكفروا فاعلَموا أن لله ما في السموات وما في الأرض من الخلائق قاطبةً مفتقرون إليه في الوجود وسائرِ النعمِ المتفرِّعةِ عليه لا يستغنون عن فيضه طرفةَ عينٍ فحقُّه أن يُطاع ولا يعصى ويتقى عقابُه ويرجى ثوابُه وقد قرر ذلك بقوله تعالى : { وَكَانَ الله غَنِيّاً } أي عن الخلق وعبادتِهم { حَمِيداً } محموداً في ذاته حمِدوه أو لم يحْمَدوه فلا يتضرر بكفرهم ومعاصيهم كما لا ينتفع بشكرهم وتقواهم وإنما وصّاهم بالتقوى لرحمته لا لحاجته .(2/165)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
{ وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض } كلامٌ مبتدأٌ مسوقٌ للمخاطبين توطئةً لما بعده من الشرطية غيرُ داخلٍ تحت القول المحكيِّ أي له سبحانه ما فيهما من الخلائق خلقاً ومُلكاً يتصرف فيهم كيفما يشاء إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة .
{ وكفى بالله وَكِيلاً } في تدبير أمورِ الكلِّ وكلِّ الأمور فلا بد من أن يُتوكلَ عليه لا على أحد سواه { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس } أي يُفْنِكم ويستأصِلْكم بالمرة { وَيَأْتِ بِآخَرِينَ } أي ويوجِدْ دفعةً مكانكم قوماً آخرين من البشر أو خلقاً آخرين مكانَ الإنسِ ، ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ لكونه مضمونَ الجزاءِ أي إن يشأ إفناءَكم وإيجادَ آخرين يذهبْكم الخ ، يعني أن إبقاءَكم على ما أنتم عليه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم ولعدم تعلقِ مشيئتِه المبنيةِ على الحِكَم البالغةِ بإفنائكم لا لعجزه سبحانه ، تعالى عن ذلك علواً كبيراً { وَكَانَ الله على ذلك } أي على إفنائكم بالمدة وإيجاد آخرين دفعة مكانكم { قَدِيراً } بليغَ القدرةِ فيه لا سيما في توسط الخطابِ بين الجزاءِ وما عُطف عليه من تشديد التهديد ما لا يخفى ، وقيل : خطاب لمن عادى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من العرب ، أي إن يشأ يُمِتْكم ويأتِ بأناس آخرين يوالونه فمعناه هو معنى قوله تعالى : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أمثالكم } ويروى أنها لما نزلت ضرب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده على ظهر سلمانَ وقال : « إنهم قومُ هذا يريد أبناءَ فارسَ » { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا } كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة { فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والاخرة } أي فعنده تعالى ثوابُهما له إن أراده فما له يطلُب أخسَّهما فليطلُبْهما كمن يقول : ربنا آتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً أو لِيَطلُبْ أشرفَهما فإن من جاهد خالصاً لوجه الله تعالى لم تُخطِئْه الغنيمةُ وله في الآخرة ما هي في جنبه كَلاَ شيءٍ أي فعند الله ثوابُ الدارين فيعطي كلاًّ ما يريده كقوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاخرة نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ } الآية ، { وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً } عالماً بجميع المسموعاتِ والمُبصَرات فيندرج فيها ما صدَر عنهم من الأقوال والأعمالِ المتعلقةِ بمراداتهم اندراجاً أولياً .(2/166)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط } مبالِغين في العدْل وإقامةِ القسطِ في جميع الأمورِ مجتهدين في ذلك حقَّ الاجتهاد { شُهَدَاء الله } بالحق تقيمون شهاداتِكم لوجه الله تعالى وهو خبرٌ ثانٍ وقيل : حال { وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } أي لو كانت الشهادةُ على أنفسكم بأن تُقِرُّوا عليها على أن الشهادةَ عبارةٌ عن الإخبار بحق الغيرِ سواءٌ كان ذلك عليه أو على ثالث بأن تكونَ الشهادةُ مستتبِعةً لضرر ينالكم من جهة المشهودِ عليه { أَوِ الوالدين والاقربين } أي ولو كانت على والدِيكم وأقاربِكم { إِن يَكُنَّ } أي المشهودُ عليه { غَنِيّاً } يبتغى في العادة رضاه ويتقى سَخَطُه { أَوْ فَقَيراً } يُترحّم عليه غالباً ، وقرىء إن يكن غنيٌّ أو فقيرٌ على أن كان تامةٌ وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالة قوله تعالى : { فالله أولى بِهِمَا } عليه فلا يمتنعوا عنها طلباً لرضا الغِنى أو ترحماً على الفقير فإن الله تعالى أَولى بجنسي الغنيِّ والفقير المدلولِ عليهما بما ذكر ولو أن الشهادةَ عليهما مصلحةٌ لهما لما شرَعها وقرىء أَوْلى بهم { فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى أَن تَعْدِلُواْ } أي مخافةَ أن تعدِلوا عن الحق فإن اتباعَ الهوى من مظانِّ الجَوْرِ الذي حقُّه أن يُخافَ ويُحذر ، وقيل : كراهةَ أن تعدِلوا بين الناسِ أو إرادةَ أن تعدِلوا بين الناسِ أو إرادةَ أن تعدِلوا عن الحق { وَإِن تَلْوُواْ } أي ألسنتَكم عن شهادة الحقِّ أو حكومةِ العدلُ بأن تأتوا بها لا على وجهها ، وقرىء وإن تلُوا من الولاية والتصدي أي وإن وَلِيتم إقامةَ الشهادة { أَوْ تُعْرِضُواْ } أي عن إقامتها رأساً { فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ } مِن لَيِّ الألسنةِ والإعراضِ بالكلية أو من جميعِ الأعمالِ التي من جُملتها ما ذكر { خَبِيراً } فيجازيكم لا محالة على ذلك فهو على القراءة المشهورةِ وعيدٌ محضٌ وعلى القراءة الأخيرةِ متضمِّنٌ للوعيد .
{ يأيُّها الَّذِينَ آمنُوا } خطابٌ لكافة المسلمين فمعنى قولِه تعالى : { آمنُوا بالله وَرَسُولِهِ والكتاب الذى نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذى أَنَزلَ مِن قَبْلُ } اثبُتوا على الإيمان بذلك ودُوموا عليه وازدادوا فيه طُمأْنينةً ويقيناً أو آمِنوا بما ذُكر متصلاً بناء على أن إيمانَ بعضِهم إجماليٌّ ، والمرادُ بالكتاب الثاني الجنسُ المنتظِمُ لجميع الكتب السماوية لقوله تعالى : { وَكُتُبِهِ } وبالإيمان به الإيمانُ بأن كلَّ كتاب من تلك الكتبِ مُنزَّلٌ منه تعالى على رسول معينٍ لإرشاد أمتِه إلى ما شرَع لهم من الدين بالأوامر والنواهي لكن لا على أن مدارَ الإيمانِ بكل واحدٍ من تلك الكتبِ خصوصيةُ ذلك الكتابِ ، ولا على أن أحكامَ تلك الكتبِ وشرائعَها باقيةٌ بالكلية ولا على أن الباقيَ منها معتبرٌ بالإضافة إليها بل على أن الإيمانَ بالكل مندرجٌ تحت الإيمانِ بالكتاب المنزلِ على رسوله وأن أحكامَ كلَ منها كانت حقةً ثابتةً إلى ورود ما نسخها وأن ما لم ينسَخْ منها إلى الآن من الشرائع والأحكامِ ثابتةٌ من حيث إنها من أحكام هذا الكتابِ الجليلِ المصونِ عن النسخ والتبديلِ كما مر في تفسير خاتمةِ سورة البقرةِ ، وقرىء نُزل وأُنزل على البناء للمفعول ، وقيل : ( هو خطابٌ لمؤمني أهلِ الكتابِ لما أن عبدَ اللَّه بنَ سلام وابنَ أختِه سلامةَ وابنَ أخيه سَلَمةَ وأسَداً وأُسيداً بنيْ كعبٍ وثعلبةَ بنَ قيسٍ ويامينَ بنَ يامينَ أتَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراةِ وعزيرٍ ، ونكفر بما سواه من الكتب والرسُلِ ، فقال عليه السلام :(2/167)
« بل آمِنوا بالله ورسولِه محمدٍ وكتابه القرآنِ وبكل كتابٍ كان قبله » ، فقالوا : لا نفعل فنزلت ) فآمنوا كلُّهم فأمرهم بالإيمان بالكتاب المتناوِلِ للتوراة مع أنهم مؤمنون بها من قبلُ ليس لكون المرادِ بالإيمان ما يعُمّ إنشاءَه والثباتَ عليه ولا لأن متعلَّقَ الأمر حقيقةً هو الإيمانُ بما عداها كأنه قيل : آمِنوا بالكل ولا تخُصُّوه بالبعض بل لأن المأمورَ له إنما هو الإيمانُ بها في ضمن الإيمانِ بالقرآن على الوجه الذي أشير إليه آنفاً لا إيمانُهم السابقُ ، ولأن فيه حملاً لهم على التسوية بينها وبين سائر الكتبِ في التصديق لاشتراك الكلِّ فيما يوجبه وهو النزولُ من عند الله تعالى ، وقيل : خطابٌ لأهل الكتابين فالمعنى آمنوا بالكل لا ببعض دون بعضٍ وأمرٌ لكل طائفةٍ بالإيمان بكتابه في ضمن الأمرِ بالإيمان بجنس الكتابِ لما ذكر ، وقيل : هو للمنافقين ، فالمعنى آمِنوا بقلوبكم لا بألسنتكم فقط { وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الاخر } أي بشيء من ذلك { فَقَدْ ضَلَّ ضلالا بَعِيداً } عن المقصِد بحيث لا يكاد يعود إلى طريقه ، وزيادةُ الملائكةِ واليومِ الآخرِ في جانب الكفرِ لما أنه بالكفر بأحدهما لا يتحقق الإيمانُ أصلاً ، وجمعُ الكتبِ والرسلِ لما أن الكفرَ بكتاب أو برسول كفرٌ بالكل ، وتقديمُ الرسولِ فيما سبق لذكر الكتابِ بعنوان كونِه منزلاً عليه ، وتقديمُ الملائكة والكتبِ على الرسل لأنهم وسائطُ بين الله عز وجل وبين الرسلِ في إنزال الكتب .(2/168)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)
{ إِنَّ الذين ءامَنُواْ } قال قتادة : هم اليهودُ آمنوا بموسى { ثُمَّ كَفَرُواْ } بعبادتهم العجلَ { ثُمَّ آمنوا } عند عَودِه إليهم { ثُمَّ كَفَرُواْ } بعيسى والإنجيل { ثُمَّ ازدادوا كُفْراً } بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : هم قومٌ تكررَ منهم الارتدادُ وأصرّوا على الكفر وازدادوا تمادياً في الغي { لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } لما أنه يُستبعد منهم أن يتوبوا عن الكفر ويثبُتوا على الإيمان فإن قلوبَهم قد ضربت بالكفر وتمرّنت على الرِّدة ، وكان الإيمانُ عندهم أهونَ شيء وأدونَه لا أنهم لو أخلصوا الإيمانَ لم يُقبل منهم ولم يغفَرْ لهم ، وخبرُ كان محذوفٌ أي مريداً ليغفر لهم . وقولُه عز وجل : { بَشّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } يدل على أن المرادَ بالمذكورين الذين آمنوا في الظاهر نِفاقاً وكفروا في السر مرةً بعد أخرى ثم ازدادوا كفراً ونفاقاً ، ووضعُ التبشيرِ موضعَ الإنذار تهكماً بهم .(2/169)
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
{ الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاء } في محل نصبٍ أو الرفعُ على الذم بمعنى أريد بهم الذين ، أو هم الذين ، وقيل : نُصب على أنه صفةٌ للمنافقين وقوله تعالى : { مِن دُونِ المؤمنين } حال من فاعل يتخذون أي يتخذون الكفرةَ أنصاراً متجاوزين ولايةَ المؤمنين وكانوا يوالونهم ويقول بعضُهم لبعض : لا يتم أمرُ محمدٍ عليه الصلاة والسلام فتولَّوا اليهود { أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة } إنكارٌ لرأيهم وإبطالٌ له وبيانٌ لخيبة رجائِهم وقطعٌ لأطماعهم الفارغةِ ، والجملةُ معترضةٌ مقررةٌ لما قبلها أي أيطلُبون بموالاة الكَفرةِ القوةَ والغلبة؟ قال الواحدي : أصلُ العزة الشدةُ ومنه قيل للأرض الشديدة الصُلبة : عَزازٌ ، وقوله تعالى : { فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً } تعليلٌ لما يفيده الاستفهامُ الإنكاريُّ من بطلان رأيِهم وخَيبةُ رجائهم فإن انحصارَ جميعِ أفرادِ العزةِ في جنابه عز وعلا بحيث لا ينالها إلا أولياؤُه الذين كُتب لهم العزةُ والغَلَبةُ ، قال تعالى : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } يقضي ببطلان التعززِ بغيره سبحانه وتعالى واستحالةِ الانتفاعِ به ، وقيل : هو جوابُ شرط محذوفٍ كأنه قيل : إن يبتغوا عندهم العزةَ فإن العزةَ لله ، وجميعاً حال من المستكنّ في قوله تعالى : { لِلَّهِ } لاعتماده على المبتدأ { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ } خطابٌ للمنافقين بطريق الالتفاتِ مفيدٌ لتشديد التوبيخِ الذي يستدعيه تعدادُ جناياتِهم وقرىء مبنياً للمفعول من التنزيل والإنزالِ ونزَلَ أيضاً مخففاً والجملةُ حال من ضمير يتخذون أيضاً مفيدةٌ لكمال قباحةِ حالِهم ونهاية استعصائِهم عليه سبحانه ببيان أنهم فعلوا ما فعلوا من موالاة الكفرة مع تحقق ما يمنعهم من ذلك وهو ورودُ النهي الصريحِ عن مجالستهم المستلزمِ للنهي عن موالاتهم على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه إثرَ بيانِ انتفاءِ ما يدعوهم إليه بالجملة المعترضة ، كأنه قيل : تتخذونهم أولياءَ والحالُ أنه تعالى قد نزّل عليكم قبل هذا بمكة { فِى الكتاب } أي القرآنِ الكريم { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايات الله يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ } وذلك قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِى ءاياتنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } الآية ، وهذا يقتضي الانزجارَ عن مجالستهم في تلك الجالةِ القبيحةِ فكيف بموالاتهم والاعتزازِ بهم؟ .
وأنْ هي المخففةُ من أنّ وضميرُ الشأنِ الذي هو اسمُها محذوفٌ ، والجملةُ الشرطية خبرُها ، وقولُه تعالى : { يَكْفُرُ بِهَا } حالٌ من آيات الله ، وقوله تعالى : { وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا } عطفٌ عليه داخلٌ في حكم الحاليةِ ، وإضافةُ الآياتِ إلى الاسم الجليلِ لتشريفها وإبانةِ خطرِها وتهويلِ أمر الكفرِ بها ، أي نزل عليكم في الكتاب أنه إذا سمعتم آياتِ الله مكفوراً بها ومستهزَأً بها ، وفيه دِلالةٌ على أن المنزلَ على النبي عليه السلام وإن خوطب به خاصةً منزلٌ على الأمة وأن مدارَ الإعراضِ عنهم هو العلمُ بخوضهم في الآيات ولذلك عبّر عن ذلك تارةً بالرؤية وأخرى بالسماع ، وأن المرادَ بالإعراض إظهارُ المخالفةِ بالقيام عن مجالسهم لا الإعراضُ بالقلب أو بالوجه فقط والضميرُ في معهم للكفرة المدلولِ عليهم بقوله تعالى : { يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا } .(2/170)
{ إِنَّكُمْ أَذِنَ مّثْلُهُمْ } جملةٌ مستأنفةٌ سيقت لتعليل النهي غيرُ داخلةٍ تحت التنزيلِ وإذن ملغاةٌ عن العمل لوقوعها بين المبتدأ والخبر ، أي لا تقعدوا معهم في ذلك الوقتِ إنكم إن فعلتموه كنتم مثلَهم في الكفر واستتباعِ العذابِ ، وإفرادُ المثلِ لأنه كالمصدر أو للاستغناء بالإضافة إلى الجمع وقرىء شاذاً مثلَهم بالفتح لإضافته إلى غير متمكّن كما في قوله تعالى : { مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } وقيل : هو منصوب على الظرفية أي في مثل حالهم وقوله تعالى : { إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً } تعليلٌ لكونهم مثلَهم في الكفر ببيان ما يستلزمه من شِرْكتهم لهم في العذاب والمرادُ بالمنافقين إما المخاطَبون وقد وُضع موضِعَ ضميرِهم الظاهِرِ تسجيلاً بنفاقهم وتعليلاً للحكم بمأخذ الاشتقاقِ ، وإما الجنسُ وهم داخلون تحته دخولاً أولياً ، وتقديمُ المنافقين على الكافرين لتشديد الوعيدِ على المخاطبين ونصبُ جميعاً مثلُ ما قبله .(2/171)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)
{ الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى المؤمنين بتعديد بعضٍ آخرَ من جنايات المنافقين وقبائحِهم وهو إما بدلٌ من الذين يتخذون أو صفةٌ للمنافقين فقط إذ هم المتربصون دون الكافرين ، أو مرفوعٌ أو منصوب على الذم أي ينتظرون أمرَكم وما يحدُث لكم من ظفَر أو إخفاقٍ ، والفاء في قوله تعالى : { فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ الله } لترتيب مضمونِه على ما قبلها فإن حكايةَ تربُّصِهم مستتبعةٌ لحكاية ما يقع بعد ذلك كما أن نفس التربُّص يستدعي شيئاً ينتظر المتربَّصُ وقوعَه .
{ قَالُواْ } أي لكم { أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } أي مُظاهرين لكم فأسهموا لنا في الغنيمة { وَإِن كَانَ للكافرين نَصِيبٌ } من الحرب فإنها سِجالٌ { قَالُواْ } أي للكفرة { أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } أي ألم نغلِبْكم ونتمكنْ من قتلكم وأسرِكم فأبقَينا عليكم { وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ المؤمنين } بأن ثبّطناهم عنكم وخيّلنا لهم ما ضَعُفَت به قلوبُهم ومرِضوا في قتالكم وتوانَينا في مظاهرتهم وإلا لكنتم نُهبةً للنوائب فهاتوا نصيباً لنا مما أصبتم ، وتسميةُ ظفرِ المسلمين فتحاً وما للكافرين نصيباً لتعظيم شأنِ المسلمين وتحقيرِ حظِّ الكافرين ، وقرىء ونمنعَكم بإضمار أن { فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة } حكماً يليق بشأن كلَ منكم من الثواب والعقاب ، وأما في الدنيا فقد أُجريَ على من تفوه بكلمة الإسلام حُكمُه ولم يضع السيفَ على من تكلم بها نفاقاً { وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلاً } حينئذ كما قد يجعل ذلك في الدنيا بطريق الابتلاءِ والاستدراجِ أو في الدنيا على أن المرادَ بالسبيل الحجة .
{ إِنَّ المنافقين يخادعون الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ } كلام مبتدأٌ سيق لبيان طرفٍ آخرَ من قبائح أعمالِهم أي يفعلون ما يفعل المخادِعُ من إظهار الإيمانِ وإبطانِ نقيضِه والله فاعلٌ بهم ما يفعل الغالبُ في الخدّاع حيث تركهم في الدنيا معصومي الدماء والأموالِ وأعد لهم في الآخرة الدرْكَ الأسفلَ من النار ، وقد مر التحقيقُ في صدر سورة البقرةِ ، وقيل : يُعطَوْن على الصراط نوراً كما يعطى المؤمنون فيمضون بنورهم ثم يُطفأ نورُهم ويبقى نورُ المؤمنين فينادون انظُرونا نقتبِسْ من نوركم .
{ وإذا قَامُوا إلَى الصَّلاةِ قَامُوا كسالى } متثاقلين كالمكره على الفعل ، وقرىء بفتح الكاف وهما جَمْعا كَسْلانَ { يُرَاءونَ الناس } ليحسَبوهم مؤمنين والمراءاةُ مفاعلة بمعنى التفعيل كنَعِم وناعم أو للمقابلة فإن المرائيَ يُري غيرَه عملَه وهو يُريه استحسانَه ، والجملةُ إما استئنافٌ مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل : فماذا يريدون بقيامهم إليها كُسالى؟ فقيل : يراءون الخ ، أو حالٌ من ضمير قاموا { وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً } عطف على يراءون أي لا يذكرونه سبحانه إلا ذكراً قليلاً وهو ذكرُهم باللسان فإنه بالإضافة إلى الذكر بالقلب قليلٌ أو إلا زماناً قليلاً أو لا يصلّون إلا قليلاً لأنهم لا يصلّون إلا بمرأى من الناس وذلك قليلٌ ، وقيل : لا يذكرونه تعالى في الصلاة إلا قليلاً عند التكبيرِ والتسليمِ .(2/172)
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
{ مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك } حال من فاعل يراءون أو منصوبٌ على الذمِّ وذلك إشارةٌ إلى الإيمان والكفرِ المدلولِ عليهما بمعونة المقامِ أي متردّدين بينهما متحيرين قد ذبذبهم الشيطانُ ، وحقيقةُ المذبذبِ ما يُذَبّ ويُدفع عن كِلا الجانبين مرةً بعد أخرى ، وقرىء بكسر الذالِ أي مذَبْذِبين قلوبَهم أو رأيَهم أو دينَهم أو بمعنى متذبذبين كما جاء صَلْصَل بمعنى تَصَلْصَل وفي مصحف ابن مسعودٍ رضي الله عنه متذبذبين وقرىء مدبدبين بالدال غير المعجمة وكأن المعنى أخذ بهم تارة في دُبَّةٍ أي طريقة وأخرى في أخرى .
{ لاَ إلى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء } أي لا منسوبين إلى المؤمنين ولا منسوبين إلى الكافرين أوْ لا صائرين إلى الأولين ولا إلى الآخَرين فمحلُّه النصبُ على أنه حالٌ من ضمير مذبذبين ، أو على أنه بدلٌ منه أو بيانٌ وتفسيرٌ له { وَمَن يُضْلِلِ الله } لعدم استعدادِه للهداية والتوفيق { فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } موصِلاً إلى الحق والصواب فضلاً عن أن تهديَه إليه ، والخطابُ لكل من يصلُح له كائناً من كان { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين } نُهوا عن موالاة الكفرةِ صريحاً وإن كان في بيان حالِ المنافقين زجرٌ عن ذلك مبالغةً في الزجر والتحذير { أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } أي أتريدون بذلك أن تجعلوا لله عليكم حجةً بيّنةً على أنكم منافقون فإن موالاتَهم أوضحُ أدلةِ النفاقِ أو سلطاناً يُسلِّط عليكم عقابَه .
وتوجيهُ الإنكارِ إلى الإرادة دون متعلَّقِها بأن يقال : أتجعلون الخ ، للمبالغة في إنكارِه وتهويلِ أمرِه ببيان أنه مما لا يصدُر عن العاقل إرادتُه فضلاً عن صدور نفسِه كما في قوله عز وجل : { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ }(2/173)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
{ إنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } وهو الطبقة التى فى قعر جهنم وإنما كان ذلك لأنهم أخبث الكفرة حيث ضموا إلى الكفر الاستهزاء بالإسلام وأهله وخداعهم وأما قوله صلى الله عليه وسلم « ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان » ونحوه فمن باب التشديد والتهديد والتغليظ مبالغة فى الزجر وتسمية طبقاتها السبع دركات لكونها متداركة متتابعة بعضها تحت بعض وقرئ بفتح الراء وهو لغة كالسطر ويعضده أن جمعه أدراك { ولن تجد لهم نصيراً } يخلصهم منه والخطاب كما سبق { إلا الذين تابوا } أى عن النفاق وهو استثناء من المنافقين بل من ضميرهم فى الخبر { وأصلحوا } ما أفسدوا من أحوالهم فى حال النفاق { واعتصموا بالله } أى وثقوا به وتمسكوا بدينه { وأخلصوا دينهم } أى جعلوه خالصاً { لله } لا يبتغون بطاعتهم إلا وجهه { فأولئك } إشاة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فى حيز الصلة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد المنزلة وعلو الطبقة { مع المؤمنين } أى المؤمنين المعهودين الذين لم يصدر عنهم نفاق أصلا منذ آمنوا وإلا فهم أيضاً مؤمنون أى معهم فى الدرجات العالية من الجنة وقد بين ذلك قوله تعالى { وسوف يؤتى الله المؤمنين أجراً عظيماً } لا يقادر قدره فيساهمونهم فيه { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم } استئناف مسوق لبيان أن مدار تعذيبهم وجوداً وعدماً إنما هو كفرهم لا شئ آخر فيكون مقرراً لما قبله من إثابتهم عن توبتهم وما استفهامية مفيدة للنفى على أبلغ وجه وآكده أى أى شئ يفعل الله سبحانه بتعذيبكم أيتشفى به من الغيظ أم يدرك به الثأر أم يستجلب به نفعاً أم يستدفع به ضرراً كما هو شأن الملوك وهو الغنى المتعالى عن أمثال ذلك وإنما هو أمر يقتضيه كفركم فإذا زال ذلك بالإيمان والشكر انتفى التعذيب لا محالة وتقديم الشكر على الإيمان لما أنه طريق موصل إليه فإن النظر يدرك أولا ما عليه من النعم الأنفسية والآنانية فيشكر شكراً مبهماً ثم يترقى إلى معرفة المنعم فيؤمن به وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه { وكان الله شاكراً } الشكر من الله سبحانه هو الرضا باليسير من طاعة عباده وأضعاف الثواب بمقابلته { عليماً } مبالغاً فى العلم بجميع المعلومات التى من جملتها شكركم وإيمانكم فيستحيل أن لا يوفيكم أجوركم { لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول } عدمُ محبتِه تعالى لشيء كنايةٌ عن سَخَطه والباءُ متعلقةٌ بالجهر ، ومِنْ بمحذوف وقع حالاً من السوء أي لا يحب الله تعالى أن يجهرَ أحدٌ بالسوء كائناً من القول { إَلاَّ مَن ظَلَمَ } أي إلا جهرَ مَن ظُلم بأن يدعُوَ على ظالمه أو يَتظلَّمَ منه ويذكرَه بما فيه من السوء فإن ذلك غيرُ مسخوط عنده سبحانه ، وقيل : هو أن يبدأ بالشتيمة فيردَّ على الشاتم { وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ } الآية ، وقيل : ( ضافَ رجلٌ قوماً فلم يُطعِموه فاشتكاهم فعوتب على الشكاية فنزلت ) . وقرىء إلا من ظَلَم على البناء للفاعل فالاستثناءُ منقطِعٌ أي ولكنِ الظالمُ يرتكب ما لا يُحبه الله تعالى فيجهر بالسوء { وَكَانَ الله سَمِيعاً } لجميع المسموعاتِ فيندرجُ فيها كلامُ المظلومِ والظالم { عَلِيماً } بجميع المعلوماتِ التي من جملتها حالُ المظلومِ والظالم ، فالجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لما يفيده الاستثناء .(2/174)
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
{ إِن تُبْدُواْ خَيْراً } أيَّ خيرٍ كان من الأقوال والأفعالِ { أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوء } مع ما سُوِّغ لكم من مؤاخذة المسيءِ والتنصيفِ عليه مع اندراجه في إبداء الخيرِ وإخفائه لما أنه الحقيقُ بالبيان ، وإنما ذُكر إبداءُ الخير وإخفاؤه بطريق التسبيب له كما ينبىء عنه قوله عز وجل : { فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً } فإن إيرادَه في معرِض جوابِ الشرطِ يدل على أن العُمدة هو العفوُ مع القدرة أي كان مبالِغاً في العفو مع كمال قدرتِه على المؤاخذة . وقال الحسن : يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسُنة الله تعالى ، وقال الكلبي : هو أقدر على عفو ذنوبِكم منكم على عفو ذنوبِ مَنْ ظلمكم ، وقيل : عفُوّاً عمن عفا قديراً على إيصال الثوابِ إليه { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ } أي يؤدِّي إليه مذهبُهم ويقتضيه رأيُهم لا أنهم يصرِّحون بذلك كما ينبىء عنه قولُه تعالى : { وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ } أي بأن يؤمنوا به تعالى ويكفُروا بهم لكن لا بأن يصرِّحوا بالإيمان به تعالى وبالكفر بهم قاطبةً بل بطريق الاستلزامِ كما يحكيه قوله تعالى : { وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ } أي نؤمن ببعض الأنبياءِ ونكفُر ببعضهم كما قالت اليهودُ بموسى والتوراةِ وعزيرٍ ، ونكفر بما وراء ذلك وما ذاك إلا كفرٌ بالله تعالى ورسُلِه وتفريقٌ بين الله تعالى ورسُله في الإيمان لأنه تعالى قد أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياءِ عليهم السلام وما من نبيَ من الأنبياء إلا وقد أخبر قومَه بحقية دينِ نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وعليهم أجمعين ، فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل وبالله تعالى أيضاً من حيث لا يحتسب { وَيُرِيدُونَ } بقولهم ذلك { أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك } أي بين الإيمان والكفرِ { سَبِيلاً } يسلُكونه مع أنه لا واسطةَ بينهما قطعاً إذِ الحقُّ لا يتعدد وماذا بعد الحقِّ إلا الضلال .
{ أولئك } الموصوفون بالصفات القبيحةِ { هُمُ الكافرون } الكاملون في الكفر لا عبرةَ بما يدّعونه ويسمونه إيماناً أصلاً { حَقّاً } مصدرٌ مؤكدٌ لمضمون الجملةِ أي حَقَّ ذلك أي كونُهم كاملين في الكفر حقاً ، أو صفةٌ لمصدر الكافرين أي هم الذين كفروا كفراً حقاً أي ثابتاً يقيناً لا ريب فيه { وَأَعْتَدْنَا للكافرين } أي لهم وإنما وُضع المُظهرُ مكان المُضمرِ ذماً لهم وتذكيراً لوصفهم أو لجميع الكافرين وهم داخلون في زُمرتهم دخولاً أولياً { عَذَاباً مُّهِيناً } سيذوقونه عند حُلولِه .(2/175)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
{ والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } أي على الوجه الذي بُيّن في تفسير قولِه تعالى : { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } الآية ، { وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ } بأن يؤمنوا ببعضهم ويكفروا بآخَرين كما فعله الكفرة ، ودخولُ { بَيْنَ } على أحد قد مر تحقيقه في سورة البقرة بما لا مزيدَ عليه { أولئك } المنعوتون بالنعوت الجليلةِ المذكورةِ { سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ } الموعودةَ لهم وتصديرُه بسوف لتأكيد الوعدِ والدلالةِ على أنه كائنٌ لا محالةَ وإنْ تراخى ، وقرىء نُؤتيهم بنون العظمة { وَكَانَ الله غَفُوراً } لما فرَط منهم { رَّحِيماً } مبالغاً في الرحمة بتضعيف حسناتِهم .
{ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كتابا مّنَ السماء } نزلت ( في أحبار اليهودِ حين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت نبياً فأتِنا بكتاب من السماء جملةً كما أتى به موسى عليه الصلاة والسلام ) وقيل : كتاباً محرَّراً بخطَ سماويَ على اللوح كما نزلت التوراةُ ، أو كتاباً نُعايِنُه حين يَنزِل ، أوْ كتاباً إلينا بأعياننا بأنك رسولُ الله ، وما كان مقصِدُهم بهذه العظيمة إلا التحكمَ والتعنّتَ . قال الحسنُ : ولو سألوه لكي يتبيَّنوا الحقَّ لأعطاهم وفيما آتاهم كفاية { فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك } جوابُ شرطٍ مقدّر ، أي إن استكبرتَ ما سألوه منك فقد سألوا موسى شيئاً أكبرَ منه ، وقيل : تعليلٌ للجواب أي فلا تُبالِ بسؤالهم فقد سألوا موسى أكبرَ منه ، وهذه المسألةُ وإن صدَرت عن أسلافهم لكنهم لما كانوا مقتدين بهم في كل ما يأتون وما يذرون أُسنِدت إليهم ، والمعنى أن لهم في ذلك عِرْقاً راسخاً وأن ما اقترحوه عليك ليس أولَ جهالاتِهم { فَقَالُواْ أَرِنَا الله جَهْرَةً } أي أرِناه نَرَهُ جهرةً أي عِياناً أو مجاهرين معاينين له ، والفاءُ تفسيريةٌ { فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة } أي النارُ التي جاءتهم من السماء فأهلكتهم ، وقرىء الصعقةُ { بِظُلْمِهِمْ } أي بسبب ظلمِهم وهو تعنتُهم وسؤالُهم لما يستحيل في تلك الحالةِ التي كانوا عليها ، وذلك لا يقتضي امتناعَ الرؤيةِ مطلقاً { ثُمَّ اتخذوا العجل مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات } أي المعجزاتِ التي أظرها لفرعون من العصا واليدِ البيضاءِ وفلْقِ البحر وغيرِها ، لا التوراةُ ، لأنها لم تنزلْ عليهم بعد { فَعَفَوْنَا عَن ذلك } ولم نستأصِلْهم وكانوا أحقاءَ به . قيل : هذا استدعاءٌ لهم إلى التوبة كأنه قيل : إن أولئك الذين أجرموا تابوا فعفونا عنهم فتوبوا أنتم أيضاً حتى نعفوَ عنكم .
{ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن } سلطاناً ظاهراً حيث أمرهم بأن يقتُلوا أنفسَهم توبةً عن معصيتهم .(2/176)
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
{ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بميثاقهم } أي بسبب ميثاقِهم ليُعطوه على ما روي أنهم هموا بنقضه فرفع الله تعالى عليهم الجبلَ فجاؤا وأقلعوا عن النقض وهو الأنسبُ بما سيأتي من قوله عز وجل : { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ميثاقا غَلِيظاً } { وَقُلْنَا لَهُمُ } على لسان موسى عليه السلام والطورُ يظلِّلهم { ادخلوا الباب } قال قتادة : كنا نحدَّث أنه بابٌ من أبواب بيتِ المقدس ، وقيل : هو إيليا ، وقيل : هو أريحا ، وقيل : هو اسمُ قريةٍ ، وقيل : بابُ القُبةِ التي كانوا يصلون إليها فإنهم لم يدخُلوا بيتَ المقدسِ في حياة موسى عليه السلام { سُجَّدًا } أي متطامنين خاضعين { وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ } أي لا تظلِموا باصطياد الحيتانِ { فِى السبت } وقرىء لا تعتدوا ولا تعَدّوا بفتح العين وتشديد الدال على أن أصله تعتدوا فأدغمت التاءُ في الدال لتقاربهما في المخرج بعد نقل حركتها إلى العين { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ } على الامتثال بما كُلّفوه { ميثاقا غَلِيظاً } مؤكداً وهو العهدُ الذي أخذه الله عليهم في التوراة ، قيل : إنهم أعطَوا الميثاقَ على أنهم إن همّوا بالرجوع عن الدين فالله تعالى يعذِّبهم بأي أنواع العذاب أراد .
{ فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم } ما مزيدةٌ للتأكيد أو نكرةٌ تامةٌ ونقضُهم بدلٌ منها والباءُ متعلقةٌ بفعل محذوفٍ أي فسبب نقضِهم ميثاقَهم ذلك فعلْنا بهم ما فعلنا من اللعن والمسخِ وغيرِهما من العقوبات النازلةِ عليهم أو على أعقابهم . روي أنهم اعتَدَوا في السبت في عهد داودَ عليه السلام فلُعنوا ومُسِخوا قِردةً ، وقيل : متعلقةٌ بحَرَّمْنا على أن قوله تعالى : { فَبِظُلْمٍ } بدل من قوله تعالى : { فَبِمَا } وما عطف عليه فيكون التحريمُ معلّلاً بالكل ، ولا يخفى أن قولَهم : إنا قتلنا المسيحَ وقولَهم على مريمَ البهتانُ متأخرٌ عن التحريم ولا مساغ لتعلّقها بما دل عليه قوله تعالى : { بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } لأنه رد لقولهم : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } فيكون من صلة قولِه تعالى : { وَقَوْلِهِمْ } المعطوفِ على المجرور فلا يعمل في جاره { وَكُفْرِهِم بئايات الله } أي بالقرآن أو بما في كتابهم { وَقَتْلِهِمُ الانبياء بِغَيْرِ حَقّ } كزكريا ويحيى عليهما السلام { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } جمعُ أغلفَ أي هي مغشاةٌ بأغشية جِبِلِّيةٍ لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم أو هو تخفيفُ غُلُفٌ جمع غِلاف أي هي أوعيةٌ للعلوم فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره قاله ابن عباس وعطاء ، وقال الكلبي : يعنون أن قلوبَنا بحيث لا يصل إليها حديثٌ إلا وعتْه ولو كان في حديثك خيرٌ لوعتْه أيضاً { بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } كلامٌ معترِضٌ بين المعطوفَين جيء به على وجه الاستطرادِ مسارعةً إلى رد زعمِهم الفاسدِ أي ليس كفرُهم وعدمُ وصولِ الحقِّ إلى قلوبهم لكونها غُلفاً بحسب الجِبِلّة بل الأمرُ بالعكس حيث ختم الله عليها بسبب كفرهم أو ليست قلوبُهم كما زعموا بل هي مطبوعٌ عليها بسبب كفرِهم { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } منهم كعبد اللَّهِ بن سلام وأضرابِه أو إلا إيماناً قليلاً لا يُعبأ به .(2/177)
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)
{ وَبِكُفْرِهِمْ } أي بعيسى عليه السلام ، وهو عطفٌ على { قولهم } وإعادةُ الجارِّ لطول ما بينهما بالاستطراد ، وقد جُوِّز عطفُه على بكفرهم فيكون هو وما عُطف عليه من أسباب الطبعِ ، وقيل : هذا المجموعُ معطوفٌ على مجموع ما قبلَه ، وتكريرُ ذكر الكفرِ للإيذان بتكرُّر كفرِهم حيث كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد عليهم الصلاة والسلام { وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيماً } لا يقادَر قدرُه حيث نسبوها إلى ما هي عنه بألف منزل { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله } نظمُ قولِهم هذا في سلك جناياتِهم التي نُعيت عليهم ليس لمجرد كونِه كذباً بل لتضمُّنه لابتهاجهم بقتل النبيِّ عليه السلام والاستهزاءِ به فإن وصفَهم له عليه السلام بعنوان الرسالةِ إنما هو بطريق التهكّم به عليه السلام كما في قوله تعالى : { وَقَالُواْ يأَيُّهَا الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر } الخ ، ولإنبائه عن ذكرهم له عليه السلام بالوجه القبيحِ على ما قيل من أن ذلك وُضِع للذكر الجميلِ من جهته تعالى مدحاً له ورفعاً لمحله عليه السلام ، وإظهاراً لغاية جَراءتِهم في تصدِّيهم لقتله ونهايةِ وقاحتِهم في افتخارهم بذلك { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ } حالٌ أو اعتراض .
{ ولكن شُبّهَ لَهُمْ } ( رُوي أن رهطاً من اليهود سبُّوه عليه السلام وأُمَّه فدعا عليهم فمسخهم الله تعالى قردةً وخنازيرَ فأجمعت اليهودُ على قتله فأخبره الله تعالى بأنه سيرفعه إلى السماء فقال لأصحابه : أيُّكم يرضى بأن يُلقى عليه شبَهي فيُقتلَ ويصْلَبَ ويدخُلَ الجنة؟ فقال رجل منهم : أنا ، فألقَى الله تعالى عليه شبَهَه فقتل وصُلب ) ، وقيل : كان رجل ينافق عيسى عليه السلام فلما أرادوا قتلَه قال : أنا أدلُّكم عليه فدخل بيتَ عيسى عليه السلام فرُفعَ عيسى عليه السلام وأُلقي شبَهُه على المنافق فدخلوا عليه وقتلوه وهم يظنون أنه عيسى عليه السلام . وقيل : إن ططيانوسَ اليهوديَّ دخل بيتاً كان هو فيه فلم يجده وألقى الله تعالى عليه شبَهه فلما خرج ظُن أنه عيسى عليه السلام فأُخذ وقُتل ، وأمثالُ هذه الخوارقِ لا تستبعد في عصر النبوةِ ، وقيل : إن اليهودَ لما همّوا بقتله عليه السلام فرفعه الله تعالى إلى السماء خاف رؤساءُ اليهودِ من وقوع الفتنةِ بين عوامِّهم فأخذوا إنساناً وقتلوه وصلبوه ولبّسوا على الناس وأظهروا لهم أنه هو المسيحُ وما كانوا يعرفونه إلا بالاسم لعدم مخالطتِه عليه السلام لهم إلا قليلاً ، وشُبّه مسندٌ إلى الجار والمجرور كأنه قيل : ولكن وقع لهم التشبيهُ بين عيسى عليه السلام والمقتولِ ، أو في الأمر على قول من قال : لم يُقتَلْ أحدٌ ولكنِ أُرجِفَ بقتله فشاع بين الناسِ ، أو إلى ضمير المقتولِ لدِلالة { إِنَّا قَتَلْنَا } على أن ثمَّ مقتولاً .
{ وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ } أي في شأن عيسى عليه السلام فإنه لما وقعت تلك الواقعةُ اختلف الناسُ فقال بعضُ اليهودِ : إنه كان كاذباً فقتلناه حتماً ، وتردد آخرون فقال بعضُهم : إن كان عيسى فأين صاحبُنا ، وقال بعضُهم : الوجهُ وجهُ عيسى والبدنُ بدنُ صاحبِنا ، وقال مَنْ سمِع منه عليه السلام إن الله يرفعني إلى السماء : إن رُفع إلى السماء ، وقال قوم : صُلب الناسوتُ وصعِدَ اللاهوت ( وقد مر ) { لَفِى شَكّ مّنْهُ } لفي تردد ، والشكُ كما يطلق على ما لم يترجح أحدُ طرفيه يُطلق على مطلق الترددِ وعلى ما يقابل العلم ولذلك أكد بقوله تعالى : { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن } استثناءٌ منقطعٌ أي لكنهم يتبعون الظن ، ويجوز أن يفسَّر الشكُ بالجهل والعلمُ بالاعتقاد الذي تسكن إليه النفسُ جزماً كان أو غيرَه فالاستثناءُ حينئذ متصلٌ { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } أي قتلاً يقيناً كما زعموا بقولهم : إنا قتلنا المسيحَ ، وقيل : معناه وما علموه يقيناً كما في قول من قال :(2/178)
كذاك تُخبِرُ عنها العالماتُ بها ... وقد قَتَلْتُ بعلمي ذلكم يقَناً
من قولهم : قتلتُ الشيءَ علماً ونحَرتُه علماً إذا تَبالغَ علمُك فيه ، وفيه تهكمٌ بهم لإشعاره بعلمهم في الجملة وقد نُفيَ ذلك عنهم بالكلية .(2/179)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
{ بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ } ردٌّ وإنكارٌ لزعمهم قتلَه وإثباتٌ لرفعه { وَكَانَ الله عَزِيزاً } لا يغالَب فيما يريده { حَكِيماً } في جميع أفعالِه فيدخُل فيها تدبيراتُه تعالى في أمر عيسى عليه السلام دخولاً أولياً { وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب } أي من اليهود والنصارى ، وقوله تعالى : { إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } جملةٌ قَسَمية وقعت صفةً لموصوف محذوفٍ إليه يرجع الضميرُ الثاني والأول لعيسى عليه السلام ، أي وما من أهل الكتاب أحدٌ إلا ليؤمِنَنّ بعيسى عليه السلام قبل أن تَزهَقَ روحُه بأنه عبدُ الله ورسولُه ولاتَ حينَ إيمانٍ لاتقطاع وقتِ التكليفِ ، ويعضُده أنه قرىء ليؤمِنُنّ به قبل موتهم بضم النون لِما أن أحداً في معنى الجمعِ ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ( أنه فسّره كذلك فقال له عِكرِمة : فإن أتاه رجلٌ فضَرَبَ عُنقَه؟ قال : لا تخرُجُ نفسُه حتى يُحرِّك بها شفتيه . قال : فإن خرَّ من فوق بيت أو احترق أو أكله سبُعٌ؟ قال : يتكلم بها في الهواء ولا تخرُجُ روحُه حتى يؤمِنَ به ) . وعن شهرِ بنِ حَوْشبَ ( قال لي الحجاج : آيةٌ ما قرأتُها إلا تَخالَج في نفسي شيءٌ منها يعني هذه الآيةَ ، وقال : إني أوتى بالأسير من اليهود والنصارى فأضربُ عُنقَه فلا أسمعُ منه ذلك ، فقلت : إن اليهوديَّ إذا حضره الموتُ ضربت الملائكةُ دُبُرَه ووجهَه وقالوا : يا عدوَّ الله أتاك عيسى عليه السلام نبياً فكذبتَ به ، فيقول : آمنتُ أنه عبدٌ نبيٌّ ، وتقول للنصراني : أتاك عيسى عليه السلام نبياً فزعمتَ أنه الله أو ابنُ الله فيؤمنُ أنه عبدُ الله ورسولُه حيث لا ينفعه إيمانُه ، قال : وكان متكئاً فاستوى جالساً فنظر إليَّ وقال : ممن سمعتَ هذا؟ قلت : حدثني محمدُ بنُ عليَ بنِ الحنفيةِ فأخذ ينكُث الأرضَ بقضيبه ثم قال : لقد أخذتُها من عين صافية ) ، والإخبارُ بحالهم هذه وعيدٌ لهم وتحريضٌ على المسارعة إلى الإيمان به قبل أن يُضْطروا إليه مع انتفاء جدواه ، وقيل : كلا الضميرين لعيسى ، والمعنى وما من أهل الكتابِ الموجودين عند نزولِ عيسى عليه السلام أحدٌ إلا ليؤمِنَنّ به قبل موته . رُوي ( أنه عليه السلام ينزِلُ من السماء في آخر الزمانِ فلا يبقى أحدٌ من أهل الكتاب إلا يؤمنُ به حتى تكونَ الملةُ واحدةً وهي ملةُ الإسلام ، ويُهلك الله في زمانه الدجالَ وتقعُ الأمنة حتى ترتعَ الأسودُ مع الإبلِ والنمورُ مع البقر ، والذئابُ مع الغنمِ ويلعب الصبيانُ بالحيّاتِ ويلبث في الأرض أربعين سنةً ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفِنونه ) ، وقيل : الضميرُ الأولُ يرجِعُ إلى الله تعالى ، وقيل : إلى محمد صلى الله عليه وسلم { وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ } أي عيسى عليه السلام { عَلَيْهِمْ } على أهل الكتاب { شَهِيداً } فيشهد على اليهود بالتكذيب وعلى النصارى بأنهم دعَوْه ابنَ الله ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .(2/180)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
{ فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ } لعل ذكرَهم بهذا العنوانِ للإيذان بكمالِ عِظَمِ ظلمهم بتذكير وقوعِه بعد ما هادُوا أي تابوا من عبادة العجلِ مثلَ تلك التوبةِ الهائلةِ المشروطةِ ببخْع النفوسِ إثرَ بيانِ عِظَمِه في حد ذاتِه بالتنوين التفخيميِّ ، أي بسبب ظلمٍ عظيمٍ خارجٍ عن حدود الأشباهِ والأشكالِ صادرٍ عنهم { حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ } ولِمن قبلَهم لا بشيء غيرِه كما زعموا فإنهم كانوا كلما ارتكبوا معصيةً من المعاصي التي اقترفوها يُحرَّم عليهم نوعٌ من الطيبات التي كانت محلَّلةً لهم ولمن تقدّمهم من أسلافهم عُقوبةً لهم ، وكانوا مع ذلك يفترون على الله سبحانه ( الكذب ) ويقولون : لسنا بأولِ مَنْ حُرّمت عليه وإنما كانت محرمةً على نوح وإبراهيمَ ومَنْ بعدهم حتى انتهى الأمرُ إلينا فكذبهم الله عز وجل في مواقعَ كثيرةٍ وبكّتهم بقوله تعالى : { كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسراءيل إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسراءيل على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صادقين } أي في ادعائكم أنه تحريم قديم . روي أنه عليه السلام لما كلفهم إخراجَ التوراةِ لم يجسُرْ أحدٌ على إخراجها لِما أن كونَ التحريمِ بظلمهم كان مسطوراً فيها فبُهتوا وانقلبوا صاغرين { وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً } أي ناساً كثيراً أو صداً كثيراً { وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ } فإن الربا كان محرَّماً عليهم كما هو محرَّمٌ علينا ، وفيه دليلٌ على أن النهيَ يدل على حرمة المنهيِّ عنه { وَأَكْلِهِمْ أموال الناس بالباطل } بالرّشوة وسائرِ الوجوهِ المحرَّمةِ { وَأَعْتَدْنَا للكافرين مِنْهُمْ } أي للمُصِرِّين على الكفر لا لمن تاب وآمن من بينهم { عَذَاباً أَلِيماً } سيذوقونه في الآخرة كما ذاقوا في الدنيا عقوبةَ التحريم .
{ لكن الراسخون فِى العلم مِنْهُمْ } استدراكٌ من قوله تعالى : { وَأَعْتَدْنَا } الخ ، وبيانٌ لكون بعضِهم على خلاف حالِهم عاجلاً وآجلاً أي لكن الثابتون في العلم منهم المُتقِنون المستبصِرون فيه غيرُ التابعين للظن كأولئك الجَهَلة والمرادُ بهم عبدُ اللَّهِ بنُ سلام وأصحابُه { والمؤمنون } أي منهم وُصفوا بالإيمان بعدما وُصِفوا بما يوجبُه من الرسوخ في العلم بطريق العطفِ المنبىءِ عن المغايرة بين المعطوفَين تنزيلاً للاختلاف العنواني منزلةَ الاختلافِ الذاتي ، وقوله تعالى : { يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } حالٌ من المؤمنين مبيِّنةٌ لكيفية إيمانِهم ، وقيل : اعتراضٌ مؤكدٌ لما قبله ، وقوله عز وجل : { والمقيمين الصلاة } قيل : نُصب بإضمار فعلٍ تقديرُه وأعني المقيمين الصلاةَ على أن الجملةَ معترضةٌ بين المبتدأ والخبر ، وقيل : هو عطفٌ على ما أُنزل إليك على أن المرادَ بهم الأنبياءُ عليهم السلام أي يؤمنون بالكتب وبالأنبياء أو الملائكة . قال مكي : أي ويؤمنون بالملائكة الذين صِفتُهم إقامةُ الصلاةِ لقوله تعالى : { يُسَبّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } وقيل : عطفٌ على الكاف في إليك أي يؤمنون بما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاةَ وهم الأنبياءُ ، وقيل : على الضمير المجرورِ في منهم أي لكنِ الراسخون في العلم منهم ومِن المقيمين الصلاةَ ، وقرىء بالرفع على أنه معطوفٌ على المؤمنون بناءً على ما مر من تنزيل التغايُرِ العنوانيِّ منزلة التغايُر الذاتيِّ وكذا الحالُ فيما سيأتي من المعطوفَين فإن قوله تعالى : { والمؤتون الزكواة } عطفٌ على المؤمنون مع اتحاد الكلِّ ذاتاً ، وكذا الكلامُ في قوله تعالى : { والمؤمنون بالله واليوم الاخر } فإن المرادَ بالكل مؤمنوا أهلِ الكتابِ قد وُصِفوا أولاً بكونهم راسِخين في علم الكتابِ إيذاناً بأن ذلك موجبٌ للإيمان حتماً وأن مَنْ عداهم إنما بقُوا مُصرِّين على الكفر لعدم رسوخِهم فيه ثم بكونهم مؤمنين بجميع الكتبِ المنزلةِ على الأنبياء ثم بكونهم عاملين بما فيها من الشرائع والأحكامِ ، واكتُفي من بينها بذكر إقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ المستتبعين لسائر العباداتِ البدنيةِ والماليةِ ثم بكونهم مؤمنين بالمبدأ والمعادِ تحقيقاً لحيازتهم الإيمانَ بفطرته وإحاطتِهم به من طرفيه وتعريضاً بأن مَنْ عداهم من أهل الكتابِ ليسوا بمؤمنين بواحد منهما حقيقةً فإنهم مشركون بالله سبحانه بقولهم : عزيرٌ ابنُ الله ، وبقولهم : لن تمسنا النارُ إلا أياماً معدودةً كافرون باليوم الآخِرِ ، وقولُه تعالى : { أولئك } إشارةٌ إليهم باعتبار اتصافِهم بما عُدِّد من الصفات الجميلةِ ، وما فيه من معنى البُعدِ للإشعار بعلو درجتِهم وبُعدِ منزلتِهم في الفضل ، وهو مبتدأ وقوله تعالى : { سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } خبرُه ، والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الذي هو الراسخون وما عطف عليه ، والسينُ لتأكيد الوعدِ ، وتنكيرُ الأجرِ للتفخيم وهذا أنسبُ بتجاوُبِ طرَفي الاستدراكِ حيث أُوعِد الأولون بالعذاب الأليم ووُعِد الآخَرون بالأجر العظيم ، كأنه قيل إثر قولِه تعالى :(2/181)
{ وَأَعْتَدْنَا للكافرين مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } لكنِ المؤمنون منهم سنؤتهم أجراً عظيماً . وأما ما جنَح إليه الجمهورُ من جعل قوله تعالى : { يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } الخ ، خبراً للمبتدأ ففي كمالِ السَّداد أنه غيرُ متعرِّض لتقابُلِ الطرفين وقرىء سيؤتيهم بالياء مراعاةً لظاهر قولِه تعالى : { والمؤمنون بالله } .(2/182)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)
{ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ } جوابٌ لأهل الكتابِ عن سؤالهم رسولَ الله عليه الصلاة والسلام أن ينزلَ عليهم كتاباً من السماء ، واحتجاجٌ عليهم بأنه ليس بِدْعاً من الرسل وإنما شأنُه في حقيقة الإرسالِ وأصلِ الوحي كشأن سائرِ مشاهيرِ الأنبياءِ الذين لا ريب لأحد في نبوَّتهم ، والكافُ في محل نصبٍ على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي إيحاءً مثلَ إيحائِنا إلى نوح ، أو على أنه حالٌ من ذلك المصدرِ المقدر معرّفاً كما هو رأيُ سيبويهِ أي أوحينا الايحاءَ حال كونِه مشبهاً لإيحائنا الخ ، ومن بعدِه متعلقٌ بأوحينا وإنما بُدىء بذكر نوحٍ لأنه أبو البشر وأولُ نبيَ شرَع الله تعالى على لسانه الشرائعَ والأحكامَ وأولُ نبيَ عُذّبت أمتُه لردهم دعوتَه وقد أهلك الله بدعائه أهلَ الأرضِ { وَأَوْحَيْنَا إلى إبراهيم } عطفٌ على أوحينا إلى نوح داخلٌ معه في حكم التشبيهِ أي وكما أوحينا إلى إبراهيم { وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطَ } وهم أولادُ يعقوبَ عليهم السلام { وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وهارون وسليمان } خُصوا بالذكر مع ظهور انتظامِهم في سلك النبيين تشريفاً لهم وإظهاراً لفضلهم كما في قوله تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّا الله وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال } وتصريحاً بمن ينتمي إليهم اليهودُ من الأنبياء ، وتكريرُ الفعلِ لمزيد تقريرِ الإيحاء والتنبيهِ على أنهم طائفةٌ خاصةٌ مستقلةٌ بنوع مخصوصٍ من الوحي .
{ وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً } قال القرطبي : كان فيه مائةٌ وخمسون سورةً ليس فيها حكم من الأحكام وإنما هي حِكَمٌ ومواعظُ وتحميدٌ وتمجيدٌ وثناءٌ على الله تعالى ، وقُرىء بضم الزاءِ وهو جمعُ زِبْرٍ بمعنى مزبور ، والجملةُ عطف على أوحينا داخلٌ في حكمه لأن إيتاءَ الزبورِ من باب الإيحاءِ أي وكما آتينا داودَ زبوراً ، وإيثارُه على { أَوْحَيْنَا إلى دَاوُودُ } لتحقيق المماثلة في أمر خاصَ هو إيتاءُ الكتابِ بعد تحقيقِها في مطلق الإيحاءِ ثم أشير إلى تحقيقها في أمر لازمٍ لهما لزوماً كلياً وهو الإرسالُ فإن قوله تعالى(2/183)
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
{ وَرُسُلاً } نُصب بمضمر يدل عليه أوحينا معطوفٍ عليه داخلٍ معه في حُكم التشبيهِ كما قبله أي وكما أرسلنا رسلاً لا بما يفسِّره قولُه تعالى : { قَدْ قصصناهم عَلَيْكَ } أي وقصصنا رسلاً كما قالوا وفرّعوا عليه أن قولَه تعالى : { قَدْ قصصناهم } على الوجه الأول منصوبٌ على أنه صفةٌ لرسلاً وعلى الوجه الثاني لا محل له من الإعراب فإنه مما لا سبيلَ إليه كما ستقف عليه ، وقرىء برفع رسلٌ وقولُه تعالى : { مِن قَبْلُ } متعلقٌ بقصصنا أي قصصنا من قبلِ هذه السورةِ أو اليوم .
{ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } عطفٌ على رسلاً منصوبٌ بناصبه ، وقيل : كلاهما منصوبٌ بنزع الخافضِ والتقديرُ كما أوحينا إلى نوحٍ وإلى رسل الخ ، والحقُّ أن يكون انتصابُهما بأرسلنا فإن فيه تحقيقاً للمماثلة بين شأنِه عليه الصلاةُ والسلام وبين شؤونِ من يعترفون بنبوته من الأنبياء عليهم السلام في مطلق الإيحاءِ ثم إيتاءِ الكتابِ ثم في الإرسال ، فإن قوله تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } منتظِمٌ لمعنى آتيناك وأرسلناك حتماً ، كأنه قيل : إنا أوحينا إليك إيحاءً مثلَ ما أوحينا إلى نوح ومثلَ ما أوحينا إلى إبراهيمَ ومَنْ بعده ، وآتيناك الفرقانَ إيتاءً مثلَ ما آتينا داودَ زبوراً وأرسلناك إرسالاً مثلَ ما أرسلنا رسلاً قد قصصناهم عليك من قبلُ ورسلاً آخَرين لم نقصُصْهم عليك من غير تفاوتٍ بينك وبينهم في حقيقة الإيحاءِ ، وأصلِ الإرسالِ ، فما للكفرة يسألونك شيئاً لم يُعطَه أحدٌ من هؤلاء الرسلِ عليهم السلام؟ ومن هاهنا اتضح أن رسلاً لا يمكن نصبُه بقصصنا فإن ناصبَه يجب أن يكون معطوفاً على أوحينا داخلاً معه في حُكم التشبيهِ الذي يدور فلَكُ الاحتجاجِ على الكفرة ولا ريب في أن قصصنا لا تعلُّقَ له بشيء من الإيحاء والإيتاءِ حتى يمكنَ اعتبارُه في ضمن قولِه تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } ثم يعتبرُ بينه وبين المذكورِ مماثلةٌ مصحِّحةٌ للتشبيه على أن تقديرَه في رسلاً الأوّلِ يقتضي تقديرَ نفيِه في الثاني وذلك أشدُّ استحالةً وأظهرُ بطلاناً .
{ وَكَلَّمَ الله موسى } برفع الجلالةِ ونصبِ موسى ، وقرىء على القلب ، وقوله تعالى : { تَكْلِيماً } مصدرٌ مؤكدٌ رافعٌ لاحتمال المجازِ . قال الفراء : العربُ تسمِّي ما وصل إلى الإنسان كلاماً بأي طريقٍ وصل ما لم يؤكَّدْ بالمصدر فإذا أُكّد به لم يكنْ إلا حقيقةُ الكلامِ ، والجملةُ إما معطوفةٌ على قوله تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } عطفَ القصةِ على القصة لا على آتينا وما عطف عليه ، وإما حالٌ بتقدير قد كما ينبىء عنه تغييرُ الأسلوبِ بالالتفات ، والمعنى أن التكليمَ بغير واسطةٍ منتهى مراتبِ الوحي خُصَّ به موسى من بينهم فلم يكن ذلك قادحاً في نبوة سائرِ الأنبياءِ عليهم السلام فكيف يُتوَّهم كونُ نزولِ التوراةه عليه عليه السلام جملةً قادحاً في صحة نبوةِ من أنزل عليه الكتابُ مفصلاً مع ظهور أن نزولَها كذلك لحِكَمٍ مقتضيةٍ لذلك من جملتها أن بني إسرائيلَ كانوا في العِناد وشدةِ الشكيمة بحيث لو لم يكن نزولُها كذلك لما آمنوا بها ، ومع ذلك ما آمنوا بها إلا بعد اللّتيا والتي وقد فضل الله تعالى نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بأن أعطاه مثلَ ما أعطى كلَّ واحدٍ منهم صلى الله عليهم وسلم تسليماً كثيراً .(2/184)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
{ رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ } نُصب على المدح أو بإضمار أرسلنا أو على الحال بأن يكون رسلاً موطئاً لما بعده أو على البدلية من رُسلاً الأولِ أي مبشرين لأهل الطاعةِ بالجنة ونذرين للعُصاة بالنار ، { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ } أي مَعذرةٌ يعتذرون بها قائلين : لولا أرسلتَ إلينا رسولاً فيبينَ لنا شرائعَك ويُعلّمنا ما لم نكن نعلم من أحكامك ، لقصور القوةِ البشريةِ عن إدراك جزئياتِ المصالحِ وعجْزِ أكثرِ الناسِ عن إدراك كلياتِها كما في قوله عز وجل : { وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءاياتك } الآية ، وإنما سُمِّيت حجةً مع استحالة أن يكون لأحد عليه سبحانه حجةٌ في فعل من أفعاله بل له أن يفعلَ ما يشاء كما يشاء للتنبيه على أن المعذرةَ في القَبول عنده تعالى بمقتضى كرمِه ورحمتِه لعباده بمنزلة الحجةِ القاطعةِ التي لا مرد لها ولذلك قال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما أحدٌ أغيرُ مِنَ الله تعالى ، ولذلك حرَّم الفواحشَ ما ظهر منها وما بطن ، وما أحدٌ أحبُّ إليه المدحُ من الله تعالى ولذلك مدح نفسَه ، وما أحدٌ أحبُّ إليه الإعذارُ من الله تعالى ولذلك أرسلَ الرسلَ وأنزلَ الكتُب » فاللامُ متعلقةٌ بأرسلنا ، وقيل : بقوله تعالى : { مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ } وحجةٌ اسمُ كان وللناس خبرُها وعلى الله متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من حجةٌ أي كائنةً على الله أو هو الخبرُ وللناس حالٌ على الوجه المذكور ، ويجوز أن يتعلق كلٌّ منهما بما تعلق به الآخرُ الذي هو الخبرُ ولا يجوز التعلقُ بحجة لأن معمولَ المصدرِ لا يتقدم عليه ، وقوله تعالى : { بَعْدَ الرسل } أي بعد إرسالِهم وتبليغِ الشرائعِ إلى الأمم على ألسنتهم ، متعلقٌ بحجة أو بمحذوف وقع صفةً لها لأن الظلاروفَ يوصف بها الأحداثُ كما يُخبر بها عنها نحو القتالُ يومُ الجمعة { وَكَانَ الله عَزِيزاً } لا يغالَب في أمر من أموره ومن قضيته الامتناعُ عن الإجابة إلى مسألة المتعنّتين { حَكِيماً } في جميع أفعالِه التي من جملتها إرسالُ الرسلِ وإنزالُ الكتبِ فإن تعددَ الرسلِ والكتبِ واختلالَها في كيفية النزولِ وتغايُرَها في بعض الشرائعِ والأحكامِ إنما هو لتفاوت طبقاتِ الأممِ في الأحوال التي عليها يدور فلكُ التكليفِ ، فكما أنه سبحانه وتعالى برَأَهم على أنحاءَ شتى وأطوارٍ متباينةٍ حسبما تقتضيه الحِكمةُ التكوينيةُ كذلك تعبّدهم بما يليق بشأنهم وتقتضيه أحوالُهم المتخالفةُ واستعداداتُهم المتغايرةُ من الشرائع والأحكامِ حسبما تستدعيه الحِكمةُ التشريعيةُ ، وراعى في إرسال الرسلِ وإنزالِ الكتبِ وغيرِ ذلك من الأمور المتعلقةِ بمعاشهم ومعادِهم ما فيه مصلحتُهم ، فسؤالُ تنزيلِ الكتابِ جملةً اقتراحٌ فاسدٌ إذ حينئذ تتفاقم التكاليفُ فيثقُل على المكلَّف قَبولُها والخروجُ عن عُهدتها ، وأما التنزيلُ المُنَجَّم الواقعُ حسب الأمورِ الداعيةِ إليه فهو أيسرُ قَبولاً وأسهلُ امتثالاً .(2/185)
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168)
{ لكن الله يَشْهَدُ } بتخفيف النون ورفع الجلالة ، وقرىء بتشديد النونِ ونصبِ الجلالةِ ، وهو استدراك عما يُفهم مما قبله كأنهم لما تعنّتوا عليه بما سبق من السؤال واحتَجّ عليهم بقوله تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا } الخ ، قيل : إنهم لا يشهدون بذلك لكنَّ الله يشهد { بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ } على البناء للفاعل ، وقرىء على البناء للمفعولِ والباءُ صلةٌ للشهادة أي يشهد بحقية ما أنزل إليك من القرآن المعجزِ الناطِقِ بنبوتك ، وقيل : ( لما نزل قوله تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } قالوا : ما نشهد لك بذلك فنزل ) لكنِ الله يشهد .
{ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } أي ملتبساً بعلمه الخاصِّ الذي لا يعلمه غيرُه وهو تأليفُه على نمط بديعٍ يَعجِز عنه كلُّ بليغٍ ، أو بعلمه بحال مَنْ أنزله عليه واستعدادِه لاقتباس الأنوارِ القدسية ، أو بعلمه الذي يحتاج إليه الناسُ في معاشهم ومعادِهم ، فالجارُّ والمجرورُ على الأولين حال من الفاعل وعلى الثالث من المفعولِ ، والجملةُ في موقع التفسيرِ لما قبلها وقرىء نزّله ، وقولُه تعالى : { والملئكة يَشْهَدُونَ } أي بذلك ، مبتدأٌ وخبرٌ والجملةُ عطفٌ على ما قبلها ، وقيل : حالٌ من مفعول أنزله ، أي أنزله والملائكةُ يشهدون بصدقه وحقِّيتِه { وكفى بالله شَهِيداً } على صحة نُبوّتِك حيث نصَبَ لها معجزاتٍ باهرةً وحججاً ظاهرةً مغْنيةً عن الاستشهاد بغيرها .
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ } أي بما أنزل الله تعالى وشهِد به أو بكل ما يجب الإيمانُ به وهو داخلٌ فيه دخولاً أولياً ، والمرادُ بهم اليهودُ حيث كفروا به { وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } وهو دينُ الإسلام مَنْ أراد سلوكَه بقولهم : ما نعرِف صفةَ محمدٍ في كتابنا ، وقرىء صُدُّوا مبنياً للمفعول { قَدْ ضَلُّواْ } بما فعلوا من الكفر والصدِّ عن طريق الحق { ضلالا بَعِيداً } لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلالِ ولأن المُضِل يكون أعرقَ في الضلال وأبعدَ من الإقلاع عنه .
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ } أي بما ذكر آنفاً { وَظَلَمُواْ } أي محمداً صلى الله عليه وسلم بإنكار نبوّتِه وكتمانِ نعوتِه الجليلةِ ووضعِ غيرِها مكانَها ، أو الناسَ بصدهم عما فيه صلاحُهم في المعاش والمعاد { لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ } لاستحالة تعلّقِ المغفرةِ بالكافر { وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً } .(2/186)
إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
{ إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ } لعدم استعدادِهم للهداية إلى الحق والأعمالِ الصالحةِ التي هي طريقُ الجنةِ ، والمرادُ بالهداية المفهومةِ من الاستثناء بطريق الإشارةِ خلقُه تعالى لأعمالهم السيئة المؤديةِ بهم إلى جهنمَ عند صرفِ قدرتِهم واختيارِهم إلى اكتسابها ، أو سوقُهم إليها يوم القيامة بواسطة الملائكةِ والطريقُ على عمومه ، والاستثناءُ متصل ، وقيل : خاصٌّ بطريق الحقِّ والاستثناءُ منقطع { خالدين فِيهَا } حالٌ مقدرةٌ من الضمير المنصوب والعاملُ فيها ما دل عليه الاستثناءُ دلالةً واضحةً كأنه قيل : يُدخلهم جهنمَ خالدين فيها الخ ، وقوله تعالى : { أَبَدًا } نصبٌ على الظرفية رافعٌ لاحتمال حملِ الخلودِ على المكث الطويل { وَكَانَ ذلك } أي جعلهم خالدين في جهنم { عَلَى الله يَسِيراً } لاستحالة أن يتعذّر عليه شيءٌ من مراداته تعالى .
{ يأَيُّهَا الناس } بعد ما حكَى لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعللَ اليهودِ بالأباطيل واقتراحَهم الباطلَ تعنتاً وردّ عليهم ذلك بتحقيق نبوتِه عليه الصلاة والسلام وتقريرِ رسالتِه ببيان أن شأنَه عليه الصلاة والسلام في أمر الوحي والإرسالِ كشؤون من يعترفون بنبوته من مشاهير الأنبياءِ عليهم السلام وأكد ذلك بشهادته سبحانه وشهادةِ الملائكة أمرَ المكلّفين كافةً على طريق تلوينِ الخطابِ بالإيمان بذلك أمراً مشفوعاً بالوعد بالإجابة ، والوعيدِ على الرد تنبيهاً على أن الحجةَ قد لزِمَت ولم يبقَ بعد ذلك لأحد عذرٌ في عدم القَبول ، وقولُه عز وجل : { قَدْ جَاءكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبّكُمْ } تكريرٌ للشهادة وتقريرٌ لحقية المشهودِ به وتمهيدٌ لما يعقُبه من الأمر بالإيمانِ ، وإيرادُه عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالةِ لتأكيد وجوبِ طاعتِه ، والمرادُ بالحق هو القرآنُ الكريمُ ، والباء متعلقةٌ بجاءكم فهي للتعدية أو بمحذوف وقع حالاً من الرسول أي ملتبساً بالحق ، ومِنْ أيضاً متعلقةٌ إما بالفعل وإما بمحذوف هو حالٌ من الحق ، أي جاءكم به من عنده تعالى أو جاءكم بالحق كائناً من عنده تعالى ، والتعرُّضُ لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضمير المخاطَبين للإيذان بأن ذلك لتربيتهم وتبليغِهم إلى كمالهم اللائقِ بهم ترغيباً لهم في الامتثال بما بعده من الأمر ، والفاء في قوله عز وجل : { فَآمِنُواْ } للدِلالة على إيجاب ما قبلها لما بعدها أي فآمنوا به وبما جاء به من الحق ، وقولُه تعالى : { خَيْراً لَّكُمْ } منصوبٌ على أنه مفعولٌ لفعل واجبِ الإضمار كما هو رأيُ الخليل وسيبويهِ ، أي اقصِدوا أو ائتوا أمراً خيراً لكم مما أنتم فيه من الكفر ، أو على أنه نعت لمصدر محذوف كما هو رأي الفراء أي آمنوا إيماناً خيراً لكم أو على أنه خبر كان المضمرةِ الواقعةِ جواباً للأمر لا جزاءً للشرط الصناعيّ وهو رأيُ الكسائي وأبي عبيدةَ أي يكنِ الإيمانُ خيراً لكم { وَإِن تَكْفُرُواْ } أي أن تُصِرُّوا وتستمروا على الكفر به { فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السموات والارض } من الموجودات سواء كانت داخلةً في حقيقتهما وبذلك يُعلم حالُ أنفسِهما على أبلغ وجهٍ وآكَدِه أو خارجةً عنهما مستقرةً فيهما من العقلاء وغيرِهم فيدخلُ في جملتهم المخاطَبون دخولاً أولياً ، أي كلُّها له عز وجل خلقاً ومُلكاً وتصرفاً لا يخرُج من ملكوته وقهرِه شيءٌ منها .(2/187)
فمَنْ هذا شأنُه فهو قادرٌ على تعذيبكم بكفركم لا محالة أو فمن كان كذلك فهو غنيٌّ عنكم وعن غيركم لا يتضرّر بكفركم ولا ينتفع بإيمانكم ، وقيل : فمَنْ كان كذلك فله عبيدٌ يعبُدونه وينقادون لأمره { وَكَانَ الله عَلِيماً } مبالِغاً في العلم فهو عالمٌ بأحوال الكلِّ فيدخُل في ذلك علمُه تعالى بكفرهم دخولاً أولياً { حَكِيماً } مراعياً للحِكمة في جميع أفعالِه التي من جملتها تعذيبُه تعالى إياهم بكفرهم .(2/188)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
{ ياْ أَهْلِ الكتاب } تجريدٌ للخطاب وتخصيصٌ له بالنصارى زجراً لهم عما هم عليه من الكفر والضلال { لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ } بالإفراط في رفع شأنِ عيسى عليه السلام وادعاءِ ألوهيتِه ، وأما غلوُّ اليهودِ في حط رتبتِه عليه السلام ورميِهم له بأنه وُلد لغير رَشْدةٍ فقد نعى عليهم ذلك فيما سبق { وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق } أي لا تصِفوه بما يستحيل اتصافُه به من الحلول والاتحادِ واتخاذِ الصاحبةِ والولدِ ، بل نزّهوه عن جميع ذلك { إِنَّمَا المسيح } قد مر تفسيرُه في سورة آلِ عمرانَ ، وقرىء بكسر الميم وتشديد السين كالسِّكّيت على صيغة المبالغة وهو مبتدأٌ ، وقوله تعالى : { عِيسَى } بدلٌ منه أو عطفُ بيانٍ له ، وقولُه تعالى : { ابن مَرْيَمَ } صفةٌ له مفيدةٌ لبطلان ما وصفوه عليه السلام به من بُنوَّته لله تعالى ، وقوله تعالى : { رَسُولِ الله } خبرٌ للمبتدأ ، والجملةُ مستأنفةٌ مسوقةٌ لتعليل النهي عن القول الباطلِ المستلزِم للأمر بضده ، أعني الحقَّ ، أي إنه مقصورٌ على رتبة الرسالةِ لا يتخطاها { وَكَلِمَتُهُ } عطف على رسولُ الله أي مُكوَّن بكلمته وأمرِه الذي هو كنْ من غير واسطةِ أبٍ ولا نطفة { ألقاها إلى مَرْيَمَ } أي أوصلها إليها وجعلها فيها بنفخ جبريلَ عليه السلام ، وقيل : أعلمها إياها وأخبرَها بها بطريق البِشارةِ وذلك قولُه تعالى : { إِنَّ الله يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى * ابن مَرْيَمَ } وقيل : الجملةُ حالٌ من ضميره عليه السلام المستكنِّ فيما دل عليه وكلمتُه من معنى المشتق الذي هو العاملُ فيها وقد مقدَّرة معها .
{ وَرُوحٌ مّنْهُ } قيل : هو الذي نفخ جبريلُ عليه السلام في دِرْع مريم فحملت بإذن الله تعالى ، سُمِّي النفخُ روحاً لأنه ريحٌ تخرج من الروح ، ومِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً لا تبعيضية كما زعمت النصارى . يُحكى أن طبيباً حاذقاً نصرانياً للرشيد ناظر عليَّ بنَ حسين الواقديَّ المَرْوِذيَّ ذاتَ يوم فقال له : إن في كتابكم ما يدلُّ على أن عيسى عليه السلام جزءٌ منه تعالى وتلا هذه الآية فقرأ الواقديُّ : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السموات والارض جَمِيعاً مّنْهُ } فقال : إذن يلزم أن يكونَ جميعُ تلك الأشياءِ جزءاً منه ، تعالى علواً كبيراً ، فانقطع النصرانيُّ فأسلم وفرِح الرشيدُ فرحاً شديداً ، ووصل الواقديَّ بصلة فاخرة . وهي متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لروح أي كائنةٌ من جهته تعالى جعلت منه تعالى وإن كانت بنفخ جبريلَ عليه السلام لكون النفخِ بأمره سبحانه ، وقيل : سُمِّي روحاً لإحيائه الأمواتَ ، وقيل : لإحيائه القلوبَ ، كما سمي به القرآنُ لذلك في قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا } وقيل : أريد بالروح الوحيُ الذي أُوحيَ إلى مريمَ بالبشارة ، وقيل : جرت العادةُ بأنهم إذا أرادوا وصفَ شيءٍ بغاية الطهارة والنظافة قالوا : إنه روحٌ ، فلما كان عيسى عليه السلام متكوِّناً من النفخ لا من النطفة وُصِف بالروح ، وتقديمُ كونِه عليه السلام رسولَ الله في الذكر من تأخّره عن كونه كلمتَه تعالى وروحاً منه في الوجود لتحقيق الحقِّ من أول الأمرِ بما هو نصٌّ فيه غيرُ محتملٍ للتأويل ، وتعيينُ مآلِ ما يحتمله وسدِّ بابِ التأويلِ الزائغ .(2/189)
{ فآمِنُوا باللهِ } وخُصّوه بالألوهية { وَرُسُلِهِ } أجمعين وصِفوهم بالرسالة ولا تُخرجوا بعضَهم عن سلكهم بوصفه بالألوهية { وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة } أي الألهةُ ثلاثةٌ : الله والمسيحُ ومريمُ كما ينبىء عنه قوله تعالى : { قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ } أو الله ثلاثةٌ إن صح أنهم يقولون : الله جوهرٌ واحدٌ ثلاثةُ أقانيمَ : أقنومُ الأبِ وأقنومُ الابنِ وأُقنومُ روحِ القدس ، وأنهم يريدون بالأول الذاتَ ، وقيل : الوجودَ وبالثاني العلمَ وبالثالث الحياةَ { انتهوا } أي عن التثليث { خَيْراً لَّكُمْ } قد مر وجوهُ انتصابِه { إِنَّمَا الله إله واحد } أي بالذات مُنزَّه عن التعدد بوجهٍ من الوجوه ، فالله مبتدأٌ وإله خبرُه وواحدٌ نعتٌ أي منفردٌ في ألوهيته { سبحانه أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } أي أسبّحه تسبيحاً من أن يكون له ولد أو سبِّحوه تسبيحاً من ذلك فإنه إنما يُتصوَّر فيمن يماثله شيءٌ ويتطرق إليه فناء ، والله سبحانه منزّه عن أمثاله ، وقرىء إنْ يكونُ أي سبحانه ما يكون له ولد ، وقوله تعالى : { لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض } جملةٌ مستأنفةٌ مسوقةٌ لتعليل التنزيهِ وتقريرِه ، أي له ما فيهما من الموجودات خلقاً وملكاً وتصرفاً لا يخرُج عن ملكوته شيءٌ من الأشياء التي من جملتها عيسى عليه السلام فكيف يُتوَّهم كونُه ولداً له تعالى؟ { وكفى بالله وَكِيلاً } إليه يكِلُ الخلقُ أمورَهم وهو غني عن العالمين فأنى يُتصوَّر في حقه اتخاذُ الولدِ الذي هو شأنُ العَجَزة المحتاجين في تدبير أمورِهم إلى من يَخلُفهم ويقوم مقامهم .(2/190)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
{ لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح } استئنافٌ مقررٌ لما سبق من التنزيه ، والاستنكافُ الأنَفةُ والترفعُ من نكفتَ الدمعَ إذا نحيتَه عن وجهك بالأصبع أي لن يأنف ولن يترفع { أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ } أي عن أن يكون عبداً له تعالى مستمراً على عبادته وطاعتِه حسبما هو وظيفةُ العبودية ، كيف وإن ذلك أقصى مراتبِ الشرفِ ، والاقتصارُ على ذكر عدمِ استنكافِه عليه السلام عنه مع أن شأنه عليه السلام المباهاةُ به كما يدل عليه أحوالُه ويُفصِحُ عنه أقوالُه ، ألا يُرى أن أولَ مقالةٍ قالها للناس قولُه : { قَالَ إِنّى عَبْدُ الله ءاتَانِىَ الكتاب وَجَعَلَنِى } لوقوعه في موقع الجوابِ عما قاله الكفرة . روي ( أن وفد نجرانَ قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لِمَ تَعيبُ صاحبَنا ، قال : « ومن صاحبُكم؟ » قالوا : عيسى ، قال : « وأيُّ شيء أقول؟ » قالوا : تقول له عبدُ الله ، قال : « إنه ليس بعار أن يكون عبداً لله » ، قالوا : بلى فنزلت ) ، وهو السرُّ في جعل المستنكَفِ عنه كونَه عليه السلام عبداً له تعالى دون أن يقال عن عبادة الله ونحوُ ذلك مع إفادة فائدةٍ جليلةٍ هي كمالُ نزاهتِه عليه السلام عن الاستنكافِ بالكلية فإن كونَه عبداً له تعالى حالةٌ مستمرةٌ مستتبِعةٌ لدوام العبادةِ قطعاً ، فعدمُ الاستنكافِ عنه مستلزِمٌ لعدم الاستنكافِ عن عبادته تعالى كما أشير إليه بخلاف عبادتِه تعالى فإنها حالةٌ متجدِّدة غيرُ مستلزِمةٍ للدوام يكفي في اتّصاف موصوفِها بما يُحققها مرةً ، فعدمُ الاستنكافِ عنها لا يستلزِمُ عدمَ الاستنكافِ عن دوامها .
{ وَلاَ الملئكة المقربون } عطفٌ على المسيح أي ولا يستنكف الملائكةُ المقربون أن يكونوا عبيداً لله تعالى ، وقيل : أن أريد بالملائكة كلُّ واحد منهم لم يُحتَجْ إلى التقدير ، واحتَجّ بالآية من زعم فضلَ الملائكةِ على الأنبياء عليهم السلام وقال : مَساقُه لرد النصارى في رفع المسيحِ عن مقام العبوديةِ ، وذلك يقتضي أن يكون المعطوفُ أعلى درجةً من المعطوف عليه حتى يكون عدمُ استنكافِهم مستلزماً لعدم استنكافِه عليه السلام ، وأجيب بأن مناطَ كفرِ النصارى ورفعِهم له عليه السلام عن رتبة العبوديةِ لمّا كان اختصاصُه عليه السلام وامتيازُه عن سائر أفرادِ البشرِ بالولادة من غير أبٍ وبالعلم بالمُغيِّبات وبالرفع إلى السماء عُطف على عدم استنكافِه عن عبوديته تعالى عدمُ استنكافِ مَنْ هو أعلى درجةً منه فيما ذكر ، فإن الملائكةَ مخلوقون من غير أبٍ ولا أمَ ، وعالمون بما لا يعلمه البشرُ من المغيبات ، ومَقارُّهم السمواتُ العلا ، ولا نزاعَ لأحد في علو درجتِهم من هذه الحيثيةِ وإنما النزاعُ في علوّها من حيث كثرةُ الثوابِ على الطاعات ، وبأن الآيةَ ليست للرد على النصارى فقط بل على عبَدة الملائكةِ أيضاً فلا اتجاه لما قالوا حينئذ وإنْ سَلِم اختصاصُها بالرد على النصارى فلعله أُريد بالعطف المبالغةُ باعتبار التكثيرِ والتفصيلِ لا باعتبار التكبيرِ والتفضيلِ ، كما في قولك : أصبح الأميرُ لا يخالفه رئيسٌ ولا مرؤوسٌ ، ولئن سُلّم إرادةُ التفضيلِ فغايةُ الأمرِ الدلالةُ على أفضلية المقربين منهم ، وهم الكروبيون الذين حول العرشِ أو من هو أعلى منهم رتبةً من الملائكة عليهم السلام على المسيح من الأنبياء عليهم السلام وليس يلزم من ذلك فصلُ أحدِ الجنسين على الآخر مطلقاً ، وهل التشاجرُ إلا فيه؟ { وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ } أي عن طاعته فيشمل جميعَ الكفرةِ لعدم طاعتِهم له تعالى مما لا سبيلَ لهم إلى إنكار اتصلفِهم به .(2/191)
إن قيل : لم عبّر عن عدم طاعتِهم له تعالى بالاستنكاف عنها مع أن ذلك منهم كان بطريق إنكارِ كونِ الأمرِ من جهته تعالى لا بطريق الاستنكافِ ، قلنا : لأنهم كانوا يستنكفون عن طاعة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهل هو إلا استنكافٌ عن طاعة الله تعالى؟ إذ لا أمرَ له عليه الصلاة والسلام سوى أمرِه تعالى { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } { وَيَسْتَكْبِرْ } الاستكبارُ الأنَفةُ عما لا ينبغي أن يُؤنَفَ عنه وأصلُه طلبُ الكِبْر لنفسه بغير استحقاقٍ له لا بمعنى طلب تحصيلِه مع اعتقاد عدمِ حصولِه فيه بل بمعنى عدِّ نفسِه كبيراً واعتقادِه كذلك ، وإنما عبّر عنه بما يدل على الطلب للإيذان بأن مآلَه محضُ الطلبِ بدون حصولِ المطلوب وقد عبر عن مثل ذلك بنفس الطلب في قوله تعالى : { يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } فإنهم ما كانوا يطلبون ثبوتَ العِوِجِ لسبيل الله مع اعتقادهم لاستقامتها بل كانوا يعدّونها ويعتقدونها مُعْوجّةً ويحكمون بذلك ولكن عبّر عن ذلك بالطلب لِما ذكر من الإشعار بأن ليس هناك شيءٌ سوى الطلبِ والاستكبارِ دون الاستنكافِ المنبىءِ عن توهم لُحوقِ العارِ والنقصِ من المستنكَفِ عنه .
{ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } أي المستنكِفين ومقابليهم المدلولَ عليهم ، ذُكر عدمُ استنكافِ المسيحِ والملائكةِ عليهم السلام ، وقد تُرك ذكرُ أحدِ الفريقين في المفصل تعويلاً على إنباء التفصيلِ عنه وثقةً بظهور اقتضاءِ حشرِ أحدِهما لحشر الآخرِ ضرورةَ عمومِ الحشرِ للخلائق كافةً ، كما تُرك ذكرُ أحدِ الفريقين في التفصيل عند قوله تعالى : { فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ بالله } الآية ، مع عموم الخطابِ لهما اعتماداً على ظهور اقتضاءِ إثابةِ أحدِهما لعقاب الآخر ضرورةَ شمولِ الجزاءِ للكل ، وقيل : الضميرُ للمستنكِفين وهناك مقدَّرٌ معطوفٌ عليه ، والتقديرُ فسيحشرهم إليه يوم يحشرُ العبادَ لمجازاتهم ، وفيه أن الأنسبَ بالتفصيلِ الآتي اعتبارُ حشرِ الكلِّ في الإجمال على نهج واحدٍ ، وقرىء فسِيحشُرهم بكسسر السين وهي لغة وقرىء فسنحشرهم بنون العظمةِ بطريق الالتفات .(2/192)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
{ فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } بيانٌ لحال الفريقِ المنويِّ ذكرُه في الإجمال ، قُدّم على بيان حالِ ما يقابله إبانةً لفضله ومسارعةً إلى بيان كونِ حشرِه أيضاً معتبراً في الإجمال ، وإيرادُه بعنوان الإيمانِ والعمل الصالحِ لا يوصْفِ عدمِ الاستنكافِ المناسبِ لما قبله وما بعده للتنبيه على أنه المستتبِعُ لما يعقبُه من الثمرت { فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ } من غير أن ينقُص منها شيئاً أصلاً { وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } بتضعيفها أضعافاً مضاعفةً وبإيفاء ما لا عين رأتْ ولا أُذنٌ سمعت ولا خطَر على قلب بشر { وَأَمَّا الذين استنكفوا } أي من عبادته عز وجل { واستكبروا فَيُعَذّبُهُمْ } بسبب استنكافِهم واستكبارِهم { عَذَاباً أَلِيماً } لا يُحيط به الوصف { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ الله وَلِيّاً } يلي أمورَهم ويدبّر مصالحَهم { وَلاَ نَصِيراً } ينصُرهم من بأسه تعالى وينجِّيهم من عذابه .
{ يَا أَيُّهَا الناس } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ إلى كافة المكلفين إثرَ بيانِ بطلانِ ما عليه الكفرةُ من فنون الكفرِ والضلالِ وإلزامِهم بالبراهين القاطعةِ التي تخِرُّ لها صُمُّ الجبالِ ، وإزاحةِ شُبَهِهم الواهيةِ بالبينات الواضحةِ ، وتنبيهٌ لهم على أن الحجةَ قد تمت ( عليهم ) فلم يبقَ بعد ذلك علةٌ لمتعلِّلٍ ولا عُذرٌ لمعتذر .
{ قَدْ جَاءكُمُ } أي وصل إليكم وتقرَّرَ في قلوبكم بحيث لا سبيلَ لكم إلى الإنكار { بُرْهَانَ } البرهانُ ما يُبرهَنُ به على المطلوب ، والمرادُ به القرآنُ الدالُّ على صحة نبوةِ النبيِّ عليه الصلاة والسلام المُثبِتُ لما فيه من الأحكام التي من جملتها ما أشير إليه مما أثبتته الآياتُ الكريمةُ من حقية الحقِّ وبُطلانِ الباطل . وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام عبَّر عنه به لما معه من المعجزات التي تشهد بصدقه ، وقيل : هو المعجزاتُ التي أظهرها ، وقيل : هو دينُ الحقِّ الذي أتى به ، وقوله تعالى : { مّن رَّبّكُمْ } إما متعلق بجاءكم أو بمحذوف وقع صفةً مشرّفةً لبرهانٌ مؤكدةً لما أفاده التنوينُ من الفخامة الذاتيةِ بالفخامة الإضافيةِ أي كائنٌ منه تعالى ، على أن مِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً ، وقد جُوِّز على الثاني كونُها تبعيضيةً بحذف المضافِ أي كائنٌ من براهينِ ربِّكم . والتعرضُ لعنوان الربوبيّة مع الإضافة إلى ضمير المخاطَبين لإظهار اللُّطفِ بهم والإيذانِ بأن مجيئَه إليهم لتربيتهم وتكميلِهم { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } أريد به أيضاً القرآنُ الكريمُ ، عبّر عنه تارة بالبُرهان لما أشير إليه آنفاً وأخرى بالنور النيِّرِ بنفسه المنوَّرِ لغيره إيذاناً بأنه بيِّنٌ بنفسه مستغنٍ في ثبوت حقِّيتِه وكونِه من عند الله تعالى بإعجازه ، غيرُ محتاجٍ إلى غيره مبينٌ لغيره من الأمور المذكورةِ وإشعاراً بهدايته للخلق وإخراجِهم من ظلمات الكفرِ إلى نور الإيمانِ ، وقد سلك به مسلك العطفِ المبنيِّ على تغايُر الطرفين تنزيلاً للمغايرة العُنوانيةِ منزلةَ المغايَرَةِ الذاتية ، وعبِّر عن لابسته للمخاطَبين تارةً بالمجيء المسنَدِ إليه المنبىءِ عن كمال قوتِه في البرهانية كأنه يجيء بنفسه فيُثبِتُ أحكامَه من غير أن يجيءَ به أحدٌ ، ويجيءُ على شُبَه الكفرةِ بالإبطال وأخرى بالإنزال الموُقَعِ عليه الملائمِ لحيثية كونِه نوراً توفيراً له باعتبار كلِّ واحدٍ من عنوانية حظِّه اللائقِ به ، وإسنادُ إنزالِه إليه تعالى بطريق الالتفاتِ لكمال تشريفِه ، هذا على تقدير كونِ البرهانِ عبارةً عن القرآن العظيمِ ، وأما على تقدير كونِه عبارةً عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن المعجزات الظاهرةِ على يده أو عن الدينِ الحقِّ فالأمرُ هيِّنٌ ، وقولُه تعالى : { إِلَيْكُمْ } متعلقٌ بأنزلنا فإن إنزالَه بالذات وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لكنه منزلٌ إليهم أيضاً بواسطته عليه الصلاة والسلام ، وإنما اعتُبر حالُه بالواسطة دون حالِه بالذات كما في قوله تعالى :(2/193)
{ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس } ونظائرِه لإظهار كمالِ اللطفِ بهم والتصريحِ بوصوله إليهم مبالغةً في الإعذار ، وتقديمُه على المفعول الصريح مع أن حقَّه التأخرُ عنه لما مر غير مرة من الاهتمام بما قُدّم والتشويقِ إلى ما أُخِّر ، وللمحافظة على فواصلِ الآي الكريمة .(2/194)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
{ فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ بالله } حسبما يوجبُه البرهانُ الذي أتاهم { واعتصموا بِهِ } أي عصَموا به أنفسَهم مما يُرديها من زيغ الشيطانِ وغيره { فَسَيُدْخِلُهُمْ رَحْمَةٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ } قال ابنُ عباس رضي الله تعالى عنهما : هي الجنةُ وما يُتفضَّل عليهم ( به ) مما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمِعت ولا خطَر على قلب بشر . وعبّر عن إفاضة الفضلِ بالإدخال على طريقةِ قوله :
علفتُها تبناً وماءً بارداً ... وتنوينُ رحمةً وفضلٍ تفخيميٌّ ومنه متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً مشرِّفة لرحمة { وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ } أي إلى الله عز وجل ، وقيل : إلى الموعود ، وقيل : إلى عبادته { صراطا مُّسْتَقِيماً } هو الإسلامُ والطاعةُ في الدينا وطريقُ الجنةِ في الآخرة . وتقديمُ ذكرِ الوعد بإدخال الجنةِ على الوعد بالهداية إليها على خلاف الترتيبِ في الوجود بين الموعودَين للمسارعة إلى التبشير بما هو المقصِدُ الأصليُّ . قيل : انتصابُ صِراطاً على أنه مفعولٌ لفعلٍ محذوف يُنبىءُ عنه يهديهم أي يعرِفهم صراطاً مستقيماً .
{ يَسْتَفْتُونَكَ } أي في الكلالة ، استُغني عن ذكره بوروده في قوله تعالى : { قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِى الكلالة } وقد مر تفسيرُها في مطلع السورة الكريمةِ ، والمستفتي جابرُ بنُ عبد اللَّه رضي الله تعالى عنه ، يروى أنه أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في طريق مكةَ عام حَجةِ الوداعِ فقال : إن لي أختاً فكم آخذُ من ميراثها إن ماتت؟ ، وقيل : ( كان مريضاً فعاده رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني كَلالةٌ فكيف أصنع في مالي؟ ) . وروي عنه رضي الله عنه أنه قال : ( عادني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريضٌ لا أعقِل ، فتوضأ وصبَّ من وَضوئه عليَّ فعقَلْت فقلت : يا رسولَ الله لمن الميراثُ وإنما يرثني كلالةٌ فنزلت ) وقولُه تعالى : { إِن امرؤ هَلَكَ } استئنافٌ مبينٌ للفُتيا ، وارتفع امرؤٌ بفعل يفسّره المذكورُ ، وقوله تعالى : { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } صفةٌ له ، وقيل : حال من الضمير في هلَك . ورُدّ بأنه مفسِّرٌ للمحذوف غيرُ مقصودٍ في الكلام أي إن هلَك امرؤٌ غيرُ ذي ولدٍ ذكراً كان أو أنثى واقتُصر على ذكر عدمِ الولدِ مع أن عدمَ الوالدِ أيضاً معتبرٌ في الكلالة ثقةً بظهور الأمرِ ودَلالةِ تفضيلِ الورثةِ عليه ، وقوله تعالى : { وَلَهُ أُخْتٌ } عطفٌ عُطف على قوله تعالى : { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } أو حالٌ والمرادُ بالأخت من ليست لأم فقط فإن فرضَها السدسُ ، وقد مر بيانُه في صدر السورةِ الكريمة { فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } أي بالفرض والباقي للعَصَبة ، أو لها بالرد إن لم يكن عَصَبة { وَهُوَ } أي المرءُ المفروضُ { يَرِثُهَا } أي أختَه المفروضةَ إن فُرض هلاكُها مع بقائه { إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ } ذكراً كان أو أنثى ، فالمرادُ بإرثه لها إحرازُ جميعِ ما لها إذ هو المشروطُ بانتفاء الولدِ بالكلية لا إرثُه لها في الجملة فإنه يتحقق مع وجود بنتِها ، وليس في الآية ما يدل على سقوط الإخوةِ بغير الولدِ ولا على عدمِ سقوطِهم ، وإنما دلت السنةُ الشريفةُ على سقوطهم في الأب { فَإِن كَانَتَا اثنتين } عطفٌ على الشرطية الأولى أي اثنتين فصاعداً { فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ } الضميرُ لمن يرث بالأخُوّة ، والتأنيثُ والتثنيةُ باعتبار المعنى ، قيل : وفائدةُ الإخبارِ عنها باثنتين مع دَلالة ألفِ التثنية على الاثْنَيْنِيّة التنبيهُ على أن المعتبرَ في اختلاف الحُكْمِ هو العددُ دون الصِغَر والكِبَر وغيرِهما { وَإِن كَانُواْ } أي من يرث بطريق الأخُوّة { إِخْوَةً } أي مختلطة { رّجَالاً وَنِسَاء } بدلٌ من إخوةٍ والأصلُ وإن كانوا إخوةً وأخواتٍ فغلَبَ المذكرُ على المؤنث { فَلِلذَّكَرِ } أي فللذكر منهم { مِثْلُ حَظِ الانثيين } يقتسمون التركةَ على طريقة التعصيبِ ، وهذا آخر ما أُنزل من كتاب الله تعالى في الأحكام ، رُوي أن الصديقَ رضي الله تعالى عنه قال في خطبته : ألا إن الآيةَ التي أنزلها الله تعالى في سورة النساءِ في الفرائض فأولُها في الولد والوالد وثانيها في الزوج والزوجة والأخُوَّة من الأم والآيةُ التي خَتَم بها السورةَ في الأخوة والأخوات لأبوين أو لأب والآيةُ التي خَتَم بها سورةَ الأنفالِ أنزلها في أولي الأرحام .(2/195)
{ يُبَيّنُ الله لَكُمْ } أي حكمَ الكلالةِ أو أحكامَه وشرائعَه التي من جملتها حِكَمُها { أَن تَضِلُّواْ } أي كراهةَ أن تضلوا في ذلك وهذا رأيُ البصريين صرّح به المبرَّدُ ، وذهب الكسائيُّ والفراءُ وغيرُهما من الكوفيين إلى تقدير اللام ولا في طرفي أن ، أي لئلا تضِلوا ، وقال الزجاج : هو مثلُ قوله تعالى : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والارض أَن تَزُولاَ } وقال أبو عبيد : رويتُ للكسائي حديثَ ابنِ عمرَ رضي الله تعالى عنهما وهو لا يدعُوَنّ أحدُكم على ولده أن يوافقَ من الله إجابةً أي لئلا يوافقَ ، فاستحسنه وليس ما ذكر من الآية والحديثِ نصاً فيما ذهب إليه الكسائي وأضرابُه فإن التقديرَ فيهما عند البصْريين كراهةَ أن تزولا وكراهةَ أن يوافِقَ الخ ، وقيل : ليس هناك حذفٌ ولا تقديرٌ وإنما هو مفعولُ يبيِّن أي يُبين لكم ضلالَكم الذي هو من شأنكم إذا خُلِّيتم وطباعَكم لتحترزوا عنه وتتحرَّوا خلافَه . وأنت خبير بأن ذلك إنما يليقُ بما إذا كان بيانُه تعالى التعيينَ ، على طريقة مواقع الخطأ والضلالِ من غير تصريح بما هو الحقُّ والصواب وليس كذلك .
{ والله بِكُلّ شَيْء } من الأشياء التي من جملتها أحوالُكم المتعلقةُ بمحياكم ومماتِكم { عَلِيمٌ } مبالِغٌ في العلم فيبيِّنُ لكم ما فيه مصلحتُكم ومنفعتُكم . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ سورةَ النساءِ فكأنما تصدّق على كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ ورِث ميراثاً ، وأُعطي من الأجر كمن اشترى محرَّراً أو برِىء من الشرك وكان في مشيئة الله تعالى من الذين يُتجاوز عنهم » والله أعلم .(2/196)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
( سورة المائدة مدنية وهي مائة وعشرون آية )
{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } { عَلِيمٌ يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } الوفاءُ القيامُ بموجَبِ العَقْد ، وكذا الإيفاء ، والعقد هو العهدُ الموَثَّقُ المشبَّه بعقد الحبل ونحوه ، والمراد بالعقود ما يعمّ جميعَ ما ألزمه الله تعالى عبادَه وعقَده عليهم من التكاليف والأحكام الدينية وما يعقِدونه فيما بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوها ، مما يجب الوفاء به ، أو يحسنُ دِيناً بأن يُحمل الأمرُ على معنىً يعمّ الوجوبَ والندبَ . أُمرَ بذلك أولاً على وجه الإجمال ، ثم شُرِعَ في تفصيلِ الأحكام التي أمر بالإيفاء بها وبُدىء بما يتعلّق بضروريات مَعايشِهم فقيل :
{ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الانعام } البهيمةُ كلُّ ذات أربع ، وإضافتُها إلى الأنعام للبيان كثوب الخزّ ، وإفرادُها لإرادة الجنس ، أي أحِلّ لكم أكلُ البهيمة من الأنعام ، وهي الأزواجُ الثمانية المعدودة في سورة الأنعام ، وأُلحِق بها الظباءُ وبقَرُ الوَحْش ونحوُهما ، وقيل : هي المرادة بالبهيمة هاهنا لتقدّم بيان حِلِّ الأنعام ، والإضافةُ لما بينهما من المشابهة والمماثلة في الاجترار وعدم الأنياب ، وفائدتُها الإشعارُ بعِلة الحكم المشتركة بين المضافَيْن ، كأنه قيل : أُحلت لكم البهيمةُ الشبيهة بالأنعام التي بَيَّن إحلالَها فيما سبق ، المماثِلةُ لها في مَناطِ الحُكم . وتقديم الجارّ والمجرور على القائم مَقام الفاعل لما مر مراراً من إظهار العناية بالمقدَّم ، لما فيه من تعجيل المسرَّة والتشويق إلى المؤخَّر ، فإن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقِّبةً إلى وروده ، فيتمكّن عندها فضلُ تمكّن .
{ إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } استثناء من ( بهيمةُ ) أي إلا مُحرَّمَ ما يتلى عليكم من قوله تعالى : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } ونحوَه ، أو إلا ما يُتلى عليكم آيةُ تحريمه . { غَيْرَ مُحِلّى الصيد } أي الاصطيادِ في البَرّ أو أكلِ صيده ، وهو نصبٌ على الحالية من ضمير لكم ، ومعنى عدمِ إحلالِهم له تقريرُ حرمته عملاً واعتقاداً ، وهو شائع في الكتاب والسنة ، وقوله تعالى : { وَأَنتُمْ حُرُمٌ } أي مُحرمون ، حال من الضمير في مُحِلِّي ، وفائدةُ تقييد إحلالِ بهيمةِ الأنعام بما ذُكر من عدم إحلالِ الصيد حالَ الإحرام على تقدير كونِ المراد بها الظباءَ ونظائرَها ظاهرةٌ ، لما أن إحلالها غيرُ مُطلق ، كأنه قيل : أحل لكم الصيدُ حالَ كونِكم ممتنعين عنه عند إحرامكم .
وأما على التقدير الأول ففائدته إتمامُ النعمة وإظهارُ الامتنان بإحلالها بتذكير احتياجهم إليه ، فإن حرمةَ الصيد في حالة الإحرام من مظانِّ حاجتهم إلى إحلال غيرِه حينئذ ، كأنه قيل : أحلت لكم الأنعام مطلقاً حالَ كونكم ممتنِعين عن تحصيل ما يُغنيكم عنها في بعض الأوقات محتاجين إلى إحلالها . وفي إسناد عدم الإحلال إليهم بالمعنى المذكور مع حصول المراد بأن يقال : غيرُ محلَّلٍ لكم ، أو محرماً عليكم الصيدُ حال إحرامكم مزيدُ تربيةٍ للامتنان ، وتقرير للحاجة ببيان علتها القريبة ، فإن تحريم الصيد عليهم إنما يوجب حاجتهم إلى إحلال ما يغنيهم عنه باعتبار تحريمهم له عملاً واعتقاداً ، مع ما في ذلك من وصفهم بما هو اللائق بهم ، { إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } من الأحكام حسبما تقتضيه مشيئتُه المبْنيةُ على الحِكَم البالغة ، فيدخل فيها ما ذُكر من التحليل والتحريم دخولاً أولياً ، ومعنى الإيفاء بهما الجرَيانُ على موجبهما عقداً وعملاً ، والاجتنابُ عن تحليل المحرمات وتحريم بعضِ المحلَّلاتِ كالبَحيرة ونظائرِها التي سيأتي بيانها .(2/197)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
{ يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله } لمّا بيّن حُرمةَ إحلال الإحرام الذي هو من شعائر الحج عقّب ذلك ببيان حرمة إحلال سائر الشعائر ، وإضافتُها إلى الله عز وجل لتشريفها وتهويلِ الخطب في إحلالها ، وهي جمع شعيرةٍ وهي اسم لما أُشعِر ، أي جُعل شِعاراً وعَلَماً للنُسُك من مواقيت الحج ومرامي الجمار والمطافِ والمسعى ، والأفعالِ التي هي علاماتُ الحج يُعرف بها ، من الإحرام والطوافِ والسعْي والحلق والنحر ، وإحلالُها أن يُتهاوَن بحرمتها ويُحال بينها وبين المتنسّكين بها ويُحدَثَ في أشهر الحج ما يُصَدّ به الناسُ عن الحج . وقيل : المراد بها دينُ الله لقوله تعالى : { وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله } أي دِينه ، وقيل : حرماتِ الله ، وقيل : فرائضَه التي حدّها لعباده ، وإحلالُها الإخلالُ بها ، والأول أنسبُ بالمقام . { وَلاَ الشهر الحرام } أي لا تُحِلّوه بالقتال فيه ، وقيل : بالنّسيء ، والأول هو الأولى بحالة المؤمنين ، والمراد به شهر الحج ، وقيل : الأشهر الأربعة الحرم ، والإفراد لإرادة الجنس { وَلاَ الهدى } بأن يُتعرَّضَ له بالغَضْب أو بالمنع عن بلوغِ مَحِلِّه ، وهو ما أُهدِيَ إلى الكعبة من إبل أو بقر أو شاءِ ، جمعُ هَدْيَة كجَدْيٍ وجَدْية { وَلاَ القلائد } هي جمعُ قِلادة ، وهي ما يُقلَّد به الهدْيُ من نعلٍ أو لِحاءِ شجرٍ ليُعلم به أنه هدْيٌ فلا يُتعرَّضَ له ، والمراد النهيُ عن التعرض لذوات القلائد من الهدْي وهي البُدْن ، وعطفُها على الهدي مع دخولها فيه لمزيد التوصية بها لمزيتها على ما عداها ، كما عَطفَ جبريلَ وميكالَ على الملائكة عليهم السلام ، كأنه قيل : والقلائدَ منه خصوصاً ، أو النهيُ عن التعرض لنفس القلائدِ مبالغةً في النهي عن التعرض لأصحابها ، على معنى لا تُحِلّوا قلائدَها فضلاً عن أن تحلوها ، كما نهى عن إبداء الزينة بقوله تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } مبالغةً في النهي عن إبداء مواقِعِها { وَلاَ الشهر الحرام وَلاَ } أي لا تُحلّوا قوماً قاصدين زيارته بأن تصُدّوهم عن ذلك بأي وجه كان ، وقيل : هناك مضافٌ محذوف أي قتالَ قومٍ أو أذى قوم آمين الخ ، وقُرىء ولا آمِّي البيتِ الحرامِ بالإضافة ، وقوله تعالى : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ ورضوانا } حالٌ من المستكنِّ في آمين لا صفةٌ له ، لأن المختار أن اسم الفاعل إذا وُصف بطَلَ عملُه أي قاصدين زيارته حال كونهم طالبين أن يُثيبَهم الله تعالى ويرضَى عنهم . وتنكيرُ ( فضلاً ورضواناً ) للتفخيم ، و ( من ربهم ) متعلق بنفس الفعل ، أو بمحذوفٍ وقع صفة لفضلاً مُغنيةً عن وصفِ ما عُطف عليه بها ، أي فضلاً كائناً من ربهم ورضواناً كذلك .
والتعرُّضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لتشريفهم والإشعارِ بحصول مبتغاهم . وقُرىء ( تَبْتغون ) على الخطاب ، فالجملة حينئذ حال من ضمير المخاطَبين في ( لا تُحلوا ) على أن المرادَ بيانُ منافاة حالهم هذه للمنهيِّ عنه لا تقييدُ النهي بها ، وإضافة الرب إلى ضمير الآمّين للإيماء إلى اقتصار التشريف عليهم ، وحِرمانِ المخاطَبين عنه وعن نيل المبتغى ، وفي ذلك من تعليلِ النهْي وتأكيدِه والمبالغة في استنكار المنهيّ عنه ما لا يخفى ، ومن هاهنا قيل : المراد بالآمّين هم المسلمون خاصة ، وبه تمسك من ذهب إلى أن الآية مُحْكمة ، وقد رُوي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال :(2/198)
« سورة المائدة من آخِرِ القرآن نزولاً فأحِلّوا حَلالَها وحرِّموا حرامَها » وقال الحسن رحمه الله تعالى : ليس فيها منسوخ ، وعن أبي ميسرة : فيها ثماني عشرةَ فريضةً وليس فيها منسوخ .
وقد قيل : هم المشركون خاصة لأنهم المحتاجون إلى نهي المؤمنين عن إحلالهم دون المؤمنين ، على أن حرمة إحلالهم ثبتت بطريق دلالة النص ، ويؤيده أن الآية نزلت في الحطم بنِ ضبيعة البَكْري وقد كان أتى المدينة فخلّف خيلَه خارجها فدخل على النبي عليه الصلاة والسلام وحده ووعده أن يأتيَ بأصحابه فيُسلموا ، ثم خرج من عنده عليه السلام فمر بسَرْح المدينة فاستاقه ، فلما كان في العام القابل خرج من اليمامة حاجاً في حُجّاج بكرِ بنِ وائل ومعه تجارة عظيمة وقد قلّدوا الهدْي ، فسأل المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم أن يُخلِّيَ بينهم وبينه فأباه النبي عليه الصلاة والسلام فأنزل الله عز وجل : { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله } الآية ، وفُسِّر ابتغاءُ الفضل بطلب الرزق بالتجارة ، وابتغاءُ الرضوان بأنهم كانوا يزعُمون أنهم على سِدادٍ من دَيْنهم ، وأن الحج يقرّبهم إلى الله تعالى ، فوصفهم الله تعالى بظنهم ، وذلك الظنُّ الفاسد وإن كان بمعزل من استتباع رضوانِه تعالى لكن لا بُعدَ في كونه مداراً لحصول بعض مقاصدهم الدنيوية وخلاصِهم عن المكاره العاجلة لا سيما في ضمن مراعاة حقوق الله تعالى وتعظيم شعائره ، وقال قتادة : هو أن يُصلح معايشَهم في الدنيا ولا يعجّلَ لهم العقوبة فيها ، وقيل : هم المسلمون والمشركون ، لما رُوي عن ابن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما أن المسلمين والمشركين كانوا يُحجّون جميعاً فنهى الله المسلمين أن يمنعوا أحداً عن حج البيت بقوله تعالى : { لاَ تُحِلُّواْ } الآية ، ثم نزل بعد ذلك ، { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام } وقوله تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } وقال مجاهد والشعبي : ( لا تحلوا ) نُسخ بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } ولا ريب في تناول الآمّين للمشركين قطعاً ، إما استقلالاً وإما اشتراكاً لما سيأتي من قوله تعالى : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ } الخ ، فيتعين النسخُ كُلاًّ أو بعضاً ، ولا بد في الوجه الأخير من تفسير الفضل والرضوان بما يناسب الفريقين ، فقيل : ابتغاء الفضل أي الرزق للمؤمنين والمشركين عامة ، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة ، ويجوز أن يكون الفضلُ على إطلاقه شاملاً للفضل الأخروي أيضاً ، ويختص ابتغاؤه بالمؤمنين { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا } تصريح بما أشير إليه بقوله تعالى : { وَأَنتُمْ حُرُمٌ } من انتهاء حرمة الصيد بانتفاء موجِبِها ، والأمر للإباحة بعد الحظر كأنه قيل : إذا حَلَلْتم فلا جُناح عليكم في الاصطياد ، وقرىء أَحْللتم ، وهو لغة في حلَّ ، وقُرىء بكسر الفاء بإلقاءِ حركة همزة الوصل عليها وهو ضعيف جداً .(2/199)
{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } نهَى عن إحلال قومٍ من الآمِّين خُصّوا به مع اندراجهم في النَهْي عن إحلال الكلِّ كافة ، لاستقلالهم بأمور ربما يُتوهَّم كونُها مُصحِّحةً لإحلالهم ، داعيةً إليه . وجَرَم جارٍ مَجْرى كَسَبَ في المعنى وفي التعدِّي إلى مفعول واحد وإلى اثنين ، يقال : جَرَم ذنباً نحوُ كسبَه ، وجرَمتُه ذنباً نحو كَسَبْتُه إياه ، خلا أن جَرَم يستعمل غالباً في كسْبِ ما لا خير فيه ، وهو السبب في إيثارِه هاهنا على الثاني . وقد يُنقل الأولُ من كلَ منهما بالهمزة إلى معنى الثاني ، فيقال : أجرمته ذنباً وأكسبته إياه ، وعليه قراءة من قرأ يُجرِمَنَّكم بضم الياء { شَنَانُ قَوْمٍ } بفَتْح النون وقرىء بسكونها ، وكلاهما مصدرٌ أضيف إلى مفعوله ، لا إلى فاعله كما قيل ، وهو شدة البغض وغاية المقت { أَن صَدُّوكُمْ } متعلق بالشنآن بإضمار لام العلة أي لاِءَنْ صدوكم عامَ الحُدَيْبية { عَنِ المسجد الحرام } عن زيارته والطواف به للعمرة ، وهذه آية بيّنةٌ في عموم آمّين للمشركين قطعاً ، وقُرىء إِنْ صدوكم على أنه شرط معترضٌ أغنى عن جوابه ( لا يجرمنكم ) ، قد أبرز الصدَّ المحقّقَ فيما سبق في معرِض المفروض ، للتوبيخ والتنبيه على أن حقه ألا يكون وقوعُه إلا على سبيل الفرض والتقدير { أَن تَعْتَدُواْ } أي عليهم ، وإنما حُذف تعويلاً على ظهوره وإيماءً إلى أن المقصِدَ الأصلي من النهْي منعُ صدورِ الاعتداء عن المخاطَبين محافظةً على تعظيم الشعائر ، لا منعُ وقوعِه على القوم مراعاة لجانبهم ، وهو ثاني مفعولَيْ ( يجرمنكم ) ، أي لا يَكسِبَنَّكم شدةُ بغضِكم لهم لصدهم إياكم عن المسجد الحرام اعتداءَكم عليهم وانتقامَكم منهم للتشفّي ، وهذا وإن كان بحسب الظاهر نهياً للشنآن عن كسب الاعتداء للمخاطَبين ، لكنه في الحقيقة نهيٌ لهم عن الاعتداء على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه ، فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه المؤديةِ إليه نهيٌ عنه بالطريق البرهاني ، وإبطالٌ للسببية ، وقد يوجِّه النهيُ إلى المسبَّب ويراد النهيُ عن السبب كما في قوله : لا أُرَيَنّك هاهنا . يريد به نهي مخاطِبَه عن الحضور لديه ، ولعل تأخير هذا النهي عن قوله تعالى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا } مع ظهور تعلقِه بما قبله للإيذان بأن حرمة الاعتداء لا تنتهي بالخروج عن الإحرام كانتهاء حرمة الاصطياد به ، بل هي باقية ما لم تنقطع علاقتُهم عن الشعائر بالكلية وبذلك يُعلم بقاءُ حرمة التعرضِ لسائر الآمّين بالطريق الأَوْلى .
{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى } لما كان الاعتداءُ غالباً بطريق التظاهرُ والتعاون أُمروا إِثْرَ ما نُهوا عنه بأن يتعاونوا على كل ما هو من باب البر والتقوى ، ومتابعةِ الأمر ومجانبةِ الهوى ، فدخل فيه ما نحن بصدده من التعاون على العفو والإغضاءِ عما وقع منهم دخولاً أولياً ، ثم نُهُوا عن التعاون في كل ما هو من مَقولة الظلمِ والمعاصي بقوله تعالى : { وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان } فاندرج فيه النهيُ عن التعاون على الاعتداء والانتقام بالطريق البرهاني ، وأصل ( لا تعاونوا ) لا تتعاونوا فحذَفَ منه إحدى التاءين تخفيفاً ، وإنما أَخَّر النهْي عن الأمر مع تقدُّم التخلية على التحلية مسارعةً إلى إيجاب ما هو مقصود بالذات ، فإن المقصود من إيجاب تركِ التعاونِ على الإثم والعدوان إنما هو تحصيلُ التعاون على البر والتقوى ، ثم أُمروا بقوله تعالى : { واتقوا الله } بالاتقاء في جميع الأمور التي من جملتها مخالفةُ ما ذُكر من الأوامر والنواهي ، فثبت وجوبُ الاتقاءِ فيها بالطريق البرهاني ثم علل ذلك بقوله تعالى : { أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } أي لمن لا يتقيه فيعاقبكم لا محالة إن لم تتقوه ، وإظهارُ الاسم الجليل لما مرّ مراراً من إدخال الرَّوْعة وتربية المهابةِ وتقويةِ استقلال الجملة .(2/200)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
{ حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } شروعٌ في بيان المُحرَّمات التي أشير إليها بقوله تعالى : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } والميتة ما فارقه الروحُ من غير ذبح { والدم } أي المسفوحُ منه لقوله تعالى : { أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا } وكان أهلُ الجاهلية يصُبّونه في الأمعاء ويشْوونه ، ويقولون : لم يُحرَّمْ مِنْ فَزْدٍ له أي من فصْدٍ له { وَلَحْمُ الخنزير وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } أي رفعُ الصوت لغير الله عند ذبحِه ، كقولهم : باسم اللات والعزى { والمنخنقة } أي التي ماتت بالخنق { والموقوذة } أي التي قُتلت بالضرب بالخشب ونحوِه ، مِنْ وَقَذْتُه إذا ضربته { والمتردية } أي التي تردّت مِنْ علوَ أو إلى بئرٍ فماتت { والنطيحة } أي التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح ، والتاء للنقل ، وقرىء والمنطوحة { وَمَا أَكَلَ السبع } أي وما أكل منه السبُعُ فمات وقرىء بسكون الباء ، وقرىء وأكيلُ السبع ، وفيه دليلٌ على أن جوارحَ الصيد إذا أكلت مما صادته لم يحِلّ { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } إلا ما أدركتم ذَكاتَه وفيه بقيةُ حياةٍ يضطرِبُ اضطرابَ المذبوح . وقيل : الاستثناء مخصوص بما أكل السبع .
والذَكاةُ في الشرع بقطع الحُلقومِ والمَرِيء بمُحدَّد { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } قيل : هو مفردٌ ، وقيل : جمع نِصاب ، وقرىء بسكون الصاد ، وأياً ما كان فهو واحد الأنصاب ، وهي أحجار كانت منصوبةً حول البيت يَذبَحون عليها ويعدّون ذلك قُربة ، وقيل : هي الأصنام { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالازلام } جمع زَلَم وهو القدح أي وحرم عليكم الاستقسام بالقِداح وذلك أنهم إذا قصدوا فعلاً ضربوا ثلاثة قداحٍ مكتوب على أحدها أمرني ربي ، وعلى الثاني نهاني ربي ، وعلى الثالث غُفْل ، فإن خرج الآمرُ مضَوا ذلك ، وإن خرج الناهي اجتنبوا عنه ، وإن خرج الغافل أجالوها مرة أخرى ، فمعنى الاستقسام طلبُ معرفةِ ما قُسِم لهم بالأزلام ، وقيل : هو استقسامُ الجَزورِ بالأقداح على الأنْصِباء المعهودة { ذلكم } إشارة إلى الاستقسام بالأزلام ، ومعنى البعد فيه للإشارة إلى بُعد منزلتِه في الشر { فِسْقٌ } تمرّدٌ وخروجٌ عن الحد ودخولٌ في علم الغيب ، وضلال باعتقاد أنه طريق إليه ، وافتراء على الله سبحانه إن كان هو المراد بقولهم ربي ، وشركٌ وجهالة إن كان هو الصنم ، وقيل : ذلكم إشارةٌ إلى تناول المحرَّماتِ المعدودةِ لأن معنى تحريمها تحريمُ تناولِها .
{ اليوم } اللام للعَهْد ، والمراد به الزمان الحاضرُ وما يتصل به من الأزمنة الماضية والآتية وقيل : ( يومُ نزولِها ، وقد نزلت بعد عصر الجمعةِ يومَ عَرَفةَ في حَجةِ الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم واقفٌ بعَرَفاتٍ على العضباء ) ، فكادت عضُدُ الناقة تندق لثقلها فبرَكَت ، وأياً ما كان فهو منصوب على أنه ظرف لقوله تعالى : { يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } أي من إبطالِه ورُجوعِكم عنه بتحليل هذه الخبائِثِ أو غيرِها ، أو مِنْ أن يغلِبوكم عليه لِمَا شاهدوا من أن الله عز وجل وفى بوعدِه حيث أظهره على الدين كلِّه وهو الأنسب بقوله تعالى : { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } أي أنْ يظهرَوا عليكم { واخشون } أي وأخْلِصوا إليّ الخشية { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } بالنصر والإظهار على الأديان كلها ، أو بالتنصيص على قواعد العقائد ، والتوقيفِ على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد .(2/201)
وتقديمُ الجار والمجرور للإيذان من أول الأمرِ بأن الإكمالَ لمنفعتهم ومصلحتهم ، كما في قوله تعالى : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } وعليكم في قوله تعالى : { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى } متعلِّقٌ بأتممت لا بنعمتي لأن المصدرَ لا يتقدم عليه معمولُه ، وتقديمه على المفعول الصريح لما مرّ مراتٍ ، أي أتممتُها بفتح مكةَ ودخولِها آمنين ظاهرين ، وهدمِ منارِ الجاهلية ومناسكِها والنهْيِ عن حجِّ المشرك وطوافِ العُرْيان ، أو بإكمال الدينِ والشرائع ، أو بالهداية والتوفيق ، قيل : معنى أتممت عليكم نعمتي أنجزتُ لكم وعدي بقولي : { وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ } { وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً } أي اخترتُه لكم من بين الأديان وهو الدينُ عند الله لا غيرُ . عن عمرَ بنِ الخطاب رضي الله تعالى عنه أن رجلاً من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين آيةٌ في كتابكم تقرؤنها لو علينا معشرَ اليهود نزلت لاتخذْنا ذلك اليوم عيداً ، قال : أي آية؟ قال : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى } الآية . قال عمر رضي الله تعالى عنه : قد عرفنا ذلك اليومَ والمكانَ الذي أنزلت فيه على النبي عليه الصلاة والسلام وهو قائم بعرفَةَ يومَ الجمعة ، أشار رضي الله تعالى عنه إلى أن ذلك اليومَ عيدٌ لنا ، ورُوي أنه لما نزلت هذه الآيةُ بكى عمرُ رضي الله تعالى عنه فقال له النبي عليه الصلاة والسلام : «ما يُبكيك يا عمر؟» قال : أبكاني أنا كنا في زيادةٍ من دينِنا ، فإذا كَمَلَ فإنه لا يكملُ شيءٌ إلا نقَصَ ، فقال عليه الصلاة والسلام : «صدقت» فكانت هذه الآيةُ نعْيَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، فما لبِثَ بعد ذلك إلا أحداً وثمانين يوماً .
{ فَمَنِ اضطر } متصلٌ بذكر المحرمات ، وما بينهما اعتراضٌ بما يوجبُ أن يُجتنَبَ عنه ، وهو أن تناوُلَها فسوقٌ ، وحرمتُها من جملة الدينِ الكاملِ والنعمةِ التامةِ والإسلامِ المَرْضِيِّ ، أي فمن اضطُر إلى تناول شيءٍ من هذه المحرمات { فِى مَخْمَصَةٍ } أي في مجاعة يَخافُ معها الموتَ أو مبادِيَه { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } قيل : غيرَ مائلٍ ومنحرفٍ إليه ، بأن يأكُلَها تلذُّذاً أو مُجاوِزٍ حدَّ الرُّخصة أو ينتزِعَها من مضطرٍ آخَرَ كقوله تعالى : { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لا يؤاخذه بذلك .(2/202)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ } شروع في تفصيل المحلَّلاتِ التي ذَكَر بعضَها على وجه الإجمال إِثْرَ بيانِ المحرمات كأنهم سألوا عنها عند بيان أضدادِها ، ولِتَضَمُّنِ السؤال معنى القولِ أوقعُ على الجملة ، ف ( ماذا ) مبتدأ و ( أحل لهم ) خبرُه ، وضميرُ الغَيْبَة لِمَا أنّ يسألون بلفظ الغيبة فإنه كما يُعتبرُ حالُ المحكيِّ عنه فيقال : أقسمَ زيدٌ لأفعلَنّ ، يُعتبرُ حالُ الحاكي ، فيقال : أقسمَ زيدٌ ليفعَلَنّ ، والمسؤول ما أحل لهم من المطاعم { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات } أي ما لم تستخبثْه الطّباعُ السليمة ولم تنفِرْ عنه كما في قوله تعالى : { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الخبئث } { وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح } عطفٌ على الطيبات بتقدير المضاف على أن ( ما ) موصولٌ والعائد محذوف ، أي وصيدُ ما علَّمتُموه ، أو مبتدأ على أن ( ما ) شرطيةٌ والجوابُ فكلوا ، وقد جوَّزَ كونَها مبتدأً على تقديرِ كونِها موصولةً أيضاً والخبرُ كلوا ، وإنما دخلته الفاء تشبيهاً للموصول باسم الشرط و ( من الجوارح ) حالٌ من الموصول أو ضميرِه المحذوف ، والجوارحُ الكواسبُ من سباع البهائم والطير ، وقيل : سميت بها لأنها تجرَحُ الصيدَ غالباً { مُكَلّبِينَ } أي معلِّمين لها الصيدَ والمكلِّبُ مؤدّبُ الجوارحِ ومُضْرِيها بالصيد ، مشتقٌ من الكَلْب لأن التأديب كثيراً ما يقع فيه ، أو لأن كلَّ سبُعٍ يسمى كَلْباً لقوله عليه الصلاة والسلام في حق عُتبةَ بنِ أبي لهبٍ حين أراد سفرَ الشأم ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام : « اللهم سلِّطْ عليه كلباً من كلابك » فأكلَه الأسد . وانتصابُه على الحالية من فاعلِ ( علَّمتم ) وفائدتُها المبالغةُ في التعليم لما أن اسم المكلّب لا يقع إلا على التحرير في علمِه . وقرىء مُكْلِبين بالتخفيف والمعنى واحد { تُعَلّمُونَهُنَّ } حال ثانية منه أو حالٌ من ضمير مكلِّبين أو استئناف { مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله } من الحِيَل وطُرُق التعليم والتأديب ، فإن العلمَ به إلهامٌ من الله تعالى أو مكتسَبٌ بالعقل الذي هو منحةٌ منه أو مما عرَّفَكم أن تعلموه من اتباعِ الصيدِ بإرسالِ صاحبِه وانزجارِه بزَجْرِه وانصرافِه بدعائه وإمساكِ الصيد عليه وعدمِ أكلِه منه { فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } قد مر فيما سبق أن هذه الجملةَ على تقدير كونِ ما شرطيةً جوابُ الشرط ، وعلى تقدير كونِها موصولةً مرفوعةٌ على الابتداءِ خبرٌ لها ، وأما على تقدير كونِها عطفاً على الطيبات فهي جُملةٌ متفرِّعةٌ على بيان حلِّ صيدِ الجوارح المُعْلَمة مبيِّنةٌ للمضاف المقدَّر الذي هو المعطوف ، وبه يتعلق الإحلالُ حقيقةً ، ومشيرةٌ إلى نتيجةِ التعليم وأثره ، داخلةٌ تحت الأمر ، فالفاء فيها كما في قوله :
أمرتُك الخيرَ فافعَلْ ما أُمِرْتَ به ... ومِنْ تبعيضيةٌ لما أن البعضَ مما لا يتعلق به الأكلُ كالجلودِ والعظامِ والريش وغير ذلك ، وما موصولةٌ أو موصوفةٌ حذِفَ عائدُها و ( على ) متعلقة بأمسكن أي فكلوا بعض ما أمسَكْنه عليكم وهو الذي لم يأكُلْن منه ، وأما ما أكلن منه فهو مما أمسَكْنه على أنفسِهن لقوله عليه الصلاة والسلام لعديِّ بن حاتم :(2/203)
« وإن أكل منه فلا تأكل ، إنما أمْسَكَ على نفسِهِ » وإليه ذهب أكثرُ الفقهاء .
وقال بعضُهم : لا يشترط عدمُ الأكل في سباعِ الطير لما أن تأديبَها إلى هذه الدرجة متعذِّر ، وقال آخرون : لا يُشترط ذلك مطلقاً ، وقد رُوي عن سَلمانَ وسعدِ بن أبي وقاص ، وأبي هريرة ، رضي الله تعالى عنهم أنه إذا أكل الكلبُ ثلثيه وبقيَ ثلثُه وقد ذكرتَ اسم الله عليه فكُل { واذكروا اسم الله عَلَيْهِ } الضميرُ لما عَلَّمتم أي سمُّوا عليه عند إرسالِه ، أو لِما أمسكنه ، أي سموا عليه إذا أدركتم ذكاتَه { واتقوا الله } في شأن محرماته { إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } أي سريعُ إتيانِ حسابه ، أو سريعُ تمامِه ، إذا شرَعَ فيه يتِمُّ في أقربِ ما يكون من الزمان ، والمعنى على التقديرين أنه يؤاخِذُكم سريعاً في كل ما جل ودق ، وإظهارُ الاسم الجليل في موقع الإضمار لتربية المهابة وتعليلِ الحُكْم .(2/204)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
{ اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات } قيل : المرادُ بالأيام الثلاثة وقتٌ واحدٌ ، وإنما كرر للتأكيد ، ولاختلافِ الأحداثِ الواقعةِ فيه حَسُنَ تكريرُه ، والمراد بالطيبات ما مر { وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب } أي اليهود والنصارى واستثنى عليٌّ رضي الله تعالى عنه نصارَى بني تغلِبَ ، وقال : ليسوا على النصرانية ، ولم يأخُذوا منها إلا شرْبَ الخمر ، وبه أخذ الشافعي رضي الله عنه ، والمراد بطعامهم ما يتناولُ ذبائِحَهم وغيرَها { لَكُمُ الطيبات } أي حلال ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال : لا بأسَ ، وهو قول عامة التابعين ، وبه أخذ أبو حنيفة رضي الله عنه وأصحابُه ، وحُكمُ الصابئين حكْمُ أهلِ الكتاب عنده . وقال صاحباه : هما صنفان ، صنفٌ يقرؤون الزَّبورَ ويعبُدون الملائكة عليهم السلام ، وصنفٌ لا يقرؤون كتاباً ، ويعبُدون النجوم ، فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب . وأما المجوسُ فقد سُنَّ بهم سُنةَ أهل الكتاب في أخذ الجزيةِ منهم دون أكل ذبائحهم ونكاحِ نسائهم ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " سُنوا بهم سُنّةَ أهلِ الكتاب غيرَ ناكِحِي نسائِهم " { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } فلا عليكم أن تُطعِموهم وتَبيعوه منهم ، ولو حُرِّم عليهم لم يجز ذلك .
{ والمحصنات مِنَ المؤمنات } رفع على أنه مبتدأ حُذف خبرُه لدلالةِ ما تقدم عليه أي حِلٌّ لكم أيضاً ، والمرادُ بهن الحرائرُ العفائِف ، وتخصيصُهن بالذكر للبعث على ما هو الأَوْلى لا لنَفْيِ ما عداهن ، فإن نكاحَ الإماءِ المسلماتِ صحيحٌ بالاتفاق ، وكذا نكاحُ غيرِ العفائِفِ منهن ، وأما الإماءُ الكتابياتُ فهن كالمسلمات عند أبي حنيفة رضي الله عنه ، خلافاً للشافعي رضي الله عنه { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } أي هن أيضاً حل لكم ، وإن كنّ حَرْبيات ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : «لا تَحِلُّ الحربيات» { اليوم أُحِلَّ لَكُمُ } أي مُهورَهن ، وتقييدَ الحِلِّ بإيتائِها لتأكيد وجوبها ، والحثِّ على الأولى ، وقيل : المرادُ بإيتائها التزامُها ، وإذا ظرفيةٌ عاملُها حَلَّ المحذوف ، وقيل : شرطية حُذِف جوابُها ، أي إذا آتيتموهن أجورهن حَلَلْنَ لكم { مُّحْصِنِينَ } حال من فاعل آتيتموهن أي حال كونِكم أعفّاءَ بالنكاح وكذا قوله تعالى : { غَيْرَ مسافحين } وقيل : حال من ضمير محصنين ، وقيل : صفة لمحصِنين ، أي غيرَ مجاهِرين بالزنا { وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ } أي ولا مُسرِّين به والخِدْنُ الصديق يقع على الذكر والأنثى ، وهو إما مجرورٌ عطفاً على مسافحين وزِيدت لا لتأكيد النفي المستفادِ من غير ، أو منصوبٌ عطفاً على ( غير مسافحين ) باعتبار أوجُهِهِ الثلاثة { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان } أي ومن ينكرْ شرائعَ الإسلام التي من جملتها ما بُيِّن هاهنا من الأحكام المتعلقة بالحِلِّ والحرمة ، ويمتنعْ عن قَبولها { فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } الصالح الذي عمِلَه قبل ذلك { وَهُوَ فِى الاخرة مِنَ الخاسرين } هو مبتدأ ( من الخاسرين ) خبرُه ، و ( في ) متعلِّقةٌ بما تعلق به الخبرُ من الكون المطلق ، وقيل : بمحذوف دل عليه المذكورُ أي خاسر في الآخرة ، وقيل : بالخاسرين على أن الألف واللام للتعريف لا موصولة ، لأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها ، وقيل : يُغتفرُ في الظرف ما لا يغتفر في غيره كما في قوله :
ربَّيْتُه حتى إذا تمَعْددا ... كان جزائي بالعَصا أن أُجْلدا(2/205)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
{ يأيها الذين آمنوا } شروعٌ في بيان الشرائع المتعلقةِ بدِينهم بعد بيانِ ما يتعلقُ بدنياهم { إذا قمتم إلى الصلاة } أي أردتم القيامَ إليها كما في قوله تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله } عبر عن إرادة الفعل بالفعل المسبَّبِ عنها مَجازاً للإيجاز ، والتنبيه على أن من أراد الصلاةَ حقُّه أن يبادِرَ إليها بحيث لا ينفك عن إرادتها ، أو إذا قصدتم الصلاةَ إطلاقاً لاسمِ أحدِ لازميها على لازمِها الآخَرِ ، وظاهرُ الآية الكريمةِ يوجبُ الوضوءَ على كل قائمٍ إليها وإن لم يكنْ محدِثاً ، لما أن الأمرَ للوجوب قطعاً ، والإجماعُ على خلافِه ، وقد روي أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى الصلواتِ الخمسَ يومَ الفتح بوُضوءٍ واحد ، فقال عمرُ رضي الله تعالى عنه : صنعتَ شيئاً لم تكنْ تصنَعُه ، فقال عليه الصلاة والسلام : «عمداً فعلتُه يا عمر» يعني بياناً للجواز ، وحُمل الأمرُ بالنسبة إلى غيرِ المحدثِ على الندب مما لا مَساغَ له ، فالوجهُ أن الخِطابَ خاصٌّ بالمُحْدِثين بقرينةِ دَلالةِ الحال ، واشتراطِ الحدَثِ في التيمم الذي هو بدلُه ، وما نُقل عن النبي عليه الصلاة والسلام والخلفاء من أنهم كانوا يتوضّؤون لكل صلاةٍ فلا دلالة فيه على أنهم كانوا يفعلونه بطريق الوجوبِ أصلاً ، كيف لا وما رُوي عنه عليه الصلاة والسلام من قوله : " من توضَّأ على طُهْرٍ كتبَ الله له عشرَ حسنات " صريحٌ في أن ذلك كان منهم بطريق الندب ، وما قيل من أنه كان ذلك أولَ الأمرِ ثم نُسخ يردُّه قوله عليه الصلاة والسلام : " المائدةُ من آخِرِ القرآن نزولاً فأحِلُّوا حلالها وحرِّموا حرامها " { فاغسلوا وُجُوهَكُمْ } أي أمِرُّوا عليها الماء ، ولا حاجةَ إلى الدلك خلافاً لمالك { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق } الجمهورُ على دخول المِرْفَقَين في المغسول ، ولذلك قيل : ( إلى ) بمعنى مَعَ كما في قوله تعالى : { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ } وقيل : هي إنما تُفيد معنى الغاية مطلقاً ، وأما دخولُها في الحُكْم أو خروجُها منه فلا دلالة لها عليه ، وإنما هو أمرٌ يدور على الدليلِ الخارجي ، كما في حفِظْتُ القرآنَ من أولِه إلى آخِرِه ، وقوله تعالى : { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } فإن الدخولَ في الأول والخروجَ في الثاني مُتيقَّنٌ بناءً على تحقُّق الدليل ، وحيث لم يتحققْ ذلك في الآية وكانت الأيدي متناوِلةً للمرافِقِ حُكِمَ بدخولها فيها احتياطاً ، وقيل : ( إلى ) من حيث إفادتُها للغاية تقتضي خروجَها ، لكن لما لم تتميَّزِ الغايةُ هاهنا عن ذي الغايةِ وجبَ إدخالُها احتياطياً .
{ وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ } الباءُ مزيدةٌ وقيل : للتبعيض ، فإنه الفارقُ بين قولِك مسَحْتُ المِنْديلَ ومسحتُ بالمنديل ، وتحقيقُه أنها تدل على تضمينِ الفعل معنى الإلصاق ، فكأنه قيل : وألصِقوا المسحَ برؤوسِكم ، وذلك لا يقتضي الاستيعابَ كما يقتضيه ما لو قيل : وامسحُوا رؤوسَكم ، فإنه كقوله تعالى : { فاغسلوا وُجُوهَكُمْ } واختلف العلماء في القدر الواجب ، فأوجب الشافعيُّ أقلَّ ما ينطلِقُ عليه الاسمُ أخذاً باليقين ، وأبو حنيفةَ ببيانِ رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث مسح على ناصيته وقدِّرها برُبُعِ الرأس ، ومالكٌ مسَحَ الكُلَّ أخذاً بالاحتياط { وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين } بالنْصب عطفاً على ( وجوهَكم ) ، ويؤيده السنةُ الشائعةُ وعَمَلُ الصحابةِ وقولُ أكثرِ الأئمةِ والتحديدُ ، إذِ المسْحُ لم يُعهَدْ محدوداً ، وقرىء بالجرِّ على الجِوار ، ونظيرُه في القرآن كثير ، كقوله تعالى :(2/206)
{ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } ونظائرِه ، وللنحاة في ذلك بابٌ مفرَدٌ ، وفائدتُه التنبيهُ على أنه ينبغي أن يقتصِدَ في صبِّ الماء عليها ويغسِلَها غسلاً قريباً من المسح ، وفي الفصل بينه وبين أخواتِه إيماءٌ إلى أفضلية الترتيب ، وقرىء بالرفع أي وأرجلُكم مغسولةٌ { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا } أي فاغتسِلوا وقرىء ( فاطْهُروا ) أي فطهِّروا أبدانَكم وفي تعليق الأمرِ بالطهارة الكبرى بالحدثِ الأكبر إشارةٌ إلى اشتراط الأمر بالطهارةِ الصغرى بالحدث الأصغر .
{ وَإِنْ كُنتُم مرضى } مرضاً يُخاف به الهلاكُ أو ازديادُه باستعمال الماء { أَوْ على سَفَرٍ } أي مستقرِّين عليه { أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغائط أَوْ لامستم النساء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ } مِنْ لابتداء الغاية ، وقيل : للتبعيض ، وهي متعلقةٌ بامسحوا ، وقرىء فأمُوُّا صعيداً وقد مر تفسيرُ الآية الكريمة مشبَعاً في سورة النساء فليرجَعْ إليه ، ولعل التكريرَ ليتّصِلَ الكلامُ في أنواع الطهارة { مَا يُرِيدُ الله } أي ما يريد بالأمرِ بالطهارة للصلاةِ أو بالأمرِ بالتيمم { لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ } من ضيقٍ في الامتثال به .
{ ولكن يُرِيدُ } ما يريد بذلك { لّيُطَهّرَكُمْ } أي ليُنظِّفَكم أو ليطهِّرَكم عن الذنوب ، فإن الوضوءَ مكفِّرٌ لها ، أو ليطهرَكم بالتراب إذا أعْوَزَكم التطَهُّر بالماء ، فمفعولُ ( يريد ) في الموضعين محذوفٌ ، واللام للعلة ، وقيل : مزيدة ، والمعنى ما يريد الله أن يجعلَ عليكم من حرجٍ في باب الطهارة حتى لا يُرَخَّصَ لكم في التيمم ، ولكن يريد أن يطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهّرُ بالماء { وَلَّيْتُم } بشرعه ما هو مُطَهِّرَةٌ لأبدانكم ومُكفِّرةٌ لذنوبكم { نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } في الدين ، أو ليُتم برُخَصِه إنعامَه عليكم بعزائمِه { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } نعمته .
ومن لطائف الآية الكريمة أنها مشتملةٌ على سبعةِ أمور كلُّها مثنى ، طهارتانِ : أصلٌ وبدلٌ ، والأصلُ اثنان : مستوعَبٌ وغيرُ مستوعبٍ ، وغيرُ المستوعَبِ باعتبار الفعل غسلٌ ومسح ، وباعتبار المحلِّ محدودٌ وغيرُ محدود ، وأن آلتَهما مائعٌ وجامِد ، وموجِبُهما حدثٌ أصغرُ وأكبرُ ، وأن المبيحَ للعُدول إلى البدلِ مَرَضٌ وسفر ، وأن الموعودَ عليهما تطهيرُ الذنوب وإتمامُ النعمة .(2/207)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
{ واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } بالإسلام لتُذكِّرَكم المنعِمَ وتُرغِّبَكم في شكره { وميثاقه الذى وَاثَقَكُم بِهِ } أي عهدَه المؤكَّدَ الذي أخذه عليكم وقوله تعالى : { إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ظرفٌ ل ( واثقكم به ) ، أو لمحذوفٍ وقع حالاً من الضمير المجرور في به ، أو مِنْ ميثاقه ، أي كائناً وقت قولِكم سمعنا وأطعنا ، وفائدةُ التقييدِ به تأكيدُ وجوب مراعاته بتذكر قبولهم والتزامهم بالمحافظة عليه وهو الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم رسولُ الله عليه الصلاة والسلام على السمع والطاعة في حال العُسر واليُسر والمنشَطِ والمَكْره ، وقيل : هو الميثاقُ الواقعُ ليلةَ العقبة وفي بَيْعةِ الرضوان ، وإضافتُه إليه مع صدورِه عنه عليه الصلاة والسلام ، لكنّ المرجِعَ إليه كما نطق به قولُه تعالى : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } وقال مجاهد : هو الميثاقُ الذي أخذه الله تعالى على عباده حين أخرجهم من صُلْب آدمَ عليه السلام { واتقوا الله } أي في نِسيان نعمتِه ونقضِ ميثاقِه ، أو في كلِّ ما تأتون وما تذرون ، فيدخُل فيه ما ذُكر دخولاً أولياً { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أي بخفيّاتِها الملابِسةِ لها ملابَسةً تامة مصحِّحة لإطلاق الصاحبِ عليها فيجازيكم عليها ، فما ظنُّكم بجَلِيَّاتِ الأعمال ، والجُملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ وتعليلٌ للأمر بالاتقاءِ ، وإظهارُ الاسمِ الجليل في موقعِ الإضمار لتربيةِ المهابة وتعليلِ الحُكْم وتقويةِ استقلال الجملة .(2/208)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)
{ يَا أَيُّهَا الذين آمنُوا } شروعٌ في بيان الشرائع المتعلقةِ بما يجري بينهم وبين غيرِهم إثْرَ بيانِ ما يتعلق بأنفسهم { كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ } مقيمين لأوامره ممتثلين لها معظِّمين لها مراعين لحقوقها { شُهَدَاء بالقسط } أي بالعدل { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } أي لا يحمِلَنَّكم { شَنَانُ قَوْمٍ } أي شدةُ بغضِكم لهم { عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ } فلا تشهَدوا في حقوقهم بالعدل أو فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحِلُّ كَمُثلةٍ وقَذْفٍ وقتلِ نساءٍ وصِبْيةٍ ونقضِ عهدٍ تشفياً وغيرِ ذلك { اعدلوا هُوَ } أي العدلُ { أَقْرَبُ للتقوى } الذي أمرتم به ، صرح لهم بالأمر بالعدل وبيّن أنه بمكانٍ من التقوى بعد ما نهاهم عن الجَوْر ، وبيَّن أنه مقتضى الهوى ، وإذا كان وجوبُ العدل في حق الكفار بهذه المثابة فما ظنُّك بوجوبه في حق المسلمين { واتقوا الله } أمرَ بالتقوى إثْرَ ما بين أن العدلَ أقربُ له اعتناءً بشأنه وتنبيهاً على أنه مَلاكُ الأمر { إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } من الأعمال فيجازيكم بذلك وتكريرُ هذا الحُكم إما لاختلاف السببِ ، كما قيل إن الأولَ نزل في المشركين وهذا في اليهود ، أو لمزيد الاهتمام بالعدل والمبالغة في إطفاءِ ثائرةِ الغيظ والجملة تعليلٌ لما قبلها وإظهارُ الجلالة لما مرَّ مرات .
وحيث كان مضمونُها منبئاً عن الوعد والوعيد عقَّب بالوعد لمن يُحافظ على طاعته تعالى وبالوعيد لمن يُخِلُّ بها فقيل : { وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } التي من جملتها العدل والتقوى . { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } حُذفَ ثانِيَ مفعولي وَعَدَ استغناءً عنه بهذه الجملة ، فإنه استئنافٌ مبيِّنٌ له وقيل : الجملةُ في موقع المفعول ، فإن الوعدَ ضربٌ من القول ، فكأنه قيل : وعدَهم هذا القولَ { والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا } التي من جملتها ما تُلِيَ من النصوص الناطقة بالأمر بالعدل والتقوى { أولئك } الموصوفون بما ذُكر من الكفر وتكذيبِ الآيات { أصحاب الجحيم } ملابسوها ملابَسةً مؤبَّدة . من السُنة السنية القرآنية شفْعُ الوعدِ بالوعيد ، والجمعُ بين الترغيب والترهيب ، إيفاءً لحق الدعوة بالتبشير والإنذار .(2/209)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
{ يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } تذكيرٌ لنعمة الإنجاءِ من الشرِّ إثرَ تذكيرِ نعمةِ إيصالِ الخير الذي هو نعمةُ الإسلام وما يتبَعُها من الميثاق ، وعليكم متعلِّقٌ بنعمة الله ، أو بمحذوفٍ وقع حالاً منها وقوله تعالى : { إِذْ هَمَّ قَوْمٌ } على الأول ظرفٌ لنفس النعمة ، وعلى الثاني لِما تعلَّق به عليكم ، ولا سبيلَ إلى كونه ظرفاً لاذْكُروا لتنافي زمانَيْهما ، أي اذكروا إنعامه تعالى عليكم ، أو اذكروا نعمته كائنةً عليكم في وقت همِّهم { أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ } أي بأن يبطِشوا بكم بالقتل والإهلاك ، يقال : بسَطَ إليه يدَه ، وبسط إليه لسانَه إذا شتمه ، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للمسارعة إلى بيان رجوعِ ضررِ البسطِ وغائلتِه إليهم ، حملاً لهم من أول الأمرِ على الاعتداد بنعمةِ دفعِه ، كما أن تقديم ( لكم ) في قوله عز وجل : { هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض } للمبادرة إلى بيان كونِ المخلوق من منافعِهم تعجيلاً للمَسَرّة { فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } عطفٌ على هم ، وهو النعمة التي أُريد تذكيرُها ، وذكراً لهم للإيذان بوقوعها عند مزيد الحاجةِ إليها ، والفاءُ للتعقيب المفيدِ لتمام النعمة وكمالِها ، وإظهارُ ( أيديهم ) في موقع الإضمار لزيادة التقرير ، أي منَعَ أيديَهم أن تُمدَّ إليكم عقيب همِّهم بذلك ، لا أنه كفها عنكم بعد ما مدُّوها إليكم ، وفيه من الدلالة على كمالِ النعمة من حيثُ إنها لم تكن مشوبةً بضَرَر الخوف والانزعاجِ الذي قلما يعْرَى عنه الكفُّ بعد المد ما لا يخفى مكانُه ، وذلك ( ما رُوي أن المشركين لما رأوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه بعَسفانَ في غزوة ذي أنمار ، وهي غزوةُ ذاتِ الرَّقاع وهي السابعةُ من مغازيه عليه الصلاة والسلام ، قاموا إلى الظهر معاً فلما صلَّوْا ندِمَ المشركون ألا كانوا قد أكبُّوا عليهم ، فقالوا إن لهم بعدها صلاةً هي أحبُّ إليهم من آبائهم وأبنائِهم يعنون صلاةَ العصر ، وهمُّوا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها ، فرد الله تعالى كيدَهم بأن أنزلَ صلاةَ الخوف ) ، وقيل : ( هو ما رُوي أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أتى بني قُرَيْظَةَ ومعه الشيخانِ وعليٌّ رضي الله تعالى عنهم ، يستقرِضُهم لدِيَةِ مسلمَيْن قتلهما عمْرُو بنُ أميةَ الضَّمُريُّ خطأً يحسَبُهما مشرِكَيْن ، فقالوا : نعم يا أبا القاسم ، اجلِسْ حتى نُطعِمَك ونعطِيك ما سألت ، فأجلسوه في صُفَّةٍ وهمّوا بالفتك به ، وعمَد عمرُو بنُ جِحاش إلى رَحا عظيمةٍ يطرَحُها عليه فأمسك الله تعالى يده ، ونزل جبريلُ عليه السلام فأخبره ، فخرج عليه الصلاة والسلام ) . وقيل : ( هو ما رُوي أنه عليه الصلاة والسلام ، نزل منزِلاً وتفرّق أصحابُه في العِضاة يستظلون بها ، فعلّق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سيفَه بشجرة ، فجاء أعرابيٌّ فأخذه وسله فقال : مَنْ يمنعُك منيِّ ، فقال صلى الله عليه وسلم : «الله تعالى» فأسقطه جبريلُ عليه السلام من يده ، فأخذه الرسول عليه الصلاة والسلام فقال : «من يمنعك مني» فقال : لا أحدَ ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله ) { واتقوا } عطفٌ على ( اذكُروا ) أي اتقوه في رعاية حقوقِ نعمتِه ولا تُخِلُّوا بشكرِها أو في كلِّ ما تأتون وما تذرون ، فيدخُل فيه ما ذُكر دخولاً أولياً { وَعَلَى الله } أي عليه تعالى خاصةً دون غيرِه استقلالاً واشتركاً { فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } فإنه يكفيهم في إيصال كلِّ خيرٍ ودفع كل شر ، والجملة تذييلٌ مقرِّرٌ لما قبله ، وإيثارُ صيغة أمْرِ الغائبِ وإسسنادُها إلى المؤمنين لإيجابِ التوكل على المخاطَبين بالطريق البرهاني ، وللإيذان بأن ما وُصفوا به عند الخطابِ من وصف الإيمان داعٍ إلى ما أُمروا به من التوكل والتقوى ، وازعٌ عن الإخلال بهما ، وإظهارُ الاسم الجليل في موقع الإضمار لتعليل الحُكْمِ وتقوية استقلالِ الجملة التذييلية .(2/210)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
{ وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِى إسراءيل } كلامٌ مستأنفٌ مشتمِلٌ على ذكر بعضِ ما صدَر عن بني إسرائيلَ من الخِيانة ونقضِ الميثاق وما أدّى إليه ذلك من التّبِعاتِ ، مَسوقٌ لتقرير المؤمنين على ذكر نعمةِ الله تعالى ومراعاةِ حقِّ الميثاقِ الذي واثقهم به ، وتحذيرِهم من نقضِه ، أو لتقرير ما ذُكر من الهم بالبطش وتحقيقِه ، على تقدير كون ذلك من بني قريظة حسْبما مرّ من الرواية ببيان أن الغدرَ والخيانة عادةٌ لهم قديمةٌ توارثوها من أسلافهم ، وإظهار الاسمِ الجليل لتربية المهابةِ وتفخيمِ الميثاق وتهويلِ الخطبِ في نقضه ، مع ما فيه من رعاية حقِّ الاستئنافِ المستدعي للإنقطاع عما قبله ، والالتفاتُ في قوله تعالى : { وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثنى عَشَرَ نَقِيباً } للجري على سَننِ الكِبْرِياء ، أو لأن البعثَ كان بواسطةِ موسى عليه السلام كما سيأتي ، وتقديمُ الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مرّ مراراً من الاهتمامِ بالمقدَّم والتشويقِ إلى المؤخَّر ، والنقيبُ فعيل بمعنى فاعل مشتقٌ من النَّقْب ، وهو التفتيش ، ومنه قوله تعالى : { فَنَقَّبُواْ فِى البلاد } سُمِّيَ بذلك لتفتيشِه عن أحوال القومِ وأسرارِهم . قال الزجاجُ : وأصله من النقْب وهو الثقب الواسع . رُوي ( أن بني إسرائيلَ لما استقروا بمصْرَ بعد مَهْلِكِ فرعونَ أمرهم الله عز وجل بالمسير إلى أَرِيحاءِ أرضِ الشام ، وكان يسكُنها الجبابرةُ الكَنعانيون ، وقال لهم : إني كتبتُها لكم داراً وقراراً فاخرُجوا إليها وجاهِدوا من فيها وإني ناصِرُكم ، وأمر موسى عليه السلام أن يأخُذَ من كلِّ سِبطٍ نقيباً أميناً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أُمروا به توثِقَةً عليهم ، فاختارَ النقباءَ وأُخذ الميثاقُ على بني إسرائيلَ وتكفَّلَ إليهم النُقباء ، وسار بهم ، فلما دنا من أرض كنعانَ بعث النقباءُ يتجسّسون فرأَوْا أجراماً عظيمةً وقوةً وشَوْكة ، فهابوا ورَجَعوا وحدَّثوا قومَهم بما رأوا ، وقد نهاهم موسى عن ذلك ، فنكثوا الميثاقَ إلا كالبَ بنَ يوقنا نقيبَ سبطِ يَهوذا ، ويُوشَعَ بنَ نونٍ نقيبَ سِبطِ أفراييمَ بن يوسُفَ الصّديقِ عليه الصلاة والسلام ) ، قيل : لما توجه النقباءُ إلى أرضهم للتجسس لقِيَهم عوجُ بنُ عنق ، وكان طولُه ثلاثة آلاف سنة ، وكان على رأسه حُزمةُ حطب ، فأخذهم وجعلهم في الحُزمة وانطلق بهم إلى امرأته ، وقال : انظُري إلى هؤلاء الذين يزعُمون أنهم يريدون قتالنا ، فطرَحهم بين يدَيْها وقال : ألا أطحَنُهم برِجْلي ، فقالت : لا بل خلِّ عنهم حتى يُخبِروا قومَهم بما رأوا ، ففعل فجعلوا يتعرّفون أحوالَهم ، وكان لا يحمِلُ عنقودَ عِنبِهم إلا خمسةُ رجال ، أو أربعة ، فلما خرج النقباءُ قال بعضُهم لبعض : إن أخبرتم بني إسرائيلَ بخبر القومِ ارتدوا عن نبي الله ، ولكنِ اكتُموه إلا عن موسى وهارونَ عليهما السلام ، فيكونان هما يَريانِ رأيَهما ، فأخذ بعضُهم على بعضٍ الميثاقَ ثم انصرفوا إلى موسى عليه السلام وكان معهم حبةٌ من عنبِهم وِقْرَ رجل ، فنكثوا عهدَهم وجعل كلٌّ منهم ينهى سِبْطه عن قتالِهم ، ويُخبرهم بما رأى إلا كالبَ ويوشعَ ، وكان معسكرُ موسى فرسخاً في فرسخ فجاء عوج حتى نظر إليهم ثم رجع إلى الجبل ، فقور منه صخرة عظيمة على قدْرِ المعسكر ثم حملها على رأسه ليُطبِقَها عليهم فبعث الله تعالى الهُدُهُد فقوَّر من الصخرة وسَطَها المحاذِيَ لرأسه ، فانتقبت فوقعت في عُنُق عوج ، وطوقته فصرَعَتْه ، وأقبل موسى عليه السلام وطولُه عشرةُ أذرُعٍ ، وكذا طولُ العصا ، فترامى في السماء عشرةَ أذرع ، فما أصاب العصا إلا كعبَه وهو مصروعٌ فقتله ، قالوا : فأقبلت جماعةٌ ومعهم الخناجرُ حتى حزّوا رأسَه .(2/211)
{ وَقَالَ الله } أي لبني إسرائيل فقط إذ هم المحتاجون إلى ما ذُكر من الترغيب والترهيب كما يُنْبىءُ عنه الالتفاتُ مع ما فيه من تربية المهابة وتأكيدِ ما يتضمنه الكلام من الوعد { إِنّى مَعَكُمْ } أي بالعلم والقدرة والنُّصرة ، لا بالنصرة فقط ، فإن تنبيهَهم على علمِه تعالى بكل ما يأتون وما يذرون وعلى كونهم تحت قُدرته وملكوتِه مما يحمِلُهم على الجد في الامتثال بما أمروا به والانتهاء عما نُهوا عنه ، كأنه قيل : إني معكم أسمع كلامَكم وأرى أعمالَكم وأعلم ضمائِرَكم ، فأجازيكم بذلك ، هذا وقد قيل : المرادُ بالميثاق هو الميثاقُ بالإيمان والتوحيد ، وبالنقباءِ ملوكُ بني إسرائيلَ الذين ينقُبون أحوالَهم ، ويَلُون أمورَهم بالأمر والنهي ، وإقامةِ العدل ، وهو الأنسب بقوله تعالى : { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَءاتَيْتُمْ الزكواة وَآمَنتُم بِرُسُلِي } أي بجميعِهم واللامُ موطِّئةٌ للقسم المحذوفِ وتأخيرُ الإيمان عن إقامة الصلاة وإيتاءِ الزكاة مع كونهم من الفروع المترتبةِ عليه لِما أنهم كانوا معترفين بوجوبِهما مع ارتكابِهم لتكذيبِ بعضِ الرسل عليهم السلام ، ولمراعاة المقارَنةِ بينه وبين قوله تعالى : { وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } أي نصرتموهم وقوَّيتموهم ، وأصله الذّبُّ وقيل : التعظيمُ والتوقيرُ والثناءُ بخير . وقرىء ( وعزَزْتُموهم ) بالتخفيف { وَأَقْرَضْتُمُ الله } بالإنفاق في سبيل الخير ، أو بالتصدق بالصدقات المندوبة ، وقوله تعالى : { قَرْضًا حَسَنًا } إما مصدرٌ مؤكّدٌ وارد على غير صيغة المصدر ، كما في قوله تعالى : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } أو مفعولٌ ثانٍ لأقرضتم على أنه اسم للمال المُقْرَض ، وقوله تعالى : { لاكَفّرَنَّ عَنْكُمْ } جوابٌ للقسم المدلولِ عليه باللام سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرط { سيئاتكم وَلاَدْخِلَنَّكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار } عطفٌ على ما قبله داخل معه في حُكم الجواب ، متأخرٌ عنه في الحصول أيضاً ، ضرورةَ تقدُّمِ التخلية على التحلية . { فَمَن كَفَرَ } أي برسلي أو بشيءٍ مما عُدِّد في حيِّز الشرط ، والفاءُ لترتيب بيانِ حُكمِ من كفَر على بيان حُكمِ من آمن ، تقويةً للترغيب بالترهيب { بَعْدَ ذَلِكَ } الشرطِ المؤكّدِ المُعلَّقِ به الوعدُ العظيمُ الموجِبُ للإيمان قطعاً { مّنكُمْ } متعلِّقٌ بمُضْمَرٍ وقعَ حالاً من فاعل كفَرَ ، ولعل تغييرَ السبْكِ حيث لم يقل وإن كفرتم عطفاً على الشرطية السابقة لإخراج كفرِ الكلِّ عن حيِّز الاحتمال ، وإسقاطِ من كفَرَ عن رُتبة الخطاب ، وليس المرادُ إحداثَ الكفر بعد الإيمان ، بل ما يعمُّ الاستمرارَ عليه أيضاً ، كأنه قيل : فمن اتّصفَ بالكفر بعد ذلك ، خلا أنه قصَدَ بإيراد ما يدلّ على الحدوث بيانَ ترقِّيهم في مراتب الكفر ، فإن الاتصافَ بشيءٍ بعد ورودِ ما يوجبُ الإقلاعَ عنه ، وإن كان استمراراً عليه لكنه بحسَب العنوان فعلٌ جديدٌ وصنعٌ حادث { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل } أي وسَطَ الطريق الواضحَ ضلالاً بيناً ، وأخطأه خطأً فاحشاً ، لا عذرَ معه أصلاً ، بخلافِ من كفر قبل ذلك ، إذْ ربما يمكنُ أن يكون له شُبْهةٌ ، ويُتَوهَّمُ له معذرةً .(2/212)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
{ فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم } الباء سببية ، و ( ما ) مزيدةٌ لتأكيد الكلام وتمكينِه في النفس ، أي بسبب نقضِهم ميثاقَهم المؤكَّدَ لا بشيءٍ آخرَ استقلالاً أو انضماماً { لعناهم } طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا ، أو مسخناهم قِرَدَةً وخنازيرَ ، أو أذللناهم بضرب الجزيةِ عليهم . وتخصيصُ البيان بما ذُكر مع أن حقَّه أن يبيَّنَ بعد بيانِ تحققِ نفسِ اللعنِ والنقضِ ، بأن يقال مثلاً : فنقَضوا ميثاقَهم فلعنّاهم ضرورةَ تقدّمِ هيئةِ الشيءِ البسيطةِ على هيئتِه المُركّبة للإيذانِ بأن تحققَهما أمرٌ جليٌّ غنيٌّ عن البيان ، وإنما المحتاجُ إلى ذلك ما بينهما من السببية والمُسبَّبية { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } بحيث لا تتأثرُ من الآيات والنذُر ، وقيل : أملينا لهم ولم نعاجِلْهم بالعقوبة حتى قَسَتْ ، أو خذلناهم ومنعناهم الألطافَ حتى صارت كذلك وقرىء ( قَسِيّة ) ، وهي إما مبالغةُ قاسية ، وإما بمعنى رديئة ، من قولهم : دِرْهمٌ قِسيٌّ ، أي رديء ، إذا كان مغشوشاً له يَبْسٌ وخشونة ، وقرىء بكسر القاف إتباعاً لها بالسين { يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه } استئنافٌ لبيان مرتبةِ قساوةِ قلوبهم فإنه لا مرتبةَ أعظمُ مما يصحح الاجتراءَ على تغيير كلامِ الله عز وجل والافتراءَ عليه ، وصيغةُ المضارع للدلالة على التجدُّد والاستمرار ، وقيل : حالٌ من مفعول لعناهم { وَنَسُواْ حَظَّا } أي تركوا نصيباً وافراً { مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } من التوراة ومن اتّباع محمدٍ عليه الصلاة والسلام ، وقيل : حرفوا التوراةَ وزلَّتْ أشياءُ منها عن حفظهم ، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : ( قد ينسى المرءُ بعضَ العلم بالمعصية ) وتلا هذه الآية { وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَائِنَةٍ مّنْهُمْ } أي خيانةٍ على أنها مصدرٌ كلاغيةٍ وكاذبةٍ أو فَعْلةٍ خائنة ، أي ذاتِ خيانة ، أو طائفةٍ خائنة ، أو شخصٍ خائنةٍ ، على أن التاء للمبالغة ، أو نفسٍ خائنةٍ ، و ( منهم ) متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لها ، خلا أن ( مِنْ ) على الوجهين الأولين ابتدائيةٌ ، أي على خيانةٍ أو على فعلةٍ خائنةٍ كائنةٍ منهم صادرةٍ عنهم ، وعلى الوجوه الباقيةِ تبعيضية ، والمعنى أن الغدرَ والخيانة عادةٌ مستمرة لهم ولأسلافهم بحيث لا يكادون يترُكونها ويكتُمونها فلا تزال ترى ذلك منهم .
{ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ } استثناء من الضمير المجرور في ( منهم ) على الوجوه كلِّها ، وقيل : مِنْ خائنة على الوجوه الثلاثةِ الأخيرة ، والمرادُ بهم الذين آمنوا منهم كعبد اللَّه بنِ سَلام وأضرابِه ، وقيل : من خائنة على الوجه الثاني ، فالمرادُ بالقليل الفعلُ القليل ، ومِنْ ابتدائيةٌ كما مر ، أي إلا فعلاً قليلاً كائناً منهم { فاعف عَنْهُمْ واصفح } أي إن تابوا وآمنوا أو عاهدُوا والتزموا الجزية ، وقيل : مطلقٌ نُسخ بآيةِ السيف { إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } تعليلٌ للأمر وحثٌّ على الامتثال به ، وتنبيهٌ على أن العفوَ على الإطلاقِ من باب الإحسان .
{ وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا ميثاقهم } بيانٌ لقبائح النصارى وجناياتهم إثرَ بيان قبائحِ اليهود وخياناتِهم ، و ( مِن ) متعلقة ( بأخذنا ) ، إذِ التقديرُ وأخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم ، وتقديمُ الجار والمجرور للاهتمام به ، ولأن ذكرَ حال إحدى الطائفتين مما يوقعُ في ذهن السامع أن حالَ الأخرى ماذا؟ فكأنه قيل : ومن الطائفة الأخرى أيضاً أخذنا ميثاقهم ، وقيل : هي متعلقةٌ بمحذوفٍ وقع خبراً لمبتدأ محذوفٍ قامت صفتُه أو صلتُه مَقامه ، أي ومنهم قومٌ أخذنا ميثاقهم ، أو مَنْ أخذنا ميثاقهم ، وضميرُ ( ميثاقَهم ) راجعٌ إلى الموصوف المقدر ، وأما في الوجه الأولِ فراجعٌ إلى الموصول ، وقيل : راجع إلى بني إسرائيل ، أي أخذنا من هؤلاء ميثاق أولئك ، أي مثل ميثاقهم من الإيمان بالله والرسل ، وبما يتفرع على ذلك من أفعال الخير ، وإنما نَسَب تسميتَهم نصارى إلى أنفسهم دون أن يُقال ومن النصارى إيذاناً بأنهم في قولهم نحن أنصارُ الله بمعزلٍ من الصدق ، وإنما هو تقوّلٌ محْضٌ منهم ، وليسوا من نُصْرة الله تعالى في شيء ، أو إظهاراً لكمال سوء صنيعهم ببيان التناقض بين أقوالهم وأفعالهم ، فإن ادعاءهم لنُصْرته تعالى يستدعي ثباتَهم على طاعته تعالى ومراعاة ميثاقه { فَنَسُواْ } عَقيبَ أخذِ الميثاق من غير تلعثم { حَظّاً } وافراً { مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } في تضاعيف الميثاق من الإيمان بالله تعالى وغير ذلك حسبما مرَّ آنفاً ، وقيل : هو ما كُتب عليهم في الإنجيل من أن يُؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام فتركوه ونبذوه وراء ظهورهم ، واتبعوا أهواءهم فاختلفوا وتفرقوا نِسطوريةً ويعقوبيةً وملكانية أنصاراً للشيطان ، { فَأَغْرَيْنَا } أي ألزمنا وألصَقنا ، من غرِيَ بالشيء إذا لزمه ولصِق به ، وأغراه غيرُه ، ومنه الغِراء ، وقوله تعالى : { بَيْنَهُمْ } إما ظرف لأغرينا أو متعلق بمحذوف وقع حالاً من مفعوله ، أي أغرينا { العداوة والبغضاء } كائنة بينهم ، ولا سبيل إلى جعله ظرفاً لهما ، لأن المصدر لا يعمل فيما قبله ، وقوله تعالى : { إلى يَوْمِ القيامة } إما غاية للإغراء أو للعداوة والبغضاء ، أي يتعادَوْن ويتباغضون إلى يوم القيامة حسبما تقتضيه أهواؤهم المختلفة وآراؤُهم الزائغة المؤدية إلى التفرق إلى الفرق الثلاثة ، فضمير ( بينهم ) لهم خاصة ، وقيل : لهم ولليهود ، أي أغرينا العداوة والبغضاء بين اليهود والنصارى { وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } وعيد شديد بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعّده : سأخبرك بما فَعَلت ، أي يجازيهم بما عملوه على الاستمرار من نقض الميثاق ونسيان الحظ الوافر مما ذُكِّروا به ، و ( سوف ) لتأكيد الوعيد ، والالتفاتُ إلى ذكر الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة لتشديد الوعيد ، والتعبيرُ عن العمل بالصنع للإيذان برسوخهم في ذلك ، وعن المجازاة بالتنبئة للتنبيه على أنهم لا يعلمون حقيقةَ ما يعملونه من الأعمال السيئة واستتباعِها للعذاب ، فيكونُ ترتيبُ العذاب عليها في إفادة العلم بحقيقة حالها بمنزلة الإخبار بها .(2/213)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)
{ يَا أَهْلِ الكتاب } التفاتٌ إلى خطاب الفريقين على أن الكتاب جنسٌ شاملٌ للتوراة والإنجيل إثرَ بيانِ أحوالهما من الخيانة وغيرها من فنون القبائح ودعوةٌ لهم إلى الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ، وإيرادُهم بعنوان أهلية الكتاب لانطواء الكلامِ المصدَّر به على ما يتعلق بالكتاب وللمبالغة في التشنيع ، فإن أهلية الكتاب من موجباتِ مراعاته والعمل بمقتضاه وبيان ما فيه من الأحكام ، وقد فعلوا من الكَتم والتحريف ما فعلوا وهم يعلمون { قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا } الإضافة للتشريف ، والإيذانِ بوجوب اتباعه وقوله تعالى : { يُبَيّنُ لَكُمْ } حال من رسولنا ، وإيثارُ الجملة الفعلية على غيرها للدَلالة على تجدّد البيان ، أي قد جاءكم رسولُنا حال كونه مبيناً لكم على التدريج حسبما تقتضيه المصلحة { كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب } أي التوراةِ والإنجيل كبِعثةِ محمد عليه الصلاة والسلام ، وآيةِ الرجم في التوراة وبشارةِ عيسى بأحمدَ عليهما السلام في الإنجيل ، وتأخيرُ ( كثيراً ) عن الجار والمجرور لما مر مراراً من إظهار العناية بالمُقدَّم ، لما فيه من تعجيل المَسَرَّة والتشويق إلى المؤخر لأن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخّر لا سيما مع الإشعار بكونه من منافع المخاطَب تبقَى النفسُ مترقبة إلى وروده ، فيتمكن عندها إذا ورد فضلُ تمكنٍ ، ولأن في المؤخَّر ضربَ تفصيل رمبا يُخِلُّ تقديمُه بتجاذب أطرافِ النظم الكريم ، فإن ( مما ) متعلقٌ بمحذوفٍ وقع صفةً لكثيراً ، و ( ما ) موصولة اسمية وما بعدها صلتُها ، والعائدُ إليها محذوف ، و ( من الكتاب ) متعلق بمحذوف هو حال من العائد المحذوف ، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرارهم على الكتم والإخفاء ، أي يبين لكم كثيراً من الذي تخفونه على الاستمرار حال كونه من الكتاب الذي أنتم أهله والمتمسكون به { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } أي ولا يُظهر كثيراً مما تخفونه ، إذا لم تدعُ إليه داعيةٌ دينية صيانةً لكم عن زيادة الافتضاح كما يُفصحُ عنه التعبير عن عدم الإظهار بالعفو ، وفيه حثّ لهم على عدم الإخفاء ترغيباً وترهيباً ، والجملة معطوفة على الجملة الحالية داخلةٌ في حكمها ، وقيل : يعفو عن كثيرٍ منكم ولا يؤاخذه ، وقوله تعالى : { قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ } جملة مستأنفةٌ مسوقةٌ لبيان أن فائدةَ مجيءِ الرسول ليست منحصرةً فيما ذُكر من بيانِ ما كانوا يُخفونه ، بل له منافعُ لا تحصى ، و ( من الله ) متعلقٌ بجاء ، و ( من ) لابتداء الغاية مجازاً ، أو بمحذوفٍ وقع حالاً من نور ، وأياً ما كان فهو تصريحٌ بما يشعر به إضافةُ الرسول من مجيئه من جنابه عز وجل ، وتقديمُ الجار والمجرور على الفاعل للمسارعة إلى بيان كون المجيء من جهته العالية ، والتشويق إلى الجائي ، ولأن فيه نوعَ تطويلٍ يُخلُّ تقديمُه بتجاوب أطراف النظم الكريم ، كما في قوله تعالى : { وَجَاءكَ فِى هذه الحق وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ } وتنوين ( نور ) للتفخيم ، والمراد به وبقوله تعالى : { وكتاب مُّبِينٌ } القرآن ، لما فيه من كشف ظلمات الشرْك والشك وإبانة ما خفِيَ على الناس من الحق والإعجاز البيِّن ، والعطف لتنزيل المغايَرَة بالعنوان منزلة المُغايرة بالذات ، وقيل : المرادُ بالأول هو الرسول عليه الصلاة والسلام وبالثاني القرآن .(2/214)
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
{ يَهْدِى بِهِ الله } توحيد الضمير المجرور لاتحاد المرجِع بالذات أو لكونهما في حكم الواحد أو أريد يهدي بما ذُكر ، وتقديم الجار والمجرور للاهتمام ، وإظهارُ الجلالة لإظهار كمال الاعتناء بأمر الهداية ، ومحل الجملة الرفع على أنها صفة ثانية لكتاب ، أو النصبُ على الحالية منه لتخصصه بالصفة { مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ } أي رضاه بالإيمان به ، و ( مَنْ ) موصولةٌ أو موصوفة { سُبُلَ السلام } أي طرق السلامة من العذاب والنجاة من العقاب ، أو سبل الله تعالى وهي شريعتُه التي شرعها للناس ، قيل : هو مفعول ثان ( ليهدي ) ، والحقُّ أن انتصابه بنزع الخافض على طريقة قوله تعالى : { واختار موسى قَوْمَهُ } وإنما يُعدَّى إلى الثاني بإلى أو باللام كما في قوله تعالى : { إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } { وَيُخْرِجُهُمْ } الضمير لمن ، والجمع باعتبار المعنى كما أن الإفراد في ( اتبع ) باعتبار اللفظ { مِنَ الظلمات } أي ظلمات فنون الكفر والضلال { إِلَى النور } إلى الإيمان { بِإِذْنِهِ } بتيسيره أو بإرادته { وَيَهْدِيهِمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } هو أقرب الطرق إلى الله تعالى ، ومؤدَ إليه لا محالة ، وهذه الهداية عينُ الهداية إلى سبل السلام ، وإنما عُطفت عليها تنزيلاً للتغاير الوَصْفيِّ منزلة التغايُر الذاتي كما في قوله تعالى : { وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ }(2/215)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
{ لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ } أي لا غيرُ ، كما يقال : الكرمُ هو التقوى ، وهم اليعقوبيةُ القائلون بأنه تعالى قد يحِلُّ في بدن إنسان معين ، أو في روحه ، وقيل : لم يصرِّح به أحدٌ منهم ، لكن حيث اعتقدوا اتصافَه بصفاتِ الله الخاصة وقد اعترفوا بأن الله تعالى موجود ، فلزِمهم القولُ بأنه المسيح لا غير ، وقيل : لما زعموا أن فيه لاهوتاً وقالوا : لا إله إلا واحدٌ ، لزمهم أن يكونَ هو المسيح ، فنُسب إليهم لازمُ قولِهم توضيحاً لجهلهم ، وتفضيحاً لمعتَقَدِهم { قُلْ } أي تبكيتاً لهم وإظهاراً لبطلان قولِهمِ الفاسد وإلقاماً لهم الحجَرَ ، والفاء في قوله تعالى : { فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً } فصيحة ، و ( مَنْ ) استفهامية للإنكار والتوبيخ ، والمُلكُ الضبطُ والحِفظُ التامُّ عن حزم ، و ( من ) متعلقةٌ به على حذف المضاف ، أي إن كان الأمرُ كما تزعُمون فمن يمنَعُ من قدرته تعالى وإرادته شيئاً؟ وحقيقتُه فمن يستطيعُ أن يُمسك شيئاً منهما { إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الارض جَمِيعاً } .
ومن حق مَنْ يكون إلها ألا يتعلقَ به ولا بشأنٍ من شؤونه ، بل بشيءٍ من الموجودات قدرةُ غيرِه بوجهٍ من الوجوه ، فضلاً عن أن يعجِزَ عن دفع شيءٍ منها عند تعلقِها بهلاكه ، فلما كان عجزُه بيناً لا ريب فيه ظهرَ كونُه بمعزل مما تقوَّلوا في حقه . والمرادُ بالإهلاك الإماتةُ والإعدامُ مطلقاً ، لا بطريق السُخْط والغضب ، وإظهارُ المسيح على الوجه الذي نسبوا إليه الألوهية في مقام الإضمار لزيادة التقرير ، والتنصيصِ على أنه من تلك الحيثية بعينها داخلٌ تحت قهره ومَلَكوته تعالى ونفْيِ المالكيةِ المذكورة بالاستفهام الإنكاري عن كل أحدٍ مع تحقق الإلزامِ والتبكيتِ بنفيها عن المسيح فقط ، بأن يقال : فهل يملِك شيئاً من الله إن أراد الخ لتحقيق الحقِّ بنفيِ الألوهية عن كل ما عداه سبحانه . وإثباتُ المطلوب في ضمنه بالطريق البرهاني ، فإن انتفاءَ المالكيةِ المستلزِمَ لاستحالة الألوهية متى ظهر بالنسبة إلى الكلِّ ظهر بالنسبة إلى المسيح على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه فيظهر استحالةُ ألوهيتِه قطعاً . وتعميمُ إرادةِ الإهلاك للكل ، مع حصول ما ذُكر من التحقّق بقَصْرها عليه ، بأن يقال : فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يُهلِك المسيح ، لتهويل الخطب وإظهارِ كمالِ العجز ببيانِ أن الكلَّ تحت قهره تعالى وملَكوته ، لا يقدِرُ أحدٌ على دفع ما أريد به فضلاً عن دفع ما أريد بغيره ، وللإيذان بأن المسيحَ أُسوةٌ لسائر المخلوقات في كونه عُرْضةً للهلاك كما أنه أُسوة لها فيما ذُكر من العجز وعدم استحقاقِ الألوهية ، وتخصيصُ أمِّه بالذكر مع اندراجها في ضمن مَنْ في الأرض لزيادة تأكيدِ عجْز المسيح ، ولعل نَظْمَها في سِلْك من فَرضَ إرادةَ إهلاكهم مع تحقق هلاكها قبل ذلك لتأكيد التبكيت وزيادةِ تقريرِ مضمونِ الكلام ، بجعل حالها أُنموذجاً لحال بقيةِ مَنْ فرَضَ إهلاكَه ، كأنه قيل : قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يُهلكَ المسيح وأمَّه ومن في الأرض ، وقد أهلك أمَّه فهل مانَعَه أحد ، فكذا حال مَنْ عداها من الموجودين وقوله تعالى : { وَللَّهِ مُلْكُ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا } أي ما بين قُطْرَي العالم الجسماني لا بين وجهِ الأرض ومُقعَّرِ فَلك القمر فقط ، فيتناول ما في السموات من الملائكة عليهم السلام وما في أعماق الأرض والبحار من المخلوقات ، تنصيصٌ على كون الكلِّ تحت قهره تعالى وملكوته إثرَ الإشارة إلى كون البعض أي من في الأرض كذلك ، أي له تعالى وحده ملك جميع الموجودات والتصرُّفُ المطلقُ فيها إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة لا لأحد سواه استقلالاً ، ولا اشتراكاً فهو تحقيقٌ لاختصاص الألوهية به تعالى إثرَ بيان انتفائها عن كل ما سواه .(2/216)
وقوله تعالى : { يَخْلُقُ مَا يَشَاء } جملةٌ مستأنفة مَسوقةٌ لبيان بعض أحكام المُلك والألوهية على وجه يُزيحُ ما اعتراهم من الشبهة في أمر المسيح لولادته من غير أب ، وخَلْقِ الطير وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، أي يخلق ما يشاء من أنواع الخلق والإيجاد على أن ( ما ) نكرة موصوفة محلها النصبُ على المصدرية ، لا على المفعولية ، كأنه قيل : يخلق أيَّ خلق يشاؤه فتارةً يخلق من غير أصل كخلق السموات والأرض ، وأخرى من أصلٍ كخلق ما بينهما ، فيُنشىء من أصلٍ ليس من جنسه كخلق آدمَ وكثيرٍ من الحيوانات ، ومن أصلٍ يجانسه إما مِنْ ذكرٍ وحده كخلق حواءَ أو أنثى وحدها ، كخلق عيسى عليه السلام ، أو منهما كخلق سائر الناس ، ويخلق بلا توسط شيء من المخلوقات كخلق عامة المخلوقات ، وقد يخلُق بتوسط مخلوق آخرَ كخلق الطير على يد عيسى عليه السلام معجزةً له وإحياءِ الموتى وإبراءِ الأكمه والأبرص وغير ذلك فيجب أن يُنسَبَ كلُّه إليه تعالى لا إلى من أجرى ذلك على يده { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } اعتراض تذييلي مقرِّرٌ لمضمون ما قبله ، وإظهار الاسم الجليل للتعليل وتقويةِ استقلال الجملة .(2/217)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
{ وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ } حكايةٌ لِما صدر عن الفريقين من الدعوى الباطلة وبيانٌ لبطلانها بعد ذكر ما صدر عن أحدهما وبيانِ بطلانه أي قالت اليهود : نحن أشياعُ ابنِه عُزَيْرٍ ، وقالت النصارى : نحن أشياعُ ابنِه المسيحِ ، كما قيل لأشياع أبي خُبيب وهو عبد اللَّه بن الزبير : الخُبيبيّون ، وكما يقول أقاربُ الملوك عند المفاخرة : نحن الملوك ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إن النبي عليه الصلاة والسلام دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوَّفهم بعقاب الله تعالى فقالوا : كيف تخوِّفُنا به ونحن أبناءُ الله وأحباؤُه؟ وقيل : إن النصارى يتلون في الإنجيل أَنَّ المسيح قال لهم : إني ذاهبٌ إلى أبي وأبيكم ، وقيل : أرادوا أن الله تعالى كالأب لنا في الحُنُوِّ والعطف ، ونحن كالأبناء له في القُرب والمنزلة ، وبالجملة أنهم كانوا يدّعون أن لهم فضلاً ومَزيديةً عند الله تعالى على سائر الخلق ، فردّ عليهم ذلك ، وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { قُلْ } إلزاماً لهم وتبكيتاً { فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم } أي إن صح ما زعمتم فلأيِّ شيءٍ يعذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ ، وقد اعترفتم بأنه تعالى سيعذبكم في الآخرة بالنار أياماً بعدد أيامِ عبادتِكم العجلَ ، ولو كان الأمر كما زعمتم لما صدر عنكم ما صدر ، ولما وقع عليكم ما وقع ، وقوله تعالى : { بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ } عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام ، أي لستم كذلك بل أنتم بشر { مّمَّنْ خَلَق } أي من جنس مَنْ خَلقه الله تعالى من غير مزيةٍ لكم عليهم { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء } أن يغفر له من أولئك المخلوقين ، وهم الذين آمنوا به تعالى وبرسله { وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } أن يعذبه منهم ، وهم الذين كفروا به وبرسله مثلَكم { وَللَّهِ مُلْكُ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا } من الموجودات لا ينتمي إليه سبحانه شيء منها إلا بالملوكية والعبودية والمقهورية تحت ملكوته ، يتصرّف فيهم كيف يشاء إيجاداً وإعداماً ، إحياء وإماتة ، وإثابة وتعذيباً ، فأنى لهم ادعاءُ ما زعموا { وَإِلَيْهِ المصير } في الآخرة خاصة لا إلى غيره استقلالاً أو اشتراكاً فيجازي كلاًّ من المحسن والمسيء بما يستدعيه عملُه من غير صارف يَثْنيه ولا عاطفٍ يَلْويه .(2/218)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
{ يَا أَهْلِ الكتاب } تكريرٌ للخطاب بطريق الالتفات ولطفٌ في الدعوة { قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ } حال من رسولنا ، وإيثارُه على مبيِّناً لما مر فيما سبق ، أي يبين لكم الشرائعَ والأحكامَ الدينية المقرونة بالوعد والوعيد ، ومن جملتها ما بين في الآيات السابقة من بطلان أقاويلِكم الشنعاء ، وما سيأتي من أخبار الأمم السالفة ، وإنما حُذف تعويلاً على ظهور أن مجيءَ الرسول إنما هو لبيانها ، أو يفعلُ لكم البيانَ ، ويبذُله لكم في كل ما تحتاجون فيه إلى البيان من أمور الدين ، وأما تقديرُ مثل ما سبق في قوله تعالى : { كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب } كما قيل فمع كونه تكريراً من غير فائدة ، يرده قوله عز وجل : { على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل } فإن فتورَ الإرسال وانقطاعَ الوحي إنما يُحوج إلى بيان الشرائع والأحكام لا إلى بيان ما كتموه و ( على فترة ) متعلق ( بجاءكم ) على الظرفية كما في قوله تعالى : { واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سليمان } أي جاءكم على حين فتور من الإرسال وانقطاع من الوحي ، ومزيدِ احتياج إلى بيان الشرائع والأحكام الدينية ، أو بمحذوفٍ وقع حالاً من ضمير يبين ، أو من ضمير لكم ، أي يبين لكم ما ذُكر حال كونه على فترة من الرسل ، أو حال كونكم عليها أحوجَ ما كنتم إلى البيان ، و ( من الرسل ) متعلق بمحذوفٍ وقع صفةً لفترة ، أي كائنةٍ من الرسل مبتدَأةٍ من جهتهم .
قوله تعالى : { أَن تَقُولُواْ } تعليل لمجيء الرسول بالبيان على حذف المضاف أي كراهةَ أن تقولوا معتذرين عن تفريطكم في مراعاة أحكام الدين { مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ } وقد انطمست آثارُ الشرائع السابقة ، وانقطعت أخبارُها ، وزيادة ( مِنْ ) في الفاعل للمبالغة في نفي المجيء ، وتنكير بشير ونذير للتقليل ، وهذا كما ترى يقتضي أن المقدر أو المنوي فيما سبق هو الشرائع والأحكام لا كيفما كانت ، بل مشفوعة بما ذكر من الوعد والوعيد ، وقوله تعالى : { فَقَدْ جَاءكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } متعلق بمحذوف ينبىء عنه الفاء الفصيحة وتُبيِّنُ أنه مُعلَّل به ، وتنوينُ ( بشيرٌ ونذيرٌ ) للتفخيم أي لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم بشير أيُّ بشيرٍ ونذير أيُّ نذير { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } فيقدِرُ على الإرسال تترى كما فعله بين موسى وعيسى عليهما السلام حيث كان بينهما ألفٌ وسبعُمائة سنة وألفُ نبيَ وعلى الإرسال بعد الفترة كما فعله بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، حيث كان بينهما ستُمائة سنةٍ أو خمسُمائةٍ وتسعٌ وستون سنةً أو خمسُمائةٍ وستٌ وأربعون سنةً وأربعةُ أنبياءَ على ما روى الكلبيّ ثلاثةٌ من بني إسرائيلَ وواحدٌ من العرب خالد بن سنان العبسي ، وقيل : لم يكن بعد عيسى عليه السلام إلا رسولُ الله عليه السلام وهو الأنسبُ بما في تنوين ( فترةٍ ) من التفخيم اللائق بمقام الامتنان عليهم بأن الرسول قد بُعث إليهم عند كمالِ حاجتهم إليه بسبب مضيِّ زمانٍ طويل بعد انقطاعِ الوحي ليهشّوا إليه ويعُدّوه أعظمَ نعمةٍ من الله تعالى ، وفتحَ بابٍ إلى الرحمة ، وتلزَمُهم الحجةُ فلا يَعتلُّوا غداً بأنه لم يُرسَلْ إليهم من يُنبِّههم من غفلتهم .(2/219)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
{ وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ } جملةٌ مستأنفةٌ مسوقةٌ لبيان ما فعلت بنو إسرائيلَ بعد أخذِ الميثاق منهم ، وتفصيلِ كيفيةِ نقضِهم له وتعلّقِه بما قبله ، من حيث إن ما ذُكر فيه من الأمور التي وصفَ النبيَّ عليه السلام بيانُها ، ومن حيث اشتمالُه على انتفاء فترة الرسل فيما بينهم ، و ( إذ ) نُصب على أنه مفعولٌ لفعل مقدرٍ خوطب به النبيُّ عليه الصلاة والسلام بطريق تلوينِ الخطاب ، وصَرْفُه عن أهل الكتاب ليعدِّدَ عليهم ما صدر عن بعضهم من الجنايات . أي واذكُر لهم وقت قولِ موسى لقومه ناصحاً لهم ومستميلاً لهم بإضافتهم إليه { الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } وتوجيهُ الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات للمبالغة في إيجابِ ذكرِها ، لما أن إيجابَ ذكرِ الوقت إيجابٌ لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهاني ، ولأن الوقت مشتملٌ على ما وقع فيه تفصيلاً ، فإذا استُحضِر كان ما وقع فيه حاضِراً بتفاصيله ، كأنه مشاهَدٌ عِياناً ، و ( عليكم ) متعلق بنفس النعمة إذا جُعلت مصدراً ، وبمحذوف وقع حالاً منها إذا جُعلت اسماً ، أي اذكروا إنعامه عليكم ، وكذا ( إذ ) في قوله تعالى : { إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء } أي اذكروا إنعامه تعالى عليكم في وقت جَعْله أو اذكروا نعمته تعالى كائنة عليكم في وقت جعْلِه فيما بينكم من أقربائكم أنبياءَ ذوِي عددٍ كثير وأُولي شأنٍ خطير ، حيث لم يَبْعثْ من أمة من الأمم ما بَعَث من بني إسرائيلَ من الأنبياء { وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } عطفٌ على ( جعل ) فيكم أو منكم ملوكاً كثيرة ، فإنه قد تكاثر فيهم الملوكُ تكاثرَ الأنبياء ، وإنما حذف الظرف تعويلاً على ظهور الأمر أو جَعْل الكلِّ في مقام الامتنان عليهم ملوكاً ، لما أن أقاربَ الملوك يقولون عند المفاخرة : نحن الملوك ، وإنما لم يسلُكْ ذلك المسلكَ فيما قبله لما أن منصِبَ النبوةِ مِنْ عِظَم الخطر وعِزَّة المطلب وصعوبة المنال بحيث ليس يليقُ أن يُنْسبَ إليه ولو مجازاً مَنْ ليس ممن اصطفاه الله تعالى له . وقيل : كانوا مملوكين في أيدي القِبْط فأنقذهم الله تعالى فسمَّى إنقاذهم مُلْكاً ، وقيل : المَلِكُ مَنْ له مسكنٌ واسع فيه ماء جار ، وقيل : من له بيت وخدم ، وقيل : من له مال لا يَحتاج معه إلى تكلف الأعمال وتحمّل المشاق { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم اذكروا نِعْمَةَ } من فلْق البحر وإغراقِ العدو وتظليل الغمام وإنزال المنّ والسلوى وغير ذلك مما آتاهم الله تعالى من الأمور العِظام ، والمرادُ بالعالمين الأممُ الخالية إلى زمانهم ، وقيل : مِنْ عالَمِي زمانِهم .(2/220)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
{ العالمين يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ } كرر النداء بالإضافة التشريفية اهتماماً بشأن الأمر ومبالغةً في حثهم على الامتثال به ، والأرضُ هي أرضُ بيت المقدس ، سُمِّيت بذلك لأنها كانت قرارَ الأنبياء ومسكنَ المؤمنين .
وقيل : هي الطورُ وما حوله ، وقيل : دمشقُ وفِلَسطينُ وبعضُ الأردن ، وقيل : هي الشام { الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } أي كتَبَ في اللوح المحفوظ أنها تكونُ مسكناً لكم إن آمنتم وأطعتم لقوله تعالى لهم بعد ما عصَوْا : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } وقولِه تعالى : { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أدباركم فَتَنْقَلِبُوا خاسرين } فإن ترتيبَ الخَيبة والخُسران على الارتداد يدل على اشتراط الكَتْب بالمجاهدة المترتِّبة على الإيمان والطاعة قطعاً ، أي لا ترجِعوا مُدبرين خوفاً من الجبابرة ، فالجار والمجرور متعلقٌ بمحذوفٍ هو حال من فاعل ترتدوا ، ويجوز أن يتعلق بنفس الفعل ، قيل : لما سمعوا أحوالهم من النقباء بكَوْا وقالوا : يل ليتنا مِتْنا بمصر ، تعالَوْا نجعلُ لنا رأساً ينصرِفْ بنا إلى مصر ، أو لا ترتدوا عن دينكم بالعصيان وعدم الوثوق بالله تعالى ، وقوله : ( فتنقلبوا ) إما مجزومٌ عطفا على ترتدوا ، أو منصوبٌ على جواب النهي ، والخُسران خُسرانُ الدين والدنيا لا سيما دخولُ ما كتب لهم .
{ قَالُواْ } استئناف مبنيٌّ نشأ من مَساق الكلام كأنه قيل : فماذا قالوا بمقابلة أمرِه عليه السلام ونهيِه؟ فقيل : قالوا غيرَ ممتثِلين بذلك : { قَالُوا ياموسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ } متغلِّبين لا يتأتّى منازعتهم ولا يتسنى مناصبتهم . والجبارُ العاتي الذي يُجبرُ الناسَ ويقسرهم كائناً من كان على ما يريده كائناً ما كان ، فعّال من جبرَه على الأمر أي أجْبَره عليه { وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا } من غير صُنْع مِنْ قِبَلِنا ، فإنه لا طاقة لنا بإخراجهم منها { فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا } بسببٍ من الأسباب التي لا تعلُّقَ لنا بها { فَإِنَّا داخلون } حينئذ ، أتَوْا بهذه الشرطية مع كون مضمونها مفهوماً مما سبق من توقيت عدمِ الدخول بخروجهم منها تصريحاً بالمقصود وتنصيصاً على أن امتناعهم من دخولها ليس إلا لمكانهم فيها ، وأتَوا في الجزاء بالجملة الاسمية المصدرة بحرف التحقيق دلالةً على تقرُّر الدخول وثباتِه عند تحقّق الشرط لا محالة ، وإظهاراً لكمال الرغبة فيه ، وفي الامتثال بالأمر .(2/221)
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
{ قَالَ رَجُلاَنِ } استئنافٌ كما سبق كأنه قيل : هل اتفقوا على ذلك أو خالفهم البعض؟ فقيل : قال رجلان : { مِنَ الذين يَخَافُونَ } أي يخافون الله تعالى دون العدوِّ ويتّقونه في مخالفة أمرِه ونهيِه ، وبه قرأ ابنُ مسعود ، وفيه تعريضٌ بأن مَنْ عداهما لا يخافونه تعالى . بل يخافون العدو . وقيل : من الذين يخافون العدو أي منهم في النسب لا في الخوف وهما يوشَعُ بنُ نون وكالب بن يوقنا من النقباء ، وقيل : هما رجلان من الجبابرة أسلما وسارا إلى موسى عليه السلام ، فالواو حينئذ لبني إسرائيلَ ، والموصول عبارة عن الجبابرة ، وإليهم يعود العائد المحذوف ، أي من الذين يخافهم بنو إسرائيل ويعضده قراءة من قرأ ( يُخافون ) على صيغة المبني للمفعول أي المَخُوفين ، وعلى الأول يكون هذا من الإحافة أي من الذين يخوِّفون من الله تعالى بالتذكير أو يخوِّفهم الوعيدُ { أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا } أي بالتثبيت وربْطِ الجأش والوقوف على شؤونه تعالى والثقة بوعده ، أو بالإيمان وهو صفة ثانيةٌ لرجلان ، أو اعتراض ، وقيل : حال من الضمير في يخافون أو من رجلان لتخصّصه بالصفة ، أي قالا مخاطِبين لهم ومشجعين { ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب } أي بابَ بلدهم ، وتقديم الجار والمجرور عليه للاهتمام به لأن المقصودَ إنما هو دخولُ الباب وهم في بلدهم أي باغِتوهم وضاغِطوهم في المَضيق وامنعوهم من البُروز إلى الصحراء لئلا يجدوا للحرب مجالاً { فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ } أي باب بلدهم وهم فيه { فَإِنَّكُمْ غالبون } من غير حاجة إلى القتال فإنا قد رأيناهم وشاهدنا أن قلوبَهم ضعيفة ، وإن كانت أجسادُهم عظيمة ، فلا تخشَوْهم واهجُموا عليهم في المضايق فإنهم لا يقدرون فيها على الكر والفر . وقيل : إنما حَكَما بالغَلَبة لما عَلِماها من جهة موسى عليه السلام ومن قوله تعالى : { كَتَبَ الله لَكُمْ } أو لِما علِما من سنّته تعالى في نَصْره ورسلَه وما عهِدا من صُنعه تعالى لموسى عليه السلام من قهر أعدائه ، والأول أنسبُ بتعليق الغلَبةِ بالدخول .
{ وَعَلَى الله } تعالى خاصةً { فَتَوَكَّلُواْ } بعد ترتيب الأسباب ولا تعتمدوا عليها فإنها بمعزلٍ من التأثير ، وإنما التأثير من عند الله العزيز القدير { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي مؤمنين به تعالى مصدِّقين لوعده فإن ذلك مما يوجبُ التوكل عليه حتماً { قَالُواْ } استئنافٌ كما سبق أي قالوا غيرَ مبالين بهما وبمقالتهما مخاطِبين لموسى عليه السلام إظهاراً لإصرارهم على القول الأول وتصريحاً بمخالفتهم له عليه السلام { ياموسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا } أي أرضَ الجبابرة فضلاً عن دخول بابهم وهم في بلدهم { أَبَدًا } أي دهراً طويلاً { مَّا دَامُواْ فِيهَا } أي في أرضهم وهو بدل من ( أبداً ) بدلَ البعض أو عطفُ بيان { فاذهب } الفاء فصيحة أي فإذا كان الأمر كذلك فاذهب { أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا } أي فقاتلاهم ، إنما قالوا ذلك استهانةً واستهزاء به سبحانه وبرسوله ، وعدمَ مبالاةٍ بهما ، وقصدوا ذهابَهما حقيقةً كما يُنْبىء عنه غايةُ جهلِهم وقسوةُ قلوبهم ، وقيل : أرادوا إرادتَهما وقصْدَهما كما تقول : كلمتُه فذهب يجيبني ، كأنهم قالوا : فأَرِيدا قتالَهم واقْصِداهم . وقيل : التقدير فاذهبْ أنت وربُك يُعينُك ، ولا يساعده قوله تعالى : { فَقَاتِلا } ولم يذكروا هارون ولا الرجلين كأنهم لم يجزموا بذهابهم أو لم يعبأوا بقتالهم وقوله تعالى : { إِنَّا هاهنا قاعدون } يؤيد الوجه الأول وأرادوا بذلك عدمَ التقدم لا عدمَ التأخر .(2/222)
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
{ قَالَ } عليه السلام لما رأى منهم ما رأى من العِناد على طريقة البثِّ والحُزن والشكوى إلى الله تعالى مع رقة القلبِ التي بمثلها تُستجلبُ الرحمةُ وتُسْتَنزَلُ النُّصرة { رَبّ إِنّى لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى } عطف على نفسي ، وقيل : على الضمير في ( إني ) على معنى إني لا أملك إلا نفسي وإن أخي لا يملِكُ إلا نفسَه ، وقيل : على الضمير في ( لا أملك ) للفصل { فافرق بَيْنَنَا } يريد نفسه وأخاه ، والفاء لترتيب الفرق أو الدعاءِ به على ما قبله { وَبَيْنَ القوم الفاسقين } الخارجين عن طاعتك المُصِرّين على عِصيانك بأن تحكُم لنا بما نستحقّه وعليهم بما يستحقونه ، وقيل : بالتبعيد بيننا وبينهم وتخليصِنا من صحبتهم .
{ قَالَ فَإِنَّهَا } أي الأرض المقدسة ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الدعاء { مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } تحريمَ منعٍ لا تحريمَ تعبُّد ، لا يدخُلونها ولا يملِكونها لأن كتابتها لهم كانت مشروطةً بالإيمان والجهاد ، وحيث نكصوا على أدبارهم حُرموا ذلك وانقلبوا خاسرين ، وقوله تعالى : { أَرْبَعِينَ سَنَةً } إن جُعل ظرفاً ( لمحرمةٌ ) يكون التحريمُ مؤقتاً لا مؤبداً ، فلا يكون مخالفاً لظاهر قولِه تعالى : { كَتَبَ الله لَكُمْ } فالمراد بتحريمها عليهم أنه لا يدخلها أحد منهم في هذه المدة ، لكن لا بمعنى أن كلَّهم يدخلونها بعدها بل بعضُهم بقيَ حسْبما رُوي أن موسى عليه السلام سار بمن بقيَ من بني إسرائيلَ إلى أريحا ، وكان يوشعُ بنُ نون على مقدمته ففتحها وأقام بها ما شاء الله تعالى ثم قُبض عليه السلام ، وقيل : لم يدخلها أحد ممن قال : ( لن ندخُلها أبداً ) ، وإنما دخلها مع موسى عليه السلام النواشىءُ من ذرياتهم ، فالمؤقت بالأربعين في الحقيقة تحريمها على ذرياتهم ، وإنما جُعل تحريمُها عليهم لما بينهما من العلاقة التامة المتاخمة للاتحاد ، وقوله تعالى : { يَتِيهُونَ فِى الارض } أي يتحيرون في البرية ، استئناف لبيان كيفية حِرْمانهم ، أو حال من ضمير عليهم ، وقيل : الظرف متعلق بيتيهون فيكون التيه مؤقتاً والتحريم مطلقاً ، قيل : كانوا ستمائة ألف مقاتل ، وكان طول البرية تسعين فرسخاً ، وقد تاهوا في ستة فراسخَ أو تسعة فراسخَ في ثلاثين فرسخاً ، وقيل : في ستة فراسخَ في اثنى عشرَ فرسخاً .
روي أنهم كانوا كلَّ يوم يسيرون جادّين حتى إذا أمسَوا إذا هم بحيث ارتحلوا ، وكان الغمامُ يُظلُّهم من حر الشمس ، ويطلُع بالليل عمودٌ من نور يضيء لهم ، ويَنزِلُ عليهم المن والسلوى ، ولا تطول شعورُهم ، وإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوبٌ كالظُفُر يطول بطوله ، وهذه الإنعاماتُ عليهم مع أنهم معاقَبون لِما أن عقابَهم كان بطريق العِراك والتأديب . قيل : كان موسى وهارون معهم ولكن كان ذلك لهما رَوْحاً وسلامة كالنار لإبراهيم وملائكةِ العذاب عليهم السلام ، وروي أن هارون مات في التيه ومات موسى بعده فيه بسنة ، ودخل يوشعُ أريحا بعد موته بثلاثة أشهر ، ولا يساعده ظاهرُ النظم الكريم ، فإنه تعالى بعد ما أقبل على بني إسرائيلَ وعذبهم بالتيه بعيدٌ أن ينجِّيَ بعضَ المدعوِّ عليهم أو ذراريهم ويقدّر وفاتَهما في محل العقوبة ظاهراً ، وإن كان ذلك لهما منزِلَ رَوْحٍ وراحةٍ وقد قيل : إنهما لم يكونا معهم في التيه وهو الأنسب بتفسير الفرق بالمباعدة ، ومن قال بأنهما كانا معهم فيه فقد فسر الفَرْقَ بما ذُكر من الحُكْمِ بما يستحقّه كلُّ فريق .(2/223)
{ فَلاَ تَأْسَ } فلا تحزن { عَلَى القوم الفاسقين } روي أنه عليه السلام ندِم على دعائه عليهم فقيل : لا تندمْ ولا تحزَن فإنهم أحِقّاءُ بذلك لفسقهم .(2/224)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
{ واتل عَلَيْهِمْ } عطف على مقدّر تعلق به قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ موسى } الخ ، وتعلُقه به من حيث إنه تمهيدٌ لما سيأتي من جِنايات بني إسرائيلَ بعد ما كُتب عليهم ما كُتب وجاءتهم الرسلُ بما جاءت به من البينات { نَبَأَ ابْنَي آدَم } هما قابيلُ وهابيلُ ، ونُقل عن الحسن والضحاك أنهما رجلان من بني إسرائيلَ بقرينةٍ آخِرَ القصة ، وليس كذلك . أوحى الله عز وجل إلى آدمَ أن يزوج كلاًّ منهما توأمةَ الآخر وكانت توأمةُ قابيلَ أجملَ واسمُها إقليما فحسدَه عليها أخاه وسخِط ، وزعم أن ذلك ليس من عند الله تعالى بل من جهة آدمَ عليه السلام فقال لهما عليه السلام : قرِّبا قُرباناً فمِنْ أيِّكما قُبل تزوّجها ، ففعلا ، فنزلت نارٌ على قُربانِ هابيلَ فأكلتْه ولم تتعرَّضْ لقُربانِ قابيلَ ، فازداد هابيلُ حسَداً وسُخْطاً وفعل ما فعل ، { بالحق } متعلق بمحذوفٍ وقع صفةً لمصدرٍ محذوف ، أي تلاوةً ملتبسةً بالحق والصِّحة ، أو حالاً من فاعلِ ( اتْلُ ) أو من مفعوله ، أي ملتبساً أنت أو ( اتل ) نبأَهما بالحق والصدقِ حسبما تقرّر في كتب الأولين { إِذْ قَرَّبَا قربانا } منصوب بالنبأ ظرفٌ له أي اتلُ قصتهما ونبأهما في ذلك الوقت ، وقيل : بدلٌ منه على حذف المضافِ أي اتلُ عليهم نبأهما نبأَ ذلك الوقت ، ورُد عليه بأن ( إذ ) لا يضاف إليها غيرُ الزمان كوقتئذ وحينئذ ، والقُربان اسمٌ لما يُتقرَّب به إلى الله تعالى من نسُكٍ أو صَدَقةٍ كالحُلوان اسمٌ لما يُحْلى أي يعطى ، وتوحيدُه لما أنه في الأصل مصدرٌ ، وقيل : تقديره إذ قرّب كلٌّ منهما قرباناً { فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا } هو هابيلُ ، قيل : كان هو صاحبَ ضَرْعٍ وقرب جَملاً سميناً فنزلت نارٌ فأكلتْه { وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاخر } هو قابيل ، قيل : كان هو صاحبَ زرع وقرّب أردأَ ما عنده من القمح فلم تتعرضْ له النارُ أصلاً .
{ قَالَ } استئناف مبنيٌّ على سؤالٍ نشأ من سَوْق الكلام كأنه قيل : فماذا قال من لم يُتقبَّلْ قُربانه؟ فقيل : قال لأخيه لِتضاعُفِ سَخَطِه وحسَدِه لما ظهر فضلُه عليه عند الله عز وجل { لاَقْتُلَنَّكَ } أي والله لأقتلنَّك بالنون المشددة وقرىء بالمخففة { قَالَ } استئناف كما قبله أي قال الذي تُقُبِّل قُربانُه لمّا رأى أن حسَدَه لقَبول قُربانه وعدمِ قَبول قُربانِ نفسِه { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله } أي القربانَ { مِنَ المتقين } لا من غيرهم ، وإنما تقبَّلَ قُرباني وردّ قُربانَك لما فينا من التقوى وعدمِه ، أي إنما أُتيتَ من قِبَل نفسِك لا من قِبَلي فلم تقتلني ، خلا أنه لم يصرِّحْ بذلك بل سلك مسلكَ التعريضِ حذراً من تهييج غضبه وحملاً له على التقوى والإقلاعِ عما نواه ولذلك أُسند الفعلُ إلى الاسم الجليل لتربية المهابة ، ثم صرح بتقواه على وجهٍ يستدعي سكونَ غيظِه لو كان له عقلٌ وازعٌ حيث قال بطريق التوكيد .(2/225)
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
{ لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لاِقْتُلَكَ } حيث صدَّر الشرطيةَ باللام الموطِّئةِ للقسم وقدم الجارَّ والمجرورَ على المفعول الصريح إيذاناً من أول الأمر برجوعِ ضررِ البسطِ وغائلتِه إليه ، ولم يُجْعلْ جوابُ القسم السادُّ مسدَّ جوابِ الشرط جملةً فعليةً موافقة لما في الشرط ، بل اسميةً مصدّرةً بما الحجازية المفيدةِ لتأكيدِ النفي بما في خبرها من الباء للمبالغة في إظهار براءتِه عن بسْطِ اليد ببيانِ استمراره على نفي البسط كما في قوله تعالى : { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } وقوله : { وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا } فإن الجملة الاسميةَ الإيجابيةَ كما تدل بمعونة المقام على دوام الثبوت كذلك السلبية تدل بمعونته على دوام الانتفاءِ لا على انتفاءِ الدوامِ ، وذلك باعتبار الدوام والاستمرار بعد اعتبارِ النفي لا قبله حتى يردَ النفيُ على المقيّدِ بالدوام فيرفعَ قيدَه . أي والله لئن باشرتَ قتلي حسبما أوعدتني به وتحقق ذلك منك ما أنا بفاعلٍ مثلَه لك في وقت من الأوقات ثم علل ذلك بقوله :
{ إِنّى أَخَافُ الله رَبَّ العالمين } وفيه من إرشادِ قابيلَ إلى خشية الله تعالى على أبلغ وجهٍ وآكدِه ما لا يخفى ، كأنه قال : إني أخافه تعالى إن بسطتُ يدِيَ إليك لأقتلك أن يعاقبَني وإن كان ذلك مني لدفع عداوتِك عني فما ظنُّك بحالك وأنت البادىءُ العادي ، وفي وصفه تعالى بربوبية العالمين تأكيدٌ للخوف . قيل : كان هابيلُ أقوى منه ولكن تحرَّج عن قتله واستسلم خوفاً من الله تعالى لأن القتلَ للدفع لم يكون مُباحاً حينئذ ، وقيل : تحرِّياً لما هو الأفضلُ حسبما قال عليه السلام : « كن عبدَ الله المقتول ولا تكنْ عبدَ الله القاتل » ويأباه التعليلُ بخوفه تعالى إلا أن يدعى أن تركَ الأَوْلى عنده بمنزلة المعصية في استتباع الغائلة مبالغةً في التنزه ، وقوله تعالى : { إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ } تعليل آخرُ لامتناعه عن المعارضة على أنه غرَضٌ متأخِّرٌ عنه كما أن الأولَ باعثٌ متقدِّمٌ عليه ، وإنما لم يُعطفْ عليه تنبيهاً على كفاية كلَ منهما في العِلّية والمعنى إني أريد باستسلامي لك وامتناعي عن التعرّض لك أن ترجِعَ بإثمي أي بمثل إثمي لو بسطتُ يدي إليك وإثمِك ببسط يدِك إليّ ، كما في قوله عليه السلام : « المُسْتَبَّانِ مَا قَالاَ فَعَلَى البَادِىءِ مَا لَمْ يَعْتَدِ المَظْلُوم » أي على البادىء عينُ إثمِ سبِّه ومثلُ سبِّ صاحبه بحكم كونه سَبَباً له ، وقيل : معنى ( بإثمي ) إثمِ قتلي ومعنى ( بإثمك ) إثمِك الذي لأجله لم يُتقبَّلْ قُربانُك ، وكلاهما نصب على الحالية أي ترجع ملتبساً بالإثمين حاملاً لهما ولعل مرادَه بالذات إنما هو عدمُ ملابستِه للإثم لا ملابسةِ أخيه له ، وقيل : المراد بالإثم عقوبتُه ولا ريب في جواز إرادة عقوبةِ العاصي ممن عَلِم أنه لا يرعوي عن المعصية أصلاً ، ويأباه قولُه تعالى : { فَتَكُونَ مِنْ أصحاب النار } فإن كونَه منهم إنما يترتّب على رجوعه بالإثمين لا على ابتلائِه بعقوبتهما ، وحملُ العقوبة على نوعٍ آخَرَ يترتّبُ عليها العقوبةُ النارية يردّه قوله تعالى : { وَذَلِكَ جَزَاء الظالمين } فإنه صريحٌ في أن كونه من أصحاب النار تمامُ العقوبة وكمالُها ، والجملة تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبلها ، ولقد سلك في صَرْفه عما نواه من الشر كلَّ مسلك من العظة والتذكير بالترغيب تارةً والترهيب أخرى ، فما أورثه ذلك إلا الإصرارَ على الغيِّ والانهماك في الفساد .(2/226)
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } أي وسَّعَتْه وسهّلته ، من طاعَ له المرتَعُ إذا اتسع ، وترتيبُ التطويع على ما حُكي من مقالات هابيلَ مع تحققه قبلها أيضاً كما يُفصح عنه قولُه : { لاَقْتُلَنَّكَ } لِما أن بقاءَ الفعل بعد تقرّر ما يُزيله من الدواعي القوية وإن كان استمراراً عليه بحسَب الظاهر ، لكنه في الحقيقة أمرٌ حادث وصُنع جديد ، كما في قولك : وعظتُه فلم يتَّعظ ، أو لأن هذه المرتبةَ من التطويع لم تكن حاصلةً قبلَ ذلك بناءً على تردُّده في قُدرته على القتل ، لما أنه كان أقوى منه . وإنما حصلت بعد وقوفه على استسلام هابيلَ وعدم معارضتِه له ، والتصريحُ بأُخوَّته لكمال تقبيحِ ما سوَّلته نفسُه . وقرىء ( فطاوعت ) على أنه فاعَلَ بمعنى فعل ، أو على أن قتل أخيه كأنه دعا نفسه إلى الإقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع ، و ( له ) لزيادة الربطِ كقولك : حفظتُ لزيد مالَه { فَقَتَلَهُ } قيل : ( لم يدر قابيلُ كيف يقتل هابيلَ ، فتمثل إبليسُ وأخذ طائراً ووضع رأسه على حجر ثم شدَخها بحجر آخرَ فتعلّم منه فرضخَ رأسَ هابيلَ بين حجرين وهو مستسلم لا يستعصي عليه ) ، وقيل : اغتالَه وهو نائم ، وكان لهابيلَ يوم قُتل عشرون سنة واختلف في موضِع قتلِه ، فقيل : عند عقبةِ حِراء ، وقيل : بالبصرة في موضع المسجدِ الأعظم ، وقيل : في جبل بود ، ولما قتله تركه بالعَراء لا يدري ما يصنع به فخاف عليه السباع فحمله في جِراب على ظهره أربعين يوماً ، وقيل : سنة ، حتى أروح وعكفت عليه الطيور والسباع تنظر متى يرمي به فتأكلَه { فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين } ديناً ودنيا .
{ فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِى الارض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْأَةَ أَخِيهِ } روي ( أنه تعالى بعث غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخرَ فحفر له بمنقاره ورجليه حُفرة فألقاه فيها ) ، والمستكنُّ في ( يريَه ) لله تعالى أو للغراب ، واللام على الأول متعلقة ببعَثَ حتماً ، وعلى الثاني بيبحث ، ويجوز تعلُّقها ببعث أيضاً و ( كيف ) حال من ضمير ( يُواري ) والجملةُ ثاني مفعولي يري ، والمرادُ بسَوْءة أخيه جسدُه الميْتُ { قَالَ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من سوق الكلامِ كأنه قيل : فماذا قال عند مشاهدةِ حال الغراب؟ فقيل : قال : { يا ويلتى } هي كلمةُ جَزَعٍ وتحسّرٍ والألفُ بدلٌ من ياء المتكلم والمعنى يا ويلتي احضُري فهذا أوانك ، والويلُ والويلةُ الهلَكة { أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ } أي عن أن أكون { مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِى } تعجبٌ من عدم اهتدائِه إلى ما اهتدى إليه الغرابُ ، وقولُه تعالى : { فَأُوَارِيَ } بالنصب عطفٌ على أن أكون ، وقرىء بالرفع أي فأنا أواري { فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين } أي على قتله لِما كابد فيه من التحيّر في أمره وحملِه على رقبته مدةً طويلة . روي أنه لما قتله اسودّ جسدُه وكان أبيضَ ، فسأله آدمُ عن أخيه فقال : ما كنت عليه وكيلاً ، قال : بل قتلتَه ولذلك اسود جسدُك ، ومكث آدمُ بعده مائةَ سنةٍ لا يضحك ، وقيل : لما قتل قابيلُ هابيلَ هرب إلى عدن من أرض اليمن ، فأتاه إبليسُ فقال له : إنما أكلت النارُ قربانَ هابيلَ لأنه كان يخدُمها ويعبُدها ، فإن عبدتَها أيضاً حصل مقصودُك ، فبنى بيتَ نارٍ فعبدها وهو أولُ مَنْ عبد النار .(2/227)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
{ مِنْ أَجْلِ ذلك } شروعٌ فيما هو المقصودُ من تلاوة النبأ من بيان بعضٍ آخرَ من جنايات بني إسرائيل ومعاصيهم ، وذلك إشارةٌ إلى عِظم شأنِ القتلِ وإفراطِ قُبحِه المفهومَين مما ذكر في تضاعيف القِصّةِ من استعظام هابيلَ له وكمالِ اجتنابه عن مباشرته ، وإن كان ذلك بطريق الدفعِ عن نفسه واستسلامه لأن يُقتلَ خوفاً من عقابه وبيانِ استتباعِه لتحمل القاتلِ لإثم المقتول ومن كون قابيلَ بمباشرته من جُملة الخاسرين دينَهم ودنياهم ومن ندامته على فعله مع ما فيه من العتوّ وشدة الشكيمةِ وقساوةِ القلب ، والأجْلُ في الأصل مصدر أجَل شراً إذا جناه ، استعمل في تعليل الجناياتِ كما في قولهم : من جرّاك فعلتُه أي من أن جرَرْتَه وجنيتَه ، ثم اتُّسع فيه واستُعمل في كل تعليل ، وقرىء من إِجْل بكسر الهمزة وهي لغة فيه ، وقرىء مِنَ اجْل بحذف الهمزة وإلقاء فتحتها على النون ، ومن لابتداء الغايةِ متعلقةٌ بقوله تعالى : { كَتَبْنَا على بَنِى إسراءيل } وتقديمُها عليه للقصر أي من ذلك ابتداءُ الكَتْب ، ومنه نشأ لا من شيء آخرَ ، أي قضينا عليهم وبيّنا { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً } واحدةً من النفوس { بِغَيْرِ نَفْسٍ } أي بغير قتلِ نفسٍ يوجب الاقتصاص { أَوْ فَسَادٍ فِى الارض } أي فساد يوجب إهدارَ دمِها ، وهو عطفٌ على ما أضيف إليه ( غير ) على معنى نفي كِلا الأمرين ، كما في قولك : من صلّى بغير وضوءٍ أو تيمُّمٍ بطلت صلاتُه ، لا نفيِ أحدِهما ، كما في قولك : من صلّى بغير وضوءٍ أو ثوبٍ بطلت صلاتُه ، ومدارُ الاستعمالين اعتبارُ ورودِ النفي على ما يُستفاد من كلمة أو من الترديد بين الأمرين المنبىء عن التخيير والإباحة ، واعتبارِ العكس ، ومناطُ الاعتبارين اختلافُ حالِ ما أضيف إليه ( غير ) من الأمرين بحسب اشتراطِ نقيضِ الخُكمِ بتحقق أحدِهما ، واشتراطِه بتحققهما معاً ، ففي الأول يرد النفيُ على الترديد الواقعِ بين الأمرين قبل ورودِه فيفقِدُ نفيَهما معاً وفي الثاني يرد الترديدُ على النفي فيفيد نفيَ أحدهما حتماً إذ ليس قبل ورودِ النفيِ ترديدٌ حتى يُتصَوَّر عكسُه .
وتوضيحُه أن كلَّ حكمٍ شُرِطَ بتحقق أحدِ شيئين مثلاً فنقيضُه مشروطٌ بانتفائهما معاً ، وكلَّ حكمٍ شرُط بتحققهما معاً فنقيضُه مشروطٌ بانتفاء أحدِهما ضرورةَ أن نقيضَ كلِّ شيءٍ مشروطٌ بنقيض شرطِه ، ولا ريب في أن نقيضَ الإيجابِ الجزئي كما في الحكم الأول هو السلبُ الكليُّ ، ونقيضَ الإيجابِ الكليِّ ، كما في الحكم الثاني هو رفعُه المستلزِمُ للسلب الجزئي ، فثبت اشتراطُ نقيضِ الأولِ بانتفائهما معاً واشتراطُ نقيضِ الثاني بانتفاء أحدِهما ، ولمّا كان الحكمُ في قولك : من صلى بوضوء أو تيممٍ صحت صلاتُه مشروطاً بتحقق أحدِهما مُبْهماً كان نقيضُه في قولك : من صلى بغير وضوءٍ أو تيمم بطلتْ صلاتُه مشروطاً بنقيض الشرطِ المذكور البتةَ ، وهو انتفاؤهما معاً ، فتعين ورودُ النفي المستفادِ من ( غير ) على الترديد الواقعِ بين الوضوء والتيمّمِ بكلمة ( أو ) فانتفى تحققُهما معاً ضرورةَ عمومِ النفي الواردِ على المبهم ، وعلى هذا يدور ما قالوا إنه إذا قيل : جالس العلماءَ أو الزهاد ثم أُدخل عليه لا الناهية امتنع فعلُ الجميع ، نحو(2/228)
{ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً } إذ المعنى لا تفعلْ أحدَهما فأيُّهما فعله فهو أحدُهما وأما قولُك : من صلى بوضوء أو ثوبٍ صحت صلاتُه فحيث كان الحكمُ فيه مشروطاً بتحقق كِلا الأمرين كان نقيضُه في قولك : من صلى بغير وضوء أو ثوبٍ بطلتْ صلاتُه مشروطاً بنقيض الشرطِ المذكورِ وهو انتفاءُ أحدِهما فتعين ورودُ الترديد على النفي فأفاد نفيَ أحدِهما ، ولا يخفى أن إباحةَ القتلِ مشروطةٌ بأحد ما ذكر من القتل والفساد ، ومن ضرورته اشتراطُ حرمتِه بانتفائهما معاً فتعين ورودُ النفي على الترديد لا محالة ، كأنه قيل : مَنْ قتل نفساً بغير أحدِهما { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً } فمن قال في تفسيره أو بغير فساد فقد أبعد عن توفية النظم الكريم حقَّه ، وما في ( كأنما ) كافةٌ مهيئةٌ لوقوع الفعلِ بعدها ، وجميعاً حالٌ من الناس أو تأكيد ، ومناطُ التشبيهِ اشتراكُ الفعلين في هتك حرمةِ الدماء والاستعصاء على الله تعالى وتجسيرِ الناس على القتل وفي استتباع القَوَد واستجلابِ غضبِ الله تعالى وعذابِه العظيم .
{ وَمَنْ أحياها } أي تسبب لبقاء نفس واحدةٍ موصوفةٍ بعدم ما ذُكر من القتل والفساد في الأرض إما بنهي قاتلِها أو استنقاذِها من سائر أسبابِ الهلَكة بوجهٍ من الوجوه { فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } وجهُ التشبيهِ ظاهرٌ والمقصودُ تهويلُ أمرِ القتلِ وتفخيمُ شأن الإحياءِ بتصوير كلَ منهما بصورة لائقة به في إيجاب الرهبةِ والرغبة ، ولذلك صدر النظمُ الكريمُ بضمير الشأنِ المنبىء عن كمال شهرته ونباهته وتبادره إلى الأذهان عند ذكر الضمير الموجب لزيادة تقريرِ ما بعده في الذهن ، فإن الضميرَ لا يفهم منه من أول الأمرِ إلا شأنٌ مبهمٌ له خطرٌ فيبقى الذهنُ مترقباً لما يعقُبه فيتمكن عند ورودِه فضلُ تمكّنٍ كأنه قيل : إن الشأن الخطيرَ هذا { وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات } جملةٌ مستقلةٌ غيرُ معطوفةٍ على كتبنا أُكّدت بالتوكيد القسمي وحرفِ التحقيقِ لكمال العنايةِ بتحقق مضمونِها ، وإنما لم يُقَلْ ولقد أرسلنا الخ للتصريح بوصول الرسالةِ إليهم ، فإنه أدلُّ على تناهيهم في العتوّ والمكابرة ، أي وبالله لقد جاءتهم رسلنا حسبما أرسلناهم بالآيات الواضحةِ الناطقةِ بتقرير ما كتبنا عليهم تأكيداً لوجوب مراعاتِه وتأييداً لتحتم المحافظةِ عليه .
{ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذلك } أي بعد ما ذكر من الكَتْب وتأكيدِ الأمر بإرسال الرسلِ تترى وتجديدِ العهدِ مرة بعد أخرى ، ووضعُ اسمِ الإشارةِ موضعَ الضمير للإيذان بكمال تميّزِه وانتظامِه بسبب ذلك في سلك الأمورِ المشاهدة ، وما فيه من معنى البعدِ للإيماء إلى علو درجتِه وبُعد منزلتِه في عظم الشأنِ ، وثم للتراخي في الرتبة والاستبعاد { فِى الارض } متعلقٌ بقوله تعالى : { لَمُسْرِفُونَ } وكذا الظرفُ المتقدم ، ولا يقدح فيه توسطُ اللام بينه وبينهما لأنها لامُ الابتداءِ وحقُّها الدخولُ على المبتدأ ، وإنما دخولُها على الخبر لمكان إنّ ، فهي في حيزها الأصلي ، والإسرافُ في كل أمر التباعدُ عن حد الاعتدالِ مع عدم مبالاة به ، أي مسرفون في القتل غيرُ مبالين به ، ولما كان إسرافُهم في أمر القتلِ مستلزِماً لتفريطهم في شأن الإحياءِ وجوداً وذكراً وكان هو أقبحَ الأمرين وأفظعَهما اكتفي بذكره في مقام التشنيع .(2/229)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
{ إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ } كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان حكمِ نوع من أنواع القتلِ وما يتعلق به من الفساد بأخذ المالِ ونظائرِه وتعيينِ موجبِه العاجلِ والآجلِ إثرَ بيانِ عظمِ شأن القتلِ بغير حق ، وأُدرج فيه بيانُ ما أشير إليه إجمالاً من الفساد المبيحِ للقتل ، قيل : أي يحاربون رسولَه ، وذكرُ الله تعالى للتمهيد والتنبيه على رفعة محلّه عنده عز وجل ومحاربةُ أهلِ شريعتِه وسالكي طريقتِه من المسلمين محاربةٌ له عليه السلام فيعم الحكمُ من يحاربهم ولو بعد أعصارٍ بطريق العبارة دون الدِلالةِ والقياس ، لأن ورود النصِّ ليس بطريق خطابِ المشافهةِ حتى يختصَّ حكمُه بالمكلفين عند النزول فيُحتاجَ في تعميمه لغيرهم إلى دليل آخرَ ، وقيل : جعلُ محاربة المسلمين محاربةً لله تعالى ورسولِه تعظيماً لهم والمعنى يحاربون أولياءَهما ، وأصل الحربِ السلْب والمرادُ هاهنا قطعُ الطريق ، وقيل : المكابرة بطريق اللصوصية وإن كانت في مِصْرٍ { وَيَسْعَوْنَ فِى الارض } عطف على يحاربون ، والجارُّ والمجرور متعلقٌ به وقوله تعالى : { فَسَاداً } إما مصدرٌ وقع موقِعَ الحالِ من فاعل يسعون أي مفسدين أو مفعول له أي للفساد أو مصدر مؤكد ليسعون لأنه في معنى يفسدون على أنه مصدرٌ من أفسد بحذف الزوائد أو اسمُ مصدر .
قيل : ( نزلت الآية في قوم هلال بنِ عويمرٍ الأسلمي وكان وادَعه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على ألا يُعينَه ولا يُعين عليه ، ومن أتاه من المسلمين فهو آمن لا يُهاج ، ومن مر بهلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو آمن لا يهاج ، فمر قومٌ من بني كنانةَ يريدون الإسلام بناس من قوم هلالٍ ولم يكن هلال يومئذ شاهداً فقطعوا عليهم وقتلوهم وأخذوا أموالهم ) ، وقيل : ( نزلت في العُرَنيين وقصتُهم مشهورة ) ، وقيل : ( في قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ فنقضوا العهدَ وقطعوا السبيل ، وأفسدوا في الأرض ) ، ولما كانت المحاربةُ والفسادُ على مراتبَ متفاوتةٍ ووجوه شتى من القتل بدون أخذِ المالِ ، ومن القتل مع أخذه ، وأخذِه بدون القتل ، ومن الإخافة بدون قتلٍ وأخذ ، شُرعت لكل مرتبةٍ من تلك المراتب عقوبةٌ معينة بطريق التوزيعِ فقيل : { أَن يُقَتَّلُواْ } أي حداً من غير صلبٍ إن أفردوا القتلَ ، ولو عفا الأولياءُ لا يلتفت إلى ذلك ، لأنه حقُّ الشرعِ ، ولا فرق بين أن يكون القتلُ بآلة جارحةٍ أو لا { أَوْ يُصَلَّبُواْ } أي مع القتل إن جمعوا بين القتلِ والأخذِ بأن يصلّبوا أحياءً وتُبعَجَ بطونُهم برمح إلى أن يموتوا ، وفي ظاهر الرواية أن الإمام مخير إن شاء اكتفى بذلك ، وإن شاء قطع أيديَهم وأرجلَهم من خلاف وقتلهم وصلبهم ، وصيغةُ التفعيل في الفعلين للتكثير وقرىء بالتخفيف فيهما { أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خلاف } أي أيديهم اليمنى وأرجلُهم اليسرى إن اقتصروا على أخذ المالِ من مسلم أو ذمي ، وكان المقدار بحيث لو قسم عليهم أصاب كلاًّ منهم عشرةُ دراهمَ أو ما يساويها قيمتُه ، أما قطعُ أيديهم فلأخذ المالِ وأما قطعُ أرجلهم فلإخافة الطريقِ بتفويت أمْنِه { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الارض } إن لم يفعلوا غيرَ الإخافةِ والسعي للفساد ، والمرادُ بالنفي عندنا هو الحبسُ فإنه نفيٌ عن وجه الأرضِ لدفع شرِّهم عن أهلها ويُعزّرون أيضاً لمباشرتهم منكر الإخافة وإزالة الأمن ، وعند الشافعي رضي الله عنه النفي من بلد إلى بلد لا يزال يُطلب وهو هاربٌ فزعاً ، وقيل : هو النفي عن بلده فقط ، وكانوا ينفونهم إلى دَهْلَك وهو بلد في أقصى تِهامة ، وناصع وهو بلد من بلاد الحبشة .(2/230)
{ ذلك } أي ما فصل من الأحكام والأجزية ، قيل : هو مبتدأٌ وقوله تعالى : { لَهُمْ خِزْىٌ } جملةٌ من خبر مقدمٍ على المبتدأ وقوله تعالى : { فِى الدنيا } متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لخزيٌ أو متعلق بخزيٌ على الظرفية ، والجملةُ في محل الرفع على أنها خبر لذلك ، وقيل : خزيٌ خبرٌ لذلك و ( لهم ) متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من خزي ، لأنه في الأصل صفةٌ له ، فلما قُدّم انتصب حالاً ، وفي الدنيا إما صفةٌ لخزيٌ أو متعلقٌ به على ما مر ، والخزيُ الذلُّ والفضيحة { وَلَهُمْ فِى الاخرة } غير هذا { عَذَابٌ عظِيمٌ } لا يقادَرُ قدرُه لغاية عِظمِ جنايتِهم فقوله تعالى : { لَهُمْ } خبرٌ مقدم و { عَذَابِ } مبتدأٌ مؤخرٌ و { فِى الاخرة } متعلق بمحذوف وقع حالاً من عذاب ، لأنه في الأصل صفةٌ له فلما قدم انتصب حالاً أي كائناً في الآخرة .(2/231)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
{ إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } استثناءٌ مخصوصٌ بما هو من حقوق الله عز وجل كما ينبىء عنه قوله تعالى : { فاعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أما ما هو من حقوق الأولياءِ من القصاص ونحوِه فإليهم ذلك إن شاءوا عفَوْا وإن أحبوا استوفَوْا ، وإنما يسقطُ بالتوبة وجوبُ استيفائِه لا جوازُه ، وعن علي رضي الله عنه أن الحرثَ بن بدر جاءه تائباً بعد ما كان يقطع الطريقَ فقبِلَ توبته ودرأ عنه العقوبة .
{ مّسْتَقِيمٍ ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله } لما ذُكِرَ عِظَمُ شأنِ القتلِ والفساد وبيَّن حُكمَهما وأُشير في تضاعيف ذلك إلى مغفرته تعالى لمن تاب من جنايته أُمِرَ المؤمنون بأن يتقوه تعالى في كل ما يأتون وما يذرون بترك ما يجبُ اتقاؤُه من المعاصي التي من جُملتها ما ذُكر من القتل والفساد ، وبفعل الطاعات التي من زُمرتها السعيُ في إحياء النفوس ودفعِ الفساد والمسارعة إلى التوبة والاستغفار { وابتغوا } أي اطلُبوا لأنفسكم { إِلَيْهِ } أي إلى ثوابه والزلفى منه { الوسيلة } هي فعيلةٌ بمعنى ما يُتوسّل به ويُتقرَّب إلى الله تعالى من فعل الطاعات وتركِ المعاصي من وسَّل إلى كذا أي تقرّب إليه بشيء ، و ( إليه ) متعلقٌ بها قُدّم عليها للاهتمام به ، وليست بمصدرٍ حتى لا تعملَ فيما قبلها ، ولعل المراد بها الاتقاءُ المأمورُ به فإنه مَلاكُ الأمر كلِّه كما أشير إليه ، وذريعةٌ لنيل كلِّ خير ومنجاةٌ من كل ضَيْر ، فالجملة حينئذ جاريةٌ مما قبلها مجرى البيانِ والتأكيد . أو مطلقُ الوسيلة وهو داخل فيها دخولاً أولياً . وقيل : الجملةُ الأولى أمرٌ بترك المعاصي والثانية أمرٌ بفعل الطاعات ، وحيث كان في كلَ من ترك المعاصي المشتهاةِ للنفس وفعلِ الطاعات المكروهة لها كُلفة ومشقة عقّب الأمرَ بهما بقوله تعالى : { وجاهدوا فِى سَبِيلِهِ } بمحاربة أعدائِه البارزةِ والكامنة { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } بنيلِ مرضاتِه والفوزِ بكراماته .(2/232)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ } كلامٌ مبتدأٌ مَسوقٌ لتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ بالأوامر السابقة وترغيبِ المؤمنين في المسارعة إلى تحصيل الوسيلة إليه عز وجل قبل انقضاءِ أوانِه ببيان استحالةِ توسُّلِ الكفار يومَ القيامة بأقوى الوسائل إلى النجاة من العذاب فضلاً عن نيلِ الثواب .
{ لَوْ أَنَّ لَهُمْ } أي لكل واحدٍ منهم كما في قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ } الخ ، لا لجميعهم إذ ليس في ذلك هذه المرتبةُ من تهويل الأمر وتفظيعِ الحال { مَّا فِى الارض } أي من أصناف أموالِها وذخائرِها وسائرِ منافعِها قاطبةً وهو اسمُ أن ولهم خبرُها ومحلُّها الرفعُ بلا خلاف ، خلا أنه عند سيبويه رفعٌ على الابتداء ولا حاجة فيه إلى الخبر لاشتمال صلتِها على المُسنَدِ والمُسنَد إليه ، وقد اختصَّتْ من بين سائر ما يُؤوّل بالاسم بالوقوع بعد لو ، وقيل : الخبرُ محذوفٌ ثم قيل : يُقدّر مقدّماً ، أي لو ثابتٌ كونُ ما في الأرض لهم . وقيل : يقدر مؤخراً أي لو كونُ ما في الأرض لهم ثابتٌ ، وعند المبرِّد والزجّاج والكوفيين رُفعَ على الفاعلية والفعلُ مقدرٌ بعد لو أي لو ثبَتَ أن لهم ما في الأرض . وقوله تعالى : { جَمِيعاً } توكيد للموصول أو حال منه { وَمِثْلَهُ } بالنصب عطفٌ عليه وقوله تعالى : { مَعَهُ } ظرفٌ وقع حالاً من المعطوفِ ، والضميرُ راجعٌ إلى الموصول وفائدتُه التصريحُ بفرض كينونَتِهما لهم بطريق المعيّة لا بطريق التعاقُب تحقيقاً لكمال فظاعةِ الأمر مع ما فيه من نوع إشعارٍ بكونهما شيئاً واحداً وتمهيداً لإفراد الضمير الراجع إليهما ، واللام في قوله تعالى : { لِيَفْتَدُواْ بِهِ } متعلقةٌ بما تعلق به خبرُ أن ، أعني الاستقرارَ المقدَّرَ في ( لهم ) وبالخبر المقدّر عند من يرى تقديرَ الخبرِ مقدماً أو مؤخراً ، وبالفعل المقدّر بعد لو على رأي المبرِّد ومن نحا نحوه ، ولا ريب في أن مدارَ الافتداءِ بما ذُكر هو كونُه لهم لا ثبوتُ كونِه لهم وإن كان مستلزِماً له ، والباء في ( به ) متعلقةٌ بالافتداء ، والضميرُ راجعٌ إلى الموصول و ( مثله ) معاً ، وتوحيدُه إما لما أشير إليه ، وإما لإجرائه مُجرى اسمِ الإشارة كأنه قيل بذلك كما في قوله :
كأنه في الجلد توليعُ البَهَق ... أي كأن ذلك ، وقيل : هو راجعٌ إلى الموصول ، والعائدُ إلى المعطوف أعني ( مثله ) محذوفٌ ، كما حُذف الخبرُ من قيارٌ في قوله :
فإني وقيارٌ بها لغريبُ ... أي وقيار أيضاً غريبُ ، وقد جوَّزَ أن يكون نُصب و ( مثلَه ) على أنه مفعولٌ معه ناصِبُه الفعلُ المقدر بعد لو تفريعاً على مذهب المبرد ، ومن رأى رأيَه ، وأنت خبيرٌ بأنه يؤدِّي إلى كونِ الرافعِ للفاعل غيرَ الناصب للمفعول معه لأن المعنى على اعتبارِ المعيةِ بين ( ما في الأرض ومثله ) في الكينونة لهم ، لا في ثبوت تلك الكينونةِ وتحقُقِها ، ولا مَساغَ لجعل ناصبِه الاستقرارَ المقدرَ في ( لهم ) ، لِما أن سيبويهِ قد نصَّ على { ءانٍ } اسمَ الإشارةِ وحرفَ الجر المتضمِّنَ للاستقرار لا يعمَلانِ في المفعول معه وأن قوله : هذا لك وأباك قبيحٌ وإن جوزه بعضُ النحاة في الظروف وحرف الجر ، وقولُه تعالى : { مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة } متعلقٌ بالافتداء أيضاً ، أي لو أن ( ما في الأرض مثله ) ثابتٌ لهم ليجعلوه فديةً لأنفسِهم من العذاب الواقعِ يومئذ .(2/233)
{ مَا تُقُبّلَ مِنْهُمْ } ذلك ، وهو جواب لو وترتيبُه على كون ذلك لهم لأجل افتدائِهم به من غير ذكرِ الافتداءِ بأن يقال : وافتدَوْا به مع أن الردَّ والقَبولَ إنما يترتب عليه لا على مباديه ، للإيذانِ بأنه أمرٌ محقَّقُ الوقوع غنيٌّ عن الذكر ، وإنما المحتاجُ إلى الفَرْض قدرتُهم على ما ذُكر أو للمبالغةِ في تحقيق الردِّ وتخييلِ أنه وقع قبل الافتداءِ على منهاج ما في قوله تعالى : { قَالَ الذى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُك فَلَمَّا رَآهُ مُستقرّاً عِندَه } حيث لم يقل : فأتى به فلما رآه الخ ، وما في قوله تعالى : { وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } من غير ذكر خروجِه عليه السلام عليهن ورؤيتِهن له . والجملة الامتناعية بحالها خبرُ إن الذين كفروا ، والمرادُ تمثيلُ لزوم العذاب لهم واستحالةُ نجاتِهم منه بوجهٍ من الوجوه المحققةِ والمفروضة . وعن النبي عليه الصلاة والسلام : « يقالُ للكافر أرأيت لو كان لك ملءُ الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟ فيقول : نعم ، فيقال له : قد سُئلتَ أيسرَ من ذلك وهو كلمة الشهادة » وقوله تعالى : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } تصريحٌ بما أشير إليه بعدم قَبول فِديتِهم لزيادة تقريرِه وبيانِ هَوْلِه وشدّتِه ، قيل : محلُّه النصب على الحالية وقيل : الرفعُ عطفاً على خبر إِن ، وقيل : عطفٌ على إن الذين فلا محلَّ له كالمعطوف عليه .(2/234)
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
{ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار } استئنافٌ مَسوقٌ لبيان حالهم في أثناء مكابدة العذاب مبنيٌّ على سؤالٍ نشأ مما قبله ، كأنه قيل : فكيف يكون حالُهم؟ أو ماذا يصنعون؟ فقيل : يريدون الخ ، وقد بين في تضاعيفه أن عذابهم عذاب النار ، قيل : إنهم يقصدون ذلك ويطلبون المخرَج فيلفَحُهم لهَبُ النار ويرفعُهم إلى فوق ، فهناك يريدون الخروج ولاتَ حين مناصٍ ، وقيل : يكادون يخرجون منها لقوة النار وزيادةِ رفعِها إياهم ، وقيل : يتمنّونه ويريدونه بقلوبهم وقوله عز وجل : { وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا } إما حالٌ من فاعل يريدون ، أو اعتراضٌ ، وأياً ما كان فإيثارُ الجملة الاسمية على الفعلية مصدّرةً بما الحجازية الدالة بما في خبرها من الباء على تأكيد النفي لبيان كمالِ سوءِ حالهم باستمرار عدم خروجِهم منها ، فإن الجملة الاسمية الإيجابية كما تفيدُ بمعونة المقام دوامَ الثبوت تفيد السلبيةَ أيضاً بمعونةِ دوامِ النفي لا نفْيِ الدوام ، كما مر في قوله تعالى : { مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ } الخ ، وقرىء ( أن يُخرَجوا ) على بناء المفعول من الإخراج { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } تصريح بما أشير إليه آنفاً من عدم تناهي مدتِه بعد بيان شدتِه .
{ والسارق والسارقة } شروعٌ في بيان حكم السرقةِ الصُّغرى بعد بيان أحكام الكبرى ، وقد عرفت اقتضاءَ الحال لإيراد ما توسّط بينهما من المقال ، ولمّا كانت السرقة معهودةً من النساء كالرجال صرح بالسارقة أيضاً مع أن المعهود في الكتاب والسنة إدراجُ النساء في الأحكام الواردة في شأن الرجال بطريق الدلالة لمزيد الاعتناءِ بالبيان والمبالغةِ في الزجْر ، وهو مبتدأ خبرُه عند سيبويه محذوفٌ تقديرُه وفيما يتلى عليكم أو وفيما فُرِضَ عليكم السارقُ والسارقةُ أي حكمُهما وعند المبرِّد قوله تعالى : { فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } والفاء لتضمُّن المبتدأ معنى الشرط ، إذ المعنى الذي سرق والتي سرقت ، وقُرىء بالنصب وفضَّلها سيبويه على قراءة الرفع ، لأن الإنشاء لا يقع خبراً إلا بتأويلٍ وإضمار ، والسرقةُ أخذُ مال الغير خُفْيةً ، وإنما توجب القطعَ إذا كان الأخذ من حِرزٍ والمأخوذُ يساوي عشرةَ دراهِمَ فما فوقها مع شروط فُصِّلت في موقعها ، والمراد ( بأيديَهما ) أيمانُهما كما يُفصحُ عنه قراءةُ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : والسارقاتُ فاقطعوا أيمانهم ، ولذلك ساغ وضعُ الجمْع موضعَ المثنى كما في قوله تعالى : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } اكتفاءً بتثنية المضاف إليه ، واليد اسمٌ لتمام الجارحة ، ولذلك ذهب الخوارجُ إلى أن المقطَعَ هو المنكب ، والجمهورُ على أنه الرُّسُغ ، لأنه عليه الصلاة والسلام أُتيَ بسارقٍ فأمر بقطع يمينِه منه .
{ جَزَاء } نُصبَ على أنه مفعولٌ له أي فاقطعوا للجزاء ، أو مصدرٌ مؤكِّد لفعله الذي يدل عليه فاقطعوا ، أي فجاوزوهما جزاء ، وقوله تعالى : { بِمَا كَسَبَا } على الأول متعلّقٌ بجزاءً وعلى الثاني فاقطعوا ، و ( ما ) مصدريةٌ ، أي بسبب كسْبِهما أو موصولةٌ أي ما كسباه من السرقة التي تباشَر بالأيدي ، وقوله تعالى : { نكالا } مفعولٌ له أيضاً على البدلية من ( جزاءً ) لأنهما من نوع واحد ، وقيل : القطعُ معلَّلٌ بالجزاء ، والقطعُ المعللُ معلَّلٌ بالنَّكال ، وقيل : هو منصوبٌ بجزاءً على طريقة الأحوال المتداخِلَة ، فإنه علةٌ للجزاء ، والجزاءُ علةٌ للقطع كما إذا قلتَ : ضربتُه تأديباً له إحساناً إليه ، فإن الضربَ معلَّلٌ بالتأديب والتأديبُ معللٌ بالإحسان ، وقد أجازوا في قوله عز وجل :(2/235)
{ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنزَلَ الله بَغْيًا أَن يُنَزّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } أن يكون ( بغياً ) مفعولاً له ناصبُه أن يكفروا ، ثم قالوا : إن قوله تعالى : { أَن يُنَزّلُ الله } مفعولٌ له ناصبُه بغياً على أن التنزيلَ عَلةٌ للبغي ، والبغْيَ علةٌ للكفر ، وقوله تعالى : { مِنَ الله } متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لنكالاً كائناً منه تعالى { والله عَزِيزٌ } غالبٌ على أمره يُمضيه كيف يشاء من غير نِدَ ينازعُه ولا ضدَ يمانعُه { حَكِيمٌ } في شرائعه لا يَحكُم إلا بما تقتضيه الحكمةُ والمصلحة ، ولذلك شرَعَ هذه الشرائعَ المنطويةَ على فنون الحِكَمِ والمصالح .(2/236)
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
{ فَمَن تَابَ } أي من السُرّاق إلى الله تعالى { مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ } الذي هو سرِقتُه ، والتصريحُ به مع أن التوبةَ لا تُتصوَّرُ قبلَه لبيان عِظَم نعمتِه تعالى بتذكير عِظمِ جنايتِه { وَأَصْلَحَ } أي أمره بالتقصِّي عن تبعات ما باشرَه والعزمِ على ترك المعاودةِ إليها { فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ } أي يقبل توبتَه فلا يعذّبه في الآخرة ، وأما القطعُ فلا تُسقطُه التوبةُ عندنا ، لأن فيه حقَّ المسروقِ منه ، وتُسقطُه عند الشافعيِّ في أحد قوليه : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } مبالِغٌ في المغفرة والرحمة ولذلك يَقبلُ توبتَه ، وهو تعليلٌ لما قبلَه ، وإظهارُ الاسمِ الجليل للإشعارِ بعِلَّة الحُكْم وتأييدِ استقلالِ الجملة وكذا في قوله عز وجل : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والارض } فإن عُنوانَ الألوهية مدارُ أحكامِ ملكوتِهما ، والجارُّ والمجرورُ خبرٌ مقدّم ، ومُلكُ السموات والأرض مبتدأ ، والجملة خبرٌ لأنّ ، وهي مع ما في حيِّزِها سادّةٌ مَسدَّ مفعوليْ ( تعلم ) عند الجمهور ، وما فيه من تكريرِ الإسنادِ لتقويةِ الحُكْم ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين . وقيل : لكل أحدٍ صالحٍ للخطاب ، والاستفهامُ الإنكاريُّ لتقرير العلم ، والمرادُ به الاستشهادُ بذلك على قدرته تعالى على ما سيأتي من التعذيب والمغفرةِ على أبلغ وجهٍ وأتمِّه ، أي ألم تعلم أن الله له السلطانُ القاهر والاستيلاء الباهرُ المستلزِمانِ للقدرة التامة على التصرُّفِ الكليِّ فيهما وفيما فيهما إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتةً إلى غير ذلك حسْبما تقتضيه مشيئتُه { يُعَذّبُ مَن يَشَاء } أن يعذِّبه { وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء } أن يغفرَ له من غير نِدَ يساهمُه ولا ضدَ يزاحمُه ، وتقديمُ التعذيبِ على المغفرة لمراعاةِ ما بين سببيهما من الترتيب ، والجملة إما تقريرٌ لكون ملكوتِ السموات والأرضِ له سبحانه ، أو خبرٌ آخرُ لأن . { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } فيقدِرُ على ما ذَكَر من التعذيب والمغفرة ، والإظهارُ في موقع الإضمارِ لما مرَّ مراراً والجملة تذييلٌ مقرِّرٌ لما قبلها .(2/237)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
{ يأَيُّهَا الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِى الكفر } خُوطب عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة للتشريفِ والإشعارِ بما يوجب عدمَ الحزن ، والمسارعةُ في الشيء الوقوعُ فيه بسرعة ورَغبةً ، وإيثارُ كلمة ( في ) على كلمة ( إلى ) الواقعة في قوله تعالى : { وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ } الخ للإيماء إلى أنهم مستقرون في الكفر لا يبرَحونه ، وإنما ينتقِلون بالمسارعة عن بعض فنونِه وأحكامِه إلى بعضٍ آخرَ منها كإظهارِ موالاةِ المشركين ، وإبرازِ آثارِ الكيدِ للإسلام ونحوِ ذلك ، كما في قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ يسارعون فِى الخيرات } فإنهم مستمرون على الخير مسارعون في أنواعِه وأفرادِه ، والتعبيرُ عنهم بالموصول للإشارة بما في حيِّز صلتِه إلى مدار الحزن ، وهذا وإن كان بحساب الظاهرِ نهياً للكَفَرة عن أن يُحزنوه عليه الصلاة والسلام بمسارعتهم في الكفر لكنه في الحقيقة نهيٌ له عليه الصلاة والسلام عن التأثر من ذلك والمبالاةِ بهم على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه ، فإن النهيَ عن أسباب الشيء ومباديه المؤديةِ إليه نهيٌ عنه بالطريق البرهاني ، وقلعٌ له من أصله ، وقد يوجَّه النهيُ إلى المسبَّبِ ويرادُ به النهيُ عن السبب ، كما في قوله : لا أُرَينّك هاهنا يريد نهْيَ مخاطَبه عن الحضور بين يديه وقرىء ( لا يُحزِنْك ) من أحزنه منقولاً من حزِن بكسر الزاي وقرىء ( يُسرعون ) يقال : أسرع فيه الشيبُ أي وقع سريعاً أي لا تحزَنْ ولا تُبالِ بتهافتهم في الكفر بسرعة وقوله تعالى : { مِنَ الذين قَالُواْ ءامَنَّا بأفواههم } بيان للمسارعين في الكفر ، وقيل : متعلقٌ بمحذوفٍ وقع حالاً من فاعل يسارعون ، وقيل : من الموصول أي كائنين من الذين الخ ، والباء متعلقة بقالوا لا بآمنا وقوله تعالى : { وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } جملةٌ حالية من ضمير ( قالوا ) وقيل : عطف على قالوا وقوله تعالى : { وَمِنَ الذين هِادُواْ } عطف على ( من الذين قالوا ) الخ ، وبه يتم بيانُ المسارعين في الكفر بتقسيمهم إلى قسمين : المنافقين واليهود ، فقوله تعالى : { سماعون لِلْكَذِبِ } خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ راجعٍ إلى الفريقين أو إلى المسارعين ، وأما رجوعُه إلى الذين هادوا فمُخِلٌّ بعموم الوعيد الآتي ومباديه للكل كما ستقف عليه ، وكذا جُعل قولُه : { وَمِنَ الذين } الخ ، خبراً على أن قولَه سماعون صفةٌ لمبتدأ محذوف أي ومنهم قومٌ سماعون الخ ، لأدائه إلى اختصاص ما عُدِّد من القبائح وما يترتب عليها من الغوائل الدنيوية والأخروية بهم ، فالوجهُ ما ذُكِرَ أولاً أي هم سماعون ، واللامُ إما لتقوية العمل وإما لتضمين السماعِ معنى القبول ، وإما لامُ كي والمفعولُ محذوف والمعنى هم مبالغون في سماع الكذب ، أو في قَبول ما يفتريه أحبارُهم من الكذب على الله سبحانه وتحريفِ كتابه ، أو سماعون أخبارَكم وأحاديثَكم ليكذبوا عليكم بأن يمسَخوها بالزيادة والنقص والتبديل والتغيير ، أو أخبارَ الناس وأقاويلَهم الدائرة فيما بينهم ليكذبوا فيها بأن يرجِعوا بقتل المؤمنين وانكسارِ سراياهم ونحو ذلك مما يُضَرُّ بهم ، وأياً ما كان فالجملة مستأنفةٌ جارية مَجرى التعليل للنهي ، فإن كونهم سماعين للكذب على الوجوه المذكورة وابتناءَ أمورهم على ما لا أصلَ له من الأباطيل والأراجيف مما يقتضي عدمَ المبالاة بهم وتركَ الاعتداد بما يأتون وما يذرون للقطع بظهور بطلان أكاذيبهم واختلالِ ما بَنَوْا عليها من الأفاعيل الفاسدة المؤدِّية إلى الخزيِ والعذاب كما سيأتي ، وقرىء ( سمّاعين ) للكذب بالنصب على الذم ، وقوله تعالى : { سماعون لِقَوْمٍ آخَرِين } خبرٌ ثانٍ للمبتدأ المقدر مقرِّرٌ للأول ومبينٌ لما هو المراد بالكذب على الوجهين الأولين ، واللام مثلُ مَنْ في سمع الله لمن حمِده في الرجوع إلى معنى من أي قبِلَ منه حَمْدَه ، والمعنى مبالِغون في قبول كلام قومٍ آخرين ، وأما كونُها لامَ التعليل بمعنى سماعون منه عليه الصلاة والسلام لأجل قومٍ آخرين وجَّهوهم عُيوناً ليُبلِّغوهم ما سمعوا منه عليه الصلاة والسلام ، أو كونُها متعلقةً بالكذب على أن سماعون الثانيَ مكررٌ للتأكيد بمعنى سماعون ليكذبوا لقومٍ آخرين فلا يكاد يساعده النظمُ الكريم أصلاً وقوله تعالى : { لَمْ يَأْتُوكَ } صفة أخرى لقوم أي لم يُحضروا مجلسك وتجافَوْا عنك تكبراً وإفراطاً في البغضاء ، قيل : هم يهودُ خيبر والسماعون بنو قُريظة وقوله تعالى : { يُحَرّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مواضعه } صفةٌ أخرى لقوم وصِفوا أولاً بمغايَرَتِهم للسماعين تنبيهاً على استقلالهم وأصالتهم في الرأي والتدبير ، ثم بعدم حضورِهم مجلسَ الرسول عليه الصلاة والسلام إيذاناً بكمال طغيانهم في الضلال ، ثم باستمرارهم على التحريف بياناً لإفراطهم في العتوِّ والمكابرةِ والاجتراء على الافتراء على الله تعالى وتعييناً للكذب الذي سمعه السماعون ، أي يُميلونه ويُزيلونه عن مواضعه بعد أن وضعه الله تعالى فيها إما لفظاً بإهمالِه أو تغييرِ وضعه ، وإما معنى بحَمْلِه على غير المراد وإجرائِه في غير موردِه ، وقيل : الجملةُ مستأنفة لا محل لها من الإعراب ناعيةٌ عليهم شنائعَهم .(2/238)
وقيل : خبرُ مبتدأ محذوفٍ راجع إلى القوم وقوله تعالى : { يَقُولُونَ } كالجملة السابقة في الوجوه المذكورة ، ويجوز أن يكون حالاً من ضمير ( يحرفون ) وأما تجويزُ كونها صفةً لسماعون أو حالاً من الضمير فيه فما لا سبيل إليه أصلاً ، كيف لا وإن مقولَ القول ناطقٌ بأن قائلَه ممن لا يحضرُ مجلسَ الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمخاطَب به ممن يحضُره فكيف يمكن أن يقوله السماعون المترددون عليه عليه الصلاة والسلام لمن يحومُ حوله قطعاً؟ وادعاءُ قولِ السماعين لأعقابهم المخالِطين للمسلمين تعسّفٌ ظاهرٌ مُخلٌّ بجزالة النظم الكريم ، والحقُّ الذي لا محيد عنه أن المحرِّفين والقائلين هم القومُ الآخرون ، أي يقولون لأتباعهم السماعين لهم عند إلقائهم إليهم أقاويلَهم الباطلةَ مشيرين إلى كلامهم الباطل { إِنْ أُوتِيتُمْ } من جهة الرسولِ عليه الصلاة والسلام { هذا فَخُذُوهُ } واعملوا بموجَبه فإنه الحق { وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ } بل أوتيتم غيرَه { فاحذروا } أي فاحذروا قبولَه ، وإياكم وإياه ، وفي ترتيب الأمر بالحذَر على مجردِ عدمِ إيتاء المحرَّف من المبالغة في التحذير ما لا يخفى .(2/239)
رُوي ( أن شريفاً من خَيْبرَ زنى بشريفةٍ وهما مُحصَنان وحدُّهما الرجمُ في التوراة فكرِهوا رجمَهما لشرفهما فبعثوا رهطاً منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقالوا : إن أمرَكم بالجلد والتحميم فاقبَلوا ، وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا ، وأرسلوا الزانيَيْن معهم فأمرهم بالرَّجْم فأَبوْا أن يأخُذوا به فقال جبريلُ عليه السلام : اجعل بينك وبينهم ابنَ صوريا ووصفه له فقال عليه الصلاة والسلام : « هل تعرفون شاباً أبيضَ أعورَ يسكن فَدَك يقال له ابن صوريا؟ » قالوا : نعم ، وهو أعلمُ يهوديَ على وجه الأرض بما أنزل الله على موسى بنِ عِمرانَ في التوراة ، قال : « فأرسِلوا إليه » ففعلوا ، فأتاهم ، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام : « أنت ابن صوريا؟ » قال : نعم ، قال عليه الصلاة والسلام : « وأنت أعلم اليهود؟ » قال : كذلك يزعُمون ، قال لهم : « أترضَوْن به حكماً؟ » قالوا : نعم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنشُدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحرَ وأنجاكم وأغرق آلَ فرعون وظلل عليكم الغمام وأنزل عليكم المنّ والسلوى ورفعَ فوقكم الطورَ وأنزل عليكم التوراةَ فيها حلالُه وحرامُه هل تجدون في كتابكم الرجْمَ على من أُحصِن؟ » قال : نعم ، والذي ذكرتني به لولا خشِيتُ أن تحرِقني التوراةُ إن كذبتُ أو غيَّرتُ ما اعترفت لك ، ولكن كيف هي في كتابك يا محمد؟ قال عليه الصلاة والسلام : « إذا شهد أربعةُ رهطٍ عدولٌ أنه أَدخَل فيها كما يُدخَلُ الميلُ في المُكحُلة وجب عليه الرجم » قال ابن صوريا : والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل الله في التوراة على موسى ، فوثب عليه سَفَلةُ اليهود ، فقال : خفتُ إن كذَبتُه أن ينزِل علينا العذاب ، ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياءَ كان يعرِفها من أعلامه فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله النبيُّ الأمي العربي الذي بشر به المرسلون . وأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالزانيين فرُجما عند باب المسجد ) .
{ وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ } أي ضلالته أو فضيحته كائناً من كان فيندرج فيه المذكورون اندراجاً أولياً ، وعدمُ التصريح بكونهم كذلك للإشعار بكمال ظهورِه واستغنائه عن ذكره { فَلَن تَمْلِكَ لَهُ } فلن تستطيع له { مِنَ الله شَيْئاً } في دفعها ، والجملةُ مستأنفة مقرّرة لما قبلها ومبينةٌ لعدم انفكاكِهم عن القبائح المذكورة أبداً { أولئك } إشارة إلى المذكورين من المنافقين واليهود ، وما في اسْم الإشارةِ من معنى البعد للإيذان ببُعد منزلتهم في الفساد ، وهو مبتدأ خبرُه قولُه تعالى : { الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ } أي من رجْسِ الكفر وخَبَثِ الضلالة لأنهِماكِهم فيهما وإصرارِهم عليهما وإعراضِهم عن صرف اختيارهم إلى تحصيل الهداية بالكلية كما ينبىء عنه وصفُهم بالمسارعة في الكفر أولاً ، وشرحُ فنونِ ضلالتهم آخراً ، والجملة استئنافٌ مبينٌ لكون إرادتِه تعالى لفتنتِهم مَنوطةً بسوء اختيارِهم وقُبح صنيعِهم الموجبِ لها لا واقعةً منه تعالى ابتداءً { لَهُمْ فِى الدنيا خِزْىٌ } أما المنافقون فخزيُهم فضيحتُهم وهتكُ سِترتِهم بظهور نفاقِهم فيما بين المسلمين ، وأما خزيُ اليهود فالذلُ والجزيةُ والافتضاحُ بظهور كَذِبهم في كِتمان نصِّ التوراة ، وتنكيرُ ( خزيٌ ) للتفخيم وهو مبتدأ ولهم خبرُه وفي الدنيا متعلق بما تعلق به الخبرُ من الاستقرار ، وكذا الحال في قوله تعالى : { وَلَهُمْ فِى الاخرة } أي مع الخزي الدنيوي { عَذَابٌ عظِيمٌ } هو الخلودُ في النار ، وضميرُ ( لهم ) في الجملتين للمنافقين واليهود جميعاً لا لليهود خاصة ، كما قيل ، وتكريرُ ( لهم ) مع اتحاد المرجِع لزيادة التقرير والتأكيد ، والجملتان استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من تفصيل أفعالِهم وأحوالهم الموجبةِ للعقاب ، كأنه قيل : فما لهم من العقوبة؟ فقيل لهم : في الدنيا .(2/240)
. ، الآية .(2/241)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
{ سماعون لِلْكَذِبِ } خبرٌ آخرُ للمبتدأ المقدّر كُرِّر تأكيداً لما قبله وتمهيداً لما بعده من قوله تعالى : { أكالون لِلسُّحْتِ } وهو أيضاً خبرٌ آخرُ للمقدَّر واردٌ على طريقة الذم ، أو بناءً على أن المراد بالكذِب ما يفتعله الراشون عند الأكّالين ، والسُحْت بضم السين وسكون الحاء في الأصل كلُّ ما لا يحِلُّ كسبُه ، وقيل : هو الحرام مطلقاً من سَحَتَه إذا استأصله ، سمي به لأنه مسحوتُ البركة ، والمراد به هاهنا إما الرِّشا التي كان يأخذها المحرِّفون على تحريفهم وسائرِ أحكامِهم الزائغة ، وهو المشهور ، أو ما كان يأخذه فقراؤهم من أغنيائهم من المال ليُقيموا على اليهودية كما قيل ، وإما مطلقُ الحرام المنتظِمِ لما ذُكر انتظاماً أولياً ، وقرىء ( للسُحُت ) بضم السين والحاء وبفتحهما وبفتح السين وسكون الحاء وبكسر السين وسكون الحاء ، وعن النبي عليه الصلاة والسلام : « كلُّ لحمٍ أنبتَه السُّحْتُ فالنار أولى به »
{ فَإِن جَاءوكَ } لما بيَّن تفاصيلَ أمورِهم الواهية وأحوالَهم المختلفةَ الموجبة لعدم المبالاة بهم وبأفاعيلهم حسبما أُمر به عليه الصلاة والسلام خوطب عليه الصلاة والسلام ببعض ما يبتنى عليه من الأحكام بطريق التفريع ، والفاء فصيحة ، أي وإذا كان حالُهم كما شُرح فإن جاءوك متحاكمين إليك فيما شجَرَ بينهم من الخصومات { فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } غيرَ مبالٍ بهم ولا خائفٍ من جهتهم أصلاً ، وهذا كما ترى تخييرٌ له عليه الصلاة والسلام بين الأمرين ، فقيل : هو في أمرٍ خاصّ هو ما ذُكر من زنا المحصَن ، وقيل : في قتيل قُتل من اليهود في بني قُريظةَ والنضيرِ ، فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بنو قريظة : إخوانُنا بنو النضير ، أبونا واحد ودينُنا واحد ، وإذا قَتَلوا منا قتيلاً لم يرضَوْا بالقَوَد وأعطَوْنا سبعين وَسْقاً من تمر ، وإذا قتلنا منهم قتلوا القاتلَ وأخذوا منا الضِّعفَ مائة وأربعين وسقاً من تمر ، وإن كان القتيلُ امرأةً قتلوا بها الرجلَ منا وبالرجل منهم الرجلين منا ، وبالعبدِ منهم الحرَّ منا ، فاقضِ بيننا . فجعل عليه الصلاة والسلام الدية سواءً ، وقيل : هو عام في جميع الحكومات ، ثم اختلفوا فمن قائل إنه ثابت وهو المرويُّ عن عطاءٍ والنَخَعيِّ والشَعْبيِّ وقَتادةَ وأبي بكرٍ الأصمِّ وأبي مسلم ، وقائلٍ إنه منسوخ وهو قول ابنِ عباس والحسن ومجاهد وعِكْرِمة ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لم يُنسخْ من المائدة إلا آيتان : قولُه تعالى : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله } نسخَها قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين } وقوله تعالى : { فَإِن جَاءوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } نسخَها قوله تعالى : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله } وعليه مشايخُنا { وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ } بيانٌ لحال الأمرين إثْرَ تخييرِه عليه الصلاة والسلام بينهما ، وتقديمُ حالِ الإعراض للمسارعة إلى بيانِ أن لا ضررَ فيه حيث كان مظِنةُ الضرر لِما أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه عليه الصلاة والسلام إلا لطلبِ الأيسر والأهونِ عليهم ، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومةَ بينهم شق ذلك عليهم ، فتشتد عداوتُهم ومضارّتُهم له عليه الصلاة والسلام ، فأمَّنه الله عز وجل بقوله : { فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } من الضرر فإن الله عاصمُك من الناس .
{ وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُم بالقسط } بالعدل الذي أُمرت به كما حكمت بالرجم { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } ومن ضرورته أن يحفَظَهم عن كل مكروهٍ ومحذور .(2/242)
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
{ وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله } تعجُّبٌ من تحكيمِهم لمن يؤمنون به وبكتابه والحالُ أن الحكم منصوصٌ عليه في كتابهم الذي يدّعون الإيمان به وتنبيهٌ على أنهم ما قصَدوا بالتحكيم معرفةَ الحق وإقامةَ الشرع وإنما طلبوا به ما هو أهونُ عليهم وإن لم يكن ذلك حكمَ الله على زعمهم ، فقوله تعالى : { وَعِندَهُمُ التوراة } حالٌ من فاعل يحكّمونك ، وقوله تعالى : { فِيهَا حُكْمُ الله } حالٌ من التوراة إن جُعِلت مرتفعةً بالظرف ، وإن جُعلت مبتدأ فهو حالٌ من ضميرها المستكنِّ في الخبر ، وقيل : استئنافٌ مَسوقٌ لبيانِ أن عندهم ما يُغنيهم عن التحكيم ، وتأنيثها لكونها نظيرةَ المؤنث في كلامِهم كموماة ودوداة { ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ } عطفٌ على يحكمونك داخلٌ في حكم التعجيب ، و ( ثُم ) للتراخي في الرتبة وقوله تعالى : { مِن بَعْدِ ذلك } أي من بعد ما حكّموك ، تصريحٌ بما عُلم قطعاً بتأكيد الاستبعاد والتعجيب ، أي ثم يُعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم من بعد ما رضوُا بحكمك وقوله تعالى : { وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } تذييلٌ مقرِّرٌ لفحوى ما قبله ، ووضعُ اسمِ الإشارة موضعَ ضميرِهم للقصد إلى إحضارِهم في الذهن بما وُصفوا به من القبائح إيماءً إلى علة الحُكم وإلى أنهم قد تميزوا بذلك عن غيرهم أكملَ تمييز حتى انتظموا في سلك الأمور المشاهَدة ، و ( ما ) فيه من معنى البعد للإيذان ببُعد درجتهم في العُتُوِّ والمكابرة أي وما أولئك الموصوفون بما ذكر بالمؤمنين أي بكتابهم ، لإعراضهم عنه أولاً ، وعن حُكمِك الموافقِ له ثانياً أو بهما ، وقيل : وما أولئك بالكاملين في الإيمان تهكماً بهم .
{ إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة } كلام مستأنفٌ سيق لبيان علوِّ شأن التوراةِ ووجوبِ مراعاة أحكامِها وأنها لم تزل مَرْعيّةً فيما بين الأنبياء ومَنْ يقتدي بهم كابراً عن كابر ، مقبولةً لكل أحد من الحكام والمتحاكمين محفوظةً عن المخالفة والتبديل تحقيقاً لما وُصف به المحرِّفون من عدم إيمانهم بها ، وتقريراً لكفرهم وظلمهم ، وقوله تعالى : { فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } حالٌ من التوراة ، فإن ما فيها من الشرائع والأحكامِ من حيث إرشادُها للناس إلى الحق الذي لا مَحيدَ عنه هدىً ومن حيث إظهارُها وكشفُها نورُ ما استَبْهَم من الأحكام وما يتعلَّق بها من الأمور المستورةِ بظلمات الجهل ، وقوله تعالى : { يَحْكُمُ بِهَا النبيون } أي أنبياءُ بني إسرائيلَ ، وقيل : موسى ومَنْ بعده من الأنبياء ، جملةٌ مستأنفة مبينةٌ لرِفعةِ رتبتِها وسُمُوِّ طبقتها ، وقد جوَّز كونَه حالاً من التوراة فيكون حالاً مقدرة ، أي يحكُمون بأحكامها ويحمِلون الناس عليها ، وبه تمسك مَنْ ذهب إلى أن شريعةَ مَنْ قبلَنا شريعةٌ لنا ما لم تُنْسَخْ ، وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على الفاعل لما مر مراراً من الاعتناء بشأن المقدَّم والتشويق إلى المؤخَّر ، ولأن في المؤخَّر وما يتعلق به نوعَ طولٍ ربما يُخِلّ تقديمُه بتجاوُب أطرافِ النظم الكريم ، وقوله تعالى : { الذين أَسْلَمُواْ } صفة أجريت على النبيين على سبيل المدح دون التخصيص والتوضيح ، لكن لا للقصد إلى مدحهم بذلك حقيقة ، فإن النبوة أعظم من الإسلام قطعاً ، فيكون وصفُهم به بعد وصفِهم بها تنزلاً من الأعلى إلى الأدنى ، بل لتنويه شأن الصفة فإن إبرازَ وصفٍ في معرِض مدح العظماء مُنبىءٌ عن عِظَم قدرْ الوصْفِ لا محالة كما في وصف الأنبياءِ بالصلاحِ ووصفِ الملائكة بالإيمان عليهم السلام ، ولذلك قيل : أوصافُ الأشراف أشرافُ الأوصاف ، وفيه رفع لشأن المسلمين وتعريضٌ باليهود وأنهم بمعزِل من الإسلام ، والاقتداءُ بدين الأنبياء عليهم السلام لا سيما مع ملاحظة ما وُصفوا به في قوله تعالى .(2/243)
{ لِلَّذِينَ هَادُواْ } وهو متعلق ( بيحكم ) أي يحكمون فيما بينهم ، واللام إما لبيان اختصاصِ الحُكم بهم أعمَّ من أن يكون لهم أو عليهم ، كأنه قيل : لأجل الذين هادوا ، وإما للإيذان بنفعه للمحكوم عليه أيضاً بإسقاط التبعة عنه ، وإما للإشعار بكمال رضاهم به وانقيادِهم له كأنه أمرٌ نافع لكلا الفريقين ، ففيه تعريضٌ بالمحرِّفين ، وقيل : التقديرُ للذين هادوا وعليهم فحُذِفَ ما حُذف لدلالة ما ذُكر عليه ، وقيل : هو متعلق ( بأنزلنا ) وقيل : ( بهدىً ونور ) وفيه فصلٌ بين المصدر ومفعولِه ، وقيل : متعلق بمحذوفٍ وقع صفةً لهما أي هدى ونورٌ كائنان للذين هادوا { والربانيون والاحبار } أي الزهاد والعلماءُ من وَلَد هارونَ الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا دينَ اليهود .
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : الربانيون الذين يسوسون الناسَ بالعلم ويربُّونهم بصغاره قبل كباره ، والأحبارُ هم الفقهاءُ واحدُه ح2برٌ بالفتح والكسر والثاني أفصح ، وهو رأي الفراء ، مأخوذ من التحبير والتحسين ، فإنهم يُحبِّرون العلمَ ويزينونه ويُبيِّنونه ، وهو عطفٌ على ( النبيون ) أي هم أيضاً يحكمُون بأحكامها ، وتوسيطُ المحكومِ لهم بين المعطوفين للإيذان بأن الأصلَ في الحُكم بها وحَمْلِ الناس على ما فيها هم النبيون ، وإنما الربانيون والأحبارُ خلفاءُ ونوابٌ لهم في ذلك كما يُنبىء عنه قوله تعالى : { بِمَا استحفظوا } أي بالذي استُحفظوه من جهة النبيين وهو التوراة ، حيث سألوهم أن يحفَظُوها من التغيير والتبديل على الإطلاق ، ولا ريب في أن ذلك منهم عليهم السلام استخلافٌ لهم في إجراء أحكامِها من غير إخلالٍ بشيء منها ، وفي إبهامها أولاً ثم بيانِها ثانياً بقوله تعالى : { مِن كتاب الله } من تفخيمها وإجلالِها ذاتاً وإضافةً ، وتأكيدِ إيجاب حفظِها والعملِ بما فيها ما لا يَخْفى ، وإيرادُها بعنوان الكتاب للإيماء إلى إيجاب حفظِها عن التغييرِ من جهة الكتابة ، والباءُ الداخلة على الموصول متعلقةٌ ( بيحكم ) لكن لا على أنها صلةٌ كالتي في قوله تعالى : { بِهَا } ، ليلزَمَ تعلقُ حرفي جرٍ متحدَّيْ المعنى بفعلٍ واحد ، بل على أنها سببية أي ويحكم الربانيون والأحبارُ أيضاً بسبب ما حفِظوه من كتاب الله حسْبما وصاهم به أنبياؤُهم وسألوهم أن يحفظوه ، وليس المرادُ بسببيته لحكمهم مُلكَ سببيته من حيث الذاتُ بل من حيث كونُه محفوظاً ، فإن تعليقَ حكمِهم بالموصول مُشعرٌ بسببية الحفظِ المترتب لا محالة على ما في حيِّز الصلة من الاستحفاظ له ، وقيل : الباء صلةٌ لفعلٍ مقدر معطوفٍ على قوله تعالى : { يَحْكُمُ بِهَا النبيون } عطفَ جُملةٍ على جملة ، أي ويحكم الربانيون والأحبارُ بحكم كتابِ الله الذي سألهم أنبياؤهم أن يحفظوه من التغيير .(2/244)
{ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء } أي رُقباءَ يحمُونه من أن يحوم حولَه التغييرُ والتبديلُ بوجه من الوجوه ، فتغييرُ الأسلوب لما ذُكر من المزايا ، وقيل : ( بما استحفظوا ) بدلٌ من قوله تعالى : { بِهَا } بإعادة العامل وهو بعيد ، وكذا تجويزُ كونِ الضمير في استُحفظوا للأنبياء والربانيين والأحبارِ جميعاً على أن الاستحفاظَ من جنابِ الله عز وجل أي كلفهم الله تعالى أن يحفظوه ويكونوا عليه شهداء ، وقوله تعالى وتقدَّسَ : { فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس } خطابٌ لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات ، وأما حكامُ المسلمين فيتناوبُهم النهْيُ بطريق الدلالة دون العبارة ، والفاء لترتيبِ النهْيِ على ما فُصِّل من حال التوراة ، وكونِها معتنىً بشأنها فيما بين الأنبياء عليهم السلام ومَنْ يقتدى بهم من الربانيين والأحبار المتقدمين عملاً وحفظاً ، فإن ذلك مما يوجبُ الاجتنابَ عن الإخلال بوظائف مراعاتِها والمحافظةِ عليها بأي وجهٍ كان فضلاً عن التحريف والتغيير ، ولمّا كان مدارُ جراءتهم على ذلك خشيةَ ذي سلطانٍ أو رغبةً في الحظوظ الدنيوية نُهوا عن كل منهما صريحاً ، أي إذا كان شأنُهما كما ذكر فلا تخشوا الناسَ كائناً من كان واقتدوا في مراعاة أحكامها وحفظِها بمن قبلكم من الأنبياء وأشياعِهم { واخشون } في الإخلالِ بحقوقِ مراعاتها فكيف بالتعرُّض لها بسوء .
{ وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي } الاشتراء استبدالُ السلعة بالثمن أي أخذُها بدلاً منه لا بذلُ الثمن لتحصيلها كما قيل ، ثم استُعير لأخذ شيءٍ بدلاً مما كان له ، عَيْناً كان أو معنىً أخذاً منوطاً بالرغبة فيما أُخذ ، والإعراضِ عما أُعطِيَ ونُبذ ، كما فُصِّل في تفسير قوله تعالى : { أولئك الذين الضلالة بالهدى } فالمعنى لا تستبدلوا بآياتي التي فيها بأن تُخرجوها منها أو تتركوا العملَ بها وتأخذوا لأنفسكم بدلاً منها { ثَمَناً قَلِيلاً } من الرِّشوة والجاهِ وسائرِ الحظوظ الدنيوية ، فإنها وإن جلّت قليلةٌ مستَرْذَلةٌ في نفسها ، لا سيما بالنسبة إلى ما فات عنهم بترك العمل بها ، وإنما عبَّر عن المشترى الذي هو العُمدةُ في عقود المعاوضة والمقصِدُ الأصليُّ بالثمن الذي شأنه أن يكونَ وسيلةً إلى تحصيله ، وأُبرزَتِ الآياتُ التي حقُّها أن يتنافسَ فيها المتنافسون في معرِض الآلات والوسائطِ حيث قُرنت بالباء التي تصحَبُ الوسائلَ إيذاناً بمبالغتهم في التعكيس بأن جَعلوا المقصِدَ الأقصى وسيلةً والوسيلةَ الأدنى مقصِداً { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله } كائناً من كان دون المخاطبين خاصة فإنهم مندرجون فيه اندراجاً أولياً أي من لم يحكم بذلك مستهيناً به منكِراً كما يقتضيه ما فعلوه من تحريف آيات الله تعالى اقتضاءً بيناً { فَأُوْلَئِكَ } إشارةٌ إلى ( من ) ، والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد فيما سبق باعتبار لفظِها { هُمُ الكافرون } لاستهانتهم به ، و ( هم ) إما ضميرُ الفعل أو مبتدأ وما بعده خبره ، والجملة لأولئك ، وقد مر تفصيلُه في مطلع سورة البقرة ، والجملة تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبلها أبلغَ تقريرٍ ، وتحذيرٌ عن الإخلال به أشدَّ تحذير حيث علّق فيه الحكمَ بالكفر بمجرد ترك الحُكْم بما أنزل الله تعالى ، فكيف وقد انضم إليه الحكمُ بخلافه ، لا سيما مع مباشرة ما نُهوا عنه من تحريفه ووضع غيره موضِعَه ، وادعاءِ أنه من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً؟(2/245)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
{ وَكَتَبْنَا } عطفٌ على ( أنزلنا التوراة ) { عَلَيْهِمْ } أي على الذين هادوا ، وقرىء وأنزل الله على بني إسرائيلَ { فِيهَا } أي في التوراة { أَنَّ النفس بالنفس } أي تُقاد بها إذا قَتلتْها بغير حق { والعين } تُفقأ { بالعين } إذا فُقئَتْ بغير حق { والانف } يُجدَع { بالانف } المقطوعِ بغير حق { والاذن } تُصْلَم { بالاذن } المقطوعة ظلماً { والسن } تُقلعُ { بالسن } المقلوعة بغير حق { والجروح قِصَاصٌ } أي ذاتُ قصاص إذا كانت بحيث تُعرف المساواة ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا لا يقتُلون الرجلَ بالمرأة فنزلت ، وقرىء ( وإنّ الجروحَ قصاص ) وقرىء ( والعينُ ) إلى آخره بالرفع عطفاً على محل ( أن النفس ) لأن المعنى كتبنا عليهم : النفسُ بالنفس إما لإجراء كتبنا مجرى قلنا ، وإما لأن معنى الجملة التي هي قولك : النفسُ بالنفس مما يقع عليه الكَتْبُ كما يقع عليه القراءة ، تقول : كتبت ( الحمدُ لله ) وقرأتُ { سُورَةٌ أنزلناها } { فَمَن تَصَدَّقَ } أي من المستحقين { بِهِ } أي بالقصاص ، أي فمن عفا عنه ، والتعبيرُ عنه بالتصديق للمبالغة في الترغيب فيه { فَهُوَ } أي التصديق { كَفَّارَةٌ لَّهُ } أي للمتصدق يكفّر الله تعالى بها ذنوبَه ، وقيل : للجاني إذا تجاوز عنه صاحب الحقِّ سقطَ عنه ما لزِمه ، وقُرىء ( فهو كفارته له ) ، أي فالمتصدقُ كفارتُه التي يستحقُّها بالتصدق له لا ينقُصُ منها شيء وهو تعظيمٌ لما فَعَل ، كقوله تعالى : { فَأَجْرُهُ عَلَى الله }
{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم } كائناً من كان فيتناول من لا يرى قتلَ الرجل بالمرأة من اليهود تناولاً بيناً { بِمَا أنزَلَ الله } من الأحكام والشرائع كائناً ما كان فيدخل فيها الأحكامُ المحكية دخولاً أولياً { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون } المبالغون في الظلم المتعدُّون لحدودِه تعالى الواضعون للشيء في غير موضعه ، والجملة تذييلٌ مقرِّر لإيجاب العمل بالأحكام المذكورة .(2/246)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
{ وَقَفَّيْنَا على ءاثارهم } شروعٌ في بيان أحكام الإنجيلِ إثْرَ بيانِ أحكام التوراة وهو عطفٌ على ( أنزلنا التوراة ) أي آثارِ النبيين المذكورين ، يقال : قَفَّيتُه بفلان إذا أتبعتُه إياه ، فحذَفَ المفعولَ لدلالة الجار والمجرور عليه أي قفيناهم { بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ } أي أرسلناه عَقيبَهم { مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة } حالٌ من عيسى عليه السلام { وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيل } عطفٌ على قفَّينا وقرىء بفتح الهمزة { فِيهِ هُدًى وَنُورٌ } كما في التوراة وهو في محل النصْب على أنه حال من الإنجيل أي كائناً فيه ذلك كأنه قيل : مشتملاً على هدى ونور ، وتنوينُ هدىً ونورٌ للتفخيم ، ويندرج في ذلك شواهدُ نبوتِه عليه السلام { وَمُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة } عطف عليه داخلٌ في حكم الحالية وتكريرُ ( ما بين يديه من التوراة ) لزيادة التقرير { وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتَّقِينَ } عطفٌ على مصدقاً منتظمٌ معه في سلك الحالية جُعل كلُّه هدىً بعد ما جُعل مشتملاً عليه حيث قيل : ( فيه هدى ) وتخصيصُ كونِه هدىً وموعظةً بالمتقين لأنهم المهتدون بهداه والمنتفعون بجَدْواه .
{ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَا أَنزَلَ الله فِيهِ } أمرٌ مبتدأٌ لهم بأن يحكموا ويعملوا بما فيه من الأمور التي من جملتها دلائلُ رسالتِه عليه الصلاة والسلام وشواهدُ نبوته وما قرَّرت الشريعة الشريفةُ من أحكامه ، وأما أحكامُه المنسوخةُ فليس الحكمُ بهما حكماً بما أنزل الله فيه بل هو إبطالٌ وتعطيلٌ له ، إذ هو شاهدٌ بنسخها وانتهاءِ وقت العمل بها ، لأن شهادته بصحة ما ينسَخُها من الشريعة شهادةٌ بنسخها ، وبأن أحكامَه ما قرَّرتْه تلك الشريعةُ التي شهد بصحتها كما سيأتي في قوله تعالى : { قُلْ ياأهل الكتاب لَسْتُمْ على شَىْء حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل } الآية ، وقيل : هو حكايةٌ للأمر الوارد عليهم بتقدير فعلٍ معطوف على آتيناه أي وقلنا : ليحكم أهلُ الإنجيل الخ ، وقرىء ( وأن ) ليحكم على أنّ ( أنْ ) موصولةٌ بالأمر كما في قولك : أمرته بأن قم ، كأنه قيل : وآتيناه الإنجيل وأمَرْنا بأن يحكُمَ أهلُ الإنجيل الخ ، وقرىء عل صيغة المضارع ولام التعليل على أنها متعلقةٌ بمقدَّر كأنه قيل : ولِيَحْكُمَ أهلُ الإنجيل بما أنزل الله فيه آتيناه إياه ، وقد عُطِفَ على ( هدى وموعظة ) على أنهما مفعول لهما ، كأنه قيل : وللهدى والموعظة آتيناه إياه وللحُكْم بما أنزل الله فيه .
{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله } منكراً له مستهيناً به { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون } المتمردون الخارجون عن الإيمان ، والجملة تذييلٌ مقرِّر لمضمون الجملة السابقة ومؤكِّد لوجوب الامتثال بالأمر ، وفيه دلالة على أن الإنجيلَ مشتملٌ على الأحكام ، وأن عيسى عليه السلام كان مستقلاً بالشرع مأموراً بالعمل بما فيه من الأحكام قلَّت أو كثُرت ، لا بما في التوراة خاصة ، وحملُه على معنى وليحكم بما أنزل الله فيه من إيجابِ العملِ بأحكام التوراة خلافُ الظاهر .(2/247)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب } أي الفردَ الكاملَ الحقيقيَّ بأن يسمى كتاباً على الإطلاق لحيازته جميعَ الأوصافِ الكمالية لجنس الكتابِ السماويِّ وتفوقِه على بقية أفراده وهو القرآنُ الكريم ، فاللام للعهد والجملةُ عطف على ( أنزلنا ) وما عُطِف عليه ، وقوله تعالى : { بالحق } متعلق بمحذوفٍ وقع حالاً مؤكّدة من الكتاب أي ملتبساً بالحق والصدق ، وقيل : من فاعل أنزلنا ، وقيل : من الكاف في ( إليك ) وقوله تعالى : { مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } حال من الكتاب أي حالَ كونِه مصدقاً لما تقدَّمَه إما من حيث إنه نازلٌ حسْبما نُعِتَ فيه ، أو من حيث إنه موافقٌ له في القِصصِ والمواعيدِ والدعوة إلى الحق والعدلِ بين الناس والنهْيِ عن المعاصي والفواحش ، وأما ما يتراءى من مخالفتِه له في بعض جزئياتِ الأحكام المتغيِّرة بسبب تغيُّرِ الأعصارِ فليست بمخالفةٍ في الحقيقة بل هي موافِقةٌ لها من حيث إن كلاًّ من تلك الأحكام حقٌّ بالإضافة إلى عصره ، متضمِّنٌ للحكمة التي عليها يدور أمرُ الشريعة ، وليس في المتقدم دلالةٌ على أبديةِ أحكامِه المنسوخة حتى يخالفَه الناسخُ المتأخِّرُ ، وإنما يدل على مشروعيتها مطلقاً من غير تعرُّض لبقائها وزوالِها ، بل نقول : هو ناطقٌ بزوالها لما أن النطقَ بصحة ما ينسخها نطقٌ بنَسْخِها وزوالِها وقوله تعالى : { مّنَ الكتاب } بيانٌ ( لِما ) ، واللام للجنس ، إذ المراد هو الكتابُ السماوي وهو بهذا العنوان جنسٌ برأسه ، وإن كان في نفسه نوعاً مخصوصاً من مدلول لفظ الكتاب ، وعن هذا قالوا : اللام للعهد ، إلا أن ذلك لا ينتهي إلى خصوصية الفردية بل إلى خصوصية النوعية التي هي أخصُّ من مُطلقِ الكتاب وهو ظاهر ، ومن الكتاب السماوي أيضاً حيث خُصَّ بما عدا القرآن { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } أي رقيباً على سائر الكتبِ المحفوظة من التغيير لأنه يشهد بالصحة والثبات ويقرِّر أصولَ شرائعها وما يتأبد من فروعها ، ويعيِّن أحكامَها المنسوخةَ ببيان انتهاءِ مشروعيتها المستفادة من تلك الكتب وانقضاءِ وقت العمل بها ، ولا ريب في أن تمييزَ أحكامِها الباقيةِ على المشروعية أبداً عما انتهى وقتُ مشروعيتِه وخرج عنها من أحكام كونِه مهيمناً عليه ، وقرىء ( ومُهيمَناً عليه ) على صيغة المفعول أي هُومِنَ عليه وحُوفظ من التغيير والتبديل كقوله عز وجل : { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } والحافظُ إما من جهته تعالى كما في قوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ } أو الحفاظُ في الأعصار والأمصار والفاء في قوله تعالى : { فاحكم بَيْنَهُمْ } لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فإن كونَ شأنِ القرآن العظيم حقاً مصدِّقاً لما قبله من الكتب المنزلة على الأمم مهيمناً عليه من مُوجباتِ الحكم المأمور به ، أي إذا كان القرآن كما ذُكِر فاحكمْ بين أهل الكتابين عند تحاكُمِهم إليك { بِمَا أنزَلَ الله } أي بما أنزله إليك ، فإنه مشتملٌ على جميع الأحكام الشرعية الباقيةِ في الكتب الإلهية ، وتقديمُ ( بينهم ) للاعتناء ببيانِ تعميمِ الحكم لهم ، ووضعُ الموصول موضعَ الضمير للتنبيه على عِلِّيَّةِ ما في حيز الصلة للحكم ، والالتفات بإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة والإشعار بعِلَّة الحكم .(2/248)
{ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ } الزائغة { عَمَّا جَاءكَ مِنَ الحق } الذي لا محيدَ عنه ، و ( عن ) متعلقة بلا تتَّبعْ على تضمين معنى العُدول ونحوِه ، كأنه قيل : ولا تعدِلْ عما جاءك من الحق متبعاً أهواءهم ، وقيل : بمحذوفٍ وقع حالاً من فاعله ، أي لا تتبع أهواءهم عادلاً عما جاءك ، وفيه أن ما وقع حالاً لا بد أن يكون فعلاً عاماً ، ووضع الموصول موضع ضمير الموصول الأول للإيماء بما في حيز الصلة من مجيء الحق إلى ما يوجب كمالَ الاجتناب عن اتباع الأهواء . وقوله تعالى : { لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا } كلام مستأنَفٌ جيءَ به لحمل أهل الكتابين من معاصِريه عليه الصلاة والسلام على الانقياد لحُكمه بما أُنزل إليه من القرآن الكريم ببيان أنه هو الذي كُلِّفوا العملَ به دون غيره من الكتابين ، وإنما الذين كلفوا العملَ بهما مَنْ مَضَى قبل نسخهما من الأمم السالفة ، والخطابُ بطريق التلوين والالتفات للناس كافة لكن لا للموجودين خاصة بل للماضين أيضاً بطريق التغليب ، واللام متعلقة ( بجعلنا ) المتعدي لواحد ، وهو إخبارٌ بجَعَلَ ، ماضٍ لا إنشاءٌ ، وتقديمها عليه للتخصيص و ( منكم ) متعلق بمحذوفٍ وقعَ صفةً لِما عُوِّض عنه تنوينُ كلَ ، ولا ضيرَ في توسط ( جعلنا ) بين الصفة والموصوف كما في قوله تعالى : { غَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ * السموات } الخ ، والمعنى لكل أمة كائنةٍ منكم أيها الأمم الباقية والخالية جعلنا أي عيّنّا ووضعنا شرعةً ومنهاجاً خاصَّين بتلك الأمة لا تكاد أمةٌ تتخطى شَرْعيتها التي عُيِّنت لها ، فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام شرعِيَّتُهم التوراة والتي كانت من مبعث عيسى إلى مبعث النبي عليهما الصلاة والسلام شرعتهم الإنجيل ، وأما أنتم أيها الموجودون فشِرْعتُكم القرآنُ ليس إلا ، فآمنوا به واعملوا بما فيه ، والشِّرْعةُ والشريعة هي الطريقة إلى الماء شُبِّه بها الدينُ لكونه سبيلاً موصولاً إلى ما هو سببٌ للحياة الأبدية ، كما أن الماء سببٌ للحياة الفانية ، والمنهاجُ الطريق الواضح في الدين من نهَجَ الأمرُ إذا وضَحَ ، وقرىء ( شَرْعة ) بفتح الشين ، قيل : فيه دليل على أنا غيرُ مُتعبَّدين بشرائِعِ مَنْ قبلنا ، والتحقيق أنا متعبَّدون بأحكامها الباقية من حيث إنها أحكامُ شرعتِنا لا من حيث إنها شرعة للأولين .
{ وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة } متفقةٌ على دين واحد في جميع الأعصار من غير اختلاف بينكم وبين من قبلكم من الأمم في شيء من الأحكام الدينية ، ولا نسخَ ولا تحويل ، ومفعولُ المشيئة محذوفٌ على دلالة الجزاء عليه ، أي ولو شاء الله أن يجعلكم أمة واحدة لجعلكم الخ ، وقيل : المعنى لو شاء الله اجتماعكم على الإسلام لأجبركم عليه .(2/249)
{ ولكن لّيَبْلُوَكُمْ } متعلِّقٌ بمحذوف يستدعيه النظام ، أي ولكن لم يشأ ذلك أي أن يجعلكم أمةً واحدة بل شاء ما عليه السنةُ الإلهية الجاريةُ فيما بين الأمم ليعامِلَكم معاملةَ من يبتليكم { فِيمَا ءاتاكم } من الشرائع المختلفة المناسبة لأعصارها وقرونِها هل تعملون بها مذعِنين لها معتقدين أن اختلافَها بمقتضى المشيئةِ الإلهية المبنيةِ على أساس الحِكَم البالغةِ والمصالحِ النافعة لكم في معاشكم ومعادِكم أو تزيغون عن الحق وتتبعون الهوَى وتستبدلون المضَرَّة بالجدوى وتشترون الضلالة بالهدى ، وبهذا اتضح أن مدارَ عدم المشيئةِ المذكورة ليس مجردَ الابتلاء ، بل العمدةُ في ذلك ما أشير إليه من انطواءِ الاختلاف على ما فيه مصلحتُهم معاشاً ومعاداً كما ينبىء عنه قوله عز وجل : { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } أي إذا كان الأمر كما ذُكر فسارعوا إلى ما هو خيرٌ لكم في الدارين من العقائد الحَقَّة والأعمالِ الصالحة المندرجة في القرآن الكريم ، وابتدروها انتهازاً للفرصة وإحرازاً لسابقةِ الفَضْل والتقدم ، ففيه من تأكيد الترغيبِ في الإذعان للحق وتشديدِ التحذير عن الزيغ ما لا يخفى ، وقوله تعالى : { إلى الله مَرْجِعُكُمْ } استئنافٌ مَسوقٌ مَساقَ التعليل لاستباق الخيرات بما فيه من الوعد والوعيد ، وقوله تعالى : { جَمِيعاً } حال من ضمير الخطاب ، والعامل فيه إما المصدرُ المنحلُّ إلى حرفٍ مصدريَ وفعل مبني للفاعل أو مبني للمفعول وإما الاستقرارُ المقدَّر في الجار { فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } أي فيفعل بكم من الجزاء الفاصل بين المُحِقّ والمُبطل ما لا يبقى لكم معه شائبةُ شكٍ فيما كنتم فيه تختلفون في الدنيا ، وإنما عبر عن ذلك بما ذكر لوقوعه موقع إزالة الاختلاف التي هي وظيفة الإخبار .(2/250)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
{ وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ } عطف على الكتاب ، أي أنزلنا إليك الكتابَ والحُكْمَ بما فيه ، والتعرُّضُ لعنوان إنزاله تعالى إياه لتأكيد وجوب الامتثال بالأمر ، أو على الحق أي أنزلناه بالحق وبأن احكم ، وحكايةُ إنزال الأمر بهذا الحكم بعد ما مر من الأمر الصريح بذلك تأكيد له وتمهيدٌ لما يعقُبه من قوله تعالى : { واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ الله إِلَيْكَ } أي يصرِفونك عن بعضه ولو كان أقلَّ قليلٍ بتصوير الباطل بصورة الحق ، وإظهارُ الاسم الجليل لتأكيدِ الأمر بتهويل الخطب ، و ( أن ) بصلته بدلُ اشتمالٍ من ضمير ( هم ) أي احذر فتنتهم ، أو مفعول له أي احذرهم مخافة أن يفتنوك ، وإعادة ما أنزل الله لتأكيد التحذير بتهويل الخطب .
رُوي ( أن أحبارَ اليهود قالوا : اذهبوا بنا إلى محمد فلعلنا نفتِنُه عن دينه ، فذهبوا إليه صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا أبا القاسم قد عرفت أنّا أحبارُ اليهود وأنّا إن اتبعناك اتبعنا اليهودُ كلهم ، وإن بيننا وبين قومنا خصومةً فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك ، فأبى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فنزلت ) { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي أعرَضوا عن الحكم بما أنزل الله تعالى وأرادوا غيره { فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } أي بذنب تولِّيهم عن حكم الله عز وجل ، وإنما عبر بذلك إيذاناً بأن لهم ذنوباً كثيرة ، هذا مع كمال عَظَمةِ واحدٍ من جملتها ، وفي هذا الإبهام تعظيمٌ للتولِّي كما في قول لبيد :
أو يرتبطْ بعضَ النفوس حِمامُها ... يريد به نفسه أي نفساً كبيرة ونفساً أيَّ نفس { وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الناس لفاسقون } أي متمردون في الكفر مصرُّون عليه خارجون عن الحدود المعهودة وهو اعتراض تذييليٌّ مقررٌ لمضمون ما قبله .(2/251)
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
{ أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ } إنكار وتعجيبٌ من حالهم وتوبيخ لهم ، والفاء للعطف على مقدّرٍ يقتضيه المقام ، أي أيتولون عن حكمك فيبغون حكم الجاهلية؟ وتقديمُ المفعول للتخصيص المفيدِ لتأكيد الإنكار والتعجيب ، لأن التولَّيَ عن حكمه عليه الصلاة والسلام وطلبَ حكمٍ آخرَ منكرٌ عجيب ، وطلبُ حكم الجاهلية أقبح وأعجب ، والمراد بالجاهلية إما المِلةُ الجاهلية التي هي متابعةُ الهوى الموجبةُ للميل والمداهنةُ في الأحكام فيكون تعييراً لليهود بأنهم مع كونهم أهلَ كتاب وعلمٍ يبغون حكمَ الجاهلية التي هي هوى وجهلٌ لا يصدُر عن كتاب ولا يرجِعُ إلى وحي ، وإما أهلُ الجاهلية ، وحكمُهم ما كانوا عليه من التفاضل فيما بين القتلى ، حيث رُوي ( أن بني النضيرِ لما تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خصومةِ قتلِ وقعت بينهم وبين بني قريظة طلبوا إليه عليه الصلاة والسلام أن يحكم بينهم بما كان عليه أهلُ الجاهلية من التفاضل ، فقال عليه الصلاة والسلام : « القتلى سواءٌ » فقال بنو النضير : نحن لا نرضى بذلك فنزلت ) ، وقرىء برفع ( الحكم ) على أنه مبتدأ ويبغون خبرُه والراجعُ محذوفٌ حذْفَه في قوله تعالى : { أهذا الذى بَعَثَ الله رَسُولاً } وقد استُضعف ذلك في غير الشعر ، وقرىء بتاء الخطاب إما بالالتفات لتشديد التوبيخ وإما بتقدير القول أي قل لهم أفحكم الخ ، وقرىء بفتح الحاء والكاف أي أفحاكماً كحكام الجاهلية يبغون { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً } إنكار لأن يكون أحدٌ حكمُه أحسنُ من حكمه تعالى أو مساوٍ له ، وإن كان ظاهرُ السبك غيرَ متعرِّضٍ لنفي المساواة وإنكارِها ، وقد مر تفصيله في تفسير قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله } { لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي عندهم ، واللام كما في ( هَيْتَ لك ) ، أي هذا الاستفهام لهم فإنهم الذين يتدبرون الأمور بأنظارهم ، فيعلمون يقيناً أن حكم الله عز وجل أحسنُ الأحكام وأعدلُها . { يأيها الذين آمنوا } خطاب يعُمّ حكمُه كافةَ المؤمنين من المخلصين وغيرهم ، وإن كان سببُ ورودِه بعضاً منهم كما سيأتي ، ووصفُهم بعنوان الإيمان لحملَهم من أول الأمر على الانزجار عما نُهوا عنه بقوله عز وجل : { لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاء } فإن تذكيرَ اتصافِهم بضد صفات الفريقين من أقوى الزواجر عن موالاتِهما ، أي لا يتخذْ أحدٌ منكم أحداً منهم ولياً ، بمعنى لا تُصافوُهم ولا تعاشِروهم مُصافاةَ الأحباب ومعاشرَتَهم لا بمعنى لا تجعلوهم أولياءَ لكم حقيقة ، فإنه أمرٌ ممتنِعٌ في نفسه لا يتعلق به النهي { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } أي بعضُ كلِّ فريق من ذَيْنِك الفريقَيْن أولياءُ بعضٍ آخَرَ من ذلك الفريق لا من الفريق الآخر ، وإنما أوثر الإجمالُ في البيان تعويلاً على ظهور المُراد لوضوح انتفاءِ الموالاة بين فريقَي اليهود والنصارى رأساً ، والجملة مستأنفةٌ مَسوقة لتعليل النهي وتأكيدِ إيجاب الاجتناب عن المنْهيِّ عنه أو ( بعضُهم أولياء بعض ) متفقون على كلمة واحدة في كل ما يأتون وما يذرون ومن ضرورته إجماعُ الكل على مُضادَّتكم ومضارَّتِكم بحيث يسومونكم السوءَ ويبغونكم الغوائل ، فكيف يُتصورُ بينكم وبينهم موالاة؟ وقوله تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } حكمٌ مستنتَجٌ منه ، فإن انحصارَ الموالاة فيما بينهم يستدعي كونَ من يواليهم منهم ، ضرورةَ أن الاتحادَ في الدين الذي عليه يدور أمرُ الموالاة حيث لم يكن بكونهم ممن يواليهم من المؤمنين ، تعيّنَ أن يكون ذلك بكَوْنِ من يواليهم منهم ، وفيه زجرٌ شديد للمؤمنين عن إظهار صورةِ الموالاة لهم وإن لم تكن موالاةً في الحقيقة وقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } تعليلٌ لكون من يتولاهم منهم أي لا يهديهم إلى الإيمان بل يخليهم وشأنَهم فيقعون في الكفر والضلالة ، وإنما وَضعَ المُظْهَرَ موضع ضميرِهم تنبيهاً على أن تولِّيهم ظلمٌ ، لما أنه تعريضٌ لأنفسهم للعذاب الخالد ووضعٌ للشيء في غير موضعه .(2/252)
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
وقوله تعالى : { فَتَرَى الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } بيان لكيفية توليهم ، وإشعارٌ بسببه وبما يؤول إليه أمرُهم ، والفاء للإيذان بترتُّبه على عدم الهداية ، والخطابُ إما للرسول صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين ، وإما لكل أحدٍ ممن له أهليةٌ له ، وفيه مزيدُ تشنيع للتشنيع ، أي لا يهديهم بل يذرهم وشأنَهم فتراهم الخ ، وإنما وُضع موضعَ الضمير الموصولُ ليُشارَ بما في حيز صلته إلى أن ما ارتكبوه من التولي بسبب ما في قلوبهم من مرض النفاق ورَخاوة العَقْد في الدين ، وقوله تعالى : { يسارعون فِيهِمْ } حال من الموصول والرؤية بصرية ، وقيل : مفعولٌ ثانٍ والرؤية قلبية ، والأول هو الأنسبُ بظهور نفاقهم ، أي تراهم مسارعين في موالاتهم ، وإنما قيل : فيهم مبالغةً في بيان رغبتِهم فيها وتهالُكِهم عليها ، وإيثارُ كلمة ( في ) على كلمة ( إلى ) للدلالة على أنهم مستقرون في الموالاة ، وإنما مسارعتُهم من بعضِ مراتبها إلى بعضٍ آخر منها كما في قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ يسارعون فِى الخيرات } لا أنهم خارجون عنها متوجِّهون إليها كما في قوله تعالى : { وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ } وقرىء ( فيَريَ ) بياء الغَيْبة على أن الضمير لله سبحانه ، وقيل : لمن تصِحُّ منه الرؤية ، وقيل : الفاعل هو الموصولُ والمفعول هو الجملة على حذف أن المصدرية ، والرؤية قلبية أي ويرى القومُ الذين في قلوبهم مرض أن يسارعوا فيهم ، فلما حُذفت أنْ انقلب الفعلُ مرفوعاً كما في قول من قال :
ألا أيُّهذا الزَّاجِريْ أحْضُرُ الوغى ... والمراد بهم عبدُ اللَّه بنُ أُبيّ وأضرابُه الذين كانوا يسارعون في مُوادَّةِ اليهود ونَصارى نجرانَ ، وكانوا يعتذرون إلى المؤمنين بأنهم لا يأمنون أن تصيبَهم صروفُ الزمان وذلك قوله تعالى : { يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ } وهو حال من ضمير يسارعون ، والدائرةُ من الصفات الغالبة التي لا يُذكر معها موصوفُها ، أي تدور علينا دائرةٌ من دوائر الدهر ودَوْلةٌ من دُولِه بأن ينقلبَ الأمرُ وتكون الدولةُ للكفار ، وقيل : نخشى أن يصيبنا مكروهٌ من مكاره الدهر كالجدْب والقَحْط فلا يعطونا المِيرةَ والقَرْض . روي ( أن عبادة بنَ الصامت رضي الله تعالى عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لي مواليَ من اليهود كثيراً عددُهم وإني أبرأ إلى الله ورسولِه من وَلايتهم ، وأُوالي الله ورسوله . فقال عبد اللَّه بنُ أُبي : إني رجل أخاف الدوائرَ لا أبرأ من وِلاية مواليَّ ) وهم يهودُ بني قَيْقُناع ، ولعله يُظهرُ للمؤمنين أنه يريد بالدوائر المعنى الأخيرَ ويُضمِرُ في نفسه المعنى الأول وقوله تعالى : { فَعَسَى الله أَن يَأْتِىَ بالفتح } رد من جهة الله تعالى لعللهم الباطلة وقطعٌ لأطماعهم الفارغة وتبشيرٌ للمؤمنين بالظفر ، فإن ( عسى ) منه سبحانه وعدٌ محتوم ، لما أن الكريمَ إذا أطْمَعَ أطعم لا محالة فما ظنك بأكرمِ الأكرمين؟ و ( أن يأتي ) في محل النصب على أنه خبرُ عسى وهو رأي الأخفش ، أو على أنه مفعول به وهو رأيُ سيبويه ، لئلا يلزَمَ الإخبارُ عن الجُثَّة بالحدَث كما في قولك : عسى زيد أن يقوم ، والمراد بالفتح فتحُ مكةَ ، قاله الكلبي والسُّديّ ، وقال الضحاك : فتحُ قُرى اليهودِ من خيبرَ وفَدَك ، وقال قَتادة ومقاتِلٌ : هو القضاءُ الفصلُ بنصره عليه الصلاة والسلام على من خالفه وإعزازِ الدين { أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ } بقطع شأفةِ اليهود من القتل والإجلاء { فَيُصْبِحُواْ } أي أولئك المنافقون المتعلَّلون بما ذُكر وهو عطفٌ على ما يأتي داخلٌ معه في حيز خبرِ عسى ، وإن لم يكن فيه ضميرٌ يعود إلى اسمها ، فإن فاء السببية مغنيةٌ عن ذلك ، فإنها تجعل الجملتين كجملة واحدة { على مَا أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نادمين } وهو ما كانوا يكتمونه في أنفسهم من الكفر والشك في أمره عليه الصلاة والسلام ، وتعليقُ الندامة به لا بما كانوا يُظهرونه من موالاة الكفرة لِما أنه الذي كان يحمِلُهم على الموالاة ويُغريهم عليها فدل ذلك على ندامتهم عليها بأصلها وسببها .(2/253)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
{ وَيَقُولُ الذين ءامَنُواْ } كلام مبتدأ مَسوقٌ لبيان كمال سوء حال الطائفة المذكورة وقُرىء بغير واو على أنه جواب سؤال نشأ مما سبق كأنه قيل : فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟ وقرىء ( ويقولَ ) بالنصب عطفاً على يصبحوا ، وقيل : على ( يأتيَ ) باعتبار المعنى كأنه قيل : فعسى أن يأتيَ الله بالفتح ويقولَ الذين آمنوا والأولُ أوجهُ ، لأن هذا القول إنما يصدر عن المؤمنين عند ظهور ندامةِ المنافقين لا عند إتيان الفتح فقط ، والمعنى ويقول الذين آمنوا مخاطِبين لليهود مشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم ويرجون دولتَهم ويُظهرون لهم غاية المحبة وعدمَ المفارقة عنهم في السراء والضراء عند مشاهدتهم لخَيْبة رجائِهم وانعكاسِ تقديرهم بوقوع ضدِّ ما كانوا يترقبونه ويتعللون به ، تعجيباً للمخاطَبين من حالهم وتعريضاً بهم { أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ } أي بالنصر والمعونة كما قالوا فيما حُكيَ عنهم ( وإن قوتلتم لننصُرَنَّكم ) واسمُ الإشارة مبتدأ وما بعده خبرُه ، والمعنى إنكارُ ما فعلوه واستبعادُه وتخطئتُهم في ذلك ، أو يقولُ بعضُ المؤمنين لبعضٍ مشيرين إلى المنافقين أيضاً أهؤلاء الذين أقسموا للكَفَرة إنهم لمعكم؟ فالخطابُ في ( معكم ) لليهود على التقديرين إلا أنه على الأول من جهةِ المؤمنين وعلى الثاني من جهة المُقْسِمين ، وهذه الجملةُ لا محلَّ لها من الإعراب لأنها تفسيرٌ وحكايةٌ لمعنى أقسَموا لكن لا بألفاظهم وإلا لقيل : إنا معكم ، وجَهدُ الأيْمان أغلظُها وهو في الأصل مصدر ونصبُه على الحال على تقدير وأقسموا بالله يَجْهَدون جَهدَ أيمانهم ، فحُذِفَ الفعلُ وأقيم المصدرُ مُقامَه ، ولا يبالى بتعريفه لفظاً لأنه مؤوَّلٌ بنكرة أي مجتهدين في أيْمانهم أو على المصدر أي أقسموا إقسامَ اجتهادٍ في اليمين وقوله تعالى : { حَبِطَتْ أعمالهم فَأَصْبَحُواْ خاسرين } إما جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ من جهته تعالى لبيان مآلِ ما صنعوه من ادِّعاء الولاية والإقسام على المعيَّةِ في المنشَطِ والمكره إثرَ الإشارة إلى بُطلانه بالاستفهام الإنكاري ، وإما خبرٌ ثانٍ للمبتدأ عندَ مَنْ يجوِّزُ كونَه جملةً كما في قوله تعالى : { فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى } أو هو الخبرُ والموصول مع ما في حيز صلتِه صفةٌ لاسم الإشارة ، فالاستفهامُ حينئذٍ للتقرير ، وفيه معنى التعجب كأنه قيل : ما أحبَطَ أعمالَهم فما أخسرَهم ، والمعنى بطلتْ أعمالُهم التي عمِلوها في شأن موالاتكم وسعوا في ذلك سعياً بليغاً حيث لم تكن لكم دولةٌ فينتفعوا بما صنعوا من المساعي وتحمَّلوا من مكابدة المشاق ، وفيه من الاستهزاء بالمنافقين والتقريع للمخاطَبين ما لا يخفي ، وقيل : قاله بعضُ المؤمنين مخاطِباً لبعض تعجباً من سوء حال المنافقين واغتباطاً بما منّ الله تعالى على أنفسهم من التوفيق للإخلاص : أهؤلاءِ الذين أقسموا لكم بأغلظِ الأيْمان أنهم أولياؤُكم ومعاضِدوكم على الكفار؟ بطَلتْ أعمالُهم التي كانوا يتكلّفونها في رأيِ أعينِ الناس ، وأنت خبير بأن هذا الكلامَ من المؤمنين إنما يليقُ بما لو أظهرَ المنافقون حينئذ خلافَ ما كانوا يدَّعونه ويُقسِمون عليه من ولاية المؤمنين ومعاضَدَتِهم على الكفار فظهر كذِبُهم وافتُضحوا بذلك على رؤوس الأشهاد وبطَلتْ أعمالُهم التي كانوا يتكلفونها في رأي أعين المؤمنين ، ولا ريب في أنهم يومئذ أشدُّ ادعاءً وأكثر إقساماً منهم قبل ذلك ، فضلاً عن أن يظهروا خلافَ ذلك ، وإنما الذي يظهر منهم الندامةُ على ما صنعوا وليس ذلك علامةً ظاهرةَ الدلالة على كفرهم وكذبهم في ادعائهم ، فإنهم يدّعون أنْ ليست ندامتُهم إلا على ما أظهروه من موالاة الكَفَرةِ خشيةَ إصابةِ الدائرة .(2/254)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } وقرىء ( يرتدِدْ ) بالفك على لغة الحجاز ، والإدغام لغة تميم ، لمّا نهيَ فيما سلف عن موالاة اليهود والنصارى وبيّن أن موالاتَهم مستدعيةٌ للارتداد عن الدين وفصَّل مصيرَ أمْرِ من يواليهم من المنافقين شَرَع في بيان حال المرتدين على الإطلاق وهذا من الكائنات التي أخبر عنها القرآنُ قبل وقوعِها . ( روي أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فِرقةً ، ثلاثٌ في عهد رسولِ الله عليه الصلاة والسلام بنو مدلج ورئيسُهم ذو الخِمار ، وهو الأسود العنْسي ، كان كاهناً تنبأ باليمن واستولى على بلاده فأخرج منها عُمّالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب عليه الصلاة والسلام إلى معاذِ بنِ جبلٍ وإلى ساداتِ اليمنِ فأهلكه الله تعالى على يَدَيْ فيروزَ الدَّيْلمي ، بيَّته فقتله ، وأخبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقتلِه ليلةَ قُتل ، فسُرَّ به المسلمون وقُبضَ عليه الصلاة والسلام من الغدِ ، وأتى خبرُه في آخرِ شهرِ ربيع الأول ، وبنو حنيفةَ قومُ مسيلِمَةَ الكذاب تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مسيلِمةَ رسولِ الله إلى محمدٍ رسولِ الله أما بعد فإن الأرضَ نصفُها لي ونصفُها لك .
فأجاب عليه الصلاة والسلام : " من محمدٍ رسولِ الله إلى مسيلِمَةَ الكذاب ، أما بعد فإن الأرضَ لله يورثُها من يشاء من عباده والعاقبةُ للمتقين " فحاربه أبو بكر رضي الله عنه بجنودِ المسلمين ، وقتل على يدَيْ وحشيَ قاتلِ حمزةَ رضي الله عنه . وكان يقول : قتلتُ في جاهليتي خيرَ الناس وفي إسلامي شرَّ الناس ، وبنو أسد قومُ طليحةَ بنِ خويلد ، تنبأ فبعث إليه أبو بكر رضي الله عنه خالدَ بن الوليد فانهزم بعد القتال إلى الشامِ فأسلم وحسُنَ إسلامُه ، وسبعٌ في عهد أبي بكر رضي الله عنه فَزارةُ قومُ عيينةَ بنِ حِصْن ، وغطَفانُ قوم قرَّةَ بنِ سلمة القشيري ، وبنو سُلَيم قومُ الفُجاءة بنُ عبدِ ياليلَ ، وبنو يَرْبوعٍ قومُ مالكِ بنِ نُوَيرة ، وبعضُ تميم قومُ سَجاح بنتِ المنذر المتنبّئة ، التي زوَّجَتْ نفسها من مسيلِمة الكذاب ، وفيها يقول أبو العلاء المعري في كتاب ( استغفرْ واستغفري
آمتْ سَجاحِ ووالاها مسيلِمة ... كذابةٌ في بني الدنيا وكذّابُ
وكِندةُ قومُ الأشعث بن قيس ، وبنو بكر بنِ وائل بالبحرَيْن قومُ الحطَمِ بنِ زيد ، وكفى الله تعالى أمرَهم على يد أبي بكر رضي الله عنه ، وفِرقة واحدةٌ في عهد عمرَ رضي الله عنه غسانُ قومُ جَبَلةَ بنِ الأيهم نصَّرتْه اللطمة ، وسيَّرتْه إلى بلاد الروم وقصتُه مشهورة وقوله تعالى : { فَسَوْفَ يَأْتِى الله } جواب الشرط والعائد إلى اسم الشرط محذوفٌ أي فسوف يأتي الله مكانهم بعد إهلاكهم { بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ } أي يريد بهم خيري الدنيا والآخرة ، ومحل الجملة الجرُّ على أنها صفة لقوم ، وقوله تعالى : { وَيُحِبُّونَهُ } أي يريدون طاعته ويتحرّزون عن معاصيه ، معطوفٌ عليها داخلٌ في حكمها ، قيل : هم أهلُ اليمن لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى أبي موسى الأشعري وقال قومُ هذا ، وقيل : هم الأنصارُ رضي الله عنهم ، وقيل : هم الفرسُ لما روي أنه عليه السلام سئل عنهم فضرب بيده الكريمة على عاتق سَلمان رضي الله عنه وقال : «هذا وذوُوه» ثم قال : «لو كان الإيمانُ معلقاً بالثريا لنالَه رجالٌ من أبناء فارسَ» وقيل : ( هم ألفان من النخَع وخمسةُ آلافٍ من كِندةَ وثلاثةُ آلاف من أفياءِ الناس جاهدوا يوم القادسية ) .(2/255)
{ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين } جمع ذليلٍ لا ذلول ، فإن جمعه ذُلُلٌ أي أرِقّاءَ رحماءَ متذللين ومتواضعين لهم ، واستعماله ( بعلى ) إما لتضمين معنى العطف والحُنُوّ ، أو للتنبيه على أنهم مع علو طبقتِهم وفضلِهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتَهم ، أو لرعاية المقابلة بينه وبين على في قوله تعالى : { أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } أي أشداء متغلبين عليهم من عزّه إذ غلبه كما في قوله عز وعلا : { أَشِدَّاء عَلَى الكفار رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } وهما صفتان أُخريان لقومٍ تُرك بينهما العاطفُ للدلالة على استقلالهم بالاتصاف بكل منهما ، وفيه دليل على صحة تأخير الصفة الصريحة من الجملة والظرف ، كما في قوله تعالى : { وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ } وقوله تعالى : { مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ } وقوله تعالى : { مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن الرحمن مُحْدَثٍ } وما ذهب إليه من لا يجوِّزه من أن قوله تعالى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } كرم معترِضٌ وأن ( مبارك ) خبرٌ بعد خبر أو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ وأن ( من ربهم ) و ( من الرحمن ) حالان مقدمتان من ضمير ( محدَثٍ ) تكلفٌ لا يخفى ، وقرىء ( أذلةً ) و ( أعزةً ) بالنصب على الحالية من قوم لتخصصه بالصفة .
{ يجاهدون فِى سَبِيلِ الله } صفة أخرى لقومٍ مترتبةٌ على ما قبلها مُبيِّنةٌ مع ما بعدها لكيفية عزتهم ، أو حالٌ من ضميرٍ في ( أعزة ) { وَلاَ يخافون لَوْمَةَ لائِمٍ } عطف على يجاهدون بمعنى أنهم جامعون بين المجاهدة في سبيل الله وبين التصلب في الدين وفيه تعريضٌ بالمنافقين ، فإنهم كانوا إذا خرجوا في جيش المسلمين خافوا أولياءَهم اليهودَ فلا يكادون يعملون شيئاً يلحقهم فيه لومٌ من جهتهم ، وقيل : هو حال من فاعل يجاهدون بمعنى أنهم يجاهدون وحالُهم خلافُ حال المنافقين ، واعتُرض عليه بأنهم نصُّوا على أن المضارعَ المنفيَّ بلا أو ما كالمُثْبَت في عدم جواز مباشرة واو الحال له واللَّوْمةُ المرةُ من اللوم ، وفيها وفي تنكيرِ لائمٍ مبالغة لا تخفى .
{ ذلك } إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف الجليلة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتها في الفضل { فَضَّلَ الله } أي لطفُه وإحسانُه لا أنهم مستقلون في الاتصاف بها { يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } إيتاءً إياه ويوفقُه لكسبه وتحصيلِه حسبما تقتضيه الحِكْمةُ والمصلحة { والله واسع } كثيرُ الفواضل والألطاف { عَلِيمٌ } مبالِغٌ في العلم بجميع الأشياء التي من جملتها مَنْ هو أهلٌ للفضل والتوفيق ، والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبله ، وإظهارُ الاسمِ الجليل للإشعار بالعلة وتأكيد استقلال الجملة الاعتراضية .(2/256)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
{ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين ءامَنُواْ } لما نهاهم الله عز وجل عن موالاة الكفرة وعلّله بأن بعضَهم أولياءُ بعض لا يُتصوَّرُ ولايتُهم للمؤمنين ، وبين أن من يتولاهم يكون من جملتهم ، بيَّن هاهنا من هو وليُّهم بطريقٍ قصَرَ الولايةَ عليه كأنه قيل : لا تتخذوهم أولياءَ ، لأن بعضَهم أولياءُ بعضٍ وليسوا بأوليائكم ، إنما أولياؤكم الله ورسولُه والمؤمنون فاختصُّوهم بالموالاة ولا تتخطّوهم إلى غيرهم ، وإنما أفرد الوليَّ مع تعدده للإيذان بأن الولايةَ أصالةً لله تعالى وولايتُه عليه السلام ، وكذا ولايةُ المؤمنين بطريقِ التبعية لولايتِه عز وجل { الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكواة } صفة للذين آمنوا لجرَيانه مجرى الاسمِ أو بدلٌ منه أو نصْبٌ على المدح أو رفعٌ عليه { وَهُمْ رَاكِعُونَ } حال من فاعل الفعلين أي يعملون ما ذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهم خاشعون ومتواضعون لله تعالى ، وقيل : هو حال مخصوصةٌ بإيتاء الزكاة ، والركوعُ ركوعُ الصلاة ، والمراد بيانُ كمال رغبتهم في الإحسان ومسارعتهم إليه ، ورُوي أنها نزلت في علي رضي الله عنه حين سأله سائل وهو راكعٌ فطرح إليه خاتمه كأنه كان مرجاً في خِنْصَرِه غيرَ محتاجٍ في إخراجه إلى كثير عمل يؤدِّي إلى فساد الصلاة ، ولفظ الجمع حينئذ لترغيب الناس في مثل فعلِه رضي الله عنه ، وفيه دلالة على أن صدقة التطوُّع تسمّى زكاةً { وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين ءامَنُواْ } أُوثرَ الإظهارُ على أن يقال : ومن يتولَّهم رعايةً لما مر من نُكتةِ بيانِ أصالتِه تعالى في الولاية كما ينبىء عنه قوله تعالى : { فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون } حيث أضيفَ الحِزبُ إليه تعالى خاصة وهو أيضاً من باب وضْعِ الظاهِرِ موضعَ الضمير العائد إلى ( من ) ، أي فإنهم الغالبون لكنهم جُعِلوا حزبَ الله تعالى تعظيماً لهم وإثباتاً لغَلَبتهم بالطريق البرهاني ، كأنه قيل : ومن يتولَّ هؤلاء فإنهم حزبُ الله وحزبُ الله هم الغالبون .(2/257)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً } رُوي ( أن رُفاعةَ بنَ زيد وسويدَ بنَ الحارث ، أظهرا الإسلامَ ثم نافقا ، وكان رجالٌ من المؤمنين يُوادُّونهما ) فنُهوا عن موالاتهما ، ورُتِّب النهيُ على وصف يعمُّهما وغيرَهما تعميماً للحكم وتنبيهاً على العلة وإيذاناً بأن مَنْ هذا شأنُه جديرٌ بالمعاداة فكيف بالموالاة؟ { مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } بيان للمستهزئين ، والتعرّضُ لعنوان إيتاءِ الكتاب لبيان كمال شناعتِهم وغايةِ ضلالتهم ، لِما أنَّ إيتاءَ الكتاب وازعٌ لهم عن الاستهزاء بالدين المؤسَّسِ على الكتابِ المصدِّقِ لكتابهم { والكفار } أي المشركين خُصّوا به لتضاعُفِ كفرهم ، وهو عطف على الموصول الأول ففيه إشعارٌ بأنهم ليسوا بمستهزئين كما يُنبىءُ عنه تخصيصُ الخطاب بأهل الكتاب في قوله تعالى : { ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا } الآية ، وقرىء بالجر عطفاً على الموصول الأخير ويعضُده قراءةُ أُبيَ { وَمِنْ الكفار } وقراءةُ عبدِ اللَّه { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } فهم أيضاً من جملة المستهزئين { أَوْلِيَاء } وجانبوهم كلَّ المجانبة .
{ واتقوا الله } في ذلك بترك موالاتهم أو بترك المَناهي على الإطلاق فيدخل فيه تركُ موالاتِهم دخولاً أولياً { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي حقاً ، فإن قضيةَ الإيمان توجب الاتقاءَ لا محالة { وَإِذَا ناديتم إِلَى الصلاة اتخذوها } أي الصلاةَ أو المناداةَ ، ففيه دلالة على شرعية الأذان { هُزُواً وَلَعِباً } بيان لاستهزائهم بالدين على الإطلاق إظهاراً لكمال شقاوتهم . رُوي ( أن نصرانياً بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول : أشهد أن محمداً رسول الله ، يقول : أحرق الله الكاذب ، فدخل خادمُه ذاتَ ليلة بنار وأهلُه نيامٌ فتطايرَتْ منه شرارةٌ في البيت فأحرقَتْه وأهلَه جميعاً ) { ذلك } أي الاستهزاء المذكور { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } فإن السَّفَه يؤدِّي إلى الجهل بمحاسِنِ الحق والهُزُؤ به ، ولو كان لهم عقلٌ في الجملة لما اجترءوا على تلك العظيمة { قُلْ } أمرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق تلوين الخطاب بعد نهْيِ المؤمنين عن تولِّي المستهزئين بأن يخاطِبَهم ويبيِّنَ أن الدين منزه عما يصحِّحُ صدورَ ما صدر عنهم من الاستهزاء ، ويُظهرَ لهم سببَ ما ارتكبوه ويُلْقِمَهم الحجرَ ، أي قل لأولئك الفجرة { يَا أَهْلِ الكتاب } وُصفوا بأهلية الكتاب تمهيداً لما سيأتي من تبكيتهم وإلزامهم بكفرهم بكتابهم { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا } من نقَم منه كذا إذا عابه وأنكره وكرهه ، ينقِمه من حدِّ ضرب ، وقُرىء بفتح القاف من حد علِمَ وهي أيضاً لغة ، أي ما تَعيبون وما تُنكرون منا { إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا } من القرآن المجيد { وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ } أي من قبل إنزاله من التوراة والإنجيل المنزَّلَيْن عليكم وسائرِ الكتبِ الإلهية { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسقون } أي متمردون خارجون عن الإيمان بما ذكر فإن الكفر بالقرآن مستلزم بما يصدِّقُه لا محالة وهو عطف على ( أن آمنا ) على أنه مفعول له لتنقمون ، والمفعول الذي هو الدينُ محذوفٌ ثقةً بدلالة ما قبله وما بعده عليه دلالةً واضحة ، فإن اتخاذ الدين هزواً ولعباً عينُ نِقَمِه وإنكارِه ، والإيمانُ بما فُصِّل عينُ الدين الذي نقَموه خلا أنه أبرَزَ في معرِض علةِ نقمِهم له تسجيلاً عليهم بكمال المكابرةِ والتعكيس حيث جعلوه موجِباً لنقمه مع كونه في نفسه موجباً لقَبوله وارتضائه ، فالاستثناءُ من أعم العلل أي ما تنقِمون منا دينَنا لعلةٍ من العلل إلا لأنا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أُنزل من قبلُ من كتُبكم ، ولأن أكثركم متمردون غيرُ مؤمنين بواحدٍ مما ذُكر حتى لو كنتم مؤمنين بكتابكم الناطقِ بصحة كتابِنا لآمنتم به ، وإسنادُ الفسق إلى أكثرِهم لأنهم الحاملون لأعقابهم على التمرُّد والعناد ، وقيل : عطفٌ عليه على أنه مفعول لتنقمون منا ، لكن لا على أن المستثنى مجموعُ المعطوفَيْن بل هو ما يلزَمهما من المخالفة كأنه قيل : ما تنقمون منا إلا مخالفتَكم حيث دخلنا الإيمانَ وأنتم خارجون عنه ، وقيل : على حذف المضافِ ، أي واعتقادَ أن أكثركم فاسقون ، وقيل : عطف على ( ما ) أي ما تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وبأنكم فاسقون ، وقيل : عطفٌ على علة محذوفةٍ أي لقلة إنصافِكم ولأن أكثركم فاسقون ، وقيل : الواو بمعنى مع أي ما تنقِمون منا إلا الإيمانَ مع أن أكثركم الخ ، وقيل : هو مرفوعٌ على الابتداء والخبر محذوفٌ أي وفِسقُكم معلوم أي ثابت ، والجملة حالية أو معترضة ، وقرىء بإِن المكسورةِ والجملةُ مستأنَفة مبيّنةٌ لكون أكثرهم فاسقين متمرِّدين .(2/258)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
{ قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذلك } لما أمر عليه الصلاة والسلام بإلزامهم وتبكيتهم ببيان أن مدارَ نقمِهم للدين إنما هو اشتمالُه على ما يوجب ارتضاءَه عندهم أيضاً وكفرُهم بما هو مُسلَّم لهم . أُمر عليه الصلاة والسلام عَقيبَه بأن يُبكتَهم ببيان أن الحقيقَ بالنقم والعيبَ حقيقةً ما هم عليه من الدين المحرَّف وينعى عليهم في ضمن البيان جناياتِهم وما حاق بهم من تبِعاتها وعقوباتِها على منهاج التعريض لئلا يحمِلَهم التصريحُ بذلك على ركوب متن المكابرةِ والعنادِ ، ويخاطِبَهم قبل البيانِ بما يُنبىء عن عِظَم شأن المبيَّنِ ، ويستدعي إقبالَهم على تلقّيه من الجملة الاستفهامية المُشَوِّقة إلى المخبِر به والتنبئةِ المُشعرة بكونه أمراً خطيراً لما أن النبأ هو الخبرُ الذي له شأنٌ وخطَرٌ ، وحيث كان مناطُ النقم شَرِّيَّةَ المنقوم حقيقةً أو اعتقاداً وكان مجردُ النقم غيرَ مفيد لشَرِّيته البتّةَ ، قيل : ( بشرَ ) من ذلك ولم يقُل : بأنقَمَ من ذلك تحقيقاً لشَرِّية ما سيُذكر وزيادةَ تقرير لها ، وقيل : إنما قيل ذلك لوقوعه في عبارة المخاطَبين حيث أتى نفرٌ من اليهود فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دينه فقال عليه الصلاة والسلام : « أُومنُ بالله وما أنزل إلينا » إلى قوله : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فحين سمعوا ذكر عيسى عليه السلام قالوا : لا نعلم شراً من دينكم ، وإنما اعتَبَر الشَّرِّيةَ بالنسبة إلى الدين وهو منزَّه عن شائبةِ الشرّية بالكلية مجاراةً معهم على زعمهم الباطِلِ المنعقدِ على كمال شريتِه ليثبِتَ أن دينهم شرٌ من كل شر ، أي هل أخبركم بما هو شرٌّ في الحقيقة مما تعتقدونه شراً ، وإن كان في نفسه خيراً محضاً { مَثُوبَةً عِندَ الله } أي جزاءً ثابتاً في حكمه ، وقرىء ( مثوبةً ) وهي لغة فيها كمشورة ومشورة وهي مختصةٌ بالخير كما أن العقوبة مختصة بالشر ، وإنما وضعت هاهنا موضعها على طريقة قوله :
تحيةُ بينِهم ضَرْبٌ وجيعُ ... ونصبُها على التمييز من ( بشرّ ) وقوله عز وجل : { مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ } خبر لمبتدأ محذوفٍ بتقدير مضافٍ قبله مناسبٍ لما أشير إليه بكلمة ذلك أي : دينُ مَنْ لعنه الخ ، أو بتقدير مضافٍ قبلها مناسبٍ لمن ، أي بشرّ مِنْ أهل ذلك ، والجملة على التقديرين استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال نشأ من الجملة الاستفهامية إما على حالها وهو الظاهرُ المناسب لسياق النظم الكريم ، وإما باعتبار التقدير فيها فكأنه قيل : ما الذي هو شرٌّ من ذلك؟ فقيل : هو دينُ مَنْ لعنه الله الخ ، أو قيل في السؤال : من ذا الذي هو شرٌّ من أهل ذلك؟ فقيل : هو مَنْ لعنه الله ، ووضع الاسمِ الجليلِ موضع الضمير لتربية المهابةِ وإدخالِ الروعة وتهويلِ أمر اللعن وما تبعه ، والموصولُ عبارةٌ عن المخاطبين حيث أبعدهم الله تعالى من رحمته وسخِط عليهم بكفرهم وانْهماكِهم في المعاصي بعد وضوح الآيات وسُنوحِ البينات .(2/259)
{ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير } أي مسخ بعضَهم قردةً وهم أصحابُ السبْت وبعضَهم خنازيرَ وهم كفار مائدةِ عيسى عليه السلام ، وقيل : كلا المسخين في أصحاب السبْت مُسِخت شبانُهم قردةً وشيوخُهم خنازيرَ وجمع الضمير الراجع إلى الموصول في ( منهم ) باعتبار معناه كما أن إفراد الضميرين الأولين باعتبار لفظه ، وإيثارُ وضعه موضعَ ضمير الخِطاب المناسب لأنبئكم للقصدِ إلى إثبات الشرِّية بما عُدّد في حيز صلتِه من الأمورِ الهائلة الموجبةِ لها على الطريقة البرهانية مع ما فيه من الاحتراز عن تهييج لَجاجِهم { وَعَبَدَ الطاغوت } عطف على صلة ( مَنْ ) وإفراد الضمير لما مر وكذا عُبد الطاغوتُ على قراءة البناء للمفعول ورفع الطاغوتَ وكذا عبد الطاغوت بمعنى صار معبوداً ، فالراجع إلى الموصول محذوف على القراءتين ، أي عُبد فيهم أو بينهم ، وتقديم أوصافِهم المذكورة بصدد إثباتِ شرّية دينِهم على وصفهم هذا مع أنه الأصلُ المستتبِعُ لها في الوجود وأن دلالته على شريته بالذات ، لأن عبادة الطاغوتِ عينُ دينهم البيّنِ البطلان ودلالتُها عليها بطريق الاستدلال بشرِّيَّة الآثار على شرِّية ما يوجبُها من الاعتقاد ، والعمل ، إما للقصد إلى تبكيتهم من أول الأمر بوصفهم بما لا سبيل لهم إلى الجحود لا بشرِّيته وفظاعته ولا باتصافهم به ، وإما للإيذان باستقلال كلَ من المقدم والمؤخر بالدلالة على ما ذكر من الشرِّية ، ولو روعيَ ترتيبُ الوجود ، وقيل : مَنْ عَبَدَ الطاغوتَ ولعنه الله وغضب عليه الخ ، لربما فهم أن علة الشرية هو المجموعُ ، وقد قرىء ( عابدَ الطاغوت ) وكذا ( عبِدَ الطاغوتِ ) بالإضافة على أنه نعتٌ كفطِنٍ ويقِظٍ ، وكذا ( عبدَةَ الطاغوتِ ) ، وكذا ( عبَدَ الطاغوتِ ) بالإضافة على أنه جمع عابد كخَدَمٍ ، أو على أن أصله ( عبدةَ ) حذفت تاؤه للإضافة ، بالنصب في الكل عطفاً على القردة والخنازير ، وقرىء ( عَبَدِ الطاغوتِ ) بالجر عطفاً على ( مَنْ ) بناءً على أنه مجرور بتقدير المضاف ، وقد قيل : إن ( مَنْ ) مجرور على أنه بدلٌ من شرَ على أحد الوجهين المذكورين في تقدير المضاف ، وأنت خبير بأن ذلك مع اقتضائه إخلأَ النظم الكريم عن المزايا المذكورة بالمرة مما لا سبيل إليه قطعاً ضرورةَ أن المقصود الأصلي ليس مضمونَ الجملة الاستفهامية بل هو كما مر مقدّمة سيقت أمام المقصود لهُزُؤ المخاطبين وتوجيه أذهانهم نحو تلقي ما يلقى إليهم عَقيبها بجملة خبرية موافقةٍ في الكيفية للسؤال الناشىء عنها وهو المقصودُ إفادتُه ، وعليه يدور ذلك الإلزام والتبكيتُ حسبما شُرح ، فإذا جُعل الموصولُ بما في حيز صلتِه من تتمة الجملة الاستفهامية فأين الذي يلقى إليهم عقيبها جواباً عما نشأ منها من السؤال ليحصُلَ به الإلزامُ والتبكيت؟ وأما الجملة الآتية فبمعزلٍ من صلاحية الجواب ، كيف لا ولا بد من موافقته في الكيفية للسؤال الناشىء عن الجملة الاستفهامية ، وقد عرفت أن السؤال الناشىءَ عنها يستدعي وقوعَ الشر من تتمة المخبَرِ عنه لا خبراً كما في الجملة المذكورة ، وسيتضح ذلك مزيدَ اتضاحٍ بإذن الله تعالى ، والمراد بالطاغوت العِجْلُ ، وقيل : هو الكهنة وكلُّ من أطاعوه في معصية الله عز وجل فيعم الحكمُ دينَ النصارى أيضاً ، ويتضح وجه تأخيرِ ذكرِ عبادتِه عن العقوبات المذكورة ، إذ لو قُدِّمت عليها لتُوُهِّم اشتراكُ الفريقين في تلك العقوبات ولما كان مآلُ ما ذُكرَ بصدر التبكيت أن ما هو شرٌّ مما نقَموه دينُهم أو أن من هو شرٌّ من أهل ما نقموه أنفسُهم بحسَب ما قدِّر من المضافين ، وكانت الشرِّيةُ على كلا الوجهين من تتمة الموضوع غيرَ مقصودة الإثبات لدينهم أو لأنفسهم عقِبَ ذلك بإثباتها لهم على وجهٍ يُشعر بعِلِّية ما ذُكر من القبائح لثبوتها لهم بجملةٍ مستأنَفةٍ مسوِّغةٍ من جهته سبحانه شهادةً عليهم بكمال الشرارة والضلال ، أو داخلةٍ تحت الأمر تأكيداً للإلزام وتشديداً للتبكيت فقيل : { أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً } فاسسمُ الإشارة عبارة عمن ذُكرتْ صفاتُهم الخبيثة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتِهم في الشرارة أي أولئك الموصوفون بتلك القبائح والفضائحِ شرٌّ مكانُهم ، جَعَلَ مكاناً شراً ليكونَ أبلغَ في الدلالة على شرارتهم ، وقيل : شر مكاناً أي مُنصَرَفاً { وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السبيل } عطف على شر ، مقرِّرٌ له أي أكثرُ ضلالاً عن الطريق المستقيم وفيه دلالة على كون دينهم شراً محضاً بعيداً عن الحق لأن ما يسلُكونه من الطريق دينُهم ، فإذا كانوا أضلَّ كان دينُهم ضلالاً مُبيناً لا غايةَ وراءه ، وصيغةُ التفضيل في الموضعين للزيادة مطلقاً لا بالإضافة إلى من يشاركهم في أصلِ الشرارة والضلال .(2/260)
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
{ وَإِذَا جَآؤُوكُم قَالُواْ ءامَنَّا } نزلت في ناس من اليهود كانوا يدخُلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُظهرون له الإيمان نفاقاً ، فالخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والجمعُ للتعظيم ، أوْ له مَعَ مَنْ عنده من المسلمين ، أي إذا جاؤوكم أظهروا الإسلام { وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } أي يخرجون من عندك ملتبسين بالكفر كما دخلوا ، لم يؤثِّرْ فيهم ما سمعوا منك ، والجملتان حالان من فاعل قالوا ، وبالكفر وبه حالان من فاعل دخلوا وخرجوا ، وقد وإن دخلت لتقريب الماضي من الحال ليصح أن يقع حالاً ، أفادت أيضاً بما فيها من معنى التوقع أن أمارات النفاق كانت لائحة ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يظنه ويتوقع أن يظهره الله تعالى ، ولذلك قيل : { والله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ } أي من الكفر ، وفيه وعيد شديد لهم .(2/261)
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
{ وَتَرَى } خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحدٍ ممن يصلُح للخطاب والرؤية بصرية { كَثِيراً مّنْهُمْ } من اليهود والمنافقين ، وقولُه تعالى : { يسارعون فِى الإثم } حال من كثيراً ، وقيل : مفعول ثانٍ والرؤيةُ قلبية ، والأول أنسبُ بحالهم وظهور نفاقهم ، والمسارعة المبادرة والمباشرة للشيء بسرعة ، وإيثار كلمة ( في ) على كلمة ( إلى ) الواقعة في قوله تعالى : { وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ } الخ ، لِما ذُكر في قوله تعالى : { فَتَرَى الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يسارعون فِيهِمْ } والمرادُ بالإثم الكذبُ على الإطلاق ، وقيل : الحرام ، وقيل : كلمةُ الشرك وقولُهم : عزيرٌ ابنُ الله ، وقيل : هو ما يختصُّ بهم من الآثام { والعدوان } أي الظلم المتعدي إلى الغير أو مجاوزة الحد في المعاصي { وَأَكْلِهِمُ السحت } أي الحرام ، خصه بالذكر مع اندراجه في الإثم للمبالغة في التقبيح { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي لبئس شيئاً كانوا يعملونه ، والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار .
{ لَوْلاَ ينهاهم الربانيون والاحبار } قال الحسن : الربانيون علماء الإنجيل ، والأحبار علماء التوراة ، وقيل : كلهم في اليهود وهو تحضيضٌ للذين يقتديْ بهم أفناؤهم ويَعْلمون قَباحةَ ما هم فيه وسوءَ مغبَّته على نهْيِ أسافلِهم عن ذلك مع توبيخ لهم على تركه { عَن قَوْلِهِمُ الإثم وَأَكْلِهِمُ السحت } مع علمهم بقبحهما ومشاهدتهم لمباشرتهم لهما { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } وهذا أبلغ مما قيل في حق عامتهم لما أن العمل لا يبلُغ درجة الصنع ما لم يتدرَّبْ فيه صاحبُه ولم يحصُلْ فيه مهارة تامة ، ولذلك ذَمَّ به خواصَّهم ، ولأن ترك الحسنة أقبحُ من مواقعة المعصية ، لأن النفس تلتذ بها وتميل إليها ، ولا كذلك تركُ الإنكار عليها ، فكان جديراً بأبلغِ ذم ، وفيه مما ينعى على العلماء توانيهم في النهي عن المنكرات ما لا يخفى . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها أشد آية في القرآن ، وعن الضحاك : ما في القرآن آية أخوفُ عندي منها .
{ وَقَالَتِ اليهود } قال ابن عباس وعكرمة والضحاك : إن الله تعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالاً وأخصبَهم ناحيةً فلما عصَوا الله سبحانه بأن كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبوه كف عنهم ما بسَطَ عليهم ، فعند ذلك قال فِنْحاصُ بنُ عازوراء : { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } وحيث لم ينكر عليه الآخرون ورضُوا به نُسبت تلك العظيمةُ إلى الكل كما يقال : بنو فلان قتلوا فلاناً ، وإنما القاتل واحدٌ منهم وأرادوا بذلك لعنهم الله أنه قال : مُمسك يقتِّر بالرزق ، فإن كلاًّ من غَلِّ اليد وبسْطِها مجازٌ عن محض البخل والجود من غير قصد في ذلك إلى إثبات يدٍ وغَلَ أو بسطٍ ، ألا يُرى أنهم يستعملونه حيث لا يتصور فيه ذلك كما في قوله :(2/262)
جاد الحمى بَسْطَ اليدين بوابل ... شكَرتْ نداهُ تِلاعُه ووِهادُهُ
وقد سلك لبيدٌ المسلكَ السديد حيث قال :
وغداةِ ريحٍ قد شهِدْتُ وقَرَّة ... إذْ أصبَحَتْ بيد الشَّمال زِمامُها
فإنه إنما أراد بذلك إثباتَ القدرة التامة للشَّمال على التصرفِ في القَرَّة كيفما تشاء على طريقة المجاز من غير أن يخطُرَ بباله أن يثبِتَ لها يداً ولا للقرّة زماماً ، وأصله كناية فيمن يجوز عليه إرادة المعنى الحقيقي كما مر في قوله تعالى : { وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة } في سورة آل عمران ، وقيل : أرادوا ما حُكيَ عنهم بقوله تعالى : { لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء } { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } دعاء عليهم بالبخل المذموم والمسكَنة أو بالفقر والنَّكَد أو بغَلِّ الأيدي حقيقة ، بأن يكونوا أسارى مغلولين في الدنيا ويُسحبوا إلى النار بأغلالِها في الآخرة ، فتكون المطابقةُ حينئذ من حيث اللفظُ وملاحظةُ المعنى الأصلي كما في سبّني سبّ الله دابرَه { وَلُعِنُواْ } عطف على الدعاء الأول أي أُبعدوا من رحمة الله تعالى { بِمَا قَالُواْ } أي بسبب ما قالوا من الكلمة الشنعاء ، وقيل : كلاهما خبر .
{ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } عطف على مقدَّرٍ يقتضيه المقامُ أي : كلاّ ليس كذلك بل هو في غاية ما يكونُ من الجود ، وإليه أُشير بتثنية اليد ، فإن أقصى ما ينتهي إليه هممُ الأسخياء أن يُعطوا ما يعطونه بكلتا يَدَيْهم ، وقيل : التثنية للتنبيه على منحه تعالى لنعمتي الدنيا والآخرة ، وقيل : على إعطائه إكراماً ، وعلى إعطائه استدراجاً { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء } جملة مستأنفة واردةٌ لتأكيدِه كمالَ وجوده وللتنبيه على سرِّ ما ابتلوا به من الضيق الذي اتخذوه من غاية جهلهم وضلالِهم ذريعةً إلى الاجتراء على تلك الكَفْرة العظيمة ، والمعنى أن ذلك ليس لقصور في فيضه ، بل لأن إنفاقه تابعٌ لمشيئته المبنيَّةِ على الحُكم التي عليها يدورُ أمرُ المعاش والمعاد ، وقد اقتضتِ الحكمةُ بسبب ما فيهم من شؤم المعاصي أن يضيِّقَ عليهم كما يشير إليه ما سيأتي من قوله عز وجل : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل } الآية ، و ( كيف ) ظرفٌ ليشاء ، والجملة في محل النصب على الحالية من ضمير ( ينفق ) أي ينفق كائناً على أي حال يشاء أي كائناً على مشيئته أي مريداً ، وتركُ ذكرِ ما ينفقه لقصد التعميم .
{ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم } وهم علماؤهم ورؤساؤهم { مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ } من القرآن المشتمل على الآيات ، وتقديمُ المفعول للاعتناء به ، وتخصيص الكثير منهم بهذا الحكم لِما أن بعضهم ليس كذلك { مِن رَبّكَ } متعلق بأنزل كما أن ( إليك ) كذلك ، وتأخيره عنه مع أن حق المبتدىء أن يتقدم على المنتهي لاقتضاء المقامِ الاهتمامَ ببيان المنتهي ، لأن مدار الزيادة هو النزولُ إليه عليه السلام كما في قوله تعالى : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاء } والتعرضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام لتشريفه عليه السلام { طغيانا وَكُفْراً } مفعول ثان للزيادة أي ليزيدنهم طغياناً على طغيانهم وكفراً على كفرهم القديمين إما من حيث الشدةُ والغلوُّ وإما من حيث الكمُ والكثرة ، إذ كلما نزلت آية كفروا بها فيزداد طغيانُهم وكفرُهم بحسب المقدار كما أن الطعامَ الصالح للأصِحّاء يزيد المرضى مرضاً .(2/263)
{ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ } أي بين اليهود ، فإن بعضَهم جبْريةٌ وبعضَهم قَدَرية وبعضهم مُرْجئة وبعضهم مشبِّهة { العداوة والبغضاء } فلا يكاد تتوافق قلوبُهم ولا تتطابق أقوالهم ، والجملة مبتدأةٌ مَسوقة لإزاحة ما عسى يُتوهَّمُ من ذكر طغيانهم وكفرهم من الاجتماع على أمرٍ يؤدِّي إلى الإضرار بالمسلمين ، قيل : العداوة أخصُّ من البغضاء ، لأن كل عدوَ مبغضٌ بلا عكسٍ كليَ { إلى يَوْمِ القيامة } متعلق بألقينا وقيل : بالبغضاء .
{ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله } تصريح بما أشير إليه من عدم وصول غائلةِ ما هم فيه إلى المسلمين ، أي كلما أرادوا محاربة الرسول عليه الصلاة والسلام ورتبوا مبادِيَها وركِبوا في ذلك متنَ كلِّ صعب وذَلولٍ ردهم الله تعالى وقهرهم ، أو كلما أرادوا حرب أحد غُلبوا ، فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلّط الله تعالى عليهم بُخْتَ نَصَّرَ ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم فطرُسَ الروميّ ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين ، و ( للحرب ) إما صلةٌ لأوقدوا أو متعلق بمحذوف وقع صفةً ( لناراً ) ، أي كائنة للحرب { وَيَسْعَوْنَ فِى الارض فَسَاداً } أي يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله وإثارةِ الشر والفتنة فيما بينهم مما يُغايرُ ما عبَّر عنه بإيقاد نارِ الحرب ، و ( فساداً ) إما مفعول له أو في موقع المصدر أي يسعون للفساد أو يسعون سعي فساد { والله لاَ يُحِبُّ المفسدين } ولذلك أطفأ ثائرةَ إفسادهم ، واللام إما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً ، وإما للعهد ، ووضعُ المُظْهَرِ مَقام الضمير للتعليل وبيانِ كونِهم راسخين في الإفساد .(2/264)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب } أي اليهود والنصارى ، على أن المراد بالكتاب الجنسُ المنتظمُ للتوراة والإنجيل ، وإنما ذكروا بذلك العنوان تأكيداً للتشنيع ، فإنّ أهليةَ الكتاب توجب إيمانهم به ، وإقامتَهم له لا محالة ، فكفرُهم به وعدمُ إقامتهم له وهم أهلُه أقبحُ من كل قبيح وأشنعُ من كل شنيع ، فمفعول قوله تعالى : { ءامَنُواْ } محذوف ثقةً بظهوره مما سبَقَ من قوله تعالى : { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسقون } وما لَحِقَ من قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة } الخ ، أي لو أنهم مع صدور ما صدَرَ عنهم من فنون الجنايات قولاً وفعلاً آمنوا بما نُفِيَ عنهم الإيمانُ به فيندرج فيه فرضُ إيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما إرادةُ إيمانهم به عليه السلام خاصة فيأباها المقام ، لأن ما ذُكر فيما سبَقَ وما لَحِق من كفرهم به عليه السلام إنما ذُكر مشفوعاً بكفرهم بكتابِهم أيضاً قصداً إلى الإلزام والتبكيت ببيان أن الكفرَ به عليه الصلاة والسلام مستلزمٌ للكفر بكتابهم ، فحملُ الإيمانِ هاهنا على الإيمان به عليه السلام خاصة مُخِلٌّ بتجاوُب أطرافِ النظم الكريم . { واتقوا } ما عدَدْنا من معاصيهم التي من جملتها مخالفةُ كتابهم { لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سيئاتهم } التي اقترفوها وإن كانت في غاية العِظَم ونهايةِ الكثرة ولم نؤاخِذْهم بها { ولادخلناهم } مع ذلك { جنات النعيم } وتكريرُ الام لتأكيدِ الوعد ، وفيه تنبيه على كمال عِظَم ذنوبهم وكثرةِ معاصيهم وأن الإسلام يجبُّ ما قبله من السيئات وإن جلَّتْ وجاوزت كلَّ حدَ معهود .
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل } بمراعاة ما فيهما من الأحكام التي من جملتها شواهدُ نبوةِ النبي صلى الله عليه وسلم ومبشراتُ بِعثتِه ، فإن إقامتهما إنما تكون بذلك لا بمراعاة جميع ما فيهما من الأحكام لانتساخِ بعضِها بنزول القرآن فليست مراعاةُ الكلِّ من إقامتهما في شيء { وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ } من القرآن المجيد المصدِّق لكتبهم ، وإيرادُه بهذا العنوان للإيذان بوجوب إقامته عليهم لنزوله إليهم ، وللتصريح ببطلان ما كانوا يدّعونه من عدم نزوله إلى بني إسرائيل ، وتقديمُ ( إليهم ) لما مر من قبل ، وفي إضافة الرب إلى ضمير ( هم ) مزيدُ لطف بهم في الدعوة إلى الإقامة ، وقيل : المراد بما أنزل إليهم كتبُ أنبياءِ بني إسرائيل مثلُ كتاب ( شعياء ) وكتاب ( حبقوق ) وكتاب ( دانيال ) فإنها مملوءة بالبشارة بمبعثه صلى الله عليه وسلم { لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } أي لوسَّع عليهم أرزاقَهم بأن يُفيض عليهم بركاتِ السماء والأرض ، أو بأن يكثر ثمراتِ الأشجار وغلالَ الزروع أو بأن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار فيجتنوا ما تهدّل منها من رؤوس الأشجار ويلتقطوا ما تساقط منها على الأرض ، وقيل : المراد المبالغة في شرح السَّعَة والخِصْب لا تعيينُ الجهتين ، كأنه قيل : لأكلوا من كل جهة ، ومفعول ( أكلوا ) محذوف بقصد التعميم ، أو للقصد إلى نفس الفعل كما في قوله : فلان يعطي ويمنع ، و ( مِنْ ) في الموضعين لابتداء الغاية وفي هاتين الشرطيتين من حثِّهم على ما ذكر من الإيمان والتقوى والإقامةِ بالوعد بنيل سعادة الدارين وزجرِهم عن الإخلال به بما ذُكر ببيان إفضائِه إلى الحِرْمان عنها وتنبيههم على أن ما أصابهم من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم لا لقصورٍ في فيض الفياض ما لا يخفى .(2/265)
{ مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } جملة مستأنَفةٌ مبنيّةٌ على سؤال نشأ من مضمون الجملتين المصدّرتين بحرف الامتناع الدالتين على انتفاء الإيمان والاتقاءِ وإقامةِ الكتب المُنْزلة من أهل الكتاب ، كأنه قيل : هل كلُّهم كذلك مصرّون على عدم الإيمان؟ الخ ، فقيل : ( منهم أمة مقتصدة ) إما على أن ( منهم ) مبتدأ باعتبار مضمونه أي بعضهم أمة ، وإما بتقدير الموصوف أي بعضٌ كائنٌ منهم كما مر في قوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله } الآية ، أي طائفة معتدلة وهم المؤمنون منهم كعبد اللَّه بنِ سلام وأضرابِه ، وثمانيةٌ وأربعون من النصارى ، وقيل : طائفة حالُهم أَممٌ في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ } مبتدأ لتخصُّصِه بالصفة خبرُه { سَاء مَا يَعْمَلُونَ } أي مقولٌ في حقهم هذا القولُ ، أي بئسما يعملون وفيه معنى التعجب أي ما أسوأ عملَهم من العِناد والمكابرةِ وتحريفِ الحق والإعراض عنه ، والإفراطِ في العداوة ، وهم الأجلافُ المتعصِّبون ككعبِ بن الأشرف وأشباهه والروم .(2/266)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
{ يأيها الرسول } نودي عليه السلام بعنوان الرسالة تشريفاً له وإيذاناً بأنها من موجبات الإتيان بما أُمر به من تبليغ ما أُوحِيَ إليه { بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } أي جميع ما أنزل إليك من الأحكام وما يتعلق بها كائناً ما كان ، وفي قوله تعالى : { مِن رَبّكَ } أي مالِكِ أمورِك ومبلِّغِك إلى كمالك اللائقِ بك ، عِدَةٌ ضِمْنية بحفظه عليه السلام وكَلاءته ، أي بلِّغْه غيرَ مراقِبٍ في ذلك أحداً ولا خائف أن ينالك مكروهٌ أبداً { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ } ما أُمرت به من تبليغ الجميع بالمعنى المذكور كما ينبىء عنه قوله تعالى : { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } فإن ما لا تتعلق به الأحكامُ أصلاً من الأسرار الخفية ليست مما يُقصَدُ تبليغه إلى الناس ، أي فما بلغت شيئاً من رسالته وانسلخْتَ مما شَرُفتَ به من عنوان الرسالة بالمرة ، لِما أن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض ، فإذا لم تؤدِّ بعضها فكأنك أغفلتَ أداءَها جميعاً كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها ، لإدلاء كلَ منها بما يُدليه غيرها ، وكونُها لذلك في حكم شيءٍ واحد ، ولا ريب في أن الواحد لا يكونُ مُبلَّغاً غيرَ مبلَّغٍ مؤمَناً به غيرَ مؤمَنٍ به ، ولأن كتمان بعضها إضاعةٌ لما أُدِّيَ منها كترك بعض أركان الصلاة فإن عرضَ الدعوة ينتقض بذلك ، وقيل : فكأنك ما بلغت شيئاً منها كقوله تعالى : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً } من حيث أن كتمان البعض والكل سواءٌ في الشناعة واستجلاب العقاب ، وقرىء ( فما بلغت رسالاتي ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما إن كتمتَ آيةً لم تبلِّغْ رسالاتي ، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بعثني الله برسالاته فضِقْتُ بها ذرعاً فأوحَى الله إلي إنْ لم تبلِّغْ رسالاتي عذبتُك وضمِن لي العصمة فقوِيْتُ » وذلك قوله تعالى : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } فإنه كما ترى عِدَةٌ كريمةٌ بعصمته من لُحوق ضررهم بروحه العزيزِ باعثةٌ له عليه السلام على الجِدّ في تحقيق ما أمر به من التبليغ غيرَ مكترثٍ بعداوتهم وكيدهم . وعن أنس رضي الله عنه أنه عليه السلام كان يُحرَسُ حتى نزلت فأخرج رأسَه من قُبّةٍ أَدَمٍ فقال : « انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس » وقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الكافرين } تعليل لعصمته تعالى له عليه السلام أي لا يمكنهم مما يريدون بك من الإضرار ، وإيرادُ الآية الكريمة في تضاعيف الآيات الواردة في حق أهل الكتاب لِما أن الكل قوارعُ يسوء الكفارَ سماعُها ، ويشُقّ على الرسول صلى الله عليه وسلم مشافهتُهم بها ، وخصوصاً ما يتلوها من النصِّ الناعي عليهم كمالَ ضلالتهم ولذلك أعيد الأمر فقيل :(2/267)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
{ قُلْ ياأهل الكتاب } مخاطِباً الفريقين { لَسْتُمْ على شَىْء } أيْ دينٍ يُعتدّ به ويليق بأن يسمى شيئاً لظهور بُطلانه ووضوح فساده ، وفي هذا التعبير من التحقير والتصغير ما لا غايةَ وراءه { حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل } أي تراعوهما وتحافظوا على مافيهما من الأمور التي من جملتها دلائلُ رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وشواهدُ نبوته ، فإن إقامتهما إنما تكون بذلك ، وأما مراعاة أحكامهما المنسوخةِ فليست من إقامتهما في شيء ، بل هي تعطيل لهما وردٌّ لشهادتهما ، لأنهما شاهدان بنسخها وانتهاءِ وقت العمل بها ، لأن شهادتهما بصحة ما ينسخها شهادةٌ بنسخها وخروجها عن كونها من أحكامهما ، وأن أحكامهما ما قرره النبي الذي بشَّرَ فيهما ببعثه ، وذُكر في تضاعيفهما نعُوتُه ، فإذن إقامتُهما بيانُ شواهدِ النبوة والعملُ بما قررته الشريعة من الأحكام كما يُفصح عنه قوله تعالى : { وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رَّبّكُمْ } أي القرآن المجيد بالإيمان به ، فإن إقامة الجميع لا تتأتَّى بغير ذلك ، وتقديمُ إقامةِ الكتابين على إقامته مع أنها المقصودةُ بالذات لرعاية حقِّ الشهادة واستنزالِهم عن رتبة الشِّقاق ، وإيرادُه بعنوان الإنزال إليهم لما مرّ من التصريح بأنهم مأمورون بإقامته والإيمان به لا كما يزعُمون من اختصاصه بالعرب ، وفي إضافة الربِّ إلى ضميرهم ما أشير إليه من اللطف في الدعوة ، وقيل : المراد بما أُنزل إليهم كتبُ أنبياءِ بني إسرائيلَ كما مر ، وقيل : الكتبُ الإلهية فإنها بأسرها آمرةٌ بالإيمان لمن صدَّقَتْه المعجزةُ ناطقةٌ بوجوب الطاعة له . رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن جماعةً من اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ألست تقرأ أن التوراة حقٌّ من عند الله تعالى؟ فقال عليه السلام : «بلى» ، فقالوا : فإنا مؤمنون بها ولا نؤمنُ بغيرها فنزلت ، قوله تعالى : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طغيانا وَكُفْراً } جملة مستأنَفةٌ مبيِّنةٌ لشدة شكيمَتِهم وغُلوِّهم في المكابرة والعناد وعدمِ إفادة التبليغ نفعاً ، وتصديرُها بالقسم لتأكيد مضمونها وتحقيق مدلولِها ، والمرادُ بالكثير المذكور علماؤهم ورؤساؤهم ، ونسبةُ الإنزال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسبته فيما مر إليهم للإنباء عن انسلاخِهم عن تلك النسبة { فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين } أي لا تتأسف ولا تحزن عليهم لإفراطهم في الطغيان والكفر بما تُبلّغه إليهم ، فإن غائلتَه آيلةٌ إليهم وتبِعَتَه حائقةٌ لا تتخطاهم ، وفي المؤمنين مندوحةٌ لك عنهم ، ووضعُ المُظْهر موضعَ المُضمَرِ للتسجيل عليهم بالرسوخ في الكفر .(2/268)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
{ إِنَّ الذين ءامَنُواْ } كلام مستأنَفٌ مسوق لترغيب مَنْ عدا المذكورين في الإيمان والعمل الصالح أي الذين آمنوا بألسنتهم فقط وهم المنافقون ، وقيل : أعمُّ من أن يُواطِئَها قلوبُهم أو لا { والذين هَادُواْ } أي دخلوا في اليهودية { والصابئون والنصارى } جمعُ نَصْرانَ وقد مر تفصيله في سورة البقرة ، وقوله تعالى : { والصابئون } رفع على الابتداء وخبرُه محذوف والنيةُ به التأخرُ عما في حيّز إنّ والتقدير إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمُهم كيتَ وكيتَ والصابئون كذلك كقوله :
فإني وقيارٌ بها لغريبُ ... وقوله :
وإلا فاعلموا أَنّا وأنتم ... بُغاةٌ ما بقِينا في شقاق
خلا أنه وسَطٌ بين اسْمِ إن وخبرِها دلالةً على أن الصابئين مع ظهور ضلالهم وزيغهم عن الأديان كلِّها حيث قُبلت توبتُهم إن صحَّ منهم الإيمانُ والعملُ الصالح ، فغيرُهم أولى بذلك ، وقيل : الجملة الآتية خبرٌ للمبتدأ المذكور ، وخبرُ إن مقدر كما في قوله :
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرأْيُ مختلِفُ
وقيل : ( النصارى ) مرفوعٌ على الابتداء كقوله تعالى : { والصابئون } ، عطفاً عليه وهو مع خبره عطفٌ على الجملة المصدَّرة بإن ولا مَساغَ لعطفه وحده على محل إن واسمها لاشتراط ذلك بالفراغ عن الخبر وإلا لارتفع الخبر بإن والابتداء معاً ، واعتُذر عنه بأن ذلك إذا كان المذكورُ خبراً لهما ، وأما إذا كان خبرُ المعطوف محذوفاً فلا محذورَ فيه ولا على الضمير في هادوا لعدم التأكيد والفصل ، ولاستلزامه كونَ الصابئين هُوداً ، وقرىء ( والصابيون ) بياء صريحةٍ بتخفيف الهمزة ، وقرىء ( والصابون ) وهو من صبا يصبو لأنهم صبَوْا إلى اتباع الهوى والشهوات في دينهم ، وقرىء ( والصابئين ) ، وقرىء يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون ، وقوله تعالى : { مَنْ ءامَنَ بالله واليوم الاخر وَعَمِلَ صالحا } إما في محل الرفع على أنه مبتدأ خبره { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، وجمع الضمائر الأخيرة باعتبار معنى الموصول كما أن إفرادَ ما في صلته باعتبار لفظه ، والجملة خبر إن والعائد إلى اسمها محذوف ، أي من آمن منهم ، وإما في محل النصب على أنه بدل من اسم إن وما عُطف عليه ، والخبر قوله تعالى : { فَلاَ خَوْفٌ } والفاء كما في قوله عز وعلا : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ } الآية ، فالمعنى على تقديم كون المراد بالذين آمنوا المنافقين وهو الأظهر أي من أحدث من هذه الطوائف إيماناً خالصاً بالمبدأ والمَعادِ على الوجه اللائق لا كما يزعمه أهل الكتاب فإن ذلك بمعزل من أن يكون إيماناً بهما ، وعمل عملاً صالحاً حسبما يقتضيه الإيمانُ بهما فلا خوف عليهم حين يخاف الكفارُ العقابَ ولا هم يحزنون حيث يحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب ، والمراد بيانُ دوام انتفائهما لا بيانُ انتفاء دوامهما كما يوهمُه كونُ الخبر في الجملة الثانية مضارعاً لما مر مراراً لأن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام ، وأما على تقدير كون المراد بالذين آمنوا مطلقَ المتدينين بدين الإسلام المخلِصين منهم والمنافقين ، فالمرادُ بمن آمن من اتصف منهم بالإيمان الخالص بالمبدأ والمَعادِ على الإطلاق سواء كان ذلك بطريق الثبات والدوام عليه كما هو شأن المخلصين أو بطريق إحداثه وإنشائه كما هو حالُ من عداهم من المنافقين وسائر الطوائف ، وفائدةُ التعميم للمخلصين المبالغةُ في ترغيب الباقين في الإيمان ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غيرُ مُخلَ بكونهم أسوةً لأولئك الأقدمين الأعلام ، وأما ما قيل : المعنى من كان منهم في دينه قبل أن يُنسَخَ مصدِّقاً بقلبه بالمبدأ أو المعاد عاملاً بمقتضى شرعه فمما لا سبيل إليه أصلاً كما مر تفصيله في سورة البقرة .(2/269)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
{ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إسراءيل } كلام مبتدأٌ مَسوق لبيان بعضٍ آخرَ من جناياتهم المنادية باستبعاد الإيمان منهم أي بالله لقد أخذنا ميثاقهم بالتوحيد وسائر الشرائع والأحكام المكتوبة عليهم في التوراة . { وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً } ذوي عددٍ كثير وأولي شأنٍ خطير ليقرِّروهم على مراعاة حقوق الميثاق ويُطْلعوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم ويتعهدوهم بالعظة والتذكير ، وقوله تعالى : { كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنفُسُهُمْ } جملة شرطيةٌ مستأنَفةٌ وقعت جواباً عن سؤال نشأ من الإخبار بأخذ الميثاق وإرسال الرسل ، وجواب الشرط محذوف ، كأنه قيل : فما فعلوا بالرسل؟ فقيل : كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تُحبه أنفسُهم المنهمكةُ في الغيِّ والفساد من الأحكام الحَقّة والشرائعِ عَصَوْه وعادَوْه ، وقوله تعالى : { فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } جواب مستأنَفٌ عن استفسار كيفية ما أظهروه من آثار المخالفة المفهومة من الشرطية على طريقة الإجمال كأنه قيل : كيف فعلوا بهم؟ فقيل : فريقاً منهم كذبوهم من غير أن يتعرضوا لهم بشيء آخرَ من المَضارِّ وفريقاً آخر منهم لم يكتفوا بتكذيبهم بل قتلوهم أيضاً ، وإنما أُوثر عليه صيغة المضارع على حكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها الهائلة للتعجيب منها وللتنبيه على أن ذلك دَيْدنُهم المستمرُّ ، وللمحافظة على رؤوس الآي الكريمة ، وتقديم فريقاً في الموضعين للاهتمام به وتشويق السامع إلى ما فعلوا به لا للقصر هذا ، وأما جعلُ الشرطية صفةً ( لرسلاً ) كما ذهب إليه الجمهور فلا يساعده المقام أصلاً ضرورةَ أن الجملة الخبرية إذا جُعلتْ صفةً أو صلةً يُنسخ ما فيها من الحكم وتُجعل عنواناً للموصوف تتمةً له في إثباتِ أمرٍ آخَرَ له ولذلك يجب أن يكون الوصفُ معلومَ الانتساب إلى الموصوف عند السامع قبل جعله وصفاً له ، ومن هاهنا قالوا : إن الصفاتِ قبل العلم بها أخبارٌ ، والأخبارُ بعد العلم بها أوصافٌ ، ولا ريب في أن ما سبق له النظم إنما هو بيانُ أنهم جعلوا كل من جاءهم من رسل الله تعالى عُرضةً للقتل أو التكذيب حسبما يفيده جعلُها استئنافاً على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه ، لا بيانُ أنه تعالى أرسل إليهم رسلاً موصوفين بكون كل منهم كذلك كما هو مقتضى جعلِها صفةً .(2/270)
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
{ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي حسِب بنو إسرائيلَ أن لا يصيبَهم من الله تعالى بما أتَوْا من الداهية الدهياء والخُطة الشنعاء بلاءٌ وعذاب ، وقرىء ( لا تكونُ ) بالرفع على أنّ أنْ هي المخففة من أنّ ، واسمها ضمير الشأن المحذوف ، وأصله أنه لا تكون فتنةٌ ، وتعليقُ فعل الحُسْبان بها وهي للتحقيق لتنزيله منزلة العلم لكمال قوته ، و ( أن ) بما في حيِّزها سادٌّ مَسدَّ مفعوليه .
{ فَعَمُواْ } عطف على ( حسِبوا ) والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها أي أمِنوا بأسَ الله تعالى فتمادَوْا في فُنون الغيِّ والفساد وعمُوا عن الدين بعد ما هداهم الرسلُ إلى معالمه الظاهرة وبينوا لهم مناهجه الواضحة { وَصَمُّواْ } عن استماع الحق الذي ألقَوْه عليهم ولذلك فعلوا بهم ما فعلوا ، وهذا إشارة إلى المرة الأولى من مرّتَيْ إفساد بني إسرائيلَ حين خالفوا أحكام التوراة وركِبوا المحارم وقتلوا شعياء ، وقيل : حبسوا أرمياء عليهما السلام لا إلى عبادتهم العجلَ كما قيل ، فإنها وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمَى والصمَم لكنها في عصر موسى عليه السلام ، ولا تعلُّقَ لها بما حُكي عنهم مما فعلوا بالرسل الذين جاؤوهم بعده عليه السلام بأعصار { ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ } حين تابوا ورجعوا عما كانوا عليه من الفساد بعد ما كانوا ببابلَ دهراً طويلاً تحت قهر بُخْتَ نَصَّرَ أسارى في غاية الذل والمهانة فوجه الله عز وجل ملكاً عظيماً من ملوك فارسَ إلى بيت المقدس ليعمُرَه ونجّى بقايا بني إسرائيل من أسر بختَ نصَّرَ بعد مهلكه وردَّهم إلى وطنهم وتراجَعَ من تفرق منهم في الأكناف فعَمَروه ثلاثين سنة فكثُروا وكانوا كأحسنَ ما كانوا عليه ، وقيل : لما ورث بَهْمنُ بنُ اسفنديارَ المُلك من جدِّه كستاسُفَ ألقى الله عز وجل في قلبه شفقة عليهم فردهم إلى الشام وملّك عليهم دانيال عليه السلام ، فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختَ نصّر فقامت فيهم الأنبياءُ فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من الحال ، وذلك قوله تعالى : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ } وأما ما قيل من أن المراد قبولُ توبتهم عن عبادة العجل فقد عرفت أن ذلك لا تعلُّق له بالمقام ولم يُسنِد التوبةَ إليهم كسائر أحوالهم من الحُسبان والعمَى والصمم تجافياً عن التصريح بنسبة الخير إليهم وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبته تعالى عليهم تمهيداً لبيان نقضهم إياها بقوله تعالى : { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ } وهو إشارة إلى المرة الآخرة من مرّتيْ إفسادهم وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيى وقصدُهم قتلَ عيسى عليهم السلام لا إلى طلبهم الرؤية كما قيل لِما عرفت سره ، فإن فنون الجناياتِ الصادرةِ عنهم لا تكاد تتناهى خلا أن انحصار ما حُكي عنهم هاهنا في المرتين وترتّبه على حكاية ما فعلوا بالرسل عليهم السلام يقضي بأن المراد ما ذكرناه والله عنده علم الكتاب ، وقرىء ( عُموا وصُمّوا ) بالضم على تقدير أعماهم الله وصمهم أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم ، كما يقال : نَزَكتَهُ إذا ضربتَه بالنَّيْزَك ورَكَبتَهُ إذا ضربتَه بركبتك ، وقوله تعالى : { كَثِيرٌ مّنْهُمْ } بدل من الضمير في الفعلين ، وقيل : خبر مبتدأ محذوف أي أولئك كثير منهم .(2/271)
{ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي بما عملوا ، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضاراً لصورتها الفظيعة ورعايةً للفواصل ، والجملة تذييلٌ أشير به إلى بطلان حُسْبانهم المذكور ووقوع العذاب من حيث لم يحتسبوا ، إشارةٌ إجمالية اكتُفيَ بها تعويلاً على ما فُصِّل نوع تفصيل في سورة بني إسرائيلَ ، والمعنى حسبوا أن لا يصيبهم عذابٌ ففعلوا ما فعلوا من الجنايات العظيمة المستوجبة لأشد العقوبات والله بصيرٌ بتفاصيلها فكيف لا يؤاخذهم بها؟ ومن أين لهم ذلك الحسبانُ الباطل؟ ولقد وقع ذلك في المرة الأولى حيث سلط الله تعالى عليهم بُخْتَ نصَّر عامل لهراسِبَ على بابل ، وقيل : جالوتَ الجزري ، وقيل : سنجاريبَ من أهل نينوى ، والأول هو الأظهر فاستولى على بيت المقدس فقتل من أهله أربعين ألفاً ممن يقرأ التوراة ، وذهب بالبقية إلى أرضه فبقُوا هناك على أقصى ما يكون من الذل والنكد إلى أن أحدثوا توبةً صحيحة ، فردهم الله عز وجل إلى ما حكي عنهم من حسنِ الحال ، ثم عادوا إلى المرة الآخرة من الإفساد ، فبعث الله تعالى عليهم الفرسَ فغزاهم ملكُ بابلَ من ملوك الطوائف اسمُه خيدرود ، وقيل : خيدروس ، ففعل بهم ما فعل ، قيل : دخل صاحب الجيش مذبحَ قرابينهم فوجد فيه دماً يغلي فسألهم ، فقالوا : دمُ قربانٍ لم يقبل منا ، فقال : ما صَدَقوني ، فقتل عليه ألوفاً منهم ، ثم قال : إن لم تصدُقوني ما تركت منكم أحداً ، فقالوا : إنه دمُ يحيى عليه السلام ، فقال : بمثل هذا ينتقم الله منكم ، ثم قال : يا يحيى قد علم ربي وربك ما أصاب قومَك من أجلك فاهدأ بإذن الله تعالى قبل ألا أبقيَ أحداً منهم ، فهدأ .(2/272)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)
{ لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ } شروع في تفصيل قبائح النصارى وإبطالِ أقوالهم الفاسدة بعد تفصيل قبائح اليهود ، وهؤلاء هم الذين قالوا : إن مريم وَلَدت إلها ، قيل : هم الملكانية والمار يعقوبية منهم ، وقيل : هم اليعقوبية خاصة ، قالوا : ومعنى هذا أن الله تعالى حل في ذات عيسى واتحد بذاته ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
{ وَقَالَ المسيح } حال من فاعل قالوا بتقدير قد ، مفيدةٌ لمزيد تقبيحِ حالهم ببيان تكذيبهم للمسيح وعدم انزجارِهم عما أصروا عليه بما أوعدهم به ، أي قالوا ذلك ، وقد قال المسيح مخاطباً لهم : { المسيح يَابَنِى إسراءيل اعبدوا الله رَبّى وَرَبَّكُمْ } فإني عبدٌ مربوبٌ مثلُكم ، فاعبدوا خالقي وخالقَكم { إٍِنَّهُ } أي الشأن { مَن يُشْرِكْ بالله } أي شيئاً في عبادته أو فيما يختص به من صفات الألوهية { فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة } فلن يدخلها أبداً ، كما لا يصل المحرم عليه إلى المحرم ، فإنها دار الموحدين ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتهويل الأمر وتربية المهابة { وَمَأْوَاهُ النار } فإنها هي المعدّة للمشركين ، وهذا بيان لابتلائهم بالعقاب إثرَ بيانِ حرمانِهم الثوابَ .
{ وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ } أي ما لهم من أحد ينصُرهم بإنقاذهم من النار ، إما بطريق المغالبة أو بطريق الشفاعة ، والجمع لمراعاة المقابلة بالظالمين ، واللام إما للعهد والجمع باعتبار معنى ( مَنْ ) كما أن الإفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها ، وإما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً ، ووضعه على الأول موضع الضمير للتسجيل عليهم بأنهم ظلموا بالإشراك وعدلوا عن طريق الحق ، والجملة تذييل مقرر لما قبله ، وهو إما من تمام كلام عيسى عليه السلام ، وإما واردٌ من جهته تعالى تأكيداً لمقالته عليه السلام ، وتقريراً لمضمونها ، وقد قيل : إنه من كلامه عز وجل على معنى أنهم ظلموا وعدلوا عن سبيل الحق فيما تقوّلوا على عيسى عليه السلام ، فلذلك لم يساعدْهم عليه ولم ينصُرْ قولهم ، ورده وأنكره ، وإن كانوا معظِّمين له بذلك ، ورافعين من مقداره . أو من قول عيسى عليه السلام على معنى لا ينصركم أحد فيما تقولون ولا يساعدكم عليه لاستحالته وبُعْده عن المعقول ، وأنت خبير بأن التعبيرَ عما حُكي عنه عليه السلام من مقابلته لقولهم الباطل بصريح الرد والإنكار ، والوعيد بحرمان الجنة ودخول النار بمجرد عدم مساعدته على ذلك ، ونفْي نُصْرته له ، مع خُلوِّه عن الفائدة تصويرٌ للقوي بصورة الضعيف وتهوين للخطب في مقام تهويله ، بل ربما يوهم ذلك بحسب الظاهر ما لا يليق بشأنه عليه السلام من توهم المساعدةِ والنُصرة ، لا سيما مع ملاحظة قوله : وإن كانوا معظمين له الخ ، إلا أن يحمل الكلامُ على التهكم بهم ، وكذا الحالُ على تقدير كونه من تمام كلامِه عليه السلام ، فإن زجْرَه عليه السلام إياهم عن قولهم الفاسد بما ذُكر من عدم الناصرِ والمساعدِ بعد زجره إياهم بما مر من الرد الأكيدِ والوعيدِ الشديد بمعزِلٍ من الإفادة والتأثير ، ولا سبيل هاهنا إلى الاعتذار بالتهكم .(2/273)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
{ لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله ثالث ثلاثة } شروع في بيان كفر طائفةٍ أخرى منهم ، ومعنى قولهم : ثالثُ ثلاثةٍ ورابع أربعة ونحو ذلك أحدُ هذه الأعداد مطلقاً لا الثالثُ والرابعُ خاصة ، ولذلك منع الجمهور أن ينصِبَ ما بعده بأن يقال : ثالثٌ ثلاثةً ورابعٌ أربعةً ، وإنما ينصبه إذا كان ما بعده دونه بمرتبة ، كما في قولك : عاشرٌ تسعةً وتاسعٌ ثمانيةً ، قيل : إنهم يقولون إن الإلهية مشتركة بين الله سبحانه وتعالى وعيسى ومريم ، وكلُّ واحد من هؤلاء إله ، ويؤكده قوله تعالى : { قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ } فقوله تعالى : { ثالث ثلاثة } أي أحد ثلاثةِ آلهة ، وهو المتبادر من ظاهر قوله تعالى : { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله واحد } أي والحال أنه ليس في الوجود ذاتُ واجبٍ مستحق للعبادة من حيث إنه مبدأُ جميعِ الموجودات إلا إله موصوفٌ بالوحدانية متعالٍ عن قَبول الشِرْكة ، و ( مِنْ ) مزيدة للاستغراق ، وقيل : إنهم يقولون : الله جوهرٌ واحدٌ ثلاثةُ أقانيمَ ، أقنومُ الأب وأقنومُ الابن وأقنومُ روح القدس ، وإنهم يريدون بالأول الذات وقيل : الوجود ، وبالثاني العِلْم ، وبالثالث الحياة ، فمعنى قوله تعالى : { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله واحد } إلا إله واحد بالذات ، منزه عن شائبةِ التعدد بوجهٍ من الوجوه .
{ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ } من الكفر الشنيع ولم يوحّدوا ، وقوله تعالى : { لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ } جوابُ قسمٍ محذوف سادٌّ مسد جواب الشرط ، أي وبالله إن لم ينتهوا ليمسنهم ، وإنما وُضع موضعَ ضميرِهم الموصولُ لتكرير الشهادة عليهم بالكفر ( فمن ) ، في قوله تعالى : { مِنْهُمْ } بيانية ، أي ليمسن الذين بقُوا منهم على ما كانوا عليه من الكفر فمن تبعيضية ، وإنما جيء بالفعل المنبىء عن الحدوث تنبيهاً على أن الاستمرار عليه بعد ورود ما ينحى عليه بالقلع عن نص عيسى عليه السلام وغيره كفرٌ جديد وغلوٌّ زائد على ما كانوا عليه من أصل الكفر { عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي نوع شديد الألم من العذاب ، وهمزة الاستفهام في قوله تعالى :(2/274)
أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
{ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ } لإنكار الواقع واستبعاده لا لإنكار الوقوع ، وفيه تعجيب من إصرارهم ، والفاء للعطف على مقدَّر يقتضيه المقام ، أي ألا ينتهون عن تلك العقائد الزائغة والأقاويل الباطلة؟ أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه بالتوحيد والتنزيه عما نسبوه إليه من الاتحاد والحلول؟ فمدارُ الإنكار والتعجيب عدمُ الانتهاء وعدم التوبة معاً ، أو أيَسْمعون هذه الشهاداتِ المكررة والتشديدات المقررة فلا يتوبون عقِب ذلك ، فمدارُهما عدم التوبة عَقيبَ تحقُّق ما يوجبها من سماع تلك القوارع الهائلة ، وقوله عز وجل : { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } جملة حالية من فاعل يستغفرونه مؤكِّدةٌ للإنكار والتعجيب من إصرارهم على الكفر وعدم مسارعتهم إلى الاستغفار ، أي والحال أنه تعالى مبالِغٌ في المغفرة فيغفرُ لهم عند استغفارهم ويمنحهم من فضله .
{ مَّا المسيح ابن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ } استئناف مَسوقٌ لتحقيق الحق الذي لا محيد عنه ، وبيانِ حقيقة حاله عليه السلام وحالِ أمه بالإشارة أولاً إلى أشرفِ ما لهما من نعوت الكمال التي بها صارا من زمرة أكمل أفراد الجنس ، وآخراً إلى الوصف المشترك بينهما وبين جميع أفرادِ البشر ، بل أفرادِ الحيوان استنزالاً لهم بطريق التدريج عن رتبة الإصرار على ما تقوّلوا عليهما وإرشاداً لهم إلى التوبة والاستغفار ، أي هو مقصور على الرسالة لا يكاد يتخطاها ، وقوله تعالى : { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } صفة لرسول مُنْبئة عن اتصافه بما ينافي الألوهية . فإن خلو الرسل السالفة عليهم السلام منذر بخلوِّه المقتضي لاستحالة ألوهيته أي ما هو إلا رسول كالرسل الخالية من قبله خصه الله تعالى ببعضٍ من الآيات كما خص كلاًّ منهم ببعضٍ آخرَ منها ، فإنْ أحيا الموتى على يده فقد أحيا العصا في يد موسى عليه السلام وجعلت حية تسعى ، وهو أعجب منه ، وإن خُلق من غير أبٍ فقد خَلَق آدمَ من غير أب ولا أم ، وهو أغرب منه ، وكل ذلك من جنابه عز وجل ، وإنما موسى وعيسى مظاهرُ لشؤونه وأفعاله { وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ } أي وما أمه أيضاً إلا كسائر النساء اللاتي يلازِمْن الصدق أو التصديق ، ويبالغْن في الاتصاف به فما رتبتُهما إلا رتبةُ بشرَيْن ، أحدُهما نبي والآخر صحابي ، فمن أين لكم أن تصفوها بما لا يوصفُ به سائرُ الأنبياء وخواصُّهم؟ { كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام } استئناف مبين لما أشير إليه من كونهما كسائر أفراد البشر في الاحتياج إلى ما يحتاج إليه كل فرد من أفراده بل من أفراد الحيوان ، وقوله عز وجل : { انظر كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ الايات } تعجيب من حال الذين يدّعون لهما الربوبية ولا يرعوون في ذلك بعد ما بين لهم حقيقة حالهما بياناً لا يحوم حوله شائبةُ ريْب ، و ( كيف ) معمول لنبينُ ، والجملة في حيز النصب معلِّقة لانظر ، أي انظر كيف نبين لهم الآيات الباهرةَ المناديةَ ببطلان ما تقوّلوا عليهما نداءً يكاد يسمعه صمُّ الجبال { ثُمَّ انظر أنى يُؤْفَكُونَ } أي كيف يُصرفون عن استماعها والتأمل فيها ، والكلام فيه كما فيما قبله ، وتكريرُ الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب ، و ( ثم ) لإظهار ما بين العجبين من التفاوت أي إن بياننا للآيات أمر بديع في بابه بالغٌ لأقاصي الغايات القاصيةِ من التحقيق والإيضاح ، وإعراضُهم عنها مع انتفاء ما يصححه بالمرة وتعاضُدِ ما يوجب قبولَها أعجبُ وأبدع .(2/275)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
{ قُلْ } أمر عليه الصلاة والسلام بإلزامهم وتبكيتِهم إثْرَ تعجيبه من أحوالهم { أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } أي متجاوزين إياه ، وتقديمه على قوله تعالى : { مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } لما مر مراراً من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ، والموصول عبارةٌ عن عيسى عليه السلام ، وإيثاره على كلمة مَنْ لتحقيق ما هو المراد من كونه بمعزلٍ من الألوهية رأساً ، ببيان انتظامه عليه السلام في سلك الأشياء التي لا قدرة لها على شيء أصلاً ، وهو عليه السلام وإن كان يملك ذلك بتمليكه تعالى إياه لكنه لا يملِكه من ذاته ، ولا يملك مثل ما يُضِرُّ به الله تعالى من البلايا والمصائب ، وما ينفع به من الصِّحة . وتقديم الضرر على النفع لأن التحرز عنه أهمُ من تحرّي النفع ، ولأن أدنى درجات التأثير دفع الشر ، ثم جلب الخير . وقوله تعالى : { والله هُوَ السميع العليم } حال من فاعل ( أتعبدون ) مؤكِّد للإنكار والتوبيخ ، ومقرِّر للإلزام والتبكيت ، والرابط هو الواو أي أتشركون بالله تعالى ما لا يقدر على شيء من ضُرِّكم ونفعكم ، والحال أن الله تعالى هو المختص بالإحاطة التامة بجميع المسموعات والمعلومات التي من جملتها ما أنتم عليه من الأقوال الباطلة ، والعقائد الزائغة ، والأعمال السيئة ، وبالقدرة الباهرة على جميع المقدورات التي من جملتها مَضارُّكم ومنافعُكم في الدنيا والآخرة؟
{ قُلْ ياأهل الكتاب } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى فريقي أهل الكتاب ، بطريق الالتفات على لسان النبي عليه الصلاة والسلام بعد إبطال مسلك كل منهما ، للمبالغة في زجرهم عما سلكوه من المسلك الباطل ، وإرشادهم إلى الأَمَم المِئْتاء { لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ } أي لا تتجاوزوا الحد ، وهو نهي للنصارى عن رفع عيسى عن رتبة الرسالة إلى ما تقوَّلوا في حقه من العظيمة ، ولليهود عن وضعهم له عليه السلام عن رتبته العلية إلى ما تقوَّلوا عليه من الكلمة الشنعاء ، وقيل : هو خاص بالنصارى كما في سورة النساء فذكَرَهم بعنوان أهلية الكتاب لتذكير أن الإنجيل أيضاً ينهاهم عن الغلو ، وقوله تعالى : { غَيْرَ الحق } نُصب على أنه نعتٌ لمصدر محذوف أي لا تغلوا في دينكم غلواً غيرَ الحق ، أي غلواً باطلاً ، أو حالٌ من ضمير الفاعل أي لا تغلوا مجاوزين الحق ، أو من دينكم أي لا تغلوا في دينكم حال كونه باطلاً ، وقيل : نُصب على الاستثناء المتصل ، وقيل : على المنقطع { وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ } هم أسلافهم وأئمتهم الذين ضلوا من الفريقين ، أو من النصارى على القولين قبل مبعث النبي عليه الصلاة والسلام في شريعتهم . { وَأَضَلُّواْ كَثِيراً } أي قوماً كثيراً ممن شايعهم في الزيغ والضلال ، أو إضلالاً كثيراً ، والمفعولُ محذوف { وَضَلُّواْ } عند بعثةِ النبي عليه الصلاة والسلام وتوضيحِ مَحَجّةِ الحق وتبيين مناهجِ الإسلام { عَن سَوَاء السبيل } حين كذّبوه وحسبوه وحسدوه وبغَوْا عليه ، وقيل : الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل والثاني إلى ضلالِهم عما جاء به الشرع .(2/276)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
{ لُعِنَ الذين كَفَرُواْ } أي لعنهم الله عز وجل ، وبناءُ الفعل للمفعول للجَرْي على سَنن الكبرياء { مِن بَنِى إسراءيل } متعلق بمحذوفٍ وقع حالاً من الموصول أو من فاعل كفروا ، وقوله تعالى : { على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ } متعلق بلُعن أي لعنهم الله تعالى في الزبور والإنجيل على لسانهما ، وقيل : إن أهل أَيْلةَ لما اعتدَوا في السبت دعا عليهم داود عليه السلام وقال : اللهم العنهم واجعلهم آية ، فمسخهم الله قردة ، وأصحابُ المائدة لما كفروا قال عيسى عليه السلام : اللهم عذِّبْ من كفر بعدما أكل من المائدة عذاباً لم تعذِّبْه أحداً من العالمين ، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت ، فأصبحوا خنازيرَ وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي { ذلك } إشارة إلى اللعن المذكور وإيثارُه على الضمير للتنبيه على كمال ظهوره وامتيازِه عن نظائره وانتظامِه بسببه في سلك الأمور المشاهدة ، وما فيه من معنى البعد للإيذان بكمال فظاعته وبعد درجته في الشناعة ، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : { بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } والجملة مستأنَفةٌ واقعة موقع الجواب عما نشأ من الكلام كأنه قيل : بأي سبب وقع ذلك؟ فقيل : ذلك اللعنُ الهائل الفظيعُ بسبب عصيانهم واعتدائهم المستمر ، كما يفيده الجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل ، وينبىء عنه قوله تعالى : { كَانُواْ لاَ يتناهون عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ } فإنه استئناف مفيد بغبارته لاستمرار عدم التناهي عن المنكر ، ولا يمكن استمرارُه إلا باستمرار تعاطي المنكرات ، وليس المراد بالتناهي أن ينْهَى كلُّ واحد منهم الآخَرَ عما يفعله من المنكر كما هو المعنى المشهورُ لصيغة التفاعل ، بل مجرد صدور النهي عن أشخاص متعددة ، من غير اعتبار أن يكون كل واحد منهم ناهياً ومنهياً معاً ، كما في تراءَوْا الهلالَ ، وقيل : التناهي بمعنى الانتهاء ، يقال : تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع عنه وتركه ، فالجملة حينئذ مفسرةٌ لما قبلها من المعصية والاعتداء ، ومفيدة لاستمرارهما صريحاً ، وعلى الأول مفيدة لاستمرار انتفاء النهي عن المنكر ، بأن لا يوجد فيما بينهم من يتولاه في وقت من الأوقات ، ومن ضرورته استمرارُ فعل المنكر حسبما سبق ، وعلى كل تقدير فما يفيده تنكيرُ المنكر من الوحدة نوعية لا شخصية ، فلا يقدح وصفه بالفعل الماضي في تعلق النهْي به ، لِما أن متعلَّق الفعل إنما هو فرد من أفراد ما يتعلقُ به النهي ، والانتهاء من مطلق المنكر باعتبار تحقّقه في ضمن أي فرد كان من أفراده على أن المضي المعتبر في الصفة إنما هو بالنسبة إلى زمان النزول لا إلى زمان النهي حتى يلزمَ كونُ النهي بعد الفعل ، فلا حاجة إلى تقدير المعاودة أو المِثْل أو جعلِ الفعل عبارةً عن الإرادة ، على أن المعاودة كالنهي لا تتعلق بالمنكر المفعول فلا بد من المصير إلى أحد ما ذُكر من الوجهين ، أو إلى تقدير المثل ، أو إلى جعل الفعل عبارة عن إرادته ، وفي كل ذلك تعسفٌ لا يخفى .(2/277)
{ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } تقبيح لسوء أعمالهم وتعجيب منه بالتوكيد القسمي ، كيف لا وقد أداهم إلى ما شُرح من اللعن الكبير وليس في تسبُّبه بذلك دلالةٌ على خروج كفرهم عن السببية ، مع الإشارة إلى سببيته له فيما سبق من قوله تعالى : { لُعِنَ الذين كَفَرُواْ } فإن إجراء الحكم على الموصول مُشعرٌ بعِلِّية ما في حيز الصلة له ، لما أن ما ذكر في حيز السببية مشتملٌ على كفرهم أيضاً .(2/278)
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
{ ترى كَثِيراً مّنْهُمْ } أي من أهل الكتاب ككعبِ بن الأشرف وأضرابِه حيث خرجوا إلى مشركي مكةَ ليتّفقوا على محاربة النبي عليه الصلاة والسلام ، والرؤيةُ بصرية وقوله تعالى : { يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ } حال من ( كثيراً ) لكونه موصوفاً ، أي يوالون المشركين بُغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤنين ، وقيل : مِنْ منافقي أهل الكتاب يتولَّوْن اليهود . وهو قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد والحسن ، وقيل : يوالون المشركين ويُصافوُنهم { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ } لبئس شيئاً قدّموا ليَرِدوا عليه يوم القيامة { أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ } هو المخصوصُ بالذم على حذف المضاف وإقامةِ المضاف إليه مُقامَه ، تنبيهاً على كمال التعلق والارتباط بينهما كأنهما شيء واحد ، ومبالغةً في الذم أي موجبُ سُخطِه تعالى ، ومحله الرفع على الابتداء والجملة قبله خبرُه ، والرابط عند من يشترطه هو العموم ، أو لا حاجة إليه ، لأن الجملةَ عينُ المبتدأ ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ينبىء عنه الجملة المتقدمة ، كأنه قيل : ما هو؟ أو أيُّ شيء هو؟ فقيل : هو أنْ سخِط الله عليهم ، وقيل : المخصوصُ بالذم محذوفٌ و ( ما ) اسم تامٌّ معرفةٌ في محل رفع بالفاعلية لفعل الذم ، و ( قدمت لهم أنفسهم ) جملة في محل الرفع على أنها صفة للمخصوصِ بالذم قائمةٌ مَقامه ، والتقدير لبئس الشيءُ شيءٌ قدّمتْه لهم أنفسُهم ، فقوله تعالى : { أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ } بدلٌ من ( شيء ) المحذوفِ ، وهذا مذهب سيبويه { وَفِى العذاب } أي عذاب جهنم { هُمْ خالدون } أبد الآبدين { وَلَوْ كَانُواْ } أي الذين يتولون المشركين من أهل الكتاب { يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ } أي نبيهم { وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ } من الكتاب ، أو لو كان المنافقون يؤمنون بالله ونبينا إيماناً صحيحاً { مَا اتَّخَذُوهُمْ } أي المشركين واليهود { أَوْلِيَاء } فإن الإيمان بما ذُكر وازعٌ عن تولِّيهم قطعاً { ولكن كَثِيراً مّنْهُمْ فاسقون } خارجون عن الدين والإيمان بالله ونبيهم وكتابهم أو متمرِّدون في النفاق مفرِّطون فيه .(2/279)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ } جملة مستأنَفة مَسوقة لتقرير ما قبلها من قبائح اليهود وعَراقتهم في الكفر ، وسائرِ أحوالهم الشنيعة التي من جملتها موالاتُهم للمشركين . أُكِّدت بالتوكيد القسَميّ اعتناءً ببيان تحققِ مضمونها ، والخطاب إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكل أحد صالح له ، إيذاناً بأن حالهم مما لا يخفى على أحد من الناس . والوُجدانُ متعدَ إلى اثنين ، أحدُهما أشدُّ الناس والثاني اليهودُ وما عُطف عليه ، وقيل : بالعكس لأنهما في الأصل مبتدأٌ وخبر ، ومصبّ الفائدة هو الخبرُ لا المبتدأ ، ولا ضيرَ في التقديم والتأخير إذ دل على الترتيب دليل ، وهاهنا دليل واضح عليه ، وهو أن المقصودَ بيانُ كون الطائفتين أشدَّ الناس عداوة للمؤمنين ، لا كونِ أشدِّهم عداوةً لهم الطائفتين المذكورتين ، وأنت خبير بأنه بمعزل من الدلالة على ذلك ، كيف لا والإفادة في الصورة الثانية أتمّ وأكملُ مع خلوها عن تعسُّف التقديم والتأخير ، إذ المعنى أنك إن قصدتَ أن تعرِفَ من أشدُّ الناس عداوةً للمؤمنين وتتبعْتَ أحوالَ الطوائف طُراً وأحطتَ بما لديهم خُبْراً ، وبالغْتَ في تعرُّف أحوالهم الظاهرةِ والباطنة ، وسعَيْتَ في تطلُّب ما عندهم من الأمور البارزة والكامنة ، لتجدن الأشدَّ تَيْنِك الطائفتين لا غيرُ فتأملْ .
واللام الداخلة على الموصول متعلقةٌ ( بعداوةً ) مقويةٌ لعملها ، ولا يضرُّ كونُها مؤنثةً بالتاء مبنية عليها ، كما في قوله : ورهبةً عقابَك ، وقيل : متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لعداوة ، أي كائنةً للذين آمنوا ، وصفهم الله تعالى بذلك لشدة شكيمتهم وتضاعُف كفرهم ، وانهماكهم في ابتاع الهوى ، وقربهم إلى التقليد ، وبعدهم عن التحقيق ، وتمرُّنهم على التمرّد والاستعصاء على الأنبياء ، والاجتراء على تكذيبهم ومُناصَبَتِهم . وفي تقديم اليهود على المشركين بعد لَزِّهما في قَرنٍ واحد إشعارٌ بتقدمهم عليهم في العداوة ، كما أن في تقديمهم عليهم في قوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياة وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } إيذاناً بتقدُّمهم عليهم في الحرص ، { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ } أعيد الموصول مع صلته رَوْماً لزيادة التوضيح والبيان { الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى } عبر عنهم بذلك إشعاراً بقرب مودتهم حيث يدّعون أنهم أنصارُ الله وأَوْدُ أهل الحق وإن لم يظهروا اعتقاد حقية الإسلام ، وعلى هذه النكتة مبنى الوجه الثاني في تفسير قوله تعالى : { وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا ميثاقهم } والكلام في مفعولي لتجدن وتعلق اللام كالذي سبق ، والعدولُ عن جعْل ما فيه التفاوتُ بين الفريقين شيئاً واحداً قد تفاوتا فيه بالشدة والضعف أو بالقرب والبعد بأن يقال آخِراً : ولتجدن أضعفَهم عداوة الخ ، أو بأن يقال : أولا لتجدن أبعد الناس مودة الخ ، للإيذان بكمال تبايُن ما بين الفريقين من التفاوتِ ببيان أن أحدَهما في أقصى مراتبِ أحدِ النقيضين ، والآخَرَ في أقربِ مراتب النقيض الآخر .(2/280)
{ ذلك } أي كونهم أقربَ مودةً للمؤمنين { بِأَنَّ مِنْهُمْ } أي بسبب أن منهم { قِسّيسِينَ } وهم علماءُ النصارى وعبّادهم ورؤساؤهم ، والقِسّيسُ صيغةُ مبالغةٍ من تقَسَّسَ الشيءَ إذا تتبَّعه وطلبه بالليل ، سُموا به لمبالغتهم في تتبع العلم ، قاله الراغب ، وقيل : القَسُّ بفتح القاف تتبُّعُ الشيء ومنه سمي عالم النصارى قسيساً لتتبعه العلم ، وقيل : قصَّ الأثرَ وقسه بمعنى ، وقيل : إنه أعجمي ، وقال قُطرُبُ : القِسّ والقِسّيسُ العالم بلغة الروم ، وقيل : ضيَّعت النصارى الإنجيلَ وما فيه ، وبقي منهم رجل يقال له : قِسيسُ لم يبدِّلْ دينه ، فمن راعى هديه ودينه قيل له : قسيس . { وَرُهْبَاناً } وهو جمع راهب كراكب ورُكبان وفارس وفُرسان ، وقيل : إنه يطلق على الواحد وعلى الجمع وأُنشِدَ فيه قولُ من قال :
لو عايَنَتْ رُهبانَ ديْرٍ في قُلَل ... لأقبل الرهبانُ يعدو ونزَلْ
والترهب التعبد في الصومعة ، قال الراغب : الرهبانية الغلوُّ في تحمل التعبد من فرط الخوف ، والتنكير لإفادة الكثرة ، ولا بد من اعتبارها في القسيسين أيضاً ، إذ هي التي تدل على مودة جنس النصارى للمؤمنين ، فإن اتصاف أفرادٍ كثيرة لجنسٍ بخصلةٍ مظِنةٌ لاتصاف الجنس بها ، وإلا فمن اليهود أيضاً قوم مهتدون ، ألا يُرى إلى عبد اللَّه بن سلام وأضرابه ، قال تعالى : { مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ ءايات الله ءانَاء اليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ } الخ ، لكنهم لما لم يكونوا في الكثرة كالذين من النصارى لم يتعدَّ حكمُهم إلى جنس اليهود { وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } عطف على ( أن منهم ) ، أي وبأنهم لا يستكبرون عن قبول الحق إذا فهموه ، ويتواضعون ولا يتكبرون كاليهود ، وهذه الخَصلةُ شاملة لجميع أفراد الجنس فسببيّتُها لأقربيّتهم مودةً للمؤمنين واضحة ، وفيه دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمودٌ وإن كان ذلك من كافر .(2/281)
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
{ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرسول } عطف على لا يستكبرون أي ذلك بسبب أنهم لا يستكبرون ، وأن أعينَهم تفيض من الدمع عند سماع القرآن ، وهو بيانٌ لرقة قلوبهم وشدة خشيتهم ، ومسارعتِهم إلى قبول الحق وعدم إبائهم إياه { تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع } أي تمتلىء بالدمع ، فاستُعير له الفيضُ الذي هو الانصبابُ عن امتلاءٍ مبالغةً ، أو جُعلت أعينُهم من فرط البكاء كأنها تفيض بأنفسها { مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق } ( من ) الأولى لابتداء الغاية ، والثانية لتبيين الموصول ، أي ابتدأ الفيض ونشأ من معرفة الحق وحصل من أجله وبسببه ، ويحتمل أن تكون الثانية تبعيضية ، لأن ما عرفوه بعضُ الحق ، وحيث أبكاهم ذلك فما ظنك بهم لو عرفوا كله ، وقرءوا القرآن ، وأحاطوا بالسنة؟ وقرىء ( تُرى أعينُهم ) على صيغة المبني للمفعول { يَقُولُونَ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من حكاية حالهم عند سماع القرآن كأنه قيل : ماذا يقولون؟ فقيل : يقولون : { رَبَّنَا ءامَنَّا } بهذا أو بمن أنزل هذا عليه أو بهما ، وقيل : حال من الضمير في عرفوا أو من الضمير المجرور في أعينهم ، لما أن المضاف جزؤه ، كما في قوله تعالى : { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا } { فاكتبنا مَعَ الشاهدين } أي الذين شهدوا بأنه حق أو بنبوته ، أو مع أمته الذين هم شهداءُ على الأمم يوم القيامة ، وإنما قالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك .
{ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله وَمَا جَاءنَا مِنَ الحق } كلام مستأنَفٌ قالوه تحقيقاً لإيمانهم ، وتقريراً له بإنكار سبب انتفائه ونفيِه بالكلية ، على أن قوله تعالى : { لاَ نُؤْمِنُ } حال من الضمير في ( لنا ) ، والعامل ما فيه من الاستقرار أيْ أيُّ شيءٍ حصل لنا غيرَ مؤمنين؟ على توجيه الإنكار والنفي إلى السبب والمسبَّب جميعاً ، كما في قوله تعالى : { لِىَ لاَ أَعْبُدُ الذى فَطَرَنِى } ونظائرِه لا إلى السبب فقط مع تحقق المسبب كما في قوله تعالى : { فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } وأمثاله فإن همزة الاستفهام كما تكون تارة لإنكار الواقع كما في أتضرِبُ أباك؟ وأخرى لإنكار الوقوع كما في أأضرب أبي؟ كذلك ما الاستفهامية قد تكون لإنكار سبب الواقع ونفْيِه فقط كما في الآية الثانية ، وقوله تعالى : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } فيكون مضمون الجملة الحالية محققاً ، فإن كلاًّ من عدم الإيمان وعدم الرجاء أمرٌ محققٌ قد أنكروا نفي سببه ، وقد يكون الإنكارُ سببَ الوقوعِ ونفيَه ، فيسريان إلى المسبب أيضاً كما في الآية الأولى ، فيكون مضمون الجملة الحالية مفروضاً قطعاً ، فإن عدم العبادة أمر مفروض حتماً ، وقوله تعالى : { وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين } حال أخرى من الضمير المذكور بتقدير مبتدأ ، والعامل فيها هو العامل في الأولى مقيداً بها ، أي أيُّ شيء حصل لنا غير مؤمنين؟ ونحن نطمع في صحبة الصالحين ، أو من الضمير في ( لا نؤمن ) على معنى أنهم أنكروا على أنفسهم عدم إيمانهم ، مع أنهم يطمعون في صحبة المؤمنين ، وقيل : معطوف على ( نؤمن ) على معنى وما لنا نجمع بين ترك الإيمان وبين الطمع المذكور؟(2/282)
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
{ فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ } أي عن اعتقاد ، من قولك : هذا قول فلان أي مُعتقدُه ، وقرىء ( فآتاهم الله ) { جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا وذلك جَزَاء المحسنين } أي الذين أحسنوا النظر والعمل أو الذين اعتادوا الإحسان في الأمور ، والآيات الأربع ، رُوي ( أنها نزلت في النجاشي وأصحابه بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه فقرأه ثم دعا جعفرَ بن أبي طالب والمهاجرين معه وأحضر القسيسين والرهبان ، فأمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة مريمَ ، فبكَوْا وآمنوا بالقرآن ) ، وقيل : نزلت في ثلاثين أو سبعين رجلاً من قومه وفدوا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهم سورة مريم فبكَوا وآمنوا .
{ والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا أولئك أصحاب الجحيم } عطَفَ التكذيب بآيات الله على الكفر مع أنه ضربٌ منه لِما أن القصد إلى بيان حال المكذبين ، وذكَرهم بمقابلة المصدِّقين بها جمعاً بين الترغيب والترهيب .
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ } أي ما طاب ولذ منه ، كأنه لمّا تضمّن ما سلف من مدح النصارى على الترهّب وترغيب المؤمنين في كسر النفس ورفض الشهوات ، عقّب ذلك بالنهي عن الإفراط في الباب ، أي لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم أو لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغةً منكم في العزم على تركها تزهداً منكم وتقشفاً . وروي ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف القيامة لأصحابه يوماً فبالغ وأشبع الكلام في الإنذار فرقّوا واجتمعوا في بيت عثمانَ بنِ مظعونٍ ، واتفقوا على ألا يزالوا صائمين قائمين وألا يناموا على الفُرش ، ولا يأكلوا اللحم والودَك ، ولا يقرَبوا النساء والطيِّب ، ويرفضوا الدنيا ويلْبَسوا المُسوح ، ويَسيحُوا في الأرض ، ويجُبُّوا مذاكيرَهم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : « إني لم أومر بذك ، إن لأنفسكم عليكم حقاً ، فصوموا وأفطروا ، وقوموا وناموا ، فإني أقوم وأنام ، وأصوم وأُفطر ، وآكلُ اللحم والدسم ، وآتي النساء ، فمن رغِب عن سنتي فليس مني » فنزلت .
{ وَلاَ تَعْتَدُواْ } أي لا تتعدوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم ، أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات ، أو جَعَلَ تحريمَ الطيبات اعتداءً وظلماً ، فنهى عن مطلق الاعتداء ليدخُل تحته النهيُ عن تحريمها دخولاً أولياً لوروده عَقيبه ، أو أريدَ ولا تعتدوا بذلك { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين } تعليل لما قبله .(2/283)
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
{ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حلالا طَيّباً } أي ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله ، فحلالاً مفعول ( كلوا ) ، ومما رزقكم إما حال منه تقدمت عليه لكونه نكرةً ، أو متعلق بكلوا ، ومِنْ ابتدائية ، أو هو المفعول وحلالاً حال من الموصول ، أو مِنْ عائدِه المحذوف ، أو صفةٌ لمصدرٍ محذوف ، أي أكلاً حلالاً ، وعلى الوجوه كلها لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة زائدة { واتقوا الله الذى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } توكيد للوصية بما أَمَر به ، فإن الإيمان به تعالى يوجب المبالغة في التقوى والانتهاء عما نهى عنه .
{ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم } اللغو في اليمين الساقطُ الذي لا يتعلق به حُكم ، وهو عندنا أن يحلِف على شيء يظن أنه كذلك وليس كما يظن ، وهو قول مجاهد ، قيل : كانوا حلفوا على تحريم الطيبات على ظنِّ أنه قُربة ، فلما نزل النهي قالوا : كيف بأيْماننا؟ فنزلت ، وعند الشافعي رحمه الله تعالى ، ما يبدو من المرء من غير قصد كقوله : لا والله وبلى والله ، وهو قول عائشةَ رضي الله تعالى عنها ، و ( في أيمانكم ) صلةُ يؤاخذكم أو اللغو لأنه مصدر ، أو حال منه { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الايمان } أي بتعقيدكم الأَيمانَ وتوثيقها عليه بالقصد والنية ، والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقّدتموه إذا حنِثتم أو بنَكْثِ ما عقّدتم ، فحُذِف للعلم به ، وقرىء بالتخفيف ، وقرىء ( عاقدتم ) بمعنى عقدتم { فَكَفَّارَتُهُ } أي فكفارةُ نكْثِه وهي الفعلة التي من شأنها أن تكفّرَ الخطيئة وتستُرَها ، واستُدل بظاهره عن جواز التكفير قبل الحِنْث ، وعندنا لا يجوز ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام : « من حلَف على يمينٍ ورأى غيرَها خيراً فليأتِ الذي هو خيرٌ ثم لْيُكفِّرْ عن يمينه » { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مساكين مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } أي ما أقصَدِه في النوع أو المقدار ، وهو نصفُ صاع من بُر لكلِّ مسكين ، ومحلُّه النصبُ لأنه صفةُ مفعولٍ محذوف تقديرُه أن تُطعموا عشرة مساكينَ طعاماً كائناً من أوسط ما تطعمون ، أو الرفعُ على أنه بدل من إطعام ، وأهلون جمعُ أهلٍ كأَرَضون جمع أرض ، وقرىء ( أهاليكم ) بسكون الياء على لغة من يسكنها في الحالات الثلاث كالألف ، وهذا أيضاً جمع أهلٍ كالأراضي في جمع أرض والليالي في جمع ليل ، وقيل : جمع أهلاة { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } عطف على ( إطعامُ ) أو على محلَّ ( من أوسط ) على تقدير كونه بدلاً من ( إطعام ) وهو ثوب يغطي العورة ، وقيل : ثوب جامع قميص أو رداء أو إزار ، وقرىء بضم الكاف وهي لغة كقِدوة في قُدوة وإسوة في أُسوة ، وقرىء أو ( كأُسوتهم ) على أن الكاف في محل الرفع تقديره أو إطعامهم كأسوتهم بمعنى أو كمثل ما تطعمون أهليكم إسرافاً وتقتيراً تواسون بينهم وبينهم إن لم تُطعموهم الأوسط { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أي أو إعتاقُ إنسان كيفما كان ، وشرط الشافعي رضي الله تعالى عنه فيه الإيمان قياساً على كفارة القتل ، ومعنى ( أو ) إيجابُ إحدى الخصال مطلقاً وخيارُ التعيين للمكلف .(2/284)
{ فَمَن لَّمْ يَجِدْ } أي شيئاً من الأمور المذكورة { فَصِيَامُ } أي فكفارتُه صيام { ثلاثة أَيَّامٍ } والتتابع شرط عندنا لقراءة ( ثلاثة أيام متتابعات ) ، والشافعي رضي الله عنه لا يرى للشواذ حجة { ذلك } أي الذي ذكر { كَفَّارَةُ أيمانكم إِذَا حَلَفْتُمْ } أي وحنِثْتم { واحفظوا أيمانكم } بأن تضِنوا بها ولا تبذُلوها كما يُشعر به قوله تعالى : { إِذَا حَلَفْتُمْ } ، وقيل : بأن تَبَرّوا فيها ما استطعتم ولم يفُتْ بها خير ، أو بأن تكفروها إذا حنِثتم ، وقيل : احفظوها كيف حلفتم بها ولا تنسوها تهاوناً بها { كذلك } إشارة إلى مصدر الفعل الآتي لا إلى تبيينٍ آخَرَ مفهومٍ مما سبق ، والكاف مقحمةٌ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارة من الفخامة ، ومحله في الأصل النصب على أنه نعتٌ لمصدر محذوف وأصل التقدير : يبين الله تبييناً كائناً مثلَ ذلك التبيين ، فقدم على الفعل لإفادة القصر ، واعتُبرت الكاف مقحمةً للنكتة المذكورة ، فصار نفسَ المصدر لا نعتاً له ، وقد مر تفصيله في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا } أي ذلك البيان البديع { يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته } أعلام شريعته وأحكامه لا بياناً أدنى منه ، وتقديم ( لكم ) على المفعول لما مر مراراً { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج .(2/285)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
{ يَأَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والانصاب } أي الأصنامُ المنصوبةُ للعبادة { والازلام } سلف تفسيرها في أوائل السورة الكريمة { رِجْسٌ } قذر تعاف عنه العقول ، وإفراده لأنه خبرُ الخمر ، وخبرُ المعطوفات محذوفٌ ثقةً بالمذكور ، أو المضاف محذوف أي شأن الخمر والميسر ، الخ { مِنْ عَمَلِ الشيطان } في محل الرفع على أنه صفةُ ( رجس ) ، أي كائن من عمله لأنه مسبَّبٌ من تسويله وتزيينه { فاجتنبوه } أي الرجس أو ما ذكر { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي راجين فلاحكم ، وقيل : لكي تفلحوا بالاجتناب عنه وقد مر تحقيقه في تفسير قوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ولقد أُكِّد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية الكريمة بفنون التأكيد حيث صُدِّرت الجملة بإنما وقُرِنا بالأصنام والأزلام ، وسُمِّيا رجساً من عمل الشيطان تنبيهاً على أن تعاطيَها شرٌّ بحْتٌ ، وأَمَر بالاجتناب عن عينهما وجعل ذلك سبباً يرجى عنه الفلاح ، فيكون ارتكابهما خَيبة ومَحْقة ، ثم قرر ذلك ببيان ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية المقتضية للتحريم ، فقيل :(2/286)
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
{ إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء فِى الخمر والميسر } وهو إشارة إلى مفاسدهما الدنيوية { وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة } إشارة إلى مفاسدهما الدينية ، وتخصيصُهما بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال للتنبيه على أن المقصود بيانُ حالهما ، وذكرُ الأصنام والأزلام للدلالة على أنهما مثلُهما في الحرمة والشرارة لقوله عليه الصلاة والسلام : « شارب الخمر كعابد الوثن » وتخصيصُ الصلاة بالإفراد مع دخولها في الذكر للتعظيم والإشعار بأن الصادَّ عنها كالصادِّ عن الإيمان لما أنها عِمادُه ، ثم أعيد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتَّباً على ما تقدم من أصناف الصوارف ، فقيل : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } أيذاناً بأن الأمر في الزجر والتحذير وكشفِ ما فيهما من المفاسد والشرور قد بلغ الغاية وأن الأعذارَ قد انقطعت بالكلية .
{ وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } عطف على اجتنبوه أي أطيعوهما في جميع ما أمرا به ونهيا عنه { واحذروا } أي مخالفتَهما في ذلك فيدخل فيه مخالفةُ أمرِهما ونهْيِهما في الخمر والميسر دخولاً أولياً { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } أي أعرضتم عن الامتثال بما أُمرتم به من الاجتناب عن الخمر والميسر وعن طاعة الله تعالى وطاعةِ رسوله عليه الصلاة والسلام والاحترازِ عن مخالفتهما { فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين } وقد فعل ذلك بما لا مزيد عليه وخرج عن عُهدة الرسالة أيَّ خروج ، وقامت عليكم الحجة وانتهت الأعذار وانقطعت العلل ، وما بقي بعد ذلك إلا العقاب . وفيه من عظم التهديد وشدة الوعيد ما لا يخفى ، وأما ما قيل من أن المعنى فاعلموا أنكم لم تضُروا بتولِّيكم الرسولَ لأنه ما كُلّف إلا البلاغَ المبينَ بالآيات وقد فعل وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كُلِّفتموه فلا يساعده المقام ، إذ لا يُتوهم منهم ادعاءُ أنهم بتوليهم يضرونه عليه الصلاة والسلام حتى يردَ عليهم بأنهم لا يضرونه وإنما يضرون أنفسهم .
{ لَيْسَ عَلَى الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ } أي إثم وحرج { فِيمَا طَعِمُواْ } أي تناولوا أكلاً أو شرباً فإن استعماله في الشرب أيضاً مستفيضٌ ، منه قولُه تعالى : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى } قيل : ( لما أنزل الله تعالى تحريم الخمر بعد غزوة الأحزاب قال رجال من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام : أصيب فلان يوم بدر وفلان يوم أحد وهم يشربونها ، ونحن نشهد أنهم في الجنة ) ، وفي رواية أخرى : ( لما نزل تحريم الخمر والميسر قالت الصحابة رضي الله تعالى عنهم : يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر؟ ) ، وفي رواية أخرى : ( قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار؟ فنزلت ) ، وليست كلمة ( ما ) في ما طعموا عبارةً عن المباحات الخاصة ، والإلزام تقييدُ إباحتها باتقاء ما عداها من المحرمات لقوله تعالى : { إِذَا مَا اتقوا } واللازمُ منْتفٍ بالضرورة ، بل هي على عمومها موصولةً كانت أو موصوفة ، وإنما تخصصت بذلك القيد الطارىء عليها ، والمعنى ليس عليهم جُناحٌ فيما تناولوه من المأكول والمشروب كائناً ما كان إذا اتقَوْا أن يكون في ذلك شيء من المحرمات ، وإلا لم يكن نفْيُ الجُناح في كل ما طعموه بل في بعضه ولا محذورَ فيه ، إذِ اللازمُ منه تقييد إباحة الكل بأن لا يكون فيه محرم لا تقيد إباحة بعضه باتقاء بعضٍ آخرَ منه كما هو اللازم من الأول { وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات } أي واستمروا على الإيمان والأعمال الصالحة ، وقوله تعالى : { ثُمَّ اتَّقَواْ } عطف على ( اتقوا ) داخلٌ معه في حيِّز الشرط ، أي اتقوا ما حُرّم عليهم بعد ذلك مع كونه مباحاً فيما سبق { وَءامَنُواْ } أي بتحريمه ، وتقديم الاتقاء عليه إما للاعتناء به أو لأنه الذي يدل على التحريم الحادث الذي هو المؤمَنُ به ، أو واستمروا على الإيمان { ثُمَّ اتَّقَواْ } أي ما حرم عليهم بعد ذلك مما كان مباحاً من قبل ، على أن المشروط بالاتقاء في كل مرة إباحةُ كل ما طعِموه في ذلك الوقت لا إباحةُ كل ما طعموه قبله ، لانتساخ إباحةِ بعضِه حينئذ { وَأَحْسِنُواْ } أي عملوا الأعمال الحسنة الجميلة المنتظمة لجميع ما ذكر من الأعمال القلبية والقالبية ، وليس تخصيص المرات بالذكر لتخصيص الحكم بها ، بل لبيان التعدد والتكرر بالغاً ما بلغ ، والمعنى أنهم إذا اتقوا المحرمات واستمروا على ما هم عليه من الإيمان والأعمال الصالحة ، وكانوا في طاعة الله ومراعاةِ أوامرِه ونواهيه بحيث كلما حرِّم عليهم شيء من المباحات اتقَوْه ، ثم .(2/287)
. . وثم . . فلا جناح عليهم فيما طعموه في كل مرة من المطاعم والمشارب ، إذ ليس فيها شيء محرم عند طُعْمِه .
وأنت خبير بأن ما عدا اتقاءِ المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة لا دخْلَ لها في انتفاء الجُناح ، وإنما ذكرت في حيز ( إذا ) شهادةً باتصاف الذين سُئل عن حالهم بها ، ومدحاً لهم بذلك وحمداً لأحوالهم ، وقد أشير إلى ذلك حيث جُعلت تلك الصفاتُ تبعاً للاتقاء في كل مرةٍ تمييزاً بينها وبين ما له دخل في الحكم ، فإن مَساقَ النظم الكريم بطريق العبارة وإن كان لبيان حال المتصفين بما ذُكر من النعوت فيما سيأتي بقضية كلمة ( إذا ما ) ، لكنه قد أُخرج مُخْرَجَ الجواب عن حال الماضين لأثبات الحكم في حقهم في ضمن التشريع الكلي على الوجه البرهاني بطريق دلالة النص ، بناءً على كمال اشتهارهم بالاتصاف بها ، فكأنه قيل : ليس عليهم جُناح فيما طعِموه إذْ كانوا في طاعته تعالى مع ما لهم من الصفات الحميدة ، بحيث كلما أمِروا بشيء تلقَّوْه بالامتثال . وإنما كانوا يتعاطَوْن الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمها إذ ذاك ، ولو حُرما في عصرهم لاتقوهما بالمرة .(2/288)
هذا وقد قيل : التكريرُ باعتبار الأوقات الثلاثة ، أو باعتبار الحالات الثلاث : استعمالِ الإنسان التقوى بينه وبين نفسه ، وبينه وبين الناس ، وبينه وبين الله عز وجل ، ولذلك جيءَ بالإحسان في الكرة الثالثة بدلَ الإيمان إشارةً إلى ما قاله عليه الصلاة والسلام في تفسيره ، أو باعتبار المراتب الثلاث : المبدأ والوسط والمنتهى ، أو باعتبار ما يُتَّقى ، فإنه ينبغي أن يترك المحرمات توقياً من العقاب ، والشبُهاتِ توقياً من الوقوع في الحرام ، وبعضَ المباحات حفظاً للنفس عن الخِسة وتهذيباً لها عن دنَس الطبيعة ، وقيل : التكريرُ لمجرد التأكيد كما في قوله تعالى : { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } ونظائرِه ، وقيل : المرادُ بالأول اتقاءُ الكفر ، وبالثاني اتقاءُ الكبائر ، وبالثالث اتقاءُ الصغائر . ولا ريب في أنه تعلُّقَ لهذه الاعتبارات بالمَقام فأَحسِنِ التأمل { والله يُحِبُّ المحسنين } تذييلٌ مقرِّر لمضمون ما قبله أبلغَ تقرير .(2/289)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله } جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي والله ليُعامِلَّنكم معاملةَ مَنْ يختبركم ليتعرَّفَ أحوالَكم { بِشَىْء مّنَ الصيد } أي من صيدِ البَرّ مأكولاً أو غيرَ مأكول ما عدا المستثنياتِ من الفواسق ، فاللام للعَهْد ، نزلت عام الحُدَيْبية . ابتلاهم الله تعالى بالصيد وهم مُحرِمون كانت الوحوش تغشاهم في رحالهم بحيث كانوا متمكنين من صيدِها أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم وذلك قوله تعالى : { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ ورماحكم } فهمُّوا بأخذها فنزلت ، ورُوي أنه عَنَّ لهم حمارُ وحشٍ فحمل عليه أبو اليَسَر بنُ عمرو فطعنه برمحه وقتله ، فقيل له : قتلته وأنت مُحرم ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عن ذلك فأنزل الله تعالى الآية ، فالتأكيد القَسَميُّ في ( ليبلونكم ) إنما هو لتحقيق أن ما وقع من عدم توحُّش الصيد عنهم ليس إلا لابتلائهم لا لتحقيق وقوعِ المبتلى به كما لو كان النزول قبل الابتلاء ، وتنكير ( شيء ) للتحقير المُؤْذِن بأن ذلك ليس من الفِتن الهائلة التي تزِلُّ فيها أقدامُ الراسخين كالابتلاء بقتل الأنفس وإتلافِ الأموال ، وإنما هو من قبيل ما ابتُليَ به أهلُ أَيْلَةَ من صيد البحر ، وفائدته التنبيه على أن من لم يثبّتْ في مثل هذا كيف يثبتُ عند شدائد المحن؟ ( فمن ) في قوله تعالى : { مّنَ الصيد } بيانية قطعاً أي بشيء حقير هو الصيد ، وجعلُها تبعيضيةً يقتضي اعتبارَ قِلَّته وحقارته بالنسبة إلى كل الصيد لا بالنسبة إلى عظائم البلايا فيَعْرَى الكلامُ عن التنبيه المذكور .
{ لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب } أي ليتميز الخائفُ من عقابه الأخروي وهو غائبٌ مترقبٌ لقوة إيمانه ، فلا يتعرض للصيد ، ممن لا يخافه كذلك لضعف إيمانه فيُقدم عليه ، وإنما عبر عنْ ذلك بعلم الله تعالى اللازم له إيذاناً بمدار الجزاءِ ثواباً وعقاباً فإنه أدْخَلُ في حملهم على الخوف ، وقيل : المعنى ليتعلق علمه تعالى بمن يخافه بالفعل ، فإن علمه تعالى بأنه سيخافه وإن كان متعلقاً به قبل خوفه لكنّ تعلُّقَه بأنه خائف بالفعل وهو الذي يدور عليه أمرُ الجزاء إنما يكون عند تحقق الخوف بالفعل ، وقيل : هناك مضاف محذوف ، والتقدير ليعلم أولياءَ الله ، وقرىء ( ليُعلِمَ ) من الإعلام على حذف المفعول الأول أي ليُعْلِمَ الله عباده الخ ، والعلمُ على القراءتين متعدَ إلى واحد ، وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك } أي بعد بيان أنّ ما وقع ابتلاءٌ من جهته تعالى لِما ذُكر من الحِكمة لا بعد تحريمِه أو النهي عنه كما قاله بعضهم ، إذ النهي والتحريم ليس أمراً حادثاً يترتب عليه الشرطية ، بالفاء ، ولا بعد الابتلاء كما اختاره آخرون ، لأن نفس الابتلاء لا يصلح مداراً لتشديد العذاب ، بل ربما يتوهم كونُه عذراً مسوِّغاً لتخفيفه ، وإنما الموجب للتشديد بيانُ كونه ابتلاءً ، لأن الاعتداء بعد ذلك مكابرةٌ صريحة ، وعدمُ مبالاةٍ بتدبير الله تعالى ، وخروجٌ عن طاعته ، وانخلاع عن خوفه وخشيته بالكلية .(2/290)
أي : فمن تعرض للصيد بعد ما بينا أن ما وقع من كثرة الصيد وعدم توحُّشه منهم ابتلاءٌ مؤدَ إلى تمييز المطيع من العاصي { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } لما ذكر من أنه مكابرة محضة ولأن من لا يملك زمام نفسه ولا يراعي حكم الله تعالى في أمثال هذه البلايا الهيِّنة لا يكاد يُراعيه في عظائم المداحض . والمراد بالعذاب الأليم عذاب الدارين ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : يُوسَعُ ظهرُه وبطنه جَلداً وينزع ثيابه .(2/291)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } شروع في بيان ما يتدارك به الاعتداءُ من الأحكام إثر بيانِ ما يلحقه من العذاب ، والتصريح بالنهي في قوله تعالى : { لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } مع كونه معلوماً لا سيما من قوله تعالى : { غَيْرَ مُحِلّى الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ } لتأكيد الحرمة وترتيب ما يعقبُه عليه ، واللام في الصيد للعهد حسبما سلف ، وحُرُم جمع حَرام ، وهو المُحرم وإن كان في الحِل ، وفي حكمه من في الحَرَم وإن كان حَلالاً ، كرُدُح جمع رَادح ، والجملة حال من فاعل لا تقتلوا ، أي لا تقتلوه وأنتم محرمون { وَمَن قَتَلَهُ } أي الصيد المعهود ، وذِكرُ القتل في الموضعين دون الذبح للإيذان بكونه في حكم الميتة { مّنكُمْ } متعلق بمحذوف وقع حالاً من فاعل قتله أي كائناً منكم .
{ مُّتَعَمّداً } حال منه أيضاً أي ذاكراً لإحرامه عالماً بحُرمة قتل ما يقتله ، والتقييدُ بالتعمّد مع أن محظوراتِ الإحرام يستوي فيها العمْدُ والخطأ لِما أن الآية نزلتْ في المتعمِّد كما مرَّ من قصة أبي اليَسَر ، ولأن الأصل فعلُ المتعمّد والخطأ لاحقٌ به للتغليظ ، وعن الزُهري : نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ . وعن سعيد بن جُبير رضي الله عنه : لا أرى في الخطأ شيئاً أخذاً باشتراط التعمّد في الآية ، وهو قول داودَ عن مجاهد والحسن : أن المراد بالتعمد هو تعمدُ القتل مع نسيان الإحرام ، أما إذا قتله عمْداً وهو ذاكراً لإحرامه فلا حكم عليه ، وأمره إلى الله عز وجل ، لأنه أعظمُ من أن يكون له كفارة . { فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ } برفعهما ، أي فعليه جزاءٌ مماثلٌ لما قتله ، وقرىء برفع الأول ونصب الثاني على إعمال المصدر ، وقرىء بجرِّ الثاني على إضافته إلى مفعوله ، وقرىء ( فجزاؤه مثلُ ) ما قتل على الابتداء والخبرية ، وقرىء بنصبهما على تقدير فليجْزِ جزاءً أو فعليه أن يجزى جزاءً مثلَ ما قتل ، والمرادُ به عند أبي حنيفة وأبي يوسف رضي الله عنهما المثلُ باعتبار القيمة ، يُقوَّم الصيد حيث صِيدَ أو في أقرب الأماكن إليه ، فإن بلغَت قيمتُه قيمةَ هدْيٍ يُخير الجاني بين أن يشتريَ بها قيمةَ الصيد فيُهدِيَه إلى الحرم ، وبين أن يشتريَ بها طعاماً فيُعطيَ كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من غيره ، وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوماً ، فإن فضل ما لا يبلغُ طعامَ مسكين تصدّق به أو صام عنه يوماً كاملاً ، إذ لم يُعهد في الشرع صومُ ما دونه فيكون قوله تعالى : { مِنَ النعم } بياناً للهدْي المشترى بالقيمة على أحد وجوه التخيير ، فإنَّ من فعل ذلك يصدُق عليه أنه جُزيَ بمثل ما قتل من النَّعم ، وعن مالك والشافعي رحمهما الله تعالى ومن يرى رأيهما : هو المِثْلُ باعتبار الخِلْقة والهيئة لأن الله تعالى أوجب مثلَ المقتول مقيداً بالنَّعم ، فمن اعتبَر المِثْل بالقيمة فقد خالف النص ، وعن الصحابة رضي الله عنهم : أنهم أوجبوا في النَّعامة بدنةً ، وفي الظبْيِ شاةً ، وفي حمار الوَحش بقرَةً ، وفي الأرنب عَناقاً ، وعن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال :(2/292)
« الضبُع صيدٌ وفيه شاةٌ إذا قتله المُحرم » ولنا أن النصَّ أوجبَ المثْل ، والمِثْلُ المطلق في الكتاب والسنة وإجماعِ الأمة والمعقولِ يُراد به إما المثلُ صورةً ومعنى ، وإما المثلُ معنى . وأما المثلُ صورةً بلا معنى فلا اعتبارَ له في الشرع أصلاً ، وإذا لم يمكن إرادةُ الأول إجماعاً تعيّنت إرادةُ الثاني لكونه معهوداً في الشرع كما في حقوق العباد ، ألا يرى أن المماثلة بين أفراد نوعٍ واحد مع كونها في غاية القوة والظهور لم يعتبْرها الشرع ، ولم يجعل الحيوانَ عند الإتلاف مضموناً بفردٍ آخَرَ من نوعه مماثلٍ له في عامة الأوصاف بل مضموناً بقيمتِه مع أن المنصوص عليه في أمثاله إنما هو المثل ، قال تعالى : { فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ } فحيث لم تُعتبرْ تلك المماثلةُ القويةُ مع تيسُّر معرفتِها وسهولةِ مراعاتِها فَلأَنْ لا تُعتبرُ ما بين أفراد أنواع مختلفةٍ من المماثلة الضعيفة الخفيةِ مع صعوبة مأخذِها وتعسُّرِ المحافظة عليها أولى وأحرى ، ولأن القيمة قد أريدت فيما لا نظيرَ له إجماعاً فلم يبق غيرُه مراداً ، إذْ لا عمومَ للمشترَك في مواقع الإثبات ، والمراد بالمرويِّ إيجابُ النظير باعتبار القيمة لا باعتبار العين ، ثم الموجبُ الأصليُّ للجناية والجزاءِ المماثلِ للمقتول إنما هو قيمتُه ، لكن لا باعتبار أن يعمِدَ الجاني إليها فيصرِفَها إلى المصارف ابتداءً ، بل باعتبار أن يجعلَها معياراً فيقدِّرَ بها إحدى الخصال الثلاث فيُقِيمَها مُقامها ، فقوله تعالى : { مّثْلُ مَا قَتَلَ } وصفٌ لازم للجزاء ، غيرُ مفارِقٍ عنه بحال ، وأما قوله تعالى : { مِنَ النعم } فوصفٌ له معتبرٌ في ثاني الحال بناءً على وصفه الأول الذي هو المعيارُ له ولِما بعده من الطعام والصيام ، فحقُّهما أن يُعطفا على الوصف المفارِق لا على الوصف اللازم فضلاً عن العطف على الموصوف كما سيأتي بإذن الله تعالى . ومما يرشدك إلى أن المراد بالمثل هو القيمة قوله عز وجل : { يَحْكُمُ بِهِ } أي بمثل ما قتل { ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ } أي حكَمان عادلان من المسلمين لكنْ لا لأن التقويمَ هو الذي يحتاج إلى النظر والاجتهاد من العُدول دون الأشياء المشاهدةَ التي يستوي في معرفتها كلُّ أحد من الناس ، فإن ذلك ناشىء من الغفلةِ عما أرادوا بما به اللماثلة ، بل لأن ما جعلوه مدار المماثلة بين الصيد وبين النَّعم من ضربِ مشاكَلةٍ ومضاهاة في بعض الأوصاف والهيئات مع تحقق التبايُن بينهما في بقية الأحوال مما لا يَهتدي إليه ، من أساطينِ أئمة الاجتهاد ، وصناديدِ أهل الهداية والإرشاد ، إلا المؤيدون بالقوة القدسية ، ألا يُرى أن الإمام الشافعي رضي الله عنه أوجب في قتل الحمامة شاةً بناء على ما أثبتَ بينهما من المماثلة من حيث أن كلاًّ منهما يعُبّ ويهدِر ، مع أن النسبة بينهما من سائر الحيثيات كما بين الضّبّ والنون ، فكيف يُفوَّضُ معرفةُ أمثالِ هذه الدقائق العويصة إلى رأي عدْلين من آحاد الناس؟ على أن الحكم بهذا المعنى إنما يتعلق بالأنواع لا بالأشخاص ، فبعد ما عُيِّن ، بمقابلة كل نوع من أنواع الصيد ، نوعٌ من أنواع النعم يتم الحُكم ولا يبقى عند وقوع خصوصيات الحوادث حاجةٌ إلى حكمٍ أصلاً .(2/293)
وقرىء ( يحكم به ذو عدل ) على إرادة جنس العادل دون الوَحْدة ، وقيل : بل على إرادة الإمام ، والجملة صفة لجزاءٌ أو حال منه لتخصصه بالصفة ، وقوله تعالى : { هَدْياً } حال مقدرة من الضمير في ( به ) ، أو في ( جزاء ) لما ذكر من تخصصه بالصفة ، أو بدلٌ من ( مثل ) فيمن نصبه ، أو مِنْ محله فيمن جرَّه ، أو نصبٌ على المصدر أي يهديه هدياً ، والجملة صفة أخرى لجزاء .
{ بالغ الكعبة } صفةٌ ( لهدياً ) لأن الإضافة غير حقيقية { أَوْ كَفَّارَةٌ } عطف على مل ( من النعم ) على أنه خبر مبتدأ محذوف ، والجملةُ صفة ثانية ( لجزاء ) كما أشير إليه ، وقوله تعالى : { طَعَامُ مساكين } عطفُ بيانٍ لكفارةٌ عند من لا يخصصه بالمعارف ، أو بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هي طعام مساكين ، وقوله تعالى : { أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً } عطف على طعام الخ ، كأنه قيل : فعليه جزاءٌ مماثلٌ للمقتول هو من النَّعم أو طعامُ مساكينَ أو صيامُ أيامٍ بعددهم ، فحينئذتكون الماثلةُ وصفاً لازماً للجزاء يقدَّر به الهدْي والطعام والصيام ، أما الأولان فبلا واسطة ، وأما الثالث فبواسطة الثاني ، فيختار الجاني كلاًّ منها بدلاً من الآخرَيْن ، هذا وقد قيل : إن قوله تعالى : { أَوْ كَفَّارَةٌ } عطف على ( جزاء ) فلا يبقى حينئذ في النظم الكريم ما يقدَّر به الطعام والصيام ، والالتجاءُ إلى القياس على الهدْي تعسفٌ لا يخفى ، هذا على قراءة ( جزاء ) بالرفع على سائر القراءات ، فقوله تعالى : { أَوْ كَفَّارَةٌ } خبر مبتدأ محذوفٍ ، والجملة معطوفة على جملة هو ( من النعم ) . وقرىء أو ( كفارةُ طعامِ مساكين ) بالإضافة لتبيين نوع الكفارة وقرىء طعامُ مِسْكين على أن التبيين يحصل بالواحد الدال على الجنس وقرىء ( أو عِدْل ) بكسر العين والفرق بينهما أن عَدلَ الشيء ما عادله من غير جنسه كالصوم والإطعام وعِدْلَه ما عُدِل به في المقدار كأن المفتوح تسمية بالمصدر والمكسور بمعنى المفعول وذلك إشارة إلى الطعام و ( صياماً ) تمييز للعَدْل ، والخيار في ذلك للجاني عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وللحَكَمين عند محمد رحمه الله .
{ لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } متعلق بالاستقرار في الجار والمجرور ، أي فعليه جزاءٌ ليذوق الخ ، وقيل : بفعل يدل عليه الكلام ، كأنه قيل : شرع ذلك عليه ليذوق وبال أمره أي سوءَ عاقبةِ هَتْكه لحُرمة الإحرامِ ، والوبال في الأصل : المكروهُ والضررُ الذي ينال في العاقبة مَنْ عمل سوءاً لثِقَله ، ومنه قوله تعالى :(2/294)
{ فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً } ومنه الطعام الوبيلُ وهو الذي لا تستمرِئُه المَعِدة { عَفَا الله عَمَّا سَلَف } من قتل الصيد مُحرِماً قبل أن يسألوا رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وقيل : عما سلف منه في الجاهلية ، لأنهم كانوا متعبَّدين بشرائع من قبلهم وكان الصيد فيها محرّماً { وَمَنْ عَادَ } إلى قتل الصيد بعد النهي عنه وهو محرم { فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } خبر مبتدأ محذوف تقديره فهو ينتقم الله منه ، ولذلك دخلت الفاء كقوله تعالى : { فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } أي فذلك لا يخاف الخ ، وقوله تعالى : { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ } أي فأنا أمتعه ، والمراد بالانتقام التعذيبُ في الآخرة ، وأما الكفارة فعن عطاءٍ وإبراهيمَ وسعيدِ بن جبير والحسن أنها واجبة على العائد ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما وشُريح أنه لا كفارة عليه تعلقاً بالظاهر { والله عَزِيزٌ } غالب لا يُغالَب { ذُو انتقام } شديد فينتقم ممن أصر على المعصية والاعتداء .(2/295)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
{ أُحِلَّ لَكُمُ } الخطاب للمُحْرمين { صَيْدُ البحر } أي ما يصاد في المياه كلها بحراً كان أو نهراً أو غديراً ، وهو ما لا يعيش إلا في الماء مأكولاً أو غير مأكول { وَطَعَامُهُ } أي وما يُطْعَم من صيده ، وهو تخصيص بعد تعميم والمعنى أحل لكم التعرّضُ لجميع ما يصاد في المياه والانتفاعُ به ، وأكلُ ما يؤكل منه وهو السمك عندنا ، وعند ابن أبي ليلى جميعُ ما يصاد فيه ، على أن تفسير الآية عنده أحل لكم صيدُ حيوانِ البحر وأن تَطْعَموه ، وقرىء ( وطُعْمه ) ، وقيل : صيدُ البحر ما صيد فيه ، وطعامُه ما قذفه أو نَضَب عنه { متاعا لَّكُمْ } نُصِب على أنه مفعول له مختص بالطعام كما أن ( نافلة ) في قوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } حالٌ مختصة بيعقوبَ عليه السلام ، أي أحل لكم طعامه تمتيعاً للمقيمين منكم يأكلونه طرياً { وَلِلسَّيَّارَةِ } منكم يتزودونه قَديداً ، وقيل : نُصب على أنه مصدر مؤكِّد لفعل مقدر ، أي متّعكم به متاعاً ، وقيل : مؤكد لمعنى ( أُحل لكم ) فإنه في قوة متّعكم به تمتيعاً كقوله تعالى : { كتاب الله عَلَيْكُمْ } { وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر } وقرىء على بناء الفعلِ للفاعل ونصْبِ ( صيدَ البر ) ، وهو ما يُفْرِخُ فيه وإن كان يعيش في الماء في بعض الأوقات كطير الماء { مَا دُمْتُمْ حُرُماً } أي محرمين ، وقرىء بكسر الدال من دامَ يدامُ ، وظاهرُه يوجب حرمة ما صاده الحَلالُ على المُحرم وإن لم يكن له مَدْخلٌ فيه ، وهو قول ( ابن ) عمرَ وابن عباس رضي الله عنهم . وعن أبي هريرة وعطاءٍ ومجاهدٍ وسعيدِ بنِ جُبير رضي الله عنهم أنه يحلُّ له أكلُ ما صاده الحلالُ وإن صاده لأجله إذا لم يُشِرْ إليه ولم يُدلَّ عليه ، وكذا ما ذبحه قبل إحرامِه وهو مذهبُ أبي حنيفة ، لأن الخِطاب للمحرمين ، فكأنه قيل : وحرم عليكم ما صِدتُّم في البر فيَخرُج منه مَصيدُ غيرهم ، وعند مالك والشافعي وأحمد لا يباح ما صِيدَ له { واتقوا الله } فيما نهاكم عنه أو في جميع المعاصي التي من جملتها ذلك { الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } لا إلى غيره حتى يُتَوهَّمَ الخلاصُ من أخذه تعالى بالالتجاء إليه .(2/296)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
{ جَعَلَ الله الكعبة } قال مجاهد : سميت كعبةً لكونها مُكَعبّةً مُربَّعة ، وقيل : لانفرادها من البناء ، وقيل : لارتفاعها من الأرض ونتوئها ، وقوله تعالى : { البيت الحرام } عطفُ بيانٍ على جهة المدح دون التوضيح كما تجيء الصفةُ كذلك ، وقيل : مفعولٌ ثانٍ لجعل ، وقوله تعالى : { قِيَاماً لّلنَّاسِ } نُصبَ على الحال ، ويرده عطف ما بعده على المفعول الأول كما سيجيء ، بل هذا هو المفعول الثاني ، وقيل : الجعلُ بمعنى الإنشاءِ والخلق وهو حال كما مر . ومعنى كونه قياماً لهم أنه مدارٌ لقيام دينهم ودنياهم إذ هو سببٌ لانتعاشهم في أمور معاشِهم ومَعادِهم ، يلوذ به الخائفُ ، ويأمَن فيه الضعيف ، ويربح فيه التجار ، ويتوجه إليه الحجاج والعُمّار ، وقرىء ( قِيَماً ) على أنه مصدر على وزن شِبَع أُعلَّ عينه بما أُعلَّ في فعله { والشهر الحرام } أي الذي يؤدى فيه الحجُ وهو ذو الحجة وقيل : جنس الشهر الحرام ، وهو وما بعده عطف على الكعبة ، فالمفعول الثاني محذوف ثقةً بما مر ، أي وجعل الشهر الحرام { والهدى والقلائد } أيضاً قياماً لهم ، والمرادُ بالقلائد ذواتُ القلائد وهي البُدْنُ ، خُصّت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر ، وبهاءَ الحجَّ بها أظهر { ذلك } إشارة إلى الجعل المذكور خاصة أو مع ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام وغيره ، ومحلُّه النصبُ بفعل مقدر يدل عليه السياق وهو العامل في اللام بعده أي شرَعَ ذلك .
{ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض } فإن تشريع هذه الشرائعِ المستَتْبِعةِ لدفع المضارِّ الدينية والدنيوية قبل وقوعها وجلبِ المنافع الأولوية والأخروية من أوضح الدلائل على حكمة الشارع ، وعدمِ خروجِ شيء عن علمه المحيط ، وقوله تعالى : { وَأَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } تعميمٌ إثْرَ تخصيصٍ للتأكيد ، ويجوز أن يراد بما في السموات والأرض الأعيانُ الموجودة فيهما ، و ( بكل شيء ) الأمورُ المتعلقة بتلك الموجودات من العوارض والأحوال التي هي من قبيل المعاني .(2/297)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
{ اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } وعيد لمن انتهك محارِمَه أو أصر على ذلك ، وقوله تعالى : { وَأَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وعد لمن حافظ على مراعاة حرماته تعالى أو أقلع عن الانتهاك بعد تعاطيه ، ووجهُ تقديمِ الوعيد ظاهر { مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ } تشديد في إيجاب القيام بما أَمَرَ به ، أي الرسول قد أتى بما يوجب عليه من التبليغ بما لا مزيد عليه ، وقامت عليكم الحجة ولزمتكم الطاعة ، فلا عذر لكم من بعد في التفريط { والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } فيؤاخذكم بذلك نقيراً وقِطْميراً .
{ قُل لاَّ يَسْتَوِى الخبيث والطيب } حكم عام في نفي المساواة عند الله تعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال ، وبين جيِّدها ، قَصَد به الترغيب في جيِّد كل منها والتحذيرَ عن رديئها ، وإن كان سببَ النزول شريحُ بنُ ضُبيعةَ البكريُّ الذي مرت قصته في تفسير قوله تعالى : { يُرِيدُ يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله } الخ ، وقيل : نزلت في رجل سأل رسول الله عليه الصلاة والسلام : إن الخمر كانت تجارتي ، وإني اعتقدت من بيعها مالاً ، فهل ينفعني من ذلك المال إن عمِلت فيه بطاعة الله تعالى؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام : « إن أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدِلْ جَناحَ بعوضة ، إن الله لا يقبل إلا الطيب » ، وقال عطاءٌ والحسنُ رضي الله عنهما : الخبيث والطيب الحرامُ والحلال ، وتقديم الخبيث في الذكر للإشعار من أول الأمر بأن القصور الذي يُنْبىء عنه عدمُ الاستواء فيه لا في مقابِلِه ، فإنه مفهومٌ عدمُ الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادةً ونقصاناً وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد ، لكن المتبادر اعتبارُه بحسب قصور القاصر كما في قوله تعالى : { هَلْ يَسْتَوِى الاعمى والبصير } إلى غير ذلك ، وأما قوله تعالى : { هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ } فلعل تقديمَ الفاضلِ فيه لما أن صِلتَه ملكة لصلة المفضول { وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث } أي وإن سرك كثرته ، والخطاب لكل واحد من الذين أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بخطابهم ، والواو لعطف الشرطية على مثلها المقدَّر ، وقيل : للحال وقد مر ، أي ولو لم تُعجِبْك كثرة الخبيث ولو أعجبتك ، وكلتاهما في موقع الحال من فاعل لا يستوي ، أي لا يستويان كائنين على كل حال مفروض كما في قولك : أحسِنْ إلى فلان وإن أساء إليك ، أي أحسن إليه وإن لم يُسِىءْ إليك وإن أساء إليك ، أي كائناً على كل حال مفروض ، وقد حُذفت الأولى حذفاً مطَّرداً لدِلالة الثانية عليها دلالة واضحة ، فإن الشيء إذا تحقق مع المعارِض فلأن يتحقق بدونه أولى ، وعلى هذا السر يدور ما في لو وإن الوصليتين من المبالغة والتأكيد ، وجواب لو محذوف في الجملتين لدلالة ما قبلهما عليه ، وسيأتي تمام تحقيقه في مواقعَ عديدةٍ بإذن الله عز وجل .
{ فاتقوا الله ياأولى أُوْلِى الالباب } أي في تحرِّي الخبيث وإن كثر ، وآثِروا عليه الطيِّب وإن قلّ ، فإن مدارَ الاعتبار هو الجُودة والرداءةُ لا الكثرةُ والقِلة ، فالمحمودُ القليلُ خيرٌ من المذموم الكثير ، بل كلما كثر الخبيثُ كان أخبثَ { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } راجين أن تنالوا الفلاح .(2/298)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء } هو اسمُ جمعٍ على رأي الخليل وسيبويه وجمهور البصريين ، كطرفاء وقصباء أصله شيآء بهمزتين بينهما ألف ، فقُلبت الكلمة بتقديم لامها على فائها فصار وزنها لفعاء ، ومُنعت الصرفَ لألف التأنيث الممدودة ، وقيل : هو جمع شيْء على أنه مخفف من شيِّيء كهَيْنٍ مخففٌ من هيِّن ، والأصل أشْيِئاء كأهوناء بزنة أفعِلاء ، فاجتمعت همزتان لام الكلمة والتي للتأنيث ، إذ الألف كالهمزة فخففت الكلمة بأن قلبت الهمزة الأولى ياء لانكسار ما قبلها فصارت أشياء وزنها أفلاء ، ونعت الصرف لألف التأنيث ، وقيل : إنما حذفت من أشيِياءَ الياءُ المنقلبةُ من الهمزة التي هي لام الكلمة وفُتحت الياء المكسورة لتسلم ألف الجمع فوزنها أفعاء ، وقوله تعالى : { إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } صفةٌ لأشياء داعيةٌ إلى الانتهاء عن السؤال عنها ، وحيث كانت المَساءةُ في هذه الشرطية معلقةً بإبدائها لا بالسؤال عنها عُقّبت بشرطية أخرى ناطقةٍ باستلزام السؤال عنها لإبدائها الموجِبِ للمحذور قطعاً ، فقيل : { وإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ ينزلُ القُرْآن تُبْدَ لَكُم } أي تلك الأشياء الموجِبة للمَساءة بالوحي كما ينبىء عنه تقييدُ السؤال بحينِ التنزيل ، والمراد بها ما يشُق عليهم ويغمُهم من التكاليف الصعبة التي لا يطيقونها ، والأسرارِ الخفية التي يفتضحون بظهورها ، ونحوُ ذلك مما لا خير فيه ، فكما أن السؤال عن الأمور الواقعة مستَتْبِعٌ لإبدائها كذلك السؤالُ عن تلك التكاليف مستتبعٌ لإيجابها عليهم بطريق التشديد لإساءتهم الأدب ، واجترائِهم على المسألة والمراجعة ، وتجاوزِهم عما يليق بشأنهم من الاستسلام لأمر الله عز وجل من غير بحث فيه ولا تعرّضٍ لكيفيته وكمِّيته ، أي لا تُكثروا مُساءلةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عما لا يَعْنيكم من نحو تكاليفَ شاقةٍ عليكم إن أفتاكم بها وكلفكم إياها حسبما أُوحيَ إليه لم تطيقوها ، ونحوِ بعضِ أمورٍ مستورة تكرهون بُروزَها ، وذلك مِثلُ ما رُوي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال : خطبنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فحمِد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : « إن الله تعالى كتَب عليكم الحجَّ » فقام رجل من بني أسدٍ يقال لهُ : عُكاشةُ بنِ مِحْصَنٍ ، وقيل : سُراقة بنُ مالك ، فقال : أفي كل عامٍ يا رسول الله؟ فأعرضَ عنه حتى أعاد مسألتَه ثلاثَ مرات ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ويحك وما يُؤْمِنُك أن أقول نعم؟ والله لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبتْ ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاترُكوني ما تركتكم . فإنما هلَك من كان قبلَكم بكثرة سؤالِهم واختلافِهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتُكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتُكم عن شيء فاجتنبوه » ومِثلُ ما رُوي عن أنسٍ وأبي هريرة رضي الله عنهما ، أنه سأل الناسُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياءَ حتى أحفَوْه في المسألة ، فقام عليه الصلاة والسلام مغْضَباً خطيباً فحمِد الله تعالى وأثنى عليه وقال :(2/299)
" سلوني فوالله ما تسألوني عن شيءٍ ما دُمْت في مقامي هذا إلا بيّنتُه لكم " فأشفق أصحابُ النبي عليه الصلاة والسلام أن يكون بين يَدَيْ أمرٍ قد حضَر ، قال أنسٌ رضي الله عنه : فجعلتُ ألتفتُ يميناً وشِمالاً فلا أجدُ رجلاً إلا وهو لافٌّ رأسَه في ثوبه يبكي ، فقام رجل من قريشٍ من بني سَهْمٍ يقال له : عبدُ اللَّه بنُ حُذافة ، وكان إذا لاحى الرجال يدعى إلى غير أبيه وقال : يا نبي الله ، مَنْ أبي؟ فقال عليه الصلاة والسلام : «أبوك حذافةُ بنُ قيسٍ الزهري» ، وقام آخرُ وقال : أين أبي؟ قال عليه الصلاة والسلام : «في النار» ، ثم قام عمر رضي الله عنه فقال : رضِينا بالله تعالى رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ رسولاً نبياً ، نعوذ بالله تعالى من الفتن ، إنا حديثو عهدٍ بجاهلية وشِرْكٍ فاعفُ عنا يا رسول الله ، فسكن غضبُه عليه الصلاة والسلام .
{ عَفَا الله عَنْهَا } استئناف مَسوقٌ لبيان أن نهيهم عنها لم يكن لمجرد صيانتِهم عن المَساءة ، بل لأنها في نفسها معصيةٌ مستتبِعةٌ للمؤاخذة وقد عفا عنها ، وفيه مِنْ حثّهم على الجِدّ في الانتهاء عنها ما لا يخفى ، وضميرُ ( عنها ) للمسألة المدلول عليها بلا تسألوا ، أي عفا الله تعالى عن مسائلِكم السالفةِ حيث لم يفرِضْ عليكم الحج في كل عام جزاءً بمسألتكم ، وتجاوَزَ عن عقوبتكم الأخروية بسائر مسائلكم ، فلا تعودوا إلى مثلها . وأما جعلُه صفةً أخرى ( لأشياء ) على أن الضمير ( لها ) بمعنى لا تسألوا عن أشياءَ عفا الله عنها ولم يكلّفْكم إياها فمما لا سبيل إليه أصلاً ، لاقتضائِه أن يكون الحجُّ قد فُرض أولاً في كل عامٍ ثم نُسخ بطريق العفو وأن يكون ذلك معلوماً للمخاطَبين ضرورةَ أن حقَّ الوصف أن يكونَ معلومَ الثبوت للموصوف عند المخاطب قبل جعلِه وصفاً له ، وكلاهما ضروريُّ الانتفاء قطعاً ، على أنه يستدعي اختصاصَ النهْي بمسألة الحجِّ ونحوِها إن سلِمَ وقوعُها ، مع أن النظم الكريمَ صريحٌ في أنه مَسوق للنهي عن السؤال عن الأشياء التي يسوؤُهم إبداؤُها ، سواءٌ كانت من قبيل الأحكام والتكاليفِ الموجبة لِمَساءتهم بإنشائها وإيجابها بسبب السؤال عقوبةً وتشديداً كمسألة الحج لولا عفوُه تعالى عنها ، أو من قبيل الأمور الواقعةِ قبل السؤال الموجبةِ للمساءة بالإخبار بها كمسألة مَنْ قال : أين أبي؟
إن قلتَ تلك الأشياءُ غير مُوجبةٍ للمَساءة البتةَ ، بل هي محتمِلةٌ لإيجاب المَسرَّة أيضاً ، لأن إيجابَها للأولى إن كانت من حيث وجودُها فهي من حيث عدمُها موجبةٌ للأخرى قطعاً ، وليست إحدى الحيثيتَيْن محقّقةً عند السائل وإنما غَرَضُه من السؤال ظهورُها كيف كانت ، بل ظهورُها بحيثية إيجابها للمَساءة؟ قلتُ : لتحقيق المنهيِّ عنه كما ستعرِفه مع ما فيه من تأكيد النهْي وتشديدِه ، لأن تلك الحيثيةَ هي الموجبةُ للانتهاء والانزجار ، لا حيثيةُ إيجابِها للمسرة ولا حيثيةُ تردّدِها بين الإيجابين .(2/300)
إن قيل : الشرطية الثانية ناطقةٌ بأن السؤالَ عن تلك الأشياء الموجبة للمساءة مستلزمٌ لإبدائها البتةَ كما مر فلمَ تخلَّفَ الإبداءُ عن السؤال في مسألةِ الحج حيث لم يُفرَضْ في كل عام؟ قلنا : لوقوع السؤال قبل ورودِ النهي ، وما ذُكر في الشرطية إنما هو السؤال الواقعُ بعد وروده ، إذ هو الموجبُ للتغليظ والتشديد ولا تخلُّفَ فيه ، إن قيل : ما ذكرتَه إنما يتمشى فيما إذا السؤالُ عن الأمور المترددةِ بين الوقوع وعدمِه كما ذُكرَ من التكاليف الشاقةِ ، وأما إذا كان عن الأمور الواقعةِ قبله فلا يكادُ يتسنّى ، لأن ما يتعلق به الإبداءُ هو الذي وقع في نفس الأمرِ ولا مرد له ، سواء كان السؤالُ قبل النهي أو بعده ، وقد يكون الواقع ما يوجب المسرةَ كما في مسألة عبدِ اللَّه بنِ حذافةَ ، فيكون هو الذي يتعلق به الإبداءُ لا غيرُ ، فيتعين التخلُّفُ حتماً ، قلنا : لا احتمالَ للتخلف فضلاً عن التعيُّن ، فإن المنهيَّ عنه في الحقيقة إنما هو السؤالُ عن الأشياء الموجبةِ للمَساءة الواقعةِ في نفس الأمر قبل السؤال ، كسؤال من قال : أين أبي؟ لا عما يعُمُّها وغيرَها مما ليس بواقع ، لكنه محتمِلٌ للوقوع عند المكلفين حتى يلزمَ التخلّفُ في صورةِ عدم الوقوع .
وجملة الكلام أن مدلول النظم الكريم بطريق العبارة إنما هو النهيُ عن السؤال عن الأشياء التي يوجبُ إبداؤها المساءةَ البتة ، إما بأن تكون تلك الأشياءُ بعَرَضية الوقوعِ فتُبدَى عند السؤال بطريق الإنشاء عقوبةً وتشديداً كما في صورة كونِها من قبيل التكاليف الشاقة ، وإما بأن تكون واقعةً في نفس الأمر قبل السؤال فتُبدى عنده بطريق الإخبار بها ، فالتخلفُ ممتنِعٌ في الصورتين معاً ، ومنشأ توهّمِه عدمُ الفرق بين المنهي عنه وبين غيرِه بناءً على عدم امتياز ما هو موجودٌ أو بعَرَضية الوجود من تلك الأشياء في نفس الأمر وما ليس كذلك عند المكلفين وملاحظتهم للكل باحتمال الوجود والعدم ، وفائدةُ هذا الإبهام الانتهاءُ عن السؤال عن تلك الأشياء على الإطلاق حِذارَ إبداء المكروه { والله غَفُورٌ حَلِيمٌ } اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّر لعفوه تعالى أي مبالغٌ في مغفرة الذنوب والإغضاءِ عن المعاصي ، ولذلك عفا عنكم ولم يؤاخِذْكم بعقوبة ما فَرَط منكم .(2/301)
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
{ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ } أي سألوا هذه المسألةَ لكنْ لا عينَها بل مثلَها في كونها محظورةً ومستتْبِعة للوبال ، وعدمُ التصريح بالمثل للمبالغة في التحذير { مِن قَبْلِكُمْ } متعلق بسألها { ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا } أي بسببها أو بمرجوعها { كافرين } فإن بني إسرائيلَ كانوا يستفتون أنبياءَهم في أشياءَ ، فإذا أُمروا بها تركوها فهلكوا .
{ مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ } ردٌّ وإبطال لما ابتدعه أهلُ الجاهلية حيث كانوا إذا نُتِجَت الناقةُ خمسةَ أبطنٍ آخرُها ذكرٌ بَحروا أُذنها أي شقُّوها وحرَّموا ركوبها ودَرَّها ، ولا تُطرد عن ماءٍ ولا عن مرعى ، وكان يقول الرجل : إذا قدِمْت من سفري أو برِئْتُ من مرضي فناقتي سائبةٌ ، وجعلَها كالبَحيرة في تحريم الانتفاعِ بها ، وقيل : كان الرجل إذا أعتق عبداً قال : هو سائبة ، فلا عقْلَ بينهما ولا ميراث ، وإذا ولَدت الشاةُ أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم ، وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا : وصَلَتْ أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم ، وإذا نُتجت من صُلب الفحل عشَرةَ أبطُنٍ قالوا : قد حمَى ظهرَه فلا يُركب ولا يُحمل عليه ولا يُمنع من ماء ولا مرعى . ومعنى ( ما جعل ) ما شرع وما وضع ، ولذلك عُدِّيَ إلى مفعول واحد هو بَحيرة وما عُطف عليها ، و ( من ) مزيدة لتأكيد النفي ، فإن الجعلَ التكوينيَّ كما يجيء تارة متعدياً إلى مفعولين وأخرى إلى واحدٍ كذلك الجعلُ التشريعيُّ يجيء مرة متعدياً إلى مفعولين كما في قوله تعالى : { جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لّلنَّاسِ } وأخرى إلى واحد كما في الآية الكريمة . { ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب } حيث يفعلون ما يفعلون ويقولون : الله أمرنا بهذا ، وإمامُهم عمْروُ بنُ لُحَيَ ، فإنه أولُ من فعل هذه الأفاعيلَ الباطلة ، هذا شأن رؤسائهم وكُبرَائهم { وَأَكْثَرُهُمُ } وهم أراذلُهم الذين يتبعونهم من معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يشهد به سياقُ النظم الكريم { لاَ يَعْقِلُونَ } أنه افتراء باطلٌ حتى يخالفوهم ويهتدوا إلى الحق بأنفسهم فيبقَوْن في أسر التقليد ، وهذا بيان لقصور عقولِهم وعجزِهم عن الاهتداء بأنفسهم .(2/302)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
وقوله عز وجل : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } أي للذين عبَّر عنهم ( بأكثرُهم ) على سبيل الهداية والإرشاد { تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله } من الكتاب المبين للحلال والحرام { وَإِلَى الرسول } الذي أُنزل هو عليه لتقفوا على حقيقة الحال وتُميِّزوا الحرامَ من الحلال { قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا } بيان لعنادهم واستعصائهم على الهادي إلى الحق وانقيادِهم للداعي إلى الضلال { أَوْ لَّوْ كَانَ آبَاؤُهم لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } قيل : الواو للحال دخلت عليها الهمزة للإنكار والتعجيب ، أي أحَسْبُهم ذلك ولو كان آباؤهم جَهَلةً ضالين؟ وقيل : للعطف على شرطية أخرى مقدّرة قبلها وهو الأظهر ، والتقدير أحَسْبهم ذلك أو أيقولون هذا القولَ لو لم يكن آباؤهم لا يعقلون شيئاً من الدين ولا يهتدون الصواب؟ ولو كانوا لا يعلمون الخ . وكلتاهما في موقع الحال أي أحسْبُهم ما وجدوا عليه آباؤهم كائنين على كل حال مفروض؟
وقد حُذفت الأولى في الباب حذفاً مطَّرداً لدلالة الثانية عليها د2لالةً واضحةً ، كيف لا وأن للشيء إذا تحقق عند المانع فلأَنْ يتحقّقَ عند عدمِه أولى كما في قولك : أحسِنْ إلى فلان وإن أساء إليك ، أي أحسِنْ إليه إن لم يُسىء إليك وإن أساء ، أي أحسن إليه كائناً على كل حال مفروض ، وقد حذفت الأولى لدلالةِ الثانية عليها دَلالة ظاهرةً إذِ الإحسانُ حيث أُمِر به عند المانع ، فلأَنْ يُؤْمَرَ به عند عدمه أولى ، وعلى هذا السر يدورُ ما في إنْ ولو الوصليتين من المبالغة والتأكيد ، وجوابُ لو محذوفٌ لدلالة ما سبق عليه ، أي لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون حسبُهم ذلك أو يقولون ذلك ، وما في ( لو ) من معنى الامتناع والاستبعاد إنما هو بالنظر إلى زعمهم لا إلى نفس الأمر ، وفائدتُه المبالغةُ في الإنكار والتعجيب ببيان أن ما قالوه موجبٌ للإنكار والتعجيب إذا كان كونُ آبائهم جَهلةً ضالين في حيز الاحتمال البعيد ، فكيف إذا كان ذلك واقعاً لا ريب فيه؟ وقيل : مآلُ الوجهين واحدٌ ، لأن الجملة المقدرة حالٌ فكذا ما عُطف عليها ، وأنت خبيرٌ بأن الحالَ على الوجه الأخير مجموعُ الجملتين لا الأخيرةُ فقط ، وأن الواو للعطف لا للحال ، وقد مر التحقيق في قوله تعالى : { أَوْ لَّوْ كَانَ آبَاؤهم لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ } فتدبر { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } أي الزموا أمرَ أنفسِكم وإصلاحِها ، وقرىء بالرفع على الابتداء أي واجبة عليكم أنفسُكم ، وقوله عز وجل : { لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم } إما مجزومٌ على أنه جوابٌ للأمر ، أو نهْيٌ مؤكِّد له ، وإنما ضُمَّتِ الراء إتباعاً لضمِّه الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة ، إذِ الأصلُ لا يضْرُرْكم ، ويؤيده القراءةُ بفتح الراء ، وقراءةُ مَنْ قرأ ( لا يضِرْكم ) بكسر الضاد وضمها من ضارَه يَضيرُه ، وإما مرفوع على أنه كلامٌ مستأنفٌ في موقع التعليل لما قبله ، ويعضُده قراءةُ من قرأ ( لا يضيرُكم ضلالُ مَنْ ضل إذا كنتم مهتدين ) ولا يُتوهَّمَنَّ أن فيه رخصةً في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع استطاعتهما ، كيف لا ومن جملة الاهتداء أن يُنكَر على المنكَر حسْبما تفي به الطاقة ، قال عليه الصلاة والسلام :(2/303)
" من رأي منكم منكراً فاستطاع أن يغيره فليغيْره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطِعْ فبقلبه " وقد روي أن الصديقَ رضي الله تعالى عنه قال يوماً على المنبر : «يا أيُّها الناسُ إنَّكُم تَقْرَءونَ هذه الآيةَ وتضعونها غيرَ موضعها ولا تدرون ما هي ، وإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الناس إذا رأَوا منكراً فلم يغيِّروه عمهم الله بعقاب ، فأمُروا بالمعروف وانهَوْا عن المنكر ، ولا تغترّوا بقول الله عز وجل : { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } الخ . فيقول أحدكم : عليَّ نفسي ، والله لتأمُرنّ بالمعروف وتنهَوُنّ عن المنكر ، أو ليستعمِلن الله عليكم شرارَكم فيسومونكم سوء العذاب ، ثم ليدعُوَنَّ خيارُكم فلا يستجابُ لهم " وعنه عليه الصلاة والسلام : " ما من قوم عُمل فيهم منكرٌ أو سُن فيهم قبيحٌ فلم يغيِّروه ولم ينكروه إلا وحقٌّ على الله تعالى أن يعُمَّهم بالعقوبة جميعاً ثم لا يستجابُ لهم " ، والآية نزلت لما كان المؤمنون يتحسَّرون على الكفرة ، وكانوا يتمنَّوْن إيمانهم من الضلال بحيث لا يكادون يرعَوون عنه بالأمر والنهي ، وقيل : كان الرجل إذا أسلم لاموُه وقالوا : سفّهتَ آباءك وضلّلتهم أي نسبتهم إلى السَّفاهة والضلال ، فنزلت تسليةً له بأن ضلال آبائه لا يضرُّه ولا يَشينُه { إِلَى الله } لا إلى أحد سواه { مَرْجِعُكُمْ } رجوعُكم يوم القيامة { جَمِيعاً } بحيث لا يتخلف عنه أحد من المهتدين وغيرِهم { فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } في الدنيا من أعمال الهداية والضلال ، فهو وعد ووعيد للفريقين ، وتنبيه على أن أحداً لا يؤاخَذُ بعمل غيره .(2/304)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا } استئناف مَسوقٌ لبيان الأحكامِ المتعلقة بأمور دنياهم إثرَ بيانِ الأحوال المتعلقةِ بأمور دينهم ، وتصديرُه بحرفي النداءِ والتنبيه لإظهار كمالِ العناية بمضمونه ، وقولُه عز وجل : { شهادة بَيْنِكُمْ } بالرفع والإضافة إلى الظرف توسعاً ، إما باعتبار جَرَيانِها بينهم ، أو باعتبار تعلّقِها بما يجري بينهم من الخصومات ، مبتدأ ، وقوله تعالى : { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت } أي شارفه وظهرت علائمُه ، ظرفٌ لها ، وتقديمُ المفعول لإفادة كمالِ تمكن الفاعل عند النفْس وقت ورودِه عليها ، فإنه أدخلُ في تهوين أمر الموت ، وقولُه تعالى : { حِينَ الوصية } بدلٌ منه لا ظرف للموت كما تُوُهِّم ، ولا لحضوره كما قيل ، فإن في الإبدال تنبيهاً على أن الوصية من المَهَمّات المقررة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهَلَ عنها ، وقوله تعالى : { اثنان } خبرٌ للمبتدأ بتقدير المضاف ، أي شهادةُ بينكم حينئذ شهادةُ اثنين ، أو فاعلُ ( شهادةُ بينكم ) على أن خبرها محذوف ، أي فيما نزل عليكم أن يشهد بينكم اثنان ، وقرىء ( شهادةٌ ) بالرفع والتنوين ، والإعرابُ كما سبق ، وقرىء ( شهادةً ) بالنصب والتنوين على أن عاملها المضمرَ هو العامل في اثنان أيضاً أي ليُقِمْ شهادةً بينكم اثنان { ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ } أي من أقاربكم لأنهم أعلم بأحوال الميت وأنصح له ، وأقرب إلى تحرِّي ما هو أصلح له . وقيل : من المسلمين وهما صفتان لاثنان { أَوْ آخَرَان } عطف على اثنان تابع له فيما ذُكر من الخبرية والفاعلية ، أي أو شهادةُ آخَرَيْن أو أن يشهد بينكم آخران ، أو ليقم ( شهادةً بينكم ) آخران ، وقوله تعالى : { مِنْ غَيْرِكُمْ } صفةٌ ( لآخَران ) أي كائنان من غيركم أي من الأجانب ، وقيل : من أهل الذمة ، وقد كان ذلك في بدء الإسلام لعزة وجود المسلمين لا سيما في السفر ، ثم نسخ . وعن مكحول أنه نسخها قوله تعالى : { وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ } { إِنْ أَنتُمْ } مرفوعٌ بمُضْمرٍ يفسرُه ما بعده تقديره إن ضربتم ، فلما حُذف الفعل انفصل الضمير ، وهذا رأيُ جمهور البَصْريين ، وذهب الأخفش والكوفيون إلى أنه مبتدأٌ بناءً على جواز وقوعِ المبتدأ بعد إنْ الشرطية كجواز وقوعِه بعد إذا ، فقوله تعالى : { ضَرَبْتُمْ فِى الارض } أي سافرتم فيها ، لا محل له من الإعراب عند الأولين لكونه مفسِّراً ، ومرفوع على الخبرية عند الباقين . وقوله تعالى : { فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت } عطفٌ على الشرطية ، وجوابُه محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه ، أي إن سافرتم فقاربَكم الأجلُ حينئذ ، وما معكم من الأقارب أو من أهل الإسلام مَنْ يتولى أمرَ الشهادة كما هو الغالب المعتاد في الأسفار ، فليشهد آخرانِ أو فاستشهدوا آخَرَيْن أو فالشاهدانِ آخرانِ كذا قيل ، والأنسب أن يقدَّر عينُ ما سبق ، أي فآخرانِ على معنى شهادةُ بينِكم شهادةُ آخَرَيْن ، أو فأَنْ يشهَدَ آخران ، على الوجوه المذكورة ثمَةَ ، وقوله تعالى : { تَحْبِسُونَهُمَا } استئنافٌ وقعَ جواباً عما نشأ من اشتراط العدالة كأنه قيل : فكيف نصنع إنِ ارْتبْنا بالشاهدين؟ فقيل : تحبِسونهما وتَصْبِرونهما للتحليف { مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ } وقيل : هو صفة ( لآخران ) ، والشرط بجوابه المحذوف اعتراضٌ فائدته الدلالة على أن اللائق إشهادُ الأقارب أو أهلِ الإسلام ، وأما إشهادُ الآخَرِين فعند الضرورة المُلجئةِ إليه ، وأنت خبير بأنه يقتضي اختصاصَ الحبس بالآخرين مع شموله للأولين أيضاً قطعاً ، على أن اعتبارَ اتصافهما بذلك يأباه مقامُ الأمر بإشهادهما ، إذ مآلُه فآخرانِ شأنُهما الحبسُ والتحْليف ، وإن أمكن إتمام التقريب باعتبار قَيدِ الارتياب بهما كما يفيده الاعتراضُ الآتي ، والمرادُ بالصلاة صلاةُ العصر ، وعدمُ تعيينها لتعيُّنِها عندهم بالتحْليف بعدها لأنه وقت اجتماع الناس ووقت تصادُمِ ملائكة الليل وملائكة النهار ، ولأن جميع أهل الأديان يعظّمونه ويجتنبون فيه الحلِفَ الكاذب .(2/305)
وقد روي أن النبي عليه الصلاةَ والسلام وقتئذ حلّف من حلف كما سيأتي ، وقيل : بعد أي صلاة كانت لأنها داعيةٌ إلى النطق بالصدق ، وناهيةٌ عن الكذِب والزور { اتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب }
{ فَيُقْسِمَانِ بالله } عطفٌ على تحبسونهما وقوله تعالى : { إِنِ ارتبتم } شرطية محذوفةُ الجواب لدلالة ما سبق من الحبس والإقسام عليه ، سيقت من جهته تعالى معترِضةً بين القسمَ وجوابِه للتنبيه على اختصاص الحبس والتحليف بحال الارتياب ، أي إن ارتاب بهما الوارِثُ منكم بخيانةٍ وأخذِ شيءٍ من التركة فاحبِسوهما وحلِّفوهما بالله ، وقولُه تعالى : { لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً } جوابٌ للقسم ، وليس هذا من قبيل ما اجتمع فيه قَسَمٌ وشرط ، فاكتُفِيَ بذكر جوابِ سابقِهما عن جواب الآخر كما هو الواقع غالباً ، فإن ذلك إنما يكون عند سدِّ جواب السابق مَسدَّ جوابِ اللاحق لاتحاد مضمونها كما في قولك : والله إن أتيتَني لأكرمنك ، ولا ريب في استحالة ذلك هاهنا لأن القسم وجوابه كلاهما ( منفصل ) وقد عرفت أن الشرط من جهته تعالى ، والاشتراءُ هو استبدال السلعة بالثمن أي أخذُها بدلاً منه لا بذلُه لتحصيلها كما قيل ، وإن كان مستلزِماً له ، فإن المعتبرَ في عقد الشراء ومفهومِه هو الجلبُ دون السلب المعتبر في عقد البيع ، ثم استُعير لأخذ شيءٍ بإزالة ما عنده عيناً كان أو معنى على وجه الرغبة في المأخوذ والإعراض عن الزائل ، كما هو المعتبر في المستعار منه حسبما مر تفصيلُه في تفسير قوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } والضمير في ( به ) لله ، والمعنى لا نأخذ لأنفسنا بدلاً من الله ، أي مِنْ حُرمته عَرَضاً من الدنيا بأن نهتِكَها ونُزيلَها بالحلف الكاذب ، أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال ، وقيل : الضمير للقسم ، فلا بد من تقدير مضافٍ البتةَ ، أي لا نستبدل بصحة القسم بالله ، أي لا نأخذ لأنفسنا بدلاً منها عرَضاً من الدنيا بأن نُزيلَ عنه وصفَ الصدق ونصفَه بالكذب ، أي لا نحلف كاذبين كما ذكر وإلا فلا سِدادَ للمعنى ، سواءٌ أريد به القسمُ الصادقُ أو الكاذب ، أما إن أريدَ به الكاذبُ فلأنه يفوِّتُ حينئذ ما هو المعتبرُ في الاستعارة من كون الزائل شيئاً مرغوباً فيه عند الحالف كحُرمة اسمِ الله تعالى ووصفِ الصحة والصدق في القسم ، ولا ريب في أن القسم الكاذبَ ليس كذلك ، وأما إن أريد به الصادقُ فلأنه وإن أمكن أن يُتوسَّلَ باستعمالِه إلى عَرَض الدينا كالقسم الكاذب لكن لا محذور فيه ، وأما التوسلُ إليه بترك استعماله فلا إمكان له هاهنا حتى يصِحَّ التبروءُ منه ، وإنما يُتوسَّلُ إليه باستعمال القسم الكاذب ، وليس استعمالُه من لوازم ترْكِ استعمالِ الصادق ضرورةَ جوازِ تركِهما معاً حتى يُتصوَّرَ جعلُ ما أُخذَ باستعمالِه مأخوذاً بتركِ استعمالِ الصادق كما في صوره تقديرِ المضاف ، فإن إزالةَ وصْفِ الصدق عن القسم مع بقاء الموصوفِ مستلزِمةٌ لثبوت وصفِ الكذِب له البتة فتأمل ، وقوله تعالى : { وَلَوْ كَانَ } أي المقسَمُ له المدلولُ عليه بفحوى الكلام { ذَا قربى } أي قريباً منا ، تأكيدٌ لتبرُّئهم من الحلِف كاذباً ومبالغةٌ في التنزه عنه ، كأنهما قالا : لا نأخذُ لأنفسنا بدلاً من حُرمة اسمه تعالى مالاً ولو انضمَّ إليه رعايةُ جانبِ الأقرباء ، فكيف إذا لم يكنْ كذلك ، وصيانةُ أنفسِهما وإن كانت أهمَّ من رعاية الأقرباء لكنها ليست ضميمةً للمال ، بل هي راجعة إليه ، وجواب ( لو ) محذوفٌ ثقةً بدلالة ما سبق عليه ، أي لا نشتري به ثمناً ، والجملة معطوفةٌ على أخرى مثلِها ، كما فُصِّل في تفسير قوله تعالى : { وَلَوْ أَعْجَبَكَ } الخ ، وقوله عز وجل : { وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله } أي الشهادة التي أمرَنا الله تعالى بإقامتها ، معطوفٌ على ( لا نشتري به ) داخلٌ معه في حكم القسم ، وعن الشعبي أنه وَقَفَ على شهادة ، ثم ابتدأ ( آلله ) بالمد على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه بغير مد ، كقولهم : الله لأفعلن { إِنَّا إِذَاً لَّمِنَ الاثمين } أي إن كتمناها ، وقرىء ( لمِلاثِمين ) بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدخال النون فيها .(2/306)
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
{ فَإِنْ عُثِرَ } أي اطُّلع بعد التحليف { على أَنَّهُمَا استحقا إِثْماً } حسبما اعترفا به بقولهما : إنا إذاً لمن الآثمين ، أي فعلا ما يوجبُ إثماً من تحريفٍ وكَتم بأن ظهر بأيديهما شيءٌ من التركة وادَّعيا استحقاقَهما له بوجهٍ من الوجوه كما وقع في سبب النزول حسبما سيأتي { فَآخَرَانِ } أي رجلان آخران ، وهو مبتدأ خبرُه { يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا } ولا محذورَ في الفصل بالخبر بين المبتدأ وبين وَصفِه الذي هو الجارُّ والمجرور بعده ، أي يوقمان مَقام اللذين عُثر على خيانتهما ، وليس المراد بمقامهما مقامَ أداءِ الشهادة التي تولَّياها ولم يؤدِّياها كما هي ، بل هو مقام الحبس والتحليف على الوجه المذكور لإظهار الحق وإبراز كذِبهما فيما ادعيا من استحقاقهما لما في أيديهما { مِنَ الذين استحق } على البناء للفاعل على قراءة عليَ وابنِ عباس وأُبيَ رضي الله عنهم ، أي من أهل البيت الذين استحق { عَلَيْهِمُ الاوليان } من بينهم ، أي الأقربانِ إلى الميت ، الوارثانِ له ، الأحقانِ بالشهادة أي باليمين كما ستعرفه ، ومفعولُ ( استحق ) محذوفٌ أي استحقا عليهم أن يجرِّدوهما للقيام بها ، لأنها حقُّهما ويُظهروا بهما كذِبَ الكاذبَيْن ، وهما في الحقيقة الآخرانِ القائمان مَقام الأوَّلَيْن على وضع المُظْهر مقام المُضْمَر ، وقرىء على البناء للمفعول وهو الأظهر ، أي من الذين استُحق عليهم الإثمُ أي جُنيَ عليهم ، وهم أهلُ الميت وعشيرتُه ، فالأَوْليان مرفوعٌ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ كأنه قيل : ومن هما؟ فقيل : الأوليان ، أو بدلٌ من الضمير في ( يقومان ) أو من ( آخران ) وقد جوِّز ارتفاعَه باستَحق على حذف المضاف ، أي استحقّ عليهم انتدابُ الأوَّلَيْن منهم للشهادة ، وقرىء ( الأولِّين ) على أنه صفة للذين الخ ، مجرور أو منصوب على المدح ، ومعنى الأولية التقدمُ على الأجانب في الشهادة لكونهم أحقَّ بها ، وقرىء ( الأولَيْن ) على التثنية وانتصابُه على المدح ، وقرىء ( الأولان ) .
{ فَيُقْسِمَانِ بالله } عطف على يقومان { لشهادتنا } المرادُ بالشهادة اليمينُ كما في قوله تعالى : { فشهادة أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شهادات بالله } أي لَيَمينُنا على أنهما كاذبان فيما ادَّعيا من الاستحقاق مع كونِها حقةً صادقةً في نفسها { أَحَقُّ } بالقبول { مِن شهادتهما } أي من يمينهما مع كونها كاذبةً في نفسها لما أنه قد ظهر للناس استحقاقُهما للإثم ، ويمينُنا منزهةٌ عن الرَّيْب والرِّيبة ، فصيغةُ التفضيلِ مع أنه لا حقيةَ في يمينهما رأساً إنما هي لإمكان قَبولِها في الجُملة باعتبار احتمالِ صدقِهما في ادعاء تملُّكِهما لما ظهر في أيديهما { وَمَا اعتدينا } عطف على جواب القسم أي ما تجاوزنا فيها الحقَّ أو ما اعتدينا عليهما بإبطال حقهما { أَنَاْ إِذِنَ لَّمِنَ الظالمين } استئنافٌ مقرَّرٌ لما قبله ، أي إنا إنِ اعتدَيْنا في يميننا لمن الظالمين أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه بسبب هتك حرمة اسم الله تعالى ، أو لمن الواضعين الحقَّ في غير موضعه ، ومعنى النظم الكريم أن المُحتَضَرَ ينبغي أن يُشهدَ على وصيته عدلين من ذوِي نسبِه أو دينه ، فإن لم يجدْهما بأن كان في سفر فآخران من غيرهم ، ثم إن وقع ارتيابٌ بهما أقسما على أنهما ما كتما من الشهادة ولا من التركة شيئاً بالتغليظ في الوقت ، فإنِ اطُّلعَ بعد ذلك على كذبهما بأن ظهر بأيديهما شيءٌ من التركة ، وادعيا تملُّكه من جهة الميت حلفَ الورثةُ وعُمل بأيْمانهم .(2/307)
ولعل تخصصَ الاثنين لخصوص الواقعة ، فإنه رُوي ( أن تميمَ بنَ أوسٍ الداري وعديَّ بنَ بدَّاء خرجا إلى الشام للتجارة وكانا حينئذ نصْرانيين ومعهما بديلُ بنُ أبي مريم مولى عمْرو بنِ العاص وكان مسلماً مهاجراً ، فلما قدِموا الشامَ مرضَ بديلٌ فكتب كتاباً فيه جميعُ ما معه وطرحه في متاعِه ولم يخبرْهما بذلك ، وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعَه إلى أهله ، ومات ، ففتشاه ، فوجدوا فيه إناءً من فضة وزْنُه ثلثمائةِ مثقالٍ منقوشاً بالذهب ، فغيَّباه ودفعا المتاعَ إلى أهله ، فأصابوا فيه الكتاب ، فطلبوا منهما الإناءَ فقالا : ما ندري ، إنما أوصى إلينا بشيءٍ وأمرَنا أن ندفعَه إليكم ففعلنا ، وما لنا بالإناء من علم ، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } الآية ، فاستحلَفَهما بعد صلاة العصر عند المِنْبر بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يخْتانا شيئاً مما دَفَع ولا كتما فحلَفا على ذلك فخلَّى عليه الصلاة والسلام سبيلهما ، ثم إن الإناءَ وُجد بمكةَ فقال مَنْ بيده : اشتريتُه من تميم وعدي ، وقيل : لما طالت المدةُ أظهراه فبلغ ذلك بني سهمٍ فطلبوه منهما فقالا : كنا اشتريناه من بديل ، فقالوا : ألم نقلْ لكما : هل باع صاحبُنا من متاعه شيئاً ، فقلتما : لا؟ قالا : ما كان لنا بينةٌ فكرِهنا أن نُقِرَّ به ، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوله عز وجل : { فَإِنْ عُثِرَ } الآية ، فقام عمروُ بنُ العاص والمطَّلِبُ بنُ أبي وداعةَ السَّهْميان فحلفا بالله بعد العصر أنهما كَذَبا وخانا ، فدفع الإناءَ إليهما ) . وفي رواية إلى أولياء الميت .
واعلم أنهما إن كانا وارثين ( لبديل ) فلا نسخ إلا في وصف اليمين ، فإن الوارثَ لا يُحَلَّفُ على البَتات ، وإلا فهو منسوخ .(2/308)
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
{ ذلك } كلام مستأنف سيق لبيان أن ما ذُكر مستتبِعٌ للمنافع واردٌ على مقتضى الحِكمة والمصلحة ، أي الحُكم الذي تقدم تفصيلُه { أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَا } أي أقربُ أن يؤدِّيَ الشهودُ الشهادةَ عن وجهها الذي تحمَّلوها عليه من غير تحريفٍ ولا خيانة خوفاً من العذاب الأخروي ، وهذه كما ترى حكمةُ شَرْعيةِ التحليفِ بالتغليظ المذكور ، وقوله تعالى : { أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان بَعْدَ أيمانهم } بيانٌ لحِكمة شرعيةِ ردِّ اليمين على الورثة ، معطوفٌ على مقدَّرٍ يْنبىء عنه المقامُ كأنه قيل : ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ويخافوا عذابَ الآخرة بسبب اليمين الكاذبة أو يخافوا الافتضاحِ على رؤوس الأشهاد بإبطال أيمانهم والعملِ بأَيْمان الورثة فينزجروا عن الخيانة المؤدية إليه ، فأيُّ الخوفين وقع حصل المقصِدُ الذي هو الإتيانُ بالشهادة على وجهها . وقيل : هو عطفٌ على ( يأتوا ) على معنى أن ذلك أقربُ إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو إلى أن يخافوا الافتضاحَ برد اليمين على الورثة فلا يحلِفوا على موجَب شهادتِهم إنْ لم يأتوا بها على وجهها ، فيظهرُ كذبُهم بنكولهم ، وأما ما قيل من أن المعنى أن ذلك أقربُ إلى أحد الأمرين اللذين أيُّهما وقع كان فيه الصلاحُ ، وهو أداءُ الشهادة على الصدق ، والامتناعُ عن أدائها على الكذب ، فيأباه المقام ، إذ لا تعلّق له بالحادثة أصلاً ضرورةَ أن الشاهدَ مضطرٌّ فيها إلى الجواب ، فالامتناعُ عن الشهادة الكاذبة مستلزمٌ للإتيان بالصادقة قطعاً ، فليس هناك أمران أيُّهما وقع كان فيه الصلاحُ حتى يَتوسَّطَ بينهما كلمةُ ( أو ) وإنما يتأتى ذلك في شهودٍ لم يُتَّهموا بخيانة ، على أن إضافةَ الامتناع عن الشهادة الكاذبة إلى خوف رد اليمين على الورثة ونِسبةَ الإتيانِ بالصادقة إلى غيره مع أن ما يقتضي أحدُهما يقتضي الآخَرُ لا محالة تحكُّمٌ بحْتٌ فتأمل { واتقوا الله } في مخالفة أحكامه التي من جملتها هذا الحكمُ { واسمعوا } ما تؤمرون به كائناً ما كان سمعَ طاعةٍ وقَبول { والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين } الخارجين عن الطاعة ، أي فإن لم تتقوا ولم تسمعوا كنتم فاسقين ( والله لا يهدي القوم الفاسقين ) أي إلى طريق الجنة أو إلى ما فيه نفعُهم .(2/309)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
{ يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل } نُصب على أنه بدل اشتمال من مفعول اتقوا لما بينهما من الملابسة ، فإن مدارَ البداية ليس ملابسةَ الظرفية والمظروفية ونحوِها فقط ، بل هو تعلّقٌ ما ، مُصحِّحٌ لانتقال الذهن من المُبدلَ منه إلى البَدَل بوجه إجماليَ كما فيما نحن فيه ، فإن كونَه تعالى خالقَ الأشياء كافةً مالكَ يومِ الدين خاصةً كافٍ في الباب ، مع أن الأمرَ بتقوى الله تعالى يتبادر منه إلى الذهن أن المتقى أيُّ شأنٍ من شؤونه وأيُّ فعلٍ من أفعاله . وقيل : هناك مضافٌ محذوفٌ به يتحقق الاشتمال ، أي اتقوا عذابَ الله فحينئذ يجوزُ انتصابُه منه بطريق الظرفية ، وقيل : منصوب بمُضْمر معطوفٍ على ( اتقوا ) وما عُطف عليه ، أي واحذروا أو اذكروا يوم الخ ، فإن تذكير ذلك اليوم الهائل مما يُضْطرُّهم إلى تقوى الله عز وجل وتلقِّي أمره بسمع الإجابة والطاعة ، وقيل : هو ظرف لقوله تعالى : { لاَّ يَهِدِّى } ، أي لا يهديهم يومئذ إلى طريق الجنة كما يهدي إليه المؤمنين ، وقيل : منصوب بقوله تعالى : { واسمعوا } بحذف مضاف ، أي اسمعوا خبرَ ذلك اليوم ، وقيل : منصوب بفعل مؤخر قد حُذف للدلالة على ضيق العبارة عن شرحه وبيانِه لكمال فظاعة ما يقع فيه من الطامّة التامة والدواهي العامة ، كأنه قيل : ( يوم يجمع الله الرسل فيقول ) الخ ، يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي ببيانه ( نطاقُ ) المقال ، وإظهارُ الاسمِ الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وتشديد التهويل ، وتخصيصُ الرسل بالذكر ليس لاختصاص الجمع بهم دون الأمم ، كيف لا و { ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } وقد قال الله تعالى : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم } بل لإبانة شرفهم وأصالتهم ، والإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمعِ غيرِهم بناءً على ظهور كونهم أتباعاً لهم ، ولإظهار سقوطِ منزلتهم وعدم لياقتهم بالانتظام في سلك جمع الرسل ، كيف لا وهم عليهم السلام يُجمعون على وجه الإجلال ، وأولئك يسحبون على وجوههم بالأغلال
{ فَيَقُولُ } لهم مشيراً إلى خروجهم عن عُهدة الرسالة كما ينبغي حسبما يُعربُ عنه تخصيصُ السؤال بجواب الأمم إعراباً واضحاً ، وإلا لصدر الخطاب بأن يقال : هل بلغتم رسالاتي؟ وماذا في قوله عز وجل : { مَاذَا أَجَبْتُمُ } عبارةٌ عن مصدر الفعل ، فهو نصْبٌ على المصدرية أيْ أيَّ إجابةٍ أُجبتم من جهة أُممِكم إجابةَ قَبول أو إجابةَ رد؟ وقيل : عبارة عن الجواب فهو في محل النصب بعد حذف الجارِّ عنه أيْ بأيِّ جوابٍ أجبتم؟ وعلى التقديرين ففي توجيه السؤال عما صدرَ عنهم وهم شهودٌ إلى الرسل عليهم السلام كسؤال الموؤودة بمَحْضرٍ من الوائد ، والعدولِ عن إسناد الجواب إليهم بأن يقال : ماذا أجابوا؟ من الأنباء عن كمال تحقيرِ شأنهم وشدة الغيظ والسُّخط عليهم ما لا يخفى { قَالُواْ } استئناف مبني على سؤال نشأ من سَوْق الكلام كأنه قيل : فماذا يقول الرسل عليهم السلام هنالك؟ فقيل : يقولون : { لاَ عِلْمَ لَنَا } وصيغةُ الماضي للدلالة على التقرر والتحقق كما في قوله تعالى :(2/310)
{ وَنَادَى أصحاب الجنة } { ونادى أصحاب الاعراف } ونظائرِهما ، وإنما يقولون ذلك تفويضاً للأمر إلى علمه تعالى وإحاطتِه بما اعتراهم من جهتهم من مقاساة الأهوال ومعاناة الهموم والأوجال وعَرْضاً لعجزهم عن بيانه لكثرته وفظاعتِه { إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب } تعليل لذلك ، أي فتعلَمُ ما أجابوا وأظهروا لنا وما لم نعلمْه مما أضمَروه في قلوبهم ، وفيه إظهارٌ للشَّكاةِ وردّ للأمر إلى علمه تعالى بما لَقُوا من قبلهم من الخطوب ، وكابدوا من الكروب ، والتجاءٌ إلى ربهم في الانتقام منهم ، وقيل : المعنى لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا ، وإنما الحكم للخاتمة ورُدَّ ذلك بأنهم يعرفونهم بسيماهم فكيف يخفى عليهم أمرُهم؟ وأنت خبير بأن مُرادهم حينئذ أن بعضهم كانوا في زمانهم على الحق ثم صاروا كَفَرة ، وعن ابن عباس ومجاهد والسُدّي رضي الله عنهم أنهم يفزَعون من أول الأمر ويذهَلون عن الجواب ثم يُجيبون بعدما ثابت إليهم عقولُهم بالشهادة على أممهم ، ولا يلائمه التعليل المذكور . وقيل : المرادُ به المبالغةُ في تحقيق فضيحتهم ، وقرىء ( علامَ الغيوب ) بالنصب على النداء أو الاختصاص بالمدح ، على أن الكلام قد تم عند قوله تعالى : { أَنتَ } أي إنك أنت المنعوتُ بنعوتِ كمالِك المعروفُ بذلك .(2/311)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
{ إِذْ قَالَ الله ياعيسى عِيسَى ابن مَرْيَمَ } شروعٌ في بيان ما جرى بينه تعالى وبين واحد من الرسل المجموعين من المفاوضة على التفصيلِ إثرَ بيانِ ما جرى بينه تعالى وبين الكل على وجه الإجمال ليكون ذلك كالأُنموذج لتفاصيلِ أحوال الباقين ، وتخصيصُ شأن عيسى عليه السلام بالبيان تفصيلاً من بين شؤون سائر الرسل عليهم السلام مع دلالتها على كمال هَوْل ذلك اليوم ونهاية سوء حال المكذبين بالرسل لما أن شأنه عليه السلامُ متعلِّقٌ بكلا الفريقين من أهل الكتاب الذين نُعِيتْ عليهم في السورة الكريمة جناياتُهم ، فتفصيلُه أعظمُ عليهم وأجلبُ لحسرتهم وندامتِهم وأفتُّ في أعضادهم وأدخَلُ في صرفهم عن غيّهم وعنادهم ، و ( إذ ) بدلٌ من ( يومَ يجمع الله ) الخ ، وصيغة الماضي لما ذكر من الدلالة على تحقق الوقوع ، وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار لما مر من المبالغة في التهويل ( وتربية المهابة ) . وكلمة على في قوله تعالى : { اذكر نِعْمَتِى عَلَيْكَ وعلى والدتك } متعلقة بنفس النعمة إن جُعلت مصدراً ، أي اذكر إنعامي عليكما ، أو بمحذوفٍ هو حالٌ منها إن جُعلت اسماً ، أي اذكر نعمتي كائنة عليكما ، وليس المرادُ بأمره عليه السلام يومئذ بذكر النعمة المنتظمة في سلك التعديد تكليفَه عليه السلام شكرَها والقيامَ بمواجبها ولاتَ حينَ تكليف ، مع خروجه عليه السلام عن عهدة الشكر في أوله أيَّ خروج ، بل إظهارَ أمره عليه السلام بتعداد تلك النعم حسبما بينه الله تعالى اعتداداً بها وتلذذاً بذكرها على رؤوس الأشهاد ، لتكون حكايةُ ذلك على ما أنبأ عنه النظم الكريم توبيخاً ومزجرةً للكفرة المختلفين في شأنه عليه السلام إفراطاً وتفريطاً وإبطالاً لقولهما جميعاً .
{ إِذْ أَيَّدتُّكَ } ظرف لنعمتي أي اذكر إنعامي عليكما وقت تأييدي لك أو حال منها ، أي اذكرها كائنة وقت تأييدي لك ، وقرىء ( آيدتُك ) والمعنى واحد أي قويتك { بِرُوحِ القدس } بجبريلَ عليه السلام لتثبيت الحجة أو بالكلام الذي يحيى به الدين وإضافته إلى القدس لأنه سبب الطهر عن أوضار الآثام ، أو يحيى به الموتى أو النفوسُ حياةً أبدية ، وقيل : الأرواحُ مختلفةُ الحقائق ، فمنها طاهرةٌ نورانية ، ومنها خبيثةٌ ظُلمانية ، ومنها مشرقةٌ ، ومنها كَدِرةٌ ، ومنها حُرة ، ومنها نذْلة ، وكان روحُه عليه الصلاة والسلام طاهرةً مشرقةً نورانية عُلوية ، وأياً ما كان فهو نعمة عليهما { تُكَلّمُ الناس فِى المهد وَكَهْلاً } استئناف مبين لتأييده عليه السلام أو حال من الكاف ، وذكر تكليمه عليه السلام في حال الكهولة لبيان أم كلامه عليه السلام في تينك الحالتين كان على نسق واحد بديعٍ صادراً عن كمال العقل مقارِناً لرزانة الرأي والتدبير ، وبه استُدل على أنه عليه السلام سينزِل من السماء لِما أنه عليه السلامُ رفع قبل التكهُّل ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : أرسله الله تعالى وهو ابن ثلاثين سنةً ، ومكث في رسالته ثلاثين شهراً ، ثم رفعه الله تعالى إليه { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب } عطف على قوله تعالى : { إِذْ أَيَّدتُّكَ } منصوب بما نصبه ، أي اذكر نعمتي عليكما وقت تعليمي لك الكتاب { والحكمة } أي جنسهما { والتوراة والإنجيل } خُصا بالذكر مما تناوله الكتابُ والحكمةُ إظهاراً لشرفهما ، وقيل : الخطُّ والحكمةُ الكلامُ المُحكَم الصواب .(2/312)
{ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير } أي تُصوَّر منه هيئةً مماثلة لهيئة الطير { بِإِذْنِى } بتسهيلي وتيسيري ، لا على أن يكون الخلقُ صادراً عنه عليه السلام حقيقة ، بل على أن يظهر ذلك على يده عليه السلام عند مباشرةِ الأسباب مع كون الخلق حقيقةً لله تعالى كما ينبىء عنه قوله تعالى : { فَتَنفُخُ فِيهَا } أي في الهيئة المصوَّرة { فَتَكُونُ } أي تلك الهيئة { طَيْراً بِإِذْنِى } فإن إذنه تعالى لو لم يكن عبارةً عن تكوينه تعالى للطير بل عن محضِ تيسيره مع صدور الفعل حقيقةً عما أُسند إليه لكان هذا تكوّناً من جهة الهيئة ، وتكريرُ قوله : { بِإِذْنِى } في الطير مع كونه شيئاً واحداً ، للتنبيه على أن كلاًّ من التصوير والنفخ أمرٌ معظّم بديعٌ لا يتسنى ولا يترتب عليه شيء إلا بإذنه تعالى { وَتُبْرِىء الاكمه والابرص بِإِذْنِى } عطف على ( تخلُق ) .
{ وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى بِإِذْنِى } عطف على ( إذ تخلق ) أعيد فيه إذْ ، لكون إخراج الموتى من قبورهم لا سيما بعد ما صارت رميماً ، معجزةً باهرةً ونعمةً جليلة حقيقةً بتذكير وقتها صريحاً ، قيل : أخرج سامَ بنَ نوح ورجلين وامرأةً وجاريةً ، وتكرير قوله : { بِإِذْنِى } في المواضع الأربعة للاعتناء بتحقيق الحق ببيان أن تلك الخوارقَ ليست من قبل عيسى عليه الصلاة والسلام بل من جهته سبحانه قد أظهرها على يديه معجزةً له ونعمةً خصَّها به ، وأما ذكرُه في سورة آلِ عِمرانَ مرتين لما أن ذلك موضعُ الإخبار ، وهذا موضعُ تعداد النعم { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إسراءيل عَنكَ } عطف على ( إذ تخرج ) أي منعتُ اليهودَ الذين أرادوا بك السوء عن التعرُّض لك { إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات } بالمعجزات الواضحة مما ذُكر وما لم يُذكر ، كالإخبار بما يأكلون وما يدّخِرون في بيوتهم ونحوِ ذلك ، وهو ظرفٌ لكففت ، لكن لا باعتبار المجيء بها فقط بل باعتبار ما يعقبُه من قوله تعالى : { فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } فإن قولهم ذلك مما يدل على أنهم قصدوا اغتيالَه عليه السلام المُحوِجَ إلى الكف ، أي كففتُهم عنك حين قالوا ذلك عند مجيئِك إياهم بالبينات ، وإنما وُضع موضعَ ضميرِهم الموصولُ لذمهم بما في حيِّز الصلة ، فكلمة ( من ) بيانية ، وهذا إشارة إلى ما جاء به ، والتذكير لأن إشارتهم إلى ما رأَوْه من نفس المسمّى من حيث هو ، أو من حيث هو سحر لا من حيث هو مسمى بالبينات ، وقرىء ( إن هذا إلا ساحر مبين ) فهذا حينئذ إشارة إلى عيسى عليه السلام .(2/313)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين } عطف على ما قبله من أخواتها الواقعةِ ظروفاً للنعمة التي أُمر بذكرها ، وهي وإن كانت في الحقيقة عينُ ما يُفيده الجملُ التي أُضيفت إليها تلك الظروفُ من التأييد بروح القدس وتعليم الكتاب والحكمة وسائرِ الخوارق المعدودة ، لكنها لمغايَرَتها لها بعنوانٍ منْبىءٍ عن غاية الإحسان أُمر بذكرها من تلك الحيثية ، وجُعلت عاملةً في تلك الظروف لكفاية المغايَرَة الاعتبارية في تحقيق ما اعتُبر في مدلول كلمةِ ( إذ ) من تعدد النسبة ، فإنه ظرف موضوعٌ لزمان نسبتين ماضيتين واقعتين فيه إحداهما معلومةُ الوقوعِ فيه للمخاطَب دون الأخرى ، فيُراد إفادةُ وقوعها أيضاً له ، فيضاف إلى الجملة المفيدة للنسبة الأولى ، ويجعل ظرفاً معمولاً للنسبة الثانية ، ثم قد تكون المغايَرةُ بين النسبتين بالذات كما في قولك : اذكُرْ إحساني إليك إذ أحسنتَ إليّ . تريد تنبيهَ المخاطَب على وقوع إحسانه إليك وهما نسبتان متغايرتان بالذات ، وقد تكون بالاعتبار كما في قولك : اذكر إحساني إليك إذ منعتُك من المعصية ، تريد تنبيهه على كون منعه منها إحساناً إليه لا على إحسانٍ آخرَ واقعٍ حينئذ ، ومن هذا القبيل عامةُ ما وقع في التنزيل من قوله تعالى : { لِقَوْمِهِ ياقوم اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } الآية ، وقولِه تعالى : { الجحيم يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } إلى غير ذلك من النظائر . ومعنى إيحائه تعالى إليهم أمرُه تعالى إياهم في الإنجيل على لسانه عليه السلام . وقيل : إلهامُه تعالى إياهم كما في قوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى } و ( أنْ ) في قوله تعالى : { أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي } مفسِّرة لما في الإيحاء من معنى القول ، وقيل : مصدرية ، وإيرادُه عليه السلام بعنوان الرسالة للتنبيه على كيفية الإيمان به عليه السلام كأنه قيل : آمنوا بوحدانيتي في الألوهية والربوبية وبرسالة رسولي ولا تُزيِّلوه عن حيِّزه حطّاً ولا رفعاً ، وقوله تعالى : { قَالُواْ } استئناف مبنيٌّ على سؤال نشأ من سَوْق الكلام كأنه قيل : فماذا قالوا حين أوحِيَ إليهم ذلك؟ فقيل : قالوا : { آمنّا } أي بما ذُكر من وحدانيته تعالى وبرسالة رسولِه كما يُؤذِنُ به قولهم : { واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } أي مخلِصون في إيماننا ، مِنْ أسلم وجهَه لله ، وهذا القولُ منهم بمقتضى وحيه تعالى وأمرِه لهم بذلك نعمةٌ جليلة كسائر النعم الفائضة عليه عليه الصلاة والسلام ، وكل ذلك نعمةٌ على والدته أيضاً . رُوي أنه عليه السلام لما علم أنه سيُؤمر بذكر هاتيك النعم العِظامِ جعل يلبَسُ الشَّعْرَ ويأكب الشجر ولا يدخر شيئاً لغد ، يقول : لكل يوم رزقُه ، لم يكن له بيت فيخرَبَ ولا ولد فيموتَ ، أينما أمسى بات .
{ إِذْ قَالَ الحواريون } كلام مستأنفٌ مَسوقٌ لبيان بعض ما جرى بينه عليه السلام وبين قومه ، منقطعٌ عما قبله كما ينبىء عنه الإظهارُ في موقع الإضمار و ( إذ ) منصوب بمُضمر خوطب به النبي عليه الصلاة والسلام بطريق تلوين الخطاب والالتفات ، لكن لا لأن الخطاب السابقَ لعيسى عليه السلام فإنه ليس بخطاب وإنما هو حكايةُ خطاب ، بل لأن الخطابَ لمن خوطب بقوله تعالى : { واتقوا الله } الآية ، فتأمل ، كأنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم عَقيبَ حكايةِ ما صدر عن الحواريين من المقالة المعدودة من نعم الله تعالى الفائضة على عيسى عليه السلام : اذكُر للناس وقت قولهم الخ ، وقيل : هو ظرف لقالوا ، أريد به التنبيهُ على أن ادعاءَهم الإيمانَ والإخلاصَ لم يكن عن تحقيقٍ وإيقان ، ولا يساعده النظم الكريم { ياعيسى ابن مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السماء } اختلف في أنهم هل كانوا مؤمنين أو لا؟ فقيل : كانوا كافرين شاكّين في قدرة الله تعالى على ما ذَكَروا ، وفي صدْقِ عيسى عليه السلام ، كاذبين في دعوى الإيمان والإخلاص ، وقيل : كانوا مؤمنين وسؤالُهم للاطمئنان والتثبّت لا لإزاحة الشك ، و ( هل يستطيع ) سؤال عن الفعل دون القدرة عليه تعبيراً عنه بلازمه ، وقيل : الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة ، لا على ما تقتضيه القدرة ، وقيل : المعنى هل يطيع ربك؟ بمعنى هل يجيبك؟ واستطاع بمعنى أطاع كاستجاب بمعنى أجاب ، وقرىء ( هل تستطيعُ ربَّك ) أي سؤال ربك ، والمعنى هل تسأله ذلك من غير صارف يصرِفك عنه؟ وهي قراءة علي وعائشةَ وابن عباس ومعاذٍ رضي الله عنهم ، وسعيدِ بن جبير في آخرين ، والمائدة الخِوانُ الذي عليه الطعام ، من مادَه إذا أعطاه ورفدَه ، كأنها تَميدُ مَنْ تُقدَّم إليه ، ونظيرُه قولهم : شجرة مطعمة ، وقال أبو عبيد : هي فاعلة بمعنى مفعولة كعيشة راضية { قَالَ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال ناشىءٍ مما قبله ، كأنه قيل : فماذا قال لهم عيسى عليه السلام حين قالوا ذلك؟ فقيل : قال : { اتقوا الله } أي من أمثال هذا السؤال { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي بكمال قدرته تعالى وبصِحّة نبوتي أو إن صَدَقتم في ادّعاء الإيمانِ والإسلام فإن ذلك مما يوجب التقوى والاجتناب عن أمثال هذه الاقتراحات وقيل أمرهم بالتقوى ليصير ذلك ذريعةً لحُصول المسؤول ، كقوله تعالى :(2/314)
{ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } وقولِه تعالى : { رَّحِيمٌ يَئَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة }(2/315)
قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
{ قَالُواْ } استئناف كما سبق { نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا } تمهيدُ عذرٍ وبيانٍ لِمَا دعاهم إلى السؤال ، أي لسنا نريد بالسؤال إزاحةَ شُبهتِنا في قدرته سبحانه على تنزيلها أو في صحة نبوتك ، حتى يقدحَ ذلك في الإيمان والتقوى ، بل نريد أن نأكلَ منها أي أكلَ تبرّكٍ ، وقيل : أكلَ حاجةٍ وتمتُّع { وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } بكمال قدرته تعالى وإن كنا مؤمنين به من قبل ، فإن انضمامَ علم المشاهدةِ إلى العلم الاستدلالي مما يوجب ازديادَ الطُمأنينة وقوةَ اليقين { وَنَعْلَمَ } أي علماً يقينياً لا يحوم حوله شائبةُ شُبهةٍ أصلاً ، وقرىء ( ليُعْلَمَ ) على البناء للمفعول { أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } ( أنْ ) هي المخففة من أنّ ، وضميرُ الشأن محذوفٌ ، أي ونلعم أنه قد صدقتنا في دعوى النبوة وأن الله يُجيب دعوتنا وإن كنا عالمين بذلك من قبل { وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين } نشهد عليها عند الذين لم يحضُروها من بني إسرائيل ليزدادَ المؤمنون منهم بشهادتنا طُمأنينةً ويقيناً ، ويؤمنَ بسببها كفارُهم ، أو ( من الشاهدين ) للعَيْن دون السامعين للخبر ، و ( عليها ) متعلقٌ بالشاهدين إن جُعل اللامُ للتعريف ، وبيانٌ لما يشهدون عليه إن جُعلتْ موصولة ، كأنه قيل : على أي شيء يشهدون؟ فقيل : عليها ، فإن ما يتعلق بالصلة لا يتقدم على الموصول ، أو هو حال من اسم كان ، أو هو متعلق بمحذوف يفسره من الشاهدين .(2/316)
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
{ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ } لما رأى عليه السلام أن لهم غَرَضاً صحيحاً في ذلك ، وأنهم لا يُقلعون عنه ، أزمعَ على استدعائها واستنزالها ، وأراد أن يُلزِمَهم الحجةَ بكمالها .
رُوي أنه عليه الصلاة والسلام اغتسل ولبس المِسْح وصلى ركعتين فطأطأ رأسه وغض بصرَه ثم قال : { اللهم رَبَّنَآ } ربنا ، ناداه سبحانه وتعالى مرتين ، مرةً بوصف الألوهية الجامعةِ لجميع الكمالات ، ومرةً بوصف الربوبية المُنْبئةِ عن التربية ، وإظهاراً لغاية التضرّع ، ومبالغةً في الاستدعاء { أُنزِلَ عَلَيْنَا } تقديمُ الظرف على قوله : { مَائِدَةً } لما مر مراراً من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ، وقوله : { مّنَ السماء } متعلق بأنزل أو بمحذوفٍ هو صفةٌ لمائدة ، أي كائنةً من السماء نازلةً منها .
وقوله : { تَكُونُ لَنَا عِيداً } في محل النصب على أنه صفةٌ لمائدة ، واسم تكون ضمير المائدة ، وخبرُها إما عيداً و ( لنا ) حال منه ، أو من ضمير ( تكون ) عند من يجوِّز إعمالَها في الحال ، وإما ( لنا ) ، وعيداً حال من الضمير في لنا ، لأنه وقع خبراً فيحمِلُ ضميراً ، أو من ضمير ( تكون ) عند من يرى ذلك ، أي يكون يومُ نزولها عيداً نعظمه ، وإنما أُسند ذلك إلى المائدة لأن شرَفَ اليوم مستعار من شرفها ، وقيل : العيدُ السرورُ العائد ، ولذلك سمِّيَ يومُ العيد عيداً ، وقرىء ( تكن ) بالجزم على جواب الأمر كما في قوله : { فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِى } خلا أن قراءةَ الجزم هناك متواترة وهاهنا من الشواذ { لاِوَّلِنَا وَءاخِرِنَا } بدل من ( لنا ) بإعادة العامل ، أي عيداً لمتقدمينا ومتأخرينا . رُوي أنها نزلت يوم الأحد ، ولذلك اتخذه النصارى عيداً ، وقيل : للرؤساء منا والأتباع ، وقيل : يأكل منها أولُنا وآخرُنا ، وقرىء ( لأُولانا وأُخْرانا ) بمعنى الأمة والطائفة { وَءايَةٌ عطف على عيداً { مِنكَ } متعلق بمحذوف وهو صفة لآية ، أي كائنةً منك دالةً على كمال قدرتك وصحةِ نبوتي { وارزقنا } أي المائدة أو الشكر عليها { وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين } تذييلٌ جارٍ مَجْرى التعليل ، أي خيرُ من يرزق لأنه خالقُ الأرزاق ومعطيها بلا عِوَض ، وفي إقباله عليه السلام على الدعاء بتكرير النداء المُنْبىءِ عن كمال الضراعة والابتهال وزيادتِه ما لم يخطُرْ ببال السائلين من الأمور الداعية إلى الإجابة والقَبول دلالةٌ واضحةٌ على أنهم كانوا مؤمنين ، وأن سؤالهم كان لتحصيل الطمأنينة ، كما في قول إبراهيم عليه السلام .
{ قَالَ الله } استئناف كما سبق { إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ } ورودُ الإجابة منه تعالى بصيغة التفعيل المُنْبئة عن التكثير مع كون الدعاء منه عليه السلام بصيغة الإفعال لإظهار كمالِ اللطف والإحسان ، كما في قوله تعالى : { قُلِ الله يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ } الخ ، بعد قوله تعالى : { لَّئِنْ أنجانا مِنْ هذه } الخ ، مع ما فيه من مراعاة ما وقعَ في عبارة السائلين ، وفي تصدير الجملة بكلمة التحقيق وجعلِ خبرِها اسماً ، تحقيقٌ للوعد وإيذان بأنه تعالى منجزٌ له لا محالة من غير صارفٍ يَثنيه ولا مانعٍ يَلويه ، وإشعارٌ بالاستمرار أي إني منزلُ المائدة عليكم مراتٍ كثيرة ، وقرىء بالتخفيف ، وقيل : الإنزالُ والتنزيلُ بمعنى واحد { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ } أي بعد تنزيلها { مّنكُمْ } متعلق بمحذوفٍ وقع حالاً من فاعل ( يكفرْ ) { فَإِنّى أُعَذّبُهُ } بسبب كفره بعد معاينة هذه الآيةِ الباهرة { عَذَاباً } اسم مصدرٍ بمعنى التعذيب ، وقيل : مصدر بحذف الزوائد ، وانتصابه على المصدرية بالتقديرين المذكورين ، وجَوَّز أن يكون الفعل مفعولاً به على الاتساع ، وقوله تعالى : { لاَّ أُعَذّبُهُ } في محل النصب على أنه صفة لعذاباً ، والضمير له أي ( أعذبه ) تعذيباً لا أعذب مثل ذلك التعذيب { أَحَداً مّن العالمين } أي من عالَمِي زمانِهم أو من العالمين جميعاً ، قيل : لما سمعوا هذا الوعيد الشديد خافوا أن يكفر بعضُهم ، فاستعفَوْا وقالوا : لا نريدها فلم تنزِلْ ، وبه قال مجاهدٌ والحسن رحمهما الله : والصحيحُ الذي عليه جماهيرُ الأمة ومشاهيرُ الأئمة أنها قد نزلت .(2/317)
روي ( أنه عليه السلام لما دعا بما دعا وأُجيب بما أجيب ، إذا بسفْرةٍ حمراءَ نزلت بين غمامتين ، غمامةٌ من فوقها وغمامةٌ من تحتها ، وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم ، فبكى عيسى عليه الصلاة والسلام وقال : اللهم اجعلني من الشاكرين ، اللهم اجعلها رحمةً للعالمين ، ولا تجعلها مُثْلةً وعقوبة ، ثم قام وتوضأ وصلى وبكى ، ثم كشف المنديل وقال : بسم الله خيرِ الرازقين ، فإذا سَمَكةٌ مشوية بلا فلوس ولا شَوْك تسيل دسَماً ، وعند رأسها مِلْحٌ وعند ذنبها خَلٌّ ، وحولها من ألوان البقول ما خلا الكُرَّاثَ ، وإذا خمسةُ أرغفةٍ على واحد منها زيتونٌ ، وعلى الثاني عَسَلٌ ، وعلى الثالث سَمْنٌ ، وعلى الرابع جُبْنٌ ، وعلى الخامس قدَيدٌ ، فقال شمعونُ رأسُ الحواريين : يا روحَ الله أمن طعام الدنيا أو من طعام الآخرة؟ قال : ليس منهما ولكنه شيء اخترعه الله تعالى بالقُدرة العالية ، كلوا ما سألتم واشكروا يُمدِدْكم الله ويزِدْكم من فضله ، فقالوا : يا روحَ الله لو أَرَيتَنا من هذه الآية آيةً أخرى؟ فقال : يا سمكةُ احْيَيْ بإذنِ الله ، فاضطربت ، ثم قال لها : عُودي كما كنت ، فعادَتْ مشويةً ثم طارت المائدة ، ثم عَصَوا فمُسخوا قردةً وخنازيرَ ) .
وقيل : كانت تأتيهم أربعين يوماً غِباً ، يجتمع عليها الفقراء والأغنياء ، والصغار والكبار ، يأكلون حتى إذا فاء الفيء طارت وهم ينظرون في ظللها . ولم يأكل منها فقير إلا غَنِيَ مدةَ عُمُرِه ، ولا مريضٌ إلا برِىءَ ولم يمرَضْ أبداً ، ثم أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام : أنِ اجعلْ مائدتي في الفقراء والمرضَى دون الأغنياء والأصحاء ، فاضطرب الناسُ لذلك فمُسِخَ منهم من مُسِخَ ، فأصبحوا خنازيرَ يسعَوْن في الطرقات والكُناسات ، ويأكلون العَذِرة في الحُشوش ، فلما رأى الناس ذلك فزِعوا إلى عيسى عليه السلام وبكَوُا الممسوخين ، فلما أبصرت الخنازيرُ عيسى عليه السلام بكتْ وجعلت تطيف به ، وجعل يدعوهم بأسمائهم واحداً بعد واحد ، فيبكُون ويُشيرون برؤوسهم ، ولا يقدِرون على الكلام ، فعاشوا ثلاثةَ أيام ثم هلَكوا .(2/318)
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن عيسى عليه السلام قال لهم : صوموا ثلاثين يوماً ثم سَلوا الله ما شئتم يُعطِكم ، فصاموا فلما فرَغوا قالوا : إنا لو عمِلنا لأحدٍ فقضَيْنا عملَه لأطعَمَنا ، وسألوا الله تعالى المائدة ، فأقبلت الملائكةُ بمائدة يحمِلونها عليها سبعةُ أرغفةٍ وسبعةُ أحواتٍ ، حتى وضعتْها بين أيديهم ، فأكل منها آخِرُ الناس كما أكل منها أولُهم . قال كعب : نزلت منكوسةً تطير بها الملائكةُ بين السماء والأرض ، عليها كلُّ الطعام إلا اللحمَ . وقال قتادة : كان عليها ثمرٌ من ثمار الجنة . وقال عطيةُ العوفي : نزلت من السماء سمكةٌ فيها طعمُ كل شيء . وقال الكلبي ومقاتل : نزلت سمكةٌ وخمسةُ أرغفةٍ فأكلوا ما شاء الله تعالى والناس ألفٌ ونيِّفٌ ، فلما رجعوا إلى قُراهم ونشروا الحديث ضحِك من لم يشهَدْ وقالوا : ويحكم إنما سحَر أعينَكم ، فمن أراد الله به الخيرَ ثبّته على بصيرة ، ومن أراد فتنته رجَع إلى كفره ، فمُسخوا خنازيرَ ، فمكثوا كذلك ثلاثةَ أيام ثم هلكوا لم يتوالدوا ، ولم يأكُلوا ولم يشربوا ، وكذلك كلُّ ممسوخ .(2/319)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
{ وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ } معطوف على ( إذ قال الحواريون ) منصوب بما نَصَبه من المُضمر المخاطَبِ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، أو بمُضمر مستقلَ معطوفٍ على ذلك ، أي اذكُرْ للناس وقت قولِ الله عز وجل له عليه السلام في الآخرة توبيخاً للكَفَرة وتبكيتاً لهم ، فإقرارُه عليه السلام على رؤوس الأشهاد بالعبودية ، وأمرُه لهم بعبادته عز وجل ، وصيغة الماضي لما مرّ من الد2لالة على التحقّق والوقوع { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين } الاتخاذُ إما متعدَ إلى مفعولين ( فإلهين ) ثانيهما ، وإما إلى واحد فهو حال من المفعول ، وليس مدارُ أصل الكلامِ أن القول متيَقَّنٌ ، والاستفهامَ لتعيين القائل كما هو المتبادَرُ من إيلاء الهمزةَ المُبتدأ على الاستعمال الفاشي ، وعليه قوله تعالى : { قَالُواْ ءأَنْتَ فَعَلْتَ هذا } ونظائرُه ، بل على أن المتيقَّنَ هو الاتخاذُ والاستفهامُ لتعيين أنه بأمره عليه السلام ، أو من تلقاء أنفسهم كما في قوله تعالى : { أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَؤُلاَء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل } وقوله تعالى : { مِن دُونِ الله } متعلق بالاتخاذ ومحله النصب على أنه حال من فاعله ، أي متجاوزين الله ، أو بمحذوفٍ هو صفة لإلهين ، أي كائنيْن من دونه تعالى ، وأياً ما كان فالمرادُ اتخاذُهما بطريق إشراكهما به سبحانه كما في قوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا } وقولِه عز وجل : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله } إلى قوله سبحانه وتعالى : { عَمَّا يُشْرِكُونَ } إذْ به يتأتّى التوبيخُ ويتسنّى التقريعُ والتبكيت . ومَنْ توهم أن ذلك بطريق الاستقلال ، ثم اعتذر عنه بأن النصارى يعتقدون أن المعجزاتِ التي ظهرت على يد عيسى ومريمَ عليهما الصلاة والسلام لم يخلُقْها الله تعالى ، بل هما خلقاها فصح أنهم اتخذوهما في حق بعض الأشياء إلهين مستقلَّيْن ، ولم يتخذوه تعالى إلها في حق ذلك البعض ، فقد أبعد عن الحق بمراحِلَ ، وأما من تعمق فقال : إن عبادته تعالى مع عبادة غيره كلا عبادةٍ ، فمن عبده تعالى مع عبادتهما كأنه عبدهما ، ومن لم يعبُده تعالى فقد غفَل عما يُجْديه واشتغل بما لا يَعْنيه كدأب مَنْ قبلةَ ، فإن توبيخهم إنما يحصُل بما يعتقدونه ويعترفون به صريحاً ، لا بما يلزَمُه بضربٍ من التأويل ، وإظهارُ الاسم الجليل لكونه في حيِّز القولِ المُسند إلى عيسى عليه السلام .
{ قَالَ } استئناف مبنيٌّ على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل : فماذا يقول عيسى عليه السلام حينئذ؟ فقيل : يقول ، وإيثارُ صيغة الماضي لما مرّ مراراً { سبحانك } ( سبحان ) عَلمٌ للتسبيح ، وانتصابُه على المصدرية ، ولا يكاد يُذْكر ناصبُه ، وفيه من المبالغة في التنزيه من حيث الاشتقاق ، من السَّبْح الذي هو الذهاب والإبعادُ في الأرض ، ومن جهة النقل إلى صيغة التفعيل ، ومن جهة العدولِ من المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصةً ، المشيرِ إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن ، ومن جهة إقامته مُقام المصدر مع الفعل ما لا يخفى ، أي أنزهك تنزيهاً لائقاً بك من أن أقول ذلك أو من أن يقالَ في حقك ذلك ، وأما تقديرُ من أن يكونَ لك شريكٌ في الألوهية فلا يساعده سِياقُ النظم الكريم وسياقُه ، وقوله تعالى : { مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ } استئنافٌ مقرِّر للتنزيه ومبين للمُنَزَّه منه ، و ( ما ) عبارة عن القول المذكور ، أي ما يستقيم وما ينبغي لي أن أقول قولاً لا يحِقّ لي أن أقوله ، وإيثارُ ليس على الفعل المنفيِّ لظهور دلالتِه على استمرار انتفاءِ الحقية وإفادةِ التأكيد بما في حيزه من الباء ، فإن اسمه ضميرُه العائد إلى ( ما ) ، وخبرَه ( بحق ) والجار والمجرور فيما بينهما للتبيين كما في سُقياً لك أو نحوه .(2/320)
وقوله تعالى : { إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ } استئناف مقرِّرٌ لعدم صدور القولِ المذكور عنه عليه السلام بالطريق البرهاني ، فإن صدورَه عنه مستلزِمٌ لعلمه تعالى به قطعاً ، فحيثُ انتفى علمُه تعالى به انتفى صدورُه عنه حتماً ضرورةَ أن عدمَ اللازم مستلزِمٌ لعدم الملزوم { تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى } استئنافٌ جارٍ مجرى التعليل لما قبله كأنه قيل : لأنك تعلم ما أُخفيه في نفسي ، فكيف بما أُعلنُه؟ وقوله تعالى : { وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ } بيانٌ للواقع وإظهارٌ لقصوره ، أي ولا أعلم ما تُخفيه من معلوماتك ، وقوله : { فِى نَفْسِكَ } للمشاكلة . وقيل : المرادُ بالنفس هو الذاتُ ، ونسبةُ المعلومات إليها لما أنها مرجعُ الصفات التي من جملتها العلمُ المتعلِّقُ بها ، فلم يكن كنسبتها إلى الحقيقة . وقوله تعالى : { إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب } تعليلٌ لمضمون الجملتين منطوقاً ومفهوماً .(2/321)
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
وقوله تعالى : { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ } استئنافٌ مَسوقٌ لبيان ما صدر عنه قد أُدرج فيه عدمَ صدورِ القول المذكور عنه على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه ، حيثُ حكم بانتفاء صدور جميع الأقوالِ المغايِرَةِ للمأمور به ، فدخل فيه انفاءُ صدور القولِ المذكور دخولاً أولياً ، أي ما أمرتُهم إلا بما أمرتني به ، وإنما قيل : ( ما قلت لهم ) نزولاً على قضية حسن الأدب ، ومراعاةً لما ورد في الاستفهام . وقوله تعالى : { أَنِ اعبدوا الله رَبّى وَرَبَّكُمْ } تفسيرٌ للمأمور به ، وقيل : عطفُ بيانٍ للضمير في به ، وقيل : بدلٌ منه ، وليس من شرط البدل جوازُ طرحِ المُبْدَل منه مُطلقاً ليلزَمَ بقاءُ الموصول بلا عائد ، وقيل : خبرُ مُضمرٍ أو مفعولُه مثلُ هو أو أعني . { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } رقيباً أراعي أحوالهم وأحمِلُهم على العمل بموجب أمرك ، وأمنعهم عن المخالفة ، أو مشاهداً لأحوالهم من كفر وإيمان { مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } ما مصدرية ظرفية تقدَّر بمصدرٍ مضافٍ إليه زمانٌ ، ودمت صلتها ، أي كنت شهيداً عليهم مدة دوامي فيما بينهم { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى } بالرفع إلى السماء كما في قوله تعالى : { إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ } فإن التوفيَ أخذُ الشيء وافياً ، والموتُ نوع منه ، قال تعالى : { الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا } { كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } لا غيرَك ، ( فأنت ) ضميرُ الفصل أو تأكيدٌ ، وقرىء ( الرقيبُ ) بالرفع على أنه خبرُ ( أنت ) والجملة خبرٌ لكان وعليهم متعلق به ، أي أنت كنت الحافظَ لأعمالهم والمراقبَ فمنعتَ من أردت عِصْمتَه عن المخالفة ، بالإرشاد إلى الدلائل والتنبيه عليها ، بإرسال الرسل وإنزال الآياتِ ، وخذَلْتَ من خذلتَ من الضالين فقالوا ما قالوا { وَأَنتَ على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبله ، فيه إيذانٌ بأنه تعالى كان هو الشهيدَ على الكل حين كونِه عليه السلام فيما بينهم ، و ( على ) متعلقةٌ بشهيد ، والتقديم لمراعاة الفاصلة .(2/322)
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
{ إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } وقد استحقوا ذلك حيث عبدوا غيرك { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز } أي القويُّ القادر على جميع المقدورات ، ومن جملتها الثوابُ والعقاب { الحكيم } الذي لا يُريد ولا يفعل إلا ما فيه حكمةٌ ومصلحة ، فإن المغفرة مستحسَنة لكل مجرم ، فإن عذّبت فعدلٌ ، وإن غفرت ففَضْلٌ ، وعدمُ غفرانِ الشرك إنما هو بمقتضى الوعيد ، فلا امتناعَ فيه لذاته ليمنعَ الترديدُ بالنسبة إلى فرقتين ، والمعنى إن تعذبْهم أي مَنْ كفر منهم ، وإن تغفرْ لهم أي من آمن منهم .
{ قَالَ الله } كلامٌ مستأنَفٌ خَتَم به حكايةَ ما حُكيَ ، مما يقعُ يوم يجمع الله الرسلَ عليهم الصلاة والسلام ، وأُشير إلى نتيجته ومآله ، أي يقول الله تعالى يومئذ عَقيبَ جواب عيسى عليه السلام ، مشيراً إلى صدقه في ضمن بيان حال الصادقين الذين هو في زمرتهم ، وصيغةُ الماضي لما مرَّ في نظائره مراراً ، وقوله تعالى : { هذا } إشارة إلى ذلك اليوم ، وهو مبتدأ خبرُه ما بعده ، أي هذا اليوم الذي حُكيَ بعضُ ما يقع فيه إجمالاً وبعضُه تفصيلاً { يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين } بالرفع والإضافة ، والمراد بالصادقين كما ينبىء عنه الاسم ، المستمرّون في الدارين على الصدق في الأمور الدينية التي معظمُها التوحيدُ الذي نحن بصدده ، والشرائعُ والأحكام المتعلقة به من الرسل الناطقين بالحق والصدق الداعين إلى ذلك ، وبه تحصُل الشهادةُ بصِدْق عيسى عليه السلام ، ومن الأمم المصدِّقين لهم المقتدين بهم عقداً وعملاً ، وبه يتحقق المقصودُ بالحكاية من ترغيب السامعين في الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم لا كلِّ من صدَقَ في أي شيء كان ، ضرورةَ أن الجانِيَ المعترِفَ في الدنيا بجِنايته لا ينفعُه يومئذ اعترافُه وصِدْقُه { صِدْقُهُمْ } أي صدقهم فيما ذُكر من أمور الدين في الدنيا ، إذ هو المستتبِعُ للنفع يومئذ ، واعتبارُ استمراره في الدارين مع أنه لا حاجة إليه كما عرفت ، ولا دخل له في استتباع النفع والجزاء مما لا وجه له ، وهذه القراءةُ هي التي أطبق عليها الجمهورُ وهي الأليق بسياق النظم الكريم وسباقِه ، وقد قرىء ( يومَ ) بالنصب إما على أنه ظرف لقال ، فهذا حينئذ إشارةٌ إلى قوله تعالى : { قُلتَ لِلنَّاسِ } الخ ، وإما على أنه خبرٌ لهذا ، فهو حينئذ إشارة إلى جواب عيسى عليه السلام ، أي هذا الجواب منه عليه السلام واقعٌ يوم ينفع الخ ، أو إلى السؤال والجواب معاً ، وقيل : هو خبر ولكنه بني على الفتح ، وليس بصحيح عند البصريين لأنه مضافٌ إلى متمكنَ ، وقرىء ( يومٌ ) بالرفع والتنوين كقوله تعالى : { واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِى } الآية .
{ لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا أَبَداً } استئناف مَسوقٌ لبيان النفع المذكور كأنه قيل : ما لهم من النفع؟ فقيل : لهم نعيمٌ دائم وثوابٌ خالد ، وقوله تعالى : { رَّضِىَ الله عَنْهُمْ } استئنافٌ آخرُ لبيان أنه عز وجل أفاض عليهم غيرَ ما ذُكر من الجنات ما لا قدْرَ لها عنده ، وهو رضوانُه الذي لا غايةَ وراءَه كما ينبىء عنه قوله تعالى : { وَرَضُواْ عَنْهُ } إذ لا شيء أعزُّ منه حتى يمتدَّ إليه أعناقُ الهمم { وذلك } إشارةٌ إلى نيل رضوانه تعالى ، وقيل : إلى نيل الكل { الفوز العظيم } لما أن عِظَمَ شأنِ الفوز تابعٌ لعِظَم شأن المطلوب الذي تعلّق به الفوز . وقد عرفت ألا مطلبَ وراء ذلك أصلاً .(2/323)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
وقوله تعالى : { للَّهِ مُلْكُ السموات والارض وَمَا فِيهِنَّ } تحقيقٌ للحق وتنبيهٌ على كذِب النصارى وفسادِ ما زعَموا في حق المسيحِ وأمِّه ، أي له تعالى خاصةً مُلك السمواتِ والأرض وما فيهما من العقلاء وغيرِهم ، يتصرَّفُ فيها كيف يشاء ، إيجاداً وإعداماً ، إحياءً وإماتة ، وأمراً ونهياً ، من غير أن يكون لشيء من الأشياء مدخلٌ في ذلك ، وفي إيثار ( ما ) على ( من ) المختصة بالعقلاء على تقدير تناولها للكل ، مراعاةٌ للأصل وإشارةٌ إلى تساوي الفريقين في استحالة الربوبية حسَب تساويهما في تحقُّق المربوبية ، وعلى تقدير اختصاصِها بغير العقلاء تنبيهٌ على كمال قصورهم عن رتبة الألوهية ، وإهابةٌ بهم بتغليب غيرِهم عليهم { وَهُوَ على كُلّ شَىْء } من الأشياء { قَدِيرٌ } مبالِغٌ في القدرة . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ سورة المائدة أُعطِيَ من الأجر عشرَ حسنات ، ومُحيَ عنه عشرُ سيئات ، ورُفع له عشرُ درجات ، بعدد كل يهوديَ ونصرانيَ يتنفس في الدنيا »(2/324)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
( سورة الأنعام )
( مكية غير ست آيات أو ثلاث من قوله تعالى { قُل تَعالُوا أَتلُ } . وهى مائة وخمس وستون آية ) .
{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم } { الحمد للَّهِ } تعليقُ الحمد المعرَّفِ بلام الحقيقة أولاً باسم الذات عليه يدور كافةُ ما يوجبه من صفات الكمال ، وإليه يؤُول جميعُ نعوتِ الجلال والجمال ، للإيذان بأنه عز وجل هو المستحِقُّ له بذاته ، لما مر من اقتضاء اختصاصِ الحقيقة به سبحانه ، لاقتصار جميعِ أفرادِها عليه بالطريق البرهاني ، ووصفه تعالى ثانياً بما يُنْبىء عن تفصيل بعض موجِباته المنتظمةِ في سلك الإجمالِ من عظائم الآثارِ وجلائلِ الأفعال ، من قوله عز وجل : { الذى خَلَقَ السموات والارض } للتنبيه على استحقاقه تعالى له واستقلالِه به باعتبار أفعالِه العِظام ، وآلائِه الجِسام أيضاً . وتخصيصُ خلقِهما بالذكر لاشتمالهما على جملة الآثار العُلوية والسُفلية وعامةِ الآلاءِ الجليةِ والخفية ، التي أجلُها نعمةُ الوجودِ الكافية في إيجاب حمدِه تعالى على كل موجود ، فكيف بما يتفرَّع عليها من فنون النعم الأنفسية والآفاقية ، المنوطِ بها مصالحُ العباد في المعاش والمعاد؟ أي أنشأهما على ما هما عليه من النّمط الفائِق والطراز الرائق ، منطويَتَيْن من أنواع البدائعِ وأصنافِ الروائع على ما تتحيَّر فيه العقولُ والأفكار ، من تعاجيب العبر والآثار ، تبصرةً وذكرى لأولي الأبصار . وجمعُ السموات لظهور تعدّدِ طبقاتِها واختلاف آثارها وحركاتِها ، وتقديمُها لشرفها وعلوِّ مكانها وتقدُّمها وجوداً على الأرض كما هي .
{ وَجَعَلَ الظلمات والنور } عطْفٌ على ( خَلَق ) مترتب عليه لكون جعلهما مسبوقاً بخلق مَنْشَئِهما ومحلِّهما ، داخلٌ معه في حكم الإشعار بعِلَّة الحمد ، فكما أن خلقَ السموات والأرضِ وما بينهما لكونه أثراً عظيماً ونعمةً جليلة موجبٌ لاختصاص الحمد بخالقهما جل وعلا ، كذلك جعلُ الظلماتِ والنور لكونه أمراً خطيراً ونعمةً عظيمةً مقتضٍ لاختصاصه بجاعلهما ، والجعلُ هو الإنشاءُ والإبداع كالخلق ، خلا أن ذلك مختصٌّ بالإنشاء التكوينيِّ ، وفيه معنى التقدير والتسوية ، وهذا عام له كما في الآية الكريمة ، والتشريعيَّ أيضا كما في قوله تعالى : { مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ } الآية . وأياً ما كان فهو إنباءٌ عن ملابسةِ مفعولِه بشيءٍ آخرَ بأن يكونَ فيه ، أوْ له ، أوْ منه ، أو نحوُ ذلك ، ملابسةٌ مصحِّحةٌ لأن يتوسَّطَ بينهما شيءٌ من الظروف لغواً كان أو مستقراً ، لكن لا على أن يكونَ عُمدةً في الكلام بل قيداً فيه ، كما في قوله عز وجل : { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } وقوله تعالى : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ } وقوله تعالى : { واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } الآية ، فإن كل واحد من هذه الظروف ، إما متعلقٌ بنفس الجعل أو بمحذوفٍ وقع حالاً من مفعولِه تقدّمت عليه لكونه نكرة ، وأياً ما كان فهو قيدٌ في الكلام حتى إذا اقتضى الحالُ وقوعَه عمدةً فيه يكون الجعلُ متعدياً إلى اثنين هو ثانيهما ، كما في قوله تعالى :(2/325)
{ يَجْعَلُونَ أصابعهم فِى ءاذَانِهِم } وربما يَشتبِهُ الأمرُ فيُظن أنه عمدةٌ فيه ، وهو في الحقيقة قيدٌ بأحد الوجهين كما سلف في قوله تعالى : { إِنّي جَاعِلٌ فِى الارض خَلِيفَةً } حيث قيل : إن الظرف مفعولٌ ثان لجاعل ، وقد أشير هناك إلى أن الذي يقضي به الذوق السليم وتقتضيه جزالةُ النظم الكريم ، أنه متعلقٌ بجاعل أو بمحذوفٍ وقع حالاً من المفعول ، وأن المفعولَ الثانيَ هو خليفة ، وأن الأول محذوف على ما مر تفصيله . وجمعُ الظلمات لظهور كثرةِ أسبابها ومَحالِّها عند الناس ، ومشاهدتهم لها على التفصيل ، وتقديمُها على النور لتقدم الإعدام على المَلَكات مع ما فيه من رعاية حسن المقابلة بين القرينتين ، وقوله تعالى : { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ } معطوفٌ على الجملة السابقة الناطقةِ بما مر من موجبات اختصاصِه تعالى بالحمد ، المستدعي لاقتصار العبادة عليه ، كما حُقِّق في تفسير الفاتحة الكريمة ، مَسوقٌ لإنكار ما عليه الكفرة واستبعادِه من مخالفتهم لمضمونها واجترائِهم على ما تقضي ببُطلانه بديهةُ العقول . والمعنى أنه تعالى مختصٌّ باستحقاق الحمدِ والعبادةِ باعتبار ذاتِه وباعتبار ما فصَّل من شؤونه العظيمة الخاصة به ، الموجبة لقصر الحمد والعبادة عليه ، ثم هؤلاء الكفرةُ لا يعملون بموجبه ويعدِلون به سبحانه ، أي يسوُّون به غيره في العبادة التي هي أقصى غايات الشكر الذي رأسُه الحمدُ ، مع كونِ كلِّ ما سواه مخلوقاً له غيرَ متّصفٍ بشيء من مبادىء الحمد ، وكلمة ( ثم ) لاستبعاد الشرك بعد وضوحِ ما ذُكر من الآيات التكوينية القاضية ببطلانه ، لا بعد بيانِه بالآياتِ التنزيلية ، والموصولُ عبارةٌ عن طائفةِ الكفار جارٍ مَجرى الاسمِ لهم ، من غير أن يُجعلَ كفرُهم بما يجب أن يُؤْمَنَ به كلاًّ أو بعضاً عنواناً للموضوع ، فإن ذلك مُخِلٌّ باستبعاد ما أُسند إليهم من الإشراك ، والباء متعلقة بيعدلون ، ووضعُ الربِّ موضعَ ضميرِه تعالى لزيادة التشنيع والتقبيح ، والتقديم لمزيد الاهتمامِ والمسارعةِ إلى تحقيق مدارِ الإنكار والاستبعادِ ، والمحافظةِ على الفواصل ، وتركُ المفعولِ لظهوره أو لتوجيه الإنكار إلى نفس الفعل بتنزيله منزلةَ اللازم ، إيذاناً بأنه المدارُ في الاستبعاد والاستنكار لا خصوصيةُ المفعول ، هذا هو الحقيقُ بجزالة التنزيل والخليقُ بفخامة شأنه الجليل . وأما جعلُ الباء صلةً لكفروا على أنّ ( يعدلون ) من العدول ، والمعنى أن الله تعالى حقيقٌ بالحمد على ما خلقه نعمةً على العباد ، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمتَه فيردّه أن كفرهم به تعالى لا سيما باعتبار ربوبيته تعالى لهم ، أشدُّ شناعةً وأعظمُ جنايةً من عدولهم عن حمده عز وجل لتحققه ، مع إغفاله أيضاً ، فجعلُ أهون الشرَّيْن عمدةً في الكلام مقصودُ الإفادة ، وإخراجُ أعظمِهما مُخرجَ القيدِ المفروغِ عنه مما لا عهدَ له في الكلام السديد ، فكيف بالنظم التنزيلي؟ هذا وقد قيل : إنه معطوف على ( خلَقَ السموات ) والمعنى أنه تعالى خلق ما خلق مما لا يقدِر عليه أحدٌ سواه ، ثم هم يعدلون به سبحانه ما لا يقدِر على شيءٍ منه ، لكن لا على قصد أنه صلةٌ مستقلة ليكونَ بمنزلة أن يقالَ : الحمدُ لله الذي عدَلوا به ، بل على أنه داخلٌ تحت الصلة بحيث يكون الكلُّ صلةً واحدة ، كأنه قيل : الحمد لله الذي كان منه تلك النعمُ العظامُ ، ثم من الكفرة الكفّرُ ، وأنت خبير بأن ما ينتظِمُ في سلك الصلة المنبئةِ عن موجبات حمده عز وجل حقُّه أن يكون له دخلٌ في ذلك الإنباء ولو في الجملة ، ولا ريب في أن كفرهم بمعزلٍ منه ، وادعاءُ أن له دَخْلاً فيه لدلالته على كمال الجود ، كأنه قيل : الحمد لله الذي أنعم بمثل هذه النعمِ العِظام على من لا يحمَده ، تعسّفٌ لا يساعده النظام ، وتعكيسٌ يأباه المقام ، كيف لا ومَساقُ النظم الكريم كما تُفصِحُ عنه الآياتُ الآتية تشنيعُ الكفرة وتوبيخُهم ببيانِ غايةِ إساءتِهم مع نهاية إحسانه تعالى إليهم ، لا بيانِ نهايةِ إحسانِه تعالى إليهم مع غاية إساءتهم في حقه تعالى ، كما يقتضيه الادعاءُ المذكور ، وبهذا اتضح أنه لا سبيلَ إلى جعل المعطوف من روادف المعطوف عليه ، لما أن حقَّ الصلة أن تكون غيرَ مقصودةِ الإفادة ، فما ظنُّك بما هو من روادفها؟ وقد عرفت أن المعطوف هو الذي سيق له الكلام فتأمل وكن على الحق المبين .(2/326)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
{ هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ } استئنافٌ مَسوقٌ لبيان بطلان كفرهم بالبعث ، مع مشاهدتهم لما يوجب الإيمانَ به إثرَ بيانِ بطلانِ إشراكِهم به تعالى ، مع معاينتهم لموجِبات توحيدِه ، وتخصيصُ خلقِهم بالذكر من بين سائر دلائل صِحةِ البعث ، مع أن ما ذُكر من خلق السموات والأرض من أوضحها وأظهرها ، كما ورد في قوله تعالى : { أَوَلَيْسَ الذى خَلَقَ *** السموات والارض **بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } لما أن ملحَ النزاعِ بعثُهم ، فدلالةُ بدءِ خلقِهم على ذلك أظهرُ وهم بشؤون أنفسهم أعرفُ ، والتعامي عن الحجة النيِّرة أقبح ، والالتفاتُ لمزيد التشنيع والتوبيخ ، أي ابتدأ خلقَكم منه ، فإنه المادة الأولى للكل لما أنه منشأ آدمَ عليه السلام ، وهو المخلوقُ منه حقيقةً بأن يقال : هو الذي خلق أباكم الخ ، مع كفاية علمهم بخلقه عليه السلام منه في إيجاب الإيمانِ بالبعثِ وبطلانِ الامتراءِ لتوضيحِ منهاجِ القياس ، وللمبالغة في إزاحةِ الاشتباه والالتباس ، مع ما فيه من تحقيق الحق والتنبيه على حكمةٍ خفية هي أن كل فردٍ من أفراد البشر له حظٌّ من إنشائه عليه السلام منه ، حيث لم تكن فطرتُه البديعة مقصورةً على نفسه بل كانت أُنموذَجاً منطوياً على فطرة سائرِ آحادِ الجنس انطواءً إجمالياً مستتبِعاً لجَرَيان آثارِها على الكل ، فكأن خلقَه عليه السلام من الطين خلقٌ لكل أحد من فروعه منه ، ولما كان خلقُه على هذا النمط الساري إلى جميع أفراد ذريتِه أبدعَ من أن يكون ذلك مقصوراً على نفسه كما هو المفهومُ من نسبة الخلق المذكورِ إليه وأدلَّ على عِظَم قُدرة الخلاق العليم وكمالِ علمِه وحكمتِه وكان ابتداءُ حال المخاطَبين أولى بأن يكون معياراً لانتهائها فَعلَ ما فعل ، ولله درُ شأن التنزيل ، وعلى هذا السرِّ مدارُ قوله تعالى : { وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم } الخ ، وقوله تعالى : { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } كما سيأتي ، وقيل : المعنى خلق أباكم منه على حذف المضاف . وقيل : المعنى خلقهم من النطفة الحاصلةِ من الأغذية المتكوِّنة من الأرض ، وأياً ما كان ففيه من وضوح الدلالة على كمال قدرتِه تعالى على البعث ما لا يخفى ، فإن من قدَرَ على إحياء ما لم يشَمَّ رائحةَ الحياة قط كان على إحياءِ ما قارنها مدةً أظهرَ قدرة .
{ ثُمَّ قَضَى } أي كتب لموتِ كلِّ واحد منكم { أَجَلاً } خاصاً به أي حداً معيناً من الزمان يفنى عند حلولِه لا محالة ، وكلمةُ ( ثم ) للإيذان بتفاوتِ ما بين خلقِهم وبين تقديرِ آجالِهم حسبما تقتضيه الحِكَم البالغة { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } أي حدٌّ معينٌ لبعثكم جميعاً وهو مبتدأ لتخصُّصه بالصفة كما في قوله تعالى : { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ } ولوقوعِه في موقع التفصيل كما في قول من قال :
إذا ما بكَى مِنْ خلفِها انصرَفَتْ له ... بشِقَ وشقٌ عنْدنا لم يُحَوَّلِ(2/327)
وتنوينُه لتفخيم شأنه وتهويلِ أمره ، ولذلك أُوثر تقديمُه على الخبر الذي هو { عِندَهُ } مع أن الشائعَ المستفيضَ هو التأخير كما في قولك : عندي كلامٌ حقٌّ ولي كتابٌ نفيسٌ كأنه قيل : وأيُّ أجلٍ مسمى مُثْبتٍ معينٍ في علمه لا يتغيرُ ولا يقفُ على وقت حلولِه أحدٌ لا مجملاً ولا مفصّلاً ، وأما أجلُ الموت فمعلومٌ إجمالاً وتقريباً بناءً على ظهور أَماراتِه أو على ما هو المعتادُ في أعمار الإنسان ، وتسميتُه أجلاً إنما هي باعتبار كونِه غايةً لمدة لُبْثهم في القبور ، لا باعتبار كونِه مبدأً لمدةِ القيامة ، كما أن مدار التسمية في الأجل الأول هو كونُه آخِرُ مدة الحياةَ لا كونُه أولِ مدةِ الممات لِما أن الأجلَ في اللغة عبارةٌ عن آخِرِ المدة لا عن أولها ، وقيل : الأجلُ الأول ما بين الحياة والموت ، والثاني ما بين الموت والبعث من البرزخ ، فإن الأجل كما يُطلق على آخِرِ المدة يُطلق على كلِّها وهو الأوفق ، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( أن الله تعالى قضى لكل أحدٍ أجلين : أجلاً من مولده إلى موته ، وأجلاً من موته إلى مبعثه ، فإن كان بَرّاً تقياً وَصولاً للرحِم زيد له من أجل البعث في أجَل العمر ، وإن كان فاجراً قاطعاً نُقِصَ من أجل العُمُر وزيد في أجل البعث ، وذلك قوله تعالى : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كتاب } فمعنى عدمِ تغييرِ الأجل حينئذ عدمُ تغيُّر آخره ، والأولُ هو الأشهرُ الأليقُ بتفخيم الأجل الثاني المنوطِ باختصاصه بعلمه تعالى ، والأنسبُ بتهويله المبنيِّ على مقارنته للطامّة الكبرى ، فإن كونَ بعضِه معلوماً للخلق ومُضِيِّه من غير أن يقعَ فيه شيءٌ من الدواهي كما يستلزمه الحملُ على المعنى الثاني مُخِلٌّ بذلك قطعاً ، ومعنى زيادةِ الأجل ونقصِه فيما رُوي تأخيرُ الأجل الأول وتقديمُه .
{ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } استبعادٌ واستنكارٌ لامترائهم في البعث بعد معاينتهم لما ذُكر من الحُجج الباهرة الدالةِ عليه ، أي تمترون في وقوعه وتحقّقِه في نفسه مع مشاهدتكم في أنفسِكم من الشواهدِ ما يقطع مادةَ الامتراءِ بالكلية ، فإن مَنْ قدَر على إفاضة الحياة وما يتفرَّع عليها من العلم والقدرة وسائِرِ الكمالاتِ البشرية على مادةٍ غيرِ مستعدّةٍ لشيء منها أصلاً كان أوضحَ اقتداراً على إفاضتها على مادةٍ قد استعدت لها وقارنَتْها مدةً ، ومن هاهنا تبين أن ما قيل من أن الأجلَ الأولَ هو النومُ والثانيَ هو الموتُ أو أن الأول أجلُ الباقين أو أن الأول مقدارُ ما مضى من عُمُر كلِّ أحدٍ والثانيَ مقدارُ ما بقِيَ منه مما لا وجهَ له أصلاً ، لما رأيتَ مِنْ أن مَساقَ النظم الكريم استبعادُ امترائهم في البعث الذي عبَّر عن وقته بالأجل المسمّى ، فحيثُ أُريد به أحدُ ما ذُكر من الأمور الثلاثة ففي أيِّ شيء يمترون؟ ووصْفُهم بالامتراء الذي هو الشكُّ ، وتوجيهُ الاستبعاد إليه مع أنهم جازمون بانتفاءِ البعث مُصِرّون على إنكاره كما يُنْبىء عنه قولُهم : { أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ } ونظائرُه للدلالة على أن جزمَهم المذكورَ في أقصى مراتبِ الاستبعاد والاستنكار .(2/328)
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
وقوله تعالى : { وَهُوَ الله } جملةٌ من مبتدأ وخبر ، معطوفةٌ على ما قبلها مَسوقةٌ لبيان شُمولِ أحكام إلاهيّته تعالى لجميع المخلوقات وإحاطةِ علمِه بتفاصيلِ أحوال العباد وأعمالِهم المؤديةِ إلى الجزاء إثرَ الإشارةِ إلى تحقّق المعادِ في تضاعيفِ بيانِ كيفية خلْقِهم وتقديرِ آجالِهم ، وقوله تعالى : { فِي السموات وَفِى الارض } متعلقٌ بالمعنى الوصفيِّ الذي يُنبىء عنه الاسم الجليل ، إما باعتبار أصلِ اشتقاقِه وكونِه علماً للمعبودِ بالحق كأنه قيل : وهو المعبودُ فيهما ، وإما باعتبار أنه اسمٌ اشتهر بما اشتهرَتْ به الذاتُ من صفات الكمال فلوحظ معه منها ما يقتضيه المقامُ من المالكية الكليةِ والتصرُّفِ الكامل حسبما تقتضيه المشيئةُ المبنيَّةُ على الحِكَم البالغة ، فعُلّق به الظرفُ من تلك الحيثية فصار كأنه قيل : وهو المالكُ أو المتصرفُ المدبِّرُ فيهما كما في قوله تعالى : { وَهُوَ الذى فِى السماء إله وَفِى الارض إله } وليس المراد بما ذُكر من الاعتبارَيْن أن الاسمَ الجليلَ يُحملُ على معناه اللغويِّ أو على معنى المالك أو المتصرِّف أو نحوِ ذلك ، بل مجردُ ملاحظة أحدِ المعاني المذكورة في ضمنه كما لوحظ معَ اسْم الأسد في قوله : ( أسدٌ عليَّ ) الخ ، ما اشتهرَ به من وصف الجَراءة التي اشتهر بها مُسمَّاه ، فجَرى مَجرى جريءٌ عليَّ ، وبهذا تبين أن ما قيل بصدد التصوير والتفسير أي هو المعروفُ بذلك في السموات وفي الأرض ، أو هو المعروفُ المشتهرُ بالصفات الكمالية ، بالإلهية فيهما أو نحوُ ذلك بمعزلٍ من التحقيق ، فإن المعتبرَ مع الاسم هو نفسُ الوصف الذي اشتهر به ، إذ هو الذي يقتضيه المقامُ حسبما بيّن آنفاً لاشتهاره به . ألا يُرى أن كلمة ( عليّ ) في المثال المذكور لا يمكن تعليقُها باشتهار الاسم بالجَراءة قطعاً ، وقيل : هو متعلق بما يفيده التركيبُ الحَصْريُّ من التوحّد والتفرّد كأنه قيل : وهو المتوحِّدُ بالإلهية فيهما ، وقيل : بما تقرر عند الكل من إطلاق هذا الاسم عليه خاصة كأنه قيل : وهو الذي يقال له : الله فيهما لا يُشرك به شيءٌ في هذا الاسم على الوجه الذي سبق ، من اعتبار معنى التوحّد أو القول في فحوى الكلام بطريق الاستتباع ، لا على حمل الاسم الجليل على معنى المتوحِّد بالإلهية ، أو على تقدير القول . وقد جوَّز أن يكون الظرفُ خبراً ثانياً على أن كونَه سبحانه فيهما عبارةٌ عن كونه تعالى مبالِغاً في العلم بما فيهما بناءً على تنزيل علمِه المقدس عن حصول الصور والأشباح لكونه حضورياً منزلةَ كونِه تعالى فيهما ، وتصويرُه به على طريقة التمثيل المبنيِّ على تشبيه حالةِ علمه تعالى بما فيهما بحالة كونه تعالى فيهما ، فإن العالَم إذا كان في مكانٍ كان عالِماً به وبما فيه على وجهٍ لا يخفى عليه منه شيء فعلى هذا يكون قولُه عز وجل .(2/329)
{ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } أي ما أسرَرْتُموه وما جهرتم به من الأقوال أو ما أسررتموه وما أعلنتموه كائناً ما كان من الأقوال والأعمال بياناً وتقريراً لمضمونه وتحقيقاً للمعنى المراد منه ، وتعليقُ علمِه عز وجل بما ذُكر خاصةً مع شموله لجميع ما فيهما حسبما تفيدُه الجملةُ السابقة لانسياق النظمِ الكريم إلى بيان حال المخاطبين وكذا على الوجه الثاني فإن ملاحظةَ الاسم الجليلِ من حيث المالكيةُ الكلية والتصرفُ الكاملُ الجاري على النمط المذكور مستتبعةٌ لملاحظة علمِه المحيطِ حتماً ، فيكونُ هذا بياناً وتقريراً له بلا ريب ، وأما على الأوجه الثلاثة الباقية فلا سبيل إلى كونه بياناً ، لكن لا لما قيل من أنه لا دلالةَ لاستواء السرِّ والجهر في علمه تعالى على ما اعتُبر فيهما من المعبودية والاختصاص بهذا الاسم ، إذ ربما يُعبد ويُختصّ به من ليس له كمالُ العلم فإنه باطل قطعاً ، إذ المراد بما ذكره هو المعبوديةُ بالحق والاختصاصُ بالاسم الجليل ، لا ريبَ في أنهما مما لا يتصور فيمن ليس له كمالُ العلم بديهةً ، بل لأن ما ذُكر من العلم غيرُ معتبرٍ في مدلول شيءٍ من المعبودية بالحق والاختصاصِ بالاسم حتى يكونَ هذا بياناً له ، وبهذا تبين أنه ليس ببيانٍ على الوجه الثالث أيضاً ، لما أن التوحدَ بالإلهية لا يُعتبر في مفهومه العلمَ الكاملَ ليكون هذا بياناً له ، بل هو معتبرٌ فيما صدَق عليه المتوحِّد وذلك غيرُ كاف في البيانية . وقيل : هو خبر بعد خبر عند من يجوِّز كونَ الخبر الثاني جملةً كما في قوله تعالى : { فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى } وقيل : هو الخبر ، والاسمُ الجليل بدلٌ من ( هو ) ، وبه يتعلق الظرف المتقدم ، ويكفي في ذلك كونُ المعلوم فيهما كما في قولك : رميتُ الصيدَ في الحرَم ، إذا كان هو فيه وأنت في خارجَه ، ولعل جعْلَ سرهم وجهرهم فيهما لتوسيع الدائرة وتصويرِ أنه لا يعزُب عن علمه شيءٌ منهما في أي مكان كان ، لا لأنهما قد يكونان في السموات أيضاً ، وتعميمُ الخطاب لأهلها تعسُّفٌ لا يخفى .
{ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } أي ما تفعلونه لجلب نفعٍ أو دفعِ ضرَ من الأعمال المكتسَبةِ بالقلوب أو بالجوارح سراً أو علانية ، وتخصيصُها بالذكر مع اندراجها فيما سبق على التفسير الثاني للسر والجهر لإظهار كمال الاعتناء بها ، لأنها التي يتعلق بها الجزاءُ وهو السرُّ في إعادة يعلم .(2/330)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)
{ وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايات رَبّهِمْ } كلام مستأنَفٌ واردٌ لبيان كفرهم بآيات الله وإعراضِهم عنها بالكلية بعد ما بيّن في الآية الأولى إشراكَهم بالله سبحانه وإعراضَهم عن بعض آيات التوحيد ، وفي الآية الثانية امتراءَهم في البعث وإعراضَهم عن بعض آياته . والالتفاتُ للإشعار بأن ذكْرَ قبائحِهم قد اقتضى أن يضرِبَ عنهم الخطابَ صفحاً ، وتعددُ جناياتهم لغيرهم ذماً لهم وتقبيحاً لحالهم ، فما نافية ، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية ، أو للدلالة على الاستمرار التجدُّديّ ، و ( مِنْ ) الأولى مزيدة للاستغراق ، والثانيةُ تبعيضيةٌ واقعةٌ مع مجرورها صفةً لآية ، وإضافةُ الآيات إلى اسم اربِّ المضافِ إلى ضميرهم لتفخيم شأنها المستتْبِعِ لتهويل ما اجترأوا عليه في حقها . والمراد بها إما الآياتُ التنزيليةُ فإتيانُها نزولُها ، والمعنى ما ينزِلُ إليهم آيةٌ من الآيات القرآنية التي من جملتها هاتيك الآياتُ الناطقةُ بما فُصِّل من بدائعِ صنعِ الله عز وجل المُنْبئةِ عن جَرَيان أحكام ألوهيتِه تعالى على كافة الكائنات ، وإحاطةِ علمه بجميع أحوالِ الخلقِ وأعمالهم الموجبةِ للإقبال عليها والإيمانِ بها { إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } أي على وجه التكذيبِ والاستهزاء كما ستقف عليه ، وأما الآياتُ التكوينيةُ الشاملةُ للمعجزات وغيرِها من تعاجيب المصنوعاتِ فإتيانُها ظهورُها لهم .
والمعنى ما يظهر لهم آيةٌ من الآيات التكوينية التي من جملتها ما ذُكر من جلائِلِ شؤونه تعالى الشاهدةِ بوحدانيته إلا كانوا عنها معرضين تاركين للنظر الصحيحِ فيها . المؤدِّي إلى الإيمان بمُكوِّنها ، وإيثارُه على أن يقال : إلا أعرضوا عنها كما وقع مثلُه في قوله تعالى : { وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } للدَلالة على استمرارهم على الإعراض حسَبَ استمرارِ إتيانِ الآيات ، و ( عن ) متعلقةٌ ( بمعرضين ) قُدِّمت عليه مراعاةً للفواصل ، والجملة في محل النصب على أنها حال من مفعول تأتي أو من فاعلِه المتخصِّصِ بالوصف لاشتمالها على ضمير كا منهما . وأياً ما كان ففيها دلالة بينةٌ على كمال مسارعتهم إلى الإعراض ، وإيقاعِها له في آنِ الإتيان كما يُفصح عنه كلمةُ ( لما ) في قوله تعالى : { فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَاءهُمْ } فإن الحق عبارةٌ عن القرآن الذي أعرضوا عنه حين أعرضوا عن كل آية منه ، عبّر عنه بذلك إبانةً لكمال قُبح ما فعلوا به ، فإن تكذيب الحقِّ مما لا يُتصوَّرُ صدورُه عن أحد ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها لكن لا على أنها شيءٌ مغايِرٌ له في الحقيقة واقعٌ عَقيبَه أو حاصلٌ بسببه ، بل على أن الأول هو عينُ الثاني حقيقة ، وإنما الترتيبُ بحسَب التغايُرِ الاعتباري ، و ( قد ) لتحقيق ذلك المعنى في قوله تعالى : { فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً } بعد قوله تعالى : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءاخَرُونَ } فإن ما جاءوه أي فعلوه من الظلم والزور عينُ قولِهم المَحْكِيّ ، لكنه لما كان مغايراً له مفهوماً وأشنَعَ منه حالاً رُتِّبَ عليه بالفاء ترتيبَ اللازم على الملزوم تهويلاً لأمره ، كذلك مفهومُ التكذيب بالحق حيث كان أشنعَ من مفهوم الإعراضِ المذكورِ أُخرِجَ مُخرَجَ اللازم البيِّنِ البُطلان ، فرُتِّبَ عليه بالفاء إظهاراً لغاية بُطلانه ، ثم قُيد ذلك بكونه بلا تأمل تأكيداً لشناعته وتمهيداً لبيان أن ما كذبوا به آثرَ ذي أثير له عواقبُ جليلةٌ ستبدو لهم البتة ، والمعنى أنهم حيث أعرضوا عن تلك الآيات عند إتيانها فقد كذبوا بما لا يمكن تكذيبُه أصلاً من غير أن يتدبروا في حاله ومآله ، ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الموجبةِ لتصديقه ، كقوله تعالى :(2/331)
{ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِيهِمُ تَأْوِيلِهِ } كما يُنْبىء عنه قوله تعالى : { فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } فإن ( ما ) عبارةٌ عن الحق المذكور عنه بذلك تهويلاً لأمره بإبهامه ، وتعليلاً للحكم بما في حيز الصلة ، وإنباؤه عبارةٌ عما سيَحيقُ بهم من العقوبات العاجلة التي نطَقت بها آياتُ الوعيد ، وفي لفظ ( الأنباء ) إيذانٌ بغاية العِظَم لِما أن النَّبأَ لا يُطلق إلا على خبرٍ عظيمِ الوقع ، وحملُها على العقوبات الآجلةِ أو على ظهور الإسلام وعلوِّ كلمتِه تأباه الآياتُ الآتية ، و ( سوف ) لتأكيد مضمونِ الجملة وتقريره ، أي فسيأتيهم البتةَ وإن تأخرَ مِصْداقُ أنباء الشيءِ الذي كانوا يكذِّبون به قَبلُ مِنْ غير أن يتدبروا في عواقبه ، وإنما قيل : ( يستهزئون ) إيذاناً بأن تكذيبهم كان مقروناً بالاستهزاء كما أشير إليه . هذا على أن يرادَ بالآيات الآياتُ القرآنيةُ وهو الأظهر ، وأما إن أريد بها الآياتُ التكوينيةُ فالفاءُ داخلةٌ على عِلَّة جوابِ شرطٍ محذوف ، والإعراضُ على حقيقته كأنه قيل : إن كانوا معرضين عن تلك الآيات فلا تعجبْ فقد فعلوا بما هو أعظمُ منها ما هو أعظمُ من الإعراض ، حيث كذبوا بالحق الذي هو أعظم الآيات ، ولا مَساغَ لحمل الآيات في هذا الوجه على الآيات كلها أصلاً ، وأما ما قيل من أن المعنى أنهم لمّا كانوا معرِضين عن الآيات كلِّها كذبوا بالقرآن فمِمّا ينبغي تنزيهُ التنزيلِ عن أمثاله .(2/332)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
{ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ } استئنافٌ مَسوقٌ لتعيين ما هو المرادُ بالإنباء التي سبق بها الوعيد ، وتقرير إتيانِها بطريق الاستشهاد ، وهمزةُ الإنكار لتقرير الرؤية ، وهي عِرْفانية مستدعيةٌ لمفعول واحد ، و ( كم ) استفهاميةً كانت أو خبريةً معلِّقةٌ لها عن العمل مقيِّدةٌ للتكثير سادّةٌ مع ما في حيِّزها مسدَّ مفعولِها ، منصوبةٌ بأهلكنا على المفعولية على أنها عبارةٌ عن الأشخاص ، و ( من قرن ) مميِّزٌ لها على أنه عبارةٌ عن أهل عصر من الأعصار ، سُمّوا بذلك لاقترانهم بُرهةً من الدهر كما في قوله عليه الصلاة والسلام : « خيرُ القرون قَرني ثم الذين يلونهم » الحديث . وقيل : هو عبارة عن مدة من الزمان والمضافُ محذوف ، أي من أهلَ قرن ، وأما انتصابها على المصدرية أو على الظرفية على أنها عبارة عن المصدر أو عن الزمان فتعسفٌ ظاهر ، و ( من ) الأولى ابتدائية متعلقة بأهلكنا أي ألم يعرِفوا بمعايَنةِ الآثارِ وسَماعِ الأخبار كم أمةٍ أهلكنا من قبلِ أهل مكة؟ أي من قبلِ خلقِهم ، أو من قبل زمانهم على حذف المضاف ، وإقامةِ المضاف إليه مُقامَه ، كعادٍ وثمودَ وأضرابِهم ، وقوله تعالى : { مكناهم فِى الارض } استئناف لبيان كيفيةِ الإهلاك وتفصيلِ مباديه مبنيٌّ على سؤالٍ نشأ من صدر الكلام ، كأنه قيل : كيف كان ذلك؟ فقيل : مكناهم الخ ، وقيل : هو صفةٌ لقرنٍ لِما أن النكرةَ مفتقرةٌ إلى مخصص ، فإذا وَلِيهَا ما يصلُح مخصِّصاً لها تعيّن وصفيتُه لها ، وأنت خبير بأن تنوينَه التفخيميَّ مُغنٍ له عن استدعاء الصفة ، على أن ذلك مع اقتضائه أن يكون مضمونُه ومضمونُ ما عُطف عليه من الجُمل أمراً مفروغاً عنه غيرَ مقصود بسياق النظم ، مؤدَ إلى اختلال النظم الكريم ، كيف لا والمعنى حينئذٍ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرنٍ موصوفين بكذا وكذا ، وبإهلاكنا إياهم بذنوبهم ، وأنه بيِّنُ الفساد . وتمكينُ الشيء في الأرض جعلُه قارّاً فيها ، ولمّا لزِمه جعلُها مقراً له ، ورد الاستعمالُ بكلَ منهما فقيل : تارةً مكّنه في الأرض ، ومنه قوله تعالى : { وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ } وأخرى مكّن له في الأرض ومنه قوله تعالى : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الارض } حتى أُجرِيَ كلٌّ منهما مُجرَى الآخرَ .
ومنه قوله تعالى : { مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ } بعد قوله تعالى : { مكناهم فِى الارض } ، كأنه قيل في الأول : مكنا لهم ، وفي الثاني : ما لم نمكنْكم . و ( ما ) نكرةٌ موصوفةٌ بما بعدها من الجملة المنفية ، والعائد محذوف ، محلُها النصبُ على المصدرية ، أي مكناهم تمكيناً لم نمكنْه لكم ، والالتفاتُ لما في مواجهتهم بضَعف الحال مزيدُ بيانٍ لشأن الفريقين ، ولدفعِ الاشتباه من أول الأمر عن مرجِعَي الضميرين { وَأَرْسَلْنَا السماء } أي المطرَ أو السحابَ أو الظلة لأنها مبدأ المطر { عَلَيْهِمْ } متعلق بأرسلنا { مُّدْرَاراً } أي مِغزاراً حال من السماء { وَجَعَلْنَا الانهار } أي صيّرناها فقوله تعالى : { تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ } مفعولٌ ثانٍ لجعلنا ، أو أنشأناها فهو حال من مفعوله ، و ( من تحتهم ) متعلق بتجري وفيه من الدلالة على كونها مسخّرةً لهم مستمرةً على الجريان على الوجه المذكور ما ليس في أن يقالَ : وأجرينا الأنهارَ من تحتهم ، وليس المرادُ بتَعدادِ هاتيك النعم العظامِ الفائضةِ عليهم بعد ذكر تمكينهم بيانَ عِظَم جنايتهم في كفرانها واستحقاقَهم بذلك لأعظم العقوبات بل بيانَ حيازتهم لجميع أسباب نيل المآرب ومبادِي الأمن والنجاة من المكاره والمعاطب ، وعدمَ إغناءِ ذلك عنهم شيئاً .(2/333)
والمعنى : أعطيناهم من البسطة في الأجسام والامتدادِ في الأعمار والسَّعةِ من الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا في استجلاب المنافع واستدفاع المضارِّ ما لم نُعط أهلَ مكةَ ففعلوا ما فعلوا { فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ } أي أهلكنا كلَّ قرن من تلك القرون بسبب ما يخُصّهم من الذنوب ، فما أغنى عنهم تلك العُدَدُ والأسباب ، فسيحِلُّ بهؤلاء مثلُ ما حل بهم من العذاب ، وهذا كما ترى آخِرُ ما به الاستشهادُ والاعتبار ، وأما قولُه سبحانه : { وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ } أي أحدثنا من بعد إهلاك كل قرن { قَرْناً آخَرِين } بدلاً من الهالكين فلبيان كمالِ قدرتِه تعالى وسَعة سُلطانه وأن ما ذُكر من إهلاك الأمم الكثيرة لم يَنْقُصْ من ملكه شيئاً بل كلما أهلك أمةً أنشأ بدلها أخرى .(2/334)
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)
{ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ } جملةٌ مستأنفة سيقت بطريق تلوينِ الخطاب لبيان شدةِ شكيمتِهم في المكابرة وما يتفرَّع عليها من الأقاويل الباطلةِ إثْرَ بيانِ إعراضِهم عن آياتِ الله تعالى وتكذيبِهم بالحق واستحقاقِهم بذلك لنزولِ العذاب ، ونسبةُ التنزيل هاهنا إليه عليه السلام مع نسبة إتيانِ الآياتِ ومجيءِ الحقِّ فيما سبق إليهم للإشعار بقَدْحهم في نبوته عليه السلام في ضمن قدحِهم فيما نزل عليه صريحاً . وقال الكلبي ومقاتل : نزلت في النَّضْر بنِ الحاث وعبدِ اللَّه بنِ أبي أميةَ ونوفلَ بنِ خويلد حيث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لن نؤمنَ لك حتى تأتيَنا بكتاب من عند الله ومعه أربعةٌ من الملائكة يشهدون أنه من عند الله تعالى ، وأنك رسولُه { كتابا } إن جُعل اسماً كالإمام فقوله : { فِى قِرْطَاسٍ } متعلقٌ بمحذوف وقع صفة له ، أي كتاباً كائناً في صحيفة . وإن جعل مصدراً بمعنى المكتوب فهو متعلِّق بنفسه { فَلَمَسُوهُ } أي الكتابَ وقيل : القرطاس ، وقوله تعالى : { بِأَيْدِيهِمْ } مع ظهور أن اللمس لا يكون عادةً إلا بالأيدي لزيادة التعيينِ ودفع احتمالِ التجوُّز الواقعِ في قوله تعالى : { وَأَنَّا لَمَسْنَا السماء } أي تفحّصنا ، أي فمسُّوه بأيديهم بعد ما رأَوْه بأعينهم ، بحيث لم يبقَ لهم في شأنه اشتباه ، ولم يقدِروا على الاعتذار بتكسير الأبصار { لَقَالَ الذين كَفَرُواْ } أي لقالوا ، وإنما وضع الموصولُ موضع الضمير للتنصيص على اتصافهم بما في حيز الصلة من الكفر الذي لا يخفى حسنُ موقعِه باعتبار مفهومه اللغوي أيضاً { إِنَّ هَذَا } أي ما هذا مشيرين إلى ذلك الكتاب { إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي بيِّنٌ كونُه سحراً ، تعنتاً وعناداً للحق بعد ظهوره كما هو دأْبُ المُفحَمِ المحجوج ، وديدَنُ المكابِرِ اللَّجوج .
{ وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } شروع في قدحهم في نبوته عليه السلام صريحاً بعد ما أُشير إلى قدحهم فيها ضِمناً . وقيل : هو معطوفٌ على جواب ( لو ) ، وليس بذاك ، لما أن تلك المقالةَ الشنعاءَ ليست مما يُقدَّر صدورُه عنهم على تقدير تنزيلِ الكتابِ المذكور ، بل هي من أباطيلهم المُحقّقة ، وخُرافاتهم المُلفّقة ، التي يتعللون بها كلما ضاقتْ عليهم الحيلُ وعيَّت بهم العلل ، أي هلا أُنزل عليه عليه السلام مَلكٌ بحيث نراه ويكلمنا أنه نبيٌّ حسبما نُقل عنهم فيما رُويَ عن الكلبي ومقاتل ، ونظيرُه قولهم : { لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } ولما كان مدارُ هذا الاقتراح على شيئين : إنزالِ الملَك كما هو وجعلِه معه عليه السلام نذيراً ، أجيب عنه بأن ذلك مما لا يكاد يدخُل تحت الوجود أصلاً ، لاشتماله على أمرين متباينين لا يجتمعان في الوجود : لِما أن إنزالَ الملَك على صورته يقتضي انتفاءَ جعلِه نذيراً ، وجعلُه نذيراً يستدعي عدمَ إنزاله على صورته لا مَحالة .(2/335)
وقد أشير إلى الأول بقوله : { وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الامر } أي لو أنزلنا ملَكاً على هيئته حسْبما اقترحوه والحالُ أنه مِن هِوْل المنظر بحيث لا تُطيقُ بمشاهدته قوى الآحاد البشرية . ألا يرى أن الأنبياءَ عليهم الصلاة والسلام كانوا يشاهدون الملائكةَ ويفاوضونهم على الصور البشرية كضيف إبراهيمَ ولوطٍ وخصْمِ داودَ عليهم السلام وغير ذلك . وحيث كان شأنُهم كذلك وهم مؤيَّدون بالقُوى القدُسية فما ظنُّك بمن عداهم من العوام؟ فلو شاهدوه كذلك لقُضِيَ أمرُ هلاكهم بالكلية ، واستحال جعلُه نذيراً ، وهو مع كونه خلافَ مطلوبِهم مستلزِمٌ لإخلاءِ العالم عما عليه يدور نظامُ الدنيا والآخرةِ من إرسال الرُّسل ، وتأسيسِ الشرائع ، وقد قال سبحانه : { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } وفيه كما ترى إيذانٌ بأنهم في ذلك الاقتراحِ كالباحث عن حَتْفه بظِلْفه ، وأن عدم الإجابة إليه للبُقيا عليهم ، وبناءُ الفعل الأول في الجواب للفاعل الذي هو نونُ العَظمة مع كونه في السؤال مبنياً للمفعول لتهويلِ الأمر وتربية المهابة ، وبناء الثاني للمفعول للجري على سَنن الكِبرياء ، وكلمةُ ( ثم ) في قوله تعالى : { ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } أي لا يُمْهَلون بعد نزوله طرفةَ عينٍ فضلاً عن أن يُنْذَروا به كما هو المقصودُ بالإنذار ، للتنبيه على تفاوت ما بين قضاءِ الأمر وعدمِ الإنظار ، فإن مفاجأة العذابِ أشدُّ من نفس العذاب وأشق . وقيل : في سبب إهلاكهم أنهم إذا عاينوا الملَك قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته وهي آيةٌ لا شيءَ أبينُ منها ثم لم يؤمنوا لم يكنْ بدّ من إهلاكهم ، وقيل : إنهم إذا رأَوه يزول الاختيارُ الذي هو قاعدةُ التكليف ، فيجبُ إهلاكُهم ، وإلى الثاني أُشير بقوله تعالى :(2/336)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
{ وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً } على أن الضميرَ الأول للتقدير المفهومِ من فحوى الكلام بمعونة المقام ، وإنما لم يجعل للملك المذكور قبله بأن يعكس ترتيب المفعولين ويقال : ولو جعلناه نذيراً لجعلناه رجلاً مع فهم المراد منه أيضاً لتحقيق أن مناطَ إبرازِ الجعل الأول في معرِض الفرض والتقدير ، ومدارَ استلزامِه الثانيَ إنما هو مَلَكيةُ النذير ، لا نذيريّة المَلَك ، وذلك لأن الجعل حقُّه أن يكون مفعولُه الأولُ مبتدأ والثاني خبراً ، لكونه بمعنى التصييرِ المنقول من ( صار ) الداخِلِ على المبتدأ والخبر .
ولا ريب في أن مصَبّ الفائدة ومدارَ اللزوم بين طَرَفي الشرطية هو محمولُ المقدَّمِ لا موضوعُه ، فحيث كانت امتناعيةً أريد بها بيانُ انتفاءِ الجعْلِ الأول لاستلزامه المحذور الذي هو الجعل الثاني وجب أن يُجعلَ مدارُ الاستلزام في الأول مفعولاً ثانياً لا محالة ، ولذلك جَعَل مُقابِلَه في الجعل الثاني كذلك ، إبانةً لكمال التنافي بينهما الموجبِ لانتفاء الملزوم ، والضمير الثاني للملك لا لما رجع إليه الأول . والمعنى : لو جعلنا النذيرَ الذي اقترحوه ملكاً لمثّلنا ذلك المَلكَ رجلاً لما مر من عدم استطاعةِ الآحاد لمُعاينَةِ الملك على هيكله ، وفي إيثار ( رجلاً ) على ( بشراً ) إيذانٌ بأن الجعلَ بطريق التمثيل لا بطريق قلب الحقيقة ، وتعيينٌ لما يقع به التمثيل ، وقوله تعالى : { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم } عطفٌ على جواب لو مبنيّ على الجواب الأول ، وقرىء بحذف لام الجواب اكتفاءً بما في المعطوف عليه ، يقال : لَبَستُ الأمرَ على القوم ألبِسُه إذا شبّهتُه وجعلته مُشكِلاً عليهم ، وأصله الستر بالثوب ، وقرىء الفعلان بالتشديد للمبالغة ، أي ولَخلّطنا عليهم بتمثيله رجلاً { مَّا يَلْبِسُونَ } على أنفسهم حينئذ بأن يقولوا له : إنما أنت بشرٌ ولست بمَلَك ، ولو استُدل على مَلَكيته بالقرآن المعجزِ الناطقِ بها أو بمعجزاتٍ أُخَرَ غيرِ مُلجئةٍ إلى التصديق لكذّبوه كما كذبوا النبي عليه الصلاة والسلام ، ولو أظهر لهم صورته الأصلية لزم الأمر الأول ، والتعبير عن تمثيله تعالى رجلاً باللَّبْس إما لكونه في صورة اللبس ، أو لكونه سبباً لِلَبْسِهم ، أو لوقوعه في صُحبته بطريق المشاكلة ، وفيه تأكيدٌ لاستحالة جعل النذيرِ مَلَكاً كأنه قيل : لو فعلناه لفعلنا ما لا يليق بشأننا من لَبْس الأمر عليهم ، وقد جُوِّز أن يكونَ المعنى وللبسنا عليهم حينئذ مثلَ ما يلبِسون على أنفسهم الساعةَ في كفرهم بآيات الله البينة .(2/337)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
{ وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ } تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من قومه ، وفي تصدير الجملة بلام القسم وحرفِ التحقيق من الاعتناء به ما لا يخفى ، وتنوينُ ( رسل ) للتفخيم والتكثير ، و ( من ) ابتدائية متعلقة بمحذوفٍ وقع صفةً لرسل ، أي وبالله لقد استهزىء برسل أولى شأنٍ خطيرٍ وذوي عددٍ كثير كائنين من زمانٍ قبلَ زمانك ، على حذف المضاف وإقامةِ المضاف إليه مُقامَه { فَحَاقَ } عَقيبه أي أحاط أو نزل أو حلَّ أو نحوُ ذلك ، فإن معناه يدور على الشمول واللزوم ، ولا يكاد يُستعمل إلا في الشر ، والحَيْق ما يشتمل على الإنسان من مكروهِ فِعْلِه وقوله تعالى : { بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ } أي استهزأوا بهم من أولئك الرسل عليهم السلام متعلق بحاق ، وتقديمُه على فاعله الذي هو قوله تعالى : { مَّا كَانُوا بِهِ } للمسارعة إلى بيان لحوق الشر بهم ، و ( ما ) إما موصولةٌ مفيدةٌ للتهويل ، أي فأحاط بهم الذي كانوا يستهزؤون به حيث أُهلكوا لأجله ، وإما مصدريةٌ أي فنزل بهم وَبالُ استهزائهم ، وتقديم الجار والمجرور على الفعل لرعاية الفواصل .
{ يَسْتَهْزِءونَ قُلْ سِيرُواْ فِى الارض } بعد بيانِ ما فعلت الأممُ الخالية وما فُعل بهم خوطب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بإنذار قومه ، وتذكيرِهم بأحوالهم الفظيعة تحذيراً لهم عما هم عليه ، وتكملةً للتسلية بما في ضِمْنه من العِدَة اللطيفة بأنه سيَحيقُ بهم مثلُ ما حاق بأضرابهم الأولين ، ولقد أنجَز ذلك يومَ بدرٍ أيَّ إنجازٍ ، أي سيروا في الأرض لتعرِفوا أحوال أولئك الأمم { ثُمَّ انظروا } أي تفكروا { كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين } وكلمة ( ثم ) إما لأن النظر في آثار الهالكين لا يتسنّى إلا بعد انتهاء السير إلى أماكنهم ، وإما لإبانة ما بينهما من التفاوت في مراتب الوجوب وهو الأظهر ، فإن وجوب السير ليس إلا لكونه وسيلةً إلى النظر كما يفصح عنه العطف بالفاء في قوله عز وجل : { فانظروا } الآية ، وإما أن الأمر الأول لإباحة السير للتجارة ونحوها ، والثاني لإيجاب النظر في آثارهم ، و ( ثم ) لتُباعِدَ ما بين الواجب والمباح فلا يناسب المقام ، و ( كيف ) معلِّقةٌ لفعل النظر ، ومحلُ الجملة النصبُ بنزع الخافض أي تفكروا في أنهم كيف أُهلكوا بعذاب الاستئصال ، والعاقبة مصدرٌ كالعافية ونظائرِها ، وهي منتهى الأمرِ ومآلُه ، ووضعُ المكذبين موضعَ المستهزئين لتحقيق أن مدارَ إصابةِ ما أصابهم هو التكذيبُ لينزجِرَ السامعون عنه لا عن الاستهزاء فقط ، مع بقاء التكذيب بحاله بناءً على توهُّم أنه المدار في ذلك .
{ قُلْ } لهم بطريق الإلجاء والتبكيت { لّمَن مَّا فِى السموات والارض } من العقلاء وغيرِهم ، أي لمن الكائناتُ جميعاً خلْقاً ومُلكاً وتصرّفاً؟ وقوله تعالى : { قُل لِلَّهِ } تقريرٌ لهم وتنبيهٌ على أنه المتعيَّنُ للجواب بالاتفاق بحيث لا يتأتّى لأحد أن يُجيب بغيره كما نطق به قوله تعالى :(2/338)
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والارض لَيَقُولُنَّ الله } وقوله تعالى : { كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة } جملةٌ مستقلة داخلة تحت الأمر ناطقةٌ بشمول رحمتِه الواسعةِ لجميع الخلق شمولَ مُلكِه وقدرته للكلِّ ، مَسوقةٌ لبيانِ أنه تعالى رؤوفٌ بعباده لا يعجَلُ عليهم بالعقوبة بل يقبل منهم التوبةَ والإنابةَ ، وأن ما سبق ذكرُه وما لحِقَ من أحكام الغضب ليس من مقتَضيَات ذاتِه تعالى ، بل من جهة الخَلْق ، كيف لا ومن رحمتِه أن خلقَهم على الفطرة السليمة وهداهم إلى معرفته وتوحيدِه بنَصْب الآياتِ الأنفسية والآفاقية ، وإرسالِ الرسل ، وإنزالِ الكُتب المشحونة بالدعوة إلى موجباتِ رِضوانِه ، والتحذيرِ عن مقتَضيَات سُخْطِه ، وقد بدّلوا فطرةَ الله تبديلاً ، وأعرَضوا عن الآياتِ بالمرة ، وكذّبوا بالكتب واستهزأوا بالرسل ، وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين ، ولولا شمولُ رحمتِه لسلك بهؤلاءِ أيضاً مَسلكَ الغابرين . ومعنى كتب على نفسه الرحمة أنه تعالى قضاها وأوجبها بطريق التفضُّل والإحسانِ على ذاته المقدّسةِ بالذات لا بتوسُّط شيءٍ أصلاً ، وقيل : هو ما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لمَّا قضى الله تعالى الخلقَ كتَبَ في كتابٍ فهو عنده فوق العرش ، إنَّ رحمتي غلبتْ غضبي "
وعن عمرَ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكعب : «ما أولُ شيءٍ ابتدأه الله تعالى مِنْ خلقه؟» فقال كعب : كتب الله كتاباً لم يكتبْه بقلم ولا مِدادٍ كتابةَ الزَّبَرْجد واللؤلؤ والياقوت : «إني أنا الله لا إله إلا أنا سبقت رحمتي غضبي» ومعنى سبْقِ الرحمةِ وغَلَبتِها أنها أقدمُ تعلُّقاً بالخلق وأكثرُ وصولاً إليهم مع أنها من مقتضيات الذاتِ المُفضيةِ للخير ، وفي التعبير عن الذات بالنفس حجةٌ على من ادّعى أن لفظَ النفسِ لا يُطلق على الله تعالى وإن أريد به الذاتُ إلا مشاكلةً لِما ترَى من انتفاءِ المشاكلة هاهنا بنَوْعَيْها ، وقوله تعالى : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة } جوابُ قسمٍ محذوف ، والجملة استئنافٌ مسوقٌ للوعيد على إشراكهم وإغفالِهم النظرَ ، أي والله ليجمعنّكم في القبور مبعوثين أو محشورين إلى يوم القيامة فيجازيكم على شِرْككم وسائرِ معاصيكم وإن أمهلكم بموجَب رحمتِه ولم يعاجِلْكم بالعقوبة الدنيوية وقيل : ( إلى ) بمعنى اللام ، أي ليجمعنكم ليوم القيامة كقوله تعالى : { إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } وقيل : هي بمعنى في أي ليجمعنكم في يوم القيامة { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي في اليوم أو في الجمع .
وقوله تعالى : { الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } أي بتضييع رأسِ مالهم وهو الفطرةُ الأصليةُ والعقلُ السليم والاستعدادُ القريبُ الحاصلُ من مشاهدة الرسول عليه الصلاة والسلام ، واستماعِ الوحْي وغيرِ ذلك من آثار الرحمة ، في موضع النصْب أو الرفعِ على الذم أي أعني الذين الخ ، أو هو مبتدأ والخبر قوله تعالى : { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } والفاء لتضمُّن المبتدأ معنى الشرط ، والإشعارُ بأن عدمَ إيمانهم بسبب خُسرانهم ، فإن إبطالَ العقل باتباع الحواسِّ والوهم والانهماك في التقليد ، وإغفالِ النظر أدّى بهم إلى الإصرار على الكفر ، والامتناعِ من الإيمان . والجملةُ تذييلٌ مَسوقٌ من جهته تعالى لتقبيح حالهم غيرُ داخلٍ تحت الأمر .(2/339)
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
{ وَلَهُ } أي لله عز وجل خاصةً { مَا سَكَنَ فِى اليل والنهار } نُزِّلَ الملوان منزلةَ المكان فعبّر عن نسبة الأشياء الزمانية إليهما بالسُكنى فيهما ، وتعديتُه بكلمة ( في ) كما في قوله تعالى : { وَسَكَنتُمْ فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } أو السكونِ مقابلَ الحركة ، والمرادُ ما سكن فيهما أو تحرّك فاكتفي بأحد الضدَّيْن عن الآخر { وَهُوَ السميع } المبالغُ في سماع كلِّ مسموع { العليم } المبالغ في العلم بكلّ معلوم ، فلا يخفى عليه شيءٌ من الأقوال والأفعال .
{ قُلْ } لهم بعد ما بكّتهم بما سبق من الخطاب { أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً } أي معبوداً بطريق الاستقلالِ أو الاشتراك ، وإنما سُلِّطت الهمزةُ على المفعول الأول لا على الفعل إيذاناً بأن المنكرَ هو اتخاذُ غيرِ الله ولياً ، لا اتخاذُ الوليِّ مطلقاً كما في قوله تعالى : { أَغَيْرَ الله أَبْغِى رَبّا } وقوله تعالى : { أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ } الخ { فَاطِرِ السموات والارض } أي مُبدعِهما ، بالجرِّ صفةٌ للجَلالة مؤكِّدةٌ للإنكار لأنه بمعنى الماضي ، ولذلك قُرىء ( فطَرَ ) ولا يضرّ الفصلُ بينهما بالجملة لأنها ليست بأجنبية إذ هي عاملةٌ في عامل الموصوف أو بدلٌ فإن الفصلَ بينه وبين المبدل منه أسهلُ لأن البدلَ على نية تكرير العامل وقرىء بالرفع والنصب على المدح ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما عرفتُ معنى الفاطرِ حتى اختصم إليَّ أعرابيانِ في بئر فقال أحدهما : أنا فَطَرْتُها أي ابتدأتها { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } أي يرزُق الخلق ولا يُرْزَق ، وتخصيصُ الطعام بالذكر لشدة الحاجة إليه أو لأنه معظمُ ما يصل إلى المرزوق من الرزق ، ومحلُ الجملة النصبُ على أن الضميرَ لغير الله والمعنى أأُشرِك بمن هو فاطرُ السموات والأرض ما هو نازلٌ عن رتبة الحيوانية؟ وببنائهما للفاعل على أن الثانيَ بمعنى يستطعم أو معنى أنه يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله تعالى : { يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ }
{ قُلْ } بعد بيان اتخاذِ غيرِه تعالى ولياً مما يَقْضي ببطلانه بديهةُ العقول { إِنّى أُمِرْتُ } من جنابه عز وجل { أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } وجهَه لله مخلِصاً له لأن النبيَّ إمامُ أمته في الإسلام كقوله تعالى : { وبذلك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين } وقوله تعالى : { سبحانك تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين } { وَلاَ تَكُونَنَّ } أي وقيل لي : ولا تكونن { مِنَ المشركين } أي في أمر من أمور الدين ، ومعناه أُمرت بالإسلام ونُهيتُ عن الشرك ، وقد جوَّزَ عطفَه على الأمر { قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى } أي بمخالفة أمرِه ونهيه أيَّ عصيانٍ كان فيدخل فيه ما ذُمر دخولاً أولياً وفيه بيانٌ لكمال اجتنابه عليه السلام عن المعاصي على الإطلاق وقوله تعالى : { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم } أي عذابَ يوم القيامة ، مفعولُ أخاف ، والشرطية معترِضةٌ بينهما ، والجوابُ محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه وفيه قطعٌ لأطماعهم الفارغة وتعريضٌ بأنهم عصاةٌ مستوجبون للعذاب العظيم .(2/340)
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
{ مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ } على البناء للمفعول أي العذاب ، وقرىء على البناء للفاعل والضمير لله سبحانه ، وقد قرىء بالإظهار ، والمفعول محذوف وقوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ } ظرف للصرف ، أي في ذلك اليوم العظيم ، وقد جوز أن يكون هو المفعول على قراءة البناء للفاعل بحذف المضاف أي عذاب يومئذ { فَقَدْ رَحِمَهُ } أي نجاه وأنعم عليه وقيل : فقد أدخله الجنة كما في قوله تعالى : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ } والجملة مستأنفةٌ مؤكِّدةٌ لتهويل العذاب ، وضميرُ عنه ورَحمه ( لمن ) ، وهو عبارة عن غير العاصي { وَذَلِكَ } إشارة إلى الصرف أو الرحمة ، لأنها مؤوّلة بأن مع الفعل وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجته ، وبعد مكانه في الفضل ، وهو مبتدأ خبرُه قوله تعالى : { الفوز المبين } أي الظاهرُ كونُه فوزاً وهو الظَفَر بالبُغية ، والألف واللام لقصره على ذلك .
{ وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ } أي ببليةٍ كمرَض وفقر ونحو ذلك { فَلاَ كاشف لَهُ } أي فلا قادرَ على كشفه عنك { إِلاَّ هُوَ } وحده { وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ } من صِحةٍ ونعمةٍ ونحو ذلك { فَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدُيرٌ } ومن جملته ذلك ، فيقدِرُ عليه فيمسَسْك به ويحفَظْه عليك من غير أن يقدِرَ علي دفعه ، أو على رفعه أحدٌ ، كقوله تعالى : { فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ } وحملُه على تأكيد الجوابين يأباه الفاء .
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : أُهدي للنبي صلى الله عليه وسلم بغلةٌ أهداها له كسرى ، فركِبها بحبْل من شعر ثم أردفني خلفه ثم سار بي ميلاً ، ثم التفت إلي فقال : «يا غلام» فقلت : لبيك يا رسول الله . فقال : " أحفَظِ الله يحفَظْك ، احفظ الله تجدْه أمامك ، تعرَّفْ إلى الله في الرخاء يعرِفْك في الشدة ، وإذا سألت فاسألِ الله ، وإذا استعنت فاستعنْ بالله ، فقد مضى القلمُ بما هو كائن ، فلو جَهَدَ الخلائقُ أن ينفعوك بما لم يقضِه الله لك لم يقدِروا عليه ، ولو جَهَدوا أن يضروك بما لم يكتُبِ الله عليك ما قدَروا عليه ، فإن استطعتَ أن تعملَ بالصبر مع اليقين فافعل ، فإن لم تستطِعْ فاصبر ، فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً ، واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن مع الكرْب فرَجاً ، وأن مع العسر يسراً "
{ وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ } تصويرٌ لقهره وعلوِّه بالغَلَبة والقُدرة { وَهُوَ الحكيم } في كل ما يفعله ويأمر به { الخبير } بأحوال عبادِه وخفايا أمورِهم ، واللام في المواضع الثلاثة للقصر .
{ قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شهادة } روي ( أن قريشاً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد لقد سألنا عنك اليهودَ والنصارى فزعموا أنْ ليس عندهم ذكرٌ ولا صفةٌ فأرِنا من يشهد لك أنك رسولُ الله فنزلت ) . ( فأيّ ) مبتدأ و ( أكبرُ ) خبره و ( شهادة ) نُصب على التمييز وقوله تعالى : { قُلِ الله } أمرٌ له عليه الصلاة والسلام بأن يتولَّى الجواب بنفسه ، إما للإيذان بتعيُّنه وعدمِ قدرتهم على أن يجيبوا بغيره ، أو لأنهم ربما يتلعثمون فيه لا لتردُّدهم في أنه أكبرُ من كل شيء ، بل في كونه شهيداً في هذا الشأن ، وقوله تعالى : { شَهِيدٌ } خبرُ مبتدأ محذوف ، أي هو شهيد { بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } ويجوز أن يكون ( الله شهيد بيني وبينكم ) هو الجواب ، لأنه إذا كان هو الشهيدَ بينه وبينهم كان أكبرُ شيءٍ شهادةً شهيداً له عليه الصلاة والسلام ، وتكريرُ ( البين ) لتحقيق المقابلة { وَأُوحِىَ إِلَىَّ } أي من جهته تعالى { هذا القرءان } الشاهدُ بصِحة رسالتي { لاِنذِرَكُمْ بِهِ } بما فيه من الوعيد ، والاقتصارُ على ذكر الأنذار لما أن الكلام مع الكفرة { وَمَن بَلَغَ } عطفٌ على ضمير المخاطَبين أي لأنذركم به يا أهلَ مكةَ وسائرَ مَنْ بلغه من الأسودِ والأحمرِ أو من الثقلَيْن ، أو لأنذركم به أيها الموجودون ومَنْ سيوجد إلى يوم القيامة ، وهو دليل على أن أحكام القرآن تعمُّ الموجودين يوم نزولِه ومن سيوجد بَعْدُ إلى يوم القيامة ، خلا أن ذلك بطريق العبارة في الكل عند الحنابلة ، وبالإجماع عندنا في غير الموجودين وفي غير المكلفين يومئذ كما مر في أول سورة النساء { قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شهادة قُلِ الله } تقرير لهم مع إنكار واستبعاد { قُل لاَّ أَشْهَدُ } بذلك وإن شهدتم به فإنه باطل صِرْف { قُلْ } تكرير للأمر للتأكيد { إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } أي بل إنما أشهد أنه تعالى لا إله إلا هو { وَإِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ } من الأصنام أو من إشراككم .(2/341)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
{ الذين ءاتيناهم الكتاب } جواب عما سبق من قولهم لقد سألنا عنك اليهود والنصارى أُخِّر عن تعيين الشهيد مسارعةً إلى إلزامهم بالجواب عن تحكّمهم بقولهم : فأرنا من يشهد لك الخ ، والمرادُ بالموصول اليهودُ والنصارى ، وبالكتاب الجنسُ المنتظمُ للتوراة والإنجيل ، وإيرادُهم بعنوان إيتاء الكتاب للإيذان بمدار ما أسند إليهم بقوله تعالى : { يَعْرِفُونَهُ } أي يعرفون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من جهة الكتابَيْن بحِلْيته ونُعوتِه المذكورة فيهما { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ } بحِلاهم بحيث لا يشكون في ذلك أصلاً . روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة قال عمرُ رضي الله عنه لعبد اللَّه بن سلام : أنزل الله تعالى على نبيه هذه الآيةَ وكيف هذه المعرفة؟ فقال : يا عمر ، لقد عرفتُه فيكم حين رأيته كما أعرِف ابني ، ولأنا أشدُّ معرفةً بمحمدٍ مني بابني ، لأني لا أدري ما صنع النساء ، وأشهد أنه حقٌّ من الله تعالى .
{ الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } من أهل الكتابين والمشركين بأن ضيّعوا فطرة الله التي فطر الناس عليها وأعرضوا عن البينات الموجبةِ للإيمان بالكلية { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } لما أنهم مطبوعٌ على قلوبهم ، ومحل الموصول الرفعُ على الابتداء وخبرُه الجملة المصدرةُ بالفاء لِشَبَه الموصول بالشرط ، وقيل : على أنه خبرُ مبتدأ محذوف ، أي هم الذين خسروا الخ ، وقيل : على أنه نعتٌ للموصول الأول ، وقيل : النصبُ على الذم ، فقوله تعالى : { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } على الوجوه الأخيرة عطفٌ على جملة { الذين ءاتيناهم الكتاب } الخ .
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } بوصفهم النبيَّ الموعودَ في الكتابين بخلاف أوصافِه عليه الصلاة والسلام فإنه افتراءٌ على الله سبحانه وبقولهم : الملائكةُ بناتُ الله ، وقولِهم : { هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله } ، ونحو ذلك ، وهو إنكارٌ واستبعادٌ لأن يكونَ أحدٌ أظلمَ ممن فعل ذلك أو مساوياً له ، وإن كان سبكُ التركيب غيرَ متعرِّض لإنكار المساواة ونفيُها يشهد به العُرف الفاشي ، والاستعمالُ المطَّرد ، فإنه إذا قيل : من أكرمُ من فلانٍ أو لا أفضلَ من فلان فالمرادُ به حتماً أنه أكرمُ من كل كريم ، وأفضلُ من كل فاضل ، ألا يُرى إلى قوله عز وجل : { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاخرة هُمُ الاخسرون } بعد قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } الخ ، والسرُّ في ذلك أن النسبةَ بين الشيئين إنما تُتصوَّر غالباً لا سيما في باب المغالبة بالتفاوُت زيادةً ونُقصاناً ، فإذا لم يكن أحدُهما أزيدَ يتحقق النُقصانُ لا محالة { أو كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } كأن كذّبوا بالقرآن الذي من جملته الآيةُ الناطقةُ بأنهم يعرِفونه عليه الصلاة والسلام كما يعرِفون أبناءهم ، وبالمُعجزات وسمَّوْها سحراً ، وحرفوا التوراة وغيّروا نُعوته عليه الصلاة والسلام ، فإن ذلك تكذيبٌ بآياته تعالى ، وكلمةُ ( أو ) للإيذان بأن كلًّ من الافتراء والتكذيب وحدَه بالغٌ غايةَ الإفراط في الظلم ، فكيف وهم قد جمعوا بينهما فأثبتوا ما نفاه الله تعالى ونفَوْا ما أثبته ، قاتلهم الله أنى يؤفكون .(2/342)
{ إِنَّهُ } الضمير للشأن ، ومدارُ وضعه موضعَه ادِّعاءُ شهرتِه المُغْنية عن ذكره ، وفائدةُ تصديرِ الجملة به الإيذانُ بفَخامة مضمونِها مع ما فيه من زيادة تقريره في الذهن فإن الضمير لا يُفهم منه من أول الأمر إلا شأنٌ مُبهمٌ له خطرٌ فيبقى الذهن مترقباً لما يعقبُه فيتمكّن عند وروده له فضلُ تمكُّنٍ فكأنه قيل : إن الشأن الخطيرَ هذا هو { لاَ يُفْلِحُ الظالمون } أي لا ينجُون من مكروهٍ ولا يفوزون بمطلوب ، وإذا كان حالُ الظالمين هذا فما ظنُّك بمن في الغاية القاصيةِ من الظلم .(2/343)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } منصوبٌ على الظرفية بمُضمر مؤخَّرٍ قد حُذف إيذاناً بضيق العبارة عن شرحه وبيانه ، وإيماءً إلى عدم استطاعة السامعين لسماعِه لكمال فظاعةِ ما يقع فيه من الطامة والداهية التامة ، كأنه قيل : ويوم نحشرهم جميعاً { ثُمَّ نَقُولُ } لهم ما نقول كانَ من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به دائرةُ المقال ، وتقديرُ صيغةِ الماضي للدَلالة على التحقّق ولحُسنِ موقَعِ عطفِ قوله تعالى : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ } الخ عليه ، وقيل : منصوب على المفعولية بمضمر مقدّم ، أي واذكر لهم للتخويف والتحذير يوم نحشرهم الخ ، وقيل : وليتقوا أو ليحذروا يوم نحشرهم الخ ، والضمير للكل ، وجميعاً حال منه وقرىء ( يَحشرُهم جميعاً ثم يقول ) بالياء فيهما { لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } أي نقول لهم خاصة للتوبيخ والتقريع على رؤوس الأشهاد { أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ } أي آلهتُكم التي جعلتموها شركاءَ لله سبحانه ، وإضافتُها إليهم لما أن شِرْكتَها ليست إلا بتسميتهم وتقوُّلهم الكاذب كما ينبىء عنه قوله تعالى : { الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } أي تزعُمونها شركاءَ ، فحُذِف المفعولان معاً ، وهذا السؤالُ المُنبِىءُ عن غَيْبة الشركاءِ مع عموم الحشر لها لقوله تعالى : { احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ الله } وغيرِ ذلك من النصوص إنما يقع بعد ما جرى بينها وبينهم من التبرُّؤ من الجانبين ، وتقطَّع ما بينهم من الأسباب والعلائقِ حسبما يحكيه من قوله تعالى : { فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } الخ ، ونحوُ ذلك من الآيات الكريمة ، إما بعدم حضورِها حينئذٍ في الحقيقة بإبعادها من ذلك الموقف ، وإما بتنزيل عدمِ حضورها بعُنوان الشِرْكة والشفاعة منزلةَ عدم حضورها في الحقيقة ، إذ ليس السؤالُ عنها من حيث ذواتُها ، بل إنما هو من حيث إنها شركاءُ كما يُعرب عنه الوصفُ بالموصول ، ولا ريب في أن عدم الوصفِ يوجب عدمَ الموصوف من حيث هو موصوف ، فهي من حيث هي شركاءُ غائبةٌ لا محالة وإن كانت حاضرةً من حيث ذواتُها أصناماً كانت أو غيرها ، وأما ما يقال من أنه يُحال بينها وبينهم في وقت التوبيخ ليفقِدوهم في الساعة التي علّقوا بها الرجاءَ فيها فيرَوْا مكان خِزْيهم وحسرتِهم فربما يُشعِر بعدم شعورِهم بحقيقة الحال وعدمِ انقطاع حبالِ رجائهم عنها بعدُ . وقد عرفت أنهم شاهدوها قبل ذلك ، وانصرمت عُروةُ أطماعهم عنها بالكلية ، على أنها معلومة لهم من حين الموت والابتلاءِ بالعذاب في البرزخ ، وإنما الذي يحصُل يوم الحشر الانكشافُ الجليُّ واليقين القويُّ ، المترتبُ على المحاضَرة والمحاوَرة .(2/344)
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
{ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } بتأنيث الفعلِ ورفع ( فتنتُهم ) على أنه اسمٌ له والخبرُ { إِلاَّ أَن قَالُواْ } وقرىء بنصب ( فتنتَهم ) على أنها الخبرُ والاسمُ إلا أن قالوا ، والتأنيث للخبر كما في قولهم : من كانت أمَّك؟ وقرىء بالتذكير مع رفع الفتنة ونصبها ، ورفعُها أنسبُ بحسب المعنى ، والجملة عطفٌ على ما قُدّر عاملاً في يوم نحشرهم كما أشير إليه فيما سلف ، والاستثناءُ مفرَّغٌ من أعم الأشياء ، وفتنتُهم إما كفرُهم مراداً به عاقبتُه أي لم تكن عاقبةُ كفرِهم الذي لزِموه مدةَ أعمارِهم وافتخروا به شيئاً من الأشياء إلا جحودَه والتبرؤَ منه بأن يقولوا : { والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } وإما جوابُهم ، عبّر عنه بالفتنة لأنه كذِب ، ووصفُه تعالى بربوبيته لهم للمبالغة في التبرّؤ من الإشراك وقرىء ( ربَّنا ) على النداء ، فهو لإظهار الضراعة والابتهال في استدعاء قبول المعذرة ، وإنما يقولون ذلك مع علمهم بأنه بمعزِلٍ من النفع رأساً من فرط الحَيْرة والدهَش ، وحملُه على معنى ما كنا مشركين عند أنفسنا وما علمنا في الدنيا أنا على خطأ في معتقَدِنا مما لا ينبغي أن يُتوهّم أصلاً ، فإنه يُوهِم أن لهم عذراً ما ، وأن لهم قدرةً على الاعتذار في الجملة ، وذلك مُخِلٌّ بكمال هَوْل اليوم قطعاً ، على أنه قد قضى ببطلانه قوله تعالى : { انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ } فإنه تعجيبٌ من كذبهم الصريح بإنكار صدورِ الإشراك عنهم في الدنيا ، أي انظر كيف كذبوا على أنفسهم في قولهم ذلك ، فإنه أمرٌ عجيب في الغاية ، وأما حملُه على كِذْبهم في الدنيا فتمحُّلٌ يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه وقوله تعالى : { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } عطف على كذَبوا داخلٌ معه في حكم التعجيب ، و ( ما ) مصدريةٌ أو موصولةٌ قد حُذف عائدُها ، والمعنى انظر كيف كذَبوا باليمين الفاجرةِ المغلَّظة على أنفسهم بإنكار صدور ما صدر عنهم ، وكيف ضل عنهم أي زال وذهب افتراؤهم أو ما كانوا يفترونه من الإشراك حتى نفَوا صدوره عنهم بالكلية ، وتبرأوا منه بالمرة . وقيل : ( ما ) عبارةٌ عن الشركاء ، وإيقاعُ الافتراء عليها مع أنه في الحقيقة واقعٌ على أحوالها من الإلهية والشِرْكة والشفاعة ونحوِها للمبالغة في أمرها كأنها نفسُ المفترى ، وقيل : الجملة كلامٌ مستأنفٌ غيرُ داخلٍ في حيز التعجيب .(2/345)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } كلامٌ مبتدأ مَسوقٌ لحكاية ما صدر في الدنيا عن بعض المشركين من أحكام الكفر ، ثم بيانِ ما سيصدُر عنهم يوم الحشر تقريراً لما قبله وتحقيقاً لمضمونه ، والضميرُ للذين أشركوا ، ومحلُ الظرف الرفع على أنه مبتدأ باعتبار مضمونه أو بتقدير الموصوف ، كما في قوله تعالى : { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } أي وجمعٌ منا الخ و ( من ) موصولة أو موصوفة محلُها الرفع على الخبرية ، والمعنى وبعضهم أو وبعضٌ منهم الذي يستمع إليك أو فريق يستمع إليك على أن مناطَ الإفادة اتصافُهم بما في حيز الصلة أو الصفة لا كونُهم ذواتِ أولئك المذكورين وقد مر في تفسير قوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ } الخ .
رُوي أنه اجتمع أبو سفيانَ والوليدُ والنضْرُ وعُتبةُ وشيبةُ وأبو جهلٍ وأضرابُهم يستمعون تلاوةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا للنضر وكان صاحبَ أخبارٍ : ياأبا قتيلة ما يقول محمد؟ فقال : والذي جعلها بيتَه ما أدري ما يقول إلا أنه يحرِّك لسانه ويقول أساطيرَ الأولين مثلَ ما حدثتُكم من القرون الماضية ، فقال أبو سفيان : إني لأراه حقاً ، فقال أبو جهل : كلا فنزلت .
{ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } من الجَعْل بمعنى الإنشاء و ( على ) متعلقةٌ به وضمير قلوبهم راجعٌ إلى ( مَنْ ) وجمعيتُه بالنظر إلى معناها كما أن إفراد ضميرِ يستمعُ بالنظر إلى لفظها وقد رُوعيَ جانب المعنى في قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } الآية ، والأكنة جمع كِنان وهو ما يُستر به الشيءُ ، وتنوينُها للتفخيم ، والجملة إما مستأنفةٌ للإخبار بما تضمنه من الخَتْم أو حال من فاعل يستمع بإضمار قد عند من يقدِّرها قبل الماضي الواقعِ حالاً أي يستمعون إليك وقد ألقينا على قلوبهم أغطية كثيرة لا يقادر قدرُها خارجةً عما يتعارفه الناس { أَن يَفْقَهُوهُ } أي كراهةَ أن يفقهوا ما يستمعونه من القرآن المدلولِ عليه بذكر الاستماع ، ويجوزُ أن يكونَ مفعولاً لما يُنبىء عنه الكلامُ أي منعناهم أن يفقهوه { وَفِي آذَانِهِم وَقْراً } صَمماً وثِقَلاً مانعاً من سماعه ، والكلام فيه كما في قوله تعالى : { على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } وهذا تمثيلٌ مُعرِبٌ عن كمال جهلهم بشؤون النبي عليه الصلاة والسلام وفرطِ نُبُوَّة قلوبهم عن فهم القرآن الكريم ومجِّ أسماعِهم له ، وقد مر تحقيقه في أو سورة البقرة وقيل : هو حكاية لما قالوا : { قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ } الآية ، وأنت خبير بأن مرادهم بذلك الإخبارُ بما اعتقدوه في حق القرآن والنبي عليه الصلاة والسلام جهلاً وكفراً من اتصافهما بأوصافٍ مانعة من التصديق والإيمان ، ككون القرآن سِحراً وشعراً وأساطيرَ الأولين ، وقسْ على ما تخيلوه في حق النبي صلى الله عليه وسلم ، لا الإخبارُ بأن هناك أمراً وراء ذلك قد حال بينهم وبين إدراكه حائلٌ من قِبَلِهم حتى يُمكِنَ حملُ النظم الكريم على ذلك { وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ } من الآيات القرآنية أي يشاهدوها بسماعها { لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا } على عموم النفي لا على نفي العموم أي كفروا بكل واحدة منها لعدم اجتلائهم إياها كما هي لما مر من حالهم { حتى إِذَا جَاءوكَ يجادلونك } هي حتى التي تقع بعدها الجمل ، والجملة هي قوله تعالى : { إِذَا جَاءوكَ } { يَقُولُ الذين كَفَرُواْ } وما بينهما حال من فاعل جاءوا وإنما وضع الموصولُ موضعَ الضمير ذماً لهم بما في حيِّز الصلة وإشعاراً بعِلة الحكم ، أي بلَغوا من التكذيب والمكابرة إلى أنهم إذا جاءوك مجادلين لك لا يكتفون بمجرد عدم الإيمان بما سمعوا من الآيات الكريمة بل يقولون : { إِنَّ هَذَا } أي ما هذا { إِلاَّ أساطير الاولين } فإنّ عَدَّ أحسنِ الحديث وأصدقِه الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه من قبيل الأباطيلِ والخرافاتِ رتبةٌ من الكفر لا غاية وراءها ، ويجوز أن تكون ( حتى ) جارّةً و ( إذا ) ظرفيةً بمعنى وقتِ مجيئهم ، ويجادلونك حال كما سبق وقوله تعالى : { يَقُولُ الذين كَفَرُواْ } الخ ، تفسيرٌ للمجادلة والأساطيرُ جمع أُسطورة أو أسطارة أو جمع أسطار وهو جمع سَطَر بالتحريك وأصل الكل السَّطْر بمعنى الخط .(2/346)
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
{ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ } الضمير المرفوع للمذكورين ، والمجرورُ للقرآن أي لا يقتنعون بما ذكر من تكذيبه وعدِّه من قبيل الأساطير ، بل ينهَوْن الناسَ عن استماعه لئلا يقِفوا على حقّيته فيؤمنوا به { وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } أي يتباعدون عنه بأنفسهم إظهاراً لغاية نفورهم عنه وتأكيداً لنهيهم عنه ، فإن اجتنابَ الناهي عن المنهيِّ عنه من متمّمات النهْي ، ولعل ذلك هو السرُّ في تأخير النأْي عن النهْي وقيل : الضميرُ المجرور للنبي عليه الصلاة والسلام وقيل : المرفوعُ لأبي طالب ، ولعل جمعيته باعتبار استتباعه لأتباعه ، فإنه كان ينهى قريشاً عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وينآى عنه فلا يؤمن به ، وروي أنهم اجتمعوا إليه وأرادوا برسول الله صلى الله عليه وسلم سوءاً فقال :
والله لن يَصِلوا إليك بجمعِهم ... حتى أُوسَّدَ في التراب دفينا
فاصدَعْ بأمرك ما عليك غضاضة ... وابشُرْ بذاك وقَرَّ منه عيونا
ودعوتني وزعمتَ أنك ناصحي ... ولقد صدقت وكنت ثَمَّ أمينا
وعرضتَ ديناً لا محالةَ إنه ... من خيرِ أديان البرية دينا
لولا الملامةُ أو حِذاري سُبّة ... لوجدتني سَمْحاً بذاك مبينا
فنزلت { وَإِن يُهْلِكُونَ } أي ما يهلكون بما فعلوا من النهي والنأي { إِلاَّ أَنفُسُهُمْ } بتعريضها لأشد العذاب وأفظعِه عاجلاً وآجلاً وهو عذابُ الضلال والإضلال وقوله تعالى : { وَمَا يَشْعُرُونَ } حال من ضمير ( يُهلكون ) أي يقصُرون الإهلاكَ على أنفسهم والحال أنهم ما يشعرون أي لا بإهلاكهم أنفسَهم ولا باقتصار ذلك عليها من غير أن يُضِروا بذلك شيئاً من القرآن والرسولِ عليه الصلاة والسلام والمؤمنين . وإنما عبّر عنه بالإهلاك مع أن النفيَ عن غيرهم مطلقُ الضرر إذ غايةُ ما يؤدي إليه ما فعلوا من القدح في القرآن الكريم الممانعةُ في تمشّي أحكامِه وظهورِ أمر الدين للإيذان بأن ما يَحيق بهم هو الهلاكُ لا الضررُ المطلقُ ، على أن مقصِدهم لم يكن مطلقَ الممانعة فبما ذُكر بل كانوا يبغون الغوائلَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين . ويجوز أن يكون الإهلاكُ معتبراً بالنسبة إلى الذين يُضِلونهم بالنهي ، فقصْرُه على أنفسهم حينئذ مع شموله للفريقين مبنيٌّ على تنزيلِ عذاب الضلالِ عند عذاب الإضلال منزلةَ العدم .
{ وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار } شروعٌ في حكاية ما سيصدر عنهم يوم القيامة من القول المناقضِ لما صدر عنهم في الدنيا من القبائحِ المَحْكيّة مع كونه كِذْباً في نفسه ، والخطابُ إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحدٍ من أهل المشاهَدة والعِيانِ قصداً إلى بيان كمالِ سوءِ حالهم وبلوغِها من الشناعة والفظاعةِ إلى حيث لا يختصُّ استغرابُها براءٍ دون راءٍ ممن اعتاد مشاهدةَ الأمورِ العجيبة ، بل كلُّ من يتأتى منه الرؤيةُ يتعجبُ من هولها وفظاعتِها ، وجوابُ ( لو ) محذوف ثقةً بظهوره وإيذاناً بقصور العبارة عن تفصيله ، وكذا مفعولُ ( ترى ) لدِلالة ما في حيِّز الظرْفِ عليه أي لو تراهم حين يوقَفون على النار حتى يعاينوها لرأيتَ ما لا يسعه التعبيرُ ، وصيغةُ الماضي للدَلالة على التحقق أو حين يطّلعون عليها اطّلاعاً وهي تحتَهم أو يدخُلونها فيعرِفون مقدارَ عذابها ، من قولهم : وقفتُه على كذا إذا فهَّمتُه وعرَّفته .(2/347)
وقرىء ( وقَفوا ) على البناء للفاعل من وقَف عليه وقوفاً .
{ فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ } أي إلى الدنيا تمنياً للرجوع والخلاص ، وهيهاتَ ، ولاتَ حينَ مناص { وَلاَ نُكَذّبَ بئايات رَبّنَا } أي بآياته الناطقةِ بأحوال النار وأهوالها ، الآمرةِ باتقائها إذ هي التي تخطُر حينئذ ببالهم ، ويتحسرون على ما فرّطوا في حقها أو بجميع آياتِه المنتظمةِ لتلك الآياتِ انتظاماً أولياً { وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } بها العاملين بمقتضاها حتى لا نرى هذا الموقفَ الهائلَ أو نكونَ من فريق المؤمنين الناجين من العذاب الفائزين بحُسن المآب ، ونصبُ الفعلين على جواب التمني بإضمار أنْ بعد الواو وإجرائها مجرى الفاء ويؤيده قراءةُ ابن مسعود وابنِ إسحاقَ ( فلا نكذبَ ) والمعنى إنْ رُدِدْنا لم نكذبْ ونكنْ من المؤمنين . وقيل : ينسَبِكُ من أن المصدرية ومن الفعل بعدها مصدرٌ ويقدّر قبله مصدرٌ متوهِّم فيُعطَف هذا عليه كأنه قيل : ليت لنا رداً وانتفاءَ تكذيبٍ وكوناً من المؤمنين ، وقرىء برفعهما على أنه كلامٌ مستأنف كقوله : دعني ولا أعودُ أي وأنا لا أعود تركتَني أو لم تترُكْني ، أو عطفٌ على ( نرد ) أو حال من ضميره فيكون داخلاً في حكم التمني كالوجه الأخير للنصب ، وتعلقُ التكذيب الآتي به لما تضمّنه من العِدَة بالإيمان وعدمِ التكذيب كما قال : ليتني رُزقتُ مالاً فأكافئَك على صنيعك فإنه متمنَ في معنى الواعد فلو رزق مالاً ولم يكافىءْ صاحبه يكون مكذِّباً لا محالة ، وقرىء برفع الأول ونصب الثاني وقد مر وجههما .(2/348)
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
{ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ } إضرابٌ عما يُنْبىءُ عنه التمني من الوعد بتصديق الآيات والإيمان بها أي ليس ذلك عن عزيمة صادقةٍ ناشئة عن رغبةٍ في الإيمان وسَوْقٍ إلى تحصيله والاتصافِ به بل لأنه ظهرَ لهم في موقفهم ذلك ما كانوا يخفونه في الدنيا من الداهيةِ الدهياء وظنوا أنهم مُواقِعوها فلِخَوْفها وهول مطلعها قالوا ما قالوا والمراد بها النارُ التي وُقفوا عليها إذ هي التي سيق الكلامُ لتهويل أمرها والتعجبِ من فظاعة حالِ الموقوفين عليها وبإخفائها تكذيبُهم بها ، فإن التكذيبَ بالشيء كفر به وإخفاءٌ له لا محالة وإيثاره على صريح التكذيب الوارد في قوله عز وجل : { هذه جَهَنَّمُ التى يُكَذّبُ بِهَا المجرمون } وقوله تعالى : { هذه النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ } مع كونه أنسبَ بما قبله من قولهم : { وَلاَ نُكَذّبَ بئايات رَبّنَا } لمراعاة ما في مقابلته من البُدُوّ ، هذا هو الذي تستدعيه جزالةُ النظم الكريم ، وأما ما قيل من أن المراد بما يُخفون كفرُهم ومعاصيهم أو قبائحُهم وفضائحُهم التي كانوا يكتُمونها من الناس فتظهرُ في صُحُفهم وبشهادة جوارحِهم عليهم أو شركِهم الذي يجحدون به في بعض مواقف القيامة بقولهم : { والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ثم يظهر بما ذُكر من شهادة الجوارحِ عليهم أو ما أخفاه رؤساءُ الكفرة عن أتباعهم من أمر البعث والنشور أو ما كتمه علماءُ أهل الكتابين من صحة نبوةِ النبي عليه الصلاة والسلام ونُعوته الشريفة عن عوامِّهم ، على أن الضميرَ المجرورَ للعوام والمرفوعَ للخواص ، أو كفرُهم الذي أخفَوْه عن المؤمنين والضميرُ المجرور للمؤمنين والمرفوعُ للمنافقين ، فبعدَ الإغضاءِ عما في كلَ منها من الاعتساف والاختلال لا سبيل إلى شيء من ذلك أصلاً لما عرفت من أن سَوْق النظم الشريف لتهويل أمر النار وتفظيعِ حال أهلها وقد ذُكر وقوفُهم عليها وأُشير إلى أنه اعتراهم عند ذلك من الخوف والخشية والحَيْرة والدهشة ما لا يُحيط به الوصفُ ، ورُتّب عليه تمنِّيهم المذكورُ بالفاء القاضيةِ بسببية ما قبلها لما بعدها ، فإسقاطُ النار بعد ذلك من تلك السببية وهي في نفسها أدهى الدواهي وأزجرُ الزواجر ، وإسنادُها إلى شيء من الأمور المذكورة التي دونها في الهول والزجر مع عدم جَرَيانِ ذكرها ثَمةَ أمرٌ يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيل عن أمثاله ، وأما ما قيل من أن المراد جزاءُ ما كانوا يُخفون فمن قبيل دخولِ البيوت من ظهورِها وأبوابُها مفتوحة فتأمل .
{ وَلَوْ رُدُّواْ } أي من موقفهم ذلك إلى الدنيا حسبما تمنَّوْه وغاب عنهم ما شاهدوه من الأهوال { لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } من فنون القبائح التي من جملتها التكذيبُ المذكورُ ونسُوا ما عاينوه بالكلية لاقتصار أنظارِهم على الشاهدِ دون الغائب { وَإِنَّهُمْ لكاذبون } أي لقومٌ ديدَنُهم الكذِبُ في كل ما يأتون وما يذرون .(2/349)
وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
{ وَقَالُواْ } عطفٌ على ( عادوا ) داخلٌ في حيز الجواب ، وتوسيطُ قولِه تعالى : { وَإِنَّهُمْ لكاذبون } بينهما لأنه اعتراضٌ مَسوقٌ لتقرير ما أفاده الشرطيةُ من كذبهم المخصوصِ ، ولو أُخِّر لأَوْهم أن المراد تكذيبُهم في إنكارهم البعثَ . والمعنى لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نُهوا عنه وقالوا : { إِنْ هِىَ } أي ما الحياة { إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } بعدما فارقنا هذه الحياةَ كأن لم يرَوا ما رأَوا من الأحوال التي أولُها البعثُ والنشور { وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبّهِمْ } الكلام فيه كالذي مر في نظيره ، خلا أن الوقوفَ هاهنا مجازٌ عن الجنس للتوبيخ والسؤال كما يوقَفُ العبدُ الجاني بين يدَيْ سيده للعقاب وقيل : عرَفوا ربَّهم حقَّ التعريف ، وقيل : وُقفوا على جزاءِ ربهم ، وقولُه تعالى : { قَالَ } استئناف مبنيٌّ على سؤال نشأ من الكلام السابق كأنه قيل : فماذا قال لهم ربهم إذ ذاك؟ فقيل : قال : { أَلَيْسَ هذا } مشيراً إلى ما شاهدوه من البعث وما يتبعه من الأمور العظام { بالحق } تقريعاً لهم على تكذيبهم لذلك وقولِهم عند سماعِ ما يتعلق به ما هو بحقَ وما هو إلا باطلٌ { قَالُواْ } استئناف كما سبق { بلى وَرَبّنَا } أكّدوا اعترافهم باليمين إظهاراً لكمال يقينهم بحقِّيته وإيذاناً بصدور ذلك عنهم بالرغبة والنشاط طمعاً في نفعه .
{ قَالَ } استئناف كما مر { فَذُوقُواْ العذاب } الذي عاينتموه ، والفاءُ لترتيب التعذيب على اعترافهم بحقية ما كفروا به في الدنيا لكن لا على أن مدارَ التعذيب هو اعترافُهم بذلك بل هو كفرُهم السابقُ بما اعترفوا بحقيته الآن كما نطق به قوله عز وجل : { بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } أي بسبب كفركم في الدنيا بذلك أو بكل ما يجب الإيمانُ به فيدخل كفرُهم به دخولاً أولياً ، ولعل هذا التوبيخَ والتقريع إنما يقع بعد ما وُقفوا على النار فقالوا ما قالوا إذِ الظاهرُ أنه لا يبقى بعد هذا الأمر إلا العذاب .(2/350)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
{ قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله } هم الذين حُكِيت أحوالُهم ، لكنْ وْضع الموصولُ موضعَ الضمير للإيذان بسبب خسرانهم بما في حيز الصلة من التكذيب بلقائه تعالى بقيام الساعة وما يترتب عليه من البعث وأحكامه المتفرعةِ عليه واستمرارِهم على ذلك ، فإن كلمةَ ( حتى ) في قوله تعالى : { حتى إِذَا جَاءتْهُمُ الساعة } غايةٌ لتكذيبهم لا لخُسرانهم فإنه أبديٌّ لا حدَّ له { بَغْتَةً } البغْتُ والبغتةُ مفاجأةُ الشيءِ بسرعة من غير شعور به يقال : بغَته بغْتاً وبغتةً أي فجأةً ، وانتصابُها إما على أنها مصدرٌ واقع موقعَ الحال من فاعل جاءتهم أي مباغتةً أو من مفعوله أي مبغوتين وإما على أنها مصدرٌ مؤكِّدٌ على غير الصدر فإنّ ( جاءتهم ) في معنى بغتتهم كقولهم : أتيته ركضاً أو مصدرٌ مؤكِّد لفعل محذوف وقع حالاً من فاعل ( جاءتهم ) أي جاءتهم الساعة تبغتهم بغتة .
{ قَالُواْ } جواب إذا { يا حسرتنا } تعالَيْ فهذا أوانُك ، والحسرةُ شدة الندم ، وهذا التحسرُ وإن كان يعتريهم عند الموت لكنْ لما كان ذلك من مبادي الساعة سُمِّيَ باسمها ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : « من مات فقد قامت قيامتُه » أو جُعل مجيءُ الساعة بعد الموت كالواقع بغير فترةٍ لسرعته { على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا } أي على تفريطنا في شأن الساعة وتقصيرنا في مراعاة حقها والاستعداد لها بالإيمان بها واكتسابِ الأعمالِ الصالحة كما في قوله تعالى : { على مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ الله } وقيل : الضميرُ للحياة الدنيا وإن لم يجْرِ لها ذكرٌ لكونها معلومة ، والتفريطُ التقصيرُ في الشيء مع القدرة على فعله وقيل : هو التضييعُ وقيل : الفَرَط السبق ومنه الفارط أي السابق ومعنى فرَّط : خلَّى السبْقَ لغيره فالتضعيف فيه للسلب كما في جلّدتُ البعير وقوله تعالى : { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ } حال من فاعل ( قالوا ) فائدتُه الأيذان بأن عذابَهم ليس مقصوراً على ما ذكِر من الحسرة على ما فات وزال ، بل يقاسون مع ذلك تحمُّلَ الأوزار الثِقال ، والإيماءُ إلى أن تلك الحسرةَ من الشدة بحيث لا تزول ولا تنسى بما يكابدونه من فنون العقوبات . والسرُّ في ذلك أن العذابَ الروحانيَّ أشدُّ من الجُسمانيِّ نعوذُ برحمة الله عز وجل منهما ، والوِزر في الأصل الحِملُ الثقيل سُمِّي به الإثمُ والذنبُ لغاية ثِقَلِه على صاحبه ، وذكرُ الظهور كذكر الأيدي في قوله تعالى : { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } فإن المعتاد حملُ الأثقالِ على الظهور كما أن المألوفَ هو الكسبُ بالأيدي ، والمعنى أنهم يتحسرون على ما لم يعملوا من الحسنات ، والحال أنهم يحمِلون أوزارَ ما عملوا من السيئات { أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ } تذييلٌ مقرِّرٌ لما قبله وتكملةٌ له أي بئس شيئاً يَزِرُونه وِزْرُهم .
{ وَمَا الحياة الدنيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ } لمّا حقَّق فيما سبق أن وراءَ الحياة الدنيا حياةً أخرى يلقَوْن فيها من الخطوب ما يلقون بَيَّن بعدَه حالَ تينِك الحياتين في أنفسهما ، واللعبُ عملٌ يشغل النفسَ ويُفتّرها عما تنتفع به ، واللهوُ صرفُها عن الجدّ إلى الهزل ، والمعنى إما على حذف المضاف أو على جعل الحياة الدنيا نفسَ اللعِب واللهوِ مبالغةً كما في قول الخنساء :(2/351)
فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ ... أي وما أعمالُ الدنيا أي الأعمالُ المتعلقةُ بها من حيث هي هي ، أو وما هي من حيث إنها محلٌ لكسب تلك الأعمال إلا لعبٌ يشغَل الناسَ ويلهيهم بما فيه من منفعةٍ سريعةِ الزوال ولذةٍ وشيكة الاضمحلال عما يعقُبهم من منفعة جليلة باقية ولذة حقيقية غير متناهية من الإيمان والعمل الصالح { وَلَلدَّارُ الاخرة } التي هي محلُ الحياة الأخرى { خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } الكفرَ والمعاصِيَ ، لأن منافعها خالصةٌ عن المضارِّ ولذاتِها غيرُ مُنغّصةٍ بالآلام ، مستمرةٌ على الدوام { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ذلك حتى تتقوا ما أنتم عليه من الكفر والعصيان ، والفاء للعطف على مقدر أي أتغفُلون فلا تعقِلون؟ أو ألا تتفكرون فتعقِلون وقرىء ( يعقلون ) على الغَيْبة .(2/352)