بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
( سورة فاتحة الكتاب وهي سبع آيات )
الفاتحة في الأصل : أولُ ما من شأنه أن يُفتح ، كالكتاب والثوب ، أُطلقت عليه لكونه واسطةً في فتحِ الكل ، ثم أُطلقت على أول كلِّ شيء فيه تدريجٌ بوجه من الوجوه كالكلام التدريجي حصولاً ، والسطور والأوراق التدريجية قراءةً وعداً والتاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية ، أو هي مصدر بمعنى الفتح ، أطلقت عليه تسميةً للمفعول باسم المصدر ، إشعاراً بأصالته كأنه نفس الفتح ، فإن تعلقه به بالذات ، وبالباقي بواسطته ، لكن لا على معنى أنه واسطة في تعلقه بالباقي ثانياً . حتى يرد أنه لا يتسنى في الخاتمة ، لما أن خَتْم الشيء عبارة عن بلوغ آخره ، وذلك إنما يتحقق بعد انقطاع الملابسة عن أجزائه الأُوَل ، بل على معنى أن الفتح المتعلق بالأول فتح له أولاً وبالذات ، وهو بعينه فتح للمجموع بواسطته ، لكونه جزءاً منه ، وكذا الكلامُ في الخاتمة فإن بلوغَ آخِرِ الشيء يعرِضُ للآخر أولاً وبالذات ، وللكل بواسطته ، على الوجه الذي تحقَّقْتَه .
والمراد بالأول ما يعُم الإضافيَّ فلا حاجة إلى الإعتذار بأن إطلاقَ الفاتحة على السورة الكريمة بتمامها باعتبار جزئها الأول ، والمرادُ بالكتاب هو المجموع الشخصي ، لا القدر المشترك بينه وبين أجزائه ، على ما عليه اصطلاحُ أهل الأصول ، ولا ضيرَ في اشتهار السورة الكريمة بهذا الاسم في أوائل عهد النبوة ، قبل تحصيل المجموع بنزول الكل ، لما أن التسمية من جهة الله عزَّ اسمه أو من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم بالإذن فيكفي فيها تحصُّلُهُ باعتبار تحققه في علمه عزَّ وجل أو في اللوح أو باعتبار أنه أُنزل جُملةً إلى السماء الدنيا ، وأملاه جبريل على السَفَرة ، ثم كان يُنزِله على النبي صلى الله عليه وسلم نُجوماً في ثلاثٍ وعشرين سنةٍ كما هو المشهور . والإضافة بمعنى اللام كما في جزء الشيء لا بمعنى مِنْ كما في خاتم فضة ، لما عرفت أن المضاف جزء من المضاف إليه ، لا جزئي له ، ومدار التسمية كونه مبدأً للكتاب على الترتيب المعهود ، لا في القراءة في الصلاة ، ولا في التعليم ولا في النزول كما قيل .
أما الأول فبيِّنٌ ، إذ ليس المرادُ بالكتاب القدرَ المشترك الصادقَ على ما يقرأ في الصلاة حتى تُعتبرَ في التسمية مبدئيتَها له . وأما الأخيران فلأن اعتبار المبدئية من حيث التعليمُ ، أو من حيث النزولُ يستدعي مراعاةَ الترتيب في بقية أجزاء الكتاب من تينك الحيثيتين ، ولا ريب في أن الترتيب التعليمي والترتيب النزولي ليسا على نسق الترتيب المعهود .
وتسمى أمَّ القرآن لكونها أصلاً ومنشأً له ، إما لمبدئيتها له ، وإما لاشتمالها على ما فيه من الثناء على الله عز وجل ، والتعبُّدِ بأمره ونهيه ، وبيانِ وعدِه ووعيده ، أو على جملةِ معانيه من الحِكَم النظرية ، والأحكام العملية ، التي هي سلوكُ الصراط المستقيم ، والاطلاعُ على معارج السعداء ، ومنازلِ الأشقياء ، والمرادُ بالقرآن هو المراد بالكتاب .(1/1)
وتسمى أمَّ الكتاب أيضاً كما يسمَّى بها اللوحُ المحفوظ ، لكونِهِ أصلاً لكل الكائنات ، والآياتُ الواضحةُ الدالة على معانيها لكونها بينةً تُحْمل عليها المتشابهاتُ ، ومناطُ التسمية ما ذُكر في أم القرآن ، لا ما أورده الإمامُ البخاري في صحيحه من أنه يُبدأ بقراءتها في الصلاة ، فإنه مما لا تعلق له بالتسمية كما أشير إليه ، وتسمى سورةَ الكنز ، لقوله عليه السلام : « إنَّها أُنْزِلَتْ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ » أو لِمَا ذُكِرَ في أُمِّ القُرآن ، كما أنه الوجهُ في تسميتها الأساسَ ، والكافية ، والوافية ، وتسمى سورةَ الحمد والشكر والدعاء وتعليم المسئلة ، لاشتمالها عليها ، وسورةَ الصلاة لوجوب قراءتها فيها ، وسورةَ الشفاء والشافية لقوله عليه السلام : « هي شفاءٌ من كُلِّ داءٍ » ، والسبع المثاني لأنها سبعُ آيات تُثَنَّى في الصلاة ، أو لتكرّر نزولِها على ما رُوي أنها نزلت مرة بمكَّة حين فرضت الصلاة وبالمدينة أخرى حين حُوِّلت القبلة ، وقد صح أنها مكيةٌ لقوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني } وهو مكي بالنص .
{ بِسْمِ الله الرَّحَمنِ الرَّحَيمِ }
اختلف الأئمة في شأن التسمية في أوائل السور الكريمة فقيل : إنها ليست من القرآن أصلاً ، وهو قولُ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه ومذهبُ مالك ، والمشهورُ من مذهب قدماء الحنفية ، وعليه قرّاءُ المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها . وقيل : إنها آية مفردة من القرآن أنزلت للفصل والتبرك بها وهو الصحيحُ من مذهب الحنفية ، وقيل : هي آية تامة من كل سورة صُدِّرت بها ، وهو قولُ ابن عباس وقد نُسب إلى ابن عمر أيضاً رضي الله عنهم ، وعليه يُحمل إطلاقُ عبارة ابن الجوزي في زاد المسير حيث قال : روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنها أنزلت مع كل سورة ، وهو أيضاً مذهبُ سعيد بنِ جبيرٍ والزُّهري وعطاءٍ وعبدِ اللّه بن المبارك ، وعليه قُرَّاءُ مكَّة والكوفةِ وفقهاؤهما ، وهو القولُ الجديد للشافعي رحمه الله ، ولذلك يُجْهر بها عنده ، فلا عبرة بما نُقِلَ عن الجصاص من أن هذا القول من الشافعي لم يسبقه إليه أحد ، وقيل إنها آية من الفاتحة مع كونها قرآناً في سائر السور أيضاً من غير تعرض لكونها جزأ منها أَوْ لا ، ولا لكونها آية تامَّةً أَوْ لا ، وهو أحدُ قولَي الشافعي على ما ذكره القرطبي . ونقل عن الخطابي أنه قول ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم . وقيل إنها آية تامة في الفاتحة وبعضٌ في البواقي . وقيل بعضُ آية في الفاتحة وآية تامة في البواقي ، وقيل إنها بعض آية في الكل ، وقيل إنها آياتٌ من القرآن متعددة بعدد السور المُصدّرة بها من غير أن تكون جزأ منها ، وهذا القول غير معزى في الكتاب إلى أحد ، وهناك قول آخرُ ذكره بعض المتأخرين ولم ينسُبْه إلى أحد وهو إنها آية تامة في الفاتحة وليست بقرآن في سائر السور ، ولولا اعتبارُ كونها آيةً تامةً لكان ذلك أحدَ محملَيْ ترددِ الشافعي ، فإنه قد نقل عنه أنها بعض آية في الفاتحة ، وأما في غيرها فقوله فيها متردد ، فقيل : بين أن يكون قرآناً أَوْ لا ، وقيل : بين أن يكون آيةً تامَّةً أَوْ لا ، قال الإمام الغزالي : والصحيح من الشافعي هو التردد الثاني .(1/2)
وعن أحمد بنِ حنبلٍ في كونها آيةً كاملة وفي كونها من الفاتحة روايتان ذكرهما ابن الجوزي ، ونقل أنه مع مالك ، وغيره ممن يقول أنها ليست من القرآن .
هذا والمشهور من هذه الأقاويل هي الثلاث الأُول ، والاتفاقُ على إثباتها في المصاحف مع الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله عز وجل يقضي بنفي القول الأول ، وثبوت القدر المشترك بين الأخيرين من غير دلالة على خصوصية أحدهما ، فإن كونها جزأ من القرآن لا يستدعي كونها جزأ من كل سورة منه ، كما لا يستدعي كونها آية منفردة منه . وأما ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما »من أن مَنْ تركها فقد ترك مائة وأربعَ عشرةً آيةً من كتاب الله تعالى« وما روي عن أبي هريرة من أنه صلى الله عليه وسلم قال : " فاتحةُ الكتاب سبعُ آياتٍ أولاهن بسم الله الرحمن الرحيم " ، وما روي عن أم سلمة من أنه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الفاتحة وعدَّ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين آية ، وإن دل كلُ واحد منها على نفي القول الثاني فليس شيء منها نصاً في إثبات القولِ الثالث ، أما الأول فلأنه لا يدل إلا على كونها آياتٍ من كتاب الله تعالى متعددةً بعدد السور المصدرة بها ، لا على ما هو المطلوبُ من كونها آية تامة من كل واحدة منها ، إلا أن يُلْتجأ إلى أن يقال أن كونها آيةً متعددةً بعدد السور المصدّرةِ بها من غير أن تكون جزءاً منها قولٌ لم يقل به أحد ، وأما الثاني فساكت عن التعرض لحالها في بقية السور ، وأما الثالثُ فناطقٌ بخلافه مع مشاركته للثاني في السكوت المذكور . والباء فيها متعلقةٌ بمضمرٍ يُنبىء عنه الفعلُ المصدَّرُ بها ، كما أنها كذلك في تسمية المسافر عند الحلول والارتحال ، وتسمية كل فاعل عند مباشرة الأفعال .
ومعناها الإستعانةُ أو الملابسةُ تبركاً ، أي باسم الله أقرأ ، أو أتلو ، وتقديم المعمول للإعتناء به والقصد إلى التخصيص ، كما في إياك نعبد ، وتقديرُ أبدأ لاقتضائه اقتصارَ التبرك على البداية مُخلّ بما هو المقصودُ ، أعني شمولَ البركة للكل ، وادعاءُ أن فيه امتثالاً بالحديث الشريف من جهة اللفظ والمعنى معاً ، وفي تقدير أقرأُ من جهة المعنى فقط ليس بشيء ، فإن مدارَ الامتثالِ هو البدءُ بالتسمية لا تقديرُ فعله ، إذ لم يقل في الحديث الكريم : كلُّ أمرٍ ذي بال لم يُقَل فيه أو لم يُضْمَر فيه أَبدأُ ، وهذا إلى آخر السورة الكريمة مقولٌ على ألسنة العباد تلقيناً لهم ، وإرشاداً إلى كيفية التبرك باسمه تعالى ، وهدايةً إلى منهاج الحمد وسؤالِ الفضل ، ولذلك سُميت السورةُ الكريمة بما ذكر من تعليم المسألة ، وإنما كُسرت ومن حق الحروف المفردة أن تُفتَحَ لاختصاصها بلزوم الحرفية والجر ، كما كسرت لامُ الأمر ، ولامُ الإضافة داخلةً على المُظْهَر للفصل بينهما وبين لام الابتداء .(1/3)
والاسم عند البصريين من الأسماء المحذوفة الأعْجَاز . المبنية الأوائل على السكون قد أُدخلت عليها عند الابتداء همزة ، لأن مِنْ دأبهم البدءَ بالمتحرِّك والوقفَ على الساكن ، ويشهد له تصريفُهم على أسماء وسُمَيٌّ وسمَّيتُ ، وسُميً كهُدىً لغة فيه قال :
واللَّه أسماكَ سُمى مباركا ... آثرك اللَّهُ به إيثاركا
والقلبُ بعيدٌ غير مطرد ، واشتقاقه من السُمو لأنه رفعٌ للمُسمَّى وتنويهٌ له ، وعند الكوفيين من السِّمة ، وأصله وَسَمَ ، حذفت الواو وعُوِّضت عنها همزةُ الوصل ليقِلَّ إعلالُها ، ورُدَّ عليه بأن الهمزة لم تُعهَدْ داخلةً على ما حُذف صدرُه في كلامهم ، ومن لغاتهم سِمٌ وسُمٌ قال :
باسمِ الذي في كلِّ سورةٍ سِمُهْ ... وإنما لم يقل باللَّهِ للفرق بين اليمين والتيمُّن ، أو لتحقيق ما هو المقصودُ بالإستعانة هاهنا ، فإنها تكون تارة بذاته تعالى . وحقيقتها طلبُ المعونة على إيقاع الفعل وإحداثه ، أي إفاضةُ القدرةِ المفسرةِ عند الأصوليين من أصحابنا بما يتمكن به العبدُ من أداء مالزِمه ، المنقسمةِ إلى ممكِنة وميسِّرة ، وهي المطلوبة بإياك نستعين ، وتارة أخرى باسمه عز وعلا . وحقيقتها طلبُ المعونة في كون الفعل معتداً به شرعاً فإنه ما لم يُصَدَّر باسمهِ تعالى يكون بمنزلةِ المعدوم . ولما كانت كل واحدة من الإستعانتين واقعةً وجب تعيينُ المراد بذكر الاسم ، وإلا فالمتبادَرُ من قولنا بالله عند الإطلاق لا سيما عند الوصف بالرحمن الرحيم هي الإستعانة الأولى .
إن قيل : فليُحمل الباء على التبرك وليستَغْنَ عن ذكر الاسم ، لما أن التبرك لا يكون إلا به ، قلنا : ذاك فرعُ كون المراد بالله هو الاسم ، وهل التشاجرُ إلا فيه ، فلا بد من ذكر الاسم لينقطعَ احتمالُ إرادة المسمَّى . ويتَعَينُ حمل الباء على الإستعانة الثانية أو التبرك . وإنما لم يكتب الألف لكثرة الإستعمال قالوا : وطُوِّلتِ الباءُ عوضاً عنها .
( والله ) أصله الإله ، فحذفت همزته على غير قياس كما يُنْبِىءُ عنه وجوب الإدغام ، وتعويض الألف واللام عنها ، حيث لزماه وجُرِّدا من معنى التعريف ، ولذلك قيل : يالله بالقطع ، فإن المحذوف القياسيَّ في حكم الثابت ، فلا يحتاج إلى التدارك بما ذُكِرَ من الإدغام والتعويض . وقيل : على قياس تخفيف الهمزة ، فيكون الإدغام والتعويض من خواص الاسم الجليل ، ليمتاز بذلك عما عداه امتياز مسمّاه عما سواه بما لا يوجد فيه من نعوت الكمال .(1/4)
والإله في الأصل اسمُ جنسٍ يقع على كل معبود بحقٍ أو باطل ، أي مع قطع النظرِ عن وصف الحقية والبطلان ، لا مع اعتبارِ أحدهما بعينه ، ثم غلب على المعبود بالحق كالنجم والصَّعِقْ . وأما الله بحذف الهمزة فعلمٌ مختصٌّ بالمعبود بالحقِّ لم يطلق على غيره أصلاً ، واشتقاقه من الإلاهة والأُلوهَة ، والأُلوهِية بمعنى العبادة حسبما نص عليه الجوهري ، على أنه اسمٌ منها بمعنى المألوه ، كالكتاب بمعنى المكتوب ، لا على أنه صفة منها ، بدليل أنه يوصف ولا يوصف به ، حيث يُقال إله واحد ، ولا يُقال شيء إلهٌ ، كما يُقال كتاب مرقوم ، ولا يقال شيء كتاب . والفرق بينهما أن الموضوع له في الصفة هو الذاتُ المبهمةُ باعتبار اتصافِها بمعنىً معيّنٍ وقيامِهِ بها . فمدلولها مركبٌ من ذاتٍ مُبهمةٍ لم يُلاحظ معها خصوصية أصلاً ، ومِن معنىً معينٍ قائمٍ بها على أن مَلاك الأمرِ تلك الخصوصية ، فبأيِّ ذاتٍ يقومُ ذلك المعنى يصحّ إطلاقُ الصفة عليها ، كما في الأفعال . ولذلك تَعْمَلُ عملها كاسمي الفاعلِ والمفعول . والموضوع له في الاسم المذكور هو الذاتُ المعينة والمعنى الخاص ، فمدلوله مركب من ذَيْنِكَ المعنيين من غيرِ رجحانٍ للمعنى على الذات كما في الصفة ، ولذلك لم يعمل عملها .
وقيل : اشتقاقه من إلِهَ بمعنى تحير ، لأنه سبحانه يحارُ في شأنه العقول والأفهام . وأما أَلَهَ كعَبَدَ وزناً ومعنىً فمشتق من الإلَه المشتق من إلِهَ بالكسر ، وكذا تألَّه واستَأْلَه اشتقاق : استنوق واستحجر من الناقة والحَجَر . وقيل : من أَلِهَ إلى فلان أي سكن إليه ، لاطمئنان القلوب بذكره تعالى وسكون الأرواح إلى معرفته . وقيل : من أَلِهَ إذا فزِع من أمرٍ نزل به ، وآلَهَهُ غيرُه إذا أجاره ، إذ العائذُ به تعالى يفزَع إليه وهو يُجيره حقيقة أو في زعمه . وقيل : أصله لاهٌ على أنه مصدر من لاهَ يَلِيهُ بمعنى احتجب وارتفع ، أطلق على الفاعل مبالغة . وقيل : هو اسمُ علمٍ للذات الجليل ابتداء وعليه مدار أمر التوحيد في قولنا «لا إله إلاَّ الله» .
ولا يخفى أن اختصاصَ الاسم الجليل بذاته سبحانه بحيث لا يمكن إطلاقُه على غيره أصلاً كافٍ في ذلك ، ولا يقدَح فيه كونُ ذلك الاختصاصِ بطريق الغَلَبة بعد أن كان اسمَ جنسٍ في الأصل ، وقيل : هو وصفٌ في الأصل لكنه لما غلب عليه بحيث لا يُطلق على غيره أصلاً صار كالعلم ، ويردّه امتناعُ الوصف به .
وأعلم أن المراد بالمنَكَّر في كلمة التوحيد هو المعبودُ بالحق ، فمعناها : لافرادَ من أفراد المعبود بالحق إلا ذلك المعبودُ بالحق . وقيل : أصلُه لاَهَا بالسريانية فعُرِّب بحذف الألف الثانية ، وإدخال الألف واللام عليه وتفخيم لامه إذا لم ينكسر ما قبله سنة ، وقيل : مطلقاً ، وحذفُ ألفِه لحنٌ تفسد به الصلاة ، ولا ينعقد به صريحُ اليمين ، وقد جاء لضرورة الشعر في قوله :(1/5)
ألا لا بارك اللَّهُ في سُهيل ... إذا ما اللَّهُ باركَ في الرجالِ
و { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } صفتان مبنيتان من رَحِمَ «بعد جعله لازماً» بمنزلة الغرائز ، بنقله إلى رَحُمَ بالضم كما هو المشهور . وقد قيل : إن الرحيم ليس بصفة مشبَّهة ، بل هي صيغة مبالغة ، نص عليه سِيبَويه في قولهم : هو رحيمٌ فلاناً . والرحمة في اللغة رقة القلب والانعطاف ، ومنه الرَّحِمُ لانعطافها على ما فيها . والمراد هاهنا التفضل والإحسان ، وإرادتهما بطريق إطلاق اسم السبب بالنسبة إلينا على مسَبّبِهِ البعيد أو القريب ، فإنَّ أسماء الله تعالى تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادىء التي هي انفعالات . والأولُ من الصفات الغالبة حيث لم يطلق على غيره تعالى ، وإنما امتنع صرفُه إلحاقاً له بالأغلب في بابه من غير نظر إلى الاختصاص العارض ، فإنه كما حظِر وجود فعلى حُظِر وجود فعلانة ، فاعتبارُه يوجب اجتماعَ الصرف وعدمَه ، فلزم الرجوع إلى أصل هذه الكلمة قبل الاختصاص ، بأن تقاس إلى نظائرها من باب فَعِلَ يَفْعَلُ ، فإذا كانت كلها ممنوعة من الصرف لتحقق وجود فَعْلى فيها ، علم أن هذه الكلمة أيضاً في أصلها مما تحقق فيها وجود فعلى ، فتُمنع من الصرف ، وفيه من المبالغة ما ليس في الرحيم ولذلك قيل : يا رحمن الدنيا والآخرة ، ورحيم الدنيا وتقديمه مع كون القياسِ تأخيرَه رعايةً لأسلوب الترقي إلى الأعلى ، كما في قولهم فلان عالمٌ نِحْرير ، وشجاعٌ باسل ، وجَوَادٌ فيَّاض ، لأنه باختصاصه به عز وجل صار حقيقاً بأن يكون قريناً للاسم الجليل الخاص به تعالى ، ولأن ما يدل على جلائل النعم وعظائمها وأصولها أحقُّ بالتقديم مما يدل على دقائقها وفروعها . وإفراد الوصفين الشريفين بالذكر لتحريك سلسلة الرحمة .
{ الحمد للَّهِ } الحمد هو : النعتُ بالجميل على الجميل ، اختيارياً كان أو مبدأً له ، على وجه يُشْعِرُ بتوجيهه إلى المنعوت وبهذه الحيثية يمتازُ عن المدحِ ، فإنَّهُ خالٍ عنها ، يرشدك إلى ذلك ما ترى بينهما من الاختلاف في كيفية التعلق بالمفعول في قولك : حمدته ومدحته ، فإن تعلق الثاني بمفعوله على منهاج تعلق عامة الأفعال بمفعولاتها ، وأما الأولُ فتعلقه بمفعوله مُنْبىء عن معنى الإنهاء ، كما في قولك : كَلَّمْتُه ، فإنه مُعْرَبٌ عما تفيده لام التبليغ في قولك : قلتُ ، ونظيرُه وشَكَرْتُه وعبدتُه وخدمتُه ، فإن تعلّق كلَ منها منبىء عن المعنى المذكور ، وتحقيقُه : أن مفعول كلِّ فعلٍ في الحقيقة هو الحدث الصادرُ عن فاعله ولا يُتصور في كيفية تعلق الفعل به أيَّ فعل كان اختلافٌ أصلاً . وأما المفعولُ به الذي هو محلُّه وموقِعُه ، فلما كان تعلقه به ووقوعُه عليه على أنحاءَ مختلفةٍ حسبما يقتضيه خصوصياتُ الأفعال بحسب معانيها المختلفة ، فإن بعضها يقتضي أن يلابسه ملابسةً تامَّةً مؤثرة فيه كعامة الأفعال ، وبعضها يستدعي أن يلابسَه أدنى ملابسة .(1/6)
إما بالانتهاء إليه كالإعانة مثلاً ، أو بالإبتداءِ منه كالإستعانة مثلاً ، اعتبر في كل نحو من أنحاءِ تعلّقِه به كيفية لائقةٌ بذلك النحو ، مغايرةٌ لما اعتبر في النحْوَيْنِ الأخيرين .
فنظمُ القسمِ الأول من التعلق في سلك التعلقِ بالمفعولِ الحقيقي مراعاةً لقوة الملابسة ، وجُعِل كلُّ واحدٍ من القسمين الأخيرين من قبيل التعلق بواسطة الجارّ المناسب له ، فإن قولَكَ أعنتُه مشعرٌ بانتهاء الإعانةِ إليه ، وقولك استعنتُه بابتدائها منه ، وقد يكون لفعلٍ واحدٍ مفعولان يتعلق بأحدهما على الكيفية الأولى ، وبالآخَرِ على الثانية أو الثالثة ، كما في قولك حدثني الحديث ، وسألني المالَ ، فإن التحديثَ مع كونه فعلاً واحداً قد تعلّقَ بك على الكيفية الثانية ، وبالحديث على الأولى ، وكذا السؤال فإنه فعل واحد ، وقد تعلّق بك على الكيفية الثالثة وبالمال على الأولى .
ولا ريب في أن اختلافَ هذه الكيفيات الثلاثِ وتبايُنَها واختصاصَ كلَ من المفاعيلِ المذكورةِ بما نُسِبَ إليه منها مما لا يُتصور فيه تردُّدٌ ولا نَكيرٌ وإن كان لا يتضحُ حقَّ الاتضاح إلا عند الترجمة والتفسير ، وإن مدارَ ذلك الاختلاف ليس إلا اختلافَ الفعل أو اختلاف المفعول ، وإذ لاختلاف في مفعول الحمد والمدح تَعَيَّنَ أن اختلافهما في كيفيةِ التعلق ، لاختلافهما في المعنى قطعاً . هذا وقد قيلَ : المدحُ مطلقٌ عن قيدِ الإختيار ، يُقال : مدحتُ زيداً على حُسْنِهِ ورشاقةِ قَدِّهِ ، وأيًّاما كان فليس بينهما ترادفٌ ، بل أُخوّةٌ من جهةِ الاشتقاق الكبير ، وتناسبٌ تام في المعنى كالنصر والتأييد فإنهما متناسبان معنىً من غير ترادفٍ لما ترى بينهما من الاختلاف في كيفية التعلق بالمفعول ، وإنما مرادفُ النصر الإعانة ، ومرادف التأييد التقوية ، فتدبر .
ثم إن ما ذُكِرَ من التفسير هو المشهورُ من معنى الحمد ، واللائقُ بالإرادة في مقام التعظيم ، وأما ما ذُكِرَ في كُتُبِ اللغةِ من معنى الرضى مطلقاً كما في قوله تعالى : { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا } وفي قولهم : لهذا الأمر عاقبةٌ حميدةٌ ، وفي قول الأطباء : بُحْرَانٌ محمود ، مما لا يختص بالفاعل فضلاً عن الإختيار فبمعزل عن استحقاق الإرادة هاهنا استقلالاً ، أو استتباعاً بحملِ الحمدِ على ما يعم المعنيين ، إذ ليس في إثباته له عز وجل فائدةٌ يُعْتَدُ بها . وأما الشكْرُ فهو مقابلة النعمة بالثناء وآداب الجوارح ، وعقدُ القلبِ على وصفِ المنعم بنعت الكمال كما قال من قال :
أفادتكم النَّعْمَاءُ مني ثلاثة ... يدي ولساني والضميرَ المُحجبا
فإذن هو أعمُّ منهما من جهة ، وأخص من أخرى . ونقيضُهُ الكفران ، ولما كان الحمد من بين شُعَبِ الشكر أَدْخَلَ في إشاعةِ النعمةِ والاعتدادِ بشأنِها ، وأدلَّ على مكانها لِما في عمل القلب من الخفاء ، وفي أعمال الجوارحِ من الاحتمال ، جُعِلَ الحمدُ رأسَ الشكر ، ومِلاكاً لأمره في قوله صلى الله عليه وسلم : « الحمدُ رأسُ الشُّكرِ ، ما شكرَ الله عبدٌ لم يحمدْهُ »(1/7)
وارتفاعُهُ بالابتداء ، وخبرُه الظرف ، وأصلُه النَصْبُ كما هو شأن المصادر المنصوبة بأفعالها المُضمرة التي لا تكاد تُستعمل معها ، نحو شُكراً وعجباً ، كأنه قيل : نحمد الله حمداً بنون الحكاية ، ليوافق ما في قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } لاتحاد الفاعل في الكل ، وأما ما قيل من أنه بيانٌ لحمدِهم له تعالى ، كأنَّهُ قيل : كيف تحمَدون؟ فقيل : إياكَ نعبد فمع أنه لا حاجةَ إليه مما لا صحةَ له في نفسِهِ ، فإنَّ السؤالَ المقدرَ لا بدَّ أنْ يكون بحيثُ يقتضيهِ انتظامُ الكلامِ وينساقُ إليه الأذهانُ والأفهامُ ، ولا ريبَ في أن الحامد بعد ما ساق حمده تعالى على تلك الكيفيةِ اللائقةِ لا يَخْطُرُ ببالِ أحدٍ أن يسألَ عن كيفيتهِ على أنَّ ما قُدِرَ من السؤال غيرُ مطابقٍ للجواب ، فإنه مسوقٌ لتعيين المعبود ، لا لبيان العبادة ، حتى يُتَوَهم كونُه بياناً لكيفية حمدهم والاعتذارُ بأن المعنى نخصك بالعبادة وبه يتبين كيفيةُ الحمد تعكيسٌ للأمرِ ، وتَمَحّلٌ لتوفيق المُنَّزَل المقرَّرِ بالموهومِ المُقدّر .
وبعدَ اللُّتَيا والتي أنْ فُرِضَ السؤال من جهتِهِ عز وجل فأتَتْ نُكْتَت الإلتفاتِ التي أجمع عليها السلف والخلف ، وإن فُرِضَ من جهةِ الغيرِ يختلُ النظام لابتناءِ الجوابِ على خطابِهِ تعالى ، وبهذا يتضحُ فسادَ ما قيل : أنه استئنافٌ جواباً لسؤال يقتضيه إجراءُ تلك الصفات العظامِ على الموصوف بها ، فكأنه قيل : ما شأنُكم معه وكيف توجُّهكم إليه ، فأجيب بحصْر العبادة والاستعانة فيه ، فإن تناسِيَ جانبِ السائل بالكلية وبناءَ الجواب على خِطابه عز وعلا مما يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيل عن أمثاله .
والحقُّ الذي لا محيدَ عنه أنَّهُ استئنافٌ صدرَ عن الحامد بمحضِ ملاحظةِ اتصافِهِ تعالى بما ذُكِرَ من النعوت الجليلةِ الموجبة للإقبال الكليّ عليه ، من غير أن يتوسط هناك شيء آخرُ كما ستحيط به خُبرا ، وإيثارُ الرفعِ على النصب الذي هو الأصلُ للإيذان بأن ثبوتَ الحمد له تعالى لذاته لا لإثبات مُثبت ، وأن ذلك أمرٌ دائمٌ مستمرٌ لا حادثٌ متجددٌ كما تفيده قراءةُ النصب ، وهو السر في كون تحية الخليل للملائكة عليهم التحيةُ والسلام أحسنَ من تحيتهم له في قوله تعالى : { قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ } وتعريفُه للجنس ، ومعناه الإشارةُ إلى الحقيقة من حيث هي حاضرةٌ في ذهن السامع ، والمراد تخصيصُ حقيقةِ الحمدِ به تعالى المستدعي لتخصيص جميعِ أفرادِها به سبحانه على الطريق البرهاني ، لكن لا بناءً على أن أفعال العبادِ مخلوقةٌ له تعالى ، فتكونَ الأفرادُ الواقعة بمقابلة ما صدر عنهم من الأفعال الجميلة راجعةً إليه تعالى ، بل بناءً على تنزيل تلك الأفراد ودواعيها في المقام الخطابيّ منزلةَ العدم كيفاً وكماً .
وقد قيل : للإستغراق الحاصل بالقصد إلى الحقيقة من حيث تحققُها في ضمن جميع أفرادها ، حسبما يقتضيه المقام ، وقرىء : الحمدُ لُلَّهِ بكسر الدال إتباعاً لها باللام ، وبضم اللام إتباعاً لها بالدال ، بناء على تنزيل الكلمتين لكثرة استعمالهما مقترنتين منزلة كلمةٍ واحدة ، مثل المِغِيرة ومُنْحَدُرُ الجبل .(1/8)
{ رَبّ العالمين } بالجر على أنه صفة لله ، فإن إضافته حقيقيةً مفيدةٌ للتعريف على كل حال ، ضرورةَ تعيُّن إرادة الاستمرار ، وقرىء منصوباً على المدح ، أو بما دلت عليه الجملةُ السابقة ، كأنه قيل : نحمد الله ربَّ العالمين ولا مساغَ لنصبه بالحمد لقلة أعمال المصدر المُحلى باللام ، وللزوم الفصل بين العامل والمعمول بالخبر ، والرب : في الأصل مصدرٌ بمعنى التربية وهي تبليغُ الشيءِ إلى كماله شيئاً فشيئاً ، وُصف به الفاعل مبالغةً كالعدل .
وقيل : صفة مشبهة ، من ربَّه يرُبُّه ، مثل نمَّه يُنمُّه ، بعد جعله لازماً بنقله إلى فعُل بالضم ، كما هو المشهور ، سُمّي به المالكُ لأنه يحفظ ما يملِكه ويربيه ، ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيداً كربُّ الدار وربُّ الدابة ، ومنه قوله تعالى : { فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا } وقوله تعالى : { ارْجِعْ إِلَى رَبّكَ } وما في الصحيحين من أنه صلى الله عليه وسلم قال : « لا يَقُل أحدُكم أطعِمْ ربك ، وضِّىء ربَّك ، ولا يَقُلْ أحدُكم ربِّي ، ولْيَقُل سَيّدي ومولاي »
فقد قيل : إن النهيَ فيه للتنزيه ، وأما الأربابُ فحيث لم يمكن إطلاقُه على الله سبحانه جاز في إطلاقه الإطلاق والتقييد ، كما في قوله تعالى : { مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ } الآية . و ( العالم ) اسمٌ لما يُعْلَم به ، كالخاتَم والقالَب ، غلب فيما يُعْلَم به الصانعُ تعالى من المصنوعات أي في القَدْرِ المشترك بين أجناسها وبين مجموعِها ، فإنه كما يُطلق على كل جنسٍ جنسٌ منها في قولهم عالم الأفلاك ، وعالمُ العناصر ، وعالمُ النبات ، وعالم الحيوان ، إلى غير ذلك ، يطلق على المجموع أيضاً ، كما في قولنا العالم بجميع أجزائه مُحْدَث ، وقيل : هو اسم لأولي العلم من الملائكة والثقلين وتناولُه لما سواهم بطريق الاستتباع .
وقيل : أريد به الناسُ فقط ، فإنَّ كلَّ واحدٍ منهم من حيث اشتمالُه على نظائِر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض يُعلم بها الصانع ، كما يُعلم بما في كل عالَم على حِيالِه ، ولذلك أمُر بالنظر في الأنفس كالنظر في الآفاق ، فقيل : { وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } والأول هو الأحق الأظهر ، وإيثارُ صيغة الجمع لبيان شمول ربوبيته تعالى لجميع الأجناس ، والتعريفُ لاستغراق أفراد كلَ منها بأسرها ، إذ لو أفرد لربما تُوهِّم أن المقصود بالتعريف هو الحقيقة من حيث هي ، أو استغراقُ أفرادِ جنسٍ واحد على الوجه الذي أشير إليه في تعريف الحمد ، وحيث صح ذلك بمساعدة التعريف نُزِّلَ العالم وإن لم يُطلق على آحاد مدلوله منزلة الجمع ، حتى قيل : إنه جمعٌ لا واحد له من لفظه ، فكما أن الجمعَ المعَرَّفَ يستغرق آحادَ مُفرَدِه وإن لم يصدُقْ عليها كما في مثل قوله تعالى : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } أي كلَّ محسن ، كذلك العالمُ يشملُ أفرادَ الجنسِ المسمَّى به ، وإن لم يُطلق عليها ، كأنها آحادُ مفردِه التقديريّ ، ومن قضية هذا التنزيلِ تنزيلُ جمعِه منزلةَ جمعِ الجمع ، فكما أن الأقاويلَ تتناول كلَّ واحد من آحادِ الأقوال ، يتناول لفظُ العالمين كلَّ واحد من آحادِ الأجناس التي لا تكاد تُحصى .(1/9)
روي عن وهْب ابن منبه أنه قال : «لله تعالى ثمانيةَ عشرَ ألفَ عالَم ، والدنيا عالم منها» وإنما جُمِع بالواو والنون مع اختصاصِ ذلك بصفاتِ العُقلاء وما في حكمها من الأعلام لدلالته على معنى العَلَم ، مع اعتبار تغليبِ العقلاء على غيرهم . واعلم أن عدم إطلاقِ اسم العالَم على كل واحد من تلك الآحادِ ليس إلا باعتبار الغلَبة والاصطلاح ، وأما باعتبار الأصل فلا ريب في صحة الإطلاقِ قطعاً لتحقّق المصداقِ حتماً ، فإنه كما يُستدل على الله سبحانه بمجموع ما سواه ، وبكل جنسٍ من أجناسِه يُستدل عليه تعالى بكل جزءٍ من أجزاءِ ذلك المجموع ، وبكل فردٍ من أفراد تلك الأجناس ، لتحقّق الحاجةِ إلى المؤثِّر الواجب لذاته في الكُلِّ ، فإنَّ كل ما ظهرَ في المظاهر مما عزَّ وهانَ وحضَرَ في هذه المحاضر كائناً ما كان دليلٌ لائح على الصانع المجيد ، وسبيلٌ واضح إلى عالم التوحيد ، وأما شمولُ ربوبيته عز وجل للكل فمما لا حاجة إلى بيانه ، إذ لا شيءَ مما أحدق به نطاقُ الإمكان والوجود من العُلويات والسُفليات والمجرّدات والماديات والروحانيات والجسمانيات إلا وهو في حدّ ذاته بحيث لو فُرض انقطاعُ آثارِ التربية عنه آناً واحداً لما استقر له القرار ، ولا اطمأنت به الدار ، إلا في مطمورة العدم ومهاوي البوار ، لكن يُفيضُ عليه من الجناب الأقدس ، تعالى شأنُه وتقدس ، في كل زمانٍ يمضي ، وكل آنٍ يمر وينقضي ، من فنون الفيوضِ المتعلقةِ بذاته ، ووجودِه وصفاتِه وكمالاتِه مما لا يحيطُ به فَلَكُ التعبير ولا يعلمه إلا العليمُ الخبير ، ضرورةَ أنه كما لا يستحق شيءٌ من الممكنات بذاتِه الوجودَ ابتداءً لا يستحقه بقاءً ، وإنما ذلك من جناب المُبدأ الأول عز وعلا ، فكما لا يُتصور وجودُه ابتداءً ما لم ينسدَّ عليه جميعُ أنحاءِ عدمِه الأصلي ، لا يتصور بقاؤُه على الوجود بعد تحققه بعِلَّته ما لم ينسدَّ عليه جميعُ أنحاءِ عدمِه الطارىء ، لما أن الدوام من خصائص الوجودِ الواجبي ، وظاهرٌ أن ما يتوقف عليهما وجودُه من الأمور الوجودية التي هي عِلَلُهُ وشرائِطُه وإن كانت متناهيةً لوجوب تناهي ما دخلَ تحتَ الوجود ، لكنِ الأمورُ العدميةُ التي لها دخلٌ في وجوده وهي المعبَّر عنها بارتفاع الموانع ليست كذلك ، إذْ لا استحالة في أن يكون لشيءٍ واحدٍ موانعُ غيرُ متناهية يتوقف وجودُه أو بقاؤه على ارتفاعها ، أو بقائها على العدم مع إمكان وجودها في نفسها ، فإبقاءُ تلك الموانِع التي لا تتناهى على العدم تربيةٌ لذلك الشيءِ من وجوهٍ غيرِ متناهية .
وبالجملة فآثارُ تربيتِه عز وجل الفائضةُ على كل فرد من أفراد الموجودات في كل آنٍ من آنات الوجود غيرُ متناهية ، فسبحانه ما أعظمَ شأنَه لا تلاحظه العيونُ بأنظارها ، ولا تطالعُه العقولُ بأفكارها ، شأنُه لا يُضاهى ، وإحسانُه لا يتناهى ، ونحن في معرفته حائِرون ، وفي إقامة مراسمِ شكرِه قاصرون ، نسألك اللهم الهدايةَ إلى مناهج معرفتِك ، والتوفيقَ لأداء حقوقِ نعمتك ، لا نُحصي ثناءً عليك لا إله إلاّ أنت ، نستغفرُك ونتوب إليك .(1/10)
{ الرحمن الرحيم } صفتان لله ، فإن أريد بما فيهما من الرحمة ما يختص بالعقلاء من العالمين أو ما يَفيضُ على الكل بعد الخروج إلى طوْر الوجودِ من النعم ، فوجهُ تأخيرِهما عن وصف الربوبية ظاهر ، وإن أريد ما يعمّ الكلَّ في الأطوار كلِّها حسبما في قوله تعالى : { وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء } فوجهُ الترتيب أن التربية لا تقتضي المقارنة للرحمة ، فإيرادُهما في عقبها للإيذان بأنه تعالى متفضلٌ فيها ، فاعلٌ بقضية رحمتِه السابقةِ من غير وجوبٍ عليه ، وبأنها واقعةٌ على أحسنِ ما يكون ، والاقتصارُ على نعته تعالى بهما في التسمية لما أنه الأنسبُ بحال المتبرِّك المستعين باسمه الجليل ، والأوفقُ لمقاصده .
{ مالك يَوْمِ الدين } صفةٌ رابعة له تعالى ، وتأخيرُها عن الصفات الأُوَل مما لا حاجة إلى بيان وجهِه ، وقرأ أهلُ الحرمَيْن المحترمَيْن ( ملِك ) من المُلْك الذي هو عبارةٌ عن السلطان القاهر ، والاستيلاءِ الباهر ، والغلبةِ التامة ، والقُدرةِ على التصرف الكليّ في أمور العامة ، بالأمر والنهي ، وهو الأنسبُ بمقام الإضافة إلى يوم الدين ، كما في قوله تعالى : { لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ } وقرىء ( مَلْكِ ) بالتخفيف و ( مَلَكَ ) بلفظ الماضي ، ( ومَالِكَ ) بالنصب على المدح ، أو الحال ، وبالرفع منوناً ومضافاً على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوف ، ( وملِكُ ) مضافاً وبالرفع والنصب . واليومُ في العرف عبارةٌ عما بين طلوعِ الشمس وغروبها من الزمان ، وفي الشرع عما بين طلوعِ الفجرِ الثاني وغروبِ الشمس ، والمرادُ هاهنا مطلقُ الوقت . والدينُ الجزاءُ خيراً كان أو شرًّا ، ومنه الثاني في المثل السائر كما تَدين تُدان ، والأول في بيت الحماسة :
ولم يبقَ سوى العُدوا ... نِ دِنّاهم كما دانوا
وأما الأول في الأول والثاني في الثاني فليس بجزاءٍ حقيقة ، وإنما سُمّي به مشاكلة ، أو تسميةٌ للشيء باسم مسبَّبِهِ كما سُميت إرادةُ القيام والقراءة باسمهما في قوله عز اسمه : { ياأيها الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا } وقوله تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بِاللَّهِ } ولعله هو السرُّ في بناء المفاعلة من الأفعال التي تقوم أسبابُها بمفعولاتها ، نحو عاقبتُ اللصَّ ونظائرِه ، فإن قيام السرقة التي هي سببٌ للعقوبة باللص نُزّل منزلةَ قيام المسبَّبِ به ، وهي العقوبة ، فصار كأنها قامت بالجانبين ، وصدَرَت عنهما ، فَبُنيت صيغةُ المفاعلةِ الدالَّةِ على المشاركة بين اثنين . وإضافةُ اليوم إليه لأدنى ملابسةٍ كإضافة سائرِ الظروفِ الزمانية إلى ما وقع فيها من الحوادث ، كيوم الأحزابِ وعامِ الفتح ، وتخصيصُه من بين سائرِ ما يقع فيه من القيامة والجمعِ والحسابِ لكونه أدخلَ في الترغيب والترهيب ، فإن ما ذكر من القيامة وغيرِها من مبادىءِ الجزاءِ ومقدِّماته ، وإضافةُ ( مالك ) إلى اليوم ( من ) إضافة اسم الفاعل إلى الظرف ، على نهج الاتساعِ المبنيّ على إجرائه مجرى المفعولِ به ، مع بقاء المعنى على حاله ، كقولهم : يا سارقَ الليلةِ أهلَ الدار .(1/11)
أي : مالِكَ أمورِ العالمين كلِّها في يومِ الدين . وخُلوُّ إضافتِه عن إفادة التعريفِ المسوّغ لوقوعه صفةً للمعرفة إنما هو إذا أُريد به الحالُ ، أو الاستقبالُ ، وأما عند إرادة الاستمرارِ الثبوتيّ كما هو اللائقُ بالمقام فلا ريب في كونها إضافةً حقيقية كإضافة الصفة المشبهة إلى غير معمولها في قراءة ( ملك يوم الدين ) .
ويومُ الدين وإن لم يكن مستمراً في جميع الأزمنة إلا أنه لتحقق وقوعِه وبقائه أبداً أُجْرِيٍ مجرى المتحقّقِ المستمر . ويجوز أن يُراد به الماضي بهذا الاعتبار ، كما تشهد به القراءةُ على صيغة الماضي ، وما ذكر من إجراء الظرف مُجرى المفعولِ به إنما هو من حيث المعنى ، لا من حيث الإعراب ، حتى يلزمَ كونُ الإضافة لفظية ، ألا ترى أنك تقول في : مالكُ عبدِه أمسِ إنه مضاف إلى المفعول به ، على أنه كذلك معنىً ، لا أنه منصوب محلاً ، وتخصيصُه بالإضافة إما لتعظيمه وتهويله ، أو لبيان تفرّدهِ تعالى بإجراء الأمر فيه ، وانقطاعِ العلائق المجازية بين المُلاَّك والأمْلاَك حينئذٍ بالكلية ، وإجراءُ هاتيك الصفاتِ الجليلةِ عليه سبحانه تعليلٌ لما سبق من اختصاص الحمدِ به تعالى ، المستلزمِ لاختصاص استحقاقِه به تعالى ، وتمهيدٌ لما لَحِقَ من اقتصار العبادةِ والاستعانةِ عليه ، فإنَّ كلَّ واحدةٍ منها مفصِحةٌ عن وجوب ثبوتِ كلِّ واحدٍ منها له تعالى ، وامتناعِ ثبوتِها لما سواه .
أما الأولى والرابعةُ فظاهرٌ ، لأنهما متعرِّضتان صراحةً لكونه تعالى رباً مالكاً وما سواه مربوباً مملوكاً له تعالى .
وأما الثانية والثالثة فلأن اتصافَه تعالى بهما ليس إلا بالنسبة إلى ما سواه من العالمين وذلك يستدعي أن يكون الكلُّ منعماً عليهم ، فظهر أن كل واحدةٍ من تلك الصفات كما دلت على وجوب ثبوتِ الأمورِ المذكورةِ له تعالى دلت على امتناع ثبوتِها لما عداه على الإطلاق ، وهو المعنى بالاختصاص .
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } .
( سر تكرار الفاتحة في الصلاة )
التفات من الغَيْبة إلى الخطاب ، وتلوينٌ للنظم من باب إلى باب ، جارٍ على نهج البلاغة في افتنان الكلام ، ومسلَكِ البراعة حسبما يقتضي المقام ، لما أن التنقلَ من أسلوب إلى أسلوب ، أدخلُ في استجلاب النفوسِ واستمالةِ القلوب يقع من كل واحدٍ من التكلم والخطاب والغَيبة إلى كل واحد من الآخَرَيْن ، كما في قوله عز وجل : { والله الذى أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً } الآية ، وقوله تعالى : { حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } إلى غير ذلك من الالتفاتات الواردةِ في التنزيل لأسرارٍ تقتضيها ، ومزايا تستدعيها ، ومما استَأثر به هذا المقام الجليلِ من النُكت الرائقةِ الدالةِ على أن تخصيصَ العبادةِ والاستعانةِ به تعالى لما أُجريَ عليه من النعوت الجليلة التي أوجبت له تعالى أكملَ تميّز ، وأتمَّ ظهورٍ ، بحيث تبدّل خفاءُ الغَيبة بجلاءِ الحضور ، فاستدعى استعمالَ صيغةِ الخطاب ، والإيذانَ بأن حقّ التالي بعد ما تأمل فيما سَلَف من تفرّده تعالى بذاته الأقدس ، المستوجبِ للعبودية ، وامتيازِه بذاته عما سواه بالكلية ، واستبدادِه بجلائل الصفات وأحكام الربوبية المميِّزة له عن جميع أفرادِ العالمين ، وافتقارِ الكلِّ إليه في الذات والوجودِ ابتداءً وبقاءً ، على التفصيل الذي مرَّت إليه الإشارةُ أن يترقى من رتبة البرهان إلى طبقة العيان ، وينتقلَ من عالم الغَيبة إلى معالم الشهود ، ويلاحظَ نفسَه في حظائر القدْسِ حاضراً في محاضر الأنس ، كأنه واقفٌ لدى مولاه ماثلٌ بين يديه ، وهو يدعو بالخضوع والإخبات ، ويقرَعُ بالضَّراعة بابَ المناجاة قائلاً : يا من هذه شوؤنُ ذاتهِ وصفاتهِ ، نخصُّك بالعبادة والاستعانة ، فإن ما سواك كائناً ما كان بمعزل من استحقاق الوجود ، فضلاً عن استحقاق أن يُعبد ويُستعان ، ولعل هذا هو السرُ في اختصاص السورةِ الكريمة بوجوب القراءة في كل ركعةٍ من الصلاة التي هي مناجاةُ العبدِ لمولاه ومِنّتُه للتبتل إليه بالكلية .(1/12)
و ( إيا ) ضميرٌ منفصلٌ منصوبٌ ، وما يلحَقه من الكاف والياءِ والهاءِ حروفٌ زيدت لتعيين الخطاب ، والتكلمُ والغَيبةُ لا محل لها من الإعراب ، كالتاء في أنت والكاف في أرأيتَكَ ، وما ادعاه الخليلُ من الإضافة محتجاً عليه بما حكاه عن بعض العرب : إذا بلغ الرجلُ الستين فإياه وإيا الشوابِّ ، فمما لا يعول عليه . وقيل : هي الضمائر ، وإيا دِعامةٌ لها لتُصيرَها منفصلة ، وقيل : الضميرُ هو المجموع ، وقُرِىء ( إَيَّاك ) بالتخفيف وبفتح الهمزة والتشديد ، وهياك بقلب الهمزة هاء .
( معنى العبادة والعبودية والاستعانة )
والعبادةُ أقصى غايةِ التذلل والخضوع ، ومنه طريقٌ معبّدٌ أي مذَلَّل ، والعبوديةُ أدنى منها ، وقيل : العبادةُ فعلُ ما يرضَى به الله ، والعبوديةُ الرضى بما فعلَ الله تعالى ، والاستعانةُ طلبُ المعونةِ على الوجه الذي مر بيانه ، وتقديم المفعول فيهما لما ذُكر من القصر والتخصيص ، كما في قوله تعالى : { وَإِيَّاىَ فارهبون } مع ما فيه من التعظيم والاهتمامِ به ، قال ابنُ عباس رضي الله عنهما : معناه نعبدك ولا نعبد غيرَك ، وتكريرُ الضمير المنصوبِ للتنصيص على تخصيصه تعالى بكل واحدة من العبادة والاستعانة ، ولإبراز الاستلذاذِ بالمناجاة والخطاب ، وتقديمُ العبادة لِما أنها من مقتَضَيات مدلولِ الاسم الجليل ، وإن ساعدته الصفاتُ المُجْراةُ عليه أيضاً ، وأما الاستعانةُ فمن الأحكامِ المبنية على الصفات المذكورة ولأن العبادةَ من حقوق الله تعالى ، والاستعانة من حقوق المُستعين ، ولأن العبادة واجبة حتماً ، والاستعانةُ تابعةٌ للمستعان فيه في الوجوب وعدمِه ، وقيل : لأن تقديمَ الوسيلة على المسؤول أدعى إلى الإجابة والقبول ، هذا على تقدير كونِ إطلاقِ الاستعانةِ ( على المفعول فيه ) ليتناول كلَّ مستعانٍ فيه ، كما قالوا ، وقد قيل : إنه لما كان المسؤولُ هو المعونةَ في العبادة والتوفيقَ لإقامة مراسِمِهما على ما ينبغي ، وهو اللائقُ بشأن التنزيل ، والمناسبُ لحال الحامد ، فإن استعانتَه مسبوقةٌ بملاحظة فعلٍ من أفعاله ، ليستعينَه تعالى في إيقاعه ، ومن البيِّن أنه عند استغراقه في ملاحظة شؤونه تعالى ، واشتغالِهِ بأداء ما تُوجبه تلك الملاحظةُ من الحمد والثناء ، لا يكادُ يخطُر بباله من أفعاله وأحواله إلا الإقبالُ الكليُّ عليه ، والتوجهُ التامّ إليه ، ولقد فَعل ذلك بتخصيص العبادةِ به تعالى أولاً ، وباستدعاء الهدايةِ إلى ما يوصِلُ إليه آخِراً ، فكيف يُتصور أن يَشتغل فيما بينهما بما لا يَعنيه من أمور دنياه أو بما يعمُّها وغيرَها ، كأنه قيل : وإياك نستعين في ذلك ، فإنّا غيرُ قادرين على أداء حقوقِك من غير إعانةٍ منك ، فوجهُ الترتيب حينئذٍ واضح ، وفيه من الإشعار بعلوّ رُتبةِ عبادته تعالى وعزّةِ منالِها ، وبكونها عند العابدِ أشرفَ المباغي والمقاصدِ وبكونها من مواهبهِ تعالى لا من أعمال نفسِه ، ومن الملأَمة لما يعقبُه من الدعاء ما لا يخفى .(1/13)
وقيل : الواوُ للحال ، أي إياك نعبدُ مستعينين بك ، وإيثارُ صيغةِ المتكلم مع الغير في الفعلين للإيذان بقصورِ نفسه ، وعدمِ لِياقتِه للوقوف في مواقف الكبرياءِ منفرداً ، وعَرْضِ العبادة ، واستدعاءِ المعونة والهداية مستقلاً ، وأن ذلك إنما يُتصور من عصابةٍ هو من جُملتهم ، وجماعةٍ هو من زُمرتهم ، كما هو ديدَنُ الملوك ، أو للإشعار باشتراك سائر الموحِّدين له في الحالة العارضة له ، بناءً على تعاضُد الأدلةِ المُلْجئة إلى ذلك ، وقُرىء ( نِسْتعين ) بكسر النون على لغة بني تميم .
{ اهدنا الصراط المستقيم } إفراد لمعظم أفراد المعونة المسؤولة بالذكر ، وتعيينٌ لما هو الأهمُ أو بيان لها ، كأنه قيل : كيف أُعينكم فقيل : اهدنا .
( تعريف الهداية وأنواعها )
والهدايةُ دلالةٌ بلطفٍ على ما يوصِلُ إلى البُغية ، ولذلك اختصّتْ بالخير ، وقوله تعالى : { فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِراطِ الجحيم } وارد على نهج التهكّم ، والأصلُ تعديتُها بإلى واللام ، كما في قوله تعالى : { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الحق قُلِ الله يَهْدِى لِلْحَقّ } فعومل معاملةَ اختارٍ في قوله تعالى : { واختار مُوسَى قَوْمَهُ } وعليه قولُه تعالى : { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } وهدايةُ الله تعالى مع تنوعها إلى أنواع لا تكاد تُحصر منحصرةٌ في أجناس مترتبة ، ( منها ) أنفسيةٌ ، كإفاضة القُوى الطبيعيةِ والحيوانية التي بها يصدُر عن المرء فاعليته الطبيعية الحيوانية ، والقوى المدرِكة ، والمشاعرُ الظاهرةُ والباطنة التي بها يتمكن من إقامة مصالِحه المعاشيةِ والمعاديّة ، ( ومنها ) آفاقيةٌ ، فإما تكوينيةٌ مُعْرِبة عن الحق بلسان الحال ، وهي نصبُ الأدلةِ المُودَعةِ في كل فردٍ من أفراد العالم حسبما لُوِّحَ به فيما سلف ، وإما تنزيليةٌ مُفْصِحةٌ عن تفاصيل الأحكامِ النظريةِ والعمليةِ بلسان المقالِ ، بإرسال الرسل ، وإنزال الكتبِ المنطويةِ على فنون الهدايات التي من جملتها الإرشادُ إلى مسلك الاستدلالِ بتلك الأدلة التكوينيةِ الآفاقيةِ والأنفسية ، والتنبيهُ على مكانها ، كما أشير إليه مُجملاً في قوله تعالى :(1/14)
{ وَفِى الأرض ءايَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } وفي قوله عز وعلا : { إِنَّ فِى اختلاف اليل والنهار وَمَا خَلَقَ الله فِى السموات والأرض لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } ( ومنها ) الهدايةُ الخاصة وهي كشفُ الأسرارِ على قلب المُهْدَى بالوحي ، أو الإلهام .
ولكل مرتبةٍ من هذه المراتب صاحبٌ ينتحيها ، وطالبٌ يستدعيها ، والمطلوب إما زيادتُها كما في قوله تعالى : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى } وإما الثباتُ عليها كما روي عن علي وأبي رضي الله عنهما : إهدنا ثبّتنا ، ولفظ الهداية على الوجه الأخير مَجازٌ قطعاً ، وأما على الأول فإن اعتُبر مفهومُ الزيادة داخلاً في المعنى المستعمل فيه كان مجازاً أيضاً ، وإن اعتُبر خارجاً عنه مدلولاً عليه بالقرائنِ كان حقيقة ، لأن الهداية الزائدةَ هداية ، كما أن العبادة الزائدةَ عبادة ، فلا يلزم الجمعُ بين الحقيقة والمجاز ، وقُرىء أرشِدْنا ، والصراطُ الجادةُ وأصلُه السين ، قُلبت صاداً لمكان الطاء كمصيطر في مسيطر ، من سَرَط الشيء إذا ابتلعه ، سُمّيت به لأنها تسترِطُ السابلةَ إذا سلكوها ، كما سميت لَقْماً لأنها تلتقمهم وقد تُشَمُّ الصاد صوت الزاي تحرياً للقرب من المبدَل منه . وقد قرىء بهن جميعاً ، وفُصحاهن إخلاصُ الصاد ، وهي لغة قريش ، وهي الثابتةُ في الإمام ، وجمعه صُرُط ككتاب وكُتب ، وهو كالطريق والسبيل في التذكير والتأنيث ، و ( المستقيمُ ) المستوي ، والمراد به طريقُ الحق وهي الملة الحنيفية السمْحة المتوسطةُ بين الإفراط والتفريط .
{ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدلٌ من الأول بدلَ كل ، وهو في حكم تكريرِ العامل من حيث إنه المقصودُ بالنسبة ، وفائدتُه التأكيدُ والتنصيصُ على أن طريق الذين أنعم الله عليهم وهم المسلمون هو العَلَمُ في الاستقامة ، والمشهودُ له بالاستواء بحيث لا يذهب الوهمُ عند ذكر الطريقِ المستقيم إلا إليه .
وإطلاقُ الإنعامِ لقصد الشمول ، فإن نِعمةَ الإسلام عنوانُ النعم كلِّها ، فمن فاز بها فقد حازها بحذافيرها . وقيل : المراد بهم الأنبياءُ عليهم السلام ، ولعل الأظهرَ أنهم المذكورون في قوله عز قائلاً : { فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين } بشهادة ما قبله من قوله تعالى : { وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِراطاً مُّسْتَقِيماً } وقيل : هم أصحابُ موسى وعيسى عليهما السلام قبل النسخِ والتحريفِ ، وقُرىءَ صراطَ مَنْ أنعمتَ عليهم ، والإنعامُ إيصالُ النعمة وهي في الأصل الحالةُ التي يستلِذُّها الإنسان ، من النعمة وهي اللينُ ، ثم أطلقت على ما تستلذّه النَّفسُ من طيّبات الدنيا .
ونِعَمُ الله تعالى مع استحالة إحصائِها تنحصرُ أصولُها في دنيويٍ وأُخروي والأول قسمان : وهبيّ وكسبيّ ، والوهبي أيضاً قسمان : روحاني كنفخ الروح فيه ، وإمدادِه بالعقل ، وما يتبعه من القُوى المدرِكة ، فإنها مع كونها من قبيل الهدايات نعمٌ جليلة في أنفسها ، وجُسماني كتخليق البدن والقُوى الحالَّةِ فيه ، والهيئاتِ العارضةِ له من الصّحة وسلامةِ الأعضاء ، والكسبيُّ تخليةُ النفسِ عن الرذائل ، وتحليتُها بالأخلاقِ السَّنية ، والملَكات البهيَّة ، وتزيينُ البدن بالهيئات المطبوعة والحلى المرضية ، وحصول الجاه والمال .(1/15)
والثاني مغفرةُ ما فَرط منه ، والرضى عنه ، وتَبْوئتُه في أعلى عليين ، مع المقربين ، والمطلوبُ هو القسم الأخير ، وما هو ذريعةٌ إلى نيلِه من القسم الأول ، اللهم ارزُقنا ذلك بفضلك العظيم ، ورحمتِك الواسعة .
{ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالّينَ } صفةٌ للموصول على أنه عبارةٌ عن إحدى الطوائفِ المذكورةِ المشهورةِ بالإنعام عليهم ، وباستقامة المسْلك ، ومن ضرورة هذه الشهرةِ شهرتُهم بالمغايَرَة لما أضيف إليه كلمةُ ( غير ) من المتصفين بضدَّي الوصفين المذكورين ، أعني مطلقَ المغضوب عليهم والضالين ، فاكتسبت بذلك تَعرُّفاً مصححاً لوقوعها صفةً للمعرفة كما في قولك : عليك بالحركة غيرِ السكون ، وُصفوا بذلك تكملةً لما قبله وإيذاناً بأن السلامة مما ابتُلي به أولئك نعمةٌ جليلةٌ في نفسها ، أي الذين جمعوا بين النعمة المُطلقة التي هي نعمةُ الإيمان ونعمةُ السلامة من الغضب والضلال . وقيل : المرادُ بالموصول طائفةٌ من المؤمنين لا بأعيانهم ، فيكون بمعنى النكرة كذي اللام إذا أريد به الجنسُ في ضمن بعضِ الأفراد لا بعينه ، وهو المسمى بالمعهود الذهني ، وبالمغضوب عليهم والضالين اليهودُ والنصارى ، كما ورد في مسند أحمدَ والترمذي فيبقى لفظُ ( غير ) على إبهامه نكرةً مثل موصوفِه ، وأنت خبير بأن جعْلَ الموصول عبارةَ عما ذكر من طائفةٍ غيرِ معيَّنة مُخلٌّ ببدليةِ ما أضيف إليه مما قبله فإن مدارَها كونُ صراطِ المؤمنين علَماً في الاستقامة مشهوداً له بالاستواء على الوجه الذي تحقَّقْتَه فيما سلف ، ومن البيِّن أن ذلك من حيثُ إضافتُه وانتسابُه إلى كلهم لا إلى بعضٍ مُبْهَمٍ منهم ، وبهذا تبين ألاَّ سبيلَ إلى جعل : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } بدلاً من الموصول ، لما عرفت من أن شأنَ البدلِ أن يُفيدَ متبوعَهُ مزيدَ تأكيدٍ وتقرير ، وفضلَ إيضاحٍ وتفسيرٍ ، ولا ريب في أن قصارى أمرِ ما نحن فيه أن يكتسبَ مما أضيف إليه نوعَ تعرُّفٍ مصحِّحٍ لوقوعه صفةً للموصول ، وأما استحقاقُ أن يكون مقصوداً بالنسبة مفيداً لما ذكر من الفوائد فكلاّ . وقُرىء بالنصب على الحال ، والعاملُ أنعمتَ ، أو على المدح ، أو على الاستثناء إنْ فُسّر النعمةُ بما يعمُّ القليل .
والغضبُ هيجانُ النفس لإرادة الانتقام ، وعند إسنادِه إلى الله سبحانه يُراد به غايتُه بطريق إطلاقِ اسمِ السبب بالنسبة إلينا على مسبّبِهِ القريبِ إنْ أريد به إرادةُ الانتقام ، وعلى مسبّبِهِ البعيدِ إن أريد به نفسُ الانتقام ، ويجوز حملُ الكلام على التمثيل ، بأنْ تُشبَّه الهيئةُ المنتزَعةُ من سَخَطه تعالى للعصاة وإرادةُ الانتقام منهم لمعاصيهم بما يُنتَزَعُ من حال الملِك إذا غضِب على الذين عصَوْه ، وأراد أن ينتقم منهم ويعاقِبَهم ، وعليهم مرتفِعٌ بالمغضوب ، قائم مَقامَ فاعلِه ، والعدولُ عن إسناد الغضب إليه تعالى كالإنعام جرَى على منهاج الآداب التنزيلية في نسبة النعمِ والخيرِ إليه عز وجل ، دون أضدادها ، كما في قوله تعالى : { الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ والذى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ }(1/16)
وقوله تعالى : { وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } و«لا» مزيدةٌ لتأكيد ما أفاده «غير» من معنى النفي كأنه قيل : لا المغضوبِ عليهم ولا الضالين ، ولذلك جاز أنا زيداً غيرُ ضاربٍ ، جوازَ أنا زيداً لا ضَارِبٌ وإن امتنع أنا زيداً مثلُ ضاربٍ ، والضلالُ هو العدول على الصراط السوي ، وقُرىء وغيرِ الضالين ، وقُرىء ولا الضأْلين ، بالهمزة على لغة مَنْ جدَّ في الهرب عن التقاء الساكنين .
{ أَمِينٌ } اسم فعلٍ هو : استجبْ ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما سألت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن معنى آمِين ، فقال : " افعل " بُني على الفتح كأينَ لالتقاء الساكنين ، وفيه لغتان مدُّ ألفه وقصرُها قال :
فويرحم الله عبداً قال آمينا ... وقال :
أمينَ فزاد الله ما بيننا بعداً ... عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لقّنني جبريلُ آمينَ عند فراغي من قراءة فاتحةِ الكتاب ، وقال : إنه كالختم على الكتاب " . وليست من القرآن وِفاقاً ، ولكن يسن ختمُ السورة الكريمة بها ، والمشهورُ عن أبي حنيفة رحمه الله أن المصلّيَ يأتي بها مخافتةً ، وعنه أنه لا يأتي بها الإمامُ لأنه الداعي وعن الحسنِ مثلُه ، وروَى الإخفاءَ عبدُ اللَّه بنُ مغفّل ، وأنسُ بنُ مالك ، عن النبي عليه الصلاة والسلام ، وعند الشافعيِّ رحمه الله يُجهر بها ، لما روى وائلُ بنُ حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ ولا الضالين قال : " آمين " ورفع بها صوته . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبيّ بنِ كعب : " ألا أخبرك بسورة لم ينزِلْ في التوراة والإنجيل والقرآن مثلُها؟ " قلت : بلى ، يا رسول الله قال : " فاتِحةُ الكتاب إنها السبعُ المثاني والقرآنُ العظيم الذي أوتيتُه " وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن القومَ ليبعثُ الله عليهم العذابَ حتماً مقضياً ، فيقرأ صبيٌّ من صبيانهم في الكتاب الحمدُ لله رب العالمين ، فيسمعه الله تعالى فيرفعُ عنهم بذلك العذابَ أربعين سنة " .(1/17)
الم (1)
( سورة البقرة مدنية وهى مائتان وسبع وثمانون آية ) .
{ بسم الله الرحمن الرحيم } { الم } الألفاظُ التي يعبّر بها عن حروف المعجمِ التي من جملتها المُقطّعاتُ المرقومةُ في فواتح السورِ الكريمة أسماءٌ لها ، لاندراجها تحت حدِّ الاسم ، ويشهدُ به ما يعتريها من التعريف والتنكيرِ والجمعِ والتصغيرِ وغير ذلك من خصائص الاسم ، وقد نص على ذلك أساطينُ أئمة العربية ، وما وقع في عبارات المتقدمين من التصريح بحَرْفيتها محمولٌ على المسامحة ، وأما ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه من أنه صلى الله عليه وسلم قال : « من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنةٌ والحسنةُ بعشر أمثالها ، لا أقول ألمْ حرفٌ بل ألفٌ حرفٌ ولامٌ حرفٌ وميمٌ حرف » وفي رواية الترمذي والدارمي : « لا أقول ألم حرفٌ وذلك الكتابُ حرف ولكنِ الألفُ حرفٌ واللامُ حرفٌ والميمُ حرفٌ والذالُ حرفٌ والكافُ حرفٌ » فلا تعلّقَ له بما نحن فيه قطعاً ، فإن إطلاقَ الحرف على ما يقابل الاسمَ والفعلَ عرفٌ جديدٌ اخترعه أئمةُ الصناعة . وإنما الحرفُ عند الأوائل ما يتركب منه الكلمُ من الحروف المبسوطة ، وربما يطلق على الكلمة أيضاً تجوزاً ، وأريد به في الحديث الشريف دفعُ توهمِ التجوُّز ، وزيادةُ تعيينِ إرادةِ المعنى الحقيقي ليتبين بذلك أن الحسنةَ الموعودةَ ليست بعدد الكلماتِ القرآنية ، بل بعدد حروفها المكتوبةِ في المصاحف ، كما يلوِّح به ذكرُ كتابِ الله دون كلامِ الله أو القرآن ، وليس هذا من تسمية الشيء باسم مدلولهِ في شيء كما قيل ، كيف لا والمحكومُ عليه بالحرفية واستتباعِ الحسنةِ إنما هي المسمّياتُ البسيطةُ الواقعةُ في كتاب الله عز وعلا ، سواءٌ عُبّر عنها بأسمائها أو بأنفسها كما في قولك السينُ مهملة والشينُ مثلثة وغير ذلك مما لا يصدُق المحمولُ إلا على ذات الموضوع لا أسماؤها المؤلفة كما إذا قلنا الألف مؤلف من ثلاثة أحرف ، فكما أن الحسنات في قراءة قوله تعالى : { ذلك الكتاب } بمقابلة حروفهِ البسيطة ، وموافقةٌ لعددها كذلك في قراءة قوله تعالى : { الم } بمقابلة حروفهِ الثلاثة المكتوبة وموافقةٌ لعددها ، لا بمقابلة أسمائِها الملفوظة والألفاتِ الموافقةِ في العدد ، إذِ الحكمُ بأن كلاً منها حرفٌ واحد مستلزمٌ للحكم بأنه مستتبعٌ لحسنةٍ واحدة ، فالعبرةُ في ذلك بالمعبَّر عنه دون المعبَّر به ، ولعل السرَّ فيه أن استتباعَ الحسنةِ منوطٌ بإفادة المعنى المرادِ بالكلمات القرآنية . فكما أن سائرَ الكلماتِ الشريفة لا تفيد معانيَها إلا بتلفظ حروفِها بأنفسها ، كذلك الفواتحُ المكتوبةُ لا تفيد المعانيَ المقصودةَ بها إلا بالتعبير عنها بأسمائها ، فجُعل ذلك تلفظاً بالمسمَّيات كالقسمِ الأول من غير فرقٍ بينهما .
ألا ترى إلى ما في الروايةِ الأخيرةِ من قوله عليه السلام : « والذالُ حرفٌ والكاف حرف »(1/18)
كيف عبّر عن طَرَفي «ذلك» باسميهما ، مع كونهما ملفوظين بأنفسهما ، ولقد روعيَتْ في هذه التسميةِ نُكتةٌ رائعة حيث جُعِلَ كلُ مسمىً لكونه من قبيل الألفاظ صَدْراً لاسمه ، ليكون هو المفهومَ منه إثرَ ذي أثير ، خلا أن الألفَ حيث تعذّر الابتداءُ بها استُعيرت مكانها الهمزة ، وهي مُعرَبة إذ لا مناسبةَ بينها وبين مبنيِّ الأصل ، لكنها ما لم تلِها العواملُ ساكنةُ الأعجاز على الوقف كأسماء الأعدادِ وغيرِها ، حين خلت عن العوامل ، ولذلك قيل : صادْ ، وقافْ ، مجموعاً فيهما بين الساكنين ، ولم تعامَلْ معاملةَ أين وكيف وهؤلاءِ ، وإن وَلِيَها عاملٌ مسها الإعرابُ ، وقصرُ ما آخِرُه ألفٌ عند التهجي لابتغاء الخِفةِ لا لأن وِزانَه وزانُ ( لا ) تقصَرُ تارةً فتكونُ حرفاً وتمُدّ أخرى فتكون اسماً لها كما في قولِ حسانَ رضي الله عنه :
ما قال ( لا ) قطُّ إلا في تشهُّده ... لولا التشهُّدُ لم تُسْمَعْ له لاءُ
هذا وقد تكلموا في شأن هذه الفواتح الكريمةِ وما أريد بها فقيل : إنها من العلوم المستورةِ ، والأسرارِ المحجوبة ، رُوي عن الصّدّيق أنه قال : «في كل كتاب سرٌّ ، وسرُّ القرآن أوائلُ السور» ، وعن عليّ رضي الله عنه : «إن لكل كتابٍ صفوةً وصفوةُ هذا الكتابِ حروفُ التهجّي» وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : «عجِزتِ العلماءُ عن إدراكها» وسُئل الشعبي عنها فقال : «سرُّ الله عز وجل فلا تطلُبوه» وقيل : إنها من أسماء الله تعالى ، وقيل : كلُّ حرفٍ منها إشارة إلى اسمٍ من أسماء الله تعالى ، أو صفةٍ من صفاته تعالى . وقيل : إنها صفاتُ الأفعال ، الألفُ آلاؤُه ، واللام لُطفه ، والميمُ مجدُه ومُلكُه ، قاله محمدُ بنُ كعبٍ القُرَظي . وقيل : إنها من قبيل الحساب ، وقيل : الألفُ من الله ، واللامُ من جبريلَ ، والميمُ من محمد ، أي الله أنزل الكتابَ بواسطة جبريلَ على محمدٍ عليهما الصلاة والسلام . وقيل : هي أقسام من الله تعالى بهذه الحروف المعجمة ، لشرفها من حيث إنها أصولُ اللغاتِ ومبادىءُ كتبِه المنزلة ، ومباني أسمائِه الكريمة ، وقيل : إشارةٌ إلى انتهاء كلامٍ وابتداءِ كلامٍ آخرَ ، وقيل ، وقيل .
ولكن الذي عليه التعويلُ : إما كونُها أسماءً للسور المصدرة بها ، وعليه إجماعُ الأكثر ، وإليه ذهب الخليلُ وسيبويه ، قالوا سمِّيت بها إيذاناً بأنها كلماتٌ عربيةٌ معروفةُ التركيب من مسميات هذه الألفاظ ، فيكون فيه إيماءٌ إلى الإعجاز والتحدّي على سبيل الإيقاظِ ، فلولا أنه وحيٌ من الله عز وجل لما عجِزوا عن معارضته ، ويقرُب منه ما قاله الكلبيُّ والسّدي وقَتادة من أنها أسماءٌ للقرآن ، والتسمية بثلاثة أسماءٍ فصاعداً إنما تُستنكر في لغة العرب إذا رُكِّبَتْ وجُعلت إسماً واحداً ، كما في حَضْرَموت ، فأما إذا كانت منثورة فلا استنكار فيها ، والمسمى هو المجموعةُ لا الفاتحة فقط ، حتى يلزمَ اتحادُ الاسمِ والمسمى ، غايةُ الأمر دخولُ الاسم في المسمى ، ولا محذورَ فيه ، كما لا محذورَ في عكسه حسبما تحققْتَه آنفاً ، وإنما كُتبت في المصاحف صورُ المسميات دون صور الأسماءِ لأنه أدلَّ على كيفية التلفّظ بها ، وهي ( إمَّا ) أن يكون على نهْج التهجّي دون التركيب ولأن فيه سلامةً من التطويل لا سيما في الفواتحِ الخُماسية ، على أن خطَّ المُصحف مما لا يناقَشُ فيه بمخالفة القياسِ ، وإما كونها مسرودةً على نمط التعديد ، وإليه جنَح أهلُ التحقيق .(1/19)
قالوا إنما وردت هكذا ليكون إيقاظاً لمن تُحِدِّيَ بالقرآن ، وتنبيهاً لهم على أنه منتظمٌ من عين ما ينظِمون منه كلامَهم ، فلولا أنه خارجٌ عن طوْق البشر ، نازلٌ من عند خلاّق القُوى والقَدَر ، لما تضاءلت قوتُهم ، ولا تساقطت قدرتُهم ، وهم فرسانُ حَلْبةِ الحِوار ، وأُمراءُ الكلام في نادي الفخار ، دون الإتيانِ بما يُدانيه ، فضلاً عن المعارَضة بما يُساويه ، مع تظاهرهم في المضادّة والمضارّة ، وتهالُكِهم على المعَازة والمعارّة .
أو ليكونَ مطلَعُ ما يُتلى عليهم مستقلاً بضربٍ من الغرابة ، أُنموذجاً لما في الباقي من فنون الإعجاز ، فإن النطقَ بأنفُس الحروفِ في تضاعيف الكلام ، وإن كان على طرَف التمام ، يتناولُه الخواصُّ والعوامُّ ، من الأعراب والأعجام ، لكن التلفظَ بأسمائها إنما يتأتَّى ممن درَس وخطَّ ، وأما ممن لم يحُمْ حولَ ذلك قطّ ، فأعزُّ من بَيْض الأَنُوق ، وأبعدُ من مَناط العَيُّوق ، لا سيما إذا كان على نمط عجيب ، وأسلوبٍ غريب ، مُنْبىءٍ عن سرَ سِرِّيَ ، مبنيَ على نهجٍ عبقري ، بحيث يَحارُ في فهمه أربابُ العقول ، ويعجِزُ عن إدراكه ألبابُ الفحول .
كيف لا وقد وردت تلك الفواتحُ في تسعٍ وعشرين سورةً على عدد حروف المُعجم ، مشتملةً على نصفها تقريباً ، بحيث ينطوي على أنصاف أصنافِها تحقيقاً أو تقريباً ، كما يتّضحُ عند الفحص والتنقير ، حسبما فصّله بعضُ أفاضِلِ أئمةِ التفسير .
فسبحان من دقّتْ حكمتُه من أن تطالعَها الأنظارُ ، وجلّت قُدرتُه عن أن تنالَها أيدي الأفكار ، وإيرادُ بعضِها فرادى وبعضِها ثنائيةً إلى الخماسية جرَى على عادة الافتنان ، مع مراعاة أبنيةِ الكَلِم وتفريقِها على السور ، دون إيرادِ كلِّها مرةً لذلك ولِما في التكرير والإعادة من زيادة إفادةٍ ، وتخصيصُ كلَ منها بسُورتها مما لا سبيلَ إلى المطالبة بوجهه ، وعدُّ بعضِها آيةً دون بعضٍ مبنيٌّ على التوقيف البحت .
أما { الم } فآيةٌ حيثما وقعت ، وقيل في آل عمرانَ ليست بآية ، و ( المص ) آية ، و ( المر ) لم تُعدَّ آية ، و ( الر ) ليست بآية في شيءٍ من سورها الخمس ، و ( طسم ) آية في سورتيها ، و ( طاه ) و ( ياس ) آيتان ، و ( طس ) ليست بآية ، و ( حم ) آيةٌ في سُوَرِها كلِّها ، و ( كهيعص ) آية ، و ( حم عسق ) آيتان ، و ( ص ) و ( ق ) و ( ن ) لم تُعَدَّ واحدةٌ منها آية . هذا على رأي الكوفيين .
وقد قيل : إن جميعَ الفواتحِ آياتٌ عندهم في السور كلِّها بلا فرقٍ بينها ، وأما مَنْ عداهم فلم يعُدّوا شيئاً منها آية ، ثم إنها على تقدير كونها مسرودةً على نَمطِ التعديدِ لا تُشَمُّ رائحةَ الإعراب ، ويوقفُ عليها وقفَ التمام ، وعلى تقدير كونِها أسماءً للسور أو للقرآنِ كان لها حظٌّ منه ، إما الرفعُ على الابتداء أو على الخبرية ، وإما النصبُ بفعل مُضمَرٍ ، كاذكُرْ ، أو بتقدير فعلِ القَسَم على طريقة : الله لأفعلن ، وإما الجرُ بتقدير حرفِه حسبما يقتضيه المقام ، ويستدعيه النظام ، ولا وقف فيما عدا الرفعَ على الخبرية ، والتلفظُ بالكل على وجه الحكاية ساكنةَ الأعجاز ، إلا أن ما كانت منها مفردةً مثل : ( ص ) و ( ق ) و ( ن ) يتأتى فيها الإعرابُ اللفظيُ أيضاً ، وقد قُرئت بالنصب على إضمار فعلِ ، أي اذكُرْ أو اقرأْ صادَ وقافَ ونونَ ، وإنما لم تنوَّنْ لامتناع الصرف ، وكذا ما كانت منها موازنةً لمفردٍ نحوِ ( حم ) و ( ياس ) و ( طس ) الموازنةَ لقابيلَ وهابيلَ ، حيث أجاز سيبويهِ فيها مثلَ ذلك قال في باب أسماء السور من كتابه : وقد قرأ بعضُهم ياسينَ والقرآنِ ، وقافَ والقرآنِ ، فكأنه جعله اسماً أعجمياً ، ثم قال اذكُرْ ياسينَ ، انتهى .(1/20)
وحكى السيرافيُّ أيضاً عن بعضهم قراءةَ ( ياسينَ ) ويجوز أن يكون ذلك في الكل تحريكاً لالتقاء الساكنين ، ولا مَساغَ للنصب بإضمار فعلِ القسم لأن ما بعدها من القرآن والقلمِ محلوفٌ بهما ، وقد استكرهوا الجمعَ بين قَسَمين على مُقسَمٍ عليه واحدٍ قبل انقضاءِ الأول ، وهو السرُّ في جعل ما عدا الواوِ الأولى في قوله تعالى : { واليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والانثى } عاطفةً ، ولا مجال للعطف هاهنا للمخالفة بين الأولِ والثاني في الإعراب ، نعم يجوز ذلك بجعل الأولِ مجروراً بإضمارِ الباءِ القسَمية ، مفتوحاً لكونه غيرَ منصرِف ، وقرىء ( ص ) و ( ق ) بالكسر على التحريك لالتقاءِ الساكنين ، ويجوز في ( طاسين ميم ) أن تفتح نونُها ، وتُجعلَ من قبيل ( داراً بجَرَد ) ذكره سيبويه في كتابه . وأما ما عدا ذلك من الفواتح فليس فيها إلا الحكايةُ . وسيجيء تفاصيلُ سائر أحكامِ كلَ منها مشروحةً في مواقعها بإذن الله عزَّ سلطانُه . أما هذه الفاتحةُ الشريفةُ فإن جُعلت اسماً للسورة أو للقرآنِ فمحلُها الرفع ، إما على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، والتقديرُ هذا ( الم ) أي مسمًّى به ، وإنما صحت الإشارةُ إلى القرآن بعضاً أو كلاً مع عدم سبْق ذكرِه لأنه باعتبار كونِه بصدد الذكرِ صار في حكم الحاضِرِ المشاهَد ، كما يقال هذا ما اشترى فلان .
وإما على أنه مبتدأ ، أي المسمَّى به والأولُ هو الأظهر ، لأن ما يُجعلُ عنوانَ الموضوع حقُه أن يكون قبل ذلك معلومَ الانتساب إليه عند المخاطَب ، وإذ لا عِلْمَ بالتسمية قبلُ فحقُها الإخبارُ بها ، وادعاءُ شهرتها يأباه الترددُ في أن المسمَّى هي السورةُ أو كلُّ القرآن }(1/21)
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
{ ذلك } ذا اسمُ إشارة واللاَّمُ كنايةٌ عما جيء به للدلالة على بُعد المشارُ إليه ، والكافُ للخطاب ، والمشارُ إليه هو المسمَّى ، فإنه منزَّلٌ منزلةَ المشاهَدِ بالحسِّ البَصَري ، وما فيه من معنى البعدِ ، مع قُرب العهدِ بالمُشار إليه ، للإيذان بعلو شأنه ، وكونِه في الغاية القاصيةِ من الفضل والشرف ، إثرَ تنويهِه بذكر اسمِه ، وما قيل من أنه باعتبار التقصّي أو باعتبار الوصولِ من المرسِل إلى المرسَل إليه في حكم المتباعِد ، وإن كان مصححاً لإيراده ، لكنه بمعزل من ترجيحه على إيراد ما وُضع للإشارة إلى القريب ، وتذكيرُه على تقدير كون المسمَّى هي السورة ، لأن المشار إليه هو المسمَّى بالاسم المذكورِ من حيث هو مسمًّى به ، لا من حيث هو مسمًّى بالسورة ، ولئن ادُّعيَ اعتبارُ الحيثية الثانية في الأول بناءً على أن التسمية لتمييز السور بعضِها من بعض ، فذلك لتذكير ما بعده ، وهو على الوجه الأول مبتدأٌ على حِدَةٍ ، وعلى الوجه الثاني مبتدأ ثانٍ .
وقوله عز وعلا : { الكتاب } إما خبرٌ له ، أو صفةٌ ، أما إذا كان خبراً له فالجملةُ على الوجه الأولِ مستأنفةٌ مؤكِّدةٌ لما أفادته الجملةُ الأولى من نباهة شأن المسمَّى ، لا محلَّ لها من الإعراب ، وعلى الوجه الثاني في محل الرفع على أنها خبرٌ للمبتدأ الأول ، واسمُ الإشارة مغنٍ عن الضمير الرابط ، والكتابُ إما مصدرٌ سُمِّي به المفعولُ مبالغةً كالخَلْق والتصوير للمخلوق والمصوَّر ، وإما فعلٌ بني للمفعول كاللِّباس ، من الكتاب الذي هو ضمُّ الحروف بعضِها إلى بعض ، وأصله الجمعُ والضمُ في الأمور البادية للحسِّ البصَري ، ومنه الكتيبةُ للعسكر ، كما أن أصل القراءة الجمعُ والضمُ في الأشياء الخافية عليه ، وإطلاقُ الكتاب على المنظوم عبارةً لِما أن مآله الكتابة ، والمرادُ به على تقدير كونِ المسمَّى هي السورة جميع القرآن الكريم وإن لم يتم نزولُه عند نزول السورة ، إما باعتبار تحققِه في علم الله عز وجل ، أو باعتبار ثبوتِه في اللوح ، أو باعتبار نزولِه جملةً إلى السماء الدنيا ، حسبما ذُكر في فاتحة الكتاب ، واللام للعهد والمعنى أن هذه السورة هو الكتاب أي العمدةُ القصوى منه كأنه في إحراز الفضل كلُّ الكتاب المعهودِ ، الغنيُّ عن الوصف بالكمال لاشتهاره به فيما بين الكتب على طريقة قوله صلى الله عليه وسلم : « الحجُّ عَرَفة » وعلى تقدير كون المسمَّى كلَّ القرآن ، فالمرادُ بالكتاب الجنسُ ، واللامُ للحقيقة ، والمعنى أن ذلك هو الكتابُ الكاملُ الحقيقُ بأن يُخصَّ به اسمُ الكتاب ، لتفوقه على بقية الأفرادِ في حيازة كمالاتِ الجنس ، كأن ما عداه من الكُتُب السماوية خارجٌ منه بالنسبة إليه كما يقال هو الرجل ، أي الكاملُ في الرجولية الجامعُ لما يكون في الرجال من مراضي الخِصال ، وعليه قولُ من قال :(1/22)
هم القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ ... فالمدحُ كما ترى من جهة حصر كمالِ الجنس في فرد من أفراده ، وفي الصورة الأولى من جهة حصرِ كمالِ الكلِّ في الجزء ، ولا مساغَ هناك لحمل الكتاب على الجنس ، لما أن فردَه المعهود هو مجموعُ القرآن المقابلُ لسائر أفرادِه من الكتب السماوية ، لا بعضُه الذي يُطلق عليه اسمُ الكتاب باعتبار كونِه جزءاً لهذا الفرد ، لا باعتبار كونِه جزئياً للجنس على حِياله ، ولأن حصرَ الكمالِ في السورة مُشعرٌ بنقصان سائرِ السور ، وإن لم يكن الحصرُ بالنسبة إليها لتحقق المغايَرَة بينهما ، هذا على تقدير كونِ الكتاب خبراً ( لذلك ) ، وأما إذا كان صفةً له فذلك الكتابُ على تقدير كون ( ألم ) خبرَ مبتدإٍ محذوفٍ ، إما خبرٌ ثانٍ أو بدلٌ من الخبر الأول ، أو مبتدأٌ مستقلٌ خبرُه ما بعده ، وعلى تقدير كونِه مبتدأً إما خبرٌ له ، أو مبتدأٌ ثانٍ خبرُه ما بعده ، والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأول ، والمشارُ إليه على كلا التقديرين هو المسمَّى ، سواءٌ كان هي السورةَ أو القرآن ، ومعنى البعد ما ذُكر من الإشعارِ بعلوِّ شأنِه ، والمعنى ذلك الكتاب العجيبُ الشأنِ ، البالغُ أقصى مراتبِ الكمال .
وقيل المشارُ إليه هو الكتابُ الموعودُ ، فمعنى البعدِ حينئذٍ ظاهرٌ ، خلا أنه إنْ كان المسمَّى هي السورةَ ينبغي أن يُرادَ بالوعد ما في قوله تعالى : { إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } كما قيل ، وإن كان هو القرآنَ فهو ما في التوراة والإنجيل ، هذا على تقدير كون ( الم ) اسماً للسورة أو القرآن ، وأما على تقدير كونِها مسرودةً على نمَط التعديد فذلك مبتدأ ، والكتابُ إما خبرُه أو صفتُه ، والخبرُ ما بعده على نحو ما سلف ، أو يُقدَّر مبتدأٌ ، أي المؤلَّفُ من هذه الحروف ذلك الكتابُ ، وقرىء ( الم تنزيلُ الكتاب ) .
وقوله تعالى : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } إما في محل الرفعِ على أنه خبرٌ ( لذلك الكتابُ ) على الصور الثلاثِ المذكورة ، أو على أنه خبرٌ ثانٍ لألف لام ميم أو ( لذلك ) على تقدير كونِ الكتابِ خبرَه ، أو للمبتدأ المقدرِ آخِراً على رأي من يجوِّز كونَ الخبرِ الثاني جملةً ، كما في قوله تعالى : { فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى } وإما في محل النصب على الحالية من ( ذلك ) ، أو من ( الكتاب ) ، والعامل معنى الإشارة ، وإما جملةٌ مستأنَفة لا محل لها من الإعراب مؤكِّدة لما قبلها ، وكلمةُ ( لا ) نافية للجنس مفيدةٌ للاستغراق ، عاملةٌ عملَ إنَّ بحملها عليها ، لكونها نقيضاً لها ، ولازمةً للاسم لزومَها ، واسمُها مبنيٌّ على الفتح لكونه مفرداً نكرةً لا مضافاً ولا شبيهاً به ، وأما ما ذكره الزجاج من أنه معربٌ وإنما حُذف التنوينُ للتخفيف فمما لا تعويلَ عليه ، وسببُ بنائه تضمُّنه لمعنى مِنْ الاستغراقية لأنه مركب معها تركيبَ خمسةَ عشرَ كما توهم ، وخبرُها محذوف ، أي لا ريب موجودٌ أو نحوُه ، كما في قوله تعالى :(1/23)
{ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله } والظرفُ صفةٌ لاسمها ، ومعناه نفيُ الكونِ المطلق وسلبُه عن الريب المفروضِ في الكتاب ، أو الخبرُ هو الظرف ، ومعناه سلبُ الكونِ فيه عن الريب المطلق وقد جُعل الخبرُ المحذوفُ ظرفاً ، وجعل المذكور خبراً لما بعده .
وقرىء ( لا ريبٌ فيه ) على أن لا بمعنى ليس ، والفرق بينه وبين الأول أن ذلك موجبٌ للاستغراق ، وهذا مجوِّزٌ له ، والريب في الأصل مصدرُ رابني إذا حصل فيك الرِّيبة ، وحقيقتُها قلقُ النفس واضطرابُها ، ثم استعمل في معنى الشك مطلقاً ، أو معَ تُهمة ، لأنه يُقلق النفسَ ويزيل الطُمَأْنينة ، وفي الحديث : « دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُك » ومعنى نفيه عن الكتاب أنه في علو الشأن وسطوعِ البرهانِ بحيث ليس فيه مظنةُ أن يُرتاب في حقّيته ، وكونِه وحياً منزلاً من عند الله تعالى ، لا أنه لا يرتاب فيه أحد أصلاً ، ألا ترى كيف جُوِّز ذلك في قوله تعالى : { وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا } الخ . فإنه في قوةِ أن يقال : وإن كان لكم ريبٌ فيما نزلنا ، أو إنِ ارتبتم فيما نزلنا ، الخ إلا أنه خُولِفَ في الأسلوب حيث فُرض كونُهم في الريب لا كونُ الريبِ فيه لزيادة تنزيهِ ساحة التنزيل عنه ، مع نوع إشعارٍ بأن ذلك من جهتهم ، لا من جهته العالية ، ولم يُقصَدْ هاهنا ذلك الإشعارُ ، كما لم يقصَدِ الإشعارُ بثبوت الريبِ في سائر الكتب ، ليقتضِيَ المقامُ تقديمَ الظرف ، كما في قوله تعالى : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } { هُدًى } مصدرٌ من هداه ، كالسُّرى والبُكا ، وهو الدَّلالةُ بلطفٍ على ما يوصِل إلى البُغية ، أي ما مِنْ شأنه ذلك ، وقيل : هي الدلالة الموصلةُ إليها ، بدليل وقوعِ الضلالة في مقابلته ، في قوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } وقوله تعالى : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ } ولا شك في أن عدم الوصولِ معتبرٌ في مفهوم الضلال ، فيعتبر الوصولُ في مفهوم مقابلهِ ، ومن ضرورة اعتبارِه فيه اعتبارُه في مفهوم الهدى المتعدّي ، إذ لا فرق بينهما إلا من حيث التأثيرُ والتأثّر ، ومحصّلهُ أن الهدى المتعدّي هو التوجيهُ الموصِل ، لأن اللازم هو التوجُّه الموصِلُ ، بدليل أن مقابِلَه الذي هو الضلال توجهٌ غيرُ موصل قطعاً ، وهذا كما ترى مبنيٌّ على أمرين : اعتبارِ الوصولِ وجوباً في مفهوم اللازم ، واعتبارِ وجودِ اللازم وجوباً في مفهوم المتعدّي ، وكلا الأمرين بمعزل من الثبوت ، أما الأول فلأن مدارَ التقابل بين الهدى والضلالِ ليس هو الوصولَ وعدمَه على الإطلاق ، بل هما معتبَران في مفهوميهما على وجهٍ مخصوصٍ به ، ليتحقق التقابلُ بينهما .
وتوضيحُه أن الهدى لا بد فيه من اعتبار توجّهٍ عن علم إلى ما مِنْ شأنه الإيصالُ إلى البُغية ، كما أن الضلال لا بد فيه من اعتبار الجَوْرِ عن القَصْد إلى ما ليس من شأنه الإيصالُ قطعاً ، وهذه المرتبةُ من الاعتبار مُسلّمةٌ بين الفريقين ، ومُحقِّقةٌ للتقابل بينهما ، وإنما النِّزاعُ في أن إمكان الوصولِ إلى البغية هل هو كافٍ في تحصيل مفهومِ الهدى ، أو لا بد فيه من خروج الوصولِ من القوة إلى الفعل ، كما أن عدم الوصولِ بالفعل معتبرٌ في مفهوم الضلال قطعاً؟
إذا تقرر هذا فنقول : إن أريد باعتبار الوصولِ بالفعل في مفهوم الهدى اعتبارُه مقارِناً له في الوجود زماناً حسَبَ اعتبارِ عدمِه في مفهوم مقابلِه فذلك بيِّنُ البُطلان ، لأن الوصولَ غايةٌ للتوجّه المذكور ، فينتهي به قطعاً ، لاستحالة التوجُّهِ إلى تحصيل الحاصِل ، وما يبقى بعد ذلك فهو إما توجّهٌ إلى الثبات عليه ، وإما توجّهٌ إلى زيادته ، ولأن التوجّهَ إلى المقصدِ تدريجيّ ، والوصولَ إليه دفعيّ ، فيستحيلُ اجتماعهما في الوجود ضرورة ، وأما عدمُ الوصولِ فحيث كان أمراً مستمراً مثلَ ما يقتضيه من الضلال وجبَ مقارنتُه له في جميع أزمنةِ وجوده .(1/24)
إذ لو فارقه في آنٍ من آنات تلك الأزمنةِ لقارنه في ذلك الآنِ مقابِلهُ الذي هو الوصول ، فما فرضناه ضلالاً لا يكون ضلالاً ، وإن أريد اعتبارُه من حيث إنه غايةٌ له واجبةُ الترتُّب عليه لزِم أن يكون التوجُّهُ المقارِنُ لغاية الجِدِّ في السلوك إلى ما من شأنه الوصولُ عند تخلُّفِه عنه لمانعٍ خارجي كاحترام المِنيَّةِ مثلاً من غير تقصيرٍ ولا جَوْر من قِبَل المتوجِّه ، ولا خللٍ من جهة المسلكِ ضلالاً ، إذ لا واسطةَ بينهما ، مع أنه لا جَوْر فيه عن القصد أصلاً ، فبطَلَ اعتبارُ وجوبِ الوصولِ في مفهومِ اللازم قطعاً ، وتبين منه عدمُ اعتبارِه في مفهوم المتعديّ حتماً ، وأما اعتبارُ وجودِ اللازم فيه وجوباً وهو الأمرُ الثاني ، فبيانُه مبنيٌّ على تمهيد أصل ، وهو أن فعلَ الفاعل حقيقةً هو الذي يصدُر عنه ويتمُّ من قِبَله ، لكن لمّا لم يكن له في تحقُّقه في نفسه بدٌّ من تعلّقه بمفعوله اعتُبر ذلك في مدلول اسمِه قطعاً ، ثم لما كان له باعتبار كيفيةِ صدورِه عن فاعله ، وكيفيةِ تعلّقِه بمفعوله ، وغيرِ ذلك آثارٌ شتّى مترتبةٌ عليه متمايزةٌ في أنفسها ، مستقلةٌ بأحكامٍ مقتضيةٍ لإفرادها بأسماءٍ خاصة ، وعُرض له بالقياس إلى كل أثرٍ من تلك الآثارِ إضافةٌ خاصة ممتازة عما عداها من الإضافات العارضة له بالقياس إلى سائرها ، وكانت الآثارُ تابعةً له في التحقّق غيرَ منفكّةٍ عنه أصلاً إذ لا مؤثِّرَ لها سوى فاعلِه عُدَّت من متمماته ، واعتُبرت الإضافةُ العارضةُ له بحسَبها داخلةً في مدلوله ، كالاعتماد المتعلِّق بالجسم مثلاً ، وُضع له باعتبار الإضافةِ العارضةِ له من انكسار ذلك الجسم الذي هو أثرٌ خاصٌّ لذلك الاعتماد اسمُ الكسر ، وباعتبار الإضافةِ العارضةِ له من انقطاعه الذي هو أثرٌ آخَرُ له اسم القطع ، إلى غير ذلك من الإضافات العارضةِ له بالقياس إلى آثاره اللازمةِ له ، وهذا أمرٌ مطَّردٌ في آثاره الطبيعية .(1/25)
وأما الآثارُ التي له مدخَلٌ في وجودها في الجملة من غير إيجابٍ لها تترتب عليه تارة وتفارقه أخرى ، بحسب وجودِ أسبابِها الموجبةِ لها وعدمِها كالآثار الاختياريةِ الصادرةِ عن مؤثراتها بواسطة كونهِ داعياً إليها فحيث كانت تلك الآثارُ مستقلةً في أنفسها مستندةً إلى مؤثراتها غيرَ لازمةٍ له لزومَ الآثارِ الطبيعيةِ التابعةِ له لم تعُدْ من متمماته ، ولم تُعتبر الإضافةُ العارضةُ له بحسبها داخلةً في مدلوله كالإضافة العارضةِ للأمر بحسَبِ امتثالِ المأمور ، والإضافةِ العارضةِ للدعوة بحسب إجابةِ المدعوّ ، فإن الامتثال والإجابة وإن عُدّا من آثار الأمرِ والدعوةِ باعتبار ترتّبهما عليهما غالباً ، لكنهما حيث كانا فِعلين اختياريين للمأمور والمدعوِّ مستقِلَّيْن في أنفسهما غيرَ لازمين للأمر والدعوة ، لم يُعَدا من متمماتهما ، ولم تُعتبر الإضافةُ العارضةُ لهما بحسبهما داخلةً في مدلولِ اسمِ الأمرِ والدعوةِ ، بل جُعلا عبارة عن نفس الطلب المتعلّقِ بالمأمورِ والمدعوّ ، سواءٌ وجد الامتثالُ والإجابةُ أو لا .
إذا تمهّد هذا فنقول كما أن الامتثالَ والإجابةَ فعلان مستقلانِ في أنفسهما صادران عن المدعوِّ والمأمورِ باختيارهما غيرُ لازمين للأمر والدعوة لزومَ الآثارِ الطبيعية التابعة للأفعال الموجبة لها ، وإن كانا مترتِّبين عليهما في الجملة ، كذلك هُدى المَهْديّ أي توجُّهُه إلى ما ذكر من المسلك فعلٌ مستقلٌ له صادرٌ عنه باختياره ، غيرُ لازم للهداية ، أعني التوجيهَ إليه لزومَ ما ذُكر من الآثار الطبيعية ، وإن كان مترتباً عليها في الجملة ، فلما لم يُعَدّا من متممات الأمر والدعوة ، ولم تعتبر الإضافةُ العارضةُ لهما بحسبهما داخلةً في مدلولهما عُلم أنه لم يُعدَّ الهدى اللازمُ من متممات الهداية ، ولم تُعتبر الإضافةُ العارضة لها بحسبه داخلةً في مدلولها .
إن قيل : ليس الهُدى بالنسبة إلى الهداية كالامتثال والإجابة بالقياس إلى أصليهما ، فإنَّ تعلقَ الأمر والدعوة بالمأمورِ والمدعوِّ لا يقتضي إلا اتصافهما بكونهما مأموراً ومدعواً ، وليس من ضرورته اتصافُهما بالامتثال والإجابة ، إذ لا تلازمَ بينهما وبين الأوّلَيْن أصلاً ، بخلاف الهدى بالنسبة إلى الهداية ، فإن تعلقها بالمهديِّ يقتضي اتصافه به ، لأن تعلقَ الفعل المتعدِّي المبنيِّ للفاعل بمفعوله يدل على اتصافه بمصدره المأخوذِ من المبنيِّ للمفعول قطعاً ، وهو مستلزِمٌ لاتصافه بمصدرِ الفعل اللازم ، وهل الاعتبار هو وجودُ اللازم في مدلول المتعدي حتماً؟ قلنا كما أن تعلقَ الأمر والدعوةِ بالمأمور والمدعوِّ لا يستدعي إلا اتصافَهما بما ذكر من غير تعرّضٍ للامتثال والإجابة إيجاباً وسلباً ، كذلك تعلقُ الهدايةِ التي هي عبارةٌ عن الدلالة المذكورة بالمهديّ لا يستدعي إلا اتصافَه بالمدلولية ، التي هي عبارةٌ عن المصدر المأخوذ من المبنيّ للمفعول ، من غير تعرض لقبول تلك الدلالة ، كما هو معنى الهدى اللازم ، ولا لعدم قبوله ، بل الهدايةُ عينُ الدعوة إلى طريق الحق ، والاهتداءُ عينُ الإجابة ، فكيف يؤخذ في مدلولها؟ واستلزامُ الاتصافِ بمصدر الفعل المتعدي المبنيِّ للمفعول للاتصاف بمصدر الفعل اللازم مطلقاً إنما هو في الأفعال الطبيعية كالمكسورية والانكسار ، والمقطوعية والانقطاع ، وأما الأفعال الاختيارية فليست كذلك كما تحققته فيما سلف .(1/26)
وإن قيل : التعلمُ من قبيل الأفعال الاختياريةِ مع أنه معتبرٌ في مدلول التعليم قطعاً ، فليكن الهدى مع الهداية كذلك ، قلنا : ليس ذلك لكونه فعلاً اختيارياً على الإطلاق ، ولا لكون التعليم عبارةً عن تحصيل العلم للمتعلم كما قيل ، فإن المعلم ليس بمستقل في ذلك ، ففي إسناده إليه ضربُ تجوّز ، بل لأن كلاًّ منهما مفتقر في تحققه وتحصُّله إلى الآخر ، فإن التعليمَ عبارةٌ عن إلقاء المبادىءِ العلمية على المتعلم وسَوْقِها إلى ذهنه شيئاً فشيئاً على ترتيب يقتضيه الحال ، بحيث لا يُساق إليه بعضٌ منها إلا بعد تلقِّيه لبعضٍ آخر ، فكلٌّ منهما متمِّمٌ للآخَر معتبرٌ في مدلوله . وأما الهدى الذي هو عبارةٌ عن التوجُّه المذكور ففعلٌ اختياريٌّ يستقِلُّ به فاعلُه لا دخلَ للهداية فيه سوى كونِها داعيةً إلى إيجاده باختياره ، فلم يكن من متمماتها ولا معتبراً في مدلولها .
إن قيل : التعليمُ نوعٌ من أنواع الهداية ، والتعلمُ نوعٌ من أنواع الاهتداء فيكون اعتبارُه في مدلول التعليم اعتباراً للهدى في مدلول الهداية ، قلنا إطلاقُ الهداية على التعليم إنما هو عند وضوحِ المسلك ، واستبدادِ المتعلم بسلوكه من غير دخلٍ للتعليم فيه ، سوى كونه داعياً إليه ، وقد عرفت جليةَ الأمر على ذلك التقدير ، إن قيل : أليس تخلّفُ الهدى عن الهداية كتخلف التعلم عن التعليم ، فحيث لم يكن ذلك تعليماً في الحقيقة فلتكن الهداية أيضاً كذلك ، وليُحمَلْ تسميةُ ما لا يستتبعُ الهدى بها على التجوز ، قلنا : شتانَ بين التخلّفَيْن ، فإن تخلف التعلم عن التعليم يكون لقصور فيه ، كما أن تخلفَ الانكسار عن الضرب الضعيف لذلك .
وأما تخلفُ الهدى عن الهداية فليس لشائبةِ قصورٍ من جهتها ، بل إنما هو لفقد سببه الموجبِ له من جهة المهديّ ، بعد تكاملِ ما يتم من قبل الهادي .
وبهذا التحريرِ اتَّضحَ طريقُ الهداية ، وتبين أنها عبارةٌ عن مطلق الدلالةِ على ما من شأنه الإيصالُ إلى البُغية بتعريف معالمهِ وتبيين مسالكِه ، من غير أن يُشترط في مدلولها الوصولُ ولا القبول ، وأن الدلالة المقارِنة لهما أو لأحدهما أو المفارِقة عنهما كلُّ ذلك مع قطع النظر عن قيد المقارنة وعدمها أفرادٌ حقيقية لها ، وأن ما في قوله تعالى : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ } وقوله تعالى : { وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ } ونحوُ ذلك مما اعتُبر فيه الوصولُ من قبيل المجاز ، وانكشف أن الدلالاتِ التكوينية المنصوبة في الأنفس والآفاق والبيانات التشريعية الواردة في الكتب السماوية على الإطلاق بالنسبة إلى كافة البرية برِّها وفاجرِها هداياتٌ حقيقيةٌ ، فائضة من عند الله سبحانه ، والحمدُ لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتديَ لولا أن هدانا الله .(1/27)
( معاني التقوى ومراتبها )
{ لّلْمُتَّقِينَ } أي المتصفين بالتقوى حالاً أو مآلاً ، وتخصيصُ الهدى بهم لما أنهم المقتبسون من أنواره المنتفعون بآثاره ، وإن كان ذلك شاملاً لكل ناظر ، من مؤمن وكافر ، وبذلك الاعتبار قال الله : { هُدًى لّلنَّاسِ } والمتقي اسمُ فاعلٍ من باب الافتعال من الوقاية وهي فرْطُ الصيانة .
والتقوى في عُرف الشرع عبارةٌ عن كمال التوقي عما يضُره في الآخرة قال عليه السلام : « جُماعُ التقوى في قوله تعالى : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } الآية » وعن عمرَ بنِ عبد العزيز أنه تركُ ما حرم الله ، وأداءُ ما فرضَ الله ، وعن شَهْر بن حَوْشَب : المتقي من يترك ما لا بأسَ به حذراً من الوقوع فيما فيه بأسٌ ، وعن أبي يزيد : أن التقوى هو التورعُ عن كل ما فيه شبهة ، وعن محمد بن خفيف : أنها مجانبةُ كلِّ ما يبعدك عن الله تعالى ، وعن سهل : المتقي من تبرأ عَنْ حَوله وقدرته . وقيل التقوى : ألاّ يراك الله حيث نهاك ، ولا يفقِدَك حيث أمرك . وعن ميمونِ بنِ مهران : لا يكون الرجلُ تقياً حتى يكون أشدَّ محاسبةً لنفسه من الشريك الشحيحِ والسُلطانِ الجائر ، وعن أبي تراب : بين يدي التقوى خمسُ عقباتٍ لا ينالها من لا يجاوِزُهن : إيثارُ الشدة على النعمة ، وإيثارُ الضعفِ على القوة ، وإيثارُ الذلِّ على العزة ، وإيثارُ الجهد على الراحة ، وإيثارُ الموتِ على الحياة ، وعن بعض الحكماء أنه لا يبلغُ الرجل سَنامَ التقوى إلا أن يكون بحيث لو جُعل ما في قلبه في طبَقٍ فطِيفَ به في السوق لم يستحْيِ ممن ينظُر إليه . وقيل : التقوى أن تَزِين سِرَّك للحق ، كما تَزينُ علانيتَك للخلق .
والتحقيق أن للتقوى ثلاثَ مراتبَ : ( الأولى ) : التوقي عن العذاب المخلِّد بالتبرؤ عن الكفر ، وعليه قوله تعالى : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى } ( والثانية ) : التجنبُ عن كل ما يُؤثِم من فعل أو ترك ، حتى الصغائر عند قوم ، وهو المتعارَفُ بالتقوى في الشرع ، وهو المعنيُّ بقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ءامَنُواْ واتقوا } و ( الثالثة ) : أن يتنزه عن كل ما يشغَلُ سرَّه عن الحق عز وجل ، ويتبتّلَ إليه بكلّيته ، وهي التقوى الحقيقيةُ المأمورُ بها في قوله تعالى : { مّسْتَقِيمٍ ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } ولهذه المرتبة عَرْضٌ عريض يتفاوت فيه طبقاتُ أصحابها حسَب تفاوتِ درجاتِ استعداداتهم الفائضةِ عليهم بموجَب المشيئةِ الإلهية ، المبنيّةِ على الحِكَم الأبية ، أقصاها ما انتهى إليه هممُ الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام ، حيث جمعوا بذلك بين رياسَتي النبوةِ والولاية ، وما عاقهم التعلقُ بعالم الأشباحِ عن العروجِ إلى معالم الأرواح ، ولم تصُدَّهم الملابسةُ بمصالح الخلقِ عن الاستغراق في شؤون الحق ، لكمال استعدادِ نفوسِهم الزكيةِ المؤيدةِ بالقوة القدسية ، وهدايةُ الكتابِ المبين شاملةٌ لأرباب هذه المراتب أجمعين ، فإن أريد بكونه هدىً للمتقين إرشادُه إياهم إلى تحصيل المرتبة الأولى ونيلِها ، فالمرادُ بهم المشارفون للتقوى مجازاً ، لاستحالة تحصيلِ الحاصل ، وإيثارُه على العبارة المعرِبةِ عن ذلك للإيجاز ، وتصديرِ السورة الكريمةِ بذكر أوليائه تعالى وتفخيمِ شأنهم .(1/28)
وإن أريد به إرشادُه إلى تحصيل إحدى المرتبتين الأخيرتين ، فإن عنى بالمتقين أصحابَ الطبقةِ الأولى تعيَّنت الحقيقة ، وإن عنى بهم أصحاب إحدى الطبقتين الأخيرتين تعيَّن المجاز ، لأن الوصولَ إليهما إنما يتحقق بهدايته المترقَّبة ، وكذا الحال فيما بين المرتبةِ الثانية والثالثة ، فإنه إن أريد بالهدى الإرشادُ إلى تحصيل المرتبةِ الثالثة ، فإن عنى بالمتقين أصحابَ المرتبة الثانيةِ تعيَّنت الحقيقة ، وإن عنى بهم أصحابَ المرتبةِ الثالثةِ تعيَّن المجاز ، ولفظُ الهدايةِ حقيقةٌ في جميع الصور ، وأما إن أريد بكونه هدىً لهم تثبيتُهم على ما هم عليه أو إرشادُهم إلى الزيادة فيه على أن يكون مفهومُها داخلاً في المعنى المستعمل فيه فهو مجازٌ لا محالة ، ولفظُ المتقين حقيقةٌ على كل حال ، واللامُ متعلقةٌ بهدىً أو بمحذوفٍ وقع صفةً له ، أو حالاً منه ، ومحلُ ( هدى ) الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف ، أي هو هدى ، أو خبرٌ مع لا ريب فيه لذلك الكتاب ، أو مبتدأٌ خبرُه الظرفُ المقدم ، كما أشير إليه ، أو النصبُ على الحالية من ( ذلك ) أو من ( الكتاب ) ، والعامل معنى الإشارة ، أو من الضمير في ( فيه ) ، والعاملُ ما في الجار والمجرور من معنى الفعل المنفي ، كأنه قيل : لم يحصُلْ فيه الريبُ حال كونه هادياً ، على أنه قيدٌ للنفي لا للمنفيّ ، وحاصلُه انتفاءُ الريبِ فيه حال كونه هادياً ، وتنكيرُه للتفخيم ، وحملُه على الكتاب إما للمبالغة ، كأنه نفسُ الهدى ، أو لجعل المصدر بمعنى الفاعل .
هذا والذي يستدعيه جزالةُ التنزيلِ في شأن ترتيب هذه الجُمل أن تكون متناسقةً تقرِّرُ اللاحقةُ منها السابقة ، ولذلك لم يتخلل بينها عاطف ، ف ( ألم ) جملةٌ برأسها على أنها خبرٌ لمبتدأ مضمر ، أو طائفةٌ من حروف المُعجم مستقلةٌ بنفسها دالةٌ على أن المتحدَّى به هو المؤلَّفُ من جنس ما يؤلِّفون منه كلامَهم ، و ( ذلك الكتابُ ) جملةٌ ثانيةٌ مقرِّرةٌ لجهة التحدي ، لما دلت عليه من كونه منعوتاً بالكمال الفائق ، ثم سجل على غاية فضلِه بنفي الريبِ فيه ، إذ لا فضلَ أعلى مما للحق واليقين ، و ( هدى للمتقين ) مع ما يقدَّر له من المبتدأ جملةٌ مؤكدةٌ لكونه حقاً لا يحوم حوله شائبةُ شكٍ ما ، ودالةٌ على تكميله بعد كمالِه ، أو يستتبعُ السابقة منها اللاحقةُ استتباعَ الدليل للمدلول ، فإنه لما نبَّه أولاً على إعجاز المتحدَّى به من حيث إنه من جنس كلامِهم ، وقد عجَزوا عن معارضته بالمرة ، ظهر أنه الكتابُ البالغُ أقصى مراتبِ الكمال ، وذلك مستلزمٌ لكونه في غاية النزاهة عن مظنّة الريب ، إذ لا أنقصَ مما يعتريه الشك ، وما كان كذلك كان لا محالة هدىً للمتقين ، وفي كلَ منها من النُكت الرائقةِ والمزايا الفائقةِ ما لا يخفى جلالةُ شأنه حسبما تحققته .(1/29)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالغيب } إما موصولٌ بالمتقين ، ومحلُّه الجرُّ على أنه صفةٌ مقيِّدةٌ له إن فُسّر التقوى بترك المعاصي فقط ، مترتبةٌ عليه ترتّبَ التحلية على التَّخْلية ، وموضِّحةٌ إن فُسِّر بما هو المتعارَفُ شرعاً والمتبادَرُ عُرفاً ، من فعل الطاعات وتركِ السيئات معاً ، لأنها حينئذٍ تكون تفصيلاً لما انطوى عليه اسمُ الموصوف إجمالاً ، وذلك لأنها مشتملة على ما هو عمادُ الأعمال وأساسُ الحسنات ، من الإيمان والصلاة والصدقة ، فإنها أمهاتُ الأعمال النفسانية والعباداتِ البدنية والمالية المستتبِعة لسائر القُرَب الداعيةِ إلى التجنب عن المعاصي غالباً ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشاء والمنكر } وقوله عليه السلام : " الصلاةُ عمادُ الدين ، والزكاةُ قنطرةُ الإسلام " أو مادحةً للموصوفين بالتقوى المفسَّرِ بما مر من فعل الطاعات وتركِ السيئات .
وتخصيصُ ما ذكر من الخِصال الثلاثِ بالذكر لإظهار شرفِها وإنافتها على سائر ما انطوى تحت اسمِ التقوى من الحسنات ، أو النصبُ على المدح بتقدير أعني أو الرفعُ عليه بتقدير «هم» ، وإما مفصولٌ عنه مرفوعٌ بالابتداء خبرُه الجملةُ المصدّرةُ باسم الإشارة كما سيأتي بيانُه ، فالوقفُ على ( المتقين ) حينئذ وقفٌ تام ، لأنه وقف على مستقلٍ ، ما بعده أيضاً مستقل ، وأما على الوجه الأول فحسنٌ لاستقلال الموقوف عليه ، غيرُ تامَ لتعلق ما بعده به وتبعيّته له ، أما على تقدير الجر على الوصفية فظاهر ، وأما على تقدير النصبِ أو الرفع على المدح فلما تقرَّر من أن المنصوبَ والمرفوعَ مدحاً وإن خرجا عن التبعية لما قبلهما صورةً حيث لم يتبعاه في الإعراب ، وبذلك سُمّيا قطعاً لكنهما تابعان له حقيقة ، ألا ترى كيف التزموا حذفَ الفعل والمبتدأ في النصب والرفع رَومْاً لتصوير كلَ منهما بصورة متعلِّقٍ من متعلقات ما قبله وتنبيهاً على شدة الاتصال بينهما ، قال أبو علي : إذا ذُكرت صفاتٌ للمدح وخولف في بعضها الإعرابُ فقد خولف للافتنان ، أي للتفنن الموجب لإيقاظ السامع وتحريكه إلى الجِدّ في الإصغاء ، فإن تغيير الكلامِ المَسوقِ لمعنىً من المعاني وصَرْفَه عن سَننه المسلوكِ يُنبىء عن اهتمام جديد بشأنه من المتكلم ، ويستجلب مزيدَ رغبةٍ فيه من المخاطب .
إن قيل : لا ريب في أن حال الموصول عند كونه خبراً لمبتدأ محذوف كحاله عند كونه مبتدأ خبرُه ( أولئك على هدى ) في أنه ينسبك به جملةً اسميةً مفيدة ، لاتصاف المتقين بالصفات الفاضلة ، ضرورةَ أن كلاًّ من الضمير المحذوف والموصولِ عبارةٌ عن المتقين . وأن كلاًّ من اتصافهم بالإيمان وفروعِه ، وإحرازهم للهدى والفلاحِ من النعوت الجليلة ، فما السرُّ في أنه جُعل ذلك في الصورة الأولى من توابع المتقين ، وعُدَّ الوقفُ غيرَ تام ، وفي الثانية مقتطعاً عنه ، وعُدَّ الوقفُ تامًّا؟ قلنا : السرُّ في ذلك أن المبتدأ في الصورتين وإن كان عبارة عن المتقين ، لكن الخبرَ في الأولى لما كان تفصيلاً لما تضمنه المبتدأ إجمالاً حسبما تحققته معلومُ الثبوت له بلا اشتباه ، غيرُ مفيد للسامع سوى فائدةِ التفصيلِ والتوضيح ، نُظم ذلك في سلك الصفاتِ مراعاةً لجانب المعنى ، وإن سمي قطعاً مراعاة لجانب اللفظ ، كيف لا وقد اشتهر في الفن أن الخبر إذا كان معلومَ الانتساب إلى المُخبَر عنه فحقُّه أن يكون وصفاً له ، كما أن الوصف إذا لم يكن معلومَ الانتساب إلى الموصوف حقُّه أن يكون خبراً له ، حتى قالوا : إن الصفاتِ قبل العلم بها أخبارٌ ، والأخبارُ بعد العلم بها صفات .(1/30)
وأما الخبرُ في الثانية فحيث لم يكن كذلك بل كان مشتملاً على ما لا ينبىء عنه المبتدأ من المعاني اللائقة كما ستحيط به خبراً مفيداً للمخاطب فوائدَ رائقة ، جُعل ذلك مقتطعاً عما قبله محافظةً على الصورة والمعنى جميعاً .
والإيمانُ إفعالٌ من الأمن المتعدّي إلى واحد ، يقال آمنتُه ، وبالنقل تعدى إلى اثنين ، يقال آمنَنيه غيري ، ثم استُعمل في التصديق ، لأن المصَدِّقَ يؤمِنُ المُصَدَّق ، أي يجعله أميناً من التكذيب والمخالفة ، واستعماله بالباء لتضمينه معنى الاعتراف ، وقد يطلق على الوثوق ، فإن الواثقَ يصير ذا أمنٍ وطُمأنينة ، ومنه ما حُكي عن العرب ما آمِنْتُ أن أجد صحابة ، أي ما صِرْتُ ذا أمنٍ وسكون ، وكلا الوجهين حسنٌ هنا وهو في الشرع لا يتحقق بدون التصديق بما عُلم ، ضرورةَ أنه من دين نبينا عليه الصلاة والسلام ، كالتوحيد والنبوة والبعث والجزاء ونظائرها ، وهل هو كافٍ في ذلك أو لا بد من انضمام الإقرار إليه للتمكن منه؟ .
والأول رأيُ الشيخ الأشعري ومن شايعه ، فإن الإقرارَ عنده منشأٌ لإجراء الأحكام ، والثاني مذهبُ أبي حنيفة ومن تابعه وهو الحق ، فإنه جعلهما جزأين له ، خلا أن الإقرارَ ركنٌ محتمِلٌ للسقوط بعذر ، كما عند الإكراه ، وهو مجموعُ ثلاثةِ أمور : اعتقادُ الحق ، والإقرارُ به ، والعملُ بموجبه عند جمهورِ المحدثين والمعتزلة والخوارج ، فمن أخل بالاعتقاد وحده فهو منافق ، ومن أخل بالإقرارِ فهو كافر ، ومن أخل بالعمل فهو فاسق اتفاقاً وكافرٌ عند الخوارج ، وخارجٌ عن الإيمان غيرُ داخلٍ في الكفر عند المعتزلة .
وقرىء ( يُومنون ) بغير همزة ، والغيبُ إما مصدرٌ وُصف به الغائبُ مبالغةً كالشهادة في قوله تعالى : { عالم الغيب والشهادة } أو فعيل خُفّف كقَتْل في قتيل وهيْنٍ في هيّن ، وميْتٍ في ميِّت ، لكن لم يُستعمل فيه الأصلُ كما استعمل في نظائره . وأيًّا ما كان فهو ما غاب عن الحس والعقلِ غَيْبة كاملةً ، بحيث لا يُدرَك بواحد منهما ابتداءً بطريق البَداهة ، وهو قسمان : قسم لا دليل عليه ، وهو الذي أريد بقوله سبحانه : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } وقسم نُصب عليه دليل كالصانع وصفاتِه ، والنبواتِ وما يتعلق بها من الأحكام والشرائع ، واليومِ الآخر وأحوالِه من البعث والنشورِ والحسابِ والجزاء ، وهو المرادُ هاهنا ، فالباءُ صلةٌ للإيمان ، إما بتضمينه معنى الاعتراف ، أو بجعله مجازاً من الوثوق ، وهو واقعٌ موقعَ المفعول به ، وإما مصدرٌ على حاله كالغَيبة ، فالباءُ متعلِّقةٌ بمحذوفٍ وقع حالاً من الفاعل كما في قوله تعالى :(1/31)
{ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب } وقوله تعالى : { لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } أي يؤمنون ملتبسين بالغيبة ، إما عن المؤمن به ، أي غائبين عن النبي صلى الله عليه وسلم غيرَ مشاهدين لما فيه من شواهد النبوة ، لما رُوي أن أصحابَ ابنِ مسعود رضي الله عنه ، ذكروا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيمانَهم ، فقال رضي الله عنه : «إن أمرَ محمَّدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام كان بيِّناً لمن رآه ، والذي لا إله غيرُه ما آمن مؤمنٌ أفضلَ من الإيمان بغيب ، ثم تلا هذه الآية» . وإما عن الناس ، أي غائبين عن المؤمنين ، لا كالمنافقين الذين إذا لقُوا الذين آمنوا قالوا آمنا ، وإذا خلَوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم .
وقيل : المرادُ بالغيب القلبُ ، لأنه مستور ، والمعنى يؤمنون بقلوبهم لا كالذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، فالباءُ حينئذٍ للآلة ، وتركُ ذكرِ المؤمَن به على التقادير الثلاثةِ إما للقصد إلى إحداث نفسِ الفعلِ كما في قولهم فلانٌ يُعطي ويمنع ، أي يفعلون الإيمان ، وإما للاكتفاء بما سيجيء ، فإن الكتبَ الإلهية ناطقةٌ بتفاصيل ما يجب الإيمانُ به .
{ وَيُقِيمُونَ الصلاة } إقامتُها عبارةٌ عن تعديل أركانها ، وحفظِها من أن يقع في شيء من فرائضها وسننها وآدابِها زيغٌ ، من إقامة العُودِ إذا قوّمه وعدّله . وقيل عن المواظبة عليها ، مأخوذٌ من قامت السُّوق إذا نفَقت ، وأقمتُها إذا جعلتُها نافقة ، فإنها إذا حوفظ عليها كانت كالنافق الذي يُرغب فيه ، وقيل عن التشمُّر لأدائها عن غير فتورٍ ولا تَوانٍ ، من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جدَّ فيه واجتهد ، وقيل عن أدائها ، عبَّر عنه بالإقامة لاشتماله على القيام ، كما عبَّر عنه بالقنوت الذي هو القيامُ وبالركوع والسجود والتسبيح ، والأولُ هو الأظهر ، لأنه أشهرُ ، وإلى الحقيقة أقربُ ، والصلاةُ فَعْلةٌ ، من صلَّى إذا دعا ، كالزكاة من زكّى ، وإنما كُتبتا بالواو مراعاةَ اللفظِ المفخّم ، وإنما سُمِّيَ الفعلُ المخصوصُ بها لاشتماله على الدعاء ، وقيل : أصلُ صلى حرَّك الصَّلَوَيْنِ ، وهما العظمان الناتئان في أعلى الفخِذين ، لأن المصليَ يفعله في ركوعه وسجوده ، واشتهارُ اللفظ في المعنى الثاني دون الأول لا يقدح في نقله عنه ، وإنما سُمِّيَ الداعي مصلياً تشبيهاً له في تخشّعه بالراكع والساجد .
{ وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } والرزقُ في اللغة العطاءُ ، ويطلق على الحظ المعطى ، نحو ذِبْحٍ ورِعْيٍ للمذبوح والمَرْعيِّ . وقيل : هو بالفتح مصدر ، وبالكسر اسم ، وفي العُرف ما ينتفِعُ به الحيوان .
والمعتزلةُ لما أحالوا تمكينَ الله تعالى من الحرام لأنه منَعَ من الانتفاع به وأمرَ بالزجر عنه قالوا : الرزقُ لا يتناول الحرام ، ألا ترى أنه تعالى أسند الرزقَ إلى ذاته إيذاناً بأنهم يُنفِقون من الحلال والصِّرْف ، فإن إنفاقَ الحرام بمعزل من إيجاب المدح ، وذمَّ المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله تعالى بقوله :(1/32)
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً } جعلوا الإسنادَ المذكورَ للتعظيم والتحريضِ على الإنفاق ، والذمَّ لتحريم ما لم يحرّم ، واختصاصَ ما رزقناهم بالحلال للقرينة .
وتمسكوا لشمول الرزق لهما بما رُوي عنه عليه السلام في حديث عَمْرو بن قرَّة حين أتاه فقال : يا رَسُول الله ، إنَّ الله ( قد ) كَتَبَ عَلَيَّ الشِّقْوَةَ ، فلا أرى أُرْزَقُ إلاَّ مِنْ دُفِّي بِكَفِّي ، فَأْذَنْ لِي فِي الغِنَاءِ ، من غيرِ فَاحِشَةٍ ، من أنه قال عليه السلام : « لاَ آذَنُ لَكَ وَلاَ كَرَامةَ ، ولا نُعْمَةَ ( عَيْنٍ ) كَذَبْتَ أيْ عَدُوَّ الله ، والله لَقَدْ رَزَقَكَ الله حَلاَلاً طَيِّباً ، فَاخْتَرْتَ ما حَرَّمَ الله عَلَيْكَ مِنْ رِزْقِهِ مَكَانَ مَا أَحَلَّ الله لَكَ مِنْ حَلاَلِهِ » وبأنه لو لم يكن الحرامُ رزقاً لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقاً ، وقد قال الله تعالى : { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الارض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } والإنفاقُ والإنفادُ أخوانِ ، خلا أن في الثاني معنى الإذهاب بالكلية دون الأول ، والمرادُ بهذا الإنفاق الصَّرْفُ إلى سبيل الخير ، فرضاً كان أو نفلاً ، ومن فسَّر ( ه ) بالزكاة ذكر أفضلَ أنواعه الأصلَ فيه ، أو خصصه بها لاقترانه بما هو شقيقُها ، والجملة معطوفة على ما قبلها من الصلة ، وتقديمُ المفعول للاهتمام ، والمحافظةِ على رؤوس الآي ، وإدخال ( من ) التبعيضية عليه للكف عن التبذير .
هذا وقد جاز أن يراد به الإنفاقُ من جميع المعاون التي منحهم الله تعالى من النعم الظاهرة والباطنة ، ويؤيده قوله عليه السلام : « إن علماً لا يُنال به ككنز لا يُنفق منه » وإليه ذهب من قال : ومما خَصَصْناهم من أنوار المعرفة يَفيضون .(1/33)
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
{ والذين يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } معطوفٌ على الموصول الأول ، على تقدير وصلِه بما قبله ، وفصلُه عنه مندرجٌ معه في زُمرة المتقين من حيث الصورةُ والمعنى معاً ، أو من حيث المعنى فقط ، اندراجَ خاصَّيْنِ تحت عام ، إذ المرادُ بالأولين الذين آمنوا بعد الشركِ والغفلةِ عن جميع الشرائعِ كما يُؤذِن به التعبيرُ عن المؤْمَن به بالغيب ، وبالآخرين الذين آمنوا بالقرآن بعد الإيمان بالكتب المنزلةِ قبله ، كعبد اللَّه بن سلام وأضرابِه ، أو على المتقين على أن يراد بهم الأولون خاصة ، ويكون تخصيصُهم بوصف الاتقاءِ للإيذان بتنزّههم عن حالتهم الأولى بالكلية ، لما فيها من كمال القباحة والمباينةِ للشرائعِ كلِّها ، الموجبةِ للاتقاء عنها ، بخلاف الآخرين ، فإنهم غيرُ تاركين لما كانوا عليه بالمرة ، بل متمسكون بأصول الشرائعِ التي لا تكاد تختلف باختلاف الأعصار ، ويجوز أن يُجعلَ كِلا الموصولين عبارةً عن الكل مندرجاً تحت المتقين ، ولا يكون توسيطُ العاطفِ بينهما لاختلاف الذوات ، بل لاختلاف الصفات كما في قوله :
إلى الملِكِ القَرْم وابنِ الهُمام ... وليثِ الكتيبةِ في المُزدَحَمْ
وقولِه : يا لَهفَ زيّابةَ للحارثِ الصابحِ فالغانِمِ فالآيبِ للإيذان بأن كلَّ واحدٍ من الإيمان بما أشير إليه من الأمور الغائبةِ ، والإيمان بما يشهد بثبوتها من الكتب السماوية نعتٌ جليلٌ على حِياله ، له شأنٌ خطير مستتبِعٌ لأحكام جمّة ، حقيقٌ بأن يُفردَ له موصوفٌ مستقل ، ولا يُجعل أحدُهما تتمةً للآخر ، وقد شُفِع الأولُ بأداء الصلاة والصدقة اللتين هما من جملة الشرائعِ المندرجةِ تحت تلك الأمور المؤمَن بها تكملةً له ، فإن كمالَ العلم بالعمل ، وقُرن الثاني بالإيقان بالآخرة مع كونه منطوياً تحت الأول تنبيهاً على كمال صِحتِه ، وتعريضاً بما في اعتقاد أهلِ الكتابين من الخلل كما سيأتي ، هذا على تقدير تعلّقِ الباءِ بالإيمان ، وقِسْ عليه الحالَ عند تعلّقِها بالمحذوف ، فإن كلاً من الإيمان الغيبيِّ المشفوعِ بما يصدّقه من العبادتين مع قطع النظر عن المؤمَن به والإيمانِ بالكتب المنزلةِ الشارحة لتفاصيل الأمور التي يجب الإيمانُ بها مقروناً بما قُرن به فضيلةٌ باهرة ، مستدعية لما ذكر ، والله تعالى أعلم .
وقد حُمل ذلك على معنى أنهم الجامعون بين الإيمانِ بما يدركه العقلُ جملةً والإتيانِ بما يصدّقه من العبادات البدنية والمالية ، وبين الإيمانِ لا طريقَ إليه غيرُ السمع . وتكريرُ الموصول للتنبيه على تغايُر القَبيلَيْن ، وتباينُ السبيلين فلْيُتأمَّلْ ، وأن يراد بالموصول الثاني بعد اندراج الكلِّ في الأول فريقٌ خاصٌّ منهم ، وهم مؤمنو أهلِ الكتاب ، بأن يُخَصّوا بالذكر تخصيصَ جبريلَ ومكائيلَ به إثرَ جَرَيانِ ذكر الملائكة عليهم السلام تعظيماً لشأنهم وترغيباً لأمثالهم وأقرانِهم في تحصيل ما لهم من الكمال .
( معنى إنزال الكتاب )
والإنزالُ النقلُ من الأعلى إلى الأسفل ، وتعلُّقه بالمعاني إنما هو بتوسّط تعلّقِه بالأعيان المستتبعة لها ، فنزولُ ما عدا الصحفَ من الكتب الإلهية إلى الرسل عليهم السلام والله تعالى أعلم بأن يتلقاها الملَكُ من جنابه عز وجل تلقياً روحانياً ، أو يحفَظَها من اللوح المحفوظ ، فينزِلَ بها إلى الرسل فيُلقِيهَا عليهم عليهم السلام ، والمراد ( بما أنزل إليك ) هو القرآنُ بأسره ، والشريعةُ عن آخرها .(1/34)
والتعبيرُ عن إنزاله بالماضي مع كون بعضِه مُترقَّباً حينئذ لتغليب المحقَّقِ على المقدَّر ، أو لتنزيل ما في شرَفِ الوقوعِ لتحقُّقه منزلةَ الواقع ، كما في قوله تعالى : { إِنَّا سَمِعْنَا كتابا أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى } مع أن الجنَّ ما كانوا سمعوا الكتابَ جميعاً ولا كان الجميعُ إذ ذاك نازلاً ، وبما أنزل من قبلك التوراةُ والإنجيلُ وسائرُ الكتب السالفة ، وعدمُ التعرضِ لذكر من أُنزل إليه من الأنبياء عليهم السلام ، لقصد الإيجازِ مع عدم تعلُّقِ الغرَض بالتفصيل حسَبَ تعلقِه به في قوله تعالى : { قُولُواْ ءامَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إبراهيم وإسماعيل } الآية . والإيمانُ بالكل جملةً فرضٌ ، وبالقرآنِ تفصيلاً من حيث إنا متعبَّدون بتفاصيله فرضُ كفاية ، فإن في وجوبه على الكل عَيناً حَرَجاً بيناً ، وإخلالاً بأمر المعاش ، وبناءُ الفعلين للمفعول للإيذان بتعيُّن الفاعل ، والجَرْيِ على سَنن الكِبرياء ، وقد قُرئا على البناء للفاعل .
{ وبالأخرة هُمْ يُوقِنُونَ } الإيقانُ إتقانُ العلم بالشيء بنفي الشكِّ والشبهةِ عنه ، ولذلك لا يُسمَّى علمُه تعالى يقيناً ، أي يعلمون علماً قطعياً مُزيحاً لما كان أهلُ الكتاب عليه من الشكوك والأوهام التي من جملتها زعمُهم أن الجنة لا يدخُلها إلا من كان هوداً أو نصارى ، وأن النارَ لن تمسَّهم إلا أياماً معدوداتٍ ، واختلافُهم في أن نعيمَ الجنة هل هو من قبيل نعيم الدنيا أو لا ، وهل هو دائم أو لا ، وفي تقديم الصلة وبناءِ ( يوقنون ) على الضمير تعريضٌ بمن عداهم من أهل الكتاب ، فإن اعتقادَهم في أمور الآخرة بمعزل من الصحة فضلاً عن الوصول إلى مرتبة اليقين . والآخرةُ تأنيثُ الآخِر ، كما أن الدنيا تأنيثُ الأدنى ، غَلَبتا على الدارين فجرَتا مجرى الأسماء ، وقرىء بحذف الهمزة وإلقاءِ حركتها على اللام ، وقرىء يؤقنون بقلب الواو همزة ، إجراءً لضم ما قبلها مجرى ضمِّها في وجوه ووقتت ، ونظيره ما في قوله :
لحب المؤقدان إلى مؤسى ... وجعدة إذ أضاءهما الوقود(1/35)
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
وقوله تعالى : { أولئك } إشارةٌ إلى الذين حُكيت خِصالُهم الحميدةُ من حيث اتصافُهم بها ، وفيه دلالةٌ على أنهم متميِّزون بذلك أكمل تميُّز ، منتظمون بسببه في سِلك الأمور المشاهدة ، وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعلوِّ درجتِهم وبُعدِ منزلتهم في الفضل ، وهو مبتدأ ، وقوله عز وعلا : { على هُدًى } خبرُه ، وما فيه من الإبهام المفهومِ من التنكير لكمال تفخيمِه ، كأنه قيل : على أيِّ هدىً لا يُبلَغ كُنهُه ، ولا يُقادَرُ قدرُه . وإيرادُ كلمةِ الاستعلاء بناءً على تمثيل حالهم في ملابستهم بالهدى بحال من يَعْتلي الشيء ويستولي عليه يتصرف فيه كيفما يريد ، أو على استعارتها لتمسكهم بالهدى استعارةً تبعية ، متفرّعةً على تشبيهه باعتلاء الراكبِ واستوائِه على مركوبه ، أو على جعلها قرينةً للاستعارة بالكناية بين الهدى والمركوبِ للإيذان بقوةِ تمكّنِهم منه وكمالِ رسوخهم فيه ، وقوله تعالى : { مّن رَّبّهِمُ } متعلقٌ بمحذوفٍ وقع صفةً له مبينةً لفخامته الإضافية إثرَ بيانِ فخامته الذاتية ، مؤكدةً لها ، أي على هدىً كائنٍ من عنده تعالى ، وهو شاملٌ لجميع أنواع هدايتِه تعالى ، وفنونِ توفيقِه . والتعرّضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لغاية تفخيمِ الموصوفِ والمضافِ إليهم وتشريفِهما ، ولزيادة تحقيقِ مضمونِ الجملة ، وتقريرِه ببيانِ ما يوجبُه ويقتضيه وقد أُدغمت النونُ في الراء بغُنةٍ أو بغير غنة ، والجملةُ على تقدير كونِ الموصولَين موصولَين بالمتقين ، مستقلةٌ لا محل لها من الإعراب ، مقرِّرةٌ لمضمون قوله تعالى : { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } مع زيادة تأكيدٍ له وتحقيق .
كيف لا وكونُ الكتاب هدىً لهم فنٌّ من فنون ما مُنِحوه واستقروا عليه من الهدى ، حسبما تحققْتَه ، لا سيما مع ملاحظة ما يستتبعه من الفوز والفلاح ، وقيل : هي واقعةٌ موقعَ الجواب عن سؤالٍ ربما ينشأ مما سبق ، كأنه قيل : ما للمنعوتين بما ذُكر من النعوت اختُصّوا بهداية ذلك الكتابِ العظيمِ الشأن؟ وهل هم أحقاءُ بتلك الأثرَة؟ فأجيب بأنهم بسبب اتصافِهم بذلك مالِكُونَ لزِمام أصلِ الهدى الجامعِ لفنونه ، المستتبِع للفوز والفلاح ، فأيُّ ريبٍ في استحقاقهم لما هو فَرعٌ من فروعه؟
ولقد جار عن سَنن الصواب من قال في تقرير الجواب : بأن أولئك الموصوفين غيرُ مستبعَدٍ أن يفوزوا دون الناسِ بالهدى عاجلاً ، وبالفلاح آجلاً .
وأما على تقدير كونِهما مفصولَين عنه فهي في محل الرفع على أنها خبرٌ للمبتدأ الذي هو الموصولُ الأول ، والثاني معطوفٌ عليه ، وهذه الجملةُ استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال ينساق إليه الذهنُ من تخصيص ما ذُكر بالمتقين قبل بيانِ مبادىءِ استحقاقِهم لذلك ، كأنه قيل : ما بالُ المتقين مخصوصين به؟ فأجيب بشرح ما انطوى عليه اسمُهم إجمالاً من نعوت الكمال ، وبيان ما يستدعيه من النتيجة ، أي الذين هذه شؤونُهم أحقاءُ بما هو أعظمُ من ذلك ، كقولك : أُحِبّ الأنصارَ الذين قارعوا دون رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وبذلوا مُهجتَهم في سبيل الله ، أولئك سوادُ عيني ، وسُوَيْدَاءُ قلبي .(1/36)
وأعلم أن هذا المسلكَ يُسلك تارةً بإعادة اسمِ مَن استُؤنِفَ عنه الحديثُ ، كقولك : أحسنتُ إلى زيدٍ ، زيدٌ حقيقٌ بالإحسان ، وأخرى بإعادةِ صفتِه ، كقولك : أحسنتُ إلى زيدٍ صديقِك القديمِ ، أهلٌ لذلك ، ولا ريب في أن هذا أبلغُ من الأول ، لما فيه من بيان الموجِبِ للحكم ، وإيرادُ اسمِ الإشارةِ بمنزلة إعادة الموصوفِ بصفاته المذكورة ، مع ما فيه من الإشعار بكمال تميُّزِه بها ، وانتظامِه بسبب ذلك في سلك الأمورِ المشاهدة ، والإيماءِ إلى بُعد منزلتِه كما مر .
هذا وقد جُوِّز أن يكون الموصولُ الأول مُجرىً على المتقين حسبما فُصّل ، والثاني مبتدأ ، وأولئك الخ خبرُه ، ويُجعل اختصاصُهم بالهدى والفلاح تعريضاً بغير المؤمنين من أهل الكتاب حيث كانوا يزعُمون أنهم على الهدى ، ويطمعون في نيل الفلاح .
{ وأولئك هُمُ المفلحون } تكريرُ اسمِ الإشارة لإظهار مزيدِ العنايةِ بشأن المشارِ إليهم ، وللتنبيه على أن اتصافَهم بتلك الصفات يقتضي نيلَ كلِّ واحدة من تينك الأثَرَتين ، وأن كلاً منهما كافٍ في تميّزهم بها عمن عداهم ، ويؤيده توسيطُ العاطف بين الجملتين ، بخلاف ما في قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ كالانعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغافلون } فإن التسجيلَ عليهم بكمال الغفلة عبارةٌ عما يفيده تشبيهُهُم بالبهائم ، فتكون الجملةُ الثانية مقررةً للأولى ، وأما الإفلاحُ الذي هو عبارةٌ عن الفوز بالمطلوب فلمّا كان مغايراً للهدى نتيجةً له وكان كلٌّ منهما في نفسه أعزَّ مرامٍ يتنافس فيه المتنافسون فُعل ما فُعل ، و ( هم ) ضميرُ فصلٍ يفصِل الخبرَ عن الصفة ويؤكِّد النسبة ، ويفيد اختصاصَ المُسند بالمسند إليه ، أو مبتدأ خبرُه المفلحون ، والجملةُ خبرٌ لأولئك ، وتعريفُ المفلحين للدلالة على أن المتقين هم الناسُ الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة ، أو إشارةً إلى ما يعرِفه كلُّ أحد من حقيقة المفلحين وخصائصِهم . هذا ، وفي بيان اختصاصِ المتقين بنيل هذه المراتبِ الفائقةِ على فنونٍ من الاعتبارات الرائقة اللائقة حسبما أشير إليه في تضاعيف تفسير الآية الكريمة من الترغيب في اقتفاءِ أثرِهم والإرشاد إلى اقتداءِ سيرِهم ما لا يخفى مكانُه ، والله وليُّ الهداية والتوفيق .(1/37)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ } كلامٌ مستأنف سيق لشرح أحوالِ الكَفَرة الغواة المَرَدة العُتاة ، إثرَ بيانِ أحوالِ أضدادِهم المتصفين بنعوت الكمال الفائزين بمباغيهم في الحال والمآل ، وإنما تُرك العاطفُ بينهما ولم يُسلك به مسلكَ قولِه تعالى : { إِنَّ الابرار لَفِى نَعِيمٍ * وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ } لِمَا بينهما من التنافي في الأسلوب ، والتبايُن في الغرض ، فإن الأولى مَسوقةٌ لبيان رفعةِ شأنِ الكتاب في باب الهداية والإرشاد ، وأما التعرضُ لأحوال المهتدين به فإنما هو بطريق الاستطراد ، سواءٌ جُعل الموصولُ موصولاً بما قبله ، أو مفصولاً عنه ، فإن الاستئنافَ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأ من الكلام المتقدم ، فهو من مستتبِعاته لا محالة . وأما الثانيةُ فمسوقةٌ لبيان أحوالِ الكفرة أصالةً ، وترامي أمرِهم في الغَواية والضلالِ إلى حيث لا يُجديهم الإنذارُ والتبشير ، ولا يؤثّر فيهم العِظةُ والتذكير ، فهم ناكبون في تيهِ الغيِّ والفساد عن منهاج العقول ، وراكبون في مسلك المكابرة والعِناد متنَ كلِّ صَعْبٍ وذَلول ، وإنما أوثرتْ هذه الطريقةُ ولم يؤسَّس الكلامُ على بيان أن الكتابَ هادٍ للأولين وغيرُ مُجدٍ للآخَرِين لأن العنوانَ الأخيرَ ليس مما يورثُه كمالاً حتى يُتعرَّضَ له في أثناء تعدادِ كمالاتِه .
و ( إن ) من الحروف التي تشابه الفعلَ في عدد الحروف والبناءِ على الفتح ولزومِ الأسماءِ ودخولِ نون الوقاية عليها ، كإنني ولعلني ونظائرهما ، وإعطاءِ معانيه ، والتعدي خاصةً في الدخول على اسمين ، ولذلك أُعملت عملَه الفرْعيَّ ، وهو نصبُ الأول ورفعُ الثاني إيذاناً بكونه فرعاً في العمل دخيلاً فيه ، وعند الكوفيين لا عملَ لها في الخبر ، بل هو باقٍ على حاله بقضية الاستصحاب . وأجيب بأن ارتفاعَ الخبر مشروطٌ بالتجرد عن العوامل ، وإلا لما انتصب خبرُ كان وقد زال بدخولها ، فتعين إعمالُ الحرف ، وأثرُها تأكيدُ النسبة وتحقيقُها ، ولذلك يتلقى بها القسمُ ، وتُصدَّر بها الأجوبة ، ويؤتى بها في مواقع الشكِ والإنكارِ لدفعه وردِّه ، قال المبّرِد : قولُك عبدُ اللَّه قائمٌ إخبارٌ عن قيامه ، وإن عبدَ اللَّه قائمٌ جوابُ سائلٍ عن قيامه شاكٍ فيه ، وإن عبدَ اللَّه لقائمٌ جوابُ منكرٍ لقيامه .
وتعريف الموصولُ إما للعهد والمرادُ به ناسٌ بأعيانهم كأبي لهبٍ وأبي جهلٍ والوليدِ بن المغيرة وأضرابِهم وأحبارِ اليهود ، أو للجنس ، وقد خُص منه غيرُ المُصرِّين بما أسند إليه من قوله تعالى : { سَوَاء عَلَيْهِمْ } الخ ، والكُفْرُ في اللغة سترُ النعمة ، وأصلُه الكَفْرُ بالفتح أي الستر . ومنه قيل للزارع والليلِ كافرٌ ، قال تعالى : { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ } وعليه قول لبيد :
في ليلةٍ كَفَر النجومَ غمامُها ... ومنه المتكفِّرُ بسلاحه وهو الشاكي الذي غطى السلاحُ بدنه ، وفي الشريعة إنكارُ ما عُلم بالضرورة مجيءُ الرسولِ عليه الصلاة والسلام به ، وإنما عُدَّ لبسُ الغيارُ وشد الزنار بغير اضطرار ونظائرُهما كفراً لدلالته على التكذيب ، فإن مَنْ صدق النبي عليه السلام لا يكاد يجترىء على أمثال ذلك ، إذ لا داعيَ إليه كالزنى وشربِ الخمر ، واحتجت المعتزلة على حدوث القرآن بما جاء فيه بلفظ الماضي على وجه الإخبار ، فإنه يستدعي سابقةَ المُخبَرِ عنه لا محالة ، وأُجيب بأنه من مقتضيات التعلقِ وحدوثِه لا يستدعي حدوثَ الكلام ، كما أن حدوثَ تعلّقِ العلم بالمعلوم لا يستدعي حدوثَ العلم { سَوَآء } هو اسمٌ بمعنى الاستواء ، نُعت به كما يُنعت بالمصادر مبالغةً ، قال تعالى :(1/38)
{ تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } وقوله تعالى : { عَلَيْهِمْ } متعلق به ، ومعناه عندهم ، وارتفاعُه على أنه خبر ، لأن قوله تعالى : { أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ } مرتفعٌ به على الفاعلية لأن الهمزةَ وأَمْ مجردتان عن معنى الاستفهام ، لتحقيق الاستواء بين مدخوليهما ، كما جُرِّد الأمر والنهي لذلك عن معنييهما في قوله تعالى : { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } وحرفُ النداء في قولك : اللهم اغفرْ لنا أيتها العِصابة عن معنى الطلب لمجرد التخصيص ، كأنه قيل : إن الذين كفروا مستوٍ عليهم إنذارُك وعدمُه . كقولك : إن زيداً مختصمٌ أخوه وابنُ عمه ، أو مبتدأ ، و { سَوَاء عَلَيْهِمْ } خبرٌ قُدم عليه اعتناء بشأنه ، والجملة خبرٌ لإن ، والفعل إنما يمتنعُ الإخبار عنه عند بقائه على حقيقته .
وأما لو أريد به اللفظُ أو مطلقُ الحدث المدلولِ عليه ضمناً على طريقة الاتساع فهو كالاسم في الإضافة والإسناد إليه ، كما في قوله تعالى : { هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ } وقوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ } وفي قولهم : ( تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ ) ، كأنه قيل : إنذارُك وعدمه سيان عليهم ، والعدول إلى الفعل لما فيه من إيهام التجدُّد ، والتوصّلُ إلى إدخال الهمزة ومُعادلِها عليه لإفادة تقرير معنى الاستواء وتأكيده ، كما أشير إليه وقيل : ( سواء ) مبتدأ وما بعده خبره وليس بذاك لأن مقتضى المقام بيانُ كونِ الإنذار وعدمِه سواءً ، لا بيان كون المستوي الإنذارَ وعدمَه ، والإنذارُ إعلامُ المَخوفِ للاحتراز عنه ، إفعال من نذر بالشيء إذا علِمه فحذِره ، والمراد هاهنا التخويف من عذاب الله وعقابه على المعاصي ، والاقتصارُ عليه لما أنهم ليسوا بأهل للبشارة أصلاً ، ولأن الإنذار أوقعُ في القلوب ، وأشدُّ تأثيراً في النفوس ، فإن دفع المضارِّ أهم من جلب المنافع ، فحيث لم يتأثروا به فَلألاّ يرفعوا للبشارة رأساً أولى ، وقرىء بتوسيط ألفٍ بين الهمزتين مع تحقيقهما ، وبتوسيطها والثانية بَيْنَ بين ، وبتخفيف الثانية بين بين بلا توسيط ، وبحذف حرف الاستفهام ، وبحذفه وإلقاء حركته على الساكن قبله ، كما قرىء قدَ أفلح ، وقرىء بقلب الثانية ألفاً ، وقد نسب ذلك إلى اللحن .
{ لاَ يُؤْمِنُونَ } جملةٌ مستقلةٌ مؤكدة لما قبلها ، مبينة لما فيه من إجمال ما فيه الاستواء ، فلا محلَّ لها من الإعراب ، أو حال مؤكدةٌ له ، أو بدل منه أو خبرٌ لأن ، وما قبلها اعتراضٌ بما هو عِلة للحكم ، أو خبرٌ ثانٍ على رأي من يجوِّزه عند كونه جملة ، والآية الكريمة مما استدل به على جواز التكليف بما لا يطاق ، فإنه تعالى قد أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون ، فظهر استحالةُ إيمانهم لاستلزامه المستحيلَ الذي هو عدمُ مطابقةِ إخباره تعالى للواقع مع كونهم مأمورين بالإيمان ، باقين على التكليف ، ولأن من جملة ما كُلفوه الإيمانَ بعدم إيمانهم المستمر ، والحق أن التكليفَ بالممتنع لذاته وإن جاز عقلاً من حيث إن الأحكامَ لا تستدعي أغراضاً لا سيما الامتثالُ ، لكنه غيرُ واقع للاستقراء ، والإخبارُ بوقوعِ الشيء أو بعدمه لا ينفي القُدرة عليه ، كإخباره تعالى عما يفعله هو ، أو العبدُ باختياره ، وليس ما كلفوه الإيمانَ بتفاصيل ما نطق به القرآن حتى يلزم أن يُكلفوا الإيمان بعدم إيمانهم المستمر ، بل هو الإيمانُ بجميع ما جاء به النبي عليه السلام إجمالاً ، على أن كون الموصولِ عبارةً عنهم ليس معلوماً لهم .(1/39)
وفائدةُ الإنذار بعد العلم بأنه لا يفيد إلزامَ الحجةِ وإحرازَ الرسول صلى الله عليه وسلم فضل الإبلاغ ، ولذلك قيل : سواء عليهم ، ولم يقل : عليك ، كما قيل لعبَدة الأصنام { سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون } وفي الآية الكريمة إخبارٌ بالغيب على ما هو به إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهي من المعجزات الباهرة(1/40)
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
{ خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ } استئنافٌ تعليلي لما سبق الحكم ، وبيانٌ لما يقتضيه ، أو بيان وتأكيد له ، والمرادُ بالقلب محلُّ القوة العاقلة من الفؤاد ، والختم على الشيء الاستيثاقُ منه بضرب الخاتم عليه صيانةً له ، أو لما فيه من التعرض له كما في البيت الفارغ والكيس المملوء ، والأولُ هو الأنسب بالمقام ، إذ ليس المراد به صيانةَ ما في قلوبهم ، بل إحداثَ حالةٍ تجعلها بسبب تماديهم في الغي وانهماكِهم في التقليد ، وإعراضِهم عن منهاج النظر الصحيح ، بحيث لا يؤثر فيها الإنذار ، ولا ينفُذُ فيها الحقُّ أصلاً ، إما على طريقة الاستعارة التبعية ، بأن يُشبّه ذلك بضرب الخاتم على نحو أبوابِ المنازل الخالية المبنية للسُكنى تشبيهَ معقولٍ بمحسوس بجامعٍ عقلي هو الاشتمالُ على منع القابل عما من شأنه وحقه أن يقبَلَه ، ويستعار له الختمُ ثم يشتق منه صيغةُ الماضي ، وإما على طريقة التمثيل بأن يُشبه الهيئةُ المنتزعةُ من قلوبهم وقد فُعل بها ما فعل من إحداث تلك الحالة المانعة من أن يصل إليها ما خلقت هي لأجله من الأمور الدينية النافعة ، وحيل بينها وبينه بالمرة بهيئةٍ منتزعةٍ من محالَ مُعدةٍ لحلول ما يَحُلُّها حُلولاً مستتبعاً لمصالحَ مُهمة وقد مَنَع من ذلك بالختم عليها وحيل بينها وبين ما أعدت لأجله بالكلية ، ثم يُستعار لها ما يدل على الهيئة المشبَّهِ بها فيكون كلٌّ من طرفي التشبيه مركباً من أمور عدةٍ قد اقتُصر من جانب المشبَّهِ به على ما عليه يدور الأمرُ في تصوير تلك الهيئةِ وانتزاعِها وهو الختم ، والباقي منويٌّ مرادٌ قصداً بألفاظٍ متخيَّلة بها يتحقق التركيب ، وتلك الألفاظُ وإن كان لها مدخَلٌ في تحقيق وجهِ الشبه الذي هو أمرٌ عقلي منتزَع منها وهو امتناعُ الانتفاعِ بما أُعِدَّ له بسبب مانعٍ قوي ، ليس في شيء منها على الانفراد تجوز باعتبار هذا المجاز ، بل هي باقية على حالها من كونها حقيقةً أو مجازاً أو كنايةً ، وإنما التجوُّزُ في المجموع ، وحيث كان معنى المجموع مجموعَ معاني تلك الألفاظ التي ليس فيها التجوزُ المعهود ، ولم تكن الهيئةُ المنتزعةُ منها مدلولاً وضعياً لها ليكون ما دلَّ على الهيئة المشبه بها عند استعمالِه في الهيئة المشبهة مستعملاً في غير ما وضع له ، فيندرجَ تحت الاستعارةِ التي هي قسمٌ من المجاز اللغوي ، الذي هو عبارةٌ عن الكلمة المستعملة في غير ما وضع له ، ذهب قدماء المحققين كالشيخ عبدِ القاهر وأضرابِه إلى جعل التمثيلِ قسماً برأسه ، ومن رام تقليلَ الأقسام عَدَّ تلك الهيئةَ المشبَّهَ بها من قبيل المدلولات الوضعية ، وجعل الكلامَ المفيد لها عند استعمالِه فيما يُشبَّه بها من هيئة أخرى منتزعةٍ من أمور أُخَرَ من قبيل الاستعارة ، وسماه استعارة تمثيلية ، وإسنادُ إحداث تلك الحالة في قلوبهم إلى الله تعالى لاستناد جميعِ الحوادث عندنا من حيث الخلقُ إليه سبحانه وتعالى ، وورودُ الآية الكريمة ناعيةً عليهم سوءَ صنيعهم ووخامةَ عاقبتِهم لكون أفعالِهم من حيث الكسبُ مستندةً إليهم ، فإن خلْقَها منه سبحانه ليس بطريق الجبر بل بطريق الترتيبِ على ما اقترفوه من القبائح كما يُعرِبُ عنه قوله تعالى :(1/41)
{ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } ونحو ذلك .
وأما المعتزلةُ فقد سلكوا مسلكَ التأويل ، وذكروا في ذلك عدةً من الأقاويل منها أن القومَ لمّا أعرضوا عن الحق وتمكنَ ذلك في قلوبهم حتى صار كالطبيعة لهم شُبّه بالوصف الخَلْقي المجبول عليه ، ومنها أن المراد به تمثيلُ قلوبِهم بقلوب البهائم التي خلقها الله تعالى خاليةً عن الفِطَن ، أو بقلوب قد ختم الله تعالى عليها كما في : سال به الوادي إذا هلك ، وطارت به العنقاءُ إذا طالت غَيْبته ، ومنها أن ذلك فعلُ الشيطان أو الكافر ، وإسنادُه إليه تعالى باعتبار كونه بإقداره تعالى وتمكينه ، ومنها أن أعراقَهم لما رسَخت في الكفر واستحكمت بحيث لم يبق إلى تحصل إيمانهم طريقٌ سوى الإلجاءِ والقسرِ ، ثم لم يَفعَلْ ذلك محافظةً على حكمة التكليف عُبّر عن ذلك بالختم ، لأنه سدٌّ لطريق إيمانهم بالكلية ، وفيه إشعارٌ بترامي أمرهم في الغي والعِناد ، وتناهي انهماكِهم في الشر والفساد ، ومنها أن ذلك حكايةٌ لما كانت الكفرة يقولونه مثل قولهم : { قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } تهكّماً بهم ، ومنها أن ذلك في الآخرة ، وإنما أُخبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه ويعضُده قوله تعالى : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا } ومنها أن المراد بالختم وسْمُ قلوبهم بسِمَةٍ يعرِفها الملائكة فيبغضونهم وينفِرون عنهم .
{ وعلى سَمْعِهِمْ } عطفٌ على ما قبله داخل في حكم الختم لقوله عز وجل : { وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ } وللوفاق على الوقف عليه لا على قلوبهم ، ولاشتراكهما في الإدراك من جميع الجوانب ، وإعادةُ الجارّ للتأكيد والإشعار بتغايُر الختمَيْن ، وتقديمُ ختمِ قلوبهم للإيذان بأنها الأصلُ في عدم الإيمان ، وللإشعار بأن ختمَها ليس بطريق التبعيةِ بختم سمعِهم ، بناءً على أنه طريقٌ إليها ، فالختمُ عليه ختمٌ عليها ، بل هي مختومةٌ بختم على حِدَة ، لو فُرض عدمُ الختم على سمعهم فهو باقٍ على حاله حسبما يُفصح عنه قوله تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } والسمعُ إدراكُ القوة السامعة ، وقد يُطلق عليها وعلى العضو الحامل لها وهو المراد ههنا ، إذ هو المختومُ عليه أصالةً ، وتقديمُ حاله على حال أبصارِهم للاشتراك بينه وبين قلوبهم في تلك الحال ، أو لأن جنايتَهم من حيث السمعُ الذي به يتلقى الأحكامُ الشرعية ، وبه يَتحققُ الإنذارُ أعظمَ منها من حيث البصرُ الذي به يشاهَد الأحوالُ الدالة على التوحيد ، فبيانُها أحقُّ بالتقديم ، وأنسبُ بالمقام .(1/42)
قالوا : السمعُ أفضلُ من البصر ، لأنه عز وعلا حيث ذكَرهما قدم السمعَ على البصر ، ولأن السمع شرطُ النبوة ولذلك ما بعث الله رسولاً أصم ، ولأن السمع وسيلة إلى استكمال العقلِ بالمعارف التي تُتلقف من أصحابها ، وتوحيدُه للأمن عن اللَّبس ، واعتبارِ الأصل ، أو لتقدير المضاف ، أي وعلى حواسِّ سمعهم ، والكلامُ في إيقاع الختم على ذلك كما مر من قبل { وعلى أبصارهم غشاوة } الأبصار جمع بصر ، والكلام فيه كما سمعته في السمع ، والغِشاوةُ فِعالة من التغشية أي التغطية ، بُنيت لما يشتمل على الشيء كالعِصابة والعِمامة ، وتنكيرُها للتفخيم والتهويل ، وهي على رأي سيبويه مبتدأ خبرُه الظرفُ المقدم ، والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها ، وإيثارُ الاسمية للإيذان بدوام مضمونها ، فإن ما يُدرَك بالقوة الباصرة من الآيات المنصوبة في الآفاق والأنفسِ حيث كانت مستمرةً كان تعاميهم من ذلك أيضاً كذلك .
وأما الآياتُ التي تُتلقَّى بالقوة السامعة فلمّا كان وصولُها إليها حيناً فحيناً أوثر في بيان الختم عليها وعلى ما هي أحدُ طريقي معرفتِه ، أعني القلبَ الجملةُ الفعلية ، وعلى رأي الأخفش مرتفعٌ على الفاعلية مما تعلق به الجار ، وقرىء بالنصب على تقدير فعلٍ ناصب ، أي وجَعَل على أبصارهم غشاوة ، وقيل : على حذف الجار وإيصال الختم إليه ، والمعنى وختم على أبصارهم بغشاوة ، وقرىء بالضم والرفع وبالفتح والنصب ، وهما لغتان فيها ، و ( غشواة ) بالكسر مرفوعةٌ وبالفتح مرفوعة ومنصوبة ، وعشاوةٌ بالعين غير المعجمة والرفع { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } وعيد وبيان لما يستحقونه في الآخرة والعذاب كالنَكال بناءً ومعنى ، يقال : أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه ، ومنه الماءُ العذبُ لما أنه يقمَعُ العطش ويردَعه ، ولذلك يسمى نُقاخاً ، لأنه ينقَخُ العطشَ ويكسِرُه ، وفرُاتاً لأنه يرفتُه على القلب ويكسره ، ثم اتُسِع فيه فأطلق على كل ألمٍ فادح ، وإن لم يكن عقاباً يُراد به ردْعُ الجاني عن المعاودة ، وقيل : اشتقاقُه من التعذيب الذي هو إزالة العذاب ، كالتقذية والتمريض . والعظيم نقيضُ الحقير ، والكبير نقيضُ الصغير ، فمن ضرورة كونِ الحقيرِ دونَ الصغير كونُ العظيم فوق الكبير ، ويستعملان في الجُثث والأحداث . تقول : رجل عظيم وكبير ، تريد جثتَه أو خطرَه ، ووصفُ العذاب به لتأكيد ما يفيده التنكيرُ من التفخيم والتهويل والمبالغة في ذلك .
والمعنى : أن على أبصارهم ضرباً من الغِشاوة خارجاً مما يتعارفه الناس ، وهي غشاوة التعامي عن الآيات ، ولهم من الآلام العظامِ نوعٌ عظيم لا يُبلغ كُنهُه ولا يدرك غايتُه ، اللهم إنا نعوذ بك من ذلك كلِّه يا أرحم الراحمين .(1/43)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
{ وَمِنَ الناس } شروع في بيان أن بعضَ من حُكيتْ أحوالُهم السالفة ليسوا بمقتصِرين على ما ذكر من محض الإصرارِ على الكفر والعناد ، بل يضُمّون إليه فنوناً أُخَرَ من الشر والفساد ، وتعديدٌ لجناياتهم الشنيعةِ المستتبعة لأحوال هائلةٍ عاجلة وآجلة ، وأصلُ ناسٍ أُناسٌ ، كما يشهد له إنسانٌ وأناسيُّ وإنسٌ ، حُذفت همزته تخفيفاً كما قيل : لوقة في ألوقة ، وعُوّض عنها حرفُ التعريف ، ولذلك لا يُكاد يُجمع بينهما ، وأما في قوله :
إن المنايا يطَّلِعْنَ على الأُناسِ الآمنينا ... فشاذ ، سموا بذلك لظهورهم وتعلُّقِ الإيناسِ بهم كما سُمّي الجنُ جناً لاجتنانهم . وذهب بعضُهم إلى أن أصلَه النَّوَسُ وهو الحركة ، انقلبت واوه ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وبعضُهم إلى أنه مأخوذ من نِسيَ ، نقلت لامه إلى موضع العين فصار نَيَساً ، ثم قلبت ألفاً ، سُمّوا بذلك لنسيانهم ، ويُروى عن ابن عباس أنه قال : سُمي الإنسانُ إنساناً لأنه عُهد إليه فنِسي ، واللام فيه إما للعهد ، أو للجنس المقصور على المُصرّين حسبما ذكر في الموصول ، كأنه قيل : ومنهم أو من أولئك ، والعدولُ إلى الناس للإيذان بكثرتهم ، كما ينبىء عنه التبعيضُ ، ومحلُ الظرف الرفعُ على أنه مبتدأ باعتبار مضمونِه ، أو نعتٌ لمبتدإٍ ، كما في قوله عز وجل : { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } أي وجمعٌ منا الخ ، ومن في قوله تعالى : { مَن يِقُولُ } موصولة أو موصوفة ، ومحلُها الرفعُ على الخبرية ، والمعنى وبعضُ الناس ، أو وبعضٌ من الناس الذي يقول ، كقوله تعالى : { وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبى } الآية ، أو فريق يقول ، كقوله تعالى : { مّنَ المؤمنين رِجَالٌ } الخ ، على أن يكون مناطُ الإفادةِ والمقصودُ بالأصالة اتصافُهم بما في حيز الصلة أو الصفة ، وما يتعلق به من الصفات جميعاً ، لا كونُهم ذواتِ أولئك المذكورين .
وأما جعلُ الظرف خبراً كما هو الشائعُ في موارد الاستعمال فيأباه جزالةُ المعنى ، لأن كونَهم من الناس ظاهرٌ ، فالإخبارُ به عارٍ عن الفائدة كما قيل ، فإن مبناه توهمُ كونِ المرادِ بالناس الجنسَ مطلقاً ، وكذا مدارُ الجواب عنه بأن الفائدةَ هو التنبيهُ على أن الصفاتِ المذكورةَ تنافي الإنسانية ، فحقُّ من يتصفُ بها ألا يُعلمَ كونُه من الناس ، فيُخبَرَ به ويُتعجَّبَ منه ، وأنت خبير بأن الناسَ عبارة عن المعهودين ، أو عن الجنس المقصور على المصرّين ، وأياً ما كان فالفائدةُ ظاهرة ، بل لأن خبريةَ الظرف تستدعي أن يكون اتصافُ هؤلاء بتلك الصفاتِ القبيحةِ المفصَّلة في ثلاثَ عشْرةَ آيةٍ عنواناً للموضوع مفروغاً عنه ، غيرَ مقصودٍ بالذات ، ويكونُ مناطَ الإفادة كونُهم من أولئك المذكورين ، ولا ريب لأحدٍ في أنه يجب حملُ النظم الجليلِ على أجزلِ المعاني وأكملِها ، وتوحيدُ الضمير في ( يقول ) باعتبار لفظةِ ( مَن ) ، وجمعُه في قوله : { آمنا بالله وباليوم الأخر } وما بعده باعتبار معناها ، والمرادُ باليوم الآخِرِ من وقت الحشرِ إلى ما لا يتناهى ، أو إلى أن يدخُلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهلُ النار النارَ ، إذ لا حدَّ وراءه ، وتخصيصُهم للإيمان بهما بالذكر مع تكرير الباءِ لادعاء أنهم قد حازوا الإيمانَ من قُطريه ، وأحاطوا به من طرفيه ، وأنهم قد آمنوا بكلَ منهما على الأصالة والاستحكام ، وقد دسوا تحته ما هم عليه من العقائد الفاسدة حيث لم يكن إيمانُهم بواحد منهما إيماناً في الحقيقة ، إذ كانوا مشركين بالله بقولهم :(1/44)
{ عَزِيزٌ ابن الله } وجاحدين باليوم الآخر بقولهم : { لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } ونحو ذلك ، وحكايةُ عبارتهم لبيان كمالِ خبثهم ودعارتِهم ، فإن ما قالوا لو صدر عنهم لا على وجه الخِداعِ والنفاقِ وعقيدتُهم عقيدتُهم لم يكن ذلك إيماناً ، فكيف وهم يقولونه تمويهاً على المؤمنين واستهزاءً بهم { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } ردٌّ لما ادعَوْه ونفيٌ لما انتحلوه . وما حجازية ، فإن جوازَ دخولِ الباء في خبرها لتأكيد النفي اتفاقيٌّ بخلاف التميمية ، وإيثارُ الجملة الاسميةِ على الفعلية الموافقةِ لدعواهم المردودةِ للمبالغة في الرد بإفادة انتفاءِ الإيمانِ عنهم في جميع الأزمنة لا في الماضي فقط كما يفيده الفعلية . ولا يُتوهمَن أن الجملة الاسمية الإيجابية تفيد دوام الثبوت ، فعند دخول النفي عليها يتعين الدلالة على نفي الدوام ، فإنها بمعونة المقام تدل على دوام النفي قطعاً ، كما أن المضارع الخاليَ عن حرف الامتناع يدل على استمرار الوجود وعند دخول حرف الامتناع عليه يدل على استمرار الامتناع ، لا على امتناع الاستمرار ، كما في قوله عز وجل : { وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } فإن عدم قضاءِ الأجل لاستمرار عدم التعجيل لا لعدم استمرارِ التعجيل ، وإطلاقُ الإيمان عما قيدوه به للإيذان بأنهم ليسوا من جنس الإيمان في شيء أصلاً ، فضلاً عن الإيمان بما ذكروا ، وقد جُوز أن يكون المراد ذلك ، ويكون الإطلاق للظهور ، ومدلولُ الآية الكريمة أن من أظهر الإيمان ، واعتقادُه بخلافه ، لا يكون مؤمناً ، فلا حجة فيها على الكرامية القائلين بأن من تفوّه بكلمتي الشهادة فارغَ القلب عما يوافقه أو ينافيه مؤمنٌ .(1/45)
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
يخادعون الله والذين ءامَنُوا } بيانٌ ليقولُ وتوضيحٌ لما هو غرضُهم مما يقولون ، أو استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال ينساق إليه الذهن ، كأنه قيل : ما لهم يقولون ذلك وهم غيرُ مؤمنين ، فقيل : يخادعون الله الخ ، أي يخدعون ، وقد قرىء كذلك ، وإيثارُ صيغة المفاعلةِ لإفادة المبالغةِ في الكيفية ، فإن الفعل متى غولب فيه بولغ فيه قطعاً ، أو في الكمية ، كما في الممارسة والمزاولة ، فإنهم كانوا مداومين على الخَدْع ، والخِدْعُ أن يوهم صاحبَه خلاف ما يريد به من المكروه ليوقعَه فيه من حيث لا يحتسب ، أو يوهمَه المساعدةَ على ما يريد هو به ليغترّ بذلك فينجُوَ منه بسهولة ، من قولهم ضبٌّ خادع وخُدَع وهو الذي إذا أمرّ الحارسُ يده على باب جُحره يوهمه الإقبالَ عليه فيخرج من بابه الآخر ، وكلا المعنيين مناسبٌ للمقام ، فإنهم كانوا يريدون بما صنعوا أن يطّلعوا على أسرار المؤمنين فيذيعوها إلى المنابذين ، وأن يدفعوا عن أنفسهم ما يصيب سائرَ الكفرة .
وأياً ما كان فنسبتُه إلى الله سبحانه إما على طريق الاستعارة والتمثيل ، لإفادة كمال شناعةِ جنايتهم أي يعامِلون معاملة الخادعين ، وإما على طريقة المجاز العقلي ، بأن يُنسب إليه تعالى ما حقه أن يُنسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إبانةً لمكانته عنده تعالى ، كما ينبىء عنه قوله تعالى : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } وقوله تعالى : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } مع إفادة كمال الشناعةِ كما مر ، وإما لمجرد التوطئةِ والتمهيد لما بعده من نِسبته إلى الذين آمنوا ، والإيذانِ بقوةِ اختصاصِهم به تعالى كما في قوله تعالى : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } ، وقوله تعالى : { إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ } وإبقاءُ صيغة المخادعةِ على معناها الحقيقي بناءً على زعمهم الفاسد ، وترجمةٌ عن اعتقادهم الباطل ، كأنه قيل : يزعمون أنهم يخدعون الله والله يخدعهم ، أو على جعلها استعارة تَبَعِيّة ، أو تمثيلاً لما أن صورةَ صُنعِهم مع الله تعالى والمؤمنين وصنعِه تعالى معهم بإجراء أحكامِ الإسلام عليهم ، وهم عنده أخبثُ الكفرة ، وأهلُ الدَّرْك الأسفلِ من النار استدراجاً لهم ، وامتثالُ الرسولِ عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بأمر الله تعالى في ذلك مجازاةٌ لهم بمثل صنيعهم صورةَ صنيعِ المتخادعين كما قيل ، مما لا يرتضيه الذوق السليم .
أما الأولُ فلأن المنافقين لو اعتقدوا أن الله تعالى يخدعُهم بمقابلة خَدْعِهم له لم يُتصَّور منهم التصدّي للخدْع ، وأما الثاني فلأن مقتضى المقام إيرادُ حالهم خاصةً وتصويرُها بما يليق بها من الصورة المستهجَنة ، وبيانُ أن غائلَها آيلةٌ إليهم من حيث لا يحتسبون ، كما يُعرب عنه قوله عز وعلا : { وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ } فالتعرضُ لحال الجانب الآخر مما يُخِل بتوفية المقامِ حقَّه ، وهو حالٌ من ضمير ( يخادعون ) ، أي يفعلون والحالُ أنهم ما يُضرون بذلك إلا أنفسَهم ، فإن دائرةَ فعلِهم مقصورةٌ عليهم ، أو ما يخدعون حقيقةً إلا أنفسَهم ، حيث يُغرونها بالأكاذيب فيُلْقُونها في مهاوي الردى ، وقرىء ( وما يخادعون ) والمعنى هو المعنى ، ومن حافظ على الصيغة فيما قبلُ قال : وما يعامِلون تلك المعاملةَ الشبيهةَ بمعاملة المخادِعين إلا أنفسَهم لأن ضررَها لا يحيق إلا بهم ، أو ما يخادعون حقيقة إلا أنفسَهم حيث يُمنّوُنها الأباطيل ، وهي أيضاً تغرُهم وتمنّيهم الأمانيَّ الفارغةَ ، وقرىء ( وما يُخَدِّعون ) من التخديع ( وما يخدعون ) أي يختدعون ، ويُخدَعون ويُخادَعون على البناء للمفعول ، ونصبُ ( أنفسَهم ) بنزع الخافض ، والنفسُ ذاتُ الشيء وحقيقتُه وقد يقال للروح لأن نفس الحيِّ به ، وللقلب أيضاً لأنه محلُ الروح .(1/46)
أو مُتعلَّقُه ، وللدم أيضاً لأن قِوامَها به ، وللماء أيضاً لشدة حاجتها إليه والمراد هنا هو المعنى الأول لأن المقصود بيانُ أن ضرر مخادعتهم راجعٌ إليهم لا يتخطاهم إلى غيرهم .
وقوله تعالى : { وَمَا يَشْعُرُونَ } حال من ضمير ما يخدعون ، أي يقتصرون على خِدْع أنفسِهم والحالُ أنهم ما يشعرون أي ما يُحسّون بذلك لتماديهم في الغَواية ، وحذفُ المفعولِ إما لظهوره أو لعمومه ، أي ما يشعرون بشيء أصلاً ، جُعل لُحوقُ وبالِ ما صنعوا بهم في الظهور بمنزلة الأمر المحسوسِ الذي لا يخفى إلا على مَؤوفِ الحواس مختلِّ المشاعر .(1/47)
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
{ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } المرض عبارة عما يعرِضُ للبدن فيُخرجه عن الاعتدال اللائق به ، ويوجب الخللَ في أفاعيله ، ويؤدّي إلى الموت ، استُعير ههنا لما في قلوبهم من الجهل وسوءِ العقيدة ، وعداوةِ النبي صلى الله عليه وسلم وغيرِ ذلك من فنون الكفر المؤدي إلى الهلاك الروحاني ، والتنكيرُ للدلالة على كونه نوعاً مُبهماً غيرَ ما يتعارفه الناس من الأمراض ، والجملةُ مقرِّرة لما يفيده قوله تعالى : { مَّا هُم بِمُؤْمِنِينَ } من استمرار عدمِ إيمانهم ، أو تعليلٌ له كأنه قيل : ما لهم لا يؤمنون فقيل : في قلوبهم مرضٌ يمنعهم { فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا } بأن طُبع على قلوبهم ، لعلمه تعالى بأنه لا يؤثر فيها التذكيرُ والإنذار ، والجملةُ معطوفة على ما قبلها ، والفاءُ للدلالة على ترتّب مضمونِها عليه ، وبه اتضح كونُهم من الكفرة المختومِ على قلوبهم مع زيادة بيانِ السبب ، وقيل : زادهم كفراً بزيادة التكاليف الشرعية ، لأنهم كانوا كلما ازداد التكاليفُ بنزول الوحي يزدادون كفراً ، ويجوز أن يكون المرض مستعاراً لما تداخلَ قلوبَهم من الضعف والجُبن والخَوَر عند مشاهدتهم لعزة المسلمين ، فزيادتُه تعالى إياهم مرضاً ما فعل بهم من إلقاء الرَّوْع وقذف الرعب في قلوبهم عند إعزازِ الدين بإمداد النبي صلى الله عليه وسلم بإنزال الملائكة ، وتأييدِه بفنون النصر والتمكين ، فقوله تعالى : { فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } الخ حينئذ استئنافٌ تعليلي لقوله تعالى : { يخادعون الله } الخ ، كأنه قيل : ما لهم يخادعون ويداهنون ولم لا يجاهرون بما في قلوبهم من الكفر؟ فقيل : في قلوبهم ضَعفٌ مضاعَف ، هذه حالُهم في الدنيا ، { وَلَهُمْ } في الآخرة { عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي مؤلم يقال : ألمٌ وهو أليم ، كوجعٍ وهو وجيع وُصف به العذابُ للمبالغة كما في قوله :
تحيةُ بينهم ضَرْبٌ وجيعُ ... على طريقة جَدَّ جِدُّه فإن الألم والوجعَ حقيقةٌ للمؤلم والمضروب ، كما أن الجِدّ للجادّ ، وقيل : هو بمعنى المؤلم كالسميع بمعنى المُسمع وليس ذلك بثبْتٍ كما سيجيء في قوله تعالى : { بَدِيعُ السموات والارض } { بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } الباء للسببية أو ما مصدرية داخلة في الحقيقة على يكذبون ، وكلمة كانوا مُقحَمةٌ للمقابلة لإفادة دوامِ كذِبهم وتجدُّدِه أي بسبب كذبهم ، أو بمقابلة كذبهم المتجددِ المستمرِّ الذي هو قولهم : { بالله وباليوم الأخر وَمَا } وهم غير مؤمنين ، فإنه إخبارٌ بإحداثهم الإيمانَ فيما مضى لا إنشاءٌ للإيمان . ولو سلم فهو متضمن للإخبار بصدوره عنهم وليس كذلك لعدم التصديق القلبي بمعنى الإذعان والقبولِ قطعاً ، ويجوز أن يكون محمولاً على الظاهر بناءً على رأي من يجوِّز أن يكون لكان الناقصةِ مصدر ، كما صُرِّح به في قول الشاعر :
ببذلٍ وحِلْمٍ ساد في قومه الفتى ... وكونُك إياه عليك يسيرُ
أي لهم عذاب أليم بسبب كونهم يكذِبون على الاستمرار ، وترتيبُ العذاب عليه من بين سائر موجباته القويةِ .
إما لأن المرادَ بيانُ العذاب الخاصّ بالمنافقين بناءً على ظهور شِركتِهم للمجاهرين فيما ذكر من العذاب العظيم حسبَ اشتراكهم فيما يوجبه من الإصرار على الكفر كما ينبىء عنه قوله تعالى : { وَمِنَ الناس } الخ .(1/48)
وإما للإيذان بأن لهم بمقابلة سائرِ جناياتِهم العظيمةِ من العذاب ما لا يوصف .
وإما للرمز إلى كمال سماجةِ الكذب نظراً إلى ظاهر العبارةِ المخيّلةِ لانفراده بالسببية ، مع إحاطة علمِ السامعِ بأن لحوقَ العذاب بهم من جهات شتى ، وأن الاقتصارَ عليه للإشعار بنهاية قُبحه والتنفير عنه .
عن الصديق رضي الله عنه ويروى مرفوعاً أيضاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم : « إياكم والكذبَ فإنه مجانبٌ للإيمان » وما روي أن إبراهيمَ عليه السلام كذَبَ ثلاثَ كَذَباتٍ فالمرادُ به التعريضُ ، وإنما سمِّي به لشَبَهه به صورةً ، وقيل : ( ما ) موصولة والعائدُ محذوف أي بالذي يكذبون والمفعول محذوف ، وهو إما النبي صلى الله عليه وسلم ، أو القرآنِ و ( ما ) مصدرية ، أي بسبب تكذيبهم إياه عليه السلام ، أو القرآن أو موصولة أي بالذي يكذبونه على أن العائد محذوف ، ويجوز أن يكون صيغةُ التفعيل للمبالغة كما في بيَّن في بان وقلَّص في قلَص ، أو للتكثير كما في موَّتت البهائمُ وبرَّكت الإبل ، وأن يكون من قولهم : كذب الوحش إذا جرى شوطاً ثم وقف لينظرَ ما وراءه فإن المنافق متوقِّفٌ في أمره متردِّد في رأيه ولذلك قيل له : مُذَبْذب .(1/49)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الارض } شروع في تعديد بعضٍ من قبائحهم المتفرعةِ على ما حُكي عنهم من الكفر والنفاق ، وإذا ظرفُ زمنٍ مستقبلٍ ، ويلزمها معنى الشرط غالباً ، ولا تدخل إلا في الأمر المحقق أو المرجح وقوعُه ، واللامُ متعلّقة بقيل ومعناها الإنهاءُ والتبليغ ، والقائمُ مقامَ فاعلِه جملة ( لا تفسدوا ) على أن المراد بها اللفظ ، وقيل هو مُضمرٌ يفسِّرُه المذكورُ ، والفسادُ خروجُ الشيء عن الحالة اللائقة به والصلاحُ مقابلُه ، والفساد في الأرض هَيْجُ الحروب والفتنِ المستتبعة لزوال الاستقامة عن أحوال العباد واختلالِ أمر المعاش والمعاد ، والمراد بما نهُوا عنه ما يؤدي إلى ذلك من إفشاء أسرار المؤمنين إلى الكفار ، وإغرائِهم عليهم ، وغيرِ ذلك من فنون الشرور ، كما يقال للرجل لا تقتُلْ نفسَك بيدك ، ولا تلقِ نفسك في النار إذا أقدم على ما تلك عاقبته وهو إما معطوف على ( يقول ) ، فإن جُعلت كلمة ( مَنْ ) موصولةً فلا محل له من الإعراب ، ولا بأس بتخلل البيان أو الاستئنافِ وما يتعلق بهما بين أجزاء الصلةِ فإن ذلك ليس توسيطاً بالأجنبيّ ، وإن جُعلت موصوفةً فمحلُه الرفع ، والمعنى ومن الناس من إذا نهوا من جهة المؤمنين عما هم عليه من الإفساد في الأرض { قَالُواْ } إرادةٌ للناهين أن ذلك غيرُ صادر عنهم مع أن مقصودهم الأصليَّ إنكارُ كونِ ذلك إفساداً وادعاءُ كونِه إصلاحاً محضاً كما سيأتي توضيحه : { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي مقصورون على الإصلاح المحض ، بحيث لا يتعلق به شائبةُ الإفساد والفساد ، مشيرين بكلمة ( إنما ) إلى أن ذلك من الوضوح بحيث لا ينبغي أن يُرتاب فيه .
وإما كلامٌ مستأنَفٌ سيق لتعديد شنائعِهم . وأما عطفهُ على يكذبون بمعنى ولهم عذاب أليم بكذبهم وبقولهم حين نهوا عن الإفساد إنما نحن مصلحون كما قيل ، فيأباه أن هذا النحْوَ من التعليل حقُه أن يكون بأوصافٍ ظاهرةِ العِلّية مُسلَّمةِ الثبوت للموصوف غنيةٍ عن البيان لشهرة الاتصافِ بها عند السامع أو لسبق ذكرِه صريحاً كما في قوله تعالى : { بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } فإن مضمونه عبارةٌ عما حُكي عنهم من قولهم : { بالله وباليوم الأخر وَمَا } أو لذكر ما يستلزمه استلزاماً ظاهراً كما في قوله عز وجل : { إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحساب } فإن ما ذكر من الضلال عن سبيل الله مما يوجب حتماً نسيان جانب الآخرة التي من جملتها يوم الحساب وما لم يكن كذلك فحقه أن يخبر بعليته قصداً كما في قوله تعالى : { ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار } الآية ، وقوله : { ذلك بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق } الآية ، إلى غير ذلك ، ولا ريب في أن هذه الشرطيةَ وما بعدها من الشرطيتين المعطوفتين عليها ليس مضمونُ شيء منها معلومَ الانتساب إليهم عند السامعين بوجه من الوجوه المذكورة ، حتى تستحقَ الانتظامَ في سلك التعليل المذكور ، فإذن حقُها أن تكونَ مَسوقةً على سنن تعديدِ قبائحِهم على أحد الوجهين ، مفيدةً لاتصافهم بكل واحد من تلك الأوصاف قصداً واستقلالاً كيف لا وقوله عز وجل : { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون } ينادي بذلك نداءً جلياً ، فإنه ردٌ من جهته تعالى لدعواهم المحكية أبلغَ رد ، وأدلَّه على سَخَط عظيم حيث سُلك فيه مسلك الاستئنافِ المؤدي إلى زيادة تمكّنِ الحكم في ذهن السامع ، وصدرت الجملة بحرفي التأكيد ( ألا ) المنبّهة على تحقق ما بعدها ، فإن الهمزة الإنكارية الداخلةَ على النفي تفيد تحقيق الإثبات قطعاً كما في قوله تعالى :(1/50)
{ أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } ولذلك لا يكاد يقع ما بعدها من الجملة إلا مصدرةً بما يتلقى به القسمُ ، وأختها التي هي ( أمَا ) من طلائع القسم .
وقيل : هما حرفان بسيطان موضوعان للتنبيه والاستفتاح و ( إن ) المقرِّرة للنسبة ، وعُرفُ الخبر ووسَطُ ضمير الفصل لردِّ ما في قصر أنفسهم على الإصلاح من التعريض بالمؤمنين . ثم استُدرك بقوله تعالى : { ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ } للإيذان بأن كونهم مفسدين من الأمور المحسوسة ، لكن لا حسَّ لهم حتى يُدركوه ، وهكذا الكلامُ في الشرطيتين الآتيتين وما بعدهما من ردِّ مضمونهما ، ولولا أن المراد تفصيلُ جناياتهم وتعديدُ خبائثهم وهَناتِهم ثم إظهارُ فسادِها وإبانة بُطلانها لما فُتح هذا البابُ والله أعلم بالصواب .(1/51)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } من قِبَل المؤمنين بطريق الأمر بالمعروف إثرَ نهيِهم عن المنكر إتماماً للنُصح وإكمالاً للإرشاد : { ءامَنُواْ } حُذف المؤمَنُ به لظهوره أو أريدَ افعلوا الإيمان : { كَمَا ءامَنَ الناس } الكاف في محل النصب على أنه نعتٌ لمصدر مؤكدٍ محذوف أي آمنوا إيماناً مماثلاً لإيمانهم فما مصدرية أو كافة ، كما في ربما ، فإنها تكف الحرف عن العمل ، وتصحح دخولَها على الجملة ، وتكون للتشبيه بين مضموني الجملتين ، أي حققوا إيمانَكم كما تحقق إيمانُهم ، واللام للجنس ، والمراد بالناس الكاملون في الإنسانية العاملون بقضية العقل ، فإن اسمَ الجنس كما يُستعمل في مسماه يستعمل فيما يكون جامعاً للمعاني الخاصة به المقصودةِ منه ، ولذلك يُسلب عما ليس كذلك ، فيقال هو ليس بإنسان ، وقد جمعهما من قال :
إذ الناسُ ناسٌ والزمانُ زمان ... أو للعهد ، والمرادُ به الرسولُ صلى الله عليه وسلم ومن معه ، أو مَنْ آمن مِنْ أهل جِلْدتهم كابن سلام وأضرابِه ، والمعنى آمنوا إيماناً مقروناً بالإخلاص ، متمحّضاً عن شوائب النفاق ، مماثلاً لإيمانهم { قَالُواْ } مقابِلين للأمر بالمعروف بالإنكار المنكر ، واصفين للمراجيح الرِّزانِ بضد أوصافِهم الحسانِ : { أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء } مشيرين باللام إلى من أشير إليهم في الناس من الكاملين ، أو المعهودين ، أو إلى الجنس بأسره ، وهم مندرجون فيه على زعمهم الفاسد ، والسَّفهُ خِفةٌ وسخافةُ رأيٍ يُورِثهما قصورُ العقل ، ويقابله الحِلْم والأناة ، وإنما نسبوهم إليه مع أنهم في الغاية القاصية من الرشد والرزانةِ والوقار ، لكمال انهماكِ أنفسِهم في السفاهة ، وتماديهم في الغَواية ، وكونِهم ممن زُين له سوءُ عمله فرآه حسناً ، فمن حسِب الضلالَ هدىً يسمِّي الهدى لا محالة ضلالاً ، أو لتحقير شأنهم ، فإن كثيراً من المؤمنين كانوا فقراءَ ، ومنهم مَوالٍ كصهيب وبلال ، أو للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم على تقدير كون المرادِ بالناس عبدَ الله بن سلام وأمثالَه ، وأياً ما كان فالذي يقتضيه جزالةُ التنزيل ويستدعي فخامةُ شأنِه الجليل أن يكون صدورُ هذا القول عنهم بمحضر من المؤمنين الناصحين لهم جواباً عن نصيحتهم ، وحيث كانوا فحواه تسفيهَ أولئك المشاهيرِ الأعلام ، والقدحَ في إيمانهم لزم كونُهم مجاهرين لا منافقين . وذلك مما لا يكاد يساعده السِباق والسِياق ، وعن هذا قالوا ينبغي أن يكون ذلك فيما بينهم لا على وجه المؤمنين .
قال الإمام الواحدي : إنهم كانوا يُظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين ، فأخبر الله تعالى نبيّه عليه السلام والمؤمنين بذلك عنهم ، وأنت خبير بأن إبرازَ ما صدر عن أحد المتحاورَيْن في الخلاء في معرِض ما جرى بينهما في مقام المحاورة مما لا عهدَ به في الكلام فضلاً عما هو في منصِب الإعجاز ، فالحقُ الذي لا محيد عنه أن قولهم هذا وإن صدر عنهم بمحضر من الناصحين لا يقتضي كونَهم مجاهرين ، فإنه ضربٌ من الكفر أنيقٌ ، وفنّ في النفاق عريق ، مصنوعٌ على شاكلة قولِهم :(1/52)
{ واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ } فكما أنه كلامٌ ذو وجهين مثلَهم محتملٌ للشر ، بأن يُحمل على معنى اسمعْ منا غيرَ مُسمعٍ كلاماً ترضاه ونحوِه ، وللخير بأن يُحمل على معنى اسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ مكروهاً ، كانوا يخاطبون به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً به ، مظهرين إرادةَ المعنى الأخير ، وهم مُضمرون في أنفسهم المعنى الأولَ ، مطمئنون به ، ولذلك نُهوا عنه ، كذلك هذا الكلامُ محتملٌ للشر كما ذكر في تفسيره ، وللخير بأن يُحملَ على ادعاء الإيمان كإيمان الناس وإنكارِ ما اتُّهموا به من النفاق ، على معنى أنؤمن كما آمن السفهاءُ والمجانينُ الذين لا اعتداد بإيمانهم لو آمنوا ، ولا نؤمنُ كإيمان الناس حتى تأمرونا بذلك ، قد خاطبوا به الناصحين استهزاءً بهم مُرائين لإرادة المعنى الأخير ، وهم معوّلون على الأول ، فرُدّ عليهم ذلك بقوله عز قائلاً : { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ } أبلغَ ردَ ، وجُهِّلوا أشنعَ تجهيل حيث صُدِّرت الجملةُ بحرفي التأكيد حسبما أشير إليه فيما سلف ، وجعلت السفاهةُ مقصورةً عليهم وبالغةً إلى حيث لا يدرون أنهم سفهاء ، وعن هذا اتضح لك سرُ ما مر في تفسير قوله تعالى : { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } فإن حمله على المعنى الأخير كما هو رأيُ الجمهور منافٍ لحالهم ضرورةَ أن مشافهتَهم للناصحين بادعاء كونِ ما نُهوا عنه من الإفساد إصلاحاً كما مر إظهارٌ منهم للشقاق ، وبروزٌ بأشخاصهم من نَفَق النفاق .
والاعتذارُ بأن المرادَ بما نُهوا عنه مداراتُهم للمشركين كما ذكر في بعض التفاسير ، وبالإصلاح الذي يدْعونه إصلاحَ ما بينهم وبين المؤمنين ، وأن معنى قوله تعالى : { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون } أنهم في تلك المعاملة مفسدون لمصالح المؤمنين ، لإشعارها بإعطاء الدنِيّة ، وإنبائِها عن ضعفهم الملجىءِ إلى توسيط مَنْ يتصدى لإصلاح ذاتِ البين ، فضلاً عن كونهم مصلحين مما لا سبيل إليه قطعاً ، فإن قوله تعالى : { ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ } ناطقٌ بفساده كيف لا وهو يقتضي أن يكون المنافقون في تلك الدعوى صادقين قاصدين للإصلاح ، ويأتيهم الإفسادُ من حيث لا يشعرون ، ولا ريب في أنهم فيهم كاذبون لا يعاشرونهم إلا مضارّةً للدين ، وخيانةً للمؤمنين ، فإذن طريقُ حلِّ الأشكال ليس إلا ما أشير إليه ، فإن قولَهم إنما نحن مصلحون محتملٌ للحَمْلِ على الكذب ، وإنكارِ صدورِ الإفساد المنسوب إليهم عنهم ، على معنى إنما نحن مصلحون لا يصدُر عنا ما تنهوننا عنه من الإفساد وقد خاطبوا به الناصحين استهزاءً بهم وإرادةً لإرادة هذا المعنى وهم معرِّجون على المعنى الإول ، فرُد عليهم بقوله تعالى : { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون } الآية ، والله سبحانه أعلم بما أودعه في تضاعيف كتابهِ المكنونِ من السر المخزون ، نسأله العصمةَ والتوفيق ، والهداية إلى سَواءِ الطريق .
وتفصيلُ هذه الآية الكريمةِ ( بلا يعلمون ) لما أنه أكثرُ طِباقاً لذكر السفه الذي هو فنٌّ من فنون الجهل ، ولأن الوقوفَ على أن المؤمنين ثابتون على الحق وهم على الباطل مَنوطٌ بالتمييز بين الحق والباطل ، وذلك مما لا يتسنى إلا بالنظر والاستدلال ، وأما النفاقُ وما فيه من الفتنةِ والإفسادِ وما يترتب عليه من كون مَنْ يتصفُ به مفسِداً فأمرٌ بديهيٌّ يقف عليه من له شعور ، ولذلك فُصلت الآية الكريمةُ السابقة بلا يشعرون .(1/53)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)
{ وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا } بيانٌ لتبايُن أحوالِهم وتناقضِ أقوالهم في أثناء المعاملة والمخاطبةِ حسَب تباينِ ومَساقِ ما صُدِّرت به قصتُهم لتحرير مذهبهم والترجمةِ عن نفاقهم ، ولذلك لم يُتعرَّضْ ههنا لِمُتَعَلَّق الإيمان فليس فيه شائبةُ التكرير .
روي أن عبدَ الله بن أبيّ وأصحابَه خرجوا ذاتَ يوم فاستقبلهم نفرٌ من الصحابة ، فقال ابن أبيَ : أنظروا كيف أردُ هؤلاءِ السفهاءَ عنكم ، فلما دنَوْا منهم أخذ بيد أبي بكرٍ رضي الله عنه فقال : مرحباً بالصّدّيق سيدِ بني تيم ، وشيخِ الإسلام ، وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ، الباذلِ نفسَه ومالَه لرسول الله ، ثم أخذ بيد عمرَ رضي الله عنه فقال : مرحباً بسيد بني عديّ ، الفاروقِ القويّ في دينه الباذلِ نفسَه ومالَه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أخذ بيد علي كرم الله وجهه فقال : مرحباً بابن عمِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وخَتَنِه ، وسيدِ بني هاشم ما خلا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فنزلت . وقيل : قال له علي رضي الله عنه : يا عبدَ الله اتق الله ، ولا تنافقْ ، فإن المنافقين شرُ خلق الله تعالى ، فقال له : مهلاً يا أبا الحسن أفيَّ تقول هذا ، والله إن إيماننا كإيمانكم ، وتصديقَنا كتصديقكم ثم افترقوا فقال ابن أبيَ لأصحابه : كيف رأيتموني فعلت ، فإذا رأيتموهم فافعلوا مثل ما فعلت ، فأثنَوْا عليه خيراً ، وقالوا : لا نزالُ بخير ما عشتَ فينا . فرجع المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك فنزلت .
واللقاءُ المصادفة ، يقال لقِيته ولاقَيْته أي صادفته واستقبلتهُ ، وقرىء إذا لاقَوْا { وَإِذَا خَلَوْاْ } من خلوتُ إلى فلان ، أي انفردت معه ، وقد يستعمل بالباء ، أو من خلا بمعنى مضى ، ومنه القرونُ الخالية ، وقولُهم : خلاك ذمٌّ أي جاوزك ومضى عنك ، وقد جُوّز كونُه من خلوتُ به إذا سخِرْتُ منه ، على أن تعديته بإلى في قوله تعالى : { إلى شياطينهم } لتضمُّنه معنى الإنهاء ، أي وإذا أَنهَوْا إليهم السخرية الخ .
وأنت خبير بأن تقييدَ قولهم المحكيّ بذلك الإنهاءِ مما لا وجهَ له ، والمرادُ بشياطينهم المماثلون منهم للشيطان في التمرد والعناد ، المظهرون لكفرهم ، وإضافتُهم إليهم للمشاركة في الكفر ، أو كبارُ المنافقين ، والقائلون صغارُهم ، وجعل سيبويهِ نونَ الشيطان تارةً أصلية فوزنُه فَيْعالٌ ، على أنه من شطَنَ إذا بعُدَ ، فإنه بعيدٌ من الخير والرحمة ، ويشهد له قولُهم تَشَيْطن ، وأخرى زائدة فوزنه فعلان ، على أنه من شاط أي هلك أو بطَل ، ومن أسمائه الباطل ، وقيل معناه هاج واحترق { قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ } أي في الدين والاعتقاد لا نفارقكم في حال من الأحوال ، وإنما خاطبوهم بالجملة الاسمية المؤكدة ، لأن مُدّعاهم عندهم تحقيقُ الثبات على ما كانوا عليه من الدين ، والتأكيدُ للإنباء عن صدق رغبتهم ، ووفورِ نشاطِهم ، لا لإنكار الشياطين ، بخلاف معاملتهم مع المؤمنين ، فإنهم إنما يدّعون عندهم إحداثَ الإيمان لجزمهم بعدم رواج ادعاء الكمال فيه أو الثبات عليه { إِنَّمَا نَحْنُ } أي في إظهار الإيمان عند المؤمنين { مُسْتَهْزِءونَ } بهم من غير أن يخطرُ ببالنا الإيمانُ حقيقةً ، وهو استئنافٌ مبني على سؤالٍ ناشىءٍ من ادعاء المعية كأنه قيل لهم عند قولهم إنا معكم فما بالُكم توافقون المؤمنين في الإتيان بكلمة الإيمان ، فقالوا : إنما نحن مستهزئون بهم فلا يقدح ذلك في كوننا معكم ، بل يؤكده وقد ضمِنوا جوابهم أنهم يُهينون المؤمنين ، ويُعدّون ذلك نُصرةً لدينهم .(1/54)
أو تأكيدٌ لما قبله ، فإن المستهزىء بالشيء مُصرٌّ على خلافه ، أو بدلٌ منه ، لأن مَنْ حَقّر الإسلامَ فقد عظّم الكفرَ ، والاستهزاءُ بالشيء السخرية منه ، يقال : هَزَأتُ واستهزأت بمعنى ، وأصله الخِفة من الهُزء ، وهو القتل السريع ، وهزأ يهزأ مات على مكانه ، وتَهْزأُ به ناقتُه أي تُسرع به وتخِف(1/55)
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
{ الله يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } أي يجازيهم على استهزائهم ، سمِّي جزاؤه باسمه كما سُمي جزاءُ السيئة سيئةً إما للمشاكلة في اللفظ ، أو المقارنة في الوجود ، أو يرجِعُ وبالُ الاستهزاء عليهم ، فيكون كالمستهزىء بهم ، أو يُنزل بهم الحقارةَ والهوانَ الذي هو لازمُ الاستهزاءِ أو يعاملهم معاملةَ المستهزىءِ بهم . أما في الدنيا فبإجراء أحكامِ المسلمين عليهم ، واستدراجِهم بالإمهال والزيادة في النعمة على التمادي في الطغيان ، وأما في الآخرة فبما يروى أنه يفتح لهم بابٌ إلى الجنة فيُسرعون نحوه فإذا صاروا إليه سُدَّ عليهم الباب ، وذلك قوله تعالى : { فاليوم الذين ءامَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ } وإنما استؤنف للإيذان بأنهم قد بلغوا في المبالغة في استهزاء المؤمنين إلى غاية ظهرت شناعاتها عند السامعين ، وتعاظَمَ ذلك عليهم حتى اضْطَرَّهم إلى أن يقولوا ما مصيرُ أمرِ هؤلاء وما عاقبةُ حالهم ، وفيه أنه تعالى هو الذي يتولى أمرَهم ولا يُحوجهم إلى المعارضة بالمثل ، ويستهزىء بهم الاستهزاءَ الأبلغَ الذي ليس استهزاؤهم عنده من باب الاستهزاء ، حيث ينزلُ بهم من النَكال ويحِلُّ عليهم من الذل والهوان ما لا يوصف ، وإيثارُ صيغةِ الاستقبال للدلالة على التجدد والاستمرار ، كما يعرب عنه قوله عز قائلاً : { أَوْ لاَ * يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ } وما كانوا خالين في أكثر الأوقات من تهتكِ أستارٍ وتكشفِ أسرارٍ ، ونزولِ ( آيةٍ ) في شأنهم ، واستشعارِ حذَرٍ من ذلك ، كما أنبأ عنه قوله عز وجل : { يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ استهزءوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُون } { وَيَمُدُّهُمْ } أي يزيدهم ويقويهم مِنْ مدَّ الجيش وأمده إذا زاده ، ومنه مددتُ الدواةَ والسِراج إذا أصلحتهما بالحِبْر والزيت وإيثارُه على يزيدهم للرمز إلى أن ذلك منوطٌ بسوء اختيارهم لما أنه إنما يتحقق عند الاستمداد وما يجري مَجراه من الحاجة الداعية إليه ، كما في الأمثلة المذكورة ، وقرىء يُمِدُّهم من الإمداد وهو صريح في أن القراءة المشهورة ليست من المد في العمر ، على أنه يستعمل باللام كالإملاء ، قال تعالى : { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً } وحذفُ الجار وإيصالُ الفعل إلى الضمير خلافُ الأصل لا يصار إليه إلا بدليل { فِي طغيانهم } متعلق بيمُدُّهم ، والطغيانُ مجاوزة الحد في كل أمر ، والمراد إفراطُهم في العتو ، وغلوُّهم في الكفر ، وقرىء بكسر الطاء ، وهي لغة فيه كلِقْيانٍ لغةٌ في لُقيانٍ ، وفي إضافته إليهم إيذانٌ باختصاصه بهم ، وتأييدٌ لما أشير إليه من ترتب المدِّ على سوء اختيارِهم { يَعْمَهُونَ } حال من الضمير المنصوب أو المجرور ، لكون المضاف مصدراً فهو مرفوع حكماً ، والعَمَهُ في البصيرة كالعمى في البصر ، وهو التحيرُ والتردد ، بحيث لا يدري أين يتوجه ، وإسنادُ هذا المد إلى الله تعالى مع إسناده في قوله تعالى :(1/56)
{ وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى } محققٌ لقاعدة أهلِ الحقِ من أن جميعَ الأشياء مستندةٌ من حيث الخلقُ إليه سبحانه ، وإن كانت أفعالُ العباد من حيث الكسبُ مستندةً إليهم .
والمعتزلةُ لمّا تعذر عليهم إجراءُ النظم الكريم على مسلكه نكَبوا إلى شعاب التأويل ، فأجابوا أولاً بأنهم لما أصرّوا على كفرهم خذلهم الله تعالى ومنعهم ألطافَه ، فتزايد الرَّيْنُ في قلوبهم فسُمِّي ذلك مدداً في الطغيان ، فأُسند إيلاؤه إليه تعالى ، ففي المسند مجازٌ لغوي ، وفي الإسناد عقلي ، لأنه إسناد للفعل إلى المسبِّب له ، وفاعله الحقيقي هم الكفرة ، وثانياً بأنه أريد بالمد في الطغيان تركُ القسر والإلجاء إلى الإيمان كما في قوله تعالى : { وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } فالمجاز في المسند فقط ، وثالثاً بأن المراد به معناه الحقيقي وهو فعل الشيطان ، لكنه أُسند إليه سبحانه مجازاً ، لأنه بتمكينه تعالى وإقداره .(1/57)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
{ أولئك } إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما ذكر من الصفات الشنيعة المميِّزة لهم عمن عداهم أكملَ تمييز ، بحيث صاروا كأنهم حُضّارٌ مشاهِدون على ما هم عليه ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشر وسوء الحال ، ومحلُه الرفعُ على الابتداء ، خبرُه قوله تعالى : { الذين اشتروا الضلالة بالهدى } والجملة مَسوقةٌ لتقرير ما قبلها وبيانٌ لكمال جهالتِهم فيما حُكيَ عنهم من الأقوال والأفعال بإظهار غايةِ سماجتها ، وتصويرِها بصورةِ ما لا يكاد يتعاطاه مَنْ له أدنى تمييزٍ فضلاً عن العقلاء . والضلالةُ الجَوْرُ عن القصد ، والهدى التوجهُ إليه ، وقد استعير الأول للعدول عن الصواب في الدين ، والثاني للاستقامة عليه ، والاشتراء استبدال السلعة بالثمن ، أي أخذُها به لا بذلُه لتحصيلها كما قيل ، وإن كان مستلزِماً له ، فإن المعتبرَ في عقد الشراء ومفهومِه هو الجلبُ دون السلب الذي هو المعتبرُ في عقد البيع ، ثم استعير لأخذ شيءٍ بإعطاء ما في يده عيناً كان كلٌّ منهما أو معنى ، لا للإعراض عما في يده محصَّلاً به غيرُه كما قيل ، وإن استلزمه لما مر سرُّه ، ومنه قوله :
أخذت بالجُمّة رأسا أزعرا ... وبالثنايا الواضحاتِ الدردرا
وبالطويل العُمْرِ عُمْرا جيدرا ... كما اشترى المسلمُ إذ تنصَّرا
فاشتراءُ الضلالة بالهدى مستعارٌ لأخذها بدلاً منه أخذاً منوطاً بالرغبة فيها والإعراض عنه ، ولمّا اقتضى ذلك أن يكون ما يجري مجرى الثمن حاصلاً للكفرة قبل العقد وما يجري مجرى المبيعِ غيرَ حاصلٍ لهم إذ ذاك حسبما هو في البيت ، ولا ريب في أنهم بمعزل من الهدى ، مستمرون على الضلالة استدعى الحالُ تحقيقَ ما جرى مَجرى العِوضَيْن ، فنقول وبالله التوفيق :
ليس المرادُ بما تعلق به الاشتراءُ ههنا جنسَ الضلالة الشاملةِ لجميع أصناف الكفرة ، حتى تكون حاصلةً لهم من قبل ، بل هو فردُها الكاملُ الخاصُّ بهؤلاء ، على أن اللام للعهد ، وهو عَمَهُهم المقرونُ بالمد في الطغيان ، المترتبُ على ما حُكي عنهم من القبائح . وذلك إنما يحصُل لهم عند اليأس عن اهتدائهم والختم على قلوبهم ، وكذا ليس المرادُ بما في حيز الثمن نفسَ الهدى بل هو التمكنُ التام منه بتعاضد الأسباب ، وتأخذ المقدماتُ المستتبِعةُ له بطريق الاستعارة كأنه نفس الهدى بجامعِ المشاركة في استتباعِ الجدوى ، ولا مرية في أن هذه المرتبة من التمكن كانت حاصلةً لهم بما شاهدوه من الآيات الباهرة والمعجزاتِ القاهرةِ من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وبما سمعوه من نصائحِ المؤمنين التي من جُملتِها ما حكي من النهي عن الإفساد في الأرض ، والأمرُ بالإيمان الصحيح ، وقد نبذوها وراء ظهورهم ، وأخذوا بدلها الضلالة الهائلةَ التي هي العمهُ في تيه الطغيان ، وحملُ الهدى على الفطرة الأصلية الحاصلة لكل أحد يأباه أَنَّ إضاعتَها غيرُ مختصة بهؤلاء ، ولئن حملت على الإضاعة التامة الواصلة إلى حد الختم على القلوب المختصة بهم فليس في إضاعتها فقط من الشناعة ما في إضاعتها مع ما يؤيدها من المؤيدات العقليةِ والنقلية ، على أن ذلك يُفضي إلى كون ذكر ما فُصّل من أول السورة الكريمة إلى هنا ضائعاً ، وأبعدُ منه حملُ اشتراء الضلالة بالهدى على مجرد اختيارها عليه من غير اعتبار كونه في أيديهم ، بناءً على أنه يستعمل اتساعاً في إيثار أحدِ الشيئين الكائنين في شرَف الوقوع على الآخر ، فإنه مع خلوِّه عن المزايا المذكورة بالمرة مُخِلٌّ برونق الترشيح الآتي ، هذا على تقدير جعل الاشتراءِ المذكور عبارةً عن معاملتهم السابقة المحكية وهو الأنسبُ بتجاوب أطرافِ النظم الكريم .(1/58)
وأما إذا جُعل ترجمةً عن جناية أخرى من جناياتهم فالمراد بالهدى ما كانوا عليه من معرفة صحةِ نبوةِ النبي صلى الله عليه وسلم وحقِّيةِ دينه ، بما كانوا يشاهدونه من نعوته عليه الصلاة والسلام في التوراة وقد كانوا على يقين منه حتى كانوا يستفتحون به على المشركين ويقولون اللهم انصرنا بالنبي المبعوثِ في آخر الزمان الذي نجد نعتَه في التوراة ، ويقولون لهم قد أظل زمانُ نبيَ يخرُجُ بتصديق ما قلنا فنقتلُكم معه قتلَ عاد وإِرَم ، فلما جاءهم ما عَرَفوا كفروا به كما سيأتي ولا مَساغَ لحملِ الهدى على ما كانوا يُظهرونه عند لقاء المؤمنين فإنها ضلالة مضاعفة .
{ فَمَا رَبِحَت تجارتهم } عطفٌ على الصلة داخلٌ في حيزها والفاء للدلالة على ترتب مضمونِه عليها ، والتجارةُ صناعة التجار ، وهو التصدي للبيع والشراءِ لتحصيل الربح ، وهو الفضلُ على رأس المال ، يقال : ربِحَ فلان في تجارته أي استشفّ فيها وأصاب الربح ، وإسناد عدمِه الذي هو عبارةٌ عن الخسران إليها ، وهو لأربابها بناءً على التوسع المبني على ما بينهما من الملابسة ، وفائدتُه المبالغةُ في تخسيرهم لما فيه من الإشعار بكثرة الخَسار وعمومِه المستتبع لسرايته إلى ما يُلابِسُهم ، وإيرادُهما إثرَ الاشتراء المستعار للاستبدال المذكور ترشيحٌ للاستعارة ، وتصويرٌ لما فاتهم من فوائدِ الهدى بصورة خسارةِ التجارة الذي يتحاشى عنه كلُّ أحد للإشباع في التخسير والتحسين ، ولا ينافي ذلك أن التجارة في نفسها استعارةٌ لانهماكهم فيما هم عليه من إيثار الضلالة على الهدى وتمرّنُهم عليه معرفةٌ عن كون ذلك صناعةً لهم راسخة ، إذ ليس من ضروريات الترشيح أن يكون باقياً على الحقيقة ، تابعاً للاستعارة لا يقصد به إلا تقويتُها ، كما في قولك : رأيت أسداً وافيَ البراثن ، فإنك لا تريد به إلا زيادة تصويرٍ للشجاع ، وأنه أسد كاملٌ من غير أن تريد بلفظ البراثن معنىً آخرَ ، بل قد يكون مستعاراً من ملائم المستعارِ منه لملائم المستعار له ومع ذلك يكون ترشيحاً لأصل الاستعارة كما في قوله :
فلما رأيتُ النَّسرَ عَزَّ ابنَ دأْية ... وعششَّ في وَكْرَيه جاش له صدري(1/59)
فإن لفظ الوَكرين مع كونه مستعاراً من معناه الحقيقي الذي هو موضعٌ يتخذه الطائر للتفريخ للرأس واللحية أو للفَوْدين أعني جانبي الرأس ترشيحٌ باعتبار معناه الأصلي ، لاستعارة لفظِ النسر للشيب ، ولفظ ابن دأية للشعر الأسود ، وكذا لفظُ التعشيش مع كونه مستعاراً للحلول والنزول المستمِرَّين ترشيحٌ لتينك الاستعارتين بالاعتبار المذكور ، وقرىء تجاراتُهم ، وتعدُّدها لتعدد المضاف إليهم { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } أي إلى طرق التجارة ، فإن المقصود منها سلامةُ رأس المال مع حصول الربح ، ولئن فات الربح في صفقة فربما يُتدارَك في صفقة أخرى لبقاء الأصل ، وأما إتلافُ الكل بالمرة فليس من باب التجارة قطعاً فهؤلاء الذين كان رأسُ مالهم الهدى قد استبدلوا بها الضلالة فأضاعوا كلتا الطِّلْبتين ، فبقُوا خائبين خاسرين نائين عن طريق التجارة بألف منزلٍ ، فالجملة راجعة إلى الترشيح معطوفةٌ على ما قبلها مشاركةٌ له في الترتب على الاشتراء المذكور والأَوْلى عطفُها على اشتروا الخ .(1/60)
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
{ مّثْلُهُمْ } زيادة كشف لحالهم وتصويرٌ غِبَّ تصويرِها بصورة ما يؤدي إلى الخسارة بحسب المآل بصورة ما يفضي إلى الخَسار من حيث النفسُ تهويلاً لها وإبانةً لفظاعتها ، فإن التمثيلَ ألطفُ ذريعةٍ إلى تسخير الوهم للعقل ، واستنزالِه من مقام الاستعصاء عليه ، وأقوى وسيلةٍ إلى تفهيم الجاهل الغبي ، وقمعِ سَوْرةِ الجامح الآبي ، كيف لا وهو رفعُ الحجاب عن وجوه المعقولات الخفية ، وإبرازٌ لها في معرض المحسوسات الجلية ، وإبداءٌ للمنكر في صورة المعروف ، وإظهارٌ للوحشي في هيئة المألوف ، والمَثَل في الأصل بمعنى المِثْل والنظير ، يقال مِثْل ومَثَل ومثيل ، كشِبْهٍ وشَبَه وشبيه ، ثم أطلق على القول السائر الذي يُمثّل مضرِبُه بمورده وحيث لم يكن ذلك إلا قولاً بديعاً فيه غرابةٌ صيَّرتْه جديراً بالتسيير في البلاد وخليقاً بالقبول فيما بين كل حاضرٍ وباد ، استعير لكل حال أو صفةٍ أو قصة لها شأن عجيب ، وخطرٌ غريب من غير أن يلاحَظ بينها وبين شيءٍ آخرَ تشبيهٌ ، ومنه قوله عز وجل : { وَلِلَّهِ المثل الاعلى } أي الوصفُ الذي له شأن عظيم وخطر جليل ، وقوله تعالى : { مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون } أي قصتها العجيبةُ الشأن { كَمَثَلِ الذى } أي الذين كما في قوله تعالى : { وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ } خلا أنه وُحِّد الضمير في قوله تعالى : { استوقد نَاراً } نظراً إلى الصورة ، وإنما جاز ذلك مع عدم جوازِ وضعِ القائمِ مَقام القائمين ، لأن المقصود بالوصف هي الجملة الواقعةُ صلةً له دون نفسه ، بل إنما هو صلةٌ لوصف المعارف بها ولأنه حقيق بالتخفيف لاستطالته بصلته ، ولذلك بولغ فيه فحُذف ياؤه ثم كسرتُه ثم اقتُصر على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين ولأنه ليس باسم تام بل هو كجزئه ، فحقُه ألا يُجمع ، ويستوي فيه الواحد والمتعدد كما هو شأن أخواته ، وليس الذين جمعَه المصحح بل النونُ فيه مزيدة للدلالة على زيادة المعنى ، ولذلك جاء بالياء أبداً على اللغة الفصيحة ، أو قصد به جنسُ المستوقد أو الفوجُ أو الفريقُ المستوقد ، والنارُ جوهرٌ لطيف مُضيء حارٌّ محرق ، واشتقاقها من نار ينورُ إذا نفَر لأن فيها حركة واضطراباً واستيقادُها طلبُ وُقودها ، أي سطوعها وارتفاع لهبها وتنكيرها للتفخيم { فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ } الإضاءة فرطُ الإنارة كما يعرب عنه قوله تعالى : { هُوَ الذى جَعَلَ الشمس ضِيَاء والقمر نُوراً } وتجيء متعدية ولازمة ، والفاء للدلالة على ترتبها على الاستيقاد أي فلما أضاءت النار ما حول المستوقد ، أو فلما أضاء ما حوله ، والتأنيث لكونه عبارةً عن الأماكن والأشياء ، أو أضاءت النارُ نفسها فيما حوله على أن ذلك ظرف لإشراق النارِ المنزّلِ منزلتَها لا لنفسها ، أو ( ما ) مزيدةٌ و ( حوله ) ظرف ، وتأليفُ الحول للدوران ، وقيل : للعام حَوْلٌ لأنه يدور { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } النور ضوءُ كل نيِّر ، واشتقاقه من النار ، والضمير للذي ، والجمع باعتبار المعنى أي أطفأ الله نارهم التي هي مدار نورِهم ، وإنما علِق الإذهابُ النورَ دون نفس النار لأنه المقصودُ بالاستيقاد ، لا الاستدفاءِ ونحوه كما ينبىء عنه قوله تعالى : { فَلَمَّا أَضَاءتْ } حيث لم يقل فلما شب ضِرامُها أو نحو ذلك ، وهو جوابُ ( لمّا ) أو استئنافٌ أجيب به عن سؤال سائل يقول ما بالُهم أشبَهَتْ حالهم حالَ مستوقدٍ انطفأت ناره ، أو بدلٌ من جملة التمثيل على وجه البيان ، والضمير على الوجهين للمنافقين والجواب محذوف كما في قوله تعالى :(1/61)
{ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } للإيجاز والأمن من الإلباس ، كأنه قيل : فلما أضاءت ما حوله خمَدَت فبقُوا في الظلمات خابطين متحيِّرين خائبين بعد الكدح في إحيائها ، وإسنادُ الإذهاب إلى الله تعالى إما لأن الكل بخلقه تعالى ، وإما لأن الانطفاءَ حصل بسبب خفيّ ، أو أمر سماوي كريح أو مطر وإما للمبالغة كما يؤذن به تعديةُ الفعل بالباء دون الهمزة لما فيه من معنى الاستصحاب والإمساك ، يقال : ذهب السلطان بماله إذا أخذه ، وما أخذه الله عز وجل فأمسكه فلا مرسلَ له من بعده ، ولذلك عُدل عن الضوء الذي هو مقتضى الظاهر إلى النور لأن ذهابَ الضوء قد يجامع بقاءَ النور في الجملة لعدم استلزام عدم القوي لعدم الضعيف ، والمراد إزالتُه بالكلية كما يفصح عنه قوله تعالى : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات لاَّ يُبْصِرُونَ } فإن الظلمةَ التي هي عدمُ النور وانطماسُه بالمرة ، لا سيما إذا كانت متضاعفة متراكمة متراكباً بعضُها على بعض كما يفيده الجمع والتنكير التفخيمي وما بعدها من قوله تعالى : { لاَّ يُبْصِرُونَ } لا يتحقق إلا بعد ألا يبقى من النور عينٌ ولا أثر ، وإما لأن المراد بالنور ما لا يرضى به الله تعالى من النار المجازية التي هي نارُ الفتنة والفساد كما في قوله تعالى : { كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله } ووصفُها بإضاءة ما حول المستوقد من باب الترشيح ، أو النار الحقيقية التي يوقدها الغواة ليتوصلوا بها إلى بعض المعاصي ، ويهتدوا بها في طرق العبث والفساد ، فأطفأها الله تعالى ، وخيب آمالهم ، و ( ترك ) في الأصل بمعنى طرَح وخلَّى ، وله مفعول واحد ، فضُمِّن معنى التصيير فجرى مَجرى أفعال القلوب قال :
فتركتُه جَزَرَ السِّباع ينُشْنَه ... يقضَمْنَ حُسنَ بنانِه والمِعصَمِ
والظلمة مأخوذة من قولهم : ما ظلمك أن تفعل كذا ، أي ما منعك ، لأنها تسد البصرَ وتمنعه من الرؤية ، وقرىء ( في ظُلْمات ) بسكون اللام ، و ( في ظلمة ) بالتوحيد ، ومفعول لا يبصرون من قبيل المطروح ، كأن الفعل غير متعد ، والمعنى أن حالهم العجيبة التي هي اشتراؤهم الضلالةَ التي هي عبارة عن ظلمتي الكفرِ والنفاقِ المستتبعتين لظُلمة سخط الله تعالى ، وظلمةِ يوم القيامة : { يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم } ، وظلمةِ العقاب السرمدي بالهدى ، الذي هو النورُ الفطري المؤيد بما شاهدوه من دلائل الحق أو بالهدى الذي كانوا حصّلوه من التوراة حسبما ذكر كحال من استوقد ناراً عظيمة حتى كاد ينتفع بها فأطفأها الله تعالى ، وتركه في ظلمات هائلة لا يتسنى فيها الإبصار .(1/62)
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ } أخبارٌ لمبتدأ محذوفٍ هو ضمير المنافقين ، أو خبر واحد بالتأويل المشهور ، كما في قولهم : هذا حلوٌ حامض والصممُ آفةٌ مانعة من السماع ، وأصلُه الصلابة واكتنازُ الأجزاء ، ومنه الحجرُ الأصم ، والقناةُ الصماء ، وصَمام القارورة : سِدادُها ، سمي به فقدانُ حاسة السمع لما أن سببه اكتنازُ باطن الصّماخ ، وانسدادُ منافذه بحيث لا يكاد يدخله هواءٌ يحصل الصوت بتموجه ، والبُكم الخُرس ، والعمى عدم البصر عما من شأنه أن يُبصَر ، وُصفوا بذلك مع سلامة مشاعرهم المعدودة لما أنهم حيث سدوا مسامعهم عن الإصاخة لما يتلى عليهم من الآيات والذكر الحكيم ، وأبَوْا أن يتلقَّوْها بالقبول ، ويُنطِقوا بها ألسنتهم ، ولم يجتلوا ما شاهدوا من المعجزات الظاهرة على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم ينظروا إلى آيات التوحيد المنصوبة في الآفاق والأنفس بعين التدبر ، وأصروا على ذلك بحيث لم يبقَ لهم احتمالُ الارعواء عنه ، صاروا كفاقدي تلك المشاعر بالكلية ، وهذا عند مُفْلقي سَحَرة البيان من باب التمثيل البليغ ، المؤسس على تناسي التشبيه كما في قول من قال :
ويصعَدُ حتى يظنَّ الجهول ... بأن له حاجةً في السماءْ
لما أن المقدر في النظم في حكم الملفوظ ، لا من قبيل الاستعارة التي يطوى فيها ذكرُ المستعار له بالكلية ، حتى لو لم يكن هناك قرينة تحمل على المعنى الحقيقي ، كما في قول زهير :
لدى أسدٍ شاكي السلاحِ مُقذَّف ... له لِبَدٌ أظفارُه لم تُقَلَّمِ
{ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } الفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها ، أي هم بسبب اتصافِهم بالصفات المذكورة لا يعودون إلى الهدى الذي تركوه وضيّعوه أو عن الضلالة التي أخذوها ، والآيةُ نتيجةٌ للتمثيل ، مفيدةٌ لزيادة تهويلٍ وتفظيع ، فإن قصارى أمرِ التمثيل بقاؤهم في ظلماتٍ هائلة من غير تعرضٍ لمَشْعَريْ السمع والنطق ، ولاختلال مَشعَرِ الإبصار ، وقيل الضمير المقدر وما بعده للموصول باعتبار المعنى ، كالضمائر المتقدمة .
فالآية الكريمة تتمة للتمثيل ، وتكميل له بأن ما أصابهم ليس مجردَ انطفاء نارهم وبقائهم في ظلمات كثيفة هائلة ، مع بقاء حاسة البصر بحالها ، بل اختلت مشاعرُهم جميعاً ، واتصفوا بتلك الصفات على طريقة التشبيه أو الحقيقة فبقوا جامدين في مكاناتهم ، لا يرجعون ولا يدْرون أيتقدّمون أم يتأخرون ، وكيف يرجِعون إلى ما ابتدأوا منه ، والعدولُ إلى الجملة الاسمية للدَلالة على استمرار تلك الحالة فيهم ، وقرىء صماً بكماً عمياً ، إما على الذي كما في قوله تعالى : { حَمَّالَةَ الحطب } والمخصوصُ بالذم هم المنافقون ، أو المستوقدون وإما على الحالية من الضمير المنصوب في تَرَكهم ، أو المرفوع في لا يبصرون وإما على المفعولية لتركهم ، فالضميران للمستوقدين .(1/63)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
{ أَوْ كَصَيّبٍ } تمثيلٌ لحالهم إثرَ تمثيل ، ليعُم البيانُ منها كل دقيق وجليل ، ويوفيَ حقها من التفظيع والتهويل ، فإن تفنُّنهم في فنون الكفر والضلال وتنقّلَهم فيها من حال إلى حال حقيقٌ بأن يُضربَ في شأنه الأمثال ، ويرخى في حلبته أعِنّةُ المقال ، ويُمدَّ لشرحه أطنابُ الإطناب ، ويُعقَدَ لأجله فصولٌ وأبواب ، لما أن كل كلام له حظ من البلاغة ، وقسط من الجزالة والبراعة ، لا بد أن يُوفَّى فيه حقُّ كلَ من مقامي الإطناب والإيجاز ، فما ظنُّك بما في ذُروة الإعجاز من التنزيل الجليل ، ولقد نُعيَ عليهم في هذا التمثيل تفاصيلُ جناياتهم ، وهو عطف على الأول على حذف المضاف لما سيأتي من الضمائر المستدعية لذلك ، أي كمثل ذوي صيِّب ، وكلمة أو للإيذان بتساوي القصتين في الاستقلال بوجه الشبه وبصحة التمثيل بكل واحدة منهما وبهما معاً ، والصيب فيعل من الصَوْب وهو النزول الذي له وقع وتأثير ، يطلق على المطر وعلى السحاب ، قال الشماخ :
عفا آيَةُ نسجُ الجنوب مع الصَّبا ... وأسحمُ دانٍ صادقُ الوعد صيِّبُ
ولعل الأول هو المراد ههنا لاستلزامه الثاني ، وتنكيره لما أنه أريد به نوع منه شديدٌ هائل كالنار في التمثيل الأول ، وأُمِدَّ به ما فيه من المبالغات من جهة مادته الأولى التي هي الصادُ المستعليةُ والياء المشددة والباء الشديدة ، ومادتِه الثانية أعني الصَّوْب المنبىء عن شدة الانسكاب ، ومن جهة بنائه الدال على الثبات ، وقرىء أو كصائب { مّنَ السماء } متعلق بصيب ، أو بمحذوفٍ وقع صفة له ، والمرادُ بالسماء هذه المِظلة ، وهي في الأصل كلُّ ما علاك من سقف ونحوه ، وعن الحسن أنها موجٌ مكفوف ، أي ممنوع بقدرة الله عز وجل من السيلان ، وتعريفها للإيذان بأن انبعاث الصيب ليس من أفق واحد ، فإن كل أفق من آفاقها أي كلَّ ما يحيط به كلُّ أفقٍ منها سماءٌ على حِدَة ، قال :
ومن بعدِ أرضٍ بيننا وسماءِ ... كما أن كل طبقة من طباقها سماء ، قال تعالى : { وأوحى فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا } والمعنى أنه صيّب عام نازل من غمام مطبِقٍ آخذٍ بالآفاق ، وقيل المراد بالسماء السحاب ، واللام لتعريف الماهية .
{ فِيهِ ظلمات } أي أنواع منها ، وهي ظُلمةُ تكاثُفِه وانتساجِه بتتابع القطر ، وظلمةُ الهلال ما يلزمه من الغمام الأسحمِ المطبق الآخذ بالآفاق مع ظلمة الليل ، وجعلُه محلاً لها مع أن بعضها لغيره كظلمتي الغمام والليل ، لما أنهما جُعلتا من توابع ظلمتِه مبالغةً في شدته وتهويلاً لأمره ، وإيذاناً بأنه من الشدة والهول بحيث تغمر ظلمتُه ظلماتِ الليل والغمام ، وهو السر في عدم جعل الظلمات هي الأصلَ المستتبعَ للبواقي ، مع ظهور ظرفيتها للكل ، إذ لو قيل أو كظلمات فيها صيب الخ لما أفاد أن للصيب ظلمةً خاصة به فضلاً عن كونها غالبة على غيرها .(1/64)
{ وَرَعْدٌ } وهو صوت يسمع من السحاب ، والمشهور أنه يحدث من اصطكاك أجرام السحاب بعضِها ببعض ، أو من انقلاع بعضِها عن بعض عند اضطرابها ، بسوق الرياحِ إياه سوقاً عنيفاً { وَبَرْقٌ } وهو ما يلمع من السحاب من بَرَق الشيءُ بريقاً أي لمع ، وكلاهما في الأصل مصدر ، ولذلك لم يجمعا ، وكونُهما في الصيب باعتبار كونِهما في أعلاه ومصبِّه ووصول أثرِهما إليه وكونِهما في الظلمات الكائنةِ فيه ، والتنوين في الكل للتفخيم والتهويل كأنه قيل : فيه ظلماتٌ شديدة داجية ورعدٌ قاصفٌ وبرق خاطف ، وارتفاع الجميع بالظرف على الفاعلية لتحقيق شرط العملِ بالاتفاق ، وقيل بالابتداء ، والجملةُ إما صفةٌ لصيب أو حالٌ منه لتخصصه بالصفة ، أو بالعمل فيما بعده من الجار أو من المستكنّ في الظرف الأول على تقدير كونِه صفةً لصيب ، والضمائر في قوله عز وجل : { يَجْعَلُونَ أصابعهم فِى ءاذَانِهِم } للمضاف الذي أقيم مُقامه المضافُ إليه فإن معناه باقٍ وإن حذف لفظه تعويلاً على الدليل كما في قوله : { وَكَم مّن قَرْيَةٍ أهلكناها فَجَاءهَا بَأْسُنَا بياتا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } فإن الضمير للأهل المدلول عليه بما قام مقامه من القرية قال حسان رضي الله عنه :
يَسْقون من وَرَدَ البريصَ عليهم ... بردى يُصفَّقُ بالرحيق السلسلِ
فإن تذكير الضمير المستكن في يُصفَّق لرجوعه إلى الماء المضاف إلى بردى وإلا لأنّث حتماً ، وإيثارُ الجعل المنبىء عن دوام الملابسة ، واستمرارِ الاستقرار على الإدخال المفيدِ لمجرد الانتقال من الخارج إلى الداخل للمبالغة في بيان سدِّ المسامع باعتبار الزمان كما أن إيرادَ الأصابع بدلَ الأنامل للإشباع في بيان سدِّها باعتبار الذات ، كأنهم سدُّوها بجملتها لا بأناملها فحسب كما هو المعتاد ، ويجوز أن يكون هذا إيماءً إلى كمال حَيْرتهم وفرْطِ دهشتهم وبلوغهم إلى حيث لا يهتدون إلى استعمال الجوارحِ على النهج المعتاد ، وكذا الحال في عدم تعيين الأصبع المعتادِ أعني السبابة ، وقيل : ذلك لرعاية الأدب ، والجملةُ استئناف لا محل لها من الإعراب ، مبني على سؤال نشأ من الكلام ، كأنه قيل عند بيان أحوالهم الهائلة : فماذا يصنعون في تضاعيف تلك الشدة ، فقيل : يجعلون الخ .
وقوله تعالى : { مّنَ الصواعق } متعلق بيجعلون أي من أجل الصواعقِ المقارنةِ للرعد ، من قولهم سقاه من الغَيْمة ، والصاعقةُ قُصفةُ رعد تنقضّ معها شعلة نار لا تمر بشيء إلا أتت عليه . من الصَّعَق وهو شدةُ الصوت ، وبناؤها إما أن يكون صفةً لقصفة الرعد أو للرعد ، والتاء للمبالغة . كما في الرواية ، أو مصدر كالعافية . وقد تطلق على كل هائلٍ مسموع أو مشاهد ، يقال : صَعَقَتْه الصاعقة إذا أهلكته بالإحراق ، أو بشدة الصوت ، وسدُّ الآذان إنما يفيد على التقدير الثاني دون الأول ، وقرىء من الصواقع وليس ذلك بقلب من الصواعق لاستواء كلا البناءين في التصرف ، يقال : صقَع الديكُ ، وخطيب مِصْقَع أي مُجهِرٌ بخطبته { حَذَرَ الموت } منصوب بيجعلون على العلة وإن كان معرفة بالإضافة كقوله :(1/65)
وأغفِرُ عوراءَ الكريم ادِّخارَه ... وأصفَحُ عن شتم اللئيم تكرما
ولا ضير في تعدد المفعول له ، فإن الفعل يعلل بعلل شتى ، وقيل هو نصب على المصدرية أي يحذرون حذراً مثل حذر الموت ، والحَذر والحذار هو شدة الخوف ، وقرىء حذارَ الموت ، والموتُ زوال الحياة ، وقيل عرَضُ يُضادُّها ، لقوله تعالى : { خَلَقَ الموت والحياة } ورُدّ بأن الخلق بمعنى التقدير والإعدام مقدرة { والله مُحِيطٌ بالكافرين } أي لا يفوتونه كما لا يفوت المحاطُ به المحيطَ ، شبه شمولَ قدرته تعالى لهم ، وانطواءَ ملكوتِه عليهم ، بإحاطة المحيط بما أحاط به في استحالة الفوْت ، أو شَبَّه الهيئةَ المنتزعة من شؤونه تعالى معهم بالهيئة المنتزعة من أحوال المحيط مع المحاط ، فالاستعارة المبنيةُ على التشبيه الأول استعارة تبعيةٌ في الصفة متفرِّعة على ما في مصدرها من الاستعارة والمبنية على الثاني تمثيلية قد اقتُصِر من طرف المشبه به على ما هو العُمدة في انتزاعِ الهيئة المشبَّه بها أعني الإحاطة والباقي منويٌّ بألفاظ متخيَّلةٍ بها يحصُل التركيبُ المعتبر في التمثيل كما مر تحريره في قوله عز وجل : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ } والجملة اعتراضية منبهة على أن ما صنعوا من سد الآذان بالأصابع لا يغني عنهم شيئاً فإن القدَرَ لا يدافعُه الحذر ، والحِيَل لا ترد بأس الله عز وجل .
وفائدة وضع الكافرين موضع الضمير الراجع إلى أصحاب الصيب الإيذانُ بأن ما دَهَمهم من الأمور الهائلة المحكية بسبب كفرهم على منهاج قوله تعالى : { كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } فإن الإهلاك الناشىءَ من السُخط أشدُّ ، وقيل : هذا الاعتراض من جملة أحوالِ المشبّهِ على أن المراد بالكافرين المنافقون ، قد دل به على أنه لا مدفعَ لهم من عذاب الله تعالى في الدنيا والآخرة ، وإنما وُسِّط بين أحوال المشبه مع أن القياس تقديمُه أو تأخيره لإظهار كمال العنايةِ وفرطِ الاهتمام بشأن المشبه .(1/66)
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
{ يَكَادُ البرق } استئناف آخرُ وقع جواباً عن سؤال مقدر ، كأنه قيل : فكيف حالُهم مع ذلك البرق؟ فقيل : يكاد ذلك { يَخْطَفُ أبصارهم } أي يختلِسُها ويستلبها بسرعة ، وكاد من أفعال المقاربة وُضعت لمقاربة الخبر من الوجود لتآخذَ أسبابَه وتعاضِدَ مباديَه لكنه لم يوجد بعدُ لفقد شرطٍ أو لعُروض مانع ، ولا يكون خبرُها إلا مضارعاً عارياً عن كلمة أن ، وشذ مجيئه اسماً صريحاً كما في قوله :
فأُبْتُ إلى فهمٍ وما كِدْتُ آيبا ... وكذا مجيئه مع أنْ حملاً لها على عسى في مثل قول رؤبة :
قد كاد من طول البِلى أن يُمْحَصَا ... كما تحمل هي عليها بالحذف لما بينهما من المقارنة في أصل المقاربة وليس فيها شائبة الانشائية كما في عسى ، وقرىء يخطِف بكسر الطاء ويختطف ويَخَطف بفتح الياء والخاء بنقل فتحة التاء إلى الخاء وإدغامها في الطاء ، ويِخِطف بكسرهما على إتباع الياء الخاء ، ويُخَطِّف من صيغة التفعيل ويتخطف من قوله تعالى : { وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } { كُلَّمَا أَضَاء لَهُم } كل ظرف وما مصدرية والزمان محذوف ، أي كلَّ زمان إضاءةً ، وقيل : ما نكرة موصوفة معناها الوقت والعائد محذوف ، أي كل وقت أضاء لهم فيه والعامل في كلما جوابها ، وهو استئناف ثالث ، كأنه قيل : ما يفعلون في أثناء ذلك الهول ، أيفعلون بأبصارهم ما فعلوا بآذانهم أم لا ، فقيل : كلما نوّر البرقُ لهم ممشىً ومسلكاً على أن أضاء متعدٍ والمفعول محذوف ، أو كلما لمع لهم على أنه لازم ، ويؤيده قراءة { كُلَّمَا أَضَاء } { مَّشَوْاْ فِيهِ } أي في ذلك المسلك أو في مطرح نوره خطوات يسيرة مع خوف أن يخطَف أبصارهم ، وإيثارُ المشي على ما فوقه من السعي والعدو للإشعار بعدم استطاعتهم لهما { وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ } أي خفي البرقُ واستتر ، والمظلم وإن كان غيرَه ، لكن لمّا كان الإظلامُ دائراً على استتاره أُسند إليه مجازاً تحقيقاً لما أريد من المبالغة في موجبات تخبُّطِهم ، وقد جوز أن يكون متعدياً منقولاً من ظلم الليل . ومنه ما جاء في قول أبي تمام :
هما أظلما حاليَّ ثُمّتَ أجليا ... ظلامَيْهما عن وجهِ أمردَ أشيبِ
ويعضُده قراءة أُظلِم على البناء للمفعول { قَامُواْ } أي وقفوا في أماكنهم على ما كانوا عليه من الهيئة متحيرين مترصدين لخفقة أخرى عسى يتسنى لهم الوصول إلى المقصد أو الالتجاء إلى ملجأ يعصِمُهم ، وإيرادُ كلما مع الإضاءة وإذا مع الإظلام للإيذان بأنهم حِراصٌ على المشي ، مترقبون لما يصححه ، فكلما وجدوا فرصة انتهزوها ، ولا كذلك الوقوف ، وفيه من الدلالة على كمال التحير وتطاير اللب ما لا يوصف { وَلَوْ شَاء الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبصارهم } كلمة لو لتعليق حصولِ أمرٍ ماض هو الجزاءُ بحصول أمرٍ مفروض فيه هو الشرط لما بينهما من الدوران حقيقة أو ادعاء ، ومن قضية مفروضية الشرطِ دلالتُها على انتفائه قطعاً ، والمنازِعُ فيه مكابر ، وأما دلالتها على انتفاءِ الجزاء فقد قيل وقيل .(1/67)
والحق الذي لا محيد عنه أنه إن كان ما بينهما من الدوران كلياً أو جزئياً قد بُني الحكم على اعتباره فهي دالةٌ عليه بواسطة مدلولها الوضعيّ لا محالة ، ضرورة استلزام انتفاء العلة لانتفاء المعلول ، أما في مادة الدوران الكلي كما في قوله عز وجل : { وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } وقولك : لو جئتني لأكرمتُك فظاهرٌ لأن وجودَ المشيئة علةٌ لوجود الهداية حقيقةً ، ووجودَ المجيء علةٌ لوجود الإكرام ادعاءً ، وقد انتفيا بحكم المفروضية فاقتضى معلولاهما حتماً ، ثم إنه قد يساق الكلامُ لتعليل انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط كما في المثالين المذكورين وهو الاستعمال الشائعُ لكلمة لو ، ولذلك قيل : هي لامتناع الثاني لامتناع الأول ، وقد تساق للاستدلال بانتفاء الثاني لكونه ظاهراً أو مسلّماً على انتفاء الأولِ لكونه خفياً أو متنازعاً فيه ، كما في قوله سبحانه : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } وفي قوله تعالى : { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } فإن فسادهما لازمٌ لتعدد الآلهةِ حقيقةً وعدمُ سبقِ المؤمنين إلى الإيمان لازمٌ لخيريته في زعم الكفرة ولا ريبَ في انتفاء اللازمين ، فتعين انتفاءُ الملزومين حقيقة في الأول وادعاءً باطلاً في الثاني ضرورةَ استلزامِ انتفاءِ اللازم لانتفاء الملزوم ، لكن لا بطريق السببية الخارجية ، كما في المثالين الأولين ، بل بطريق الدلالةِ العقلية الراجعةِ إلى سببية العلم بانتفاء الثاني للعلم بانتفاء الأول ، ومن لم يَتَنَبَّه له زعَم أنه لانتفاء الأولِ لانتفاء الثاني .
وأما في مادة الدوران الجزئي كما في قولك : لو طلعت الشمسُ لوُجد الضوء ، فلأن الجزاءَ المنوطَ بالشرط الذي هو طلوعُها ليس وجودَ أي ضوء كان كضوء القمر المجامعِ لعدم الطلوع مثلاً ، بل إنما هو وجودُ الضوءِ الخاصِّ الناشىء عن الطلوع ، ولا ريب في انتفائه بانتفاءِ الطلوع ، هذا إذا بُني الحكمُ على اعتبار الدوران ، وأما إذا بني على عدمه فإما أن يعتبرَ هناك تحققُ مدارٍ آخرَ له أو لا ، فإن اعتبر فالدلالةُ تابعةٌ لحال ذلك المدار ، فإن كان بينه وبين انتفاءِ الأول منافاةٌ تُعيِّن الدلالة كما إذا قلت : لو لم تطلُع الشمسُ لوجد الضوء ، فإن وجود الضوء وإن عُلِّق صورةً بعدم الطلوع لكنه في الحقيقة معلَّق بسبب آخرَ له ، ضرورةَ أن عدم الطلوعِ من حيث هو ليس مداراً لوجود الضوء في الحقيقة ، وإنما وضع موضعَ المدار لكونه كاشفاً عن تحقق مدارٍ آخر له ، فكأنه قيل : لو لم تطلعِ الشمسُ لوجد الضوء بسبب آخرَ كالقمر مثلاً . ولا ريب في أن هذا الجزاءَ منتفٍ عند انتفاء الشرط لاستحالة وجودِ الضوء القمَري عند طلوع الشمس ، وإن لم يكن بينهما منافاةٌ تعيِّن عدمَ الدلالة كما في قوله صلى الله عليه وسلم في بنت أبي سلمة :(1/68)
" لو لم تكن ربيبتي في حِجْري ما حلَّت لي لأنها ابنة أخي من الرضاعة " فإن المدار المعتبرَ في ضمن الشرط أعني كونها ابنةِ أخيه عليه السلام من الرضاعة غيرُ منافٍ لانتفائه الذي هو كونُها ربيبتَه عليه السلام ، بل مجامعٌ له ، ومن ضرورته مجامعةُ أثرَيهما أعني الحرمة الناشئةَ من كونها ربيبته عليه السلام ، والحرمةَ الناشئة من كونها ابنةَ أخيه من الرضاعة . وإن لم يعتبر هناك تحققُ مدارٍ آخرَ بل بني الحكمُ على اعتبار عدمِه فلا دلالة لها على ذلك أصلاً .
كيف لا ومساق الكلام حينئذ لبيانِ ثبوتِ الجزاء على كل حال بتعليقه بما ينافيه ليُعلم ثبوتُه عند وقوعِ ما لا ينافيه بالطريق الأولى ، كما في قوله عز وجل : { قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ } وقوله عليه السلام : " لو كان الإيمانُ في الثريا لناله رجالٌ من فارس " وقولِ علي رضي الله عنه : «لو كُشفَ الغطاءُ ما ازددتُ يقيناً» فإن الأجزيةَ المذكورة قد نيطت بما ينافيها ويستدعي نقائضَها ، إيذاناً بأنها في أنفسها بحيث يجب ثبوتُها مع فرض انتفاءِ أسبابها أو تحققِ انتفاء أسبابها ، فكيف إذا لم يكن كذلك على طريقة لو الوصلية ، في مثل قوله تعالى : { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } ولها تفاصيلُ وتفاريعُ حررناها في تفسير قوله تعالى : { أَوَلَوْ كُنَّا كارهين } وقول عمرَ رضي الله عنه : «نعم العبدُ صهيبٌ لو لم يخَفِ الله لم يعصِه» إنْ حُمل على تعليق عدمِ العصيان في ضمن عدمِ الخوف بمدارٍ آخرَ نحوُ الحياء والإجلالِ وغيرهما مما يجامِعُ الخوفَ كان من قبيل حديث ابنةِ أبي سلمة ، وإن حُمل بيانُ استحالة عصيانه مبالغةً كان من هذا القبيل ، والآية الكريمة ، واردة على الاستعمال الشائعِ مفيدةٌ لكمال فظاعة حالِهم وغايةِ هول ما دهَمهم من المشاقّ ، وأنها قد بلغت من الشدة إلى حيث لو تعلقت مشيئةُ الله تعالى بإزالة مشاعرِهم لزالت ، لتحقق ما يقتضيه اقتضاءً تاماً ، وقيل : كلمة ( لو ) فيها لربط جزائها بشرطِها مجردةً عن الدلالة على انتفاء أحدِهما لانتفاء الآخر بمنزلة كلمة أن ، ومفعولُ المشيئة محذوفٌ جرياً على القاعدة المستمرة فإنها إذا وقعت شرطاً وكان مفعولُها مضموناً للجزاء فلا يكاد يُذكر إلا أن يكون شيئاً مستغرباً كما في قوله :
فلو شئتُ أن أبكِي دماً لبَكَيْتُه ... عليه ولكن ساحةُ الصبر أوسعُ
أي لو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لفعل ، ولكن لم يشأ لما يقتضيه من الحِكَم والمصالح ، وقرىء لذهب بأسماعهم على زيادة الباء كما في قوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } الآية ، والإفرادُ في المشهورة ، لأن السمع مصدر في الأصل ، والجملة الشرطية معطوفة على ما قبلها من الجمل الاستئنافية ، وقيل : على كلما أضاء الخ ، وقوله عز وجل : { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } تعليلٌ للشرطية وتقريرٌ لمضمونها الناطقِ بقدرته تعالى على إزالة مشاعرِهم بالطريق البرهاني ، والشيءُ بحسب مفهومِه اللغوي يقعُ على كل ما يصِحّ أن يُعلم ويُخبَرَ عنه كائناً ما كان ، على أنه في الأصل مصدر شاء أُطلِقَ على المفعول واكتُفي في ذلك باعتبار تعلقِ المشيئةِ به من حيث العلمُ والإخبارُ عنه فقط ، وقد خصَّ ههنا بالممكن موجوداً كان أو معدوماً بقضية اختصاصِ تعلقِ القدرة به ، لما أنه عبارةٌ عن التمكين من الإيجاد والإعدام الخاصَّيْن به ، وقيل : هي صفةٌ تقتضي ذلك التمكينَ ، والقادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأْ لم يفعل ، والقديرُ هو الفعّال لكل ما يشاء كما يشاء ، ولذلك لم يوصَفْ به غيرُ الباري جل جلاله وتقدست أسماؤه ، ومعنى قدرتِه تعالى على الممكن الموجود حالَ وجوده أنه إن شاء إبقاءَه على الوجود أبقاه عليه ، فإن علةَ الوجود هي علةُ البقاء ، وقد مر تحقيقه في تفسير قوله تعالى : { رَبّ العالمين } وإن شاء إعدامَه أعدمه ، ومعنى قدرته على المعدوم حالَ عدمِه أنه إن شاء إيجادَه أوجده وإن لم يشأْ لم يوجِدْه ، وقيل : قدرةُ الإنسان هيئةٌ بها يتمكن من الفعل والترك ، وقدرةُ الله تعالى عبارة عن نفي العجز ، واشتقاقُ القدرة من القَدْر لأن القادر يوقع الفعل بقدْر ما تقتضيه إرادته أو بقدر قوتِه ، وفيه دليل على أن مقدورَ العبد مقدورٌ لله تعالى حقيقة ، لأنه شيء وكلُّ شيء مقدورٌ له تعالى .(1/69)
واعلم أن كلَّ واحد من التمثيلين وإن احتمل أن يكون من قبيل التمثيل المفرق كما في قوله :
كأن قلوبَ الطير رَطْباً ويابسا ... لدى وَكرها العُنّابُ والحَشَفُ البالي
بأن يُشبَّه المنافقون في التمثيل الأول بالمستوقدين وهُداهم الفطريُّ بالنار وتأييدُهم إياه بما شاهدوه من الدلائل باستيقادها وتمكنِهم التامِّ من الانتفاع به بإضاءتها ما حولهم وإزالته بإذهاب النور الناري ، وأخذ الضلالة بمقابلته بملابستهم الظلماتِ الكثيفة وبقائهم فيها ، ويشبهوا في التمثيل الثاني بالسابلة ، والقرآنُ وما فيه من العلوم والمعارفِ التي هي مدارُ الحياة الأبدية بالصيب الذي هو سببُ الحياة الأرضيةِ وما عَرَض لهم بنزوله من الغموم والأحزان وانكساف البال بالظلمات ، وما فيه من الوعد والوعيد بالرعدِ والبرقِ وتصامِّهم عما يقرَع أسماعَهم من الوعيد بحال من يَهُولُه الرعدُ والبرق فيخاف صواعقَه فيسدُّ أذنه عنها ، ولا خلاصَ له منها ، واهتزازُهم لِمَا يلمع لهم من رَشَدٍ يدركونه أو رِفد يُحرِزونه بمشيهم في مَطْرَحِ ضوء البرق ، كلما أضاء لهم ، وتحيُّرهم في أمرهم حين عنَّ لهم مصيبةٌ بوقوفهم إذا أظلم عليهم .
لكن الحملَ على التمثيل المركب الذي لا يعتبر فيه تشبيهُ كلِّ واحدٍ من المفردات الواقعة في أحد الجانبين بواحدٍ من المفردات الواقعة في الجانب الآخر على وجه التفصيل ، بل يُنتزع فيه من المفردات الواقعة في جانب المشبَّه هيئةٌ فتُشبَّهُ بهيئةٍ أخرى منتزعةٍ من المفردات الواقعة في جانب المشبَّه به بأن يُنتزع من المنافقين وأحوالهم المفصلة في كل واحد من التمثيلين هيئةٌ بحِيالها فتُشبَّه كلَّ واحدةٍ من الأوليين بما يضاهيها من الأُخْرَيين هو الذي يقتضيه جزالةُ التنزيل ويستدعيه فخامةُ شأنه الجليلِ لاشتماله على التشبيه الأولِ إجمالاً مع أمرٍ زائدٍ هو تشبيهُ الهيئة بالهيئة وإيذانُه بأن اجتماعَ تلك المفردات مستتبعٌ لهيئة عجيبةٍ حقيقةٍ بأن تكون مثلاً في الغرابة .(1/70)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
{ ياأيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ } إثرَ ما ذكر الله تعالى من علو طبقة كتابه الكريم وتحزُّب الناس في شأنه إلى ثلاث فرقٍ : مؤمنةٍ به محافظةٍ على ما فيه من الشرائع والأحكام . وكافرةٍ قد نبذتْه وراءَ ظهرِها بالمجاهرة والشقاق ، وأخرى مذبذبةٍ بينهما بالمخادعة والنفاق ، ونعْتِ كل فرقةٍ منها بما لَها من النعوت والأحوال وبين ما لهم من المصير والمآل أقبل عليهم بالخطاب على نهج الالتفات هزاً لهم إلى الإصغاء وتوجيهاً لقلوبهم نحو التلقي ، وجبراً لما في العبادة من الكُلفة بلذة الخطاب ، فأمرهم كافةً بعبادته ونهاهم عن الإشراك به ، و ( يا ) حرفٌ وضع لنداء البعيد ، وقد ينادى به القريبُ تنزيلاً له منزلةَ البعيد إما إجلالاً كما في قول الداعي : يا ألله ويا ربِّ ، وهو أقربُ إليه من حبل الوريد استقصاراً لنفسه واستبعاداً لها من محافل الزلفى ومنازلِ المقربين ، وإما تنبيهاً على غفلته وسوءِ فهمِه وقد يُقصد به التنبيهُ على أن ما يعقبُه أمرٌ خطير يعتنى بشأنه ، و ( أيُّ ) اسمٌ مبهمٌ جعل وصلُه إلى نداء المعرف باللام لا على أنه المنادى أصالةً بل على أنه صفةٌ موضحة له مُزيلة لإبهامه ، والتُزم رفعُه مع انتصاب موصوفه محلاً إشعاراً بأنه المقصود بالنداء . وأُقحمَتْ بينهما كلمةُ التنبيه تأكيداً لمعنى النداء وتعويضاً عما يستحقه أي من المضاف إليه ، ولِما ترى من استقلالِ هذه الطريقة بضروبٍ من أسباب المبالغةِ والتأكيد كثُر سلوكُها في التنزيل المجيد ، كيف لا وكلُّ ما ورد في تضاعيفه على العباد من الأحكام والشرائع وغير ذلك خطوبٌ جليلةٌ حقيقةٌ بأن تقشعِرَّ منها الجلودُ وتطمئنَّ بها القلوبُ الأبية ، ويتلَقَّوْها بآذانٍ واعية ، وأكثرهم عنها غافلون ، فاقتضى الحالُ المبالغةَ والتأكيدَ في الإيقاظ والتنبيه والمرادُ بالناس كافةُ المكلفين الموجودين في ذلك العصر ، لما أن الجموعَ وأسماءَها المحلاة باللام للعموم بدليل صحة الاستثناءِ منها والتأكيدِ بما يفيد العمومَ كما في قوله تعالى : { فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } واستدلالِ الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين بعمومها شائعاً ذائعاً ، وأما مَنْ عداهم ممن سيوجد منهم فغيرُ داخلين في خطاب المشافهة ، وإنما دخولُهم تحت حُكْمِه لما تواتر من دينه صلى الله عليه وسلم ، ضرورةَ أن مقتضى خطابه وأحكامِه شاملٌ للموجودين من المكلفين ولمن سيوجد منهم إلى قيام الساعة ، ولا يَقدح في العموم ما رُوي عن علقمةَ والحسنِ البصري من أن كلَّ ما نزل فيه { يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس } فهو مكي ، إذ ليس من ضرورة نزولِه بمكة شرفها الله تعالى اختصاصُ حُكمِه بأهلها ولا من قضية اختصاصِه بهم اختصاصُه بالكفار ، إذ لم يكن كلُّ أهلها حينئذٍ كفرةً ، ولا ضيرَ في تحقق العبادة في بعض المكلفين قبل ورود هذا الأمر لما أن المأمورَ به القدرُ المشترك الشاملُ لإنشاء العبادةِ والثباتِ عليها والزيادةِ فيها ، مع أنها متكررة حسب تكررِ أسبابها ولا في انتفاء شرطها في الآخرين منهم أعني الإيمان لأن الأمرَ بها منتظِمٌ للأمر بما لا تتم إلا به وقد عُلم من الدين ضرورةً اشتراطُها به فإن أمرَ المحْدِث بالصلاة مستتبع للأمرِ بالتوضّي لا محالة .(1/71)
وقد قيل : المراد بالعبادة ما يعُمّ أفعالَ القلبِ أيضاً لما أنها عبارةٌ عن غاية التذلُّلِ والخضوعِ . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن كل ما ورد في القرآن من العبادات فمعناها التوحيد ، وقيل معنى اعبدوا : وحِّدوا وأطيعوا ، ولا شك في كون بعضٍ من الفِرْقتين الأخيرتين ممن لا يُجدي فيهم الإنذارُ بموجب النصِّ القاطعِ ، لما أن الأمرَ لقطع الأعذار ليس فيه تكليفُهم بما ليس في وُسعهم من الإيمان بعدم إيمانهم أصلاً ، إذ لا قطعَ لأحدٍ منهم بدخوله في حكم النص قطعاً ، وورد النص بذلك لكونهم في أنفسهم بسوء اختيارهم كذلك لا أن كونَهم كذلك لورود النص بذلك ، فلا جبر أصلاً .
نعم لتخصيص الخطاب بالمشركين وجهٌ لطيفٌ ستقف عليه عند قوله تعالى : { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } وإيراده تعالى بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأكيد موجب الأمرِ بالإشعار بعلّيتها للعبادة { الذى خَلَقَكُمْ } صفة أُجريت عليه سبحانه للتبجيل والتعليل إثرَ التعليل وقد جُوِّز كونُها للتقييد والتوضيح بناءً على تخصيص الخطاب بالمشركين ، وحملِ الربِّ على ما هو أعمُّ من الرب الحقيقي ، والآلهة التي يسمونها أرباباً ، والخلق إيجاد الشيء على تقديرٍ واستواءٍ ، وأصله التقدير ، يقال : خلق النعلَ أي قدَّرها وسواها بالمقياس ، وقرىء خلقكم بإدغام القاف في الكاف { والذين مِن قَبْلِكُمْ } عطفٌ على الضمير المنصوب ومتممٌ لما قصد من التعظيم والتعليل ، فإن خلقَ أصولهم من موجبات العبادة كخلق أنفسهم ، ومن ابتدائية متعلقةٌ بمحذوف أي كانوا من زمان قبلَ زمانكم ، وقيل : خلقَهم من قبلِ خلقِكم فحُذف الخلقُ وأقيم الضميرُ مُقامَه ، والمرادُ بهم مَنْ تقدّمهم من الأمم السالفة كافة ومن ضرورة عمومِ الخطابِ بيانُ شمولِ خلقِه تعالى للكل ، وتخصيصُه بالمشركين يؤدي إلى عدم التعرضِ لخلقِ مَنْ عداهم من معاصريهم ، وإخراجُ الجملةُ مُخرجَ الصلةِ التي حقُها أن تكون معلومةَ الانتساب إلى الموصول عندهم أيضاً مع أنهم غيرُ معترفين بغاية الخلق وإن اعترفوا بنفسه كما ينطِق به قوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } للإيذان بأن خلقهم للتقوى من الظهور بحيث لا يتأتى لأحدٍ إنكارُه ، وقرىء وخلق مَنْ قبلَكم ، وقرىء والذين مَنْ قبلكم بإقحام الموصول الثاني بين الأول وصلته توكيداً كإقحام اللام بين المضافين في لا أبا لك ، أو بجعله موصوفاً بالظرف خبراً لمبتدأ محذوف ، أي الذين هم أناس كائنون من قبلكم { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } المعنى الوضعي لكلمة لعل هو إنشاءُ توقع أمرٍ مترددٍ بين الوقوع وعدمِه مع رجحان الأول إما محبوبٍ فيسمى ترجياً ، أو مكروهٍ فيسمَّى إشفاقاً ، وذلك المعنى قد يعتبر تحققُه بالفعل إما من جهة المتكلم كما في قولك : لعل الله يرحمني وهو الأصلُ الشائعُ في الاستعمال .(1/72)
لأن معانيَ الانشاءاتِ قائمةٌ به وإما من جهة المخاطب تنزيلاً له منزلةَ المتكلم في التلبّس التام بالكلام الجاري بينهما ، كما في قوله سبحانه : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } وقد يعتبر تحققُه بالقوة بضربٍ من التجوز إيذاناً بأن ذلك الأمرَ في نفسه مَئنّةٌ للتوقع متصفٌ بحيثية مصححةٍ له من غير أن يعتبر هناك توقعٌ بالفعل من متوقَعٍ أصلاً .
فإن روعِيَتْ في الآية الكريمة جهةُ المتكلم يستحيلُ إرادةُ ذلك المعنى لامتناع التوقعِ من علاّم الغيوب عز وجل فيُصار إما إلى الاستعارة بأن يُشبَّه طلبُه تعالى من عباده التقوى مع كونهم مئنةً لها لتعاضُد أسبابها برجاء الراجي من المرجوَّ منه أمراً هيِّنَ الحصول في كون متعلَّقِ كلَ منهما متردداً بين الوقوع وعدمِه مع رجحان الأول ، فيستعار له كلمةُ لعل استعارةً تبعية حرفيةً للمبالغة في الدلالة على قوة الطلب وقُربِ المطلوب من الوقوع ، وإما إلى التمثيل بأن يلاحَظَ خلقُه تعالى إياهم مستعدين للتقوى وطلبُه إياها منهم وهم متمكنون منها جامعون لأسبابها ، ويُنتزَعُ من ذلك هيئةٌ فتُشبَّه بهيئةٍ منتزعة من الراجي ورجائه من المرجو منه شيئاً سهلَ المنال ، فيستعمل في الهيئة الأولى ما حقه أن يستعمل في الثانية ، فيكون هناك استعارةٌ تمثيلية قد صُرِّح من ألفاظها بما هو العُمدة في انتزاع الهيئةِ المشبَّه بها أعني كلمةَ الترجي ، والباقي منويٌّ بألفاظٍ متخيَّلة بها يحصُل التركيبُ المعتبرُ في التمثيل كما مر مراراً ، وأما جعلُ المشبهِ إرادتَه تعالى في الاستعارة والتمثيل فأمرٌ مؤسَّسٌ على قاعدة الاعتزال القائلة بجواز تخلّفِ المراد عن إرادتِه تعالى ، فالجملةُ حالٌ إما من فاعل خلقكم أي طالباً منكم التقوى أو من مفعوله ، وما عُطف عليه بطريق تغليبِ المخاطبين على الغائبين ، لأنهم المأمورون بالعبادة أي خلقكم وإياهم مطلوباً منكم التقوى ، أو علةٌ له ، فإن خلقَهم على تلك الحال في معنى خلقِهم لأجل التقوى ، كأنه قيل : خلقكم لتتقوا ، أو كي تتقوا ، إما بناءً على تجويز تعليلِ أفعاله تعالى بأغراضٍ راجعةٍ إلى العباد كما ذهب إليه كثيرٌ من أهل السنة ، وإما تنزيلاً لترتُّب الغاية على ما هي ثمرةٌ له منزلةَ ترتبِ الغرض على ما هو غرضٌ له ، فإن استتباعَ أفعاله تعالى لغاياتِ ومصالحَ متقنةٍ جليلة من غير أن تكون هي علةٌ غائيةٌ لها بحيث لولاها لما أَقدَم عليها مما لا نزاع فيه ، وتقييدُ خلقهم بما ذكر من الحال أو العلة لتكميل عِلّيته للمأمورِ به وتأكيدِها ، فإن إتيانَهم بما خُلقوا له أدخَلُ في الوجوب ، وإيثارُ تتقون على تعبُدون مع موافقته لقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } للمبالغة في إيجابِ العبادةِ والتشديدِ في إلزامها ، لما أن التقوى قُصارى أمرِ العابد ومنتهى جُهده ، فإذا لزمتهم التقوى كان ما هو أدنى منها ألزمَ ، والإتيانُ به أهونَ .(1/73)
وإن روعيت جهةُ المخاطبِ فلعل في معناها الحقيقي ، والجملة حالٌ من ضمير اعبدوا ، كأنه قيل : اعبدوا ربكم راجين للانتظام في زُمرة المتقين الفائزين بالهدى والفلاح .
( بيان المراد بالتقوى )
على أن المرادَ بالتقوى مرتبتُها الثالثة ، التي هي التبتلُ إلى الله عز وجل بالكلية ، والتنزُّه عن كل ما يشغل سرَّه عن مراقبته ، وهي أقصى غايات العبادة التي يتنافس فيها المتنافسون ، وبالانتظام القدرَ المشتركَ بين إنشائه والثباتِ عليه ليرتجيَه أربابُ هذه المرتبة وما دونها من مرتبتي التوقي عن العذاب المخلد ، والتجنّبِ عن كل ما يُؤثم من فعل أو تركٍ كما مر في تفسير المتقين .
ولعل توسيطَ الحال من الفاعل بين وصْفي المفعول لما في التقديم من فوات الإشعارِ بكون الوصفِ الأول معظمَ أحكام الربوبية ، وكونِه عريقاً في إيجاب العبادة وفي التأخير من زيادة طول الكلام ، هذا على تقدير اعتبارِ تحققِ التوقعِ بالفعل ، فأما إن اعتُبر تحققُه بالقوة فالجملةُ حال من مفعول خلقكم ، وما عطف عليه على الطريقة المذكورة أي خلقكم وإياهم حالَ كونكم جميعاً بحيث يرجو منكم كلُّ راج أن تتقوا ، فإنه سبحانه وتعالى لما بَرَأهم مستعدين للتقوى ، جامعين لمباديها الآفاقية والأنفسية ، كان حالهم بحيث يرجو منهم كلُّ راجٍ أن يتقوا لا محالة ، وهذه الحالة مقارنةٌ لخلقهم وإن لم يتحقق الرجاء قطعاً .
واعلم أن الآية الكريمةَ مع كونها بعبارتها ناطقةً بوجوب توحيده تعالى وتحتّم عبادتِه على كافة الناس مرشدةٌ لهم بإشارتها إلى أن مطالعةَ الآياتِ التكوينيةِ المنصوبةِ في الأنفس والآفاقِ مما يقضي بذلك قضاءً متقناً ، وقد بين فيها أولاً من تلك الآيات ما يتعلق بأنفسهم من خلقهم وخلقِ أسلافِهم لما أنه أقوى شهادةً وأظهرُ دلالة ، ثم عقب بما يتعلق بمعاشهم فقيل :(1/74)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
{ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارض فِرَاشاً } وهو في محل النصب على أنه صفة ثانيةٌ لربكم ، موضحة أو مادحة ، أو على تقدير أخُص أو أمدَح ، أو في محل الرفع على المدح والتعظيم بتقدير المبتدأ ، قال ابن مالك : التُزم حذفُ الفعل في المنصوب على المدح إشعاراً بأنه إنشاء كما في المنادى ، وحُذف المبتدأ في المرفوع إجراءً للوجهين على سَننٍ واحد ، وأما كونُه مبتدأً خبرُه فلا تجعلوا كما قيل ، فيستدعي أن يكونَ مناطُ النهي ما في حين الصلة فقط من غير أن يكون لما سلف من خلقهم وخلقِ مَنْ قبلهم مدخلٌ في ذلك مع كونه أعظمَ شأناً ، وجعل بمعنى صيّر ، والمنصوبان بعده مفعولاه ، وقيل : هي بمعنى خلق ، وانتصابُ الثاني على الحالية والظرفُ متعلقٌ به على التقديرين ، وتقديمُه على المفعول الصريح لتعجيل المسَرَّة ببيان كون ما يعقُبه من منافع المخاطبين ، وللتشويق إليه ، لأن النفسَ عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ لا سيما عند الإشعار بمنفعته تبقى مترقبةً له ، فيتمكن لديها عند ورودِه عليها فضلُ تمكن ، أو لما في المؤخَّر وما عطف عليه من نوع طول . فلو قدُم لفات تجاوبُ أطرافِ النظم الكريم ، ومعنى جعلها فراشاً جعل بعضَها بارزاً من الماء مع اقتضاء طبعها الرسوبَ ، وجعلها متوسطةً بين الصلابة واللين صالحةً للقعود عليها والنوم فيها كالبساط المفروش ، وليس من ضرورة ذلك كونُها سطحاً حقيقياً ، فإن كرويةَ شكلِها مع عظم جِرْمها مصححٌ لافتراشها ، وقرىء بساطاً ومِهاداً .
{ والسماء بِنَاء } عطفٌ على المفعولين السابقين ، وتقديمُ حالِ الأرض لما أن احتياجَهم إليها وانتفاعَهم بها أكثرُ وأظهر ، أي جعلها قُبة مضروبةً عليكم ، والسماءُ اسم جنسٍ يُطلق على الواحد والمتعدد ، أو جمع سماوة أو سماءة ، والبناءُ في الأصل مصدرٌ سُمِّي به المبنيُّ بيتاً كان أو قُبةً أو خِباءً ، ومنه قولُهم : بنى على امرأته لما أنهم كانوا إذا تزوجوا امرأةً ضربوا عليها خِباءً جديداً .
{ وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء } عطفٌ على جعل أي أنزل من جهتها ، أو منها إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض ، كما رُوي ذلك عنه عليه الصلاة والسلام أو المرادُ بالسماء جهةُ العلو كما ينبىء عنه الإظهارُ في موضع الإضمار ، وهو على الأولين لزيادة التقرير ، و ( من ) لابتداء الغايةِ متعلقةٌ بأنزل أو بمحذوفٍ وقع حالاً من المفعول أي كائناً من السماء ، قُدِّم عليه لكونه نكرةً ، وأما تقديمُ الظرفِ على الوجه الأول مع أن حقه التأخيرُ عن المفعول الصريح فإما لأن السماءَ أصلُه ومبدؤه ، وإما لما مر من التشويق إليه مع ما فيه من مزيد انتظامٍ بينه وبين قوله تعالى : { فَأَخْرَجَ بِهِ } أي بسبب الماء { مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ } .
وذلك بأن أوْدَعَ في الماء قوةً فاعلة وفي الأرض قوةً منفعلة ، فتولَّد من تفاعُلِهما أصنافُ الثمار ، أو بأن أجرى عادتَه بإفاضة صورِ الثمار وكيفيتها المخالفة على المادة الممتزجة منها وإن كان المؤثرَ في الحقيقة قدرتُه تعالى ومشيئتُه ، فإنه تعالى قادر على أن يوجِدَ جميعَ الأشياء بلا مباد وموادَّ كما أبدع نفوسَ المبادىءِ والأسباب ، لكن له عز وجل في إنشائها متقلبةً في الأحوال ، ومتبدلةً في الأطوار من بدائعَ حِكَمٌ باهرةٌ تُجَدِّدُ لأولي الأبصار عِبراً ومزيدَ طُمَأنينة إلى عظيم قدرتِه ولطيفِ حكمتِه ما ليس في إبداعها بغتة ، و ( من ) للتبعيض لقوله تعالى : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ } ولوقوعها بين مُنكَّرين ، أعني ماءً ورزقاً كأنه قيل : وأنزل من السماء بعضَ الماء فأخرج به بعضَ الثمرات ليكون بعضَ رزقكم ، وهكذا الواقعُ إذ لم ينزل من السماء كلُّ الماء ، ولا أخرج من الأرض كل الثمرات ، ولا جعل كلَّ المرزوق ثماراً ، أو للتبيين ، ورزقاً مفعول بمعنى المرزوق ، ومن الثمرات بيانٌ له ، أو حال منه كقولك : أنفقت من الدراهم ألفاً ، ويجوز أن يكون من الثمرات مفعولاً ورزقاً حالاً منه أو مصدراً من أخرج ، لأنه بمعنى رزق .(1/75)
وإنما شاع ورودُ الثمرات دون الثمار مع أن الموضع موضعُ كثرة لأنه أريد بالثمرات جماعة الثمرة في قولك : أدركتْ ثمرةُ بستانه ، ويؤيده القراءة على التوحيد ، أو لأن الجموعَ يقعُ بعضها موقعَ بعض ، كقوله تعالى : { كَمْ تَرَكُواْ مِن جنات وَعُيُونٍ } وقوله تعالى : { ثلاثة قُرُوء } أو لأنها مُحلاة باللام خارجةٌ عن حد القِلة ، واللامُ متعلقة بمحذوفٍ وقع صفةً لرزقا على تقدير كونه بمعنى المرزوق ، أي رزقاً كائناً لكم ، أو دِعامةً لتقوية عمل رزقاً على تقدير كونِه مصدراً ، كأنه قيل : رزقاً إياكم .
{ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً } إما متعلقٌ بالأمر السابق مترتِّبٌ عليه ، كأنه قيل : إذا أمرتم بعبادة مَنْ هذا شأنه من التفرد بهذه النعوت الجليلة والأفعال الجميلة فلا تجعلوا له شريكاً ، وإنما قيل : أنداداً باعتبار الواقع ، لا لأن مدارَ النهي هو الجمعية ، وقرىء نِدّا ، وإيقاعُ الاسم الجليل موقعَ الضمير لتعيين المعبودِ بالذاتِ إثرَ تعيينه بالصفات ، وتعيينِ الحُكمِ بوصف الألوهية التي عليها يدور أمرُ الوحدانية واستحالةُ الشِّرْكة ، والإيذانِ باستتباعها لسائر الصفات ، وإما معطوفٌ عليه كما في قوله تعالى : { اعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } والفاء للإشعار بعِلّية ما قبلها من الصفات المُجراة عليه تعالى للنهي أو الانتهاء أو لأن مآلَ النهْي هو الأمرُ بتخصيص العبادة به تعالى ، المترتبُ على أصلها ، كأنه قيل : اعبدوه فخُصُّوها به ، والإظهارُ في موضع الإضمار لما مر آنفاً ، وقيل : هو نفيٌ منصوبٌ بإضمار أن جواباً للأمر ، ويأباه أن ذلك فيما يكون الأول سبباً للثاني . ولا ريب في أن العبادة لا تكون سبباً للتوحيد ، الذي هو أصلُها ومبناها .
وقيل : هو منصوبٌ بلعل نصبَ ( فَأَطَّلِعَ ) في قوله تعالى : { لَّعَلّى أَبْلُغُ الاسباب * أسباب * السموات فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى }(1/76)
أي خلقكم لتتقوا وتخافوا عقابه فلا تُشْبِهوه بخلقه ، وحيث كان مدارُ هذا النصب تشبيهَ لعل في بُعْد المرجوِّ بليت كان فيه تنبيهٌ على تقصيرهم بجعلهم المرجوِّ القريبَ بمنزلة المتمنى البعيد ، وقيل : هو متعلِّق بقوله تعالى : { الذى جَعَلَ } الخ ، على تقدير رفعِه على المدح ، أي هو الذي خصّكم بهذه الآياتِ العظامِ والدلائل النيِّرة ، فلا تتخذوا له شركاءَ ، وفيه ما مر من لزوم كون خلقهم وخلقِ أسلافِهم بمعزل من مناطية النهي مع عراقتهما فيها . وقيل : هو خبرٌ للموصول بتأويل مَقولٍ في حقه ، وقد عرفت ما فيه مع لزوم المصير إلى مذهب الأخفش في تنزيل الاسم الظاهرِ منزلةَ الضمير كما في قولك : زيدٌ قام أبو عبد الله إذا كان ذلك كنيتَه .
والند المثل المساوي من ندّ ندُوداً إذا نفر ، ونادَدْتُه خالفته ، خُص بالمخالف المماثل بالذات كما خص المساوي بالمماثل في المقدار ، وتسميةَ ما يعبده المشركون من دون الله أنداداً والحال أنهم ما زعموا أنها تماثله تعالى في صفاته ولا أنها تخالفه في أفعاله لما أنهم لما تركوا عبادته تعالى إلى عبادتها ، وسمَّوْها آلهةً شابهتْ حالُهم حالَ من يعتقد أنها ذواتٌ واجبةُ بالذات ، قادرة على أن تدفع عنهم بأسَ الله عز وجل ، وتمنحهم ما لم يُرد الله تعالى بهم من خير ، فتهكّمٌ بهم ، وشُنِّع عليهم أن جعلوا أنداداً لمن يستحيل أن يكون له ندٌّ واحد وفي ذلك قال موحِّد الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل :
أربّاً واحداً أم ألفَ رب ... أدينُ إذا تقسَّمت الأمورُ
تركتُ اللاتَ والعزّى جميعا ... كذلك يفعل الرجلُ البصير
وقوله تعالى : { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } حال من ضمير لا تجعلوا بصرف التقييد إلى ما أفاده النهي من قُبح المنهي عنه ووجوبِ الاجتنابِ عنه ، ومفعول تعلمون مطروحٌ بالكلية كأنه قيل : لا تجعلوا ذلك فإنه قبيحٌ واجبُ الاجتناب عنه ، والحال أنكم من أهل العلم والمعرفة بدقائق الأمورِ وإصابة الرأي ، أو مقدرٌ حسبما يقتضيه المقام ، نحو وأنتم تعلمون بطلان ذلك ، أو تعلمون أنه لا يماثله شيء ، أو تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت ، أو تعلمون أنها لا تفعل مثلَ أفعاله كما في قوله تعالى : { هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء } أو غير ذلك .
وحاصلُه تنشيطُ المخاطبين وحثُّهم على الانتهاء عما نُهوا عنه ، هذا هو الذي يستدعيه عمومُ الخطاب في النهي بجعل المنهي عنه القدرَ المشتركَ المنتظِمَ لإنشاء الانتهاءِ كما هو المطلوبُ من الكفرة ، وللثبات عليه كما هو شأنُ المؤمنين حسبما مر مثلُه في الأمر ، وأما صرفُ التقييد إلى نفس النهي فيستدعي تخصيصَ الخطاب بالكفرة لا محالة إذ لا يتسنى ذلك بطريق قصرِ النهي على حالة العلمِ ضرورةَ شمولِ التكليفِ للعالم والجاهلِ المتمكنِ من العلم بل إنما يتأتى بطريق المبالغة في التوبيخ والتقريع ، بناءً على أن تعاطيَ القبائحِ من العالمِين بقُبحها أقبحُ وذلك إنما يُتصور في حق الكفرة ، فمَنْ صرَفَ التقييدَ إلى نفس النهي مع تعميم الخطاب للمؤمنين أيضاً فقد نأى عن التحقيق .(1/77)
إن قلت : أليس في تخصيصه بالكفرة في الأمر والنهي خلاصٌ من أمثال ما مر من التكلفات وحسنُ انتظامٍ بين السباقِ والسياق ، إذ لا محيدَ في آية التحدي من تجريد الخطابِ ، وتخصيصُه بالكفرة لا محالة مع ما فيه من رِباء محل المؤمنين ورفع شأنهم عن حيز الانتظام في سلك الكفرة والإيذان بأنهم مستمرون على الطاعة والعبادة حسبما مر في صدر السورة الكريمة مستغنون في ذلك عن الأمر والنهي؟ قلت : بلى إنه وجهٌ سَرِيٌّ ، ونهج سوي ، لا يضِلُّ من ذهب إليه ولا يزِلُّ من ثبَّت قدمَه عليه ، فتأمل .(1/78)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)
{ وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا } شروعٌ في تحقيق أن الكتابَ الكريم الذي من جُملته ما تلي من الآيتين الكريمتين ، الناطقتين بوجوب العبادةِ والتوحيدِ منزلٌ من عند الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم ، كما أن ما ذكر فيهما من الآيات التكوينيةِ الدالةِ على ذلك صادرة عنه تعالى لتوضيح اتصافِه بما ذكر في مطلَعِ السورةِ الشريفة من النعوتِ الجليّةِ التي من جملتها نزاهتُه عن أن يعتريَه ريبٌ ما ، والتعبيرُ عن اعتقادهم في حقه بالريب مع أنهم جازمون بكونه من كلام البشر كما يُعرب عنه قوله تعالى : { إِن كُنتُمْ صادقين } إما للإيذان بأن أقصى ما يمكن صدورُه عنهم وإن كانوا في غاية ما يكونُ من المكابرة والعِناد هو الارتيابُ في شأنه ، وأما الجزمُ المذكورُ فخارجٌ من دائرة الاحتمال ، كما أن تنكيرَه وتصديرَه بكلمة الشكِّ للإشعار بأن حقَّه أن يكون ضعيفاً مشكوكَ الوقوع ، وإما للتنبيه على أن جزمَهم ذلك بمنزلة الريب الضعيف لكمالِ وضوحِ دلائلِ الإعجازِ ونهايةِ قوتِها .
وإنما لم يقل وإن ارتبتم فيما نزلنا الخ ، لما أشير إليه فيما سَلَف من المبالغة في تنزيه ساحةِ التنزيلِ عن شائبة وقوعِ الريب فيه حسْبما نطَق به قولُه تعالى : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } والإشعار بأن ذلك إنْ وقع فمن جهتهم لا من جهته العاليةِ ، واعتبارُ استقرارِهم فيه وإحاطتُه بهم لا ينافي اعتبارَ ضعفِه وقِلته ، لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوامُ ملابستهم به لا قوتُه وكثرتُه ، و ( مِن ) في مما ابتدائيةٌ متعلقة بمحذوفٍ وقع صفةً لريب ، وحملُها على السببية ربما يوهمُ كونَه محلاً للريب في الجملة وحاشاه من ذلك ، و ( ما ) موصولةً كانت أو موصوفةً عبارةٌ عن الكتاب الكريم لا عن القدر المشتركِ بينه وبين أبعاضِه ، وليس معنى كونِهم في ريب منه ارتيابَهم في استقامة معانيه ، وصحةِ أحكامِه ، بل في نفس كونِه وحياً منزلاً من عند الله عز وجل ، وإيثارُ التنزيلِ المنبىءِ عن التدريج على مطلقِ الإنزالِ لتذكيرِ منشأ ارتيابِهم ، وبناءُ التحدي عليه إرخاءٌ للعِنان وتوسيعاً للميدان ، فإنهم كانوا اتخذوا نزولَه منجّماً وسيلةً إلى إنكاره ، فجُعل ذلك من مبادي الاعتراف به ، كأنه قيل : إن ارتبتم في شأن ما نزلناه على مهل وتدريجٍ فهاتوا أنتم مثلَ نَوْبةٍ فذةٍ من نُوَبه ، ونَجْم فَرْدٍ من نجومه ، فإنه أيسرُ عليكم من أن يُنزلَ جُملةً واحدة ، ويُتحدَّى بالكل .
وهذا كما ترى غايةُ ما يكون في التبكيت وإزاحةِ العلل ، وفي ذكره صلى الله عليه وسلم بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضميرِ الجلالة من التشريفِ والتنويه والتنبيهِ على اختصاصه به عز وجل وانقيادِه لأوامره تعالى ما لا يخفى . وقرىء على عبادنا والمرادُ هو صلى الله عليه وسلم وأمتُه ، أو جميعُ الأنبياءِ عليهم السلام ، ففيه إيذانٌ بأن الارتيابَ فيه ارتيابٌ فيما أنزل على مَنْ قبلَه لكونه مصدِّقاً له ومهيمِناً عليه .(1/79)
والأمرُ في قوله تعالى : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ } من باب التعجيز وإلقامِ الحجر ، كما في قوله تعالى : { فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب } والفاءُ للجواب ، وسببيةُ الارتياب للأمر أو الإتيانِ بالمأمور به لما أشير إليه من أنه عبارةٌ عن جزمهم المذكور ، فإنه سببٌ للأول مطلقاً ، وللثاني على تقدير الصدقِ ، كأنه قيل : إن كان الأمرُ كما زعمتم من كونه كلامَ البشر فأتوا بمثله ، لأنكم تقدِرون على ما يقدِر عليه سائرُ بني نوعِكم . والسُورة الطائفةَ من القرآن العظيم المترجمة ، وأقلها ثلاثُ آيات . وواوُها أصليةٌ منقولةٌ من سُور البلد ، لأنها محيطةٌ بطائفةٍ من القرآن مفرَزةٍ مَحُوزةٍ على حِيالها ، أو محتويةٍ على فنون رائقةٍ من العلوم احتواءَ سورِ المدينة على ما فيها ، أو من السَّوْرة التي هي الرتبة ، قال :
ولرهط حرّابٍ وقذّ سَوْرة ... في المجد ليس غرابُها بمُطارِ
فإن سور القرآن مع كونها في أنفسها رُتباً من حيث الفضلُ والشرفُ أو من حيث الطولُ والقِصَر ، فهي من حيث انتظامُها مع أخواتها في المصحف مراتبُ يرتقي إليها القارىء شيئاً فشيئاً . وقيل : واوها مُبدلةٌ من الهمزة ، فمعناها البقيةُ من الشيء ، ولا يخفى ما فيه . ومن في قوله تعالى : { مّن مّثْلِهِ } بيانيةٌ متعلقة بمحذوفٍ وقع صفةً لسورة ، والضمير لما نزلنا ، أي بسورة كائنةٍ من مثله في علو الرتبة وسموِّ الطبقة ، والنظمِ الرائق والبيانِ البديع ، وحيازةِ سائرِ نعوتِ الإعجاز ، وجعلُها تبعيضيةً يوهم أن له مثلاً محققاً قد أريد تعجيزُهم عن الإتيان ببعضه ، كأنه قيل : فأتوا ببعضِ ما هو مثلٌ له فلا يُفهم منه كونُ المماثلة من تتمة المعجوز عنه فضلاً عن كونها مداراً للعجز مع أنه المراد ، وبناءُ الأمر على المجاراة معهم بحسب حُسبانِهم حيث كانوا يقولون : { لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا } أو على التهكم بهم يأباه ما سبق من تنزيله منزلةَ الريب ، فإن مبنى التهكم على تسليم ذلك منهم وتسويفِه ولو بغير جِدّ ، وقيل : هي زائدة كما هو رأيُ الأخفش ، بدليل قوله تعالى : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ } ، { بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ } وقيل : هي ابتدائية ، فالضميرُ حينئذ للمُنْزل عليه حتماً ، لما أن رجوعَه إلى المنزَلِ يوهم أن له مثلاً محققاً قد ورد الأمرُ التعجيزيُّ بالإتيان بشيء منه ، وقد عرفت ما فيه بخلاف رجوعِه إلى المنزل عليه ، فإن تحققَ مثلِه عليه السلام في البشرية والعربية والأمية يهوِّن الخطب في الجملة ، خلا أن تخصيصَ التحدي بفردٍ يشاركُه عليه السلام فيما ذكرَ من الصفات المنافية للإتيان بالمأمور به لا يدلُّ على عجز مَنْ ليس كذلك من علمائهم ، بل ربما يوهم قدرتَهم على ذلك في الجملة فرادى أو مجتمعين ، مع أنه يستدعي عراءَ المُنْزَل عما فُصِّل من النعوت الموجبةِ لاستحالة وجود مثلِه ، فأين هذا من تحدي أمةٍ جمّةٍ وأمرِهم بأن يحتشدوا في حلبة المعارضة بخيلهم ورَجِلِهم حسبما ينطِق به قوله تعالى : { وادعوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ الله } ويتعاونوا على الإتيان بقدْر يسيرٍ مماثلٍ في صفات الكمال لما أتى بجملته واحدٌ من أبناء جنسهم .(1/80)
والشهداءُ جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة أو الناصر ، ومعنى ( دون ) أدنى مكانٍ من شيء ، يقال : هذا دون ذاك إذا كان أحطَّ منه قليلاً ، ثم استعير للتفاوت في الأحوال والرتبِ فقيل : زيد دون عمرو ، أي في الفضل والرتبة ، ثم اتَّسع فاستُعمل في كل تجاوز حدَ إلى حد وتخطِّي حُكم إلى حكم من غير ملاحظةِ انحطاطِ أحدهما عن الآخر ، فجرى مَجرى أداةِ الاستثناء ، وكلمة ( من ) إما متعلقةٌ بادعوا فتكونُ لابتداءِ الغاية ، والظرفُ مستقرٌّ والمعنى ادعوا متجاوزين الله تعالى لاستظهار من حضَركم كائناً من كان ، أو الحاضرين في مشاهدكم ومحاضرِكم من رؤسائكم وأشرافِكم الذين تَفْزَعون إليهم في المُلمّات ، وتعوِّلون عليهم في المُهِمّات ، أو القائمين بشهاداتكم الجاريةِ فيما بينكم من أمنائكم المتولّين لاستخلاص الحقوقِ بتنفيذ القولِ عند الولاة ، أو القائمين بنُصرتكم حقيقةً أو زعماً من الإنس والجن ليعينوكم .
وإخراجُه سبحانه وتعالى من حُكم الدعاء في الأول مع اندراجه في الحضورِ لتأكيد تناولِه لجميع ما عداه ، لا لبيان استبدادِه تعالى بالقدرة على ما كُلِّفوه ، فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دَعَوْه تعالى لأجابهم إليه وأما في سائر الوجوه فللتصريح من أول الأمرِ ببراءتهم منه تعالى وكونِهم في عُدْوة المحادّة والمشاقّة له قاصدين استظهارَهم على ما سواه والالتفاتُ لإدخال الرَّوْعة وتربية المهابة وقيل : المعنى ادعوا من دون أولياءِ الله شهداءَكم الذين هم وجوهُ الناس وفرسانُ المقاولةِ والمناقلةِ ليشهدوا لكم أن ما أتيتم به مثلُه ، إيذاناً بأنهم يأبَوْن أن يرضَوْا لأنفسهم الشهادةَ بصحة ما هو بيِّنُ الفسادِ وجَليُّ الاستحالة . وفيه أنه يؤذِنُ بعدم شمولِ التحدي لأولئك الرؤساءِ ، وقيل : المعنى ادعوا شهداءكم فصححوا بهم دعواكم ولا تستشهدوا بالله تعالى قائلين : الله يشهد أن ما ندعيه حقٌ ، فإن ذلك دَيدَنُ المحجوج وفيه أنه إن أريد بما يدّعون حقِّية ما هم عليه من الدين الباطلِ فلا مِساسَ له بمقام التحدي ، وإن أريد مثلية ما أتَوْا به للمتحدى به فمعَ عدمِ ملاءمتِه لابتداء التحدي يوهم أنهم قد تصَدَّوا للمعارضة وأتَوْا بشيءٍ مشتبهِ الحال متردِّدين بين المِثلية وعدمِها ، وأنهم ادَّعَوْها مستشهدين في ذلك بالله سبحانه ، إذ عند ذلك تمَسُّ الحاجةُ إلى الأمر بالاستشهاد بالناس والنهي عن الاستشهاد به تعالى ، وأنى لهم ذلك ، وما نبَضَ لهم عِرقٌ ولا نَبَسوا ببنتِ شَفَةٍ .
وإما متعلقةٌ ( بشهداءَكم ) والمراد بهم الأصنامُ ، ودون بمعنى التجاوزِ على أنها ظرفٌ مستقِرٌ وقع حالاً من ضمير المخاطَبين ، والعاملُ ما دل عليه ( شهداءكم ) أي ادعوا أصنامَكم الذين اتخذتموهم آلهةً متجاوزين الله تعالى في اتخاذها كذلك ، وكلمةُ ( مِن ) ابتدائية فإن الاتخاذَ ابتداءٌ من التجاوز ، والتعبيرُ عن الأصنام بالشهداء لتعيين مدارِ الاستظهارِ بها بتذكير ما زعَموا من أنها بمكانٍ من الله تعالى وأنها تنفعُهم بشهادتها لهم أنهم على الحق ، فإن ما هذا شأنُه يجب أن يكون مَلاذاً لهم في كل أمرٍ مُهم ، وملجأً يأوُون إليه في كل خطب مُلم ، كأنه قيل : أولئك عُدّتُكم فادعوهم لهذه الداهية التي دَهَمتكم ، فوجهُ الالتفاتِ الإيذانُ بكمال سخافةِ عقولِهم حيث آثرَوُا على عبادة من له الألوهيةُ الجامعةُ لجميع صفاتِ الكمال عبادةَ ما لا أحقرَ منه .(1/81)
وقيل : لفظةُ دون مستعارةٌ من معناها الوضعي الذي هو أدنى مكانٍ من شيء لِقُدّامِه ، كما في قول الأعشى :
تُريك القَذى من دونها وهي دونَهُ ... أي تريك القذى قُدّامها وهي قُدّامَ القذى ، فتكون ظرفاً لغوياً معمولاً لشهداءكم لكفاية رائحةِ الفعل فيه ، من غير حاجة إلى اعتماد ولا إلى تقدير يشهدون ، أي ادعوا شهداءَكم الذين يشهدون لكم بين يدَي الله تعالى ليعينوكم في المعارضة ، وإيرادُها بهذا العنوان لما مر من الإشعار بمناطِ الاستعانةِ بها ، ووجهُ الالتفات تربيةُ المهابة وترشيحُ ذلك المعنى ، فإن ما يقوم بهذا الأمر في ذلك المقام الخطيرِ حقُه أن يُستعان به في كل مَرام ، وفي أمرِهم على الوجهين بأن يستظهروا في معارضة القرآن الذي أخرسَ كلَّ مِنْطيقٍ بالجماد من التهكم بهم ما لا يوصف ، وكلمة من ههنا تبعيضية ، لما أنهم يقولون جلس بين يديه وخلفَه بمعنى في لأنهما ظرفان للفعل ومن بينِ يديه ومن خلفِه لأن الفعل إنما يقع في بعض تَيْنِك الجهتين كما تقول : جئتُه من الليل تريد بعضَ الليل .
وقد يقال كلمةُ ( من ) الداخلةُ على ( دون ) في جميع المواقعِ بمعنى في كما في سائر الظروف التي لا تنصرف ، وتكون منصوبةً على الظرفية أبداً ، ولا تنجرُّ إلا بمن خاصة ، وقيل : المرادُ بالشهداء مدارِهُ القومِ ووجوهُ المحافل والمحاضِر ، ودون ظرفٌ مستقر ومن ابتدائية أي ادعوا الذين يشهدون لكم أن ما أتيتم به مثلُه متجاوزين في ذلك أولياءَ الله ، ومحصله شهداء مغايرين لهم إيذاناً بأنهم أيضاً لا يشهدون بذلك ، وإنما قُدر المضافُ إلى الله تعالى رعايةً للمقابلة ، فإن أولياءَ الله تعالى يقابِلون أولياءَ الأصنام ، كما أن ذكرَ الله تعالى يقابل ذكرَ الأصنام ، والمقصودُ بهذا الأمر إرخاءُ العِنان والاستدراجُ إلى غاية التبكيت ، كأنه قيل : تركنا إلزامَكم بشهداءَ لا ميلَ لهم إلى أحدِ الجانبين كما هو المعتاد ، واكتفينا بشهدائكم المعروفين بالذب عنكم ، فإنهم أيضاً لا يشهدون لكم حذراً من اللائمة وأَنَفةً من الشهادة البيِّنة البُطلان .
كيف لا وأمرُ الإعجاز قد بلَغ من الظهورِ إلى حيث لم يبقَ إلى إنكاره سبيلٌ قطعاً ، وفيه ما مرَّ من عدم الملاءمةِ لابتداء التحدّي وعدمِ تناولِه لأولئك الشهداء ، وإيهامِ أنهم تعرّضوا للمعارضة وأتَوْا بشيء احتاجوا في إثبات مِثْلِيَّتِه للمتحدى به إلى الشهادة ، وشتانَ بينهم وبين ذلك { إِن كُنتُمْ صادقين } أي في زعمِكم أنه من كلامه عليه السلام .(1/82)
وهو شرطٌ حذفَ جوابُه لدلالة ما سبق عليه ، أي إن كنتم صادقين فأتوا بسورة من مثله الخ ، واستلزامُ المقدَّم للتالي من حيث إن صدقَهم في ذلك الزَّعم يستدعي قدرتَهم على الإتيان بمثله بقضية مشاركتِهم له عليه السلام في البشرية والعربية ، مع ما بهم من طول الممارسة للخُطب والأشعارِ وكثرة المزاولةِ لأساليبِ النظمِ والنثر ، والمبالغةِ في حفظ الوقائع والأيام ، لا سيما عند المظاهرة والتعاونِ ، ولا ريب في أن القدرة على الشيء من موجبات الإتيانِ به ودواعي الأمرِ به .(1/83)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } أي ما أمرتم به من الإتيان بالمثل بعد ما بذلتم في السعي غايةَ المجهود ، وجاوزتم في الجِد كلَّ حدَ معهود ، متشبثين بالذيول ، راكبين متنَ كل صَعْب وذَلول ، وإنما لم يصرَّح به إيذاناً بعدم الحاجة إليه ، بناءً على كمال ظهورِ تهالُكِهم على ذلك ، وإنما أُورد في حيز الشرطِ مُطلقُ الفعل وجُعل مصدرُ المأمورِ به مفعولاً له للإيجاز البديعِ المغني عن التطويل والتكرير ، مع سِرَ سَرِيَ استَقلَّ به المقامَ وهو الإيذان بأن المقصودَ بالتكليف هو إيقاعُ نفسِ الفعل المأمور به ، لإظهار عجزِهم عنه لا لتحصيل المفعول أي المأتي به ضرورةَ استحالته ، وأن مناطَ الجوابِ في الشرطية أعني الأمر باتقاءِ النار هو عجزُهم عن إيقاعه لا فوتُ حصولِ المفعول ، فإن مدلولَ لفظٍ هو أنفُسُ الأفعال الخاصة لازمةً كانت أو متعديةً من غير اعتبارِ تعلقاتِها بمفعولاتها الخاصة ، فإذا عُلِّق بفعل خاصَ متعدَ فإنما يُقصَدُ به إيقاعُ نفس ذلك الفعل وإخراجُه من القوة إلى الفعل ، وأما تعلقُه بمفعوله المخصوصِ فهو خارج عن مدلول الفعلِ المطلقِ وإنما يستفاد ذلك من الفعل الخاص ، ولذلك تراهم يتوسلون بذلك إلى تجريد الأفعالِ المتعديةِ عن مفعولاتها وتنزيلِها منزلةَ الأفعالِ اللازمة ، فيقولون مثلاً : معنى فلانٌ يعطى ويمنع يفعل الإعطاء والمنع ، يرشدك إلى هذا قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ } بعد قوله تعالى : { ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ } فإنه لما كان مقصودُ يوسفَ عليه السلام بالأمر ومَرْمَى غرضِه بالتكليف منه استحضارَ بنيامين لم يكتفِ في الشرطية الداعية لهم إلى الجِد في الامتثال ، والسعْيِ في تحقيق المأمورِ به بالإشارة الإجماليةِ إلى الفعل الذي ورد به الأمر بأن يقول : فإن لم تفعلوا ، بل أعاده بعينه متعلقاً بمفعوله تحقيقاً لمطلبه وإعراباً عن مقصِده .
هذا وقد قيل : أُطلق الفعلُ وأريد به الإتيانُ مع ما يتعلق به إما على طريقة التعبير عن الأسماء الظاهرةِ بالضمائر الراجعةِ إليها حذراً من التكرار ، أو على طريقة ذكر اللازمِ وإرادةِ الملزوم ، لما بينهما من التلازمِ المصححِ للانتقال بمعونة قرائنِ الحال فتدبر ، وإيثارُ كلمة ( إنْ ) المفيدةِ للشك على إذا مع تحقق الجزم بعدم فعلِهم مجاراةٌ معهم بحسَب حُسبانهم قبل التجربة أو التهكمُ بهم .
{ وَلَن تَفْعَلُواْ } كلمة لن لنفي المستقبلِ كَلاَ ، خلا أن في لن زيادةَ تأكيدٍ وتشديد ، وأصلُها عند الخليل ( لا أن ) وعند الفراء ( لا ) أُبدلت ألفُها نوناً وعند سيبويه حرفٌ مقتَضَبٌ للمعنى المذكور ، وهي إحدى الروايتين عن الخليل والجملة اعتراضٌ بين جزأي الشرطية مقرِّر لمضمون مُقدَّمِها ، ومؤكِّدٌ لإيجاب العمل بتاليها ، وهذه معجزة باهرةٌ حيث أُخبر بالغيب الخاصِّ علمُه به عز وجل وقد وقع الأمر كذلك ، كيف لا ولو عارضوه بشيءٍ يُدانيه في الجملة لتناقَلَه الرواةُ خلفاً عن سلف .(1/84)
{ فاتقوا النار } جوابٌ للشرط على أن اتقاءَ النار كنايةٌ عن الاحتراز من العِناد ، إذ بذلك يتحقق تسبُّبه عنه وترتُبه عليه ، كأنه قيل : فإذا عجَزتم عن الإتيان بمثله كما هو المقررُ فاحترزوا من إنكار كونِه منزّلاً من عند الله سبحانه فإنه مستوجِبٌ للعقاب بالنار ، لكنْ أوثر عليه الكنايةُ المذكورة المبنيةُ على تصوير العنادِ بصورة النارِ ، وجُعل الاتصافُ به عينَ الملابسة بها للمبالغة في تهويل شأنِه ، وتفظيعِ أمرِه ، وإظهارِ كمال العنايةِ بتحذير المخاطبين منه ، وتنفيرِهم عنه ، وحثِّهم على الجدِّ في تحقيق المكنِي عنه ، وفيه من الإيجاز البديع ما لا يخفى ، حيث كان الأصل ، فإن لم تفعلوا فقد صح صِدْقُه عندكم ، وإذا صح ذلك كان لزومُكم العنادَ وتركُكم الإيمانَ به سبباً لاستحقاقكم العقابَ بالنار ، فاحترزوا منه واتقوا النار { التى وَقُودُهَا الناس والحجارة } صفةٌ للنار مُورثةٌ لها زيادةَ هولٍ وفظاعةٍ أعاذنا الله من ذلك ، والوَقودُ ما توقد به النارُ وتُرفع من الحطب .
وقرىء بضم الواو وهو مصدرٌ ، وسمِّي به المفعول مبالغةً كما يقال : فلان فخرُ قومِه وزَيْنُ بلدِه ، والمعنى أنها من الشدة بحيث لا تمَسُّ شيئاً من رَطْبٍ أو يابس إلا أحرقته ، لا كنيران الدنيا تفتقِرُ في الالتهاب إلى وَقودٍ من حطب أو حشيش وإنما جُعل هذا الوصفُ صلةً للموصول مقتضيةً لكون انتسابها إلى ما نسبت هي إليه معلوماً للمخاطَب بناءً على أنهم سمِعوه من أهل الكتاب قبل ذلك ، أو الرسولِ صلى الله عليه وسلم ، أو سمِعوا قبل هذه الآية المدنية قولَه تعالى : { نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة } فأُشير ههنا إلى ما سمعوه أولاً ، وكونُ سورةِ التحريم مدنيةً لا يستلزِمُ كونَ جميعِ آياتها كذلك كما هو المشهورُ ، وأما أن الصفةَ أيضاً يجبُ أن تكون معلومةَ الانتساب إلى الموصوف عند المخاطَبِ فالخطبُ فيه هيِّن ، لما أن المخاطَب هناك المؤمنون ، وظاهرٌ أنهم سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمراد بالحجارة الأصنامُ ، وبالناس أنفسُهم حسبما ورد في قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } الآية .
{ أُعِدَّتْ للكافرين } أي هيئت للذين كفروا بما نزلناه وجعلت عِدةً لعذابهم والمرادُ إما جنسُ الكفار والمخاطَبون داخلون فيهم دُخولاً أولياً ، وإما هم خاصةً ، ووضعُ الكافرين موضعَ ضميرهم لذمهم وتعليلِ الحكم بكفرهم . وقرىء ( أُعتِدت ) من العَتاد بمعنى العِدة ، وفيه دلالة على أن النارَ مخلوقةٌ موجودة الآن ، والجملة استئنافٌ لا محل لها من الإعراب مقرِّرةٌ لمضمون ما قبلها ، ومؤكدةٌ لإيجاب العمل به ، ومبيِّنةٌ لمن أريد بالناس دافعةٌ لاحتمال العموم ، وقيل : حال بإضمار قد من النار ، لا من ضميرها في وَقودها ، لما في ذلك من الفصل بينهما بالخبر ، وقيل : صلةٌ بعد صلةٍ أو عطفٌ على الصلة بترك العاطف .(1/85)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
{ وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ } أي بأنه منزلٌ من عند الله عز وجل ، وهو معطوف على الجملة السابقة لكن لا على أن المقصودَ عطفُ نفس الأمرِ حتى يُطلبَ له مَشاكِلٌ يصِحُّ عطفَه عليه ، بل على أنه عطفُ قصةِ المؤمنين بالقرآن ، ووصفِ ثوابهم ، على قصة الكافرين به وكيفيةِ عقابهم ، جرياً على السُنة الإلهية من شفْع الترغيب بالترهيب ، والوعدِ بالوعيد ، وكان تغييرُ السبك لتخييل كمالِ التباين بين حالي الفريقين ، وقرىء وبُشرِّ على صيغة الفعل مبنياً للمفعول عطفاً على أعِدَّت ، فيكونُ استئنافاً ، وتعليقُ التبشير بالموصول للإشعار بأنه معلل بما في حيز الصلة من الإيمان والعمل الصالح ، لكن لا لذاتهما ، فإنهما لا يكافِئان النعمَ السابقة فضلاً من أن يقتضِيا ثواباً فيما يستقبل ، بل بجعل الشارعِ ، ومقتضى وعدِه وجعل صلتِه فعلاً مفيداً للحدوث بعد إيرادِ الكفارِ بصيغة الفاعل لحثِّ المخاطبين بالاتقاء على إحداث الإيمان ، وتحذيرِهم من الاستمرار على الكفر ، والخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : لكل من يتأتَّى منه التبشير ، كما في قوله عليه السلام : " بشر المشّائين إلى المساجد في ظلم الليالي بالنور التام يوم القيامة " فإنه عليه السلام لم يأمُر بذلك واحداً بعينه بل كلَّ أحد ممن يتأتى منه ذلك ، وفيه رمزٌ إلى أن الأمر لعِظَمه وفخامة شأنه حقيقٌ بأن يتولى التبشيرَ به كلُّ من يقدر عليه ، والبِشارة الخبرُ السار الذي يظهر به أثر السرور في البشرة ، وتباشيرُ الصبح أوائلُ ضوئه { وَعَمِلُواْ الصالحات } الصالحة كالحسنة في الجريان مَجرى الاسم ، وهي كلُّ ما استقام من الأعمال بدليل العقلِ والنقلِ ، واللام للجنس ، والجمعُ لإفادة أن المرادَ بها جملةٌ من الأعمال الصالحة التي أشير إلى أمهاتها في مطلع السورةِ الكريمة ، وطائفةٌ منها متفاوتةٌ حسبَ تفاوتِ حال المكلفين في مواجب التكليف ، وفي عطف العملِ على الإيمان دلالةٌ على تغايرهما وإشعارٌ بأن مدار استحقاقِ البشارةِ مجموعُ الأمرين ، فإن الإيمان أساسٌ والعملُ الصالح كالبناء عليه ولا غَناءَ بأساس لا بناءَ به .
{ أَنَّ لَهُمْ جنات } منصوبٌ بنزع الخافض وإفضاءِ الفعل إليه ، أو مجرور بإضماره مثل : «الله لأفعلنّ» والجنةُ هي المرة من مصدر جَنَّه إذا ستره ، تُطلق على النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانِه ، قال زهير :
كأنّ عينَيَّ في غَرْبيِّ مقتلة ... من النواضِحِ تسقي جنةً سَحَقا
أي نخلاً طوالاً كأنها لفرطِ تكاثفِها والتفافِها وتغطيتها لما تحتها بالمرة نفسُ السُترة وعلى الأرض ذاتُ الشجر ، قال الفراء : الجنة ما فيه النخيل ، والفِردوسُ ما فيه الكَرْم ، فحقُ المصدر حينئذ أن يكونَ مأخوذاً من الفعل المبني للمفعول وإنما سميت دارَ الثواب بها مع أن فيها ما لا يوصف من الغُرفات والقصور لما أنها مناطُ نعيمها ، ومعظمُ ملاذها ، وجمعها مع التنكير لأنها سبعٌ على ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما : جنةُ الفردوس ، وجنة عدْن ، وجنة النعيم ، ودارُ الخلد ، وجنةُ المأوى ، ودارُ السلام ، وعِلِّيُّون .(1/86)
وفي كل واحدة منها مراتبُ ودرجاتٌ متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال وأصحابها .
{ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار } في حيز النصب على أنه صفةُ جنات . فإن أريد بها الأشجارُ فجريانُ الأنهار من تحتها ظاهر ، وإن أريد بها الأرضُ المشتملة عليها فلا بد من تقدير مضافٍ أي من تحت أشجارِها وإن أريد بها مجموعُ الأرض والأشجار فاعتبارُ التحتية بالنظر إلى الجزء الظاهِرِ المصحِّح لإطلاق اسم الجنة على الكل .
عن مسروق : أن أنهارَ الجنة تجري في غير أخدود ، واللامُ في الأنهار للجنس ، كما في قولك : لفلان بستانٌ فيه الماءُ الجاري والتينُ والعنب ، أو عِوَضٌ عن المضاف إليه كما في قوله تعالى : { واشتعل الرأس شَيْباً } أو للعهد ، والإشارة إلى ما ذكر في قوله عز وعلا : { مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون } الآية . والنهَرُ بفتح الهاء وسكونها المجرَى الواسعُ فوق الجَدْول ودون البحر كالنيل والفرات ، والتركيبُ للسَّعة ، والمرادُ بها ماؤها على الإضمار أو على المجاز اللغوي ، أو المجاري أنفسُها ، وقد أسند إليها الجريانُ مجازاً عقلياً كما في سال الميزاب .
{ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذى رُزِقْنَا } صفة أخرى لجنات ، أخِّرت عن الأولى لأن جريان الأنهار من تحتها وصفٌ لها باعتبار ذاتها ، وهذا وصفٌ لها باعتبار أهلِها المتنعِّمين بها ، أو خبرُ مبتدأ محذوف ، أو جملة مستأنفة ، كأنه حين وُصفت الجناتُ بما ذكر من الصفة وقع في ذهن السامع أثمارها كثمار جناتِ الدنيا أولاً ، فبيّن حالُها ، و ( كلما ) نصبٌ على الظرفية ، ورزقاً مفعول به ، ومن الأولى والثانية للابتداء واقعتان موقعَ الحال ، كأنه قيل : كلَّ وقت رزقوا ، مرزوقاً مبتدأ ، من الجنات مبتدأً من ثمرة على أن الرزق مقيدٌ بكونه مبتدأ من الجنات ، وابتداؤه منها مقيدٌ بكونه مبتدأً من ثمرة ، فصاحبُ الحال الأولى رزقاً ، وصاحبُ الثانية ضميرُه المستكنّ في الحال ، ويجوز كونُ ( من ثمرة ) بياناً قُدّم على المبين كما في قولك : رأيت منك أسداً ، وهذا إشارةٌ إلى ما رزقوا ، وإن وقعت على فرد معين منه كقولك مشيراً إلى نهر جارٍ : هذا الماءُ لا ينقطع ، فإنك ( إنما ) أشرتَ إلى ما تعايِنهُ بحسب الظاهر لكنك إنما تعني بذلك النوعَ المعلومَ المستمر ، فالمعنى هذا مثلُ الذي رزقناه { مِن قَبْلُ } ، أي من قبل هذا في الدنيا ، ولكن لما استحكم الشبَهُ بينهما جُعل ذاتُه ذاتَه ، وإنما جُعل ثمرُ الجنة كثمار الدنيا لتميل النفسُ إليه حين تراه ، فإن الطباعَ مائلة إلى المألوف متنفِّرة عن غير المعروف ، وليتبين لها مزّيته وكُنهُ النعمة فيه إذ لو كان جنساً غيرَ معهود لظُن أنه لا يكون إلا كذلك أو مثلُ الذي رُزقناه من قبل في الجنة لأن طعامَها متشابهُ الصور كما يحكى عن الحسن رضي الله عنه أن أحدَهم يؤتى الصَّحْفة فيأكلُ منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثلَ الأولى فيقول ذلك : فيقول الملكُ : كلْ فاللونُ واحدٌ والطعمُ مختلف ، أو كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :(1/87)
« والذي نفسي بيده إن الرجلَ من أهل الجنة ليتناول الثمرةَ ليأكُلَها فما هي واصلةٌ إلى فيه حتى يُبدِّلَ الله تعالى مكانها مثلَها » والأول أنسبُ لمحافظة عمومِ كلما ، فإنه يدل على ترديدهم هذه المقالةَ كلَّ مرة رزقوا لا فيما عدا المرةَ الأولى يُظهرون بذلك التبجحَ ، وفرطَ الاستغراب لما بينهما من التفاوت العظيم من حيث اللذةُ مع اتحادهما في الشكل واللون ، كأنهم قالوا : هذا عينُ ما رُزقناه في الدنيا فمن أين له هذه الرتبةُ من اللذة والطيب .
ولا يقدُح فيه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من أنه ليس في الجنة من أطعمة في الدنيا إلا الاسمُ ، فإن ذلك لبيان كمالِ التفاوتِ بينهما من حيث اللذةُ والحُسنُ والهيئة لا لبيانِ ألا تشابُهَ بينهما أصلاً ، كيف لا وإطلاقُ الأسماء منوطٌ بالاتحاد النوعيّ قطعاً ، هذا وقد فُسّرت الآيةُ الكريمة بأن مستلذاتِ أهلِ الجنة بمقابلة ما رزقوه في الدنيا من المعارف والطاعات متفاوتةُ الحال ، فيجوز أن يريدوا هذا ثوابُ الذي رزقناه في الدنيا من الطاعات ، ولا يساعده تخصيصُ ذلك بالثمرات ، فإن الجنة وما فيها من فنون الكرامات من قبيل الثواب .
{ وَأُتُواْ بِهِ متشابها } اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبله والضميرُ المجرورُ على الأول راجعٌ إلى ما دل عليه فحوى الكلام مما رزقوا في الدارين كما في قوله تعالى : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا } أي بجنسي الغني والفقير ، وعلى الثاني إلى الرزق { وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ } أي مما في نساء الدنيا من الأحوال المستقذرة كالحيْض والدَرن ودنَس الطبع وسوءِ الخلق ، فإن التطهرَ يستعمل في الأجسام والأخلاق والأفعال ، وقرىء مطهَّراتٌ ، وهما لغتان فصيحتان ، يقال : النساءُ فعلت وفعلن وهن فاعلةٌ وفواعل ، وقال :
وإذا العذارى بالدُّخان تقنَّعت ... واستعجلت نصبَ القدور فمَلَّتِ
فالجمع على اللفظ ، والإفراد على تأويل الجماعة ، وقرىء ( مطَّهِرة ) بتشديد الطاء وكسر الهاء بمعنى متطهرة ومطَّهِرة أبلغُ من طاهرة ومتطهرة ، للإشعار بأن مُطَهِّراً طهرهن ، وما هو إلا الله سبحانه وتعالى . وأما التطهر فيحتمل أن يكون من قبل أنفسهن كما عند اغتسالهن ، والزوجُ يطلق على الذكر والأنثى ، وهو في الأصل اسم لما له قرينٌ من جنسه ، وليس في مفهومه اعتبارُ التوالد الذي هو مدارُ بقاءِ النوعِ حتى لا يصِحَّ إطلاقُه على أزواج أهلِ الجنة لخلودهم فيها ، واستغنائهم عن الأولاد ، كما أن المداريةَ لبقاء الفردِ ليست بمعتبرة في مفهومِ اسمِ الرزق حتى يُخِلَّ ذلك بإطلاقه على ثمار الجنة .
{ وَهُمْ فِيهَا خالدون } أي دائمون ، والخلودُ في الأصل الثباتُ المديد دامَ أو لم يدُمْ ، ولذلك قيل : للأثافي والأحجارِ الخوالدُ وللجُزءِ الذي يبقى من الإنسان على حاله خالد ، ولو كان وضعه للدوام لما قُيِّد بالتأبيد في قوله عز وعلا :(1/88)
{ خالدين فِيهَا أَبَداً } ولَما استُعمل حيث لا دوام فيه لكن المرادَ ههنا الدوامُ قطعاً لما يُفضي به من الآيات والسنن ، وما قيل من أن الأبدانَ مؤلفةٌ من الأجزاءِ المتضادة في الكيفية معرَّضة للاستحالات المؤديةِ إلى الانحلال والانفكاكِ مدارُه قياسُ ذلك العالمِ الكاملِ بما يشاهَد في عالم الكوْن والفساد ، على أنه يجوز أن يُعيدَها الخالق تعالى بحيث لا يعتوِرُها الاستحالة ، ولا يعتريها الانحلالُ قطعاً ، بأن تُجعلَ أجزاؤها متفاوتةً في الكيفيات متعادلةً في القوى ، بحيث لا يقْوَى شيءٌ منها عند التفاعُل على إحالةِ الآخر ، متعانقةً متلازمةً لا ينفك بعضُها عن بعض ، وتبقى هذه النسبةُ متحفظةً فيما بينها أبداً لا يعتريها التغيرُ بالأكل والشرب والحركات وغيرِ ذلك .
واعلم أن معظمَ اللذاتِ الحسية لما كان مقصوراً على المساكن والمطاعم والمناكِح حسبما يقضي به الاستقراءُ ، وكان مَلاكُ جميع ذلك الدوامَ والثباتَ إذ كلُّ نعمة وإن جلت حيث كانت في شرف الزوال ومعرِضِ الاضمحلال فإنها منغِّصةٌ غيرُ صافيةٍ من شوائب الألم بَشَّر المؤمنين بها وبدوامها تكميلاً للبهجة والسرور ، اللهم وفقنا لمراضيك ، وثبتنا على ما يؤدي إليها من العقْد والعمل .(1/89)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
{ إِنَّ الله لاَ * يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً } شروع في تنزيه ساحةِ التنزيل عن تعلق ريبٍ خاصَ اعتراهم من جهة ما وقع فيه من ضرب الأمثال وبيانٌ لحكمته ، وتحقيقٌ للحق إثرَ تنزيهها عما اعتراهم من مطلق الريب بالتحدِّي ، وإلقامِ الحجر ، وإفحامِ كافة البلغاء من أهل المدَر والوبَر . روى أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن المنافقين طعَنوا في ضرب الأمثال بالنارِ والظلماتِ والرعدِ والبرق ، وقالوا : الله أجلُّ وأعلى من ضرب الأمثال . وروى عطاءٌ رضي الله عنه : أن هذا الطعنَ هذا كان من المشركين .
ورُوي عنه أيضاً أنه لما نزل قوله تعالى : { يأَيُّهَا الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ } الآية ، وقوله تعالى : { مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء } الآية ، قالت اليهود : أيُّ قدْرٍ للذباب والعنكبوت حتى يضرِب الله تعالى بهما وجعلوا ذلك ذريعة إلى إنكار كونِه من عند الله تعالى ، مع أنه لا يخفى على أحد ممن له تمييزٌ أنه ليس مما يتصور فيه الترددُ فضلاً عن النكير ، بل هو من أوضح أدلةِ كونِه خارجاً عن طَوْق البشر ، نازلاً من عند خلاق القُوى والقدَر ، كيف لا وإن التمثيل كما مر ليس إلا إبرازاً للمعنى المقصودِ في معرض الأمرِ المشهود ، وتحلية المعقولِ بحِلْية المحسوس ، وتصويرُ أوابد المعاني بهيئة المأنوس ، لاستمالة الوهم واستنزالِه عن معارضتِه للعقل ، واستعصائه عليه في إدراك الحقائق الخفية ، وفهمِ الدقائق الأبية ، كي يتابعَه فيما يقتضيه ويشايعُه إلى ما يرتضيه ، ولذلك شاعت الأمثالُ في الكتب الإلهية والكلمات النبويةِ وذاعت في عبارات البلغاء وإشارات الحكماء ، ومن قضية وجوبِ التماثل بين الممثَّل والممثَّل به في مناط التمثيل تمثيلُ العظيم بالعظيم ، والحقير بالحقير ، وقد مُثل في الإنجيل غلُّ الصدر بالنُخالة ، ومعارضةُ السفهاء بإثارة الزنابير ، وجاء في عبارات البلغاء : أجمعُ مِنْ ذرةٍ ، وأجرأ من الذباب ، وأسمع من قُراد ، وأضعفُ من بعوضة ، إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصر .
والحياء تغيُر النفس وانقباضُها عما يُعاب به أو يُذم عليه ، يقال : حيي الرجل وهو حَيِيٌّ ، واشتقاقه من الحياة اشتقاقَ شظِي وحشِي ونسِيَ من الشظي والنسْي والحشي ، يقال : شظِي الفرس ونسي وحشي إذا اعتلت منه تلك الأعضاء كأن من يعتريه الحياء تعتل قوتُه الحيوانية وتنتقص ، واشتكى بمعناه خلا أنه يتعدى بنفسه وبحرف الجر ، يقال : استحييتُه واستحييتُ منه ، والأول لا يتعدى إلا بحرف الجر ، وقد يحذف منه إحدى الياءين ، ومنه قوله :
ألا يستحي منا الملوك ويتقى ... محارمَنا لا يبوء الدمُ بالدم
وقولُه :
إذا ما استحَيْنَ الماءَ يعرِضُ نفسه ... كَرَعن بسبْتٍ في إناءٍ من الورد
فكما أنه إذا أسند إليه سبحانه بطريق الإيجاب في مثل قوله صلى الله عليه وسلم : « إن الله يستحْيي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه »(1/90)
وقوله عليه السلام : « إن الله حِييّ كريمٌ يستحيي إذا رفع إليه العبدُ يديه أن يُردَّهما صِفراً حتى يضع فيهما خيراً » ، يراد به الترك الخاصُّ على طريقة التمثيل حيث مُثل في الحديثين الكريمين تركهُ تعذيبَ ذي الشيبة ، وتخييبُ العبد من عطائه بترك مَنْ يتركهما حياءً ، كذلك إذا نُفي عنه تعالى في المواد الخاصة كما في هذه الآية الشريفة ، وفي قوله تعالى : { والله لاَ يَسْتَحْىِ * مِنَ الحق } يراد به سلبُ ذلك التركِ الخاصِّ المضاهي لترك المستحي عنه ، لا سلبُ وصفِ الحياء عنه تعالى رأساً ، كما في قولك : إن الله لا يوصف بالحياء ، لأن تخصيصَ السلب ببعض الموادِّ يوهم كونَ الإيجاب من شأنه تعالى في الجملة ، فالمراد ههنا عدمُ ترك ضربِ المثل المماثل لترك من يستحي مِنْ ضَرْبه ، وفيه رمز إلى تعاضُد الدواعي إلى ضربه وتآخُذ البواعث إليه ، إذ الاستحياءُ إنما يُتصور في الأفعال المقبولة للنفس ، المرضية عندها ، ويجوز أن يكون ورودُه على طريقة المشاكلة ، فإنهم كانوا يقولون : أما يستحي ربُّ محمدٍ أن يضرِب مثلاً بالأشياء المُحَقّرة ، كما في قول من قال :
مَنْ مبلغٌ أفناءَ يعرُبَ كلَّها ... أني بنيتُ الجارَ قبل المنزل
وضرب المثل استعمالُه في مضرِبه وتطبيقُه به لا صنعُه وإنشاؤه في نفسه ، وإلا لكان إنشاء الأمثال السائرةِ في مواردها ضرباً لها دون استعمالها بعد ذلك في مضاربها ، لفقدان الإنشاء هناك . والأمثالُ الواردة في التنزيل وإن كان استعمالُها في مضاربها عينَ إنشائها في أنفسها ، لكن التعبيرَ عنه بالضرب ليس بهذا الاعتبار ، بل بالاعتبار الأولِ قطعاً ، وهو مأخوذ إما من ضرب الخاتم بجامع التطبيق ، فكما أن ضربَه تطبيقُه بقالبه ، كذلك استعمالُ الأمثال في مضاربها تطبيقُها بها ، كأن المضاربَ قوالبُ تُضرب الأمثالُ على شاكلتها ، لكن لا بمعنى أنها تنشأ بحسَبها بعد أن لم تكنْ كذلك ، بل بمعنى أنها تورَدُ منطبقة عليها سواءٌ كان إنشاؤها حينئذ كعامة الأمثالِ التنزيلية ، فإن مضاربها قوالبُها ، أو قبل ذلك كسائر الأمثال السائرة ، فإنها وإن كانت مصنوعةً من قبلُ إلا أن تطبيقها أي إيرادَها منطبقةً على مضاربها إنما يحصُل عند الضرب ، وإما من ضرب الطين على الجدار ليلتزق به بجامع الإلصاق ، كأنه من يستعملها يُلصِقها بمضاربها ويجعلها ضربةَ لازب لا تنفك عنها لشدة تعلّقها بها .
ومحلُّ ( أن يضرب ) على تقدير تعدية يستحي بنفسه النصبُ على المفعولية ، وأما على تقدير تعديته بالجار فعند الخليل الخفضُ بإضمار مِن ، وعند سيبويه النصبُ بإفضاء الفعل إليه بعد حذفها ، و ( مثلاً ) مفعول ليضرب ، وما اسمية إبهامية تزيد ما تقارنه من الاسم المنكر إبهاماً وشياعاً ، كما في قولك : أعطني كتاباً ما ، كأنه قيل مثلاً ما من الأمثال ، أيَّ مثلٍ كان . فهي صفة لما قبلها ، أو حرفية مزيدة لتقوية النسبةِ وتوكيدها كما في قوله تعالى :(1/91)
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله } وبعوضةً بدل من مثلاً أو عطف بيان عند من يجوِّزه في النكرات ، أو مفعول ليضرب ومثلاً حال تقدمت عليها لكونها نكرة ، أو هما مفعولاه لتضمنه معنى الجعل والتصيير ، وقرىء بالرفع على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي هو بعوضة .
والجملة على تقدير كون ما موصولةً صلة لها محذوفة الصدر كما في قوله تعالى : { تَمَامًا عَلَى الذى أَحْسَنَ } على قراءة الرفع ، وعلى تقدير كونها موصوفة لها كذلك ، ومحل ما ، على الوجهين النصبُ على أنه بدل من مثلاً ، أو على أنه مفعول ليضرب ، وعلى تقدير كونِها إبهاميةً صفةٌ لمثَلاً كذلك ، وأما على تقدير كونِها استفهاميةً فهي خبرٌ لها ، كأنه لما رُدّ استبعادُهم ضربَ المثل قيل : ما بعوضة ، وأيُّ مانع فيها حتى لا يُضرب بها المثل ، بل له تعالى أن يمثل بما هو أصغر منها وأحقر كجناحها على ما وقع في قوله صلى الله عليه وسلم : « لو كانت الدنيا تزن عند الله جناحَ بعوضةٍ ما سقى الكافرَ منها شربة ماء » والبعُوض فعُول من البعض وهو القطع كالبَضْع والعَضْب غلب على هذا النوع كالخُموش في لغة هذيل من الخمش وهو الخَدْش .
{ فَمَا فَوْقَهَا } عطف على بعوضة على تقدير نصبها على الوجوه المذكورة وما موصولة أو موصوفة صلتَها أو صفتُها الظرفُ ، وأما على تقدير رفعها فهو عطفٌ على ما الأولى على تقدير كونِها موصولةً أو موصوفة ، وأما على تقدير كونِها استفهاميةً فهو عطفٌ على خبرها أعني بعوضة لا على نفسها كما قيل ، والمعنى ما بعوضة فالذي فوقها أو فشيءٌ فوقها ، حتى لا يُضْرَب بها المثل ، وكذا على تقدير كونِها صفةً للنكرة أو زائدة ، وبعوضة خبرٌ للمضمر ، وذكرُ البعوضة فما فوقها من بين أفراد المَثَل إنما هو بطريق التمثيل دون التعيين والتخصيص ، فلا يُخل بالشيوع بل يقرّره ويؤكده بطريق الأولوية ، والمراد بالفوقية إما الزيادةُ في المعنى الذي أريد بالتمثيل أعني الصِّغَر والحقارة ، وإما الزيادةُ في الحجم والجُثة لكن لا بالغاً ، بل في الجملة كالذباب والعنكبوت .
وعلى التقدير الأول يجوز أن تكون ما الثانية خاصة استفهاميةً إنكارية والمعنى : إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضةً فأيَّ شيء فوقها في الصغر والحقارة ، فإذن له تعالى أن يمثّل بكل ما يريد ، ونظيرُه في احتمال الأمرين ما رُوي أن رجلاً بمِنىً خرَّ على طُنُب فُسطاط فقالت عائشة رضي الله عنها حين ذكر لها ذلك : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما من مسلم يُشاك شوْكةً فما فوقها إلا كُتبت له بها درجة ومُحِيَتْ عنه بها خطيئة » فإنه يحتمل ما يجاوز الشوكة في القِلة كنَخْبة النملة بقوله عليه السلام : « ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارةٌ لخطاياه حتى نَخبةُ النملة »(1/92)
وما تجاوزها من الألم كأمثال ما حكي من الحَرور .
{ فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ } شروع في تفصيل ما يترتب على ضرب المثل من الحُكم إثرَ تحقيق حقية صدوره عنه تعالى . والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما يدل عليه ما قبلها ، كأنه قيل : فيضرِبه فأما الذين الخ ، وتقديمُ بيانِ حال المؤمنين على ما حكي من الكفرة مما لا يفتقر إلى بيان السبب ، وفي تصدير الجُملتين بأما من إحْماد أمرِ المؤمنين وذمِّ الكفرة ما لا يخفى ، وهو حرف متضمنٌ لمعنى الشرط ، وفعلُه بمنزلة مهما يكن من شيء ، ولذلك يُجاب بالفاء ، وفائدتُه توكيد ما صُدِّر به وتفصيلُ ما في نفس المتكلم من الأقسام ، فقد تُذكر جميعاً وقد يُقتصر على واحد منها ، كما في قوله عز من قائل : { فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } الخ ، قال سيبويه : ( أما ) زِيد معناه مهما يكن من شيء فهو ذاهب لا محالة ، وأنه منه عزيمة ، وكان الأصلُ دخولَ الفاء على الجملة لأنها الجزاءُ لكن كرِهوا إيلاءَها حرفَ الشرط ، فأدخلوها الخبرَ وعُوِّض المبتدأ عن الشرط لفظاً ، والمراد بالموصول فريقُ المؤمنين المعهودين كما أن المرادَ بالموصول الآتي فريقُ الكفرة لا مَنْ يؤمِنُ بضرب المثل ، ومَنْ يكفرُ به ، لاختلال المعنى أيْ فأما المؤمنين فيعلمون . . .
{ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبّهِمْ } كسائر ما ورد منه تعالى ، والحقُّ هو الثابت الذي يحِق ثبوتُه لا محالة ، بحيث لا سبيل للعقل إلى إنكاره لا الثابتُ مطلقاً ، واللامُ للدلالة على أنه مشهود له بالحقية ، وأن له حِكَماً ومصالحَ ، ومن لابتداء الغايةِ المجازية ، وعاملُها محذوفٌ وقع حالاً من الضمير المستكنِّ في الحق ، أو من الضمير العائد إلى المثَل ، أو إلى ضَرْبه ، أي كائناً وصادراً من ربهم ، والتعرضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لتشريفهم ، وللإيذان بأن ضرْبَ المَثَل تربيةٌ لهم ، وإرشادٌ إلى ما يوصلهم إلى كمالهم اللائق بهم ، والجملةُ سادّةٌ مسدَّ مفعوليْ ( يعلمون ) عند الجمهور ، ومسدُّ مفعولِه الأول والثاني محذوفٌ عند الأخفش ، أي فيعلمون حقيتَه ثابتةً ، ولعل الاكتفاءَ بحكاية علمهم المذكورِ عن حكاية اعترافِهم بموجبه كما في قوله تعالى : { والرسخون فِي العلم يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا } للإشعار بقوة ما بينهما من التلازم وظهورِه المُغني عن الذكر .
{ وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ } ممن حُكيت أقوالُهم وأحوالُهم { فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } أُوثر يقولون على لا يعلمون حسبما يقتضيه ظاهرُ قرينِه دلالةً على كمال غلوِّهم في الكفر ، وترامي أمرِهم في العتو ، فإن مجردَ عدمِ العلم بحقيته ليس بمثابة إنكارِها ، والاستهزاءُ به صريحاً وتمهيداً لتعداد ما نُعيَ عليهم في تضاعيف الجواب من الضلال والفِسقِ ونقضِ العهد وغيرِ ذلك من شنائعهم المترتبةِ على قولهم المذكور .
على أن عدمَ العلم بحقيّته لا يعمُّ جميعَهم ، فإن منهم من يعلم بها ، وإنما يقول ما يقول مكابرةً وعناداً ، وحملُه على عدم الإذعان والقبولِ الشاملِ للجهل والعنادِ تعسفٌ ظاهر .(1/93)
هذا وقد قيل كان من حقه وأما الذين كفروا فلا يعلمون ، ليطابقَ قرينَه ويقابلَ قسيمَه ، لكن لما كان قولُهم هذا دليلاً واضحاً على جهلهم عُدل إليه على سبيل الكنايةِ ليكون كالبرهان عليه ، فتأمل وكن على الحق المبين .
و ( ماذا ) إما مؤلفةٌ من كلمة استفهامٍ وقعتْ مبتدأ خبرُه ذا بمعنى الذي ، وصلتُه ما بعده ، والعائدُ محذوف ، فالأحسنُ أن يجيء جوابُه مرفوعاً ، وإما مُنَزَّلةٌ منزلةَ اسمٍ واحد بمعنى أيُّ شيء ، فالأحسنُ في جوابه النصبُ ، والإرادةُ نزوعُ النفسِ وميلُها إلى الفعل بحيث يحمِلها إليه أو القوةُ التي هي مبدؤه ، والأول مع الفعل ، والثاني قبله ، وكلاهما مما لا يتصور في حقه تعالى ، ولذلك اختلفوا في إرادته عز وجل ، فقيل إرادتُه تعالى لأفعاله كونُه غيرَ ساه فيها ولا مُكْرهٍ ، ولأفعال غيرِه أمرُه بها ، فلا تكون المعاصي بإرادته تعالى ، وقيل هي علمُه باشتمال الأمر على النظام الأكمل ، والوجه الأصلح ، فإنه يدعو القادرَ إلى تحصيله ، والحقُّ عبارةٌ عن ترجيح أحد طرفي المقدورِ على الآخر وتخصيصُه بوجه دون وجه أو معنى يوجبه ، وهي أعمُّ من الاختيار ، فإنه ترجيحٌ مع تفضيل ، وفي كلمة ( هذا ) تحقيرٌ للمشار إليه واسترذال له ومثَلاً نُصب على التمييز أو على الحال كما في قوله تعالى : { نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً } وليس مرادُهم بهذه العظيمة استفهامَ الحكمةِ في ضرب المثل ولا القدْحَ في اشتماله على الفائدة مع اعترافهم بصدوره عنه جل وعلا ، بل غرضُهم التنبيهُ بادعاء أنه من الدناءة والحقارةِ بحيث لا يليق بأن يتعلقَ به أمرٌ من الأمور الداخلةِ تحت إرادته تعالى ، على استحالة أن يكون ضربُ المثل به من عنده سبحانه ، فقوله عز من قائل : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } جوابٌ عن تلك المقالة الباطلة ، وردٌّ لها ببيان أنه مشتملٌ على حكمةٍ جليلة وغايةٍ جميلة هي كونُه ذريعةً إلى هداية المستعدِّين للهداية ، وإضلالِ المنهمكين في الغَواية ، فوُضِعَ الفعلان موضعَ الفعل الواقع في الاستفهام مبالغةٌ في الدلالة على تحققهما ، فإن إرادتَهما دون وقوعِهما بالفعل وتجافياً عن نظم الإضلال مع الهداية في سلك الإرادة لإيهامه تساويهما في تعلقهما ، وليس كذلك ، فإن المرادَ بالذات من ضرب المثل هو التذكرُ والاهتداءُ كما ينبىء عنه قوله تعالى : { وَتِلْكَ الامثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } ونظائرُه .
وأمالإضلالُ فهو أمر عارضٌ مترتب على سوء اختيارهم ، وأوثر صيغةُ الاستقبال إيذاناً بالتجدّد والاستمرار ، وقيل : وُضع الفعلان موضعَ مصدرٍ ، كأنه قيل : أراد إضلالَ كثيرٍ وهدايةَ كثير ، وقُدِّم الإضلالُ على الهداية مع تقدم حال المهتدين على حال الضالين فيما قبله ليكون أولُ ما يقرَعُ أسماعَهم من الجواب أمراً فظيعاً يسوءُهم ويفُتَّ في أعضادهم ، وهو السرُّ في تخصيص هذه الفائدة بالذكر وقيل : هو بيانٌ للجملتين المصدّرتين بأما ، وتسجيلٌ بأن العلم بكونه حقاً هدى ، وأن الجهلَ بوجهِ إيرادِه والإنكارِ لحُسن موردِه ضلالٌ وفسوقٌ ، وكثرةُ كل فريقٍ إنما هي بالنظر إلى أنفسها لا بالقياس إلى مقابليهم فلا يقدح في ذلك أقلية أهل الهدى بالنسبة إلى أهل الضلالِ حسبما نطَق به قولُه تعالى :(1/94)
{ وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور } ، ونحو ذلك . واعتبار كثرتهم الذاتية دون قلتهم الإضافية لتكميل فائدة ضربِ المثل وتكثيرِها ، ويجوز أن يراد في الأولين الكثرةُ من حيث العددُ وفي الآخَرين من حيث الفضلُ والشرفُ كما في قول من قال :
إن الكرامَ كثيرٌ في البلاد وإن ... قَلُّوا كما غيرهم قُلٌّ وإن كثروا
وإسنادُ الإضلال أي خلق الضلال إليه سبحانه مبنيٌّ على أن جميع الأشياء مخلوقةٌ له تعالى ، وإن كانت أفعالُ العباد من حيث الكسبُ مستندةً إليهم ، وجعلُه من قبيل إسناد الفعل إلى سببه يأباه التصريحُ بالسبب ، وقرىء ( يُضَلُّ به كثيرٌ ويهدى به كثير ) على البناء للمفعول ، وتكرير به مع جواز الاكتفاء بالأول لزيادة تقريرِ السببية وتأكيدِها { وَمَا يُضِلُّ بِهِ } أي بالمثل أو بضربه { إِلاَّ الفاسقين } عطف على ما قبله وتكملةٌ للجواب والردِّ وزيادةُ تعيينٍ لمن أريد إضلالُهم ببيان صفاتهم القبيحةِ المستتبعةِ له ، وإشارةٌ إلى أن ذلك ليس إضلالاً ابتدائياً بل هو تثبيتٌ على ما كانوا عليه من فنون الضلال وزيادةٌ فيه ، وقرىء وما يُضَل به إلا الفاسقون على البناء للمفعول ، والفِسق في اللغة الخروج ، يقال : فسَقت الرُّطْبة عن قشرها والفأرةُ من جُحرها أي خرجت ، قال رؤبة :
يذهبْن في نجدٍ وغَوْرا غائرا ... فواسقاً عن قصدها جوائرا
وفي الشريعة الخروجُ عن طاعة الله عز وجل بارتكاب الكبيرة التي من جملتها الإصرارُ على الصغيرة وله طبقاتٌ ثلاثٌ : الأولى التغابي وهو ارتكابُها أحياناً مستقبِحاً لها ، والثانية الانهماكُ في تعاطيها ، والثالثةُ المثابرة عليها مع جحود قُبحها ، وهذه الطبقةُ من مراتب الكفر فما لم يبلُغْها الفاسقُ لا يُسلب عنه اسمُ المؤمن لاتصافه بالتصديق الذي عليه يدور الإيمان ولقوله تعالى : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } والمعتزلةُ لما ذهبوا إلى أن الإيمانَ عبارةٌ عن مجموع التصديقِ والإقرارِ والعملِ ، والكفرَ عن تكذيب الحق وجحوده ، ولم يتسنَّ لهم إدخالُ الفاسقِ في أحدهما فجعلوه قسماً بين قسمي المؤمن والكافر لمشاركته كلَّ واحد منهما في بعض أحكامه . والمرادُ بالفاسقين ههنا العاتون الماردون في الكفر ، الخارجون عن حدوده ممن حُكي عنهم ما حُكي من إنكار كلامِ الله تعالى والاستهزاءِ به ، وتخصيصُ الإضلالِ بهم مترتباً على صفة الفسق وما أجريَ عليهم من القبائح للإيذان بأن ذلك هو الذي أعدَّهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال فإن كفرَهم وعدولَهم عن الحق وإصرارَهم على الباطل صرَف وجوهَ أنظارِهم عن التدبر في حكمة المثَل إلى حقارة الممثَّل به حتى رسَخت به جهالتُهم وازدادت ضلالتُهم فأنكروه وقالوا فيه ما قالوا .(1/95)
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
{ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ الله } صفةٌ للفاسقين للذم وتقريرِ ما هم عليه من الفسق ، والنقضُ فسخُ التركيب من المركبات الحسية كالحبْل والغزل ونحوهما ، واستعمالُه في إبطال العهد من حيث استعارةُ الحبل له لما فيه من ارتباط أحدِ كلامي المتعاقدَيْن بالآخر ، فإن شُفِعَ بالحبل وأريد به العهدُ كان ترشيحاً للمجاز ، وإن قُرن بالعهد كان رمزاً إلى ما هو من روادفه وتنبيهاً على مكانه ، وأن المذكور قد استُعير له كما يقال : شجاعٌ يفترس أقرانَه ، وعالمٌ يغترف منه الناسُ تنبيهاً على أنه أسدٌ في شجاعته وبحرٌ في إفاضته ، والعهدُ : المَوْثِقُ ، يقال : عهِد إليه كذا إذا وصّاه به ووثّقه عليه والمرادُ ههنا إما العهدُ المأخوذُ بالفعل وهو الحجة القائمةُ على عباده الدالةُ على وجوده ( تعالى ) ووَحدتِه وصدقِ رسولِه عليه السلام ، وبه أُوّل قولُه تعالى : { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى } ، أو المعنى الظاهرُ منه أو المأخوذُ من جهة الرسل على الأمم بأنهم إذا بعث إليهم رسولٌ مصدِّقٌ بالمعجزات صدّقوه واتبعوه ولم يكتُموا أمرَه وذِكرُه في الكتب المتقدمة ولم يخالفوا حُكمه كما ينبىء عنه قوله عز وجل : { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب } ونظائرُه ، وقيل : عهودُ الله تعالى ثلاثة ، الأولُ ما أخذه على جميع ذريةِ آدمَ عليه السلام بأن يُقرّوا به وبربوبيته ، والثاني ما أخذه على الأنبياء عليهم السلام بأن يُقيموا الدينَ ولا يتفرقوا فيه ، والثالث ما أخذه على العلماء بأن يُبينوا الحقَّ ولا يكتموه . { الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه } الميثاقُ إما اسمٌ لما يقع به الوَثاقة والإحكام ، وإما مصدرٌ بمعنى التوثقة كالميعاد بمعنى الوعد ، فعلى الأول إن رجَع الضمير إلى العهد كان المرادُ بالميثاق ما وثّقوه به من القَبول والالتزام ، وإن رجع إلى لفظ الجلالة يُراد به آياتُه وكتبُه وإنذارُ رسلِه عليهم السلام ، والمضافُ محذوفٌ على الوجهين ، أي من بعد تحقّق ميثاقِه ، وعلى الثاني إن رجَع الضميرُ إلى العهد ، والميثاقُ مصدرٌ من المبني للفاعل فالمعنى من بعد أن وثّقوه بالقبول والالتزام ، أو من بعد أن وثقه الله عز وجل بإنزال الكتب وإنذارِ الرسل ، وإن كان مصدراً من المبني للمفعول فالمعنى من بعد كونه مُوَثقاً إما بتوثيقهم إياه بالقَبول وإما بتوثيقه تعالى إياه بإنزال الكتب وإنذارِ الرسل .
{ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } يحتمل كلَّ قطيعة لا يرضى بها الله سبحانه وتعالى كقطع الرحِمِ وعدمِ موالاة المؤمنين والتفرقةِ بين الأنبياء عليهم السلام والكتب في التصديق ، وتركِ الجماعات المفروضةِ وسائرِ ما فيه رفضُ خيرٍ أو تعاطي شر ، فإنه يقطع ما بين الله تعالى وبين العبد ، من الوصلة التي هي المقصودةُ بالذات من كل وصلٍ وفصل ، والأمر هو القولُ الطالبُ للفعل مع العلو ، وقيل : بالاستعلاء ، وبه سمِّي الأمرُ الذي هو واحدُ الأمور تسميةً للمفعول بالمصدر ، فإنه مما يؤمَر به كما يقال : له شأنٌ وهو القصدُ والطلب لما أنه أثَرٌ للشأن ، وكذا يقال له شيء وهو مصدرُ شاء لما أنه أثرٌ للمشيئة ، ومحلُّ ( أن يوصل ) إما النصبُ على أنه بدلٌ من الموصول أو من ضميره والثاني أولى لفظاً ومعنى .(1/96)
{ وَيُفْسِدُونَ فِى الارض } بالمنع عن الإيمان والاستهزاءِ بالحق وقطعِ الوصل التي عليها يدور فلكُ نظام العالم وصلاحُه { أولئك } إشارة إلى الفاسقين باعتبار اتصافِهم بما فُصل من الصفات القبيحة ، وفيه إيذانٌ بأنهم متميزون بها أكملَ تميز ومنتظمون بسبب ذلك في سلك الأمور المحسوسة ، وما فيه من معنى البعد للدلالة على بعد منزلتهم في الفساد { هُمُ الخاسرون } الذين خسروا بإهمال العقلِ عن النظر واقتناصِ ما يفيدهم الحياةَ الأبدية واستبدالِ الإنكار والطعنِ في الآيات بالإيمان بها والتأملِ في حقائقها والاقتباسِ من أنوارها واشتراءِ النقض بالوفاءِ والفسادِ بالصلاح والقطيعةِ بالصلة والعقاب بالثواب .(1/97)
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله } التفات إلى خطاب المذكورين مبنيٌّ على إيراد ما عُد من قبائحهم السابقة لتزايد السَخَط الموجب للمشافهة بالتوبيخ والتقريع ، والاستفهامُ إنكاري لا بمعنى إنكار الوقوع كما في قوله تعالى : { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ } الخ ، بل المعنى إنكارُ الواقعِ واستبعادُه والتعجيبُ منه ، وفيه من المبالغة ما ليس في توجيه الإنكارِ إلى نفس الكفرِ بأن يقال : أتكفرون ، لأن كل موجودٍ يجب أن يكون وجودُه على حال من الأحوال قطعاً فإذا انتفى جميعُ أحوال وجودِه فقد انتفى وجودُه على الطريق البُرهاني ، وقوله عز وجل : { وَكُنتُمْ أمواتا } إلى آخر الآية ، حالٌ من ضمير الخطاب في تكفرون مؤكدةٌ للإنكار والاستبعادِ بما عُدِّد فيها من الشؤون العظيمة الداعيةِ إلى الإيمان الرادعةِ من الكفر من حيث كونُها نعمةً عامة ومن حيث دلالتُها على قدرة تامةٍ كقوله تعالى : { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } وكيف منصوبةٌ على التشبيه بالظرف عند سيبويه ، وبالحال عند الأخفش ، أي في أيِّ حال أو على أي حالٍ تكفُرون به تعالى ، والحالُ أنكم كنتم أمواتاً أيْ أجساماً لا حياة لها ، عناصرَ وأغذيةً ونُطفاً ومُضَغاً مخلّقةٍ وغيرَ مخلّقةٍ ، والأمواتُ جمع ميت كأقوال جمع قيل ، وإطلاقُها على تلك الأجسام باعتبار عدمِ الحياةِ مطلقاً كما في قوله تعالى : { بَلْدَةً مَّيْتاً } وقوله تعالى :
{ وَءايَةٌ لَّهُمُ الارض الميتة } { فأحياكم } بنفْخِ الأرواحِ فيكم ، والفاء للدلالة على التعقيب فإنّ الإحياءَ حاصلٌ إثرَ كونِهم أمواتاً وإنْ توارد عليهم في تلك الحالة أطوارٌ مترتبةٌ بعضُها متراخٍ عن بعض كما أشير إليه آنفاً { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } أي عند انقضاءِ آجالِكم ، وكونُ الإماتة من دلائل القدرةِ ظاهر ، وأما كونُها من النعم فلكونها وسيلةً إلى الحياة الثانية التي هي الحيَوان والنعمةُ العظمى ، والتراخي المستفادُ من كلمة ( ثم ) بالنسبة إلى زمان الإحياءِ دون زمان الحياة ، فإن زمانَ الإماتةِ غيرُ متراخٍ عنه { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } بالنشور يوم يُنفَخُ في الصور أو للسؤال في القبور ، وأياً ما كان فهو متراخٍ من زمان الإماتة ، وإن كان إثرَ زمانِ الموتِ المستمر { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } بعد الحشرِ لا إلى غيره فيجازيكم بأعمالكم إن خيراً فخيرٌ وإن شراً فشر ، أو إليه تُنْشرون من قبوركم للحساب ، وهذه الأفعالُ وإن كان بعضُها ماضياً وبعضُها مستقبلاً لا يتسنى مقارنةُ شيءٍ منها لما هو حالٌ منه في الزمان ، لكن الحالَ في الحقيقة هو العلم المتعلّقُ بها كأنه قيل : كيف تكفرون بالله وأنتم عالمون بهذه الأحوال المانعةِ منه ، ومآلُه التعجيبُ من وقوعه مع تحقق ما ينفيه ، وإنما نُظم ما ينكرونه من الإحياء الأخيرِ والرَّجْعِ في سِلك ما يعترفون به من الإحياء الأولِ والإماتةِ تنزيلاً لتمكّنهم من العلم لما عاينوه من الدلائل القاطعةِ منزلةَ العلمِ بذلك بالفعل في إزاحة العللِ والأعذار .(1/98)
والحياةُ حقيقةٌ في القوة الحساسة أو ما يقتضيها ، وبها سُمي الحيوان حيواناً ، مجازٌ في القوة النامية لكونها من طلائعها وكذا فيما يخصُّ الإنسانَ من العقل والعلم والإيمان من حيث إنه كمالُها وغايتُها ، والموتُ بإزائها يطلق على ما يقابل كلَّ مرتبة من تلك المراتب قال تعالى : { قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } وقال تعالى : { اعلموا أَنَّ الله يُحْىِ الارض بَعْدَ مَوْتِهَا } وقال تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى الناس } وعند وصفِه تعالى بها يُراد صِحةَ اتصافِه تعالى بالعلم والقدرة اللازمة لهذه القوة فينا ، أو معنى قائمٌ بذاته تعالى مقتضٍ لذلك ، وقرىء تَرجِعون بفتح التاء والأول هو الأليقُ بالمقام .(1/99)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
{ هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً } تقريرٌ للإنكار و تأكيدٌ له من الحيثيتين المذكورتين غُيِّر سبكُه عن سبك ما قبله مع اتحادهما في المقصود إبانةً لما بينهما من التفاوت ، فإن ما يتعلق بذواتهم من الإحياءِ والإماتةِ والحشرِ أدخلُ في الحث على الإيمان والكفِّ عن الكفر مما يتعلق بمعايشهم ، وما يجري مَجراها ، وفي جعل الضمير مبتدأً والموصولِ خبراً من الدلالة على الجلالة ما لا يخفى ، وتقديمُ الظرفِ على المفعول الصريحِ لتعجيل المسَرَّة ببيان كونِه نافعاً للمخاطبين وللتشويق إليه كما سلف ، أي خلق لأجلكم جميعَ ما في الأرض من الموجودات لتنتفعوا بها في أمور دنياكم بالذات أو بالواسطة وأمورِ دينكم بالاستدلال بها على شؤون الصانعِ تعالى شأنُه ، والاستشهادِ بكل واحدٍ منها على ما يلائمُه من لذّات الآخرة وآلامِها وما يعمُّ جميعَ ما في الأرض لا نَفْسَها إلا أن يُرادَ بها جهةُ السفل كما يراد بالسماء جهةُ العلو ، نعم يعمُّ كل جزءٍ من أجزائها ، فإنه من جملة ما فيها ضرورةُ وجودِ الجزءِ في الكل و ( جميعاً ) حال من الموصول الثاني مؤكدةٌ لما فيه من العموم ، فإن كلَّ فردٍ من أفرادِ ما في الأرض بل كلُّ جزءٍ من أجزاء العالم له مدخَلٌ في استمراره على ما هو عليه من النظام اللائق الذي عليه يدور انتظامُ مصالحِ الناس .
أما من جهة المعاشِ فظاهرٌ ، وأما من جهة الدينِ فلما أنه ليس في العالم شيءٌ مما يتعلق به النظرُ وما لا يتعلق به إلا وهو دليلٌ على القادر الحكيم جل جلاله كما مر في تفسير قوله تعالى : { رَبّ العالمين } وإن لم يستدِلَّ به أحد بالفعل .
{ ثُمَّ استوى إِلَى السماء } أي قصَدَ إليها بإرادته ومشيئته قصداً سوياً بلا صارف يَلويه ولا عاطفٍ يَثنيه من إرادة خلقِ شيءٍ آخَرَ في تضاعيف خلقِها أو غير ذلك ، مأخوذ من قولهم : استوى إليه كالسهم المُرْسل ، وتخصيصُه بالذكر ههنا إما لعدم تحققِه في خلق السُفليات ، لما رُوي مِنْ تخلّل خلقِ السموات بين خلقِ الأرضِ ودَحْوِها . عن الحسن رضي الله عنه : خلق الله تعالى الأرضَ في موضع بيتِ المقدس كهيئة الفِهْرِ عليها دخان يلتزقُ بها ، ثم أصعدَ الدخانَ وخلق منه السمواتِ ، وأمسك الفِهْرَ في موضعها ، وبسَط منها الأرَضين . وذلك قوله تعالى : { كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما } وإما لإظهار كمالِ العنايةِ بإبداع العُلويات ، وقيل : استوى : استولى وملك ، والأولُ هو الظاهر ، وكلمةُ ( ثم ) للإيذان بما فيه من المزِية والفضل على خلق السفليات لا للتراخي الزماني ، فإن تقدّمَه على خلق ما في الأرض المتأخرِ عن دَحْوها مما لا مِريةَ فيه لقوله تعالى : { والارض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها } ولما رُوي عن الحسن ، والمرادُ بالسماء إما الأجرامُ العلوية فإن القصدَ إليها بالإرادة لا يستدعي سابقةَ الوجود وإما جهاتُ العلو .(1/100)
{ فَسَوَّاهُنَّ } أي أتمهنّ وقوَّمهن وخلقهنّ ابتداءً مصونةً عن العِوَج والفُطورِ ، لا أنه تعالى سواهن بعد أن لم يكن كذلك ولا يخفى ما في مقارنة التسوية والاستواءِ من حُسن الموقع ، وفيه إشارة إلى ألا تغيُّرَ فيهن بالنمو والذُّبول كما في السُفليات ، والضميرُ على الوجه الأولِ للسماء لأنها في معنى الجنس ، وقيل هي جمعُ سماءةٍ أو سماوة ، وعلى الوجه الثاني مُبهمٌ يفسّره قولُه تعالى : { سَبْعَ سموات } كما في قولهم : رُبَّه رجلاً ، وهو على الوجه الأول بدلٌ من الضمير ، وتأخيرُ ذكرِ هذا الصُنع البديعِ عن ذكر خلقِ ما في الأرض مع كونه أقوى منه في الدلالة على كمال القدرةِ القاهرةِ كما نُبه عليه لما أن المنافعَ المنوطةَ بما في الأرض أكثرُ ، وتعلقَ مصالحِ الناسِ بذلك أظهر ، وإن كان في إبداع العلوياتِ أيضاً من المنافع الدينيةِ والدنيويةِ ما لا يُحصى . هذا ما قالوا ، وسيأتي في حم السجدة مزيدُ تحقيقٍ وتفصيلٍ بإذن الله تعالى .
{ وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبله من خلق السمواتِ والأرضِ وما فيهما ، على هذا النمط البديعِ المنطوي على الحِكَم الفائقةِ والمصالحِ اللائقة ، فإن علمه عز وجل بجميع الأشياءِ ظاهرِها وباطنِها بارزِها وكامنِها وما يليق بكل واحد منها يستدعي أن يخلُق كلَّ ما يخلُقه على الوجه الرائق ، وقرىء وهْو بسكون الهاء تشبيهاً له بعَضْد .(1/101)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ } بيان لأمرٍ آخرَ من جنس الأمورِ المتقدمةِ المؤكدةِ للإنكار والاستبعادِ ، فإن خلقَ آدمَ عليه السلام وما خصّه به من الكرامات السنية المحْكية من أجل النعم الداعيةِ لذريته إلى الشكر والإيمان الناهيةِ عن الكفرِ والعصيان ، وتقريرٌ لمضمون ما قبلَه من قوله تعالى : { خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً } وتوضيحٌ لكيفية التصرفِ والانتفاعِ بما فيها ، وتلوينُ الخطاب بتوجيهه إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصةً للإيذان بأن فحوى الكلامِ ليس مما يهتدى إليه بأدلة العقلِ كالأمور المشاهدة التي نبه عليها الكفَرَةَ بطريق الخطاب ، بل إنما طريقُه الوحيُ الخاصُّ به عليه السلام ، وفي التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام من الإنباء عن تشريفه عليه السلام ما لا يخفى ، وإذْ ظرفٌ موضوعٌ لزمانِ نسبةٍ ماضيةٍ وقعَ فيه نسبةٌ أخرى مثلها ، كما أن إذا موضوعٌ لزمانِ نسبةٍ مستقبلةٍ يقع فيه أخرى مثلُها ، ولذلك يجب إضافتُهما إلى الجمل ، وانتصابُه بمضمر صرح في قوله عز وجل : { واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ } وقوله تعالى : { واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ } وتوجيهُ الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات للمبالغة في إيجاب ذكرِها ، لما أن إيجابَ ذكر الوقتِ إيجابٌ لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهاني ، ولأن الوقتَ مشتمِلٌ عليها ، فإذا استُحضِر كانت حاضرةً بتفاصيلها ، كأنها مشاهَدةٌ عِياناً ، وقيل : ليس انتصابُه على المفعولية ، بل على تأويل اذكُرِ الحادث فيه بحذف المظروفِ وإقامةِ الظرفِ مُقامَه .
وأياً ما كان فهو معطوفٌ على مضمر آخرَ ينسحب عليه الكلام كأنه قيل له عليه السلام غِبَّ ما أوحيَ إليه ما خوطب به الكفرةُ من الوحي الناطقِ بتفاصيل الأمورِ السابقةِ الزاجرة عن الكفر به تعالى : ذكِّرهم بذلك واذكُرْ لهم هذه النعمةَ ليتنبهوا بذلك لبُطلان ما هم عليه وينتهوا عنه ، وأما ما قيل من أن المقدَّرَ هو اشكُر النعمةَ في خلق السمواتِ والأرض أو تدبَّرْ ذلك فغيرُ سديدٍ ضرورةَ أن مقتضى الكلام تذكيرُ المخاطبين بمواجب الشكرِ وتنبيهُهم على ما يقتضيه ، وأين ذاك من مَقامه الجليلِ صلى الله عليه وسلم ؟ وقيل : انتصابُه بقوله تعالى : قالوا ، ويأباه أنه يقتضي أن يكون هو المقصودَ بالذات دون سائرِ القصة ، وقيل : بما سبق من قوله تعالى : { وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ } ، ولا يخفى بُعدُه ، وقيل : بمضمرٍ دل عليه مضمونُ الآية المتقدمة مثل وبدأ خلقَكم إذ قال الخ . . . ولا ريب في أنه لا فائدةَ في تقييد بدءِ الخلقِ بذلك الوقت ، وقيل : بخلقكم أو بأحياكم مضمراً ، وفيه ما فيه ، وقيل : إذْ زائدة ، ويْعزى ذلك إلى أبي عبيد ومَعْمَر ، وقيل : إنه بمعنى قد ، واللامُ في قوله عز قائلاً : { للملائكة } للتبليغ ، وتقديمُ الجارِّ والمجرور في هذا الباب مطَّرِدٌ لما في المقول من الطول غالباً مع ما فيه من الاهتمام بما قُدِّم والتشويقِ إلى ما أُخِّر كما مر مراراً ، والملائكةُ جمعُ ملك باعتبار أصلِه الذي هو مَلأك على أن الهمزة مزيدة كالشمائل في جمع شمأل ، والتاء لتأكيد تأنيثِ الجماعة ، واشتقاقُه من مَلَك لما فيه من معنى الشدة والقوة ، وقيل : على أنه مقلوبٌ من مأْلَكٍ ، من الألوكة وهي الرسالة أي موضعَ الرسالة أو مرسلٌ على أنه مصدرٌ بمعنى المفعول ، فإنهم وسائطُ بين الله تعالى وبين الناسِ فهم رسلُه عز وجل ، أو بمنزلة رسلِه عليهم السلام ، واختلفت العقلاءُ في حقيقتهم بعد اتفاقِهم على أنها ذواتٌ موجودةٌ قائمةٌ بأنفسها .(1/102)
فذهب أكثرُ المتكلمين إلى أنها أجسامٌ لطيفةٌ قادرةٌ على التشكل بأشكال مختلفة ، مستدلين بأن الرسلَ كانوا يرَوُنهم كذلك عليهم السلام ، وذهب الحكماءُ إلى أنها جواهرٌ مجردةٌ مخالفةٌ للنفوس الناطقةِ في الحقيقية ، وأنها أكملُ منها قوة وأكثرُ علماً يجري منها مَجرى الشمس من الأضواء منقسمةٌ إلى قسمين : قِسمٌ شأنُهم الاستغراقُ في معرفة الحقِّ والتنزُّهِ عن الاشتغال بغيره كما نعتَهم الله عز وجل بقوله : { يُسَبّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } وهم العِلِّيُّون المقرَّبون ، وقسمٌ يدبِّرُ الأمرَ من السماء إلى الأرض حسبما جرى عليه قلمُ القضاء والقدرِ ، وهم المدبِّراتُ أمراً ، فمنهم سماويةٌ ومنهم أرضية ، وقالت طائفة من النصارى : هي النفوسُ الفاضلةُ البشرية المفارِقةُ للأبدان ، ونُقل في شرح كَثرتِهم أنه عليه السلام قال : « أَطَّتِ السَّمَاءُ وحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ ما فيها مَوضِعُ قدم إلا وفيه مَلَكٌ ساجدٌ أو راكع » وروي أن بني آدمَ عشرُ الجن ، وهما عشرُ حيوانات البَرّ ، والكلُّ عشرُ الطيور ، والكلُّ عشرُ حيوانات البحار ، وهؤلاءِ كلُّهم عشرُ ملائكةِ السماءِ الدنيا ، وكلُّ هؤلاءِ عشرُ ملائكةِ السماء الثانية ، وهكذا إلى السماء السابعة ، ثم كلُّ أولئك في مقابلة ملائكةِ الكُرسيِّ نَزْرٌ قليل ، ثم جميعُ هؤلاءِ عشرُ ملائكةِ سُرادقٍ واحدٍ من سُرادقاتِ العرش التي عددُها ستمائة ألفٍ ، طولُ كلِّ سُرادقٍ وعَرضُه وسَمكُه إذا قوبلت به السمواتُ والأرضُ وما فيهما وما بينهما لا يكونُ لها عنده قَدْرٌ محسوسٌ ، وما منه من مقدارِ شبرٍ إلا وفيه ملكٌ ساجد أو راكعٌ أو قائم ، لهم زجَلٌ بالتسبيح والتقديس .
ثم كلُّ هؤلاءِ في مقابلة الملائكةِ الذين يحومون حولَ العرش كالقَطْرةِ في البحر ، ثم ملائكةُ اللوحِ الذين هم أشياعُ إسرافيلَ عليه السلام والملائكةُ الذين هم جنودُ جبريلَ عليه السلام لا يُحصي أجناسَهم ولا مُدةُ أعمارِهم ولا كيفياتُ عباداتهم إلا بارِئهُم العليمُ الخبير على ما قال تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ } وروي أنه عليه السلام حين عُرج به إلى السماء رأى ملائكةً في موضعٍ بمنزلةِ شرفٍ يمشي بعضُهم تُجاهَ بعض ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريلَ عليه السلام إلى أين يذهبون؟ فقال جبريلُ : لا أدري إلا أني أراهم منذ خلقتُ ولا أرى واحداً منهم قد رأيته قبل ذلك ، ثم سألا واحداً منهم منذ كم خلقتَ؟ فقال : لا أدري غير أن الله عز وجل يخلُق في كل أربعمائة ألفِ سنةٍ كوكباً ، وقد خلق منذ خلقني أربعَمائة ألفِ كوكب فسبحانه مِنْ إلهٍ ما أعظمَ قدرَه وما أوسعَ ملكوتَه .(1/103)
واختُلف في الملائكة الذين قيل لهم ما قيل ، فقيل : هم ملائكةُ الأرضِ ، وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنهم المختارون مع إبليسَ حين بعثه الله عز وجل لمحاربة الجنِّ ، حيث كانوا سكانَ الأرض فأفسدوا فيها وسفَكوا الدماءَ فقتلوهم إلا قليلاً ، قد أخرجوهم من الأرض وألحقوهم بجزائرِ البحار وقُلل الجبالِ وسكنوا الأرض ، وخفف الله تعالى عنهم العبادة ، وأعطى إبليسَ مُلك الأرض ومُلك السماءِ الدنيا وخِزانةَ الجنة ، فكان يعبُد الله تعالى تارةً في الأرض وتارةً في السماء ، وأخرى في الجنة ، فأخذه العُجب ، فكان من أمره ما كان ، وقال أكثر الصحابة والتابعين رضوانُ الله تعالى عليهم أنهم كلُّ الملائكة لعموم اللفظ وعدمِ المُخصِّص .
وقولُه تعالى : { إِنّي جَاعِلٌ فِى الارض خَلِيفَةً } في حيِّز النصب على أنه مقولُ قال ، وصيغةُ الفاعل بمعنى المستقبل ، ولذلك عمِلت عملَه . وفيها ما ليس في صيغة المضارعِ من الدلالة على أنه فاعلٌ ذلك لا محالةَ وهي من الجَعْل بمعنى التصيير المتعدِّي إلى مفعولين ، فقيل : أولُهما خليفةٌ وثانيهما الظرفُ المتقدم على ما هو مقتضى الصِّناعة ، فإن مفعولي التصيير في الحقيقة اسمُ صارَ وخبرُه ، أولُهما الأول ، وثانيهما الثاني ، وهما مبتدأٌ وخبرٌ ، والأصل في الأرض خليفةٌ ثم قيل : صارَ في الأرض خليفةٌ ثم مصيرٌ في الأرض خليفةٌ فمعناه بعد اللتيا والتي : إني جاعل خليفةً من الخلائف أو خليفةً بعينه كائناً في الأرض ، فإن خبرَ صار في الحقيقة هو الكونُ المقدَّر العامل في الظرف ، ولا ريب في أن ذلك ليس مما يقتضيه المقامُ أصلاً ، وإنما الذي يقتضيه هو الإخبارُ بجعل آدمَ ( عليه السلام ) خليفةً فيها كما يعرب عنه جوابُ الملائكة عليهم السلام ، فإذن قولُه تعالى خليفةً مفعولٌ ثانٍ ، والظرفُ متعلقٌ بجاعل ، قدم على المفعول الصريح لما مر من التشويق إلى ما أُخِّر ، أو بمحذوفٍ وقع حالاً مما بعده لكونه نكرة ، وأما المفعولُ الأولُ فمحذوفٌ تعويلاً على القرينة الدالة عليه كما في قوله تعالى : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم التى جَعَلَ الله لَكُمْ قياما } حُذف فيه المفعولُ الأول وهو ضميرُ الأموالِ لدلالة الحالِ عليه وكذا في قوله تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ } حيث حُذف فيه المفعولُ الأول لدلالة يبخلون عليه . أي لا يحسبنَّ البخلاءُ بخلَهم هو خيراً لهم ، ولا ريب في تحقّق القرينةِ ههنا ، أما إنْ حُمل على الحذف عند وقوعِ المحكيِّ فهي واضحةٌ لوقوعه في أثناء ذِكْرِه عليه السلام على ما سنفصله ، كأنه قيل : إني خالق بشراً من طين وجاعلٌ في الأرض خليفة ، وإما إنْ حُمل على أنه لم يُحذفْ هناك بل قيل مثَلاً وجاعلٌ إياه خليفةً في الأرض لكنه حُذفَ عند الحكاية فالقرينةُ ما ذُكِرَ من جوابِ الملائكة عليهم السلام .(1/104)
قال العلامة الزمخشري في تفسير قوله تعالى : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّى خالق بَشَراً مّن طِينٍ } ، إن قلت : كيف صح أن يقول لهم بشراً وما عرَفوا ما البشرُ ولا عهِدوا به؟ قلت : وجهُه أن يكون قد قال لهم : إني خالقٌ خلقاً من صفته كيتَ وكيتَ ولكنه حين حكاه اقتصَر على الاسم انتهى . فحيث جاز الاكتفاءُ عند الحكاية عن ذلك التفصيلِ بمجرد الاسمِ من غير قرينةٍ تدل عليه فما ظنُك بما نحن فيه ومعه قرينةٌ ظاهرةٌ ، ويجوز أن يكون من الجعل بمعنى الخَلْق المتعدي إلى مفعولٍ واحد هو ( خليفةً ) ، وحالُ الظرفِ في التعلق والتقديم كما مر ، فحينئذ لا يكون ما سيأتي من كلام الملائكةِ مترتباً عليه بالذات بل بالواسطة ، فإنه رُوي أنه تعالى لما قال لهم : { إِنّي جَاعِلٌ فِى الارض خَلِيفَةً } قالوا : ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال تعالى : يكون له ذريةٌ يفسدون في الأرض ويتحاسَدون ويقتُلُ بعضُهم بعضاً ، فعند ذلك قالوا ما قالوا والله تعالى أعلم .
والخليفةُ من يخلُفُ غيرَه وينوب مَنابَه ، فعيل بمعنى الفاعل والتاء للمبالغة ، والمراد به إما آدمُ عليه السلام وبنوه ، وإنما اقتُصر عليه استغناءً بذكره عن ذكرهم كما يستغنى عن ذكر القبيلةِ بذكر أبيها كمُضَرَ وهاشمٍ ، ومنه «الخلافةُ في قريش» وإما مَنْ يخلُف أو خلف يخلُف فيعمُّه عليه السلام وغيرَه من خلفاءِ ذريتِه ، والمرادُ بالخلافة إما الخلافةُ من جهته سبحانه في إجراء أحكامِه وتنفيذِ أوامره بين الناس وسياسةِ الخلقِ لكن لا لحاجةٍ به تعالى إلى ذلك بل لقصور استعدادِ المستخلَف عليهم ، وعدمِ لياقتِهم لقبول الفيضِ بالذات فتختصُّ بالخواصِّ من بنيه ، وإما الخلافةُ ممن كان في الأرض قبل ذلك فتعمُّ حينئذ الجميع .
{ قَالُواْ } استئنافٌ وقعَ جواباً عما تنساقُ إليه الأذهانُ كأنه قيل : فماذا قالت الملائكة حينئذ ، فقيل : قالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } ؟ وهو أيضاً من الجعل المتعدي إلى اثنين ، فقيل فيهما ما قيل في الأول ، والظاهرُ أن الأولَ كلمةُ مَنْ ، والثاني محذوفٌ ثقةً بما ذكر في الكلام السابق ، كما حُذف الأولُ ثَمةَ تعويلاً على ما ذكر هنا قال قائلهم :
لا تَخَلْنا على عزائك إنا ... طالما قد وشَى بنا الأعداءُ
بحذف المفعول الثاني أي لا تخَلْنا جازعين على عزائك : والمعنى أتجعل فيها من يفسد فيها خليفةً؟ والظرفُ الأولُ متعلقٌ بتجعلُ وتقديمُه لما مر مراراً والثاني بيُفسِدُ ، وفائدتُه تأكيدُ الاستبعادِ لما أن في استخلاف المفسِدِ في محل إفساده من البعد ما ليس في استخلافه في غيره ، هذا وقد جُوِّز كونُه من الجعل بمعنى الخلق المتعدي إلى مفعول واحدٍ هو كلمةُ مَنْ ، وأنت خبير بأن مدارَ تعجُّبِهم ليس خلقَ من يُفسد في الأرض ، كيف لا وإن ما يعقُبه من الجملة الحالية الناطقة بدعوى أحقِّيتِهم منه يقضي ببُطلانه حتماً إذ لا صِحَّة لدعوى الأحقية منه بالخلق وهم مخلوقون ، بل مدارُه أن يُستخلف لعمارة الأرض وإصلاحِها بإجراء أحكامِ الله تعالى وأوامرِه أو يُستخلفَ مكان المطبوعين على الطاعة مَنْ مِنْ شأنِ بني نوعِه الإفسادُ وسفكُ الدماء .(1/105)
وهو عليه السلامُ وإن كان منزهاً عن ذلك إلا أن استخلافَه مستتبِعٌ لاستخلاف ذرّيتِه التي لا تخلو عنه غالباً ، وإنما أظهروا تعجُّبَهم استكشافاً عما خفِيَ عليهم من الحِكَم التي بدت على تلك المفاسد وألغَتْها ، واستخباراً عما يُزيح شبهتَهم ويرشدهم إلى معرفة ما فيه عليه السلام من الفضائل التي جعلتْه أهلاً لذلك ، كسؤال المتعلم عما ينقدِحُ في ذهنه لا اعتراضاً على فعل الله سبحانه ولا شكاً في اشتماله على الحِكمة والمصلحة إجمالاً ، ولا طعناً فيه عليه السلام ولا في ذريته على وجه الغَيْبة ، فإن منصِبَهم أجلُّ من أن يُظَنَّ بهم أمثالُ ذلك ، قال تعالى : { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } وإنما عَرفوا ما قالوا إما بإخبارٍ من الله تعالى حسبما نُقل من قبلُ ، أو بتلقٍ من اللوح ، أو باستنباطٍ عما ارتكز في عقولهم من اختصاص العِصْمةِ بهم ، أو بقياسٍ لأحد الثقلين على الآخر .
{ وَيَسْفِكُ الدماء } السفكُ والسفحُ والسبكُ والسكْبُ أنواع من الصَّب ، والأولان مختصانِ بالدم ، بل لا يستعمل أولُهما إلا في الدم المحرّم ، أي يقتل النفوسَ المحرمة بغير حق ، والتعبيرُ عنه بسفك الدماء لما أنه أقبحُ أنواعِ القتل وأفظعُه وقرىء يُسفِك بضم الفاء ، ويُسفِك ويَسْفِك من أسفك وسَفَك ، وقرىء يُسفَكُ على البناء للمفعول وحُذف الراجع إلى ( مَنْ ) موصولةً أو موصوفة أي يسفك الدماء فيهم .
{ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ } جملة حاليةٌ مقررة للتعجب السابق ومؤكدةٌ له على طريقة قول من يجِدُّ في خدمة مولاه وهو يأمرُ بها غيرَه أتستخدمُ العُصاةَ وأنا مجتهدٌ فيها كأنه قيل : أتستخلفُ من شأنُ ذريته الفسادُ مع وجود مَنْ ليس من شأنه ذلك أصلاً؟ والمقصودُ عرضُ أحقيتِهم منهم بالخلافة واستفسارٌ عما رجَّحهم عليهم مع ما هو متوقَّعٌ منهم من الموانع لا العُجبُ والتفاخرُ ، فكأنهم شعَروا بما فيهم من القوة الشهوية التي رذيلتُها الإفراطيةُ الفسادُ في الأرض والقوةِ الغضبيةِ التي رذيلتُها الإفراطية سفكُ الدماء فقالوا ما قالوا وذَهِلوا عما إذا سخَّرَتْهما القوةُ العقلية ومرَّنتْهما على الخير ( فإنه ) يحصُل بذلك من علو الدرجةِ ما يقصُر عن بلوغ رُتبةِ القُوةِ العقلية عند انفرادِها في أفاعيلها ، كالإحاطة بتفاصيل أحوالِ الجزئيات واستنباطِ الصناعات ، واستخراج منافعِ الكائنات من القوة إلى الفعل وغير ذلك مما نيط به أمر الخلافة .(1/106)
والتسبيح تنزيهُ الله تعالى وتبعيدُه اعتقاداً وقولاً وعملاً عما لا يليق بجنابه سبحانه ، من سبَح في الأرض والماءِ إذا أبعدَ فيهما وأمعن ، ومنه فرسٌ سَبُوحٌ أي واسع الجرْي وكذلك تقديسُه تعالى من قدَّسَ في الأرض إذا ذهَب فيها وأبعدَ ، ويقال : قدَّسه أي طهَّره ، فإن مُطَهِّر الشيءِ مُبعِدُه عن الأقذار ، والباء في ( بحمدك ) متعلقةٌ بمحذوفٍ وقع حالاً من الضمير ، أي ننزِّهُك عن كل ما لا يليقُ بشأنك متلبّسين بحمدك على ما أنعمت به علينا من فنون النعم التي من جملتها توفيقُنا لهذه العبادة ، فالتسبيحُ لإظهار صفاتِ الجلالِ ، والحمدُ لتذكير صفاتِ الإنعام ، واللامُ في لك إما مزيدة والمعنى نقدّسك ، وإما صلةٌ للفعل كما في سجدت لله ، وإما للبيان كما في سُقياً لك ، فتكون متعلقةً بمحذوف ، أي نقدّس تقديساً لك أي نصِفُك بما يليق بك من العلوّ والعزةِ وننزِّهُك عما لا يليق بك ، وقيل : المعنى نطهِّر نفوسَنا عن الذنوب لأجلك ، كأنهم قابلوا الفسادَ الذي أعظمُه الإشراكُ بالتسبيح وسفكِ الدماء الذي هو تلويثُ النفس بأقبح الجرائمِ بتطهير النفسِ عن الآثام لا تمدُّحاً بذلك ولا إظهاراً للمِنة بل بياناً للواقع .
{ قَالَ } استئنافٌ كما سبق { إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ليس المرادُ به بيانَ أنه تعالى يعلم ما لا يعلمون من الأشياء كائناً ما كان ، فإن ذلك مما لا شُبهة لهم فيه حتى يفتقِروا إلى التنبيه عليه لا سيما بطريق التوكيد ، بل بيانَ أن فيه عليه الصلاة والسلام معانيَ مستدعيةً لاستخلافه ، إذ هو الذي خفيَ عليهم وبنَوا عليه ما بنَوْا من التعجّب والاستبعاد ، فما موصولةً كانت أم موصوفةً عبارةٌ عن تلك المعاني ، والمعنى : إني أعلم ما لا تعلمونه من دواعي الخلافة فيه ، وإنما لم يقتصِرْ على بيان تحققِها فيه عليه السلام بأن قيل مثلاً : إن فيه ما يقتضيه من غير تعرّضٍ لإحاطته تعالى وغفلتِهم عنه تفخيماً لشأنه وإيذاناً بابتناء أمرِه تعالى على العلم الرصينِ والحكمةِ المتقنة وصدورِ قولِهم عن الغفلة ، وقيل : معناه إني أعلمُ من المصالحِ في استخلافه ما هو خفيٌّ عليكم ، وأنَّ هذا إرشادٌ للملائكة إلى العلم بأن أفعالَه تعالى كلَّها حسنةٌ وحِكمةٌ وإن خفي عليهم وجهُ الحسْنِ والحِكمة .
وأنت خبيرٌ بأنه مُشعِرٌ بكونهم غيرَ عالمين بذلك من قبلُ ويكون تعجبُهم مبنياً على تردّدهم في اشتمال هذا الفعلِ لحكمةٍ ما ، وذلك مما لا يليق بشأنهم فإنهم عالمون بأن ذلك متضمِّنٌ لحكمةٍ ما ، ولكنهم متردّدون في أنها ماذا؟ هل هو أمرٌ راجعٌ إلى محض حُكم الله عز وجل ، أو إلى فضيلةٍ من جهة المستخلَف؟ فبيّن سبحانه وتعالى لهم أولاً على وجه الإجمالِ والإبهامِ أن فيه فضائلَ غائبةً عنهم ليستشرفوا إليها ، ثم أبرَزَ لهم طرفاً منها ليعاينوه جَهرةً ويظهَرَ لهم بديعُ صنعِه وحكمتِه وينزاحَ شبهتُهم بالكلية .(1/107)
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)
{ وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسماء كُلَّهَا } شروعٌ في تفصيل ما جَرى بعد الجواب الإجماليِّ تحقيقاً لمضمونه وتفسيراً لإبهامه ، وهو عطفٌ على ( قال ) ، والابتداءُ بحكاية التعليم يدل بظاهره على أن ما مرَّ من المقاولة المحكيةِ إنما جرت بعد خلقِه عليه السلام بمحضَرٍ منه ، وهو الأنسبُ بوقوف الملائكة على أحواله عليه السلام ، بأن قيل إثْرَ نفخِ الروحِ فيه : إني جاعلٌ إياه خليفةً فقيل ما قيل كما أشير إليه ، وإيرادُه عليه السلام باسمه العِلْميِّ لزيادة تعيين المرادِ بالخليفة ، ولأن ذكرَه بعنوان الخلافة لا يلائم مقامَ تمهيدِ مباديها ، وهو اسمٌ أعجميٌّ والأقربُ أن وزنه فاعلٌ كشالَخ وعاذَرَ وعابَرَ وفالغَ لا أفعل ، والتصدي لاشتقاقه من الأُدْمة أو الأَدَمة بالفتح بمعنى الأسوة ، أو من أديم الأرض بناء على ما روي عنه صلى الله عليه وسلم : من أنه تعالى قبض قبضةً من جميع الأرض سهلِها وحَزْنها فخلق منها آدم ، ولذلك اختلفت ألوانُ ذريته أو من الأَدْم والأدمة بمعنى الألفة تعسفٌ كاشتقاق إدريسَ من الدَّرْس ، ويعقوبَ من العقِب ، وإبليس من الإبلاس ، والاسمُ باعتبار الاشتقاقِ ما يكون علامةً للشيء ودليلاً يرفعُه إلى الذهن من الألفاظ والصفات والأفعال ، واستعمالُه عرفاً في اللفظ الموضوع لمعنى مفرداً كان أو مركباً مُخبَراً عنه أو خبراً أو رابطةً بينهما ، واصطلاحاً في المفرد الدال على معنى في نفسه غيرَ مقترنٍ بالزمان ، والمراد ههنا إما الأولُ أو الثاني ، وهو مستلزمٌ للأول ، إذ العلمُ بالألفاظ من حيث الدلالةُ على المعاني مسبوقٌ بالعلم بها والتعليمُ حقيقةً عبارةٌ عن فعلٍ يترتب عليه العلمُ بلا تخلف عنه ولا يحصُل ذلك بمجرد إفاضةِ المعلم ، بل يتوقف على استعداد المتعلم لقبول الفيضِ وتلقّيه من جهته كما مر في تفسير الهدى ، وهو السرُّ في إيثاره على الإعلام والإنباء ، فإنهما إنما يتوقفان على سماع الخبر الذي يشترك فيه البشرُ والمَلك ، وبه يظهر أحقيتُه بالخلافة منهم عليهم السلام لما أن جِبلّتَهم غيرُ مستعدةٍ للإحاطة بتفاصيلِ أحوالِ الجزئيات الجُسمانية خُبْراً ، فمعنى تعليمِه تعالى إياه أن يخلُقَ فيه إذ ذاك بموجب استعداده علماً ضرورياً تفصيلياً بأسماء جميعِ المسميات وأحوالِها وخواصِّها اللائقةِ بكلَ منها ، أو يُلقيَ في رُوعه تفصيلاً أن هذا فرس ، وشأنُه كيت وكيت ، وذاك بعيرٌ وحالُه ذَيْت وذَيْت إلى غير ذلك من أحوال الموجودات ، فيتلقاها عليه السلام حسبما يقتضيه استعدادُه ويستدعيه قابليتُه المتفرعةُ على فطرته المنطويةِ على طبائعَ متباينة وقوى متخالفةٍ وعناصرَ متغايرة .
قال ابنُ عباس وعكرمةُ وقتادةُ ومجاهدٌ وابنُ جُبيرٍ رضي الله تعالى عنهم : علّمه أسماءَ جميعِ الأشياءِ حتى القصعةَ والقصيعةَ وحتى الجفنةَ والمِحْلَب وأنحى منفعةَ كلِّ شيءٍ إلى جنسِه . وقيل : أسماءَ ما كان وما سيكونُ إلى يوم القيامة ، وقيل : معنى قولَه تعالى وعلم آدمَ الأسماءَ خلقه من أجزاءَ مختلفةٍ وقوىً متباينةٍ مستعداً لإدراكِ أنواع المُدرَكات من المعقولات والمحسوسات والمتخيَّلات والموهومات ، وألهمه معرفةَ ذواتِ الأشياءِ وأسمائها وخواصِها ومعارفِها وأصولَ العلم وقوانينَ الصناعاتِ وتفاصيلَ آلاتِها وكيفياتِ استعمالاتها ، فيكونُ ما مرَّ من المقاولةِ قبل خلقه عليه السلام .(1/108)
وقيل : التعليمُ على ظاهره ولكنَّ هناك جملاً مطويةً عطف عليها المذكور أي فخلقه فسواه ونفخ فيه الروح وعلمه الخ { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة } الضمير للمسميات المدلول عليها بالأسماء كما في قوله تعالى : { واشتعل الرأس شَيْباً } والتذكيرُ لتغليبِ العقلاءِ على غيرهم وقُرىءَ عرَضَهن وعرضَها أي عرضَ مسمَّياتِهن أو مسمياتها ، في الحديث : أنه تعالى عرضهم أمثالَ الذر ، ولعلّه عز وجل عرضَ عليهم من أفراد كلِّ نوعٍ ما يصلحُ أنْ يكونَ أنموذجاً يُتعرفُ منه أحوالَ البقيةِ وأحكامها .
{ فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء } تبكيتاً لهم وإظهاراً لعجزهم عن إقامة ما علقوا به رجاءَهم من أمرِ الخلافةِ ، فإن التصرفَ والتدبيرَ وإقامةَ المعدلةِ بغير وقوفِ على مراتبِ الاستعداداتِ ومقاديرِ الحقوق مما لا يكاد يمكنُ والإنباءُ إخبارُ فيه إعلامُ ، ولذلك يجري مجرى كل منهما والمرادُ ههنا ما خلا عنه ، وإيثاره على الإخبار للإيذان برفعة شأنِ الأسماء وعظمِ خطرها ، فإن النبأَ إنَّما يطلق على الخبرِ الخطيرِ والأمرِ العظيم { إِن كُنتُمْ صادقين } أي في زعمكم أنكم أحقاءُ بالخلافة ممن استخلفته كما ينبىء عنه مقالُكم ، والتصديق كما يتطرق إلى الكلام باعتبار منطوقه قد يتطرق إليه باعتبارِ ما يلزمُه من الإخبارِ ، فإن أدنى مراتبِ الاستحقاق هو الوقوفُ على أسماءِ ما في الأرض ، وأما ما قيل من أن المعنى في زعمكم أني أستخلفُ في الأرض مفسدين سفاكين للدماء فليس مما يقتضيه المقامُ ، وإن أُوِّلَ بأنْ يقالَ في زعمِكم أنِّي أستخلفُ مَنْ غالبُ أمرِه الإفسادُ وسفكُ الدماءِ منْ غيرِ أنْ يكونَ له مزيةٌ من جهةٍ أخرى ، إذ لا تعلق له بأمرهم بالإنباءِ . وجوابُ الشرط محذوفٌ لدلالةِ المذكورِ عليه .(1/109)
قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)
{ قَالُواْ } استئنافٌ واقعٌ موقعَ الجواب كأنه قيل : فماذا قالوا حينئذ ، هل خرجوا عن عُهدة ما كُلفوه أو لا؟ فقيل : قالوا { سبحانك } قيل : هو علمٌ للتسبيح ولا يكاد يستعملُ إلا مضافاً وقد جاءَ غيرَ مضافٍ على الشذوذِ غيرَ منصرفٍ للتعريف والألفِ والنون المزيدتين كما في قوله :
سُبحانَ مِنْ علقمَةَ الفاخرِ ... وأما في قوله :
سبحانه ثم سُبحاناً نعودُ له ... فقيل : صَرَفه للضرورة ، وقيل : إنه مصدر منكرٌ كغفران ، لا اسمُ مصدر ، ومعناه على الأول نسبحك عما لا يليق بشأنك الأقدسِ من الأمور التي من جملتها خلوُّ أفعالِك من الحِكَم والمصالحِ وعنَوا بذلك تسبيحاً ناشئاً عن كمال طُمَأنينة النفسِ والإيمان باشتمال استخلاف آدمَ عليه السلام على الحِكَم البالغة ، وعلى الثاني تنزهّتَ عن ذلك ناشئاً عن ذاتِك ، وأرادوا به أنهم قالوه عن إذعان لمّا علِموا إجمالاً بأنه عليه السلام يُكلَّف ما كُلِّفوه ، وأنه يقدِر على ما قد عجزوا عنه مما يتوقف عليه الخلافة ، وقوله عز وعلا : { لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا } اعتراف منهم بالعجز عما كُلِّفوه ، إذ معناه لا علم لنا إلا ما علمتناه بحسب قابليتِنا من العلوم المناسبة لعالمنا ولا قُدرة بنا على ما هو خارج عن دائرة استعدادِنا حتى لو كنا مستعدّين لذلك لأفَضْتَه علينا ، و ( ما ) في ما علمتنا موصولةٌ حذف من صلتها عائدُها أو مصدرية ، ولقد نفَوْا عنهم العلمَ بالأسماء على وجه المبالغة حتى لم يقتصِروا على بيان عدمِه بأن قالوا مثلاً لا علم لنا بها ، بل جعلوه من جُملة ما لا يعلمونه ، وأشعروا بأن كونَه من تلك الجملة غنيٌّ عن البيان { إِنَّكَ أَنتَ العليم } الذي لا يخفى عليه خافية ، وهذا إشارةٌ إلى تحقيقهم لقوله تعالى : { إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } { الحكيم } أي المحكِمُ لمصنوعاته الفاعلُ لها حسبما تقتضيه الحِكمةُ والمصلحة وهو خبرٌ بعد خبر ، أو صفةٌ للأول ، و ( أنت ) ضميرُ الفصل لا محل له من الإعراب ، أو له محل منه مشارِكٌ لما قبله كما قاله الفرّاء ، أو لما بعده كما قاله الكسائي ، وقيل : تأكيد للكاف كما في قولك : مررتُ بك أنت ، وقيل : مبتدأ خبرُه ما بعده ، والجملة خبر إن ، وتلك الجملةُ تعليلٌ لما سبق من قصر علمِهم بما علّمهم الله تعالى وما يفهم من ذلك من علم آدمَ عليه السلام بما خفيَ عليهم ، فكأنهم قالوا أنت العالمُ بكل المعلوماتِ التي من جملتها استعدادُ آدمَ عليه السلام لما نحن بمعزلٍ من الاستعداد له من العلوم الخفيةِ المتعلقةِ بما في الأرضِ من أنواع المخلوقات التي عليها يدور فَلَكُ خلافةِ الحكيمِ الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحِكمةُ ومن جملته تعليمُ آدمَ عليه السلام ما هو قابلٌ له من العلوم الكليةِ والمعارفِ الجزئيةِ المتعلقة بالأحكام الواردةِ على ما في الأرض ، وبناءُ أمرِ الخلافةِ عليها .(1/110)
قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
{ قَالَ } استئناف كما سلف { قَالَ يَاءادَمُ أَنبِئْهُم } أي أعلِمْهم ، أُوثرَ على أنبئني كما وقع في أمر الملائكة مع حصول المراد معه أيضاً وهو ظهورُ فضلِ آدمَ عليهم ، عليهم السلام ، إبانةً لما بين الأمرين من التفاوت الجليّ وإيذاناً بأن عِلْمَه عليه السلام بها أمرٌ واضحٌ غيرُ محتاجٍ إلى ما يجري مَجرى الامتحان ، وأنه عليه السلام حقيقٌ بأن يعلمَها غيرُه وقرىء بقلب الهمزة ياءً وبحذفِها أيضاً والهاء مكسورةٌ فيهما { بِأَسْمَائِهِمْ } التي عجَزوا عن علمها واعترفوا بتقاصُر هممِهم عن بلوغِ مرتبتها { فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم } الفاء فصيحةٌ عاطفةٌ للجملة الشرطية على محذوف يقتضيهِ المقامُ وينسحِبُ عليه الكلام ، للإيذان بتقرُّره وغِناه عن الذكر ، وللإشعارِ بتحقُّقه في أسرع ما يكون كما في قوله عز وجل : { فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } بعد قولِه سبحانه : { قَالَ الذى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب أَنَاْ ءاتِيكَ } وإظهارُ الأسماءِ في موقع الإضمارِ لإظهار كمالِ العنايةِ بشأنها ، والإيذانِ بأنه عليه السلام أنبأهم بها على وجه التفصيلِ دون الإجمالِ ، والمعنى فأنبأهم بأسمائهم مفصّلةً وبيّن لهم أحوالَ كلَ منهم وخواصَّه وأحكامَه المتعلقة بالمعاش والمعاد ، فعلِموا ذلك لمّا رأَوْا أنه عليه السلام لم يتلعثم في شيء من التفاصيل التي ذكرها مع مساعدة ما بين الأسماءِ والمسميات من المناسبات والمُشكلات وغيرِ ذلك من القرائن الموجبةِ لصدق مقالاتِه عليه السلام ، فلما أنبأهم بذلك { قَالَ } عز وجل تقريراً لما مر من الجواب الإجماليِّ واستحضاراً له { أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والارض } ولكن لا لتقرير نفسِه كما في قوله تعالى : { أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً } ونظائرِه بل لتقرير ما يفيده من تحقق دواعي الخلافةِ في آدمَ عليه السلام لظهور مِصْداقه ، وإيرادُ ما لا يعلمون بعنوان الغيبِ مضافاً إلى السموات والأرض للمبالغة في بيان كمالِ شمولِ علمِه المحيطِ وغايةِ سَعته ، مع الإيذان بأن ما ظهر من عجزهم وعلم آدمَ عليه السلام من الأمور المتعلقة بأهل السموات وأهل الأرض ، وهذا دليل واضحٌ على أن المراد ( بما لا تعلمون ) فيما سبق ما أشير إليه هناك كأنه قيل ألم أقل لكم إني أعلم فيه من دواعي الخلافةِ ما لا تعلمونه فيه هو هذا الذي عاينتموه ، وقوله تعالى : { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } عطفٌ على جملة ( ألم أقل لكم ) لا على أعلم ، إذ هو غيرُ داخلٍ تحت القول ، و ( ما ) في الموضعين موصولةٌ حذف عائدُها أي أعلم ما تبدونه وما تكتمونه ، وتغييرُ الأسلوب للإيذان باستمرار كَتْمِهم ، قيل : المراد بما يبدون قولُهم أتجعل الخ ، وبما يكتمون استبطانُهم أنهم أحِقّاءُ بالخلافة وأنه تعالى لا يخلُق خلقاً أفضل منهم .
رُوي أنه تعالى لما خلق آدمَ عليه السلام رأت الملائكةُ فِطرتَه العجيبةَ وقالوا ليكن ما شاء فلن يخلُقَ ربُنا خلقاً إلا كنا أكرمَ عليه منه وقيل : هو ما أسره إبليسُ في نفسه من الكِبْر وتركِ السجود ، فإسنادُ الكِتمان حينئذ إلى الجميع من قبيل قولهم بنو فلان قتلوا فلاناً والقاتل واحدٌ من بينهم ، قالوا : في الآية الكريمة د2لالةٌ على شرف الإنسان ومزية العلمِ وفضلِه على العبادة ، وأن ذلك هو المناطُ للخلافة ، وأن التعليم يصحُّ إطلاقُه على الله تعالى .(1/111)
وإن لم يصح إطلاقُ المعلِّم عليه لاختصاصه عادة بمن يحترِفُ به ، وأن اللغاتِ توقيفيةٌ إذ الأسماءُ تدل على الألفاظ بخصوص أو بعموم ، وتعليمُها ظاهرٌ في إلقائها على المتعلم مبيناً له معانيَها ، وذلك يستدعي سابقةَ وضعٍ ، وما هو إلا من الله تعالى وأن مفهوم الحِكمة زائدٌ على مفهوم العلم وإلا لزم التكرارُ وأن علومَ الملائكة وكمالاتِهم تقبل الزيادة ، والحكماءُ منعوا ذلك في الطبقة العليا منهم وحملوا على ذلك قولَه تعالى : { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } وأن آدمَ أفضلُ من هؤلاء الملائكة لأنه عليه السلام أعلمُ منهم وأنه تعالى يعلمُ الأشياءَ قبل حدوثِها .(1/112)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
{ وَإِذْ قُلْنَا للملائكة } عطفٌ على الظرف الأول منصوبٌ بما نصبه من المُضمَر ، أو بناصب مستقلٍ معطوفٍ على ناصبه عطفَ القصة على القصة ، أي واذكر وقت قولنا لهم ، وقيل : بفعل دل عليه الكلام ، أي أطاعوا وقت قولِنا الخ ، وقد عرفت ما في أمثاله ، وتخصيصُ هذا القول بالذكر مع كون مقتضى الظاهرِ إيرادَه على منهاج ما قبله من الأقوال المحكيةِ المتصلةِ به للإيذان بأن ما في حيّزه نعمةٌ جليلةٌ مستقلة حقيقةٌ بالذكر والتذكيرِ على حِيالها ، والالتفاتُ إلى التكلم لإظهار الجلالةِ وتربيةِ المهابة مع ما فيه من تأكيد الاستقلال ، وكذا إظهارُ الملائكة في موضع الإضمار ، والكلام في اللام وتقديمِها مع مجرورها على المفعول كما مر ، وقرىء بضم تاء الملائكة إتباعاً لضم الجيم في قوله تعالى : { اسجدوا لاِدَمَ } كما قرىء بكسر الدال في قوله تعالى : { الحمد للَّهِ } إتباعاً لكسر اللام وهي لغة ضعيفة ، والسجودُ في اللغة الخضوعُ والتطامُن ، وفي الشرع وضعُ الجبهة على الأرض على قصد العبادة ، فقيل : أُمِروا بالسجود له عليه والسلام على وجه التحية تعظيماً له واعترافاً بفضله وأداءً لحق التعليم واعتذاراً عما وقع منهم في شأنه ، وقيل : أمروا بالسجود له تعالى وإنما كان آدمُ قِبلةً لسجودهم تفخيماً لشأنه أو سبباً لوجوبه ، فكأنه تعالى لما بَرَأه أُنموذَجاً للمُبدَعات كلِّها ونسخةً منطويةً على تعلق العالم الروحاني بالعالم الجُسماني وامتزاجِهما على نمط بديعٍ أمرهم بالسجود له تعالى لما عاينوا من عظيم قدرتِه ، فاللام فيه كما في قول حسانَ رضي الله عنه :
أليس أولَ من صلَّى لقِبلتكم ... وأعرفَ الناسِ بالقرآنِ والسننِ
أو في قوله تعالى : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس } والأولُ هو الأظهر ، وقوله عز وجل : { فَسَجَدُواْ } عطف على قلنا ، والفاء لإفادة مسارعتِهم إلى الامتثال وعدمِ تلعثُمِهم في ذلك ، رُوي عن وهْب أن أولَ من سجد جبريلُ ثم ميكائيلُ ثم إسرافيلُ ثم عزرائيلُ ثم سائرُ الملائكة عليهم السلام وقوله تعالى : { إِلاَّ إِبْلِيسَ } استثناءٌ متصل لما أنه كان جنّياً مفرَداً مغموراً بألوف من الملائكة متصفاً بصفاتهم فغَلبوا عليه في فسجدوا ، ثم استثني استثناءَ واحدٍ منهم أو لأن من الملائكة جنساً يتوالدون يقال لهم الجنُّ كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو منهم ، أو لأن الجن أيضاً كانوا مأمورين بالسجود له لكن استُغني بذكر الملائكة عن ذكرهم . أو منقطعٌ : وهواسمٌ أعجميٌ ولذلك لم ينصرِف ومن جعله مشتقاً من الإبلاس وهو إلباس قال : إنه مُشبَّهٌ بالعجمة حيث لم يُسمَّ به أحدٌ فكان كالاسم الأعجميّ .
واعلم أن الذي تقتضيه هذه الآية الكريمةُ والتي في سورة الأعراف من قوله تعالى : { ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلا إِبْلِيسَ } الآية ، والتي في سورة بني إسرائيل وسورة الكهف وسورة طه من قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لاِدَمَ فَسَجَدُواْ } الآية ، أن سجودَ الملائكة إنما ترتب على الأمر التنجيزيّ الوارد بعد خلقِه وتسويته ونفخِ الروحِ فيه ألبتة كما يلوح به حكايةُ امتثالِهم بعبارة السجود دون الوقوعِ الذي به ورد الأمرُ التعليقي ، ولكن ما في سورة الحِجْرِ من قوله عز وعلا :(1/113)
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّى خالق بَشَرًا مِّن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ ساجدين * فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } وما في سورة ص من قوله تعالى : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّى خالق بَشَراً مّن طِينٍ } إلى آخر الآية يستدعيان بظاهرهما ترتُّبَه على ما فيهما من الأمر التعليقيِّ من غير أن يتوسط بينهما شيءٌ ما تُفصحَ عنه الفاءُ الفصيحة من الخلق والتسوية ونفخِ الروحِ فيه عليه السلام .
وقد رُوي عن وهْبٍ أنه كان السجود كما نفخ فيه الروح بلا تأخير ، وتأويلُ الآيات السابقةِ بحمل ما فيها من الأمر على حكاية الأمرِ التعليقيّ بعد تحققِ المعلَّقِ به إجمالاً ، فإنه حينئذ يكون في حكم التنجيز يأباه ما في سورة الأعراف من كلمة ثم المناديةِ بتأخر ورودِ الأمرِ عن التصوير المتأخرِ عن الخلق المتأخر عن الأمر التعليقي ، والاعتذارُ بحمل التراخي على الرُتبيّ أو التراخي في الإخبار ، أو بأن الأمرَ التعليقي قبل تحققِ المعلَّق به لمّا كان في عدم إيجاب المأمور به بمنزلة العدم جُعل كأنه إنما حدَث بعد تحققه فحُكي على صورة التنجيزِ يؤدي بعد اللتيا والتي إلى أن ما جرى بينه وبينهم عليهم السلام في شأن الخلافة وما قالوا فيه وما سمعوا إنما جرى بعد السجود المسبوقِ بمعرفة جلالة منزلتِه عليه السلام وخروجِ إبليسَ من البَيْن باللعن المؤبد لعِناده ، وبعد مشاهدتهم لذلك كله عياناً وهل هو إلا خرقٌ لقضية العقل والنقل ، والالتجاءُ في التقصّي عنه إلى تأويل نفخِ الروحِ بحمله على ما يعُمُّ إفاضةَ ما به حياةُ النفوس التي من جملتها تعليمُ الأسماء تعسّفٌ يُنبىء عن ضيق المجال .
فالذي يقتضيه التحقيقُ ويستدعيه النظمُ الأنيقُ بعد التصفح في مستودعات الكتاب المكنونِ والتفحصِ عما فيه من السر المخزون أن سجودَهم له عليه السلام إنما ترتب على الأمر التنجيزيّ المتفرعِ على ظهور فضلِه عليه السلام المبني على المحاورة المسبوقةِ بالإخبار بخلافته المنتظمِ جميعَ ذلك في سلك ما نيط به الأمرُ التعليقيُّ من التسوية ونفخِ الروحِ ، إذ ليس من قضيته وجوبُ السجود عقيبَ نفخِ الروحِ فيه ، فإن الفاءَ الجزائيةَ ليست بنصَ في وجوب وقوعِ مضمونِ الجزاء عقيبَ وجودِ الشرط من غير تراخٍ ، للقطع بعدم وجوبِ السعي عقيبَ النداء ، لقوله تعالى : { ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة مِن } الآية ، وبعدم وجوب إقامةِ الصلاة غِبَّ الاطمئنانِ لقوله تعالى : { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة فاذكروا }(1/114)
بل إنما الوجوبُ عند دخول الوقت . كيف لا والحكمة الداعية إلى ورود ما نحن فيه من الأمر التعليقيِّ إثرَ ذي أثيرٍ إنما هي حملُ الملائكةِ عليهم السلام على التأمُّل في شأنه عليه السلام ليتدبروا في أحواله طراً ، ويُحيطوا بما لديه خُبراً ، ويستفهموا ما عسى يستَبْهم عليهم في أمره عليه السلام لابتنائه على حِكَم أبيّة ، وأسرارٍ خفية طُويت عن علومهم ، ويقفوا على جلية الحال قبل ورود الأمر التنجيزي وتحتُّمِ الامتثال وقد قالوا بحسب ذلك ما قالوا وعاينوا ما عاينوا وعدمُ نظمِ الأمر التنجيزيّ في سلك الأمور المذكورةِ في السورتين عند الحكاية لا يستلزمُ عدمَ انتظامِه فيه عند وقوعِ المحكيِّ كما أن عدمَ ذكر الأمر التعليقي عند حكايةِ الأمرِ التنجيزيِّ في السورة الكريمة المذكورة لا يوجب عدمَ مسبوقيتِه به ، فإن حكاية كلامٍ واحدٍ على أساليبَ مختلفةٍ حسبما يقتضيه المقامُ ويستدعيه حسنُ الانتظامِ ليست بعزيزة في الكتاب العزيز ، وناهيك بما نقل في توجيه قولِه تعالى : { بَشَرًا } مع عدم سبقِ معرفةِ الملائكةِ عليهم السلام بذلك وحيث صِيَر إليه مع أنه لم يرِدُ به نقلٌ فما ظنك بما قد وقع التصريحُ به في مواضعَ عديدةٍ فلعله قد أُلقي إليهم ابتداءً جميعُ ما يتوقف عليه الأمرُ التنجيزيُّ إجمالاً بأن قيل مثلاً إني خالقٌ بشراً من كذا وكذا وجاعل إياه خليفةً في الأرض فإذا سويتُه ونفختُ فيه من روحي وتبين لكم شأنُه فقعوا له ساجدين ، فخلقه فسواه ونفخ فيه الروح ، فقالوا عند ذلك ما قالوا أو ألقي إليهم خبرُ الخلافة بعد تحقق الشرائطِ المعدودة بأن قيل إثرَ نفخِ الروح فيه إني جاعلٌ هذا خليفة في الأرض فهناك ذكروا في حقه عليه السلام ما ذكروا ، فأيده الله عز وجل بتعليم الأسماءِ فشاهدوا منه ما شاهدوا ، فعند ذلك ورد الأمرُ التنجيزيّ اعتناءً بشأن المأمور به وتعييناً لوقته ، وقد حُكي بعضُ الأمور في بعض المواطنِ وبعضُها في بعضِها اكتفاءً بما ذكر في كل موطنٍ عما تُرك في موطن آخرَ .
والذي يحسم مادةَ الاشتباهِ أن ما في سورة ص من قوله تعالى : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة } الخ ، بدل من قوله تعالى : { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } فيما قبله من قوله تعالى : { مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الاعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ } ( 3 ) أي بكلامهم عند اختصامِهم والمرادُ بالملأ الأعلى الملائكةُ وآدمُ عليهم السلام وإبليسُ حسبما أطبق عليه جمهورُ الأمة ، وباختصامهم ما جرى بينهم في شأن خلافةِ آدمَ عليه السلام من التقاوي الذي من جملته ما صدر عنه عليه السلام من الإنباء بالأسماء ومن قضية البدلية وقوعُ الاختصامِ المذكورِ في تضاعيف ما ذكر فيه تفصيلاً من الأمر التعليقيّ ، وما عُلِّق به من الخلق والتسويةِ ونفخِ الروحِ فيه وما ترتب عليه من سجود الملائكةِ عليهم السلام وعنادِ إبليسَ وما تبِعه من لعنه وإخراجِه من بَيْن الملائكة ، وما جرى بعده من الأفعال والأقوال ، وإذ ليس تمامُ الاختصامِ بعد سجودِ الملائكة ومكابرةِ إبليسَ المستتبعةِ لطرده من بينهم لما عرفتَ من أنه أحدُ المختصِمين كما أنه ليس قبل الخلق ضرورةَ استحالةِ الإنباءِ بالأسماء حينئذ ، فهو إذن بعد نفخِ الروحِ وقبل السجود حتماً بأحد الطريقين والله سبحانه أعلمُ بحقيقة الأمر .(1/115)
{ أبى واستكبر } استئنافٌ مبين لكيفية عدمِ السجود المفهوم من الاستثناء وأنه لم يكن للتردد أو للتأمل والإباءُ الامتناعُ بالاختيار ، والتكبرُ أن يرى نفسه أكبرَ من غيره ، والاستكبارُ طلب ذلك بالتشبّع ، أي امتنع عما أُمر به واستكبر من أن يعظِّمه أو يتخذه وصلةً في عبادة ربِّه ، وتقديمُ الإباءِ على الاستكبار مع كونه مسبِّباً عنه لظهوره ووضوحِ أثرِه واقتُصر في سورة ص على ذكر الاستكبار اكتفاءً به ، وفي سورة الحجر على ذكر الإباءِ حيث قيل أبى أن يكون مع الساجدين { وَكَانَ مِنَ الكافرين } أي في علم الله تعالى ، إذ كان أصلُه من كفرة الجنِّ فلذلك ارتكب ما ارتكبه على ما أفصح عنه قولُه تعالى : { كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ } فالجملةُ اعتراضيةٌ مقرِّرةٌ لما سبق من الإباء والاستكبار ، أو صار منهم باستقباح أمرِه تعالى إياه بالسجود لآدمَ عليه السلام زعماً منه أنه أفضلُ منه ، والأفضلُ لا يُحسِنُ أن يؤمَرَ بالخضوع للمفضول كما يفصح عنه قوله : { أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ } حين قيل له : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين } لا بترك الواجب وحده ، فالجملةُ معطوفة على ما قبلها ، وإيثارُ الواو على الفاء للد2لالة على أن محضَ الإباءِ والاستكبارِ كفرٌ لا لأنهما سببان له كما تفيده الفاء .(1/116)
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
{ وَقُلْنَا } شروعٌ في حكاية ما جَرى بينه تعالى وبين آدمَ عليه السلام بعد تمام ما جرى بينه تعالى وبين الملائكة وإبليسَ من الأقوال والأفعالِ ، وقد تُركت حكايةُ توبيخِ إبليسَ وجوابُه ولعنُه واستنظارُه وإنظارُه اجتزاءً بما فُصّل في سائر السور الكريمة وهو عطفٌ على قلنا للملائكة ، ولا يقدح في ذلك اختلافُ وقتيهما ، فإن المراد بالزمان المدلولِ عليه بكلمة إذْ زمانٌ ممتدٌ واسعٌ للقولين ، وقيل هو عطف على إذ قلنا بإضمار إذ ، وهذا تذكيرٌ لنعمة أخرى موجبةٍ للشكر مانعةٍ من الكفرَ وتصديرُ الكلام بالنداء في قوله تعالى : { وَيَئَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة } للتنبيه على الاهتمام بتلقي المأمورِ به ، وتخصيصُ أصل الخطاب به عليه السلام للإيذان بأصالته في مباشرة المأمور به ، واسكن من السكنى وهو اللُّبث والإقامةُ والاستقرارُ دونَ السكونِ الذي هو ضدُّ الحركة ، وأنت ضميرٌ أكِّد به المستكنُّ ليصحَّ العطف عليه واختلف في وقت خلقِ زوجِه . فذكر السدي عن ابن مسعود وابن عباس وناسٍ من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين : أن الله لما أخرج إبليسَ من الجنة وأسكنها آدمَ بقيَ فيها وحدَه وما كان معه من يستأنسُ به فألقى الله تعالى عليه النومَ ثم أخذ ضِلْعاً من جانبه الأيسرِ ووضع مكانه لحماً وخلق حواءَ منه فلما استيقظ وجدها عند رأسه قاعدةً ، فسألها : ما أنت؟ قالت : امرأة . قال : ولم خلقتِ؟ قالت : لتسكُنَ إلي ، فقالت الملائكةُ تجْربةً لعلمه : من هذه؟ قال : امرأة ، قالوا : لم سُمِّيت امرأةً قال : لأنها من المَرءِ أُخِذَت ، فقالوا : ما اسمُها؟ قال : حواء ، قالوا : لم سميت حواء؟ قال : لأنها خلقت من شيء حيّ . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بعث الله تعالى جنداً من الملائكة فحملوا آدمَ وحواءَ على سريرٍ من ذهب كما يُحمل الملوك ولباسُهما النور ، حتى أدخلوهما الجنة ، وهذا كما ترى يدل على خلقها قبل دخول الجنة والمراد بها دارُ الثواب ، لأنها المعهودة ، وقيل هي جنةٌ بأرض فلسطين ، أو بين فارسَ وكَرْمان ، خلقها الله تعالى امتحاناً لآدمَ عليه السلام ، وحُمل الإهباطُ على النقل منها إلى أرض الهندِ كما في قوله تعالى : { اهبطوا مِصْرًا } لما أن خلقه عليه السلام كان في الأرض بلا خلاف ولم يذكر في هذه القصة رفعُه إلى السماء ولو وقع ذلك لكان أولى بالذكر والتذكير ، لما أنه من أعظم النعمِ ، ولأنها لو كانت دارَ الخلد لما دخلها إبليسُ . وقيل : إنها كانت في السماء السابعة ، بدليل اهبِطوا ، ثم إن الإهباطَ الأولَ كان منها إلى السماء الدنيا ، والثاني منها إلى الأرض ، وقيل : الكلُّ ممكنٌ ، والأدلةُ النقلية متعارضةٌ فوجب التوقفُ وتركُ القطع .
{ وَكُلاَ مِنْهَا } أي من ثمارها ، إنما وجِّه الخطاب إليهما تعميماً للتشريف والترفيه ، ومبالغة في إزالة العِلل والأعذار ، وإيذاناً بتساويهما في مباشرة المأمور به ، فإن حواءَ أُسوةٌ له عليه السلام في الأكل بخلاف السكنى ، فإنها تابعةٌ له فيه { رَغَدًا } صفةٌ للمصدر المؤكَّد أي أكلاً واسعاً رافهاً { حَيْثُ شِئْتُمَا } أي أيَّ مكان أردتما منها ، وهذا كما ترى إطلاقٌ كليٌّ حيث أبيحَ لهما الأكلُ منها على وجه التوسعةِ البالغةِ المزيحةِ للعلل ولم يُحَظَّر عليهما بعضُ الأكلُ ولا بعضُ المواضع الجامعةِ للمأكولات حتى لا يبقى لهما عذرٌ في تناول ما منعا منه بقوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبَا } بفتح الراء من قرِبْتُ الشيء بالكسر أقربَه بالفتح إذا التبسْتُ به وتعرضتُ له ، وقال الجوهري : قَرُبَ بالضم يَقْرُبُ قُرْباً إذا دنا ، وقَرِبْتُه بالكسر قُرْبَاناً دنوتُ منه { هذه الشجرة } نصبٌ على أنه بدل من اسم الإشارةِ ، أو نعتٌ له بتأويلها بمشتقٍ ، أي هذه الحاضرة من الشجرة أي لا تأكلا منها وإنما عُلّق النهي بالقُربان منها مبالغةً في تحريم الأكلِ ووجوب الاجتناب عنه والمرادُ بها الحنطةُ أو العِنبَةُ أو التينة وقيل : هي شجرة مَنْ أكلَ منها أحْدَث ، والأَوْلى عدمُ تعيينها من غير قاطعٍ ، وقرىء هذي بالياء وبكسر شين ( الشِّجَرة ) وتاء ( تِقربا ) ، وقرىء الشِيَرةَ بكسر الشين وفتح الياء { فَتَكُونَا مِنَ الظالمين } مجزوم على أنه معطوف على تقرَبا أو منصوبٌ على أنه جواب للنهي وأياً ما كان فالقُرب أي الأكلُ منها سببٌ لكونهما من الظالمين أي الذين ظلموا أنفسَهم بارتكاب المعصية .(1/117)
أو نقَصوا حظوظَهم بمباشرة ما يُخِلُّ بالكرامة والنعيم ، أو تعدَّوا حدود الله تعالى .(1/118)
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
{ فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا } أي أصدر زلَّتَهما أي زلَقَهما وحملهما على الزلة بسببها ، ونظيرُه عن هذه ما في قوله تعالى : { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى } أو أزلهما عن الجنة بمعنى أذهبَهما وأبعدهما عنها ، يقال : زلَّ عني كذا إذا ذهب عنك ، ويعضدُه قراءة ( أزالهما ) وهما متقاربان في المعنى . فإن الإزلالَ أي الإزلاق يقتضي زوالَ الزوالِ عن موضعه ألبتة . وإزلالُه قولَه لهما : { هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى } وقوله : { مَا نهاكما رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين } ومقاسَمتُه لهما : { إِنّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } وهذه الآياتُ مشعرةٌ بأنه عليه السلام لم يؤمر بسُكنى الجنةِ على وجه الخلود بل على وجه التكرمةِ والتشريفِ لما قُلِّد من خلافة الأرض إلى حين البعث إليها .
واختُلف في كيفية توصُّله إليهما بعد ما قيل له : { فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } فقيل : إنه إنما مُنع من الدخول على وجه التكرمة كما يدخُلها الملائكةُ عليهم السلام ولم يُمنَعْ من الدخول للوسوسة ابتلاءً لآدمَ وحواءَ ، وقيل : قام عند الباب فناداهما وقيل : تمثل بصورة دابةٍ فدخل ولم يعرِفْه الخَزَنة ، وقيل : دخل في فم الحية فدخَل معها ، وقيل : أرسل بعضَ أتباعه فأزلّهما والعلم عند الله سبحانه { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } أي من الجنة إن كان ضمير عنها للشجرة ، والتعبير عنها بذلك للإيذان بفخامتها وجلالتِها وملابستِهما له ، أي من المكان العظيم الذي كانا مستقِرَّيْن فيه أو من الكرامة والنعيم إن كان الضميرُ للجنة { وَقُلْنَا اهبطوا } الخطابُ لآدمَ وحواءَ عليهما السلام بدليل قوله تعالى : { قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً } وجُمعَ الضمير لأنهما أصلُ الجنس ، فكأنهما الجنسُ كلُّهم ، وقيل : لهما وللحية وإبليسَ على أنه أُخرج منها ثانياً بعدما كان يدخلها للوسوسة أو يدخلها مُسارقة ، وأُهبط من السماء وقرىء بضم الباء { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } حال استغني فيها عن الواو بالضمير أي متعادِين يبغي بعضُكم على بعض بتضليله ، أو استئنافٌ لا محل له من الإعراب ، وإفراد العدوّ إما للنظر إلى لفظ البعض وإما لأن وِزانَه وِزانُ المصدر كالقول : { وَلَكُمْ فِى الارض } التي هي محلُّ الإهباط ، والظرفُ متعلق بما تعلق به الخبرُ أعني لكم من الاستقرار { مُّسْتَقِرٌّ } أي استقرارٌ أو موضعُ استقرار { ومتاع } أي تمتّعٌ بالعيش وانتفاعٌ به { إلى حِينٍ } هو حين الموت على أن المُغيَّا تمتُّع كلِّ فردٍ من المخاطبين ، أو القيامة ، على أنه تمتع الجنس في ضمن بعض الأفراد والجملة كما قبلها في كونها حالاً أي مستحقين للاستقرار والتمتع أو استئنافاً .(1/119)
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
{ فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } أي استقبلها بالأخذ والقبولِ والعملِ بها حين علِمَها ووُفّق لها وقرىء بنصب آدمَ ورفع كلماتٌ دلالةً على أنها استقبلته بلغته وهي قوله تعالى : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } الآية . وقيل : «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمُك وتعالى جدُّك ولا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : يا رب ألم تخلُقْني بيدك؟ قال : بلى . قال : يا رب ألم تنفُخْ فيَّ من روحك؟ قال : بلى . قال : يا رب ألم تسبِقْ رحمتُك غضبك؟ قال : بلى . قال : ألم تسكنّي جنتَك؟ قال : بلى . قال : يا رب إن تبتُ وأصلحتُ أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال : نعم . والفاء للدلالة على أن التوبة حصلت عَقيب الأمر بالهبوط قبل تحقق المأمور به ، والتعرضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إليه عليه السلام للتشريف والإيذان بعلّيته لإلقاء الكلماتِ المدلولِ عليها بتلقيها { فَتَابَ عَلَيْهِ } أي رجع عليه بالرحمة وقَبولِ التوبةِ ، والفاء للدلالة على ترتبه على تلقي الكلمات المتضمن لمعنى التوبة التي هي عبارة عن الاعتراف بالذنب والندمِ عليه والعزمِ على عدم العود إليه واكتُفي بذكر شأن آدمَ عليه السلام لما أن حواءَ تبَعٌ له في الحُكم ولذلك طُوي ذكرُ النساءِ في أكثرِ مواضعِ الكتاب والسنة { إِنَّهُ هُوَ التواب } أي الرجّاع على عباده بالمغفرة أو الذي يُكثر إعانتَهم على التوبة ، وأصلُ التوب الرجوع فإذا وصف به العبد كان رجوعاً عن المعصية ، وإذاوُصف به الباري عز وعلا أريد به الرجوعُ عن العقاب إلى المغفرة { الرحيم } المبالِغُ في الرحمة وفي الجمع بين الوصفين وعدٌ بليغٌ للتائب بالإحسان مع العفو والغفران ، والجملة تعليلٌ لقوله تعالى فتاب عليه .
{ قُلْنَا } استئناف مبنيٌ على سؤال ينسحِبُ عليه الكلامُ ، كأنه قيل : فماذا وقع بعد قَبولِ توبتِه فقيل : قلنا : { اهبطوا مِنْهَا جَمِيعًا } كُرِّر الأمرُ بالهبوط إيذاناً بتحتم مقتضاه وتحقُّقه لا محالة . ودفعاً لما عسى يقعُ في أمنيَّتِه عليه السلام من استتباع قبول التوبةِ للعفو عن ذلك ، وإظهاراً لنوع رأفةٍ به عليه السلام لما بين الأمرين من الفرق النيّر ، كيف لا والأولُ مشوبٌ بضرب سخطٍ مذيلٍ ببيان أن مهبِطهم دارُ بليةٍ وتعادٍ لا يخلدون فيها . والثاني مقرون بوعد إيتاء الهدى المؤدي إلى النجاة والنجاح ، وأما ما فيه من وعيد العقاب فليس بمقصود من التكليف قصداً أولياً ، بل إنما هو دائرٌ على سوء اختيارِ المكلفين .
قيل : وفيه تنبيه على أن الحازم يكفيه في الردْع عن مخالفة حكم الله تعالى مخافةُ الإهباط المقترنِ بأحد هذين الأمرين ، فكيف بالمقترن بهما فتأمل ، وقيل : الأول من الجنة إلى السماء الدنيا ، والثاني منها إلى الأرض ، ويأباه التعرضُ لاستقرارهم في الأرض في الأول ، ورجوعُ الضمير إلى الجنة في الثاني ، و ( جميعاً ) حال في اللفظ وتأكيدٌ في المعنى ، كأنه قيل : اهبطوا أنتم أجمعون ولذلك لا يستدعي الاجتماعَ على الهبوط في زمان واحد كما في قولك : جاءوا جميعاً ، بخلاف قولك : جاءوا معاً .(1/120)
{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى } الفاء لترتيب ما بعدها على الهبوط المفهوم من الأمر به وإما مركبة من إن الشرطية وما المزيدة المؤكدة لمعناها والفعل في محل الجزم بالشرط ، لأنه مبنيٌّ لاتصاله بنون التأكيد ، وقيل : معرب مطلقاً ، وقيل : مبني مطلقاً ، والصحيحُ التفصيل : إن باشرَتْه النونُ بُني وإلا أُعرب ، نحو هل يقومانِّ ، وتقديمُ الظرفِ على الفاعل لما مر غيرَ مرة ، والمعنى إن يأتينكم مني هدى برسول أبعثُه إليكم وكتابٍ أُنزله عليكم ، وجواب الشرط قوله تعالى : { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } كما في قولك : إن جئتني فإن قدِرْت أحسنتُ إليك ، وإيراد كلمة الشك مع تحقق الإتيان لا محالة للإيذان بأن الإيمانَ بالله والتوحيد لا يشترط فيه بعثةُ الرسل وإنزالُ الكتب ، بل يكفي في وجوبه إفاضةُ العقل ونصبُ الأدلة الآفاقية والأنفسية ، والتمكينُ من النظر والاستدلال ، أو للجري على سَنن العظماء في إيراد عسى ولعل في مواقعِ القطعِ والجزم ، والمعنى أن من تبع هدايَ منكم فلا خوفٌ عليهم في الدارين من لُحوق مكروه ولا هم يحزنون من فوات مطلوبٍ أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك ، لا أنه يعتريهم ذلك لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم نفسُ الخوف والحُزن أصلاً بل يستمرون على السرور والنشاط ، كيف لا واستشعارُ الخوف والخشيةِ استعظاماً لجلال الله سبحانه وهيبتِه واستقصاراً للجدّ والسعي في إقامة حقوق العبوديةِ من خصائص الخواصِّ والمقرّبين ، والمرادُ بيانُ دوام انتفائهما لا بيانُ انتفاءِ دوامهِما كما يُتوهم من كون الخبر في الجملة الثانية مضارعاً لما تقرر في موضعه أن النفي وإن دخَلَ على نفس المضارعِ يُفيد الدوامَ والاستمرارَ بحسب المقام ، وإظهارُ الهدى مضافاً إلى ضمير الجلالةِ لتعظيمِه وتأكيدِ وجوب اتّباعه أو لأن المراد بالثاني ما هو أعمُّ من الهدايات التشريعية وما ذكر من إفاضة العقلِ ونصبِ الأدلة الآفاقيةِ والأنفسية كما قيل ، وقرىء ( هُدَيَّ ) على لغة هذيل ولا خوفَ بالفتح .(1/121)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
{ والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا } عطف على من تِبعَ الخ قسيمٌ له ، كأنه قيل : ومن لم يتْبَعْه ، وإنما أوثر عليه ما ذكر تفظيعاً لحال الضلالةِ وإظهاراً لكمالِ قُبحِها ، وإيراد الموصولِ بصيغة الجمعِ للإشعار بكثرة الكفرة ، والجمعُ بين الكفر والتكذيب للإيذان بتنوّع الهدى إلى ما ذكر من النوعين ، وإيراد نونِ العظمةِ لتربية المهابة وإدخالِ الروعةِ ، وإضافةُ الآياتِ إليها لإظهار كمالِ قبحِ التكذيبِ بها ، أي والذين كفروا برُسُلنا المرسلةِ إليهم وكذبوا بآياتنا المنزلة عليهم ، وقيل : المعنى كفروا بالله وكذبوا بآياته التي أنزلها على الأنبياء عليهم السلام ، أو أظهَرها بأيديهم من المعجزات ، وقيل : كفروا بالآيات جَناناً وكذبوا بها لساناً فيكون كلا الفعلين متوجهاً إلى الجار والمجرور ، والآية في الأصل العلامة الظاهرة ، قال النابغة :
توهمْتُ آياتٍ لها فعرَفتُها ... لستة أعوامٍ وذا العامُ سابعُ
ويقال للمصنوعات من حيث دلالتُها على الصانع تعالى وعلمِه وقدرتِه ولكل طائفةٍ من كلمات القرآنِ المتميِّزة عن غيرها بفصل لأنها علامةٌ لانفصال ما قبلها مما بعدها ، وقيل : لأنها تُجْمَعُ كلماتٌ منه فيكون من قولهم خرج بنو فلان بآيتهم أي بجماعتهم قال :
خرجْنا من البيتينِ لا حيَّ مثلُنا ... بآيتِنا نُزجي النِّعاجَ المَطافِلا
واشتقاقُها من أَيْ لأنها تبين أياً من أيَ ، أو من أوى إليه أي رجَع وأصلُها أَوْية أو أيّة ، فأبدلت عينها ألفاً على غير قياس أو أوَيَة أو أيَيَة كرَمَكَة ، فأُعِلَّت أو آئِيَة كقائلة ، فحُذفت الهمزة تخفيفاً { أولئك } إشارة إلى الموصوف باعتبار اتصافه بما في حيز الصلةِ من الكفر والتكذيب وفيه إشعارٌ بتميزهم بذلك الوصف تميزاً مصحِّحاً للإشارة الحسية ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم فيه وهو مبتدأ ، وقوله عز وجل : { أصحاب النار } أي ملازموها وملابسوها بحيث لا يفارقونها خبره ، والجملة خبرٌ للموصول أو اسمُ الإشارةِ بدل من الموصول ، أو عطفُ بيان له ، وأصحاب النار خبرٌ له وقوله تعالى : { هُمْ فِيهَا خالدون } في حيز النصب على الحالية لورود التصريح به في قوله تعالى : { أصحاب النار خالدين فِيهَا } وقد جُوِّز كونُه حالاً من النار لاشتماله على ضميرها ، والعامل معنى الإضافة أو اللامُ المقدرة أو في محل الرفع على أنه خبر آخرُ لأولئك على رأي من جوز وقوع الجملة خبراً ثانياً ، وفيها متعلق بخالدون والخلودُ في الأصل المكثُ الطويلُ وقد انعقد الإجماع على أن المراد به الدوام .(1/122)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
{ يا بَنِى إسراءيل } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى طائفة خاصةٍ من الكَفَرة المعاصِرين للنبي صلى الله عليه وسلم لتذكيرهم بفنون النعم الفائضة عليهم بعد توجيهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمرِه بتذكير كلهم بالنعمة العامة لبني آدم قاطبة بقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ } الخ { وَإِذْ قُلْنَا للملائكة } الخ لأن المعنى كما أشير إليه بلّغهم كلامي واذكر لهم إذ جعلنا أباهم خليفةً في الأرض ومسجوداً للملائكة عليهم السلام وشرفناه بتعليم الأسماءِ وقبِلْنا توبتَه ، والابنُ من البِناء لأنه مَبْنَى أبيه ولذلك ينسب المصنوع إلى صانعه ، فيقال : أبو الحرب وبنتُ فكرٍ ، وإسرائيلُ لقبُ يعقوبَ عليه السلام ومعناه بالعبرية صفوةُ الله ، وقيل : عبد اللَّه ، وقرىء إسرائِلَ بحذف الياء وإسرالَ بحذفهما وإسرايل بقلب الهمزة ياء ، وإسراءَلَ بهمزة مفتوحة ، وإسرئِلَ بهمزة مكسورة بين الراء واللام ، وتخصيصُ هذه الطائفة بالذكر والتذكير لما أنهم أوفرُ الناس نعمةً وأكثرهم كفراً بها { اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } بالتفكر فيها والقيام بشكرها ، وفيه إشعار بأنهم قد نسُوها بالكلية ، ولم يُخطروها بالبال لا أنهم أهملوا شكرها فقط ، وإضافةُ النعمة إلى ضمير الجلالة لتشريفها وإيجابِ تخصيصِ شكرها به تعالى ، وتقييد النعمة بهم لما أن الإنسان مجبولٌ على حب النعمة ، فإذا نظرَ إلى ما فاض عليه من النعم حملَه ذلك على الرضى والشُكر ، قيل : أريد بها ما أنعم به على آبائهم من النعم التي سيجىء تفصيلُها وعليهم من فنون النعم التي أجلُّها إدراكُ عصر النبي عليه السلام ، وقرىء ( اذَّكِروا ) من الافتعال ونعمتيْ بإسكان الياء وإسقاطها في الدرْج وهو مذهبُ من لا يحرك الياءَ المكسورَ ما قبلها { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى } بالإيمان والطاعة { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } بحسن الإثابة ، والعهد يضاف إلى كل واحد ممن يتولى طرفيه ، ولعل الأولَ مضافٌ إلى الفاعل والثاني إلى المفعول ، فإنه تعالى عَهِد إليهم بالإيمان والعملِ الصالحِ بنصب الدلائلِ وإرسال الرسل وإنزال الكتب ووعدهم بالثواب على حسناتهم ، وللوفاء بهما عَرْضٌ عريض ، فأولُ مراتبه منا هو الإتيانُ بكلمتي الشهادة ، ومن الله تعالى حقنُ الدماء والأموال ، وآخرُها منا الاستغراقُ في بحر التوحيد بحيث نغفُل عن أنفسنا فضلاً عن غيرنا ، ومن الله تعالى الفوزُ باللقاء الدائم ، وأما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أوفوا بعهدي في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم أوفِ بعهدكم في رفع الآصارِ والأغلال . وعن غيره : أوفوا بأداء الفرائض وترك الكبائر أوفِ بالمغفرة والثواب ، أو أوفوا بالاستقامة على الطريق المستقيم أوفِ بالكرامة والنعيم المقيم ، فبالنظر إلى الوسائط ، وقيل : كلاهما مضافٌ إلى المفعول ، والمعنى أوفوا بما عاهدتموني من الإيمان والتزام الطاعةِ أوفِ بما عاهدتُكم من حُسن الإثابةِ ، وتفصيلُ العهدين قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِى إسراءيل } إلى قوله : { وَلاَدْخِلَنَّكُمْ جنات } الخ وقرىء أوَفِّ بالتشديد للمبالغة والتأكيد .
{ وإياى فارهبون } فيما تأتون وما تذرون خصوصاً في نقض العهد ، وهو آكد في إفادة التخصيصِ من إياك نعبد ، لما فيه مع التقديم من تكرير المفعول والفاء الجزائية الدالةِ على تضمن الكلام معنى الشرط كأنه قيل : إن كنتم راهبين شيئاً فارهَبوني ، والرهبة خوف معه تحرز ، والآية متضمنة للوعد والوعيد ودالة على وجوب الشكر والوفاء بالعهد ، وأن المؤمن ينبغي ألا يخاف إلا الله تعالى .(1/123)
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
{ وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ } أفرد الإيمانَ بالقرآن بالأمر به لما أنه العُمدةُ القصوى في شأن الوفاء بالعهود { مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ } من التوراة ، والتعبير عنها بذلك للإيذان بعلمهم بتصديقه لها ، فإن المعيةَ مِئنّةٌ لتكرر المراجعة إليها والوقوفِ على ما في تضاعيفها المؤدي إلى العلم بكونه مصدقاً لها ومعنى تصديقِه للتوراة أنه نازلٌ حسبما نُعت فيها أو من حيث أنه موافقٌ لها في القصص والمواعيدِ والدعوة إلى التوحيد والعدلِ بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش : وأما ما يتراءى من مخالفته لها في بعض جزئياتِ الأحكام المتفاوتةِ بحسَب تفاوتِ الأعصارِ فليست بمخالفةٍ في الحقيقة ، بل هي موافِقة لها من حيث إن كلاً منها حقٌّ بالإضافة إلى عصره وزمانِه ، متضمِّنٌ للحكم التي عليها يدور ذلك التشريع ، وليس في التوراة دلالة على أبدية أحكامِها المنسوخةِ حتى يخالفَها ما ينسخها ، وإنما تدلُّ على مشروعيتها مطلقاً من غير تعرُّضٍ لبقائها وزوالها ، بل نقول هي ناطقةٌ بنسخ تلك الأحكام ، فإن نُطقها بصحة القرآن الناسخِ لها نطقٌ بنسخها ، فإذن مناطُ المخالفة في الأحكام المنسوخةِ إنما هو اختلافُ العصر حتى لو تأخَّر نزولُ المتقدّم لنزلَ على وَفْق المتأخِّر ولو تقدم نزولُ المتأخر لوافق المتقدّمَ قطعاً ، ولذلك قال عليه السلام : « لو كان موسى حياً لما وسِعه إلا اتّباعي » وتقييدُ المُنْزَلِ بكونه مصدقاً لما معهم لتأكيد وجوبِ الامتثالِ بالأمر فإن إيمانهم بما معهم مما يقتضي الإيمانَ بما يصدِّقه قطعاً .
{ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } أي لا تسارعوا إلى الكفر به ، فإن وظيفتكم أن تكونوا أولَ من آمن به لما أنكم تعرِفون شأنَه وحقِّيتَه بطريق التلقي مما معكم من الكتُب الإلهيةِ كما تعرِفون أبناءكم ، وقد كنتم تستفتِحون به وتبشِّرون بزمانه كما سيجيء ، فلا تضعوا موضعَ ما يُتوقّع منكم ويجب عليكم ما لا يُتوهم صدورُه عنكم من كونكم أولَ كافر به ، ووقوع أول كافر به خبراً من ضمير الجمع بتأويل أولِ فريق أو فوج ، أو بتأويل لا يكنْ كلُّ واحد منكم أولَ كافر به ، كقولك : كسانا حُلةً ، ونهيُهم عن التقدم في الكفر به مع أن مشركي العربِ أقدمُ منهم لما أن المرادَ به التعريضُ لا الدلالةُ على ما نَطَق به الظاهر ، كقولك : أما أنا فلستُ بجاهل ، لأن المراد نهيُهم عن كونهم أولَ كافر ( به ) من أهل الكتاب ، أو ممن كفر بما عنده ، فإن مَنْ كفر بالقرآن فقد كفر بما يصدِّقه أو مثلُ من كفر من مشركي مكةَ ، وأول : أفعلُ لا فِعلَ له ، وقيل : أصله أوْأَل ، من وَأَل إليه إذا نجا وخلُص ، فأُبدلت الهمزةُ واواً تخفيفاً غيرَ قياسي ، أو أَأْوَل من آلَ فقلبت همزتُه واواً وأدغمت .(1/124)
{ وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي } أي لا تأخُذوا لأنفسكم بدلاً منها { ثَمَناً قَلِيلاً } من الحظوظ الدنيوية ، فإنها وإن جلت قليلةٌ مسترذلة بالنسبة إلى ما فات عنهم من حظوظ الآخرةِ بترك الإيمان ، قيل : كانت لهم رياسةٌ في قومهم ورسومٌ وعطايا فخافوا عليها لو اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختاروها على الإيمان ، وإنما عُبِّر عن المشتري الذي هو العُمدة في عقود المعاوضة والمقصودُ فيها بالثمن الذي شأنه أن يكون وسيلةً فيها ، وقُرنت الآياتُ التي حقُّها أن يتنافسَ فيها المتنافسون بالباء التي تصحَبُ الوسائل إيذاناً بتعكيسهم حيث جعلوا ما هو المقصِدُ الأصليُّ وسيلةً ، والوسيلةُ مقصداً .
{ وإياى فاتقون } بالإيمان واتباعِ الحقِ والإعراض عن حطام الدنيا ولما كانت الآية السابقةُ مشتملةً على ما هو كالمبادىء لما في الآية الثانيةِ فُصِّلت بالرهبة التي هي من مقدِّمات التقوى ، أو لأن الخطابَ بها لما عمَّ العالِمَ والمقلِّدَ أُمر فيها بالرهبة المتناولةِ للفريقين ، وأما الخطابُ بالثانية فحيث خُصَّ بالعلماء أُمر فيها بالتقوى الذي هو المنتهى .(1/125)
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
{ وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل } عطفٌ على ما قبله واللَّبْسُ الخَلْطُ ، وقد يلزمه الاشتباهُ من المختلطين ، والمعنى لا تخلِطوا الحقَّ المُنْزَلَ بالباطل الذي تخترعونه وتكتُبونه حتى يشتبِهَ أحدُهما بالآخر ، أو لا تجعلوا الحقَّ ملتبساً بسبب الباطل الذي تكتُبونه في تضاعيفه ، أو تذكُرونه في تأويله { وَتَكْتُمُواْ الحق } مجزوم داخلٌ تحت حكمِ النهي كأنهم أُمروا بالإيمان وتركِ الضلال ، ونُهوا عن الإضلال بالتلبيس على من سمع الحقَ والإخفاءِ عمن لم يسمعه ، أو منصوبٌ بإضمار أن على أن الواوَ للجمع ، أي لاتجمعوا بين لَبْس الحقِّ بالباطل وبين كتمانِه ، ويعضُده أنه في مُصحف ابن مسعود وتكتُمون أي وأنتم تكتمون أي كاتمين ، وفيه إشعارٌ بأن استقباحَ اللَبسِ لما يصحبُه من كتمان الحق . وتكريرُ الحق إما لأن المرادَ بالأخير ليس عينَ الأول بل هو نعتُ النبي صلى الله عليه وسلم الذي كتَموه وكتبوا مكانه غيرَه كما سيجىء في قوله تعالى : { فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ } وإما لزيادةِ تقبيحِ المنهيِّ عنه ، إذ في التصريح باسمِ الحق ما ليس في ضميره .
{ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي حال كونِكم عالمين بأنكم لابسون كاتمون ، أو أنتم تعلمون أنه حق أو أنتم من أهل العلم ، وليس إيرادُ الحالِ لتقييد النهي به كما في قوله تعالى : { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى } بل لزيادة تقبيحِ حالهم ، إذ لجاهل عسى يُعذر .(1/126)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
{ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكواة } أي صلاةَ المسلمين وزكاتَهم فإن غيرَهما بمعزلٍ من كونه صلاةً وزكاةً ، أمرهم الله تعالى بفروعِ الإسلام بعد الأمرِ بأصوله { واركعوا مَعَ الراكعين } أي في جماعتهم فإن صلاةَ الجماعةِ تفضُل صلاة الفذِ بسبعٍ وعشرين درجة ، لما فيها من تظاهُر النفوسِ في المناجاة ، وعُبِّر عن الصلاة بالركوع احترازاً عن صلاة اليهود وقيل : الركوعُ والخضوعُ والانقيادُ لما يُلزِمُهم الشارعُ . قال الأضبطُ بنُ قُريع السعدي :
لا تحقِرَنّ الضعيفَ عَلَّك أن ... تركَعَ يوماً والدهرُ قد رَفَعَهْ
{ أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر } تجريدٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى بعضهم بعد توجيهِه إلى الكل والهمزةُ فيها تقريرٌ مع توبيخٍ وتعجيبٍ والبِرُّ التوسُّعُ في الخير من البَرّ الذي هو الفضاءُ الواسعُ يتناول جميعَ أصنافِ الخيرات ، ولذلك قيل البر ثلاثة : بِرٌّ في عبادة الله تعالى ، وبِرٌّ في مراعاة الأقارب ، وبِرٌّ في معاملة الأجانب .
{ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } أي تتركونها من البر كالمَنْسيات عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلتْ في أحبارِ المدينة كانوا يأمُرون سراً من نصَحُوه باتباع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يتبعونه طمعاً في الهدايا والصِلاتِ التي كانت تصلُ إليهم من أتباعهم وقيل : كانوا يأمُرون بالصدقة ولا يتصدقون ، وقال السدي : أنهم كانوا يأمرون الناسَ بطاعة الله تعالى وينهَوْنَهم عن معصيته وهم يتركون الطاعة ويُقْدِمون على المعصية ، وقال ابن جريج : كانوا يأمرون الناسَ بالصلاة والزكاة وهم يتركونهما ومدارُ الإنكارِ والتوبيخِ هي الجملةُ المعطوفة دون ما عُطفت هي عليه .
{ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكتاب } تبكيتٌ لهم وتقريعٌ كقوله تعالى : { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي والحالُ أنكم تتلون التوراةَ الناطقةَ بنعوته صلى الله عليه وسلم الآمرةِ بالإيمان به أو بالوعد بفعل الخيرِ والوعيدِ على الفسادِ والعنادِ وتركِ البِر ومخالفةِ القولِ العملَ { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي أتتلونه فلا تعقِلون ما فيه ، أو قبحَ ما تصنعون حتى ترتدعوا عنه ، فالإنكارُ متوجِّهٌ إلى عدم العقل بعد تحققِ ما يوجبه فالمبالغة من حيث الكيفُ ، أو ألا تتأملون فلا تعقلون ، فالإنكارُ متوجِّه إلى كلا الأمرين ، والمبالغةُ حينئذ من حيث الكم ، والعقلُ في الأصل المنعُ والإمساك ، ومنه العِقالُ الذي يُشدُّ به وظيفُ البعير إلى ذراعه لحبسِه عن الحَراك . سُمّي به النورُ الروحاني الذي به تُدرِك النفسُ العلومَ الضرورية والنظريةَ لأنه يحبِسُه عن تعاطي ما يقبُح ويعقِله على ما يحسُن ، والآية كما ترى ناعيةٌ على كل من يعِظُ غيرَه ولا يتعظ بسوء صنيعِه وعدمِ تأثره وإن فِعْلَه فعلُ الجاهلِ بالشرع أو الأحمق الخالي عن العقل ، والمرادُ بها كما أشير إليه حثُّه على تزكية النفس والإقبالُ عليها بالتكميل لتقوم بالحقِّ فتقيمَ غيرَها ، لا منعُ الفاسق عن الوعظ .
يروى أنه كان عالم من العلماء مؤثِّرُ الكلام قويُّ التصرف في القلوب ، وكان كثيراً ما يموتُ من أهل مجلسه واحدٌ أو اثنان من شدة تأثير وعظِه ، وكان في بلده عجوزٌ لها ابنٌ صالحٌ رقيقُ القلب سريعُ الانفعال وكانت تحترز عليه وتمنعُه من حضور مجلس الواعظِ فحضَره يوماً على حين غفلةٍ منها فوقع من أمر الله تعالى ما وقع ثم إن العجوز لقِيت الواعظَ يوماً في الطريق فقالت :
لِتهدي الأنام ولا تهتدي ... ألا إنّ ذلك لا ينفعُ
فيا حَجَرَ الشَّحْذ حتى متى ... تسُنُّ الحديدَ ولا تقطع
فلما سمعه الواعظ شهَق شهقةً فخرَّ عن فرسه مغشياً عليه فحمَلوه إلى بيته فتُوفّي إلى رحمة الله سبحانه .(1/127)
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
{ واستعينوا بالصبر والصلاة } متصلٌ بما قبله كأنهم لما كُلفوا ما فيه من مشقةٌ من ترك الرياسةِ والإعراضِ عن المال عولجوا بذلك والمعنى استعينوا على حوائجكم بانتظار النُّجْحِ والفرَج توكلاً على الله تعالى أو بالصوم الذي هو الصبرُ عن المفطِرات لما فيه من كسر الشهوةِ وتصفيةِ النفس والتوسل بالصلاة والالتجاءِ إليها فإنها جامعةٌ لأنواع العبادات النفسانية والبدنية ، من الطهارة وسترِ العورة وصرفِ المال فيهما والتوجهِ إلى الكعبة والعكوفِ على العبادة وإظهارِ الخشوعِ بالجوارحِ وإخلاصِ النية بالقلب ومجاهدةِ الشيطان ومناجاة الحقِّ وقراءةِ القرآنِ والتكلمِ بالشهادة وكفِّ النفسِ عن الأطيبَيْنِ حتى تجابوا إلى تحصيل المآرب وجبر المصائب .
روي أنه عليه السلام كان إذا حزَّ به أمرٌ فزِعَ إلى الصلاة ويجوز أن يُرادَ بها الدعاء { وَإِنَّهَا } أي الاستعانةَ بهما أو الصلاة وتخصيصَها بردِّ الضمير إليها لعِظم شأنِها واشتمالِها على ضروبٍ من الصبر كما في قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } أو جُملةِ ما أُمروا بها ونُهوا عنها { لَكَبِيرَةٌ } لثقيلة شاقةٌ كقوله تعالى : { كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } { إِلاَّ عَلَى الخاشعين } الخشوعُ الإخباتُ ومنه الخشْعةُ للرملة المتطامنةِ والخضوعُ اللين والانقيادُ ولذلك يقال : الخشوعُ بالجوارح والخضوعُ بالقلب وإنما لم تثقُلْ عليهم لأنهم يتوقعون ما أُعد لهم بمقابلتها فتهونُ عليهم ولأنهم يستغرقون في مناجاة ربِّهم فلا يُدركون ما يجري عليهم من المشاقِّ والمتاعبِ ، ولذلك قال عليه السلام : « و ( جُعِلَ ) قُرَّةُ عيني في الصَّلاة » والجملةُ حاليةٌ أو اعتراضٌ تذييلي { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجعون } أي يتوقعون لقاءَه تعالى ونيلَ ما عنده من المثوبات ، والتعرضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إليهم للإيذان بفيضَان إحسانِه إليهم أو يتيقنون أنهم يُحشرون إليه للجزاءِ فيعمَلون على حسب ذلك رغبةً ورهبة ، وأما الذين لا يوقنون بالجزاء ولا يرجُون الثوابَ ولا يخافون العقابَ كانت عليهم مشقةً خالصةً فتَثْقُلُ عليهم ، كالمنافقين والمرائين ، فالتعرُضُ للعنوان المذكور للإشعار بعلِّية الربوبيةِ والمالكيةِ للحُكْم ، ويؤيده أن في مصحفِ ابنِ مسعود رضي الله عنه ( يعلمون ) وكأن الظنَّ لما شابه العلم في الرُّجحان أطلق عليه لتضمين معنى التوقع قال :
فأرسلْتُه مستيقِنَ الظنِّ إنه ... مخالطُ ما بين الشراسيفِ جائفُ
وجعل خبر إن في الموضعين اسماً للدلالة على تحقق اللقاء والرجوعِ وتقرُّرِهما عندهم { يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } كُرر التذكيرُ للتأكيد ولربط ما بعده من الوعيد الشديدِ به { وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ } عطفٌ على نعمتيَ عطفَ الخاصِّ على العامِّ لكماله أي فضلتُ آباءَكم { عَلَى العالمين } أي عالَمِي زمانِهم بما منحتُهم من العلم والإيمانِ والعملِ الصالحِ وجعلتُهم أنبياءَ وملوكاً مُقسِطين ، وهم آباؤهم الذين كانوا في عصر موسى عليه السلام وبعده قبل أن يغيّروا .(1/128)
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
{ واتقوا يَوْمًا } أي حسابَ يومٍ أو عذابَ يوم { لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا } أي لا تقضي عنها شيئاً من الحقوق فانتصابُ شيئاً على المفعولية أو شيئاً من الجزاء فيكون نصبُه على المصدرية وقرىء لا تُجزِي : أي لا تغني عنها فيتعين النصبُ على المصدرية ، وإيرادُه منكراً مع تنكير النفسِ للتعميم والإقناطِ الكليّ ، والجملة صفةُ ( يوماً ) والعائد منها محذوف أي لا تَجْزي فيه ومن لم يجوز الحذفَ قال : اتُسع فيه فحُذف الجارُّ وأُجرِيَ المجرورُ مجرى المفعولِ به ثم حُذِفَ في قول من قال :
فما أدري أغَيَّرهمْ تناء ... وطولُ العهدِ أم مالٌ أصابوا
أي أصابوه { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شفاعة وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } أي من النفس الثانية العاصيةِ أو من الأولى ، والشفاعةُ من الشفْع كأن المشفوعَ له كان فرداً فجعله الشفيعُ شفعاً والعدلُ الفدية وقيل : البدل ، وأصله التسوية سُمي به الفديةُ لأنها تساوي المَفْدِيَّ وتَجزي مَجزاه { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } أي يُمنعون من عذاب الله عز وجل ، والضميرُ لما دلت عليه النفسُ الثانية المنَكّرة الواقعةُ في سياق النفي من النفوس الكثيرة ، والتذكيرُ لكونها عبارةً عن العبّاد والأَناسيِّ ، والنُصرةُ ههنا أخصُّ من المعونة لاختصاصها بدفع الضرر وكأنه أريد بالآية نفيُ أن يَدفعَ العذابَ أحدٌ عن أحد من كل وجهٍ محتمل ، فإنه إما أن يكون قهراً أو لا والأول النُّصرة ، والثاني إما أن يكون مجّاناً أو لا ، والأولُ الشفاعة والثاني إما أن يكونَ بأداء عينِ ما كان عليه وهو أن يجزيَ عنه أو بأداء غيرِه وهو أن يُعطيَ عنه عَدْلاً وقد تمسكت المعتزلةُ بهذه الآية على نفي الشفاعةِ لأهل الكبائرِ ، والجوابُ أنها خاصة بالكفار للآيات الواردة في الشفاعة والأحاديثِ المرويةِ فيها ويؤيده أن الخطابَ معهم ولردهم عما كانوا عليه من اعتقاد أن آباءَهم الأنبياءَ يشفعون لهم { وَإِذْ نجيناكم مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ } تذكيرٌ لتفاصيلِ ما أُجمل في قوله تعالى : { نِعْمَتِى التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } من فنون النَعماء وصنوفِ الآلاءِ أي واذكروا وقت تنجيتِنا إياكم أي آباءَكم فإن تنجيتَهم تنجيةٌ لأعقابهم ، وقرىء : أنجيتُكم وأصلُ آلٍ أهْلٌ لأن تصغيره أُهيل وخص بالإضافة إلى أولي الأخطارِ كالأنبياء عليهم السلام والملوك ، وفرعونُ لقبٌ لمن ملك العمالقة ككسرى لملِك الفرسِ وقيصرَ لملك الروم وخاقانَ لملك التُرك ، ولعُتُوِّه اشتُق منه تفَرْعَنَ الرجلُ إذا عتا وتمرَّد ، وكان فرعونُ موسى عليه السلام مُصعبُ بنُ ريانَ وقيل : ابنهُ وليداً من بقايا عادٍ ، وقيل : إنه كان عطّاراً أصفهانياً ركبتْه الديونُ فأفلس فاضطُر إلى الخروج فلحِقَ بالشام فلم يتسنَّ له المقامُ به فدخل مصْرَ فرأى في ظاهره حِمْلاً من البطيخ بدرهم ، وفي نفسه بِطِّيخةٌ بدرهم فقال في نفسه : إن تيسر لي أداءُ الدين فهذا طريقُه فخرج إلى السواد فاشترى حملاً بدرهم فتوجه به إلى السوق فكل من لقِيه من المكّاسين أخذ منه بِطيخة فدخل البلد وما معه إلا بطيخةٌ فباعها بدرهم ومضى لوجهه ورأى أهلَ البلد متروكين سُدى لا يتعاطى أحدٌ سياستهم ، وكان قد وقع بهم وباءٌ عظيمٌ فتوجه نحوَ المقابر فرأى ميْتاً يُدفن فتعرَّض لأوليائه فقال : أنا أمينُ المقابرِ فلا أدعُكم تدفِنونه حتى تعطوني خمسةَ دراهمَ فدفعوها إليه ومضى لآخرَ وآخرَ حتى جمع في مقدار ثلاثة أشهرٍ مالاً عظيماً ولم يُتعرضْ له قطُّ إلى أن تعرَّض يوماً لأولياء ميتٍ فطلب منهم ما كان يطلب من غيرهم فأبَوْا ذلك فقالوا : من نصَّبك هذا المنصِبَ فذهبوا به إلى فرعون فقال : من أنت ومن أقامك بهذا المَقام؟ قال : لم يُقِمْني أحد وإنما فعلتُ ما فعلتُ ليُحضِرَني أحد إلى مجلسك فأُنبِّهَك على اختلال حال قومِك وقد جمعتُ بهذا الطريق هذا المقدارَ من المال فأحضَره ودفعه إلى فرعون فقال : ولِّني أمورَك ترَني أميناً كافياً فولاه إياها فسار بهم سيرةً حسنة فانتظمتْ مصالحُ العسكر واستقامت أحوالُ الرعية ولبث فيهم دهراً طويلاً وترامى أمرُه في العدل والصلاحِ فلما مات فرعون أقاموه مُقامه فكان من أمره ما كان وكان فرعونَ يوسفَ ريانُ وكان بينهما أكثرُ من أربعمائة سنة { يَسُومُونَكُمْ } أي يبغونكم من سامه خسفاً إذا أولاه ظلماً وأصله الذهاب في طلب الشيء { سُوء العذاب } أي أفظعَه وأقبحه بالنسبة إلى سائره والسُوء مصدرٌ من ساء يسوءُ ونصبُه على المفعولية ليسومونكم ، والجملةُ حالٌ من الضمير في نجّيناكم أو من آلِ فرعونَ أو منهما جميعاً لاشتمالها على ضميريهما { يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ } بيانٌ ليسومونكم ولذلك تُرك العاطفُ بينهما وقرىء يَذْبحون بالتخفيف وإنما فعلوا بهم ما فعلوا لما أن فرعونَ رأى في المنام أو أخبره الكهنةُ أنه سيولد منهم من يذهب بمُلكه فلم يردَّ اجتهادُهم من قضاء الله عز وجل شيئاً قيل : قتلوا بتلك الطريقة تسعمائة ألف مولود وتسعين ألفاً وقد أعطى الله عز وجل نفس موسى عليه السلام من القوة على التصرف ما كان يعطيه أولئك المقتولين لو كانوا أحياء ولذلك كانت معجزاته ظاهرةً باهرة { وَفِى ذلكم } إشارة إلى ما ذكر من التذبيح والاستحياء أو إلى الإنجاء منه ، وجمعُ الضمير للمخاطبين ، فعلى الأول معنى قوله تعالى : { بَلاء } محنةٌ وبلية وكونُ استحياءِ نسائهم أي استبقائهن على الحياة محنةً مع أنه عفو وتركٌ للعذاب لما أن ذلك كان للاستعمال في الأعمال الشاقة وعلى الثاني نعمةٌ وأصلُ البلاء الاختبار ، ولكن لما كان ذلك في حقه سبحانه مُحالاً وكان ما يجري مَجرى الاختبارِ لعباده تارةً بالمحنة وأخرى بالمِنْحة أُطلق عليهما ، وقيل : يجوز أن يُشارَ بذلكم إلى الجملة ويرادَ بالبلاء القدرُ المشترك الشاملُ لهما { مّن رَّبّكُمْ } من جهته تعالى بتسليطهم عليكم أو ببعث موسى عليه السلام وبتوفيقه لتخليصكم منهم أو بهما معاً { عظِيمٌ } صفةٌ لبلاءٌ وتنكيرُهما للتفخيم ، وفي الآية الكريمة تنبيهٌ على أن ما يصيب العبدَ من السرَّاء والضراءِ من قبيل الاختبارِ فعليه الشكرُ في المسار والصبرُ على المضارِّ .(1/129)
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر } بيان لسبب التنجيةِ وتصويرٌ لكيفيتها إثرَ تذكيرها وبيانُ عِظمِها وهولِها وقد بَيّن في تضاعيف ذلك نعمةً جليلةً أخرى هي الأنجاءُ من الغرق أي واذكروا إذ فلقناه بسلوككم كقوله تعالى : { تَنبُتُ بالدهن } أو بسبب إنجائكم وفصَلْنا بين بعضِه وبعضٍ حتى حصلت مسالكُ ، وقرىء بالتشديد للتكثير لأن المسالك كانت اثني عشَرَ بعدد الأسباط { فأنجيناكم } أي من الغرق بإخراجكم إلى الساحل كما يصرِّح به العدولُ إلى صيغة الإفعال بعد إيرادِ التخليصِ من فرعون بصيغة التفعيل وكذا قولُه تعالى : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ } أريد فرعونُ وقومُه وإنما اقتُصر على ذكرهم للعلم بأنه أولى به منهم وقيل : شخصُه كما روُي أن الحسن رضي الله عنه كان يقول : اللهم صل على آل محمدٍ أي شخصِه واستُغنى بذكره عن ذكر قومه { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } ذلك أو غرقَهم وإطباقَ البحر عليهم أو انفلاقَ البحر عن طرق يابسةٍ مذللة أو جثثَهم التي قذفها البحرُ إلى الساحل أو ينظرُ بعضُكم بعضاً .
روي أنه تعالى أمر موسى عليه السلام أن يسريَ ببني إسرائيلَ فخرج بهم فصبحهم فرعونُ وجنودُه وصادفوهم على شاطىء البحر فأوحى الله تعالى إليه أن اضرِبْ بعصاك البحر فضربه بها فظهر فيها اثنا عشر طريقاً يابساً فسلكوها فقالوا : نخاف أن يغرَقَ بعضُ أصحابنا فلا نعلم ففتح الله تعالى فيها كُوىً فتراءَوْا وتسامعوا حتى عبروا البحرَ فلما وصل إليه فرعونُ فرآه منفلقاً اقتحمه هو وجنودُه فغشِيَهم ما غشيهم . واعلم أن هذه الواقعة كما أنها لموسى معجزةٌ عظيمة تخِرُّ لها أطُمُ الجبال ونعمةٌ عظيمة لأوائل بني إسرائيلَ موجبةٌ عليهم شكرَها كذلك اقتصاصُها على ما هي عليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم معجزةٌ جليلةٌ تطمئن بها القلوبُ الأبية وتنقاد لها النفوس الغبية موجبةً لأعقابهم أن يتلقَّوْها بالإذعان فلا تأثرت أوائلُهم بمشاهدتها ورؤيتها ولا تذكرت أواخرُهم بتذكيرها وروايتها فيا لها من عصابة ما أعصاها وطائفةٍ ما أطغاها .(1/130)
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)
{ وَإِذْ واعدنا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } لما عادوا إلى مصرَ بعد مهلك فرعونَ وعد الله موسى عليه السلام أن يعطيه التوراة وضرب له ميقاتاً ذا القَعْدة وعشرَ ذي الحِجة وقيل : وعد عليه السلام بني إسرائيلَ وهو بمصر إن أهلك الله عدوَّهم أتاهم بكتاب من عند الله تعالى فيه بيانُ ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعونُ سأل موسى ربه الكتاب فأمره بصومِ ثلاثين وهو شهرُ ذي القعدة ثم زاد عشراً من ذي الحجة وعبر عنها بالليالي لأنها غُررُ الشهور وصيغة المفاعلة بمعنى الثلاثي وقيل : على أصلها تنزيلاً لقبول موسى عليه السلام منزلةَ الوعدِ و ( أربعين ليلةً ) مفعول ثانٍ لواعدنا على حذف المضافِ أي بمقام أربعين ليلةً وقرىء ( وعَدْنا ) { ثُمَّ اتخذتم العجل } بتسويل السامري إلهاً ومعبوداً وثم للتراخي الرتبي ، { مِن بَعْدِهِ } أي من بعد مشْيِه إلى الميقات على حذف مضاف { وَأَنتُمْ ظالمون } بإشراككم ووضعِكم للشيء في غير موضعِه وهو حالٌ من ضمير اتخذتم أو اعتراضٌ تذييليّ أي وأنتم قومٌ عادتُكم الظلم .
{ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ } حين تبتم ، والعفوُ محوُ الجريمة من عفاه درَسه وقد يجيء لازماً قال :
عرفتُ المنزلَ الخالي ... عفا من بعد أحوالِ
عفاه كلُّ هتان ... كثيرِ الوَبْل هطّالِ
وقوله تعالى : { مِن بَعْدِ ذلك } أي من بعد الاتخاذ الذي هو متناهٍ في القُبح للإيذان بكمال العفو بعد تلك المرتبة من الظلم { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } لكي تشكروا نعمةَ العفو وتستمرّوا بعد ذلك على الطاعة .(1/131)
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
{ وَإِذْ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب والفرقان } أي التوراةَ الجامعةَ بين كونِها كتاباً وحُجةً تفرق بين الحق والباطلِ وقيل : أريد بالفرقان معجزاتُه الفارقةُ بين الحق والباطل في الدعوى أو بين الكفر والإيمان ، وقيل : الشرعُ الفارقُ بين الحلالِ والحرام أو النصرُ الذي فرّق بينه وبين عدوِّه ، كقوله تعالى : يوم الفرقان يريد به يومَ بدر { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } لكي تهتدوا بالتدبر فيه والعمل بما يحويه { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ } بيانٌ لكيفية وقوعِ العفو المذكورِ { ياقوم إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ باتخاذكم العجل } أي معبوداً { فَتُوبُواْ } أي فاعزِموا على التوبة { إلى بَارِئِكُمْ } أي إلى مَنْ خلقَكم بريئاً من العُيوب والنقصان والتفاوت وميّز بعضَكم من بعض بصور وهيئات مختلفة ، وأصلُ التركيب الخلوصُ عن الغير إما بطريق التقصي كما في برِىء المريضُ أو بطريق الإنشاء كما في بَرَأ الله آدم من الطين والتعرض لعنوان البارئية للإشعار بأنهم بلغوا من الجهالة أقصاها ومن الغواية منتهاها حيث تركوا عبادةَ العليمِ الحكيم الذي خلقهم بلطيف حكمتِه بريئاً من التفاوت والتنافُرِ إلى عبادة البقر الذي هو مثلٌ في الغباوة ، وأن من لم يعرِفْ حقوقَ مُنعِمِه حقيقٌ بأن تُستردّ هي منه ولذلك أُمروا بالقتل وفك التركيب { فاقتلوا أَنفُسَكُمْ } تماماً لتوبتكم بالبَخْع أو بقطع الشهوات ، وقيل : أُمروا أن يقتُلَ بعضُهم بعضاً وقيل : أُمر من لم يعبد العجل بقتل مَنْ عَبَده . يروى أن الرجلَ كان يرى قريبَه فلم يقدِرْ على المُضِيِّ لأمر الله تعالى فأرسل الله ضَبابةً وسحابة سوداءَ لا يتباصَرون بها فأخذوا يقتتلون من الغداة إلى العشي حتى دعا موسى وهارونُ عليهما السلام ، فكُشفت السحابةُ ونزلت التوبةُ وكانت القتلى سبعين ألفاً ، والفاء الأولى للتسبيب والثانية للتعقيب { ذلكم } إشارة إلى ما ذكر من التوب والقتل { خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ } لما أنه طُهرةٌ عن الشرك ووَصْلةٌ إلى الحياة الأبدية والبهجة السرمدية { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } عطفٌ على محذوف على أنه خطابٌ منه سبحانه على نهج الالتفاتِ من التكلم الذي يقتضيه سياقُ النظم الكريمِ وسياقه فإن مبنى الجميعِ على التكلم إلى الغَيْبة ليكون ذريعة إلى إسناد الفعلِ إلى ضمير بارئِكم المستتبع للإيذان بعلّية عنوانِ البارئية والخلق والإحياءِ لقبول التوبة التي هي عبارةٌ عن العفو عن القتل ، تقديرُه فعلتم ما أمرتم به فتابَ عليكم بارئُكم وإنما لم يقل فتابَ عليهم على أن الضميرَ للقوم لما أن ذلك نعمةٌ أريد التذكيرُ بها للمخاطبين لا لأسلافهم هذا وقد جوز أن يكون فتاب عليكم متعلقاً بمحذوفٍ على أنه من كلام موسى عليه السلام لقومه تقديرُه إن فعلتم ما أُمِرْتم به فقد تاب عليكم ولا يخفى أنه بمعزلٍ من اللَّياقة بجلالة شأنِ التنزيلِ ، كيف لا وهو حينئذ حكايةٌ لوعد موسى عليه السلام قومَه بقَبول التوبةِ منه تعالى لا لقبوله تعالى حتماً ، وقد عرفتَ أن الآيةَ الكريمةَ تفصيلٌ لكيفية القبول المحكيِّ فيما قبل وأن المراد تذكيرُ المخاطبين بتلك النعمة .
{ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم } تعليل لما قبله أي الذي يُكثر توفيقَ المذنبين للتوبة ويبالِغُ في قبولها منهم وفي الإنعام عليهم .(1/132)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
{ وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى موسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ } تذكيرٌ لنعمة أخرى عليهم بعد ما صدر عنهم ما صدر من الجناية العظيمةِ التي هي اتخاذُ العجل أي لن نؤمنَ لأجل قولِك ودعوتِك أو لن نُقرَّ لك ، والمؤمَنُ به إعطاءُ الله إياه التوراةَ أو تكليمَه إياه أو أنه نبيٌّ أو أنه تعالى جعل توبتَهم بقتلهم أنفسَهم { حتى نَرَى الله جَهْرَةً } أي عياناً وهي في الأصل مصدرُ قولِك جهَرتُ بالقراءة ، استُعيرت للمعاينة لما بينهما من الاتحاد في الوضوح والانكشافِ ، إلا أن الأولَ في المسموعات والثاني في المُبْصَرات ونصبُها على المصدرية لأنها نوع من الرؤية أو حالٌ من الفاعل أو المفعول وقرىء بفتح الهاء على أنها مصدر كالغَلَبة أو جمعٌ كالكَتَبة فيكون حالاً من الفاعل لا غير ، والقائلون هم السبعون المختارون لميقات التوبةِ عن عبادة العجل ، روُي أنهم لما ندِموا على ما فعلوا وقالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفرْ لنا لنكونن من الخاسرين ، أمر الله موسى عليه السلام أن يجمع سبعين رجلاً ويحضُرَ معهم الطورَ يُظهرون فيه تلك التوبةَ فلما خرجوا إلى الطور وقع عليه عمودٌ من الغمام وتغشاه كله فكلم الله موسى عليه السلام يأمره وينهاه ، وكان كلما كلّمه تعالى أوقع على جبهته نوراً ساطعاً لا يستطيع أحدٌ من السبعين النظرَ إليه وسمِعوا كلامَه تعالى مع موسى عليه السلام افعل ولا تفعل فعند ذلك طمِعوا في الرؤية فقالوا ما قالوا كما سيأتي في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى وقيل : عشرة آلاف من قومه { فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة } لفرط العنادِ والتعنّتِ وطلب المستحيل فإنهم ظنوا أنه سبحانه وتعالى مما يشبه الأجسامَ وتتعلق به الرؤيةُ تعلُّقَها بها على طريق المقابلة في الجهات والأحياز ، ولا ريبَ في استحالته إنما الممكنُ في شأنه تعالى الرؤيةُ المنزهة عن الكيفيات بالكلية وذلك للمؤمنين في الآخرة وللأفرادِ من الأنبياء الذين بلغوا في صفاء الجوهر إلى حيث تراهم كأنهم وهم في جلابيبَ من أبدانهم قد نَضَوْها وتجرّدوا عنها إلى عالم القدس في بعض الأحوال في الدنيا . قيل : جاءت نارٌ من السماء فأحرقتهم وقيل : صيحة وقيل : جنودٌ سمعوا بحسيسها فخرّوا صعِقين ميتين يوماً وليلة . وعن وهْبٍ : أنهم لم يموتوا بل لما رأَوْا تلك الهيئة الهائلةَ أخذتهم الرعدةُ ورَجَفوا حتى كادت تبِينُ مفاصلُهم وتنقضُّ ظهورُهم وأشرفوا على الهلاك فعند ذلك بكى موسى عليه السلام ودعا ربه فكشف الله عز وجل عنهم ذلك فرجعت إليهم عقولُهم ومشاعرُهم ولم تكن صعقةُ موسى عليه السلام موتاً بل غَشْيةً لقوله تعالى فلما أفاق { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } أي ما أصابكم بنفسه أو بآثاره { ثُمَّ بعثناكم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ } بتلك الصاعقة ، قيدُ البعثُ به لما أنه قد يكون من الإغماء وقد يكون من النوم كما في قوله تعالى :(1/133)
{ ثُمَّ بعثناهم لِنَعْلَمَ } الخ { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي نعمةَ البعث أو ما كفرتموه بما رأيتم من بأس الله تعالى .
{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام } أي جعلناها بحيث تُلقي عليكم ظلَّها ، وذلك أنه تعالى سخَّر لهم السحابَ يسير بسيرهم وهم في التيه يُظلهم من الشمس وينزل بالليل عمودٌ من نار يسيرون في ضوئه وثيابُهم لا تتسخ ولا تَبْلى { وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى } أي الترنجبين والسمانى وقيل : كان ينزل عليهم المنُّ مثلَ الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل إنسانٍ صاعٌ وتبعَثُ الجَنوبُ عليهم السمانى فيذبح الرجلُ منه ما يكفيه { كُلُواْ } على إرادة القول أي قائلين لهم أو قيل لهم : كلوا { مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم } من مستلذاته و ( ما ) موصولةً كانت أو موصوفةً عبارة عن المن والسلوى { وَمَا ظَلَمُونَا } كلامٌ عدَل بهم عن نهج الخطابِ السابقِ للإيذان باقتضاء جناياتِ المخاطبين للإعراض عنهم وتَعدادِ قبائحهم عند غيرهم على طريق المباثة معطوفٌ على مضمر قد حذف للإيجاز والإشعار بأنه أمر محقق غني عن التصريح به أي فظلموا بأن كفروا تلك النعمَ الجليلةَ وما ظلمونا بذلك { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بالكُفران إذ لا يتخطاهم ضررُه ، وتقديمُ المفعول للدلالة على القصر الذي يقتضيه النفيُ السابقُ وفيه ضربُ تهكّمٍ بهم ، والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على تماديهم في الظلم واستمرارِهم على الكفر .(1/134)
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
{ وَإِذْ قُلْنَا } تذكير لنعمة أخرى من جَنابه تعالى وكَفْرةٌ أخرى لأسلافهم أي واذكروا وقت قولِنا لآبائكم إثرَ ما أنقذناهم من التيه { ادخلوا هذه القرية } منصوبةٌ على الظرفية عند سيبويه وعلى المفعولية عند الأخفش ، وهي بيتُ المقدِس وقيل : أريحا { فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا } أي واسعاً هنيئاً ونصبُه على المصدرية أو الحالية من ضمير المخاطبين ، وفيه دلالة على أن المأمورَ به الدخولُ على وجه الإقامة والسُكنى ، فيؤول إلى ما في سورة الأعراف من قوله تعالى : { اسكنوا هذه القرية } { وادخلوا الباب } أي بابَ القرية على ما رُوي من أنهم دخلوا أريحاءَ في زمن موسى عليه السلام كما سيجىء في سورة المائدة أو بابَ القبة التي كانوا يصلّون إليها فإنهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه السلام { سُجَّدًا } أي متطامنين مُخْبتين أو ساجدين لله شكراً على إخراجهم من التيه { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } أي مسألتُنا أو أمرُك حِطة وهي فِعلة من الحط كالجِلسة وقرىء بالنصب على الأصل بمعنى حُطَّ عنا ذنوبَنا حِطة أو على أنها مفعول قولوا أي قولوا هذه الكلمة وقيل : معناها أمرُنا حِطة أي أن نحُطَّ رحالنا في هذه القرية ونقيمَ بها { نَّغْفِرْ لَكُمْ خطاياكم } لما تفعلون من السجود والدعاء ، وقرىء بالياء والتاء على البناء للمفعول ، وأصلُ خطايا خطايىءُ كخضايع فعند سيبويه أُبدلت الياءُ الزائدة همزة لوقوعها بعد الألف واجتمعت همزتان وأُبدلت الثانية ياء ، ثم قلبت ألفاً وكانت الهمزة بين ألفين فأُبدلت ياءً وعند الخليل قُدمت الهمزة على الياء ثم فُعل بها ما ذكر { وَسَنَزِيدُ المحسنين } ثواباً جعل الامتثالَ توبةً للمسيءِ وسبباً لزيادة الثواب للمُحْسِنِ وأُخرج ذلك عن صورة الجواب إلى الوعد إيذاناً بأن المحسنَ بصدد ذلك وإن لم يفعله فكيف إذا فعله وأنه يفعله لا محالة .(1/135)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
{ فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ } بما أُمروا به من التوبة والاستغفار بأن أعرضوا عنه وأوردوا مكانه { قَوْلاً } آخرَ مما لا خيرَ فيه . رُوي أنهم قالوا مكان حِطة حِنْطة وقيل : قالوا بالنَّبْطية حِطاً سمقاساً يعنون حنطةً حمراءَ استخفافاً بأمر الله عز وجل { غَيْرَ الذى قِيلَ لَهُمْ } نعتٌ لقولا وإنما صُرِّح به مع استحالة تحقُّق التبديلِ بلا مغايَرةٍ تحقيقاً لمخالفتهم وتنصيصاً على المغايرة من كلِّ وجه { فَأَنزَلْنَا } أي عقيب ذلك { عَلَى الذين ظَلَمُواْ } بما ذكر من التبديل وإنما وُضِعَ الموصولُ موضعُ الضمير العائدِ إلى الموصول الأول للتعليل والمبالغةِ في الذم والتقريع ، وللتصريح بأنهم بما فعلوا قد ظلموا أنفسَهم بتعريضها لسخط الله تعالى { رِجْزًا مّنَ السماء } أي عذاباً مقدّراً منها ، والتنوينُ للتهويل والتفخيم { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } بسبب فِسقهم المستمرِّ حسبما يفيدُه الجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل ، وتعليلُ إنزال الرجزِ به بعد الإشعار بتعليله بظلمهم للإيذان بأن ذلك فسقٌ وخروجٌ عن الطاعة وغلوٌّ في الظلم وأن تعذيبَهم بجميع ما ارتكبوه من القبائح لا بعدم توبتهم فقط كما يُشعِرُ به ترتيبُه على ذلك بالفاء ، والرِّجْزُ في الأصل ما يُعاف عنه وكذلك الرجسُ وقرىء بالضم ، وهو لغة فيه والمراد به الطاعونُ ، روي أنه مات به في ساعة واحدةٍ أربعةٌ وعشرون ألفاً .
{ وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ } تذكير لنعمةٍ أخرى كفروها وكان ذلك في التيه حين استولى عليهم العطشُ الشديد ، وتغييرُ الترتيب لما أشير إليه مراراً من قصد إبرازِ كلَ من الأمور المعدودة في معرِض أمرٍ مستقلَ واجبِ التذكير والتذكرِ ولو رُوعي الترتيبُ الوقوعي لفُهم أن الكلَّ أمرٌ واحد أُمر بذكره ، واللام متعلقة بالفعل أي استسقى لأجل قومه { فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ الحجر } رُوي أنه كان حَجَراً طورياً مكعباً حمله معه وكان ينبُع من كل وجه منه ثلاثُ أعين تسيل كلُّ عين في جدول إلى سبط وكانوا ستمائة ألفٍ وسعةَ المعسكر اثنيْ عشَرَ ميلاً أو كان حجَراً أهبطه الله تعالى مع آدمَ عليه السلام من الجنة ووقع إلى شعيب عليه السلام فأعطاه موسى عليه السلام مع العَصا أو كان هو الحجرَ الذي فرَّ بثوبه حين وضعَه عليه ليغتسل وبرّأه الله تعالى به عما رمَوْه به من الأَدَرَة فأشار إليه جبريلُ عليه السلام أن يحمِلَه أو كان حَجَراً من الحجارة وهو الأظهر في الحجة ، قيل : لم يؤمَرْ عليه السلام بضرب حجر بعينه ولكن لما قالوا كيف بنا لو أفضينا إلى أرض لا حجارة بها حَملَ حجَراً في مخلاتِه وكان يضربه بعصاه إذا نزل فيتفجَّر ويضرِبُه إذا ارتحل فييبَس فقالوا : إنْ فقَد موسى عصاه مِتْنا عطشاً ، فأوحى الله تعالى إليه أن لا تقرَعِ الحجَر وكلِّمْه يُطِعْك لعلهم يعتبرون وقيل : كان الحجر من رُخام حجمُه ذِراعٌ في ذراع والعصا عشرةُ أذرُعٍ على طوله عليه السلام من آسِ الجنة ولها شُعبتان تتقدان في الظلمة { فانفجرت } عطف على مقدّر ينسحب عليه الكلام قد حُذف للدلالة على كمال سُرعة تحقُّق الانفجار كأنه حصلَ عَقيبَ الأمرِ بالضرب أي فضُرب فانفجَرَتْ { مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا } وأما تعلقُ الفاءِ بمحذوفٍ أي فإنْ ضَرَبْتَ فقد انفجرت فغيرُ حقيق بجلالة شأن النظمِ الكريم كما لا يخفى على أحد ، وقرىء عشِرة بكسر الشين وفتحها وهما أيضاً لغتان { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ } كل سبط { مَّشْرَبَهُمْ } عينُهم الخاصةُ بهم { كُلُواْ واشربوا } على إرادة القول { مِن رّزْقِ الله } هو ما رزقهم من المنّ والسلوى والماء وقيل : هو الماءُ وحده لأنه يؤكَلُ ما ينبُت به من الزروع والثمار ويأباه أن المأمورَ به أكلُ النعمة العتيدة لا ما سيطلُبونه وإضافتُه إليه تعالى مع استناد الكلِّ إليه خلقاً وملكاً إما للتشريف وإما لظهوره بغير سبب عاديّ ، وإنما لم يقُلْ من رزقنا كما يقتضيه قوله تعالى : فقلنا إلخ إيذاناً بأن الأمرَ بالأكل والشرب لم يكن بطريق الخِطاب بل بواسطة موسى عليه السلام { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الارض } العثْيُ أشدُّ الفساد فقيل لهم : لا تتمادَوْا في الفساد حال كونكم { مُفْسِدِينَ } وقيل : إنما قيد به لأن العَثْيَ في الأصل مطلقُ التعدي وإن غلب في الفساد وقد يكون في غير الفساد كما في مقابلة الظالم المعتدي بفعله وقد يكون فيه صلاحٌ راجح كقتل الخَضِر عليه السلام للغلام وخرقِه للسفينة ، ونظيرُه العيْثُ خلا أنه غالبٌ فيما يدرك حِساً .(1/136)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
{ وَإِذْ قُلْتُمْ } تذكيرٌ لجناية أخرى لأسلافهم وكُفرانهم لنعمة الله عز وجل وإخلادِهم إلى ما كانوا فيه من الدناءة والخساسةِ ، وإسنادُ القول المحكّى إلى أخلاقهم وتوجيهُ التوبيخ إليهم لما بينهم من الاتحاد { ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد } لعلهم لم يريدوا بذلك جمعَ ما طلبوا مع ما كان لهم من النعمة ولا زوالَها وحصولَ ما طلبوا مكانها إذ يأباه التعرضُ للوحدة بل أرادوا أن يكون هذا تارةً وذاك أخرى . رُوي أنهم كانوا فلاحة فنزعوا إلى عكرهم فأجمعوا ما كانوا فيه من النعمة العتيدة لوحدتها النوعية وإطرادها وتاقت أنفسُهم إلى الشقاء { فادع لَنَا رَبَّكَ } أي سله لأجلنا بدعائك إياه والفاء لسببية عدمِ الصبر للدعاء ، والتعرضُ لعنوان الربوبية لتمهيد مبادي الإجابة { يُخْرِجْ لَنَا } أي يُظهِرْ لنا ويوجِدْ والجزم لجواب الأمر { مِمَّا تُنبِتُ الارض } إسناد مجازيٌّ بإقامَةِ القابلِ مُقامَ الفاعل ومن تبعيضيةٌ والتي في قوله تعالى : { مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } بيانية واقعةٌ موقعَ الحال أي كائناً من بقلها الخ وقيل : بدلٌ بإعادة الجارِّ ، والبقلُ ما تنبتُ الأرضُ من الخُضَر والمراد به أطايبُه التي تؤكلُ كالنَّعناع والكُرفُس والكُرَّاث وأشباهِها ، والفومُ الحِنطةُ وقيل : الثوم وقرىء قُثائها بضم القاف وهو لغة فيه { قَالَ } أي الله تعالى أو موسى عليه السلام إنكاراً عليهم وهو استئناف وقع جواباً عن سؤال مقدر كأنه قيل : فماذا قال لهم فقيل قال : { أَتَسْتَبْدِلُونَ } أي أتأخُذون لأنفسِكم وتختارون { الذى هُوَ أدنى } أي أقربُ منزلةً وأدون قدراً سهلُ المنال وهينُ الحصول لعدم كونه مرغوباً فيه وكونه تافهاً مرذولاً قليلَ القيمة ، وأصلُ الدنوّ القُرب في المكان فاستعير للخِسة كما استعير البُعدُ للشرف والرفعة ، فقيل : بعيدُ المحل وبعيدُ الهمة وقرىء أدنأُ من الدناءة وقد حملت المشهورة على أن ألفها مبدلة من الهمزة { بالذى هُوَ خَيْرٌ } أي بمقابلة ما هو خيرٌ فإن الباء تصحب الذاهبَ الزائلَ دون الآتي الحاصل كما في التبدل والتبديل في مثل قوله عز وجل : { وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان } وقوله : { وبدلناهم بجناتهم جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ } وليس فيه ما يدل قطعاً على أنهم أرادوا زوالَ المنِّ والسلوى بالمرة ، وحصولُ ما طلبوا مكانه لتحقق الاستبدال فيما مر من صورة المناوبة { اهبطوا مِصْرًا } أُمروا به بياناً لدناءة مطلَبِهم أو إسعافاً لمرامهم أي انحدروا إليه من التّيه يقال : هبَط الواديَ وقرىء بضم الباء ، والمِصرُ البلدُ العظيم وأصله الحدُّ بين الشيئين ، وقيل : أريد به العلُم وإنما صُرف لسكون وسَطِه أو لتأويله بالبلد دون المدينة ، ويؤيده أنه في مصحف ابن مسعود رضي الله عنه غيرُ منون ، وقيل : أصلُه مِصْراييم فعرب { فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ } تعليلٌ للأمر بالهبوط أي فإن لكم فيه ما سألتموه ، ولعل التعبيرَ عن الأشياء المسؤولة بما للاستهجان بذكرها كأنه قيل : فإنه كثيرٌ فيه مبتذلٌ يناله كلُّ أحد بغير مشقة { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة } أي جعلتا محيطتين بهم إحاطةَ القُبة بمن ضربت عليه أو ألصِقتا بهم وجعلتا ضربةَ لازبٍ لا تنفكان عنهم مجازاةً لهم على كُفرانهم ، مِنْ ضَرْبِ الطينِ على الحائط بطريق الاستعارة بالكناية ، واليهودُ في غالب الأمر أذلاءُ مساكينُ إما على الحقيقة ، وإما لخوف أن تضاعَفَ جزيتُهم { وَبَاءوا } أي رجعوا ، { بِغَضَبٍ } عظيم وقوله تعالى : { مِنَ الله } متعلق بمحذوف هو صفةٌ لغضبٍ مؤكِّدٌ لما أفاده التنوينُ من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافيةِ أي بغضب كائنٍ من الله تعالى أو صاروا أحقاءَ به ، من قولهم باءَ فلانٌ بفلان أي صار حقيقاً بأن يُقتلَ بمقابلته ، ومنه قول من قال : بُؤْ بشِسْعِ نعلِ كُلَيبٍ ، وأصل البَوْء المساواة { ذلك } إشارةٌ إلى ما سلف من ضرب الذِلة والمسكنةِ والبَوْءِ بالغضب العظيم { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { كَانُواْ يَكْفُرُونَ } على الاستمرار { لَّهُ مَقَالِيدُ } الباهرة التي هي المعجزاتُ الساطعةُ الظاهرة على يدي موسى عليه السلام مما عُد وما لم يُعَدَّ { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق } كشَعْيا وزكريا ويحيى عليهم السلام ، وفائدةُ التقييد مع أن قتل الأنبياءِ يستحيل أن يكون بحق الإيذانُ بأن ذلك عندهم أيضاً بغير الحق إذ لم يكن أحد معتقداً بحقية قتلِ أحدٍ منهم عليهم السلام وإنما حملهم على ذلك حبُّ الدنيا واتباعُ الهوى والغلوُّ في العصيان والاعتداءُ كما يفصح عنه قوله تعالى : { ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } أي جرَّهم العصيانُ والتمادي في العُدوان إلى ما ذُكر من الكفر وقتلِ الأنبياءِ عليهم السلام فإن صِغارَ الذنوب إذا دُووِمَ عليها أدتْ إلى كبارها كما أن مداومةَ صغارِ الطاعات مؤديةٌ إلى تحرّي كبارِها ، وقيل : كُرِّرت الإشارةُ للدلالة على أن ما لَحِقَهم كما أنه بسبب الكفر والقتلِ فهو بسببِ ارتكابِهم المعاصيَ واعتدائهم حدودَ الله تعالى وقيل : الإشارةُ إلى الكفر والقتل ، والباء بمعنى مع ويجوز الإشارة إلى المتعدِّد بالمفرد بتأويل ما ذُكر أو تقدم كما في قول رؤبة بنِ العجاج :(1/137)
فيها خطوطٌ من سوادٍ وبَلَق ... كأنه في الجِلد توليعُ البَهَقْ
أي كان ما ذُكر والذي حسَّن ذلك في المضْمَرات والمبهمات أن تثنيتها وجمعَها ليسا على الحقيقة ولذلك جاء الذي بمعنى الذين(1/138)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
{ إِنَّ الذين ءامَنُواْ } أي بألسنتهم فقط وهم المنافقون بقرينة انتظامِهم في سِلك الكفرة ، والتعبيرُ عنهم بذلك دون عُنوانِ النفاقِ للتصريح بأن تلك المرتبةَ وإن عُبِّر عنها بالإيمان لا تُجديهم نفعاً أصلاً ولا تُنْقِذُهم من ورطة الكفر قطعاً { والذين هَادُواْ } أي تهوَّدوا من هادَ إذا دخَل في اليهودية ، ويهودُ إما عربي من هاد إذا تاب سُموا بذلك حين تابوا من عبادة العجل وخُصوا به لما كانت توبتُهم توبةً هائلة ، وإما معرَّبُ يهوذا كأنهم سُمّوا باسم أكبرِ أولادِ يعقوبَ عليه الصلاة والسلام { والنصارى } جمع نَصرانٍ كندامَى جمعُ ندمانٍ يقال : رجلٌ نصرانٌ وامرأة نصرانةٌ والياء في نصراني للمبالغة كما في أحمريّ سُموا بذلك لأنهم نَصَروا المسيحَ عليه السلام أو لأنهم كانوا معه في قرية يقال لها نَصرانُ فسُمّوا باسمها أو نُسبوا إليها والياء للنسبة ، وقال الخليل واحدُ النصارى نَصري كمَهْري ومهارى { والصابئين } هم قومٌ بين النصارى والمجوس وقيل : أصلُ دينهم دينُ نوح عليه السلام وقيل : هم عبدةُ الملائكة وقيل : عبدةُ الكواكب فهو إن كان عربياً فمن صَبأ إذا خرج من دين إلى آخرَ وقرىء بالياء ، إما للتخفيف ، وإما لأنه من صَبَا إذا مال لما أنهم مالوا من سائر الأديان إلى ما هم فيه ، أو من الحق إلى الباطل { مَنْ ءامَنَ بالله واليوم الاخر } أي من أحدث من هذه الطوائفِ إيماناً خالصاً بالمبدأ والمَعاد على الوجه اللائق { وَعَمِلَ } عملاً { صالحا } حسبما يقتضيه الإيمانُ بما ذكر { فَلَهُمْ } بقابلة ذلك { أَجْرَهُمْ } الموعودُ لهم { عِندَ رَبّهِمْ } أي مالك أمرِهم ومُبلّغُهم إلى كمالهم اللائقِ ، فمَنْ إما في محل الرفع على الابتداء خبرُه جملةُ فلهم أجرُهم والفاءُ لتضمُّن الموصولِ معنى الشرط كما في قوله تعالى : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين } الآية ، وجُمع الضمائرُ الثلاثة باعتبار معنى الموصول كما أن إفرادَ ما في الصلة باعتبار لفظِه والجملةُ كما هي خبرُ إن والعائدُ إلى اسمها محذوفٌ أي من آمن منهم الخ ، وإما في محل النصبِ على البدلية من اسمِ ( إن ) وما عُطف عليه وخبرُها فلهم أجرهم و ( عند ) متعلِّق بما تعلّق به لهم من معنى الثبوت ، وفي إضافته إلى الرب المضافِ إلى ضميرهم مزيدُ لُطفٍ بهم وإيذانٌ بأن أجرَهم مُتَيقَّنُ الثبوت مأمونٌ من الفَوات .
{ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } عطف على جملة فلهم أجرُهم أي لا خوف عليهم حين يخاف الكفارُ العقاب { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } حين يحزن المقصِّرون على تضييع العُمر وتفويتِ الثواب ، والمرادُ بيانُ دوامِ انتفائهما لا بيانُ انتفاءِ دوامِهما كما يوهمه كونُ الخبرِ في الجملة الثانية مضارعاً لما مر من أن النفيَ وإن دخلَ على نفس المضارِعِ يفيد الدوامَ والاستمرارَ بحسب المقام ، هذا وقد قيل : المرادُ بالذين آمنوا المتديّنون بدين الإسلام المُخلِصون منهم والمنافقون ، فحينئذ لا بد من تفسير مَنْ آمن بمن اتصف منهم بالإيمان الخالصِ بالمبدأ والمَعاد على الإطلاق ، سواءٌ كان ذلك بطريق الثبات والدوام عليه كإيمان المُخلصين أو بطريق إحداثه وإنشائه كإيمان مَنْ عداهم من المنافقين وسائر الطوائف ، وفائدةُ التعميم للمخلصين مزيدُ ترغيبِ الباقين في الإيمان ببيان أن تأخيرَهم في الاتصاف به غيرُ مُخلَ بكونهم أسوةً لأولئك الأقدمين في استحقاق الأجرِ وما يتبعه من الأمن الدائم ، وأما ما قيل في تفسيره من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ مصدِّقاً بقلبه بالمبدأ والمعاد عاملاً بمقتضى شرعِه فمما لا سبيل إليه أصلاً لأن مقتضى المقام هو الترغيبُ في دين الإسلام ، وأما بيانُ حال من مضى على دين آخرَ قبل انتساخِه فلا ملابسةَ له بالمقام قطعاً بل ربما يُخِلُّ بمقتضاه من حيث دَلالتُه على حقِّيته في زمانه في الجملة ، على أن المنافقين والصابئين لا يتسنى في حقهم ما ذكر ، أما المنافقون فإن كانوا من أهل الشرك فالأمرُ بيِّن ، وإن كانوا من أهل الكتاب فمن مضى منهم قبل النسخِ ليسوا بمنافقين ، وأما الصابئون فليس لهم دينٌ يجوز رعايتُه في وقت من الأوقات ولو سَلِم أنه كان لهم دينٌ سماوي ثم خرجوا عنه فمن مضى من أهل ذلك الدين قبل خروجِهم منه فليسوا من الصابئين فكيف يُمكِنُ إرجاعُ الضمير الرابطِ بين اسمِ إن وخبرِها إليهم أو إلى المنافقين ، وارتكابُ إرجاعِه إلى مجموع الطوائفِ من حيث هو مجموعٌ لا إلى كل واحدة منها قصداً إلى درج الفريقِ المذكور فيه ضرورةَ أن من كان من أهل الكتاب عاملاً بمقتضى شرعِه قبل نسخِه من مجموع الطوائفِ بحُكم اشتمالِه على اليهود والنصارى وإن لم يكن من المنافقين والصابئين مما يجبُ تنزيهُ ساحةِ التنزيل عن أمثاله ، على أن المخلصين مع اندراجهم في حيز اسم إنّ ليس لهم في حيز خبرها عينٌ ولا أثر فتأملْ وكن على الحق المبين .(1/139)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)
{ وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم } تذكيرٌ لجناية أخرى لأسلافهم أي واذكروا وقت أخْذِنا لميثاقكم بالمحافظة على ما في التوراة { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور } عطفٌ على قوله أخذْنا أو حالٌ أي وقد رفعنا فوقَكم الطورَ كأنه ظُلة ، رُوي أن موسى عليه السلام لمّا جاءهم بالتوراة فرأَوْا ما فيها من التكاليف الشاقةِ كبُرت عليهم فأبَوْا قَبولها فأُمر جبريلُ عليه السلام فقلَعَ الطورَ فظلله عليهم حتى قبِلوا .
{ خُذُواْ } على إرادة القول { مَا ءاتيناكم } من الكتاب { بِقُوَّةٍ } بجدَ وعزيمة { واذكروا مَا فِيهِ } أي احفَظوه ولا تنسَوْه أو تفكروا فيه فإنه ذكرٌ بالقلب أو اعملوا به { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } لكي تتقوا المعاصيَ أو لتنجُوا من هلاك الدارين أو رجاءً منكم أن تنتظِموا في سلك المتقين أو طلباً لذلك وقد مر تحقيقُه { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } أي أعرضْتم عن الوفاء بالميثاق { مِن بَعْدِ ذلك } من بعد أخذِ ذلك الميثاقِ المؤكد { فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } بتوفيقكم للتوبة أو بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم حيث يدْعوكم إلى الحق ويهديكم إليه { لَكُنتُم مّنَ الخاسرين } أي المفتونين بالانهماكِ في المعاصي والخبْطِ في مهاوي الضلال عند الفترة . وقيل : لولا فضلُه تعالى عليكم بالإمهال وتأخيرِ العذاب لكنتم من الهالكين وهو الأنسبُ بما بعده وكلمةُ ( لولا ) إما بسيطةٌ أو مركبة من لو الامتناعية وحرف النفي ومعناها امتناعُ الشيءِ لوجود غيرِه كما أن ( لو ) لامتناعه لامتناعِ غيرِه والاسم الواقعُ بعدها عند سيبويه مبتدأٌ خبرُه محذوف وجوباً لدلالة الحال عليه وسدِّ الجواب مسدَّه ، والتقديرُ لولا فضلُ الله حاصلٌ ، وعند الكوفيين فاعل فعلٍ محذوف أي لولا ثبَتَ فضلُ الله تعالى عليكم .(1/140)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ } أي عرفتم { الذين اعتدوا مِنكُمْ فِى السبت } رُوي أنهم أُمروا بأن يتمحَّضوا يوم السبت للعبادة ويتجرَّدوا لها ويتركوا الصيدَ فاعتدى فيه أناسٌ منهم في زمن داودَ عليه السلام فاشتغلوا بالصيد وكانوا يسكُنون قريةً بساحل البحر يقال لها أَيْلة فإذا كان يومُ السبت لم يبقَ في البحر حوتٌ إلا برزَ وأخرج خُرطومه فإذا مضى تفرقت فحفَروا حِياضاً وشرَعوا إليها الجداولَ وكانت الحيتانُ تدخلُها يوم السبت فيصطادونها يوم الأحد ، فالمعنى وبالله لقد علمتوهم حين فعلوا من قَبيل جناياتكم ما فعلوا فلم نُمهِلْهم ولم نؤخِّرْ عقوبتَهم بل عجلناها { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين } أي جامعين بين صورةِ القردةِ والخسُوء ، وهو الطرد والصَّغار ، على أن خاسئين نعتٌ لقِردة وقيل : حال من اسم كونوا عند من يُجيز عملَ كان في الظروفِ والحالِ ، وقيل : من الضمير المستكنّ في قِردة لأنه في معنى ممسوخين ، وقال مجاهد : ما مُسخت صورُهم ولكن قلوبُهم فمُثلوا بالقِردة كما مُثِّلوا بالحمار في قوله تعالى : { كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً } والمرادُ بالأمر بيانُ سرعةِ التكوين وأنهم صاروا كذلك كما أراده عز وجل وقرىء قَرِدةً بفتح القاف وكسر الراء وخاسين بغير همز { فَجَعَلْنَاهَا } أي المَسخةَ والعقوبة { نكالا } عبرةً تُنكّل المعتبِرَ بها أي تمنعُه وتردعُه ومنه النِّكْلُ للقيد { لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } لما قبلها وما بعدها من الأمم إذ ذُكِرَتْ حالُهم في زبُر الأولين واشتهرت قصصُهم في الآخِرين أو لمعاصريهم ومَنْ بعدهم ، أو لِما بحضرتها من القُرى وما تباعد عنها أو لأهل تلك القرية وما حواليها أو لأجل ما تقدم عليها من ذنوبهم وما تأخَّر منها { وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ } من قومهم أو لكلِّ مُتقٍ سمِعَها { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ } توبيخ آخرُ لإخلاف بني إسرائيلَ بتذكير بعضِ جناياتٍ صدرت عن أسلافهم أي واذكروا وقت قولِ موسى عليه السلام لأجدادكم { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } وسببه أنه كان في بني إسرائيلَ شيخٌ موسر فقتلَه بنو عمِّه طمعاً في ميراثه فطرَحوه على باب المدينة ثم جاءوا يطالبون بديته فأمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرةً ويضرِبوه ببعضها فيَحْيَا فيُخْبِرَهم بقاتله { قَالُواْ } استئنافٌ وقع جواباً عما ينساق إليه الكلام كأنه قيل : فماذا صنعوا هل سارعوا إلى الامتثال أو لا؟ فقيل : قالوا { أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا } بضم الزاء وقلب الهمزة واواً وقرىء بالهمزة مع الضم والسكون أي أتجعلنا مكانَ هُزْءٍ أو أهلَ هُزْءٍ أو مهزوءاً بنا أو الهزُوُ نفسه استبعاداً لما قاله واستخفافاً به { قَالَ } استئناف كما سبق { أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين } لأن الهُزْؤ في أثناء تبليغ أمر الله سبحانه جهلٌ وسفَهٌ ، نفى عنه عليه السلام ما توهموه من قبله على أبلغ وجهٍ وآكَدِه بإخراجه مُخرجَ ما لا مكروهَ وراءَه بالاستعاذة منه استفظاعاً له واستعظاماً لما أقدموا عليه من العظيمة التي شافهوه عليه السلام بها .(1/141)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)
{ قَالُواْ } استئناف كما مر كأنه قيل : فماذا قالوا بعد ذلك؟ فقيل : توجهوا إلى الامتثال وقالوا { ادع لَنَا } أي لأجلنا { رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِىَ } ما مبتدأ وهي خبرُه والجملةُ في حيز النصب يبين أي يبين لنا جوابَ هذا السؤال وقد سألوا عن حالها وصفتها لِما قرَعَ أسماعَهم ما لم يعهدوه من بقرةٍ ميتةٍ يُضرب ببعضها ميتٌ فيحيا ، فإن ( ما ) وإن شاعت في طلب مفهومِ الاسمِ والحقيقة كما في ما الشارحةِ والحقيقية لكنها قد يُطلب بها الصفةُ والحالُ ، تقول : ما زيد؟ فيقال : طبيبٌ أو عالم وقيل : كان حقُه أن يُستفهَم بأيَ لكنهم لما رأوا ما أمروا به على حالة مغايرة لما عليه الجنس أخرجوه عن الحقيقة فجعلوه جنساً على حياله { قَالَ } أي موسى عليه السلام بعد ما دعا ربَّه عز وجل بالبيان وأتاه الوحْيُ { أَنَّهُ } تعالى { يَقُولُ إِنَّهَا } أي البقرةُ المأمورُ بذبحها { بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ } أي لا مُسنة ولا فتية يقال : فرَضَت البقرةُ فروضاً أي أسنت من الفرْض بمعنى القطع كأنها قطعَتْ سنها وبلغت آخرَها ، وتركيبُ البكر للأولية ومنه البَكرة والباكورة { عَوَانٌ } أي نصَفٌ لاقحم ولا ضَرْع قال :
طِوالٌ مثلُ أعناقِ الهوادي ... نواعمْ بين أبكارٍ وعُونِ
{ بَيْنَ ذلك } إشارة إلى ما ذكر من الفارض والبِكْر ولذلك أضيف إليه ( بين ) لاختصاصه بالإضافة إلى المتعدد { فافعلوا } أمرٌ من جهة موسى عليه السلام متفرِّع على ما قبله من بيان صفةِ المأمور به { مَا تُؤْمَرونَ } أي ما تؤمرونه بمعنى تؤمَرون به كما في قوله :
أمرتُك الخيرَ فافعلْ ما أمِرْتَ بهِ ... فإن حذفَ الجار قد شاع في هذا الفعل حتى لَحِق بالأفعال المتعدية إلى مفعولين ، وهذا الأمرُ منه عليه السلام لحثِّهم على الامتثال وزجرِهم عن المراجعة ومع ذلك لم يقتنعوا به . وقوله تعالى : { قَالُواْ } استئنافٌ كما مر كأنه قيل : ماذا صنعوا بعد هذا البيان الشافي والأمرِ المكرَّرِ؟ فقيل : قالوا : { ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا } حتى يتبين لنا البقرةُ المأمور بها { قَالَ } أي موسى عليه السلام بعد المناجاةِ إلى الله تعالى ومجىءِ البيان { أَنَّهُ } تعالى { يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا } إسنادُ البيان في كل مرةٍ إلى الله عز وجل لإظهار كمالِ المساعدةِ في إجابة مسؤولهم بقولهم ( يبينْ لنا ) وصيغةُ الاستقبال لاستحضارِ الصورة ، والفُقوعُ نصوعُ الصُّفرةِ وخلوصُها ، ولذلك يؤكَّد به ويقال : أصفرُ فاقعٌ كما يقال : أسودُ حالكٌ وأحمرُ قانىء ، وفي إسناده إلى اللون مع كونِه من أحوال المُلوَّنِ لملابسته به ما لا يخفى من فضل تأكيدٍ كأنه قيل : صفراءُ شديدُ الصُفرةِ صُفرتها كما في جَدّ جِدّه . وعن الحسن رضي الله عنه : سوداءُ شديدةُ السواد ، وبه فُسّر قوله تعالى : { جمالة صُفْرٌ } قيل : ولعل التعبير عن السواد بالصُّفرة لما أنها من مقدماته وإما لأن سَواد الإبل يعلوه صُفْرةٌ ويأباه وصفُها بقوله تعالى : { تَسُرُّ الناظرين } كما يأباه وصفُها بفقوع اللون . والسرورُ لذةٌ في القلب عند حصول نفعٍ أو توقُّعِه من السر ، عن علي رضي الله عنه : من لبِسَ نعلاً صفراءَ قل همُّه .(1/142)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
{ قَالُواْ } استئنافٌ كنظائره { ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِىَ } زيادةُ استكشافٍ عن حالها كأنهم سألوا بيانَ حقيقتها بحيث تمتاز عن جميع ما عداها مما تشاركها في الأوصاف المذكورة والأحوالِ المشروحة في أثناء البيان ولذلك علّلوه بقولهم : { إِنَّ البقر تشابه عَلَيْنَا } يعنُون أن الأوصافَ المعدودةَ يشترك فيها كثير من البقر ولا نهتدي بها إلى تشخيص ما هو المأمورُ بها ولذلك لم يقولوا إن البقرَ تشابهت إيذاناً بأن النعوتَ المعدودةَ ليست بمُشخّصة للمأمور بها بل صادقةً على سائر أفرادِ الجنس ، وقرىء إنَّ الباقِرَ وهو اسمٌ لجماعة البَقر والأباقر والبواقر ، ويتشابه بالياء والتاء وَيشّابه بطرح التاء والإدغام على التذكير والتأنيث وتَشَابهت مخففاً ومشدداً وتَشَبَّهُ بمعنى تتشبه ويشبّه بالتذكير ومتشابِهٌ ومتشابهةٌ ومُتَشَبِّهٌ ومُتَشَبِّهَةٌ وفيه دلالة على أنهم ميَّزوها عن بعض ما عداها في الجملة وإنما بقي اشتباهٌ بشرف الزوال كما ينبىء عنه قولهم : { وَإِنَّا إِن شَاء الله لَمُهْتَدُونَ } مؤكداً بوجوه من التوكيد أي لمهتدون بما سألنا من البيان إلى المأمور بذبحها وفي الحديث لو لم يستثنوا لما بُيِّنَتْ لهم آخرَ الأبد .
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الارض وَلاَ تَسْقِى الحرث } أي لم تُذلَّلْ للكِراب وسقْي الحَرْثَ ، و ( لا ذلول ) صفةٌ لبقرةٌ بمعنى غيرُ ذَلول و ( لا ) الثانية لتأكيد الأولى والفعلان صفتا ذلول كأنه قيل : لا ذلولٌ مثيرةٌ وساقية ، وقرىء لا ذلول بالفتح أي حيث هي كقولك : مررت برجل لا بخيلٍ ولا جبان أي حيث هو وقرىء تُسْقي من أسقى { مُّسَلَّمَةٌ } أي سلَّمها الله تعالى من العيوب أو أهّلها من العمل أو خلص لها لونها من سَلِم له كذا إذا خَلَص له ، ويؤيده قوله تعالى : { لاَّ شِيَةَ فِيهَا } أي لا لونَ فيها يخالف لونَ جلدِها حتى قَرْنُها وظِلْفُها وهي في الأصل مصدرُ وشاه وشّياً وشِيةً إذا خلَط بلونه لوناً آخر { قَالُواْ } عندما سمعوا هذه النعوت { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ } أي بحقيقة وصفِ البقرةِ بحيث ميَّزْتها عن جميع ما عداها ولم يبقَ لنا في شأنها اشتباهٌ أصلاً بخلاف المرتين الأوليين فإن ما جئتَ به فيهما لم يكن في التعيين بهذه المرتبة . ولعلهم كانوا قبلَ ذلك قد رأَوْها ووجدوها جامعةً لجميع ما فُصِّل من الأوصاف المشروحةِ في المرات الثلاثِ من غير مشارِكٍ لها فيما عُدَّ في المرة الأخيرة ، وإلا فمن أين عرَفوا اختصاصَ النعوت الأخيرةِ بها دون غيرها؟ وقرىء الآنَ بالمد على الاستفهام والآنَ بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام { فَذَبَحُوهَا } الفاء فصيحة كما في فانفجَرت أي فحصّلوا البقرةَ فذبحوها { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } كادَ من أفعال المقاربة وُضع لدنوِّ الخبر من الحصول ، والجملةُ حال من ضمير ذبحوا أي فذبحوها والحال أنهم كانوا قبل ذلك بمعزل منه ، أو اعتراضٌ تذييلي ومآلُه استثقالُ استعصائِهم واستبطاءٌ لهم وأنهم لفَرْط تطويلِهم وكثرةِ مراجعاتِهم ما كاد ينتهي خيطُ استفهامِهم فيها .(1/143)
قيل : مضى من أول الأمرِ إلى الامتثال أربعون سنةً وقيل : كادوا يفعلون ذلك لغلاء ثمنها . رُوي أنه كان في بني إسرائيلَ شيخٌ صالحٌ له عِجْلة فأتى بها الغَيْضة وقال : اللهم إني استَوْدعتُكها لابني حتى يكبَرَ وكان برّاً بوالدَيه فتُوفِّيَ الشيخُ وشبَّتِ العِجْلة فكانت من أحسن البقرِ وأسمنِها فساوَموها اليتيمَ وأمَّه حتى اشتَرَوْها بملء مَسْكِها ذهباً لمّا كانت وحيدةً بالصفات المذكورة وكانت البقرةُ إذ ذاك بثلاثة دنانيرَ . واعلم أنه لا خلافَ في أن مدلولَ ظاهرِ النظمِ الكريم بقرةٌ مطلقةٌ مُبْهمة وأن الامتثالَ في آخرِ الأمرِ إنما وقعَ بذبح بقرةٍ معيّنة حتى لو ذبحوا غيرَها ما خَرَجوا عن عُهدة الأمرِ ، لكن اختُلفَ في أن المرادَ المأمورُ به إثرَ ذي أثيرٍ هل هي المعينةُ وقد أُخِّر البيانُ عن وقت الخطاب؟ أو المبهمةُ ثم لَحِقها التغييرُ إلى المعيَّنة بسبب تثاقلِهم في الامتثال وتماديهم في التعمق والاستكشاف؟ فذهب بعضُهم إلى الأول تمسكاً بأن الضمائرَ في الأجوبة أعني أنها بقرةٌ إلى آخره للمعيَّنة قطعاً ، ومن قضيته أن يكون في السؤال أيضاً كذلك ، ولا ريب في أن السؤالَ إنما هو عن البقرة المأمور بذبحها فتكونُ هي المعينةُ ، وهو مدفوعٌ بأنهم لما تعجّبوا من بقرة ميتةٍ يُضربُ ببعضها ميْتٌ فيحيا ظنُّوها معيّنةً خارجةً عما عليه الجنسُ من الصفات والخواصِّ ، فسألوا عنها فرجعت الضمائرُ إلى المعيَّنة في زعمهم واعتقادِهم فعيّنها الله تعالى تشديداً عليهم ، وإن لم يكن المرادُ من أول الأمرِ هي المعينة . والحقُّ أنها كانت في أول الأمر مُبْهمةً بحيث لو ذَبَحوا أيةَ بقرةٍ كانت لحصل الامتثالُ بدِلالة ظاهرِ النظم الكريمِ وتكرير الأمرِ قبل بيان اللون وما بعدَه من كونها مسلّمةً . . الخ ، وقد قال صلى الله عليهوسلم : « لو اعترَضوا أدنى بقرةٍ فذبحوها لكفَتْهم » ورُوي مثلُه عن رئيس المفسرين عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما ، ثم رجع الحكمُ الأولُ منسوخاً بالثاني ، والثاني بالثالث تشديداً عليهم ، لكن لا على وجه ارتفاعِ حكمِ المُطْلقِ بالكلية وانتقالِه إلى المعيّن ، بل على طريقة تقييدِه وتخصيصِه به شيئاً فشيئاً ، كيف لا ، ولو لم يكن كذلك لما عُدّت مراجعاتُهم المَحْكيةُ من قَبيل الجنايات بل من قبيل العبادة فإن الامتثالَ بالأمر بدون الوقوفِ على المأمور به مما لا يكاد يتسنّى فتكونُ سؤالاتُهم من باب الاهتمام بالامتثال .(1/144)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)
{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا } منصوبٌ بمُضْمر كما مرت نظائرُه ، والخطابُ لليهود المعاصِرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإسنادُ القتلِ والتدارُؤ إليهم لما مر من نسبة جنايات الأسلاف إلى الأخلاف توبيخاً وتقريعاً ، وتخصيصُهما بالإسناد دون ما مر من جناياتهم لظهور قُبْحِ القتلِ وإسناده إلى الغير أي اذكروا وقت قتلِكم نفساً محرمة { فادرأتم فِيهَا } أي تخاصمتم في شأنها إذ كلُّ واحد من الخصماء يدافع الآخرَ ، أو تدافعتم بأن طرَح كلُّ واحد قتلها إلى آخرَ ، وأصلُه تَدارأتم فأُدغمت التاءُ في الدال واجتُلبت لها همزةُ الوصل { والله مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } أي مظهر لما تكتمونه لا محالة ، والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار ، وإنما أُعمِلَ ( مُخرجٌ ) لأنه حكايةُ حالٍ ماضية .(1/145)
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
{ فَقُلْنَا اضربوه } عطف على فادارأتم وما بينهما اعتراضٌ ، والالتفاتُ لتربية المهابةِ ، والضميرُ للنفس ، والتذكيرُ باعتبار أنها عبارةٌ عن الرجل أو بتأويل الشخصِ أو القتيل { بِبَعْضِهَا } أيْ ببعض البقرة أيِّ بعضٍ كان وقيل : بأصغَرَيها ، وقيل : بلسانها وقيل : بفخِذِها اليُمنى وقيل : بأذُنها وقيل : بعُجبها ، وقيل : بالعظم الذي يلي الغُضْروف ، وهذا أولُ القصة كما ينبىء عنه الضمير الراجعُ إلى البقرة كأنه قيل : وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها فقلنا : اذبحوا بقرةً فاضرِبوه ببعضها ، وإنما غُيّر الترتيبُ عند الحكاية لتكرير التوبيخِ وتثنيةِ التقريعِ ، فإن كلَّ واحدٍ من قتل النفس المحرَّمة والاستهزاءِ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم والافتياتِ على أمره وترك المسارعة إلى الامتثال به جنايةٌ عظيمة حقيقة بأن تنعى عليهم بحيالها ، ولو حُكيت القصةُ على ترتيب الوقوعِ لما علم استقلالُ كلَ منها بما يُخَصُّ بها من التوبيخ وإنما حُكي الأمر بالذبح عن موسى عليه السلام مع أنه من الله عز وجل كالأمر بالضرب لما أن جناياتِهم كانت بمراجعتهم إليه عليه السلام والافتياتِ على رأيه { كذلك يُحْىِ الله الموتى } على إرادة قولٍ معطوفٍ على مقدَّر ينسحِبُ عليه الكلام أي فضرَبوه فحَيِيَ وقلنا كذلك يُحيي الخ فحذفت الفاءُ الفصيحة في فحِييَ مع ما عطف بها ، وما عُطف هو عليه لدلالة كذلك على ذلك فالخطابُ في كذلك حينئذ للحاضرين عند حياة القتيل ، ويجوزُ أن يكون ذلك للحاضرين عند نزولِ الآيةِ الكريمة فلا حاجة حينئذٍ إلى تقدير القولِ بل تنتهي الحكايةُ عند قوله تعالى : ببعضها مع ما قُدّر بعده ، فالجملة معترضة أي مثلَ ذلك الإحياءِ العجيبِ يُحيي الله الموتى يوم القيامة { وَيُرِيكُمْ ءاياته } ودلائلَه الدالةَ على أنه تعالى على كل شيء قدير ، ويجوز أن يُراد بالآياتِ هذا الإحياءُ ، والتعبيرُ عنه بالجمع لاشتماله على أمورٍ بديعةٍ من ترتّب الحياة على عضو ميتٍ ، وإخبارِه بقاتله وما يلابسه من الأمور الخارقة للعادة { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي لكي تكمُلَ عقولُكم وتعلموا أن من قدَرَ على إحياء نفسٍ قدَر على إحياء الأنفس كلِّها أو تعلموا على قضية عقولِكم ، ولعل الحكمة في اشتراط ما اشتُرط في الإحياء مع ظُهور كمالِ قُدرته على إحيائه ابتداءً بلا واسطة أصلاً اشتمالُه على التقرب إلى الله تعالى وأداءِ الواجب ونفعِ اليتيم والتنبيهُ على برَكة التوكلِ على الله تعالى والشفقةِ على الأولاد ونفعِ برِّ الوالدين وأن من حق الطالب أن يقدّم قُربة ، ومن حق المتقرِّب أن يتحرَّى الأنفسَ ويغاليَ بثمنه كما يُروى عن عمرَ رضي الله عنه أنه ضحّى بنَجيبةٍ اشتراها بثلثمائة دينار ، وأن المؤثرّ هو الله تعالى ، وإنما الأسبابُ أَماراتٌ لا تأثيرَ لها وأن من رام أن يعرف أعدى عدوِّه الساعي في إماتتِه الموتَ الحقيقيَّ فطريقُه أن يذبَحَ بقرةَ نفسِه التي هي قوتُه الشهويةُ حين زال عنها شَرَهُ الصِّبا ولم يلحَقها ضَعف الكِبَر ، وكانت معجِبةً رائقةَ المنظرَ غيرَ مذللةٍ في طلب الدنيا مسلَّمةً عن دنسها لا سمة بها من قبائحها بحيث يتَّصلُ أثرُه إلى نفسه فيحيا بها حياةً طيبةً ويُعربَ عما به ينكشف الحالُ ويرتفعُ ما بين العقل والوهم من التدارُؤ والجدال .(1/146)
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ } الخطاب لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم . والقسوةُ عبارةٌ عن الغِلَظ والجفاء والصَّلابة كما في الحَجَر استُعيرت لنُبوِّ قلوبهم عن التأثر بالعِظات والقوارعِ التي تميعُ منها الجبالُ وتلينُ بها الصخور ، وإيرادَ الفعل المفيدِ لحدوث القساوة مع أن قلوبَهم لم تزل قاسيةً لما أن المرادَ بيانُ بلوغِهم إلى مرتبة مخصوصةٍ من مراتبِ القساوة حادثةٍ ، وإما لأن الاستمرارَ على شيء بعدَ ورودِ ما يوجب الإقلاعَ عنه أمرٌ جديد وصنعٌ حادث . و ( ثم ) لاستبعاد القسوةِ بعد مشاهدةِ ما يُزيلها كقوله تعالى : { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ }
{ مِن بَعْدِ ذلك } إشارةٌ إلى ما ذكر من إحياء القتيلِ أو إلى جميع ما عُدِّد من الآيات الموجبة للين القلوبِ وتوجُّهِها نحوَ الحقِّ أيْ من بعد سماعِ ذلك وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلتِه وعلوِّ طبقتِه . وتوحيدُ حرفِ الخطاب مع تعدُّد المخاطبين إما بتأويل الفريقِ أو لأن المرادَ مجردُ الخطاب لا تعيينُ المخاطَب كما هو المشهور ، { فَهِىَ كالحجارة } في القساوة ، { أَوْ أَشَدَّ } منها ، { قَسْوَةً } أي هي في القسوة مثلُ الحجارة أو زائدةٌ عليها فيها أو أنها مثلُها أو مثلُ ما هو أشدُّ منها قسوةً كالحديد ، فحُذِف ( المضاف ) وأقيمَ المضاف إليه مُقامه ويعضُده القراءة بالجر عطفاً على الحجارة . وإيرادُ الجملة اسميةً مع كون ما سبق فعليةً للدلالة على استمرارِ قساوةِ قلوبهم ، والفاء إما لتفريع مشابَهتِها لها على ما ذكر من القساوة تفريعَ التشبيه على بيان وجه الشبه في قولك : أحمرُ خدُّه فهو كالورد وإما للتعليل كما في قولك : اعبُدْ ربك فالعبادةُ حقٌّ له ، وإنما لم يقل أو أقسى منها لما في التصريح بالشدة من زيادةِ مبالغةٍ ، ودلالةٍ ظاهرة على اشتراك القسوتين في الشدة واشتمالِ المفضَّل على زيادة ، وأو للتخيير أو للترديدِ بمعنى أن مَنْ عرَفَ حالَها شبَّهها بالحجارة أو بما هو أقسى ، أو من عَرَفها شبهها بالحجارة أو قال هي أقسى من الحجارة ، وترْكُ ضميرِ المفضَّل عليه للأمن من الالتباس { وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانهار } بيانٌ لأشَدِّية قلوبِهم من الحجارة في القساوة وعدمِ التأثر واستحالةِ صدورِ الخيرِ منها ، يعني أن الحجارةَ ربما تتأثّرُ حتى كان منها ما يتفجر منه المياهُ العظيمة { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ } أي يتشقق { فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء } أي العيونُ { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله } أي يتردَّى من الأعلى إلى الأسفل بقضية ما أودعه الله عز وجل فيها من الثِقل الداعي إلى المرْكز ، وهو مجازٌ من الانقياد لأمره تعالى ، والمعنى أن الحجارةَ ليس منها فردٌ إلا وهو منقادٌ لأمره عز وعلا آتٍ بما خُلق له من غير استعصاء ، وقلوبُهم ليست كذلك فتكونُ أشدَّ منها قسوةً لا محالة ، واللام في ( لَما ) لامُ الابتداء دخلت على اسم إن لتقدُّم الخبر وقرىء ( أن ) على أنها مُخفّفة من الثقيلة ، واللامُ فارقةٌ ، وقرىء يهبُط بالضم { وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } ( عن ) متعلقةٌ بغافل ، و ( ما ) موصولة والعائدُ محذوف أو مصدرية ، وهو وعيدٌ شديد على ما هو عليه من قساوة القلوب وما يترتب عليها من الأعمال السيئة ، وقرىء بالياء على الالتفات .(1/147)
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
قوله تعالى : { أَفَتَطْمَعُونَ } تلوينٌ للخطاب وصرْفٌ له عن اليهود إثرَ ما عُدَّت سيئاتُهم ونُعيتْ عليهم جناياتُهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين ، والهمزةُ لإنكار الواقع واستبعادِه كما في قولك : أتضرِبُ أباك؟ لا لإنكار الوقوعِ كما في قولك : أأضرِبُ أبي؟ والفاء للعطف على مقدّرٍ يقتضيه المقامُ ويستدعيه نظامُ الكلام ، لكن لا على قصد توجيهِ الإنكار إلى المعطوفين معاً كما في ( أفلا تبصرون ) على تقدير المعطوفِ عليه منفياً أي ألا تنظُرون فلا تبصرون؟ فالمُنْكَر كلا الأمرين بل إلى ترتب الثاني على الأول مع وجوب أن يترتَّبَ عليه نقيضُه كما إذا قُدِّر الأول مُثْبتاً ، أي أتنظرون فلا تبصرون؟ فالمنْكَر ترتُّبُ الثاني على الأول مع وجوب أن يترتب عليه نقيضُه أي أتسمعون أخبارَهم وتعلمون أحوالَهم فتطمعون؟ ومآلُ المعنى : أبَعْدَ أنْ علِمتم تفاصيلَ شؤونِهم المُؤْيِسةِ عنهم تطمعون؟ { أَن يُؤْمِنُواْ } فإنهم متماثلون في شدة الشكيمةِ والأخلاقِ الذميمة ، لا يتأتى من أخلافِهم إلا مثلُ ما أتى من أسلافِهم ، وأنْ مصدريةٌ حذف عنها الجارُّ ، والأصلُ : في أن يؤمنوا ، وهي مع ما في حيِّزها في محل النصبِ أو الجرِّ على الخلاف المعروف . واللام في ( لَكُمْ ) لتضمين معنى الاستجابة كما في قوله عز وجل : { فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ } أي في إيمانهم مستجيبين لكم ، أو للتعليل أي في أن يُحدثوا الإيمان لأجل دعوتِكم ، وصلةُ الإيمان محذوفةٌ لظهور أن المرادَ به معناه الشرعيُّ ، وستقف على ما فيه من المزية بإذن الله تعالى { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ } الفريقُ اسمُ جمعٍ لا واحد له من لفظه كالرهط والقومِ ، والجار والمجرور في محل الرفعِ ، أي فريق كائنٌ منهم ، وقوله تعالى : { يَسْمَعُونَ كلام الله } خبرُ كان وقرىء كلِمَ الله ، والجملة حاليةٌ مؤكِّدة للإنكار حاسمةٌ لمادة الطمَع مثلُ أحوالِهم الشنيعةِ المحْكيةِ فيما سلف على منهاج قوله تعالى : { وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } بعد قوله تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى } أي والحالُ أن طائفةً منهم . قال ابن عباس رضي الله عنهما : هم قومٌ من السبعين المختارين للميقات كانوا يسمعون كلامَه تعالى حين كلّم موسى عليه السلام بالطور وما أُمِرَ به ونُهيَ عنه { ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ } عن مواضعه لا لقصورِ فهمِهم عن الإحاطة بتفاصيله على ما ينبغي لاستيلاء الدهشةِ والمهابةِ حسبما يقتضيه مقامُ الكبرياء بل { مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } أي فهِموه وضبَطوه بعقولهم ، ولم تبقَ لهم في مضمونه ولا في كونه كلامَ ربِّ العزةِ رِيبةٌ أصلاً ، فلما رجَعوا إلى قومهم أدّاه الصادقون إليهم كما سمعوا . وهؤلاء قالوا : سمعنا الله تعالى يقول في آخر كلامه : إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياءَ فافعلوا ، وإن شئتم فلا تفعلوا فلا بأس ، فثُم للتراخي زماناً أو رتبةً قال القفال : سمِعوا كلامَ الله وعقَلوا مرادَه تعالى منه فأوّلوه تأويلاً فاسداً وقيل : هم رؤساءُ أسلافِهم الذين تولَّوْا تحريفَ التوراة بعد ما أحاطوا بما فيها علماً وقيل : هم الذين غيّروا نعتَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في عصره وبدّلوا آيةَ الرجْم ، ويأباه الجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل الدالِّ على وقوع السماعِ والتحريفِ فيما سلف إلا أن يُحملَ ذلك على تقدّمه على زمانِ نزولِ الآية الكريمةِ لا على تقدمه على عهده عليه الصلاة والسلام .(1/148)
هذا والأول هو الأنسبُ بالسماع والكلام إذ التوراةُ وإن كانت كلامَ الله عز وعلا لكنها باسم الكتاب أشهرُ وأثرُ التحريفِ فيه أظهر ، ووصفُ اليهودِ بتلاوتها أكثر ، لا سيما رؤساؤُهم المباشرون للتحريف فإن وظيفتهم التلاوةُ دون السماع فكان الأنسبَ حينئذ أن يقالَ : يتلون كتابَ الله تعالى فالمعنى أفتطمعون في أن يؤمنَ هؤلاءِ بواسطتكم ويستجيبوا لكم والحالُ أن أسلافَهم الموافقين لهم في خِلال السوءِ كانوا يسمعون كلامَ الله بلا واسطةٍ ثم يحرِّفونه من بعد ما علِموه يقيناً ولا يستجيبون له؟ هيهاتَ . ومن ههنا ظهر ما في إيثار ( لكم ) على بالله من الفخامة والجزالة .
وقوله عز وجل : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } جملة حالية من فاعل ( يحرّفونه ) مفيدةٌ لكمال قباحةِ حالِهم مُؤْذِنةٌ بأن تحريفَهم ذلك لم يكن بناءً على نسيان ما عقَلوه أو على الخطأ في بعض مقدِّماته بل كان ذلك حالَ كونهم عالمين مستحضِرين له أو وهم يعلمون أنهم كاذبون ومُفترون .(1/149)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)
{ وَإِذَا لَقُواْ } جملةٌ مستأنفة سيقتْ إثرَ بيانِ ما صدر عن أشباههم لبيان ما صدرَ عنهم بالذات من الشنائع المُؤْيسةِ عن إيمانهم من نفاق بعضٍ وعتابِ آخَرين عليهم ، أو معطوفةٌ على ما سبق من الجملة الحالية ، والضميرُ لليهود لما ستقف على سره لا لمنافقيهم خاصةً كما قيل تحرّياً لاتحاد الفاعل في فعلي الشرط والجزاءِ حقيقةً { الذين آمنواْ } من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم { قَالُواْ } أي اللاقون لكن لا بطريق تصدّي الكلِّ للقول حقيقةً بل بمباشرة منافقيهم وسكوتِ الباقين ، كما يقال : بنو فلان قتلوا فلاناً والقاتلُ واحد منهم ، وهذا أدخلُ في تقبيح حال الساكنين أولاً العاتبين ثانياً لما فيه من الدلالة على نفاقهم واختلافِ أحوالهم وتناقضِ آرائهم من إسناد القول إلى المباشرين خاصةً بتقدير المضافِ أي قال منافقوهم { آمنا } لم يقتصروا على ذلك بل عللوه بأنهم وجدوا نعتَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في التوراة وعلموا أنه النبيُّ المبشَّر به ، وإنما لم يصرَّحْ به تعويلاً على شهادة التوبيخِ الآتي : { وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ } أي بعض المذكورين وهم الساكتون منهم أي إذا فرَغوا من الاشتغال بالمؤمنين متوجِّهين ومنضمَّين { إلى بَعْضِ } آخرَ منهم وهم منافقوهم بحيث لم يبقَ معهم غيرُهم ، وهذا نصٌّ على اشتراك الساكتين في لقاء المؤمنين كما أشير إليه آنفاً إذِ الخلوُّ إنما يكون بعد الاشتغال ، ولأن عتابَهم معلقٌ بمحض الخلوِّ ، ولولا أنهم حاضرون عند المقاولة لوجب أن يُجعلَ سماعُهم لها من تمام الشرط ، ولأن فيه زيادةَ تشنيعٍ لهم على ما أتَوْا من السكوت ثم العتاب { قَالُواْ } أي الساكتون موبّخين لمنافقيهم على ما صنعوا { أَتُحَدّثُونَهُم } يعنون المؤمنين { بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ } ( ما ) موصولةٌ والعائدُ محذوفٌ أي بيَّنه لكم خاصةً في التوراة من نعْت النبي صلى الله عليه وسلم والتعبيرِ عنه بالفتْح للإيذان بأنه سرٌّ مكنونٌ وباب مغلَقٌ لا يقف عليه أحدٌ . وتجويزُ كونِ هذا التوبيخ من جهة المنافقين لأعقابهم إراءةً للتصلُّب في دينهم كما ذهب إليه عصابةٌ مما لا يليق بشأن التنزيل الجليلِ ، واللامُ في قوله عز وجل : { لِيُحَاجُّوكُم بِهِ } متعلقةٌ بالتحديث دون الفتح ، والمرادُ تأكيدُ النكير وتشديدُ التوبيخ ، فإن التحديثَ بذلك وإن كان مُنْكراً في نفسه ، لكن التحديثَ به لأجل هذا الغَرَض مما لا يكاد يصدُرُ عن العاقل أي أتحدِّثونهم بذلك ليحتجّوا عليكم به فيُبَكِّتوكم؟ والمحدّثون به وإن لأإن لم يحوموا حولَ ذلك الغرضِ لكن فعلَهم ذلك لما كان مستتبِعاً له ألبتة جُعلوا فاعلين للغرض المذكور إظهاراً لكمال سخافةِ عقولِهم وركاكة آرائهم .
{ عِندَ رَبّكُمْ } أي في حُكمه وكتابه كما يقال : هو عند الله كذا أي في كتابه وشرعه ، وقيل : عند ربكم يومَ القيامة ، ورُدَّ عليه بأن الإخفاءَ لا يدفعه إذ هم عالمون بأنهم محجوجون يومئذ حدَّثوا به أو لم يحدثوا ، والاعتذارُ بأنه إلزامَ المؤمنين إياهم وتبكيتَهم بأن يقولوا لهم : ألم تحدِّثونا بما في كتابكم في الدنيا من حقّية دينِنا وصدقِ نبيِّنا أفحشُ ، فيجوز أن يكون المحذورُ عندهم هذا الإلزامَ بإرجاع الضمير في ( به ) إلى التحديث دون المحدَّث به ، ولا ريب في أنه مدفوعٌ بالإخفاء لا تساعده الآيةُ الكريمة الآتيةُ كما ستقف عليه بإذن الله عز وجل { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } من تمام التوبيخ والعتابِ ، والفاءُ للعطف على مقدَّر ينسحبُ عليه الكلام أي ألا تلاحظون فلا تعقلون هذا الخطأَ الفاحشَ أو شيئاً من الأشياء التي من جملتها هذا؟ فالمنْكرُ عدمُ التعقُّل ابتداءً .(1/150)
أو أتفعلون ذلك فلا تعقلون بُطلانَه مع وضوحه حتى تحتاجوا إلى التنبيه عليه؟ فالمنكرُ حينئذ عدمُ التعقل بعد الفعل ، هذا وأما ما قيل من أنه خطابٌ من جهة الله سبحانه للمؤمنين متصلٌ بقوله تعالى : أَفَتَطْمَعُونَ والمعنى أفلا تعقلون حالَهم وأن لا مطْمَعَ لكم في إيمانهم فيأباه .(1/151)
أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)
قولُه تعالى : { أَوْ لاَ يَعْلَمُونَ } فإنه إلى آخره تجهيلٌ لهم من جهته تعالى فيما حكى عنهم فيكون إيرادُ خطاب المؤمنين في أثنائه من قَبيل الفصل بين الشجرِ ولِحائِه . على أن في تخصيص الخطاب بالمؤمنين من التعسف وفي تعميمِه للنبي أيضاً صلى الله عليه وسلم كما في أتطمعون من سوء الأدب ما لا يخفى ، والهمزةُ للإنكار والتوبيخ كما قبلها ، والواوُ للعطف على مقدَّر ينساقُ إليه الذهنُ ، والضميرُ للموبَّخين أي أيلومونهم على التحديث المذكورِ مخافةَ المُحاجَّةِ ولا يعلمون { أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ } أي يُسرُّونه فيما بينهم من المؤمنين أو ما يُضْمرونه في قلوبهم فيثبتُ الحكمُ في ذلك بالطريق الأولى { وَمَا يُعْلِنُونَ } أي يظهرونه للمؤمنين أو لأصحابهم حسبما سبق فحينئذ يُظهرُ الله تعالى للمؤمنين ما أرادوا إخفاءَه بواسطة الوحْي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فتحصُلُ المحاجَّة ويقعُ التبكيت ، كما وقع في آية الرجم وتحريمِ بعضِ المحرماتِ عليهم ، فأيُّ فائدةٍ في اللوم والعتاب؟ .
ومن ههنا تبين أن المحظورَ عندهم هو المُحاجّة بما فتحَ الله عليهم وهي حاصلةٌ في الدارَيْن حدَّثوا به أم لا لا بالتحديث به حتى يندفعَ بالإخفاء ، وقيل : الضميرُ للمنافقين فقط أو لهم وللموبَّخين أو لآبائهم المحرِّفين أي أيفعلون ما يفعلون ولا يعلمون أن الله يعلم جميعَ ما يُسِرُّون وما يعلنون ومن جملته إسرارُهم الكفرَ وإظهارُهم الإيمانَ وإخفاءُ ما فتح الله عليهم وإظهارُ غيرِه وكتمُ أمرِ الله وإظهارُ ما أظهروه افتراءً . وإنما قُدم الإسرارُ على الإعلان للإيذان بافتضاحهم ووقوعِ ما يحذرونه من أول الأمر ، والمبالغةِ في بيان شمولِ علمِه المحيطِ لجميع المعلومات كأن علمَه بما يُسرونه أقدمُ منه بما يعلنونه مع كونهما في الحقيقة على السوية فإن علمَه تعالى بمعلوماته ليس بطريقِ حصولِ صُورِها ، بل وجودُ كلِّ شيءٍ في نفسه عِلْمٌ بالنسبة إليه تعالى . وفي هذا المعنى لا يختلف الحالُ بين الأشياء البارزةِ والكامنةِ ونظيره قولُه عز وعلا : { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله } حيث قُدم فيه الإخفاءُ على الإبداء لما ذُكر من السر على عكس ما وقع في قوله تعالى : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله } فإن الأصلَ في تعلق المحاسبة به هو الأمورُ الباديةُ دون الخافية ، ويجوز أن يكون ذلك باعتبار أن مرتبة السرِّ متقدمةٌ على مرتبة العلنِ إذ ما من شيء يُعلَنُ إلا وهو أو مَباديه قبل ذلك مُضْمرٌ في القلب يتعلق به الإسرارُ غالباً فتعلُقُ علمِه تعالى بحالته الأولى متقدمٌ على تعلقِه بحالته الثانية .(1/152)
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
{ وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ } وقرىء بتخفيف الياء ، جمع أُمِّيّ ، وهو من لا يقدر على الكتابة والقراءة واختُلف في نسبته فقيل : إلى الأم بمعنى أنه شبيهٌ بها في الجهل بالكتابة والقراءة فإنهما ليستا من شؤون النساء بل من خِلال الرجال أو بمعنى أنه على الحالة التي ولدتْه أمُه في الخلوِّ عن العلم والكتابة وقيل : إلى الأُمّة بمعنى أنه باقٍ على سذاجتها خالٍ عن معرفة الأشياء كقولهم : عامّي أي على عادة العامة . روي عن عكرمة والضحاك أن المراد بهم نصارى العربِ وقيل : هم قومٌ من أهل الكتاب رُفع كتابُهم لذنوب ارتكبوها فصاروا أمّيين ، وعن عليّ رضي الله تعالى عنه : هم المجوسُ . والحقُّ الذي لا محيد عنه أنهم جَهلةُ اليهودِ والجملةُ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيان قبائحِهم إثرَ بيانِ شنائعِ الطوائفِ السالفة ، وقيل : هي معطوفةٌ على الجملة الحالية فإن مضمونَها منافٍ لرجاء الخير منهم وإن لم يكن فيه ما يحسِمُ مادةَ الطمع عن إيمانهم كما في مضمون الجملة الحالية وما بعدها ، فإن الجهل بالكتاب في منافاة الإيمان ليس بمثابة تحريفِ كلامِ الله بعد سماعِه والعلمِ بمعانيه كما وقع من الأولين أو النفاق والنهي عن إظهار ما في التوراة كما وقع من الفِرقتين الأخْرَيين ، أي ومنهم طائفةٌ جهَلةٌ غيرُ قادرين على الكتابة والتلاوة .
{ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب } أي لا يعرِفون التوراةَ ليطالعوها ويتحقَّقوا ما في تضاعيفها من دلائل النبوة فيؤمنوا وحَملُ الكتاب على الكتابة يأباه سباقُ النظم الكريم وسياقُه { إِلاَّ أَمَانِىَّ } بالتشديد وقرىء بالتخفيف جمع أمنية أصلُها أُمنُوية أفعولة من منَّى بمعنى قدِّر أو بمعنى تلا ، كَتَمَنَّى في قوله : [ تمنَّى كتابَ الله أولَ ليله ] فأُعلَّت إعلالَ سيِّد وميِّت ومعناها على الأول ما يقدّره الإنسان في نفسه ويتمناه وعلى الثاني ما يتلوه وعلى التقديرين فالاستثناءُ منقطع إذ ليس ما يُتمنَّى وما يُتلى من جنس علم الكتاب أي لا يعلمون الكتابَ لكن يتمنَّوْن أمانيَّ حسبما منَّتْهم أحبارُهم من أن الله سبحانه يعفو عنهم وأن آباءَهم الأنبياءَ يشفعون لهم ، وغيرُ ذلك من أمانيهم الفارغةِ المستندة إلى الكتاب على زعم رؤسائِهم . أو لا يعلمون الكتابَ لكن يتلقَّوْنه قدْرَ ما يُتلى عليهم فيقْبَلونه من غير أن يتمكنوا من التدبر فيه ، وأما حملُ الأمانيَّ على الأكاذيبِ المختلفة على الإطلاق من غير أن يكون لها ملابسةٌ بالكتاب فلا يساعدُه النظمُ الكريم { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } ما هم إلا قومٌ قُصارى أمرِهم الظنُّ والتقليدُ من غير أن يصِلوا إلى رتبة العلمِ فأنَّى يرجى منهم الإيمانُ المؤسَّسُ على قواعد اليقينِ .
ولما بين حالَ هؤلاء في تمسكهم بحبال الأمانيّ واتباعِ الظن عقَّب ببيان حالِ الذين أوقعوهم في تلك الورطةِ وبكشف كيفية إضلالِهم وتعيين مرجعِ الكلِّ بالآخرة فقيل على وجه الدعاء عليهم .(1/153)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
{ فَوَيْلٌ } هو وأمثالُه من ويحٍ وويسٍ وويبٍ وويهٍ وويكٍ وعوْلٍ من المصادر المنصوبة بأفعال من غير لفظها لا يجوز إظهارُها البتة فإن أضيف نُصب نحو ويلَك وويحَك وإذا فُصل عن الإضافة رُفع نحوُ ويلٌ له ومعنى الويلِ شدةُ الشر ، قاله الخليل ، وقال الأصمعيُّ : الويلُ التفجُّع والويحُ الترحُّم ، وقال سيبويه : ويلٌ : لمن وقع في الهَلَكة وويحٌ : زجرٌ لمن أشرف على الهلاك ، وقيل : الويلُ الحزن ، وهل ويح وويب وويس بذلك المعنى أو بينه وبينها فرق وقيل : ويل في الدعاء عليه وويح وما بعده في الترحم عليه ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : الويلُ العذاب الأليم وعن سفيان الثوري أنه صديدُ أهلِ جهنم ورَوى أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الويلُ وادٍ في جهنم يهوي فيه الكافرُ أربعين خريفاً قبل أن يبلُغ قَعْرَه » وقال سعيد بن المسيب : إنه وادٍ في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لماعت من شدة حرِّه ، وقال ابن بريدة : جبلُ قيحٍ ودمٍ وقيل : صهريج في جهنم . وحكى الزهراوي : أنه باب من أبواب جهنم وعلى كل حالٍ فهو مبتدأً خبرُه قوله عز وعلا : { لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب } أي المحرَّفَ أو ما كتبوه من التأويلات الزائغة { بِأَيْدِيهِمْ } تأكيدٌ لدفع توهمِ المجاز كقولك : كتبتُه بيميني { ثُمَّ يَقُولُونَ هذا } أي جميعاً على الأول ، وبخصوصه على الثاني { مِنْ عِندِ الله } رُوي أن أحبارَ اليهود خافوا ذهابَ مآكلِهم وزوالَ رياستهم حين قدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ فاحتالوا في تعويق أسافلِ اليهودِ عن الإيمان فعمَدوا إلى صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة وكانت هي فيها : حسنُ الوجهِ حسَنُ الشعرِ أكحلُ العينين رَبْعةٌ ، فغيّروها وكتبوا مكانها : طوُالٌ أزرقُ سِبَطُ الشعر . فإذا سألَهم سَفَلتُهم عن ذلك قرأوا عليهم ما كتبوا فيجدونه مخالفاً لصفته عليه السلام فيكذِّبونه ، و ( ثم ) للتراخي الرتبيّ فإن نسبةَ المحرَّفِ والتأويل الزائغِ إلى الله سبحانه صريحاً أشدُّ شناعةً من نفس التحريفِ والتأويلِ { لِيَشْتَرُواْ بِهِ } أي يأخذوا لأنفسهم بمقابلته { ثَمَناً } هو ما أخذوه من الرُّشا بمقابلة ما فعلوا من التحريف والتأويل ، وإنما عُبر عن المشترى الذي هو المقصودُ بالذات في عقد المعاوضة بالثمن الذي هو وسيلةٌ فيه إيذاناً بتعكيسهم حيث جعلوا المقصود بالذات وسيلةً والوسيلةَ مقصوداً بالذات { قَلِيلاً } لا يُعبأ به فإن ذلك وإن جل في نفسه فهو أقلُّ قليلاً عندما استوجبوا به من العذاب الخالد { فَوَيْلٌ لَّهُمْ } تكريرٌ لما سبق للتأكيد وتصريحٌ بتعليله بما قدمت أيديهم بعد الإشعار به فيما سلف بإيراد بعضِه في حيِّز الصلةِ وبعضِه في معرِضِ الغرض ، والفاءُ للإيذان بترتُّبه عليه . و ( مِنْ ) في قوله عز وجل : { مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } تعليليةٌ متعلقةٌ بويل ، أو بالاستقرار في الخبر و ( ما ) موصولةٌ اسميةٌ والعائدُ محذوف أي كتَبَتْه أو مصدرية والأول أدخَلُ في الزجر عن تعاطي المحرَّفِ والثاني في الزجر عن التحريف { وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } الكلام فيه كالذي فيما قبله ، والتكريرُ لما مر من التأكيد والتشديد ، والقصدُ إلى التعليل بكل من الجانبين وعدم التعرض لقولهم هذا من عند الله لما أنه من مبادىء ترويجِ ما كتبت أيديهم فهو داخل في التعليل به .(1/154)
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
{ وَقَالُواْ } بيانٌ لبعضٍ آخرَ من جناياتهم ، وفصلُه عما قبله مُشعرٌ بكونه من الأكاذيب التي اختلقوها ولم يكتبوها في الكتاب { لَن تَمَسَّنَا النار } في الآخرة { إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } قليلةً محصورةً عددَ أيام عبادتِهم العجلَ أربعين يوماً مُدةَ غَيْبةِ موسى عليه السلام عنهم . وحَكى الأصمعي عن بعض اليهود أن عددَ أيام عبادتهم العجلَ سبعة . ورُوي عن ابن عباس ومجاهدٍ أن اليهودَ قالوا عُمرُ الدنيا سبعةُ آلاف سنة وإنما نعذَّب بكل ألفِ سنةٍ يوماً واحداً . ورَوى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن اليهود زعمت أن ما وجدوا في التوراة أن ما بين طرفي جهنمَ مسيرةُ أربعين سنةً إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم ، وأنهم يقطعون في كل يوم مسيرةَ سنة فيكملونها { قُلْ } تبكيتاً لهم وتوبيخاً { اتخذتم } بإسقاط الهمزةِ المجتَلَبة لوقوعها في الدَّرْج وبإظهار الذال وقرىء بإدغامها في التاء { عِندَ الله عَهْدًا } خبَراً أو وعداً بما تزعمون ، فإن ما تدّعون لا يكون إلا بناءً على وعدٍ قوي ولذلك عَبَّر عنه بالعهد { فَلَن يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ } الفاءُ فصيحة معربة عن شرط محذوفٍ كما في قول من قال :
قالوا خراسانُ أقصى ما يُراد بنا ... ثم القُفولُ فقد جئنا خُراسانا
أي إن كان الأمر كذلك فلن يُخلِفَه ، والجملةُ اعتراضيةٌ وإظهارُ الاسمِ الجليل للإشعار بعِلّة الحُكم فإن عدم الإخلاف من قضية الألوهية ، وإظهارُ العهدِ مضافاً إلى ضميره عز وجل لما ذكر ، أو لأن المرادَ به جميعُ عهوده لعمومه بالإضافة فيدخل فيه العهدُ المعهودُ دخولاً أولياً ، وفيه تجافٍ عن التصريح بتحقق مضمونِ كلامِهم وإن كان معلقاً بما لم يكَدْ يشَمُّ رائحةَ الوجود قطعاً أعني اتخاذَ العهد { أَمْ تَقُولُونَ } مفترين { عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وقوعَه ، وإنما عُلّق التوبيخ بإسنادهم إليه سبحانه ما لا يعلمون وقوعَه مع أن ما أسندوه إليه تعالى من قبيل ما يعلمون عدمَ وقوعِه للمبالغة في التوبيخ والنكير فإن التوبيخَ على الأدنى مستلزِمٌ للتوبيخ على الأعلى بالطريق الأَوْلى ، وقولُهم المحكيُّ وإن لم يكن تصريحاً بالافتراء عليه سبحانه مستلزِمٌ له ، لأن ذلك الجزمَ لا يكون إلا بإسناد سببِه إليه تعالى ، وأمْ إما متصلةٌ والاستفهام للتقرير المؤدي إلى التبكيت لتحقق العلم بالشق الأخيرِ كأنه قيل : أم لم تتخذوه بل تتقوّلون عليه تعالى ، وإما منقطعةٌ والاستفهام لإنكار الاتخاذِ ونفيِه ومعنى بل فيها الإضرابُ والانتقالُ من التوبيخ بالإنكار على اتخاذ العهدِ إلى ما تفيد همزتُها من التوبيخ على التقوُّل على الله سبحانه ، كما في قوله عز وجل : قل آلله أذِنَ لكم أم على الله تفترون { بلى } إلى آخره ، جوابٌ عن قولهم المحكيِّ وإبطالٌ له من جهته تعالى وبيانٌ لحقيقة الحالِ تفصيلاً في ضمن تشريعٍ كليَ شاملٍ لهم ولسائر الكَفَرة بعد إظهار كذِبِهم إجمالاً ، وتفويضُ ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما أن المُحاجَّةَ والإلزامَ من وظائفه عليه السلام مع ما فيه من الإشعار بأنه أمرٌ هيِّنٌ لا يتوقف على التوقيف ، وبلى حرفُ إيجابٍ مختصٌّ بجواب النفي خبراً واستفهاماً { مَن كَسَبَ سَيّئَةً } فاحشةً من السيئات أي كبيرةً من الكبائر كدأب هؤلاء الكَفَرة ، والكسبُ استجلابُ النفعِ ، وتعليقُه بالسيئة على طريقة فبشِّرْهم بعذاب أليم { وأحاطت بِهِ } من جميع جوانبِه بحيث لم يبقَ له جانبٌ من قلبه ولسانه وجوارحِه إلا وقد اشتملت واستولت عليه { خَطِيئَتُهُ } التي كسَبها وصارت خاصةً من خواصّه كما تُنبىءَ عنه الإضافةُ إليه ، وهذا إنما يتحقق في الكافر ، ولذلك فسرها السلفُ بالكفر حسبما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم وابنُ جرير عن أبي وائل ومجاهدٌ وقَتادةُ وعطاءٌ والربيعُ وقيل : السيئةُ الكفرُ والخطيئةُ الكبيرة ، وقيل : بالعكس وقيل : الفرق بينهما أن الأُولى قد تطلق على ما يُقصَد بالذات والثانيةُ تغلِبُ على ما يُقصَدُ بالعَرَض لأنها من الخطأ .(1/155)
وقرىء خَطِيَّتُه وخطِيّاتُه على القلب والإدغام فيهما وخطيئاتُه وخَطاياه وفي ذلك إيذانٌ بكثرة فنون كفرهم { فَأُوْلَئِكَ } مبتدأ { أصحاب النار } خبرُه والجملةُ خبر للمبتدأ ، والفاءُ لتضمُّنه معنى الشرط ، وإيرادُ اسمِ الإشارة المنبيءِ عن استحضار المشارِ إليه بما لَه من الأوصاف للإشعار بعلِّيتها لصاحبيّة النار ، وما فيه من معنى البُعد للتنبيه على بُعد منزلتِهم في الكفر والخطايا ، وإنما أشير إليهم بعنوان الجَمْعية مراعاةً لجانب المعنى في كلمة ( مَنْ ) بعدَ مراعاة جانبِ اللفظ في الضمائر الثلاثةِ لما أن ذلك هو المناسبُ لما أسند إليهم في تَيْنِك الحالتين ، فإن كسْبَ السيئة وإحاطة خطيئتِه به في حالة الانفراد ، وصاحبيّةَ النارِ في حالة الاجتماع أي أولئك الموصوفون بما ذكر من كسب السيئات وإحاطة خطاياهم بهم أصحابُ النار أي ملازموها في الآخرة حسب ملازمتهم في الدنيا لما يستوجبُها من الأسباب التي جملتها ما هم عليه من تكذيب آياتِ الله تعالى وتحريفِ كلامِه والافتراءِ عليه وغيرِ ذلك ، وإنما لم يُخَصَّ الجوابُ بحالهم بأن يقال مثلاً : بلى إنهم أصحابُ النار الخ لما في التعميم من التهويل وبيانِ حالِهم بالبرهان والدليل ، مع ما مر من قصد الإشعار بالتعليل { هُمْ فِيهَا خالدون } دائماً أبداً فأنَّى لهم التفَصِّي عنها بعد سبعة أيام أو أربعين كما زعموا فلا حجةَ في الآية الكريمة على خلود صاحبِ الكبيرة لما عرفت من اختصاصها بالكافر ، ولا حاجة إلى حمل الخلودِ على اللُبْث الطويل على أن فيه تهوينَ الخطب في مقام التهويل .(1/156)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
{ والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون } جرت السنةُ الإلهيةُ على شفْع الوعدِ بالوعيد مراعاةً لما تقتضيه الحِكمةُ في إرشاد العبادِ من الترغيب تارةً والترهيبِ أخرى ، والتبشيرِ مرةً والإنذارِ أخرى { وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاق بَنِى إِسْرءيلَ } شروعٌ في تَعداد بعضٍ آخرَ من قبائح أسلافِ اليهودِ مما ينادي بعدم إيمانِ أخلافِهم ، وكلمةُ إذ نُصب بإضمار فعلٍ خوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون ليؤدِّيَهم التأملُ في أحوالهم إلى قطع الطمَع عن إيمانهم ، أو اليهودُ الموجودون في عهد النبوة توبيخاً لهم بسوء صنيعِ أسلافِهم أي اذكروا إذ أخذنا ميثاقهم { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله } على إرادة القول أي وقلنا أو قائلين لا تعبدون إلخ وهو إخبارٌ في معنى النهي كقوله تعالى : { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } وكما تقول : تذهب إلى فلان وتقول كيتَ وكيتْ وهو أبلغُ من صريح النهي لما فيه من إيهام أن المنهيَّ حقُّه أن يسارعَ إلى الانتهاء عما نُهي عنه فكأنه انتهى عنه فيُخبرُ به الناهيَ . ويؤيده قراءةُ ( لا تعبدوا ) وعطفُ ( قولوا ) عليه وقيل تقديره أن لا تعبدوا إلخ فحُذِف الناصبُ ورُفع الفعل كما في قوله :
ألا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغَى ... وأن أشهدَ اللذاتِ ، هل أنت مُخْلِدي؟
ويعضُدُه قراءةُ ( ألا تعبُدوا ) فيكون بدلاً من الميثاق أو معمولاً له بحذف الجار وقيل : إنه جوابُ قسمٍ دل عليه المعنى كأنه قيل : وحلّفناهم لا تعبدون إلا الله ، وقرىء بالياء لأنهم غُيَّبٌ { وبالوالدين إحسانا } متعلق بمضمر أي وتحسنون أو وأحسنوا { وَذِى القربى واليتامى والمساكين } عطفٌ على الوالدين ويتامى جمع يتيم كندامى جمع نديم ، وهو قليل ، ومسكين مِفْعيل من السكون كأن الفقرَ أسكنه من الحَراك وأثخنه عن التقلب { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا } أي قولاً حسناً سماه ( حُسْناً ) مبالغة وقرىء كذلك وحُسُناً بضمتين ، وهي لغة أهل الحجاز وحُسْنى كبُشرى والمراد به ما فيه تخلّقٌ وإرشاد { وأقيموا الصلاة وآتوا وآتوا الزكاة } هما ما فُرض عليهم في شريعتهم { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } إن جُعل ناصبُ الظرف خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فهذا التفاتٌ إلى خطاب بني إسرائيلَ جميعاً بتغليب أخلافِهم على أسلافهم لجَرَيان ذِكرِ كلِّهم حينئذ على نهْج الغَيْبة ، فإن الخطاباتِ السابقةَ لأسلافهم محْكيةٌ داخلةٌ في حيز القول المقدّر قبل لا تعبدون كأنهم استُحضِروا عند ذكرِ جناياتِهم فنُعيت هي عليهم ، وإنْ جعل خِطاباً لليهود المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا تعميمٌ للخطاب بتنزيل الأسلافِ منزلةَ الأخلاف كما أنه تعميمٌ للتولي بتنزيل الأخلافِ منزلةَ الأسلاف للتشديد في التوبيخ أي أعرضتم عن المُضِيِّ على مقتضى الميثاقِ ورفضتموه { إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ } وهم من الأسلاف مَنْ أقام اليهوديةَ على وجهها قبل النسخِ ، ومن الأخلاف مَنْ أسلم كعبد اللَّه بنِ سلام وأضرابِه { وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } جملةٌ تذييلية أي وأنتم قومٌ عادَتُكم الإعراضُ عن الطاعة ومراعاةِ حقوقِ الميثاق ، وأصلُ الإعراض الذهابُ عن المواجهة والإقبالُ إلى جانب العَرْض .(1/157)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
{ وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم } منصوب بفعل مُضمرٍ خوطب به اليهودُ قاطبةً على ما ذكر من التغليب ونُعي عليهم إخلالُهم بمواجب الميثاق المأخوذِ منهم في حقوق العبادِ على طريقة النهي إثرَ بيانِ ما فعلوا بالميثاق المأخوذِ منهم في حقوق الله سبحانه وما يجري مَجراه على سبيل الأمرِ فإن المقصودَ الأصليَّ من النهي عن عبادة غيرِ الله تعالى هو الأمرُ بتخصيص العبادةِ به تعالى أي واذكروا وقت أخذِنا ميثاقَكم في التوراة وقوله تعالى : { لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مّن دياركم } كما قبله إخبارٌ في معنى النهي غُيِّر السبكُ إليه لما ذَكر من نُكتة المبالغة . والمرادُ به النهيُ الشديدُ عن تعرُّض بعضِ بني إسرائيلَ لبعضٍ بالقتل والإجلاءِ ، والتعبيرُ عن ذلك بسفك دماءِ أنفسِهم وإخراجِها من ديارهم بناءً على جَرَيان كلِّ واحدٍ منهم مجرى أنفسِهم لما بينهم من الاتصال القويِّ نسَباً وديناً ، للمبالغة في الحمل على مراعاة حقوقِ الميثاق بتصوير المنهيِّ عنه بصورةٍ تكرَهها كلُّ نفس وتنفِرُ عنها كلُّ طبيعةٍ . فضميرُ ( أنفسَكم ) للمخاطبين حتماً إذ به يتحقق تنزيلُ المخْرِجين منزلتَهم كما أن ضميرَ ( ديارِكم ) للمخرَجين قطعاً ، إذ المحذورُ إنما هو إخراجُهم من ديارهم لا من ديار المخاطَبين من حيث إنهم مخاطبون كما يفصحُ عنه ما سيأتي من قوله تعالى : { مِن ديارهم } وإنما الخطابُ ههنا باعتبار تنزيلِ ديارِهم منزلةَ ديارِ المخاطَبين بناءً على تنزيل أنفسِهم منزلتَهم لتأكيد المبالغةِ وتشديدِ التشنيع ، وأما ضميرُ ( دماءَكم ) فمحتملٌ للوجهين : مَفادُ الأول كونُ المسفوكِ دماءً ادعائيةً للمخاطَبين حقيقةً ، ومَفادُ الثاني كونُه دماءً حقيقيةً للمخاطبين ادعاءً وهما متقاربان في إفادة المبالغةِ فتدَّبرْ .
وأما ما قيل من أن المعنى لا تباشروا ما يؤديّ إلى قتل أنفسِكم قِصاصاً ، أو ما يبيح سفكَ دمائِكم وإخراجَكم من دياركم ويصرِفُكم عن دياركم ، أو لا تفعلوا ما يُرديكم ويصرِفُكم عن الحياة الأبدية فإنه القتلُ في الحقيقة ولا تقترفوا ما تُحْرَمون به عن الجنة التي هي دارُكم فإنه الجلاءُ الحقيقيُّ فمما لا يساعده سياقُ النظمِ الكريم بل هو نصٌّ فيما قلناه كما ستقف عليه { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ } أي بالميثاق وما يوجب المحافظةَ عليه ، { وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } توكيدٌ للإقرار كقولك : أقرَّ فلانٌ شاهداً على نفسه ، وقيل : وأنتم أيها الحاضرون تشهدون اليوم على إقرار أسلافِكم بهذا الميثاق .(1/158)
ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
{ ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء } خطابٌ خاصٌّ بالحاضرين فيه توبيخ شديدٌ واستبعادٌ قويٌّ لما ارتكبوه بعد ما كان من الميثاق والإقرارِ به والشهادةِ عليه ، وأنتم مبتدأ هؤلاءِ خبرُه ، ومَناطُ الإفادةِ اختلافُ الصفاتِ المنزَّلةِ منزلةَ اختلافِ الذات ، والمعنى أنتم بعد ذلك هؤلاءِ المشاهِدون الناقضون المتناقضون حسبما تُعربُ عنه الجملُ الآتية ، فإن قوله عز وجل : { تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ } الخ بيانٌ له وتفصيلٌ لأحوالهم المُنْكَرة المندرجةِ تحت الإشارةِ ضمناً كأنهم قالوا : كيف نحن؟ فقيل : تقتُلون أنفسَكم أي الجارين مَجرى أنفسِكم كما أشير إليه ، وقرىء تُقتّلون بالتشديد للتكثير { وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم } الضمير إما للمخاطبين والمضافُ محذوفٌ أي من أنفسكم ، وإما للمقتولين والخطابُ باعتبار أنهم جُعلوا أنفُسَ المخاطَبين ، وإلا فلا يتحقق التكافُؤُ بين المقتولين والمخرجين في ذلك العنوان الذي عليه يدور فلَكُ المبالغة في تأكيد الميثاقِ حسبما نُصَّ عليه ، ولا يظهر كمالُ قباحةِ جناياتِهم في نقضه { مِن ديارهم } الضمير للفريق ، وإيثارُ الغَيْبة مع جواز الخِطاب أيضاً بناءً على اعتبار العنوان المذكورِ كما مر في الميثاق للاحتراز عن توهّم كونِ المرادِ إخراجَهم من ديار المخاطَبين من حيث هي ديارُهم لا من حيث هي ديارُ المخرِجين ، وقيل : هؤلاءِ موصولٌ والجملتان في حيّز الصلةِ ، والمجموعُ هو الخبرُ لأنتم { تظاهرون علَيْهِم } بحذف إحدى التاءين ، وقرىء بإثباتهما وبالإدغام وتظّهرون بطرح إحدى التاءين من تتظهرون ومعنى الكل تتعاونون وهي حالٌ من فاعل تَخرجون أو من مفعوله أو منهما جميعاً ، مبينةٌ لكيفية الإخراج دافعةٌ لتوهم اختصاصِ الحُرمة بالإخراج بطريق الأصالةِ والاستقلالِ ، دون المظاهرةِ والمعاونة { بالإثم } متعلقٌ بتظاهرون حال من فاعله أي متلبسين بالإثم وهو الفعلُ الذي يستحق فاعلُه الذمَّ واللومَ ، وقيل : وهو ما ينفِرُ عنه النفسُ ولا يطمئن إليه القلب { والعدوان } وهو التجاوزُ في الظلم { وَإِن يَأْتُوكُمْ أسارى } جمعُ أسير وهو من يؤخذ قهراً ، فعيل بمعنى مفعول من الأسر أي الشدّ أو جمعُ أسرى وهو جمع أسير كجرحى وجريح ، وقد قرىء أسْرى ، ومحله النصبُ على الحالية { تفادوهم } أي تخرجوهم من الأسر ، بإعطاء الفداء وقرىء تَفْدوهم .
قال السدي إن الله تعالى أخذ على بني إسرائيلَ في التوراة الميثاقَ أن لا يقتُلَ بعضُهم بعضاً ولا يُخرجَ بعضُهم بعضاً من ديارهم وأيُّما عبدٍ أو أمةٍ وجدتموه من بني إسرائيلَ فاشترُوه وأعتِقوه ، وكانت قريظةُ حلفاءَ الأوسِ والنضيرُ حلفاءَ الخزرج حتى كان بينهما ما كان من العداوة والشَنَآن ، فكان كلُّ فريقٍ يقاتل مع حُلفائه فإذا غَلَبوا خرَّبوا ديارَهم وأخرجوهم منها ، ثم إذا أُسر رجل من الفريقين جمعوا له مالاً فيَفُدونه ، فعيَّرتهم العربُ وقالت : كيف تقاتلونهم ثم تَفْدونهم؟ فيقولون : أُمرنا أن نفديَهم وحُرِّم علينا قتالُهم ، ولكن نستحْيي أن نُذِلَّ حلفاءَنا ، فذمهم الله تعالى على المناقضة { وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ } ضميرُ الشأن وقع مبتدأ ومحرمٌ فيه ضمير قائم مقامَ الفاعلِ وقع خبراً عن إخراجهم والجملة خبرٌ لضمير الشأن ، وقيل : محرَّمٌ خبرٌ لضمير الشأن وإخراجُهم مرفوع على أنه مفعولُ ما لم يُسمَّ فاعلُه ، وقيل : الضميرُ مُبهم يفسّره إخراجهم ، أو راجعٌ إلى ما يدل عليه تُخرجون من المصدر ، وإخراجُهم تأكيدٌ أو بيانٌ ، والجملةُ حالٌ من الضمير في تخرجون أو من فريقاً أو منهما كما مر بعد اعتبار القيد بالحال السابقة ، وتخصيصُ بيان الحرمةِ ههنا بالإخراج مع كونه قريناً للقتل عند أخذ الميثاقِ لكونه مِظنّةً للمساهلة في أمره بسبب قِلة خَطَره بالنسبة إلى القتل ، ولأن مساقَ الكلام لذمّهم وتوبيخِهم على جناياتهم وتناقض أفعالهم معاً ، وذلك مختصٌّ بصورة الإخراجِ حيث لم يُنقلْ عنهم تدارُك القتلى بشيءٍ من دِيَةِ أو قِصاصٍ هو السر في تخصيص التظاهرِ به فيما سبق ، وأما تأخيرُه من الشرطية المعترضةِ مع أن حقه التقديمُ كما ذكره الواحدي فلأن نظْمَ أفاعيلِهم المتناقضةِ في سَمْطٍ واحدٍ من الذكر أدخَلُ في إظهار بطلانها { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب } أي التوراة التي أُخذ فيها الميثاقُ المذكور ، والهمزةُ للإنكار التوبيخيّ والفاءُ للعطف على مقدّر يستدعيه المقامُ أي أتفعلون ذلك فتؤمنون ببعض الكتاب وهو المفاداة ، { وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } وهو حرمةُ القتالِ والإخراج مع أن مِن قضية الإيمان ببعضه الإيمانُ بالباقي لكون الكلِّ من عند الله تعالى داخلاً في الميثاق ، فمناطُ التوبيخ كفرُهم بالبعض مع إيمانهم بالبعض حسبما يفيده ترتيبُ النظمِ الكريم ، فإن التقديمَ يستدعي في المقام الخطابي أصالةَ المقدَّم وتقدُّمَه بوجهٍ من الوجوه حتماً ، وإذ ليس ذلك ههنا باعتبار الإنكارِ والتوبيخ عليه وهو باعتبار الوقوعِ قطعاً لا إيمانُهم بالبعض مع كفرهم بالبعض كما هو المفهومُ لو قيل : أفتكفرون ببعض الكتاب وتؤمنون ببعض؟ ولا مجردُ كفرِهم بالبعض ، وإيمانِهم بالبعض كما يفيده أن يقال : أفتَجْمعون بين الإيمان ببعض الكتابِ والكفرِ ببعضٍ أو بالعكس
{ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذلك } ما نافية و ( مَنْ ) إن جُعلت موصولةً فلا محلَّ ليفعلُ من الإعراب وإن جعلت موصوفةً فمحله الجر على أنه صفتُها ، وذلك إشارةٌ إلى الكفر ببعض الكتاب مع الإيمان ببعضٍ أو إلى ما فعلوا من القتل والإجلاء مع مُفاداةِ الأسارى { مّنكُمْ } حالٌ من فاعل يفعل { إِلاَّ خِزْىٌ } استثناءٌ مُفرَّغٌ وقع خبراً للمبتدأ ، والخزيُ الذلُّ والهوانُ مع الفضيحة ، والتنكيرُ للتفخيم ، وهو قتلُ بني قُرَيظةَ وإجلاءُ بني النَّضير إلى أذْرِعاتَ وأريحاءَ من الشام وقيل : الجزية { فِي الحياة الدنيا } في حيز الرفع على أنه صفةُ خزيٌ أي خزيٌ كائن في الحياة الدنيا أو في حيز النصب على أنه ظرفُ الخزي ، ولعل بيانَ جزائِهم بطريق القصر على ما ذكر لقطع أطماعِهم الفارغةِ من ثمرات إيمانهم ببعض الكتاب وإظهارِ أنه لا أثرَ له أصلاً مع الكفر ببعض { وَيَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ } وقرىء بالتاء ، أوثرَ صيغةُ الجمع نظراً إلى المعنى ( مَنْ ) بعد ما أوثِرَ الإفرادُ نظراً إلى لفظها لما أن الردَّ إنما يكون بالاجتماع { إلى أَشَدّ العذاب } لما أن معصيتَهم أشدُّ المعاصي وقيل : أشدُّ العذاب بالنسبة إلى ما لهم في الدنيا من الخزي والصَّغار ، وإنما غُيّر سبكُ النظمِ الكريم حيث لم يقُلْ مثلاً وأشدُّ العذاب يوم القيامة للإيذان بكمال التنافي بين جزاءَي النشأتين وتقديم يوم القيامة على ذكر ما يقع فيه لتهويل الخطبِ وتفظيعِ الحال من أول الأمر ، { وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } من القبائح التي من جملتها هذا المنكَرُ .(1/159)
وقرىء بالياء على نهج ( يُردّون ) وهو تأكيد للوعيد .(1/160)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
{ أولئك } الموصوفون بما ذكر من الأوصاف القبيحةِ وهو مبتدأ خبرُه قولُه تعالى : { الذين اشتروا } أي آثروا { الحياة الدنيا } واستبدلوها { بالاخرة } وأعرضوا عنها مع تمكنهم من تحصيلها فإن ما ذُكر من الكفر ببعض أحكامِ الكتاب إنما كان لمراعاة جانبِ حلفائِهم لما يعود إليهم منهم من بعض المنافعِ الدينيةِ والدنيوية { فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب } دنيوياً كان أو أُخروياً { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } يدفعه عنهم شفاعةً أو جبراً ، والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها عطفَ الاسمية على الفعلية ، أو ينصرون مفسِّرٌ لمحذوف قبل الضمير ، فيكونُ من عطف الفعلية على مثلها { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب } شروعٌ في بيانِ بعضٍ آخرَ من جناياتهم ، وتصديرُه بالجملة القَسَمية لإظهار كمالِ الاعتناءِ به ، والمرادُ بالكتاب التوراة ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن التوراة لما نزلت جُملةً واحدة أمر الله تعالى موسى عليه السلام بحملها فلم يُطق ذلك فبعث الله بكل حرفٍ منها مَلَكاً فلم يطيقوا حملَها فخففها الله تعالى لموسى فحملها { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل } يقال : قفّاه به إذا أتبعه إياه ، أي أرسلناهم على أَثَرِه كقوله تعالى : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى } وهم يوشَعُ وأشمَويلُ وشمعونُ وداودُ وسليمانُ وشَعْيا وأرميا وعُزيرٌ وحزْقيل وإلياسُ واليسعُ ويونسُ وزكريا ويحيى وغيرُهم عليهم الصلاة والسلام { وءاتَيْنَا عيسى ابن مَرْيَمَ البينات } المعجزاتِ الواضحاتِ من إحياء الموتى وإبراءِ الأكمَهِ والأبرصِ والإخبارِ بالمغيّبات ، أو الإنجيلَ وعيسى بالسريانية إيشوُعُ ومعناه المبارك ومريم بمعنى الخادم وهو بالعبرية من النساء كالزير من الرجال وبه فُسر قولُ رؤبة :
قلتُ لزيرٍ لم تصِلْه مَرْيمُه ... ضليلِ أهواءِ الصِّبا تندّمُهْ
ووزنه مِفْعل إذ لم يثبت فعيل { وأيدناه } وقرىء وآيدناه { بِرُوحِ القدس } بضم الدال وقرىء بسكونها أي بالروح المقدسة ، وهي روحُ عيسى عليه السلام كقولك : حاتمُ الجود ورجلُ صدقٍ وإنما وُصِفت بالقدْس لكرامته ، أو لأنه عليه السلام لم تضُمَّه الأصلابُ ولا أرحامُ الطوامِث ، وقيل : بجبريلَ عليه السلام وقيل : بالإنجيل كما قيل : في القرآن ( رُوحاً من أمرنا ) وقيل : باسم الله الأعظم الذي يُحيي الموتى بذكره ، وتخصيصُه من بين الرسل عليهم السلام بالذكر ووصفُه بما ذكر من إيتاء البينات والتأييدِ بروح القدسِ لما أن بِعْثتَهم كانت لتنفيذ أحكامِ التوراة وتقريرِها ، وأما عيسى عليه السلام فقد نُسخ بشرعه كثيرٌ من أحكامها ولحسم مادةِ اعتقادِهم الباطلِ في حقه عليه السلام ببيان حقّيتِه وإظهارِ كمالِ قُبح ما فعلوا به عليه السلام { أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ } من أولئك الرسل { بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم } من الحق الذي لا محيدَ عنه أي لا تحبُّه ، من هِويَ كفرح إذا أحب ، والتعبيرُ عنه بذلك للإيذان بأن مدارَ الردِّ والقبولِ عندهم هو المخالفةُ لأهواء أنفسِهم والموافقةُ لها لا شيءٍ آخرَ ، وتوسيطُ الهمزة بين الفاء وما تعلّقت به من الأفعال السابقةِ لتوبيخهم على تعقيبهم ذلك بهذا ، أو للتعجب من شأنهم ، ويجوز كونُ الفاء للعطف على مقدر يناسب المقام ، أي ألم تطيعوهم فكلما جاءكم رسولٌ منهم بما لا تهوى أنفسكم { استكبرتم } عن الاتباع له والإيمانِ بما جاء به من عند الله تعالى { فَفَرِيقًا } منهم { كَذَّبْتُمْ } من غير أن تتعرضوا لهم بشيءٍ آخرَ من المضارِّ ، والفاءُ للسببية أو للتعقيب { وَفَرِيقًا } آخرَ منهم { تَقْتُلُونَ } غيرَ مكتفين بتكذيبهم كزكريا ويحيى عليهما السلام ، وتقديمُ ( فريقاً ) في الموضعين للاهتمام وتشويق السامعِ إلى ما فعلوا بهم لا للقصر ، وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ في القتل لاستحضار صورتِه الهائلةِ ، أو للإيماء إلى أنهم بعْدُ على تلك النية ، حيث همُّوا بما لم ينالوه من جهته عليه السلام وسحَروه وسمُّوا له الشاةَ حتى قال صلى الله عليه وسلم :(1/161)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
{ وَقَالُواْ } بيانٌ لفنٍ آخرَ من قبائحهم على طريق الالتفاتِ إلى الغَيْبة إشعاراً بإبعادهم عن رُتبة الخِطاب لِمَا فُصِّل من مخازيهم الموجبةِ للإعراض عنهم وحكايةِ نظائرِها لكل من يفهم بُطلانها وقباحتَها من أهل الحق ، والقائلون هم الموجودون في عصر النبي عليه الصلاة والسلام { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } جمعُ أَغْلَفَ ، مستعار من الأغلف الذي لم يُختَنْ أي مُغشّاة بأغشية جِبِلِّيةٍ لا يكاد يصلُ إليها ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ولا تفقَهُه كقولهم قلوبُنا في أكِنّة مما تدعونا إليه وقيل : هو تخفيفُ غلُفٌ جمع غِلاف ، ويؤيده ما رُوي عن أبي عمرو من القراءة بضمتين ، يعنون أن قلوبنا أوعيةٌ للعلوم فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره قاله ابن عباس وعطاءٌ . وقال الكلبي : يعنون أن قلوبَنا لا يصل إليها حديثٌ إلا وعَتْه ولو كان في حديثك خيرٌ لوعتْه أيضاً { بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ } ردٌّ لما قالوه وتكذيبٌ لهم في ذلك والمعنى على الأول بل أبعدهم الله سبحانه عن رحمته بأن خذلهم وخلاّهم وشأنَهم بسبب كفرهم العارضِ وإبطالِهم لاستعدادهم بسوء اختيارِهم بالمرة وكونِهم بحيث لا ينفعهم الإلطاف أصلاً بعد أن خلقهم على الفطرة والتمكنِ من قبول الحق . وعلى الثاني بل أبعدهم من رحمته فأنى لهم ادعاءُ العلمِ الذي هو أجلُّ آثارِها وعلى الثالث بل أبعدهم من رحمته فلذلك لا يقبلون الحق المؤديَ إليها { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } ما مزيدة للمبالغة أي فإيماناً قليلاً يؤمنون وهو إيمانُهم ببعض الكتاب وقيل : فزماناً قليلاً يؤمنون وهو ما قالوا : «آمنوا بالذي أنزِل على الذين آمنوا وجهَ النهار واكفُروا آخره» وكلاهما ليس بإيمان حقيقةً ، وقيل : أريد بالقِلة العدمُ . والفاءُ لسببية اللعن لعدم الإيمان .(1/162)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)
{ وَلَمَّا جَاءهُمْ كتاب } هو القرآن ، وتنكيرُه للتفخيم ووصفُه بقوله عز وجل { مِنْ عِندِ الله } أي كائنٌ من عنده تعالى للتشريف { مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } من التوراة عُبر عنها بذلك لما أن المعيةَ من موجبات الوقوفِ على ما في تضاعيفها المؤدّي إلى العلم بكونه مصدقاً لهما ، وقرىء ( مصدّقاً ) على أنه حال من كتاب لتخصصه بالوصف { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ } أي من قبل مجيئِه { يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ } أي وقد كانوا قبل مجيئه يستفتحون به على المشركين ويقولون : اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمانِ الذي نجد نعته في التوراة ويقولون لهم : قد أظل زمانُ نبيَ يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلُكم معه قتلَ عادٍ وإِرَمَ . قال ابن عباس وقتادة والسدي : نزلت في بني قُرَيظةَ والنضير كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثِه وقيل : معنى يستفتحون يفتحون عليهم ويُعرِّفونهم بأن نبياً يُبعث منهم قد قرُب أوانُه والسين للمبالغة كما في استعجب أي يسألون من أنفسهم الفتحَ عليهم أو يسأل بعضُهم بعضاً أن يَفتحَ عليهم . وعلى التقديرين فالجملة حاليةٌ مفيدةٌ لكمال مكابرتِهم وعنادِهم ، وقولُه عز وعلا : { فَلَمَّا جَاءهُمُ } تكريرٌ للأول لطول العهد بتوسط الجملةِ الحاليةِ ، وقولُه تعالى : { مَّا عَرَفُواْ } عبارةٌ عما سلف من الكتاب لأن معرفةَ من أنزل عليه هو معرفةٌ له ، والاستفتاحُ به استفتاح به ، وإيرادُ الموصولِ دون الاكتفاء بالإضمار لبيان كمالِ مكابرتِهم ، فإن معرفةَ ما جاءهم من مبادىء الإيمان به ودواعيه لا محالةَ والفاء للدلالة على تعقيب مجيئِه للاستفتاح به من غير أن يتخلل بينهما مدةٌ منسيةٌ له وقوله تعالى : { كَفَرُواْ بِهِ } جوابُ ( لمّا ) الأولى كما هو رأيُ المبرِّد أو جوابُهما معاً كما قاله أبو البقاء وقيل : جوابُ الأولى محذوفٌ لدلالة المذكورِ عليه فيكونُ قولُه تعالى : وكانوا الخ جملةً معطوفةً على الشرطية عطفَ القصة على القصة والمرادُ ( بما عرفوا ) النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، كما هو المراد بما ( كانوا يستفتحون به ) فالمعنى ولما جاءهم كتابٌ مصدقٌ لكتابهم كذّبوه وكانوا من قبل مجيئِه يستفتحون بمن أُنزل عليه ذلك الكتابُ فلما جاءهم النبيُّ الذي عرَفوه كفروا به { فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين } اللامُ للعهد أي عليهم ، ووضعُ المظهرِ موضِعَ المُضْمَرِ للإيذان بأن حلولَ اللعنةِ بسبب كفرِهم كما أن الفاءَ للإيذان بترتبها عليه ، أو للجنس وهم داخلون في الحُكم دخولاً أولياً إذ الكلامُ فيهم ، وأياً ما كان فهو محقِّقٌ لمضمون قوله تعالى : { بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ . }(1/163)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
{ بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنفُسَهُمْ } ما نكرةٌ بمعنى شيء ، منصوبةٌ مفسِّرةٌ لفاعلِ بئس ، واشتَروا صفتُه أو بئس شيئاً باعُوا به أنفسَهم ، وقيل : اشترَوْها به في زعمهم حيث يعتقدون أنهم بما فعلوا خلّصوها من العقاب ويأباه أنه لا بد أن يكون المذمومُ ما كان حاصلاً لهم لا ما كان زائلاً عنهم ، والمخصوصُ بالذم قولُه تعالى : { أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنزَلَ الله } أي الكتابِ المصدّقِ لما معهم بعد الوقوف على حقيقته ، وتبديلُ الإنزال بالمجيء للإيذان بعلوِّ شأنه الموجبِ للإيمان به { بَغِيّاً } حسداً وطلباً لما ليس لهم ، وهو علةٌ لأن يكفُروا حتماً دون ( اشتروا ) لما قيل من الفصل بما هو أجنبيٌّ بالنسبة إليه وإن لم يكن أجنبياً بالنسبة إلى فعل الذمِّ وفاعلِه ، ولأن البغيَ مما لا تعلقَ له بعُنوان البيعِ قطعاً لا سيما وهو معلَّلٌ بما سيأتي من تنزيل الله تعالى من فضله على من يشاؤه وإنما الذي بينه وبينه علاقةٌ هو كفرُهم بما أنزل الله ، والمعنى بئس شيئاً باعُوا به أنفسَهم كفرُهم المعلَّلُ بالبغي الكائنِ لأجل { أَن يُنَزّلُ الله مِن فَضْلِهِ } الذي هو الحي { على مَن يَشَاء } أي يشاؤه ويصطفيه { مِنْ عِبَادِهِ } المستأهِلين لتحمُّل أعباءِ الرسالةِ ، ومآلُه تعليلُ كفرِهم بالمنزل عليه ، وإيثارُ صيغةِ التفعيل ههنا للإيذان بتجدد بغْيهم حسَب تجدُّدِ الإنزالِ وتكثُّره حسب تكثره { فَبَاءو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ } أي رجعوا متلبسين بغضبٍ كائن على غضب مستحقين له حسب ما اقترفوا مِنْ كفر على كفر فإنهم كفروا بنبيّ الحقِّ وبغَوْا عليه وقيل كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام بعد عيسى ، وقيل : بعد قولِهم : عزيرٌ بن الله وقولهم : يد الله مغلولة وغير ذلك من فنون كفرهم { وللكافرين } أي لهم والإظهار في موقع الإضمارِ للإشعار بعلية كفرهم لما حاق بهم { عَذَابٌ مُّهِينٌ } يراد به إهانتُهم وإذلالُهم لما أن كفرَهم بما أنزل الله تعالى كان مبيناً على الحسد المبنيّ على طمع المنزولِ عليهم وادعاءِ الفضلِ على الناس والاستهانةِ بمن أنزل عليه عليه السلام .
{ وَإِذَا قِيلَ } من جانب المؤمنين { لَهُمْ } أي لليهود ، وتقديمُ الجار والمجرور قد مر وجهه لا سيما في لام التبليغ { آمنوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ } من الكتب الإلهية جميعاً والمرادُ به الأمرُ بالإيمان بالقرآن لكن سُلك مسلكُ التعميم إيذاناً بتحتُّم الامتثالِ من حيث مشاركتُه لما آمنوا به فيما في حيِّز الصلةِ وموافقتِه له في المضمون وتنبيهاً على أن الإيمانَ بما عداه من غير إيمانٍ به ليس بإيمان بما أنزل الله { قَالُواْ نُؤْمِنُ } أي نستمر على الإيمان { بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا } يعنون به التوراةَ وما نزَلَ على أنبياءِ بني إسرائيلَ لتقرير حكمَها ، ويدسُّون فيه أن ما عدا ذلك غيرُ منزّلٍ عليهم ، ومرادُهم بضمير المتكلم إما أنفسُهم فمعنى الإنزالِ عليهم تكليفُهم بما في المنزَّل من الأحكام ، وإما أنبياءُ بني إسرائيلَ وهو الظاهرُ لاشتماله على مزيَّة الإيذانِ بأن عدمَ إيمانِهم بالفُرقان لما مرَّ من بغيهم وحَسَدِهم على نزوله على من ليس منهم ، ولأن مرادَهم بالموصول وإن كان هو التوراةُ وما في حكمها خاصةً لكنّ إيرادَها بعنوان الإنزالِ عليهم مبنيٌّ على ادعاء أن ما عداها ليس كذلك على وجه التعريضِ كما أشير إليه فلو أريد بالإنزال عليهم ما ذكر من تكليفهم يلزَمُ من مغايرَةَ القرآنِ لما أُنزل عليهم حسبما يُعرب عنه قوله عز وجل : { وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ } عدمُ كونِهم مكلَّفين بما فيه كما يلزَم عدمَ كونِه نازلاً على واحد من بني إسرائيلَ على الوجه الأخير ، وتجريدُ الموصول عن الإضمارِ عما عرَّضوا به تعسُّفٌ لا يخفى ، والوراء في الأصل مصدر جُعل ظرفاً ويضاف إلى الفاعل فيرادُ به ما يتوارى به وهو خلْفُه ، وإلى المفعول فيراد به ما يواريه وهو أمامُه ، والجملةُ حال من ضمير قالوا بتقدير مبتدأ أي قالوا ما قالوا وهم يكفرون بما عداه وليس المرادُ مجردَ بيانِ أن إفرادَ إيمانِهم بما أنزل عليهم بالذكر لنفي إيمانِهم بما وراءه ، بل بيانِ أن ما يدّعون من الإيمان ليس بإيمانٍ بما أنزل عليهم حقيقةً فإن قولَه عز اسمُه : { وَهُوَ الحق } أي المعروفُ بالحقيقة بأن يُخَصَّ به اسمُ الحقِ على الإطلاق ، حال من فاعل يكفُرون وقوله تعالى : { مُصَدّقاً } حالٌ مؤكدة لمضمون الجملةِ صاحبُها إما ضميرُ الحق وعاملَها ما فيه من معنى الفعل قاله أبو البقاء ، وإما ضميرٌ دل عليه الكلامُ وعاملها فعلٌ مضمرٌ ، أي أُحِقُّه مصدِّقاً { لّمَا مَعَهُمْ } من التوراة والمعنى قالوا نؤمن بما أنزل علينا وهم يكفُرون بالقرآن والحال أنه حقٌّ مصدِّق لما آمنوا به فيلزمهم الكفرُ بما آمنوا به ومآ لُه أنهم ادَّعَوا الإيمانَ بالتوراة والحال أنهم يكفُرون بما يلزَمُ من الكفر به الكفرُ بها { قُلْ } تبكيتاً لهم من جهة الله عز من قائل ببيان التناقضِ بين أقوالِهم وأفعالِهم بعد بيانِ التناقضِ في أقوالهم { فَلَمْ } أصلُه لِمَا حُذفت عنه الألفُ فرقاً بين الاستفهامية والخبرية { تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء الله مِن قَبْلُ } الخطابُ للحاضرين من اليهود والماضين على طريق التغليب ، وحيث كانوا مشاركين في العقد والعمل كان الاعتراضُ على أسلافهم اعتراضاً على أخلافِهم ، وصيغةُ الاستقبال لحكايةَ الحالِ الماضية ، وهو جوابُ شرطٍ محذوفٍ أي قل لهم إن كنتم مؤمنين بالتوراة كما تزعُمون فلأيِّ شيء كنتم تقتلون أنبياءَ الله من قبلُ وهو فيها حرامٌ ، وقرىء أنبئاءَ الله مهموزاً ، وقولُه تعالى : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } تكريرٌ للاعتراض لتأكيد الإلزامِ وتشديدِ التهديدِ أي إن كنتم مؤمنين فلمَ تقتلونهم ، وقد حُذف من كل واحدة من الشرطيتين ما حُذف ثقةً بما أُثبتَ في الأخرى وقيل : لا حذفَ فيه بل تقديمُ الجواب على الشرط وذلك لا يتأتى إلا على رأي الكوفيين وأبي زيد وقيل : ( إن ) نافية أي ما كنتم مؤمنين وإلا لما قتلتموهم .(1/164)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)
{ وَلَقَدْ جَاءكُم موسى بالبينات } من تمام التبكيت والتوبيخِ ، داخلٌ تحت الأمر ، لا تكريرٌ لما قُصَّ في تضاعيف تعدادِ النعم التي من جملتها العفوُ عن عبادة العجلِ ، واللامُ للقسم أي : وبالله لقد جاءكم موسى متلبّساً بالمعجزات الظاهرةِ التي هي العصا واليدُ والسِّنونَ ونقصُ الثمراتِ والدمُ والطوفانُ والجَرادُ والقُمّلُ والضفادعُ وفلْقُ البحرِ وقد عُدَّ منها التوراةُ وليس بواضح ، فإن المجيءَ بها بعد قصةِ العجل { ثُمَّ اتخذتم العجل } أي إلها { مِن بَعْدِهِ } أي من بعد مجيئِه بها ، وقيل : من بعد ذهابِه إلى الطور فتكونُ التوراةُ حينئذ من جملة البيناتِ وثم للتراخي في الرُتبة والدلالة على نهايةِ قُبْحِ ما صنعوا { وَأَنتُمْ ظالمون } حالٌ من ضمير اتخذتم بمعنى اتخذتمُ العجلَ ظالمين بعبادته واضعين لها في غير موضِعِها أو بالإخلال بحقوق آياتِ الله تعالى أو اعتراض أي وأنتم قوم عادتُكم الظلمُ .(1/165)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)
{ وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم } توبيخ من جهة الله تعالى وتكذيبٌ لهم في ادعائهم الإيمانَ بما أُنزلَ عليهم بتذكير جناياتِهم الناطقةِ بكَذِبهم أي واذكروا حين أخذنا ميثاقَكم { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور } قائلين : { خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ واسمعوا } أي خذوا بما أُمرتم به في التوراة واسمعوا ما فيها سمعَ طاعةٍ وقَبول { قَالُواْ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال سائلٍ كأنه قيل : فماذا قالوا؟ فقيل : قالوا : { سَمِعْنَا } قولَك { وَعَصَيْنَا } أمرَك فإذا قابل أسلافُهم مثلَ ذلك الخطابِ المؤكدِ مع مشاهدتهم مثلَ تلك المعجزةِ الباهرةِ بمثل هذه العظيمة الشنعاءِ وكفروا بما في تضاعيف التوبةِ فكيف يُتصوّر من أخلافِهم الإيمانُ بما فيها .
{ وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ العجل } على حذف المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامُه للمبالغة أي تَداخَلَهم حبُّه ورسَخَ في قلوبهم صورتُه لفَرْط شغَفِهم به وحِرصِهم على عبادته كما يَتداخل الصبغ الثوبَ والشرابُ أعماقَ البدن ، و ( في قلوبهم ) بيانٌ لمكان الإشرابِ كما في قوله تعالى : { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً } والجملة حالٌ من ضمير قالوا بتقدير قد { بِكُفْرِهِمْ } بسبب كفرِهم السابقِ الموجبِ لذلك ، قيل : كانوا مجسِّمة أو حلولية ، ولم يرَوا جسماً أعجبَ منه فتمكّن في قلوبهم ما سوَّل لهم السامريُّ { قُلْ } توبيخاً لحاضري اليهود إثرَ ما تبين من أحوال رؤسائِهم الذين بهم يقتدون في كل ما يأتون وما يذرون { بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إيمانكم } بما أنزل عليكم من التوراة حسبما تدّعون ، والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي ما ذكر من قولهم سمعنا وعصينا وعبادتِهم العجلَ ، وفي إسناد الأمرِ إلى الإيمان تهكّمٌ بهم ، وإضافةُ الإيمانِ إليهم للإيذان بأنه ليس بإيمانٍ حقيقة كما يُنبىء عنه قوله تعالى : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } فإنه قدْحٌ في دعواهم الإيمانَ بما أنزل عليهم من التوراة وإبطالٌ لها ، وتقريرُه : إن كنتم مؤمنين بها عاملين فيما ذُكر من القول والعملِ بما فيها فبئسما يأمرُكم به إيمانُكم بها ، وإذ لا يسوِّغُ الإيمانَ بها مثلُ تلك القبائحِ فلستم بمؤمنين بها قطعاً . وجوابُ الشرط كما ترى محذوفٌ لدلالة ما سبق عليه { قُلْ } كرر الأمرَ مع قرب العهد بالأمر السابق لما أنه أمرٌ بتبكيتهم وإظهارِ كذِبهم في فنٍ آخرَ من أباطيلهم لكنه لم يُحْكَ عنهم قبل الأمر بإبطاله بل اكتُفيَ بالإشارة إليه في تضاعيف الكلام حيث قيل : { إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الاخرة } أي الجنةُ أو نعيمُ الدار الآخرة { عِندَ الله خَالِصَةً } أي سالمة لكم خاصة بكم كما تدّعون أنه لن يدخُلَ الجنةَ إلا من كان هوداً أو نصارى ، ونصبُها على الحالية من الدار وعند ظرفٌ للاستقرار في الخبر أعني لكم ، وقوله تعالى : { مّن دُونِ الناس } في محل النصبِ بخالصة يقال : خلَص لي كذا من كذا ، واللامُ للجنس أي الناس كافة أو للعهد أي المسلمين { فَتَمَنَّوُاْ الموت } فإن من أيقن بدخول الجنة اشتاقَ إلى التخلص إليها من دارة البوارِ وقرارة الأكدار ، لا سيما إذا كانت خالصة له كما قال علي كرم الله وجهه : «لا أبالي أسقطتُ على الموت أو سقط الموتُ عليّ» .(1/166)
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس } من الوُجدان العقليّ ، وهو جار مجرى العلم خلا أنه مختصٌّ بما يقع بعد التجربة ونحوِها ، ومفعولاه الضميرُ وأحرصَ ، والتنكيرُ في قوله تعالى : { على حياة } للإيذان بأن مرادهم نوعٌ خاص منها وهي الحياة المتطاولة ، وقرىء بالتعريف { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } عطفٌ على ما قبله بحسب المعنى كأنه قيل : أحرصَ من الناس ومن الذين أشركوا ، وإفرادُهم بالذكر مع دخولهم في الناس للإيذان بامتيازهم من بينهم بشدة الحرصِ ، للمبالغة في توبيخ اليهودِ ، فإن حرصَهم وهم معترفون بالجزاء لمّا كان أشدَّ من حرص المشركين المنكرين له دلّ ذلك على جزمهم بمصيرهم إلى النار ، ويجوز أن يُحملَ على حذف المعطوف ثقةً بإنباء المعطوفِ عليه عنه ، أي وأحرصَ من الذين أشركوا فقوله تعالى : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } بيان لزيادة حرصِهم على طريقة الاستئناف ويجوز أن يكون في حيز الرفعِ صفةً لمبتدإٍ محذوفٍ خبرُه الظرفُ المتقدم على أن يكون المرادُ بالمشركين اليهودَ لقولهم عزيرٌ بنُ الله ، أي ومنهم طائفة يودُّ أحدُهم أيَّهم كان ، أي كلُّ واحد منهم { لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } وهو حكاية لودادتهم كأنه قيل : ليتني أُعَمَّرُ ، وإنما أُجريَ على الغَيبة لقوله تعالى يود كما تقول حلف بالله ليفعلَنّ ، ومحلُه النصبُ على أنه مفعولُ يود إجراءً له مجرى القول لأنه فعل قلبيٌّ { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب } ما حجازيةٌ والضميرُ العائد على ( أحدُهم ) اسمُها وبمُزَحْزحِه خبرُها والباء زائدة و { أَن يُعَمَّرَ } فاعلُ مزحزحِه أي وما أحدهم بمَنْ يزحزِحُه أي يُبعده وينْجيه من العذاب تعميرُه ، وقيل : الضمير لما دل عليه يُعمَّر من المصدر ، و ( أن يعمر ) بدلٌ منه وقيل : هو مبهم ، وأن يعمّر مفسرةٌ والجملةُ حال من أحدهم والعامل يود لا يُعمَّر على أنها حالٌ من ضميره لفساد المعنى ، أو اعتراض . وأصلُ سنة سَنْوَة لقولهم سنَوَات وسَنْية وقيل : سَنْهة كجبهة لقولهم سانهتُه وسُنَيهة وتسنّهت النخلة إذا أتت عليها السنون { والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } البصيرُ في كلام العرب العالمُ بكنه الشيء الخبيرُ به ، ومنه قولهم فلان بصيرٌ بالفقه ، أي عليم بخفيات أعمالهم فهو مجازيهم بها لا محالة ، وقرىء بتاء الخطاب التفاتاً وفيه تشديد للوعيد .(1/167)
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ } ( نزل في عبد اللَّه بن صوريا من أحبار فدَك حاجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عمن نزل عليه بالوحي فقال عليه السلام : جبريلُ عليه السلام فقال : هو عدوُّنا لو كان غيرُه لآمنّا بك . وفي بعض الروايات ورسولُنا ميكائيلُ فلو كان هو الذي يأتيك لآمنا بك ، وقد عادانا مِراراً وأشدُّها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدِس سيُخْرِبُه بُخْتَ نَصَّرُ فبعثنا من يقتلُه فلقِيه ببابل غلاماً مسكيناً فدفع عنه جبريل عليه السلام ، وقال : إن كان ربكم آمِرَه بهلاككم فإنه لا يسلِّطكم عليه وإلا فبأيِّ حق تقتلونه ) وقيل : أمره الله تعالى أن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا ، وروي أنه كان لعمرَ رضي الله عنه أرض بأعلى المدينة ، وكان ممرُّه على مدارس اليهود فكان يجلس إليهم ويسمع كلامَهم فقالوا : يا عمرُ قد أحببناك وإنا لنطمع فيك فقال : والله ما أجيئكم لحبّكم ، ولا أسألكم لشكٍ في ديني وإنما أدخُلُ عليكم لأزداد بصيرةً في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وأرى آثارَه في كتابكم ثم سألهم عن جبريلَ عليه السلام فقالوا : ذاك هو عدوُّنا يُطلِعُ محمداً على أسرارنا وهو صاحبُ كلِّ خسفٍ وعذاب ، وميكائيلُ يجيء بالخِصْب والسلام فقال لهم : وما منزلتُهما عند الله تعالى قالوا : جبريلُ أقربُ منزلةً هو عن يمينه وميكائيلُ عن يساره وهما متعاديان فقال عمر رضي الله عنه : إن كانا كما تقولون فما هما بعدوَّيْن ولأنتم أكفرُ من الحمير ، ومن كان عدواً لأحدهما فهو عدوٌّ للآخر ، ومن كان عدواً لهما كان عدو الله سبحانه ، ثم رجع عمرُ فوجد جبريلَ عليه السلام قد سبقه بالوحي فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد وافقك ربُّك يا عمرُ فقال عمرُ رضي الله عنه : لقد رأيتُني في ديني بعد ذلك أصلبَ من الحَجَر . وقرىء جَبرَئيلَ كسلسبيل وجَبْرَئِلَ كجَحْمَرِشٍ وجِبريلَ وجِبْرئلَ وجِبرائيل كجبراعيلَ وجبرائِلَ كجبراعل ، ومَنْعُ الصرفِ فيه للتعريف والعُجمة ، وقيل : معناه عبد اللَّه { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ } تعليل لجواب الشرط قائم مقامَه ، والبارزُ الأولُ لجبريل عليه السلام والثاني للقرآن ، أُضمر من غير ذكر إيذاناً بفخامة شأنِه واستغنائه عن الذكر لكمالِ شهرتِه ونباهتِه لا سيما عند ذكر شيءٍ من صفاته { على قَلْبِكَ } زيادةُ تقريرٍ للتنزيل ببيان محلِّ الوحي فإنه القائلُ الأول له ، ومدارُ الفهم والحفظ ، وإيثارُ الخطاب على التكلم المبنيّ على حكاية كلام الله تعالى بعينه كما في قوله تعالى : { قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } لما في النقل بالعبارة من زيادة تقريرٍ لمضمون المقالةِ { بِإِذُنِ الله } بأمره وتيسيرِه مستعارٌ من تسهيل الحجاب وفيه تلويحٌ بكمال توجُّه جبريلَ عليه السلام إلى تنزيله وصدقِ عزيمتِه عليه السلام ، وهو حال من فاعل نزّله وقوله تعالى : { مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي من الكتب الإلهية التي معظمُها التوراةُ حالٌ من مفعوله وكذا قوله تعالى : { وَهُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ } والعاملُ في الكل نزّله ، والمعنى من عادى جبريلَ من أهل الكتاب فلا وجهَ لمعاداته بل يجب عليه محبتُه فإنه نزله عليك كتاباً مصدِّقاً لكُتُبهم أو فالسبب في عداوته تنزيلُه لكتاب مصدّقٍ لكتابهم موافقٍ له وهم له كارهون ، ولذلك حرفوا كتابهم وجحَدوا موافقتَه له لأن الاعترافَ بها يوجب الإيمانَ به ، وذلك يستدعي انتكاسَ أحوالِهم وزوالَ رياستهم وقيل : إن الجواب فقد خلَع رِبْقةَ الإنصافِ ، أو فقد كفر بما معه من الكتاب أو فليمُتْ غيظاً أو فهو عدوٌّ لي ، وأنا عدوٌّ له .(1/168)
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)
{ مَن كَانَ عَدُوّا الله } أريد بعداوته تعالى مخالفةُ أمرِه عِناداً والخروجُ عن طاعته مكابرةً ، أو عداوةُ خواصِّه ومقرَّبيه . لكنْ صُدّر الكلامُ بذكره الجليل تفخيماً لشأنهم وإيذاناً بأن عداوتَهم عداوتُه عز وعلا كما في قوله عز وجل : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } ثم صرح بالمرام فقيل : { وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال } وإنما أفردا بالذكر مع أنهما أولُ من يشمَلُه عنوانُ المَلَكية والرسالة لإظهار فضلِهما كأنهما عليهما السلام من جنسٍ آخَرَ أشرفَ مما ذكر تنزيلاً للتغايُر في الوصف منزلةَ التغايرِ في الجنس ، وللتنبيه على أن عداوةَ أحدِهما عداوةٌ للآخر حسماً لمادة اعتقادِهم الباطلَ في حقهما حيث زعَموا أنهما متعاديان ، وللإشارة إلى أن معاداةَ الواحدِ والكلِّ سواءٌ في الكفر واستتباعِ العداوةِ من جهة الله سبحانه ، وأن من عادى أحدَهم فكأنما عادى الجميعَ ، وقولُه تعالى : { فَإِنَّ الله عَدُوٌّ للكافرين } أي لهم جوابُ الشرط والمعنى من عاداهم عاداه الله وعاقبه أشدَّ العقاب وإيثارُ الاسميةِ للدلالة على التحقق والثباتِ ، ووضعُ الكافرين موضعَ المضمرِ للإيذان بأن عداوةَ المذكورين كفر ، وأن ذلك بيِّنٌ لا يحتاج إلى الإخبار به ، وأن مدارَ عداوتِه تعالى لهم وسخطِه المستوجبِ لأشدِّ العقوبة والعذابِ هو كفرُهم المذكور . وقرىء ميكائِلَ كميكاعِلَ وميكائيلَ كميكاعيلَ وميكئِلَ كميكعِلَ وميكَئيلَ كميكَعيل { وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ءايات بينات } واضحاتِ الدلالة على معانيها ، وعلى كونها من عند الله تعالى ، { وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الفاسقون } أي المتمردون في الكفر الخارجون عن حدوده فإن مَنْ ليس على تلك الصفة من الكفَرة لا يجترىء على الكفر بمثل هاتيك البينات . قال الحسنُ : إذا استُعمل الفسقُ في نوعٍ من المعاصي وقع على أعظمِ أفرادِ ذلك النوع من كفرٍ أو غيره . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : قال ابنُ صوريا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما جئتنا بشيء نعرِفُه وما أُنزل عليك من آية فنتّبعَك لها فنزلت . واللام للعهد أي الفاسقون المعهودون وهم أهلُ الكتاب المحرِّفون لكتابهم الخارجون عن دينهم أو للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً .(1/169)
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
{ أَوَكُلَّمَا عاهدوا عَهْدًا } الهمزةُ للإنكار والواوُ للعطف على مقدرٍ يقتضيه المقامُ أي أكفَروا بها وهي في غاية الوضوحِ وكلما عاهدوا عهداً ومن جملة ذلك ما أشير إليه في قوله تعالى : { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ } من قولهم للمشركين : قد أظل زمانُ نبيَ يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلُكم معه قتلَ عادٍ وإرَمَ . وقرىء بسكون الواو على أن تقدير النظم الكريم ، وما يكفر بها إلا الذين فسقوا أو نقضوا عهودَهم مراراً كثيرة ، وقرىء عوُهِدوا وعهِدوا ، وقوله تعالى : عهداً إما مصدرٌ مؤكد لعاهَدوا من غير لفظِه أو مفعولٌ له على أنه بمعنى أعطَوُا العهدَ { نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم } أي رمَوْا بالزِّمام ورفضوه ، وقرىء نَقَضَه وإسنادُ النبذِ إلى فريق منهم لأن منهم من لم ينبِذْه { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي بالتوراة وهذا دفعٌ لما يُتوَهَّم من أن النابذين هم الأقلون ، وأن من لم ينبِذْ جِهاراً فهم يؤمنون بها سراً { وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ } هو النبي صلى الله عليه وسلم ، والتنكيرُ للتفخيم { مِنْ عِندِ الله } متعلق بجاءَ أو بمحذوفٍ وقعَ صفةً لرسول لإفادة مزيدِ تعظيمِه بتأكيد ما أفاده التنكيرُ من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية { مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } من التوراة من حيث أنه صلى الله عليه وسلم قرر صِحتها وحقق حَقّيةَ نبوة موسى عليه الصلاة والسلام بما أُنزل عليه أو من حيث أنه عليه السلام جاء على وَفق ما نُعت فيها { نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } أي التوراةَ ، وهم اليهودُ الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ممن كانوا يستفتحون به قبل ذلك لا الذين كانوا في عهد سليمانَ عليه السلام كما قيل لأن النبذَ عند مجيءِ النبي صلى الله عليه وسلم لا يُتصوَّرُ منهم ، وأفرد هذا النبذُ بالذكر مع اندراجِه تحت قوله عز وجل : { أَوْ كُلَّمَا عاهدوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم } لأنه معظمُ جناياتِهم ولأنه تمهيدٌ لذكر اتّباعهم لما تتلو الشياطينُ وإيثارِهم له عليه ، والمرادُ بإيتائها إما إيتاءُ علمِها بالدراسة والحفظ والوقوفِ على ما فيها ، فالموصولُ عبارة عن علمائهم وإما مجردُ إنزالِها عليهم فهو عبارةٌ عن الكل ، وعلى التقديرين فوضعُه موضِع الضمير للإيذان بكمال التنافي بين ما أُثبت لهم في حيز الصلةِ وبين ما صدر عنهم من النبذ { كتاب الله } أي الذي أوُتوه قال السدي : لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فاتفقت التوراةُ والفرقانُ فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصَفَ وسحرِ هاروتَ ، وماروتَ فلم يوافق القرآنَ فهذا قوله تعالى : { وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ الله } الخ ، وإنما عَبَّر عنها بكتاب الله تشريفاً لها وتعظيماً لحقِها عليهم وتهويلاً لما اجترأوا عليه من الكفر بها وقيل : ( كتابَ الله ) القرآنُ نبذوه بعد ما لزِمهم تلقِّيه بالقَبول لا سيما بعد ما كانوا يستفتحون به من قبلُ فإن ذلك قَبولٌ له وتمسُّكٌ به ، فيكون الكفرُ به عند مجيئه نبذاً له كأنه قيل : كتابَ الله الذي جاء به فإن مجيءَ الرسول مُعربٌ عن مجيء الكتاب { وَرَاء ظُهُورِهِمْ } مَثَلٌ لتركهم وإعراضِهم عنه بالكلية مثل بما يرمى به وارءَ الظهر استغناءً عنه وقلّةَ التفاتٍ إليه { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } جملةٌ حاليةٌ أي نبذوه وراء ظهورِهم مُشبَّهين بمن لا يعلمه ، فإن أريد بهم أحبارُهم فالمعنى كأنهم لا يعلمونه على وجه الإيقان ولا يعرفون ما فيه من دلائلِ نبوتِه عليه الصلاة والسلام ففيه إيذانٌ بأن علمَهم به رصينٌ لكنهم يتجاهلون أو كأنهم لا يعلمون أنه كتابُ الله أو لا يعلمونه أصلاً كما إذا أريد بهم الكل .(1/170)
وفي هذين الوجهين زيادةُ مبالغةٍ في إعراضهم عما في التوراة من دلائل النبوة . هذا وإن أريد بما نبذوه من كتاب الله القرآنَ فالمرادُ بالعلم المنفيِّ في قوله تعالى : { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } هو العلمُ بأنه كتابُ الله ففيه ما في الوجه الأول من الإشعار بأنهم مُتيقِّنون في ذلك ، وإنما يكفُرون به مكابرةً وعِناداً .
قيل إن جيل اليهود أربعُ فرقٍ : ففِرقةٌ آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهلِ الكتاب وهم الأقلون المشارُ إليهم بقوله عز وجل : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } وفِرقةٌ جاهروا بنبذ العهودِ وتعدّي الحدود تمرُّداً وفسُوقاً وهم المعنيُّون بقوله تعالى : { نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم } وفِرقةٌ لم يجاهروا بنبذها لجهلهم بها وهم الأكثرون ، وفِرقةٌ تمسكوا بها ظاهراً ونبذوها خُفْيةً وهم المتجاهلون .(1/171)
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
{ واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين } عطفٌ على جواب ( لما ) أي نبذوا كتابَ الله واتبعوا كتبَ السَحَرة التي كانت تقرؤها الشياطين وهم المتمرِّدون من الجن ، و ( تتلو ) حكايةُ حالٍ ماضيةٍ والمرادُ بالاتباع التوغلُ والتمحُّض فيه والإقبال عليه بالكلية ، وإلا فأصلُ الاتباعِ كان حاصلاً قبل مجيءِ الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يتسنّى عطفُه على جواب لما ولذلك قيل : هو معطوف على الجملة ، وقيل : على على أُشربوا { على مُلْكِ سليمان } أي في عهد مُلكِه قيل : كانت الشياطينُ يسترقون السمعَ ويضُمُّون إلى ما سمِعوا أكاذيبَ يُلفِّقونها ويُلْقونها إلى الكهنة وهم يدوِّنونها ويعلّمونها الناسَ وفشا ذلك في عهد سليمانَ عليه السلام حتى قيل : إن الجن تعلم الغيب ، وكانوا يقولون هذا عِلمُ سليمان وما تم له مُلكُه إلا بهذا العلم ، وبه سَخَّر الإنسَ والجنّ والطيرَ والريحَ التي تجري بأمره ، وقيل : إن سليمانَ عليه السلام كان قد دفنَ كثيراً من العلوم التي خصّه الله تعالى بها تحت سريرِ مُلكه فلما مضت على ذلك مدةٌ توصَّل إليها قومٌ من المنافقين فكتبوا في خلال ذلك أشياءَ من فنون السحرِ تناسب تلك الأشياءَ المدفونةَ من بعض الوجوه ، ثم بعد موته واطلاعِ الناس على تلك الكتبِ أوهموهم أنه من عملِ سُليمانَ عليه السلام وأنه ما بلغ هذا المبلغَ إلا بسبب هذه الأشياء .
{ وَمَا كَفَرَ سليمان } تنزيهٌ لساحته عليه السلام عن السحر وتكذيبٌ لمن افترى عليه بأنه كان يعتقده ويعمل به ، والتعرُّضُ لكونه كُفراً للمبالغة في إظهار نزاهتِه عليه السلام وكذِبِ باهِتيهِ بذلك { ولكن الشياطين } وقرىء بتخفيف ( لكنّ ) ورفع الشياطين ، والواو عاطفةٌ للجملة الاستدراكية على ما قبلها ، وكونُ المخففة عند الجمهور للعطف إنما هو عند عدم الواو وكون ما بعدها مفرداً { كَفَرُواْ } باستعمال السحر وتدوينِه { يُعَلّمُونَ الناس السحر } إغواءً وإضلالاً ، والجملةُ في محل النصبِ على الحالية من ضمير كفروا أو من الشياطين فإن ما في ( لكنّ ) من رائحة الفعل كافٍ في العمل في الحال أو في محل الرفع على أنه خبرٌ ثانٍ للكنّ أو بدلٌ من الخبر الأول ، وصيغةُ الاستقبال للدَلالة على استمرار التعليمِ وتجدُّدِه أو جملةٌ مستأنفة . هذا على تقدير كونِ الضميرِ للشياطين وأما على تقدير رجوعِه إلى فاعل اتبعوا فهي إما حالٌ منه وإما استئنافيةَ فحسب واعلم أن السحرَ أنواعٌ منها سحْرَ الكَلدانيين الذين كانوا في قديم الدهر وهم قوم يعبُدون الكواكبَ ويزعُمون أنها هي المدبِّرةُ لهذا العالم ومنها تصدرُ الخيراتُ والشرورُ والسعادةُ والنحوسةُ ، ويستحدثون الخوارقَ بواسطة تمزيج القُوى السماوية بالقوى الأرضية وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام لإبطال مقالتهم وهم ثلاثُ فِرقٍ ففِرقةٌ منهم يزعُمون أن الأفلاكَ والنجومَ واجبةُ الوجود لذواتها وهم الصابئة ، وفرقةٌ يقولون بإلهية الأفلاكِ ويتخذون لكل واحدٍ منها هيكلاً ويشتغلون بخدمتها وهم عبَدَةُ الأوثان ، وفرقة أثبتوا للأفلاك وللكواكب فاعلاً مختاراً لكنهم قالوا إنه أعطاها قوةً عالية نافذةً في هذا العالم وفَوَّضَ تدبيرَه إليها ، ومنها سحْرَ أصحابِ الأوهام والنفوسِ القوية فإنهم يزعُمون أن الإنسانَ تبلُغُ روحُه بالتصفية في القوة والتأثير إلى حيث يقدِرُ على الإيجاد والإعدام والإحياءِ والإماتةِ وتغييرِ البُنية والشكل ، ومنها سحرُ من يستعين بالأرواحِ الأرضيةِ وهو المسمّى بالعزائم .(1/172)
وتسخيرِ الجن ، ومنها التخييلاتُ الآخذة بالعيون وتسمَّى الشَّعْوذةَ .
ولا خلاف بين الأمة في أن من اعتقد الأول فقد كفر وكذا من اعتقد الثانيَ وهو سحرُ أصحاب الأوهامِ والنفوسِ القويةِ وأما من اعتقد أن الإنسان يبلُغ بالتصفية وقراءةِ العزائم والرقى إلى حيث يخلق الله سبحانه وتعالى عَقيبَ ذلك على سبيل جَرَيان العادةِ بعضَ الخوارق فالمعتزلةُ اتفقوا على أنه كافر ، لأنه لا يمكنه بهذا الاعتقاد معرفةُ صدقِ الأنبياءِ والرسلِ بخلاف غيرهم ، ولعل التحقيق أن ذلك الإنسانَ إن كان خيِّراً متشرِّعاً في كل ما يأتي ويذر وكان من يستعين به من الأرواح الخيِّرة وكانت عزائمُه ورُقاه غيرَ مخالفةٍ لأحكام الشريعة الشريفةِ ولم يكن فيما ظهَرَ في يده من الخوارق ضررٌ شرعيٌّ لأحد فليس ذلك من قبيل السحر ، وإن كان شرِّيراً غيرَ متمسِّكٍ بالشريعة الشريفة فظاهرٌ أن من يستعين به من الأرواحِ الخبيثةِ الشريرة لا محالة ، ضرورةَ امتناعِ تحقق التضامن والتعاون بينهما من غير اشتراك في الخبث والشرارة فيكون كافراً قطعاً ، وأما الشعوذةُ وما يجري مجراها من إظهار الأمور العجيبةِ بواسطة ترتيبِ الآلات الهندسيةِ وخِفة اليد والاستعانة بخواصِّ الأدوية والأحجارِ فإطلاقُ السحر عليها بطريق التجوزِ أو لما فيها من الدقة لأنه في الأصل عبارةٌ عن كل ما لَطُف مأخذُه وخفيَ سببُه أو من الصرْف عن الجهة المعتادة لما أنه في أصل اللغة الصرفُ على ما حكاه الأزهري عن الفراء ويونس { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين } عطفٌ على السحر أي ويعلمونهم ما أنزل عليهما ، والمرادُ بهما واحد ، والعطفُ لتغاير الاعتبارِ أو هو نوعٌ أقوى منه أو على ما تتلو وما بينهما اعتراضٌ أي واتَّبعوا ما أنزل الخ وهما ملكانِ أنزلا لتعليم السحر ابتلاءً من الله للناس كما ابتليَ قومُ طالوتَ بالنهر أو تمييزاً بينه وبين المعجزة لئلا يغترَّ به الناسُ أو لأن السحرَة كثُرتْ في ذلك الزمان واستنبطتْ أبواباً غريبةً من السحر وكانوا يدّعون النبوةَ فبعث الله تعالى هذين الملكينِ ليعلّما الناسَ أبوابَ السحر حتى يتمكنوا من معارضة أولئك الكذابين وإظهارِ أمرِهم على الناس . وأما ما يُحكى من أن الملائكة عليهم السلام لما رأَوْا ما يصعَد من ذنوب بني آدمَ عيّروهم ، وقالوا لله سبحانه : هؤلاء الذين اخترتَهم لخلافة الأرضِ يعصونك فيها فقال عز وجل : لو ركّبتُ فيكم ما ركبتُ فيهم لعصيتموني ، قالوا : سبحانك ما ينبغي لنا أن نعصيَك قال تعالى : فاختاروا من خياركم ملكين فاختاروا هاروتَ وماروتَ وكانا من أصلحهم وأعبدِهم فأُهبطا إلى الأرض بعد ما ركب فيهما ما ركب في البشر من الشهوة وغيرها من القوة ليقضيا بين الناس نهاراً ويعرُجا إلى السماء مساءً وقد نُهيا عن الإشراك والقتل بغير الحق وشرب الخمر والزنا وكانا يقضيان بينهم نهاراً فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم فصَعِدا إلى السماء فاختصمت إليهما ذاتَ يوم امرأةٌ من أجمل النساءِ تسمّى «زهرةَ» وكانت من لَخْم وقيل : كانت من أهل فارسَ ملكةً في بلدها وكانت خصومتها مع زوجها فلما رأياها افتُتنا بها فراوداها عن نفسها فأبت فألحا عليها فقالت : لا إلا أن تقضيا لي على خصمي ، ففعلا ، ثم سألاها ما سألا ، فقالت : لا إلا أن تقتُلاه ففعلا ، ثم سألاها ما سألا فقالت : لا إلا أن تشربا الخمرَ وتسجدا للصَّنم ففعلا كلاً من ذلك بعد اللتيا والتي ثم سألاها ما سألا فقالت : لا إلا أن تعلماني ما تصعَدانِ به إلى السماء فعلماها الاسمَ الأعظم فدعَتْ به وصعِدَتْ إلى السماء فمسخها سبحانه كوكباً فهمّا بالعروج حسب عادتهما فلم تطِعْهما أجنحتُهما فعلما ما حل بهما ، وكانا في عهد إدريس عليه السلام فالتجأا إليه ليشفَعَ لهما ففعل فخيّرهما الله تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا الأول لانقطاعه عما قليل فهما معذبان ببابلَ قيل : معلقان بشعورهما وقيل : منكوسان يُضربان بسياطِ الحديد إلى قيام الساعة فمما لا تعويل عليه لما أن مدارَه روايةُ اليهود مع ما فيه من المخالفة لأدلة العقل والنقلِ ، ولعله من مقولة الأمثال والرموز التي قصد بها إرشادُ اللبيب الأريبِ بالترغيب والترهيب وقيل : هما رجلان سُمِّيا ملكين لصلاحهما ويعضُده قراءة الملِكين بالكسر { بِبَابِلَ } الباء بمعنى في وهي متعلقةٌ بأنزل أو بمحذوف وقع حالاً من الملكين أو من الضمير في أنزل وهي بابلُ العراق ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : بَابِلُ أرضُ الكوفة وقيل : جبلُ دماوند ومَنعَ الصرفَ العجمةُ والعَلَمية أو للتأنيث والعلمية { هاروت وماروت } عطفُ بيان للملكين علمان لهما ومُنِعَ صرفُهما للعجُمة والعلمية ، ولو كانا من الهرْت والمرْت بمعنى الكسر لانصرفا ، وأما من قرأ الملِكين بكسر اللام أو قال كانا رجلين صالحين فقال : هما اسمان لهما وقيل : هما اسما قبيلتين من الجن هما المرادُ من الملِكين بالكسر وقرىء بالرفع على هما هاروت ، وماروت { وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ } مِنْ مزيدة في المفعول به لإفادة تأكيد الاستغراقِ الذي يفيده ( أحدٍ ) لا لإفادة نفس الاستغراق كما في قولك : ما جاءني من رجل ، وقرىء يُعْلِمانِ من الإعلام { حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } الفتنةُ الاختبارُ والامتحانُ وإفرادُها مع تعدّدهما لكونها مصدراً ، وحملُها عليهما مواطأةٌ للمبالغة كأنهما نفسُ الفتنة ، والقصرُ لبيان أنه ليس لهما فيما يتعاطيَانِه شأنٌ سواها لينصرِفَ الناسُ عن تعلّمه أي وما يُعلّمان ما أنزل عليهما من السحر أحداً من طالبيه حتى ينصَحاه قبل التعليم ويقولا له إنما نحن فتنةٌ وابتلاء من الله عز وجل فمن عمِل بما تعلم منا واعتقد حقّيته كفَر ، ومن تَوقَّى عن العمل به أو اتخذه ذريعةً للاتقاءِ عن الاغترار بمثله بقيَ على الإيمان { فَلاَ تَكْفُرْ } باعتقاد حقّيتهِ وجوازِ العمل به ، والظاهرُ أن غاية النفي ليست هذه المقالةَ فقط بل من جملتها التزامُ المخاطب بموجب النهي لكن لم يُذكَرْ لظهُوره ، وكونِ الكلامِ في بيان اعتناءِ الملكين بشأن النُصح والإرشاد ، والجملةُ في محل النصب على الحالية من ضمير يعلمون لا معطوفةٌ عليه كما قيل أي ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناسَ السحرَ وما أنزل على الملكين ويحمِلونهم على العمل به إغواءً وإضلالاً ، والحال أنهما ما يعلمان أحداً حتى ينهيَاهُ عن العمل به والكفرِ بسببه ، وأما ما قيل من أن ( ما ) في قوله تعالى : { وَمَا أَنَزلَ } الخ نافيةٌ والجملةُ معطوفةٌ على قوله تعالى : { وَمَا كَفَرَ سليمان } جيء بها لتكذيب اليهودِ في القصة أي لم يُنزَّل على الملكين إباحةُ السحر ، وأن هاروتَ وماروتَ بدلٌ من الشياطين على أنهما قبيلتان من الجن خُصتا بالذكر لأصالتهما وكونِ باقي الشياطينِ أتباعاً لهما وأن المعنى ما يعلّمان أحداً حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفرْ فتكونَ مثلَنا فيأباه أن مقام وصفِ الشياطين بالكفر وإضلال الناس مما لا يلائمه وصفُ رؤسائهم بما ذكر من النهي عن الكفر مع ما فيه من الإخلال بنظام الكلامِ فإن الإبدالَ في حُكم تنحيةِ المبدَل منه { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا } عطفٌ على الجملة المنفية فإنها في قوة المثبتة كأنه قيل : يعلمانهم بعد قولِهما إنما نحن الخ والضميرُ لأحدٍ حملا على المعنى كما في قوله تعالى :(1/173)
{ فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجزين } { مَا يُفَرّقُونَ بِهِ } أي بسببه وباستعماله { بَيْنَ المرء } وقرىء بضم الميم وكسرِها مع الهمزة وتشديد الراء بلا همزة { وَزَوْجِهِ } بأن يُحدث الله تعالى بينهما التباغضَ والفركَ والنشوزَ عندما فعلوا ما فعلوا من السحر على حسب جري العادةِ الإلهية من خلق المسبَّبات عقيب حصول الأسباب العاديةِ ابتلاءً لا أن السحرَ هو المؤثرُ في ذلك وقيل : فيتعلمون منهما ما يعملون به فيراه الناسُ ويعتقدون أنه حق فيكفرون فتَبينُ أزواجهم { وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ } أي بما تعلّموه واستعملوه من السحر { مّنْ أَحَدٍ } أي أحداً ومن مزيدة كما ذكر في قوله تعالى : والمعهود وإن كان زيادتها في معمول فعلٍ منفي إلا أنه حُملت الاسميةُ في ذلك على الفعلية كأنه قيل : وما يضرون به من أحد { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } لأنه وغيرَه من الأسباب بمعزل من التأثير بالذات وإنما هو بأمره تعالى فقد يُحدِث عند استعمالهم السحرَ فعلاً من أفعاله ابتلاءً ، وقد لا يُحدِثه والاستثناءُ مفرَّغٌ والباء متعلقةٌ بمحذوف وقع حالاً من ضمير ضارِّين أو من مفعوله وإن كان نكرةً لاعتمادها على النفي أو الضمير المجرورِ في به أي وما يُضرون به أحداً إلا مقروناً بإذن الله تعالى وقرىء بضارِّي على الإضافة بجعل الجارِّ جزءاً من المجرور وفصلِ ما بين المُضافين بالظرف { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ } لأنهم يقصِدون به العمل أو لأن العلم يجرُّ إلى العَمل غالباً { وَلاَ يَنفَعُهُمْ } صرح بذلك إيذاناً بأنه ليس من الأمور المشوبة بالنفع والضرر بل هو شرٌّ بحتٌ وضررٌ محضٌ لأنهم لا يقصدون به التخلّصَ عن الاغترار بأكاذيبِ من يدّعي النبوةَ مثلاً من السَحَرة أو تخليصَ الناس منه حتى يكون فيه نفعٌ في الجملة وفيه أن الاجتنابَ عما لا يؤمن غوائلُه خيرٌ كتعلم الفلسفةِ التي يؤمن أن تجُرَّ إلى الغواية وإن قال من قال :(1/174)
عرفتُ الشرَّ لا للشرِّ لكنْ لتوقِّيه ... ومن لا يعرِفِ الشرَّ من الناس يقَعْ فيهِ
{ وَلَقَدْ عَلِمُواْ } أي اليهود الذين حُكِيت جناياتُهم { لَمَنِ اشتراه } أي استبدلَ ما تتلو الشياطينُ بكتاب الله عز وجل واللامُ الأولى جوابُ قسمٍ محذوفٍ والثانيةُ لامُ ابتداءٍ عُلِّقَ به علِموا عن العمل ومَنْ موصولة في حيز الرفع بالابتداء واشتراه صلتها وقوله تعالى : { مَا لَهُ فِى الاخرة مِنْ خلاق } أي من نصيبٍ ، جملةٌ من مبتدإٍ وخبرٍ ومِنْ مزيدة في المبتدأ وفي الآخرة متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً منه ، ولو أُخِّرَ عنه لكان صفةً له والتقدير ما له خلاقٌ في الآخرة وهذه الجملةُ في محلِّ الرفع على أنها خبرٌ للموصول والجملةُ في حيز النصبِ سادَّةٌ مسَدَّ مفعولَيْ علموا إن جُعل مُتعَدياً إلى اثنين أو مفعولِه الواحدِ إن جعل متعدياً إلى واحد ، فجملة ولقد علموا الخ مُقْسَمٌ عليها دون جملة لمن اشتراه الخ هذا ما عليه الجمهورُ وهو مذهبُ سيبوبه وقال الفرّاءُ وتبعه أبو البقاء إن اللامَ الأخيرة موطئةٌ للقسم ومَنْ شرطية مرفوعةٌ بالابتداء واشتراه خبرُها ، وما له في الآخرة من خلاق جوابُ القسم وجوابُ الشرطِ محذوفٌ اكتفاءً عنه بجواب القسم لأنه إذا اجتمع الشرطُ والقسمُ يُجاب سابقُهما غالباً ، فحينئذ يكون الجملتان مُقْسماً عليهما { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ } أي باعوها واللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ ، والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي وبالله لبئسما باعوا به أنفسَهم السحرُ أو الكفرُ وفيه إيذانٌ بأنهم حيث نبذوا كتابَ الله وراء ظهورِهم فقد عرَّضوا أنفسهم للهَلكة وباعوها بما لا يزيدهم إلا تَباراً ، وتجويزُ كونِ الشراء بمعنى الاشتراء ( مما ) لا سبيلَ إليه لأن المشترى متعين وهو ما تتلو الشياطين ولأن متعلَّق الذمِّ هو المأخوذُ لا المنبوذُ كما أشير إليه في تفسير قوله سبحانه : { بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنزَلَ الله } { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أي يعملون بعلمهم . جُعلوا غيرَ عالمين لعدم عملِهم بموجب علمِهم ، ، أوْ لو كانوا يتفكرون فيه أو يعلمون قبحَه على اليقين ، أو حقيقةَ ما يتْبعُه من العذاب عليه ، على أن المُثبَتَ لهم أولاً على التوكيد القسميِّ العقلُ الغريزيُّ أو العلمُ الإجماليُّ بقبح الفعل أو ترتبِ العقاب من غير تحقيق ، وجواب لو محذوف أي لما فعلوا ما فعلوا .(1/175)
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ } أي بالرسول المومأ إليه في قوله تعالى : { وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ الله } الخ أو بما أنزل إليه من الآيات المذكورة في قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ءايات بينات وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الفاسقون } أو بالتوراةِ التي أريدتْ بقوله تعالى : { نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كتاب الله وَرَاء ظُهُورِهِمْ } فإن الكفر بالقرآن والرسول عليه السلام كفرٌ بها { واتقوا } المعاصيَ المحكيةَ عنهم { لَمَثُوبَةٌ مّنْ عِندِ الله خَيْرٌ } جواب لو ، وأصلُه لأُثيبوا مَثوبةً من عند الله خيراً مما شرَوْا به أنفسَهم فحُذفَ الفعلُ وغُيِّر السبكُ إلى ما عليه النظمُ الكريم دلالةً على ثبات المثوبةِ لهم والجزمِ بخيريّتها ، وحُذف المفضَّلُ عليه إجلالاً للمفضَّل من أن يُنسبَ إليه ، وتنكيرُ المثوبة للتقليل ومن متعلقة بمحذوفٍ وقع صفةً تشريفيةً لِمثوبةٌ أي لَشيءٌ ما من المثوبة ( الكائنة ) من عنده تعالى خير ، وقيل : جواب لو محذوفٌ أي لأثيبوا ، وما بعده جملة مستأنفة فإن وقوعَ الجملةِ الابتدائية جواباً لِلَوُ غيرُ معهود في كلام العرب وقيل : لو للتمني ومعناه أنهم من فظاعة الحال بحيث يتمنى العارفُ إيمانَهم واتقاءهم تلهّفاً عليهم ، وقرىء لمثوبة وإنما سمي الجزاء ثواباً ومثوبةً لأن المحسن يثوب إليه { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أن ثواب الله خيرٌ ، نُسبوا إلى الجهل لعدم العملِ بموجب العلم .(1/176)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
{ يا أيها الذين آمنوا } خطابٌ للمؤمنينً فيه إرشادٌ لهم إلى الخير وإشارةٌ إلى بعض آخر من جنايات اليهود { لاَ تَقُولُواْ راعنا } المراعاةُ المبالغةُ في الرعي وهي حِفظُ الغير وتدبيرُ أموره وتدارُكُ مصالحِه ، وكان المسلمون إذا ألقى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من العلم يقولون راعنا يا رسول الله أي راقبْنا وانتظِرْنا وتأنَّ بنا حتى نفهمَ كلامَك ونحفظَه وكانت لليهود كلمةٌ عبرانية أو سريانيةٌ يتسابُّون بها فيما بينهم وهي راعينا قيل : معناها اسمعْ لا سمِعْت فلما سمعوا بقول المؤمنين ذلك افترصوه واتخذوه ذريعةً إلى مقصِدهم فجعلوا يخاطبون به النبيَّ صلى الله عليه وسلم يعنون به تلك المسبةَ أو نسبتَه صلى الله عليه وسلم إلى الرَعَن وهو الحمَقُ والهوَج .
روي أن سعد بن عبادة رضي الله عنه سمعها منهم فقال : يا أعداءَ الله عليكم لعنةُ الله والذي نفسي بيده لئن سمعتُها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عُنقَه قالوا : أولستم تقولونها فنزلت الآية ونُهيَ فيها المؤمنون عن ذلك قطعاً لألسنة اليهود عن التدليس ، وأُمروا بما في معناها ولا يقبل التلبيس فقيل : { وَقُولُواْ انظرنا } أي انظر إلينا بالحذف والإيصال أو انتظرنا على أنه من نظرَه إذا انتظروه وقرىء أنظِرْنا من الإنظار ، أي أمهلنا حتى نحفظ وقرىء راعونا على صيغة الجمع للتوقير وراعنا على صيغة الفاعل أي قولا ذا رَعَنٍ كدارعٍ ولابنٍ لأنه لما أشبه قولَهم راعينا وكان سبباً للسب بالرَعَن اتَّصفَ به { واسمعوا } وأحسنوا سماع ما يكلمكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وما يلقي إليكم من المسائل بآذان واعية وأذهانٍ حاضرةٍ حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة وطلبِ المراعاة أو واسمعوا ما كُلفتموه من النهي والأمر بجدَ واعتناء حتى لا ترجِعوا إلى ما نهيتم عنه أو واسمعوا سماعَ طاعةٍ وقَبول ولا يكن سماعُكم مثل سماعِ اليهود حيث قالوا : سمعنا وعصينا { وللكافرين } أي اليهود الذين توسلوا بقولكم المذكور إلى كفرياتهم وجعلوه سبباً للتهاون برسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له ما قالوا { عَذَابٌ أَلِيمٌ } لما اجترءوا عليه من العظيمة ، وهو تذييلٌ لما سبق فيه وعيدٌ شديد لهم ونوعُ تحذيرٍ للمخاطبين عما نُهُوا عنه .
{ مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ } الوُدُّ حبُّ الشيءِ مع تمنِّيه ، ولذلك يستعمل في كلَ منهما ، ونفيُه كنايةٌ عن الكراهة ، ووضعُ الموصول موضعَ الضمير للإشعار بعلّية ما في حيز الصلةِ لعدم وُدِّهم ، ولعل تعلقَه بما قبله من حيث إن القولَ المنهيَّ عنه كثيراً ما كان يقع عند تنزيل الوحْي المعبَّرِ عنه في هذه الآية بالخير ، فكأنه أُشير إلى أن سببَ تحريفِهم له إلى ما حُكي عنهم لوقوعه في أثناء حصولِ ما يكرهونه من تنزيلِ الخير وقيل : كان فريق من اليهود يُظهرون للمؤمنين محبةً ويزعُمون أنهم يَودُّون لهم الخير فنزلت تكذيباً لهم في ذلك ، و ( من ) في قوله تعالى : { مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين } للتبيين كما في قوله عز وعلا :(1/177)
{ لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين } و ( لا ) مزيدةٌ لما ستعرفه { أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم } في حيز النصب على أنه مفعولُ ( يود ) ، وبناءُ الفعل للمفعول للثقة بتعيُّن الفاعل ، والتصريحُ الآتي في قوله تعالى : { مّنْ خَيْرٍ } هو القائمُ مقامَ فاعلِه ومن مزيدة للاستغراق ، والنفيُ وإن لم يباشرْه ظاهراً لكنه منسحبٌ عليه معنىً ، والخيرُ الوحيُ ، وحملُه على ما يعمّه وغيره من العلم والنُّصرة كما قيل : يأباه وصفُه فيما سيأتي بالاختصاص ، وتقديم هو عليكم والأصل : أن ينزل من خير عليكم الظرف عليه مع أن حقه التأخرُ عنه لإظهار كمال العنايةِ به ، لأنه المدارُ لعدم ودِّهم ، ومن في قوله تعالى : { مّن رَّبّكُمْ } ابتدائية ، والتعرُّضُ لعنوان الربوبية للإشعار بعليته لتنزيل الخيرِ والإضافة إلى ضمير المخاطبين لتشريفهم ، وليست كراهتُهم لتنزيله على المخاطبين من حيث تعبُّدُهم بما فيه وتعريضُهم بذلك لسعادة الدارين كيف لا وهم من تلك الحيثية من جملة مَنْ نزَلَ عليهم الخيرُ بل من حيث وقوعُ ذلك التنزيلِ على النبي صلى الله عليه وسلم ، وصيغةُ الجمعِ للإيذان بأن مدارَ كراهتهم ليس معنى خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم بل وصفٌ مشترك بين الكل وهو الخلوُّ عن الدراسة عند اليهود وعن الرياسة عند المشركين ، والمعنى أنهم يرَوْن أنفسَهم أحقَّ بأن يوحى إليهم ويكرهونكم فيحسُدونكم أن ينْزِل عليكم شيء من الوحي ، أما اليهودُ فبناءً على أنهم أهلُ الكتاب وأبناءُ الأنبياءِ الناشئون في مهابط الوحي وأنتم أُميِّوّن ، وأما المشركون فإدلالاً بما كان لهم من الجاه والمال زعماً منهم أن رياسةَ الرسالةِ كسائر الرياساتِ الدنيويةِ منوطةٌ بالأسباب الظاهرة ولذلك قالوا : لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ ولما كانت اليهودُ بهذا الداء أشهرَ لا سيما في أثناء ذكرِ ابتلائِهم به لم يلزَمْ من نفي ودادتِهم لما ذكِرَ نفيُ ودادةِ المشركين له ، فزيدت كلمةُ لا لتأكيد النفي { والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ } جملة ابتدائية سيقت لتقرير ما سبق من تنزيل الخيرِ والتنبيه على حكمتِه وإرغامِ الكارهين له ، والمرادُ برحمته الوحيُ كما في قوله سبحانه : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ } عبّر عنه باعتبار نزولِه على المؤمنين بالخير وباعتبار إضافتِه إليه تعالى بالرحمة قال علي رضي الله عنه : بنبوته ، خَصَّ بها محمداً صلى الله عليه وسلم ، فالفعلُ متعدٍ وصيغة الافتعال للإنباء عن الاصطفاء ، وإيثارُه على التنزيل المناسبِ للسياق الموافقِ لقوله تعالى : { أَن يُنَزّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَاء } لزيادة تشريفِه صلى الله عليه وسلم وإقناطِهم مما علّقوا به أطماعَهم الفارغةَ ، والباءُ داخلةٌ على المقصور أي يؤتي رحمته { مَن يَشَآء } من عباده ويجعلها مقصورةً عليه لاستحقاقه الذاتي الفائضِ عليه بحسب إرادتِه عز وعلا تفضّلاً لا تتعداه إلى غيره ، وقيل : الفعلُ لازمٌ ومَنْ فاعله والضميرُ العائد إلى مَنْ محذوفٌ على التقديرين ، وقوله تعالى : { والله ذُو الفضل العظيم } تذييلٌ لما سبق مقررٌ لمضمونه وفيه إيذان بأن إيتاءَ النبوةِ من فضله العظيم كقوله تعالى : { إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا } وأن حِرمان من حُرم ذلك ليس لضيق ساحةِ فضلِه بل لمشيئته الجاريةِ على سَننِ الحِكْمةِ البالغةِ ، وتصديرُ الجملتين بالاسم الجليل للإيذان بفخامة مضمونَيْهما ، وكونِ كلَ منهما مستقلةً بشأنها ، فإن الإضمارَ في الثانية مُنبىءٌ عن توقُّفِها على الأولى .(1/178)
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
{ مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا } كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لبيان سرِّ النسخِ الذي هو فردٌ من أفراد تنزيلِ الوحي وإبطالِ مقالةِ الطاعنين فيه إثْرَ تحقيقِ حقيقةِ الوحي وردِّ كلامِ الكارهين له رأساً ، قيل : نزلت حين قال المشركون أو اليهود : ألا ترون إلى محمد يأمُر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمُر بخلافه ، والنسخُ في اللغة الإزالةُ والنقلُ يقال : نسخَت الريحُ الأثرَ أي أزالته ونسخْتُ الكتابَ أي نقلتُه ونسخُ الآيةِ بيانُ انتهاءِ التعبّدِ بقراءتها ، أو بالحكم المستفادِ منها أو بهما جميعاً ، وإنساؤُها إذهابُها من القلوب ، وما شرطيةٌ جازمة لننسَخْ منتصبةٌ به على المفعولية وقرىء نُنْسِخْ من أنسخ أي نأمرُك أو ( نأمر ) جبريلَ بنسخها أو تجدها منسوخة ، ونَنْسأْها من النَّسء أي نؤخّرْها ، ونُنَسِّها بالتشديد وتَنْسَها وتُنْسِها على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم مبنياً للفاعل وللمفعول وقرىء ما ننسخ من آية أو نُنْسِكْها وقرىء ما نُنْسِكَ من آية أو نَنْسَخها والمعنى أن كل آيةٍ نذهب بها على ما تقتضيه الحكمةُ والمصلحة من إزالة لفظِها أو حكمِها أو كليهما معاً إلى بدل أو إلى غير بدل { نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا } أي نوع آخرَ هو خيرٌ للعباد وبحسب الحال في النفع والثوابِ من الذاهبة ، وقرىء بقلب الهمزة ألفاً { أَوْ مِثْلِهَا } أي فيما ذكر من النفع والثواب ، وهذا الحكمُ غيرُ مختصَ بنسخ الآية التامة فما فوقها بل جارٍ فيما دونها أيضاً ، وتخصيصُها بالذكر باعتبار الغالب ، والنصُّ كما ترى دالٌّ على جواز النسخ كيف لا وتنزيلُ الآيات التي عليها يدور فلَكُ الأحكام الشرعية إنما هو بحسب ما يقتضيه من الحِكَم والمصالح وذلك يختلف باختلاف الأحوال ويتبدّل حسب تبدل الأشخاص والأعصار كأحوال المعاش ، فرب حكمٍ تقتضيه الحكمةُ في حال تقتضي في حالٍ أخرى نقيضَه ، فلو لم يُجزِ النسخُ لاختل ما بين الحِكمة والأحكام من النظام { أَلَمْ تَعْلَمْ } الهمزة للتقرير كما في قوله سبحانه : { أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } وقوله تعالى : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } والخطابُ للنبي عليه الصلاة والسلام وقوله تعالى : { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } سادٌّ مسَدَّ مفعوليْ تعلم عند الجمهور ، ومسدَّ مفعولِه الأول ، والثاني محذوفٌ عند الأخفش ، والمرادُ بهذا التقرير الاستشهادُ بعلمه بما ذكر على قدرته تعالى على النسخ وعلى الإتيان بما هو خيرٌ من المنسوخ وبما هو مثله لأن ذلك من جملة الأشياء المقهورةِ تحت قدرته سبحانه فمِنْ علم شمولِ قدرتِه تعالى لجميع الأشياء علمُ قدرته على ذلك قطعاً ، والالتفاتُ بوضع الاسم الجليل موضع الضمير لتربية المهابة والإشعارِ بمناط الحكم فإن شمولَ القدرة لجميع الأشياء من أحكام الألوهية وكذا الحال في قوله عز سلطانه :(1/179)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والارض } فإن عنوان الألوهية مدارُ أحكام ملكوتِهما ، والجارُ والمجرورُ خبرٌ مقدم وملكُ السموات والأرض مبتدأ والجملة خبرُ لأن وإيثارُه على أن يقال : إن لله ملكَ السمواتِ والأرضِ للقصد إلى تقوّي الحُكم بتكرر الإسناد ، وهو إما تكريرٌ للتقرير وإعادةٌ للاستشهاد على ما ذُكر وإنما لم يعطَفْ ( أن ) مع ما في حيزها على ما سبق من مثلها وإما لزيادة التأكيد وإشعاراً باستقلال العلم بكلَ منهما وكفايتِه في الوقوف على ما هو المقصودُ وإما تقريرٌ مستقل للاستشهاد على قدرته تعالى على جميع الأشياء أي ألم تعلم أن الله له السلطانُ القاهرُ والاستيلاءُ الباهرُ المستلزِمان للقدرة التامة على التصرف الكليِّ فيهما إيجاداً وإعداماً وأمراً ونهياً حسبما تقتضيه مشيئتُه لا مُعارِضَ لأمره ولا معقِّبَ لحكمه فمن هذا شأنُه كيف يخرُج عن قدرته شيءٌ من الأشياء ، وقولُه تعالى : { وَمَا لَكُم مّن دُونِ الله مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ } معطوفةٌ على الجملة الواقعةِ خبراً ( لأن ) داخلةٌ معها تحت تعلقِ العلم المقرِّرِ ، وفيه إشارة إلى تناول الخطابين السابقين للأمة أيضاً ، وإنما إفرادُه عليه السلام بهما لما أن علومَهم مستنِدةٌ إلى علمه عليه السلام ، ووضعُ الاسم الجليل موضِعَ الضمير الراجع إلى اسم ( أن ) لتربية المهابة والإيذانِ بمقارنة الولاية والنصرةِ للقوة والعزة ، والمرادُ به الاستشهادُ بما تعلق به من العلم على تعلُّق إرادتِه تعالى بما ذكر من الإتيان بما هو خيرٌ من المنسوخ أو بمثله فإن مجرَّد قدرته تعالى على ذلك لا يستدعي حصولَه اْلبتة ، وإنما الذي يستدعيه كونُه تعالى مع ذلك ولياً ونصيراً لهم فمن علم أنه تعالى وليُّه ونصيرُه على الاستقلال يعلم قطعاً أنه لا يفعل به إلا ما هو خير له فيفوِّضُ أمرَه إليه تعالى ولا يخطُر بباله ريبةٌ في أمر النسخ وغيرِه أصلاً ، والفرق بين الوليِّ والنصيرِ أن الوليَّ قد يضعُفُ عن النُصرة ، والنصيرُ قد يكون أجنبياً من المنصور . وما إما تميمية لا عمل لها ولكم خبرٌ مقدم ومن وليَ مبتدأ مؤخر زيدت فيه كلمة من للاستغراق وإما حجازية ولكم خبرها المنصوب عند من يُجيزُ تقديمَه واسمُها ( من ولي ) ومن مزيدة لما ذكر ومن دون الله في حيز النصب على الحالية من اسمها لأنه في الأصل صفة له فلما قدم انتصب حالاً ومعناه سوى الله ، والمعنى أن قضية العلم بما ذكر من الأمور الثلاثة هو الجزمُ والإيقانُ بأنه تعالى لا يفعل بهم في أمر من أمور دينهم أو دنياهم إلا ما هو خيرٌ لهم ، والعملُ بموجبه من الثقة به والتوكلِ عليه وتفويضِ الأمر إليه من غير إصغاءٍ إلى أقاويل الكفرةِ وتشكيكاتهم التي من جملتها ما قالوا في أمر النسخ .(1/180)
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
وقوله تعالى : { أَمْ تُرِيدُونَ } تجريدٌ للخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم وتخصيصٌ له بالمؤمنين ، وأمْ منقطعة ( ومعناها ) بل ، فيها الإضرابُ والانتقال من حملهم على العمل بموجب علمهم بما ذكر عند ظهور بعض مخايلِ المساهلةِ منهم في ذلك وأمارات التأثر من أقاويل الكفرة إلى التحذير من ذلك ، ومعنى الهمزةِ إنكارُ وقوعِ الإرادة منهم واستبعادُه لما أن قضية الإيمان وازعةٌ عنها ، وتوجيهُ الإنكار إلى الإرادة دون متعلَّقها للمبالغة في إنكاره واستبعادِه ببيان أنه مما لا يصدُر عن العاقل إرادتُه فضلاً عن صدوره نفسِه والمعنى بل أتريدون { أن تسألوا } وأنتم مؤمنون { رَسُولَكُمُ } وهو في تلك الرتبة من علو الشأن وتقترحوا عليه ما تشتهون غيرَ واثقين في أموركم بفضل الله تعالى حسبما يوجبه قضيةُ علمِكم بشؤونه سبحانه قيل : لعلهم كانوا يطلبون منه عليه الصلاة والسلام بيانَ تفاصيلِ الحكم الداعية إلى النسخ وقيل : سأله عليه السلام قومٌ من المسلمين أن يجعل لهم ( ذاتَ أنواط ) كما كانت للمشركين وهي شجرة كانوا يعبدونها ويعلّقون عليها المأكول والمشروب ، وقوله تعالى : { كَمَا سُئِلَ موسى } مصدرٌ تشبيهيّ أي نعت لمصدر مؤكدٍ محذوف وما مصدرية أي سؤالاً مُشْبَهاً بسؤال موسى عليه السلام حيث قيل له : اجعلْ لنا إلها وأرِنا الله جهرةً وغيرَ ذلك ، ومقتضى الظاهرِ أن يقال : كما سألوا موسى لأن المشبَّه هو المصدرُ من المبني للفاعل أعني سؤالية المخاطبين لا من المبني للمفعول أعني مسؤوليةَ الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يُشبَّه بمسؤولية موسى عليه السلام فلعله أريد التشبيهُ فيهما معاً ولكنه أوجز النظم فذكر في جانب المشبه السائليةَ وفي جانب المشبَّه به المسؤولية واكتُفي بما ذكر في كل موضع عما تُرك في الموضع الآخر كما ذكر في قوله تعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ } وقد جُوِّز أن تكون ( ما ) موصولةً على أن العائد محذوفٌ أي كالسؤال الذي سُئِله موسى عليه السلام . وقوله تعالى : { مِن قَبْلُ } متعلِّقٌ بسُئِل جيءَ به للتأكيد ، وقرىء سِيل بالياء وكسر السين وبتسهيل الهمزة بين بين { وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر } أي يخترْه ويأخذْه لنفسه { بالإيمان } بمقابَلتِه بدلاً منه وقرىء ومن يُبْدلْ من أَبدل وكان مقتضى الظاهر أن يقال : ومن يفعلْ ذلك أي السؤالَ المذكورَ أو إرادتَه وحاصلُه ومن يترُكِ الثقةَ بالآيات البينةِ المنْزلةِ بحسب المصالحِ التي من جملتها الآياتُ الناسخةُ التي هي خيرٌ محضٌ وحقٌّ بحتٌ واقترح غيرَها { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل } أي عدَلَ وجارَ من حيث لا يدري عن الطريق المستقيم الموصِل إلى معالم الحق والهدى ، وتاه في تيه الهوى وتردى في مهاوي الردى . وإنما أوُثر على ذلك ما عليه النظمُ الكريمُ للتصريح من أول الأمرِ بأنه كفرٌ وارتدادٌ وأن كونَه كذلك أمرٌ واضح غنيٌ عن الإخبار به بأن يقال : ومن يفعلْ ذلك يكفُرْ ، حقيقٌ بأن يُعدَّ من المسلّمات ويُجعلَ مقدَّماً للشرْطية رَوْماً للمبالغة في الزجر والإفراط في الردع ، و ( سواءَ السبيل ) من باب إضافةِ الوصفِ إلى الموصوف لقصد المبالغة في بيان قوة الاتصافِ كأنه نفسُ السواءِ على منهاج حصولِ الصورة في الصورة الحاصلة ، وقيل : الخطابُ لليهود حين سألوا أن يُنزِّل الله عليهم كتاباً من السماء وقيل للمشركين حين قالوا :(1/181)
{ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الارض يَنْبُوعًا } الخ فإضافةُ الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم على القولين باعتبار أنهم من أمة الدعوةِ ، ومعنى تبدّلِ الكفر بالإيمان وهم بمعزل من الإيمان تركُ صَرْفِ قدرتِهم إليه مع تمكنِّهم من ذلك وإيثارُهم للكفر عليه .(1/182)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
{ وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب } هم رهطٌ من أحبار اليهود . رُوي أن فِنحاصَ بنَ عازوراءَ وزيدَ بنَ قيسٍ ونفراً من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمارِ بن ياسر رضي الله عنهما بعد وقعة أحُد : ألم ترَوْا ما أصابكم ولو كنتم على الحق ما هُزمتم فارجِعوا إلى ديننا فهو خيرٌ لكم وأفضلُ ونحن أهدى منكم سبيلاً ، فقال عمارٌ : كيف نقضُ العهد فيكم قالوا : شديد ، قال : فإني عاهدتُ أن لا أكفر بمحمد عليه الصلاة والسلام ما عشتُ ، فقالت اليهود : أما هذا فقد صَبَأ وقال حذيفةُ : أما أنا فقد رضِيتُ بالله رباً وبمحمد نبياً وبالإسلامِ ديناً وبالقرآن إماماً وبالكعبة قِبلةً وبالمؤمنين إخواناً ثم أتَيَا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأخبراه فقال : أصبتما خيراً وأفلحتما فنزلت { لَوْ يَرُدُّونَكُم } حكايةٌ لودادتِهم ، ولو في معنى التمني وصيغةُ الغَيْبة كما في قوله : حلف ليَفعلَن ، وقيل : هي بمنزلة أَن الناصبةِ فلا يكونُ لها جوابٌ وينْسبكُ منها ومما بعدها مصدرٌ يقع مفعولاً لودّوا والتقدير ودُّوا ردَّكم وقيل : هي على حقيقتها وجوابُها محذوف تقديرُه لو يردّونكم كفاراً لسُرُّوا بذلك و { مِن بَعْدِ إيمانكم } متعلق بيردّونكم وقوله تعالى : { كَفَّاراً } مفعول ثانٍ له على تضمين الرد معنى التصيير أي يصيِّرونكم كفاراً كما في قوله :
رمى الحدَثانُ نِسوةَ آل سعد ... بمقدارٍ سَمَدْنَ له سُموداً
فردَّ شعورَهن السودَ بيضا ... ورد وجوهَهن البيضَ سودا
وقيل : هو حال من مفعوله ، والأول أدخلُ لما فيه من الدلالة صريحاً على كون الكفر المفروضِ بطريق القسر وإيرادُ الظرف مع عدم الحاجة إليه ضرورةَ كونِ المخاطبين مؤمنين واستحالةِ تحققِ الردِّ إلى الكفر بدون سبْق الإيمان مع توسيطِه بين المفعولين لإظهار كمالِ شناعة ما أرادوه وغايةِ بُعدِه من الوقوعِ إما لزيادة قبحِه الصارفِ للعاقل عن مباشرته ، وإما لممانعة الإيمانِ له كأنه قيل : من بعد إيمانكم الراسخِ وفيه من تثبيت المؤمنين ما لا يخفى . { حَسَدًا } علةٌ لودّ أو حال أريد به نعتُ الجمع أي حاسدين لكم والحسَدُ الأسفُ على من له خيرٌ بخيره { مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } متعلق بود أي ودوا ذلك من أجل تشهّيهم وحظوظِ أنفسِهم لا من قِبَل التدين والميل مع الحق ولو على زعمهم أو بحسداً أي حسداً منبعثاً من أصل نفوسهم بالغاً أقصى مراقِيه { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق } بالمعجزات الساطعةِ وبما عاينوا في التوراة من الدلائل وعلموا أنكم متمسّكون به وهم منهمكون في الباطل { فاعفوا واصفحوا } العفوُ تركُ المؤاخذة والعقوبةِ والصفحُ تركُ التثريب والتأنيب { حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ } الذي هو قتلُ بني قُريظةَ وإجلاءُ بني النَّضير وإذلالُهم بضرب الجزية عليهم ، أو الإذنُ في القتال .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه منسوخٌ بآية السيف ولا يقدح في ذلك ضرب الغاية لأنها لا تُعْلم إلا شرعاً ولا يخرُجُ الواردُ بذلك من أن يكون ناسخاً كأنه قيل : فاعفوا واصفحوا إلى ورود الناسخ { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } فينتقمُ منهم إذا حان حينُه وآن أوانُه ، فهو تعليلٌ لما دل عليه ما قبله .(1/183)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)
{ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } عطفٌ على ( فاعفوا ) أُمروا بالصبر والمداراةِ واللَّجَإ إلى الله تعالى بالعبادة البدنية والمالية { وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ } كصلاة أو صدقةٍ أو غيرِ ذلك أيْ أيُّ شيءٍ من الخيرات تقدّموه لمصلحة أنفسِكم { تَجِدُوهُ عِندَ الله } أي تجدوا ثوابه وقرىء ( تُقْدِموا ) من أقدم { إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فلا يَضيعُ عنده عملٌ فهو وعدٌ للمؤمنين ، وقرىء بالياء فهو وعيدٌ للكافرين ، { وَقَالُواْ } عطف على ( ود ) والضميرُ لأهل الكتابين جميعاً { لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى } أي قالت اليهودُ لن يدخُلَ الجنةَ إلا من كان هُوداً ، وقالت النصارى لن يدخُلَ الجنةَ إلا من كان نصارى ، فلفّ بين القولين ثقةً أن السامعَ يردُّ كلاً منهما إلى قائله ، ونحوُه ( وقالوا كونوا هوداً أو نصارى ) تهتدوا وليس مرادُهم بأولئك مَنْ أقام اليهوديةَ والنصرانيةَ قبل النسخِ والتحريفِ على وجههما بل أنفسَهم على ما هم عليه لأنهم إنما يقولونه لإضلال المؤمنين وردِّهم إلى الكفر . والهوُدُ جمعُ هائِدٍ كعوذٍ جمعُ عائذ وبُزْلٍ جمعُ بازل ، والإفرادُ في كان باعتبار لفظ ( مَنْ ) والجمع في خبرِه باعتبار معناه ، وقرىء إلا من كان يهودياً أو نصرانياً { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } الأمانيُّ جمع أُمنية وهي ما يُتمنّى كالأُعجوبة والأُضْحوكة ، والجملةُ معترِضةٌ مُبينةٌ لبُطلان ما قالوا ، و ( تلك ) إشارةٌ إليه ، والجمعُ باعتبار صدوره عن الجميع ، وقيل : فيه حذفُ مضافٍ ، أي أمثالُ تلك الأُمنية أمانيُّهم ، وقيل : ( تلك ) إشارةٌ إليه وإلى ما قبله مِن أنْ ينزِلَ على المؤمنين خيرٌ من ربهم وأن يردَّهم كفاراً ، ويردُّه قوله تعالى : { قُلْ هَاتُواْ برهانكم إِن كُنتُمْ صادقين } فإنهما ليسا مما يُطلب له البرهانُ ولا مما يَحتملُ الصِّدق والكذِبَ قيل : ( هاتوا ) أصلُه آتوا قُلبت الهمزةُ هاءً أي أَحضروا حُجتَكم على اختصاصكم بدخول الجنة إن كنتم صادقين في دعواكم . هذا ما يقتضيه المقامَ بحسب النظرِ الجليلِ والذي يستدعيه إعجازُ التنزيل أن يُحمل الأمرُ التبكيتيُّ على طلب البرهان على أصل الدخولِ الذي يتضمنه دعوى الاختصاص به .(1/184)
بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
فإن قوله تعالى : { بلى } الخ إثباتٌ من جهته تعالى لما نفَوْه مستلزمٌ لنفْي ما أثبتوه ، وإذْ ليس الثابتُ به مجردَ دخولِ غيرِهم الجنةَ ولو معهم ليكون المنفيُّ مجردَ اختصاصِهم به مع بقاءِ أصلِ الدخولِ على حاله بل هو اختصاصُ غيرِهم بالدخول كما ستعرفه بإذن الله تعالى ظهرَ أن المنفيَّ أصلُ دخولِهم ، ومن ضَرورته أن يكون هو الذي كُلِّفوا إقامةَ البُرهانِ عليه لا اختصاصُهم به ليتّحدَ موردُ الإثباتِ والنفي ، وإنما عدَلَ عن إبطال صريحِ ما ادَّعَوْه وسَلك هذا المسلكَ إبانةً لغاية حِرمانِهم مما علّقوا به أطماعَهم وإظهاراً لكمال عجزِهم عن إثباتِ مُدَّعاهم لأن حِرمانَهم من الاختصاص بالدخول وعجزَهم عن إقامة البرهانِ عليه لا يقتضيان حرمانَهم من أصل الدخولِ وعجزَهم عن إثباته وأما نفسُ الدخولِ فحيث ثبت حِرمانُهم منه وعجزُهم عن إثباته فهم من الاختصاص به أبعدُ وعن إثباته أعجزُ ، وإنما الفائزُ به من انتظمه قوله سبحانه :
{ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } أي أخلص نفسَه له تعالى لا يشرك به شيئاً ، عبّر عنها بالوجه لأنه أشرفُ الأعضاءِ ومجمعُ المشاعرِ وموضعُ السجود ، ومظهَرُ آثارِ الخضوعِ الذي هو من أخص خصائِص الإخلاص أو توجّهُه وقصدُه بحيث لا يلوي عزيمتَه إلى شيءٍ غيره { وَهُوَ مُحْسِنٌ } حال من ضمير ( أسلم ) أي والحالُ أنه مُحسنٌ في جميع أعمالِه التي من جملتها الإسلامُ المذكورُ ، وحقيقةُ الإحسانِ الإتيانُ بالعمل على الوجه اللائق ، وهو حُسنُه الوصفيُّ التابعُ لحسنه الذاتيِّ ، وقد فسره صلى الله عليه وسلم بقوله : « أَنْ تَعْبُدَ الله كأنَّكَ تَرَاهُ فإنْ لم تَكُنْ تَرَاهُ فإِنَّهُ يَرَاكَ » { فَلَهُ أَجْرُهُ } الذي أُعد له على عمله ، وهو عبارةٌ عن دخول الجنة أو عمل يدخُلُ هو فيه دخولاً أولياً ، وأياً ما كان فتصويرُه بصورة الأجرِ للإيذان بقوة ارتباطِه بالعمل واستحالةِ نيلِه بدونه ، وقوله تعالى : { عِندَ رَبّهِ } حالٌ من أجره ، والعاملُ فيه معنى الاستقرارِ في الظرف ، والعِنديةُ للتشريف ، ووضعُ اسم الربِّ مضافاً إلى ضمير ( من أسلم ) موضعَ ضميرِ الجلالة لإظهار مزيدِ اللُطفِ به وتقريرِ مضمونِ الجملة ، أي فله أجرُه عند مالكِه ومدبِّرِ أموره ومبلِّغِه إلى كماله ، والجملةُ جوابُ ( مَنْ ) إن كانت شرطيةً وخبرُها إن كانت موصولة ، والفاءُ لتضمنها معنى الشرط فيكون الردُّ بقوله تعالى : بلى وحده ، ويجوز أن يكون ( مَنْ ) فاعلاً لفعل مقدرٍ ، أي بلى يدخلها من أسلم ، وقوله تعالى : { فَلَهُ أَجْرُهُ } معطوفٌ على ذلك المقدر ، وأياً ما كان فتعليقُ ثبوتِ الأجرِ بما ذكر من الإسلام والإحسانِ المختصَّيْن بأهل الإيمان قاضٍ بأن أولئك المدّعين من دخول الجنة بمعزل ، ومن الاختصاص به بألف منزل { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } في الدارين من لُحوق مكروهٍ { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } من فواتِ مطلوبٍ أي لا يعتريهم ما يوجبُ ذلك ، لا أنه يعتريهم لكنهم لا يخافون ولا يحزنون .
والجمع في الضمائر الثلاثة باعتبار معنى ( مَنْ ) كما أن الإفراد في الضمائر الأُوَلِ باعتبار اللفظ .(1/185)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
{ وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَىْء } بيانٌ لتضليل كلِّ فريقٍ صاحَبه بخصوصه إثرَ بيانِ تضليله كلَّ من عداه على وجه العموم نزلت لما قدِم وفدُ نجرانَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاهم أحبارُ اليهود فتناظروا فارتفعت أصواتُهم فقالوا لهم : لستم على شيء أي أمرٍ يُعتدُّ به من الدين أو على شيء ما منه أصلاً ، مبالغةً في ذلك كما قالوا : أقلُّ من لا شيء وكفروا بعيسى والإنجيل { وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَىْء } على الوجه المذكورِ وكفروا بموسى والتوراةِ لا أنهم قالوا ذلك بناءً للإمر على منسوخية التوراة { وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب } والواوُ للحال واللامُ للجنس أي قالوا ما قالوا والحال أن كلَّ فريقٍ منهم من أهل العلم والكتاب أي كان حقُّ كلَ منهم أن يعترِفَ بحقيقة دينِ صاحبه حسبما ينطِقُ به كتابُه فإن كتبَ الله تعالى متصادقة { كذلك } أي مثلَ ذلك الذي سمعت به ، والكافُ في محل النصب إما على أنها نعتٌ لمصدر محذوف قُدّم على عامله لإفادة القصر أي قولاً مثلَ ذلك القول بعينه لا قولاً مغايراً له { قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } من عبَدَة الأصنام والمعطِّلة ونحوِهم من الجهَلة أي قالوا لأهل كل دين ليسوا على شيء وإما على أنها حال كونه مثلَ ذلك القولِ الذي سمعْتَ به { مِّثْلَ قَوْلِهِمْ } إما بدلٌ من محل الكاف وإما مفعولٌ للفعل المنفيِّ قبله أي مثلَ ذلك القول قال الجاهلون بمثل مقالةِ اليهودِ والنصارى ، وهذا توبيخٌ عظيم لهم حيث نظَموا أنفسهم مع علمهم في سلك مَنْ لا يعلم أصلاً { فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } أي بين اليهود والنصارى ، فإن مساقَ النظمِ لبيان حالِهم ، وإنما التعرُّضُ لمقالة غيرِهم لإظهار كمالِ بطلانِ مقالهم ولأن المُحاجَّةَ المُحوِجَةَ إلى الحكم إنما وقعت بينهم { يَوْمُ القيامة } متعلقٌ بيحكم وكذا ما قبله وما بعده ، ولا ضيرَ فيه لاختلاف المعنى { فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } بما يقسِمُ لكل فريقٍ ما يليق به من العقاب ، وقيل : حكمُه بينهم أن يكذِّبَهم ويُدخِلَهم النارَ ، والظرفُ الأخير متعلقٌ بيختلفون ، قُدِّم عليه للمحافظة على رؤوس الآي لا بكانوا .(1/186)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مساجد الله } إنكارٌ واستبعاد لأن يكون أحدٌ أظلمَ ممن فعل ذلك أو مساوياً له وإن لم يكن سبكُ التركيب متعرِّضاً لإنكار المساواة ، ونفيُها يشهد به العرفُ الفاشِيْ والاستعمالُ المطّردُ فإذا قيل : مَنْ أكرمُ من فلان؟ أو لا أفضلَ من فلان فالمرادُ به حتماً أنه أكرمُ من كل كريم وأفضلُ من كل فاضل ، وهذا الحكم عامٌ لكل من فعل ذلك في أي مسجد كان وإن كان سببَ النزول فعلُ طائفةٍ معينة في مسجد مخصوص . رُوي أن النصارى كانوا يطرَحون في بيت المقدس الأذى ويمنعون الناسَ أن يصلوا فيه وأن الرومَ غزَوُا أهلَه فخرَّبوه وأحرقوا التوراة وقتلوا وسبوا وقد نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن طِيطَيُوسَ الروميَّ ملكَ النصارى وأصحابَه غزوا بني إسرائيلَ وقتلوا مُقاتِلَتَهم وسبَوُا ذرارِيَهم وأحرقوا التوراةَ وخرَّبوا بيتَ المقدس وقذفوا فيه الجيفَ وذبحوا فيه الخنازيرَ ولم يزل خراباً حتى بناه المسلمون في عهد عمرَ رضي الله عنه ، وإنما أُوقعَ المنعُ على المساجد وإن كان الممنوعُ هو الناسَ لما أن فعلَهم من طرح الأذى والتخريب ونحوِهما متعلقٌ بالمسجد لا بالناس مع كونه على حاله . وتعلقُ الآيةِ الكريمة بما قبلها من حيث إنها مبطلةٌ لدعوى النصارى اختصاصَهم بدخول الجنة ، وقيل : هو منعُ المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخُلَ المسجد الحرام عامَ الحُدَيْبية فتعلُقها بما تقدمها من جهةِ أن المشركين من جُملة الجاهلين القائلين لكل مَنْ عداهم ليسوا على شيء .
{ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه } ثاني مفعولي ( منع ) كقوله تعالى : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ } ، وقوله تعالى : { وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بالايات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الاولون } ويجوز أن يكون ذلك بحذف الجارِّ مع أن وأن يكون ذلك مفعولاً له أي كراهة أن يُذكر فيها اسمُه { وسعى فِى خَرَابِهَا } بالهدم أو التعطيل بانقطاع الذكر { أولئك } المانعون الظالمون الساعون في خرابها { مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ } أي ما كان ينبغي لهم أن يدخلوها إلا بخشية وخضوعٍ فضلاً عن الاجتراء على تخريبها أو تعطيلها أو ما كان الحق أن يدخلوها إلا على حال التهيُّب وارتعادِ الفرائصِ من جهة المؤمنين أن يبطِشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها ويَلوُها ويمنعوهم منها أو ما كان لهم في علم الله تعالى وقضائه بالآخرة إلا ذلك فيكونُ وعداً للمؤمنين بالنُصرة واستخلاص ما استولَوْا عليه منهم وقد أُنجز الوعدُ ولله الحمد . رُوي أنه لا يدخل بيتَ المقدس أحدٌ من النصارى إلا متنكراً مسارقةً . وقيل : معناه النهيُ عن تمكنهم من الدخول في المسجد واختلف الأئمة في ذلك فجوّزه أبو حنيفة مطلقاً ومنعه مالك مطلقاً وفرَّق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره { لَهُمْ } أي لأولئك المذكورين { فِى الدنيا خِزْىٌ } أي خزي فظيعٌ لا يوصف بالقتل والسبي والإذلال بضرب الجزية عليهم { وَلَهُمْ فِى الاخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهو عذابُ النار لما أن سببه أيضاً وهو ما حُكي من ظلمهم كذلك في العِظَم ، وتقديمُ الظرف في الموضعين للتشويق إلى ما يذكر بعدَه من الخزي والعذاب لما مر من أن تأخيرَ ما حقه التقديمُ موجبٌ لتوجه النفس إليه فيتمكن فيها عند وروده فضلَ تمكنٍ كما في قوله تعالى : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } { وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الانعام ثمانية أزواج } إلى غير ذلك .(1/187)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
{ وَلِلَّهِ المشرق والمغرب } أي له كلُّ الأرض التي هي عبارة عن ناحيتي المشرقِ والمغربِ لا يختصّ به من حيث الملكُ والتصرفُ ومن حيث المحلّيةُ لعبادته مكانٌ منها دون مكان ، فإن مُنعتم من إقامة العبادةِ في المسجد الأقصى أو المسجد الحرام { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ } أي ففي أي مكان فعلتم توليةَ وجوهِكم شطرَ القبلة { فَثَمَّ وَجْهُ الله } ثَمَّ اسمُ إشارة للمكان البعيد خاصة مبنيٌّ على الفتح ولا يتصرَّف سوى الجر بمن وهو خبر مقدمٌ ووجهُ الله مبتدأ والجملة في محل الجزم على أنها جواب الشرط أي هناك جهتُه التي أمر بها فإن إمكان التوليةِ غيرُ مختصَ بمسجد دون مسجد أو مكان دون آخر ، أو فثَمَّ ذاتُه بمعنى الحضورِ العلميّ أي فهو عالم بما يُفعل فيه ومثيبٌ لكم على ذلك وقرىء بفتح التاء واللام أي فأينما تَوَجَّهوا للقبلة { إِنَّ الله واسع } بإحاطته بالأشياء أو برحمته يريد التوسعةَ على عباده { عَلِيمٌ } بمصالحهم وأعمالهم في الأماكن كلِّها والجملة تعليلٌ لمضمون الشرطية وعن ابن عمرَ رضي الله عنهما نزلت في صلاة المسافرين على الراحلة أينما توجّهوا وقيل في قوم عمِيت : عليهم القِبلةُ فصلُّوا إلى أنحاءَ مختلفةٍ فلما أصبحوا تبينوا خطأهم . وعلى هذا لو أخطأ المجتهدُ ثم تبين له الخطأ لم يلزمه التدارُك ، وقيل : هي توطئة لنسخ القِبلة وتنزيهٌ للمعبود عن أن يكون في جهة { وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا } حكاية لطرفٍ آخرَ من مقالاتهم الباطلةِ المحكية فيما سلف معطوفةٌ على ما قبلها من قوله تعالى : وَقَالَت الخ لا على صلةِ مَنْ لما بينهما من الجمل الكثيرة الأجنبيةِ ، والضميرُ لليهود والنصارى ومن شاركهم فيما قالوا من الذين لا يعلمون ، وقرىء بغير واو على الاستئناف نزلت حين قالت اليهودُ : عزيرٌ ابنُ الله والنصارى : المسيحُ ابنُ الله ومشركو العربِ : الملائكةُ بناتُ الله . والاتخاذُ إما بمعنى الصُنع والعمل فلا يتعدَّى إلا إلى واحد ، وإما بمعنى التصيير ، والمفعولُ الأول محذوف أي صَيَّر بعضَ مخلوفاته ولداً { سبحانه } تنزيهٌ وتبرئةٌ له تعالى عما قالوا وسبحانَ عَلَمٌ للتسبيح كعُثمانَ للرجل ، وانتصابُه على المصدرية ولا يكاد يُذكر ناصبُه أي أُسبِّحُ سبحانه أي أنزّهُه تنزيهاً لائقاً به وفيه من التنزيه البليغِ من حيث الاشتقاقُ من السبْح الذي هو الذهابُ والإبعادُ في الأرض ومن جهة النقلِ إلى التفعيل ومن جهة العُدول من المصدر إلى الاسمِ الموضوعِ له خاصةً لا سيما العلمُ المشيرُ إلى الحقيقة الحاضرةِ في الذهن ومن جهة إقامتِه مُقامَ المصدر مع الفعل ما لا يخفى ، وقيل : هو مصدر كغُفرانٍ بمعنى التنزُّه أي تنَزَّهَ بذاته تنزُّهاً حقيقاً به ففيه مبالغةٌ من حيث إسنادُ البراءةِ إلى الذات المقدسة وإن كان التنزيهُ اعتقادَ نزاهتِه تعالى عما لا يليق به لا إثباتَها له تعالى وقولُه تعالى : { بَل لَّهُ مَا فيالسموات والارض } رد لما زعموا وتنبيهٌ على بطلانه وكلمةُ ( بل ) للإضراب عما تقتضيه مقالتُهم الباطلةُ من مجانسته سبحانه وتعالى لشيء من المخلوقات ومن سرعة فَنائِه المَحوِجة إلى اتخاذ ما يقوم مَقامه فإن مجرد الإمكان والفَناء لا يوجب ذلك .(1/188)
ألا يُرى أن الأجرامَ الفَلَكيةَ مع إمكانها وفَنائِها بالآخرة مستغنيةٌ بدوامها وطولِ بقائها عما يجري مجرَى الولدِ من الحيوان أي ليس الأمرُ كما زعموا بل هو خالقٌ جميعَ الموجودات التي من جملتها عزيرٌ والمسيحُ والملائكة { كُلٌّ } التنوين عوضٌ عن المضاف إليه أي كلُّ ما فيهما كائناً ما كان من أولي العلم وغيرِهم { لَّهُ قانتون } منقادون لا يستعصي شيءٌ منهم على تكوينه وتقديره ومشيئتِه ، ومن كان هذا شأنُه لم يُتصوَّرْ مجانستُه لشيء ، ومن حق الولدِ أن يكون من جنس الوالد ، وإنما جيءَ ( بما ) المختصةِ بغير أولي العلم تحقيراً لشأنهم وإيذانا بكمال بُعدِهم عما نسَبوا إلى بعضٍ منهم ، وصيغةُ جمع العقلاء في ( قانتون ) للتغليب أو كلُّ مَنْ جعلوه لله تعالى ولداً له قانتون أي مطيعون عابدون له معترفون بربوبيته تعالى { أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة }(1/189)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
{ بَدِيعُ السموات والارض } أي مُبدِعُهما ومخترِعُهما بلا مثال يَحتذيه ولا قانونٍ ينتحيه فإن البديعَ كما يُطلقُ على المبتدِع يُطلق على المبتدَع نصَّ عليه أساطينُ أهل اللغة وقد جاء : بَدَعَه كمنعه بمعنى أنشأه كابتدعه كما ذُكر في القاموس وغيره ، ونظيره السميع بمعنى المسمِع في قوله :
أَمِنْ رَيْحانَةَ الدَّاعي السميعُ ... وقيل : هو من إضافة الصفةِ المشبّهةِ إلى فاعلها للتخفيف بعد نصبه على تشبيهها باسم الفاعِلِ كما هو المشهورُ أي بديعُ سمواتِه من بَدَع إذا كان على شكل فائقٍ وحُسْنٍ رائق ، وهو حجة أخرى لإبطال مقالتِهم الشنعاءِ تقريرُها أن الوالدَ عنصرُ الولدِ المنفصلِ بانفصال مادته عنه والله سبحانه مُبدعُ الأشياء كلِّها على الإطلاق منزَّه عن الانفصال فلا يكون والداً ، ورفعُه على أنه خبر لمبتدإٍ محذوف أي هو بديعُ الخ ، وقرىء بالنصبَ على المدح وبالجرِّ على أنه بدل من الضمير في ( له ) على رأي من يجوز الإبدالَ من الضمير المجرور كما في قوله :
على جُوده قد ضَنَّ بالماء حاتم ... { وَإِذَا قضى أَمْرًا } أي أراد شيئاً كقوله : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً } وأصلُ القضاءِ الإحكامُ أُطلق على الإرادة الإلهية المتعلقة بوجود الشيء لإيجابها إياه اْلبتةَ وقيل : الأمر ، ومنه قولُه تعالى : { وقضى رَبُّكَ } الخ { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } كلاهما من الكون التام أي أحْدَثَ وليس المرادُ به حقيقةَ الأمرِ والامتثال ، وإنما هو تمثيلٌ لسهولة تأتّي المقدورات بحسَب تعلّقِ مشيئتِه تعالى وتصويرٌ لسرعة حُدوثِها بما هو عَلَمٌ في الباب من طاعة المأمورِ المطيعِ للآمر القويِّ المطاعِ ، وفيه تقريرٌ لمعنى الإبداع وتلويحٌ لحجة أخرى لإبطال ما زعموه بأن اتخاذَ الولدِ شأنُ من يفتقرُ في تحصيل مرادِه إلى مبادىءَ يستدعي ترتيبُها مرورَ زمانٍ وتبدلَ أطوارٍ ، وفعلُه تعالى متعالٍ عن ذلك { وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } حكاية لنوعٍ آخرَ من قبائحهم وهو قدحُهم في أمر النبوة بعد حكاية قدحِهم في شأن التوحيد بنسبة الولدِ إليه سبحانه وتعالى ، واختُلف في هؤلاء القائلين : فقال ابن عباس رضي الله عنهما : هم اليهودُ وقال مجاهد : هم النصارى ووصفُهم بعدم العلم لعدم علمِهم بالتوحيد والنبوة كما ينبغي ، أو لعدم علمِهم بموجب عمَلِهم أو لأن ما يحكى عنهم لا يصدرُ عمن له شائبةُ علمٍ أصلاً . وقال قتادةُ : وأكثرُ أهل التفسير هم مشركو العربِ لقوله تعالى : فليأتنا بآية كما أرسل الأولون وقالوا : لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا { لَوْلاَ يُكَلّمُنَا الله } أي هلا يكلمُنا بلا واسطة أمراً ونهياً كما يكلم الملائكةَ أو هلا يكلمنا تنصيصاً على نُبوَّتِك { أو تأتينا آية } حجةٌ تدل على صدقك . بلغوا من العُتوِّ والاستكبار إلى حيث أمّلوا نيلَ مرتبةِ المفاوضة الإلهية من غير توسط الرسولِ والملَك ، ومن العنادِ والمكابرة إلى حيث لم يعُدّوا ما آتاهم من البينات الباهرة التي تخِرُّ لها صُمُّ الجبال من قَبيل الآيات ، قاتلهم الله أنى يؤفكون .(1/190)
{ كذلك } مثلَ ذلك القولِ الشنيعِ الصادرِ عن العِناد والفساد { قَالَ الذين مِن قَبْلِهِم } من الأمم الماضية { مِّثْلَ قَوْلِهِمْ } هذا الباطلِ الشنيعِ فقالوا : { أَرِنَا الله جَهْرَةً } وقالوا : { لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد } الآية وقالوا : { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } الخ وقالوا اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا الخ { تشابهت قُلُوبُهُمْ } أي قلوبُ هؤلاءِ وأولئك في العمى والعِناد وإلا لما تشابهت أقاويلُهم الباطلة { قَدْ بَيَّنَّا الآيات } أي نزلناها بينةً بأن جعلناها كذلك في أنفسِها كما في قولهم : سُبحان مَنْ صغّر البعوضَ وكبَّر الفيلَ لا أنا بيناها بعد أن لم تكن بينةً { لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي يطلُبون اليقين ويوقنون بالحقائق لا يعتريهم شُبهةٌ ولا رِيبة ، وهذا ردٌّ لطلبهم الآيةَ ، وفي تعريف الآياتِ وجمعِها وإيرادِ النبيين المُفصِح عن كمال التوضيح مكانَ الإتيان الذي طلبوه ما لا يخفى من الجزالة ، والمعنى أنهم اقترحوا آيةً فذَّةً ونحن قد بينا الآياتِ العظامَ لقوم يطلُبون الحقَّ واليقين ، وإنما لم يُتعرَّضْ لرد قولِهم : { لَوْلاَ يُكَلّمُنَا الله } إيذانا بأنه من ظهور البطلان بحيث لا حاجة له إلى الرد والجواب .(1/191)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
{ إِنَّا أرسلناك بالحق } أي ملتبساً بالقرآن كما في قوله تعالى : { بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَاءهُمْ } أو بالصدق كما في قوله تعالى : أَحَق هو . وقولُه تعالى : { بَشِيراً وَنَذِيراً } حال من المفعول باعتبار تقييدِه بالحال الأولى أي أُرْسلناك ملتبساً بالقرآن حالَ كونك بشيراً لمن آمن بما أُنزِل عليك وعمِل به ونذيراً لمن كفَر به أو أرسلناك صادقاً حال كونِك بشيراً لمن صدّقك بالثواب ونذيراً لمن كذّبك بالعذاب ليختاروا لأنفسهم ما أحبّوا لا قاسرَ لهم على الإيمان فلا عليك إنْ أصرُّوا وكابروا { وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أصحاب الجحيم } ما لهم لم يؤمنوا بعدما بلّغْتَ ما أُرسلتَ به وقرىء ( لن تُسأل ) وقرىء لا تَسْألْ على صيغة النهي إيذاناً بكمال شدةِ عقوبةِ الكفار وتهويلاً لها كأنها لغاية فظاعتها لا يقدِرُ المخبِرُ على إجرائها على لسانه أو لا يستطيع السامعُ أن يسمع خبرَها ، وحملُه على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال عن حال أبويه مما لا يساعدُه النظمُ الكريمُ والجحيمُ : المتأججُ من النار ، وفي التعبير عنهم بصاحبية الجحيم دون الكفر والتكذيب ونحوهما وعيدٌ شديد لهم وإيذانٌ بأنهم مطبوعٌ عليهم لا يرجى منهم الإيمانُ قطعاً .
وقوله تعالى : { وَلَن ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى حتى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } بيانٌ لكمال شدةِ شكيمةِ هاتين الطائفتين خاصة إثْرَ بيانِ ما يعُمُّهما والمشركين من الإصرار على ما هم عليه إلى الموت ، وإيرادُ لا النافية بين المعطوفَيْن لتأكيد النفي لما مر من أن تصلُّبُ اليهودِ في أمثال هذه العظائم أشدُّ من النصارى والإشعارِ بأن رضى كلَ منهما مباينٌ لرضى الأخرى أي لن ترضى عنك اليهودُ ولو خلَّيتَهم وشأنَهم حتى تتبعَ ملّتهم ولا النصارى ولو تركتهم ودينَهم حتى تتبع مِلَّتَهم فأُوجِزَ النظمُ ثقةً بظهور المراد ، وفيه من المبالغة في إقناطه صلى الله عليه وسلم من إسلامهم ما لا غايةَ وراءه فإنهم حيث لم يرضَوْا عنه عليه السلام ولو خلاّهم يفعلون ما يفعلون بل أملّوا منه صلى الله عليه وسلم ما لا يكاد يدخُل تحت الإمكان من اتباعه عليه السلام لمِلّتهم فكيف يُتوهم اتباعُهم لملته عليه السلام؟ وهذه حالتُهم في أنفسهم ومقالتُهم فيما بينهم ، وأما أنهم أظهروها للنبي صلى الله عليه وسلم وشافهوه بذلك وقالوا : لن نرضى عنك وإن بالغْتَ في طلب رضانا حتى تتبعَ مِلَّتنا كما قيل فلا يساعده النظمُ الكريم بل فيه ما يدل على خلافه ، فإن قوله عز وجل : { قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى } صريحٌ في أن ما وقع هذا جواباً عنه ليس عينَ تلك العبارةِ بل ما يستلزم مضمونَها أو يلزمه من الدعوة إلى اليهودية والنصرانية وأداءٌ أن الاهتداءَ فيهما كقوله عز وجل حكايةً عنهم :(1/192)
{ كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ } أي قل رداً عليهم إن هدى الله الذي هو الإسلامُ هو الهدى بالحق والذي يحِقُّ ويصح أن يُسمَّى هُدىً . وهو الهدى كلُّه ليس وراءه هُدىً وما تدْعون إليه ليس بهُدىً بل هو هوىً كما يعرب عنه قوله تعالى : { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم } أي آراءَهم الزائغةَ الصادرةَ عنهم بقضية شهواتِ أنفسِهم وهي التي عُبّر عنها فيما قبلُ بملتهم إذ هي التي ينتمون إليها ، وأما ما شرعه الله تعالى لهم من الشريعة على لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو المعنى الحقيقيُّ للملة فقد غيّروها تغييراً { بَعْدَ الذي جَاءكَ مِنَ العلم } أي الوحي أو الدين المعلومِ صحتُه { مَا لَكَ مِنَ الله } من جهته العزيزة { مِن وَلِىّ } يلي أمرَك عموماً { وَلاَ نَصِيرٍ } يدفعُ عنك عقابَه . وحيث لم يستلزم نفيُ الوليِّ نفيَ النصيرِ وُسِّط ( لا ) بين المعطوفين لتأكيد النفي وهذا من باب التهييج والإلهابِ وإلا فأنى يُتوهم إمكانُ اتباعِه عليه السلام لمِلّتهم . وهو جوابٌ للقسم الذي وطّأه اللامُ واكتُفي به عن جواب الشرط .(1/193)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)
{ الَّذِينَ ءاتيناهم الكتاب } وهم مؤمنو أهلِ الكتاب كعبد اللَّه بن سلام وأضرابِه { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } بمراعاة لفظِه عن التحريف وبالتدبّر في معانيه والعمل بما فيه وهو حال مقدرةٌ والخبرُ ما بعده أو خبرٌ وما بعده مقرِّرٌ له { أولئك } إشارة إلى الموصوفين بإيتاء الكتاب وتلاوتِه كما هو حقُّه ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلتِهم في الفضل { يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي بكتابهم دون المحرِّفين فإنهم بمعزل من الإيمان به فإنه لا يجامِعُ الكفرَ ببعضٍ منه { وَمن يَكْفُرْ بِهِ } بالتحريف والكفرِ بما يصدِّقه { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون } حيث اشترَوُا الكفر بالإيمان { خالدون يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } ومن جملتها التوراةُ ، وذكرُ النعمة إنما يكون بشكرها ، وشكرُها الإيمانُ بجميع ما فيها ومن جملته نعتُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ومن ضرورة الإيمان بها الإيمانُ به عليه الصلاة والسلام { وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين } أفرِدَتْ هذه النعمةُ بالذكر مع كونها مندرجةً تحت النعمة السالفةِ لإنافتها فيما بين فنونِ النعم .(1/194)
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
{ واتقوا } إن لم تؤمنوا { يَوْمًا لاَّ تَجْزِى } في ذلك اليوم { نَفْسٌ } من النفوس { عَن نَّفْسٍ } أخرى { شَيْئاً } من الأشياء أو شيئاً من الجزاء { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ } أي فدية { وَلاَ تَنفَعُهَا شفاعة وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } وتخصيصُهم بتكرير التذكيرِ وإعادةِ التحذير للمبالغة في النُصحِ ، وللإيذان بأن ذلك فذلكةُ القضية والمقصودُ من القصة لِما أن نعمَ الله عز وجل عليهم أعظمُ وكفرَهم بها أشدُّ وأقبحُ .
{ وَإِذِ ابتلى إبراهيم رَبُّهُ بكلمات } شروع في تحقيق أن هُدى الله هو ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التوحيد والإسلام الذي هو ملةُ إبراهيمَ عليه السلام ، وأن ما عليه أهلُ الكتابين أهواءٌ زائغةٌ وأن ما يدّعونه من أنهم على ملة إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام فريةٌ بلا مريةٍ ببيان ما صدر عن إبراهيم وأبنائه الأنبياءِ عليهم السلام من الأقاويل والأفاعيل الناطقة بحقية التوحيدِ والإسلام وبُطلان الشركِ وبصحة نبوةِ النبي صلى الله عليه وسلم وبكونه ذلك النبيِّ الذي استدعاه إبراهيمُ وإسماعيلُ عليهما الصلاة والسلام بقولهما : { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ } الآية فإذْ منصوب على المفعولية بمضمر مقدرٍ خوطبَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم بطريق التلوينِ أيْ واذكر لهم وقت ابتلائِه عليه السلام ليتذكروا بما وقع فيه من الأمور الداعية إلى التوحيد ، الوازعةِ عن الشرك فيقبلوا الحقَّ ويتركوا ما هم فيه من الباطل ، وتوجيهُ الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات قد مر وجهُه في أثناء تفسير قوله عز وجل : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّي جَاعِلٌ فِى الارض خَلِيفَةً } وقيل : على الظرفية بمُضمر مؤخَّرٍ أي وإذ ابتلاه كان كيت وكيت وقيل : بما سيجيء من قوله تعالى : { قَالَ } الخ ، والأول هو اللائق بجزالة التنزيل ، ولا يبعُد أن ينتصِبَ بمضمرٍ معطوف على اذكُروا خُوطب به بنو إسرائيلَ ليتأملوا فيما يُحْكى عمن ينتمون إلى ملة إبراهيمَ وأبنائه عليهم السلام من الأفعال والأقوال ليقتدوا بهم ويسيروا سيرتَهم .
والابتلاءُ في الأصل الاختبارُ أي تطلُب الخِبرة بحال المختَبَر بتعريضه لأمر يشُقُّ عليه غالباً فِعلُه أو تركُه ، وذلك إنما يُتصور حقيقة ممن لا وقوفَ له على عواقبِ الأمور ، وأما من العليم الخبير فلا يكون إلا مَجازاً من تمكينه للعبد من اختيار أحدِ الأمرين قبل أن يُرتِّب عليه شيئاً هو من مباديه العادية ، كمن يختبرُ عبدَه ليتعرَّف حاله من الكِياسة فيأمُره بما يليق بحاله من مَصالحه . وإبراهيمُ اسمٌ أعجميٌّ قال السُهيلي : كثيراً ما يقع الاتفاقُ أو التقاربُ بين السريانيِّ والعربي ، ألا ترى أن إبراهيمَ تفسيره أبْ رَاحِم ، ولذلك جُعل هو وزوجتُه سارةُ كافِلَيْن لأطفال المؤمنين الذين يموتون صغاراً يوم القيامة على ما رَوى البُخاريُّ في حديث الرؤيا : أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في الروضة إبراهيمَ عليه السلام وحوله أولادُ الناس ، وهو مفعولٌ مقدَّم لإضافة فاعلِه إلى ضميره ، والتعرُّضُ لعنوان الربوبية تشريفٌ له عليه السلام وإيذانٌ بأن ذلك الابتلأَ تربيةٌ له وترشيحٌ لأمر خطير ، والمعنى عاملَه سبحانه معاملةَ المختبِرَ حيث كلّفه أوامرَ ونواهِيَ تُظهِرُ بحسن قيامِه بحقوقها قُدرتُه على الخروج عن عُهدة الإمامةِ العظمى وتحمّلِ أعباءِ الرسالة ، د وهذه المقالةُ وتذكيرُها الناسَ لإرشادهم إلى طريق إتقانِ الأمور ببنائها على التجربة وللإيذان بأن بِعثةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أيضاً مبنيةٌ على تلك القاعدة الرصينة واقعةٌ بعد ظهور استحقاقِه عليه السلام للنبوة العامة ، كيف لا وهي التي أُجيب بها دعوةُ إبراهيمَ عليه السلام كما سيأتي .(1/195)
واختُلف في الكلمات فقال مجاهد : هي المذكورة بعدَها ، ورُدَّ بأنه يأباه الفاء في فأتمهن ثم الاستئناف ، وقال طاوسُ عن ابن عباس رضي الله عنهما : هي عشرُ خصال كانت فرضاً في شرعه وهُن سنةٌ في شرعنا خمسٌ في الرأس : المضمضةُ والاستنشاقُ وفرقُ الرأس وقصُّ الشارب والسواكُ ، وخمس في البدن : الخِتانُ وحلقُ العانة ونتفُ الإبْطِ وتقليمُ الأظفار والاستنجاءُ بالماء .
وفي الخبر أن إبراهيمَ عليه السلام أولُ من قص الشاربَ وأولُ من اختَتَن وأولُ من قلم الأظفار وقال عكرمة عن ابن عباس : لم يُبْتلَ أحدٌ بهذا الدين فأقامه كلَّه إلا إبراهيم ابتلاه الله بثلاثين خَصلةً من خصال الإسلام ، عشرٌ منها في سورة براءة : التائبون الخ وعشر في الأحزاب : إن المسلمين والمسلمات الخ وعشر في المؤمنون : وسأل سائل إلى قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } وقيل : ابتلاه الله سبحانه بسبعة أشياءَ بالشمس والقمرِ والنجوم والاختتان على الكِبَر والنار وذبحِ الولدِ والهِجْرة فوفى بالكل وقيل : هن مُحاجَّتُه قومَه والصلاةُ والزكاةُ والصوم والضيافة والصبرُ عليها وقيل : هي المناسكُ كالطواف والسعي والرمي والإحرام والتعريف وغيرِهن وقيل : هي قوله عليه السلام : " الذي خلقني فهو يهدين " الآيات ثم قيل : إنما وقع هذا الابتلاءُ قبل النبوة وهو الظاهرُ وقيل : بعدها لأنه يقتضي سابقةَ الوحي وأجيب بأن مطلق الوحي لا يستلزمُ البعثةَ إلى الخلق . وقرىء برفع إبراهيمُ ونصبِ ربَّه أي دعاه بكلماتٍ من الدعاء فعل المختبِر هل يُجيبه إليهن أوْ لا { فَأَتَمَّهُنَّ } أي قام بهن حق القيام وأداهن أحسنَ التأديةِ من غير تفريط وتوانٍ كما في قوله تعالى : { وإبراهيم الذى وفى } وعلى القراءة الأخيرة فأعطاه الله تعالى ما سأله من غير نقص ويعضدُه ما رُوي عن مقاتل أنه فسَّر الكلماتِ بما سأل إبراهيمُ ربه بقوله : «رب اجعلني» الآيات . وقولُه عز وجل : { قَالَ } على تقدير انتصاب إذْ بمضمر جملةٌ مستأنفةٌ وقعت جواباً عن سؤال نشأ من الكلام فإن الابتلأَ تمهيدٌ لأمر معظَّم وظهورُ فضيلة المبتلى من دواعي الإحسان إليه فبعد حكايتها نترقب النفسُ إلى ما وقع بعدهما كأنه قيل : فماذا كان بعد ذلك؟ فقيل قال : { إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا } أو بيانٌ لقوله تعالى وإذ ابتلي على رأي من يجعل الكلماتِ عبارةً عما ذُكر أثرُه من الإمامة وتطهيرِ البيت ورفعِ قواعدِه وغير ذلك وعلى تقدير انتصابِ إذْ يقال فالجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها عطفَ القِصة على القصة ، والواو في المعنى داخلةٌ على قال أي وقال إذ ابتلى الخ والجعلُ بمعنى التصيير أحدُ مفعوليه الضميرُ والثاني إماماً واسم الفاعل بمعنى المضارع وأوكد منه لدلالته على أنه جاعل له اُلبتةَ من غير صارفٍ يلويه ولا عاطف يثنيه ، وللناس متعلقٌ بجاعلك أي لأجل الناس أو بمحذوف وقع حالاً من ( إماماً ) إذ لو تأخر عنه لكان صفةً له والإمام اسم لمن يؤتم به وكلُّ نبي إمامٌ لأمته ، وإمامته عليه السلام عامةٌ مؤبدةٌ إذ لم يبعث بعده نبي إلا كان من ذريته مأموراً باتباع ملته .(1/196)
{ قَالَ } استئناف مبنيٌّ على سؤال مقدر ، كأنه قيل : فماذا قال إبراهيم عليه السلام عنده؟ فقيل : قال : { وَمِن ذُرّيَتِى } عطْفٌ على الكاف و ( من ) تبعيضيةٌ متعلقة بجاعل أي وجاعل بعضَ ذريتي؟ كما تقول : وزيداً لمن يقول سأكرمك ، أو بمحذوف أي واجعل فريقاً من ذريتي إماماً ، وتخصيصُ البعض بذلك لبَداهة استحالة إمامةِ الكلِّ وإن كانوا على الحق وقيل : التقدير وماذا يكون من ذريتي؟ والذرية نسلُ الرجل فُعّولة من ذروت أو ذريت والأصل ذُرِّوَّة أو ذُرّوْية فاجتمع في الأولى واوان زائدة وأصلية فقلبت الأصلية ياء فصارت كالثانية ، فاجتمعت واوٌ وياء وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون فقُلبت الواوُ ياء وأدغمت الياء في الياء فصارت ذرية أو فُعيِّلة منهما والأصلُ في الأولى ذُرِّيوة فقلبت الواو ياء لما سبق من اجتماعهما وسَبْقِ إحداهما بالسكون فصارت ذرّيْيَة كالثانية فأدغمت الياء في مثلها فصارت ذرّية أو فُعيلة من الذرْء بمعنى الخلق والأصل ذُريئة فخففت الهمزةُ بإبدالها ياءً كهمزة خطيئة ثم أُدغمت الياء الزائدةُ في المبدلةِ أو فعيلة من الذرّ بمعنى التفريق والأصل ذُرّيرة قلبت الراء الأخيرة ياء لتوالي الأمثال كما في تسري وتقضي وتظني فأدغمت الياء في الياء كما مر أو فعولة منه والأصل ذُرّورة فقلبت الراء الأخيرة ياءً فجاء الإدغام وقرىء بكسر الذال وهي لغة فيها وقرأ أبو جعفر المدني بالفتح وهي أيضاً لغة فيها { قَالَ } استئناف مبني على سؤال ينساقُ إليه الذهنُ كما سبق { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } ليس هذا رداً لدعوتِه عليهِ السلامُ بلْ إجابةً خفيةً لها وعِدَةً إجماليةً منه تعالى بتشريف بعضِ ذريتِه عليه السلام بنيل عهدِ الإمامةِ حسبما وقع في استدعائه عليه الصلاة والسلام من غير تعيين لهم بوصفٍ مميزٍ لهم عن جميع مَنْ عداهم فإن التنصيصَ على حرمانِ الظالمين منه بمعزلٍ من ذلك التمييزِ إذ ليس معناه أنه ينالُ كلَّ من ليس بظالم منهم ضرورةَ استحالةِ ذلك كما أشير إليه ولعل إيثارَ هذه الطريقةِ على تعيين الجامعين لمبادىء الإمامة من ذريته إجمالاً أو تفصيلاً وإرسالَ الباقين لئلا ينتظمَ المقتدون بالأئمةِ من الأمةِ في سلك المحرومين ، وفي تفصيل كل فِرقةٍ من الإطناب ما لا يخفى مع ما في هذه الطريقة من تخييبِ الكفرةِ الذين كانوا يتمنَّوْن النبوة ، وقطعِ أطماعهمَ الفارغةِ من نيلها .(1/197)
إنما أوثِرَ النيلُ على الجعلِ إيماءً إلى أن إمامة الأنبياءِ عليهم السلام من ذريته عليه السلام كإسماعيلَ وإسحقَ ويعقوبَ ويوسفَ وموسى وهارونَ وداودَ وسليمانَ وأيوبَ ويونسَ وزكريا ويحيى وعيسى وسيدِنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً ليست بجعل مستقل بل هي حاصلة في ضمن إمامة إبراهيمَ عليه السلام تنال كلا منهم في وقت قدّره الله عز وجل ، وقرىء الظالمون على أن ( عهدي ) مفعولٌ قُدم على الفاعل اهتماماً ورعايةً للفواصلِ وفيه دليلٌ على عصمةِ الأنبياءِ عليهم السلام من الكبائر على الإطلاق وعدم صلاحية الظالمِ لِلإمامة .(1/198)
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
وقوله تعالى : { وَإِذْ جَعَلْنَا البيْتَ } أي الكعبةَ المعظمةَ غلب عليها غلبةَ النجم على الثريا معطوفٌ على إذِ ابتلى على أن العامل فيه هو العاملُ فيه أو مضمرٌ مستقل معطوف على المضمر الأول ، والجعلُ إما بمعنى التصيير فقوله عز وجل : { وإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ } أي الكعبةَ المعظمةَ غلب عليها غلبةَ النجم على الثريا معطوفٌ على إذِ ابتلى على أن العامل فيه هو العاملُ فيه أو مضمرٌ مستقل معطوف على المضمر الأول ، والجعلُ إما بمعنى التصيير فقوله عز وجل : { مَثَابَةً } أي مرجعاً يثوب إليه الزّوارُ بعدما تفرقوا عنه أو أمثالُهم أو موضِعَ ثوابٍ يثابون بحجِّه واعتمارِه ، مفعولُه الثاني ، وإما بمعنى الإبداع فهو حال من مفعوله ، واللامُ في قوله تعالى : { لِلنَّاسِ } متعلقةٌ بمحذوف وقعَ صفةً لمثابةً أي مثابة كائنة للناس أو بجعلنا أي جعلناه لأجل الناس وقرىء مثاباتٍ باعتبار تعدّدِ التائبين { وَأَمْناً } أي آمِنا كما في قوله تعالى : { حَرَماً ءامِناً } على إيقاع المصدرِ موقعَ اسمِ الفاعلِ للمبالغة أو على تقدير المضافِ أي ذا أمنِ أو على الإسنادِ المجازي أي آمِنا بحجّهِ من عذابِ الآخرةِ من حيث أن الحجَّ يجُبُّ ما قبله أو مَنْ دخله من التعرُّض له بالعقوبة وإن كان جانياً حتى يخرجَ على ما هو رأيُ أبي حنيفةَ ، ويجوز أن يُعتبر الأمنُ بالقياس إلى كل شيء كائناً ما كان ويدخل فيه أمنُ الناس دخولاً أولياً وقد اعتيدَ فيه أمنُ الصيد حتى إن الكلبَ كان يهُمُّ بالصيد خارجَ الحرم فيفِرُّ منه وهو يتبعه فإذا دخل الصيد الحرمَ لم يتبعْه الكلبُ { واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى } على إرادةِ قولٍ هو عطفٌ على ( جعلنا ) أو حال من فاعله أي وقلنا أو قائلين لهم اتخذوا الخ وقيل : هو بنفسهِ معطوفٌ على الأمرِ الذي يتضمنه قوله عز وجل : { مَثَابَةً لّلنَّاسِ } كأنه قيل : توبوا إليه واتخذوا الخ وقيل : على المضمرِ العاملِ في إذ وقيل : هي جملةٌ مستأنفةٌ والخطابُ على الوجوه الأخيرةِ له عليه السلام ولأمتهِ والأولُ هو الأليقُ بجزالةِ النظم الكريم ، والأمرُ صريحاً كان أو مفهوماً من الحكاية للاستحباب ومن تبعيضية والمقام اسمُ مكانٍ وهو الحجَرُ الذي عليه أثر قدمُه عليه السلام والموضعُ الذي كان عليه حين قام ودعا الناسَ إلى الحجِّ أو حين رفع قواعدَ البيت وهو موضعُه اليوم ، والمراد بالمصلى إما موضعُ الصلاة أو موضعُ الدعاء . رُوي أنه صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عمرَ رضي الله عنه فقال : « هذا مقامُ إبراهيم » فقال عمر رضي الله عنه : أفلا نتخذهُ مصلًّى فقال : « لم أُومرْ بذلك » فلم تغِبْ الشمسُ حتى نزلتْ . وقيل : المرادُ به الأمرُ بركعتي الطواف لما روى جابر رضي الله عنه أنه عليه السلام لما فرَغ من طوافه عمَد إلى مقامِ إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ : { واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى } وللشافعي في وجوبِهما قولان وقيل : مقامُ إبراهيمَ الحرمُ كلهُ وقيل : مواقفُ الحج عرفةُ والمزدَلِفةُ والجِمارُ ، واتخاذُها مصلى أن يدعى فيها ويتقرَّبَ إلى الله عز وجل وقرىء واتخَذوا على صيغة الماضي عطفاً على جعلنا أي واتخذ الناسُ من مكان إبراهيمَ الذي وُسِمَ به لاهتمامه به وإسكان ذريته عنده قِبلةً يصلّون إليها { وَعَهِدْنَا إلى إبراهيم وإسماعيل } أي أمرناهما أمراً مؤكداً { أَن طَهّرَا بَيْتِىَ } بأن طهِّراه ، على أنّ ( أنْ ) مصدرية حذف عنها الجارُّ حذفاً مطرداً لجوازِ كون صلتِها أمراً ونهياً كما في قوله عز وجل :(1/199)
{ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا } لأن مدارَ جوازِ كونها فعلاً إنما هو دِلالتُه على المصدر وهي متحققةٌ فيهما ، ووجوبُ كونِها خبرية في صلةِ الموصول الاسمي إنما هو للتوصّل إلى وصف المعارفِ بالجمل ، وهي لا يوصف بها إلا إذا كانت خبرية ، وأما الموصولُ الحرفيُّ فليس كذلك ولما كان الخبر والإنشاء في الد2لالة على المصدرِ سواءً ساغَ وقوعُ الأمر والنهي صلةً حسب وقوعِ الفعل فيتجرّد عند ذلك عن معنى الأمر والنهي ، نحوُ تجردِ الصلةِ الفعليةِ عن معنى المضيّ والاستقبال ، أو أنْ طهراه على أنّ «أنْ» مفسرة لتضمن العهدِ معنى القولِ ، وإضافةُ البيت إلى ضمير الجلالة للتشريف ، وتوجيهُ الأمر بالتطهيرِ ههنا إليهما عليهما السلام لا ينافي ما في سورةِ الحج من تخصيصِه بإبراهيمَ عليه السلامُ فإنَّ ذلك واقعٌ قبلَ بناءِ البيتِ كما يُفصِحُ عنه قولُه تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت } وكان إسماعيلُ عليه السلام حينئذ بمعزلٍ من مثابةِ الخطابِ وظاهرٌ أنَّ هذا بعدَ بلوغِه مبلغَ الأمرِ والنهي وتمامِ البناء بمباشرته كما ينبىء عنه إيرادُهُ إثرَ حكايةِ جعلهِ مثابةً للناسِ الخ ، والمرادُ تطهيرُه من الأوثانِ والأنجاسِ وطواف الجنُب والحائضِ وغيرِ ذلك مما لا يليقُ به { لِلطَّائِفِينَ } حوله { والعاكفين } المجاورين المقيمين عنده أو المعتكفين أو القائمين { والركع السجود } جمع راكع وساجد أي للطائفين والمصلين لأنَّ القيامَ والركوعَ والسجودَ من هيئاتِ المصلي ولتقاربِ الأخيرين ذاتاً وزماناً ترك العاطف بين موصوفيهما . أو أخلِصاه لهؤلاءِ لئلا يغشاهُ غيرُهم وفيه ، إيماءٌ إلى أن ملابسةَ غيرِهم به وإن كانت مع مقارنةِ أمرٍ مباحٍ مِن قبيلِ تلويثِه وتدنيسِه .(1/200)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
{ وَإِذْ قَالَ إبراهيم } عطفٌ على ما قبلَهُ منْ قولِه : وإذ جعلنا الخ إما بالذاتِ أو بعاملِه المضمرِ كما مرَّ { رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا } ذا أمنٍ كعيشةٍ راضيةٍ أو آمناً أهلُهُ كليلةِ نائم أي اجعل هذا الواديَ من البلادِ الآمنة وكان ذلك أول ما قَدِمَ عليه السلام مكة كما روى سعيدُ بنُ جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم أنه عليه الصلاة والسلام لما أسكنَ إسمعيلَ وهاجَر هناك وعادَ متوجهاً إلى الشام تَبعتْه هاجرُ فجعلتْ تقول : إلى من تَكِلُنا في هذا البلقَعِ وهو لا يَرُدُّ عليها جواباً حتى قالت آلله أمرك بهذا فقال : نعمْ قالت : إذنْ لا يُضيِّعُنا فرضِيَتْ ومضى حتى إذا استوى على ثَنِيّةِ كَداءٍ أقبل على الوادي فقال : «ربنا إني أسكنت» الآية وتعريفُ البلدِ مع جعلِه صفة لهذا في سورة إبراهيم إن حمل على تعدد السؤال لما أنه عليه السلام سأَلَ أولاً كلا الأمرين البلديةِ والأمنِ فاسْتُجيبَ له في أحدِهما وتأخرَ الآخرُ إلى وقته المقدر له لما تقتضيه الحكمةُ الباهِرَةُ ثمَّ كرَّرَ السؤالَ حسبما هو المعتادُ في الدعاءِ والابتهالِ أو كان المسؤولُ أولاً البلديةَ ومجردَ الأمنِ المصححِ للسُكنى كما في سائرِ البلاد وقد أجيبَ إلى ذلك ، وثانياً الأمنُ المعهودُ أو كان هو المسؤول أولاً أيضاً وقد أجيب إليه لكنَّ السؤالَ الثانيَ لاستدامتِه ، والاقتصارُ على سؤالِه مع جعلِ البلدِ صفةً لهذا لأنهُ المقصِدُ الأصليُّ أو لأنَّ المعتادَ في البلدية الاستمرارُ بعد التحقق بخلافِ الأمنِ وإن حمل على وحدةِ السؤالِ وتكرُرِ الحكايةِ كما هو المتبادرُ فالظاهرُ أن المسؤولَ كلا الأمرين . وقد حُكي ذلك ههنا واقتُصرَ هناك على حكايةِ سؤالِ الأمنِ اكتفاءً عن حكايةِ سؤالِ البلديةِ بحكايةِ سؤال جعل أفئدة الناس تهوي إليه كما سيأتي تفصيلُه هناك بإذنِ الله عز وجل { وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات } من أنواعها بأن تجعلَ بقربٍ منه قرُىً يحصُل فيها ذلك أو يجبى إليه من الأقطارِ الشاسعةِ وقد حصل كلاهما حتى إنه يجتمعُ فيه الفواكهُ الربيعيةُ والصيفيةُ والخريفية في يومٍ واحدٍ . روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الطائفَ كانت من أرض فلِسطينَ فلما دعا إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام بهذه الدعوة رفعها الله تعالى فوضعَها حيث وضعها رزقاً للحرم وعن الزهري : أنه تعالى نقل قرية من قرى الشام فوضعها بالطائف لدعوةِ إبراهيم عليه الصلاة والسلام { مَنْ ءامَنَ مِنْهُم بالله } بدلٌ من أهلِه بدلَ البعض ، خصهم بالدعاء إظهاراً لشرفِ الإيمان وإبانةً لخطره واهتماماً بشأن أهلِهِ ومراعاةً لحسنِ الأدبِ وفيه ترغيب لقومِه في الإيمان وزجر عن الكفر كما أن في حكايتِه ترغيباً وترهيباً لقريش وغيرهم من أهل الكتاب { قَالَ } استئنافٌ مبنيٌّ على السؤال كما مر مراراً وقوله تعالى : { وَمَن كَفَرَ } عطفٌ على مفعولِ فعلٍ محذوف تقديره ارزقْ من آمن ومن كفر وقولُه تعالى : { فَأُمَتّعُهُ } معطوفٌ على ذلك الفعل أو في محل رفع بالابتداء وقولُه تعالى : فأمتعه خبرُه أي فأنا أمتعُهُ وإنما دخلته الفاءُ تشبيهاً له بالشرط .(1/201)
والكفرُ وإن لم يكنْ سبباً للتمتيعِ المطلقِ لكنه يصلح سبباً لتقليلِه وكونِه موصولاً بعذابِ النار ، وقيلَ : هو عطفٌ على من آمن عطفَ تلقينٍ كأنه قيلَ : قلْ وارزقْ من كفرَ فإنه أيضاً مجابٌ كأنَّهُ عليه السلامُ قاسَ الرزقَ على الإمامة فنبههُ تعالى على أنهُ رحمةٌ دنيويةٌ شاملةٌ للبَرِّ والفاجرِ بخلافِ الإمامةِ الخاصةِ بالخواص وقرىء فأُمْتِعُه من أمتع وقرىءَ فنمُتِّعُه { قَلِيلاً } تمتيعاً قليلاً أو زماناً قليلاً { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار } أي أَلُزُّهُ إليه لزَّ المضطرِ لكفرِه وتضييعِه ما متّعتُه به من النعمِ وقرىءَ ثمَّ نضطَرُّه على وفق قراءة فنُمتِّعه وقرىء فأَمتِعْه قليلاً ثم اضْطَرَّهُ بلفظ الأمرِ فيهما على أنهما من دعاء إبراهيم عليه السلامُ وفي ( قال ) ضميره وإنما فصلُه عما قبله لكونِه دعاءً على الكفرة ، وتغيير سبكهِ للإيذانِ بأنَّ رَ سببٌ لاضطرارهم إلى عذابِ النارِ وأمالكفرَ رزقُ من آمن فإنما هو على طريقةِ التفضّلِ والإحسانِ وقرىءَ بكسر الهمزةِ على لغةِ من يكسرُ حرفَ المضارعةِ وأَطَّرُّه بإدغام الضادِ في الطاء وهي لغةٌ مرذولةٌ فإنَّ حروفَ ( ضم شفر ) يُدغمُ فيها ما يجاورُها بلا عكسِ { وَبِئْسَ المصير } المخصوص بالذم محذوفٌ أي بئس المصيرُ النارُ أو عذابُها .(1/202)
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت } عطفٌ على ما قبله من قوله عز وعلا : { وَإِذْ قَالَ إبراهيم } على أحد الطريقين المذكورين في ( وإذ جعلنا ) وصيغةُ الاستقبال لحكايةِ الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتها العجيبةِ المنبثقة عن المعجزةِ الباهرةِ ، والقواعدُ جمع قاعدة وهي الأساسُ صفةٌ غالبة من القعود بمعنى الثبات ، ولعله مجازٌ من مقابل القيام ومنه قعدك الله ، ورفعِه البناءَ عليها لأنه ينقُلها من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاعِ ، والمرتفعُ حقيقة وإن كان هو الذي بُني عليها لكنهما لمّا التأما صارا شيئاً واحداً فكأنها نمت وارتفعت ، وقيل : المراد بها ساقاتُ البناء فإن كل ساقٍ قاعدةٌ لما يبنى عليها ويرفعها بناءَ بعضِها على بعض ، وقيل : المرادُ برفعها رفعُ مكانةِ البيت وإظهارُ شرفِه ودعاءُ الناس إلى حجِّه ، وفي إبهامها أولاً ثم تبيينِها من تفخيم شأنها ما لا يخفى وقيل : المعنى وإذ يرفع إبراهيمُ ما قعد من البيت واستوطأ ، يعني يجعل هيئةَ القاعدةِ المستَوطَأةِ مرتفعةً عالية بالبناء ، رُوي أن الله عز وجل أنزل البيتَ ياقوتةً من يواقيت الجنة له بابانِ من زُمُرُّذ شرقي وغربي وقال لآدمَ : أهبطتُ لك ما يُطاف به كما يطاف حول عرشي فتوجه آدمُ من أرضِ الهندِ إلى مكةَ ماشياً وتلقَتْه الملائكةُ فقالوا : بَرَّ حجَّك يا آدمُ لقد حجَجْنا هذا البيتَ قبلك بألفي عام ، وحج آدمُ عليه السلام أربعينَ حجةً من أرض الهند إلى مكةَ على رجليه فكان على ذلك إلى أن رفعه الله أيامَ الطوفان إلى السماءِ الرابعةِ فهو البيتُ المعمور وكان موضعُه خالياً إلى زمن إبراهيمَ عليه السلام فأمره سبحانه ببنائه وعرَّفه جبريلُ عليه السلام بمكانه وقيل : بعث الله السكينةَ لتدلَّه عليه فتبعها إبراهيم عليه السلام حتى أتى مكة المعظّمة . وقيل : بعث الله سَحابةً على قدْرِ البيت وسار إبراهيمُ في ظلها إلى أن وافت مكةَ المعظمةَ فوقفت على موضع البيت فنُودي أنِ ابْنِ على ظلّها ولا تزدْ ولا تنقُصْ . وقيل : بناه من خمسة أجبُل : طورِ سَيْناء ، وطورِ زيتا ، ولبنانَ ، والجُوديِّ وأسّسه من حِراءَ . وجاء جبريلُ عليه السلام بالحجر الأسود من السماء . وقيل : تمخّض أبو قُبَيْس فانشقَّ عنه وقد خُبِىءَ فيه في أيام الطوفان وكان ياقوتةً بيضاءَ من يواقيتِ الجنة فلما لمستْه الحُيَّضُ في الجاهلية اسودّ . وقال الفاسيّ في مثير الغرام في تاريخ البلد الحرام والذي يتحصل من جملة ما قيل في عدد بناء الكعبة أنها بنيت عشرَ مرات منها بناءُ الملائكة عليهم السلام ذكره النووي في تهذيب الأسماءِ واللغات والأزرقيُّ في تاريخه وذكر أنه كان قبل خلقِ آدمَ عليه السلام ومنها بناءُ آدمَ عليه السلام ذكره البيهقي في دلائل النبوة وروى فيه عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : بعث الله عز وجل جبريلَ إلى آدمَ عليهما السلام فقال له ولحواءَ : ابنِيا لي بَيْتاً فحطَّ جبريلُ وجعل آدمُ يحفِرُ وحواءُ تنقُل الترابَ حتى إذا أصاب الماء نودي من تحته حسبُك آدمُ فلما بنياه أوحى إليه أن يطوفَ به فقيل له : أنت أولُ الناس وهذا أولُ بيتٍ وهكذا ذكره الأزرقي في تاريخه وعبدُ الرزاق في مصنفه .(1/203)
ومنها بناءُ بني آدم عندما رُفعت الخيمة التي عزّى الله تعالى بها آدم عليه السلام وكانت ضُربت في موضع البيت فبنى بنوه مكانَها بيتاً من الطين والحجارة فلم يزل معموراً يعمرُونه هم ومن بعدهم إلى أن مسَّه الغرق في عهد نوح عليه السلام ذكره الأزرقيُّ بسنده إلى وهْب بن منبه ومنها بناءُ الخليل عليه السلام وهو منصوصٌ عليه في القرآن مشهور فيما بين قاصٍ ودان ومنها بناءُ العمالقة ومنها بناء جُرْهُم ذكرهما الأزرقيُّ بسنده إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومنها بناءُ قصيِّ بنِ كلاب ذكره الزبيرُ بن بكار في كتاب النَّسَب . ومنها بناءُ قريشٍ وهو مشهور ومنها بناءُ عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنهما ومنها بناءُ الحجاج بنِ يوسُفَ وما كان ذلك بناءً لكلِّها بل لجدار من جدرانها . وقال الحافظ السهيلي : إن بناءها لم يكن في الدهر إلا خمسَ مرات الأولى حين بناها شيْثُ عليه السلام انتهى والله سبحانه أعلم { وإسماعيل } عطف على إبراهيمَ ولعل تأخيرَه عن المفعول للإيذان بأن الأصلَ في الرفع هو إبراهيمُ وإسماعيلُ تبعٌ له قيل : إنه كان يناوله الحجارةَ وهو يبنيها وقيل : كانا يبنيانِه من طرَفيه { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } على إرادة القولِ أي يقولان وقد قرىء به على أنه حالٌ منهما عليهما السلام وقيل : على أنه هو العاملُ في إذْ والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها والتقديرُ ويقولان ربنا تقبلْ منا إذ يرفعان أيْ وقتَ رفعِهما ، وقيل : وإسماعيلُ مبتدأٌ خبرُه قولٌ محذوفٌ وهو العامل في ( ربنا تقبل منا ) فيكون إبراهيمُ هو الرافعَ وإسماعيلُ هو الداعيَ ، والجملةُ في محل النصبِ على الحالية أي وإذ يرفع إبراهيمُ القواعدَ والحالُ أن إسماعيلَ يقولُ : ربنا تقبل منا . والتعرضُ لوصف الربوبية المنبئة عن إفاضة ما فيه صلاحُ المربوبِ مع الإضافة إلى ضميرهما عليهما السلام لتحريك سلسلةِ الإجابةِ ، وتركُ مفعول تقبّل مع ذكره في قوله تعالى : { رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء } ليعُم الدعاءُ وغيره من القُرَب والطاعات التي من جملتها ما هما بصدده من الثناء كما يُعرب عنه جعلُ الجملة الدعائية حالية { إِنَّكَ أَنتَ السميع } لجميع المسموعات التي من جملتها دعاؤُنا { العليم } بكل المعلومات التي من زُمرتها نياتُنا في جميع أعمالِنا ، والجملة تعليلٌ لاستدعاء التقبّل لا من حيث إن كونَه تعالى سميعاً لدعائهما عليماً بنياتهما مصححٌ للتقبل في الجملة بل من حيث إن علمَه تعالى بصحة نياتهما وإخلاصِهما في أعمالهما مستدعٍ له بموجَب الوعدِ تفضُّلاً ، وتأكيدُ الجملة لغرض كمالِ قوةِ يقينِهما بمضمونها ، وقصرُ نعتي السمع والعلمِ عليه تعالى لإظهار اختصاصِ دعائهما به تعالى وانقطاعِ رجائهما عما سواه بالكلية .(1/204)
واعلم أن الظاهر أن أولَ ما جرى من الأمور المحكية هو الابتلاءُ وما يتبعه ، ثم دعاءُ البلديةِ والأمنِ وما يتعلق به ثم رفعُ قواعدِ البيت وما يتلوه ثم جعلُه مثابةً للناس والأمرُ بتطهيره ، ولعل تغيير الترتيب الوقوعيِّ في الحكاية لنظم الشؤون الصادرةِ عن جنابه تعالى في سلك مستقلٍ ونظمِ الأمور الواقعةِ من جهة إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما السلام من الأفعال والأقوال في سلك آخرَ . وأما قوله تعالى : ومن كفر الخ فإنما وقع في تضاعيف الأحوال المتعلقةِ بإبراهيم لاقتضاءِ المقام ، واستيجابِ ما سبق من الكلام ذلك بحيث لم يكن بدٌّ منه أصلاً كما أن وقوعَ قوله عليه السلام : ( ومن ذريتي ) في خلال كلامِه سبحانه لذلك .(1/205)
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
{ رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } مخلِصين لك أو مستسلمين من أَسلم إذا استسلم وانقادَ وأياً ما كان فالمطلوبُ الزيادةُ والثباتُ على ما كانا عليه من الإخلاصِ والإذعانِ وقرىء مسلِمين على صيغة الجمع بإدخال هاجَرَ معهما في الدعاء أو لأن التثنية من مراتب الجمع .
{ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } أي واجعل بعضَ ذريتنا وإنما خصهم بالدعاء لأنهم أحقُّ بالشفقة ولأنهم إذا صلَحوا صلَح الأتباع وإنما خَصّا به بعضَهم لمّا علما أن منهم ظلمةً وأن الحكمة الإلهية لا تقتضي اتفاقَ الكل على الإخلاص والإقبالَ الكلي على الله عز وجل فإن ذلك مما يُخلُّ بأمر المعاش ولذلك قيل : لولا الحمقى لخَرِبَتِ الدنيا وقيل : أراد بالأمة المسلمة أمةَ محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد جوّز أن يكونَ ( من ) مبينة قدّمت على المبين وفُصل بها بين العاطف والمعطوف كما في قوله تعالى : { وَمِنَ الارض مِثْلَهُنَّ } والأصلُ وأمةً مسلمةً لك من ذريتنا { وَأَرِنَا } من الرؤية بمعنى الإبصارِ أو بمعنى التعريفِ أي بصِّرنا أو عرِّفنا { مَنَاسِكَنَا } أي متعبداتِنا في الحج أو مذابحَنا ، والنُسُك في الأصل غايةُ العبادة وشاعَ في الحج لما فيه من الكُلفة والبعد عن العادة وقرىء أرنا قياساً على فخذ في فخذ وفيه إجحاف لأن الكسرة المنقولة من الهمزة الساقطةِ دليل عليها وقرىء بالاختلاس { وَتُبْ عَلَيْنَا } استتابة لذريتهما ، وحكايتُها عنهما لترغيب الكفرةِ في التوبة والإيمانِ أو توبةٌ لهما عما فرط منهما سهواً ولعلهما قالاه هضماً لأنفسهما وإرشاداً لذريتهما { إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم } وهو تعليلٌ للدعاء ومزيدُ استدعاء للإجابة قيل : إذا أراد العبد أن يُستجاب له فليدع الله عز وجل بما يناسبه من أسمائه وصفاتِه { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ } أي في الأمة المسلمة { رَسُولاً مّنْهُمْ } أي من أنفسهم فإن البعث فيهم لا يستلزم البعثَ منهم ولم يُبعث من ذريتهما غيرُ النبي صلى الله عليه وسلم فهو الذي أُجيب به دعوتُهما عليهما السلام رُوي أنه قيل له : قد استُجيب لك وهو في آخر الزمان قال عليه السلام : « أنا دعوةُ أبي إبراهيمَ وبُشرى عيسى ورُؤيا أمي » وتخصيصُ إبراهيمَ عليه السلام بالاستجابة له أنه الأصل في الدعاء وإسماعيلُ تبعٌ له عليه السلام { يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياتك } يقرأ ويبلغهم ما يوحى إليه من البينات { وَيُعَلّمُهُمُ } بحسب قوتِهم النظرية { الكتاب } أي القرآن { والحكمة } وما يُكمل به نفوسَهم من أحكام الشريعة والمعارف الحقة { وَيُزَكّيهِمْ } بحسب قوتهم العملية أي يطهِّرهم عن دنس الشرك وفنون المعاصي { إِنَّكَ أَنتَ العزيز } الذي لا يُقهر ولا يغلب على ما يريد { الحكيم } الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمةُ والمصلحةُ ، والجملة تعليلٌ للدعاء وإجابةِ المسؤول فإن وصفَ الحكمةِ مقتضٍ لإفاضة ما تقتضيه الحِكمةُ من الأمور التي من جملتها بعثُ الرسول ، ووصفُ العزة مستدعٍ لامتناع وجود المانِع بالمرة .(1/206)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إبراهيم } إنكارٌ واستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغبُ عن ملته التي هي الحقُّ الصريحُ والدين الصحيحُ أي لا يرغب عن ملته الواضحةِ الغراء { إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } أي أذلّها واستمهَنها واستخَفّ بها ، وقيل : خسِر نفسه وقيل : أوبقَ أو أهلكَ أو جهَّلَ نفسَه . قال المبرِّدُ وثعلبٌ : سفِه بالكسر متعدَ وبالضم لازم ، ويشهد له ما ورد في الخبر : «أنْ تَسْفَه الحَقَّ وتَغْمِصَ النَّاسَ» وقيل : معناه ضل من قِبَل نفسِه وقيل : أصلُه سفِه نفسُه بالرفع فنصب على التمييز نحو غَبِن رأيُه وألِمَ رأسُه ونحو قوله :
ونأخُذُ بعده بذِناب عيش ... أجبِّ الظهرِ ليس له سَنامُ
وقوله :
وما قومي بثعلبةَ بن سعد ... ولا بفزارةَ الشُّعْرَ الرقابا
ذلك لأنه إذا رغب عما لا يرغب عنه أحدٌ من العقلاء فقد بالغ في إذلالِ نفسه وذلتها وإهانتِها حيث خالف بها كلَّ نفس عاقلة . روي أن عبد اللَّه بن سلام دعا ابني أخيه سلمةَ ومُهاجِراً إلى الإسلام فقال لهما : قد علمنا أن الله تعالى قال في التوراة : إني باعثٌ من ولد إسماعيل نبياً اسمُه أحمدُ فمن آمن به فقد اهتدى ورشَد ومن لم يؤمن فهو ملعون فأسلم سلمةُ وأبي مهاجر فنزلت { وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا } أي اخترناه بالنبوة والحكمة من بين سائر الخلق وأصله اتخاذُ صفوة الشيء كما أن أصلَ الاختيارِ اتخاذُ خيرِه واللامُ جواب قسم محذوف والواو اعتراضية والجملة مقررة لمضمون ما قبلها أي وبالله لقد اصطفيناه وقوله تعالى : { وَإِنَّهُ فِى الاخرة لَمِنَ الصالحين } أي من المشهود لهم بالثبات على الاستقامة والخير والصلاح ، معطوفٌ عليها داخلٌ في حيز القسم مؤكدٌ لمضمونها مقرِّرة لما تقرِّره ولا حاجة إلى جعله اعتراضاً آخرَ أو حالاً مقدرة فإن مَنْ كان صفوةً للعباد في الدنيا مشهوداً له بالصلاح في الآخرة كان حقيقاً بالاتباع لا يَرغبُ عن ملته إلا سفيهٌ أو متسفّهٌ أذل نفسَه بالجهل والإعراض عن النظر والتأمل ، وإيثارُ الاسمية لما أن انتظامه في زُمرة صالحي أهلِ الآخرة أمرٌ مستمرٌ في الدارين لا أنه يحدُث في الآخرة ، والتأكيدُ ( بإن ) واللام لما أن الأمورَ الأخروية خفية عند المخاطبين فحاجتُها إلى التأكيد أشدُّ من الأمور التي تُشاهد آثارُها ، وكلمة ( في ) متعلقةٌ بالصالحين على أن اللام للتعريف وليست بموصولة حتى يلزم تقديمُ بعض الصلة عليها على أنه قد يُغتفر في الظرف ما لا يغتفر في غيره كما في قوله :
ربيتُه حتى إذا تَمْعَددا ... كان جزائي بالعصا أن أُجلَدا
أو بمحذوف من لفظه أي وأنه لصالحٌ في الآخرة لمن الصالحين أو من غير لفظه أي أعني في الآخرة نحو لك بعدَ رَعْياً وقيل : هي متعلقةٌ باصطفيناه على أن في النظم الكريم تقديماً وتأخيراً تقديرُه ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين .(1/207)
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
{ إِذْ قَالَ لَهُ } ظرفٌ لاصطفيناه لما أن المتوسِّط ليس بأجنبي بل هو مقرِّر له لأن اصطفاءه في الدنيا إنما هو بالنبوة وما يتعلق بصلاح الآخرة أو تعليلٌ له منصوب باذكُرْ كأنه قيل : اذكر ذلك الوقتَ لتقف على أنه المصطفى الصالحُ المستحِقُّ للإمامة والتقدم ، وأنه ما نال ما نال إلا بالمبادرة إلى الإذعان والانقياد لما أُمر به وإخلاصِ سرِّه على أحسنِ ما يكون حين قال له { رَبُّهُ أَسْلِمْ } أي لربك { قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ العالمين } وليس الأمرُ على حقيقته بل هو تمثيلٌ والمعنى أخطر بباله دلائلَ التوحيد المؤديةَ إلى المعرفة الداعيةَ إلى الإسلام من الكوكب والقمر والشمسِ وقيل : أسلم أي أذعِنْ وأطع وقيل : اثبُتْ على ما أنت عليه من الإسلام والإخلاصِ أو استقمْ وفوِّضْ أمورك إلى الله تعالى فالأمرُ على حقيقته ، والالتفاتُ مع التعرض لعنوان الربوبيةِ والإضافةِ إليه عليه السلام لإظهارِ مزيدِ اللطفِ به والاعتناءِ بتربيته ، وإضافةُ الرب في جوابه عليه الصلاة والسلام إلى ( العالمين ) للإيذان بكمال قوةِ إسلامِه حيث أيقنَ حين النظر بشمولِ ربوبيتِه للعالمين قاطبةً لا لنفسِه وحده كما هو المأمور به { ووصى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ } شروعٌ في بيان تكميلِه عليه السلام لغيره إثرَ بيانِ كماله في نفسه وفيه توكيدٌ لوجوب الرغبة في مِلته عليه السلام ، والتوصيةُ التقدمُ إلى الغير بما فيه خيرٌ وصلاح للمسلمين من فعلٍ أو قولٍ ، وأصلُها الوَصْلة يقال : وصّاه إذا وصَله وفصّاه إذا فَصَله كأن الموصِيَ يصِلُ فعلُه بفعل الوصيّ ، والضمير في بها للمِلّة أو قولِه أسلمتُ لرب العالمين بتأويل الكلمة كما عبر بها عن قوله تعالى : { إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الذى فَطَرَنِى } في قوله عز وجل : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً باقية فِى عَقِبِهِ } وقرىء أوصى والأول أبلغُ { وَيَعْقُوبَ } عطفٌ على إبراهيمُ أي وصَّى بها هو أيضاً بنيه وقرىء بالنصب عطفاً على بنيه { أَوْ بَنِى } على إضمار القولِ عند البصريين ومتعلق بوصَّى عند الكوفيين لأنه في معنى القول كما في قوله :
رَجْلانِ من ضَبَّةَ أخبرانا ... إنا رأَيْنا رَجُلاً عُريانا
فهو عند الأولين بتقدير القول وعند الآخرين متعلق بالإخبار الذي هو في معنى القول وقرىء أن يا بني ، وبنو إبراهيمَ عليه السلام كانوا أربعةً : إسماعيلُ وإسحاقُ ومدينُ ومدان وقيل : ثمانيةٌ وقيل : أربعةً وعشرين وكان بنو يعقوبَ اثني عشرَ : روبين وشمعون ولاوي ويهوذا ويشسوخور وزبولون وزوانا وتفتونا وكوذا وأوشير وبنيامين ويوسف عليه السلام { إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين } دين الإسلام الذي هو صفوةُ الأديان ولا دينَ غيرُه عنده تعالى : { فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } ظاهرُه النهيُ عن الموت على خلاف حال الإسلام والمقصودُ الأمرُ بالثبات على الإسلام إلى حين الموتِ أي فاثبُتوا عليه ولا تفارقوه أبداً كقولك : لا تصلِّ إلا وأنت خاشِعٌ ، وتغييرُ العبارة للدلالة على أن موتهم لا على الإسلام موتٌ لا خيرَ فيه وأن حقه أن لا يِحلَّ بهم وأنه يجب أن يحذَروه غايةَ الحذَر ، ونظيرُه مُتْ وأنت شهيدٌ رُوي أن اليهودَ قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ألستَ تعلم أن يعقوبَ أوصى باليهودية يوم مات؟(1/208)
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
فنزلت { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت } أم منقطعةٌ مقدّرة ببل والهمزة ، والخطابُ لأهل الكتاب الراغبين عن ملة إبراهيمَ وشهداءَ جمع شهيد أو شاهد بمعنى الحاضِر و ( إذ ) ظرفٌ لشهداءَ والمرادُ بحضور الموت حضورُ أسبابه وتقديمُ يعقوبَ عليه السلام للاهتمام به إذ المرادُ بيانُ كيفية وصيته لبنيه بعد ما بين ذلك إجمالاً ومعنى بل الإضرابُ والانتقال عن توبيخهم على رغبتهم عن ملة إبراهيم عليه السلام إلى توبيخهم على افترائهم على يعقوبَ عليه السلام باليهودية حسبما حُكي عنهم وأما تعميمُ الافتراء ههنا لسائر الأنبياءِ عليهم السلام كما قيل فيأباه تخصيصُ يعقوبَ بالذكر ، وما سيأتي من قوله عز وجل : { أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إبراهيم } الخ ومعنى الهمزة إنكارُ وقوعِ الشهود عند احتضارِه عليه السلام وتبكيتُهم ، وقولُه تعالى : { إِذْ قَالَ } بدلٌ من إذ حَضَر أي ما كنتم حاضرين عند احتضارِه عليه السلام وقولِه : { لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى } أي أيَّ شيءٍ تعبدُونه بعد موتي فمن أين لكم أن تدّعوا عليه عليه السلام ما تدّعون رجماً بالغيب وعند هذا تم التوبيخُ والإنكار والتبكيتُ ، ثم بَيّن أن الأمر قد جُرِّبَ حينئذ على خلاف ما زعموا وأنه عليه السلام أراد بسؤاله ذلك تقريرَ بنيه على التوحيد والإسلامِ وأخذَ ميثاقِهم على الثبات عليهما إذ به يتِمُّ وصيّتُه بقوله : فلا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمونَ . و ( ما ) يُسأل به عن كل شيء ما لم يُعرَّفْ فإذا عُرِّف خَصَّ العقلأَ بمَنْ إذا سئل عن شيء بعينه وإنْ سُئل عن وصفِه قيل : ما زيدٌ؟ أفقيهٌ أم طبيبٌ؟ فقوله تعالى : { قَالُواْ } استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال نشأ عن حكاية سؤال يعقوبَ عليه السلام كأنه قيل : فماذا قالوا عند ذلك فقيل قالوا : { نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } حسبما كان مرادُ أبيهم بالسؤال أي نعبدُ الإله المتفَّقَ على وجوده وإلهيته ووجوبِ عبادته ، وعَدُّ إسماعيلَ من آبائه تغليباً للأب والجد لقوله عليه الصلاة والسلام : « عمُ الرجل صِنْوُ أبيه » وقولِه عليه السلام في العباس : « هذا بقيةُ آبائي » وقرىء أبيك على أنه جمع بالواو والنون كما في قوله :
فلما تَبَيَّنَّ أصواتَنا ... بكَيْنَ وفَدَّيْننا بالأبينا
وقد سقطت النون بالإضافة ، أو مفردٌ وإبراهيمُ عطفُ بيانٍ له وإسماعيلَ وإسحاقَ معطوفان على أبيك { إلها واحدا } بدل من إله آبائك كقوله تعالى : { بالناصية * نَاصِيَةٍ كاذبة } وفائدته التصريحُ بالتوحيد ودفعُ التوهم الناشىءِ من تكرير المضافِ لتعذر العطفِ على المجرور أو نُصب على الاختصاص { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } حال من فاعل نعبدُ أو من مفعوله أو منهما معاً ، ويُحتمل أن يكون اعتراضاً محقّقاً لمضمون ما سبق .(1/209)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
{ تِلْكَ أُمَّةٌ } مبتدأٌ وخبرٌ ، والإشارةُ إلى إبراهيمَ ويعقوبَ وبَنِيهما الموحِّدين ، والأمةُ هي الجماعة التي تؤمّها فِرقُ الناس أي يقصِدونها ويقتدون بها { قَدْ خَلَتْ } صفة للخبر أي مضت بالموت وانفردت عمن عداها ، وأصلُه صارت إلى الخلاء وهي الأرضُ التي لا أنيس بها { لَهَا مَا كَسَبَتْ } جملةٌ مستأنفةٌ لا محل لها من الإعراب أو صفةٌ أخرى لأمة ، أو حال من الضمير في خلت وما موصولةٌ أو موصوفةٌ والعائدُ إليها محذوف أي لها ما كسبَتْه من الأعمال الصالحةِ المحكيةِ لا تتخطاها إلى غيرها فإن تقديمَ المُسندِ يوجب قصْرَ المُسند إليه عليه كما هو المشهور { وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم } عطف على نظيرتها على الوجه الأول ، وجملةٌ مبتدأة على الوجهين الأخيرين إذ لا رابطَ فيها ولا بد منه في الصفة ، ولا مقارنة في الزمان ولا بد منها في الحال أي لكم ما كسبتموه لا ما كسبه غيرُكم فإن تقديمَ المسند قد يُقصد به قصرُه على المسند إليه كما قيل في قوله تعالى : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ } أي ولي ديني لا دينُكم وحملُ الجملة الأولى على هذا القصر على معنى أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا كما قيل مما لا يساعده المقامُ إذ لا يَتوهم متوهِّم انتفاعَهم بكسب هؤلاء حتى يُحتاج إلى بيان امتناعِه وإنما الذي يُتوهم انتفاعُ هؤلاء بكسبهم فبين امتناعَه بأن أعمالَهم الصالحة مخصوصةٌ بهم لا تتخطاهم إلى غيرهم وليس لهؤلاء إلا ما كسبوا فلا ينفعُهم انتسابُهم إليهم وإنما ينفعهم اتباعُهم لهم في الأعمال كما قال عليه السلام : « يا بني هاشم لا يأتيني الناسُ بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم » { وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } إن أجريَ السؤالُ على ظاهره فالجملةُ مقرِّرة لمضمون ما مرَّ من الجملتين تقريراً ظاهراً وأن أريد به سببُه أعني الجزاءَ فهو تتميمٌ لما سبق جارٍ مَجرى النتيجةِ له وأياً ما كان فالمرادُ تخييبُ المخاطَبين وقطعُ أطماعِهم الفارغةِ عن الانتفاع بحسناتِ الأمةِ الخاليةِ وإنما أُطلق العملُ لإثبات الحكم بالطريقِ البرهاني في ضمن قاعدة كليةٍ ، هذا وقد جعل السؤال عبارةً عن المؤاخذة والموصول عن السيئات فقيل : أي لا تؤاخَذون بسيئاتهم كما لا تثابون بحسناتهم ، ولا ريب في أنه مما لا يليق بشأن التنزيلِ كيف لا وهم منزّهون من كسب السيئاتِ فمن أين يُتصوَّر تحميلُها على غيرهم حتى يُتصَدَّى لبيان انتفاعِه { وَقَالُواْ } شروع في بيان فنٍ آخرَ من فنون كفرِهم وهو إضلالُهم لغيرهم إثرَ بيانِ ضلالِهم في أنفسهم والضمير لأهل الكتابين على طريقة الالتفاتِ المُؤْذن باستيجاب حالِهم لإبعادهم من مقام المخاطبةِ والإعراضِ عنهم وتعديدِ جناياتهم عند غيرهم أي قالوا للمؤمنين : { كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى } ليس هذا القولُ مقولاً لكلّهم أو لأيّ طائفةٍ كانت من الطائفتين بل هو موزَّعٌ عليهما على وجه خاصَ يقتضيه حالُهما اقتضاءً مُغنياً عن التصريح به أي قالت اليهودُ : كونوا هوداً ، والنصارى : كونوا نصارى ففَعل بالنظم الكريم ما فَعل بقوله تعالى :(1/210)
{ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى } اعتماداً على ظهور المراد { تَهْتَدُواْ } جواب الأمر أن تكونوا كذلك تهتدوا { قُلْ } خطابٌ للنبي صلى الله عليه وسلم أي قل لهم على سبيل الردِّ عليهم وبيانِ ما هو الحقُّ لديهم وإرشادِهم إليه { بَلْ مِلَّةَ إبراهيم } أي لا نكون كما تقولون بل نكون أهلَ ملتِه عليه السلام وقيل : بل نتبعُ مِلّته عليه السلام ، وقد جُوِّز أن يكون المعنى بل اتَّبعوا أنتم ملَّتَه عليه السلام أو كونوا أهلَ ملّته ، وقرىء بالرفع أي بل ملتُنا أو أمرُنا مِلّتَه أو نحن مِلَّتُه أي أهلُ ملتِه { حَنِيفاً } أي مائلاً عن الباطل إلى الحق وهو حالٌ من المضاف إليه كما في رأيت وجهَ هندٍ قائمةً أو المضافِ كما في قوله تعالى : { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا } الخ { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } تعريضٌ بهم وإيذانٌ ببُطلان دعواهم اتباعَه عليه السلام مع إشراكهم بقولهم عزيرٌ ابنُ الله والمسيحُ ابن الله .(1/211)
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
{ قُولُواْ } خطابٌ للمؤمنين بعد خِطابه عليه السلام بردِّ مقالتِهم الشنعاءِ على الإجمال وإرشادٌ لهم إلى طريق التوحيد والإيمان على ضربٍ من التفصيل أي قولوا لهم بمقابلة ما قالوا تحقيقاً وإرشاداً ضمنياً لهم إليه { آمنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا } يعني القرآن قُدِّم على سائر الكتب الإلهية مع تأخرُّه عنها نزولاً لاختصاصِه بنا وكونِه سبباً للإيمان بها { وَمَا أُنزِلَ إِلَى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ والاسباط } الصُحُف وإن كانت نازلةً إلى إبراهيم عليه السلام لكن من بعده حيث كانوا متعبَّدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامِها جُعلت منزلة إليهم كما جعل القرآنُ منزلاً إلينا والأسباطُ جمعُ سِبْط وهو الحافِدُ والمرادُ بهم حَفَدةُ يعقوبَ عليه السلام أو أبناؤه الاثنا عشرَ وذراريهم فإنهم حفَدةُ إبراهيمَ وإسحاقَ { وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى } من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات الباهرةِ بأيديهما حسبما فُصّل في التنزيل الجليل ، وإيرادُ الإيتاء لما أُشير إليه من التعميم ، وتخصيصُهما بالذكر لما أن الكلام مع اليهود والنصارى { وَمَا أُوتِيَ النبيون } أي جملةُ المذكورين وغيرُهم { مّن رَّبّهِمُ } من الآيات البيناتِ والمعجزاتِ الباهراتِ { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ } كدأب اليهود والنصارى آمنوا ببعض وكفروا ببعض وإنما اعتُبر عدمُ التفريق بينهم مع أن الكلامَ فيما أوتوه لاستلزام عدم التفريق بينهم بالتصديق والتكذيب لعدم التفريقِ بين ما أوُتوه ، وهمزةُ ( أحداً ) إما أصليةٌ فهو اسمٌ موضوع لمن يصلُح أن يخاطَب يستوي فيه المفردُ والمثنى والمجموعُ والمذكرُ والمؤنث ولذلك صح دخولُ ( بين ) عليه كما في مثل المالِ بين الناس ومنه ما في قوله صلى الله عليه وسلم : « ما أُحِلَّتِ الغنائمُ لأحدٍ سُودِ الرُّؤوسِ غيرِكم » حيثُ وصف بالجمع ، وإما مبدلةٌ من الواو فهو بمعنى واحد وعمومُه لوقوعه في حيز النفي وصحةِ دخول ( بين ) عليه باعتبار معطوفٍ قد حُذف لظهوره أي بين أحد منهم وبين غيره كما في قول النابغة
فما كان بين الخير لو جاء سالما ... أبو حَجَرٍ إلا ليالٍ قلائلُ
أي بين الخير وبيني وفيه من الدلالة صريحاً عليه تحقيقُ عدمِ التفريقِ بين كلِّ فردٍ منهم وبين من عداه كائناً من كان ما ليس في أن يقال لا نفرِّق بينهم ، والجملة حالٌ من الضمير في آمنا وقوله عز وجل : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي مخلصون له ومُذعنون حالٌ أخرى منه أو عطفٌ على آمنا .(1/212)
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
{ فَإِنْ ءامَنُواْ } الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فإن ما تقدم من إيمانِ المخاطَبين على الوجه المحرَّرِ مَظِنَّةٌ لإيمان أهلِ الكتابين لما أنه مشتملٌ على ما هو مقبولٌ عندهم { بِمِثْلِ مَا ءامَنتُمْ بِهِ } أي بما آمنتم به على الوجهِ الذي فُصل على أن المِثْلَ مُقحَمٌ كما في قوله تعالى : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل على مِثْلِهِ } أي عليه ، ويعضُده قراءةُ ابنِ مسعود بما آمنتم به وقراءة أُبيّ بالذي آمنتم به ويجوزُ أن تكون الباء للاستعانة على أن المؤمَنَ به محذوفٌ لظهوره بمروره آنفاً ، أو على أن الفعلَ مُجرىً مجرى اللازمِ أي فإن آمنوا بما مر مفصلاً أو فإنْ فعلوا الإيمانَ بشهادةٍ مثلِ شهادتكم ، وأن تكون الأولى زائدةً والثانية صلةً لآمنتم و ( ما ) مصدرية أي فإن آمنوا إيماناً مثلَ إيمانِكم بما ذُكر مفصَّلاً وأن تكون للملابسة أي فإن آمنوا ملتبسين بمثل ما آمنتم ملتبسين به أو فإن آمنوا إيماناً ملتبساً به من الإذعان والإخلاص وعدم التفريق بين الأنبياء عليهم السلام فإن ما وُجد فيهم وصدَر عنهم من الشهادة والإذعان وغير ذلك مثلُ ما للمؤمنين لا عينُه بخلاف المؤمَنِ به فإنه لا يُتصوَّرُ فيه التعدّد { فَقَدِ اهتدوا } إلى الحق وأصابوه كما اهتديتم وحصل بينكم الاتحادُ والاتفاق ، وأما ما قيل من أن المعنى فإن تحرَّوُا الإيمان بطريق يهدي إلى الحق مثلِ طريقِكم فقد اهتدوا فإن وَحدَة المقصِد لا تأبى تعددَ الطريق الحقِّ ، وإرشادُهم إليه بعينه لا يلائم تجويزَ أن يكون له طريقٌ آخرُ وراءه { وَإِن تَوَلَّوْاْ } أي أعرضوا عن الإيمان على الوجه المذكور بأن أخلّوا بشيء من ذلك كأن آمنوا ببعضٍ وكفروا ببعض كما هو دينُهم ودَيْدَنُهم { فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ } المُشاقّة والشِقاقُ من الشِق كالمخالفة والخِلاف من الخُلف والمعاداة والعِداء من العَداوة أي التجانب ، فإن أحدَ المخالِفين يُعرِض عن الآخر صورةً أو معنى ويُولِيه خَلفَه ويأخُذُ في شِقٍ غيرِ شِقّه وعَدْوةٍ غيرِ عَدْوَتِه ، والتنوينُ للتفخيم أي هم مستوون في خلاف عظيمٍ بعيدٍ من الحق وهذا لدفع ما يُتوهم من احتمال الوِفاق بسبب إيمانِهم ببعضِ ما آمن به المؤمنونَ ، والجملةُ إما جوابُ الشرط كما هي على أن المرادَ مُشاقّتُهم الحادثةُ بعد تولِّيهم عن الإيمان كجواب الشرطية الأولى ، وإنما أُوثرت الجملةُ الاسميةُ للد2لالة على ثباتِهم واستقرارِهم في ذلك ، وإما بتأويل فاعلَموا إنما هم في شقاق . هذا هو الذي يستدعيه فخامةُشأنِ التنزيلِ الجليل ، وقد قيل : قولُه تعالى : { فَإِنْ ءامَنُواْ } الخ من باب التعجيز والتبكيتِ على منهاج قولِه تعالى : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ } ، والمعنى فإن حصّلوا ديناً آخرَ مثل دينِكم مماثلاً له في الصِحة والسَّداد فقد اهتَدوا وإذ لا إمكانَ له فلا إمكانَ لاهتدائهم ، ولا ريب في أنه مما لا يليق بحمل النظمِ الكريم عليه ، ولمّا دل تنكيرُ الشِقاق على امتناعِ الوفاقِ وأن ذلك مما يؤدي إلى الجدال والقتالِ لا محالة عقَّب ذلك بتسلية رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتفريحِ المؤمنين بوعد النصر ، والغَلَبة ضمانُ التأييد والإعزاز ، وعبّر بالسين الدالةِ على تحقق الوقوعِ اْلبتَةَ فقيل : { فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } أي سيكفيك شِقاقَهم فإن الكفاية لا تتعلق بالأعيان بل بالأفعال ، وقد أنجز عز وعلا وعدَه الكريمِ بقتل بني النضير ، وتلوينُ الخطاب بتجريده للنبي صلى الله عليه وسلم مع أن ذلك كفايةٌ منه سبحانه للكلِّ لما أنه الأصلُ والعُمدة في ذلك وللإيذانِ بأن القيامَ بأمورِ الحروب وتحمُّلَ المُؤَن والمشاقِّ ومقاساةَ الشدائد في مناهضة الأعداء من وظائف الرؤساء فنعمته تعالى في الكفاية والنصر في حقه عليه السلام أتم وأكملُ { وَهُوَ السميع العليم } تذييلٌ لما سبق من الوعد وتأكيدٌ له والمعنى أنه تعالى يسمع ما تدعوه به ويعلم ما في نِيَّتك من إظهار الدينِ فيستجيب لك ويوصلك إلى مرادك أو وعيد للكفرة أي يسمع ما ينطِقون به ويعلم ما يضمرونه في قلوبهم مما لا خير فيه وهو معاقبهم عليه ولا يخفى ما فيه من تأكيد الوعد السابقِ فإن وعيدَ الكفرة وعد المؤمنين .(1/213)
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
{ صِبْغَةَ الله } الصِّبغة من الصِّبْغ كالجلسة من الجلوس وهي الحالة التي يقع عليها الصَّبْغُ عبر بها عن الإيمان بما ذكر على الوجه الذي فصل لكونه تطهيراً للمؤمنين من أوْ ضارِ الكفر وحليةً تُزَيِّنُهم بآثاره الجميلة ومتداخِلاً في قلوبهم كما أن شأن الصَّبْغ بالنسبة إلى الثوب كذلك وقيل للمشاكلة التقديرية فإن النصارى كانوا يغمِسون أولادَهم في ماء أصفرَ يسمونه المعمودية ويزعُمون أنه تطهيرٌ لهم وبه يحِق نصرانيتُهم وإضافتها إلى الله عز وجل مع استناده فيما سلف إلى ضمير المتكلمين للتشريفِ والإيذانِ بأنها عطية منه سبحانه لا يستقِلُّ العبدُ بتحصيلها فهي إذن مصدرٌ مؤكدٌ لقوله تعالى : { مِنَ } داخل معه في حيز قولوا منتصبٌ عنه انتصابَ وعد الله عما تقدمه لكونه بمثابة فعلِه كأنه قيل : صَبَغنا الله صِبغةً وقيل : هي منصوبة بفعل الإغراء أي الزموا صبغةَ الله وإنما وُسّط بينهما الشرطيتان وما بعدهما اعتناءً ببيان أنه الإيمانُ الحقُّ وبه الاهتداءُ ومسارعةً إلى تسليته عليه الصلاة والسلام { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله } مبتدأ وخبر ، الاستفهامُ للإنكار والنفي وقولُه تعالى : { صِبْغَةَ } نصبٌ على التمييز من أحسنُ منقولٌ من المبتدأ والتقديرُ ومن صبغتُه أحسنُ من صبغته تعالى فالتفضيلُ جارٍ بين الصِّبغتين لا بين فاعليهما أي لا صبغةَ أحسنُ من صبغته تعالى على معنى أنها أحسنُ من كل صبغة على ما أشير إليه في قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ } الخ وحيث كان مدارُ التفضيل على تعميم الحسن الحقيقي والفَرَضي المبني على زعم الكفرة لم يلزم منه أن يكون في صبغة غيرِه تعالى حُسْنٌ في الجملة ، والجملةُ اعتراضية مقرِّرة لما في صبغة الله من معنى التبجّح والابتهاج { وَنَحْنُ لَهُ } أي لله الذي أولانا تلك النعمةَ الجليلةَ { عابدون } شكراً لها ولسائر نِعمِه ، وتقديمُ الظرف للاهتمام ورعايةِ الفواصل ، وهو عطفٌ على آمنا داخلٌ معه تحت الأمرِ وإيثارُ الاسميةِ للإشعار بدوام العبادةِ أو على فعل الإغراء بتقدير القول أي الزمَوا صِبغة الله وقولوا نحن له عابدون فقوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً } حينئذ يجري مَجرى التعليل للإغراء { قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا } تجريدُ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم عقِبَ الكلام الداخلِ تحت الأمر الواردِ بالخطاب العام لما أن المأمورَ به من الوظائف الخاصةِ به عليه الصلاة والسلام وقُرىء بإدغام النونِ والهمزةُ للإنكار والتوبيخ أي أتجادلوننا { فِى الله } أي في دينه وتدّعون أن دينَه الحقَّ هو اليهوديةُ والنصرانية وتبنون دخولَ الجنة والاهتداءَ عليهما وتقولون تارة لن يدخلَ الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى وتارة كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } جملة حالية وكذلك ما عليها أي أتجادلوننا والحالُ أنه لا وجه للمجادلة أصلاً لأنه تعالى ربُنا أي مالكُ أمرنا وأمرِكم { وَلَنَا أعمالنا } الحسنةُ الموافقةُ لأمره { وَلَكُمْ أعمالكم } السيئةُ المخالفة لحُكمه { وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } في تلك الأعمال لا نبتغي بها إلا وجهَه فأنّى لكم المُحاجّةُ وادعاء حقية ما أنتم عليه والطمعِ في دخول الجنة بسببه ودعوةِ الناس إليه .(1/214)
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
وكلمة ( أم ) في قوله تعالى : { أَمْ تَقُولُونَ } إما معادلة للهمزة في قوله تعالى : { أَتُحَاجُّونَنَا } داخلةٌ في حيز الأمر على معنى أيَّ الأمرين تأتون إقامةَ الحجة وتنويرَ البرهان على حقية ما أنتم عليه والحال ما ذكر أم التشبّثَ بذيل التقليد والافتراءِ على الأنبياء وتقولون : { إِنَّ إبراهيم * وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نصارى } فنحن بهم مقتدون والمرادُ إنكارُ كِلا الأمرين والتوبيخُ عليهما ، وإما منقطعةٌ مقدرةٌ ببل والهمزة دالةٌ على الإضراب والانتقالِ من التوبيخِ على المُحاجة إلى التوبيخ على الافتراء على الأنبياء عليهم السلام وقرىء أم يقولون على صيغة الغَيْبة فهي منقطعةٌ لا غير ، غيرُ داخلةٍ تحت الأمر واردةٌ من جهته تعالى توبيخاً لهم وإنكاراً عليهم لا من جهته عليه السلام على نهج الالتفات كما قيل .
هذا ، وأما ما قيل من أن المعنى أتحاجوننا في شأن الله واصطفائِه نبياً من العرب دونكم؟ لما رُوي أن أهلَ الكتاب قالوا الأنبياءُ كلُهم منا فلو كنت نبياً لكنت منا فنزلت . ومعنى قوله تعالى : { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم } أنه لا اختصاصَ له تعالى بقوم دون قومٍ يصيب برحمته من يشاء من عباده فلا يبعدُ أن يكرِمنا كما أكرمَكم بأعمالكم كأنه ألزمهم على كل مذهب ينتحلونه إفحاماً وتبكيتاً ، فإن كرامة النبوة إما تفضلٌ من الله تعالى على من يشاء فالكل فيه سواء ، وإما إفاضةُ حقَ على المستحقين لها بالمواظبة على الطاعة والتخلِّي بالإخلاص فكما أن لكم أعمالاً ربما يعتبرها الله تعالى في إعطائها فلنا أيضاً أعمالٌ ونحن له مخلصون أي لا أنتم ، فمَعَ عدم ملاءمتِه لسياق النظم الكريم ولا سيما على تقدير كونِ كلمةِ أم معادلةً للهمزة غيرُ صحيح في نفسه لما أن المرادَ بالأعمال من الطرفين ما أشير إليه من الأعمال الصالحة والسيئة ، ولا ريب في أن أمرَ الصلاحِ والسوءِ يدورُ على موافقة الدين المبنيِّ على البعثة ومخالفته فكيف يتصور اعتبارُ تلك الأعمال في استحقاق النبوة واستعدادِها المتقدم على البعثة بمراتِبَ { قُلْ ءأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله } إعادةُ الأمر ليس لمجرد تأكيدِ التوبيخِ وتشديدِ الإنكار عليهم بل للإيذان بأن ما بعده ليس متصلاً بما قبله بل بينهما كلامٌ للمخاطبين مترتب على ما سبق مستتبِعٌ لما أنه الحقُّ قد أُضرب عنه الذكرُ صفحاً لظهوره وهو تصريحُهم بما وُبِّخوا عليه من الافتراء على الأنبياء عليهم السلام كما في قوله عز وجل قال : { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضآلون * قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون } وقولِه عز قائلاً : { قَالَ أَءسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَءيْتَكَ هذا الذى كَرَّمْتَ على } فإن تكريرَ قال في الموضعين وتوسيطَه بين قولي قائلٍ واحد للإيذان بأن بينهما كلاماً لصاحبه متعلقاً بالأول والثاني بالتبعية والاستتباع كما حُرر في محله أي كذِبُهم في ذلك ونُكثُهم قائلاً : إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون وقد نَفَى عن إبراهيم عليه السلام كلا الأمرين حيث قال :(1/215)
{ مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا } واحتُج عليه بقوله تعالى : { وَمَا أُنزِلَتِ التوراة والإنجيل إِلاَّ مِن بَعْدِهِ } وهؤلاء المعطوفون عليه السلام أتباعُه في الدين وِفاقاً فكيف تقولون ما تقولون سبحان الله عما تصفون { وَمَنْ أَظْلَمُ } إنكارٌ لأن يكون أحدٌ أظلم { مِمَّنْ كَتَمَ شهادة } ثابتة { عِندَهُ } كائنة { مِنَ الله } وهي شهادتُه تعالى له عليه السلام بالحنيفية والبراءةِ من اليهودية والنصرانية حسبما تلى آنفاً ، فعنده صفةٌ لشهادة وكذا ( من الله ) جيء بهما لتعليل الإنكار وتأكيدِه فإن ثبوتَ الشهادةِ عنده وكونَها من جانب الله عز وجل من أقوى الدواعي إلى إقامتها وأشدِّ الزواجر عن كِتمانها ، وتقديمُ الأول مع أنه متأخرٌ في الوجود لمراعاة طريقةِ الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، والمعنى أنه لا أحدَ أظلمُ من أهل الكتاب حيث كتموا هذه الشهادةَ وأثبتوا نقيضَها بما ذُكر من الافتراء ، وتعليقُ الأظلمية بمُطلق الكِتمان للإيماء إلى أن مرتبةَ مَنْ يردُّها ويشهد بخلافها في الظلم خارجةٌ عن دائرة البيان أو لا أحدَ أظلمُ منا لو كتمناها ، فالمرادُ بكتمها عدمُ إقامتها في مقامِ المُحاجة ، وفيه تعريضٌ بغاية أظلمية أهلِ الكتابِ على نحو ما أشير إليه ، وفي إطلاق الشهادة مع أن المرادَ بها ما ذكر من الشهادة المعينةِ تعريضٌ بكتمانها شهادةَ الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل { وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } من فنون السيئاتِ فيدخُل فيها كتمانُهم لشهادته سبحانه وافتراؤهم على الأنبياء عليهم السلام دُخولاً أولياً أي هو محيطٌ بجميع ما تأتون وما تذرون فيعاقبُكم بذلك أشدَّ عقاب ، وقرىء ( عما يعملون ) على صيغة الغَيْبة فالضميرُ إما لمن كَتَم باعتبار المعنى ، وإما لأهلِ الكتاب ، وقولُه تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ } إلى آخر الآية ، مسوقٌ من جهته تعالى لوصفهم بغاية الظلمِ وتهديدِهم بالوعيد .(1/216)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } تكريرٌ للمبالغة في الزجر عما هم عليه من الافتخارِ بالآباء والاتكالِ على أعمالهم وقيل : الخطابُ السابق لهم وهذا لنا تحذيرٌ عن الاقتداء بهم وقيل : المرادُ بالأُمة الأولى الأنبياءُ عليهم السلام وبالثانيةِ أسلافُ اليهود .
{ سَيَقُولُ السفهاء } أي الذين خفّت أحلامُهم واستمهنوها بالتقليد والإعراضِ عن التدبر والنظرِ من قولهم ثوبٌ سفيهٌ إذا كان خفيفَ النسج وقيل : السفيهُ البهّاتُ الكذابُ المتعمدُ خلافَ ما يَعلم ، وقيل : الظلومُ الجهولُ والمراد بالسفهاء هم اليهودُ على ما رُوي عن ابن عباس ومجاهدٍ رضي الله عنهم قالوه إنكاراً للنسخ وكراهةً للتحويل حيث كانوا يأنَسون بموافقته عليه الصلاة والسلام لهم في القِبلة الأولى وبُطلان الثانية إذ ليس كلُّهم من اليهود وقيل : هم المشركون ولم يقولوه كراهة للتحويل إلى مكةَ بل طعناً في الدين فإنهم كانوا يقولون رغِبَ عن قِبلة آبائه ثم رجَع إليها ولَيَرْجِعَنّ إلى دينهم أيضاً وقيل : هم القادحون في التحويل منهم جميعاً فيكون قوله تعالى : { مِنَ الناس } أي الكفرةِ لبيانِ أن ذلك القول المَحْكيِّ لم يصدُر عن كل فردٍ فردٍ من تلك الطوائف الثلاث بل عن أشقيائهم المعتادين للخوض في فنون الفساد وهو الأظهر ، إذ لو أريد بهم طائفة مخصوصة منهم لما كان لبيان كونِهم من الناس مزيدُ فائدة ، وتخصيصُ سفهائهم بالذكر لا يقتضي تسليمَ الباقين للتحويل وارتضاءَهم إياه بل عدم التفوه بالقدح مطلقاً أو بالعبارة المحكية .
{ مَا ولاهم } أي أيُّ شيءٍ صرفهم ، والاستفهامُ للإنكار والنفي { عَن قِبْلَتِهِمُ } القبلة فِعلة من المقابلة كالوِجْهة وهي الحالة التي يقابِلُ الشيءُ غيرَه عليها كالجِلسة للحالة التي يقع عليها الجلوسُ يقال : لا قِبلة له ولا دِبْرَةَ إذا لم يهتدِ لجهة أمرِه ، غلَبت على الجهة التي يستقبلها الإنسانُ في الصلاة ، والمراد بها ههنا بيتُ المقدس ، وإضافتُها إلى ضمير المسلمين ووصفُها بقوله تعالى : { التى كَانُواْ عَلَيْهَا } أي ثابتين مستمرين على التوجه إليها ومراعاتِها واعتقادِ حقّيتِها لتأكيد الإنكار ، فإن الاختصاصَ بالشيء والاستمرارَ عليه باعتقاد حقّيتِه مما ينافي الانصرافَ عنه فإن أريد بالقائلين اليهودُ فمدَارُ الإنكارِ كراهتُهم للتحويل عنها وزعمُهم أنه خطأ وإن أريد بهم المشركون فمدارُه مجردُ القصدِ إلى الطعن في الدين والقدحِ في أحكامه ، وإظهارُ أن كلاً من التوجه إليها والانصرافِ عنها واقعٌ بغير داعٍ إليه لا لكراهتهم الانصرافَ عنها أو التوجهَ إلى مكةَ وتعليقُ الإنكار بما يولّيهم عنها لا بما يوجههم إلى غيرها ، مع تلازمهما في الوجود لما أن تركَ الدين القديمِ أبعدُ عن العقول وإنكارُ سببه أدخلُ لا للإيذان بأن المنكِرين هم اليهودُ بناءً على أن المنكرَ عندهم هو التحويلُ عن خصوصية بيتِ المقدس الذي هو القِبلة الحقَّةُ عندهم لا التوجهُ إلى خصوصية قبلةٍ أخرى أو هم المشركون بناءً على أن المنكرَ عندهم تركُ القبلة القديمةِ على وجه الطعن والقدحِ لا التوجهُ إلى الكعبة لأنه الحقُّ عندهم فإنه بمعزلٍ عن ذلك كيف لا والمنافقون من أحد الفريقين لا محالة ، والإخبارُ بذلك قبل الوقوعِ مع كونه من دلائل النبوة حيث وقع كما أُخبر لتوطين النفوس وإعدادِ ما يُبَكّتُهم فإن مفاجأةَ المكروهِ على النفس أشقُّ وأشدُّ ، والجوابُ العتيد لشغَب الخصمِ الألدِّ أردُّ ، وقولُه عز وجل : { قُل لّلَّهِ المشرق والمغرب } استئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فماذا أقول عند ذلك؟ فقيل : قل الخ أي لله تعالى ناحيتا الأرضِ أي الجهاتُ كلُّها مُلْكاً وتصرفاً فلا اختصاصَ لناحيةٍ منها لذاتها بكونها قبلةً دون ما عداها بل إنما هو بأمر الله سبحانه ومشيئتِه { يَهْدِى مَن يَشَآء } أن يهديَه ، مشيئةٌ تابعةٌ للحِكَم الخفية التي لا يعلمها إلا هو { إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } موصِلٍ إلى سعادة الدين وقد هدانا إلى ذلك حيث أمرنا بالتوجه إلى بيت المقدس تارة وإلى الكعبة أخرى حسبما تقتضيه مشيئتُه المقارِنة لحِكَم أبيّةٍ ومصالِحَ خفية .(1/217)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
{ وكذلك جعلناكم } توجيه للخطاب إلى المؤمنين بين الخطابين المختصين بالرسول صلى الله عليه وسلم لتأييد ما في مضمون الكلامِ من التشريف وذلك إشارةٌ إلى مصدر جعلناكم لا إلى جعل آخرَ مفهوم مما سبق كما قيل ، وتوحيدُ الكاف مع القصد إلى المؤمنين لِما أن المرادَ مجردُ الفَرْق بين الحاضر والمنقضي دون تعيين المخاطبين ، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلوِّ درجةِ المشار إليه وبُعدِ منزلتِه في الفضل وكمالِ تميُّزه به وانتظامِه بسببه في سلك الأمور المشاهدة ، والكاف لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارة من الفخامة ومحلُها في الأصل النصبُ على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ وأصلُ التقدير جعلناكم أمة وسَطاً جَعْلاً كائناً مثل ذلك الجعلِ فقُدّم على الفعل لإفادة القصْرِ ، واعتُبرت الكاف مُقحَمَةً للنكتة المذكورةِ فصار نفسَ المصدر المؤكدِ لا نعتاً له أي ذلك الجعلَ البديعَ جعلناكم { أُمَّةً وَسَطًا } لا جعلاً آخرَ أدنى منه والوسَطُ في الأصل اسمٌ لما يستوي نِسبةُ الجوانبِ إليه كمركز الدائرة ثم استُعير للخصال المحمودةِ البشرية لكن لا لأن الأطرافَ يتسارع إليها الخللُ والإعوازُ ، والأوساطُ محميّةٌ مَحوطَةٌ كما قيل ، واستُشهد عليه بقول ابن أوسٍ الطائي :
كانت هي الوسَطَ المَحْمِيَّ فاكتَنَفَت ... بها الحوادثُ حتى أصبحت طَرَفا
فإن تلك العلاقةَ بمعزل من الاعتبار في هذا المقام إذ لا ملابَسةَ بينها وبين أهليةِ الشهادة التي جُعلت غايةً للجعل المذكور لكون تلك الخصالِ أوساطاً للخصال الذميمةِ المكتنفة بها من طرفي الإفراطِ والتفريطِ كالعِفة التي طرفاها الفجورُ والخمودُ ، وكالشجاعة التي طرفاها التهوّرُ والجُبن وكالحِكمة التي طرفاها الجريرةُ والبَلادةُ وكالعدالة التي هي كيفية متشابهةٌ حاصلةٌ من اجتماع تلك الأوساط المحفوفة بأطرافها ، ثم أطلقَ على المتصِّف بها مبالغةً كأنه نفسُها . وسُوّي فيه بين المفرد والجمعِ والمذكرِ والمؤنث رعايةً لجانب الأصلِ كدأب سائر الأسماءِ التي يوصف بها ، وقد روُعيت ههنا نُكتةٌ رائقةٌ هي أن الجعلَ المشارَ إليه عبارةٌ عما تقدم ذكرُه من هدايته تعالى إلى الحق الذي عبَّر عنه بالصراط المستقيم الذي هو الطريقُ السويُ الواقعُ في وسط الطرُق الجائرةِ عن القصد إلى الجانبين ، فإنا إذا فرضنا خطوطاً كثيرةً واصلةً بين نُقطتين متقابلتين فالخطُ المستقيم إنما هو الخطُ الواقعُ في وسط تلك الخطوطِ المنحنية ، ومن ضرورة كونِه وسطاً بين الطرُق الجائرةِ كونُ الأمةِ المَهْديّة إليه أمةً وسطاً بين الأمم السالكة إلى تلك الطرق الزائغة أي متصفةً بالخصال الحميدةِ خياراً وعدُولاً مُزَكَّيْنَ بالعلم والعمل { لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } بأن الله عز وجل قد أوضح السبُل وأرسل الرُسل فبلّغوا ونصَحوا وذكّروا فهل من مُدَكِّرٍ وهي غاية للجعل المذكور مترتبةٌ عليه فإن العدالة كما أشير إليه حيث كانت هي الكيفيةُ المتشابهةُ المتألّفةُ من العفة التي هي فضيلةُ القوة الشَّهْوية البهيمية والشجاعة التي هي فضيلةُ القوةِ الغضبيةِ السَّبُعية ، والحكمة التي هي فضيلةُ القوةِ العقلية المَلَكية المشارِ إلى رتبتها بقوله عز وعلا :(1/218)
{ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } كان المتّصِفُ بها واقفاً على الحقائقِ المودَعةِ في الكتاب المبين المنطوي على أحكام الدين وأحوالِ الأممِ أجمعين حاوياً بالشرائط الشهادةَ عليهم . رُوي أن الأممَ يوم القيامة يجحدون تبليغَ الأنبياءِ عليهم السلام فيطالبهم الله تعالى بالبينة وهو أعلم ، إقامةً للحجة على المنكرين وزيادةً لخِزْيهم بأن كذَّبهم مَنْ بعدهم من الأمم فيؤتى بأمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم فيشهدون فيقول الأممُ : من أين عرفتم؟ فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطقِ على لسان نبيِّه الصادقِ ، فيؤتى عند ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم ويُسأل عن حال أمته فيزكِّيهم ويشهَد بعدالتها وذلك قولُه عز قائلاً : { وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } وكلمةُ الاستعلاءِ لما في الشهيد من معنى الرقيب والمهيمِن ، وقيل : لتكونوا شهداءَ على الناس في الدنيا فيما لا يُقبل فيه الشهادةُ إلا من العدول الأخيار ، وتقديمُ الظرف للدلالة على اختصاص شهادتِه عليه السلام بهم { وَمَا جَعَلْنَا القبلة التى كُنتَ عَلَيْهَا } جُرِّد الخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم رمزاً إلى أن مضمونَ الكلام من الأسرار الحقيقةِ بأن تُخَصَّ معرفتُه بها عليه السلام وليس الموصولُ صفةً للقِبلة بل هو مفعولٌ ثانٍ للجعل ، وما قيل من أن الجعلَ تحويلُ الشيء من حالة إلى أخرى فالملتبسُ بالحالة الثانية هو المفعول الثاني كما في قولك : جعلتُ الطينَ خَزَفاً فينبغي أن يكون المفعولُ الأول هو الموصولَ والثاني هو القِبلةَ فهو كلامٌ صناعي ينساق إليه الذهن بحسب النظرِ الجليلِ ، ولكنَّ التأملَ اللائقَ يهدي إلى العكس فإن المقصودَ إفادتُه أنه ليس جعلَ الجهة قبلةً لا غيرُ كما يفيده ما ذُكر بل هو جعلُ القبلةِ المحققةِ الوجود هذه الجهةَ دون غيرِها والمرادُ بالموصولِ هي الكعبةُ فإنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي إليها أولاً ثم لما هاجرَ أُمِر بالصلاة إلى الصخرة تألّفاً لليهود ، أو هي الصخرةُ لِما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما من أن قِبلته عليه السلام بمكة كانت بيتَ المقدس إلا أنه كان يجعلُ الكعبةَ بينه وبينه وعلى هذه الرواية لا يمكن أن يرادَ بالقبلة الأولى الكعبةُ ، وأما الصخرةُ فيتأتى إرادتُها على الروايتين ، والمعنى على الأول وما جعلنا القِبلة الجهةَ التي كنت عليها قبل هذا الوقت وهي الصخرة { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم العلل أي وما جعلنا ذلك الشيء من الأشياء إلا لنمتحنَ الناسَ أي نعاملهم معاملةَ من يمتحنُهم ونعلم حينئذ { مَن يَتَّبِعُ الرسول } في التوجّه إلى ما أُمر به من الدين أو القِبلة والالتفاتِ إلى القبلة مع إيراده عليه السلام بعنوان الرسالة للإشعار بعلة الاتباعِ { مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ } يرتدُّ عن دين الإسلامِ أو لا يتوجه إلى القِبلة الجديدة أو لنعلمَ الآن من يتبعُ الرسولَ ممن لا يتبعُه وما كان لعارضٍ يزول بزواله ، وعلى الأول ما رددناك إلى ما كنت عليه إلا لنعلم الثابتَ على الإسلام والناكصَ على عَقِبيه لقلقه وضعفِ إيمانِه ، والمرادُ بالعلم ما يدور عليه فلَكُ الجزاءِ من العلم الحالي أي ليتعلّق علمُنا به موجوداً بالفعلِ ، وقيل : المرادُ علمُ الرسولِ عليه السلام والمؤمنين ، وإسنادُه إليه سبحانه لما أنعم على خواصه وليتميَّزَ الثابتَ على المتزلزل ، كقوله تعالى :(1/219)
{ لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب } فوضَع العلمَ موضِعَ التمييزِ الذي هو مسبَّبٌ عنه ، ويشهد له قراءةُ ليُعْلَمَ على بناء المجهول من صيغة الغَيبة ، والعلمُ إما بمعنى المعرفة أو متعلقٌ بما في «مَنْ» من معنى الاستفهام ، أو مفعوله الثاني ممن ينقلب الخ أي لنعلم من يتبعُ الرسولَ متميِّزاً ممن ينقلب على عقبيه { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } أي شاقة ثقيلة ، وإنْ هي المخففةُ من الثقيلة دخَلتْ على ناسخ المبتدأ والخبر ، واللامُ هي الفارقةُ بينها وبين النافية كما في قوله تعالى : { إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً } وزعم الكوفيون أنها نافية واللام بمعنى إلا أي ما كانت إلا كبيرة ، والضميرُ الذي هو اسم كان راجعٌ إلى ما دل عليه قوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا القبلة التى كُنتَ عَلَيْهَا } من الجعلة أو التولية أو التحويلة أو الردة أو القِبلة وقرىء لكبيرةٌ بالرفع على أن كان مزيدة كما في قوله :
وإخوانٍ لنا كانوا كرامِ ... وأصله وإنْ هي لكبيرةٌ كقوله : إن زيدٌ لمنطلقٌ { إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله } أي إلى سرِّ الأحكام الشرعية المبنيةِ على الحِكمَ والمصالح إجمالاً وتفصيلاً وهم المهديّون إلى الصراط المستقيم الثابتون على الإيمان واتباعِ الرسول عليه السلام : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم } أي ما صحَّ وما استقام له أن يُضيعَ ثباتَكم على الإيمان بل شكرَ صنيعَكم وأعدَّ لكم الثوابَ العظيمَ وقيل : أيمانَكم بالقِبلة المنسوخةِ وصلاتَكم إليها لما رُوي أنه عليه السلام لما توجّه إلى الكعبة قالوا : كيف حالُ إخوانِنا الذين مضَوْا وهم يصلون إلي بيت المقدس؟ فنزلت . واللام في ليُضيعَ إما متعلقةٌ بالخبر المقدر لكان كما هو رأيُ البَصْرية وانتصابُ الفعل بعدها بأن المقدرة أي ما كان الله مريداً أو متصدياً لأن يُضيعَ الخ ففي توجيه النفي إلى إرادة الفعل تأكيدٌ ومبالغةٌ ليس في توجيهه إلى نفسه ، وإما مزيدةٌ للتأكيد ناصبةٌ للفعل بنفسها كما هو رأيُ الكوفية ، ولا يقدح في ذلك زيادتُها كما لا يقدح زيادةُ حروفِ الجر في عملها ، وقوله تعالى : { إِنَّ الله بالناس لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ } تحقيقٌ وتقريرٌ للحُكم وتعليلٌ له ، فإن اتصافَه عز وجل بهما يقتضي لا محالة أن لا يُضيعَ أجورَهم ولا يدَعَ ما فيه صلاحُهم ، والباءُ متعلقةٌ برؤوف وتقديمُه على رحيم مع كونه أبلغَ منه لما مر في وجه تقديمِ الرحمن على الرحيم ، وقيل : الرحمة أكثرُ من الرأفة في الكمية والرأفةُ أقوى منها في الكيفية لأنها عبارة عن إيصال النعم الصافية من الآلام ، والرحمةُ إيصالُ النعمة مطلقاً وقد يكون مع الألم كقطعِ العضوِ المتأكّل ، وقرىء رَؤُفٌ بغير مد كندس .(1/220)
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
{ قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السماء } أي تردُّدَه وتصرُّفَ نظرِك في جهتها تطلعاً للوحي وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقع في رَوْعة ويتوقعُ من ربه عز وجل أن يحوله إلى الكعبة لأنها قِبلةُ إبراهيمَ وأدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتُهم ومزارُهم ومَطافُهم ولمخالفة اليهود ، فكان يُراعي نزولَ جبريلَ بالوحي بالتحويل { فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً } الفاء للدلالة على سببية ما قبلها لما بعدها وهي في الحقيقة داخلةٌ على قسمٍ محذوف يدل عليه اللام أي فوالله لنولِّينَّك أي لنُعطِينَّكها ولنُمَكِّنَنَّك من استقبالها من قولك : ولَّيتُه كذا أي صيّرته والياً له أو لنَجْعَلَنك تلي جِهتَها أو لنُحَوِّلنَّك على أن نَصْبَ ( قبلةً ) بحذف الجار أي إلى قبلة وقيل : هو متعدٍ إلى مفعولين { تَرْضَاهَا } تحبها وتشتاق إليها لمقاصدَ دينيةٍ وافقتْ مشيئتَه تعالى وحِكْمتَه { فَوَلّ وَجْهَكَ } الفاء لتفريع الأمرِ بالتولية على الوعد الكريمِ ، وتخصيصُ التوليةِ بالوجه لما أنه مدارُ التوجه ومعيارُه وقيل : المرادُ به كلُّ البدنِ أي فاصرِفْه { شَطْرَ المسجد الحرام } أي نحوَه وهو نصبٌ على الظرفية من نولِّي أو على نزع الخافض أو على أنه مفعول ثانٍ له ، وقيل : الشطرُ في الأصل اسمٌ لما انفصل من الشيء ، ودارٌ شَطورٌ إذا كانت منفصلةً عن الدور ، ثم استعمل لجانبه وإن لم ينفصِلْ كالقُطر ، والحرامُ المُحرَّم أي محرم فيه القتالُ أو ممنوعٌ من الظَلَمة أن يتعرضوا له ، وفي ذكر المسجد الحرامِ دون الكعبة إيذانٌ بكفاية مراعاةِ الجهةِ لأن في مراعاةِ العينِ من البعيد حرجاً عظيماً بخلاف القريب . رُوي عن البراء بن عازبٍ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قدِم المدينةَ فصلَّى نحوَ بيتِ المقدس ستةَ عشرَ شهراً ثم وُجِّه إلى الكعبة وقيل : كان ذلك في رجبٍ بعد زوال الشمسِ قبل قتال بدرٍ بشهرين ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مسجد بني سَلَمة وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر فتحوَّل في الصلاة واستقبل الميزاب وحوّل الرجالَ مكانَ النساء والنساءَ مكانَ الرجال فسُمِّيَ المسجدُ مسجدَ القِبلتين { وحيثما كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } خُصَّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم بالخطاب تعظيماً لجنابه وإيذاناً بإسعاف مرامِه ثم عُمّم الخطابُ للمؤمنين مع التعرُّض لاختلاف أماكنِهم تأكيداً للحُكم وتصريحاً بعُمومه لكافة العباد من كل حاضِرٍ وبادٍ وحثاً للأمة على المتابعة ، وحيثما شرطية وكنتم في محل الجزاء بها ، وقوله تعالى : { فَوَلُّواْ } جوابُها ، وتكون هي منصوبةً على الظرفية بكنتم نحوُ قوله تعالى : { أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الاسماء الحسنى } { وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب } من فريقي اليهود والنصارى { لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ } أي التحويل أو التوجهَ المفهومَ من التولية { الحق } لا غيرُ لعلمهم بأن عادتَه سبحانه وتعالى جاريةٌ على تخصيص كلِّ شريعةٍ بقِبلة ومعاينتِهم لما هو مسطورٌ في كتبهم من أنه عليه الصلاة والسلام يصلِّي إلى القِبلتين كما يُشعر بذلك التعبيرُ عنهم بالاسم الموصول بإيتاء الكتاب ، وأن مع اسمها وخبرِها سادٌ مسدَّ مفعولي يعلمون أو مسدَّ مفعولِه الواحد على أن العلم بمعنى المعرفة ، وقولُه تعالى : { مّن رَّبّهِمُ } متعلقٌ بمحذوفٍ وقع حالاً من الحق أي كائناً من ربهم أو صفةً له على رأي من يجوِّز حذفَ الموصول مع بعض صلتِه أي الكائنَ من ربهم { وَمَا الله بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ } وعد ووعيد للفريقين والخطابُ للكل تغليباً ، وقرىء على صيغة الغَيْبة فهو وعيدٌ لأهل الكتاب .(1/221)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب } وضْعُ الموصولِ موضِعَ المضمرِ للإيذان بكمال سوءِ حالِهم من العناد مع تحقيق ما يُرْغِمُهم منه من الكتاب الناطق بحقِّية ما كابروا في قبوله { بِكُلّ ءايَةٍ } أي حجةٍ قطعيةٍ دالةٍ على حقية التحويل ، واللامُ موطئة للقسم ، وقولُه تعالى : { مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ } جوابٌ للقسم المضمَر سادٌ مسدَّ جوابِ الشرط ، والمعنى أنهم ما تركوا قبلَتك لشُبهةٍ تُزيلها الحجةُ وإنما خالفوك مكابرةً وعِناداً ، وتجريدُ الخطاب للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بعد تعميمِه للأمة لما أن المُحاجةَ والإتيانَ بالآية من الوظائف الخاصة به عليه السلام ، وقولُه تعالى : { وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } جملةٌ معطوفةٌ على الجملة الشرطية لا على جوابها ، مسوقةٌ لقطع أطماعِهم الفارغةِ حيث قالت اليهودُ لو ثبتَّ على قبلتنا لكنا نرجو أن تكون صاحبَنا الذي ننتظرُه تغريراً له عليه الصلاة والسلام وطمعاً في رجوعه ، وإيثارُ الجملة الاسميةِ للدلالة على دوامِ مضمونِها واستمرارِه ، وإفراد قبلتَهم مع تعدُّدِها باعتبار اتحادِها في البُطلان ومخالفةِ الحق ، ولئلا يُتوَهّم أن مدارَ النفي هو التعدُّدُ ، وقرىء بتابعِ قبلتِهم على الإضافة { وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } فإن اليهودَ تستقبلُ الصخرةَ والنصارى مطلِعَ الشمس ، ولا يرجى توافقُهم كما لا يرجى موافقتُهم لك لتصلُّب كلِّ فريقٍ فيما هو فيه .
{ وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم } الزائغةَ المتخالفة { مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم } ببطلانها وحقّيةِ ما أنت عليه . وهذه الشرطيةُ الفرَضية واردةٌ على منهاج التهييج والإلهابِ للثبات على الحق أي ولئن اتبعت أهواءَهم فرضاً { إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظالمين } وفيه لطفٌ للسامعين وتحذيرٌ لهم عن متابعة الهوى فإن مَنْ ليس من شأنه ذلك إذا نُهيَ عنه ورُتِّبَ على فرض وقوعِه ما رُتِّبَ من الانتظام في سِلكِ الراسخين في الظلم فما ظنُّ من ليس كذلك؟ وإذن حرفُ جوابٍ وجزاءٍ توسطت بين اسمِ إن وخبرِها لتقرير ما بينهما من النسبة إذ كان حقُها أن تتقدمَ أو تتأخر فلم تتقدمْ لئلا يُتوَهَّم أنها لتقرير النسبةِ التي بين الشرط وجوابِه المحذوفِ لأن المذكورَ جوابُ القسم ولم تتأخرْ لرعاية الفواصل ، ولقد بولغ في التأكيد من وجوهٍ تعظيماً للحق المعلومِ وتحريضاً على اقتفائه وتحذيراً عن متابعة الهوى واستعظاماً لصدورِ الذنبِ من الأنبياء عليهم السلام .(1/222)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
{ الَّذِينَ ءاتيناهم الكتاب } أي علماؤُهم إذْ هم العمدةُ في إيتائه ، ووضعُ الموصول موضعَ المضمرِ مع قرب العهد للإشعار بعلّية ما في حيز الصلةِ للحكم ، والضميرُ المنصوبُ في قوله تعالى : { يَعْرِفُونَهُ } للرسول صلى الله عليه وسلم والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذان بأن المراد ليس معرفتَهم له عليه السلام من حيث ذاتُه ونسبُه الزاهرُ بل من حيث كونُه مسطوراً في الكتاب منعوتاً فيه بالنعوت التي من جملتها أنه عليه السلام يصلي إلى القبلتين ، كأنه قيل : الذين آتيناهم الكتابَ يعرِفون مَنْ وصفناه فيه . وبهذا يظهر جزالةُ النظم الكريم ، وقيل : هو إضمارٌ قبل الذكر للإشعار بفخامة شأنِه عليه الصلاة والسلام أنه عِلْمٌ معلوم بغير إعلامٍ فتأمل ، وقيل : الضميرُ للعلم أو سببِه الذي هو الوحيُ أو القرآنُ أو التحويل ، ويؤيد الأولَ قولُه عز وجل : { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ } أي يعرِفونه عليه الصلاة والسلام بأوصافه الشريفة المكتوبة في كتابهم ، ولا يشتبِهُ عليهم كما لا يشتبه أبناؤُهم ، وتخصيصُهم بالذكر دون ما يعم البناتِ لكونهم أعرفَ عندهم منهن بسبب كونِهم أحبَّ إليهم .
عن عمرَ رضي الله عنه أنه سأل عبد اللَّه بنَ سلام رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنا أعلم به مني بابني قال : ولِمَ؟ قال : لأني لست أشكُّ فيه أنه نبي ، فأما ولدي فلعل والدتَه خانت فقبّل عمرُ رأسه رضي الله عنهما . { وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ } هم الذين كابروا وعاندوا الحقَّ والباقون هم الذين آمنوا منهم فإنهم يُظهرون الحقَّ ولا يكتُمونه ، وأما الجهلةُ منهم فليست لهم معرفةٌ بالكتاب ولا بما في تضاعيفه ، فما هم بصدد الإظهارِ ولا بصدد الكَتْم وإنما كفرُهم على وجه التقليد { الحق } بالرفع على أنه مبتدأ ، وقولُه تعالى : { مِن رَبّكَ } خبرُه واللامُ للعهد والإشارةِ إلى ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى الحقِّ الذي يكتُمونه أو للجنس ، والمعنى : أن الحقَّ ما ثبت أنه من الله تعالى كالذي أنت عليه لا غيرُه كالذي عليه أهلُ الكتاب أو على أنه خبر مبتدإٍ محذوفٍ أي هو الحقُّ ، وقولُه تعالى : { مِن رَبّكَ } إما حالٌ أو خبرٌ بعد خبر ، وقرىء بالنصب على أنه بدلٌ من الأول ، أو مفعولٌ ليعلمون . وفي التعرُّض لوصف الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام من إظهار اللطفِ به عليه السلام ما لا يخفى { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } أي الشاكّين في كتمانهم الحقَّ عالمين به وقيل في أنه من ربك ، وليس المرادُ نهيَ الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشك لأنه غيرُ متوقعٍ منه عليه الصلاة والسلام وليس بقصد واختيار بل إما تحقيقُ الأمر وأنه بحيث لا يشك فيه ناظر ، أو أمرُ الأمةِ باكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الأبلغ .(1/223)
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
{ وَلِكُلّ } أي ولكل أمةٍ من الأمم ، على أن التنوين عوضٌ من المضاف إليه { وِجْهَةٌ } أي قِبلة وقد قرىء كذلك أو لكل قومٍ من المسلمين جانبٌ من جوانب الكعبة { هُوَ مُوَلّيهَا } أحدُ المفعولين محذوفٌ أي موليها وجهَه أو الله موليها إياه وقرىء ولكلِّ وِجهةٍ بالإضافة والمعنى ولكلَ وجهةٌ الله مولِّيها أهلَها واللام مزيدة للتأكيد وجبرِ ضعفِ العامل ، وقرىء مولاها أي مولى تلك الجهةِ قد وَلِيهَا { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } أي تسابقوا إليها بنزع الجار كما في قوله :
ثنائي عليكم آلَ حربٍ ومنْ يمِل ... سواكم فإني مهتدٍ غيرُ مائلِ
وهو أبلغَ من الأمر بالمسارعة لما فيه من الحث على إحراز قصَبِ السبْقِ والمرادُ بالخيرات جميعُ أنواعِها من أمر القِبلة وغيرِه مما يُنال به سعادةُ الدارين أو الفاضلاتُ من الجهات وهي المسامتة للكعبة { أَيْنَمَا تَكُونُواْ * يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعًا } أي في أيّ موضعٍ تكونوا من موافِقٍ أو مخالفٍ مجتمعِ الأجزاء أو متفرقِها يحشُرُكم الله تعالى إلى المَحْشَر للجزاء ، أو أينما تكونوا من أعماق الأرضِ وقُلل الجبال يقبضُ أرواحَكم ، أو أينما تكونوامن الجهات المختلفةِ المتقابلةِ يجعلُ صلواتِكم كأنها صلاةٌ إلى جهة واحدة { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } فيقدِر على الإماتة والإحياء والجمعِ ، فهو تعليل للحكم السابق { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ } تأكيدٌ لحكم التحويل وتصريحٌ بعدم تفاوت الأمرِ في حالتي السفر والحضَر ومنْ متعلقة بقوله تعالى : { فَوَلّ } أو بمحذوفٍ عُطف هو عليه أي من أيِّ مكان خرجت إليه للسفر فولِّ { وَجْهَكَ } عند صلاتك { شَطْرَ المسجد الحرام } أو افعل ما أُمرت به من أي مكانٍ خرجت إليه فول الخ { وَأَنَّهُ } أي هذا الأمرَ { لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ } أي الثابتُ الموافق للحِكمة { وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } فيجازيكم بذلك أحسنَ جزاءٍ فهو وعدٌ للمؤمنين وقرىء يعملون على صيغة الغيبة فهو وعيد للكافرين { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ } إليه في أسفارك ومغازيك من المنازل القريبةِ والبعيدةِ { فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } الكلام فيه كما مر آنفاً { وحيثما كُنتُمْ } من أقطار الأرضِ مقيمين أو مسافرين حسبما يُعربُ عنه إيثارُ ( كنتم ) على خرجتم فإن الخطابَ عامٌ لكافة المؤمنين المنتشرين في الآفاق من الحاضرين والمسافرين ، فلو قيل : وحيثما خرجتم لما تناول الخطابُ المقيمين في الأماكن المختلفة من حيث إقامتُهم فيها { فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ } من مَحالِّكم { شَطْرَهُ } والتكريرُ لما أن القِبلةَ لها شأنٌ خطير ، والنسخُ من مظانِّ الشبهةِ والفتنة فبالحَريِّ أن يؤكَّد أمرُها مرة بعد أخرى مع أنه قد ذُكر في كل مرة حِكمةٌ مستقلة { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } متعلقٌ بقوله تعالى : { فَوَلُّواْ } وقيل : بمحذوفٍ يدل عليه الكلامُ كأنه قيل : فعلنا ذلك لئلا الخ والمعنى أن التوليةَ عن الصخرة تدفع احتجاجَ اليهود بأن المنعوتَ في التوراة من أوصافه أنه يحوِّلُ إلى الكعبة ، واحتجاجُ المشركين بأنه يدَّعي ملةَ إبراهيمَ ويخالف قِبلتَه { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } وهم أهلُ مكةَ ، أي لئلا يكونَ لأحد من الناس حجةٌ إلا المعاندين منهم الذين يقولون ما تحوَّلَ إلى الكعبة إلا مَيْلاً إلى دين قومِه وحباً لبلده أو بَدا لَهُ فرجَع إلى قِبلةِ آبائِه ، ويوشك أن يرجِعَ إلى دينهم .(1/224)
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ } متصلٌ بما قبله ، والظرفُ الأول متعلقٌ بالفعل قُدِّم على مفعوله الصريحِ لما في صفاته من الطول ، والظرفُ الثاني متعلق بمُضمرٍ وقع صفةً لرسولاً مبينةً لتمام النعمةِ ، أي ولأتمَّ نعمتي عليكم في أمر القِبلة أو في الآخرة إتماماً كائناً كإتمامي لها بإرسال رسولٍ كائنٍ منكم ، فإن إرسالَ الرسول لا سيما المجانسُ لهم نعمةٌ لا يكافئُها نعمة قطُّ ، وقيل : متصلٌ بما بعده أي كما ذُكِّرْتم بالإرسال فاذكروني الخ وإيثارُ صيغةِ المتكلم مع الغير بعد التوجيه فيما قبله افتنانٌ وجَرَيانٌ على سَنن الكبرياء { يَتْلُو عَلَيْكُمْ * ءاياتنا } صفة ثانيةٌ لرسول كاشفةٌ لكمال النعمة { وَيُزَكِيكُمْ } عطفٌ على يتلو أي يحمِلُكم على ما تصيرون به أزكياءَ { وَيُعَلّمُكُمُ الكتاب والحكمة } صفةٌ أخرى مترتبةٌ في الوجود على التلاوة وإنما وسَّطَ بينهما التزكية التي هي عبارةٌ عن تكميل النفسِ بحسَبِ القوةِ العملية وتهذيبِها المتفرِّعِ على تكميلها بحسَب القوة النظرية الحاصلِ بالتعليم المترتب على التلاوة للإيذان بأن كلاً من الأمور المترتبة نعمةٌ جليلةٌ على حِيالها مستوجبةٌ للشكر ، فلو رُوعيَ ترتيبُ الوجود كما في قوله تعالى : { وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } لتبادَر إلى الفهم كونُ الكلِّ نعمةً واحدةً كما مر نظيرُه في قصة البقرة ، وهو السرُّ في التعبير عن القرآن تارة بالآيات وأخرى بالكتابِ والحِكمة رمزاً إلى أنه باعتبار كلِّ عنوانٍ نعمةٌ على حِدةٍ ، ولا يقدح فيه شمولُ الحكمةِ لما في تضاعيف الأحاديثِ الشريفةِ من الشرائع ، وقولُه عز وجل : { وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } صريحٌ في ذلك فإن الموصولَ مع كونه عبارةً عن الكتاب والحِكمة قطعاً قد عُطف تعليمُه على تعليمها ، وما ذلك إلا لتفصيل فنونِ النعم في مقامٍ يقتضيه كما في قوله تعالى : { وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } عقيب قوله تعالى : { نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا } والمراد بعدم علمِهم أنه ليس من شأنهم أن يعلموه بالكفر والنظر وغيرِ ذلك من طرق العلم لانحصار الطريقِ في الوحي .(1/225)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
{ فاذكرونى } الفاءُ للدلالة على ترتب الأمرِ على ما قبله من موجباته أي فاذكروني بالطاعة { أَذْكُرْكُمْ } بالثواب ، وهو تحريضٌ على الذكر مع الإشعار بما يوجبُه { واشكروا لِي } ما أنعمتُ به عليكم من النعم { وَلاَ تَكْفُرُونِ } بجَحدها وعِصيان ما أمرتُكم به .
{ يا أيُّهَا الذين آمنوا } وصفَهم بالإيمان إثرَ تعدادِ ما يوجبه ويقتضيه تنشيطاً لهم وحثاً على مراعاة ما يعقُبه من الأمر { استعينوا } في كل ما تأتون وما تذرون { بالصبر } على الأمور الشاقةِ على النفس التي من جملتها معاداةُ الكَفَرة ومقابلتُهم المؤديةُ إلى مقاتلتهم { والصلاة } التي هي أمُّ العبادات ومِعراجُ المؤمنين ومناجاةُ ربِّ العالمين { إِنَّ الله مَعَ الصابرين } تعليل للأمر بالاستعانة بالصبر خاصة لما أنه المحتاجُ إلى التعليل ، وأما الصلاةُ فحيث كانت عند المؤمنين أجلَّ المطالب كما يُنبىء عنه قولُه عليه الصلاة والسلام : « وجُعلت قُرةُ عيني في الصلاة » لم يفتقر الأمرُ بالاستعانة بها إلى التعليل ، ومعنى المعية الولايةُ الدائمةُ المستتبِعة للنُصرة وإجابةِ الدعوة ، ودخول مع على الصابرين لما أنهم المباشِرون للصبر حقيقةً فهم متبوعون من تلك الحيثية { وَلاَ تَقُولُواْ } عطف على استعينوا الخ مَسوقٌ لبيان أنْ لا غايةَ للمأمور به وإنما الشهادةُ التي ربما يؤدي إليها الصبرُ حياةٌ أبدية { لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ } أي هم أموات { بَلْ أَحْيَاء } أي بل هم أحياءٌ { وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } بحياتهم وفية رمزٌ إلى أنها ليست مما يُشعِر به بالمشاعر الظاهرةِ من الحياة الجُسمانية وإنما هي أمرٌ روحاني لا يُدرَكُ بالعقل بل بالوحي ، وعن الحسن رحمه الله أن الشهداءَ أحياءٌ عند الله تُعرَضُ أرزاقُهم على أرواحِهم فيصلُ إليهم الرَّوْحُ والفَرَحُ ، كما تُعرض النارُ على آل فِرعونَ غدُوّاً وعشياً فيصلُ إليهم الألمُ والوجَع .
قلت : رأيت في المنام سنة تسعٍ وثلاثين وتسعمائة أني أزور قبورَ شهداءِ أُحدٍ رضي الله تعالى عنهم أجمعين وأنا أتلو هذه الآيةَ وما في سورة آلِ عمرانَ وأردّدهما متفكراً في أمرهم وفي نفسي أن حياتَهم روحانية لا جثمانية ، فبينما أنا على ذلك إذ رأيتُ شاباً منهم قاعداً في قبره تامَّ الجسدِ كامِلَ الخِلْقة في أحسن ما يكونُ من الهيئة والمنظر ، ليس عليه شيءٌ من اللباس قد بدا منه ما فوق السُرةِ والباقي في القبر خلا أني أعلم يقيناً أن ذلك أيضاً كما ظهر وإنما لا يظهر لكونه عورةً فنظرت إلى وجهه فرأيته ينظُر إلي متبسّماً كأنه ينبِّهُني على أن الأمر بخلاف رأيي فسُبحان من عَلَتْ كلمتُه وجلّت حِكمتُه .
وقيل : الآية نزلت في شهداءِ بدرٍ وكانوا أربعةَ عشرَ ، وفيها د2لالة على أن الأرواحَ جواهرُ قائمةٌ بأنفسها مغايرةٌ لما يُحَسُّ به من البدن تبقى بعد الموت دراكة ، وعليه جمهورُ الصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وبه نطقت السنن ، وعلى هذا فتخصيصُ الشهداء بذلك لما يستدعيه مقامُ التحريض على مباشرة مباديَ الشهادةِ ولاختصاصهم بمزيد القُرب من الله عز وعلا .(1/226)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُم } لنُصيبنَّكم إصابةَ من يختبرُ أحوالَكم أتصبرون على البلاء وتستسلمون للقضاء { بِشَيْء مّنَ الخوف والجوع } أي بقليلٍ من ذلك فإن ما وقاهم عنه أكثرُ بالنسبة إلى ما أصابهم بألف مرة وكذا ما يصيبُ به معانديهم ، وإنما أَخبرَ به قبل الوقوعِ ليُوطِّنوا عليه نفوسَهم ويزدادَ يقينُهم عند مشاهدتهم له حسبما أَخبرَ به وليعلموا أنه شيءٌ يسير له عاقبةٌ حميدة { وَنَقْصٍ مّنَ الاموال والانفس والثمرات } عطفٌ على شيءٍ وقيل : على الخوف ، وعن الشافعيِّ رحمه الله : الخوفُ خوفُ الله والجوعُ صومُ رمضانَ ، ونقصٌ من الأموال الزكاةُ والصدقاتُ ومن الأنفس الأمراضُ ومن الثمرات موتُ الأولاد . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « إذا مات ولدُ العبد قال الله تعالى للملائكة : أقبضتم روحَ عبدي؟ فيقولون : نعم فيقول عز وجل : أقبضتم ثمرةَ قلبِه؟ فيقولون : نعم فيقول الله تعالى : ماذا قال عبدي؟ فيقولون : حمِدَك واسترجَع فيقول الله عز وعلا : ابنُوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمُّوه بيتَ الحمد » { وَبَشّرِ الصابرين * الذين إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون } الخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى منه البِشارة ، والمصيبةُ ما يصيب الإنسانَ من مكروه لقوله عليه السلام : « كلُّ شيءٍ يؤذي المؤمنَ فهو له مصيبةٌ » وليس الصبرُ هو الاسترجاعُ باللسان بل بالقلب بأن يَتصوَّرَ ما خُلق له وأنه راجِعٌ إلى ربه ويتذكرَ نِعمَ الله تعالى عليه ويرى أن ما أبقى عليه أضعافُ ما استردّ منه ، فيهونُ ذلك على نفسه ويستسلم ، والمبشَّرُ به محذوفٌ دل عليه ما بعده { أولئك } إشارة إلى الصابرين باعتبار اتصافِهم بما ذكر من النعوت ، ومعنى البعد فيه للإيذان بعلوِّ رُتبتِهم { عَلَيْهِمْ صلوات مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ } الصلاةُ من الله سبحانه المغفرةُ والرأفةُ ، وجمعُها للتنبيه على كثرتها وتنوُّعِها والجمعُ بينها وبين الرحمةِ للمبالغة كما في قوله تعالى : { رَأْفَةً وَرَحْمَةً } { لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ } والتنوين فيهما للتفخيم ، والتعرضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لإظهارِ مزيدِ العناية بهم أي أولئك الموصوفون بما ذُكر من النعوت الجليلةِ عليهم فنونُ الرأفةِ الفائضةِ من مالك أمورِهم ومبلِّغِهم إلى كمالاتها اللائقةِ بهم . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « من استرجعَ عند المصيبةِ جَبر الله مصيبَته وأحسن عُقباه وجعل له خَلَفاً صالحاً يرضاه » { وَأُوْلئِكَ } إشارةٌ إليهم إما بالاعتبار السابقِ ، والتكريرُ لإظهارِ كمالِ العناية بهم ، وإما باعتبار حيازتِهم لما ذُكر من الصلوات والرحمة المترتبِ على الاعتبار الأول ، فعلى الأول المرادُ بالاهتداء في قوله عز وجل : { هُمُ المهتدون } هو الاهتداءُ للحق والصواب مطلقاً لا الاهتداءُ لما ذكر من الاسترجاعِ والاستسلامِ خاصة ، لما أنه متقدمٌ عليهما فلا بدّ لتأخيره عما هو نتيجةٌ لهما من داعٍ يوجبُه ، وليس بظاهر . والجملة اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله كأنه قيل : وأولئك هم المختصون بالاهتداء لكل حقَ وصواب ولذلك استرجعوا واستسلموا لقضاء الله تعالى ، وعلى الثاني هو الاهتداءُ والفوزُ بالمطالب ، والمعنى أولئك هم الفائزون بمباغيهم الدينيةِ والدنيويةِ فإن مَنْ نال رأفةَ الله تعالى ورحمتَه لم يفُتْه مَطلبٌ .(1/227)
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
{ إِنَّ الصفا والمروة } علمانِ لجبلين بمكةَ المعظمةِ كالصَّمّان والمُقَطَّم { مِن شَعَائِرِ الله } من أعلام مناسكِه جمعُ شعيرةٍ وهي العلامة { فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر } الحجُّ في اللغة القصدُ والاعتمارُ الزيارة غلباً في الشريعة على قصدِ البيت وزيارتِه على الوجهين المعروفين كالبيت والنجم في الأعيان ، وحيث أُظهر البيتُ وجب تجريدُه عن التعلق به { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } أي في أن يطوفَ بهما أصلُه يتطوف ، قلبت التاءُ طاءً فأدغمت الطاءُ في الطاء ، وفي إيراد صيغةِ التفعُّل إيذانٌ بأن من حق الطائفِ أن يتكلف في الطواف ويبذُل فيه جُهدَه ، وهذا الطواف واجبٌ عندنا ، وعن الشافعي ومالك رحمهما الله أنه ركنٌ ، وإيرادُه بعدم الجُناح المشعرِ بالتخيير لما أنه كان في عهد الجاهلية على الصفا صنمٌ يقال له إساف ، وعلى المروة آخرُ اسمُه نائلة وكانوا إذا سعَوْا بينهما مسَحوا بهما ، فلما جاء الإسلامُ وكسَّر الأصنامَ تحرَّج المسلمون أن يطوفوا بينهما لذلك ، فنزلت . وقيل : هو تطوُّع ، ويعضُده قراءةُ ابنِ مسعود فلا جُناحَ عليه أن لا يطوفَ بهما { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } أي فعلَ طاعةً فرضاً كان أو نفلاً أو زاد على ما فُرض عليه من حج أو عمرةٍ أو طوافٍ ، وخيراً حينئذ نُصب على أنه صفةٌ لمصدر محذوفٍ أي تطوعاً خيراً ، أو على حذف الجار وإيصال الفعل إليه ، أو على تضمين معنى فَعلَ ، وقرىء يَطوَّع وأصلُه يتطوع مثل يطَّوّف وقرىء ومن يَتَطَوَّع بخيرٍ { فَإِنَّ الله شَاكِرٌ } أي مُجازٍ على الطاعة عُبّر عن ذلك بالشكر مبالغةً في الإحسان إلى العباد { عَلِيمٌ } مبالغ في العلم بالأشياء فيعلم مقاديرَ أعمالِهم وكيفياتِها فلا يَنْقُصُ من أجورهم شيئاً ، وهو علةٌ لجواب الشرطِ قائم مقامَه ، كأنه قيل : ومن تطوعَ خيراً جازاه الله وأثابه فإن الله شاكرٌ عليم .(1/228)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
{ إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ } قيل : نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا ما في التوراة من نُعوت النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الأحكام . وعن ابن عباس ومجاهدٍ وقَتادةَ والحسنِ والسُّدي والربيع والأصمِّ أنها نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وقيل : نزلت في كل من كتم شيئاً من أحكام الدين لعموم الحكمِ للكل ، والأقربُ هو الأول فإن عمومَ الحُكم لا يأبى خصوصَ السبب والكَتم والكتمان تركُ إظهارِ الشيء قصداً مع مساس الحاجة إليه وتحققِ الداعي إلى إظهاره ، وذلك قد يكون بمجرد سَترِه وإخفائِه وقد يكون بإزالته ووضْعِ شيءٍ آخرَ في موضعه ، وهو الذي فعله هؤلاء .
{ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات } من الآيات الواضحة الدالةِ على أمر محمد صلى الله عليه وسلم { والهدى } أي والآياتِ الهاديةِ إلى كُنه أمرِه ووجوب اتباعِه والإيمانِ به ، عَبَّر عنها بالمصدر مبالغةً ولم يُجمَعْ مراعاةُ للأصل وهي المرادة بالبينات أيضاً والعطفُ لتغايُر العنوان كما في قوله عز وجل : { هُدًى لّلنَّاسِ وبينات } الخ وقيل : المراد بالهدى الأدلةُ العقلية ويأباه الإنزالُ والكتم { مِن بَعْدِ مَا بيناه لِلنَّاسِ } متعلق بيكتمون والمرادُ بالناس الكلُّ لا الكاتمون فقط واللام متعلقة ببيناه ، وكذا الظرف في قوله تعالى : { فِى الكتاب } فإن تعلقَ جارَّيْن بفعلٍ واحدٍ عند اختلافِ المعنى مما لا ريب في جوازه أو الأخيرُ متعلقٌ بمحذوفٍ وقع حالاً من مفعوله أي كائناً في الكتاب وتبيينُها لهم تلخيصُه وإيضاحُه بحيث يتلقاه كلُّ أحد منهم من غير أن يكون له فيه شُبهةٌ ، وهذا عنوانٌ مغايرٌ لكونه بيناً في نفسه ، و ( هدىً ) مؤكداً لقبح الكتم ، أو تفهيمُه لهم بواسطة موسى عليه السلام والأول أنسبُ بقوله تعالى في الكتاب ، والمرادُ بكتمه إزالتُه ووضعُ غيرِه في موضعه فإنهم محَوْا نعته عليه الصلاة والسلام وكتبوا مكانه ما يخالفه كما ذكرناه في تفسير قوله عز وعلا : { فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب } الخ { أولئك } إشارةٌ إليهم باعتبار ما وصفوا به للإشعار بعلِّيته لما حاق بهم ، وما فيه من معنى البعدُ للإيذان بتَرامي أمرهم وبُعد منزلتِهم في الفساد { يَلْعَنُهُمُ الله } أي يطرُدهم ويبعدهم من رحمته ، والالتفاتُ إلى الغَيبة بإظهار اسمِ الذاتِ الجامعِ للصفاتِ لتربية المهابةِ وإدخالِ الروعةِ والإشعارِ بأن مبدأ صدورِ اللعن عنه سبحانه صفةُ الجلالِ المغايرةِ لما هو مبدأ الإنزال والتبيينِ من وصَفِ الجمالِ والرحمة { وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون } أي الذين يتأتى منهم اللعنُ أي الدعاءُ عليهم باللعن من الملائكة ومؤمني الثقلين ، والمرادُ بيانُ دوام اللعنِ واستمرارُه ، وعليه يدور الاستثناءُ المتصلُ في قوله تعالى : { إِلاَّ الذين تَابُواْ } أي عن الكِتمان { وَأَصْلَحُواْ } أي ما أفسدوا بأن أزالوا الكلامَ وكتبوا مكانه ما كانوا أزالوه عند التحريف { وَبَيَّنُواْ } للناس معانيَه فإنه غير الإصلاح المذكور ، أو بينوا لهم ما وقع منهم أولاً وآخراً ، فإنه أدخلُ في إرشاد الناس إلى الحق ، وصرفُهم عن طريق الضلال الذي كانوا أوقعوهم فيه أو بيّنوا توبتَهم ليمحُوا به سِمةَ ما كانوا فيه ويقتديَ بهم أضرابُهم ، وحيث كانت هذه التوبة المقرونةُ بالإصلاح والتبيين مستلزمةً للتوبة عن الكفر مبينةً عليها لم يصرَّحْ بالإيمان .(1/229)
وقولُه تعالى : { فَأُوْلَئِكَ } إشارةٌ إلى الموصولِ باعتبار اتصافِه بما في حيز الصلةِ للإشعار بعلّيته للحكم ، والفاءُ لتأكيد ذلك { أَتُوبُ عَلَيْهِمْ } أي بالقَبول وإفاضةِ المغفرة والرحمة ، وقوله تعالى : { وَأَنَا التواب الرحيم } أي المبالغُ في قبول التوْب ونشرِ الرحمةِ ، اعتراضٌ تذييليٌّ محققٌ لمضمون ما قبله ، والالتفاتُ إلى التكلم للافتنان في النظمِ الكريم مع ما فيه من التلويحِ والرمزِ إلى ما مر من اختلاف المبدأ في فِعليه تعالى السابقِ واللاحِقِ .(1/230)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ } جملةٌ مستأنفة سيقت لتحقيق بقاءِ اللعن فيما وراء الاستثناءِ وتأكيدِ دوامِه واستمرارِه على غير التائبين حسبما يفيده الكلام ، والاقتصارُ على ذكر الكفر في الصلة من غير تعرضٍ لعدم التوبة والإصلاحِ والتبيينِ مبنيٌّ على ما أشير إليه فكما أن وجودَ تلك الأمور الثلاثةِ مستلزِمٌ للإيمان الموجبِ لعدم الكفر كذلك وجودُ الكفر مستلزمٌ لعدمها جميعاً أي أن الذين استمروا على الكفر المستتبِع للكتمان وعدمِ التوبة { وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ } لا يرعوون عن حالتهم الأولى { أولئك } الكلامُ كما فيما قبله { عَلَيْهِمْ } أي مستقِرٌّ عليهم { لَعْنَةُ الله والملئكة والناس أَجْمَعِينَ } ممن يُعتَدُّ بلعنهم ، وهذا بيانٌ لدوامها الثبوتي بعد بيان دوامِها التجدّدي ، وقيل : الأولُ لعنتَهم أحياءً وهذا لعنتُهم أمواتاً . وقرىء والملائكةُ والناسُ أجمعون عطفاً على محلِّ اسم الله لأنه فاعلٌ في المعنى ، كقولك : أعجبني ضربُ زيدٍ وعمروٍ ، تريد مِنْ أنْ ضَربَ زيدٌ وعمروٌ ، كأنه قيل : أولئك عليهم أنْ لعنهم الله والملائكةُ الخ وقيل : هو فاعل لفعل مقدرٍ أي ويلعنهم الملائكة { خالدين فِيهَا } أي في اللعنة أو في النار على أنها أُضمرت من غير ذكرٍ تفخيماً لشأنها وتهويلاً لأمرِها { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب } إما مستأنفٌ لبيان كثرة عذابِهم من حيث الكيفُ إثرَ بيانِ كثرتِه من حيث الكمُّ أو حال من الضمير في خالدين على وجه التداخُل أو من الضمير في عليهم على طريقة الترادُف { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } عطفٌ على ما قبله جارٍ فيه ، وإيثارُ الجملةِ الاسميةِ لإفادة دوامِ النفي واستمراره أي لا يُمهلون ولا يُؤجّلون أو لا يُنتظرون ليعتذروا أو لا يُنظر إليهم نَظَر رحمة { وإلهكم } خطابٌ عام لكافة الناس أي المستحِقُّ منكم للعبادة { إله واحد } أي فردٌ في الإلهية لا صحةَ لتسمية غيرِه إلها أصلاً { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } خبرٌ ثانٍ للمبتدأ أو صفةٌ أخرى للخبر أو اعتراضٌ ، وأياً ما كان فهو مقرِّرٌ للوحدانية ومُزيحٌ لما عسى أن يُتوهّم أن في الوجود إلها لكن لا يستحق العبادة { الرحمن الرحيم } خبران آخرانِ للمبتدأ أو لمبتدأ محذوفٍ وهو تقريرٌ للتوحيد فإنه تعالى حيث كان مُولياً لجميع النعم أصولِها وفروعِها جليلِها ودقيقِها وكان ما سواه كائناً ما كان مفتقراً إليه في وجوده وما يتفرَّع عليه من كمالاته تحققتْ وحدانيتُه بلا ريب وانحصر استحقاقُ العبادةِ فيه تعالى قطعاً .
قيل : كان للمشركين حول الكعبة المكرمة ثلثُمائة وستون صنماً فلما سمعوا هذه الآيةَ تعجبوا وقالوا : إن كنت صادقاً فأتِ بآيةٍ نعرِفْ بها صدقك فنزلت .(1/231)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والارض } أي في إبداعهما على ما هما عليه مع ما فيهما من تعاجيب العِبَر وبدائِع صنائعَ يعجِزُ عن فهمها عقولُ البشر ، وجمعُ السموات لما هو المشهورُ من أنها طبقاتٌ متخالفة الحقائقِ دون الأرض { واختلاف اليل والنهار } أي اعتقابِهما وكونِ كلَ منهما خلَفاً للآخر كقوله تعالى : { وَهُوَ الذى جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً } أو اختلافُ كل منهما في أنفسهما ازدياداً وانتقاصاً على ما قدّره الله تعالى { والفلك التى تَجْرِى فِى البحر } عطفٌ على ما قبله ، وتأنيثُه إما بتأويل السفينة أو بأنه جمعٌ فإن ضمةَ الجمعِ مغايرةٌ لضمة الواحد في التقدير إذ الأُولى كما في حُمُر والثانية كما في قُفْل وقرىء بضم اللام { بِمَا يَنفَعُ الناس } أي ملتبسة بالذي ينفعُهم مما يُحمل فيها من أنواع المنافعِ أو بنفعهم { وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السماء مِن مَّاء } عطفٌ على الفلك ، وتأخيرُه عن ذكرها مع كونه أعمَّ منها نفعاً لما فيه من مزيد تفصيلٍ وقيل : المقصودُ الاستدلالُ بالبحر وأحوالِه ، وتخصيصُ الفلك بالذكر لأنه سببُ الخوض فيه والاطلاعِ على عجائبه ، ولذلك قدِّم على ذكر المطرِ والسحابِ لأن منشأهما البحرُ في غالب الأمر ، و ( من ) الأولى ابتدائيةٌ والثانية بيانية أو تبعيضية ، وأيا ما كان فتأخيرُها لما مرَّ مراراً من التشويقِ ، والمرادُ بالسماء الفَلَكُ أو السحابُ أو جهةُ العلوِّ { فأحيا بِهِ الارض } بأنواع النباتِ والإزهارِ وما عليها من الأشجار { بَعْدَ مَوْتِهَا } باستيلاء اليُبوسةِ عليها حسبما تقتضيه طبيعتُها كما يوزن به إيرادُ الموت في مقابلة الإحياء { وَبَثَّ فِيهَا } أي فرَّق ونشر { مِن كُلّ دَابَّةٍ } من العقلاء وغيرهم ، والجملة معطوفةٌ على ( أنزل ) داخلةٌ تحت حكمِ الصلةِ ، وقوله تعالى : فأحيا الخ متصلٌ بالمعطوف عليه بحيث كانا في حكم شيءٍ واحد ، كأنه قيل : وما أَنزل في الأرض من ماءٍ وبثَّ فيها الخ أو على أحيا بحذف الجارِّ والمجرور العائدِ إلى الموصول ، وإن لم تتحقق الشرائِطُ المعهودةُ كما في قوله :
وإن لساني شَهْدةٌ يشتفى بها ... ولكنْ على مَنْ صَبَّه الله علقمُ
أي علقمٌ عليه وقولِه :
لعلَّ الذي أصْعَدْتَني أن يرُدَّني ... إلى الأرضِ إن لم يقدِرِ الخيرَ قادِرُهْ
على معنى فأحيا بالماء الأرضَ وبث فيها من كل دابةٍ فإنهم ينمُون بالخصب ويعيشون بالحَيا { وَتَصْرِيفِ الرياح } عطفٌ على ( ما أنزل ) أي تقليبِها من مقلبٍ إلى آخرَ أو من حال إلى أخرى ، وقرىء على الإفراد { والسحاب } عطفٌ على تصريفِ أو الرياحِ ، وهو اسمُ جنسٍ واحده سَحابةٌ سمي بذلك لانسحابه في الجو { المسخر بَيْنَ السماء والارض } صفةٌ للسحاب باعتبار لفظه ، وقد يُعتبر معناه فيوصف بالجمع كما في قوله تعالى : { سَحَابًا ثِقَالاً } وتسخيرُه تقليبُه في الجو بواسطة الرياحِ حسبما تقتضيه مشيئةُ الله تعالى ، ولعل تأخيرَ تصريفِ الرياحِ وتسخيرِ السحاب في الذكر عن جريان الفُلك وإنزال الماء مع انعكاس الترتيب الخارجيّ لما مر في قصة البقرة من الإشعار باستقلال كلَ من الأمور المعدودة في كونها آيةً ، ولو رُوعيَ الترتيبُ الخارجيُّ لربما تُوهُم كونُ المجموعِ المترتبِ بعضُه على بعضٍ آيةً واحدة { لاَيَاتٍ } اسمُ ( إن ) دخلته اللامُ لتأخرّه عن خبرها ، والتنكيرُ للتفخيم كماً وكيفاً ، أي آياتٍ عظيمةً كثيرةً دالةً على القدرة القاهرة والحِكمة الباهرةِ ، والرحمةِ الواسعة المقتضيةِ لاختصاص الألوهية به سبحانه { لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي يتفكرون فيها وينظرون إليها بعيون العقول ، وفيه تعريضٌ بجهل المشركين الذين اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم آيةً تصدِّقه في قوله تعالى : { وإلهكم إله واحد } وتسجيلٌ عليهم بسخافة العقولِ وإلا فمن تأمل في تلك الآيات وجدَ كلاً منها ناطقةً بوجوده تعالى ووحدانيته وسائرِ صفاتِه الكماليةِ الموجبةِ لتخصيص العبادةِ به تعالى واستُغني بها عن سائرها فإن كل واحدٍ من الأمور المعدودةِ قد وجد على وجه خاصَ من الوجوه الممكنةِ دون ما عداه مستتبعاً لآثار معينةٍ وأحكامٍ مخصوصةٍ من غير أن تقتضي ذاتُه وجودَه فضلاً عن وجوده على نمطٍ معين مستتبعٍ لحكمٍ مستقل ، فإذن لا بد له حتماً من موجدٍ قادر حكيمٍ يوجده حسبما تقتضيه حكمتُه وتستدعيه مشيئتُه متعالٍ عن معارضة الغير ، إذ لو كان معه آخرُ يقدِر على ما يقدر عليه لزمَ إما اجتماعُ المؤثِّرَيْن على أثر واحدٍ ، أو التمانعُ المؤدي إلى فساد العالم .(1/232)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
{ وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله } بيانٌ لكمال ركاكةِ آراءِ المشركين إثرَ تقريرِ وحدانيتِه سبحانه وتحريرِ الآياتِ الباهرةِ المُلجئةِ للعقلاء إلى الاعتراف بها الفائضةِ باستحالة أن يشاركَه شيءٌ من الموجودات في صفة من صفات الكمالِ فضلاً عن المشاركة في صفات الألوهية ، والكلامُ في إعرابه كما فُصّل في قوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله وباليوم الأخر } الخ ومن دون الله متعلق بيتخذ أي من الناس مَنْ يتخذ من دون ذلك الإله الواحدِ الذي ذُكرتْ شؤونُه الجليلةُ ، وإيثارُ الاسمِ الجليل لتعيينه تعالى بالذات غِبَّ تعيينه بالصفات { أَندَاداً } أي أمثالاً وهم رؤساؤُهم الذين يتبعونهم فيما يأتون وما يذرون ، لا سيما في الأوامر والنواهي كما يُفصح عنه ما سيأتي من وصفهم بالتبرِّي من المتّبعين وقيل : هي الأصنام ، وإرجاعُ ضميرِ العقلاءِ إليها في قوله عز وعلا : { يُحِبُّونَهُمْ } مبنيٌّ على آرائهم الباطلةِ في شأنها ، وصفَهم بما لا يوصف به إلا العقلاءُ ، والمحبةُ ميلُ القلب ، من الحب استُعير لحبَّة القلبِ ثم اشتُق منه الحبُ لأنه أصابها ورسخ فيها ، والفعل منها حبَّ على حد مَدّ لكن الاستعمالَ المستفيضَ على أحب حباً ومحبةً فهو مُحِب وذاك محبوبٌ ومُحَبّ قليل ، وحابّ أقلُ منه ومحبةُ العبد لله سبحانه إرادةُ طاعته في أوامره ونواهيه ، والاعتناءُ بتحصيل مراضيه ، فمعنى يُحبونهم يطيعونهم ويعظمونهم والجملة في حيز النصبِ إما صفةٌ لأنداداً أو حالٌ من فاعل يتخذ وجمعُ الضمير باعتبار معنى مَنْ كما أن إفرادَه باعتبار لفظِها { كَحُبّ الله } مصدر تشبيهيٌّ أو نعتٌ لمصدر مؤكدٍ للفعل السابق ومن قضية كونِه مبنياً للفاعل كونُه أيضاً كذلك ، والظاهرُ اتحادُ فاعلِهما فإنهم كانوا يُقِرّون به تعالى أيضاً ويتقربون إليه فالمعنى حباً كائناً كحبهم لله تعالى ، أي يسوّون بينه تعالى وبينهم في الطاعة والتعظيم ، وقيل : فاعلُ الحبِّ المذكورِ همُ المؤمنون فالمعنى حباً كائناً كحب المؤمنين له تعالى ، فلا بد من اعتبار المشابهة بينهما في أصل الحبِّ لا في وصفِه كماً أو كيفاً لما سيأتي من التفاوت البين وقيل : هو مصدر من المبنيّ للمفعول أي كما يُحب الله تعالى ويعظم ، وإنما استُغني عن ذكر مَنْ يحبه لأنه غير ملبس ، وأنت خبير بأنه لا مشابهةَ بين محبتِهم لأندادهم وبين محبوبيتِه تعالى ، فالمصيرُ حينئذ ما أسلفناه في تفسير قوله عز قائلاً : { كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ } وإظهارُ الاسم الجليلِ في مقام الإضمارِ لتربية المهابة ، وتفخيمِ المضاف وإبانةِ كمال قُبحِ ما ارتكبوه .
{ والذين ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ } جملة مبتدأة جيءَ بها توطئةً لما يعقُبها من بيان رخاوةِ حبِّهم وكونِه حسرة عليهم ، والمفضلُ عليه محذوفٌ أي المؤمنون أشدُّ حباً له تعالى منهم لأندادهم ، ومآلُه أن حبَّ أولئك له تعالى أشدُّ من حب هؤلاءِ لأندادهم فيه من الدَلالة على كون الحبِّ مصدراً من المبني للفاعل ما لا يخفى ، وإنما لم يُجعل المفضلُ عليه حبَّهم لله تعالى لما أن المقصودَ بيانُ انقطاعِه وانقلابِه بغضاً وذلك إنما يُتصور في حبهم لأندادهم لكونه منوطاً بمبانٍ فاسدةٍ ومبادٍ موهومةٍ يزول بزوالها ، قيل : ولذلك كانوا يعدلون عنها عند الشدائد إلى الله سبحانه وكانوا يعبُدون صنماً أياماً فإذا وجدوا آخَرَ رفضوه إليه .(1/233)
وقد أكلت باهلةُ إلها عام المجاعةِ وكان من حيس . وأنت خبير بأن مدارَ ذلك اعتبارُ اختلال حبِّهم لها في الدنيا ، وليس الكلام فيه بل في انقطاعه في الآخرة عند ظهورِ حقيقةِ الحال ومعاينةِ الأهوال كما سيأتي بل اعتبارُه مخِلٌّ بما يقتضيه مقامُ المبالغة في بيان كمالِ قبحِ ما ارتكبوه وغايةِ عظم ما اقترفوه ، وإيثارُ الإظهار في موضع الإضمار لتفخيم الحُبِّ والإشعارِ بعلّته { وَلَوْ يَرَى الذين ظَلَمُواْ } أي باتخاذ الأنداد ووضعِها موضعَ المعبود { إِذْ يَرَوْنَ العذاب } المُعدَّ لهم يومَ القيامة أي لو علِموا إذا عاينوه ، وإنما أوثر صيغةُ المستقبل لجريانها مجرى الماضي في الدلالة على التحقيق في أخبار علامِ الغيوب { أَنَّ القوة لِلَّهِ جَمِيعًا } سادّ مسدَّ مفعولي يرى { وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب } عطفٌ عليه وفائدتُه المبالغةُ في تهويل الخطبِ وتفظيعِ الأمر فإن اختصاصَ القوة به تعالى لا يوجب شدةَ العذاب لجواز تركِه عفواً مع القدرة عليه ، وجوابُ لو محذوفٌ للإيذان بخروجه عن دائرة البيانِ ، إما لعدم الإحاطةِ بكنهه وإما لضيق العبارةِ عنه وإما لإيجاب ذكرِه ما لا يستطيعه المعبِّر أو المستمِعُ من الضجر والتفجُّع عليه أي لو علموا إذ رأوُا العذابَ قد حل بهم ولم يُنقِذْهم منه أحدٌ من أندادهم أن القوة لله جميعاً ، ولا دخل لأحد في شيء أصلاً لوقعوا من الحسرة والندم فيما لا يكاد يوصف وقرىء ولو ترى بالتاء الفوقانية على أن الخطابَ للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلُح للخطاب فالجوابُ حينئذ لرأيتَ أمراً لا يوصَف من الهول والفظاعة ، وقرىء إذ يُرَوْن على البناء للمفعول وأن الله شديد العذاب على الاستئناف وإضمارِ القول .(1/234)
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)
{ إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا } بدلٌ من ( إذ يرون ) أي إذ تبرأ الرؤساء { مِنَ الذين اتبعوا } من الأتْباع بأن اعترفوا ببطلان ما كانوا يدّعونه في الدنيا ويدْعونهم إليه من فنون الكفر والضلالِ واعتزلوا عن مخالطتهم وقابلوهم باللعن كقول إبليس : إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ وقرىء بالعكس أي تبرأ الأتْباعُ من الرؤساء والواو في قوله عز وجل : { وَرَأَوُاْ العذاب } حالية وقد مضمرةٌ ، وقيل : عاطفةٌ على ( تبرأ ) والضمير في رأوا للموصوفين جميعاً { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاسباب } الوصلةُ التي كانت بينهم من التبعية والمتبوعيةِ والاتّفاقِ على الملة الزائغةِ والأغراضِ الداعيةِ إلى ذلك ، وأصلُ السبب الحبلُ الذي يرتقى به الشجرُ ونحوُه ، والجملةُ معطوفةٌ على ( تبرأ ) وتوسيطُ الحال بينهما للتنبيه على علة التبرّي ، وقد جُوّز عطفُها على الجملة الحالية .(1/235)
وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)
{ وَقَالَ الذين اتبعوا } حين عاينوا تبرُؤَ الرؤساءِ منهم وندِموا على ما فعلوا من اتّباعهم لهم في الدنيا { لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً } أي ليت لنا رجعةً إلى الدنيا { فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ } هناك { كَمَا تبرءوا منا } اليوم { كذلك } إشارةٌ إلى مصدر الفعلِ الذي بعده لا إلى شيءٍ آخرَ مفهومٍ مما سبق ، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجةِ المشارِ إليه وبُعد منزلتِه مع كمال تميُّزِه عما عداه وانتظامِه في سلك الأمورِ المشاهدة ، والكافُ مُقحَمةٌ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامةِ ، ومحلُه النصبُ على المصدرية أي ذلك الإراءَ الفظيعَ { يُرِيهِمُ الله أعمالهم حسرات عَلَيْهِمْ } أي نداماتٍ شديدةً فإن الحسرةَ شدةُ الندم والكمَدِ ، وهي تألمُ القلبِ وانحسارُه عما يُؤْلمه ، واشتقاقُه من قولهم بعير حسيرٌ أي منقطعٌ القوة وهي ثالثُ مفاعيلِ يُري إن كان من رؤية القلبِ وإلا فهي حالٌ ، والمعنى أن أعمالَهم تنقلبُ حسراتٍ عليهم فلا يرَوْن إلا حسراتٍ مكانَ أعمالِهم { وَمَا هُم بخارجين مِنَ النار } كلامٌ مستأنفٌ لبيان حالِهم بعد دخولِهم النارَ ، والأصلُ وما يخرجون ، والعدولُ إلى الاسمية لإفادة دوامِ نفي الخروج ، والضميرُ للدَلالة على قوةِ أمرِهم فيما أُسند إليهم كما في قوله :
هُمُ يفرُشون اللِّبْدَ كُلَّ طِمِرَّة ... وأجردَ سبّاقٍ يبزّ المُغالبا
{ يأَيُّهَا الناس كُلُواْ مِمَّا فِى الارض } أي بعضِ ما فيها من أصناف المأكولات التي من جملتها ما حرّمتموه افتراءً على الله من الحرْثِ والأنعام . قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في قومٍ من ثقيفٍ وبني عامرِ بنِ صَعْصَعةَ وخُزاعةَ وبني مدلج حرَّموا على أنفسهم ما حرّموا من الحرْث والبحائرِ والسوائبِ والوصائل والحامِ ، وقولُه تعالى : { حلالا } حال من الموصول أي كلوه حال كونه حلالاً ، أو مفعولٌ لكلوا على أنّ مِنْ ابتدائيةٌ وقد جُوِّز كونُه صفةً لمصدر مؤكَّدٍ أي أكلاً حلالاً ، ويؤيد الأولَيْن قولُه تعالى : { طَيّباً } فإنه صفةٌ له ووصفُ الأكل به غيرُ معتاد ، وقيل : نزلت في قوم من المؤمنين حرموا على أنفسهم رفيعَ الأطعمة والملابس ، ويردّه قوله عز وجل : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان } أي لا تقتدوا بها في اتباع الهوى فإنه صريحٌ في أن الخطابَ للكفرة ، كيف لا وتحريمُ الحلال على نفسه تزهيداً ليس من باب اتباع خطواتِ الشيطانِ فضلاً عن كونه تقوُّلاً وافتراءً على الله تعالى ، وإنما الذي نزل فيهم ما في سورة المائدة من قوله تعالى : ا { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ } الآية ، وقرىء ( خُطْواتِ ) بسكون الطاء وهما لغتان في جمع خُطْوة وهي ما بين قدمي الخاطي ، وقرىء بضمتين وهمزة ، جعلت الضمةُ على الطاء كأنها على الواو ، وبفتحتين على أنها جمعُ خَطْوة وهي المرة من الخَطْو { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } تعليل للنهي ، أي ظاهرُ العداوة عند ذوي البصيرة وإن كان يُظهر الولاية لمن يُغويه ، ولذلك سُمِّي ولياً في قوله تعالى : { أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت }(1/236)
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)
{ إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بالسوء والفحشاء } استئنافٌ لبيان كيفيةِ عداوتِه وتفصيلٌ لفنون شرِّه وإفسادِه وانحصارِ معاملتِه معهم في ذلك ، والسوءُ في الأصل مصدرُ ساءه يسوؤُه سُوءاً ومَساءةً إذا أحزنه يُطلقُ على جميع المعاصي سواءٌ كانت من أعمال الجوارحِ أو أفعالِ القلوب ، لاشتراك كلِّها في أنها تسوءُ صاحبَها ، والفحشاءُ أقبحُ أنواعِها وأعظمُها مساءةً { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } عطفٌ على الفحشاء ، أي وبأن تفتروا على الله بأنه حرّم هذا وذاك ، ومعنى ما لا تعلمون أن الله تعالى أمرَ به ، وتعليقُ أمرِه بتقوُّلِهم على الله تعالى ما لا يعلمون وقوعَه منه تعالى لا بتقوُّلهم عليه ما يعلمون عدمَ وقوعِه منه تعالى ، مع أن حالَهم ذلك للمبالغة في الزجر ، فإن التحذيرَ من الأول مع كونه في القُبْحِ والشناعةِ دون الثاني تحذيرٌ عن الثاني على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه وللإيذان بأن العاقلَ يجب عليه ألا يقولَ على الله تعالى ما لا يعلم وقوعَه منه تعالى مع الاحتمال فضلاً عن أن يقول عليه ما يعلم عدمَ وقوعِه منه تعالى ، قالوا : وفيه دليلٌ على المنع من اتباع الظنِّ رأساً ، وأما اتباعُ المجتهدِ لما أدَّى إليه ظنُّه فمستنِدٌ إلى مَدْرَكٍ شرعيَ فوجوبُه قطعيٌّ والظنُّ في طريقه { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله } التفاتٌ إلى الغَيْبة تسجيلاً بكمال ضلالِهم وإيذاناً بإيجاب تعدادِ ما ذُكر من جناياتهن لصرف العذابِ عنهم وتوجيهِه إلى العقلاء ، وتفصيلُ مساوي أحوالِهم لهم على نهج المَبائةِ أي إذا قيل لهم على وجه النصيحةِ والإرشادِ : اتبعوا كتاب الله الذي أنزله { قَالُواْ } لا نتبعه { بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا } أي وجدناهم عليه ، إما على أن الظرفَ متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من آباءَنا وألفَيْنا متعدَ إلى واحد ، وإما على أنه مفعولٌ ثانٍ له مقدمٌ على الأول . نزلت في المشركين أُمروا باتباع القرآنِ وسائرِ ما أنزل الله تعالى من الحجج الظاهرةِ والبينات الباهرةِ فجنحوا للتقليد ، والموصولُ إما عبارةٌ عما سبق من اتخاذ الأندادِ وتحريمِ الطيبات ونحوِ ذلك وإما باقٍ على عمومه ، وما ذُكر داخلٌ فيه دخولاً أولياً وقيل : نزلت في طائفة من اليهود دعاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقالوا : بل نتبعُ ما وجدْنا عليه آباءَنا لأنهم كانوا خيراً منا وأعلم ، فعلى هذا يعُمّ ما أنزل الله تعالى التوراةَ لأنها أيضاً تدعو إلى الإسلام ، وقوله عز وجل : { أولو كانَ آبَاؤهُمْ لاَ يَعْقِلُون شَيئاً وَلاَ يَهْتَدُون } استئنافٌ مَسوقٌ من جهته تعالى رداً لمقالتهم الحمقاءِ وإظهاراً لبطلان آرائِهم ، والهمزة لإنكار الواقعِ واستقباحِهِ والتعجبِ منه ، لا لإنكار الوقوعِ كالتي في قوله تعالى : { أَوَلَوْ كُنَّا كارهين } وكلمة لو في أمثال هذا المقامِ ليست لبيان انتفاءِ الشيءِ في الزمان الماضي لانتفاء غيرِه فيه ، فلا يلاحَظُ لها جوابٌ قد حُذف ثقةً بدلالة ما قبلها عليه بل هي لبيان تحققِ ما يفيده الكلامُ السابقُ بالذات أو بالواسطة من الحُكم الموجَبِ أو المنفيّ على كل حالٍ مفروضٍ من الأحوال المقارِنةِ له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدِّها منافاةً له ليظهرَ بثبوته أو انتفائِه معه ثبوتُه أو انتفاؤه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولية ، لما أن الشيءَ متى تحقّق مع المنافي القويِّ فَلأَنْ يتحقَّقَ مع غيره أولى ولذلك لا يُذكر معه شيءٌ من سائر الأحوال ، ويكتفى عنه بذكر الواو العاطفةِ للجملة على نظيرتها المقابلةِ لها المتناولةِ لجميع الأحوالِ المغايرةِ لها ، وهذا معنى قولِهم إنها لاستقصاء الأحوالِ على سبيل الإجمال ، وهذا المعنى ظاهرٌ في الخبر الموجَبِ والمنفيِّ والأمرِ والنهي ، كما في قولك : فلانٌ جوادٌ يُعطي ولو كان فقيراً ، وبخيلٌ لا يعطي ولو كان غنياً ، وقولِك : أحسنْ إليه ولو أساءَ إليك ولا تُهِنْه ولو أهانك ، لبقائه على حاله ، وأما فيما نحن فيه ففيه نوعُ خفاءٍ ناشىءٍ من ورود الإنكارِ عليه لكن الأصلَ في الكل واحدٌ إلا أن كلمةَ ( لو ) في الصور المذكورة متعلقةٌ بنفس الفعل المذكورِ قبلها وأن ما يُقصدُ بيانُ تحققِه على كل حالٍ هو نفسُ مدلولِه وأن الجملةَ حالٌ من ضميره أو مما يتعلّق به ، وأن ما في حيِّز ( لو ) باقٍ على ما هو عليه من الاستبعاد غالباً بخلاف ما نحن فيه ، لما أن كلمةَ لو متعلقةٌ فيه بفعل مقدرٍ يقتضيه المذكورُ وأن ما يُقصد بيانُ تحققِه على كل حالٍ مدلولُه لا مدلولُ المذكور من حيث هو مدلولُه ، وأن الجملةَ حالٌ مما يتعلّق به لا مما يتعلق بالمذكور من حيث هو متعلِّقٌ به وأن المقصودَ الأصليَّ إنكارُ مدلولِه باعتبار مقارنته للحالة المذكورة ، وأما تقديراً لمقارنته لغيرها فلتوسيع الدائرة وأن ما في حيز ( لو ) لا يُقصد استبعادُه في نفسه بل يقصد الإشعارُ بأنه أَمْرٌ محقَّق إلا أنه أُخرج مُخرَجَ الاستبعادِ معاملةً مع المخاطَبين على معتقدهم لئلا يلبَسوا من التصريح بنسبة آبائهم إلى كمال الجهالةِ والضلالةِ جلدَ النَّمِرِ فيركبوا متنَ العِناد ، ومبالغةً في الإنكار من جهة اتباعهم لآبائهم حيث كان منكراً مستقبحاً عند احتمالِ كونِ آبائهم كما ذُكر احتمالاً بعيداً فلأَنْ يكونَ مُنْكراً عند تحققِ ذلك أولى ، والتقديرُ أيتبعون ذلك لو لم يكن آباؤهم لا يعقلون شيئاً من الدين ولا يهتدون للصواب ، ولو كانوا كذلك فالجملةُ في حيز النصب على الحالية من آبائهم على طريقة قولِه تعالى :(1/237)
{ أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا } كأنه قيل : أيتبعون دين آبائهم حالَ كونِهم غافلين وجاهلين ضالّين إنكاراً لما أفاده كلامُهم من الاتّباع على أيّ حالةٍ كانت من الحالتين غير أنه اكتُفيَ بذكر الحالةِ الثانية تنبيهاً على أنها هي الواقعةُ في نفس الأمرِ وتعويلاً على اقتضائها للحالة الأولى اقتضاءً بيّناً ، فإن اتباعهم الذي تعلق به الإنكارُ حيث تحقق مع كون آبائِهم جاهلين ضالين فلأَنْ يتحقّقَ مع كونهم عاقلين ومُهتدين أوْلى .(1/238)
إن قلتَ : الإنكارُ المستفادُ من الاستفهام الإنكاريِّ بمنزلة النفي ولا ريب في أن الأولويةَ في صورة النفي معتبرةٌ بالنسبة إلى النفي ألا يرى أن الأولى بالتحقق فيما ذكر من مثال النفي عند الحالة المسكوتِ عنها أعني عدمَ الغنى هو عدمُ الإعطاء لا نفسُه فكان ينبغي أن يكون الأولى بالتحقق فيما نحن فيه عند الحالةِ المسكوتِ عنها وهي حالة كونِ آبائهم عاقلين ومهتدين إنكارُ الاتباعِ لا نفسُه إذ هو الذي يدل عليه أيتبعون الخ فلم اختلفت الحالُ بينهما؟ قلت : لما أن مناطَ الأولوية هو الحكمُ الذي إريد بيانُ تحققه على كل حال ، وذلك في مثال النفي عدمُ الإعطاء المستفادِ من الفعل المنفيِّ المذكور وأما فيما نحن فيه فهو نفسُ الاتباعِ المستفاد من الفعل المقدر إذ هو الذي يقتضيه الكلامُ السابقُ أعني قولَهم بل نتبعُ الخ وأما الاستفهامُ فخارجٌ عنه واردٌ عليه لإنكار ما يُفيدُه واستقباحِ ما يقتضيه لا أنه من تمامه كما في صورة النفي وكذا الحالُ فيما إذا كانت الهمزةُ لإنكار الوقوعِ ونفْيِه مع كونه بمنزلة صريح النفي كما سيأتي تحقيقُه في قوله تعالى : { أَوَلَوْ كُنَّا كارهين } وقيل : الواوُ حالية ، ولكن التحقيقَ أن المعنى يدور على معنى العطفِ في سائر اللغات أيضاً .(1/239)
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)
{ وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ } جملةٌ ابتدائيةٌ واردة لتقرير ما قبلها بطريق التصوير ، وفيها مضافٌ قد حُذف لدِلالة مَثَلُ عليه ، ووضعُ الموصول موضعَ الراجع إلى ما ترجِعُ إليه الضمائر السابقةُ لذمهم بما في حيز الصلة ، وللإشعار بعِلّة ما أثبت لهم من الحُكم ، والتقديرُ مثلُ ذلك القائلِ وحالِه الحقيقةِ لغرابتها بأن تسمَّى مَثَلاً وتسير في الآفاق فيما ذُكر من دعوته إياهم إلى اتباع الحقِّ وعدمِ رفعِهم إليه رأساً لانهماكهم في التقليد وإخلادِهم إلى ما هم عليه من الضلال وعدمِ فهمهم من جهة الداعي إلى الدعاء من غير أن يُلقوا أذهانَهم إلى ما يلقى عليهم { كَمَثَلِ الذى يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء } من البهائم فإنها لا تسمع إلا صوتَ الراعي وهَتفَه بها من غير فهم لكلامه أصلاً ، وقيل : إنما حُذف المضافُ من الموصول الثاني لدلالة كلمة ما عليه فإنها عبارةٌ عنه مُشعِرَةٌ مع ما في حيز الصلة بما هو مدارُ التمثيل أي مَثَلُ الذين كفروا فيما ذُكر من انهماكهم فيما هم فيه وعدمِ التدبر فيما أُلقيَ إليهم من الآيات كمثل بهائمِ الذي ينعِق بها وهي لا تسمع منه إلا جرسَ النغمة ودويَّ الصوت ، وقيل : المرادُ تمثيلُهم في دعائهم الأصنام بالناعق في نعقه ، وهو تصويتُه على البهائم وهذا غنيٌّ عن الإضمار لكن لا يساعدُه قولُه : ( إلا دعاءً ونداءً ) فإن الأصنام بمعزلٍ من ذلك وقد عرفتَ أن حسنَ التمثيل فيما تشابه أفرادُ الطرفين { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ } بالرفع على الذم أي هم صمّ الخ { فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } شيئاً لأن طريقَ التعقل هو التدبّر في مبادي الأمورِ المعقولة والتأمل في ترتيبها وذلك إنما يحصُلُ باستماعِ آياتِ الله ومشاهدةِ حُججِه الواضحةِ والمفاوضة مع من يؤخَذ منه العُلوم ، فإذا كانوا صماً بكماً عمياً فقد انسدّ عليهم أبوابُ التعقل وطرُقُ الفهم بالكلية { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم } أي مستلَذّاتِه { واشكروا للَّهِ } الذي رزقَكُموها ، والالتفاتُ لتربية المهابة { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } فإن عبادتَه تعالى لا تتِمّ إلا بالشكر له . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « يقول الله عز وجل إني والإنسُ والجنُ في نبإٍ عظيمٍ أخلُقُ ويُعبد غيري وأرزُقُ ويُشكَر غيري »(1/240)
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)
{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة } أي أكلها والانتفاعَ بها وهي التي ماتت على غير ذَكاةٍ ، والسمكُ والجرادُ خارجان عنها بالعُرف أو باستثناء الشرعِ كخروج الطحال من الدم { والدم وَلَحْمَ الخنزير } إنما خُصّ لحمُه مع أن سائر أجزائه أيضاً في حكمه لأنه معظمُ ما يؤكل من الحيوان ، وسائرُ أجزائِه بمنزلة التابع له { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } أي رُفِعَ به الصوتُ عند ذبحه للصنم ، والإهلالُ أصلُه رؤيةُ الهلالِ لكن لما جرت العادةُ برفع الصوتِ بالتكبير عندها سمِّي ذلك إهلالاً ثم قيل : لرفع الصوت وإن كان لغيره { فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ } بالاستئثار على مضطر آخرَ { وَلاَ عَادٍ } سدَّ الرمق والجَوْعة وقيل : غير باغ على الوالي ولا عادٍ بقطع الطريق وعلى هذا لا يُباح للعاصي بالسفر وهو ظاهرُ مذهب الشافعي وقولُ أحمدَ رحمهما الله { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } في تناوله { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } بالرخصة ، إن قيل كلمة إنما تفيد قصرَ الحُكمِ على ما ذُكر وكم من حرام لم يُذكَرْ قلنا : المرادُ قصرُ الحرمة على ما ذُكر مما استحلوه لا مطلقاً ، أو قصرُ حرمتِه على حالة الاختيارِ كأنه قيل : إنما حُرِّم عليكم هذه الأشياءُ ما لم تضطروا إليها .
{ إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب } المشتمل على فنون الأحكام التي من جملتها أحكامُ المحلَّلات والمحرَّمات حسبما ذكر آنفاً . وقال ابنُ عباس رضي الله عنهما : نزلت في رؤساء اليهود حين كتموا نعت النبي صلى الله عليه وسلم { وَيَشْتَرُونَ بِهِ } أي يأخذون بدلَه { ثَمَناً قَلِيلاً } عِوَضاً حقيراً ، وقد مر سرُّ التعبير عن ذلك بالثمن الذي هو وسيلة في عود المعاوضة ، وقولُه تعالى : { أولئك } إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافِه بما في حيز الصلة من الوصفَين الشنيعين المميَّزين لهم عمن عداهم أكملَ تمييز الجاعلَيْن إياهم بحيث كأنهم حُضّارٌ مشاهِدون على ما هم عليه ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بغاية بُعدِ منزلتِهم في الشر والفساد ، وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى : { مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار } والجملةُ خبرٌ لإن ، أو اسمُ الإشارة مبتدأٌ ثانٍ أو بدلٌ من الأول والخبر ما يأكلون الخ ومعنى أكلِهم النارَ أنهم يأكلون في الحال ما يستتبِعُ النار ويستلزمُها فكأنه عينُ النار ، وأكلُه أكلُها كقوله :
أكلتُ دماً إن لم أَرُعْكِ بضَرَّة ... بعيدةِ مهوى القُرط طيّبةِ النشْرِ
أو يأكلون في المآل يوم القيامة عينَ النار عقوبةً على أكلهم الرِّشا في الدنيا و ( في بطونهم ) متعلقٌ بيأكلون وفائدتُه تأكيدُ الأكلِ وتقريرُه ببيان مقرِّ المأكول ، وقيل : معناه ملءَ بطونهم كما في قولهم : أكل في بطنه وأكل في بعض بطنه ومنه «كُلوا في بعض بطنِكم تعفّوا» فلا بد من الالتجاء إلى تعليقه بمحذوف وقعَ حالاً مقدّرة من النار مع تقديمه على حرف الاستثناء وإلا فتعليقُه بيأكلون يؤدّي إلى قصْر ما يأكلونه إلى الشبع على النار والمقصود قصرُ ما يأكلونه مطلقاً عليها { وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة } عبارة عن غضبه العظيم عليهم وتعريضٌ بحرمانهم ما أتيح للمؤمنين من فنون الكرامات السنية والزلفى { وَلاَ يُزَكّيهِمْ } لا يُثني عليهم { وَلَهُمْ } مع ما ذكر { عَذَابٌ أَلِيمٌ } مؤلم .(1/241)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
{ أولئك } إشارة إلى ما أشير إليه بنظيره بالاعتبار المذكور خاصة لا مع ما يتلوه من أحوالهم الفظيعةِ إذ لا دخل لها في الحكم الذي يراد إثباتُه ههنا فإن المقصود تصويرُ ما باشروه من المعاملة بصورة قبيحة تنفِر منها الطباعُ ولا يتعاطاها عاقلٌ أصلاً ببيان حقيقةِ ما نبذوه وإظهار كُنهِ ما أخذوهُ وإبداءِ فظاعة تِبعاتِه ، وهو مبتدأ خبرُه الموصولُ أي أولئك المشترون بكتاب الله عز وجل ثمناً قليلاً ليسوا بمشترين للثمن وإن قل ، بل هم { الذين اشتروا } بالنسبة إلى الدنيا { الضلالة } التي ليست مما يمكن أن يشترى قطعاً { بالهدى } الذي ليس من قبيل ما يُبذل بمقابلة شيء وإن جل { والعذاب } أي اشتروا بالنظر إلى الآخرة العذاب الذي لا يُتوَهَّم كونُه مما يشترى { بالمغفرة } التي يتنافس فيها المتنافسون { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار } تعجيبٌ من حالهم الهائلة التي هي ملابستُهم بما يوجب النارَ إيجاباً قطعياً كأنه عينها و ( ما ) عند سيبويهِ نكرةٌ تامة مفيدة لمعنى التعجيب مرفوعةٌ بالابتداء وتخصيصُها كتخصُّص شرَ في «شرٌّ أَهَرَّ ذَا نَابٍ» خبرُها ما بعدها أي شيءٌ ما عظيم جعلهم صابرين على النار ، وعند الفراء استفهامية وما بعدها خبرها أي أيُّ شيءٍ أصبرَهم على النار وقيل : هي موصولة وقيل : موصوفة بما بعدها والخبر محذوف أي الذي أصبرهم على النار أو شيءٌ أصبرهم على النار أمرٌ فظيع { ذلك } العذاب { بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب } أي جنس الكتاب { بالحق } أي ملتبساً به فلا جرم أن يكون من يرفضه بالتكذيب والكتمان ويركب متنَ الجهل والغَواية مُبتلىً بمثل هذا من أفانينِ العذاب { وَإِنَّ الذين اختلفوا فِى الكتاب } أي في جنس الكتابِ الإلهي بأن آمنوا ببعض كتبِ الله تعالى وكفروا ببعضها أو اختلفوا في التوراة بأن آمنوا ببعض آياتِها وكفروا ببعضٍ كالآيات المُغيَّرة المشتملةِ على أمر بِعثةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ونعوته الكريمة فمعنى الاختلافِ التخلفُ عن الطريق الحق أو الاختلافُ في تأويلها أو في القرآن بأن قال بعضهم أنه سحرٌ وبعضُهم أنه شعرٌ وبعضهم أساطيرُ الأولين كما حكى عن المفسرين { لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ } عن الحق والصواب مستوجب لأشد العذاب { لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب } البِرُّ اسمٌ جامع لمراضِي الخصالِ ، والخطابُ لأهل الكتابين فإنهم كانوا أكثروا الخوضَ في أمر القِبلة حين حُوِّلت إلى الكعبة وكان كلُّ فريقٍ يدّعي خيريةَ التوجُّه إلى قبلته من القُطرين المذكورين ، وتقديمُ المشرق على المغرب مع تأخر زمانِ الملّةِ النصرانية إما لرعاية ما بينهما من الترتيب المتفرِّع على ترتيب الشروق والغروب وإما لأن توجّه اليهودِ إلى المغرب ليس لكونه مَغرِباً بل لكون بيتِ المقدس من المدينة المنورة واقعاً في جانب فقيل لهم : ليس البر ما ذكرتم من التوجه إلى تينك الجهتين ، على أن البر خبرُ ليس مقدم على اسمها كما في قوله :(1/242)
سلي إن جهِلتِ عني وعنهم ... فليس سواءً عالمٌ وجَهولُ
وقوله :
أليس عظيماً أن تُلمَّ مُلِمَّة ... وليس علينا في الخطوب مقولُ
وإنما أخر ذلك لما أن المصدرَ المؤولَ أعرفُ من المحلَّى باللام لأنه يُشبهُ الضمير من حيث أنه لا يوصف ولا يوصف به والأعرفُ أحق بالاسمية ولأن في الاسم طولاً فلو روعيَ الترتيبُ المعهود لفات تجاوبُ أطرافِ النظم الكريم وقرىء برفع البرُّ على أنه اسمها وهو أقوى بحسب المعنى لأن كل فريق يدعي أن البرَّ هذا فيجب أن يكون الردُّ موافقاً لدعواهم وما ذلك إلا بكَوْن البِرِّ اسماً كما يُفصح عنه جعلُه مُخْبَراً عنه في الاستدراك بقوله عز وجل : { ولكن البر مَنْ ءامَنَ بالله } وهو تحقيقٌ للحق بعد بيانِ الباطلِ وتفصيلٌ لخِصال البِر مما لا يختلف باختلاف الشرائعِ وما يختلف باختلافها ، أي ولكن البِرَّ المعهود الذي يحِقّ أن يُهتَمَّ بشأنه ويُجَدَّ في تحصيله بِرُّ مَنْ آمن بالله وحده إيماناً بريئاً من شائبة الإشراكِ لا كإيمان اليهودِ والنصارى المشركين بقولهم عزيرٌ ابنُ الله وقولِهم المسيحُ ابن الله { واليوم الاخر } أي على ما هو عليه لا كما يزعُمون من أن النارَ لن تمسَّهم إلا أياماً معدوداتٍ وأن آباءَهم الأنبياءَ يشفعون لهم ، ففيه تعريضٌ بأن إيمانَ أهلِ الكتابين حيث لم يكن كما ذكر من الوجه الصحيحِ لم يكن إيماناً ، وفي تعليق البِرِّ بهما من أول الأمر عَقيبَ نفيه عن التوجُّه إلى المشرق والمغرب من الجزالة ما لا يخفى ، كأنه قيل : ولكن البِر هو التوجُّه إلى المبدأ والمَعاد اللذيْن هما المشرِقُ والمغرِب في الحقيقة { والملئكة } أي وآمن بهم وبأنهم عبادٌ مُكْرَمون متوسِّطون بينه تعالى وبين أنبيائِه بإلقاء الوحي وإنزالِ الكتب { والكتاب } أي بجنس الكتابِ الذي من أفراده الفرقانُ الذي نبذوه وراءَ ظهورِهم ، وفيه تعريضٌ بكِتمانهم نعوتَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم واشترائِهم بما أنزل الله تعالى ثمناً قليلاً { والنبيين } جميعاً من غير تفرقةٍ بين أحدٍ منهم كما فعل أهلُ الكتابَيْن ، ووجهُ توسيط الكتابِ بين حَمَلةِ الوحي وبين النبيين واضحٌ وسيأتي في قوله تعالى : { كُلٌّ ءامَنَ بالله وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } { وآتى المالَ عَلَى حُبِّه } حالٌ من الضمير في آتى ، والضميرُ المجرورُ راجعٌ للمال أي آتاه كائناً على حب المالِ كما في قوله صلى الله عليه وسلم حين سُئِل : أيُّ الصدقةِ أفضلُ؟ : « أن تُؤتِيَه وأنت صحيحٌ شحيحٌ » وقولِ ابن مسعود رضي الله عنه : أن تؤتيَه وأنت صحيحٌ شحيحٌ تأمُلُ العيشَ وتخشى الفقرَ ولا تُمهِلَ حتى إذا بلغت الحُلقومَ قلت لفلانٍ كذا ولفلانٍ كذا ، وقيل : الضمير لله تعالى أي آتاه كائناً على محبته تعالى لا على قصد الشرِّ والفساد ، ففيه نوعُ تعريضٍ لباذلي الرِّشا وآخذيها لتغيير التوراة ، وقيل : للمصدر أي كائناً على حب الإيتاء { ذَوِى القربى } مفعولٌ أولٌ لآتى قُدِّم عليه مفعولُه الثاني أعني المالَ للاهتمام به أو لأن في الثاني مع ما عُطف عليه طُولاً لو رُوعي الترتيبُ لفات تجاوبُ الأطرافِ في الكلام وهو الذي اقتضى تقديمَ الحال أيضاً وقيل : هو المفعولُ الثاني { واليتامى } أي المحاويجَ منهم على ما يدل عليه الحال وتقديمُ ذوي القربى عليهم لما أن إيتاءَهم صدقةٌ وصِلَة { والمساكين } جمعُ مِسكينٍ وهو الدائمُ السُكون لما أن الخَلّة أسكنَتْهُ بحيث لا حَراكَ به أو دائمُ السكون إلى الناس { وابن السبيل } أي المسافرَ سُمي به لملازمته إياه كما سمِّي القاطِعُ ابنَ الطريق وقيل : الضيف { والسائلين } الذين أَلْجأتهم الحاجةُ والضرورةُ إلى السؤال قال عليه الصلاة والسلام :(1/243)
« أعطُوا السائلَ ولو جاء على فرَسٍ » { وَفِي الرقاب } أي وضَعَه في فكّ الرقابِ بمعاونة المكاتَبين حتى يفُكّوا رِقابَهم وقيل : في فك الأُسارى وقيل : في ابتياع الرقابِ وإعتاقِها وأياً ما كان فالعدولُ عن ذكرهم بعنوان مُصححٍ للمالكية كالذين من قبلهم إما للإيذان بعدم قرارِ مِلكِهم فيما أوتوا كما في الوجهين الأولين أو بعدم ثبوتِه رأساً كما في الوجه الأخير وإما للإشعار برسوخهم في الاستحقاق والحاجةِ لما أن ( في ) للظرفية المُنْبئة عن محلِّيتهم لما يؤتى { وأقامَ الصَّلاَةَ } أي المفروضةَ منها { وآتَى الزَّكَاةَ } أي المفروضة على أن المرادَ بما مرَّ من إيتاءِ المالِ التنفّلُ بالصدقات قُدِّم على الفريضة مبالغةً في الحثِّ عليه أو المرادُ بهما المفروضةُ ، والأول لبيان المصارفِ والثاني لبيان وجوب الأداءِ { والموفون بِعَهْدِهِمْ } عطفٌ على مَنْ آمن فإنه في قوة أن يقال ومَنْ أوفَوْا بعهدهم ، وإيثارُ صيغة الفاعل للدلالة على وجوب استمرار الوفاءِ والمرادُ بالعهد ما لا يحرِّم حلالاً ولا يُحلِّل حَراماً من العهود الجارية فيما بين الناس ، وقولُه تعالى : { إِذَا عاهدوا } للإيذان بعدمِ كونِه من ضروريات الدين { والصابرين } نُصب على الاختصاص ، غُيِّر سبكُه عما قبله تنبيهاً على فضيلة الصبر ومزِيَّتِه وهو في الحقيقة معطوفٌ على ما قبله . قال أبو علي : إذا ذُكرتْ صفاتٌ للمدح أو الذمِّ فخولفَ في بعضها الإعرابُ فقد خولف للافتنان ويسمَّى ذلك قطعاً ، لأن تغييرَ المألوفِ يدل على زيادة ترغيبٍ في استماع المذكورِ ومزيدِ اهتمامٍ بشأنه كما مر في صدر السورة ، وقد قرىء الصابرون كما قرىء والموفين { فِى البأساء } أي في الفقر والشدة { والضراء } أي المرض والزَّمانة { وَحِينَ البأس } أي وقتَ مجاهدةِ العدوِّ في مواطن الحرب ، وزيادةُ الحينِ للإشعار بوقوعه أحياناً وسرعةِ انقضائِه { أولئك } إشارةٌ إلى المذكورين باعتبار اتّصافِهم بالنعوت الجميلةِ المعدودة ، وما فيه من معنى البُعد لما مر مراراً من التنبيه عن علوِّ طبقتِهم وسُموِّ رُتبتِهم { الذين صَدَقُوا } أي في الدين واتباعِ الحقِّ وتحرَّى البِرِّ حيث لم تغيِّرْهم الأحوالُ ولم تُزلزلهم الأهوال { وَأُولَئِكَ هُمُ المتقون } عن الكفر وسائرِ الرذائلِ وتكريرُ الإشارة لزيادة تنويهِ شأنِهم ، وتوسيطُ الضمير للإشارة إلى انحصار التقوى فيهم والآيةُ الكريمة كما ترى حاويةٌ لجميع الكمالات البشرية برُمَّتها تصريحاً أو تلويحاً لما أنها مع تكثُّر فنونها وتشعُّب شجونِها منحصرةٌ في خِلالِ ثلاث : صحةِ الاعتقاد وحسنِ المعاشرة مع العباد وتهذيبِ النفس ، وقد أشير إلى الأولى بالإيمان بما فُصِّل وإلى الثانية بإيتاء المالِ وإلى الثالثة بإقامة الصلاة الخ ولذلك وُصف الحائزون لها بالصدق نظراً إلى إيمانهم واعتقادِهم وبالتقوى اعتباراً بمعاشرتهم مع الخلق ومعاملتهم مع الحق وإليه يشير قولُه صلى الله عليه وسلم :(1/244)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)
{ يَا أيُّهَا الذِينَ آمَنُوا } شروعٌ في بيان بعض الأحكامِ الشرعية على وجه التلافي لما فرَط من المُخِلّين بما ذكر من أصول الدين وقواعدِه التي عليها بُنيَ أساسُ المَعاش والمَعاد { كُتِبَ عَلَيْكُمْ } أي فُرض وأُلزم عند مطالبةِ صاحبِ الحق فلا يقدَحُ فيه قدرةُ الوليِّ على العفو ، فإن الوجوبَ إنما اعتُبر بالنسبة إلى الحكّام أو القاتلين { القصاص فِي القتلى } أي بسبب قتلِهم كما في قوله صلى الله عليه وسلم : « إن امرأةً دخلت النارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْها » أي بسبب ربطها إياها { الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد والانثى بالانثى } كان في الجاهلية بين حيَّيْنِ من أَحياء العربِ دماءٌ وكان لأحدهما طَوْلٌ على الآخر فأقسموا لنقتُلَنَّ الحرَّ منكم بالعبد والذكرَ بالأنثى فلما جاء الإسلامُ تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت . فأمرهم أن يتباوَؤُا وليس فيها دِلالةٌ على عدم قتل الحرِّ بالعبد عند الشافعي أيضاً لأن اعتبارَ المفهومِ حيث لم يظهر للتخصيص بالذكر وجهٌ سوى اختصاصِ الحُكم بالمنطوقِ . وقد رأيتَ الوجهَ ههنا وإنما يتمسك في ذلك هو ومالكٌ رحمهما الله بما روى عليٌ رضي الله عنه أن رجلاً قتل عبدَه فجلده رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ونفاه سنةً ولم يُقِدْه ، وبما رُوي عنه رضي الله عنه أنه قال : من السنة أن لا يُقتلَ مسلمٌ بذي عهدٍ ولا حرٌّ بعبد ، وبأن أبا بكر وعمرَ رضي الله عنهما كانا لا يقتلان الحر بالعبد بين أظهر الصحابة من غير نكيرٍ ، وبالقياس على الأطراف ، وعندنا يُقتل الحرُّ بالعبد لقوله تعالى : { أَنَّ النفس بالنفس } فإن شريعة مَنْ قبلَنا إذا قُصَّتْ علينا من غير دلالة على نسخها فالعملُ بها واجبٌ على أنها شريعةٌ لنا ولأن القصاصَ يعتمدُ المساواةُ في العصمة وهي بالدين أو بالدار وهما سِيّانِ فيهما وقرىء كَتب على البناء للفاعل ونصْبِ القصاص { فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء } أي شيء من العفو لأن عفا لازمٌ وفائدتُه الإشعار بأن بعض العفو بمنزلة كلّه في إسقاط القصاصِ وهو الواقع أيضاً في العادة إذ كثيراً ما يقعُ العفوُ من بعض الأولياءِ فهو شيءٌ من العفو وقيل : معنى عُفي تُرك وشيء مفعولٌ به وهو ضعيف إذ لم يثبُتْ عفاه بمعنى تركه بل أعفاه ، وحُمل العفو على المحو كما في قول من قال :
ديارٌ عفاها جَوْرُ كل معاندِ ... وقوله :
عفاها كلُّ هتان ... كثيرِ الوبل هَطّالِ
فيكونُ المعنى فمن مُحيَ له من أخيه شيءٌ صرفاً للعبارة المتداولة في الكتاب والسنةِ عن معناها المشهور المعهودِ إلى ما ليس بمعهود فيهما وفي استعمال الناس ، فإنهم لا يستعملون العفوَ في باب الجنايات إلا فيما ذكرَ من قبلُ . وعفا يُعدَّى بعن إلى الجاني والذنب قال تعالى :(1/245)
{ عَفَا الله عَنْكُمْ } وقال : { عَفَا الله عَنْهَا } فإذا تعدَّى إلى الذنب قيل : عفوْتُ لفلان عما جنى كأنه قيل : فمن عُفي له عن جنايته من جهة أخيه يعني وليَّ الدم ، وإيرادُه بعنوان الأخوّة الثابتةِ بينهما بحكم كونِهما من بني آدمَ عليه السلام لتحريك سلسلة الرقةِ والعطف عليه { فاتباع بالمعروف } فالأمرُ اتباعٌ أو فليكُنِ اتباعٌ ، والمرادُ وصيةُ العافي بالمسامحة ومطالبتُه بالديَة بالمعروف من غير تعسفٍ ، وقوله عز وجل : { وَأَدَاء إِلَيْهِ بإحسان } حثٌّ للمعفوِّ عنه على أن يؤدِّيَها بإحسانٍ من غير مماطلةٍ ولا بخس { ذلك } أي ما ذكر من الحُكم { تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ } لما فيه من التسهيل والنفعِ وقيل : كُتب على اليهود القصاصُ وحده وحرِّم عليهم العفوُ والدية ، وعلى النصارى العفوُ على الإطلاق وحرِّم عليهم القصاصُ والدية ، وخُيِّرت هذه الأمةُ بين الثلاث تيسيراً عليهم وتنزيلاً للحُكم على حسَب المنازل { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك } بأن قتلَ غيرَ القاتل بعد ورود هذا الحُكم أو قتلَ القاتلَ بعد العفو أو أخذِ الدية { فَلَهُ } باعتدائه { عَذَابٌ أَلِيمٌ } أما في الدنيا فبالاقتصاص لما قتله بغير حقَ وأما في الآخرة فبالنار .(1/246)
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
{ وَلَكُمْ فِي القصاص حياة } بيانٌ لمحاسِنِ الحُكم المذكور على وجهٍ بديعٍ لا تُنال غايتُه حيث جُعل الشيءُ محلاً لضِدِّه ، وعُرِّف القصاص ونُكِّر الحياةُ ليدل على أن في هذا الجنس نوعاً من الحياة عظيماً لا يبلُغه الوصفُ وذلك لأن العلمَ به يردَعُ القاتلَ عن القتل فيتسبَّب لحياةِ نفسَيْن ، ولأنهم كانوا يقتُلون غيرَ القاتل والجماعةَ بالواحد فتثورُ الفتنةُ بينهم ، فإذا اقتُصَّ من القاتل سلِم الباقون فيكون ذلك سبباً لحياتهم ، وعلى الأول فيه إضمارٌ وعلى الثاني تخصيصٌ وقيل : المرادُ بالحياة هي الأُخروية فإن القاتلَ إذا اقتُصَّ منه في الدنيا لم يؤخَذْ به في الآخرة ، والظَّرْفان إما خبرانِ ( لحياةٌ ) أو أحدُهما خبرٌ والآخَرُ صِلةٌ له أو حالٌ من المستكنِّ فيه وقرىء في القَصَصِ أي فيما قُصَّ عليكم من حُكم القتل حياةٌ أو في القرآن حياة أو في القرآنِ حياةٌ للقلوب { يأُوْلِي الالباب } أي ذوي العقولِ الخالصةِ عن شَوْب الأوهام ، خوطبوا بذلك بعد ما خُوطبوا بعنوان الإيمان تنشيطاً لهم إلى التأمل في حِكمة القصاص { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي تتقون أنفسَكم من المساهلة في أمره والإهمالِ في المحافظة عليه والحُكمِ به والإذعانِ له ، أو في القصاص فتكُفّوا عن القتل المؤدِّي إليه { كُتِبَ عَلَيْكُمْ } بيانٌ لحكمٍ آخَرَ من الأحكام المذكورة { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت } أي حضر أسبابُه وظهرَ أماراتُه أو دنا نفسُه من الحضور ، وتقديمُ المفعول لإفادة كمال تمكنِ الفاعلِ عند النفسِ وقت ورودِه عليها { إِن تَرَكَ خَيْرًا } أي مالاً وقيل : مالاً كثيراً لما رُوي عن علي رضي الله عنه أن مولىً له أراد أن يوصِيَ وله سبعُمائة درهمٍ فمنعه وقال : قال الله تعالى : { إِن تَرَكَ خَيْرًا } وإن هذا لشيء يسيرٌ فاترُكْه لعيالك . وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً أراد الوصيةَ وله عيالٌ وأربعُمائة دينارٍ فقالت : ما أرى فيه فضلاً . وأراد آخرُ أن يوصِيَ فسألته كم مالُك؟ فقال : ثلاثةُ آلافِ درهم قالت : كم عيالُك؟ قال : أربعة قالت : إنما قال الله تعالى : إنْ ترك خيراً وإن هذا لشيءٌ يسيرٌ فاترُكْه لعيالك { الوصية للوالدين والاقربين } مرفوعٌ بكُتِبَ ، أُخِّر عما بينهما لما مر مراراً ، وإيثارُ تذكيرِ الفعلِ مع جواز تأنيثِه أيضاً للفصل أو على تأويل أن يوصِيَ ، أو الإيصاءُ ، ولذلك ذُكّر الضميرُ في قوله تعالى : { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ } وإذا ظرفٌ محضٌ والعاملُ فيه كُتب لكن لا من حيث صدورُ الكتْب عنه تعالى بل من حيث تعلُّقُه بهم تعلقاً فِعلياً مستتبِعاً لوجوب الأداءِ كما يُنبىء عنه البناءُ للمفعول وكلمةُ الإيجاب ، ولا مساغَ لجعل العامل هو الوصيةُ لتقدّمه عليها ، وقيل : هو مبتدأ خبرُه للوالدين ، والجملةُ جوابُ الشرط بإضمار الفاءِ كما في قوله :
مَنْ يفعلِ الحسناتِ الله يشكُرُها ...(1/247)
ورد بأنه صحّ فمن ضرورةِ الشعر ومعنى كُتب فُرض ، وكان هذا الحكمُ في بدء الإسلام ثم نسخ عند نزول آيةِ المواريثِ ، بقوله عليه السلام : « إنّ الله قد أعطى كلَّ ذي حق حقَّه ألا لا وصيةَ لوارثٍ » فإنه وإن كان من أخبار الآحادِ لكن حيثُ تلقته الأمةُ بالقَبول انتظم في سلك المتواتِر في صلاحيته للنسخ عند الحنفيةِ على أن التحقيقَ أن الناسخَ حقيقةً هي آيةُ المواريث ، وإنما الحديثُ مُبيّنٌ لجهة نسخِها ببيانِ أنه تعالى كان قد كتب عليكم أن تؤدوا إلى الوالدين والأقربين حقوقَهم بحسب استحقاقهم من غير تبيين لمراتب استحقاقِهم ولا تعيين لمقادير أنصبائِهم بل فوض ذلك إلى آرائكم حيث قال : { بالمعروف } أي بالعدْل ، فالآن قد رَفَعَ ذلك الحُكمَ عنكم لتبيين طبقاتِ استحقاقِ كلِّ واحدٍ منهم وتعيينِ مقاديرِ حقوقِهم بالذات وأعطى كلَّ ذي حق منهم حقه الذي يستحقه بحكم القرابة من غير نقصٍ ولا زيادة ولم يدَعْ ثمةَ شيئاً فيه مدخلٌ لرأيكم أصلاً حسبما تُعرِب عنه الجملةُ المنفيَّةُ بلا النافية للجنس وتصديرُها بكلمة التنبيه ، إذا تحققتَ هذا ظهر لك أن ما قيل مِنْ أن آيةَ المواريثِ لا تعارضُه بل تحقِّقه وتؤكّدُه من حيث إنها تدلُ على تقديمِ الوصيةِ مطلقاً والحديثُ من الآحاد ، وتلقّي الأمةِ إياه بالقَبول لا يُلحِقُه بالمتواتر ولعله احترَز عنه مَنْ فسَّر الوصيةَ بما أوصى به الله عز وجل من توريثِ الوالدَيْن والأقرَبين بقوله تعالى : { يُوصِيكُمُ الله } أو بإيصاءِ المُحتَضَرِ لهم بتوفير ما أوصى به الله تعالى عليهم بمعزلٍ من التحقيق وكذا ما قيل من أن الوصيةَ للوارث كانت واجبةً بهذه الآية من غير تعيينٍ لأنصبائهم فلما نزلت آيةُ المواريثِ بياناً للأنصباء بلفظ الإيصاءِ فُهم منها بتنبيه النبي صلى الله عليه وسلم أن المرادَ منه هذه الوصيةُ التي كانت واجبة ، كأنه قيل : إن الله تعالى أوصى بنفسه تلك الوصيةَ ولم يُفَوِّضْها إليكم فقام الميراثُ مقامَ الوصيةِ فكان هذا معنى النسخِ لا أن فيها دلالةً على رفع ذلك الحُكمِ ، فإن مدلولَ آيةِ الوصيةِ حيث كان تفويضاً للأمر إلى آراء المكلَّفين على الإطلاق وتسنّي الخروجِ عن عُهدة التكليف بأداءِ ما أدَّى إليه آراؤُهم بالمعروف ، فتكون آيةُ المواريثِ الناطقةِ بمراتب الاستحقاقِ وتفاصيل مقاديرِ الحقوقِ القاطعةِ بامتناعِ الزيادةِ والنقصِ بقوله تعالى : { فَرِيضَةً مّنَ الله } ناسخةً لها رافعةً لحُكمها مما لا يَشتبهُ على أحد ، وقولُه تعالى : { حَقّا عَلَى المتقين } مصدرٌ مؤكد أي حَقَّ ذلك حقاً .(1/248)
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
{ فَمَن بَدَّلَهُ } أي غيَّره من الأوصياء والشهود { بَعْدِ مَا سَمِعَهُ } أي بعد ما وصل إليه وتحقّق لديه { فَإِنَّمَا إِثْمُهُ } أي إثمُ الإيصاءِ المُغيِّر أو إثمُ التبديل { عَلَى الذين يُبَدّلُونَهُ } لأنهم خانوا وخالفوا حكمَ الشرعِ ، ووضعُ الموصولِ في موضع الضميرِ الراجعِ إلى ( مَنْ ) لتأكيد الإيذان بعِلّية ما في حيز الصلة الأولى ، وإيثارُ الجمعِ للإشعار بتعدُّد المبدّلين أنواعاً أو كثرتِهم أفراداً والإيذانِ بشمول الإثمِ لجميع الأفراد { إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وعيدٌ شديد للمبدلين .(1/249)
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
{ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ } أي توقعَ وعلِم من قولهم أخاف أن يُرسِلَ السماءَ وقرىء من مُوَصَ { جَنَفًا } أي ميلاً بالخطأ في الوصية { أَوْ إِثْماً } أي تعمداً للجنف { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ } أي بين الموصى لهم بإجرائهم على منهاج الشريعةِ الشريفةِ { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } أي في هذا التبديل لأنه تبديلُ باطلٍ إلى حق بخلاف الأول { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وعدٌ للمُصْلِح ، وذكرُ المغفرة لمطابقة ذكرِ الإثم وكونِ الفعل من جنس ما يُؤثِم { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } بيان لحكمٍ آخرَ من الأحكام الشرعية وتكريرُ النداء لإظهارِ مزيدِ الاعتناءِ ، والصيامُ والصومُ في اللغة الإمساك عما تُنازِعُ إليه النفسُ ومنه قوله تعالى : { إِنّى نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلّمَ } الآية ، وقيل : هو الإمساك عن الشيء مطلقاً ومنه صامت الريحُ إذا أمسكت عن الهبوب ، والفرسُ إذا أمسكت عن العدْو قال :
خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمة ... تحت العَجاجِ وأُخرى تعلِكُ اللُّجُما
وفي الشريعة هو الإمساكُ نهاراً مع النية عن المفطِرات المعهودة التي هي معظمُ ما تشتهيه الأنفس { كَمَا كُتِبَ } في حيِّز النصبِ على أنه نعتٌ للمصدر المؤكَّد أي كتاباً كائناً كما كُتب أو على أنه حالٌ من المصدر المعْرِفة أي كتب عليكم الصيامُ الكَتْبَ مُشْبَهاً بما كُتب فما على الوجهين مصدريةٌ أو على أنه نعتٌ لمصدر من لفظ الصيام أي صوماً مماثلاً للصوم المكتوبِ على مَنْ قبلَكم فما موصولةٌ أو على أنه حال من الصيام أي حالَ كونِه مماثلاً لما كتِب { عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ } من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأممِ من لدُنْ آدمَ عليه السلام وفيه تأكيدٌ للحكم وترغيبٌ فيه وتطييبٌ لأنفس المخاطبين به فإن الشاقَّ إذا عمّ سهُل عملُه ، والمرادُ بالمماثلة إما المماثلةُ في أصل الوجوب ، وإما في الوقت والمقدار كما رُوي أن صومَ رمضانَ كان مكتوباً على اليهود والنصارى ، أما اليهودُ فقد تركتْه وصامَتْ يوماً من السنة زعَموا أنه يومَ غرِقَ فرعونُ وكذبوا في ذلك فإنه كان يومَ عاشورا ، وأما النصارى فإنهم صاموا رمضانَ حتى صادفوا حرّاً شديداً فاجتمعت آراءُ علمائهم على تعيين فصلٍ واحدٍ بين الصيف والشتاء فجعلوه في الربيع وزادوا عليه عشَرةَ أيامِ كفارةً لما صنعوا فصار أربعين ثم مرِضَ ملكُهم أو وقع فيهم موتٌ فزادوا عشرةَ أيامٍ فصار خمسين { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي المعاصيَ فإن الصومَ يكسِرُ الشهوةَ الداعيةَ إليها كما قال عليه الصلاة والسلام : « فعليه بالصومِ فإنَّهُ لَهُ وِجاءٌ » أو تتقون الإخلالَ بأدائه لأصالته أو تصِلون بذلك إلى رتبة التقوى .
{ أَيَّامًا معدودات } مؤقتاتٍ بعدد معلومٍ أو قلائلَ فإن القليلَ من المال يُعدّ عداً والكثير يُهال هَيْلاً والمرادُ بها إما رمضانُ أو ما وجب في بدء الإسلام ثم نُسخ به من صوم عاشوراءَ وثلاثةِ أيامٍ من كل شهر ، وانتصابُه ليس بالصيام كما قيل لوقوع الفصلِ بينهما بأجنبي ، بل بمضمرٍ دل هو عليه أعني صوموا إما على الظرفية أو المفعولية اتساعاً وقيل : بقوله تعالى :(1/250)
{ كتاب } على أحد الوجهين وفيه أن الأيامَ ليست محلاً له بل للمكتوب فلا تتحققُ الظرفيةُ ولا المفعولية المتفرِّعةُ عليها اتساعاً { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا } أي مرَضاً يضُره الصومُ أو يعسُر معه { أَوْ على سَفَرٍ } مستمرّين عليه ، وفيه تلويحٌ ورمزٌ إلى أن من سافر في أثناء اليوم لم يُفطر { فَعِدَّةٌ } أي فعليه صومُ عدةِ أيامِ المرضِ والسفر { مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } إن أفطر ، فحُذِفَ الشرطُ والمضافُ ثقةً بالظهور ، وقرىء بالنصب أي فليصُم عِدةً وهذا على سبيل الرخصة وقيل : على وجوب وإليه ذهب الظاهرية وبه قال أبو هريرة رضي الله عنه { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ } أي وعلى المُطيقين للصيام إن أفطروا { فِدْيَةٌ } أي إعطاءَ فديةٍ وهي { طَعَامُ مساكين } وهو نصفُ صاعٍ من بُرِّ أو صاعٌ من غيره عند أهل العراق ، ومُدٌّ عند أهل الحجاز وكان ذلك في بدء الإسلامِ لما أنه قد فُرض عليهم الصومُ وما كانوا متعوِّدين له فاشتد عليهم فرُخِّص لهم في الإفطار والفِدية ، وقرىء يطوقونه أي يكلَّفونه أو يُقلَّدونه ويتطوَّقونه ويطَّوَقونه بإدغام التاء في الطاء ويَطَّيّقونه ويطوقونه بمعنى يتطيقونه وأصلهما يطَّيْوَقونه ويتطوَّقونه من فيعل وتفيعل من الطوْق فأُدغمت الياء في الواو بعد قلبها ياء كقولهم : تدبّر المكان وما بها ديّار ، وفيه وجهان أحدُهما نحوُ معنى يُطيقونه والثاني يكلَّفونه أو يَتَكلفونه على جهدٍ منهم وعُسر وهم الشيوخُ والعجائزُ وحكمُ هؤلاءِ الإفطارُ والفديةُ وهو حينئذ غيرُ منسوخٍ ، ويجوز أن يكون هذا معنى يطيقونه أو يصومونه جهدَهم وطاقتَهم ومبلغَ وسعهم { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } فزاد في الفدية { فَهُوَ } أي التطوُّعُ أو الخيرُ الذي تطوَّعه { خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ } أيها المُطيقون أو المُطوِّقون وتحمِلوا على أنفسكم وتجهَدوا طاقتَكم أو المرَخَّصون في الإفطار من المرضى والمسافرين { خَيْرٌ لَّكُمْ } من الفدية أو من تطوُّعَ الخير أو منهما أو من التأخير إلى أيام أُخَرَ ، والالتفاتُ إلى الخطاب للهز والتنشيط { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي ما في صومِكم مع تحقّق المبيحِ للإفطار من الفضيلة ، والجوابُ محذوفٌ ثقةً بظهوره أي اخترتموه أو سارعتم إليه وقيل : معناه إن كنتم من أهلِ العلمِ والتدبُّر علمتم أن الصومَ خيرٌ من ذلك .(1/251)
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
{ شَهْرُ رَمَضَانَ } مبتدأٌ سيأتي خبرُه أو خبرٌ لمبتدإٍ محذوف ، أي ذلك شهرُ رمضانَ أو بدلٌ من الصيام على حذف المضافِ أي صيامُ شهرِ رمضانَ وقرىء بالنصب على إضمار صُوموا أو على أنه مفعولُ تصوموا أو بدلٌ من ( أياماً معدودات ) ورمضانُ مصدرُ رمِضَ أي احترق من الرمضاء فأضيفَ إليه الشهرُ وجُعل علماً ومُنع الصرفَ للتعريف والألفِ والنون كما قيل : ابنُ دأْيةَ للغراب فقولُه عليه السلام : « من صام رمضانَ » الحديثُ واردٌ على حذف المضافِ للأمن من الالتباس وإنما سُمِّي بذلك إما لارتماضِهم فيه من الجوع والعطشِ وإما لارتماض الذنوب بالصيام فيه أو لوقوعه في أيام رَمَضِ الحرِّ عند نَقْل أسماء الشهور عن اللغة القديمة { الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن } خبرٌ للمبتدأ على الوجه الأول وصفةٌ لشهر رمضانَ على الوجوه الباقية ، ومعنى إنزالِه فيه أنه ابتُدىء إنزالُه فيه وكان ذلك ليلةَ القدرِ ، أو أنزل فيه جملةَ إلى السماء الدنيا ثم نزل مُنَجَّماً إلى الأرض حسبما تقتضيه المشيئةُ الربانية أو أُنزل في شأنه القرآنُ وهو قولُه عز وجل : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ } وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « نزلتْ صحفُ إبراهيمَ أولَ ليلةٍ من رمضانَ وأُنزلت التوراةُ لستٍ مضَيْن منه والإنجيلُ لثلاثَ عشرةَ منه ، والقرآنُ لأربع وعشرين » { هُدًى لّلنَّاسِ وبينات مِّنَ الهدى والفرقان } حالان من القرآن أي أُنزل حال كونه هدايةً للناس بما فيه من الإعجاز وغيرِه وآياتٍ واضحةٍ مرشدةً إلى الحق فارقةً بينه وبين الباطل بما فيه من الحُكم والأحكام { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ } أي حضرَ فيه ولم يكن مسافراً ، ووضعُ الظاهر موضعَ الضمير للتعظيم والمبالغة في البيان ، والفاءُ للتفريعِ والترتيب ، أو لتضمُّن المبتدإ معنى الشرط ، أو زائدةٌ على تقدير كونِ ( شهرُ رمضانَ ) مبتدأً والموصولُ صفة له ، وهذه الجملةُ خبرٌ له وقيل : هي جزائية كأنه قيل : لما كُتب عليكم الصيامُ في ذلك الشهر فمنْ حضَرَ فيه { فَلْيَصُمْهُ } أي فليصم فيه بحذف الجار وإيصالِ الفعل إلى المجرور اتساعاً وقيل : من شهد منكم هلالَ الشهرِ فليصمْه على أنه مفعولٌ به كقولك : شهِدتُ الجمعةَ أي صلاتها فيكونُ ما بعده مخصِّصاً له كأنه قيل : { وَمَن كَانَ مَرِيضًا } وإن كان مقيماً حاضِراً فيه { أَوْ على سَفَرٍ } وإن كان صحيحاً { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } أي فعليه صيامُ أيامٍ أخَرَ لأن المريضَ والمسافرَ ممن شهد الشهرَ ، ولعل التكريرَ لذلك أو لئلا يُتَوَهم نسخُه كما نُسخ قرينُه { يُرِيدُ الله } بهذا الترخيص { بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } لغاية هي رأفتُه وسعةُ رحمتِه { وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } تعليلٌ لفعلٍ محذوف يدلُّ عليه ما سبق أي ولهذه الأمورِ شُرِعَ ما مرَّ من أمرِ الشاهد بصوْمِ الشهر وأمرِ المرخَّص لهم بمراعاة عدةِ ما أَفطر فيه ومن الترخيص في إباحة الفطر ، فقوله تعالى : { لتكملوا } علةُ الأمر بمراعاة العِدة ولتكبروا علةُ ما عَلِمه من كيفية القضاء ، { هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } علةُ الترخيص والتيسيرِ ، وتعديةُ فعل التكبير بعلى لتضمُّنه معنى الحمد كأنه قيل : ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم ، ويجوز أن تكون معطوفةً على علة مقدرةٍ مثلُ ليُسهل عليكم أو لتعلموا ما تعملون ولتكملوا الخ ويجوز عطفُها على ( اليُسرَ ) أي يريد بكم لتكملوا الخ كقوله تعالى :(1/252)
{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ } الخ والمعنى بالتكبير تعظيمُه تعالى بالحمد والثناءِ عليه ، وقيل : تكبيرُ يومِ العيد وقيل : التكبيرُ عند الإهلال ، و ( ما ) تحتمل المصدرية والموصولة أي على هدايته إياكم أو على الذي هداكم إليه وقرىء ولِتُكَمِّلوا بالتشديد .(1/253)
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي } في تلوين الخطابِ وتوجيهِه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى من تشريفِه ورفعِ محله { فَإِنّي قَرِيبٌ } أي فقل لهم إني قريبٌ وهو تمثيلٌ لكمال علمِه بأفعال العبادِ وأقوالِهم واطلاعِه على أحوالهم بحال من قُرب مكانُه ، رُوي أن أعرابياً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أقريبٌ ربُّنا فنتاجيَه أم بعيدٌ فنناديَه؟ فنزلت { أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ } تقريرٌ للقُرب وتحقيقٌ له ووعدٌ للداعي بالإجابة { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى } إذا دعوتُهم للإيمان والطاعةِ كما أجيبهم إذا دعَوْني لمُهمّاتهم { وَلْيُؤْمِنُواْ بِى } أمرٌ بالثبات على ما هم عليه { لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } راجين إصابةَ الرُشْد أي الحقِّ وقرىء بفتح الشين وكسرِها ، ولمّا أمرهم الله تعالى بصوم الشهرِ ومراعاةِ العِدةِ وحثَّهم على القيام بوظائفِ التكبير والشكرِ عقّبه بهذه الآيةِ الكريمةِ الدالةِ على أنه تعالى خبيرٌ بأحوالهم سميعٌ لأقوالهم مجيبٌ لدعائهم مجازيهم على أعمالهم تأكيداً له وحثاً عليه ثم شرَع في بيان أحكام الصيام فقال :(1/254)
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَائِكُمْ } رُوي : «أن المسلمين كانوا إذا أمسَوْا حلَّ لهم الأكلُ والشربُ والجِماعُ إلى أن يُصلّوا العشاءَ الأخيرة أو يرقُدوا ، ثم أن عمرَ رضي الله عنه باشر بعد العِشاء فندِم ، وأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم واعتذر إليه فقام رجالٌ فاعترفوا بما صنعوا بعد العِشاء فنزلت» وليلةُ الصيام الليلةُ التي يصبِحُ منها صائماً والرفثُ كنايةٌ عن الجماع لأنه لا يكاد يخلو من رفث ، وهو الإفصاحُ بما يجب أن يكنَّى عنه ، وعُدِّي بإلى لتضمُّنه معنى الإفضاءِ والإنهاء ، وإيثارُه ههنا لاستقباح ما ارتكبوه ولذلك سمِّي خيانةً وقرىء الرُفوث ، وتقديمُ الظرف على القائم مقامَ الفاعل لما مرَّ مراراً من التشويق فإن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقبةً إليه فيتمكن وقتَ ورودِه فضلَ تمكن { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } استئنافٌ مبينٌ لسبب الإحلالِ وهو صعوبةُ الصبر عنهنّ مع شِدة المخالطة وكَثرةِ الملابَسة بهن ، وجُعل كلٌّ من الرجل والمرأة لِباساً للآخرَ لاعتناقهما واشتمال كلَ منهما على الآخر بالليل قال :
إذا ما الضجيعُ ثَنَى عِطفَها ... تثنَّتْ فكانت عليه لِباساً
أو لأن كلاً منهما يستُر حالَ صاحبِه ويمنعُه من الفجور { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ } استئنافٌ آخرُ مبين لما ذُكر من السبب ، والاختيانُ أبلغُ من الخيانة كالاكتساب من الكسْب ، ومعنى تختانون تظلِمونها بتعريضها للعقاب وتنقيصِ حظَّها من الثواب { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } عطفٌ على علِم أي تابَ عليكم لما تُبتم مما اقترفتموه { وَعَفَا عَنكُمْ } أي محا أثرَه عنك { فالن } لما نُسخ التحريمُ { باشروهن } المباشرةُ إلزاقُ البَشَرة بالبَشَرة كُنِّي بها عن الجماع الذي يستلزِمُها وفيه دليلٌ على جواز نسخِ الكتاب للسنة { وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ } أي واطلُبوا ما قدّره الله لكم وقرَّره في اللوحِ من الوَلدِ وفيه أن المباشِرَ ينبغي أنْ يكونَ غرضُه الولدَ فإنه الحكمةُ في خلق الشهوةِ وتشريعِ النكاحِ لا قضاءِ الشهوة ، وقيل : فيه نهيٌ عن العَزْل وقيل : عن غير المأتيّ ، والتقديرُ وابتغوا المحلَ الذي كُتب لكم { وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الابيض مِنَ الخيط الاسود مِنَ الفجر } شبَّه أولَ ما يبدو من الفجر المعترِض في الأفق وما يمتدّ معه من غَلَس الليل بخيطين أبيضَ وأسودَ ، واكتُفي ببيان الخيط الأبيض بقوله تعالى : { مِنَ الفجر } عن بيان الخيطِ الأسودِ لدلالته عليه وبذلك خرجا عن الاستعارة إلى التمثيل ويجوز أن يكون ( من ) للتبعيض فإن ما يبدو بعضُ الفجر وما رُوي من أنها نزلت ولم ينزلْ من الفجر فعمَد رجالٌ إلى خيطين أبيضَ وأسودَ وطفِقوا يأكلون ويشربون حتى يتبيَّنا لهم ، فنزلت فلعل ذلك كان قبل دخولِ رمضانَ وتأخيرُ البيان إلى وقت الحاجة جائزاً ، واكتُفي أولاً باشتهارهما في ذلك ثم صُرِّح بالبيان لما التَبَس على بعضهم ، وفي تجويز المباشرةِ إلى الصبح دلالةٌ على جواز تأخيرِ الغُسل إليه وصحةِ صومِ من أصبح جُنباً { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل } بيانٌ لآخِرِ وقتِه { وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد } أي معتكِفون فيها والمرادُ بالمباشرة الجِماعُ .(1/255)
وعن قتادةَ : «كان الرجلُ يعتكِفُ فيخرُجُ إلى امرأته فيباشرُها ثم يرجِع فنُهوا عن ذلك» وفيه دليلٌ على أن الاعتكافَ يكون في المسجد غيرَ مختص ببعضٍ دون بعضٍ وأن الوطءَ فيه حرامٌ ومفسدٌ له لأن النهيَ في العبادات يوجبُ الفساد { تِلْكَ حُدُودُ الله } أي الأحكامُ المذكورةُ حدودٌ وضعها الله تعالى لعباده { فَلاَ تَقْرَبُوهَا } فضلاً عن تجاوُزها ، نهْيٌ أن يُقرَبَ الحدُّ الحاجزُ بين الحقِّ والباطل مبالغةً في النهي عن تخطِّيها كما قال صلى الله عليه وسلم : " إن لكل ملكٍ حِمىً وحِمى الله محارمُه فمن رتَعَ حولَ الحِمى يُوشك أن يقَعَ فيه " ويجوز أن يراد بحدود الله تعالى محارمُه ومناهيه { كذلك } أي مثلَ ذلك التبين البليغ { يُبَيّنُ الله آيَاتِهِ } الدالةَ على الأحكام التي شرعها { لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } مخالفةَ أوامرِه ونواهيه .(1/256)
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
{ وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل } نهيٌ عن أكل بعضِهم أموالَ بعضٍ على خلاف حُكم الله تعالى بعد النهيِ عن أكل أموالِ أنفسِهم في نهار رمضانَ أي لا يأكل بعضكم أموال بعض بالوجه الذي لم يُبِحْه الله تعالى و ( بيْن ) نصبٌ على الظرفية أو الحالية من أموالكم { وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام } عطفٌ على المنهيِّ عنه أو نُصِبَ بإضمار أن ، والإدلاءُ الإلقاءُ أي ولا تُلقوا حكومتَها إلى الحكام { لِتَأْكُلُواْ } بالتحاكم إليهم { فَرِيقًا مّنْ أَمْوَالِ الناس بالإثم } بما يوجبُ إثماً كشهادة الزورِ واليمينِ الفاجرةِ أو ملتبسين بالإثم { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنكم مُبْطلون فإن ارتكابَ المعاصي مع العلم بها أقبحُ . رُوي أن عبدانَ الحضْرمي ادَّعى على امرىءِ القيسِ الكنديِّ قطعةَ أرضٍ ولم يكن له بينةٌ فحَكَم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحلِفَ امرُؤُ القيسِ فهمّ به فقرأ عليه الصلاة والسلام : { إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيمانهم ثَمَنًا قَلِيًلا } الآية ، فارتدَعَ عن اليمين فسلّم الأرضَ إلى عبدان فنزلت . ورُوي أنه اختصم إليه خصمان فقال عليه السلام : « إنما أنا بشرٌ مثلُكم وأنتم تختصِمون إلي ، ولعل بعضَكم ألحنُ بحجَّته من بعضٍ فأقضِيَ له على نحو ما أسمَع منه ، فمن قضَيْتُ له بشيءٍ من حقِّ أخيه فإنما أقضي له قطعة من نار » فبَكَيا فقال كلُّ واحدٍ منهما : حقي لصاحبي فقال : « اذهبا فتآخَيا ثم ليُحِلَّ كلُّ واحدٍ منكما صاحبَه »(1/257)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)
{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهلة } سألهُ معاذُ بنُ جبلٍ وثعلبةُ بنُ غنم فقالا : ما بالُ الهلالِ يبدو رقيقاً كالخيط ثم يزيد حتى يستويَ ثم لا يزال ينقُص حتى يعودَ كما بدأ؟ { قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } كانوا قد سألوه عليه الصلاة والسلام عن الحِكمة في اختلاف حالِ القمرِ وتبدُّل أمرِه فأمره الله العزيزُ الحكيمُ أن يُجيبهم بأن الحِكمةَ الظاهرةَ في ذلك أن تكون معالِمَ للناس في عبادتهم لا سيما الحجُّ فإن الوقتَ مراعىً فيه أداءً وقضاءً وكذا في معاملاتهم على حسب ما يتّفقون عليه ، والمواقيتُ جمع ميقاتٍ من الوقت ، والفرقُ بينه وبين المدة والزمان أن المدةَ المطلقةَ امتدادُ حركةِ الفلك من مبدَئها إلى منتهاها والزمانُ مدةٌ مقسومةٌ إلى الماضي والحالِ والمستقبل ، والوقتُ الزمان المفروضُ لأمرٍ { وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا } كانت الأنصارُ إذا أحْرَموا لم يدخُلوا داراً ، ولا فُسطاطاً من بابه ، وإنما يدخُلون ويخرُجون من نَقْبٍ ، أو فُرجةٍ وراءَها ، ويعدّون ذلك بِرَّاً . فبين لهم أنه ليس ببر فقيل : { ولكن البر مَنِ اتقى } أي بِرَّ من اتقى المحارمَ والشهواتِ ، ووجهُ اتصالِه بما قبله أنهم سألوا عن الأمرين أو أنه لما ذكر أنها مواقيتُ للحج ذكر عَقيبه ما هو من أفعالهم في الحجِّ استطراداً أو أنهم لمّا سألوا عما لا يَعنيهم ولا يتعلَّق بعِلمِ النبوة فإنه عليه الصلاة والسلام مبعوثٌ لبيان الشرائعِ لا لبيان حقائِقِ الأشياءِ وتركوا السؤال عما يَعنيهم ويختصُّ بعلم الرسالةِ عقّبَ بذكره جوابَ ما سألوا عنه تنبيهاً على أن اللائقَ بهم أن يسألوا عن أمثال ذلك ويهتموا بالعلم بها أو أريد به التنبيهُ على تعكيسهم في السؤال وكونِه من قبيل دخولِ البيتِ من ورائه ، والمعنى وليس البرُّ بأن تعكسوا في مسائِلكم ولكنّ البرَّ من اتقى ذلك ولم يجترِىءْ على مثله ، { وَأْتُواْ البيوت مِنْ أبوابها } إذ ليس في العُدول بِرٌّ أو باشروا الأمورَ من وجوهها { واتقوا الله } في تغيير أحكامِه أو في جميع أموركم . أمرَ بذلك صريحاً بعد بيان أن البِرَّ برٌّ من اتقى إظهاراً لزيادة الاعتناءِ بشأن التقوى وتمهيداً لقوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي لكي تظفَروا بالبرِّ والهدى .
{ وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله } أي جاهِدوا لإعزاز دينِه وإعلاءِ كلمتِه ، وتقديمُ الظرفِ على المفعول الصريحِ لإبراز كمالِ العنايةِ بشأن المقدّم { الذين يقاتلونكم } قيل : كان ذلك قبل ما أُمِروا بقتال المشركين كافةَ المقاتلين منهم والمحاجزين وقيل : معناه الذين يناصبونكم القتالَ ويُتوقعُ منهم ذلك دون غيرهم من المشايخ والصبيان والرُهبان والنساء أو الكفَرَةُ جميعاً ، فإن الكلَّ بصدد قتالِ المسلمين ويؤيد الأولَ ما رُوي أن المشركين صدُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ الحُديبية وصالحوه على أن يرجِع من قابل فيُخَلّوا له مكةَ شرفها الله تعالى ثلاثةَ أيامٍ فرجَع لعمُرة القضاء فخاف المسلمون أن لا يفوا لهم وأن يقاتلوهم في الحَرم والشهرِ الحرام وكرِهوا ذلك فنزلت ويعضُده إيرادُه في أثناء بيان أحكامِ الحج { وَلاَ تَعْتَدُواْ } بابتداء القتالِ أو بقتال المعاهَد والمفاجأة به من غير دعوةٍ أو بالمُثلة وقتلِ من نُهيتم عن قتلِه من النساء والصِّبيان ومن يجري مَجراهم { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين } أي لا يريد بهم الخير وهو تعليل للنهي .(1/258)
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
{ واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } أي حيث وجدتمُوهم من حِلَ أو حَرَم وأصلُ الثقَفِ الحذَقُ في إدراك الشيء علماً أو عملاً وفيه معنى الغلبة ولذلك استعمل فيها قال :
فإما تَثْقَفوني فاقتُلوني ... فمَنْ أثقَفْ فليس إلى خلود
{ وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } أي من مكةَ وقد فُعل بهم ذلك يوم الفتح بمن لم يُسلم من كفارها { والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل } أي المحنة التي يُفتتن بها الإنسانُ كالإخراج من الوطن أصعبُ من القتل لدوام تعبها وبقاءِ ألم النفس بها ، وقيل : شركُهم في الحرم وصدُّهم لكم عنه أشدُّ من قتلكم إياهم فيه { وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام } أي لا تفاتحوهم بالقتل هناك ولا تهتِكوا حرمةَ المسجد الحرام { حتى يقاتلوكم فِيهِ فَإِن قاتلوكم } ثمَةَ { فاقتلوهم } فيه ولا تُبالوا بقتالهم ثمةَ لأنهم الذين هتَكوا حُرمتَه فاستحقُّوا أشدَّ العذاب وفي العُدول عن صِيغة المفاعَلة التي بها وردَ النهيُ والشرطُ عِدَةً بالنصر والغلبة وقرىء ولا تقتُلوهم حتى يقتُلوكم فإن قاتلوكم فاقتلوهم والمعنى حتى يقتُلوا بعضَكم كقولهم : قتلتْنا بنو أسدٍ { كذلك جَزَاء الكافرين } يُفعلُ بهم مثلُ ما فعلوا بغيرهم { فَإِنِ انْتَهَوْاْ } عن القتال والكفر بعد ما رأَوا قتالَكم { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يغفرُ لهم ما قد سلف { وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي شِرْكٌ { وَيَكُونَ الدين للَّهِ } خالصاً ليس للشيطان فيه نصيب { فَإِنِ انْتَهَوْاْ } بعد مقاتَلتِكم عن الشِّرك { فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين } أي فلا تعتَدوا عليهم إذ لا يحسُن الظلمُ إلا لمن ظَلَم ، فوضعُ العلة موضعَ الحُكم وتسميةُ الجزاءِ بالعُدوان للمشاكلة كما في قوله عز وجل : { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ } أو إنكم إنْ تعرَّضتم للمنتهين صِرْتم ظالمين وتنعكس الحالُ عليكم ، والفاءُ الأولى للتعقيب والثانيةُ للجزاء .
{ الشهر الحرام بالشهر الحرام } قاتلَهم المشركون عامَ الحُديبية في ذي القَعدة فقيل لهم عند خروجِهم لعُمرة القضاء في ذي القَعدة أيضاً وكراهتِهم القتالَ فيه : هذا الشهرُ الحرامُ بذلك الشهر الحرامِ وهتكُه بهتكه فلا تبالوا به { والحرمات قِصَاصٌ } أي كلُّ حرمةٍ وهي ما يجب المحافظةُ عليه يجري فيها القصاصُ فلما هتكوا حُرمة شهرِكم بالصَّد فافعلوا بهم مثلَه وادخُلوا عليهم عُنوةً فاقتُلوهم إن قاتلوكم كما قال الله تعالى : { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ } وهي فذلَكةٌ مقرِّرة لما قبلها { واتقوا الله } في شأن الانتصار واحذروا أن تعتدوا إلى ما لم يُرَخَّصْ لكم { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } فيحرُسُهم ويُصلح شؤونهم بالنصر والتمكين .(1/259)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
{ وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله } أمرٌ بالجهاد بالمال بعد الأمرِ به بالأنفس ، أي ولا تُمسِكوا كلَّ الإمساك ، { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } بالإسراف وتضييعِ وجهِ المعاش أو بالكفِّ عن الغزو والإنفاق فيه فإن ذلك مما يقوِّي العدوَّ ويُسلِّطُه عليكم . ويؤيدُه ما رُوي عن أبي أيوبَ الأنصاريِّرضي الله عنه أنه قال : لما أعزَّ الله الإسلامَ وكثُر أهلُه رجعنا إلى أهالينا وأموالنا نُقيمُ فيها ونُصلِحها فنزلت ، أو بالإمساك وحبِّ المال فإنه يؤدّي إلى الهلاك المؤبَّد ولذلك سُمي البخلُ هلاكاً وهو في الأصل انتهاءُ الشيء في الفساد ، والإلقاءُ طرحُ الشيء ، وتعديتُه بإلى لتضمُّنه معنى الانتهاء والباءُ مزيدةٌ ، والمرادُ بالأيدي الأنفسُ والتهلُكة مصدر كالتنصُرَة والتستُرة وهي والهُلك واحدٌ أي لا توقِعوا أنفسَكم إليها فحُذِف المفعول { وَأَحْسِنُواْ } أي أعمالَكم وأخلاقَكم أو تفضّلوا على الفقراء { إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } أي يريد بهم الخيرَ وقوله تعالى : { وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ } بيانٌ لوجوب إتمامِ أفعالهما عند التصدي لأدائهما وإرشادٍ للناس إلى تدارُك ما عسى يعتريهم من العوارض المُخِلَّة بذلك من الإحصار ونحوه من غير تعرُّضٍ لحالهما في أنفسهما من الوجوب وعدمِه كما في قوله تعالى : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل } فإنه بيانٌ لوجوب مدِّ الصيام إلى الليل من غير تعرُّضٍ لوجوب أصلِه وإنما هو بقوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } الآية ، كما أن وجوبَ الحج بقوله تعالى : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } الآية ، فإن الأمرَ بإتمام فعلٍ من الأفعال ليس أمراً بأصله ولا مستلزماً له أصلاً فليس فيه دليل على وجوب العُمرة قطعاً ، وادعاءُ أن الأمرَ بإتمامهما أمرٌ بإنشائهما تامين كاملين حسبما تقتضيه قراءةُ { وَأَقِيمُواْ * الحج والعمرة } وأن الأمرَ للوجوب ما لم يدلَّ على خلافه دليل مما لا سَدادَ له ضرورةَ أنْ ليس البيانُ مقصوراً على أفعال الحجِّ المفروضِ حتى يُتصوَّرَ ذلك ، بل الحقُّ أن تلك القراءةُ أيضاً محمولةٌ على المشهورة ناطقةٌ بوجوب إقامةِ أفعالهما كما ينبغي من غير تعرُّضٍ لحالهما في أنفسهما فالمعنى أكمِلوا أركانَهما وشرائطَهما وسائرَ أفعالِهما المعروفةِ شرعاً لوجه الله تعالى من غير إخلالٍ منكم بشيء منها .
هذا وقد قيل : «إتمامُهما أن تحرِمَ بهما من دُوَيرَة أهلِك» . رُوي ذلك عن عليَ وابن عباسٍ وابن مسعود رضي الله عنهم وقيل : «أن تُفرِدَ لكل واحدٍ منها سَفَراً» كما قال محمد : حَجةٌ كوفية وعُمرةٌ كوفية أفضلُ . وقيل : هو جعلُ نفقتِهما حلالاً وقيل : أن تُخلِصوهما للعبادة ولا تشوبوهما بشيء من الأغراض الدنيوية وأياً ما كان فلا تعرُّضَ في الآية الكريمة لوجوب العُمرة أصلاً وأما ما رُوي أن ابنَ عباس رضي الله عنهما قال : إن العمرةَ لقرينةُ الحجِّ ، وقولُ عمرَ رضي الله عنه : هُديتَ لسنة نبيِّك حين قال له رجلٌ وجدتُ الحجَّ والعمرة مكتوبين علي فأهلَلْتُ بهما .(1/260)
وفي رواية فأهللتُ بهما جميعاً فبمعزلٍ من إفادة الوجوب مع كونه معارَضاً بما رُوي عن جابرٍ أنه قال : يا رسولَ الله العمرةُ واجبةٌ مثلَ الحجِّ؟ قال : « لا ولكن أن تعتمِرَ خيرٌ لك » ، وبقوله عليه السلام : « الحجُّ جهاد والعُمرةُ تطوُّعٌ فتدبر » { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } أي مُنعتم من الحج يقال : حصَره إذا حبَسه ومنعه من المُضيِّ لوجهه مثلُ صَدَّه وأصدّه والمرادُ منعُ العدو عند مالكٍ والشافعيِّ رضي الله عنهما لقوله تعالى : { فَإِذَا أَمِنتُمْ } ولنزوله في الحديبية ولقولِ ابنِ عباسٍ : لا حصْرَ إلا حصرُ العدوِّ وكلُّ منعٍ من عدو أو مرضٍ أو غيرهما عند أبي حنيفة رضي الله عنه ، لما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من كُسِر أو عَرَج فعليه الحجُّ من قابل { فَمَا استيسر مِنَ الهدى } أي فعليكم أو فالواجبُ ما استيسر أو فاهدوا ما استيسر والمعنى أن المُحرِم إذا أُحصر وأراد أن يتحلّل تحلَّل بذبح هدْي مما تيسر عليه من بدَنة أو بقرةٍ أو شاة حيث أُحصر عند الأكثر ، وعندنا يَبعث به إلى الحرَم ويجعلُ للمبعوث بيده يومَ أمارٍ فإذا جاء اليومُ وظن أنه ذبح تحلّل لقوله تعالى : { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدى مَحِلَّهُ } أي لا تُحِلوا حتى تعلموا أن الهديَ المبعوثَ إلى الحرم بلغ مكانه الذي يجب أن يُنْحَر فيه ، وحمل الأولون بلوغَ الهدْي مَحِلّه على ذبحه فيه حِلاًّ كان أو حَرَماً ومرجعُهم في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبحَ عامَ الحديبية بها وهي من الحِل قلنا : كان مُحْصَرُه عليه الصلاة والسلام طرفَ الحديبية الذي إلى أسفلِ مكةَ وهو من الحَرَم ، وعن الزُهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحرَ هديَه في الحَرَم ، وقال الواقديُّ : الحديبيةُ هي طرفُ الحرم على تسعة أميالٍ من مكةَ والمَحِلُّ بالكسر يُطلق على المكان والزمان ، والهدْيُ جمع هَدْية كجَدْي وجَدْية وقرىء من الهَدِيّ جمع هَديّة كمَطِيّ ومطية { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا } مرَضاً مُحوجاً إلى الحَلْق { أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ } كجراحة أو قُمَّلٍ { فَفِدْيَةٌ } أي فعليه فديةُ إن حلق { مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } بيانٌ لجنس الفدية وأما قدرُها فقد رُوي أنه صلى الله عليه وسلم قال لكعب بنِ عُجرةَ : « لعلك آذاك هَوامُّك » قال : نعم يا رسولَ الله قال : « احلِقْ وصُم ثلاثةَ أيام أو تصدّقْ بفَرْقٍ على ستةِ مساكينَ أو انسُك شاةً والفَرْقُ ثلاثة آصُع » { فَإِذَا أَمِنتُمْ } أي الإحصار أو كنتم في حال أمن أو سعة { فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج } أي فمن انتفع بالتقرُّب إلى الله تعالى بالعُمرة قبل الانتفاعِ بتقرّبه بالحج في أشهره ، وقيل : من استمتع بعد التحلُّل من عُمرته باستباحة محظوراتِ الإحرام إلى أن يُحرِم بالحج(1/261)
{ فَمَا استيسر مِنَ الهدى } أي فعليه دمٌ استيسر عليه بسبب التمتع وهو دمُ جُبرانٍ يذبحه إذا أحرَمَ بالحج ، ولا يأكلُ منه عند الشافعي وعندنا هو كالأضحية { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } أي الهديَ { فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ فِي الحج } أي في أشهره بين الإحرامين ، وقال الشافعيُّ في أيام الاشتغالِ بأعماله بعد الإحرام وقبل التحلل ، والأحب أن يصومَ سابعَ ذي الحِجة وثامنَه وتاسعَه فلا يصح يومَ النحرِ وأيامَ التشريق { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } أي نفَرْتم وفرَغتم من أعماله وفي أحدِ قولي الشافعيِّ إذا رجعتم إلى أهليكم ، وقُرىء وسبعةً بالنصب عطفاً على محل ثلاثةِ أيام { تِلْكَ عَشَرَةٌ } فذلكةُ الحسابِ وفائدتُها ألا يُتَوَهّم أن الواوَ بمعنى أو كما في قولك : جالسِ الحسنَ وابنَ سيرين ، وأن يُعلم العددُ جملةً كما عُلم تفصيلاً فإن أكثرَ العرب لا يعرِفُ الحسابَ وأن المرادَ بالسبعة هو العددُ المخصوصُ دون الكثرة كما يراد بها ذلك أيضاً { كَامِلَةٌ } صفةٌ مؤكدةٌ لعشَرة تفيد المبالغةَ في المحافظة على العدد أو مبيِّنةٌ لكمال العشرة فإنها أولُ عددٍ كاملٍ إذْ بهِ ينتهي الآحادُ ويتم مراتبُها أو مقيِّدة تفيدُ كمالَ بَدَليتها من الهدْي { ذلك } إشارةٌ إلى التمتع عندنا وإلى الحكم المذكورِ عند الشافعي { لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى المسجد الحرام } وهو مَنْ كان من الحرَم على مسافة القصْرِ عند الشافعي ومن كان مسكنُه وراءَ الميقاتِ عندنا وأهلُ الحل عند طاوس وغيرُ أهل مكةَ عند مالك { واتقوا الله } في المحافظة على أوامره ونواهيه لا سيما في الحج { واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } لمن لم يَتَّقْهِ كي يصُدَّكم العلمُ به عن العِصيان ، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضعِ الإضمارِ لتربية المهابةِ وإدخالِ الرَّوْعة .(1/262)
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
{ الْحَجُّ } أي وقته { أَشْهُرٌ معلومات } معروفاتٌ بين الناس هي شوَّالٌ وذو القَعدة وعشرُ ذي الحِجة عندنا وتسعةٌ بليلةِ النحر عند الشافعي وكلُّه عند مالكٍ ، ومدارُ الخلافِ أن المرادَ بوقته وقتُ إحرامِه أو وقتُ أعماله ومناسِكهُ أو ما لا يحسُن فيه غيرُه من المناسِك مطلقاً فإن مالِكاً كرِه العُمرةَ في بقية ذي الحِجة ، وأبو حنيفةَ وإن صحَّح الإحرامَ به قبل شوالٍ فقد استكرهه وإنما سُمي شهران وبعضُ شهرٍ أشهراً إقامةً للبعض مُقامَ الكل أو إطلاقاً للجمع على ما فوق الواحدِ ، وصيغةُ جمعِ المذكر في غيرِ العقلاء تجيء بالألف والتاء { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج } أي أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن أو بالتلبية أو بسَوْق الهدْي { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ } أي لا جِماعَ أو فلا فحشَ من الكلام ولا خروجَ من حدود الشرعِ بارتكاب المحظوراتِ وقيل : بالسِّباب والتنابز بالألقاب { وَلاَ جِدَالَ } أي لا مِراءَ مع الخدَم والرِفقة { فِي الحج } أي في أيامه والإظهارُ في مقام الإضمارِ لإظهار كمالِ الاعتناءِ بشأنه ، والإشعارِ بعِلة الحُكم فإن زيارةَ البيت المعظَّم والتقرُّبَ بها إلى الله عز وجل من موجبات تركِ الأمورِ المذكورة ، وإيثارُ النفي للمبالغة في النهي والدَلالة على أن ذلك حقيقٌ بأن لا يكون ، فإن ما كان مُنْكراً مستقبَحاً في نفسه ففي تضاعيفِ الحجِّ أقبحُ كلبُس الحريرِ في الصلاة والتطريبِ بقراءة القرآن لأنه خروجٌ عن مقتضى الطبعِ والعادةِ إلى محض العبادةِ ، وقرىء الأولان بالرفع على معنى لا يكونن رَفثٌ ولا فسوقٌ والثالثُ بالفتح على معنى الإخبار بانتفاء الخلافِ في الحج ، وذلك أن قريشاً كانت تخالف سائرَ العرب فتقفُ بالمشعَر الحرام فارتفعَ الخلافُ بأن أُمروا بأن يقفوا أيضاً بعَرَفاتٍ { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله } فيجزي به خيرَ جزاءٍ وهو حثٌّ على فعل الخيرِ إِثرَ النهْي عن الشر { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } أي تزوّدوا لمِعَادكم التقوى فإنه خيرُ زادٍ وقيل : نزلت في أهل اليمن كانوا يحُجُّون ولا يتزوّدون ويقولون : نحن متوكلون فيكونون كَلاًّ على الناس فأُمروا أن يتزوّدوا ويتقوا الإبرامَ في السؤال والتثقيل على الناس { واتقون يأُوْلِى الالباب } فإن قضيةَ اللُبِ استشعارُ خشيةِ الله عز وجل وتقواه ، حثهم على التقوى ثم أمرَهم بأن يكون المقصودُ بذلك هو الله تعالى فيتبرّؤا من كل شيءٍ سواه وهو مقتضى العقلِ المعرَّى عن شوائبِ الهوى فلذلك خُصَّ بهذا الخطاب أُولوا الألباب .(1/263)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ } أي في أن تبتغوا أي تطلُبوا { فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ } عطاءً ورزقاً منه أي الربحَ بالتجارة وقيل : كان عُكاظُ ومَجنّةُ وذو المَجازِ أسواقَهم في الجاهلية يُقيمونها أيامَ مواسمِ الحج وكانت معايشُهم منها فلما جاء الإسلامُ تأثّموا منه فنزلت { فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عرفات } أي دفعتم منها بكثرة من أفضتُ الماء إذا صبَبْتُه بكثرة وأصلُه أفضتم أنفسَكم فحُذِفَ المفعولُ حذفَه من دفعتُ من البَصْرة ، وعَرَفاتٌ جمعٌ سُمّي به كأذرِعات وإنما نوّن وكُسر وفيه علميةٌ وتأنيثٌ لما أن تنوين الجمعِ تنوينُ المقابلة لا تنوينُ التمكن ولذلك يُجمع مع اللام وذهابُ الكسرة تبعُ ذهابِ التنوين من غير عِوَض لعدم الصرْف وههنا ليس كذلك أو لأن التأنيثَ إما بالتاء المذكورة وهي ليست بتاء التأنيث وإنما هي مع الألف التي قبلها علامةُ جمعِ المؤنَّث أو بتاءٍ مقدَّرةٍ كما في سُعادَ ولا سبيل إليه لأن المذكورةَ تأبى تقديرَها لما أنها كالبدل منها لاختصاصِها بالمؤنث كتاءِ بنت ، وإنما سمي الموقفُ عَرَفة لأنه نُعِتَ لإبراهيمَ عليه السلام فلما أبصره عَرَفه ، أو لأن جبريلَ عليه السلام كان يدور به في المشاعر فلما رآه قال : «عرَفتُ» ، أو لأن آدمَ وحواءَ التقيا فيه فتعارَفا ، أو لأن الناسَ يتعارفون فيه وهي من الأسماءِ المُرْتجلة إلا من يجعلها جمعَ عارف ، قيل : وفيه دليلٌ على وجوب الوقوف بها لأن الإفاضةَ لا تكون إلا بعده وهي مأمور بها بقوله تعالى : { ثُمَّ أَفِيضُواْ } وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الحجُّ عَرَفةُ " فمن أدرك عَرَفةَ فقد أدرك الحجَّ ، أو مقدمة للذكر المأمور به وفيه نظرٌ إذ الذكرُ غيرُ واجب والأمرُ به غيرُ مطلق { فاذكروا الله } بالتلبية والتهليلِ والدعاء وقيل : بصلاة العشاءين { عِندَ المشعر الحرام } هو جبلٌ يقف عليه الإمامُ ويسمى قُزَح وقيل : ما بين مأزمي عرفةَ ووادي مُحسِّر ويؤيد الأول ما روى جابرٌ أنه عليه الصلاة والسلام لما صلى الفجرَ يعني بالمزدَلِفةِ بغَلَسٍ ركِب ناقتَه حتى أتى المشعَرَ الحرامَ فدعا فيه وكبّر وهلَّل ولم يزَلْ واقفاً حتى أسفَر . وإنما سُمِّي مَشعَراً لأنه مَعْلمُ العبادة ووُصِف بالحرام لحُرمته ومعنى عند المشعر الحرامِ ما يليه ويقرُب منه فإنه أفضلُ وإلا فالمزدلفةُ كلُها موقفٌ الإوادِيَ مُحَسِّر { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } أي كما علَّمكم أو اذكُروه ذِكراً حسناً كما هداكم هدايةً حسَنةً إلى المناسك وغيرِها وما مصدرية أو كافّة { وَإِن كُنتُمْ مّن قَبْلِهِ } من قبل ما ذُكر من هدايتِه إياكم { لَمِنَ الضالين } غيرِ العاملين بالإيمان والطاعة ، وإن المخففةُ واللامُ هي الفارقة وقيل : هي نافية واللامُ بمعنى إلا كما في قوله عز وعلا : { وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين } { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس } أي من عرَفةَ لا من المزدَلِفة والخطابُ لقريش لمّا كانوا يقفون بجمعٍ وسائرُ الناس بعرَفةَ ويرَوْن ذلك ترفعاً عليهم فأُمروا بأن يُساووهم و ( ثم ) لتفاوتِ ما بين الإفاضتين كما في قولك : أحسِنْ إلى الناس ثم لا تُحسِنْ إلا إلى كريم وقيل : من مزدلفةَ إلى مِنىً بعد الإفاضةِ من عرَفة إليها ، والخطابُ عام وقرىء الناسِ بكسر السين أي الناسي على أن يراد به آدمُ عليه السلام من قوله تعالى :(1/264)
{ فَنَسِىَ } والمعنى أن الإفاضةَ من عرفه شرعٌ قديم فلا تغيِّروه { واستغفروا الله } من جاهليتكم في تغيير المناسكِ { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يغفرُ ذنبَ المستغفِر ويُنعِمُ عليه فهو تعليلٌ للاستغفار أو للأمر به .(1/265)
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
{ فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم } عبادتِكم المتعلّقةَ بالحج وفرَغتم منها { فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ } أي فاكثِروا ذكرَه تعالى وبالغوا في ذلك كما تفعلون بذكر آبائِكم ومفاخرِهم وأيامِهم ، وكانت العربُ إذا قضَوْا مناسكهم وقفوا بمنىً بين المسجد والجبل فيذكرون مفاخِرَ آبائِهم ومحاسِنَ أيامِهم . { أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } إما مجرورٌ معطوفٌ على الذكر بجعله ذاكراً على المجاز والمعنى فاذكروا الله ذكراً كائناً مثلَ ذكرِكم آباءَكم أو كذكرٍ أشدَّ منه وأبلغَ أو على ما أضيف إليه بمعنى أو كذكر قومٍ أشدَّ منكم ذكراً أو منصوبٌ بالعطف على آباءَكم ، وذكراً من فعل المذكور بمعنى أو كذكركم أشدَّ مذكورٍ من آبائكم أو بمضمر دلَّ عليه المعنى تقديرُه أو كونوا أشدَّ ذكراً لله منكم لآبائكم { فَمِنَ الناس } تفصيلٌ للذاكرين إلى من يطلُب بذكر الله الدنيا وإلى من يطلُب به خيرَ الدارَيْن والمرادُ به الحثُّ على الإكثار والانتظامِ في سلك الآخَرين { مَن يِقُولُ } أي في ذكره { رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدنيا } أي اجعل إيتاءَنا ومِنحَتَنا في الدنيا خاصة { وَمَا لَهُ فِى الاخرة مِنْ خلاق } أي من حظَ ونصيبٍ لاقتصار همِّه على الدنيا فهو بيانٌ لحاله في الآخرة أو من طلبِ خَلاقٍ فهو بيانٌ لحاله في الدنيا وتأكيدٌ لقصر دعائه على المطالب الدنيوية { وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدنيا حَسَنَةً } هي الصِّحةُ والكَفاف والتوفيقُ للخير { وَفِي الاخرة حَسَنَةً } هي الثوابُ والرحمة { وَقِنَا عَذَابَ النار } بالعفو والمغفرةِ ورُوي عن علي رضي الله عنه أن الحسنةَ في الدنيا المرأةُ الصالحة ، وفي الآخرةِ الحورُ ، وعذابُ النار امرأةُ السوءِ ، وعن الحَسَن أن الحسنةَ في الدنيا العلمُ والعبادة ، وفي الآخرة الجنة . وقنا عذابَ النار معناه احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدِّية إلى النار { أولئك } إشارةٌ إلى الفريق الثاني باعتبار اتصافِهم بما ذُكر من النعوت الجميلةِ ، وما فيه من معنى البُعد لما مر مراراً من الإشارة إلى علوِّ درجتِهم وبُعْدِ منزلتِهم في الفضل وقيل : إليهما معاً فالتنوينُ في قوله تعالى : { لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ } على الأول للتفخيم وعلى الثاني للتنويعِ أي لكلِّ نوعٍ منهم نصيبٌ من جنس ما كسَبوا أو من أجله كقوله تعالى : { مّمَّا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ } أو مما دَعَوْا به نعطيهم منه ما قدّرناه ، وتسميةُ الدعاء كسْباً لما أنه من الأعمال { والله سَرِيعُ الحساب } يحاسبُ العبادَ على كثرتهم وكثرةِ أعمالهم في مقدار لمحة فاحذَروا من الإخلال بطاعةِ مَنْ هذا شأنُ قدرتِه أو يوشك أن يُقيمَ القيامةَ ويحاسِبَ الناسَ فبادروا إلى الطاعات واكتساب الحسنات .(1/266)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)
{ واذكروا الله } أي كبِّروه في أعقاب الصلواتِ وعند ذبحِ القرابينِ ورمي الجمارِ وغيرِها { فِى أَيَّامٍ معدودات } هي أيامُ التشريق { فَمَن تَعَجَّلَ } أي استعجَلَ في النفر أو النفْرَ فإن التفعّل والاستفعال يجيئان لازمين ومتعدّيين يقال : تعجل في الأمر واستعجل فيه وتعجله واستعجله والأول أوفقُ للتأخر كما في قوله :
قد يُدرك المتأني بعضَ حاجتِه ... وقد يكون من المستعجل الزللُ
{ فِى يَوْمَيْنِ } أي في تمامِ يومين بعد يوم النحر وهو القرُّ ويومُ الرؤس واليومُ بعده ينفِر إذا فرَغ من رمي الجمار { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } بتعجله { وَمَن تَأَخَّرَ } في النفر حتى رمى في اليوم الثالثِ قبل الزوالِ أو بعده ، وعند الشافعيّ بعده فقط { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } بما صنعَ من التأخُّرِ ، والمرادُ التخييرُ بين التعجل والتأخر ، ولا يقدح فيه أفضليةُ الثاني وإنما ورد بنفي الإثم تصريحاً بالرد على أهل الجاهلية حيث كانوا مختلفين فمن مُؤثِّمٍ للمتعجل ومؤثمٍ للمتأخر { لِمَنِ اتقى } خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي الذي ذُكر من التخيير ونفي الإثم عن المتعجّل والمتأخر ، أو من الأحكام لمن اتقى لأنه الحاج على الحقيقة والمنتفع به أو لأجله حتى لا يتضرِّرَ بترك ما يُهمُّه منهما { واتقوا الله } في مَجامِع أمورِكم بفعل الواجبات وترك المحظورات ليعبأَ بكم وتنتظِموا في سلك المغتنمين بالأحكام المذكورة والرُخَص أو احذروا الإخلالَ بما ذُكر من الأحكام ، وهو الأنسبُ بقوله عز وجل : { واعلموا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي للجزاء على أعمالكم بعد الإحياءِ والبعث ، وأصلُ الحشر الجمعُ والضمُّ المتفرّق ، وهو تأكيدٌ للأمر بالتقوى وموجب للامتثال به ، فإن من علِم بالحشر والمحاسبة والجزاءِ كان ذلك من أقوى الدواعي إلى ملازمة التقوى .
{ وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ } تجريدٌ للخطاب وتوجيهٌ له إليه عليه الصلاة والسلام وهو كلامٌ مبتدأ سيق لبيان تحزُّب الناسِ في شأن التقوى إلى حِزبين وتعيينِ مآلِ كلَ منهما و ( من ) موصولة أو موصوفة وإعرابُه كما بينا في قوله تعالى :
{ وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله وباليوم الأخر } أي ومنهم من يروقْك كلامُه ويعظُم موقعُه في نفسك لما تشاهد فيه من ملاءمة الفحوى ولُطف الأداءِ ، والتعجُّب حِيْرةٌ تعرِضُ للإنسان بسبب عدمِ الشعور بسبب ما يتعجّب منه { في الحياة الدنيا } متعلق بقولُه أي ما يقوله في حق الحياة الدنيا ومعناها فإنها الذي يريده بما يدّعيه من الإيمان ومحبةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم ، وفيه إشارةٌ إلى أن له قولاً آخرَ ليس بهذه الصفة أو بيُعجبُك أي يعجبك قولُه في الدنيا بحلاوته وفصاحتِه لا في الآخرة لما أنه يظهر هناك كذِبُه وقُبحُه وقيل : لما يُرهِقه من الحبْسة واللُكنة وأنت خبيرٌ بأنه لا مبالغة حينئذ في سوء حالِه فإن مآلَه بيانُ حسنِ كلامِه في الدنيا وقبُحِه في الآخرة وقيل : معنى في الحياة الدنيا أي لا يصدُر منه فيها إلا القولُ الحسن { وَيُشْهِدُ الله على مَا فِى قَلْبِهِ } أي بحسَب ادِّعائِه حيث يقول : الله يعلم أن ما في قلبي موافِقٌ لما في لساني وهو عطفٌ على يُعجبُك ، وقرىء ويُشهدُ الله ، فالمرادُ بما في قلبه ما فيه حقيقةً ، ويؤيده قراءةُ ابنِ عباس رضي الله عنهما ( والله يشهَدُ على ما في قلبه ) على أن كلمةَ على لكون المشهودِ به مُضِرّاً له ، فالجملةُ اعتراضية وقرىء ويستشهدُ الله { وَهُوَ أَلَدُّ الخصام } أي شديد العداوةِ والخصومةِ للمسلمين على أن الخِصامَ مصدرٌ وإضافة ( ألدُّ ) إليه بمعنى في كقولكم : ثبْتُ العذرِ ، أو أشدُّ الخصوم لهم خصومةً على أنه جمع خَصْم كصَعْب وصِعاب قيل : نزلت في الأخنس بنِ شُرَيقٍ الثقفي وكان حسنَ المنظر حلوَ المنطق يوالي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ويدعي الإسلامَ والمحبة وقيل : في المنافقين والجملةُ حال من الضمير المجرور في قوله أو من المستكن في يُشهد وعطف على ما قبلها على القراءتين المتوسطتين .(1/267)
وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
{ وَإِذَا تولى } أي من مجلسك وقيل : إذا صار والياً { سعى فِى الارض لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل } كما فعله الأخنسُ بثقيفٍ حيث بيتهم وأحرَق زروعَهم وأهلَك مواشيَهم أو كما يفعله ولاةُ السوء بالقتل والإتلاف أو بالظلم حتى يمنع الله تعالى بشؤمه القَطْرَ فيهلِكَ الحرثَ والنسلَ وقرىء ويَهلِكَ الحرثُ والنسلُ على إسناد الهلاك إليهما عطفاً على سعى وقرىء بفتح اللام وهي لغة وقرىء على البناء للمفعول من الإهلاك { والله لاَ يُحِبُّ الفساد } أي لا يرتضيه بل يُبغضه ويغضَبُ على من يتعاطاه وهو اعتراضٌ تذييلي .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ } على نهْج العِظة والنصيحة { اتق الله } واترُكْ ما تباشِرُه من الفساد أو النفاق واحذرْ سوءَ مغبَّتِه { أَخَذَتْهُ العزة بالإثم } أي حملتْه الأَنَفةُ وحَمِيةُ الجاهلية على الإثم الذي نُهِيَ عنه لَجاجاً وعِناداً من قولك أخذتُه بكذا إذا حملتُه عليه أو ألزمْتُه إياه { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } مبتدأٌ وخبر أي كافِيهِ جهنَّمُ ، وقيل جهنمُ فاعلٌ لحسبُه سادٌّ مسدَّ خبرِه وهو مصدر بمعنى الفاعل ، وقويَ لاعتماده على الفاء الرابطة للجملة بما قبلها وقيل حسبُ اسمُ فعلٍ ماضٍ أي كفتْه جهنَّمُ { وَلَبِئْسَ المهاد } جوابُ قسمٍ مقدَّرٍ والمخصوصُ بالذم محذوفٌ لظهوره وتعيُّنه والمِهادُ الفِراش وقيل ما يوطأ للجَنْب والجملةُ اعتراض { وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ } مبتدأ وخبرٌ كما مر أي يبيعها ببذْلِها في الجهاد ومشاقِّ الطاعات وتعريضِها للمهالك في الحروب ، أو يأمرُ بالمعروف وينهى عن المنكر وإن ترتب عليه القتلُ { ابتغاء مرضات الله } أي طلباً لرضاه وهذا كمالُ التقوى ، وإيرادُه قسيماً للأول من حيث إن ذلك يأنفُ من الأمر بالتقوى وهذا يأمرُ بذلك وإن أدى إلى الهلاك ، وقيل : نزلت في صهيبِ بنِ سنانٍ الروميّ ، أخذه المشركون وعذبوه ليرتدَّ فقال إني شيخٌ كبير لا أنفعُكم إن كنت معكم ولا أضرُّكم إن كنت عليكم فخلُّوني وما أنا عليه وخُذوا مالي فقَبِلوا منه مالَه فأتى المدينة ، فيشري حينئذٍ بمعنى يشتري لجريان الحال على صورة الشراء { والله رَءوفٌ بالعباد } ولذلك يكلفهم التقوى ويعرِّضهم للثواب ، والجملةُ اعتراضٌ تذييلي .(1/268)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
{ يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ادخلوا فِي السلم } أي الاستسلام والطاعةِ ، وقيل الإسلام ، وقرىء بفتح السين وهو لغة فيه وبفتح اللام أيضاً ، وقوله تعالى : { كَافَّةً } حال من الضمير في ادخُلوا أو من السِّلم أو منهما معاً في قوله :
خرجتُ بها تمشي تجرُّ وراءَنا ... على أَثَريْنا ذيلَ مِرْطٍ مُرَجَّل
وهي في الأصل اسمُ الجماعة تكفُّ مُخالِفَها ثم استعملت في معنى جميعاً وتاؤُها ليست للتأنيث حتى يُحتاجَ إلى جعل السِّلم مؤنثاً مثلَ الحربِ كما في قوله عزَّ وجل : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا } وفي قوله :
السلمُ تأخذُ منها ما رضِيتَ به ... والحربُ يكفيك من أنفاسها جُرَعُ
وإنَّما هي للنقل كما في عامة وخاصة وقاطبة والمعنى استسلموا لله تعالى وأطيعوه جملةً ظاهراً وباطناً ، والخطابُ للمنافقين أو ادخُلوا في الإسلام بكلّيته ولا تخلِطوا به غيَره ، والخطابُ لمؤمني أهلِ الكتاب فإنهم كانوا يراعون بعضَ أحكام دينهم القديمِ بعد إسلامِهم ، أو في شرائع الله تعالى كلِّها بالإيمان بالأنبياء عليهم السلام والكتبِ جميعاً والخطابُ لأهل الكتاب كلِّهم ، ووصفُهم بالإيمان إما على طريقة التغليب وإما بالنظر إلى إيمانهم القديم ، أو في شعب الإسلام وأحكامِه كلِّها فلا يُخِلوا بشيء منها والخطاب للمسلمين وإنما خوطب أهلُ الكتاب بعنوان الإيمان مع أنه لا يصحّ الإيمانُ إلا بما كلَّفوه الآن إيذاناً بأن ما يدّعونه لا يتمّ بدونه { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان } بالتفرُّق والتفريقِ أو بمخالفة ما أُمرتم به { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ظاهرُ العداوة أو مُظْهِرٌ لها وهو تعليلٌ للنهي أو الانتهاءِ ، { فَإِن زَلَلْتُمْ } أي عن الدخول في السلم وقرىء بكسر اللام وهي لغة فيه { مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ } الآياتُ { البينات } والحججُ القطعية الدالَّةُ على حقيقته المُوجبة للدخول فيه { فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ } غالبٌ على أمره لا يُعجِزُه الانتقامُ منكم { حَكِيمٌ } لا يترُكُ ما تقتضيه الحِكمةُ من مؤاخذة المجرمين المستعصين على أوامره .
{ هَلْ يَنظُرُونَ } استفهامٌ إنكاري في معنى النفي أي ما ينتظرون بما يفعلون من العِناد والمخالفة في الامتثال ، بما أُمِروا به والانتهاء عما نُهوا عنه { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله } أي أمرُه وبأسُه أو يأتيَهم اللَّهُ بأمره وبأسِه فحُذف المأتيُّ به لدِلالة الحال عليه ، والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذان بأن سوءَ صنيعهم موجبٌ للإعراض عنهم ، وحكايةُ جنايتهم لمن عداهم من أهل الإنصاف على طريق المباثة ، وإيرادُ الانتظارِ للإشعار بأنهم لانهماكهم فيما هم فيه من موجبات العقوبة كأنهم طالبون لها مترقبون لوقوعها { فِي ظُلَلٍ } جمع ظُلة كقُلل جمع قُلَّة وهي ما أظلك وقرىء في ظلال كقلال في جمع قلة { مّنَ الغمام } أي السحاب الأبيض وإنما أتاهم العذابُ فيه لما أنه مظنة الرحمة فإذا أتى منه العذاب كان أفظعَ وأقطعَ للمطامع فإن إتيان الشر من حيث لا يُحتسب صعبٌ فكيف بإتيانه من حيث يرجى منه الخير؟ { والملئكة } عطف على الاسم الجليل أي ويأتيهم الملائكة فإنهم وسائط في إتيان أمره تعالى بل هم الآتون ببأسه على الحقيقة وتوسيط الظرف بينهما للإيذان بأن الآتي أو لا من جنس ما يلابس الغمام ويترتب عليه عادة وأما الملائكة وإن كان إتيانهم مقارناً لما ذكر من الغمام لكن ذلك ليس بطريق الاعتياد وقرئ بالجر عطفاً على ظلل أو الغمام { وَقُضِىَ الامر } أي تمَّ أمرُ إهلاكهم وفُرغ منه وهو عطفٌ على ( يأتيَهم ) داخل في حيز الانتظار ، وإنما عُدل إلى صيغة الماضي دَلالة على تحققه فكأنه قد كان ، أو جملةٌ مستأنفة جيءَ بها إنباءً عن وقوع مضمونها ، وقرىء وقضاءُ الأمر عطفاً على الملائكةُ { وإلى الله } لا إلى غيره { تُرْجَعُ الامور } بالتأنيث على البناء للمفعول من الرَّجْع ، وقرىء بالتذكير وعلى البناء للفاعل بالتأنيث من الرجوع .(1/269)
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
{ سَلْ بَنِى إسراءيل } الخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحدٍ من أهل الخطابِ ، والمرادُ بالسؤال تبكيتُهم وتقريعُهم بذلك ، وتقريرٌ لمجيءِ البينات { كَمْ آتيناهم مّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ } مُعجِزَةٌ ظاهرة على أيدي الأنبياءِ عليهم السلام وآيةٌ ناطقة بحقّية الإسلامِ المأمورِ بالدخول فيه ، و ( كم ) خبريةٌ أو استفهاميةٌ مقرِّرةٌ ومحلها النصبُ على المفعولية أو الرفع بالابتداء على حذف العائدِ من الخبر ، وآيةٍ مميِّزُها { وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ الله } التي هي آياته الباهرةِ فإنها سببٌ للهدى الذي هو أجلُّ النعم ، وتبديلُها جعلُها سبباً للضلالة وازديادِ الرِّجس ، أو تحريفُها وتأويلُها الزائغ { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ } ووصلتْ إليه وتمكَّن من معرفتها ، والتصريحُ بذلك مع أن التبديلَ لا يُتصوَّرُ قبل المجيءِ للإشعار بأنهم قد بدَّلوها بعد ما وقفوا على تفاصيلها كما في قوله عزَّ وجلَّ : { ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } قيل : تقديرِه فبدّلُوها ومن يبدل ، وإنما حُذف للإيذان بعدم الحاجةِ إلى التصريح به لظهوره { فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } تعليلٌ للجواب كأنه قيل : ومن يُبدّلْ نعمةَ الله يعاقبْه أشدَّ عقوبةٍ فإنه شديدُ العقاب ، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتربية المهابةِ وإدخالِ الرَّوْعة { زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا } أي حسُنت في أعينهم وأُشرِبت محبتُها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها وتهافتوا فيها معرِضين عن غيرها ، والتزيينُ من حيث الخلقُ والإيجادُ مستنِدٌ إليه سبحانه كما يُعرِبُ عنه القراءةُ على البناء للفاعل إذْ ما مِنْ شيءٍ إلا وهو خالقُه ، وكلٌّ من الشيطان والقُوى الحيوانية وما في الدنيا من الأمور البهيَّة والأشياءِ الشهيةِ مُزيَّنٌ بالعَرْض { وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين ءامَنُواْ } عطفٌ على ( زُين ) وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ للدلالة على استمرار السُّخريةِ منهم وهم فقراء المؤمنين كبلالٍ وعمارٍ وصهيبٍ رضي الله عنهم كانوا يسترذلونهم ويستهزؤن بهم على رفضهم الدُّنيا وإقبالِهم على العقبى ومن ابتدائية فكأنهم جعلوا السخرية مبتدأة منهم . { والذين اتقوا } هم الذين آمنوا بعينهم وإنما ذُكروا بعنوان التقوى للإيذان بأن إعراضَهم عن الدنيا للاتقاء عنها لكونها مُخِلَّةً بتبتُّلهم إلى جناب القدسِ شاغلةً عنه { فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة } لأنَّهم في أعلى عِلّيين وهم في أسفل سافلين أو لأنهم في أوج الكرامةِ وهم في حضيض الذلِّ والمهانةِ أو لأنهم يتطاولون عليهم في الآخرة فيسخَرون منهم كما سخِروا منهم في الدنيا ، والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها ، وإيثارُ الاسمية للدلالة على دوام مضمونِها { والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء } أي في الدارين { بِغَيْرِ حِسَابٍ } بغير تقدير ، فيوسِّعُ في الدنيا استدراجاً تارةً وابتلاءً أخرى .(1/270)
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
{ كَانَ الناس أُمَّةً واحدة } متَّفقين على كلمة الحقِّ ودينِ الإسلام ، وكان ذلك بين آدمَ وإدريسَ أو نوحٍ عليهم السَّلام أو بعدَ الطوفان { فَبَعَثَ الله النبيين } أي فاختلفوا فبَعَثَ إلخ ، وهي قراءةُ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه وقد حُذف تعويلاً على ما يُذكر عَقيبه { مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ } عن كعب : الذي علمتُه من عدد الأنبياء عليهم السَّلام مائةٌ وأربعةٌ وعشرون ألفاً ، والمرسَلُ منهم ثلثُمائةٍ وثلاثة عشرَ ، والمذكورُ في القرآن ثمانيةٌ وعشرون ، وقيل كان الناسُ أمَّةً واحدةً متَّفقةً على الكفر والضلال في فترة إدريسَ أو نوحٍ فبعث اللَّهُ النبيين فاختلفوا عليهم والأولُ هو الأنسبُ بالنظم الكريم { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب } أي جنسَ الكتابِ أو مع كلِّ واحدٍ منهم ممن له كتابٌ كتابُه الخاصُّ به لا مع كل واحد منهم على الإطلاق إذ لم يكنْ لبعضهم كتابٌ وإنما كانوا يأخُذون بكتب مَن قبلَهم ، وعمومُ النبيين لا ينافي خصُوصَ الضمير العائد إليه بمعونة المقام { بالحق } حال من الكتاب أي ملتبساً بالحق أو متعلق بأنزل كقوله عزَّ وعلاَّ : { وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ } { لِيَحْكُمَ } أي الكتابُ أو الله سُبحانه وتعالى أو كلُّ واحد من النبيين { بَيْنَ الناس } أي المذكورين ، والإظهارُ في موضع الإضمارِ لزيادة التعيين { فِيمَا اختلفوا فِيهِ } أي في الحق الذي اختلفوا فيه أو فيما التَبَس عليهم .
{ وَمَا اختلف فِيهِ } أي في الحق أو في الكتاب المُنْزل ملتبساً به ، والواوُ حالية { إِلاَّ الذين أُوتُوهُ } أي الكتابَ المنزلَ لإزالة الاختلاف وإزاحةِ الشقاق ، والتعبيرُ عن الإنزال بالإيتاء للتنبيه من أول الأمرِ على كمال تمكُّنِهم من الوقوف على ما في تضاعيفه من الحق فإن الإنزالَ لا يفيد تلك الفائدةَ أي عكسوا الأمرَ حيث جعلوا ما أُنزل لإزالة الاختلافِ سبباً لاستحكامه ورسوخِه { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات } أي رَسَخَتْ في عقولهم و ( مِنْ ) متعلِّقة بمحذوف يدل عليه الكلامُ أي فاختلفوا وما اختلف فيه إلخ وقيل بالملفوظ بناءً على عدم منع إلا عنه كما في قولك ما قام إلا زيدٌ يوم الجمعة { بَغْياً بَيْنَهُمْ } متعلِّقٌ بما تعلقتْ به ( من ) أي اختلفوا بغياً وتهالُكاً على الدنيا { فَهَدَى الله الذين ءامَنُواْ } بالكتاب { لِمَا اختلفوا فِيهِ } أي للحق الذي اختَلَف فيه من اختَلَف { مِنَ الحق } بيانٌ لما ، وفي إبهامه أولاً وتفسيرِه ثانياً ما لا يخفى من التفخيم { بِإِذْنِهِ } بأمره أو بتيسيره ولطفهِ { والله يَهْدِى مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } موصِلٍ إلى الحقّ وهو اعتراضٌ مقرِّر لمضمون ما سبق .(1/271)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
{ أَمْ حَسِبْتُمْ } خوطب به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين حثًّا لهم على الثبات على المصابرة على مخالفة الكفَرَة وتحمُّل المشاقِّ من جهتهم إثر بيانِ اختلافِ الأممِ على الأنبياء عليهم السلام ، وقد بُيّن فيه مآلُ اختلافِهم وما لَقِيَ الأنبياءُ ومَنْ معهم من قبلهم من مكابدة الشدائد ومقاساة الهموم وأن عاقبة أمرِهم النصرُ وأم منقطعة والهمزةُ فيها للإنكار والاستبعاد أي بل أحسبتم { أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين أي والحال أنه لم يأتِكم مثلُهم بعد ولم تبتلوا بما ابتُلوا به من الأحوال الهائلةِ التي هي مَثَلٌ في الفظاعة والشدّة وهو متوقَّعٌ ومنتظَرٌ { مَسَّتْهُمْ } استئنافٌ وقعَ جواباً عما ينساقُ إليه الذهن كأنه قيل وكيف كان مثلهم فقيل : مسَّتْهم { البأساء } أي الشدَّةُ من الخوف والفاقةِ { والضراء } أي الآلامُ والأمراضُ { وَزُلْزِلُواْ } أي أزْعجوا إزعاجاً شديداً بما دَهَمهم من الأهوال والأفزاعِ { حتى يَقُولَ الرسول والذين ءامَنُواْ مَعَهُ } أي انتهى أمرُهم من الشدة إلا حيث اضطَرَّهم الضَّجرُ إلى أن يقول الرسولُ وهو أعلمُ الناس بشؤون اللَّهِ تعالى وأوثقُهم بنصره والمؤمنون المقتدون بآثاره المستضيئون بأنواره { متى } أي متى يأتي { نَصْرُ الله } طلباً وتمنياً له واسْتطالةً لمدة الشدة والعناءِ ، وقرىء حتى يقولُ بالرفع على أنه حكايةُ حالٍ ماضيةٍ وهذا كما ترى غايةُ الغاياتِ القاصيةِ ونهايةُ النهايات النائيةِ كيف لا والرسلُ مع علوّ كعبهم في الثبات والاصطبارِ حيث عيلَ صبرُهم وبلغوا هذا المبلغَ من الضجر والضجيج عُلم أن الأمرَ بلغ إلى غاية لا مطمَحَ وراءَها { أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } على تقدير القولِ أي فقيل لهم حينئذٍ ذلك إسعافاً لمرامهم ، والمرادُ بالقرب القُربُ الزمانيُّ ، وفي إيثار الجملة الاسميةِ على الفعلية المناسبة لما قبلها وتصديرها بحرف التنبيه والتأكيد من الدلالة على تحقيق مضمونها ما لا يخفى ، واختيارُ حكاية الوعد بالنصر لما أنها في حكم إنشاء الوعدِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والاقتصارُ على حكايتها دون حكايةِ نفسِ النصر مع تحققه للإيذان بعدم الحاجة إلى ذلك لاستحالة الخُلْف ويجوز أن يكون هذا وارداً من جهته تعالى عند الحكاية على نهج الاعتراض لا وارداً عند وقوعِ المحكي ، وفيه رمزٌ إلى أن الوصولَ إلى جناب القدسِ لا يتسنَّى إلا برفض اللذاتِ ومكابدةِ المشاقِّ كما يُنبىء عنه قولُه عليه السلام : « حُفّتِ الجنَّةُ بالمكاره وحُفّتِ النَّارُ بالشَّهواتِ »
{ يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ } أي من أصناف أموالِهم { قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ } ما إما شرطية وإما موصولة حُذف العائدُ إليها أي ما أنفقتموه من خير أي خير كان ففيه تجويزُ الإنفاق من جميع أنواعِ الأموالِ وبيانٌ لما في السؤال ، إلا أنه جُعل من جملة ما في حيز الشرطِ أو الصلة وأُبرِز في معرِض بيانِ المصرِفِ حيث قيل : { فللوالدين والاقربين } للإيذان بأن الأهمَّ بيانُ المصارفِ المعدودة لأن الاعتدادَ بالإنفاق بحسب وقوعِه في موقعه ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جاء عمْرُو بنُ الجَموحِ وهو شيخٌ هِمٌّ له مالٌ عظيم فقال : يا رسول الله ماذا نُنفق من أموالنا وأين نضعُها؟ فنزلت { واليتامى } أي المحتاجين منهم { والمساكين وابن السبيل } ولم يتعرضْ للسائلين والرقاب إما اكتفاءً بما ذكر في المواقع الأُخَرِ ، وإما بناءً على دخولهم تحت عموم قوله تعالى : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } فإنه شاملٌ لكل خير واقعٍ في أي مصرِفٍ كان { فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } فيوفّي ثوابَه ، وليس في الآية ما ينافيه فرضُ الزكاة ليُنْسخَ به كما نُقل عن السُدي .(1/272)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال } ببناء الفعل للمفعول ورفعِ القتال أي قتالُ الكفرة ، وقرىء ببنائه للفاعل وهو اللَّهُ عز وجل ونصب القتالَ وقرىء كُتِب عليكم القَتْلُ أي قتلُ الكفرة ، والواو في قوله تعالى : { وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } حالية أي والحال أنه مكروهٌ لكم طبعاً على أن الكُرهَ مصدرٌ وُصف به المفعولُ مبالغة ، أو بمعنى المفعولِ كالخُبز بمعنى المخبوز وقرىء بالفتح على أنه بمعنى المضموم كالضَّعف والضُّعف ، أو على أنه بمعنى الإكراه مَجازاً كأنهم أُكرهوا عليه لشدة كراهتِهم له ومشقتِه عليهم { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } وهو جميعُ ما كُلّفوه من الأمور الشاقةِ التي من جملتها القتالُ فإن النفوسَ تكرَهُه وتنفِرُ عنه والجملة اعتراضية دالَّةٌ على أن في القتال خيراً لهم { وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } وهو جميع ما نُهوا عنه من الأمور المستلَذة وهو معطوفٌ على ما قبله لا محلَّ لهما من الإعراب { والله يَعْلَمُ } ما هو خيرٌ لكم فلذلك أمرَكم به { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } أي لا تعلَمونه ، ولذلك تكرَهونه أو واللَّهُ يعلم ما هو خيرٌ وشرٌّ لكم وأنتم لا تعلمونهما فلا تتبعوا في ذلك رأيَكم وامتثلوا بأمره تعالى .
{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام } رُوِيَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد اللَّه بن جَحْشٍ على سرية في جُمادى الآخِرَة قبل قتالِ بدرٍ بشهرين ليترصَّدوا عِيراً لقُريش فيهم عمرُو بنُ عبدِ اللَّه الحَضْرمي وثلاثةٌ معه فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العِير بما فيها من تجارة الطائفِ ، وكان ذلك أولَ يوم من رجبٍ وهم يظنونه من جمادى الآخِرة فقالت قريشٌ : قد استحل محمَّدٌ الشهرَ الحرامَ شهراً يأمنُ فيه الخائفُ ويبذعِرُ فيه الناسُ إلى معايشهم ، فوقف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم العِيرَ وعظَّم ذلك على أصحاب السرية وقالوا : ما نبرح حتى تنزِلَ توبتُنا وردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم : « العِيرَ والأُسارى » وعن ابن عباس رضي الله عنهما لما نزلت أخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الغنيمة ، والمعنى يسألك الكفارُ أو المسلمون عن القتال في الشهر الحرامِ على أن قوله عز وجل : { قِتَالٍ فِيهِ } بدلُ اشتمالٍ من الشهر ، وتنكيرُه لما أن سؤالهم كان عن مُطلق القتال الواقعِ في الشهر الحرام لا عن القتال المعهودِ ، ولذلك لم يقل يسألونك عن القتال في الشهر الحرام ، وقرىء عن قتالٍ فيه { قُلْ } في جوابهم { قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } جملة من مبتدأ وخبرٍ محلّها النصبُ بقل وإنما جاز وقوعُ ( قتالٌ ) مبتدأً مع كونه نكرةً لتخصُّصه إما بالوصف إنْ تعلق الظرفُ بمحذوفٍ وقع صفةً له أي قتالٌ كائن فيه وإما بالعمل إن تعلق به ، وإنما أوثر التنكيرُ احترازاً عن توهم التعيين وإيذاناً بأن المرادَ مطلقُ القتال الواقعِ فيه أيِّ قتالٍ كان .(1/273)
عن عطاءٍ أنه سُئل عن القتال في الشهر الحرام فحلف بالله ما يحِلّ للناس أن يغزوا في الحَرَم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه وما نُسخت ، وأكثرُ الأقاويل أنها منسوخة بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله } مبتدأ قد تخصَّصَ بالعمل فيما بعده أي ومَنْعٌ عن الإسلام الموصِلِ للعبد إلى الله تعالى { وَكُفْرٌ بِهِ } عطفٌ على صدٌّ عاملٌ فيما بعده مثلَه أي وكفرٌ بالله تعالى وحيث كان الصدُ عن سبيل الله فرداً من أفراد الكفرِ به تعالى لم يقدَحِ العطفُ المذكورُ في حسن عطفِ قوله تعالى : { والمسجد الحرام } على سبيل الله ، لأنه ليس بأجنبيَ محضٍ ، وقيل : هو أيضاً معطوف على صدٌ بتقدير المضاف أي وصدُ المسجدِ الحرام { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ } وهو النبيُّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون { مِنْهُ } أي من المسجد الحرام وهو عطفٌ على ( وكفر به ) . { أَكْبَرُ عِندَ الله } خبرٌ للأشياء المعدودةِ ، أي كبائرُ السائلين أكبر عند الله مما عُنوا بالسؤال عنه وهو ما فعلته السريةُ خطأً وبناءً على الظن ، وأفعلُ يستوي فيه الواحدُ والجمعُ والمذكرُ والمؤنث { والفتنة } أي ما ارتكبوه من الإخراج والشركِ وصدِّ الناسِ عن الإسلام ابتداءً وبقاءً { أَكْبَرُ مِنَ القتل } أي أفظعُ من قتل الحَضْرميّ .
{ وَلاَ يَزَالُونَ يقاتلونكم } بيانٌ لاستحكام عداوتهم وإصرارِهم على الفتنة في الدين { حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ } الحقِّ إلى دينهم الباطلِ ، وإضافةُ الدين إليهم لتذكير تأكُّدِ ما بينهما من العلاقة الموجبةِ لامتناع الافتراق { إِنِ اسْتَطَاعُواْ } إشارةٌ إلى تصلُّبهم في الدين وثباتِ قدمِهم فيه ، كأنه قيل وأنى لهم ذلك { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } تحذيرٌ من الارتداد ، أي ومن يفعلْ ذلك بإضلالهم وإغوائهم { فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ } بأن لم يرجِعْ إلى الإسلام ، وفيه ترغيبٌ في الرجوعِ إلى الإسلام بعد الارتداد { فَأُوْلَئِكَ } إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافِه بما في حيِّز الصلةِ من الارتداد والموتِ عليه ، وما فيه من معنى البُعد للإشعار ببُعْد منزلتِهم في الشر والفساد ، والجمعُ للنظر إلى المعنى أي أولئك المُصِرُّون على الارتداد إلى حينِ الموتِ { حَبِطَتْ أعمالهم } الحسنةُ التي كانوا عمِلوها في حالة الإسلام حُبوطاً لا تلافيَ له قطعاً { فِى الدنيا والاخرة } بحيث لم يبْقَ لها حكمٌ من الأحكام الدنيوية والأخروية { وَأُوْلئِكَ } الموصوفون بما ذكر سابقاً ولاحقاً من القبائح { أصحاب النار } أي مُلابِسوها ومُلازِموها { هُمْ فِيهَا خالدون } كدأب سائرِ الكَفَرة .(1/274)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
إِنَّ الذين ءامَنُواْ } نزلت في أصحاب السريةِ لما ظُنَّ بهم أنهم إنْ سلِموا من الإثم فلا أجرَ لهم { والذين هَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله } كرَّر الموصولَ مع أن المرادَ بهما واحدٌ لتفخيم شأنِ الهجرةِ والجهاد فكأنهما مستقلانِ في تحقيق الرجاء { أولئك } المنعوتون بالنُّعوتِ الجليلة المذكورة { يَرْجُونَ } بما لهم من مبادىءِ الفوزِ { رَّحْمَةِ الله } أي ثوابه ، أثبت لهم الرجاءَ دون الفوز بالمرجوِّ للإيذان بأنهم عالمون بأن العملَ غيرُ موجبٍ للأجر وإنما هو على طريق التفضُّلِ منه سبحانه لا لأن في فوزهم اشتباهاً { والله غَفُورٌ } مبالِغٌ في مغفرةِ ما فرَط من عباده خطأً { رَّحِيمٌ } يُجزِل لهم الأجرَ والثوابَ ، والجملةُ اعتراضٌ محقَّقٌ لمضمون ما قبلها .
{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } تواردَتْ في شأن الخمر أربعُ آياتٍ نزلت بمكة : { وَمِن ثمرات النخيل والاعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } فطفِق المسلمون يشربونها ، ثم إن عمرَ ، ومُعاذاً ونفراً من الصحابة رضوانُ الله تعالى عليهم أجمعين قالوا : أَفْتِنا يا رسولَ الله في الخمر فإنها مُذهبةٌ للعقل فنزلت هذه الآية ، فشرِبها قومٌ وتركها آخرون ، ثم دعا عبدُ الرحمن بنُ عَوْف ناساً منهم ، فشرِبوا فسكِروا ، فأما أحدُهم فقرأ : { قُلْ يا أَيُّهَا الكافرون أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } فنزلت { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى } الآية ، فقلَّ من يشرَبُها ثم دعا عتبانُ بن مالك سعدَ بنَ أبي وقاصٍ في نفرٍ فلما سكِروا تفاخَروا وتناشدوا حتى أنشد سعدٌ شعراً فيه هجاءٌ للأنصار فضرَبه أنصاريٌّ بلَحْي بعيرٍ فشجه شجة موُضِحَة فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت { إِنَّمَا الخمر والميسر } إلى قوله تعالى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } فقال عمرُ رضي الله عنه : «انتهينا يا رب» وعن علي رضي الله عنه : «لو وقعت قطرةٌ منها في بئر فبُنيت في مكانها مَنارةٌ لم أؤذّنْ عليها ولو وقعت في بحر ثم جَفَّ فنبت فيه الكلأُ لم أَرْعَه» . وعن ابن عمرَ رضي الله عنهما : «لو أدخلتُ أُصبَعي فيها لم تَتْبَعْني» وهذا هو الإيمانُ والتقى حقاً رضوان الله تعالى عليهم أجمعين . والخمرُ مصدرُ خمرَه أي ستره سُمّي به من عصير العنب ما غلى واشتد وقذف بالزبد لتغطيتها العقلَ والتمييزَ كأنها نفسُ السَّتر ، كما سُميت سكَراً لأنها تسكُرهما أي تحجزهما . والميسِرُ مصدرٌ ميميٌّ من يَسَر كالموعِد والمرجِع يقال : يسَرْته إذا قمَرْته ، واشتقاقه إما من اليُسر لأنه أخذُ المال بيُسرٍ من غير كدّ و ( لا ) تعب ، وإما من اليَسار لأنه سلبٌ له ، وصفتُه أنه كانت لهم عشرةُ قِداح هي الأزلامُ والأقلام : الفذُّ والتوأمُ والرقيبُ والجَلْس والنافسُ والمُسبِلُ والمعلى والمَنيح والسَفيح والوغد لكل منها نصيبٌ معلوم من جَزور ينحرونها ويُجزّئونها عشرةَ أجزاء ، وقيل : ثمانيةً وعشرين إلا الثلاثة وهي المنيحُ والسفيحُ والوغدُ للفذ سهمٌ وللتوأم سهمان وللرقيب ثلاثة وللجَلْس أربعة وللنافس خمسة وللمُسبل ستة وللمعلَّى سبعة يجعلونها في الربابة وهي خريطةٌ ويضعونها على يديْ عدلٍ ثم يجلجلها ويُدخِلُ يده فيُخرِج باسم رجلٍ رجلٍ قِدْحاً قدحاً فمن خرج له قِدْحٌ من ذوات الأنصباء أخذ النصيب المعيّنَ لها ومن خرج له من تلك الثلاثة غَرِم ثمنَ الجزور مع حِرمانه وكانوا يبيعون تلك الأنصباءَ إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمّون من لا يدخُل فيه ويسمّونه البرم وفي حكمه جميعُ أنواعِ القمارِ من النرْدِ والشطرنج وغيرهما وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :(1/275)
" إياكم وهاتين اللعبتين المشؤمتين فإنهما مياسِرُ العجم " وعن علي كرم الله وجهه أن النرد والشطرنج من الميسر ، وعن ابن سيرين كلُّ شيء فيه خطرٌ فهو من الميسر . والمعنى يسألونك عن حُكمهما وعما في تعاطيهما .
{ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } أي في تعاطيهما ذلك لما أن الأولَ مسلبةٌ للعقول التي هي قطبُ الدين والدنيا مع كون كلَ منهما مَتلفةً للأموال { ومنافع لِلنَّاسِ } من كسب الطرَب واللذة ومصاحبةِ الفتيان وتشجيعِ الجبان وتقوية الطبيعة ، وقرىء إثمٌ كثير بالمثلثة ، وفي تقديم بيانِ إثمِه ووصفُه بالكِبَر وتأخيرِ ذكر منافعِه مع تخصيصها بالناس من الدِلالة على غلبة الأول ما لا يخفى على ما نطقَ به قوله تعالى : { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } أي المفاسدُ المترتبةُ على تعاطيهما أعظمُ من الفوائد المترتبة عليه وقرىء أقربُ من نفعهما .
{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر } عطفٌ على يسألونك عن الخمر الخ عطفَ القصة على القصة ، أي أيُّ شيءٍ ينفقونه قيل : هو عمْرو بنُ الجموح أيضاً سأل أولاً من أيّ جنسٍ ينفق من أجناس الأموال فلما بُيّن جوازُ الإنفاق من جميع الأجناس سأل ثانياً من أي أصنافها نُنفِقُ أمن خيارها أم من غيرها أو سأل عن مقدار ما يُنفقه منه فقيل : { قُلِ العفو } بالنصب أي ينفقون العفوَ أو أنفقوا العفوَ وقرىء بالرفع على أن ما استفهامية وذا موصولةٌ ، صلتُها ينفقون أي الذي ينفقونه العفوُ قال الواحدي : أصلُ العفوِ في اللغة الزيادة ، وقال القفال : العفوُ ما سُهل وتيسر مما فضَل من الكفاية وهو قول قتادةَ وعَطاءٍ والسدي ، وكانت الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين يكسِبون المالَ ويُمسكون قدرَ النفقة ويتصدقون بالفضل . ورُوي أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغانم فقال : خذها مني صدقة فأعرض عنه فكرر ذلك مراراً حتى قال عليه السلام مغضباً : هاتِها فأخذها فحذَفها عليه حَذْفاً لو أصابته لشجته ثم قال : «يأتي أحدُكم بماله كلِّه يتصدق به ويجلِس يتكفّف الناسَ إنما الصدقةُ عن ظهر غنى» { كذلك } إشارةٌ إلى مصدر الفعل الآتي ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلو درجة المشارِ إليه في الفضل مع كمال تميّزِه وانتظامِه بسبب ذلك في سلك الأمور المشاهدة ، والكافُ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارة من الفخامة ، وإفرادُ حرف الخطاب مع تعدد المخاطبين باعتبار القَبيل أو الفريق ، أو لعدم القصد إلى تعيين المخاطب كما مر ، ومحلُه النصبُ على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي مثلَ ذلك البيان الواضحِ الذي هو عبارةٌ عما مضى في أجوبة الأسئلة المارّة { يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات } الدالةَ على الأحكام الشرعية المذكورة لا بياناً أدنى منه ، وقد مر تمامُ تحقيقِه في قوله تعالى :(1/276)
{ وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا } وتبيين الآياتِ تنزيلُها ظاهرةَ الفحوى ، واضحةَ المدلول لا أنه تعالى يبيّنها بعد أن كانت مشْتبهةً ملتبسةً ، وصيغةُ الاستقبال لاستحضار الصورة { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } لكي تتفكروا فيها وتقِفوا على مقاصدها وتعملوا بما في تضاعيفها .(1/277)
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
وقولُه تعالى : { فِى الدنيا والاخرة } متعلقٌ إما بيُبيْن أي يبين لكم فيما يتعلق بالدنيا والآخرة الآيات وإما بمحذوفٍ وقع حالاً من الآيات أي يبينها لكم كائنةً فيهما أي مبيِّنةً لأحوالكم المتعلقةِ بهما ، وإنما قدم عليه التعليلُ لمزيد الاعتناءِ بشأن التفكر ، وإما بقوله تعالى : { تَتَفَكَّرُونَ } أي تتفكرون في الأمور المتعلقة بالدنيا والآخرة في الأحكام الواردةِ في أجوبة الأشئلةِ المارّة فتختارون منها ما يصلُح لكم فيهما وتجتنبون عن غيره . وهذا التخصيصُ هو المناسبُ لمقام تعدادِ الأحكام الجزئيةِ ويجوزُ التعميمُ لجميع الأمور المتعلقة بالدنيا والآخرة بذلك حينئذ إشارةً إلى ما مر من البيانات كلاً أو بعضاً لا إلى مصدر ما بعده فإنه حينئذ فعلٌ مستقلٌ ليس بعبارة عن تلك البيانات والمرادُ بالآيات غيرُ ما ذكر والمعنى مثلَ ذلك البيان الوارد في الأجوبة المذكورة يبين الله لكم الآياتِ والدلائلَ لعلكم تتفكرون في أموركم المتعلقة بالدنيا والآخرة وتأخذون بما يصلح لكم وينفعُكم فيهما وتذرون ما يضرُّكم حسبما تقتضيه تلك الآياتُ المبينة .
{ ويسألونك عن اليتامى } عطفٌ على ما قبله من نظيره رُوي أنه لما نزلت { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً } الآية ، تحامى الناسُ عن مخالطة اليتامى وتعهُّد أموالهم فشق عليهم ذلك فذكروه للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت { قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } أي التعرضُ لأحوالهم وأموالهم على طريق الإصلاح خيرٌ من مجانبتهم اتقاءً . { وَإِن تُخَالِطُوهُمْ } وتعاشِروهم على وجهٍ ينفعهم { فَإِخوَانُكُمْ } أي فهم إخوانُكم أي في الدين الذي هو أقوى من العلاقة النسبية ، ومن حقوق الأخوة ومواجبها المخالطةُ بالأصلاح والنفعِ ، وقد حُمل المخالطةُ على المصاهرة { والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح } العلم بمعنى المعرفة المتعدية إلى واحد و ( من ) لتضمينه معنى التمييز أي يعلم مَنْ يفسد في أمورهم عند المخالطة أو مَنْ يقصِد بمخالطته الخيانةَ والإفسادَ مُميِّز له ممن يُصلح فيها أو يقصد الإصلاح فيجازي كلاً منهما بعمله ، ففيه وعدٌ ووعيد خلا أن في تقديم المفسد مزيدَ تهديدٍ وتأكيداً للوعيد { وَلَوْ شَاء الله لاعْنَتَكُمْ } أي لو شاء أن يُعْنِتَكم أو يكلفَكم ما يشق عليكم من العنت وهو المشقة لفعل ولم يجوِّزْ لكم مداخلتَهم { أَنَّ الله عَزِيزٌ } غالبٌ على أمره لا يعِزُّ عليه أمر من الأمور التي من جملتها إعناتُكم فهو تعليلٌ لمضمون الشرطية ، وقولُه عز وجل : { حَكِيمٌ } أي فاعل لأفعاله حسبما تقتضيه الحكمةُ الداعيةُ إلى بناء التكليف على أساس الطاقة ، دليلٌ على ما تفيده كلمة «لو» من انتفاء مقدمها .
{ وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات } أي لا تَتَزوجوهن وقرىء بضم التاء من الإنكاح أي لا تُزوِّجوهن من المسلمين { حتى يُؤْمِنَّ } والمرادُ بهن إما ما يعم الكتابياتِ أيضاً حسبما يقتضيه عمومُ التعليلين الآتيين لقوله تعالى :(1/278)
{ وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله } إلى قوله : { سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ } فالآية منسوخةٌ بقوله تعالى : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } وأما غيرُ الكتابيات فهي ثابتة ورُوي أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعث مَرْثدَ بنَ أبي مرثد الغنوي إلى مكةَ ليُخرج منها ناساً من المسلمين وكان يهوى امرأةً في الجاهلية اسمُها عَنَاق فأتته فقالت : ألا تخلو؟ فقال : ويحك إن الإسلامَ حال بيننا فقالت : هل لك أن تتزوّجَ بي؟ قال : نعم ولكن أرجِعُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأستأمِرُه فاستأمَره فنزلت { وَلأمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ } تعليل للنهي عن مواصلتهن وترغيبٌ في مواصلة المؤمنات ، صُدِّر بلام الابتداء الشبيهةِ بلام القسم في إفادة التأكيد مبالغةً في الحمل على الانزجار ، وأصلُ أمة أمو حذفت لامها على غير قياس وعوِّض منه تاء التأنيث ودليلُ كون لامِها واواً رجوعُها في الجمع ، قال الكلابي :
أما الإماءُ فلا يدعونني ولدا ... إذا تداعى بنو الأمواتِ بالعار
وظهورُها في المصدر يقال : هي أَمةٌ بيِّنة الأُموَّة وأقرَّتْ له بالأموّة وقد وقعت مبتدأ لما فيها من لام الابتداء والوصف أي ولأمة مؤمنة مع ما بها من خساسة الرق وقلة الخطر { خَيْرٌ } بحسب الدين والدنيا { مّن مُّشْرِكَةٍ } أي امرأة مشركة مع مالها من شرف الحرية ورفعة الشأن { وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } قد مر أن كلمة ( لو ) في أمثال هذه المواقع ليست لبيان انتفاءِ الشيء في الماضي لانتفاء غيره فيه فلا يلاحَظَ لها جوابٌ قد حذف ثقةً بدلالة ما قبلها عليه مع انصباب المعنى على تقديره بل هي لبيان تحقيقِ ما يفيدُه الكلام السابق من الحكم على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدِّها منافاةً له ليظهرَ بثبوته معه ثبوتُه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية لما أن الشيءَ متى تحقق مع المُنافي القويِّ فلأَنْ يتحققَ مع غيره أولى ، ولذلك لا يُذكر معه شيء من سائر الأحوال ويكتفى عنه بذكر الواو العاطفةِ للجملة على نظيرتها المقابلة لها المتناولةِ لجميع الأحوال المغايرة لها وهذا معنى قولهم : إنها لاستقصاء الأحوالِ على وجه الإجمال كأنه قيل : لو لم تعجبْكم ولو أعجبتكم والجملةُ في حيِّز النصبِ على الحالية من مشركة إذ المآل ولأمة مؤمنة خيرٌ من امرأة مشركة حال عدمِ إعجابها إياكم بجمالها ومالِها ونسبها وغيرِ ذلك من مبادىء الإعجابِ وموجباتِ الرغبة فيها أي على كل حال ، وقد اقتُصر على ذكر ما هو أشدُّ منافاةً للخيرية تنبيهاً على أنها حيث تحققت معه فلأَنْ تتحققَ مع غيره أولى وقيل : الواوُ حاليةٌ وليس بواضح وقيل : اعتراضيةٌ وليس بسديد ، والحقُّ أنها عاطفة مستتبعةٌ لما ذكر من الاعتبار اللطيف . نعم يجوز أن تكونَ الجملةُ الأولى مع عاطف عليها مستأنفةً مقرِّرةً لمضمون ما قبلها فتدبر .
{ وَلاَ تُنكِحُواْ المشركين } من الإنكاح والمراد بهم الكفار على الإطلاق ، لما مر أي لا تُزوِّجوا منهم المؤمناتِ سواءٌ كن حرائرَ أو إماءً { حتى يُؤْمِنُواْ } ويتركوا ما هم فيه من الكفر { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ } مع ما به من ذل المملوكية { خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ } مع ما له من عز المالكية { وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } بما فيه من دواعي الرغبة فيه الراجعةِ إلى ذاته وصفاته { أولئك } استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمون التعليلين المارَّيْن أي أولئك المذكورون من المشركات والمشركين { يَدَّعُونَ } من يقارِنُهم ويعاشِرُهم { إِلَى النار } أي إلى ما يؤدي إليها من الكفر والفسوق فلا بد من الاجتناب عن مقارنتهم ومقاربتِهم { والله يَدْعُو } بواسطة عبادِه المأمنين مَنْ يقارِنُهم { إِلَى الجنة والمغفرة } أي إلى الاعتقاد الحق والعملِ الصالحِ الموصلَيْن إليهما ، وتقديمُ الجنة على المغفرة مع أن حق التخلية أن تُقدَّم على التحلية لرعاية مقابلة النار ابتداءً { بِإِذْنِهِ } متعلق بيدعو أي يدعو ملتبساً بتوفيقه الذي من جملته إرشادُ المؤمنين لمقارِنيهم إلى الخير ونصيحتُهم إياهم فهم أحقاءُ بالمواصلة { وَيُبَيِنُ آياته } المشتملةَ على الأحكام الفائقةِ والحِكَمِ الرائقة { لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي لكي يتذكروا ويعلموا بما فيها فيفوزوا بما دُعوا إليه من الجنة والغفران .(1/279)
هذا وقد قيل : معنى واللَّهُ يَدْعُو وأولياءُ الله يدْعون وهم المؤمنون على حذف المضاف وإقامةِ المضاف إليه مُقامه تشريفاً لهم . وأنت خبيرٌ بأن الضميرَ في المعطوف على الخبر أعني قوله تعالى : { وَيُبَيّنُ الله * تَعَالَى } فيلزم التفكيكُ وقيل : معناه والله يدعو بأحكامه المذكورة إلى الجنة والمغفرة فإنها موصلةٌ لمن عمِل بها إليهما . وهذا وإن كان مستدعياً لاتحاد مرجِع الضميرين الكائنين في الجملتين المتعاطفتين الواقعتين خبراً للمبتدأ لكنْ يفوِّت حينئذ حسنَ المقابلة بينه وبين قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النار } ولعل الطريق الأسلمَ ما أوضحناه أولاً ، وإيرادُ التذكرِ هاهنا للإشعار بأنه واضحٌ لا يحتاج إلى التفكر كما في الأحكام السابقة .(1/280)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
{ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض } عطفٌ على ما تقدم من مثله ولعل حكايةَ هذه الأسئلة الثلاثةِ بالعطف لوقوع الكلِّ عند السؤال عن الخمر ، وحكاية ما عداها بغير عطف لوقوع كلَ من ذلك في وقت على حِدَة والمحيض مصدر من حاضت المرأة كالمجيء والمبيت . روي أن أهل الجاهلية كانوا لا يساكنون الحُيَّضَ ولا يؤاكلونهن كدأب اليهودِ والمجوسِ واستمر الناسُ على ذلك إلى أن سأل عن ذلك أبو الدحداحِ في نفر من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فنزلت . { قُلْ هُوَ أَذًى } أي شيء يُستقذرُ منه ويؤذي من يقرَبُه نفرةً منه وكراهةً له { فاعتزلوا النساء فِي المحيض } أي فاجتنبوا مجامعتَهن في حالة المحيض . قيل : أخذ المسلمون بظاهر الاعتزال فأخرجوهن من بيوتهم فقال ناسٌ من الأعراب : يا رسولَ الله البردُ شديدٌ والثيابُ قليلة فإن آثرناهن هلك سائرُ أهل البيت وإن استأثرنا بها هلكت الحُيَّض فقال صلى الله عليه وسلم : « إنما أُمِرْتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حِضْنَ ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم » وقيل : إن النصارى كانوا يجامعونهن ولا يبالون بالحيض ، واليهودُ كانوا يفرِّطون في الاعتزال فأُمر المسلمون بالاقتصاد بين الأمرَيْن { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ } تأكيدٌ لحكم الاعتزال وتنبيه على أن المراد به عدمُ قربانهن لا عدمُ القربِ منهن وبيانٌ لغايته وهو انقطاعُ الدم عند أبي حنيفة رحمه الله فإن كان كذلك في أكثر المدة حلَّ القُربان كما انقطع وإلا فلا بدَّ من الاغتسال أو من مُضيِّ وقت صلاة وعند الشافعي رحمه الله أن يغتسلن بعد الانقطاع كما تُفصح عنه القراءة بالتشديد وينبىء عنهه قوله عز وجل : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } فإن التطهرَ هو الاغتسال { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } من المأتى الذي حلله لكم وهو القُبُل { إِنَّ الله يُحِبُّ التوبين } مما عسى يبدُر منهم من ارتكاب بعض ما نُهوا عنه ومن سائر الذنوب { وَيُحِبُّ المتطهرين } المتنزِّهين عن الفواحش والأقذار ، وفي ذكر التوبة إشعارٌ بمِساس الحاجة إليها بارتكاب بعضِ الناسِ لما نُهوا عنه ، وتكريرُ الفعل لمزيد العناية بأمر التطهر .(1/281)
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
{ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } أي مواضعُ حرثٍ لكم شُبِّهن بها لما بين ما يلقى في أرحامهن وبين البذورِ من المشابهة من حيث إن كلاً منهما مادةٌ لما يحصُل منه { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ } لما عبّر عنهن بالحرث عبّر عن مجامعتهن بالإتيان وهو بيانٌ لقوله تعالى : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } { أنى شِئْتُمْ } من أيِّ جهة شئتم .
روي أن اليهود كانوا يزعُمون أن مَنْ أتى امرأتَه في قبُلها من دبرها يأتي ولده أحول فذُكِر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت { وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ } أي ما يُدخَّر لكم من الثواب وقيل : هو طلبُ الولد وقيل : هو التسمية عند المباشرة { واتقوا الله } بالاجتناب عن معاصيه التي من جملتها ما عُدَّ من الأمور { واعلموا أَنَّكُم ملاقوه } فتعرَّضوا لتحصيل ما تنتفعون به حينئذ واجتنبوا اقترافَ ما تُفتَضَحون به { وَبَشّرِ المؤمنين } الذين تلقَّوا ما خوطبوا به من الأوامر والنواهي بحسب القَبول والامتثال بما يقصُر عنه البيان من الكرامة والنعيم المقيم ، أو بكل ما يُبشَّر به من الأمور التي تُسرُّ بها القلوب وتَقَرُّ بها العيونُ ، وفيه مع ما في تلوين الخطاب وجعلِ المبشِّرِ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من المبالغة في تشريف المؤمنين ما لا يخفى { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لايمانكم } قيل : نزلت في عبد اللَّه بنِ رَواحةَ حين حلَف أن لا يكلم خَتَنه بشرَ بنَ النعمان ولا يُصلِحَ بينه وبين أخته ، وقيل : في الصديق رضي الله عنه حين حلف أن لا يُنفِقَ على مِسْطَحٍ لخوضه في حديث الأفك والعُرضة فُعلة بمعنى مفعول كالقُبضة والغرفة تطلق على ما يعرض دون الشيء قيصيرُ حاجزاً عنه كما يقال : فلان عُرضة للخير وعلى المَعْرِض للأمر كما في قوله :
فلا تجعلوني عُرضة لِلَّوائمِ ... فالمعنى على الوجه الأول لا تجعلوا الله مانعاً من الأمور الحسنة التي تحلِفون على تركها وعبر عنها بالإيمان لملابستها بها كما في قوله عليه السلام لعبد اللَّه بنِ سَمُرةَ « إذا حَلَفتَ على يمينٍ فرأيتَ غيرَها خيراً منها فأتِ الذي هو خيرٌ وكفِّر عن يمينك » وقوله تعالى : { أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس } عطفُ بيانٍ لأَيْمانكم أو بدلٌ منها لما عرفت أنها عبارةٌ عن الأمور المحلوف عليها ، واللام في لأيمانكم متعلقة بالفعل أو بعُرضةً لما فيها من معنى الاعتراض أي لا تجعلوا الله لبِرِّكم وتقواكم وإصلاحكم بين الناس عُرضةً أي برزخاً حاجزاً بأن تحلِفوا به تعالى على تركها أو لا تجعلوه تعالى عرضة أي شيئاً يَعترِض الأمورَ المذكورة ويحجُزُها بما ذُكر من الحَلِف به تعالى على تركها ، وقد جُوِّز أن تكون اللامُ للتعليل ويتعلق أن تبروا الخ بالفعل أو بعرضة فيكون الأيمانُ بمعناها ، وأنت خبير بأنه يؤدي إلى الفصل بين العامل ومعموله بأجنبي وعلى الوجه الثاني لا تجعلوا الله مَعْرِضاً لأيمانكم تبتذلونه بكثرة الحلف به ولذلك ذُمَّ من نزلت فيه { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } بأشنعِ المذامِّ وجُعل الحلاّفُ مقدمتَها و { أَن تَبَرُّواْ } حينئذ علة للنهي أي إرادةَ أن تبرّوا وتتقوا وتصلحوا ، لأن الحلافَ مجترِىءٌ على الله سبحانه غيرُ معظِّمٍ له فلا يكون بَرَّاً متقياً ثقةً بين الناس فيكون بمعزل من التوسط في إصلاح ذاتِ البين { والله سَمِيعٌ } يسمع أَيْمانكم { عَلِيمٌ } يعلم نياتِكم فحافظوا على ما كُلفتموه .(1/282)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
{ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم } اللغوُ ما سقط من الكلام عن درجة الاعتبارِ والمرادُ به في الأيمان ما لا عقدَ معه ولا قصْدَ كما ينبىء عنه قوله تعالى : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الايمان } وهو المعنيُّ بقوله عز وجل : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } وقد اختُلف فيه فعندنا هو أن يحلِف على شيءٍ يظنُّه على ما حلف عليه ثم يظهرُ خلافُه فإنه لا قصْدَ فيه إلى الكذبَ وعند الشافعي رحمه الله هو قولُ العرب لا والله وبلى والله مما يؤكِّدون به كلامَهم من غير إخطار الحلِف بالبال فالمعنى على الأول لا يؤاخذُكم الله أي لا يعاقبُكم بلغو اليمين الذي يحلِفه أحدُكم ظاناً أنه صادقٌ فيه ولكن يعاقبُكم بما اقترفتْه قلوبُكم من إثم القصْد إلى الكذب في اليمين وذلك في الغَموس ، وعلى الثاني لا يلزمُكم الكفارةُ بما لا قصدَ معه إلى اليمين ولكن يلزمُكُموها بما نوَتْ قلوبُكم وقصَدَتْ به اليمينَ ولم يكن كسبَ اللسان فقط { والله غَفُورٌ } حيث لم يؤاخذْكم باللغو مع كونه ناشئاً من عدم التثبّت وقلةِ المبالاة { حَلِيمٌ } حيث لم يعجَلْ بالمؤاخذة ، والجملةُ اعتراض مقرِّرٌ لمضمون قوله تعالى : لا يؤاخذكم الخ وفيه إيذانٌ بأن المرادَ بالمؤاخذة المعاقبة لا إيجابُ الكفارة إذ هي التي يتعلق بها المغفرةُ والحِلْمُ دونه .
{ لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ } الإيلاءُ الحلِفُ وحقُّه أن يستعمل بعلى واستعمالُه بمن لتضمينه معنى البُعد أي للذين يحلِفون متباعدين من نسائهم ويُحتمل أن يراد لهم من نسائهم { تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } كقولك : لي منك كذا وقرىء آلَوْا من نسائهم وقرىء يُقسمون من نسائهم والإيلاءُ من المرأة أن يقول : والله لا أقرَبُك أربعةَ أشهرٍ فصاعداً على التقييد بالأشهر ، أو لا أقربك على الإطلاق ، ولا يكون فيما دون ذلك وحكمه أنه إن فاء إليها في المدة بالوطء إن أمكن أو بالقول إن عجِز عنه صح الفيءُ وحنِث القادرُ ولزِمَتْه كفارةُ اليمين ، ولا كفارةَ على العاجز ، وإن مضت الأشهرُ الأربعةُ بانت بتطليقه والتربُّص الانتظارُ والتوقف أضيف إلى الظرف اتساعاً أي لهم أن ينتظروا في هذه المدة من غير مطالبة بفيء أو طلاق { فَإِن فَآءوا } أي رَجَعوا عن اليمين بالحِنْث ، والفاء للتفصيل كما إذا قلت أنا نزيلُكم هذا الشهرَ فإن حمِدتُكم أقمتُ عندكم إلى آخره وإلا لم ألبَثْ إلا ريثما أتحوّل { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يغفرُ للمُولي بفيئته التي هي كتَوْبته إثرَ حنثه عند تكفيره أو ما قصَد بالإيلاء من ضرار المرأة .
{ وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق } وأجمعوا عليه { فَإِنَّ الله سَمِيعٌ } بما جرى منهم من الطلاق وما يتعلق به من الدمدمة والمقاولةِ التي لا تخلو عنها الحالُ عادة { عَلِيمٌ } بنياتهم وفيه من الوعيد على الإصرار وترك الفَيئة ما لا يخفى .(1/283)
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
{ والمطلقات } أي ذواتُ الأقراءِ من الحرائر المدخولِ بهن لما قد بُين أن لا عدةَ على غير المدخولِ بها وأنَّ عدَّةَ من لا تحيضُ لصِغَرٍ أو كِبَرٍ أو حملٍ بالأشهر ووضعِ الحمل وأن عدة الأَمَةِ قُرآنِ أو شهران { يَتَرَبَّصْنَ } خبرٌ في معنى الأمر مفيدٌ للتأكيد بإشعاره بأن المأمور به مما يجب أن يُتلقَّ بالمسارعة إلى الإتيان به فكأنهن امتثلن بالأمر بالتربُّص فتخبر به موجوداً متحققاً ، وبناؤه على المبتدأ مفيدٌ لزيادة تأكيد { بِأَنفُسِهِنَّ } الباء للتعدية أي يقمَعْنها ويحمِلْنها على ما لا تشتهيه بل يشق عليها من التربص وفيه مزيدُ حثَ لهن على ذلك لما فيه من الإنباء عن الاتصاف بما يستنكفْن منه من كون نفوسِهن طوامِحَ إلى الرجال فيحملُهن ذلك على الإقدام على الإتيان بما أمر به { ثلاثة قُرُوء } نُصب على الظرفية أو المفعولية بتقدير مضافٍ أي يتربصن مدةَ ثلاثةِ قروء أو يتربصن مُضِيَّ ثلاثةِ قروءٍ وهو جمع قُرءٍ والمراد به الحيضُ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : « دعي الصَّلاةَ أيامَ أقرائِك » وقوله صلى الله عليه وسلم : « طلاقُ الأمَةِ تطليقتانِ وعِدَّتُها حَيْضتان » وقوله تعالى : { واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ } ولأن المقصودَ الأصليَّ من العدة استبراءُ الرحِم ومدارُه الحيضُ دون الطهر ويقال : أقْرَأت المرأة إذا حاضت وقوله تعالى : { فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } معناه مستقبلاتٍ لعدتهن وهي الحِيَضُ الثلاثُ ، وإيرادُ جمع الكثرة في مقام جمع القِلة بطريق الاتساع فإن إيراد كلَ من الجمعين مكانَ الآخر شائع ذائع ، وقرىء ثلاثة قُرو بغير همز { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِى أَرْحَامِهِنَّ } من الحَيْض والوَلَدِ استعجالاً للعِدة وإبطالاً لحقِّ الرَّجْعة وفيه دليل على قبول قولهِن في ذلك نفياً وإثباتاً { إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الاخر } جوابُ الشرط محذوفٌ يدل عليه ما قبله دَلالةً واضحة أي فلا يجترئن على ذلك ، فإن قضيةَ الإيمان بالله تعالى واليومِ الآخِرِ الذي يقع فيه الجزاءُ والعقوبةُ منافيةٌ له قطعاً { وَبُعُولَتُهُنَّ } البعولةُ جمعُ بعلٍ وهو في الأصل السيدُ المالك والتاءُ لتأنيث الجمع كما في الحزونة والسهولة أو مصدرٌ بتقدير مضافٍ أي أهلُ بعولتهن أي أزواجُهن الذين طلقوهن طلاقاً رَجْعياً كما ينبىء عنه التعبيرُ عنهم بالبعولة ، والضميرُ لبعض أفراد المطلقات { أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ } إلى مِلْكهم بالرَّجْعة إليهن { فِي ذلك } أي في زمانِ التربُّص ، وصيغة التفضيلِ لإفادة أن الرجلَ إذا أراد الرجعةَ والمرأةُ تأباها وجبَ إيثارُ قولِه على قولها لا أن لها أيضاً حقاً في الرجعة { إِنْ أَرَادُواْ } أي الأزواجُ بالرجعة { إصلاحا } لما بينهم وبينهن وإحساناً إليهن ولم يريدوا مضارَّتَهن ، وليس المرادُ به شرطيةَ قصْدِ الإصلاح بصحة الرجعة بل هو الحثُّ عليه والزجرُ عن قصد الضِّرار { وَلَهُنَّ } عليهم من الحقوق { مِثْلُ الذى } لهم { عَلَيْهِنَّ بالمعروف } من الحقوق التي يجب مراعاتُها ويتحتم المحافظةُ عليها { وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } أي زيادةٌ في الحق لأن حقوقَهم في أنفسهن وحقوقَهن في المَهْر والكَفاف وتركِ الضِّرار ونحوها ، أو مزيةٌ في الفضل لما أنهم قوامون عليهن حُرَّاسٌ لهن ولما في أيديهن يشاركونهن في الغرَض من الزواج ويستبدّون بفضيلة الرعاية والإنفاق { والله عَزِيزٌ } يقدِرُ على الانتقام ممن يخالفُ أحكامَه { حَكِيمٌ } تنطوي شرائعهُ على الحِكَم والمصالح .(1/284)
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
{ الطلاق } هو بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم والمراد به الرجعيُّ لما أن السابقَ الأقربُ حكمُه ، ولما رُوي أنه عليه السلام سُئل عن الثالثة فقال عليه السلام : « أو تسريحٌ بإحسان » وهو مبتدأ بتقدير مضافٍ خبرُه ما بعده أي عددُ الطلاق الذي يستحقُّ الزوجُ فيه الردَّ والرجعة حسبما بيّن آنفاً { مَرَّتَانِ } أي اثنانِ ، وإيثارُ ما ورد به النظمُ الكريم عليه للإيذان بأن حقَّهما أن يقعا مرةً بعد مرة لا دفعةً واحدة وإن كان حكمُ الرد ثابتاً حينئذٍ أيضاً { فَإِمْسَاكٌ } فالحكمُ بعدهما إمساكٌ لهن بالرجعة { بِمَعْرُوفٍ } أي بحسن عِشرةٍ ولطفِ معاملة { أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان } بالطلقة الثالثة كما رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أو بعدم الرجعةِ إلى أن تنقضيَ العِدَّةُ فَتَبينُ ، وقيل : المرادُ به الطلاقُ الشرعيُّ وبالمرتين مطلقُ التكرير لا التثنيةُ بعينها كما في قوله تعالى : { ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } أي كرةً بعد كرة والمعنى أن التطليق الشرعيَّ تطليقةٌ بعد تطليقةٍ على التفريق دون الجمع بين الطلقتين أو الثلاثِ فإن ذلك بدعةٌ عندنا فقوله تعالى : { فَإِمْسَاكٌ } الخ ، حُكمٌ مبتدأٌ وتخييرٌ مستأنف ، والفاء فيه للترتيب على التعليم كأنه قيل : إذا علمتم كيفية التطليق فأمرُكم أحدُ الأمرين { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ } منهن بمقابلة الطلاق { مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ } أي من الصدقات وتخصيصُها بالذكر وإن شاركها في الحكم سائرُ أموالِهن إما لرعاية العادة أو للتنبيه على أنه إذا لم يحِلَّ لهم أن يأخُذوا مما آتَوْهن بمقابلة البُضْع عند خروجه عن ملكهم فلأَنْ لا يحِلَّ أن يأخذوا مما لا تعلُّقَ له بالبُضع أولى وأحرى { شَيْئاً } أي نزْراً يسيراً فضلاً عن الكثير ، وتقديمُ الظرفِ عليه لما مر مراراً ، والخطابُ مع الحكام ، وإسنادُ الأخذِ والإيتاءِ إليهم لأنهم الآمرون بهما عند المرافعة ، وقيل : مع الأزواج وما بعده مع الحكام وذلك مما يشوش النظمَ الكريمَ على القراءة المشهورة { إِلاَّ أَن يَخَافَا } أي الزوجان وقرىء يظنّوا وهو مؤيد لتفسير الخوف بالظن { أَن لا * يُقِيمَا حُدُودَ الله } أي أن لا يراعِيا مواجبَ أحكام الزوجية وقرىء يُخافا على البناء للمفعول وإبدال أن بصلته من الضمير بدلَ الاشتمال وقرىء تخافا وتُقيما بتاء الخطاب { فَإِنْ خِفْتُمْ } أيها الحكامُ { أَن لا يُقِيمَا } أي الزوجان { حُدُودَ الله } بمشاهدة بعض الأماراتِ والمخايل { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } أي على الزوجين { فِيمَا افتدت بِهِ } لا على الزوج في أخذ ما افتدت به ولا عليها في إعطائه إياه ، رُوي أن جميلة بنتَ عبدِ اللَّه بن أبيِّ بنِ سَلولٍ كانت تُبغض زوجَها ثابتَ بنَ قيس فأتت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالت : لا أنا ولا ثابت ، لا يجمع رأسي ورأسَه شيء ، والله ما أعيبُ عليه في دين ولا خلُق ، ولكن أكره الكفرَ بعد الإسلام ما أُطيقه بغضاً إني رفعت جانبَ الخِباء فرأيتُه أقبلَ في عِدَّةٍ فإذا هو أشدُهم سواداً وأقصرُهم قامة وأقبحُهم وجهاً فنزلت فاختلعَتُ منه بحديقة كان أصْدقَها إياها .(1/285)
{ تِلْكَ } أي الأحكامُ المذكورة { حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا } بالمخالفة والرفض { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَأُوْلَئِكَ } المتعدّون والجمعُ باعتبار معنى الموصول { هُمُ الظالمون } أي لأنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعقابه ، ووضعُ الاسمِ الجليل في المواقع الثلاثة الأخيرة موقعَ الضمير لتربية المهابةِ وإدخال الروعةِ ، وتعقيبُ النهي بالوعيد للمبالغة في التهديد .
{ فَإِن طَلَّقَهَا } أي بعد الطلقتين السابقتين { فَلاَ تَحِلُّ } هي { لَهُ مِن بَعْدُ } أي من بعد هذا الطلاقِ .(1/286)
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
{ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } أي حتى تتزوج غيره فإن النكاحَ أيضاً يُسند إلى كلَ منهما . وتعلَّقَ بظاهره من اقتصر على العقد والجمهورُ على اشتراط الإصابة لما رُوي أن امرأة رُفاعةَ قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن رُفاعةَ طلقني فبتَّ طلاقي وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني ، وإن ما معه مثلُ هُدْبة الثوب فقال صلى الله عليه وسلم : " أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة " قالت : نعم ، قال صلى الله عليه وسلم : " لا إلا أن تذوقي عُسَيْلَتَه ويذوقَ عُسَيْلَتَكِ " وبمثله تجوز الزيادةُ على الكتاب وقيل : النكاحُ بمعنى الوطء والعقدُ مستفاد من لفظ الزوج ، والحكمةُ من هذا التشريع الردعُ عن المسارعة إلى الطلاق والعودُ إلى المطلقة ثلاثاً والرغبة فيها ، والنكاحُ بشرط التحليل مكروهٌ عندنا ، ويُروى عدمُ الكراهة فيما لم يكن الشرطُ مصرَّحاً به وفاسدٌ عند الأكثرين لقوله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله المحلِّل والمحلَّل له " فَإِن طَلَّقَهَا } أي الزوجُ الثاني { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } أي على الزوج الأول والمرأة { أَن يَتَرَاجَعَا } أن يرجِعَ كلٌّ منهما إلى الآخَر بالعقد { إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله } التي أوجب مراعاتِها على الزوجين من الحقوق ، ولا وجهَ لتفسير الظنِّ بالعلم لما أن العواقبَ غيرُ معلومةٍ ولأن ( أن ) الناصبة للتوقع المنافي للعلم ولذلك لا يكاد يقال : علمتُ أن يقومَ زيد .
{ وَتِلْكَ } إشارة إلى الأحكام المذكورة إلى هنا { حُدُودَ الله } أي أحكامُه المعيّنة المحمية من التعرض لها بالتغيير والمخالفة { يُبَيّنُهَا } بهذا البيان اللائق أو سيبينها فيما سيأتي بناءً على أن بعضَها يلحقُه زيادةُ كشفٍ وبيانٌ بالكتاب والسنةَ ، والجملة خبرٌ ثانٍ عند من يجوِّزُ كونَه جملةً كما في قوله تعالى : { فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى } أو حالٌ من حدود الله والعامل معنى الإشارة { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي يفهمون وتخصيصُهم بالذكر مع عموم الدعوة والتبليغِ لما أنهم المنتفعون بالبيان أو لأن ما سيلحق بعضَ النصوص من البيان لا يقف عليه إلا الراسخون في العلم . { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي آخِرَ عدَّتِهن فإن الأجل كما ينطلِقُ على المدة ينطلق على منتهاها ، والبلوغُ هو الوصولُ إلى الشيء وقد يقال : للدنو منه اتساعاً وهو المراد هاهنا لقوله عز وجلَّ : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } إذ لا إمكان للإمساك بعد تحققِ بلوغِ الأجلِ أي فراجعوهن بغير ضِرارٍ أو خلُّوهن حتى ينقضِيَ أجلُهن بإحسان من غير تطويل ، وهذا كما ترى إعادةٌ للحكم في بعض صورِه اعتناءً بشأنه ومبالغةً في إيجاب المحافظةِ عليه { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا } تأكيدٌ للأمر بالإمساك بمعروف وتوضيحٌ لمعناه وزجزٌ صريحٌ عما كانوا يتعاطَوْنه أي لا تراجعوهن إرادة الإضرار بهن «كأنْ يترُكَ المعتدةَ حتى إذا شارفت انقضاءَ الأجلِ يراجعها لا لرغبة فيها بل ليطوِّل عليها العدةَ فنُهي عنه» بعدما أُمر بضده لما ذكر ، وضِراراً نُصب على العِلّية أو الحالية أي لا تمسكوهن للمضارة أو مضارّين واللام في قوله : { لّتَعْتَدُواْ } متعلقة بضراراً أي لتظلموهن بالإلجاء إلى الافتداء .(1/287)
{ وَمَن يَفْعَلْ ذلك } أي ما ذكر من الإمساك المؤدّي إلى الظلم ، وما فيه من معنى البعد للدلالة على بعد منزلته في الشر والفساد { فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } في ضمن ظلمِه لهن بتعريضها للعقاب { وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله } المنطويةَ على الأحكام المذكورة أو جميعَ آياتهِ وهي داخلة فيها دخولاً أولياً { هُزُواً } أي مَهُزوًّا بها بأن تُعرِضوا عنها وتتهاونوا في المحافظة على ما في تضاعيفها من الأحكام والحدود من قولهم لمن لم يجِدَّ في الأمر : أنت هازىءٌ ، كأنه نُهي عن الهُزْؤ بها وأريد ما يستلزمه من الأمر بضده أي جِدُّوا في الأخذ بها والعمل بما فيها وارعَوْها حقَّ رعايتها وإلا فقد أخذتموها هُزُؤاً ولعباً . ويجوز أن يراد به النهيُ عن الإمساك ضراراً فإن الرجعةَ بلا رغبة فيها عملٌ بموجب آياتِ اللَّهِ تعالى بحسب الظاهر دون الحقيقة وهو معنى الهُزْؤ ، وقيل : كان الرجل ينكِحُ ويطلِّقُ ويُعتِقُ ثم يقول : إنما كنت ألعَبُ فنزلت ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : « ثلاثٌ جِدُّهن جدٌ وهزلُهن جدٌّ النكاحُ والطلاقُ والعِتاق » { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } حيث هداكم إلى ما فيه سعادتُكم الدينية والدنيوية أي قابلوها بالشكر والقيام بحقوقها ، والظرفُ متعلق بمحذوف وقع حالاً من نعمة الله أي كائنةً عليكم أو صفةً لها على رأي من يجوِّز حذفَ الموصول مع بعض صلته أي الكائنة عليكم ويجوز أن يتعلق بنفسها إن أريد بها الإنعام لأنها اسم مصدر كنبات من أنبت ولا يقدح في عمله تاءُ التأنيث لأنه مبنيٌّ عليها كما في قوله :
فلولا رجاءُ النصرِ منك ورهبة ... عِقابَك قد كانوا لنا كالموارد
{ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم } عطفٌ على { فَكُلُواْ مِمَّا } وما موصولة حذف عائدُها من الصلة و ( مِنْ ) في قوله عز وجل : { مّنَ الكتاب والحكمة } بيانية أي من القرآن والسنة أو القرآن الجامع للعنوانين على أن العطف لتغايُر الوصفين كما في قوله :
إلى الملكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمام ... وفي إبهامه أولاً ثم بيانه من التفخيم ما لا يخفى ، وفي إفراده بالذكر مع كونه أولَ ما دخل في النعمة المأمورِ بذكرها إبانةٌ بخطره ومبالغةٌ في الحث على مراعاة ما ذكر قبله من الأحكام { يَعِظُكُمْ بِهِ } أي بما أنزل ، حال من فاعل أَنزل أو من مفعوله أو منهما معاً { واتقوا الله } في شأن المحافظة عليه والقيام بحقوقه الواجبة { واعلموا أَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } فلا يخفى عليه شيءٌ مما تأتون وما تذرون فيؤاخذُكم بأفانينِ العقاب .(1/288)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } بيانٌ لحكم ما كانوا يفعلونه عند بلوغِ الأجل حقيقةً بعد بيانِ حُكمِ ما كانوا يفعلونه عند المشارفة إليه ، والعضْلُ الحبسُ وللتضييق ومنه عضَلت الدجاجةُ إذا نشِبَ بيضُها ولم يخرج والمراد المنعُ والخطاب إما للأولياء لما رُوي أنها نزلت في معقِل بنِ يسارَ حين عضَل أخته جميلة أن ترجِع إلى زوجها الأول بالنكاح وقيل : نزلت في جابرِ بن عبدِ اللَّه حين عضَل ابنةَ عمَ له ، وإسنادُ التطليق إليهم لتسبُّبهم فيه كما ينبىء عنه تصدّيهم للعضل ولعل التعرضَ لبلوغ الأجل مع جواز التزوج بالزوج الأول قبله أيضاً لوقوع العضلِ المذكور حينئذ وليس فيه دلالةٌ على أن ليس للمرأة أن تزوِّج نفسَها وإلا لما احتيج إلى نهي الأولياء عن العضل لما أن النهيَ لدفع الضرر عنهن فإنهن وإن قدَرْن على تزويج أنفسِهن لكنهن يحترزن عن ذلك مخافةً للوم والقطيعة ، وإما للأزواج حيث كانوا يعضُلون مطلقاتِهم ولا يدَعونهن يتزوجْن ظُلما وقسراً لحمية الجاهلية ، وإما للناس كافة فإن إسناد ما فعله واحد منهم إلى الجميع شائعٌ مستفيضٌ والمعنى إذا وجد فيكم طلاق فلا يقعْ فيما بينكم عضلٌ سواء كان ذلك من قبل الأولياء أو من جهة الأزواج أو من غيرهم ، وفيه تهويلٌ لأمر العضل وتحذيرٌ منه وإيذانٌ بأن وقوع ذلك بين ظَهرانيهم وهم ساكتون عنه بمنزلة صدوره عن الكل في استتباع اللائمةِ وسِرايةِ الغائلة { أَن يَنكِحْنَ } أي مِنْ أن ينكِحن فمحلُه النصبُ عند سيبويه والفراء والجرُّ عند الخليل على الخلاف المشهور وقيل : هو بدل اشتمال من الضمير المنصوب في تعضُلوهن وفيه دَلالةٌ على صحة النكاح بعبارتهن { أزواجهن } إن أريد بهم المطلقون فالزوجية إما باعتبار ما كان وإما باعتبار ما يكون وإلا فباعتبار الأخير { إِذَا تراضوا } ظرفٌ لِلا تعضُلوا ، وصيغةُ التذكير باعتبار تغليبِ الخطاب على النساء ، والتقييدُ به لأنه المعتاد لا لتجويز المنع قبل تمام التراضي وقيل : ظرفٌ لأن ينكحن وقوله تعالى : { بَيْنَهُمْ } ظرفٌ للتراضي مفيدٌ لرسوخه واستحكامه { بالمعروف } الجميلِ عند الشرع المستحسنِ عند الناس ، والباءُ إما متعلقةٌ بمحذوف حالٍ من فاعل تراضوا أو نعتٍ لمصدر محذوفٍ أي تراضِياً كائناً بالمعروف ، وإما بتراضَوا بما يحسُن في الدين والمروءة وفيه إشعارٌ بأن المنعَ من التزوج بغير كفؤ أو بما دون مَهرِ المثل ليس من باب العضْل .
{ ذلك } إشارةٌ إلى ما فصل من الأحكام ، وما فيه من البُعد لتعظيم المشار إليه ، والخطابُ لجميع المكلفين كما فيما بعده والتوحيدُ إما باعتبار كلِّ واحدٍ منهم ، وإما بتأويل القَبيل والفريق ، وإما لأن الكافَ لمجرد الخطابِ والفرقِ بين الحاضِرِ والمنقضي دون تعيينِ المخاطَبين أو للرسول صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى : { الحكيم يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء } للدلالة على أن حقيقةَ المشارِ إليه أمرٌ لا يكاد يعرِفه كلُّ واحد { يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الاخر } فيسارع إلى الامتثال بأوامرِه ونواهيه إجلالاً له وخوفاً من عقابه ، وقوله تعالى : { مّنكُمْ } إما متعلق بكان عند من يجوز عملها في الظروف وشبهها ، وإما بمحذوف وقع حالاً من فاعل يؤمن أي كائناً منكم { ذلكم } أي الاتعاظُ به والعملُ بمقتضاه { أزكى لَكُمْ } أي أنمى وأنفعُ { وَأَطْهَرُ } من أدناس الآثام وأوضارِ الذنوب { والله يَعْلَمُ } ما فيه من الزكاء والطُهر { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ذلك ، أو والله يعلمُ ما فيه صلاحُ أمورِكم من الأحكام والشرائعَ التي من جملتها ما بينه هاهنا وأنتم لا تعلمونها فدعُوا رأيكم وامتثِلوا أمرَه تعالى ونهيَه في كل ما تأتون وما تذرون .(1/289)
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
{ والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن } شروعٌ في بيان الأحكام المتعلقة بأولادهن خصوصاً واشتراكاً وهو أمرٌ أُخرِجَ مُخرجَ الخبر مبالغةً في الحمل على تحقق مضمونِه ومعناه الندبُ أو الوجوبُ إن خص بمادة عدم قَبول الصبيِّ ثديَ الغير أو فقدانِ الظِئْر أو عجزِ الوالدِ عن الاستئجار ، والتعبيرُ عنهن بالعنوان المذكور لِهزّ عَطفِهن نحوَ أولادِهن ، والحكمُ عام للمطلقات وغيرهن ، وقيل : خاصٌّ بهن إذ الكلامُ فيهن { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } التأكيدُ بصفة الكمال لبيان أن التقديرَ تحقيقيٌّ لا تقريبيٌّ مبني على المسامحة المعتادة { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } بيانٌ لمن يُتوجّه إليه الحكمُ أي ذلك لمن أراد إتمامَ الرضاعة وفيه دلالةٌ على جواز النقص وقيل : اللام متعلقة بيرضعن فإن الأبَ يجبُ عليه الإرضاعُ كالنفقة ، والأمُ ترضع له كما يقال : أرضعت فلانةٌ لفلان ولدَه { وَعلَى المولود لَهُ } أي الوالد فإن الولد يولد له ويُنسَب إليه ، وتغييرُ العبارة للإشارة إلى المعنى المقتضي لوجوب الإرضاعِ ، ومؤونة المرضعة عليه { رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } أجرةٌ لهن ، واختلف في استئجار الأمِّ وهو غيرُ جائز عندنا ما دامت في النكاح أو العدة ، جائزٌ عند الشافعي رحمه الله { بالمعروف } حسبما يراه الحاكم ويفي به وسعَه { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } تعليل لإيجاب المُؤَن بالمعروف أو تفسيرٌ للمعروف وهو نص على أنه تعالى لا يكلف العبدَ ما لا يُطيقُه وذلك لا ينافي إمكانه .
{ لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } تفصيلٌ لما قبله وتقريرٌ له ، أي لا يكلِّف كلُّ واحد منهما الآخَرَ ما لا يُطيقه ، ولا يُضارُّه بسبب ولده وقرىء لا تضارُّ بالرفع بدلاً من لا تكلف وأصله على القراءتين لا تضارِّ بالكسر على البناء للمفعول وعلى الوجه الأول يجوز أن يكون بمعنى تضرّ والباء من صلته أي لا يُضَر الوالدان بالولد فيُفَرَّط في تعهده ويُقصَّر فيما ينبغي له وقرىء لا تضارّ بالسكون مع التشديد على نية الوقف وبه مع التخفيف على أنه من ضاره يَضيرُه وإضافة الولد إلى كل منهما لاستعطافهما إليه وللتنبيه على أنه جدير بأن ينفِقا على استصلاحه ولا ينبغي أن يُضَرَّا به أو يُتضارّا بسببه .
{ وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك } عطف على قوله تعالى : { على المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ } الخ وما بينهما تعليل أو تفسيرٌ معترِضٌ ، والمرادُ به وارثُ الصبيِّ ممن كان ذا رحِمٍ محرَمٍ منه وقيل : عَصَباتُه وقال الشافعي رحمه الله : هو وارثُ الأب وهو الصبيُّ أي تُمأنُ المرضعةُ من ماله عند موت الأب ، ولا نزاعَ فيه وإنما الكلام فيما إذا لم يكن للصبيِّ مالٌ وقيل : الباقي من الأبوين من قوله عليه الصلاة والسلام : « واجعله الوارثَ منا » وذلك إشارةٌ إلى ما وجب على الأب من الرزق والكسوةِ { فَإِنْ أَرَادَا } أي الوالدان { فِصَالاً } أي فِطاماً عن الرَّضاع قبل تمام الحولين ، والتنكيرُ للإيذان بأنه فصال غيرُ معتاد { عَن تَرَاضٍ } متعلق بمحذوف ينساق إليه الذهنُ أي صادراً عن تراض { مِنْهُمَا } أي من الوالدين لا من أحدهما فقط لاحتمال إقدامه على ما يضُرُّ بالولد بأن تمَلَّ المرأةُ الإرضاعِ ويبخَلَ الأبُ بإعطاء الأجرة { وَتَشَاوُرٍ } في شأن الولد وتفحُّصٍ عن أحواله وإجماعٍ منهما على استحقاقه للفِطام والتشاور من المَشورة وهي استخراجُ الرأي من شُرتُ العسلَ إذا استخرجته وتنكيرُهما للتفخيم { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } في ذلك لما أن تراضِيَهما إنما يكون بعد استقرار رأيِهما أو اجتهادِهما على أن صلاحَ الولدِ في الفِطام وقلما يتفقان على الخطأ { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ } بيانق لحكم عدم اتفاقِهما على الفطام ، والالتفاتُ إلى خطاب الآباءِ لجذبهم إلى الامتثال بما أُمروا به { أَن تَسْتَرْضِعُواْ أولادكم } بحذف المفعول الأول استغناءً عنه أي أن تسترضعوا المراضِعَ لأولادكم يقال : أرضعتِ المرأةُ الصبيَّ واسترضعتُها إياه ، وقيل : إنما يتعدَّى إلى الثاني بحرف الجرِّ يقال : استرضعتُ المرأةَ للصبيِّ أي أن تسترضعوا المراضِعَ لأولادكم فحُذف حرفُ الجر أيضاً كما في قوله تعالى :(1/290)
{ وَإِذَا كَالُوهُمْ } أي كالوا لهم { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أي في الاسترضاع وفيه دلالة على أن للأب أن يسترضِعَ للولد ويمنعَ الأمَّ من الإرضاع { إِذَا سَلَّمْتُم } أي إلى المراضع { مَّا ءاتَيْتُم } أي ما أردتم إيتاءَه كما في قوله تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله } وقرىء ما أَتيتم من أتى إليه إحساناً إذا فعله وقرىء ما أُوتيتم أي من جهة الله عز وجل كما في قوله تعالى : { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } وفيه مزيدُ بعثٍ لهم إلى التسليم { بالمعروف } متعلقٌ بسلَّمتم أي بالوجه المتعارَفِ المستحسَن شرعاً ، وجوابُ الشرط محذوفٌ لدلالة المذكور عليه وليس التسليمُ بشرطٍ للصحة والجواز ، بل هو ندبٌ إلى ما هو الأليقُ والأَولى فإن المراضعَ إذا أُعطين ما قُدّر لهن ناجزاً يداً بيد كان ذلك أدخلَ في استصلاح شؤون الأطفال { واتقوا الله } في شأن مراعاةِ الأحكامِ المذكورة { واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فيجازيكم بذلك ، وإظهارُ الاسم الجليلِ في موضع الإضمارِ لتربية المهابة ، وفيه من الوعيد والتهديد ما لا يخفى .(1/291)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
{ والذين } على حذف المضافِ أي وأزواجُ الذين { يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } أي تُقبض أرواحُهم بالموت فإن التوفيَ هو القبضُ يقال : توفّيتُ مالي من فلان واستوفيتُه منه أي أخذته وقبضته ، والخطاب لكافة الناس بطريق التلوينِ { وَيَذَرُونَ أزواجا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } أو على حذف العائد إلى المبتدأ في الخبر أي يتربصن بعدَهم كما في قولهم : السمنُ مَنَوانِ بدرهم أي مَنَوانِ منه وقرىء يَتَوفون بفتح الياء أي يستوفون آجالَهم ، وتذكيرُ العشر باعتبار الليالي لأنها غُررُ الشهور والأيام ولذلك تراهم لا يكادون يستعملون التذكير في مثله أصلاً حتى إنهم يقولون : صُمت عشراً ومن البين في ذلك قولُه تعالى : { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً } ثم { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } ولعل الحكمةَ في هذا التقديرِ أن الجنينَ إذا كان ذكراً يتحرك غالباً لثلاثة أشهر وإن كان أنثى يتحرك لأربعة فاعتُبر أقصى الأجلين وزيد عليه الأيام العشر استظهاراً إذ ربما تضعف الحركة فلا يُحس بها . وعمومُ اللفظ يقتضي تساوي المسلمة والكتابية والحرة والأمة في هذا الحكم ولكن القياسَ اقتضى التنصيفَ في الأَمَة ، وقولُه عز وجل : { وأولات الاحمال } خَصَّ الحاملَ منه . وعن علي وابنِ عباس رضي الله عنهم أنها تعتدُّ بأبعد الأجلين احتياطاً { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي انقضت عدتُهن { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أيها الحكامُ والمسلمون جميعاً { فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ } من التزيُّن والتعرُّض للخُطّاب وسائرِ ما حُرِّم على المعتدة { بالمعروف } بالوجه الذي لا ينكره الشرعُ ، وفيه إشارةٌ إلى أنهن لو فعلن ما ينكره الشرعُ فعليهم أن يكفّوهن عن ذلك وإلا فعليهم الجُناحُ { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فلا تعملوا خلافَ ما أُمرتم به .(1/292)
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
{ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } خطابٌ للكل { فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ } التعريضُ والتلويحُ إبهامُ المقصودِ بما لم يوضَعْ له حقيقةً ولا مجازاً كقول السائل : جئتُك لأُسلِّم عليك وأصلُه إمالةُ الكلام عن نهجه إلى عُرُضٍ منه أي جانب والكناية هي الدِلالةُ على الشيء بذكر لوازمِه وروادِفه كقولك : طويلُ النِّجاد للطويل وكثيرُ الرماد للمِضْياف { مِنْ خِطْبَةِ النساء } الخِطبة بالكسر كالقِعدة والجِلسة ما يفعلُه الخاطبُ من الطلب والاستلطاف بالقول والفعل فقيل : هي مأخوذةٌ من الخَطْب أي الشأن الذي له خطرٌ لما أنها شأن من الشؤون ونوع من الخُطوب وقيل : من الخطاب لأنها نوعُ مخاطبة تجري بين جانب الرجل وجانب المرأة والمرادُ بالنساء المعتداتُ للوفاة والتعريضُ لخطبتهن أن يقول لها : إنك لجميلةٌ أو صالحةٌ أو نافعة ، ومن غرضي أن أتزوَّجَ ونحوُ ذلك مما يوهم أنه يريد نِكاحَها حتى تحبِسَ نفسَها عليه إن رغبت فيه ولا يصرح بالنكاح { أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ } أي أضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه تصريحاً ولا تعريضاً { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } ولا تصبِرون على السكوت عنهن وعن إظهار الرغبة فيهن وفيه نوعُ توبيخٍ لهم على قلة التثبت { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا } استدراكٌ محذوفٌ دل عليه { سَتَذْكُرُونَهُنَّ } أي فاذكُروهن ولكن لا تواعدوهن نِكاحاً بل اكتفوا بما رُخّص لكم من التعريض ، والتعبيرُ عن النكاح بالسر لأن مُسبَّبَه الذي هو الوطء مما يُسرّ به وإيثارُه على اسمه للإيذان بأنه ينبغي أن يُسرّ به ويكتَم ، وحملُه على الوطء ربما يُوهم الرُّخصة في المحظور الذي هو التصريحُ بالنكاح وقيل : انتصابُ سراً على الظرفية أي لا تواعدوهن في السر على أن المراد بذلك المواعدةُ بما يُستهجن وفيه ما فيه { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا } استثناءٌ مفرَّغ مما يدل عليه النهي أي لا تواعدوهن مواعدةً ما إلا مواعدةً معروفة غيرَ منْكرةٍ شرعاً وهي ما يكون بطريق التعريض والتلويح أو إلا مواعدةً بقول معروف ، أو لا تواعدوهن بشيء من الأشياء إلا بأن تقولوا قولاً معروفاً وقيل : هو استثناءٌ منقطعٌ من ( سراً ) وهو ضعيف لأدائه إلى جعل التعريض موعوداً وليس كذلك { وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح } من عزم الأمرَ إذا قصده قصداً جازماً وحقيقتُه القطع بدليل قوله عليه السلام : « لا صيامَ لمن لم يعزِمِ الصيامَ من الليل » وروي « لمن لم يبيّت الصيام » والنهي عنه للمبالغة في النهي عن مباشرة عقدِ النكاح أي لا تعزِموا عُقدة النكاح { حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } أي ( تبلُغَ ) العدةُ المكتوبة المفروضةُ آخِرَها وقيل : معناه لا تقطعوا { على أَنفُسِكُمْ } عقدة النكاحِ أي لا تُبرِموها ولا تلزَموها ولا تَقَدَّموا عليها ، فيكونُ نهياً عن نفس الفعل لا عن قصده .
{ واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ } من ذواتِ الصُدور التي من جملتها العزمُ على ما نُهيتم عنه { فاحذروه } بالاجتناب عن العزم ابتداءً أو إقلاعاً عنه بعد تحققِه { واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ } يغفِرُ لمن يُقلعُ عن عزمه خشيةً منه تعالى { حَلِيمٌ } لا يعاجلُكم بالعقوبة فلا تستدلوا بتأخيرها على أن ما نُهيتم عنه من العزم ليس مما يستتبعُ المؤاخذةَ ، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمارِ لإدخال الروعة .(1/293)
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)
{ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أي لا تِبعةَ من مهرٍ وهو الأظهرُ وقيل : من وِزْر ، إذ لا بدعةَ في الطلاق قبل المسيس وقيل : كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يكثر النهيَ عن الطلاق فظُن أن فيه جُناحاً فنُفيَ ذلك { إِن طَلَّقْتُمُ النساء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } أي ما لم تجامعوهن ، وقرىء تُماسُّوهن بضم التاء في جميع المواقع أي مدة عدمِ مِساسِكم إياهن ، على أن ما مصدريةٌ ظرفية بتقدير المضاف ، ونقل أبو البقاءِ أنها شرطية بمعنى إن فيكون من باب اعتراض الشرط على الشرط فيكون الثاني قيداً للأول كما في قولك : إنْ تأتِني إن تُحسِنْ إلي أكرمْك أي إن تأتني محسِناً إليَّ والمعنى إن طلقتموهن غيرَ ماسِّين لهن ، وهذا المعنى أقعَدُ من الأول لما أن ما الظرفية إنما يحسُن موقعُها فيما إذا كان المظروفُ أمراً ممتداً منطبقاً على ما أضيف إليها من المدة أو الزمان كما في قوله تعالى : { خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والارض } وقوله تعالى : { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } ولا يخفى أن التطليقَ ليس كذلك ، وتعليقُ الظرف بنفي الجُناحِ ربما يوهم إمكانَ المسيسِ بعد الطلاق ، فالوجهُ أن يقدَّرَ الحالُ مكان الزمان والمدة { أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } أي إلا أن تفرِضوا أو حتى تفرضوا لهن عند العقد مَهراً ، على أن فريضة فعلية بمعنى مفعول ، والتاءُ لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية ، وانتصابُه على المفعولية ويجوز أن يكون مصدراً صيغةً وإعراباً ، والمعنى أنه لا تِبعَةَ على المطلِّق بمطالبة المَهر أصلاً إذا كان الطلاقُ قبل المسيس على كل حال إلا في حال تسمية المهرِ فإن عليه حينئذٍ نصفَ المسمَّى ، وفي حال عدمِ تسميتِه عليه المتعةُ لا نصفُ مَهرِ المثل وأما إذا كان بعد المسيسِ فعليه في صورة التسمية تمامُ المسمَّى ، وفي صورة عدمها تمامُ مَهر المثل وقيل : كلمةُ أو عاطفةٌ لمدخولها على ما قبلها من الفعل المجزومِ على معنى ما لم يكن منكم مسيسٌ ولا فرضُ مَهرٍ .
{ وَمَتّعُوهُنَّ } عطفٌ على مقدّر ينسحبُ عليه الكلام أي فطلِّقوهن ومتِّعوهن ، والحكمةُ في إيجاب المتعة جبرُ إيحاش الطلاقِ وهي دِرعٌ ومِلْحفة وخِمار على حسب الحال كما يُفصِحُ عنه قوله تعالى : { عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ } أي ما يليق بحال كلَ منهما وقرىء بسكون الدال وهي جملةٌ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب مبينةٌ لمقدار المتعة بالنظر إلى حال المطلِّق إيساراً وإقتاراً ، أو حالٌ من فاعل متِّعوهن بحذف الرابط أي على الموسع منكم الخ أو على جعل الألف واللام عوضاً من المضاف إليه عند من يجوّزه أي على موسعكم الخ وهذا إذا لم يكن مهرُ مثلِها أقل من ذلك فإن كان أقل فلها الأقلُ من نصف مهر المثل ومن المتعة ولا يُنقص عن خمسة دراهم { متاعا } أي تمتيعاً { بالمعروف } أي بالوجه الذي تستحسنه الشريعةُ والمروءة { حَقّاً } صفةٌ لمتاعاً أو مصدرٌ مؤكد أي حُقَّ ذلك حقاً { عَلَى المحسنين } أي الذين يُحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال ، أو إلى المطلقات بالتمتيع بالمعروف وإنما سموا محسنين اعتباراً للمشارفة وترغيباً وتحريضاً .(1/294)
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
{ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ } قبل ذلك { فَرِيضَةً } أي وإن طلقتموهن من قبل المسيسِ حال كونِكم مُسمِّين لهن فيما سبق أي عند النكاحِ مَهراً على أن الجملةَ حالٌ من فاعل طلقتُموهن ويجوزُ أن تكون حالاً من مفعوله لتحقق الرابطِ بالنسبة إليهما . ونفس الفرض من المبني للفاعل أو للمفعول وإن لم يقارِنْ حالةَ التطليق لكن اتصاف المطلقِ بالفارضية فيما سبق مما لا ريب في مقارنته لها وكذا الحال في اتصاف المطلقة بكونها مفروضاً لها فيما سبق .
{ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } أي فلهن نصفُ ما سمّيتم لهن من المَهر ، فالواجبُ عليكم ذلك ، وهذا صريحٌ في أن المنفي في الصورة السابقة إنما هو تبِعةُ المهر وقرىء بالنصب أي فأدوا نصفَ ما فرَضتم ولعل تأخيرَ حكمِ التسمية مع أنها الأصلُ في العقد والأكثرُ في الوقوع لما أن الآية الكريمة نزلت في أنصاريَ تزوج امرأةً من بني حنيفةَ وكانت مفوضةً فطلقها قبل الدخول بها فتخاصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عليه الصلاة والسلام عند إظهار أن لا شيءَ له : « متِّعْها بقَلَنْسُوتك » { إَّلا أَن يَعْفُونَ } استثناءٌ مفرغٌ من أعم الأحوال أي فلهن نصفُ المفروض معيناً في كل حال إلا حالَ عفوِهن فإنه يسقُط ذلك حينئذ بعد وجوبه ، وظاهرُ الصيغة في نفسها يحتمل التذكيرَ والتأنيث وإنما الفرقُ في الاعتبار والتحقيق فإن الواوَ في الأولى ضميرٌ والنون علامة الرفع ، وفي الثانية لامُ الفعل والنون ضمير والفعل مبنيّ ولذلك لم يؤثرْ فيه إنما تأثيرُه فيما عُطِفَ على محله من قوله تعالى : { أَوْ يَعْفُوَاْ } بالنصب وقرىء بسكون الواو { الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } أي يتركُ الزوجُ المالك لعقده وحَلّه ما يعود إليه من نصفِ المَهر الذي ساقه إليها كاملاً على ما هو المعتاد تكرماً فإن تركَ حقِّه عليها عفواً بلا شُبهة ، أو سمي ذلك عفواً في صورة عدم السَوْق مشاكلةً أو تغليباً لحال السَوْق على حال عدمِه فمرجِعُ الاستثناء حينئذ إلى منع الزيادةِ في المستثنى منه كما أنه في الصورة الأولى إلى منع النقصانِ فيه أي فلهن هذا القدرُ بلا زيادة ولا نقصان في جميع الأحوال إلا في حال عفوهن فإنه حينئذ لا يكون لهن القدرُ المذكور بل ينتفي ذلك أو ينحطّ ، أو في حال عفو الزوج فإنه حينئذ يكون لهن الزيادة على ذلك القدر هذا على التفسير الأول وأما على التفسير الثاني فلا بد من المصير إلى جعل الاستثناء منقطعاً لأن في صورة عفوِ الزوجِ لا يُتصور الوجوبُ عليه هذا عندنا ، وفي القول القديم للشافعي رحمه الله أن المراد عفوُ الولي الذي بيده عقدةُ نكاحِ الصغيرة وهو ظاهرُ المأخذ خلا أن الأول أنسبُ بقوله تعالى : { وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى } إلى آخره فإن إسقاط حقِّ الصغيرة ليس في شيء من التقوى . وعن جُبير بن مُطعِم أنه تزوج امرأةً وطلقها قبل الدخول وأكمل لها الصَّداقَ وقال : أنا أحق بالعفو وقرىء بالياء { وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ } أي لا تتركوا أن يتفضل بعضُكم على بعض كالشيء المنسيِّ وقرىء بكسر الواو ، والخطاب في الفعلين للرجال والنساء جميعاً بطريق التغليب { إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فلا يكاد يُضيع ما عمِلتم من التفضل والإحسان .(1/295)
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)
حافظوا عَلَى الصلوات } أي داوموا على أدائها لأوقاتها من غير إخلالٍ بشيء منها كما تنبىء عنه صيغةُ المفاعلة المفيدة للمبالغة ، ولعل الأمرَ بها في تضاعيف بيان أحكامِ الأزواج والأولاد قبل الإتمام للإيذان بأنها حقيقةٌ بكمال الاعتناءِ بشأنها والمثابرة عليها من غير اشتغالٍ بشأنهم وبشأن أنفسهم أيضاً كما يفصح عنه الأمر بها في حالة الخوف ولذلك أمر بها في خلال بيان ما يتعلق بهم من الأحكام الشرعية المتشابكةِ الآخذِ بعضُها بحُجْزَة بعض { حافظوا عَلَى } أي المتوسطة بينها أو الفُضلى منها وهي صلاةُ العصر لقوله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : « شغَلونا عن الصلاة الوسطى صلاةِ العصر ملأ الله تعالى بيوتَهم ناراً » وقال عليه السلام : « إنها الصلاةُ التي شُغل عنها سليمانُ بنُ داود عليهما الصلاة والسلام » وفضلُها لكثرة اشتغال الناسِ في وقتها بتجارتهم ومكاسبهم واجتماعِ ملائكة الليل وملائكة النهار حينئذ ، وقيل : هي صلاةُ الظهر لأنها في وسط النهار وكانت أشقَّ الصلواتِ عليهم لما أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يصليها بالهاجرة فكانت أفضلَها لقوله عليه السلام : « أفضلُ العبادات أحمزُها » وقيل : هي صلاة الفجر لأنها بين صلاتي الليل والواقعةُ في الحد المشترك بينهما ولأنها مشهودةٌ كصلاة العصر وقيل : هي صلاةُ المغرب لأنها متوسطة من حيث العددُ ومن حيث الوقوعُ بين صلاتي النهار والليل ووتر النهار ولا تُنقص في السفر وقيل : هي صلاة العِشاء لأنها بين الجهريتين الواقعتين في طرفي الليل والنهار وعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أنه عليه السلام كان يقرأ والصلاة الوسطى وصلاة العصر فتكون حينئذ إحدى الأربعِ قد خُصت بالذكر مع العصر لانفرادها بالفضل وقرىء وعلى الصلاة الوسطى وقرىء بالنصب على المدح ، وقرىء الوسطى { وَقُومُواْ لِلَّهِ } أي في الصلاة { قانتين } ذاكرين له تعالى في القيام لأن القنوتَ هو الذكر فيه وقيل : هو إكمالُ الطاعة وإتمامُها بغير إخلال بشيء من أركانها وقيل : خاشعين ، وقال ابن المسيِّب : المراد به القنوتُ في الصبح .(1/296)
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
{ فَإِنْ خِفْتُمْ } أي من عدو أو غيرِه { فَرِجَالاً } جمع راجل كقيام وقائم أو رجل بمعنى راجل وقرىء بضم الراء مع التخفيف وبضمها مع التشديد أيضاً وقرىء فرَجِلاً أي راجلاً { أَوْ رُكْبَانًا } جمع راكب أي فصلوا راجلين أو راكبين حسبما يقتضيه الحالُ ولا تُخِلّوا بها ما أمكن الوقوفُ في الجملة وقد جوّز الشافعيُّ رحمه الله أداءها حال المسايفة أيضاً { فَإِذَا أَمِنتُمْ } بزوال الخوف { فاذكروا الله } أي فصلّوا صلاةَ الأمن وعبر عنها بالذكر لأنه معظمُ أركانِها { كَمَا عَلَّمَكُم } متعلق بمحذوف وقع وصفاً لمصدر محذوف أي ذكراً كائناً كما علمكم أي كتعليمه إياكم { مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } من كيفية الصلاة ، والمرادُ بالتشبيه أن تكون الصلاةُ المؤداة موافقةً لما علّمه الله تعالى ، وإيرادُها بذلك العنوانِ لتذكير النعمةِ أو اشكُروا الله تعالى شكراً يوازي تعليمَه إياكم ما لم تكونوا تعلمونه من الشرائع والأحكامِ التي من جملتها كيفيةُ إقامةِ الصلاة حالتي الخوفِ والأمن . هذا وفي إيراد الشرطية الأولى بكلمة إن المفيدةِ لمشكوكية وقوعِ الخوفِ ونُدرته وتصديرِ الشرطيةِ الثانية بكلمة إذا المُنبئة عن تحقق وقوعِ الأمن وكثرته مع الإيجاز في جواب الأولى والإطنابِ في جواب الثانية المبنيّين على تنزيل مقامِ وقوعِ المأمور به فيهما منزلةَ مقامِ وقوعِ الأمر تنزيلاً مستدعياً لإجراءِ مقتضى المقام الأولِ في كل منهما مُجرى مقتضى المقام الثاني من الجزالة ولطفِ الاعتبار ما فيه عبرةٌ لأولي الأبصار { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا } عَودٌ إلى بيانِ بقيةِ الأحكامِ المفصَّلة فيما سلف إثرَ بيانِ أحكامٍ توسطتْ بينهما لما أشير إليه من الحكمة الداعيةِ إلى ذلك { وَصِيَّةً لاّزْوَاجِهِم } أي يوصون أو لِيُوصوا أو كتب الله عليهم وصيةً ، ويؤيد هذا قراءةُ مَنْ قرأ كتب عليكم الوصية لأزواجكم وقرىء بالرفع على تقدير مضاف في المبتدأ أو الخبر أي حُكمُ الذين يُتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصيةٌ لأزواجهم ، أو والذين يُتوفون أهل وصية لأزواجهم أو كُتِب عليهم وصيةٌ أو عليهم وصيةٌ وقرىء { متاع * لاّزْوَاجِهِم } بدل وصية { متاعا إِلَى الحول } منصوبٌ بيوصون إن أضمَرْته وإلا فبالوصية أو بمتاع على القراءة الأخيرة { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } بدل منه أو مصدر مؤكد كما في قولك : هذا القولُ غيرُ ما تقول أو حال من أزواجهم أي غيرَ مُخرَجاتٍ والمعنى يجب على الذين يُتوفَّوْن أن يوصوا قبل الاحتضار لأزواجهم بأن يُمتّعْنَ بعدهم حولاً بالنفقة والسكنى وكان ذلك أولَ الإسلام ثم نُسخت المدة بقوله تعالى : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } فإنه وإن كان متقدماً في التلاوة فهو متأخرٌ في النزول وسقطت النفقة بتوريثها الربعَ أو الثمنَ وكذلك السكنى عندنا ، وعند الشافعيّ هي باقية ، { فَإِنْ خَرَجْنَ } عن منزل الأزواج باختيارهن { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أيها الأئمة { فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ * مِن مَّعْرُوفٍ } لا ينكِرُه الشرْعُ كالتزيُّن والتطيُّب وتركِ الحِدادِ والتعرّضِ للخُطّاب ، وفيه دلالةٌ على أن المحظورَ إخراجُها عند إرادة القرارِ وملازمةِ مسكنِ الزوجِ والحداد من غير أن يجب عليها ذلك وأنها كانت مخيّرة بين الملازمة مع أخذ النفقةِ وبين الخروج مع تركها { والله عَزِيزٌ } غالبٌ على أمره يعاقِبُ من خالفه { حَكِيمٌ } يراعي في أحكامه مصالحَ عباده .(1/297)
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)
{ وللمطلقات } سواءٌ كن مدخولاً بهن أو لا { متاع } أي مطلقُ المتعة الشاملة الواجبةِ والمستحبة وأوجبها سعيدُ بنُ جبير ، وأبو العالية ، والزُهري للكل وقيل : المراد بالمتاع نفقةُ العِدة وقيل : اللام للعهد والمراد غيرُ المدخول بهن والتكريرُ للتأكيد { بالمعروف } شرعاً وعادة { حَقّا عَلَى المتقين } أي مما ينبغي { كذلك } أي مثلَ ذلك البيانِ الواضح { يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته } الدالةَ على أحكامه التي شرعها لعباده { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } لكي تفهموا ما فيها وتعملوا بموجبها .
{ أَلَمْ تَرَ } تقريرٌ لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأربابِ الأخبار من شأنهم البديع فإن سماعَهم لها بمنزلة الرؤية النظريةِ أو العلمية أو لكل أحدٍ ممن له حظٌّ من الخطاب إيذاناً بأن قصتهم من الشهرة والشيوع بحيث يحِقُّ لكل أحد أن يُحمل على الإقرار برؤيتهم وسماع قصتهم ويعجب بها وإن لم يكن ممن رآهم أو سمع بقصتهم فإن هذا الكلامَ قد جرى مجرى المَثلِ في مقام التعجيب لما أنه شُبّه حالُ غيرِ الرائي لشيءٍ عجيب بحال الرائي له بناءً على ادعاء ظهورِ أمره وجلائِه بحيث استوى في إدراكه الشاهدُ والغائبُ ثم أُجريَ الكلامُ معه كما يجري مع الرائي قصداً إلى المبالغة في شهرته وعَراقتِه في التعجب ، وتعديةُ الرؤيةِ بإلى في قوله تعالى : { إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم } على تقدير كونِها بمعنى الأنصار باعتبار معنى النظر على تقدير كونِها إدراكاً قلبياً لتضمين معنى الوصول والانتهاء على معنى ألم ينتهِ علمُك إليهم { وَهُمْ أُلُوفٌ } أي ألوف كثيرة قيل : عشرةُ آلاف وقيل : ثلاثون وقيل : سبعون ألفاً ، والجملةُ حال من فاعل خرَجوا وقوله عز وجل : { حَذَرَ الموت } مفعول له . رُوي أن أهلَ داوردان قرية قبل واسِط وقع فيهم الطاعونُ فخرجوا منها هاربين فأماتهم الله ثم أحياهم ليعتبروا ويعلموا ألا مفرَّ من حكم الله عز سلطانُه وقضاؤه ، وقيل : مر عليهم حِزْقيلُ بعد زمان طويل وقد عرِيَتْ عظامُهم وتفرقت أوصالُهم فلوى شدقيه وأصابعَه تعجباً مما رأى من أمرهم فأُوحيَ إليه نادِ فيهم أن قوموا بإذن الله فنادى فإذا هم قيام يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت . وقيل : هم قومٌ من بني إسرائيلَ دعاهم ملكُهم إلى الجهاد فهربوا حذراً من الموت فأماتهم الله تعالى ثمانية أيامٍ ثم أحياهم . وقوله عز وجل : { فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ } إما عبارةٌ عن تعلق إرادته تعالى بموتهم دفعةً ، وإما تمثيلٌ لإماتته تعالى إياهم مِيتةَ نفسٍ واحدة في أقرب وقتٍ وأدناه وأسرعِ زمان وأوحاه بأمر آمرٍ مطاعٍ لمأمور مطيع كما في قوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } { ثُمَّ أحياهم } عطفٌ إما على مقدَّر يستدعيه المقامُ أي فماتوا ثم أحياهم وإنما حُذف للدلالة على الاستغناء عن ذكره لاستحالة تخلُّف مرادِه تعالى عن إرادته وإما على قال لما أنه عبارةٌ عن الإماته ، وفيه تشجيعٌ للمسلمين على الجهاد والتعرُّضِ لأسباب الشهادةِ وأن الموتَ حيث لم يكن منه بدٌّ ولم ينفعْ منه المفرُّ فأولى أن يكون في سبيل الله تعالى { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ } عظيمٍ { عَلَى الناس } قاطبةً ، أما أولئك فقد أحياهم ليعتبروا بما جرى عليهم فيفوزوا بالسعادة العظمى ، وأما الذين سمِعوا قِصتَهم فقد هداهم إلى مسلك الاعتبارِ والاستبصار { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } أي لا يشكرون فضلَه كما ينبغي ويجوز أن يراد بالشكر الاعتبارُ والاستبصارُ ، وإظهارُ الناس في مقام الإضمار لمزيد التشنيع .(1/298)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
{ وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله } عطفٌ على مقدر يعيِّنه ما قبله كأنه قيل : فاشكروا فضلَه بالاعتبار بما قص عليكم وقاتلوا في سبيله لما علمتم أن الفِرارَ لا يُنْجي من الحِمام وأن المقدرَ لا مردَّ له ، فإن كان قد حان الأجلُ فموتٌ في سبيل الله عز وجل وإلا فنصرٌ عزيزٌ وثواب { واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ } يسمع مَقالة السابقين والمتخلّفين { عَلِيمٌ } بما يُضمِرونه في أنفسهم وهو من وراء الجزاء خيراً أو شراً فسارعوا إلى الامتثال واحذروا المخالفة والمساهلة .
{ مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله } من استفهامية مرفوعةُ المحلِّ بالابتداء وذا خبرُه ، والموصولُ صفة له أو بدل منه ، وإقراضُ الله تعالى مَثَلٌ لتقديم العمل العاجل طلباً للثواب الآجل ، والمراد هاهنا إما الجهادُ الذي هو عبارةٌ عن بذل النفسِ والمالِ في سبيل الله عز وجل ابتغاءً لمرضاته وإما مطلقُ العملِ الصالحِ المنتظم له انتظاماً أولياً { قَرْضًا حَسَنًا } أي إقراضاً مقروناً بالإخلاص وطيبِ النفسِ أو مقرضاً حلالاً طيباً { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } بالنصب على جواب الاستفهام حملاً على المعنى فإنه في معنى أَيُقرِضُه وقرىء بالرفع أي يضاعفُ أجرَه وجزاءَه ، جعل ذلك مضاعفةً له بناءً على ما بينهما من المناسبة بالسببية والمسبَّية ظاهراً ، وصيغةُ المفاعلة للمبالغة وقرىء فيُضْعِفُه بالرفع بالنصب { أَضْعَافًا } جمعُ ضِعف ، ونصبُه على أنه حال من الضمير المنصوب أو مفعولٌ بأن يُضمَّنَ المضاعفةُ معنى التصيير ، أو مصدرٌ مؤكد على أن الضِعْفَ اسم للمصدر والجمع للتنوين { كَثِيرَةٍ } لا يعلم قدرَها إلا الله تعالى وقيل : الواحد بسبعمائة { والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } أي يقتّر على بعض ويوسّع على بعض أو يقتِّر تارةً ويوسّع أخرى حسبما تقتضيه مشيئتُه المبنيةُ على الحِكَم والمصالح فلا تبخلوا عليه بما وسَّع عليكم كي لا يبدِّل أحوالَكم . ولعل تأخيرَ البسط عن القبض في الذكر للإيماء إلى أنه يعقُبه في الوجود تسليةً للفقراء وقرىء يبصُط بالصاد لمجاورة الطاء { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فيجازِيكم على ما قدّمتم من الأعمال خيراً وشراً .(1/299)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
{ أَلَمْ تَرَ } تقريرٌ وتعجيب كما سبق قُطع عنه للإيذان باستقلاله في التعجب مع أن له مزيدَ ارتباطٍ بما وُسِّط بينهما من الأمر بالقتال { إِلَى الملإ مِن بَنِى إِسْرءيلَ } الملأُ من القوم وجوهُهم وأشرافُهم وهم اسمٌ للجماعة لا واحدَ له من لفظه كالرهط والقوم ، سْموا بذلك لما أنهم يملأوُن العيونَ مهابةً والمجالسَ بهاءً أو لأنهم مليئون بما يبتغى منهم ، ومن تبعيضية و ( من ) في قوله تعالى : { مِن بَعْدِ موسى } ابتدائيةٌ وعاملُها مقدرٌ وقع حالاً من الملأ أي كائنين بعضَ بني إسرائيلَ من بعد وفاة موسى ، ولا ضيرَ في اتحاد الحرفين لفظً عند اختلافهما معنى { إِذْ قَالُواْ } منصوبٌ بمُضمر يستدعيه المقامُ أي ألم ترَ إلى قصة الملأ أو حديثهم حين قالوا : { لِنَبِىّ لَّهُمُ } هو يوشَعُ بنُ نونِ بنِ أفرائيم بن يوسف عليهما السلام وقيل : شمعون بنُ صعبة بنِ علقمة من ولد لاوي بنِ يعقوبَ عليهما السلام وقيل : أشمويلُ بنُ بالِ بنِ علقمة وهو بالعبرانية إسماعيل . قال مقاتل : هو من نسل هارونَ عليه السلام وقال مجاهد : أشمويلُ بنُ هلقايا { ابعث لَنَا مَلِكًا نقاتل فِى سَبِيلِ الله } أي أَنهِضْ للقتال معنا أميراً نُصدِرُ في تدبير أمرِ الحرب عن رأيه وقرىء نقاتلُ بالرفع على أنه حالٌ مقدرة أي ابعثه لنا مقدّرين القتالَ أو استئنافٌ مبني على السؤال وقرىء يقاتلْ بالياء مجزوماً ومرفوعاً على الجواب للأمر والوصف لملِكاً { قَالَ } استئناف وقع جواباً عن سؤال ينساق إليه الذهنُ كأنه قيل : فماذا قال لهم النبيُّ حينئذ؟ فقيل قال : { هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تقاتلوا } فُصل بين عسى وخبرِه بالشرط للاعتناء به أي هل قاربتم ألا تقاتلوا كما أتوقعه منكم؟ والمرادُ تقريرُ أن المتوقَّعَ كائنٌ وإنما لم يُذكر في معرض الشرط ما التمسوه بأن قيل : هل عسَيتم إن بعثتُ لكم ملكاً الخ مع أنه أظهر تعلقاً بكلامهم بل ذَكَر كتابةَ القتالِ عليهم للمبالغة في بيان تخلّفِهم عنه فإنهم إذا لم يقاتلوا عند فرضيةِ القتالِ عليهم بإيجاب الله تعالى فلأَن لا يقاتلوا عند عدم فرضيتِه أولى ، ولأن إيراد ما ذكروه ربما يوهِمُ أن سبب تخلفِهم عن القتال هو المبعوث لا نفسُ القتال وقرىء عسِيتم بكسر السين وهي ضعيفة { قَالُواْ } استئناف كما سبق { وَمَا لَنَا أَلاَّ نقاتل } أي أيُّ سبب لنا في ألا نقاتلَ { فِى سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن ديارنا وَأَبْنَائِنَا } أي والحال أنه قد عَرَض لنا ما يوجب القتالَ إيجاباً قوياً من الإخراج عن الديار والأوطان والاغترابِ من الأهل والأولاد ، وإفرادُ الأبناء بالذكر لمزيد تقوية أسبابِ القتال وذلك أن جالوت رأسَ العمالقةِ وملكهم وهو جبارٌ من أولاد عمليق بن عاد كان هو ومن معه من العمالقة يسكنون ساحلَ بحرِ الرومِ بين مصر وفلسطين وظهروا على بني إسرائيلَ وأخذوا ديارَهم وسبَوْا أولادهم وأسرُوا من أبناء ملوكهم أربعَمائة وأربعين نفساً وضربوا عليهم الجزيةَ وأخذوا توراتَهم { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال } بعد سؤال النبيِّ عليه السلام ذلك وبعْثِ الملك { تَوَلَّوْاْ } أي أعرضوا وتخلفوا لكنْ لا في ابتداء الأمرِ بل بعدَ مشاهدةِ كثرةِ العدوِّ وشوكتِه كما سيجيء تفصيلُه وإنما ذكر هاهنا ما آل إليه أمرُهم إجمالاً إظهاراً لما بين قولِهم وفعلهم من التنافي والتبايُن { إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ } وهم الذين اكتفَوا بالغُرفة من النهر وجاوزوه وهم ثلثُمائةٍ وثلاثةَ عَشرَ بعدد أهل بدر { والله عَلِيمٌ بالظالمين } وعيد لهم على ظلمهم بالتولي عن القتال وتركِ الجهاد وتنافي أقوالِهم وأفعالِهم والجملة اعتراضٌ تذييليٌّ .(1/300)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)
{ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ } شروعٌ في تفصيل ما جرى بينه عليه السلام وبينهم من الأقوال والأفعال إثرَ الإشارةِ الإجمالية إلى مصير حالِهم أي قال لهم بعد ما أُوحي إليه ما أوحي : { إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا } طالوتُ علمٌ عِبْريٌّ كداودَ ، وجعلُه فَعْلوتاً من الطول يأباه منعُ صرفِه و { مَلَكًا } حال منه . رُوي أنه عليه السلام لما دعا ربه أن يجعل لهم ملِكاً أتى بعصاً يُقاس بها من يملِكُ عليهم فلم يساوِها إلا طالوتُ { قَالُواْ } استئناف كما مر { أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا } أي من أين يكون أو كيف يكون ذلك { وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ المال } الواو الأولى حاليةٌ والثانيةُ عاطفةٌ جامعةٌ للجملتين في الحُكم أي كيف يتملّك علينا والحالُ أنه لا يستحِقُّ التملكُ لوجود من هو أحقُّ منه ولعدم ما يتوقف عليه الملكُ من المال ، وسبب هذا الاستبعادِ أن النبوةَ كانت مخصوصةً بسِبطٍ معينٍ من أسباط بني إسرائيلَ ، وهو سِبطُ لاوي بنِ يعقوبَ عليه السلام والمملكةِ بسبطِ يهوذا ومنه داودُ وسليمانُ عليهما السلام ولم يكن طالوتُ من أحد هذين السِبطين بل من ولد بنيامين قيل : كان راعياً وقيل : دبّاغاً وقيل : سقّاءً .
{ قَالَ إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ } لمّا استبعدوا تملُّكَه بسقوط نسَبِه وبفقره ردَّ عليهم ذلك أولاً بأن مَلاكَ الأمرِ هو اصطفاءُ الله تعالى وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم ، وثانياً بأن العُمدة فيه وُفورُ العلم ليتمكَّنَ به من معرفة أمورِ السياسةِ ، وجسامةُ البدن ليعظُم خطرُه في القلوب ويقدِرَ على مقاومة الأعداءِ ومكابدةِ الحروب وقد خصه الله تعالى منهما بحظَ وافرٍ وذلك قولُه عز وجل : { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم } أي العلمِ المتعلِّقِ بالمُلك أو به وبالديانات أيضاً وقيل : قد أوحي إليه ونُبِّىءَ { والجسم } قيل : بطول القامة فإنه كان أطولَ من غيره برأسه ومنكبيه حتى إن الرجلَ القائم كان يمد يدَه فينال رأسه وقيل : بالجمال وقيل : بالقوة { والله يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء } لما أنه مالِكُ المُلكِ والملَكوتِ فعّالٌ لما يريد فله أن يؤتِيَه من يشاءُ من عباده { والله واسع } يوسِّع على الفقير ويُغنيه { عَلِيمٌ } بمن يليقُ بالملك ممن لا يليق به ، وإظهارُ الاسم الجليلِ لتربية المهابة .(1/301)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
{ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ } توسيطُه فيما بين قوليه المحكِيَّيْن عنه عليه السلام للإشعار بعدم اتصالِ أحدِهما بالآخر ، وتخلُّلُ كلامٍ من جهة المخاطبين متفرِّعٌ على السابق مستتبِعٌ للاحق كأنهم طلبوا منه عليه السلام آيةً تدل على أنه تعالى اصطفى طالوتَ وملّكه عليهم . رُوي أنهم قالوا : ما آيةُ مُلكِه فقال : { وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ أن يأتيكم التابوت } أي الصُندوقُ وهو فَعْلوتٌ من التَّوْب الذي هو الرجوعُ لما أنه لا يزال يرجِعُ إليه ما يخرُج منه ، وتاؤه مزيدةٌ لغير التأنيث كمَلَكوت ورَهَبوت والمشهورُ أن يوقف على تائه من غير أن تُقلبَ هاءً ومنهم من يقلِبُها إياها ، والمراد به صُندوقُ التوراةِ ، وكان قد رفعه الله عز وجل بعد وفاةِ موسى عليه السلام سُخطاً على بني إسرائيلَ لما عَصَوا واعتدَوْا فلما طلب القوم من نبيهم آيةً تدل على مُلك طالوتَ قال لهم : «إن آية ملكِه أن يأتيَكم التابوتُ من السماءِ والملائكةُ يحفَظونه» فأتاهم كما وصف والقومُ ينظرون إليه حتى نزل عند طالوتَ . وهذا قولُ ابن عباس رضي الله عنهما وقال : أربابُ الأخبارِ إن الله تعالى أنزل على آدمَ تابوتاً فيه تماثيلُ الأنبياء عليهم السلام من أولاده وكان من عُود الشمشاد نحواً من ثلاثة أذرُعٍ في ذراعين فكان عند آدمَ عليه السلام إلى أن توفي فتوارثه أولادُه واحدٌ بعد واحدٍ إلى أن وصلَ إلى يعقوبَ عليه السلام ثم بقي في أيدي بني إسرائيلَ إلى أن وصلَ إلى موسى عليه السلام فكان عليه الصلاة والسلام يضعُ فيه التوراةَ وكان إذا قاتل قدّمه فكانت تسكُن إليه نفوسُ بني إسرائيلَ وكان عنده إلى أن توُفي ثم تداولتْه أيدي بني إسرائيلَ وكانوا إذا اختلفوا في شيء تحاكَموا إليه فيكلِّمهم ويحكُم بينهم وكانوا إذا حضروا القتالَ يقدِّمونه بين أيديهم ويستفتِحون به على عدوهم وكانت الملائكةُ تحمِلُه فوق العسكر ثم يقاتلون العدوَّ فإذا سمعوا من التابوت صيحةً استيقنوا النصرَ فلما عصَوا وأفسدوا سلّط الله عليهم العمالقةَ فغلبوهم على التابوت وسلبوه وجعلوه في موضع البولِ والغائطِ فلما أراد الله تعالى أن يُملِّك طالوتَ سلط عليهم البلاء حتى إن كلَّ من بال عنده ابتُلي بالبواسير وهلكت من بلادهم خمسُ مدائنَ فعلم الكفارُ أن ذلك بسبب استهانتهم بالتابوت فأخرجوه وجعلوه على ثورَيْن فأقبل الثورانِ يسيران وقد وكل الله تعالى بهما أربعةً من الملائكة يسوقونهما حتى أتَوا منزلَ طالوت فلما سألوا نبيَّهم البينةَ على مُلك طالوتَ قال لهم النبيُّ : «إن آيةَ مُلكِه أنكم تجِدون التابوتَ في داره» فلما وجدوه عنده أيقنوا بمُلكه . { فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ } أي في إتيانِه سكونٌ لكم وطُمَأْنينةٌ كائنةٌ من ربكم أو في التابوت ما تسكُنون إليه وهو التوراةُ المُودَعة فيه بناءً على ما مر من أن موسى عليه السلام إذا قاتل قدَّمه فتسكُن إليه نفوسُ بني إسرائيلَ وقيل : السكينةُ صورةٌ كانت فيه من زَبَرْجَدٍ أو ياقوتٍ «لها رأسٌ وذنبٌ كرأس الهرِّ وذنبِه وجناحانِ فتئِنُّ فيزحَفُ التابوتُ نحوَ العدوِّ وهم يمضُون معه فإذا استقر ثبتوا وسكَنوا ونزل النصرُ» وعن علي رضي الله عنه كان لها وجهٌ كوجه الإنسان وفيها ريحٌ هفّافة { وَبَقِيَّةٌ مّمَّا تَرَكَ ءالُ موسى وَءالُ هارون } هي رضاض الألواحِ وعصا موسى وثيابُه وشيءٌ من التوراة ، وكان قد رفعه الله تعالى بعد وفاةِ موسى عليه السلام ، وآلُهما أبناؤُهما أو أنفسُهما ، والآلُ مقحَمٌ لتفخيم شأنهما ، أو أنبياءُ بني إسرائيلَ { تَحْمِلُهُ الملائكة } حال من التابوت أي إن آيةَ ملكِه إتيانُه حال كونِه محمولاً للملائكة وقد مر كيفيةُ ذلك ولعل حملَ الملائكةِ على الرواية الأخيرة عبارةٌ عن سَوْقهم للثورين الحاملين له { إِنَّ فِى ذَلِكَ } إشارةٌ إلى ما ذكر من شأن التابوت فهو من تمام كلامِ النبي عليه السلام لقومه أو إلى نَقلِ القصة وحكايتها ، فهو ابتداءُ كلامٍ من جهة الله تعالى جيءَ به قبل تمامِ القصةِ إظهاراً لكمال العنايةِ به ، وإفرادُ حرفِ الخطاب مع تعدُّد المخاطَبين على التقديرين بتأويل الفريق أو غيرِه كما سلف { لآيَةً } عظيمةً { لَكُمْ } دالةً على مُلك طالوتَ أو على نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بهذه التفاصيل على ما هي عليه من غير سماعٍ من البشر { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي مصدِّقين بتكليمه أو بشيءٍ من الآيات ، وإن شرطيةٌ والجواب محذوفٌ ثقةً بما قبله وقيل : هي بمعنى إذ .(1/302)
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود } أي انفصل بهم عن بيت المقدسِ والأصلُ فصلَ نفسَه ، ولما اتحد فاعلُه ومفعولُه شاع استعمالُه محذوفَ المفعول حتى نزل منزِلة القاصِرِ كانفصل ، وقيل : فصَل فصُولاً وقد جُوّز كونه أصلاً برأسه ممتازاً من المتعدي بمصدره كوقف وقوفاً ووقَفه وقفاً وكصدَّ صُدوداً وصدَّه صداً ورجَع رجوعاً ورجَعه رجعاً ، والباء متعلقة بمحذوف وقع حالاً من طالوت أي ملتبساً بهم ومصاحباً لهم . رُوي أنه قال لقومه : «لا يخرج معي رجل بنى بناءً لم يفرُغْ منه ولا تاجرٌ مشتغلٌ بالتجارة ولا متزوجٌ بامرأة لم يبْنِ عليها ولا أبتغي إلا الشابَّ النشيطَ الفارغ» فاجتمع إليه ممن اختارهم ثمانون ألفاً وكان الوقت قَيظاً وسلكوا مفازةً فسألوا أن يُجرِيَ الله تعالى لهم نهراً فبعد ما ظهر له ما تعلقت به مشيئتُه تعالى من جهة النبي عليه السلام أو بطريق الوحي عند من يقول بنبوته { قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ } بفتح الهاء وقرىء بسكونها { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ } أي ابتدأ شُربه من النهر بأن كرَع لأنه الشرب منه حقيقة { فَلَيْسَ مِنّي } أي من جُملتي وأشياعي المؤمنين وقيل : ليس بمتصلٍ بي ومتحدٍ معي من قولهم : فلان مني كأنه بعضُه لكمال اختلاطِهما { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } أي لم يذُقه من طعِم الشيءَ إذا ذاقه مأكولاً كان أو مشروباً أو غيرَهما قال :
وإن شئت حرمتُ النساءَ سواكم ... وإن شئت لم أطعَمْ نُقاخاً ولا بردا
أي نوماً { فَإِنَّهُ مِنّى إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ } استثناء من قوله تعالى : { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي } وإنما أُخّر عن الجملة الثانية لإبراز كمالِ العناية بها ومعناه الرخصةُ في اغتراف الغرفةِ باليد دون الكَرْع والغرفة ما يُغرَف ، وقرىء بفتح الغين على أنها مصدرٌ والباء متعلقةٌ باغترف أو بمحذوف وقعَ صفةً لغرفة أي غرفةً كائنةً بيده . يروى أن الغرفة كانت تكفي الرجل لشربه وإدواتِه ودوابِّه وأما الذين شرِبوا منه فقد اسودت شفاهُهم وغلبهم العطشُ { فَشَرِبُواْ مِنْهُ } عطفٌ على مقدر يقتضيه المقامُ أي فابتلُوا به فشرِبوا منه { إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ } وهم المشارُ إليهم فيما سلف بالاستثناء من التولي وقرىء إلا قليلٌ منهم ميلاً إلى جانب المعنى وضرباً عن عُدوة اللفظِ جانباً فإن قوله تعالى : { فَشَرِبُواْ مِنْهُ } في قوة أن يقال : فلم يُطيعوه فحُقَّ أن يرد المستثنى مرفوعاً كما في قول الفرزدق :
وعضُّ زمانٍ يا ابنَ مروانَ لم يدَع ... من المال إلا مُسحَتٌ أو مُجلِّفُ
فإن قوله لم يدع في حكم لم يبق { فَلَمَّا جَاوَزَهُ } أي النهرَ { هُوَ } أي طالوتُ { والذين ءامَنُواْ مَعَهُ } عطفٌ على الضمير المتصلِ المؤكدِ بالمنفصل ، والظرفُ متعلقٌ بجاوزَ لا بآمنوا وقيل : الواوُ حالية والظرفُ متعلقٌ بمحذوف وقع خبراً من الموصول كأنه قيل : فلما جاوزه والحالُ أن الذين آمنوا كائنون معه وهم أولئك القليلُ وفيه إشارةٌ إلى أن مَنْ عداهم بمعزل من الإيمان { قَالُواْ } أي بعضُ مَنْ معه من المؤمنين لبعضٍ { لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } أي بمحاربتهم ومقاومتِهم فضلاً عن أن يكونَ لنا غلبةٌ عليهم لما شاهدوا من الكثرة والشدة ، قيل : كانوا مائةَ ألفِ مقاتلٍ شاكي السِّلاح { قَالَ } استئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فماذا قال مخاطبُهم؟ فقيل قال : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ الله } قيل : أي الخُلَّصُ منهم الذين يوقنون بلقاءِ الله تعالى بالبعث ويتوقّعون ثوابَه ، وإفرادُهم بذلك الوصف لا ينافي إيمانَ الباقين فإن درجاتِ المؤمنين في التيقن والتوقع مُتفاوتةٌ أو الذين يعلمون أنهم يُستشهدون عما قريب فيلقَوْن الله تعالى ، وقيل : الموصولُ عبارةٌ عن المؤمنين كافةً والضميرُ في قالوا للمنخذِلين عنهم كأنهم قالوه اعتذاراً عن التخلُّف والنهرُ بينهما .(1/303)
{ كَم مّن فِئَةٍ } أي فِرْقة وجماعة من الناس من فأَوْتُ رأسَه إذا شققتها أو من فاء إليه إذا رجَع فوزنُها على الأول فِعةٌ وعلى الثاني فِلَةٌ { قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً } وكم خبرية كانت أو استفهامية مفيدةٌ للتكثير وهي في حيز الرفعِ بالابتداء خبرُها غلبتْ أي كثيرٌ من الفئات القليلةِ غلبت الفئاتِ الكثيرةَ { بِإِذُنِ الله } أي بحُكمه وتيسيرِه فإن دورانَ كافةِ الأمور على مشيئته تعالى فلا يذِلُّ من نصرَه وإن قل عددُه ولا يعِزُّ مَنْ خَذله وإن كثُرت أسبابُه وعُددُه وقد روُعيَ في الجواب نُكتةٌ بديعة حيث لم يقُلْ أطاقت بفئة كثيرةٍ حسبما وقع في كلام أصحابهم مبالغةً في رد مقالتِهم وتسكينِ قلوبهم ، وهذا كما ترى جواب ناشىء من كمال ثقتِهم بنصر الله تعالى وتوفيقه ولا دخل في ذلك لظن لقاءِ الله تعالى بالبعث لا سيما بالاستشهاد فإن العلمَ به ربما يورِثُ اليأسَ من الغَلَبة ولا لتوقُّع ثوابِه تعالى ولا ريب في أن ما ذُكر في حيز الصلةِ ينبغي أن يكونَ مداراً للحكم الواردِ على الموصول فلا أقلَّ من أن يكون وصفاً ملائماً له ، فلعل المرادَ بلقائه تعالى لقاءُ نصرِه وتأييدُه عُبر عنه بذلك مبالغةً كما عُبر عن مقارَنةِ نصرِه تعالى لمعيَّته سبحانه حيث قيل : { والله مَعَ الصابرين } فإن المرادَ به معيّةُ نصرِه وتوفيقِه حتماً ، وحملُها على المعية بالإثابة كما فعل يأباه أنهم إنما قالوه تتميماً لجوابهم وتأييداً له بطريق الاعتراضِ التذييليِّ تشجيعاً لأصحابهم وتثبيتاً لهم على الصبر المؤدي إلى الغَلَبة ، ولا تعلّقَ له بما ذكر من المعية بالإثابة قطعاً وكذا الحالُ إذا جُعل ذلك ابتداءَ كلامٍ من جهة الله تعالى جيء به تقريراً لكلامهم ، والمعنى قال الذين يظنون أو يعلمون من جهة النبي أو من جهة التابوتِ والسكينة أنهم ملاقوا نصرِ الله العزيزِ : كم من فئةٍ قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله تعالى فنحن أيضاً نغلِبُ جالوتَ وجنودَه ، وإيرادُ خبرِ أن اسماً مع أن اللقاءَ مستقبلٌ للدَلالة على تقرره وتحققه .(1/304)
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
{ وَلَمَّا بَرَزُواْ } أي ظهر طالوتُ ومن معه من المؤمنين وصاروا إلى براز من الأرض في موطن الحرب { لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ } وشاهدوا ما هم عليه من العَدد والعُدد وأيقنوا أنهم غيرُ مطيقين لهم عادة { قَالُواْ } أي جميعاً عند تقوى قلوب الفريقُ الأولُ منهم بقول الفريق الثاني متضرعين إلى الله تعالى مستعينين به { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } على مقاساة شدائِد الحربِ واقتحامِ مواردِه الصعبةِ الضيقة وفي التوسل بوصف الربوبية المُنبىء عن التبليغ إلى الكمال وإيثارِ الإفراغِ المعرب عن الكثرة وتنكيرِ الصبر المفصح عن التفخيم من الجزالة ما لا يخفى { وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا } في مداحض القتالِ ومزالِّ النزال وثباتُ القدم عبارةٌ عن كمال القوةِ والرسوخِ عند المقارعة وعدمِ التزلزل وقت المقاومة لا مجرد التقرّر في حيز واحد { وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } بقهرهم وهزمِهم ، ووضعُ الكافرين في موضع الضمير العائد إلى جالوتَ وجنودِه للإشعار بعِلة النصرِ عليهم ، ولقد راعَوْا في الدعاء ترتيباً بديعاً حيث قدموا سؤالَ إفراغِ الصبر الذي هو مِلاكُ الأمر ثم سؤالَ تثبيتِ القدم المتفرغِ عليه ثم سؤالَ النصرِ الذي هو الغاية القصوى { فَهَزَمُوهُم } أي كسروهم بلا مكث { بِإِذُنِ الله } بنصره وتأييده إجابةً لدعائهم ، وإيثارُ هذه الطريقة على طريقة قوله عز وجل : { فاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا } الخ للمحافظة على مضمون قولِهم : غلَبتْ فئةً كثيرةً بإذن الله { وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ } كان إيشى أبو داودَ في عسكر طالوتَ معه ستةٌ من بنيه وكان داودُ عليه السلام سابعَهم وكان صغيراً يَرعى الغنم فأوحى الله تعالى إلى نبيهم أنه الذي يقتل جالوتَ فطلبه من أبيه فجاء ، وقد مر في طريقه بثلاثة أحجار قال له كل منها : احمِلنا فإنك بنا تقتُل جالوتَ فحملها في مِخْلاته وقيل : لما أبطأ على أبيه خبرُ إخوته في المصافِّ أرسل داودُ إليهم ليأتيَه بخبرهم فأتاهم وهم في القراع وقد برز جالوتُ بنفسه إلى البِراز ولا يكاد يبارزه أحدٌ وكان ظلُّه ميلاً فقال داودُ لإخوته : أما فيكم من يخرجُ إلى هذا الأقلفِ فزجروه فتنحّى ناحية أخرى ليس فيها أخوتُه وقد مر به طالوتُ وهو يحرِّض الناسِ على القتال فقال له داودُ : ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلفَ؟ قال طالوتُ : أُنكِحُه ابنتي وأعطيه شطرَ مملكتي فبرز له داودُ فرماه بما معه من الأحجار بالمِقلاع فأصابه في صدره فنفذت الأحجارُ منه وقتلت بعده ناساً كثيرين . وقيل : إنما كلمته الأحجارُ عند بروزه لجالوتَ في المعركة فأنجز له طالوتُ ما وعده وقيل : إنه حسده وأخرجه من مملكته ثم ندم على ما صنعه فذهب يطلبه إلى أن قُتل ، ومُلِّك داودُ عليه السلام وأعطيَ النبوةَ وذلك قوله تعالى : { وآتاه الله الملك } أي مُلكَ بني إسرائيلَ في مشارقِ الأرض المقدسةِ ومغاربِها { والحكمة } أي النبوةَ ولم يجتمع في بني إسرائيلَ الملكُ والنبوةُ قبله إلا له بل كان الملكُ في سِبط والنبوة في سبط آخرَ وما اجتمعوا قبله على ملك قط { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء } أي مما يشاء الله تعالى تعليمَه إياه لا مما يشاء داودُ عليه السلام كما قيل لأن معظم ما علمه تعالى إياه مما لا يكاد يخطرُ ببال أحد ولا يقع في أمنية بشرٍ ليتمكنَ من طلبه ومشيئته كالسَّرَد بإِلانةِ الحديد ومنطقِ الطير والدوابِّ ونحو ذلك من الأمور الخفية .(1/305)
{ وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم } الذين يباشرون الشر والفساد { بِبَعْضِ } آخرَ منهم بردِّهم عما هم عليه بما قدر الله تعالى من القتل كما في القصة المحكية أو غيره ، وقرىء دِفاعُ الله على أن صيغةَ المغالبة للمبالغة { لَفَسَدَتِ الارض } وبطلت منافعُها وتعطلت مصالحُها من الحرْث والنسل وسائر ما يعمُر الأرضَ ويُصلِحها . وقيل : لولا أن الله ينصُر المسلمين على الكافرين لفسدت الأرضُ بعيثهم وقتلهم المسلمين أو لو يدفعهم بالمسلمين لعم الكفر ونزلت السخطة فاستؤصلَ أهلُ الأرض قاطبة { ولكن الله ذُو فَضْلٍ } عظيم لا يقادَر قدرُه { عَلَى العالمين } كافةً وهذا إشارةٌ إلى قياس استثنائي مؤلفٍ من وضعِ نقيضِ المقدّمِ المنتج لنقيض التالي خلا أنه قد وُضع موضعَه ما يستتبعه ويستوجبه أعني كونه تعالى ذا فضلٍ على العالمين إيذاناً بأنه تعالى متفضِّلٌ في ذلك الدفع من غير أن يجبَ عليه ذلك وأن فضلَه تعالى غيرُ منحصرٍ فيه بل هو فردٌ من أفراد فضلِه العظيم ، كأنه قيل : ولكنه تعالى يدفع فسادَ بعضِهم ببعض فلا تفسُدُ الأرضُ وتنتظم به مصالِحُ العالمِ وتنصَلِحُ أحوالُ الأمم .(1/306)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
{ تِلْكَ } إشارة إلى ما سلف من حديث الألوفِ وخبرِ طالوتَ على التفصيل المرقومِ ، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو شأنِ المشارِ إليه { آيات الله } المنزلةُ من عنده تعالى ، والجملةُ مستأنفة ، وقوله تعالى : { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ } أي بواسطة جبريلَ عليه السلام إما حالٌ من الآيات والعاملُ معنى الإشارة وإما جملةٌ مستقلة لا محل لها من الإعراب { بالحق } في حيز النصبِ على أنه حالٌ من مفعول نتلوها أي ملتبسةً باليقين الذي لا يرتاب فيه أحد من أهل الكتاب وأربابِ التواريخ لما يجدونها موافقةً لما في كتبهم ، أو من فاعلِه أي نتلوها عليك ملتبسين بالحق والصواب ، أو من الضمير المجرور أي ملتبساً بالحق والصدق { وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } أي من جملة الذين أُرسلوا إلى الأمم لتبليغ رسالاتِنا وإجراءِ أوامرِنا وأحكامنا عليهم فإن هذه المعاملةَ لا تجري بيننا وبين غيرهم فهي شهادة منه سبحانه برسالته عليه الصلاة والسلام إثرَ بيانِ ما يستوجبها ، والتأكيدُ من مقتضيات مقامِ الجاحدين بها .
{ تِلْكَ الرسل } استئنافٌ فيه رمزٌ إلى أنه عليه الصلاة والسلام من أفاضلِ الرسلِ العظامِ عليهم الصلاة والسلام إثرَ بيانِ كونِه من جملتهم والإشارةُ إلى الجماعة الذين من جملتهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، فاللام في المآل للاستغراق وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو طبقتِهم وبُعدِ منزلتهم وقيل : إلى الذين ذُكرت قِصصُهم في السورة وقيل : إلى الذين ثبت علمُه صلى الله عليه وسلم بهم { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } في مراتب الكمالِ بأن خصَصْناه حسبما تقتضيه مشيئتُنا بمآثِرَ جليلةٍ خلا عنها غيرُه { مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } تفصيلٌ للتفصيل المذكور إجمالاً أي فضله بأن كلمهُ تعالى بغير سفيرٍ وهو موسى عليه الصلاة والسلام حيث كلمهُ تعالى ليلةَ الخِيْرة وفي الطور وقرىء { كلام الله } بالنصب وقرىء كالَمَ الله من المكالمة فإنه كلّم الله تعالى كما أنه تعالى كلمه ، ويؤيده كليمُ الله بمعنى مكالمِه ، وإيرادُ الاسمِ الجليلِ بطريق الالتفات لتربية المهابةِ ، والرمزِ إلى ما بين التكليم والرفعِ وبين ما سبَقَ من مطلق التفضيل وما ألحق من إيتاء البيناتِ والتأييدِ بروحِ القدسِ من التفاوت { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات } أي ومنهم من رفعه على غيره من الرسل المتفاوتين في معارجِ الفضل بدرجات قاصيةٍ ومراتبَ نائيةٍ ، وتغييرُ الأسلوب لتربية ما بينهم من اختلاف الحالِ في درجات الشرفِ ، والظاهرُ أنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كما ينبىء عنه الإخبارُ بكونه عليه الصلاة والسلام منهم فإن ذلك في قوة بعضهم فإنه قد خُصَّ بالدعوة العامة والحُجج الجمة والمعجزاتِ المستمرة والآياتِ المتعاقبة بتعاقُب الدهور والفضائلِ العلمية والعمليةِ الفائتة للحصر ، والإبهامُ لتفخيم شأنه وللإشعار بأنه العلَمُ الفردُ الغنيُّ عن التعيين وقيل : إنه إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام حيث خصه تعالى بكرامة الخُلّة وقيل : إدريسُ عليه السلام حيث رفعه مكاناً علياً وقيل : أوُلو العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام .(1/307)
{ وآتينا عيسى ابن مَرْيَمَ البيِّنات } الآياتِ الباهرةَ والمعجزاتِ الظاهرةَ من إحياء الموتى وإبراءِ الأكمة والأبرصِ والإخبارِ بالمغيّبات ، أو الإنجيلَ { وأيدناه } أي قويناه { بِرُوحِ القدس } بضم الدال وقرىء بسكونها أي بالروح المقدسة كقولك : رجلُ صِدْقٍ وهي روحُ عيسى وإنما وصفت بالقدس للكرامة أو لأنه عليه السلام لم تضمَّه الأصلابُ والأرحامُ الطوامث وقيل : بجبريلَ وقيل : بالإنجيلِ كما مر ، وإفرادُه عليه السلام بما ذكر لرد ما بين أهلِ الكتابين في شأنه عليه السلام من التفريط والإفراط ، والآيةُ ناطقة بأن الأنبياءَ عليهم السلام متفاوتةُ الأقدار ، فيجوزُ تفضيلُ بعضِهم على بعض ولكن بقاطع { وَلَوْ شَاء الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم } أي جاءوا من بعد الرسلِ من الأمم المختلفة أي لو شاء الله عدمَ اقتتالهم ما اقتتلوا بأن جعلَهم متفقين على اتباع الرسلِ المتفقةِ على كلمة الحقِّ فمفعولُ المشيئةِ محذوفٌ لكونه مضمونَ الجزاءِ على القاعدة المعروفة وقيل : تقديرُه ولو شاء هدى الناس جميعاً ما اقتتل الخ وليس بذاك { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ } من جهة أولئك الرسلِ { البينات } المعجزاتُ الواضحةُ والآياتُ الظاهرة الدالةُ على حقية الحقِّ الموجبةِ لاتباعهم ، الزاجرةُ عن الإعراض عن سَننهم المؤدِّي إلى الاقتتال ( فمِنْ ) متعلقةٌ باقتتل { ولكن اختلفوا } استدراك من الشرطية أُشير به إلى قياس استثنائي مؤلفٍ من وضع نقيض مقدّمها المنتج لنقيض تاليها إلا أنه قد وُضع فيه الاختلافُ موضعَ نقيضِ المقدم المترتب عليه للإيذان بأن الاقتتالَ ناشىء من قِبَلهم لا من جهته تعالى ابتداءً كأنه قيل : ولكن لم يشأ عدمَ اقتتالِهم لأنهم اختلفوا اختلافاً فاحشاً { فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ } بما جاءت به أولئك الرسلُ من البينات وعمِلوا به { وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ } بذلك كفراً لا ارعواءَ له عنه فاقتضت الحِكمةُ عدمَ مشيئتِه تعالى لعدم اقتتالِهم فاقتتلوا بموجبِ اقتضاءِ أحوالِهم { وَلَوْ شَاء الله } عدمَ اقتتالهم بعد هذه المرتبة أيضاً من الاختلاف والشقاق المستتبعين للاقتتال بحسب العادة { مَا اقتتلوا } وما نبَض منهم عِرقُ التطاول والتعادي لما أن الكل تحت ملَكوتِه تعالى ، فالتكريرُ ليس للتأكيد كما ظُن بل للتنبيه على أن اختلافهم ذلك ليس موجباً لعدم مشيئته تعالى لعدم اقتتالهم كما يفهم ذلك من وضعه في الاستدراك موضعه بل هو سبحانه مختار في ذلك حتى لو شاء بعد ذلك عدم اقتتالهم ما اقتتلوا كما يفصح عنه الاستدراك بقوله عز وجل : { ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }
أي من الأمور الوجودية والعدمية التي من جملتها عدم مشيئته عدم اقتتالهم فإن الترك أيضاً من جملة الأفعال أي يفعل ما يريد حسبما يريد من غير أن يوجبه عليه موجب أو يمنعه منه مانع وفيه دليل بيّن على أن الحوادث تابعة لمشيئته سبحانه خيراً كان أو شراً إيماناً كان أو كفراً .(1/308)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَنفِقُواْ } في سبيل الله { مِمَّا رزقناكم } أي شيئاً مما رزقناكموه على أن ( ما ) موصولة حُذف عائدُها ، والتعرضُ لوصوله منه تعالى للحث على الإنفاق كما في قوله تعالى : { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } والمرادُ به الإنفاقُ الواجبُ بدلالة ما بعده من الوعيد { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شفاعة } كلمةُ ( مِن ) متعلقةٌ بما تعلقت به أختها ولا ضير فيه لاختلاف معنييهما فإن الأولى تبعيضيةٌ وهذه لابتداء الغايةِ أي أنفِقوا بعضَ ما رزقناكم من قبل أنْ يأتيَ يومٌ لا تقدِرون على تلافي ما فرّطتم فيه إذ لا تبايُعَ فيه حتى تتبايعوا ما تُنفقونه أو تفتدون به من العذاب ولا خُلةٌ حتى يسامحَكم به أخلاؤكم أو يُعينوكم عليه ولا شفاعةٌ إلا لمن أذِنَ له الرحمن ورضِيَ له قولاً حتى تتوسلوا بشفعاءَ يشفعون لكم في حطّ ما في ذمتكم ، وإنما رُفعت الثلاثةُ مع قصد التعميم لأنها في التقدير جوابُ هل فيه بيعٌ أو خلةٌ أو شفاعةٌ وقرىء بفتح الكل { والكافرون } أي والتاركون للزكاة ، وإيثارُه عليه للتغليظ والتهديد كما في قوله تعالى : { وَمَن كَفَرَ } مكانَ ومَنْ لم يحُجّ وللإيذان بأن تركَ الزكاة من صفات الكفار قال تعالى : { وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ * الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة } { هُمُ الظالمون } أي الذين ظلموا أنفسَهم بتعريضها للعقاب ووضعوا المالَ في غير موضعِه وصرفوه إلى غير وجهه { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ } مبتدأٌ وخبرٌ أي هو المستحِقُّ للمعبودية لا غير ، وفي إضمار خبرِ لا مِثلَ في الوجود أو يصِح أن يوجد خلاف للنحاة معروفٌ { الحى } الباقي الذي لا سبيل عليه للموت والفناء ، وهو إما خبرٌ ثانٍ أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ أو بدل من لا إله إلا هو ، أو بدلٌ من الله أو صفة له ، ويعضُده القراءة بالنصب على المدح لاختصاصه بالنعت { القيوم } فَيْعولٌ ، من قام بالأمر إذا حفِظه أي دائمُ القيام بتدبير الخلق وحفظه ، وقيل : هو القائمُ بذاته المقيمُ لغيره { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } السِنةُ ما يتقدم النومَ من الفتور قال عديُّ بنُ الرقاعِ العاملي :
وَسْنانُ أقصده النعاسُ فرنَّقت ... في عينه سِنةٌ وليس بنائمِ
والنومُ حالةٌ تعرِضُ للحيوان من استرخاء أعصابِ الدماغِ من رُطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقِف المشاعرُ الظاهرةُ عن الإحساس رأساً والمرادُ بيان انتفاءِ اعتراءِ شيءٍ منهما له سبحانه لعدم كونهما من شأنه تعالى لا لأنهما قاصران بالنسبة إلى القوة الإلهية فإنه بمعزل من مقامِ التنزيهِ فلا سبيلَ إلى حمل النظم الكريمِ على طريقة المبالغةِ والترقي بناءً على أن القادرَ على دفع السِنة قد لا يقدرُ على دفع النوم القويِّ كما في قولك : فلانٌ يقِظٌ لا تغلِبُه سِنةٌ ولا نوم وإنما تأخيرُ النوم للمحافظة على ترتيب الوجودِ الخارجي ، وتوسيطُ كلمةِ لا للتنصيص على شمول النفي لكلَ منهما كما في قوله عز وجل :(1/309)
{ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً } الآية . وأما التعبيرُ عن عدم الاعتراءِ والعُروضِ بعدم الأخذ فلمراعاة الواقع إذ عُروضُ السِنةِ والنومِ لمعروضهما إنما يكون بطريق الأخذِ والاستيلاء ، وقيل : هو من باب التكميل ، والجملةُ تأكيدٌ لما قبلها من كونه تعالى حياً قيّوماً فإن مَنْ يعتريه أحدُهما يكونُ موقوفَ الحياةِ قاصراً في الحفظ والتدبيرِ وقيل : استئنافٌ مؤكدٌ لما سبق وقيل : حال مؤكدةٌ من الضمير المستكِّن في القيوم { لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض } تقريرٌ لقيّوميّته تعالى واحتجاجٌ به على تفرّده في الألوهية ، والمرادُ بما فيهما ما هو أعمُّ من أجزائهما الداخلةِ فيهما ومن الأمور الخارجةِ عنهما المتمكّنة فيهما من العقلاء وغيرهم .
{ مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } بيانٌ لكبرياء شأنه وأنه لا يدانيه أحدٌ ليقدِر على تغيير ما يريده شفاعةً وضراعةً فضلاً عن أن يُدافعه عِناداً أو مُناصبةً { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أي ما قبلهم وما بعدهم أو بالعكس لأنك مستقبِلُ المستقبَل ومستدبِرُ الماضي ، أو أمورَ الدنيا أو أمورَ الآخرة أو بالعكس أو ما يُحسّونه ، وما يعقِلونه أو ما يدركونه وما لا يدركونه ، والضميرُ لما في السموات والأرض بتغليب ما فيهما من العقلاء على غيرهم أو لما دل عليه من ذا الذي من الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ } أي من معلوماته { إِلاَّ بِمَا شَاء } أن يعلموه ، وعطفُه على ما قبله لما أنهما جميعاً دليلٌ على تفرّده تعالى بالعلم الذاتي التامِّ الدالِّ على وحدانيته { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السموات والارض } الكرسي ما يُجلَس عليه ولا يفضُلُ عن مقعد القاعد ، وكأنه منسوبٌ إلى الكِرْس الذي هو المُلبَّد ، وليس ثمةَ كُرسيٌّ ولا قاعدٌ ولا قُعود وإنما هو تمثيل لعظمةِ شأنه عز وجل وسَعة سلطانه وإحاطةِ علمه بالأشياء قاطبةً على طريقة قوله عز قائلاً : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والارض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ } وقيل : كرسيُّه مجازٌ عن علمِه أخذاً من كرسيِّ العالِم وقيل : عن مُلكه أخذاً من كرسيّ المُلك فإن الكرسيَّ كلما كان أعظمَ تكون عظمةُ القاعدِ أكثرَ وأوفرَ فعبر عن شمول علمه أو بسطةِ ملكه وسلطانِه بسَعة كرسيِّه وإحاطته بالأقطار العلوية والسفلية وقيل : هو جِسمٌ بين يدي العرشِ محيطٌ بالسموات السبْع لقوله صلى الله عليه وسلم : « ما السموات السبعُ والأرضونَ السبعُ مع الكرسي إلا كحلقةٍ في فلاة وفضلُ العرشِ على الكرسيِّ كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة » ولعله الفلَكُ الثامن ، وعن الحسن البصريّ أنه العرش .
{ وَلاَ يَؤُودُهُ } أي لا يُثقِله ولا يشُقُّ عليه { حِفْظُهُمَا } أي حفظُ السموات والأرضِ وإنما لم يتعرَّضْ لذكر ما فيهما لما أن حفظهما مستتبعٌ لحفظه { وَهُوَ العلى } المتعالي بذاته عن الأشباه والأنداد { العظيم } الذي يُستحْقَر بالنسبة إليه كلُّ ما سواه ولما ترى من انطواء هذه الآيةِ الكريمةِ على أمهات المسائل الإلهية المتعلقةِ بالذات العليةِ والصفاتِ الجلية فإنها ناطقةٌ بأنه تعالى موجودٌ متفردٌ بالإلهية متصفٌ بالحياة واجبُ الوجود لذاته موجدٌ لغيره لما أن القيومَ هو القائمُ بذاته المقيمُ لغيره منزَّهٌ عن التحيز والحلول مبرأٌ عن التغير والفتور ، لا مناسبةَ بينه وبين الأشباح ولا يعتريه ما يعتري النفوسَ والأرواحَ مالكُ المُلك والملكوتِ ومُبدعُ الأصولِ والفروع ، ذو البطش الشديد لا يشفَع عنده إلا من أذِن له فيه ، العالِمُ وحده بجميع الأشياء جليِّها وخفيِّها كليِّها وجزئيِّها واسعُ الملك والقدرة لكل ما من شأنه أن يُملَكَ ويُقدَرَ عليه لا يشُقّ عليه شاقٌّ ولا يشغَلُه شأنٌ عن شأن ، متعالٍ عما تناله الأوهامُ ، عظيمٌ لا تُحدق به الأفهام ، تفردت بفضائلَ رائقةٍ وخواصَّ فائقة خلت عنها أخواتُها قال صلى الله عليه وسلم :(1/310)
« إن أعظمَ آيةٍ في القرآن آيةُ الكرسي . من قرأها بعث الله تعالى ملِكاً يكتُب من حسناته ويمحو من سيئاته إلى الغد من تلك الساعة » وقال عليه الصلاة والسلام : « ما قُرئت هذه الآيةُ في دار إلا هجرتْها الشياطينُ ثلاثين يوماً ولا يدخُلها ساحرٌ ولا ساحرةٌ أربعينَ ليلةً » وقال : « يا عليُّ علِّمْها ولدَك وأهلَك وجيرانَك فما نزلت آيةٌ أعظمُ منها » وقال عليه السلام : « مَنْ قرأ آيةَ الكرسيِّ في دُبُرِ كلِّ صلاة مكتوبةٍ لم يمنعْه من دخول الجنةِ إلا الموتُ ولا يواظِبُ عليها إلا صدِّيق أو عابدٌ ومن قرأها إذا أخذ مضجعَه أَمَّنَه الله تعالى على نفسه وجارِه ، وجار جاره ، والأبياتِ حوله » وقال عليه الصلاة والسلام : « سيدُ البشر آدمُ وسيد العربِ محمدٌ ولا فخرٌ وسيدُ الفُرس سلمانُ وسيدُ الرومِ صُهيبٌ وسيدُ الحبشةِ بلالٌ وسيد الجبال الطورُ وسيدُ الأيام يومُ الجمعة وسيدُ القرآنِ سورةُ البقرة وسيدُ البقرةِ آيةُ الكرسي » وتخصيصُ سيادته صلى الله عليه وسلم للعرب بالذكر في أثناء تعدادِ السيادات الخاصةِ لا يدل على نفي ما دلت عليه الأخبارُ المستفيضةُ وانعقد عليه الإجماعُ من سيادته عليه السلام لجميع أفرادِ البشر .(1/311)
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
{ لا إِكْرَاهَ فِى الدين } جملةٌ مستأنفة جِيء بها إثرَ بيانِ تفرُّدِه سبحانه وتعالى بالشؤون الجليلةِ الموجبةِ للإيمان به وحده إيذاناً بأن مِنْ حق العاقلِ ألا يحتاجَ إلى التكليف والإلزام بل يختارُ الدينَ الحقَّ من غير ترددٍ وتلعثم وقيل : هو خبرٌ في معنى النهي أي لا تُكرِهوا في الدين فقيل : منسوخٌ بقوله تعالى : { جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ } وقيل : خاصٌّ بأهل الكتاب حيث حصَّنوا أنفسَهم بأداءِ الجزية ورُوي أنه كان لأنصاريَ من بني سالم بن عوفٍ ابنان قد تنصّرا قبل مبعثه عليه السلام ثم قدِما المدينة فلزِمهما أبوهما وقال : والله لا أدَعُكما حتى تُسلما فأَبَيا فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فخلاّهما { قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } استئنافٌ تعليلي صُدّر بكلمة التحقيقِ لزيادة تقريرِ مضمونِه كما في قوله عز وجل : { قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً } أي إذ قد تبين بما ذُكر من نعوته تعالى التي يمتنع توهُّمُ اشتراك غيرِه في شيء منها الإيمانُ الذي هو الرشدُ الموصل إلى السعادة الأبدية من الكفر الذي هو الغيُّ المؤدي إلى الشقاوة السرمدية { فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت } هو بناءُ مبالغة من الطغيان كالمَلَكوت والجَبَروت قُلب مكانُ عينه ولامِه فقيل : هو في الأصل مصدر وإليه ذهب الفارسيُّ وقيل : اسمُ جنسٍ مُفرَدٍ مذكر ، وإنما الجمعُ والتأنيثُ لإرادة الآلهةِ وهو رأيُ سيبويه ، وقيل : هو جمعٌ وهو مذهبُ المبرِّد وقيل : يستوي فيه المُفرَد والجمعُ والتذكيرُ والتأنيثُ أي فمن يعملْ إثرَ ما تميز الحقُّ من الباطل بموجب الحُججِ الواضحةِ والآياتِ البينة ويكفرْ بالشيطان أو بالأصنام أو بكل ما عُبد من دون الله تعالى أو صَدَّ عن عبادته سبحانه تعالى لِما تبيّن له كونُه بمعزل من استحقاق العبادة { وَيُؤْمِن بالله } وحدَه لِما شاهد من نعوتِه الجليلةِ المقتضيةِ لاختصاص الألوهيةِ به عز وجل الموجبةِ للإيمان والتوحيدِ ، وتقديمُ الكفرِ بالطاغوت على الإيمان به تعالى لتوقفه عليه فإن التخليةَ متقدّمةٌ على التحلية { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } أي بالغَ في التمسُّك بها كأنه وهو ملتبسٌ به يطلُبُ من نفسه الزيادةَ فيه والثباتَ عليه { لاَ انفصام لَهَا } الفصْم الكسرُ بغير صوت كما أن القَصْم هو الكسرُ بصوت ، ونفيُ الأول يدل على انتفاءِ الثاني بالأولوية ، والجملةُ إما استئنافٌ مقرِّر لما قبلها من وَثاقة العُروة وإما حالٌ من العروة والعاملُ استمسك أو من الضمير المستتر في الوثقى ولها في حيز الخبر ، أي كائن لها والكلامُ تمثيلٌ مبنيٌّ على تشبيه الهيئة العقليةِ المنتزَعةِ من ملازمة الاعتقادِ الحقِّ الذي لا يحتمل النقيضَ أصلاً لثبوته بالبراهين النيِّرة القطعية بالهيئة الحِسّية المنتزَعه من التمسُّك بالحبل المُحْكَم المأمونِ انقطاعُه فلا استعارةَ في المفردات ويجوز أن تكونَ العُروةُ الوثقى مستعارةً للاعتقاد الحقِّ الذي هو الإيمانُ والتوحيدُ لا للنظر الصحيح المؤدّي إليه كما قيل فإنه غيرُ مذكورٍ في حيز الشرط ، والاستمساكُ بها مستعاراً لِما ذكر من الملازمة أو ترشيحاً للاستعارة الأولى { والله سَمِيعٌ } بالأقوال { عَلِيمٌ } بالعزائم والعقائدِ ، والجملةُ اعتراضٌ تذييلي حاملٌ على الإيمان رادِعٌ عن الكفر والنفاق بما فيه من الوعد .(1/312)
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
{ اللَّهُ وَلِيُّ الذين ءامَنُواْ } أي مُعينُهم أو متولي أمورِهم ، والمرادُ بهم الذين ثبتَ ففي علمه تعالى إيمانُهم في الجملة مآلاً أو حالاً { يُخْرِجُهُم } تفسيرٌ للولاية أو خبرٌ ثانٍ عند من يجوِّز كونَه جملةً أو حال من الضمير في وليّ { مِنَ الظلمات } التي هي أعمُّ من ظلمات الكفرِ والمعاصي وظلماتِ الشُبَه بل مما في بعض مراتبِ العلوم الاستدلالية من نوعِ ضعفٍ وخفاءٍ بالقياس إلى مراتبها القوية الجليةِ بل مما في جميع مراتبِها بالنظر إلى مرتبة العِيان كما ستعرفه { إِلَى النور } الذي يعمُّ نورَ الإيمان ونورَ الإيقان بمراتبه ونورَ العِيان ، أي يُخرج بهدايته وتوفيقِه كلَّ واحد منهم من الظُلمة التي وقع فيها إلى ما يقابلها من النور ، وإفرادُ النور لتوحيد الحق كما أن جمعَ الظلمات لتعدد فنون الضلال { والذين كَفَرُواْ } أي الذين ثبت في علمه تعالى كفرُهم { أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت } أي الشياطينُ وسائرُ المضلين عن طريق الحق فالموصولُ مبتدأ وأولياؤُهم مبتدأٌ ثانٍ والطاغوتُ خبرُه والجملةُ خبرٌ للأول والجملةُ الحاصلةُ معطوفةٌ على ما قبلها ، ولعل تغييرَ السبك للاحتراز عن وضع الطاغوتِ في مقابلة الاسم الجليل ولقصد المبالغة بتكرير الإسناد مع الإيماء إلى التباين بين الفريقين من كل وجهٍ حتى من جهة التعبير أيضاً { يُخْرِجُونَهُم } بالوساوس وغيرِها من طرق الإضلال والإغواء { مّنَ النور } الفِطري الذي جُبل عليه الناسُ كافةً أو من نور البيناتِ التي يشاهدونها من جهة النبيِّ صلى الله عليه وسلم بتنزيل تمكُّنِهم من الاستضاءة بها منزلةَ نفسِها { إِلَى الظلمات } ظلماتِ الكفر والانهماكِ في الغِل وقيل : نزلت في قوم ارتدّوا عن الإسلام والجملةُ تفسير لولاية الطاغوت أو خبرٌ ثانٍ كما مر وإسنادُ الإخراجِ من حيث السببيةُ إلى الطاغوت لا يقدَحُ في استناده من حيث الخلقُ إلى قدرته سبحانه { أولئك } إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافِه بما في حيز الصلة وما يتبعه من القبائح { أصحاب النار } أي ملابسوها وملازموها بسبب ما لهم من الجرائم { هُمْ فِيهَا خالدون } ماكثون أبداً .(1/313)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى حَاجَّ إبراهيم فِى رِبّهِ } استشهادٌ على ما ذكر من أن الكفَرةَ أولياؤُهم الطاغوتُ وتقريرٌ له على طريقة قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ } كما أن ما بعده استشهاد على ولايته تعالى للمؤمنين وتقريرٌ لها وإنما بُدىء بهذا لرعاية الاقترانِ بينه وبين مدلولِه ولاستقلاله بأمر عجيبٍ حقيق بأن يُصدَّر به المقالُ وهو اجتراؤه على المُحاجّة في الله عز وجل وما أتى بها في أثنائها من العظيمة المنادية بكمال حماقته ولأن فيما بعده تعدداً وتفصيلاً يورث تقديمُه انتشار النظم على أنه قد أشير في تضاعيفه إلى هداية الله تعالى أيضاً بواسطة إبراهيمَ عليه السلام فإن يحكى عنه من الدعوة إلى الحق وإدحاضِ حجةِ الكافر من آثار ولايته تعالى ، وهمزةُ الاستفهامِ لإنكار النفي وتقريرِ المنفي أي ألم تنظُرْ أو ألم ينتهِ علمُك إلى هذا الطاغوت المارد كيف تصدى لإضلال الناس وإخراجهم من النور إلى الظلمات أي قد تحققت الرؤيةُ وتقرَّرت بناءً على أن أمره من الظهور بحيث لا يكاد يخفى على أحد ممن له حظٌّ من الخطاب فظهر أن الكفَرةَ أولياؤُهم الطاغوتُ وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام تشريفٌ له وإيذانٌ بتأييده في المُحاجة { أَنْ آتاه الله الملك } أي لاِءَنْ آتاه إياه حيث أبطره ذلك وحملَه على المُحاجّة أو حاجه لأجله وضعاً للمُحاجّة التي هي أقبحُ وجوهِ الكفر موضعَ ما يجبُ عليه من الشكر كما يقال : عاديتني لاِءَن أحسنتُ إليك ، أو وقتَ أن آتاه الله الملكَ وهو حجةٌ على من منع إيتاءَ الله المُلك للكافر .
{ إِذْ قَالَ إبراهيم } ظرفٌ لحاجَّ أو بدلٌ من آتاه على الوجه الأخير { رَبّيَ الذى يُحْىِ وَيُمِيتُ } بفتح ياء ربي وقرىء بحذفها . رُوي أنه عليه الصلاة والسلام لما كسر الأصنام سجنه ثم أخرجه فقال : من ربُّك الذي تدعو إليه؟ قال : « ربي الذي يُحيي ويميت » أي يخلُق الحياةَ والموتَ في الأجساد { قَالَ } استئنافٌ مبني على السؤال كأنه قيل : كيف حاجّه في هذه المقالة القوية الحقة؟ فقيل قال : { أنا أحيى وأميت } رُوي أنه دعا برجلين فقتل أحدَهما وأطلق الآخر فقال ذلك { قَالَ إبراهيم } استئنافٌ كما سلف كأنه قيل : فماذا قال إبراهيمُ لمن في هذه المرتبة من الحماقة وبماذا أفحمه؟ فقيل قال : { فَإِنَّ الله يَأْتِى بالشمس مِنَ المشرق } حسبما تقتضيه مشيئتُه { فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب } إن كنت قادراً على مثل مقدوراته تعالى فلم يلتفِتْ عليه السلام إلى إبطال مقالةِ اللعين إيذاناً بأن بطلانها من الجلاءِ والظهورِ بحيث لا يكاد يخفى على أحد وأن التصديَ لإبطالها من قبيل السعي في تحصيل الحاصل وأتى بمثال لا يجد اللعين فيه مجالاً للتمويه والتلبيس { فَبُهِتَ الذى كَفَرَ } أي صار مبهوتاً وقرىء على بناء الفاعل على أن الموصول مفعوله أي فغلب إبراهيمُ الكافر وأسكته ، وإيراد الكفر في حيز الصلة للإشعار بعلة الحكم والتنصيص على كون المحاجة كفراً { والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } تذييلٌ مقرِّر لمضمون ما قبله أي لا يهدي الذين ظلموا أنفسَهم بتعريضها للعذاب المخلد بسبب إعراضِهم عن قبول الهداية إلى مناهج الاستدلالِ أو إلى سبيل النجاة أو إلى طريق الجنةِ يوم القيامة .(1/314)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
{ أَوْ كالذى مَرَّ على قَرْيَةٍ } استشهادٌ على ما ذكر من ولايته تعالى للمؤمنين وتقريرٌ له معطوفٌ على الموصول السابق ، وإيثارُ أو الفارقةِ على الواو الجامعة للاحتراز عن توهّم اتحادِ المستشهد عليه من أول الأمر والكاف إما اسميةٌ كما اختاره قوم جيء بها للتنبيه على تعدد الشواهد وعدم انحصارِها فيما ذكر كما في قولك : الفعلُ الماضي مثلُ نصر وإما زائدة كما ارتضاه آخرون ، والمعنى أَوَ لَمْ تَرَ إلى مثل الذي أو إلى الذي مرَّ على قرية كيف هداه الله تعالى وأخرجه من ظُلمة الاشتباه إلى نور العِيان والشهود ، أي قد رأيت ذلك وشاهدتَه فإذن لا ريب في أن الله وليُّ الذين آمنوا الخ . هذا وأما جعلُ الهمزةِ لمجرد التعجيبِ على أن يكون المعنى في الأول ألم تنظرُ إلى الذي حاجّ الخ أي انظُر إليه وتعجبْ من أمره وفي الثاني أو أرأيتَ مثلَ الذي مرَّ الخ إيذاناً بأن حالَه وما جرى عليه في الغرابة بحيث لا يُرى له مَثَلٌ كما استقر عليه رأي الجمهور فغيرُ خليقٍ بجزالة التنزيلِ وفخامة شأنه الجليل ، فتدبر . والمارُّ هو عُزيرُ بنُ شرخيا قاله : قتادةُ والربيع وعِكْرِمةُ وناجية بن كعب وسليمان بن يزيدَ والضحاك والسدي رضي الله عنهم وقيل : هو أرميا بن حلقيا من سبط هارونَ عليه السلام قاله : وهب وعبيدُ اللَّه بنُ عمير وقيل : أرميا هو الخَضِرُ بعينه قال مجاهد كان المارُّ رجلاً كافراً بالبعث ، وهو بعيد ، والقريةُ بيتُ المقدِس قاله : وهْبٌ وعكرِمة والربيع ، وقيل : هي ديرُ هِرَقل على شط دِجْلةَ وقال الكلبي : هي ديرُ سابر آباد وقال السدي : هي دير سلما باد والأول هو الأظهر والأشهر .
رُوي أن بني إسرائيلَ لما بالغوا في تعاطي الشرِّ والفسادِ وجاوزوا في العتوِّ والطغيانِ كلَّ حدّ معتادٍ سلط الله تعالى عليهم بُختَ نَصَّر البابليَّ فسار إليهم في ستمائة ألفِ رايةٍ حتى وطِىءَ الشامَ وخرَّب بيتَ المقدِس وجعل بني إسرائيلَ أثلاثاً ثلثٌ منهم قتلَهم وثلثٌ منهم أسكنهم بالشام وثلثٌ منهم سباهم وكانوا مائةَ ألفِ غلام يافعٍ وغيرِ يافع فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل ملك منهم أربعة غِلمة وكان عُزير من جملتهم فلما نجاه الله تعالى منهم بعد حين مرّ بحماره على بيتَ المقدِس فرآه على أفظع مرأىً وأوحشَ منظرٍ وذلك قوله عز وجل : { وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } أي ساقطة على سقوفها بأن سقطت العروشُ ثم الحيطانُ من خوَى البيتُ إذا سقط أو من خوَت الأرضُ أي تهدمت والجملة حال من ضمير { مَرَّ } أو من { قَرْيَةٌ } عند من يجوِّز الحالَ من النكرة مطلقاً { قَالَ } أي تلهفاً عليها وتشوقاً إلى عِمارتها مع استشعار اليأس عنها { أنَّى يُحيِى هذه الله } وهي على ما يُرى من الحالة العجيبةِ المباينة للحياة ، وتقديمُها على الفاعل للاعتناء بها من حيث أن الاستبعاد ناشىء من جهتها لا من جهة الفاعل وأنّى نُصب على الظرفية إن كانت بمعنى متى ، وعلى الحالية من هذه إن كانت بمعنى كيف والعامل يُحيي وأياً ما كان فالمرادُ استبعادُ عمارتها بالبناء والسكان من بقايا أهلها الذين تفرقوا أيديَ سَبَاْ ومن غيرِهم ، وإنما عبر عنها بالإحياء الذي هم علَمٌ في البعد عن الوقوع عادةً تهويلاً للخطب وتأكيداً للاستبعاد كما أنه لأجله عبر عن خرابها بالموت حيث قيل : { بَعْدَ مَوْتِهَا } وحيث كان هذا التعبيرُ معرِباً عن استبعاد الإحياء بعد الموت على أبلغ وجهٍ وآكَدِه أراه الله عز وجل آثِرَ ذي أثيرٍ أبعدَ الأمرين في نفسه ثم في غيره ثم أراه ما استبعده صريحاً مبالغةً في إزاحة ما عسى يختلِجُ في خلَده ، وأما حملُ إحيائها على إحياء أهلها فيأباه التعرُّضُ لحال القرية دون حالهم والاقتصارَ على ذكر موتهم دون كونهم تراباً وعظاماً مع كونه أدخلَ في الاستبعاد لشدة مباينتِه للحياة وغايةِ بعدِه عن قَبولها على أنه لم تتعلقْ إرادتُه تعالى بإحيائهم كما تعلقت بعمارتها ومعاينةِ المارِّ لها كما ستحيط به خبراً .(1/315)
{ فَأَمَاتَهُ الله } وألبثه على الموت { مِاْئَةَ عَامٍ } رُوي أنه لما دخل القريةَ ربطَ حمارَه فطاف بها ولم يرَ بها أحداً فقال ما قال ، وكانت أشجارُها قد أثمرت فتناول من التين والعنب وشرِب من عصيره ونام فأماته الله تعالى في منامه وهو شابٌّ وأماتَ حماره وبقيةُ تينِه وعِنَبه وعصيرِه عنده ثم أعمى الله تعالى عنه عيونَ المخلوقاتِ فلم يرَه أحد فلما مضى من موته سبعون سنةً وجّه الله عز وعلا ملِكاً عظيماً من ملوك فارسَ يقال له يوشَكُ إلى بيت المقدس ليعمُرَه ومعه ألفُ قَهْرمانٍ مع كل قهرمانٍ ثلثُمائة ألفِ عاملٍ فجعلوا يعمُرونه وأهلك الله تعالى بُخْتَ نَصَّر ببعوضة دخلتْ دماغَه ونجى الله تعالى من بقيَ من بني إسرائيلَ وردَّهم إلى بيت المقدِس وتراجَع إليه من تفرَّق منهم في الأكناف فعمروه ثلاثين سنةً وكثُروا وكانوا كأحسنِ ما كانوا عليه فلما تمت المائةُ من موت عُزير أحياه الله تعالى وذلك قوله تعالى : { ثُمَّ بَعَثَهُ } وإيثارُه على أحياه للدلالة على سرعته وسهولةِ تأتِّيه على البارىء تعالى كأنه بعثه من النوم وللإيذان بأنه أعاده كهيئته يومَ موته عاقلاً فاهماً مستعداً للنظر والاستدلال ، { قَالَ } استئنافٌ مبني على السؤال كأنه قيل : فماذا قال له بعد بعثه؟ فقيل : قال : { كَمْ لَبِثْتَ } ليُظهرَ له عجزَه عن الإحاطة بشؤونه تعالى وأن إحياءَه ليس بعد مدة يسيرةٍ ربما يُتوَهم أنه هيِّنٌ في الجملة بل بعد مدةٍ طويلةٍ وينحسِم به مادةُ استبعادِه بالمرة ويطلُع في تضاعيفه على أمر آخرَ من بدائع آثارِ قُدرتِه تعالى وهو إبقاءُ الغذاء المتسارعِ إلى الفساد بالطبع على ما كان عليه دهراً طويلاً من غي تغيّرٍ ما ، وكم نُصبَ على الظرفية مميِّزُها محذوفٌ أي كم وقتاً لبِثَ والقائلُ هو الله تعالى أو ملَكٌ مأمورٌ بذلك من قِبَله تعالى قيل : نُوديَ من السماء يا عزيرُ كم لبثت بعد الموت؟
{ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } قاله بناءً على التقريب والتخمين أو استقصاراً لمدة لُبثِه ، وأما ما يقال من أنه مات ضُحىً وبُعث بعد المائة قبيل الغروب فقال : قبلَ النظرِ إلى الشمس يوماً فالتفت إليها فرأى منها بقيةً فقال : أو بعضَ يوم على وجه الإضراب فبمعزلٍ عن التحقيق إذ لا وجهَ للجزم بتمام اليوم ولو بناءً على حُسبان الغروب لتحقق النُقصان من أوله { قَالَ } استئنافٌ كما سلف { بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ } عطف على مقدر أي ما لبثتَ ذلك القدرَ بل هذا المقدارَ { فانظر } لتُعايِنَ أمراً آخرَ من دلائلِ قدرتنا { إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } أي لم يتغيرْ في هذه المدة المتطاولة مع تداعيه إلى الفساد .(1/316)
رُوي أنه وجد تينَه وعِنَبه كما جَنَى وعصيرَه كما عَصَر ، والجملة المنفيةُ حالٌ بغير واو كقوله تعالى : { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء } إما من الطعام والشراب وإفرادُ الضمير لجَرَيانهما مجرى الواحدِ كالغذاء وإما من الأخير اكتفاءً بدلالة حالِه على حال الأول ويؤيده قراءةُ من قرأ وهذا شرابُك لم يتسنَّ والهاء أصليةٌ أو هاءُ سَكْتٍ ، واشتقاقُه من السنة لما أن لامها هاءٌ أو واوٌ وقيل : أصلُه لم يتسنّنْ من الحمأ المسنون فقلبت نونُه حرفَ علة كما في تقضى البازي وقد جوز أن يكون معنى لم يتسنهْ لم يمرَّ عليه السنونَ التي مرت لا حقيقةً بل تشبيهاً أي هو على حاله كأنه لم يلبَثْ مائةَ عامٍ وقرىء لم يَسَّنَّهْ بإدغام التاء في السين .
{ وانظر إلى حِمَارِكَ } كيف نخِرَتْ عظامُه وتفرقت وتقطعت أوصالُه وتمزقتْ ليتبيَّن لك ما ذُكرَ من لُبثك المديدِ وتطمئِنَّ به نفسُك ، وقولُه عز وجل : { وَلِنَجْعَلَكَ ءايَةً لِلنَّاسِ } عطفٌ على مقدر متعلقٍ بفعل مقدرٍ قبله بطريق الاستئنافِ مقرِّرٌ لمضمون ما سبق ، أي فعلنا ما فعلنا من إحيائك بعد ما ذكر لتُعايِنَ ما استبعَدْتَه من الإحياء بعد دهرٍ طويلٍ ولنجعلَك آيةً للناس الموجودين في هذا القرنِ بأن يشاهدوك وأنت من أهل القرونِ الخاليةِ ويأخذوا منك ما طُوِي عنهم منذ أحقابٍ مِنْ علمِ التوراة كما سيأتي ، أو متعلقٌ بفعل مقدرٍ بعده ، أي ولنجعلك آية لهم على الوجه المذكور فعلنا ما فعلنا فهو على التقديرين دليلٌ على ما ذكر من اللُبث المديدِ ولذلك فُرِّق بينه وبين الأمرِ بالنظر إلى حماره ، وتكريرُ الأمر في قوله تعالى : { وانظر إِلَى العظام } مع أن المرادَ عظامُ الحمار أيضاً لما أن المأمور به أولاً هو النظرُ إليها من حيث دِلالتُها على ما ذكر من اللُبث المديد ، وثانياً هو النظرُ إليها من حيث تعتريها الحياةُ ومباديها ، أي وانظرْ إلى عظام الحمار لتشاهِدَ كيفيةَ الإحياء في غيرك بعد ما شاهدتَ نفسَه في نفسك { كَيْفَ نُنشِزُهَا } بالزاي المعجمة أي نرفَعُ بعضَها إلى بعض ونردُّها إلى أماكنها من الجسد فنركبُها تركيباً لائقاً بها ، وقال الكسائي : نُلِينُها ونُعْظِمُها .(1/317)
ولعل من فسره بنُحييها أراد بالإحياء هذا المعنى وكذا من قرأ نُنْشِرُها بالراء من أَنْشَر الله تعالى الموتى أي أحياها لا معناه الحقيقي لقوله تعالى : { ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا } أي نستُرها به كما يُستر الجسدُ باللباس ، وأما من قرأ نَنشُرُها بفتح النون وضم الشين فلعله أراد به ضِدَّ الطيِّ كما قال الفراء ، فالمعنى كيف نبسُطها ، والجملةُ إما حالٌ من العظام أي وانظُر إليها مركبةً مكسُوَّةً لحماً ، أو بدلُ اشتمالٍ أي وانظُرْ إلى العظام كيفيةِ إنشازِها وبسطِ اللحم عليها ، ولعل عدمَ التعرض لكيفية نفخِ الروحِ لما أنها مما لا تقتضي الحِكمةُ بيانَه . رُوي أنه نودي : «أيتها العظامُ الباليةُ إن الله يأمرُك أن تجتمعي» فاجتمعَ كلُّ جزءٍ من أجزائها التي ذهبَ بها الطيرُ والسِّباعُ وطارت بها الرياح من كل سهلٍ وجبلٍ فانضم بعضُها إلى بعض والتصق كلُّ عضوٍ بما يليق به الضِّلْعُ والذراعُ بمحلها والرأسُ بمَوْضِعها ثم الأعصابُ والعروق ثم انبسط عليه اللحمُ ثم الجلدُ ثم خرجت منه الشعورُ ثم نُفخ فيه الروحُ فإذا هو قائم ينهَقُ .
{ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ } أي ما دل عليه الأمرُ بالنظر إليه من كيفية الإحياءِ بمباديه ، والفاءُ للعطف على مقدر يستدعيه الأمرُ المذكور ، وإنما حذف للإيذان بظهور تحققِه واستغنائِه عن الذكر ، وللإشعار بسرعة وقوعِه كما في قوله عز وجل : { فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } بعد قوله : { قَالَ الذى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب أَنَاْ ءاتِيكَ } كأنه قيل : فأنشَزَها الله تعالى وكساها لحماً فنظرَ إليها فتبيّن له كيفيتُه فلما تبين له ذلك أي اتضح اتضاحاً تاماً { قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء } من الأشياء التي من جملتها ما شاهده في نفسه وفي غيره من تعاجيبِ الآثارِ { قَدِيرٌ } لا يستعصي عليه أمرٌ من الأمور ، وإيثارُ صيغةِ المضارعِ للدَلالة على أن علمَه بذلك مستمِرٌّ نظراً إلى أن أصلَه لم يتغيرْ ولم يتبدل ، بل إنما تبدل بالعِيان وصفُه ، وفيه إشعارٌ بأنه إنما قال ما قال بناءً على الاستبعاد العادي واستعظاماً للأمر . وقد قيل : فاعلُ تبيَّن مُضمرٌ يفسرُه مفعولُ { أَعْلَمُ } ، أي فلما تبيّن له أن الله على كل شيء قدير قال أعلم أن الله على كل شيء قدير فتدبر . وقرىء تُبُيِّن له على صيغة المجهول وقرىء : قالَ اعْلَمْ على صيغة الأمر ، رُوي أنه ركب حماره وأتى مَحَلّته وأنكره الناسُ وأنكر الناسَ وأنكر المنازلَ فانطلق على وهْمٍ منه حتى أتى منزلَه فإذا هو بعجوزٍ عمياءَ مُقعَدةٍ قد أدركت زمنَ عُزيرٍ فقال لها عزيرٌ : يا هذه هذا منزلُ عزيرٍ؟ قالت : نعم وأين ذكرى عزير وقد فقدناه منذ كذا وكذا فبكت بكاءً شديداً قال : فإني عزيرٌ قالت : سبحان الله أنى يكونُ ذلك؟ قال : قد أماتني الله مائة عام ثم بعثني قالت : إن عزيراً كان رجلاً مستجابَ الدعوة فادعُ الله لي يردُّ عليَّ بصري حتى أراك فدعا ربه ومسَحَ بيده عينيها فصحَّتا فأخذ بيدها فقال لها : قومي بإذن الله فقامت صحيحةً كأنها نشِطَتْ من عِقالٍ فنظرت إليه فقالت : أشهدُ أنك عزيرٌ فانطلقت إلى مَحَلّة بني إسرائيلَ وهم في أنديتهم وكان بها ابنٌ لعزير قد بلغ مائة وثمانيَ عشْرةَ سنةً وبنو بنيه شيوخ فنادت هذا عزيرٌ قد جاءكم فكذبوها فقالت : انظُروا فإني بدعائه رجعت إلى هذه الحالة فنهض الناسُ فأقبلوا إليه فقال ابنه : كان لأبي شامةٌ سوداءُ بين كتِفَيه مثلَ الهلالِ فكشف فإذا هو كذلك وقد كان قتل بُختُ نَصَّرُ ببيت المقدس من قرّاء التوراةِ أربعين ألفِ رجل ولم يكن يومئذ بينهم نسخةٌ من التوراة ولا أحدٌ يعرفُ التوراةَ فقرأها عليهم عن ظهر قلبه من غير أن يخْرِم منها حرفاً فقال رجل من أولاد المَسْبيّين ممن ورد بيتَ المقدس بعد مهلِك بُختَ نَصَّرَ : حدثني أبي عن جدي أنه دفن التوراةَ يوم سُبينا في خابيةٍ في كَرْم فإن أرَيتُموني كرمَ جدّي أخرجتُها لكم فذهبوا إلى كرم جدِّه ففتشوا فوجدوها فعارضوها بما أملى عليهم عُزيرٌ من ظهر القلب فما اختلفا في حرف واحد فعند ذلك قالوا : هو ابنُ الله ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .(1/318)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
{ وَإِذْ قَالَ إبراهيم } دليلٌ آخرُ على ولايته تعالى للمؤمنين وإخراجِه لهم من الظلمات إلى النور وإنما لم يسلُك به مسلكَ الاستشهاد كما قبله بأن يقال أو كالذي قال : ربِّ الخ لجَرَيان ذكره عليه السلام في أثناء المُحاجَّة ولأنه لا دخْلَ لنفسه عليه السلام في أصل الدليل كدأب عُزيرٍ عليه السلام فإن ما جَرى عليه من إحيائه بعد مائةِ عامٍ من جملة الشواهد على قدرته تعالى وهدايته ، والظرفُ منتصبٌ بمُضمرٍ صُرِّح بمثله في نحو قوله تعالى : { واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء } أي واذكر وقت قوله عليه السلام وما وقع حينئذ من تعاجيب صنعِ الله تعالى لتقِفَ على ما مرَّ من ولايته تعالى وهدايته . وتوجيهُ الأمرِ بالذكر في أمثال هذه المواقعِ إلى الوقت دون ما وقع فيه من الواقعات مع أنها المقصودة بالتذكير لما ذُكر غير مرة من المبالغة في إيجاب ذكرِها لما أن إيجابَ ذكرِ الوقت إيجابٌ لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهاني ولأن الوقتَ مشتمِلٌ عليها مفصّلةً فإذا استُحضِرَ كانت حاضرةً بتفاصيلها بحيث لا يشِذُّ عنها شيءٌ مما ذكر عند الحكاية أو لم يُذْكَرْ كأنها مشاهدةٌ عِياناً { رَبّ } كلمة استعطافٍ قُدّمت بين يدي الدعاء مبالغةً في استدعاء الإجابة { أَرِنِى } من الرؤية البَصَرية المتعدِّية إلى واحدٍ وبدخول همزةِ النقل طلبَتْ مفعولاً آخرَ هو الجملةُ الاستفهامية المعلِّقةُ لها فإنها تعلِّق كما يُعلَّق النظرُ البصَريُّ أي اجعلني مبصراً { كَيْفَ تُحْىِ الموتى } بأن تحيِيهَا وأنا أنظرُ إليها ، وكيف في محل نصبٍ على التشبيه بالظرف عند سيبويه ، وبالحال عند الأخفش ، والعاملُ فيها تحيي أي في أيِّ حال أو على أيِّ حالٍ تحيي . قال القرطبيُّ : الاستفهامُ بكيف إنما هو سؤالٌ عن حال شيءٍ متقررِ الوجود عند السائلِ والمسؤولِ ، فالاستفهامُ هاهنا عن هيئة الإحياءِ المتقرّر عند السائل أي بصِّرْني كيفيةَ إحيائِك للموتى ، وإنما سأله عليه السلام ليتأيّد إيقانُه بالعِيان ويزدادَ قلبُه اطمئناناً على اطمئنان ، وأما ما قيل من أن نمرودَ لما قال : أنا أحيي وأميت قال إبراهيمُ عليه السلام : «إن إحياءَ الله تعالى بردِّ الأرواح إلى الأجساد» فقال نمرودُ : هل عاينتَه فلم يقدِرْ على أن يقول : نعم فانتقل إلى تقريرٍ آخرَ ثم سأل ربه أن يُرِيَه ذلك فيأباه تعليلُ السؤال بالاطمئنان .
{ قَالَ } استئناف كما مر غيرَ مرة { أَوَلَمْ تُؤْمِن } عطفٌ على مقدرٍ أي ألم تعلمْ ولم تؤمنْ بأني قادرٌ على الإحياء كيف أشاء حتى تسألَني إراءتَه قال عز وعلا وهو أعلم بأنه عليه السلام أثبتُ الناسِ إيماناً وأقواهم يقيناً : ليجيبَ بما أجاب به فيكون ذلك لطفاً للسامعين { قَالَ بلى } علِمت وآمنتُ بأنك قادر على الإحياء على أي كيفية شئت { ولكن } سألت ما سألت { لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } بمُضامَّة العِيانِ إلى الإيمان والإيقان وأزدادَ بصيرةً بمشاهدته على كيفية معينة .(1/319)
{ قَالَ فَخُذْ } الفاءُ لجواب شرطٍ محذوف أي إن أردت ذلك فخُذ { أَرْبَعَةً مّنَ الطير } قيل : هو اسمٌ لجمعِ طائر ، كرَكْبٍ وسَفْرٍ وقيل : جمعٌ له كتاجرٍ وتَجْرٍ وقيل : هو مصدرٌ سمي به الجنسُ وقيل : هو تخفيفُ طيّرٍ بمعنى طائر كهيْنٍ في هيّن ، ومِنْ متعلقة بخُذ أو بمحذوف وقع صفةً لأربعةً أي أربعةً كائنة من الطير ، قيل : هي طاووسٌ وديكٌ وغرابٌ وحَمامةٌ وقيل : نَسْرٌ بدلَ الأخير ، وتخصيصُ الطير بذلك لأنه أقربُ إلى الإنسان وأجمعُ لخواصِّ الحيوان ولسهولةِ تأتيِّ ما يُفعلُ به من التجزئة والتفريق وغيرِ ذلك { فَصُرْهُنَّ } من صارَه يصورُه أي أماله وقرىء بكسر الصاد من صاره يَصيره ، أي أمِلْهن واضمُمْهن وقرىء فصُرَّهن بضم الصاد وكسرها وتشديد الراء من صرَّه يصِرُّه ويصُره إذا جمعه وقرىء فصَرِّهِنّ من التَّصْرية بمعنى الجمع أي اجمَعْهن { إِلَيْكَ } لتتأملَها وتعرِفَ شِياتِها مفصَّلةً حتى تعلم بعد الإحياءِ أن جزءاً من أجزائها لم ينتقِلْ من موضعه الأول أصلاً ، روي أنه أُمر بأن يذبَحها وينتِفَ ريشها ويقطّعها ويفرِّق أجزاءها ويخلِطَ ريشها ودماءَها ولحومَها ويمسك رؤسها ثم أمر بأن يجعل أجزاءها على الجبال وذلك قوله تعالى : { ثُمَّ اجعل على كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا } أي جزِّئهن وفرِّق أجزاءَهن على ما بحضرتك من الجبال قيل : كانت أربعة أجبُل وقيل : سبعة ، فجعل على كل جبل رُبُعاً أو سُبعاً من كل طائر ، وقرىء جُزُؤاً بضمتين وجُزّاً بالتشديد بطرح همزته تخفيفاً ثم تشديدِه عند الوقف ثم إجراءِ الوصل مْجرى الوقف .
{ ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ } في حيز الجزمِ على أنه جواب الأمر ولكنه بُني لاتصاله بنون جمع المؤنث { سَعْيًا } أي ساعيات مسرعات أو ذواتِ سعيٍ طيراناً أو مشياً وإنما اقتصر على حكاية أوامره عز وجل من غير تعرضٍ لامتثاله عليه السلام ولا لما ترتب عليه من عجائب آثارِ قدرتِه تعالى كما روي أنه عليه السلام نادى فقال : « تعالَيْنَ بإذن الله » فجعل كلُّ جزءٍ منهن يطير إلى صاحبه حتى صارت جثثاً ثم أقبلْن إلى رؤوسهن فانضمَّتْ كلُّ جثةٍ إلى رأسها فعادت كلُّ واحدة منهن إلى ما كانت عليه من الهيئة للإيذان بأن ترتب تلك الأمورِ على الأوامر الجليلةِ واستحالةَ تخلّفها عنها من الجلاء والظهورِ بحيث لا حاجة له إلى الذكر أصلاً وناهيك بالقصة دليلاً على فضل الخليل ويُمْنِ الضراعة في الدعاء وحُسنِ الأدب في السؤال حيث أراه الله تعالى ما سأله في الحال على أيسرِ ما يكون من الوجوه وأرى عُزيراً ما أراد بعدما أماته مائة عام { واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ } غالبٌ على أمره لا يُعجزُه شيء عما يريده { حَكِيمٌ } ذو حكمةٍ بالغة في أفاعيله فليس بناءُ أفعاله على الأسباب العادية لعجزه عن إيجادها بطريق آخرَ خارقٍ للعادات بل لكونه متضمناً للحِكَم والمصالح .(1/320)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
{ مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سَبِيلِ الله } أي في وجوه الخيرِ من الواجب والنفل { كَمَثَلِ حَبَّةٍ } لا بد من تقديرِ مضافٍ في أحد الجانبين أي مَثلُ نفقتِهم كمثلِ حبةً أو مَثلُهم كمَثلِ باذرِ حبة { أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ } أي خرَّجت ساقاً تشعّب منها سبعُ شُعبٍ لكل واحدة منها سنبلة { فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ } كما يشاهَد ذلك في الذُرة والدخن في الأراضي المغلة بل أكثر من ذلك ، وإسنادُ الإنباتِ إلى الحبة مجازيٌ كإسناده إلى الأرض والربيع ، وهذا التمثيلُ تصويرٌ للأضعاف كأنها حاضرةٌ بين يدَي الناظر { والله يضاعف } تلك المضاعفةَ أو فوقها إلى ما شاء الله تعالى { لِمَن يَشَاء } أن يضاعِفَ له بفضله على حسب حالِ المنفِق من إخلاصه وتعبِه ولذلك تفاوتت مراتبُ الأعمال في مقادير الثواب { والله واسع } لا يَضيقُ عليه ما يتفضّل به من الزيادة { عَلِيمٌ } بنية المنفقِ ومقدارِ إنفاقِه وكيفيةِ تحصيلِ ما أنفقه { الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سَبِيلِ الله } جملةٌ مبتدأةٌ جيء بها لبيان كيفيةِ الإنفاق الذي بُيِّن فضلُه بالتمثيل المذكور { ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ } أي ما أنفقوه أو إنفاقَهم { مَنّا وَلا أَذًى } المن أن يَعتدَّ على مَنْ أحسن إليه بإحسانه ويُريَه أنه أوجبُ بذلك حقاً والأذى أن يتطاولَ عليه بسبب إنعامه عليه وإنما قُدم المن لكثرة وقوعِه ، وتوسيطُ كلمة { لا } للدَلالة على شمول النفي لإتباع كل واحدٍ منهما و { ثُمَّ } لإظهار علوِّ رتبة المعطوف ، قيل : نزلت في عثمان رضي الله عنه حين جهز جيش العُسرة بألفِ بعير بأقتابها وأحلاسها وعبدِ الرحمن بنِ عوف رضي الله عنه حين أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم بأربعة آلاف درهم صدقةً ولم يكَدْ يخطُر ببالها شيءٌ من المن أو الأذى { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } أي حسبما وُعدَ لهم في ضمن التمثيل ، وهو جملةٌ من مبتدأ وخبر وقعت خبراً عن الموصول ، وفي تكرير الإسناد وتقييدِ الأجر بقوله : { عِندَ رَبّهِمْ } من التأكيد والتشريفِ ما لا يخفى ، وتخليةُ الخبر عن الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها للإيذان بأن ترتبَ الأجر على ما ذكر من الإنفاق وتركَ إِتباعِ المن والأذى أمرٌ بيِّن لا يحتاج إلى التصريح بالسببية وأما إيهامُ أنهم أهلٌ لذلك وإن لم يفعلوا فكيف بهم إذا فعلوا فيأباه مقامُ الترغيب في الفعل والحث عليه { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } في الدارين من لحوق مكروهٍ من المكاره { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } لفوات مطلوبٍ من المطالب قلَّ أو جلَّ ، أي لا يعتريهم ما يوجبه لا أنه يعتريهم ذلك لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم خوفٌ وحزن أصلاً بل يستمرون على النشاط والسرور ، كيف لا واستشعارُ الخوف والخشية استعظاماً لجلال الله وهيبته واستقصاراً للجِد والسعي في إقامة حقوقِ العبودية من خواصِّ الخاصةِ والمقرَّبين ، والمرادُ بيانُ دوامِ انتفائِهما لا بيانُ انتفاءِ دوامِهما كما يوهمه كونُ الخبر في الجملة الثانية مضارعاً عالماً أن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيدُ الدوام والاستمرار بحسب المقام .(1/321)
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
{ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } أي كلام جميل تقبله القلوبُ ولا تُنكِره يُرد به السائلُ من غير إعطاء شيءٍ { وَمَغْفِرَةٌ } أي سَترٌ لما وقع من السائل من الإلحاف في المسألة وغيره مما يَثقُل على المسؤول وصفحٌ عنه . وإنما صح الابتداءُ بالنكرة في الأول لاختصاصها بالوصف وفي الثاني بالعطف أو بالصفة المقدرة أي ومغفرة كائنة من المسؤول { خَيْرٌ } أي للسائل { مّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى } لكونها مشوبةً بضررِ ما يتبعها وخلوصِ الأولَيْن من الضرر ، والجملة مستأنفةٌ مقرِّرة لاعتبار ترك إتباعِ المن والأذى ، وتفسيرُ المغفرة بنيل مغفرةٍ من الله تعالى بسبب الرد الجميل أو بعفو السائل بناءً على اعتبار الخيرية بالنسبة إلى المسؤول يؤدّي إلى أن يكون في الصدقة الموصوفةِ بالنسبة إليه خيرٌ في الجملة مع بطلانها بالمرة { والله غَنِىٌّ } لا يُحوِجُ الفقراءَ إلى تحمل مؤنةِ المنِّ والأذى ويرزقُهم من جهةٍ أخرى { حَلِيمٌ } لا يعاجل أصحابَ المن والأذى بالعقوبة لا أنهم لا يستحقونها بسببهما ، والجملةُ تذييلٌ لما قبلها مشتمِلٌ على الوعد والوعيد مقرِّرٌ لاعتبار الخيرية بالنسبة إلى السائل قطعاً . { يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } أقبل عليهم بالخطاب إثرَ بيانٍ ما بطريق الغَيبة مبالغةً في إيجاب العمل بموجب النهي { لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والاذى } أي لا تُحبِطُوا أجرَها بواحدٍ منهما { كالذى } في محل النصب إما على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي لا تُبطِلوها إبطالَ الذي { يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء الناس } وإما على أنه حالٌ من فاعل لا تُبطلوها مشابهين الذي ينفق ، أي الذي يُبطل إنفاقَه بالرياء ، وقيل من ضمير المصدر المقدر على ما هو رأيُ سيبويه ، وانتصابُ رئاءَ إما على أنه عِلةٌ لينفق أي لأجل رئائهم أو على أنه حال من فاعله أي ينفق ماله مرائياً والمراد به المنافقُ لقوله تعالى : { وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الاخر } حتى يرجوَ ثواباً أو يخشى عقاباً .
{ فَمَثَلُهُ } الفاء لربط ما بعدها بما قبلها أي فمثل المرائي في الإنفاق وحالته العجيبة { كَمَثَلِ صَفْوَانٍ } أي حَجَرٍ أملسَ { عَلَيْهِ تُرَابٌ } أي شيء يسير منه { فَأَصَابَهُ وَابِلٌ } أي مطرٌ عظيمُ القطر { فَتَرَكَهُ صَلْدًا } أملسَ ليس عليه شيءٌ من الغبار أصلاً { لاَّ يَقْدِرُونَ على شَىْء مّمَّا كَسَبُواْ } لا ينتفعون بما فعلوا رياءً ، ولا يجدون له ثواباً قطعاً كقوله تعالى : { فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } والجملة استئنافٌ مبنيٌّ على السؤال كأنه قيل : فماذا يكونُ حالُهم حينئذٍ فقيل : لا يقدِرون الخ ومن ضرورة كونِ مَثَلِهم كما ذُكر كونُ مَثَلِ من يُشبِهُهم وهم أصحابُ المن والأذى كذلك والضميران الأخيران للموصول باعتبار المعنى كما في قوله عز وجل : { وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ } لما أن المراد به الجنسُ أو الجمعُ أو الفريق كما أن الضمائرَ الأربعةَ السابقة له باعتبار اللفظ { والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } إلى الخير والرشاد ، والجملةُ تذييلٌ مقرِّر لمضمون ما قبله ، وفيه تعريضٌ بأن كلاًّ من الرياء والمنِّ والأذى من خصائص الكفارِ ولا بد للمؤمنين أن يجتنبوها .(1/322)
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
{ وَمَثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم ابتغاء مَرْضَاتَ الله } أي لطلب رضاه { وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ } أي ولتثبيت بعضِ أنفسِهم على الإيمان فمن تبعيضية كما في قولهم : هزّ مِنْ عِطفه وحرك مِنْ نشاطه فإن المالَ شقيقُ الروح فمن بذل مالَه لوجه الله تعالى فقد ثبّت بعضَ نفسه ومن بذل مالَه وروحَه فقد ثبتها كلها ، أو تصديقاً للإسلام وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسِهم فمن ابتدائية كما في قوله تعالى : { حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } ويحتمل أن يكون المعنى وتثبيتاً من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقةُ الإيمان مخلصةٌ فيه ، ويعضُده قراءةُ من قرأ وتبييناً من أنفسهم وفيه تنبيهٌ على أن حكمةَ الإنفاق للمنفق تزكيةُ النفس عن البخل وحبِّ المال الذي هو رأسُ كل خيئة .
{ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ } الرَّبوة بالحركات الثلاث وقد قرىء بها المكانُ المرتفع أي مثَلُ نفقتِهم في الزكاء كمثل بُستان كائنٍ بمكان مرتفعٍ مأمونٍ من أن يصطلِمَه البردُ لِلطافة هوائهِ بهبوب الرياحِ المُلطّفة له فإن أشجارَ الرُبا تكون أحسنَ منظراً وأزكى ثمراً وأما الأراضي المنخفضةُ فقلما تسلم ثمارُها من البرد لكثافة هوائِها بركود الرياحِ وقرىء كمثل حبةٍ { أَصَابَهَا وَابِلٌ } مطر عظيمُ القطر { فَأَتَتْ أُكُلَهَا } ثمرتها وقرىء بسكون الكاف تخفيفاً { ضِعْفَيْنِ } أي مِثليْ ما كانت تُثمر في سائر الأوقات بسبب ما أصابها من الوابل ، والمرادُ بالضِعف المِثْلُ وقيل : أربعةُ أمثال ، ونصبُه على الحال من { أُكُلُهَا } أي مضاعفاً { فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } أي فطلٌ يكفيها لجودتها وكَرَمِ منبتِها ولَطافةِ هوائِها وقيل : فيصيبها طلٌّ وهو المطرُ الصغيرُ القطرِ وقيل : فالذي يصيبها طلٌّ والمعنى أن نفقاتِ هؤلاءِ زاكيةٌ عند الله تعالى لا تَضيعُ بحال وإن كانت تتفاوتُ باعتبار ما يقارنها من الأحوال ، ويجوزُ أن يعتبر التمثيلُ بين حالهم باعتبار ما صدر عنهم من النفقة الكثيرةِ والقليلةِ وبين الجنةِ المعهودةِ باعتبار ما أصابها من المطر الكثير واليسير ، فكما أن كلَّ واحد من المطرين يُضعِفُ أُكُلَها فكذلك نفقتُهم جلّت أو قلَّت بعد أن يُطلَبَ بها وجهُ الله تعالى زاكيةٌ زائدةٌ في زُلفاهم وحسنِ حالهم عند الله { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } لا يخفى عليه شيء منه وهو ترغيبٌ في الإخلاص مع تحذير من الرياء ونحوه .(1/323)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
{ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ } الوُدُّ حبُّ الشيء مع تمنِّيه ولذلك يُستعمل استعمالَهما والهمزةُ لإنكار الوقوع كما في قوله : أأضرب أبي؟ لا لإنكار الواقع كما في قولك : أتضرب أباك؟ على أن مناطَ الإنكارِ ليس جميعَ ما تعلّق به الوُدّ بل إنما هو إصابةُ الإعصارِ وما يتبعُها من الاحتراق { أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ } وقرىء جناتٌ { مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } أي كائنةٍ منهما على أن يكون الأصلُ والركنُ فيها هذين الجنسينِ الشريفينِ الجامعين لفنون المنافع والباقي من المستتبِعات لا على ألا يكونَ فيها غيرُهما كما ستعرِفه ، والجنَّةُ تطلق على الأشجار الملتفة المتكاتفة قال زهير :
كأن عينيَّ في غربيِّ مفتلة ... من النواضِحِ تسقي جنةً سحقاً
وعلى الأرض المشتملةِ ، عليها والأولُ هو الأنسبُ بقوله عز وجل : { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار } إذ على الثاني لا بد من تقدير مضافٍ أي من تحت أشجارها وكذا لا بد من جعل إسناد الاحتراق إليها فيما سيأتي مجازياً ، والجملةُ في محل الرفع على أنها صفةُ جنةٍ كما أن قوله تعالى : { مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } كذلك أوفى محل النصب على أنها حالٌ منها لأنها موصوفة { لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثمرات } الظرفُ الأولُ خبرٌ والثاني حالٌ والثالثُ مبتدأ أي صفة للمبتدأ قائمة مَقامه أي له رزقٌ من كل الثمرات كما في قوله تعالى : { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } أي وما منا أحد إلا له الخ وليس المرادُ بالثمرات العمومَ بل إنما هو التكثيرُ كما في قوله تعالى : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء } { وَأَصَابَهُ الكبر } أي كِبَرُ السنِّ الذي هو مَظِنَّةُ شدَّةِ الحاجة إلى منافعها ومئنة كمالِ العجز عن تدارُك أسبابِ المعاش ، والواو حالية أي وقد أصابه الكبر { وَلَهُ ذُرّيَّةٌ ضُعَفَاء } حالٌ من الضمير في أصابه أي أصابه الكِبَرُ والحال أن له ذريةٌ صِغاراً لا يقدرون على الكسب وترتيب مبادىء المعاش وقرىء ضعاف { فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ } أي ريحٌ عاصفةٌ تستدير في الأرض ثم تنعكس منها ساطعةً إلى السماء على هيئة العَمود { فِيهِ نَارٌ } شديدةٌ { فاحترقت } عطفٌ على ( فأصابها ) وهذا كما ترى تمثيلٌ لحال من يعمل أعمالَ البرِّ والحسناتِ ويضُمُّ إليها ما يُحبِطُها من القوادح ثم يجدُها يوم القيامة عند كمال حاجته إلى ثوابها هباءً منثوراً بها في التحسّر والتأسّف عليها { كذلك } توحيدُ الكاف مع كون المخاطَب جمعاً قد مر وجهُه مراراً أي مثلَ ذلك البيان الواضحِ الجاري في الظهور مجرى الأمورِ المحسوسة { يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } كي تتفكروا فيها وتعتبروا بما فيها من العِبَر وتعملوا بموجبها .(1/324)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ } بيانٌ لحال ما يُنفَقُ منه إثرَ بيانِ أصلِ الإنفاق وكيفيته ، أي أنفقوا من حلال ما كسبتم وجيادِه لقوله تعالى : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ * مَّا تُحِبُّونَ } { وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الارض } أي من طيبات ما أخرجنا لكم من الحبوب والثمار والمعادِن فحذف المضافُ لدِلالة ما قبله عليه { وَلاَ تَيَمَّمُواْ } بفتح التاء أصله ولا تتيمّموا ، وقرىء بضمها ، وقرىء ولا تأَمّموا والكلّ بمعنى القصد أي لا تقصِدوا { الخبيث } أي الرديءَ الخسيسَ وهو كالطيب من الصفات الغالبة التي لا تُذكرُ موصوفاتها { مِنْهُ تُنفِقُونَ } الجارُّ متعلق بتنفقون والضميرُ للخبيث والتقديمُ للتخصيص والجملةُ حال من فاعل تيمّموا أي لا تقصِدوا الخبيثَ قاصرين الإنفاقَ عليه أو من الخبيث أي مختصًّا به الإنفاقُ ، وأيًّا ما كان فالتخصيصُ لتوبيخهم بما كانوا يتعاطَوْنه من إنفاق الخبيثِ خاصة لا لتسويغ إنفاقِه مع الطيب عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم كانوا يتصدقون بحشَفِ التمر وشِرارِه فنُهوا عنه وقيل : متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من الخبيث ، والضميرُ للمال المدلول عليه بحسب المقام أو للموصولَين على طريقة قوله :
كأنه في الجلد توليعُ البَهَقْ ... أو للثاني ، وتخصيصُه بذلك لما أن التفاوتَ فيه أكثرُ ، وتنفقون حال من الفاعل المذكور أي ولا تقصِدوا الخبيث كائناً من المال أو مما كسبتم ، ومما أخرجنا لكم منفِقين إياه وقوله تعالى : { وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ } حال على كل حال من واو تنفقون أي والحال أنكم لا تأخذونه في معاملاتكم في وقت من الأوقات أو بوجه من الوجوه { إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } أي إلا وقتَ إغماضِكم فيه وهو عبارةٌ عن المسامحة بطريق الكِناية أو الاستعارة يقال : أغمضَ بصرَه إذا غضّه ، وقرىء على البناء للمفعول على معنى إلا أن تُحمَلوا على الإغماض وتدخُلوا فيه أو توجَدوا مغمِضين ، وقرىء وتَغمِضوا وتَغمُضوا بضم الميم وكسرها وقيل : تم الكلام عند قوله تعالى : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث } ثم استُؤنف فقيل : على طريقة التوبيخ والتقريع : منه تنفِقون والحالُ أنكم لا تأخُذونه إلا إذا أغمَضْتم فيه ، ومآلُه الاستفهامُ الإنكاريُّ فكأنه قيل : أمِنْه تنفقون الخ { واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ } عن إنفاقكم وإنما يأمرُكم به لمنفعتكم . وفي الأمر بأن يعلموا ذلك مع ظهور علمِهم به توبيخٌ لهم على ما يصنعون من إعطاء الخبيث وإيذانٌ بأن ذلك من آثار الجهلِ بشأنه تعالى فإن إعطاءَ مثلِه إنما يكون عادةً عند اعتقادِ المعطي أن الآخذَ محتاجٌ إلى ما يعطيه بل مضطرٌ إليه { حَمِيدٌ } مستحِقٌّ للحمد على نعمه العِظام وقيل : حامد بقبول الجيّد والإثابة عليه . { الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر } الوعدُ هو الإخبارُ بما سيكون من جهة المخبِر مترتباً على شيء من زمان أو غيره يُستعمل في الشر استعمالَه في الخير قال تعالى :(1/325)
{ النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ } أي يعدُكم في الإنفاق الفقرَ ويقول : إن عاقبة إنفاقِكم أن تفتقِروا وإنما عبر عن ذلك بالوعد مع أن الشيطان لم يُضِف مجيءَ الفقرِ إلى جهته للإيذان بمبالغته في الإخبار بتحقق مجيئه كأنه نزّله في تقرّر الوقوعِ منزلةَ أفعالِه الواقعةِ بحسب إرادته ، أو لوقوعه في مقابلة وعدِه تعالى على طريقة المشاكلة وقرىء بضم الفاء والسكون وبضمتين وبفتحتين { وَيَأْمُرُكُم بالفحشاء } أي بالخَصلة الفحشاء أي ويغريكم على البخل ومنه الصدقاتُ إغراءُ الآمرِ للمأمور على فعل المأمور به والعربُ تسمي البخيلَ فاحشاً قال طرفةُ بن العبد :
أرى الموتَ يعتامُ الكرامَ ويصطفي ... عقيلةَ مالِ الفاحشِ المتشدِّدِ
وقيل بالمعاصي والسيِّئات { والله يَعِدُكُم } أي في الإنفاق { مَغْفِرَةٍ } لذنوبكم والجارُّ في قوله تعالى : { مِنْهُ } متعلقٌ بمحذوف هو صفةٌ لمغفرةً مؤكدةٌ لفخامتها التي أفادها تنكيرُها أي مغفرةً أيَّ مغفرةٍ كائنةً منه عز وجل { وَفَضْلاً } صفتُه محذوفةٌ لدلالة المذكور عليها كما في قوله تعالى : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مّنَ الله وَفَضْلٍ } ونظائرِه أي وفضلاً كائناً منه تعالى أي خلَفاً مما أنفقتم زائداً عليه في الدنيا ، وفيه تكذيبٌ للشيطان ، وقيل : ثواباً في الآخرة { والله واسع } قدرةً وفضلاً فيحقق ما وعدكم به من المغفرة وإخلافِ ما تنفقونه { عَلِيمٌ } مبالِغٌ في العلم فيعلم إنفاقَكم فلا يكاد يُضيع أجرَكم أو يعلمُ ما سيكون من المغفرة والفضل فلا احتمال للخُلْف في الوعد ، والجملةُ تذييلٌ مقررٌ لمضمون ما قبله .(1/326)
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
{ يُؤْتِى الْحِكْمَةَ } قال مجاهد الحِكمةُ هي القرآنُ والعلمُ والفِقهُ . روي عن ابن أبي نجيح أنها الإصابة في القول والعمل ، وعن إبراهيم النخعي أنها معرفة معاني الأشياء وفهمُها وقيل : هي معرفةُ حقائِقِ الأشياءِ وقيل : هي الإقدامُ على الأفعال الحسنةِ الصائبة . وعن مقاتل أنها تفسر في القرآن بأربعة أوجهٍ : فتارةً بمواعظِ القرآنِ وأخرى بما فيه من عجائب الأسرار ، ومرةً بالعلم والفهم وأخرى بالنبوة ولعل الأنسبَ بالمقام ما ينتظم الأحكامَ المبينة في تضاعيف الآياتِ الكريمةِ من أحد الوجهين الأولين ومعنى إيتائِها تبيينُها والتوفيقُ للعلم والعمل بها أي يبينها ويوفِّقُ للعلم والعمل بها { مَن يَشَآء } من عباده أن يؤتيها إياه بموجب سعةِ فضلِه وإحاطةِ علمه كما آتاكم ما بيّنه في ضمن الآي من الحِكَم البالغة التي يدور عليها فلَكُ منافعِكم فاغتنموها وسارعوا إلى العمل بها ، والموصولُ مفعول ، أول ليؤتي قدم عليه الثاني للعناية به والجملةُ مستأنفة مقرّرةٌ لمضمون ما قبلها { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ } على بناء المفعول وقرىء على البناء للفاعل أي ومن يؤتهِ اللَّهُ الحكمةَ والإظهارُ في مقام الإضمار لإظهار الاعتناءِ بشأنها وللإشعار بعِلة الحِكم { فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } أي أيَّ خيرٍ كثير فإنه قد خِيرَ له خيرُ الدارين { وَمَا يَذَّكَّرُ } أي وما يتعظ بما أوتي من الحكمة أو وما يتفكر فيها { إِلاَّ أُوْلُواْ الالباب } أي العقولِ الخالصةِ عن شوائب الوهم والرّكونِ إلى مشايعة الهوى وفيه من الترغيب في المحافظة على الأحكام الواردةِ في شأن الإنفاق ما لا يخفى ، والجملةُ إما حالٌ أو اعتراضٌ تذييلي .(1/327)
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
{ وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ } بيانٌ لحكمٍ كلي شاملٍ لجميع أفراد النفقاتِ وما في حكمها إثرَ بيانِ حكمِ ما كان منها في سبيل الله ، و { مَا } إما شرطية أو موصولة حُذف عائدُها من الصلة أي وما أنفقتموه من نفقة أيِّ نفقةٍ كانت في حق أو باطلٍ في سرَ أو علانية قليلةٍ أو كثيرة { أَوْ نَذَرْتُم } النذرُ عقدُ الضمير على شيءٍ والتزامُه ، وفعلُه كضرب ونصر { مّن نَّذْرٍ } أيِّ نذرٍ كان في طاعةٍ أو معصية بشرطٍ أو بغير شرط متعلقٍ بالمال أو بالأفعال كالصيامِ والصلاةِ ونحوهما { فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ } الفاء على الأول داخلةٌ على الجواب وعلى الثاني مزيدةٌ في الخبر وتوحيدُ الضمير مع تعدّدِ متعلَّق العلم لاتحاد المرجع بناءً على كون العطف بكلمة أو كما في قولك : زيدٌ أو عمرٌو أكرمتُه ، ولا يقال : أكرمتُهما ولهذا صِرنا إلى التأويل في قوله تعالى : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا } بل يعادُ الضميرُ تارةً إلى المقدَّم رعايةً للأولية كما في قوله عز وعلا : { وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } وأخرى إلى المؤخَّر رعايةً للقُرب كما في هذه الآية الكريمة وفي قوله تعالى : { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً } وحملُ النظم على تأويلهما بالمذكور ونظائِره أو على حذف الأول ثقةً بدلالة الثاني عليه كما في قوله تعالى : { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله } وقوله :
نحنُ بما عندنا وأنت بما ... عندكَ راضٍ والرأيُ مختلفُ
ونحوِهما مما عُطف فيه بالواو الجامعةِ تعسفٌ مستغنىً عنه . نعم يجوز إرجاعُ الضمير إلى { مَا } على تقدير كونِها موصولةً ، وتصديرُ الجملة بإن لتأكيدِ مضمونِها إفادةً لتحقيق الجزاء ، أي فإنه تعالى يجازيكم عليه ألبتةَ إن خيراً فخيرٌ وإن شرًّا فشرٌّ فهو ترغيبٌ وترهيب ووعدٌ ووعيد { وَمَا للظالمين } بالإنفاق والنذر في المعاصي أو بمنع الصدقاتِ وعدمِ الوفاء بالنذر أو بإنفاق الخبيثِ أو بالرياء والمنِ والأذى وغيرِ ذلك مما ينتظمُه معنى الظلم الذي هو عبارة عن وضع الشيءِ في غير موضعِه الذي يحِقُّ أن يوضعَ فيه { مِنْ أَنصَارٍ } أي أعوان ينصرونهم من بأس الله وعقابِه لا شفاعةً ولا مدافعةً ، وإيرادُ صيغة الجمع لمقابلة الظالمين أي وما لظالم من الظالمين من نصيرٍ من الأنصار ، والجملةُ استئنافٌ مقرِّرٌ لما فيما قبله من الوعيد مفيد لفظاعة حالِ مَنْ يفعل ما يفعل من الظالمين لتحصيل الأعوانِ ورعاية الخُلاّن .
{ إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِىَ } نوعُ تفصيلٍ لبعض ما أُجمل في الشرطية وبيان له ولذلك تُرك العطف بينهما أي إن تُظهِروا الصدقاتِ فنِعمَ شيئاً إبداؤُها بعد أن لم يكن رياءٌ وسمعةٌ وقرىء بفتح النون وكسر العين على الأصل وقرىء بكسر النون وسكون العين وقرىء بكسر النون وإخفاءِ حركة العين ، وهذا في الصدقات المفروضة وأما في صدقة التطوعِ فالإخفاءُ أفضلُ وهي التي أريدت بقوله تعالى : { وَإِن تُخْفُوهَا } أي تعطوها خُفية { وَتُؤْتُوهَا الفقراء } ولعل التصريحَ بإيتائها الفقراءَ مع أنه واجبٌ في الإبداء أيضاً لما أن الإخفاءَ مظِنةُ الالتباسِ والاشتباه فإن الغنيَّ ربما يدّعي الفقرَ ويُقدمُ على قَبول الصدقةِ سرًّا ولا يفعل ذلك عند الناس { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي فالإخفاءِ خيرٌ لكم من الإبداء وهذا في التطوع ، ومن لم يعرف بالمال وأما في الواجب فالأمرُ بالعكس لدفع التهمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : صدقةُ السر في التطوع تفضُل علانيتها سبعين ضعفاً وصدقةُ الفريضة علانيتُها أفضلُ من سرّها بخمسة وعشرين ضِعفاً { وَيُكَفّرُ عَنكُم مّن سَيّئَاتِكُمْ } أي والله يكفرُ أو الإخفاءُ و { مِنْ } تبعيضية أي شيئاً من سيئاتكم كما سترتموها وقيل مزيدةٌ على رأي الأخفش وقرىء بالتاء مرفوعاً ومجزوماً على أن الفعل للصدقات وقرىء بالنون مرفوعاً عطفاً على محل ما بعد الفاء أو على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوف أي ونحن نكفرُ أو على أنها جملةٌ مبتدأةٌ من فعل وفاعل وقرىء مجزوماً عطفاً على محل الفاء وما بعده لأنه جوابُ الشرط { والله بِمَا تَعْمَلُونَ } من الإسرار والإعلان { خَبِيرٌ } فهو ترغيب في الإسرار .(1/328)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } أي لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى فعلِ ما أُمروا به من المحاسن والانتهاءِ عما نُهوا عنه من القبائح المعدودة وإنما الواجبُ عليك الإرشادُ إلى الخير والحثُ عليه والنهيُ عن الشر والردعُ عنه بما أوحي إليك من الآياتِ والذكرِ الحكيم { ولكن الله يَهْدِى } هدايةً خاصةً موصلةً إلى المطلوب حتماً { مَن يَشَآء } هدايتَه إلى ذلك ممن يتذكر بما ذُكّر ويتبعُ الحق ويختار الخيرَ ، والجملةُ معترضة جيء بها على طريق تلوينِ الخطاب ، وتوجيهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الالتفات إلى الغَيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بالمكلفين مبالغةً في حملهم على الامتثال ، فإن الإخبارَ بعدم وجوب تدارُك أمرِهم على النبي صلى الله عليه وسلم مُؤْذنٌ بوجوبه عليهم حسبما ينطِق به ما بعده من الشرطية . وقيل : لما كثُر فقراءُ المسلمين نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن التصدق على المشركين كي تحمِلَهم الحاجة على الدخول في الإسلام فنزلت . أي ليس عليك هُدى مَنْ خالفك حتى تمنعَهم الصدقةَ لأجل دخولهم في الإسلام فلا التفاتَ حينئذٍ في الكلام ، وضميرُ الغيبة للمعهودين من فقراءِ المشركين بل فيه تلوينٌ فقط وقوله تعالى : { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ } على الأول التفاتٌ من الغَيبة إلى خطاب المكلفين لزيادة هزّهم نحو الامتثال ، وعلى الثاني تلوينٌ للخطاب بتوجيهه إليهم وصرفهِ عن النبي صلى الله عليه وسلم و { مَا } شرطية جازمة و { تُنفِقُواْ } منتصبة به على المفعولية ومن تبعيضية متعلقة بمحذوفٍ وقعَ صفةً لاسم الشرط مبيّنةٌ ومخصصةٌ له أي أيِّ شيءٍ تنفقوا كائنٌ من مال { فَلاِنفُسِكُمْ } أي فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيرُكم فلا تمنوا على من أعطيتموه ولا تؤذوه ولا تنفقوا من الخبيث ، أو فنفعُه الدينيَّ لكم لا لغيركم من الفقراء حتى تمنعوه ممن لا ينتفع به من حيث الدينُ من فقراء المشركين { وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ الله } استثناءٌ من أعم العللِ أو أعم الأحوال أي ليست نفقتُكم لشيء من الأشياء إلا لابتغاء وجه الله ، أو ليست في حال من الأحوال إلا حال ابتغاء وجه الله فما بالُكم تمنون بها وتنفقون الخبيثَ الذي لا يوجّه مثلُه إلى الله تعالى وقيل : هو نفيٌ في معنى النهي { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } أي أجرُه وثوابُه أضعافاً مضاعفة حسبما فُصّل فيما قبلُ فلا عذرَ لكم في أن ترغبوا عن إنفاقه على أحسن الوجوهِ وأجملها فهو تأكيد وبيانٌ للشرطية السابقة ، أو يوفَّ إليكم ما يُخلِفُه وهو من نتائج دعائه عليه السلام بقوله : « اللَّهم اجعل للمنفق خلَفاً وللمُمْسِك تلفاً » وقيل : حجت أسماءُ بنت أبي بكرٍ فأتتها أمُّها تسألها وهي مشركة فأبت أن تعطِيَها .
وعن سعيد بنِ جبير أنهم كانوا يتقون أن يرضخوا لقراباتهم من المشركين . وروي أن ناساً من المسلمين كانت لهم أصهارٌ في اليهود ورَضاعٌ كانوا ينفقون عليهم قبل الإسلام فلما أسلموا كرِهوا أن ينفقوا عليهم فنزلت وهذا في غير الواجب وأما الواجب فلا يجوز صرفُه إلى الكافر وإن كان ذميًّا { وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } لا تنقصون شيئاً مما وُعدتم من الثواب المضاعف أو من الخلَف .(1/329)
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
{ لِلْفُقَرَاء } متعلق بمحذوفٍ ينساقُ إليه الكلامُ كما في قوله عز وجل في تسع آيات إلى فرعون أي اعمِدوا للفقراء أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء أو صدقاتِكم للفقراء { الذين أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ الله } بالغزو والجهاد { لاَ يَسْتَطِيعُونَ } لاشتغالهم به { ضَرْبًا فِى الارض } أي ذهاباً فيها للكسب والتجارة وقيل : هم أهلُ الصُّفة كانوا رضي الله عنهم نحواً من أربعمائة من فقراء المهاجرين يسكنون صُفّة المسجدِ يستغرقون أوقاتَهم بالتعلم والجهاد وكانوا يخرجون في كل سَريةٍ بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم { يَحْسَبُهُمُ الجاهل } بحالهم { أَغْنِيَاء مِنَ التعفف } أي من أجل تعفّفهم عن المسألة { تَعْرِفُهُم بسيماهم } أي تعرِف فقرَهم واضطرارهم بما تعايِنُ منهم من الضعف ورَثاثةِ الحال ، والخطابُ للرسول عليه السلام أو لكل أحدٍ ممن له حظ من الخطاب ، مبالغةً في بيان وضوحِ فقرهم { لاَ يسألون الناس إلحافاً } أي إلحاحاً وهو أن يلازِمَ السائلُ المسؤولَ حتى يعطيَه من قولهم لَحفني من فضل لِحافِه أي أعطاني من فضل ما عنده والمعنى لا يسألونهم شيئاً ، وإن سألوا لحاجةٍ اضْطَرَّتهم إليه لم يُلِحّوا ، وقيل : هو نفيٌ لكلا الأمرين جميعاً على طريقة قوله :
على لاحِبٍ لا يُهتدَى لمنارهِ ... أي لا منارَ ولا اهتداء { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } فيجازيكم بذلك أحسنَ جزاء فهو ترغيبٌ في التصدق لا سيما على هؤلاء . { الَّذِينَ يُنفِقُونَ أموالهم باليل والنهار سِرّا وَعَلاَنِيَةً } أي يعُمّون الأوقاتَ والأحوالَ بالخير والصدقة ، وقيل : نزلت في شأن الصديقِ رضي الله عنه حيث تصدّق بأربعينَ ألفَ دينارٍ ، عشرةَ آلافٍ منه بالليل وعشرة بالنهار وعشرةٌ سراً وعشرةٌ علانية . وقيل : في علي رضي الله عنه حين لم يكن عنده إلا أربعةُ دراهمَ فتصدق بكل واحد منها على وجهٍ من الوجوه المذكورة ، ولعل تقديمَ الليل على النهارِ والسرّ على العلانية للإيذان بمزية الإخفاء على الإظهار ، وقيل : في رباط الخيل والإنفاق عليها { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ } خبرٌ للموصول ، والفاءُ للدَلالة على سببية ما قبلها لما بعدَها وقيل : للعطف والخبر محذوف أي ومنهم الذين الخ ولذلك جُوِّز الوقفُ على علانية { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } تقدم تفسيره .(1/330)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الربا } أي يأخُذونه والتعبيرُ عنه بالأكل لما أنه معظمُ ما قُصد به ولشيوعه في المطعومات مع ما فيه من زيادة تشنيعٍ لهم وهو الزيادةُ في المقدار أو في الأجل حسبما فُصّل في كتب الفقه ، وإنما كتب بالواو كالصلوة على لغة من يفخّم في أمثالها وزيدت الألفُ تشبيهاً بواو الجمع { لاَ يَقُومُونَ } أي من قبورهم إذا بُعثوا { إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان } أي إلا قياماً كقيام المصروعِ ، وهو وارد على ما يزعُمون أن الشيطانَ يخبِط الإنسانَ فيُصرعُ ، والخبطُ : الضربُ بغير استواءٍ كخَبْط العشواء { مِنَ المس } أي الجنون ، وهذا أيضاً من زَعَماتهم أن الجِنيَّ يمَسّه فيختلِط عقلُه فلذلك يقال : جُنَّ الرجل ، وهو متعلّق بما قبله من الفعل المنفي أي لا يقومون من المس الذي بهم بسبب أكلِهم الربا ، أو بيقوم أو بيتخبّطه فيكون نهوضُهم وسقوطُهم كالمصروعين لا لاختلال عقولِهم بل لأن الله تعالى أربى في بطونهم ما أكلوا من الربا فأثقلهم فصاروا مُخْبَلين ينهضون ويسقطون ، تلك سيماهم يُعرَفون بها عند أهل الموقف { ذلك } إشارة إلى ما ذكر من حالهم وما في اسم الإشارةِ من معنى البعد للإيذان بفظاعة المشارِ إليه { بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا } أي ذلك العقابُ بسبب أنهم نَظَموا الربا والبيعَ في سلك واحدٍ لإفضائهما إلى الرِّبح فاستحلّوه استحلالَه وقالوا : يجوز بيعُ درهمٍ بدرهمين كما يجوز بيعُ ما قيمتُه درهمٌ بدرهمين بل جعلوا الربا أصلاً في الحِل وقاسوا به البيعَ مع وضوح الفرق بينهما فإن أحدَ الدرهمين في الأول ضائعٌ حتماً وفي الثاني منجبرٌ بمِساس الحاجة إلى السلعة أو بتوقّع رَواجها .
{ وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } إنكارٌ من جهة الله تعالى لتسويتهم وإبطالٌ للقياس لوقوعه في مقابلة النص ، مع ما أشير إليه من عدم الاشتراك في المناطِ ، والجملةُ ابتدائيةٌ لا محلَّ لها من الإعراب { فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ } أي فمن بلغه وعظٌ وزجرٌ كالنهي عن الربا وقرىء جاءتْه { مّن رَّبّهِ } متعلق بجاءه أو بمحذوف وقعَ صفةً لموعظةٌ ، والتعرضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة للإشعار بكون مجيءِ الموعظةِ للتربية { فانتهى } عطفٌ على جاءه أي فاتّعظَ بلا تراخٍ وتبِعَ النهيَ { فَلَهُ مَا سَلَفَ } أي ما تقدم أخذُه قبل التحريم ولا يُستردّ منه و { مَا } مرتفعٌ بالظرف إنْ جُعلت ( مَنْ ) موصولةً وبالابتداء إن جُعلت شرطيةً على رأي سيبويهِ لعدم اعتماد الظرفِ على ما قبله { وَأَمْرُهُ إِلَى الله } يجازيه على انتهائه إن كان عن قَبول الموعظةِ وصِدْقِ النية وقيل : يَحْكُم في شأنه ولا اعتراضَ لكم عليه { وَمَنْ عَادَ } أي إلى تحليل الربا { فَأُوْلَئِكَ } إشارةٌ إلى { مِنْ * عَادٍ } والجمعُ باعتبار المعنى كما أن الإفرادَ في عاد باعتبار اللفظ وما فيه من معنى البُعد للإشعار ببُعد منزلتِهم في الشر والفساد { أصحاب النار } أي ملازموها { هُمْ فِيهَا خالدون } ماكثون فيها أبداً والجملةُ مقررة لما قبلها .(1/331)
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)
{ يَمْحَقُ الله الربا } أي يذهب ببركته ويُهلِكُ المالَ الذي يدخُل فيه { وَيُرْبِى الصدقات } يُضاعفُ ثوابَها ويبارُك فيها ويزيدُ المالَ الذي أُخرجَتْ منه الصدقة . روي عنه صلى الله عليه وسلم : " أن الله يقبلُ الصدقةَ ويُربيها كما يربّي أحدُكم مُهرَه " وعنه عليه الصلاة والسلام : " ما نقصَ مالٌ من صدقةٍ قطُّ " { والله لاَ يُحِبُّ } أي لا يرضى لأن الحبَّ مختصٌّ بالتوابين { كُلَّ كَفَّارٍ } مُصِرَ على تحليل المحرَّمات { أَثِيمٍ } مُنهمِكٍ في ارتكابه { إِنَّ الذين ءامَنُواْ } بالله ورسوله وبما جاءهم به { وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكواة } تخصيصُهما بالذكر مع اندراجهما في الصالحات لإنافتهما على سائر الأعمالِ الصالحة على طريقة ذكرِ جبريلَ وميكالَ عَقيبَ الملائكةِ عليهم السلام { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } جملةٌ من مبتدإٍ وخبرٍ واقعةٌ خبراً لإنَّ أي لهم أجرُهم الموعودُ لهم وقولُه تعالى : { عِندَ رَبّهِمْ } حال من أجرهم ، وفي التعرُّض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم مزيدُ لطفٍ وتشريفٍ لهم { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } من مكروه آتٍ { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } من محبوبٍ فات .
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله } أي قوا أنفسَكم عقابَه { وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الربا } أي واترُكوا بقايا ما شرَطْتم منه على الناس تركاً كلياً { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } على الحقيقة فإن ذلك مستلزِمٌ لامتثال ما أُمِرْتم به اْلبتةَ وهو شرطٌ حُذفَ جوابُه ثقةً بما قبله أي إن كنتم مؤمنين فاتقوا وذرُوه الخ ، رُوي أنه كان لثقيفٍ مالٌ على بعض قريشٍ فطالبوهم عند المَحِلّ بالمال والربا فنزلت { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } أي ما أُمرتم به من الاتقاء وتركِ البقايا إما مع إنكار حُرمتِه وإما مع الاعتراف بها { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ الله وَرَسُولِهِ } أي فاعلَموا بها من أذِن بالشيء إذا علِمَ به ، أما على الأول فكَحربِ المرتدين وأما على الثاني فكحرب البغاة ، وقرىء فآذِنوا أي فأَعْلموا غيرَكم قيل : هو من الأذان وهو الاستماع فإنه من طرُق العلم ، وقرىء فأيقِنوا وهو مؤيِّد لقراءة العامة ، وتنكيرُ حربٍ للتفخيم ، و ( من ) متعلقة بمحذوف وقع صفةً لها مؤكدةً لفخامتها أي بنوعٍ من الحرب عظيمٍ لا يقادَرُ قدرُه كائنٍ من عند الله ورسوله .
روي أنه لما نزلت قالت ثقيفٌ : لا يدَ لنا بحرب الله ورسوله { وَإِن تُبتُمْ } من الارتباء مع الإيمان بحرمتها بعدما سمعتموه من الوعيد { فَلَكُمْ رُءوسُ أموالكم } تأخُذونها كَمَلاً { لاَ تُظْلَمُونَ } غُرماءَكم بأخذ الزيادة ، والجملةُ إما مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب أو حالٌ من الضمير في لكم والعاملُ ما تضمّنه الجارُّ من الاستقرار { وَلاَ تُظْلَمُونَ } عطفٌ على ما قبله ، أي لا تُظلَمون أنتم من قِبَلهم بالمَطْل والنقص ، ومن ضرورة تعليقِ هذا الحكمِ بتوبتهم عدمُ ثبوتِه عند عدمها ، إن كان مع إنكار الحرمةِ فهم مرتدون ، ومالُهم المكسوبُ في حال الرِّدة فيءً للمسلمين عند أبي حنيفةَ رضي الله عنه وكذا سائرُ أموالهم عند الشافعيِّ وعندنا هو لورثتهم ، ولا شيءَ لهم على كل حال ، وإن كان مع الاعتراف بها فإن كان لهم شوكةٌ فهم على شرف القتل لم تسلَم لهم رؤوسُهم فكيف برؤوس أموالهم وإلا فكذلك عند ابن عباس رضي الله عنهما فإنه يقول : «مَنْ عاملَ الربا يستتاب وإلا ضُرب عنقُه» وأما عند غيرِه فهم محبوسون إلى أن تظهرَ توبتُهم لا يُمَكّنون من التصرفات أصلاً فما لم يتوبوا لم يسلَمْ لهم شيءٌ من أموالهم بل إنما يسلَم بموتهم لورثتهم .(1/332)
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
{ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } أي إن وقع غريمٌ من غرمائكم ذو عسرةٍ ، على أن ( كان ) تامة ، وقرىء ذا عسرةٍ على أنها ناقصة { فَنَظِرَةٌ } أي فالحكمُ نظِرةٌ أو فعليكم نظرةٌ أو فلتكم نظرةٌ وهي الإنظارُ والإمهالُ وقرىء فناظِرُه أي مُنتظرُه أو فصاحبُ نَظِرَتِه على طريق النسْب ، وقرىء فناظِرْه أمراً من المفاعلة أي فسامِحْه بالنَّظِرة { إلى مَيْسَرَةٍ } أي إلى يَسار وقرىء بضم السين وهما لغتان كمشْرَقة ومشْرُقة وقرىء بهما مضافتين بحذف التاء عند الإضافة كما في قوله :
وأخلفوك عِدَ الأمرِ الذي وعدوا ... { وَأَن تَصَدَّقُواْ } بحذف أحد التاءين وقرىء بتشديد الصاد أي وأن تتصدقوا على مُعْسري غرمائِكم بالإبراء { خَيْرٌ لَّكُمْ } أي أكثرُ ثواباً من الإنظار أو خيرٌ مما تأخذونه لمضاعفة ثوابه ودوامِه ، فهو ندبٌ إلى أن يتصدقوا برؤوس أموالهم كلاً أو بعضاً على غرمائهم المعسرين كقوله تعالى : { وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى } وقيل : المرادُ بالتصدّق الإنظارُ لقوله عليه السلام : " لا يحِل دَيْنُ رجل مسلم فيؤخرُه إلا كان له بكل يوم صدقة " { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } جوابُه محذوفٌ أي إن كنتم تعلمون أنه خيرٌ لكم عمِلتموه { واتقوا يَوْمًا } هو يومُ القيامة وتنكيرُه للتفخيم والتهويلِ ، وتعليقُ الإتقاءِ به للمبالغة في التحذير عما فيه من الشدائد والأهوال { تُرْجَعُونَ فِيهِ } على البناء للمفعول من الرَّجْع وقرىء على البناء للفاعل من الرُّجوع والأولُ أدخلُ في التهويل ، وقرىء بالياء على طريق الالتفاتِ وقرىء ترُدّون وكذا تَصيرون { إِلَى الله } لمحاسبة أعمالِكم { ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ } من النفوس والتعميمُ للمبالغة في تهويل اليوم أي تعطى كاملاً { مَّا كَسَبَتْ } أي جزاءَ ما عمِلت من خير أو شر { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } حال من كلِّ نفسٍ تفيد أن المعاقبين وإن كانت عقوباتهم مؤبدة غير مظلومين في ذلك لما أنه من قِبَل أنفسِهم ، وجمعُ الضميرِ لأنه أنسبُ بحال الجزاء كما أن الإفراد أوفقُ بحال الكسب . عن ابن عباس رضي الله عنهما : «أنها آخِرُ آيةٍ نزل بها جبريلُ عليه السلام وقال ضَعْها في رأس المائتين والثمانين من البقرة» وعاش رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعدها أحداً وعشرين يوماً . وقيل : أحداً وثمانين وقيل : سبعةَ أيام وقيل : ثلاثَ ساعات .(1/333)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } شروعٌ في بيان حال المُداينة الواقعةِ في تضاعيف المعاوضات الجاريةِ فيما بينهم ببيع السلعِ بالنقود بعد بيانِ حال الربا ، أي إذا داين بعضُكم بعضاً وعامله نسيئةً معْطِياً أو آخذاً ، وفائدةُ ذكرِ الدين دفعُ توهُّمِ كونِ التدايُن بمعنى المُجازاة أو التنبيهُ على تنوعه إلى الحالِّ والمؤجّل وأنه الباعثُ على الكتابة ، وتعيينُ المرجع للضمير المنصوب المتصل بالأمر { إلى أَجَلٍ } متعلقٌ بتداينتم أو بمحذوف وقع صفةً لدَيْنٍ { مُّسَمًّى } بالأيام أو الأشهرُ ونظائرِهما مما يفيد العِلمَ ويرْفَعُ الجهالة لا بالحصاد والدّياس ونحوِهما مما لا يرفعها { فاكتبوه } أي الدَّين بأجله لأنه أوثقُ وأرفعُ للنزاع ، والجمهورُ على استحبابه ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن المرادَ به السَّلَم وقال : «لما حرم الله الربا أباح في السَّلَف» { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ } بيان لكيفية الكتابةِ المأمورِ بها وتعيينٌ لمن يتولاها إثرَ الأمرِ بها إجمالاً ، وحذفُ المفعول إما لتعيُّنه أو للقصد إلى إيقاع نفسِ الفعلِ أي ليَفعلِ الكتابةَ ، وقوله تعالى : { بَيْنِكُمْ } للإيذان بأن الكاتبَ ينبغي أن يتوسّط بين المتداينين ويكتُبَ كلامَهما ولا يكتفيَ بكلام أحدِهما ، وقولُه تعالى : { بالعدل } متعلق بمحذوف هو صفةٌ لكاتب أي كاتبٌ كائنٌ بالعدل أي وليكن المتصدِّي للكتابة من شأنه أن يكتُبَ بالسوية من غير مَيل إلى أحد الجانبين لا يزيد ولا ينقُص ، وهو أمرٌ للمتداينين باختيار كاتبٍ فقيهٍ ديِّن حتى يجيء كتابُه موثوقاً به معدّلاً بالشرع ، ويجوز أن يكون حالاً منه أي ملتبساً بالعدل ، وقيل : متعلقٌ بالفعل أي وليكتبْ بالحق { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ } أي ولا يمتنعْ أحدٌ من الكُتاب { أَن يَكْتُبَ } كتابَ الدين { كَمَا عَلَّمَهُ الله } على طريقة ما علّمه من كَتْبه الوثائقَ أو كما بينه بقوله تعالى : { بالعدل } أو لا يأب أن ينفعَ الناسَ بكتابته كما نفعه الله تعالى بتعليمِ الكتابة كقوله تعالى : { وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ } { فَلْيَكْتُبْ } تلك الكتابةَ المُعْلمة ، أَمَر بها بعد النهي عن إبائها تأكيداً لها ، ويجوز أن تتعلقَ الكافُ بالأمر على أن يكون النهيُ عن الامتناع منها مطلقةً ثم الأمرُ بها مقيدة .
{ وَلْيُمْلِلِ الذى عَلَيْهِ الحق } الإملال هو الإملاءُ أي وليكن المُمْلي مَنْ عليه الحقُّ لأنه المشهودُ عليه فلا بد أن يكون هو المُقِرَّ { وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } جُمع ما بين الاسمِ الجليلِ والنعتِ الجميل للمبالغة في التحذير ، أي وليتقِ المُمْلي دون الكاتِب كما قيل لقوله تعالى : { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ } أي من الحق الذي يْمليه على الكاتب { شَيْئاً } فإنه الذي يُتوقع منه البخسُ خاصة ، وأما الكاتبُ فيُتوقع منه الزيادةُ كما يُتوقع منه النقصُ ، فلو أُريد نهيُه لنهى عن كليهما ، وقد فَعل ذلك حيث أمَر بالعدل ، وإنما شُدِّد في تكليف المُمْلي حيث جُمع فيه بين الأمر بالاتقاء والنهي عن البخس لما فيه من الدواعي إلى المنهيِّ عنه ، فإن الإنسان مجبولٌ على دفع الضرر عن نفسه وتخفيفِ ما في ذمته بما أمكن { فَإن كَانَ الذى عَلَيْهِ الحق } صَرَّح بذلك في موضع الإضمار لزيادة الكشفِ والبيان لا لأن الأمرَ والنهيَ لغيره { سَفِيهًا } ناقصَ العقلِ مبذّراً مجازفاً { أَوْ ضَعِيفًا } صبياً أو شيخاً مختلاً { أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ } أي غيرَ مستطيعٍ للإملاء بنفسه لخرَسٍ أو عَيَ أو جهلٍ أو غير ذلك من العوارض { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ } أي الذي يلي أمرَه ويقوم مقامه من قيِّم أو وكيل أو مترجم { بالعدل } أي من غير نقص ولا زيادة .(1/334)
لم يكلَّف بعين ما كُلف به من عليه الحقُّ لأنه يُتوقع منه الزيادةُ كما يتوقع منه البخس { واستشهدوا شَهِيدَيْنِ } أي اطلُبوهما ليتحملا الشهادةَ على ما جرى بينكم من المداينة ، وتسميتُهما شهيدين لتنزيل المُشارف منزلةَ الكائن { مّن رّجَالِكُمْ } متعلق باستشهدوا ، ومن ابتدائية أو بمحذوف وقع صفةً لشهيدين ، ومن تبعيضية أي شهيدين كائنين من رجال المسلمين الأحرار إذ الكلامُ في معاملاتهم ، فإن خطاباتِ الشرعِ لا تنتظمُ العبيدَ بطريق العبارة كما بُيِّن في موضعه ، وأما إذا كانت المداينةُ بين الكفَرَة أو كان من عليه الحقُّ كافراً فيجوز استشهادُ الكافر عندنا .
{ فَإِن لَّمْ يَكُونَا } أي الشهيدان جميعاً على طريقة نفي الشمولِ لا شُمولِ النفي { رَّجُلَيْنِ } إما لإعوازهما أو لسببٍ آخرَ من الأسباب { فَرَجُلٌ وامرأتان } أي فليشهد رجلٌ وامرأتانِ يكفُون ، وهذا فيما عدا الحدودَ والقصاصَ عندنا ، وفي الأموال خاصة عند الشافعي { مِمَّن تَرْضَوْنَ } متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لرجل وامرأتان أي كائنون مرضيّين عندكم ، وتخصيصُهم بالوصف المذكور مع تحقق اعتباره في كل شهيد لقلة اتصافِ النساء به ، وقيل : نعتٌ لشهيدين أي كائنين ممن ترضَوْن ، ورُد بأنه يلزم الفصلُ بينهما بالأجنبي ، وقيل : بدل من رجالكم بتكرير العامل ، ورد بما ذكر من الفصل ، وقيل : متعلق بقوله تعالى : { فاستشهدوا } فيلزم الفصل بين اشتراط المرأتين وبين تعليله وقوله عز وجل : { مِنَ الشهداء } متعلق بمحذوف وقع حالاً من الضمير المحذوف الراجعِ إلى الموصول أي ممن ترضَوْنهم كائنين من بعض الشهداء لعلمكم بعد التهم وثقتِكم بهم ، وإدراجُ النساء في الشهداء بطريق التغليب { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الاخرى } تعليلٌ لاعتبار العدد في النساء ، والعلةُ في الحقيقة هي التذكيرُ ولكنَّ الضلالَ لما كان سبباً له نُزّل منزلتَه كما في قولك : أعددتُ السلاحَ أن يجيء عدو فأدفعَه ، كأنه قيل : لأجل أن تذكّر إحداهما الأخرى إن ضلت عن الشهادة بأن نسيتها ، ولعل إيثارَ ما عليه النظم الكريم على أن يقال : أن تضل إحداهما فتذكرَها الأخرى لتأكيد الإبهام والمبالغة في الاحتراز عن توهم اختصاصِ الضلال بإحداهما بعينها ، والتذكيرِ بالأخرى ، وقرىء فتُذْكِرَ من الإذكار وقرىء فتذاكِرَ وقرىء إنْ تضلَّ على الشرط فتذكرُ بالرفع كقوله تعالى :(1/335)
{ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } { وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ } لأداء الشهادة أو لتحمُّلها ، وتسميتُهم شهداءَ قبل التحمل لما مرَّ من تنزيل المُشارف منزلةَ الواقع وما مزيدة . عن قتادة أنه كان الرجل يطوف في الحِواء العظيم فيه القوم فلا يتبعُه منهم أحد فنزلت .
{ وَلاَ تسأموا } أي لا تَملُّوا من كثرة مدايناتِكم { أَن تَكْتُبُوهُ } الدينَ أو الحقَّ أو الكتابَ وقيل : كنى به عن الكسل الذي هو صفةُ المنافق كما ورد في قوله تعالى : { إِنَّ المنافقين يخادعون الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ } وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يقولُ المؤمن كسِلْتُ » { صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا } حال من الضمير أي حالَ كونه صغيراً أو كبيراً أي قليلاً أو كثيراً أو مجملاً أو مفصّلاً { إِلَى أَجَلِهِ } متعلقٌ بمحذوف وقعَ حالاً من الهاء في تكتبوه أي مستقراً في الذمة إلى وقت حلولِه { ذلكم } الذي أقر به المديونُ إشارةً إلى ما أُمر به من الكَتْب ، والخطابُ للمؤمنين { أَقْسَطُ } أي أعدل { عَندَ الله } أي في حكمه تعالى { وَأَقْوَمُ للشهادة } أي أثبتُ لها وأعونُ على إقامتها وهما مبنيان من أقسطَ وأقامَ فإنه قياسيٌّ عند سيبويه أو من قاسط بمعنى ذي قِسط وقويم ، وإنما صحت الواو في أقوم كما صحت في التعجب لجموده { وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ } وأقرب إلى انتفاء رَيبكم في جنس الدَّين وقدرِه وأجله وشهودِه ونحو ذلك { إِلا أَن تَكُونَ تجارة حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } استثناءٌ منقطع من الأمر بالكتابة أي لكنْ وقتَ كونِ تدايُنِكم أو تجارتكم تجارةً حاضرةً بحضور البدلين تُديرونها بينكم بتعاطيهما يداً بيد { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن لا تَكْتُبُوهَا } أي فلا بأسَ بألا تكتبوها لبُعده عن التنازع والنسيان ، وقرىء برفع تجارةٌ على أنها اسم كان وحاضرةٌ صفتُها وتديرونها خبرُها أو على أنها تامة .
{ وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } هذا التبايُعَ أو مطلقاً لأنه أحوطُ ، والأوامرُ الواردةُ في الآية الكريمة للندب عند الجمهور وقيل : للوجوب ثم اختلف في أحكامها ونسخها { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } نهيٌ عن المضارة محتمل للبناءين كما ينبىء عنه قراءةُ من قرأ ولا يضارِرْ بالكسر والفتح وهو نهيهما عن ترك الإجابة والتغييرِ والتحريفِ في الكتابة والشهادة ، أو نهيُ الطالب عن الضرار بهما بأن يُعْجِلَهما عن مَهمّتهما أو يكلفَهما الخروجَ عما حُدّ لهما ، أو لا يعطيَ الكاتبَ جُعلَه وقرىء بالرفع على أنه نفي في معنى النهي { وَإِن تَفْعَلُواْ } ما نُهيتم عنه من الضرار { فَإِنَّهُ } أي فعملُكم ذلك { فُسُوقٌ بِكُمْ } أي خروجٌ عن الطاعة ملتبس بكم { واتقوا الله } في مخالفة أوامرِه ونواهيه التي من جملتها نهيُه عن المضارة { وَيُعَلّمُكُمُ الله } أحكامه المتضمنة لمصالحكم { والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ } فلا يكاد يخفى عليه حالُكم وهو مجازيكم بذلك ، كُرر لفظ الجلالة في الجمل الثلاث لإدخال الروعة وتربية المهابةِ وللتنبيه على استقلال كلَ منها بمعنى على حياله فإن الأولى حثٌّ على التقوى والثانية وعدٌ بالإنعام والثالثة تعظيمٌ لشأنه تعالى .(1/336)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
{ وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ } أي مسافرين أو متوجهين إليه { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا } في المداينة ، وقرىء كِتاباً وكُتُباً وكتاباً { فرهان مَّقْبُوضَةٌ } أي فالذي يُستوثق به أو فعليكم أو فليؤخَذ أو فالمشروعُ رهانٌ مقبوضة ، وليس هذا التعليقُ لاشتراط السفر في شرعية الارتهان كما حسِبه مجاهدٌ والضحاكُ لأنه صلى الله عليه وسلم « رهَن دِرْعه في المدينة من يهودي بعشرين صاعاً من شعير أخذه لأهله » بل لإقامة التوثقِ بالارتهان مُقام التوثق بالكتابة في السفر الذي هو مِظنةُ إعوازِها وإنما لم يتعرّض لحال الشاهد لما أنه في حكم الكاتب توثقاً وإعوازاً ، والجمهورُ على وجوب القبض في تمام الرهن غيرَ مالك وقرىء فرُهُنٌ كسُقُف وكلاهما جمع رَهْن بمعنى مرهون وقرىء بسكون الهاء تخفيفاً { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا } أي بعضُ الدائنين بعضَ المديونين لحسن ظنه به واستغنى بأمانته عن الارتهان ، وقرىء أُومن بعضُكم أي آمنه الناسُ ووصفوه بالأمانة قيل : فيكون انتصابُ بعضاً حينئذ على نزع الخافض أي على متاع بعض { فَلْيُؤَدّ الذى اؤتمن } وهو المديون وإنما عبر عنه بذلك العنوان لتعينه طريقاً للإعلام ولحمله على الأداء { أمانته } أي دينه وإنما سمّي أمانة لائتمانه عليه بترك الارتهان به وقرىء ايتُمِن بقلب الهمزة ياء وقرىء بإدغام الياء في التاء وهو خطأ لأن المنقلبة من الهمزة لا تدغم لأنها في حكمها { وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } في رعاية حقوق الأمانة وفي الجمع بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التأكيد والتحذير ما لا يخفى .
{ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة } أيها الشهود أو المديونون أي شهادتكم على أنفسكم عند المعاملة { وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ } آثم خبر إن وقلبُه مرتفعٌ به على الفاعلية كأنه قيل : يأثم قلبه أو مرتفع بالابتداء وآثمٌ خبرٌ مقدّمٌ والجملة خبرُ إن وإسنادُ الإثم إلى القلبِ لأن الكِتمان مما اقترفه ، ونظيرُه نسبةُ الزنا إلى العين والأذن ، أو للمبالغة لأنه رئيسُ الأعضاء وأفعالُه أعظمُ الأفعال كأنه قيل : تمكّن الإثمُ في نفسه وملك أشرفَ مكان فيه وفاق سائر ذنوبه . عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما إن أكبرَ الكبائر الإشراكُ بالله لقوله تعالى : { فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة } وشهادةُ الزور وكتمانُ الشهادة . وقرىء قلبَه بالنصب كما في سفهِ نفسَه وقرىء أثمَ قلبه أي جعله آثماً { والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } فيجازيكم به إن خيراً فخيرٌ وإن شرًّا فشر .(1/337)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
{ للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض } من الأمور الداخلة في حقيقتهما والخارجة عنهما المتمكنةِ فيهما من أُولي العلم وغيرِهم ، أي كلُّها له تعالى خَلْقاً ومُلكاً وتصرُّفاً لا شِركةَ لغيره في شيء منها بوجه من الوجوه { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ } من السوء والعزمِ عليه بأن تُظهروه للناس بالقول أو بالفعل أو بهما { أَوْ تُخْفُوهْ } بأن تكتُموه منهم ولا تُظهروه بأحد الوجهين ، ولا يندرج فيه ما لا يخلو عنه البشرُ من الوساوس وأحاديث النفس التي لا عقدَ ولا عزيمة فيها إذ التكليفُ بحسب الوُسع { يُحَاسِبْكُم بِهِ الله } يومَ القيامة وهو حجةٌ على منكري الحساب من المعتزلة والروافض ، وتقديمُ الجارِّ والمجرور على الفاعل للاعتناء به ، وأما تقديمُ الإبداء على الإخفاء على عكس ما في قوله عز وجل : { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله } فلِما أن المعلَّق بما في أنفسهم هاهنا هو المحاسبة ، والأصلُ فيها الأعمالُ البادية ، وأما العلمُ فتعلُّقه بها كتعلقه بالأعمال الخافية ، كيف لا وعلمُه سبحانه بمعلوماته متعالٍ عن أن يكون بطريق حصول الصور ، بل وجودُ كل شيءٍ في نفسه في أيّ طور كان علمٌ بالنسبة إليه تعالى وفي هذا لا يختلف الحالُ بين الأشياء البارزةِ والكامنة خلا أن مرتبة الإخفاءِ متقدمةٌ على مرتبة الإبداء إذ ما من شيء يبدى إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمَرٌ في النفس فتعلقُ علمِه تعالى بحالته الأولى متقدمٌ على تعلّقه بحالته الثانية وقد مر في تفسير قوله تعالى : { أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُون } { فَيَغْفِرُ } بالرفع على الاستئناف أي فهو يغفرُ بفضله { لِمَن يَشَاء } أي يغفر له { وَيُعَذّبَ } بعدله { مَن يَشَآء } أي يعذبه حسبما تقتضيه مشيئته المبنيةُ على الحِكَم والمصالِح ، وتقديمُ المغفرةِ على التعذيب لتقدّم رحمته على غضبه ، وقرىء بجزم الفعلين عطفاً على جواب الشرط ، وقرىء بالجزم من غير فاء على أنهما بدلٌ من الجواب بدلَ البعضِ أو الاشتمالِ ، ونظيره الجزمُ على البدلية من الشرط في قوله :
متى تأتِنا تُلمِمْ بنا في ديارنا ... تجدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تأججا
وإدغام الراء في اللام لحنٌ { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } تذييلٌ مقرِّر لمضمون ما قبله ، فإن كمالَ قدرته تعالى على جميع الأشياءِ مُوجِبٌ لقدرته سبحانه على ما ذُكر من المحاسبة وما فُرِّع عليه من المغفرة والتعذيب .(1/338)
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
{ آمَنَ لرَّسُولُ } لمّا ذُكر في فاتحة السورة الكريمة أن ما أُنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب العظيم الشأنِ هدىً للمتّصفين بما فُصِّل هناك من الصفات الفاضلةِ التي من جملتها الإيمانُ به وبما أنزل قبله من الكتب الإلهيةِ ، وأنهم حائزون لأثَرَتي الهدى والفلاح من غير تعيينٍ لهم بخصوصهم ، ولا تصريحٍ بتحقق اتصافِهم بها إذ ليس فيما يُذكر في حيز الصلةِ حُكمٌ بالفعل وعُقّب ذلك ببيان حال من كَفر به من المجاهرين والمنافقين ثم شَرَح في تضاعيفها من فنون الشرائع والأحكام والمواعظِ والحِكَم وأخبارِ الأمم السالفة وغيرِ ذلك ممَّا تقتضي الحكمةُ شرحَه عُيِّن في خاتمتها المتّصفون بها وحُكم باتصافهم بها على طريق الشهادة لهم من جهته عز وجل بكمال الإيمان وحسنِ الطاعةِ ، وذكرُه صلى الله عليه وسلم بطريق الغيبة مع ذكره هناك بطريق الخطاب لما أن حقَّ الشهادة الباقية على مر الدهور ألا يخاطَبَ بها المشهودُ له ، ولم يتعرض هاهنا لبيان فوزهم بمطالبهم التي من جملتها ما حُكيَ عنهم من الدعوات الآتية إيذاناً بأنه أمرٌ محقق غنيٌّ عن التصريح به لا سيما بعدما نُص عليه فيما سلف ، وإيرادُه عليه السلام بعنوان الرسالة المنبئة عن كونه عليه السلام صاحبَ كتابٍ مجيد وشرع جديد تمهيدٌ لما يعقُبه من قوله تعالى : { بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ } ومزيدُ توضيحٍ لاندراجه في الرسل المؤمَنِ بهم عليهم السلام ، والمرادُ بما أنزل إليه { مّن رَّبّهِ } إيماناً تفصيلياً متعلّقاً بجميع ما فيه من الشرائع والأحكامِ والقصصِ والمواعظ وأحوالِ الرسل والكتُب ، وغير ذلك من حيث إنه منزلٌ منه تعالى ، وأما الإيمانُ بحقية أحكامِه وصدقِ أخباره ونحوُ ذلك فمن فروع الإيمان به من الحيثية المذكورة ، وفي هذا الإجمال إجلالٌ لمحلِّه عليه الصلاة والسلام وإشعارٌ بأن تعلّقَ إيمانِه بتفاصيلِ ما أنزل إليه وإحاطته بجميع ما انطوى عليه من الظهور بحيث لا حاجة إلى ذكره أصلاً وكذا في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام تشريفٌ له وتنبيهٌ على أن إنزاله إليه تربية وتكميلٌ له عليه السلام .
{ والمؤمنون } أي الفريقُ المعروفون بهذا الاسم فاللاَّم عهدية لا موصولة لإفضائها إلى خلو الكلام عن الجدوى وهو مبتدأ ، وقوله عز وجل : { كُلٌّ } مبتدأ ثانٍ ، وقوله تعالى : { آمن } خبرُه والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأول ، والرابطُ بينهما الضمير الذي ناب منابَه التنوين ، وتوحيدُ الضمير في آمن مع رجوعه إلى كل المؤمنين لما أن المرادَ بيانُ إيمانِ كل فردِ منهم من غير اعتبار الاجتماعِ كما اعتُبر ذلك في قوله تعالى : { وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين } وتغييرُ سبْكِ النظم الكريمِ عما قبلَه لتأكيد الإشعارِ بما بين إيمانهِ على السلام المبنيِّ على المشاهدة والعِيان وبين إيمانِهم الناشىءِ عن الحجة والبرهانِ من التفاوت البيِّن والاختلاف الجليِّ كأنهما متخالفان من كل وجهٍ حتى في هيئة التركيب الدالِّ عليهما ، وما فيه من تكرير الإسناد لما في الحُكم بإيمان كلِّ واحدٍ منهم على الوجه الآتي من نوعِ خفاءٍ مُحوِجٍ إلى التقوية والتأكيد ، أي كلُّ واحد منهم آمن { بالله } وحده من غير شريكٍ له في الألوهية والمعبودية { وَمَلَئِكَتُهُ } أي من حيث إنهم عبادٌ مُكْرمون له تعالى من شأنهم التوسطُ بينه تعالى وبين الرسل بإنزال الكتب وإلقاءِ الوحي ، فإن مدارَ الإيمان بهم ليس من خصوصيات ذواتِهم في أنفسهم بل هو من إضافتهم إليه تعالى من الحيثية المذكورة كما يلُوح به الترتيبُ في النظم .(1/339)
{ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } أي من حيث مجيئُهما من عنده تعالى لإرشاد الخلقِ إلى ما شرَع لهم من الدين بالأوامر والنواهي لكن لا على الإطلاق بل على أن كلَّ واحدٍ من تلك الكُتُب منْزلٌ منه تعالى إلى رسول معيّنٍ من أولئك الرسلِ عليهم الصلاة والسلام حسبما فُصل في قوله تعالى : { قُولُواْ ءامَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ والاسباط وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى وَمَا } الآية ، ولا على أن مناطَ الإيمان خصوصيةُ ذلك الكتاب أو ذلك الرسولِ بل على أن الإيمانَ بالكل مندرِجٌ في الإيمان بالكتاب المُنْزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ومستنِدٌ إليه لِما تُليَ من الآية الكريمة ولا على أن أحكامَ الكتبِ السالفة وشرائعَها باقيةٌ بالكلية ولا على أن الباقيَ منها معتبرٌ بالإضافة إليها بل على أن أحكامَ كلِّ واحد منها كانت حقةً ثابتة إلى ورود كتابٍ آخرَ ناسخٍ له وأن ما لم يُنسَخْ منها إلى الآن من الشرائع والأحكام ثابتةٌ من حيث إنها من أحكام هذا الكتاب المَصونِ عن النسخ إلى يوم القيامة ، وإنما لم يُذكر هاهنا الإيمانُ باليوم الآخر كما ذكر في قوله تعالى : { ولكن البر مَنْ ءامَنَ بالله واليوم الاخر والملئكة والكتاب والنبيين } لاندراجه في الإيمان بكتُبه وقرىء وكتابِه على أن المرادَ به القرآنُ أو جنسُ الكتاب كما في قوله تعالى : { فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب }
والفرقُ بينه وبين الجمع أنه شائعٌ في أفراد الجنس والجمعِ في جموعه ، ولذلك قيل : الكتابُ أكثرَ من الكتب ، وهذا نوعُ تفصيلٍ لما أُجمل في قوله تعالى : { بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ } اقتُصر عليه إيذاناً بكفايته في الإيمان الإجمالي المتحقِّق في كل فردٍ من أفراد المؤمنين من غير نفيٍ لزيادةٍ ، ضرورةَ اختلاف طبقاتهم وتفاوتِ إيمانهم بالأمور المذكورة في مراتب التفصيل تفاوتاً فاحشاً فإن الإجمالَ في الحكاية لا يوجب الإجمالَ في المحكيِّ ، كيف لا وقد أُجمل في حكاية إيمانه عليه السلام بما أُنزل إليه من ربه مع بداهة كونهِ متعلِّقاً بتفاصيلِ ما فيه من الجلائل والدقائق ، ثم إن الأمورَ المذكورةَ حيث كانت من الأمور الغيبية التي لا يُوقف عليها إلا من جهة العليم الخبير كان الإيمانُ بها مِصداقاً لما ذُكر في صدر السورة الكريمة من الإيمان بالغيب وأما الإيمان بكتُبه تعالى ، فإشارة إلى ما في قوله تعالى :(1/340)
{ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } هذا هو اللائقُ بشأن التنزيل والحقيقُ بمقداره الجليل ، وقد جُوّز أن يكون قوله تعالى : { والمؤمنون } معطوفاً على { الرسول } فيوقف عليه ، والضميرُ الذي عُوّض عنه التنوينُ راجعٌ إلى المعطوفَيْن معاً كأنه قيل : آمن الرسولُ والمؤمنون بما أُنزل إليه من ربه ، ثم فُصِّل وقيل : كلُّ واحدٍ من الرسل والمؤمنين آمن بالله الخ ، خلا أنه قُدّم المؤمَنُ به على المعطوف اعتناءً بشأنه وإيذاناً بأصالته عليه السلام في الإيمان به ، ولا يخفى أنه مع خلوّه عما في الوجه الأول من كمالِ وإجلالِ شأنهِ عليه السلام وتفخيمِ إيمانه مخلٌّ بجزالة النظمِ الكريم لأنه إنْ حُمل كلٌّ من الإيمانين على ما يليق بشأنه عليه الصلاة والسلام من حيث الذاتُ ومن حيث التعلقُ بالتفاصيل استحالَ إسنادُهما إلى غيره عليه الصلاة والسلام وضاع التكريرُ ، وإن حُملا على ما يليق بشأن آحادِ الأمةِ كان ذلك حطاً لرتبته العليةِ عليه السلام ، وأما حملُهما على ما يليق بكل واحدٍ ممن نُسبا إليه من الآحاد ذاتاً وتعلقاً بأن يُحمَلا بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم على الإيمان العياني المتعلقِ بجميع التفصيل وبالنسبة إلى آحاد الأمةِ على الإيمان المكتسَب من جهته عليه السلام اللائقِ بحالهم في الإجمال والتفصيل فاعتسافٌ بيّن ينبغي تنزيهُ ساحةِ التنزيل عن أمثاله ، وقوله تعالى : { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ } في حيز النصب بقولٍ مقدرٍ على صيغة الجمع رعايةً لجانب المعنى ، منصوبٌ على أنه حال من ضمير آمن ، أو مرفوعٌ على أنه خبرٌ آخرُ ( لكلٌّ ) أي يقولون لا نفرّق بينهم بأن نؤمنَ ببعض منهم ونكفُرَ بآخَرين بل نؤمنُ بصحة رسالةِ كلِّ واحدٍ منهم . قيّدوا به إيمانَهم تحقيقاً للحق وتخطِئةً لأهل الكتابين حيث أجمعوا على الكفر بالرسول صلى الله عليه وسلم واستقلت اليهودُ بالكفر بعيسى عليه السلام أيضاً على أن مقصودَهم الأصليَّ إبرازُ إيمانهم بما كفروا به من رسالته عليه السلام لا إظهارُ موافقتهم لهم فيما آمنوا به ، وهذا كما ترى صريحٌ في أن القائلين آحادُ المؤمنين خاصة إذ لا يمكن أن يسند إليه عليه السلام أن يقول : لا أفرق بين أحدٍ من رسله وهو يريد به إظهارَ إيمانه برسالة نفسِه وتصديقَه في دعواها ، وعدمُ التعرُّضِ لنفي التفريق بين الكتُب لاستلزام المذكور إياه وإنما لم يُعكَسْ مع تحقق التلازم من الطرفين لما أن الأصلَ في تفريق المفرِّقين هو الرسلُ ، وكفرُهم بالكتب متفرِّع على كفرهم بهم ، وقرىء بالياء على إسناد الفعل إلى كل ، وقرىء لا يفرِّقون حملاً على المعنى كما في قوله تعالى :(1/341)
{ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين } فالجملة نفسُها حال من الضمير المذكور ، وقيل : خبرٌ ثان لكلٌّ كما قيل في القول المقدر فلا بد من اعتبار الكلية بعد النفي دون العكس إذ المرادُ شمولُ النفي لا نفيُ الشمول ، والكلام في همزة ( أحدٍ ) وفي دخول ( بين ) عليه قد مر تفصيله عند قوله تعالى : { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ } وفيه من الدلالة صريحاً على تحقق عدم التفريقِ بين كل فردٍ فرد منهم وبين مَن عداه كائناً مَنْ كان ما ليس في أن يقال : لا نفرِّق بين رسله ، وإيثارُ إظهارِ الرسلِ على الإضمار الواقعِ مثلُه في قوله تعالى : { وَمَا أُوتِيَ النبيون مِن رَّبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ } إما للاحتراز عن توهم اندراج الملائكةِ في الحُكم ، أو للإشعار بعلة عدمِ التفريقِ ، أو للإيماء إلى عنوانه ، لأن المعتبرَ عدمُ التفريق من حيث الرسالةُ دون سائرِ الحيثيات الخاصة { وَقَالُواْ } عطفٌ على آمن ، وصيغةُ الجمعِ باعتبار جانب المعنى وهو حكايةٌ لامتثالهم بالأوامر إثرَ حكايةِ إيمانِهم { سَمِعْنَا } أي فهمنا ما جاءنا من الحق وتيقنا بصحته { وَأَطَعْنَا } ما فيه من الأوامر والنواهي وقيل سمِعنا : أجبنا دعوتك وأطعنا أمرَك { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } أي اغفِرْ لنا غفرانك أو نسألك غُفرانك ذنوبنا المتقدمة أو ما لا يخلو عنه البشرُ من التقصير في مراعاة حقوقِك ، وتقديمُ ذكرِ السمعِ والطاعةِ على طلب الغفران لما أن تقديمَ الوسيلةِ على المسؤول أدعى إلى الإجابة والقبول ، والتعرضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إليهم للمبالغة في التضرُّع والجُؤار .
{ وَإِلَيْكَ المصير } أي الرجوعُ بالموت والبعث لا إلى غيرك ، وهو تذييلٌ لما قبله مقرِّرٌ للحاجة إلى المغفرة لما أن الرجوعَ للحساب والجزاء .(1/342)
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
وقوله تعالى : { لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } جملةٌ مستقلة جيءَ بها إثرَ حكايةِ تلقِّيهم لتكاليفه تعالى بحسن الطاعة إظهاراً لما له تعالى عليهم في ضمن التكليف من محاسنِ آثارِ الفضل والرحمة ابتداءً لا بعد السؤال كما سيجيء ، هذا وقد رُوي أنه لما نزل قوله تعالى : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله } الآية ، اشتد ذلك على أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأتَوْه ثم برَكوا على الرُكَب فقالوا : أيْ رسولَ الله كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق ، الصلاةُ والصومُ والحج والجهاد وقد أُنزل إليك هذه الآية ولا نُطيقُها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمِعنا وعصَينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غُفرانَك ربنا وإليك المصير » فقرأها القومُ فأنزل الله عز وجل : { آمَنَ الرسول بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ والمؤمنون } إلى قوله تعالى : { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير } فمسؤولهُم الغفرانُ المعلَّق بمشيئته عز وعلا في قوله : { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء } 3 ) ثم أنزل الله تعالى : { لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } تهويناً للخطب عليهم ببيانِ أن المرادَ بما في أنفسهم ما عزَموا عليه من السوء خاصة لا ما يعُمُّ الخواطرَ التي لا يُستطاع الاحتراز عنها والتكليفُ إلزامُ ما فيه كُلفةٌ ومشقة ، والوُسعُ ما يسَعُ الإنسانَ ولا يَضيقُ عليه أي سُنّتُه تعالى أنه لا يكلِّف نفساً من النفوس إلا ما يتَّسع فيه طَوقُها ويتيسّر عليها دون مدى الطاقةِ والمجهود فضلاً منه تعالى ورحمةً لهذة الأمة كقوله تعالى : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } وقرىء وَسعها بالفتح وهذا يدل على عدم وقوعِ التكليفِ بالمحال لا على امتناعه وقوله تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } للترغيب في المحافظة على مواجبِ التكليف والتحذيرِ عن الإخلال بها ببيان أن تكليفَ كل نفسٍ مع مقارنته لنعمة التخفيفِ والتيسير تتضمنُ مراعاتُه منفعةً زائدة ، وأنها تعود إليها لا إلى غيرها ويستتبِعُ الإخلالُ به مضرةً تَحيق بها لا بغيرها ، فإن اختصاصَ منفعةِ الفعل بفاعله من أقوى الدواعىِ إلى تحصيله ، واقتصارَ مضرَّتِه عليه من أشد الزواجر عن مباشرته ، أي لها ثوابُ ما كسبت من الخير الذي كُلّفت فعلَه لا لغيرها استقلالاً أو اشتراكاً ضرورةَ شمُول كلمةِ ( ما ) لكل جزءٍ من أجزاءِ مكسوبها ، وعليها لا على غيرها بأحد الطريقين المذكورين عقابُ ما اكتسبت من الشر الذي كُلِّفت تركه ، وإيرادُ الاكتسابِ في جانب الشر لما فيه من اعتمال ناشىءٍ من اعتناء النفسِ بتحصيل الشر وسعيها في طلبه { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } شروعٌ في حكاية بقيةِ دعواتِهم إثرَ بيانِ سرِّ التكليف ، أي لا تؤاخِذنا بما صدر عنا من الأمور المؤدية إلى النسيان أو الخطأ من تفريطٍ وقلةِ مبالاة ونحوِهما مما يدخُل تحت التكليف ، أو بأنفسهما من حيث ترتّبُهما على ما ذكر ، أو مطلقاً إذ لا امتناعَ في المؤاخذة بهما عقلاً ، فإن المعاصيَ كالسُّموم فكما أن تناولها ولو سهواً أو خطأً مؤدَ إلى الهلاك فتعاطي المعاصي أيضاً لا يبعُد أن يفضِيَ إلى العقاب وإن لم يكن عن عزيمة ، ووعدُه تعالى بعدمه لا يوجب استحالةَ وقوعه ، فإن ذلك من آثار فضلِه ورحمتِه كما ينبىء عنه الرفعُ في قوله عليه السلام :(1/343)
« رُفعَ عن أُمِّتي الخطأُ والنِّسيانُ » . وقد روي أن اليهود كانوا إذا نسُوا شيئاً عُجِّلت لهم العقوبة ، فدعاؤُهم بعد العلم بتحقق الموعود للاستدامة والاعتداد بالنعمة في ذلك كما في قوله تعالى : { رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ } { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا } عطفٌ على ما قبله ، وتوسيطُ النداء بينهما لإبراز مزيدِ الضراعة ، والإصرُ العِبءُ الثقيلُ الذي يأصِرُ صاحبَه أي يحبِسُه مكانه والمرادُ به التكاليفُ الشاقة ، وقيل الإصرُ الذنبُ الذي لا توبةَ له فالمعنى اعصِمْنا من اقترافه ، وقرىء آصاراً ، وقرىء لا تُحَمِّلْ بالتشديد للمبالغة { كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا } في حيز النصب على أنه صفةٌ لمصدر محذوفٍ أي حَمْلاً مثلَ حملِك إياه على مَنْ قبلَنا ، أو على أنه صفةٌ لإصراً أي إصراً مثلَ الإصرِ الذي حَمَلته على مَنْ قبلنا وهو ما كُلّفه بنو إسرائيل من بخْعِ النفس في التوبة ، وقطع موضِعِ النجاسةِ ، وخمسينَ صلاةً في يوم وليلة وصرفِ رُبُع المال للزكاة وغيرِ ذلك من التشديدات فإنهم كانوا إذا أتَوْا بخطيئة حَرُم عليهم من الطعام بعضُ ما كان حلالاً لهم قال الله تعالى : { فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ } وقد عصمَ الله عز وجل بفضله ورحمته هذه الأمة عن أمثال ذلك وأنزل في شأنهم : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والاغلال التى كَانَتْ عَلَيْهِمْ } وقال عليه السلام : « بُعثتُ بالحنيفية السهلة السَّمْحة » وعن العقوبات التي عوقب بها الأولون من المسْخِ والخسْف وغيرِ ذلك قال عليه السلام : « رُفع عن أُمَّتي الخسفُ والمسخُ والغَرَق »
{ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } عطفٌ على ما قبله واستعفاءٌ عن العقوبات التي لا تُطاق بعد الاستعفاء عما يؤدي إليه التفريطُ فيه من التكاليف الشاقة التي لا يكاد مَنْ كُلِّفها يخلو عن التفريط فيها كأنه قيل : لا تكلِّفْنا تلك التكاليفَ ولا تعاقِبْنا بتفريطنا في المحافظة عليها فيكونُ التعبيرُ عن إنزال العقوباتِ بالتحميل باعتبار ما يؤدي إليها ، وقيل : هو تكريرٌ للأول وتصويرٌ للإصر بصورةِ ما لا يُستطاع مبالغة ، وقيل : هو استعفاءٌ عن التكليف بما لا تفي به الطاقةُ البشرية حقيقة ، فيكون دليلاً على جوازه عقلاً وإلا لما سُئل التخلصُ عنه ، والتشديد هاهنا لتعدية الفعل إلى مفعول ثانٍ { واعف عَنَّا } أي آثارِ ذنوبنا { واغفر لَنَا } واستُرْ عيوبَنا ولا تفضَحْنا على رؤوس الأشهادِ { وارحمنا } وتعطَّفْ بنا وتفضَّلْ علينا ، وتقديمُ طلبِ العفوِ والمغفرةِ على طلب الرحمةِ لما أن التخلِيَةَ سابقة على التحلية { أَنتَ مولانا } سيدُنا ونحن عبيدُك أو ناصرُنا أو متولي أمورِنا { فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } فإن من حقّ المولى أن ينصُرَ عبده ومن يتولّى أمرَه على الأعداء ، والمرادُ به عامةُ الكفرة ، وفيه إشارة إلى أن إعلأَ كلمةِ الله والجهادَ في سبيله تعالى حسبما أُمر في تضاعيف السورة الكريمة غايةُ مطالبهم ، رُوي أنه عليه الصلاة والسلام لمّا دعا بهذه الدعواتِ قيل له عند كلِّ دعوةٍ : قد فعلتُ ، وعنه عليه السلام :(1/344)
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)
سورة آل عمران
مدنية وهى مائتا آية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
{ الم الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ } قد سلف أن ما لا تكون من هذه الفواتح مفردةً كصاد وقاف ونون ولا موازِنةً لمفردٍ كحاميم وطاسين وياسين الموازنةِ لقابيلَ وهابيلَ وكطاسين ميم الموازنةِ لداراً بجَرَد حسبما ذكره سيبويهِ في الكتابِ فطريقُ التلفظ بها الحكايةُ فقط ، ساكنةُ الأعجاز على الوقف سواءٌ جُعلت أسماءً أو مسرودةً على نمط التعديد وإن لزِمها التقاءُ الساكنين لما أنه مغتفرٌ في باب الوقف قطعاً فحقُّ هذه الفاتحة أن يوقفَ عليها ثم يُبدأ بما بعدها كما فعله أبو بكر رضي الله عنه ، روايةٌ عن عاصم وأما ما فيها من الفتح على القراءة المشهورةِ فإنما هي حركةُ همزة الجلالة ألقيت على الميم لتدل على ثبوتها إذ ليس إسقاطُها للدرج بل للتخفيف ، فهي ببقاء حركتها في حكم الثابتِ المبتدَإِ به ، والميمُ بكون الحركةِ لغيرها في حكم الوقف على السكون دون الحركة كما توهم ، واعتُرض بأنه غيرُ معهود في الكلام ، وقيل : هي حركةٌ لالتقاء السواكن التي هي الياء والميم ولام الجلالة بعد سقوطِ همزتها ، وأنت خبير بأن سقوطَها مبنيٌّ على وقوعها في الدرْج ، وقد عرفت أن سكونَ الميمِ وقفٌ موجبٌ لانقطاعها عما بعدها مستدعٍ لثبات الهمزةِ على حالها لا كما في الحروف والأسماءِ المبنيةِ على السكون فإن حقَّها الاتصالُ بما بعدها وضعاً واستعمالاً فتسقطُ بها همزةُ الوصلِ وتُحرَّك أعجازُها لالتقاء الساكنين ، ثم إن جُعلت مسرودةً على نمط التعديد فلا محل لها من الإعراب كسائر الفواتح ، وإن جُعلت اسماً للسورة فمحلُها إما الرفعُ على أنها خبرُ مبتدإٍ محذوف ، وإما النصبُ على إضمار فعلٍ يليقُ بالمقام كاذكر أو اقرأ أو نحوِهما ، وأما الرفعُ بالابتداء أو النصبُ بتقدير فعلِ القسم ، أو الجرُّ بتقدير حرفِه فلا مساغَ لشيء منها لما أن ما بعدها غيرُ صالح للخبرية ولا للإقسامِ عليه فإن الاسم الجليلَ مبتدأٌ ، وما بعده خبرُه ، والجملةُ مستأنفة أي هو المستحقُّ للمعبودية لا غيرُ وقوله عز وجل : { الحى القيوم } خبرٌ آخرُ له ، أو لمبتدإٍ محذوف أي هو الحي القيومُ لا غيرُه ، وقيل : هو صفةٌ للمبتدأ أو بدلٌ منه أو من الخبر الأول أو هو الخبر ، وما قبله اعتراضٌ بين المبتدأ والخبر ، مقرِّر لما يُفيده الاسمُ الجليلُ أو حال منه وأياً ما كان فهو كالدليل على اختصاص استحقاقِ المعبودية به سبحانه وتعالى لما مر من أن معنى الحيِّ : الباقي : الذي لا سبيل عليه للموت والفناء ، ومعنى القيوم : الدائمُ القيام بتدبير الخلق وحفظِه ، ومن ضرورة اختصاصِ ذينك الوصفين به تعالى اختصاصُ استحقاقِ المعبودية به تعالى لاستحالة تحققِه بدونهما .(1/345)
وقد روي أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : " اسمُ الله الأعظمِ في ثلاث سور : في سورة البقرة { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم } وفي آل عمران { الم * الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم } وفي طه { وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَىّ القيوم } " وروي أن بني إسرائيلَ سألوا موسى عليه السلام عن اسم الله الأعظم قال : { الحى القيوم } ويروى أن عيسى عليه السلام كان إذا أراد إحياء الموتى يدعو يا حي يا قيوم ويقال : إن آصفَ بنَ برخيا حين أراد أن يأتيَ بعرش بِلْقيس دعا بذلك وقرىء { الحى } ، وهذا رد على من زعم أن عيسى عليه السلام كان رباً فإنه روي أن وفدَ نجرانَ قدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا ستين راكباً فيهم أربعةَ عشرَ رجلاً من أشرافهم ، ثلاثةٌ منهم أكابرُ إليهم يؤولُ أمرُهم ، أحدُهم أميرُهم وصاحبُ مشورتهم العاقبُ ، واسمُه عبدُ المسيحِ وثانيهم وزيرُهم ومشيرُهم السيد واسمُهُ الأيهم ، وثالثهم حَبرُهم وأُسْقفُهم وصاحبُ مِدْارَسِهِمْ أبو حارثةَ بنُ عَلْقمةَ أحدُ بني بَكْرِ بنِ وائلٍ وقد كان ملوكُ الرومِ شرّفوه وموّلوه وأكرموه لما شاهدوا من علمه واجتهاده في دينهم وبنَوْا له كنائسَ فلما خرجوا من نجرانَ ركِب أبو حارثة بغلته وكان أخوه كُرْزُ بنُ علقمةَ إلى جنبه فبينا بَغْلةُ أبي حارثةَ تسير إذ عثَرت فقال كُرْزٌ : تعساً للأبعد ، يريد به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال له أبو حارثة : بل تَعِسَتْ أمُّك فقال كُرْزٌ : ولمَ يا أخي قال : إنه والله النبيُّ الذي كنا ننتظره فقال له كُرز : فما يمنعُك عنه وأنت تعلم هذا؟ قال : لأن هؤلاءِ الملوكَ أعطَوْنا أموالاً كثيرةً وأكرمونا ، فلو آمنا به لأخذوها منا كلَّها ، فوقع ذلك في قلب كرزٍ وأضمره إلى أن أسلم فكان يُحدِّث بذلك . فأتَوا المدينةَ ثم دخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العصر عليهم ثيابُ الحِبَراتِ جُبَبٌ وأرديةٌ فاخرة يقول بعضُ من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ما رأينا وفداً مثلَهم ، وقد حانت صلاتُهم فقاموا ليصلوا في المسجد فقال عليه السلام : «دعُوهم» فصلَّوا إلى المشرق . ثم تكلم أولئك الثلاثةُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : تارةً عيسى هو الله لأنه كان يُحيي الموتى ويُبرِىءُ الأكمهَ ويُخبرُ بالغيوب ويخلُق من الطين كهيئة الطير فينفُخُ فيه فيطير ، وتارة أخرى هو ابنُ الله إذ لم يكن له أبٌ يُعْلَم وتارة أخرى إنه ثالثُ ثلاثةٍ لقوله تعالى : { فَعَلْنَا وَقُلْنَا } ولو كان واحداً لقال : فعلت وقلت فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أسلموا " قالوا : أسلمنا قبلك ، قال عليه السلام : " كذبتم يمنعُكم من الإسلام دعاؤكم لله تعالى ولداً "(1/346)
قالوا : إن لم يكن ولداً لله فمن أبوهُ؟ فقال عليه السلام : « ألستم تعلمون أنه لا يكون ولدٌ إلا ويُشبِهُ أباه؟ » فقالوا : بلى ، قال : « ألستم تعلمون أن ربنا حيٌّ لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ » قالوا : بلى ، قال عليه السلام : « ألستم تعلمون أن ربنا قيّومٌ على كل شيء يحفَظُه ويرزُقُه؟ » قالوا : بلى ، قال عليه السلام : « فهل يملِك عيسى من ذلك شيئاً؟ » قالوا : لا ، فقال عليه السلام : « ألستم تعلمون أن الله تعالى لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء؟ » قالوا : بلى ، قال عليه السلام : « فهل يعلمُ عيسى من ذلك إلا ما علِم؟ » قالوا : بلى ، قال عليه السلام : « ألستم تعلمون أن ربنا صوَّر عيسى في الرحِم كيف شاء وأن ربنا لا يأكلُ ولا يشرب ولا يُحْدِث؟ » قالوا : بلى ، قال عليه السلام : « ألستم تعلمون أن عيسى حملتْه أمُه كما تحمِل المرأة ووضعته كما تضع المرأةُ ولدها ثم غُذّي كما يُغذَّى الصبيُّ ثم كان يطعَم الطعامَ ويشرَبُ الشراب ويُحْدِثُ الحدث؟ » قالوا : بلى ، قال عليه السلام : « فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ » فسكتوا وأبَوا إلا جحوداً فأنزل الله عز وجل من أول السورة إلى نيِّفٍ وثمانين آيةً تقريراً لما احتج به عليه السلام عليهم وأجاب به عن شُبَهِهم وتحقيقاً للحق الذي فيه يمترون .(1/347)
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)
{ نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب } أي القرآنَ ، عبّر عنه باسم الجنس إيذاناً بكمال تفوُّقه على بقية الأفراد في حيازة كمالاتِ الجنس كأنه هو الحقيقُ بأن يُطلَقَ عليه اسمُ الكتاب دون ما عداه كما يلوح به التصريحُ باسمي التوراةِ والإنجيل ، وصيغة التفعيلِ للدَلالة على التفخيم ، وتقديمُ الظرف على المفعول لما مر من الاعتناءِ بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخَّر ، والجملة إما مستأنفةٌ أو خبرٌ آخرُ عن الاسمِ الجليل أو هي الخبر ، وقولُه تعالى : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } اعتراض أو حال ، وقوله عز وجل : { الحى القيوم } صفةٌ أو بدلٌ كما مر ، وقرىء نَزَلَ عليك الكتابُ بالتخفيف ورفعِ الكتاب ، فالظاهرُ حينئذ أن تكونَ مستأنفةٌ وقيل : يجوزُ كونُها خبراً بحذف العائد أي نزَل الكتابُ من عنده { بالحق } حال من الفاعل أو المفعول أي نزّله مُحِقاً في تنزيله على ما هو عليه أو ملتبساً بالعدل في أحكامه أو بالصدق في أخباره التي من جملتها خبرُ التوحيد وما يليه ، وفي وعده ووعيدِه أو بما يحقِّق أنه من عند الله تعالى من الحجج البينة { مُصَدّقاً } حال من الكتاب بالاتفاق على تقدير كون قولِه تعالى : { بالحق } حالاً من فاعل نزّل ، وأما على تقدير حاليته من الكتاب فهو عند من يجوِّز تعددَ الحال بلا عطف ولا بدلية حالٌ منه بعد حال ، وأما عند من يمنعه فقد قيل : إنه حالٌ من محل الحال الأولى على البدلية وقيل : من المستكنّ في الجار والمجرور ، لأنه حينئذ يتحمّل ضميراً لقيامه مقامَ عاملِه المتحمّل له فيكون حالاً متداخلةً ، وعلى كل حال فهي حالٌ مؤكدة ، وفائدةُ تقييدِ التنزيل بها حثُّ أهلِ الكتابين على الإيمان بالمُنَزّل وتنبيهُهم على وجوبه فإن الإيمانَ بالمصدَّق موجبٌ للإيمان بما يصدِّقه حتماً { لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } مفعول لمصدقاً واللامُ دِعامةٌ لتقوية العمل نحوُ { فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ } أي مصدقاً لما قبله من الكتب السالفةِ وفيه إيماءٌ إلى حضورها وكمال ظهورِ أمرِها بين الناس ، وتصديقُه إياها في الدعوة إلى الإيمان والتوحيد وتنزيهُ الله عز وجل عما لا يليق بشأنه الجليل والأمرُ بالعدل والإحسان وكذا في أنباء الأنبياءِ والأممِ الخالية وكذا في نزوله على النعت المذكور فيها وكذا في الشرائع التي لا تختلف باختلاف الأممِ والأعصار ظاهرٌ لا ريب فيه أي خبر تصديقه لا ريب فيه وأما في الشرائع المختلفة باختلافهما فمن حيث أن أحكامَ كل واحد منها واردةٌ حسبما تقتضيه الحِكمةُ التشريعية بالنسبة إلى خصوصيات الأمم المكلفةِ بها مشتملةٌ على المصالح اللائقةِ بشأنهم .
{ وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل } تعيينٌ لما بين يديه وتبيينٌ لرفعة محلِّه تأكيداً لما قبله وتمهيداً لما بعده إذ بذلك يترقى شأنُ ما يصدّقه رفعةً ونباهةً ويزداد في القلوب قبولاً ومهابةً ويتفاحش حالُ من كفرَ بهما في الشناعة واستتباعِ ما سيذكر من العذاب الشديد والانتقام ، أي أنزلهما جملةً على موسى وعيسى عليهما السلام وإنما لم يُذكرا لأن الكلام في الكتابين لا فيمن أنزِلا عليه وهما اسمان أعجميانِ الأولُ عِبري والثاني سرياني ويعضُده القراءةُ بفتح همزةِ الإنجيل فإن إفعيل ليس من أبنية العربِ ، والتصدي لاشتقاقهما من الورى والنجْل تعسفٌ { مِن قَبْلُ } متعلق بأنزل أي أنزلهما من قبل تنزيلِ الكتاب ، والتصريحُ به مع ظهور الأمر للمبالغة في البيان { هُدًى لّلنَّاسِ } في حيز النصب على أنه عِلة للإنزال أي أنزلها لهداية الناس أو على أنه حالٌ منهما أي أنزلهما حالَ كونهما هدى لهم ، والإفرادُ لما أنه مصدر ، جُعلا نفسَ الهدى مبالغةً أو حذف منه المضاف أي ذوَيْ هدى ، ثم إنْ أريد هدايتهما بجميع ما فيهما من حيث هو جميع ، فالمراد بالناس الأمم الماضية من حين نزولها إلى زمان نسخِهما ، وإن أريد هدايتُهما على الإطلاق وهو الأنسبُ بالمقام فالناسُ على عمومه لما أن هدايتهما بما عدا الشرائعَ المنسوخةَ من الأمور التي يصدّقهما القرآن فيها ومن جملتها البشارةُ بنزوله وبمبعث النبي صلى الله عليه وسلم تعمُّ الناس قاطبة .(1/348)
{ وَأَنزَلَ الفرقان } الفرقانُ في الأصل مصدرٌ كالغفران أُطلق على الفاعل مبالغة والمرادُ به هاهنا إما جنسُ الكتبِ الإلهية عُبِّر عنها بوصف شامل لما ذُكر منها وما لم يُذكر على طريق التتميم بالتعميم إثرَ تخصيصِ بعضِ مشاهيرها بالذكر كما في قوله عز وجل : { فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً } إلى قوله تعالى : { وفاكهة } وإما نفسُ الكتبِ المذكورة أعيد ذكرها بوصف خاص لم يُذكر فما سبق ، على طريقة العطفِ بتكرير لفظِ الإنزال تنزيلاً للتغايُر الوصفي منزلةَ التغايُر الذاتي كما في قوله سبحانه : { وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } وأما الزبورُ فإنه مشتمِلٌ على المواعظ الفارقة بين الحقِّ والباطِلِ الداعية إلى الخير والرشاد الزاجرةِ عن الشر والفساد ، وتقديمُ الإنجيل عليه مع تأخره عنه نزولاً لقوة مناسبته للتوراة في الاشتمال على الأحكام والشرائع وشيوعِ اقرانِهما في الذكر وأما القُرآنُ نفسُه فذُكر بنعت مادحٍ له بعد ما ذكر باسم الجنس تعظيماً لشأنه ورفعاً لمكانه وقد بُين أولاً تنزيلُه التدريجيُّ إلى الأرض وثانياً إنزالُه الدفعيّ إلى السماء الدنيا أو أريد بالإنزال القدْرُ المشترك العاري عن قيد التدريج وعدمِه ، وإما المعجزاتُ المقرونةُ بإنزال الكتبِ المذكورة الفارقة بين المُحقِّ والمُبْطل { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله } وُضع ( الموصول ) موضِعَ الضميرِ العائد إلى ما فُصل من الكتب المنزلة أو منها ومن المعجزات وآيات مضافةً إلى الاسم الجليل تعييناً لحيثية كفرِهم وتهويلاً لأمرهم وتأكيداً لاستحقاقهم العذابَ الشديد وإيذاناً بأن ذلك الاستحقاقَ لا يشترط فيه الكفرُ بالكل بل يكفي فيه الكفرُ ببعضٍ منها ، والمرادُ بالموصول إما أهلُ الكتابين وهو الأنسبُ بمقام المُحاجةِ معهم أو جنسُ الكفَرة وهم داخلون فيه دخولاً أولياً أي إن الذين كفروا بما ذُكر من آيات الله الناطقةِ بالحق لا سيما بتوحيده تعالى وتنزيهِه عما لا يليق بشأنه الجليل كُلاًّ أو بعضاً مع ما بها من النعوت الموجبةِ للإيمان بها بأن كذبوا بالقرآن أصالةً ، وبسائر الكتُب الإلهية تبعاً ، لما أن تكذيبَ المصدق موجب لتكذيب ما يصدِّقُه حتماً وأصالة أيضاً بأن كذبوا بآياتها الناطقةِ بالتوحيد والتنزيه وآياتها المبشرة بنزولِ القرآن ومبعث النبي صلى الله عليه وسلم وغيّروها { لَهُمْ } بسبب كفرهم بها { عَذَابِ } مرتفعٌ إما على الفاعلية من الجار والمجرور أو على الابتداء ، والجملة خبرُ إن ، والتنوينُ للتفخيم أي أيُّ عذاب { شَدِيدٍ } لا يقادَر قدرُه وهو وعيد جيء به إثرَ تقريرِ أمرِ التوحيد الذاتي والوصفي والإشارةِ إلى ما ينطِقُ بذلك من الكتب الإلهية حملاً على القبول والإذعان وزجراً عن الكفر والعصيان .(1/349)
{ والله عَزِيزٌ } لا يغالَب يفعل ما يشاء ويحكُم ما يريد { ذُو انتقام } عظيم خارجٍ عن أفراد جنسه ، وهو افتعال من النِقْمة وهي السطوةُ والتسلطُ يقال : انتقم منه إذا عاقبه بجنايته ، والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ للوعيد ومؤكد له .(1/350)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
{ إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَىْء فِي الارض وَلاَ فِى السماء } استئنافُ كلامٍ سيق لبيان سعةِ علمِه تعالى وإحاطتِه بجميع ما في العالم من الأشياء التي من جملتها ما صدر عنهم من الكفر والفسوقِ سراً وجهراً إثرَ بيانِ كمالِ قدرتِه وعزته ، تربيةً لما قبله من الوعيد وتنبيهاً على أن الوقوفَ على بعض المغيبات كما كان في عيسى عليه السلام بمعزل من بلوغ رتبةِ الصفاتِ الإلهية وإنما عُبّر عن علمه عز وجل بما ذُكر بعدم خفائِه عليه كما في قوله سبحانه : { وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَىْء فَى الارض وَلاَ فِى السماء } إيذاناً بأن علمَه تعالى بمعلوماته وإن كانت في أقصى الغايات الخفيةِ ليس من شأنه أن يكون على وجهُ يمكن أن يقارِنه شائبةُ خفاءٍ بوجه من الوجوه كما في علوم المخلوقين ، بل هو غاية في الوضوحِ والجلاءِ ، والجملةُ المنفيةُ خبرٍ لإن وتكريرُ الإسنادِ لتقوية الحُكم ، وكلمة ( في ) متعلقة بمحذوف وقع صفةً لشيء مؤكدة لعمومه المستفاد من وقوعه في سياق النفي أي لا يخفى عليه شيء ما كائنٌ في الأرض ولا في السماء أعم من أن يكون ذلك بطريق الاستقرار فيهما أو الجزئية منهما وقيل : متعلقة بيخفى وإنما عبر بهما عن كل العالم لأنهما قُطراه ، وتقديمُ الأرض على السماء لإظهار الاعتناء بشأن أحوالِ أهلِها ، وتوسيطُ حرف النفي بينهما للدَلالة على الترقي من الأدنى إلى الأعلى باعتبار القربِ والبعد منا المستدعِيَين للتفاوت بالنسبة إلى علومنا وقوله عز وجل : { هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الارحام كَيْفَ يَشَاء } جملة مستأنفةٌ ناطقةٌ ببعض أحكام قيّومَّيتِه تعالى وجَرَيانِ أحوالِ الخلق في أطوار الوجودِ حسب مشيئتِه المبنيةِ على الحِكْمة البالغةِ مقرِّرةٌ لكمال علمِه مع زيادة بيانٍ لتعلقه بالأشياء قبل دخولِها تحت الوجود ضرورةَ وجوبِ علمِه تعالى بالصور المختلفة المترتبة على التصوير المترتِّب على المشيئة قبل تحقّقِها بمراتب ، وكلمةُ في متعلقةٌ بيصوِّركم ، أو بمحذوف وقع حالاً من ضمير المفعول أي يصوركم وأنتم في الأرحام مُضَغٌ ، وكيف معمول ليشاءُ والجملةُ في محل النصب على الحالية إما من فاعل يصوركم أي يصورُكم كائناً على مشيئته تعالى أي مُريداً أو من مفعوله أي يصوركم كائنين على مشيئته تعالى تابعين لها في قَبول الأحوالِ المتغايرة من كونكم نُطفاً ثم عَلَقاً ثم مُضَغاً غيرَ مخلّقة ثم مُخلّقة ، وفي الاتصاف بالصفات المختلفةِ من الذكورة والأنوثة والحُسن والقُبح وغير ذلك من الصفات وفيه من الدلالة على بطلان زعْم من زَعَم ربوبيةَ عيسى عليه السلام وهو من جملة أبناءِ النواسيتِ المتقلّبين في هذه الأطوار على مشيئة الباري عز وجل وكمالِ ركاكةِ عقولِهم ما لا يخفى وقرىء تَصَوَّركم على صيغة الماضي من التفعل أي صوّركم لنفسه وعبادتِه { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } إذ لا يتصف بشيء مما ذُكر من الشؤون العظيمةِ الخاصةِ بالألوهية أحدٌ ليُتَوهَّم ألوهيتُه { العزيز الحكيم } المتناهي في القدرة والحِكمة لذلك يخلقُكم على ما ذكر من النمط البديع .(1/351)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)
{ هُوَ الذى أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب } شروعٌ في إبطال شُبَهِهم الناشئةِ عما نَطَق به القرآن في نعت عيسى عليه السلام بطريق الاستئناف إثرَ بيان اختصاصِ الربوبية ومناطِها به سبحانه وتعالى تارةً بعد أخرى وكونِ كل مَنْ عداه مقهوراً تحت مَلَكوته تابعاً لمشيئته . قيل : إن وفدَ نجرانَ قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ألست تزعُم يا محمد أن عيسى كلمةُ الله وروح منه؟ قال عليه السلام : «بلى» قالوا : فحسبُنا ذلك . فنعى عليهم زيغَهم وفتنتَهم وبيّن أن الكتابَ مؤسسٌ على أصول رصينةٍ وفروعٍ مَبْنية عليها ناطقةٍ بالحق قاضيةٍ ببطلان ما هم عليه من الضلال ، والمرادُ بالإنزال القدرُ المشتركُ المجرَّدُ عن الدِلالة على قيد التدريج وعدمِه ، ولامُ الكتاب للعهد ، وتقديمُ الظرف عليه لما أشير إليه فيما قبل من الاعتناءِ بشأن بشارتِه عليه السلام بتشريف الإنزال عليه ومن التشويق إلى ما أُنزل ، فإن النفسَ عند تأخير ما حقُّه التقديمُ لا سيما بعد الإشعار برفعة شأنِه أو بمنفعته تبقى مترقبةً له فيتمكن لديها عند ورودِه عليها فضلُ تمكُّنٍ وليتصل به تقسيمه إلى قسميه { مِنْهُ آيات } الظرفُ خبر ، وآياتٌ مبتدأ أو بالعكس بتأويل مر تحقيقه في قوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ } الآية ، والأولُ أوفقُ بقواعد الصناعة ، والثاني أدخلُ في جزالة المعنى إذ المقصودُ الأصليّ انقسامُ الكتاب إلى القسمين المعهودين لا كونُهما من الكتاب فتذكّرْ ، والجملة مستأنفة في حيز النصب على الحالية من الكتاب أي هو الذي أنزل الكتابَ كائناً على هذه الحال منقسماً إلى مُحْكَمٍ ومتشابهٍ أو الظرفُ هو الحال وحدَه وآياتٌ مرتفعٌ به على الفاعلية { محكمات } صفةُ آياتٌ أي قطعيةُ الدِلالة على المعنى المراد ، مُحْكمةُ العبارةِ محفوظةٌ من الاحتمال والاشتباه { هُنَّ أُمُّ الكتاب } أي أصلٌ فيه وعُمدةٌ يُردُّ إليها غيرُها فالمرادُ بالكتابِ كلُّه ، والإضافة بمعنى في كما في واحد العشرةِ لا بمعنى اللام فإن ذلك يؤدي إلى كون الكتاب عبارةً عما عدا المحكماتِ ، والجملةُ إما صفةٌ لما قبلها أو مستأنفةٌ وإنما أفرد الأم مع تعدد الآيات لما أن المراد بيانُ أصليةِ كل واحدةٍ منها أو بيانُ أن الكل بمنزلة آية واحدة كما في قوله تعالى : { وجعلناها وابنها ءايَةً للعالمين } وقيل : اكتُفيَ بالمفرد عن الجمع كما في قول الشاعر :
بها جِيَفُ الحسْرى فأما عظامُها ... فبِيضٌ وأما جِلْدُها فصَليبُ
أي وأما جلودها { وَأَخَّرَ } نعتُ المحذوف معطوفٌ على آياتٌ أي وآياتٌ أخَرُ وهي جمع أخرى ، وإنما لم ينصَرِفْ لأنه وصف معدول عن الآخِر أو عن آخر من { متشابهات } صفة لأخَرُ وفي الحقيقة صفةٌ للمحذوف أي محتمِلاتٌ لمعانٍ متشابهة لا يمتاز بعضها عن بعض في استحقاق الإرادة بها ولا يتضح الأمرُ إلا بالنظر الدقيق والتأملِ الأنيق ، فالتشابه في الحقيقة وصفٌ لتلك المعاني وُصف به الآياتُ على طريقة وصف الدالِّ بوصف المدلول ، وقيل : لما كان من شأن الأمور المتشابهة أن يعجِزَ العقل عن التمييز بينها سُمِّي كل ما لا يهتدي إليه العقل متشابهاً وإن لم يكن ذلك بسبب التشابه كما أن المُشكِل في الأصل ما دخل في أشكاله وأمثاله ولم يُعلم بعينه ، ثم أطلق على كل غامض وإن لم يكن غموضُه من تلك الجهة ، وإنما جعل ذلك كذلك ليظهر فضلُ العلماء ويزدادَ حِرصهم على الاجتهاد في تدبرها وتحصيل العلوم التي نيط بها استنباطُ ما أريد بها من الأحكام الحقة فينالوا بها وبإتعاب القرائح في استخراج مقاصدِها الرائقة ومعانيها اللائقة المدارجَ العالية ويعرِّجوا بالتوفيق بينها وبين المُحْكمات من اليقين والاطمئنان إلى المعارج القاصيةِ ، وأما قولُه عز وجل :(1/352)
{ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءاياته } فمعناه أنها حُفِظت من اعتراء الخلل أو من النسخ ، أو أُيِّدت بالحُجج القاطعةِ الدالةِ على حقِّيتها أو جُعلت حكيمةً لانطوائها على جلائل الحِكَم البالغةِ ودقائقِها ، وقوله تعالى : { كتابا متشابها مَّثَانِيَ } معناه متشابهُ الأجزاء أي يشبه بعضُها بعضاً في صحة المعنى وجزالةِ النظم وحقية المدلول .
{ فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } أي ميلٌ عن الحق إلى الأهواء الباطلة . قال الراغبُ : الزيغُ الميلُ عن الاستقامة إلى أحد الجانبين ، وفي جعل قلوبهم مقراً للزيغ مبالغةٌ في عدولهم عن سَنن الرشاد وإصرارِهم على الشر والفساد { فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ } مُعْرضين عن المُحْكمات أي يتعلقون بظاهر المتشابه من الكتاب أو بتأويل باطلٍ لا تحرِّياً للحق بعد الإيمان بكونه من عند الله تعالى بل { ابتغاء الفتنة } أي طلبَ أن يفتِنوا الناسَ عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضةِ المُحكم بالمتشابه كما نُقل عن الوفد { وابتغاء تَأْوِيلِهِ } أي وطلبَ أن يؤوّلوه حسبما يشتهونه من التأويلات الزائغةِ والحال أنهم بمعزل من تلك الرتبة وذلك قوله عز وجل : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والرسخون فِي العلم } فإنه حالٌ من ضمير { فَيَتَّبِعُونَ } باعتبار العلة الأخيرة أي يتّبعون المتشابهِ لابتغاء تأويلِه والحالُ أنه مخصوصٌ به تعالى وبمن وفّقه له من عباده الراسخين في العلم أي الذين ثبَتوا وتمكّنوا فيه ولم يتزلزلوا في مزالِّ الأقدام ، وفي تعليل الاتّباعِ بابتغاء تأويلِه دون نفسِ تأويلِه وتجريدِ التأويل عن الوصف بالصحة أو الحقية إيذانٌ بأنهم ليسوا من التأويل في شيء وأن ما يبتغونه ليس بتأويل أصلاً لا أنه تأويلٌ غيرُ صحيح قد يُعذر صاحبه ، ومن وقف على { إِلاَّ الله } فسّر المتشابهَ بما استأثر الله عز وعلا بعلمه كمدة بقاءِ الدنيا ووقتِ قيام الساعة وخواصِّ الأعداد كعدد الزبانية أو بما دل القاطعُ على عدم إرادة ظاهرِه ولم يدل على ما هو المراد به .
{ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ } أي بالمتشابه ، وعدمُ التعرُّض لإيمانهم بالمُحْكم لظهوره ، أو بالكتاب والجملة على الأول استئنافٌ موضِّحٌ لحال الراسخين أو حال منه وعلى الثاني خبر لقوله تعالى : { والرسخون } وقوله تعالى : { كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا } من تمام المَقول مقرِّر لما قبله ومؤكِّد له أي كلُّ واحدٍ منه ومن المحكم ، أو كلُّ واحدٍ من متشابهه ومحكَمِه منزلٌ من عنده تعالى لا مخالفةَ بينهما ، أو آمنا به وبحقيته على مراده تعالى { وَمَا يَذَّكَّرُ } حقَّ التذكر { إِلاَّ أُوْلُواْ الالباب } أي العقولِ الخاصةِ عن الركون إلى الأهواء الزائغةِ وهو تذييلٌ سيق من جهته تعالى مدحاً للراسخين بجَوْدة الذهن وحسنِ النظر وإشارةً إلى ما به استعدوا للاهتداء إلى تأويله من تجرد العقلِ عن غواشي الحِسِّ ، وتعلقُ الآيةِ الكريمة بما قبلها من حيث إنها جوابٌ عما تشبّث به النصارى من نحو قوله تعالى :(1/353)
{ وَكَلِمَتُهُ ألقاها إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ } على وجه الإجمال وسيجيء الجوابُ المفصل بقوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }(1/354)
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا } من تمام مقالةِ الراسِخين أي لا تُزِغْ قلوبَنا عن نهج الحقِّ إلى اتباع المتشابهِ بتأويلٍ لا ترتضيه ، قال صلى الله عليه وسلم : « قلبُ ابن آدمَ بين أصْبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه على الحقّ وإن شاء أزاغه عنه » وقيل : معناه لا تَبْلُنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا { بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } أي إلى الحق والتأويل الصحيح أو إلى الإيمان بالقسمين وبعد نُصبَ بلا تزِغ على الظرف وإذْ في محل الجر بإضافته إليه خارجٌ من الظرفية أي بعد وقت هدايتِك إيانا وقيل : إنه بمعنى أنْ { وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ } كِلا الجارّين متعلقٌ بهَبْ وتقديم الأول لما مر مراراً ويجوز تعلّقُ الثاني بمحذوف هو حالٌ من المفعول أي كائنة من لدنك ومن لابتداء الغاية المجازية ولدُنْ في الأصل ظرف بمعنى أولُ غايةِ زمانٍ أو مكان أو غيرِهما من الذوات نحوُ من لدُنْ زيدٍ وليست مرادفةً لعند إذ قد تكون فضلة ، وكذا لدى ، وبعضُهم يخُصُّها بظرف المكان وتضاف إلى صريح الزمان كما في قوله :
تنتفضُ الرّعدةُ في ظُهَيْري ... من لدنِ الظُهرِ إلى العُصَيرِ
ولا تُقطع عن الإضافة بحال ، وأكثرُ ما تضاف إلى المفردات وقد تضاف إلى أنْ وصلتِها كما في قوله :
ولم تقْطعَ اصلاً من لدنْ أنْ ولِيتَنا ... قرابةَ ذي رَحْمٍ ولا حقَّ مسلمِ
أي من لدن ولايتِك إيانا وقد تضاف إلى الجملة الاسميةِ كما في قوله :
تَذَكَّرُ نُعماه لدُنْ أنت يافعُ ... وإلى الجملة الفعلية أيضاً كما في قوله :
لزِمنا لدنْ سالمتمونا وِفاقَكم ... فلا يكُ منكم للخِلاف جُنوحُ
وقلما تخلو عن من كما في البيتين الأخيرين { رَحْمَةً } واسعةً تُزلِفُنا إليك ونفوزُ بها عندك أو توفيقاً للثبات على الحق ، وتأخيرُ المفعول الصريح عن الجارّين لما مر مراراً من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر فإن من حقه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقبةً لوروده لا سيما عند الإشعارِ بكونه من المنافعِ باللام فإذا أورده يتمكن عندها فضلُ تمكّنٍ { إِنَّكَ أَنتَ الوهاب } تعليل للسؤال أو لإعطاء المسؤولِ وأنت إما مبتدأٌ أو فصلٌ أو تأكيدٌ لاسم إنّ وإطلاقُ الوهاب ليتناول كلَّ موهوب ، وفيه دِلالة على أن الهدى والضلال من قِبله تعالى وأنه متفضّلٌ بما يُنعم به على عباده من غير أن يجب عليه شيء .
{ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ } أي لحساب يومِ أو لجزاء يوم حُذف المضاف وأقيم مُقامه المضافُ إليه تهويلاً له وتفظيعاً لما يقع فيه { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي في وقوعه ووقوعِ ما فيه من الحشر والحسابِ والجزاء ، ومقصودُهم بهذا عرضُ كمالِ افتقارِهم إلى الرحمة وأنها المقصِدُ الأسنى عندهم ، والتأكيدُ لإظهار ما هم عليه من كمال الطمأنينةِ وقوة اليقينِ بأحوال الآخرة { إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } تعليلٌ لمضمون الجملة المؤكدةِ أو لانتفاء الريب ، والتأكيد لما مر ، وإظهارُ الاسمِ الجليل مع الالتفات لإبراز كمالِ التعظيم والإجلالِ الناشىء من ذكر اليوم المَهيب الهائل بخلاف ما في آخر السورة الكريمة فإنه مقامُ طلب الإنعام كما سيأتي وللإشعار بعلة الحُكم فإن الألوهيةَ منافيةٌ للإخلاف وقد جُوّز أن تكون الجملةُ مَسوقةً من جهته تعالى لتقرير قولِ الراسخين ، والميعادُ مصدرٌ كالميقات واستُدل به الوعيدية وأجيب بأن وعيدَ الفساقِ مشروطٌ بعدم العفو بدلائلَ مفصلةٍ كما هو مشروط بعدم التوبة وِفاقاٌ .(1/355)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ } إثرَ ما بين الدينَ الحقَّ والتوحيد وذكر أحوالَ الكتب الناطقةِ به وشرح شأن القرآنِ العظيم وكيفيةِ إيمانِ العلماء الراسخين به شَرَع في بيان حال مَنْ كفر به ، والمرادُ بالموصول جنسُ الكفرة الشاملُ لجميع الأصناف ، وقيل : وفدُ نجرانَ أو اليهودُ من قريظةَ والنضِير أو مشركو العرب { لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ } أي لن تنفعَهم وقرىء بالتذكير وبسكون الياء جِدّاً في استثقال الحركة على حروف اللين { أموالهم } التي يبذُلونها في جلب المنافع ودفعِ المضارّ { وَلاَ أولادهم } الذين بهم يتناصرون في الأمور المُهمة وعليهم يعوّلون في الخطوب المُلمة ، وتأخيرُ الأولاد عن الأموال مع توسيط حرف النفي بينهما إما لعراقة الأولادِ في كشف الكروب ، أو لأن الأموال أولُ عُدّة يُفزع إليها عند نزول الخطوب { مِنَ الله } من عذابه تعالى { شَيْئاً } أي شيئاً من الإغناء ، وقيل : كلمة من بمعنى البدل والمعنى بدلَ رحمةِ الله أو بدلَ طاعته كما في قوله تعالى : { إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا } أي بدل الحق ومنه قوله : ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدُّ أي لا ينفعه جَدُّه بدلك أي بدلَ رحمتك كما في قوله تعالى : { وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى } وأنت خبير بأن احتمال سدِّ أموالِهم وأولادهم مسدَّ رحمة الله تعالى أو طاعته مما لا يخطُر ببال أحد حتى يُتصدَّى لنفيه ، والأولُ هو الأليقُ بتفظيع حال الكفرة وتهويل أمرهم والأنسبُ بما بعده من قوله تعالى : { وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النار } ومن قوله تعالى : { فَأَخَذَهُمُ الله } أي أولئك المتّصفون بالكفر حطبُ النار وحصَبُها الذي تُسعّر به ، فإن أريد بيانُ حالِهم عند التسعير فإيثارُ الجملةِ الاسمية للدِلالة على تحقق الأمر وتقرّره ، وإلا فهو للإيذان بأن حقيقة حالِهم ذلك ، وأن أحوالهم الظاهرةَ بمنزلة العدم فهم حال كونهم في الدنيا وَقودُ النار بأعيانهم . وفيه من الدلالة على كمال ملابستهم بالنار ما لا يخفى و { هُمْ } يحتمل الابتداءَ وأن يكون ضميرَ فصلٍ والجملة إما مستأنفةٌ مقرِّره لعدم الإغناء أو معطوفة على خبر إن ، وأيا ما كان ففيها تعيينٌ للعذاب الذي بيّن أن أموالهم وأولادهم لا تغني عنهم منه شيئاً . وقرىء وُقود النار بضم الواو وهو مصدر أي أهلُ وقودها { كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ } الدأبُ مصدر دأَبَ في العمل إذا كدح فيه وتعِب غلب استعمالُه في معنى الشأن والحال والعادة ، ومحلُّ الكاف الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدإٍ محذوف وقد جُوِّز النصبُ بلن تغني أو بالوَقود أي لن تغني عنهم كما لم تغنِ عن أولئك أو توقد بهم النارُ كما توقد بهم ، وأنت خبير بأن المذكور في تفسير الدأب إنما هو التكذيبُ والأخذ من غير تعرُّض لعدم الإغناء لا سيما على تقدير كونِ مِنْ بمعنى البدل كما هو رأيُ المجوِّز ، ولا لإيقاد النار فيُحمل على التعليل وهو خلافُ الظاهر على أنه يلزَمُ الفصلُ بين العامل والمعمول بالأجنبي على تقدير النصب بأن تغني وهو قوله تعالى : { وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النار } إلا أن يُجعل استئنافاً معطوفاً على خبر إن فالوجهُ هو الرفعُ على الخبرية أي دأبُ هؤلاءِ في الكفر وعدمِ النجاة من أخْذِ الله تعالى وعذابه كدأب آلِ فرعون { والذين مِن قَبْلِهِمْ } أي من قبل آلِ فرعونَ من الأمم الكافرة ، فالموصولُ في محل الجر عطفاً على ما قبله وقوله تعالى : { كَذَّبُواْ بئاياتنا } بيانٌ وتفسير لدأبهم الذي فعلوا ، على طريق الاستئناف المبني على السؤال كأنه قيل : كيف كان دأبهم؟ فقيل : كذبوا بآياتنا وقوله تعالى : { فَأَخَذَهُمُ الله } تفسيرٌ لدأبهم الذي فُعل بهم أي فأخذهم الله وعاقبهم ولم يجدوا من بأس الله تعالى محيصاً ، فدأبُ هؤلاء الكفرةِ أيضاً كدأبهم ، وقيل : كذبوا الخ حال من { فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ } على إضمار قد أي دأبُ هؤلاء كدأب أولئك وقد كذبوا الخ ، وأما كونه خبراً عن الموصول كما قيل فمما يذهب برونق النظم الكريم ، والالتفاتُ إلى التكلم أولاً للجري على سنن الكبرياء ، وإلى الغَيبة ثانياً بإظهار الجلالة لتربية المهابةِ وإدخالِ الروعة .(1/356)
{ بِذُنُوبِهِمْ } إن أريد بها تكذيبُهم بالآيات فالباء للسببية جيء بها تأكيداً لما تفيده الفاء من سببية ما قبلها لما بعدها وإن أريد بها سائرُ ذنوبهم فالباء للملابسة جيء بها للدلالة على أن لهم ذنوباً أخرى أي فأخذهم ملتبسين بذنوبهم غيرَ تائبين عنها كما في قوله تعالى : { وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون } والذنب في الأصل التِلْوُ والتابع ، وسُمّيت الجريمةُ ذنباً لأنها تتلو أي يتبعُ عقابُها فاعلَها { والله شَدِيدُ العقاب } تذييلٌ مقرِّر لمضمون ما قبله من الأخذ وتكملةٌ له .(1/357)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
{ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } المرادُ بهم اليهودُ لما رويَ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يهودَ المدينة لما شاهدوا غلبةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على المشركين يومَ بدرٍ قالوا : والله إنه النبيُّ الأميُّ الذي بشرنا به موسى في التوراة نعتُه وهموا باتباعه فقال بعضُهم : لا تعجَلوا حتى ننظُر إلى وقعة له أخرى فلما كان يومُ أحُد شكّوا وقد كان بينهم وبين رسول الله عهدٌ إلى مدة فنقضوه وانطلق كعبُ بن الأشرف في ستين راكباً إلى أهل مكة فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت ، وعن سعيد بن جبير وعِكرمةَ عن ابن عباس رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصاب قريشاً ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهودَ في سوق بني قَينُقاع فحذّرهم أن ينزل بهم ما نزل بقريش فقالوا : لا يغرَّنك أنك لقِيت قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب فأصبْتَ منهم فرصة لئن قاتلْتَنا لعلِمْتَ أنا نحنُ الناسُ فنزلت ، أي قل لهم : { سَتُغْلَبُونَ } اْلبتةَ عن قريب في الدنيا وقد صدق الله عز وجل وعدَه بقتل بني قريظة وإجلاءِ بني النضِير وفتح خبير وضربِ الجزية على مَنْ عداهم وهو من أوضح شواهد النبوة وأما ما روي عن مقاتل من أنها نزلت قبل بدر وأن الموصول عبارة عن مشركي مكةَ ولذلك قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر : « إنَّ الله غالبُكم وحاشرُكم إلى جهنم وبئس المهاد » فيؤدي إلى انقطاع الآية الكريمة عما بعدها لنزوله بعد وقعة بدر { وَتُحْشَرُونَ } أي في الآخرة { إلى جَهَنَّمَ } وقرىء الفعلان بالياء على أنه عليه السلام أُمر بأن يحكيَ لهم ما أخبر الله تعالى به من وعيدهم بعبارته كأنه قيل : أدِّ إليهم هذا القول { وَبِئْسَ المهاد } إما من تمام ما يقال لهم أو استئنافٌ لتهويل جهنم وتفظيع حالِ أهلها ، والمخصوصُ بالذم محذوف أي وبئس المهاد جهنمُّ أو ما مَهَدوه لأنفسهم .(1/358)
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
{ قَدْ كَانَ لَكُمْ } جوابُ قسمٍ محذوفٍ وهو من تمام القول المأمور به جيء به لتقرير مضمونِ ما قبله وتحقيقِه ، والخطابُ لليهود أيضاً والظرف خبر كان على أنها ناقصة ولتوسطه بينها وبين اسمها تُرك التأنيث كما في قوله :
إن أمراً غرّه منكن واحدة ... بعدي وبعدك في الدنيا لمغرورُ
على أن التأنيث هاهنا غير حقيقي أو هو متعلق بكان على أنها تامة وإنما قدم على فاعلها لما مر مراراً من الاعتناء بما قُدّم والتشويق إلى ما أُخِّر أي والله قد كان لكم أيها المغترون بعددهم وعُدَدهم { ءايَةً } عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم إنكم ستُغلبون { فِي فِئَتَيْنِ } أي فرقتين أو جماعتين فإن المغلوبة منهما كانت مدلة بكثرتها معجبة بعزتها وقد لقِيَها ما لقيها فسيصيبُكم ما يصيبكم ، ومحلُ الظرف الرفعُ على أنه صفة لآيةٌ وقيل : النصب على خبرية كان والظرف الأول متعلق بمحذوف من آية { التقتا } في حيز الجر على أنه صفة فئتين أي تلاقتا بالقتال يوم بدر { فِئَةٌ } بالرفع خبرُ مبتدإٍ محذوف أي إحداهما فئة كما في قوله :
إذا متّ كان الناسُ حزبين : شامت ... وآخَرُ مُثنٍ بالذي كنت أصنعُ
أي أحدهما شامت والآخر مثنٍ وقولِه :
حتى إذا ما استقلّ النجمُ في غلَس ... وغودر البقلُ ملويٌّ ومحصودُ
والجملة مع ما عطف عليها مستأنفةٌ لتقرير ما في الفئتين من الآية وقوله تعالى : { تقاتل فِى سَبِيلِ الله } في محل الرفع على أنه صفةُ { فِئَةٌ } كأنه قيل : فئة مؤمنة ولكن ذُكر مكانه من أحكام الإيمان ما يليقُ بالمقام مدحاً لهم واعتداداً بقتالهم وإيذاناً بأنه المدارُ في تحقق الآية وهي رؤية القليل كثيراً وقرىء يقاتل على تأويل الفئة بالقوم أو الفريق { وأخرى } نعت لمبتدأ محذوف معطوف على ما حذف من الجملة الأولى أي وفئة أخرى وإنما نكرت والقياس تعريفها كقرينتها لوضوح أن التفريق لنفس المثنى المقدم ذكره وعدم الحاجة إلى التعريف وقوله تعالى : { كَافِرَةٌ } خبرُ المبتدأ المحذوف وإنما لم توصف هذه الفئة بما يقابل صفة الفئة الأولى إسقاطاً لقتالهم عن درجة الاعتبار وإيذاناً بأنهم لم يتصدَّوْا للقتال لما اعتراهم من الرعب والهيبة وقيل : كلٌّ من المتعاطِفَين بدل من الضمير في { التقتا } وما بعدهما صفة فلا بد من ضمير محذوفٍ عائدٍ إلى المبدل منه مسوِّغٍ لوصف البدل بالجملة العارية عن ضميره أي فئةٌ منهما تقاتل الخ وفئة أخرى كافرة ، ويجوز أن يكون كلٌّ منهما مبتدأً وما بعدهما خبراً ، وقيل : كل منهما مبتدأ محذوف الخبر أي منمهما فئة تقاتل الخ وقرىء فئةٍ بالجر على البدلية من فئتين بدلَ بعض من كل وقد مر أنه لا بد من ضمير عائد إلى المبدل منه ويسمى بدلاً تفصيلياً كما في قول كثير عزة :(1/359)
وكنت كذي رِجلين رِجلٍ صحيحة ... ورجلٍ رمى فيها الزمانُ فَشُّلَّت
وقرىء فئة الخ بالنصب على المدح أو على الحالية من ضمير التقتا كأنه قيل : التقتا مؤمنةً وكافرةً فيكون { فِئَةٌ } و { أخرى } توطئةً لما هو الحال حقيقة إذ المقصودُ بالذكر وصْفاهما كما في قولك : جاءني زيد رجلاً صالحاً .
{ يَرَوْنَهُمْ } أي يري الفئةُ الأخيرةُ الفئةُ الأولى ، وإيثارُ صيغة الجمعِ للدلالة على شمول الرؤيةِ لكل واحدٍ واحدٍ من آحاد الفئة ، والجملةُ في محل الرفع على أنها صفةٌ للفئة الأخيرة أو مستأنفة مبيّنةٌ لكيفية الآية { مّثْلَيْهِمْ } أي مثليْ عددِ الرائين ألفين إذا كانوا قريباً من ألف . كانوا تسعمائةٍ وخمسين مقاتلاً رأسَهم عُتْبةُ بنُ ربيعةَ بنِ عَبْد شَمْس وفيهم أبو سفيانَ وأبو جهلٍ وكان فيهم من الخيل والإبل مائةُ فرسٍ وسبعُمائة بعير ومن أصناف الأسلحة عددٌ لا يحصى ، عن محمد بن أبي الفرات عن سعد بن أوس أنه قال : أسرَ المشركون رجلاً من المسلمين فسألوه كم كنتم؟ قال : ثلثُمائةٍ وبضعةَ عشرَ قالوا : ما كنا نراكم إلا تُضعِفون علينا ، أو مثلي عددِ المرئيّين أي ستَّمائةٍ ونيفاً وعشرين حيث كانوا ثلثمائة وثلاثةَ عشرَ رجلاً سبعةٌ وسبعون رجلاً من المهاجرين ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار رضوانُ الله تعالى عليهم أجمعين وكان صاحبَ رايةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه وصاحبَ راية الأنصار سعدُ بن عبادة الخزرجي وكان في العسكر تسعون بعيراً وفَرَسان أحدُهما للمِقداد بن عَمْرو والآخر لمَرْثَد بن أبي مَرْثَد وستُّ أدرع وثمانيةُ سيوف وجميع من استُشهد يومئذ من المسلمين أربعةَ عشرَ رجلاً ستةٌ من المهاجرين وثمانية من الأنصار رضوان الله تعالى عليهم أجمعين أراهم الله عز وجل كذلك مع قِلتهم ليَهابوهم ويَجبُنوا عن قتالهم مدداً لهم منه سبحانه كما أمدهم بالملائكة عليهم السلام وكان ذلك عند التقاء الفئتين بعد أن قلَّلَهم في أعينهم عند ترائيهما ليجترئوا عليهم ولا يهرُبوا من أول الأمر حين ينجيهم الهرب ، وقيل : يري الفئةُ الأولى الفئةُ الأخيرةَ مثليْ أنفسِهم مع كونهم ثلاثةَ أمثالِهم ليثبُتوا ويطمئنوا بالنصر الموعود في قوله تعالى : { فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } والأول هو الأولى لأن رؤية المِثلين غيرُ متعيّنةٍ من جانب المؤمنين بل قد وقعت رؤيةُ المثل بل أقلَّ منه أيضاً فإنه روي أن ابن مسعود رضي الله عنه قال : نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يُضعِفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً ثم قلّلهم الله تعالى أيضاً في أعينهم حتى رأوهم عدداً يسيراً أقلَّ من أنفسهم .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : لقد قُلِّلوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعين؟ قال : أراهم مائة ، فأسرنا منهم رجلاً فقلنا : كم كنتم؟ قال : ألفاً ، فلو أريد رؤية المؤمنين المشركين أقلَّ من عددهم في نفس الأمر كما في سورة الأنفال لكانت رؤيتُهم إياهم أقلَّ من أنفسهم أحقَّ بالذكر في كونهم آيةً من رؤيتهم مِثلَيهم على أن إبانةَ آثارِ قُدرةِ الله تعالى وحكمتِه للكفرة بإراءتهم القليلَ كثيراً والضعيفَ قوياً وإلقاءِ الرعب في قلوبهم بسبب ذلك أدخلُ في كونها آيةً لهم وحجةً عليهم وأقربَ إلى اعتراف المخاطبين بذلك لكثرة مخالطتِهم الكفرةَ المشاهدين للحال وكذا تعلقُ الفعل بالفاعل أشد من تعلقه بالمفعول ، فجعلُ أقربِ المذكورَين السابقَين فاعلاً وأبعدِهما مفعولاً سواءٌ جعلُ الجملة صفةً أو مستأنفة أولى من العكس هذا ما تقضيه جزالةُ التنزيلِ على قراءة الجُمهور ، ولا ينبغي جعلُ الخطاب لمشركي مكة كما قيل أما إن جُعل الوعيد عبارةً عن هزيمة بدر كما صرحوا به فظاهرٌ لا خفاء فيه وأما إن جُعل عبارةً عن هزيمة أخرى فلأن الفئةَ التي شاهدت تلك الآيةَ الهائلة هم المخاطبون حينئذ بالتعبير عنهم بفئة مُبهمةٍ تارة وموصوفةٍ أخرى ثم إسنادُ المشاهدة إليها مع كون إسنادها إلى المخاطبين أوقعُ في إلزام الحجة وأدخلُ في التبكيت مما لا داعي إليه ، وبهذا يتبين سرُّ جعلِ الخطابِ الثاني للمؤمنين ، وأما قراءة ترونهم بتاء الخطاب فظاهرُها وإن اقتضى توجيهَ الخطابِ الثاني إلى المشركين لكنه ليس بنص في ذلك لأنه وإن اندفع به المحذورُ الأخيرُ فالأولُ باقٍ بحاله فلعل رؤية المشركين نزلت منزلةَ رؤيةِ اليهود لما بينهم من الاتحاد في الكفر والاتفاق في الكلمة لا سيما بعد ما وقع بينهم بواسطة كعب بن الأشرف من العهد والميثاق ، فأُسندت الرؤيةُ إليهم مبالغةً في البيان وتحقيقاً لعُروض مثلِ تلك الحالة لهم فتدبر .(1/360)
وقيل : المرادُ جميعُ الكفرة ولا ريب في صحته وسَداده ، وقرىء يُرَونهم وتُرَونهم على البناء للمفعول من الإراءة أي يُريهم أو يريكم الله تعالى كذلك { رَأْىَ العين } مصدر مؤكدٌ ليَرَوْنهم إن كانت الرؤية بصريةً ، أو مصدر تشبيهيّ إن كانت قلبية أي رؤيةً ظاهرة مكشوفةً جارية مجرى رؤية العين { والله يُؤَيّدُ } أي يقوي { بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء } أي يؤيده من غير توسيط الأسباب العادية كما أيد الفئةَ المقاتلة في سبيله بما ذكر من النصر وهو تمام القول المأمور به { إِنَّ فِى ذَلِكَ } إشارةٌ إلى ما ذكر من رؤية القليل كثيراً المستتبعةِ لغَلَبة القليل العديمِ العُدة على الكثير الشاكي السلاحِ ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببُعد منزلةِ المشار إليه في الفضل { لَعِبْرَةً } العبرة فِعلة من العبور كالرِّكبة من الركوب والجِلْسة من الجلوس والمرادُ بها الاتعاظ فإنه نوعٌ من العبور أي لعبرةً عظيمة كائنة { لاِوْلِى الابصار } لذوي العقولِ والبصائر وقيل : لمن أبصرهم ، وهو إما من تمام الكلام الداخلِ تحت القول مقرِّر لما قبله بطريق التذييل وإما واردٌ من جهته تعالى تصديقاً لمقالته عليه الصلاة والسلام .(1/361)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
{ زُيّنَ لِلنَّاسِ } كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان حقارةِ شأن الحظوظ الدنيوية بأصنافها وتزهيدٌ للناس فيها وتوجيهٌ لرغباتهم إلى ما عنده تعالى إثرَ بيانِ عدم نفعِها للكفرة الذين كانوا يتعزّزون بها والمرادُ بالناس الجنس { حُبُّ الشهوات } الشهوة نزوعُ النفس إلى ما تريده والمراد هاهنا المشتهَيات ، عبّر عنها بالشهوات مبالغةَ كونِها مشتهاةً مرغوباً فيها كأنها نفسُ الشهوات أو إيذاناً بانْهماكِهم في حبها بحيث أحبوا شهواتِها كما في قوله تعالى : { إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير } أو استرذالاً لها فإن الشهوة مسترذَلةٌ مذمومة من صفات البهائم ، والمزيِّنُ هو الباري سبحانه وتعالى إذ هو الخالقُ لجميع الأفعال والدواعي والحكمةُ في ذلك ابتلاؤهم ، قال تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الارض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ } الآية ، فإنها ذريعة لنيل سعادة الدارين عند كونِ تعاطيها على نهج الشريعةِ الشريفة ووسيلةً إلى بقاء النوع ، وإيثارُ صيغة المبني للمفعول للجري على سَنن الكبرياء ، وقرىء على البناء للفاعل وقيل : المزيِّنُ هو الشيطان لما أن مساقَ الآية الكريمة على ذمها . وفرّق الجبائيّ بين المباحات فأسند تزيينها إليه تعالى ، وبين المحرمات فنسب تزيينها إلى الشيطان { مِنَ النساء والبنين } في محل النصب على أنه حال من الشهوات وهي مفسِّرة لها في المعنى ، وقيل : { مِنْ } لبيان الجنس وتقديمُ النساء على البنين لعراقتهن في معنى الشهوة فإنهن حبائلُ الشيطان وعدم التعرض للبنات لعدم الاطّراد في حبهن { والقناطير المقنطرة } جمعُ قِنطار وهو المالُ الكثير ، وقيل : مائةُ ألفِ دينار وقيل : ملءُ مَسْكِ ثور ، وقيل : سبعون ألفاً وقيل : أربعون ألفَ مثقالٍ ، وقيل : ثمانون ألفاً وقيل : مائةُ رِطل وقيل : ألفٌ ومِائتَا مثقالٍ ، وقيل : ألفُ دينار وقيل : مائة قنطار ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم وقيل : ديةُ النفس واختلف في أن وزنه فعلال أو فنعال ، ولفظُ ( المقنطرة ) مأخوذ منه للتأكيد كقولهم : بَدْرةٌ مُبدَرة ، وقيل : المقنطرة المحْكمة المحْصنة ، وقيل : الكثيرة المُنضّدة بعضُها على بعض أو المدفونة المضروبة المنقوشة .
{ مِنَ الذهب والفضة } بيان للقناطير أو حال { والخيل } عطف على القناطير وقيل : هي جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط ، والواحد فرس وقيل : واحدُه خائل وهو مشتق من الخُيلاء { المسومة } أي المُعْلمة من السِمة وهي العلامة أو المرْعيّة من أسام الدابة وسوَّمها إذا أرسلها وسيَّبها للرعي أو المُطَهّمة التامةُ الخَلقْ { والانعام } أي الإبل والبقر والغنم { والحرث } أي الزرع مصدر بمعنى المفعول .
{ ذلك } أي ما ذكر من الأشياء المعهودة { مَّتَاعَ الحياة الدنيا } أي ما يُتمتّع به في الحياة الدنيا أياماً قلائلَ فتفنى سريعاً { والله عِندَهُ حُسْنُ المأب } حسنُ المرجِع ، وفيه دلالةٌ على أن ليس فيما عُدّد عاقبةٌ حميدة ، وفي تكرير الإسناد بجعل الجلالة مبتدأ وإسنادِ الجملة الظرفية إليه زيادةُ تأكيدٍ وتفخيم ومزيدُ اعتناء بالترغيب فيما عند الله عز وجل من النعيم المقيم ، والتزهيدُ في ملاذّ الدنيا وطيباتها الفانية .(1/362)
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)
{ قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم } إثرَ ما بيّن شأنَ مُزخْرَفات الدنيا وذكر ما عنده تعالى من حسن المآب إجمالاً أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتفصيل ذلك المُجمل للناس مبالغةً في الترغيب ، والخطابُ للجميع والهمزةُ للتقرير أي أأخبرُكم بما هو خير مما فُصّل من تلك المستلذات المزيّنة لكم؟ وإبهامُ الخبر لتفخيم شأنِه والتشويق إليه وقوله تعالى : { لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبّهِمْ جنات } استئنافٌ مبين لذلك المبْهم على أن { جنات } مبتدأ والجارّ والمجرور خبر ، أو على أن جناتٌ مرتفعٌ به على الفاعلية عند من لا يشترط في ذلك اعتمادَ الجار على ما فصل في محله ، والمراد بالتقوى هو التبتُل إلى الله تعالى والإعراضُ عما سواه على ما تنبىء عنه النعوتُ الآتيةُ ، وتعليقُ حصولِ الجنات وما بعدها من فنون الخيراتِ به للترغيب في تحصيله والثباتِ عليه ، و { عِندَ } نُصب على الحالية من جنات ، أو متعلق بما تعلق به الجار والمجرور من معنى الاستقرار مفيد لكمال علو رتبة الجنات وسمو طبقتها ، والتعرضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المتقين لإظهار مزيد اللطفِ بهم وقيل : اللامُ متعلقة بخير وكذا الظرفُ ، وجنات خبر لمبتدأ محذوف والجملة مبينة لخير ويؤيده قراءة جناتٍ بالجر على البدلية من خير ولا يخفى أن تعليق الإخبار والبيان بما هو خير لطائفة ربما يوهم أن هناك خيراً آخرَ لآخَرين { تَجْرِى } في محل الرفع والجر صفةٌ لجنات على حسب القراءتين { مِن تَحْتِهَا الانهار } متعلق بتجري فإن أريد بالجنات نفسُ الأشجار كما هو الظاهر فجريانُها من تحتها ظاهر وإن أريد بها مجموع الأرض والأشجار فهو باعتبار جزئها الظاهر كما مر تفصيلُه مراراً { خالدين فِيهَا } حال مقدرةٌ من المستكن في { لِلَّذِينَ } والعامل ما فيه من معنى الاستقرار { وأزواج مُّطَهَّرَةٌ } عطف على جنات أي مبرأة مما يستقذر من النساء من الأحوال البدنية والطبيعية { وَرِضْوَانٍ } التنوينُ للتفخيم وقوله تعالى : { مِنَ الله } متعلق بمحذوف وقع صفةً له مؤكدةٌ لما أفاده التنوين من الفخامة ، أيْ رضوانٌ وأيُّ رضوان ، لا يقادَر قدرُه كائنٌ من الله عز وجل وقرىء بضم الراء { والله بَصِيرٌ بالعباد } وبأعمالهم فيثيبُ ويعاقب حسبما يليق بها أو بصير بأحوال الذين اتقَوْا ولذلك أعد لهم ما ذكر ، وفيه إشعار بأنهم المستحقون بالتسمية باسم العبد .(1/363)
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
{ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا } في محل الرفعِ على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ كأنه قيل : مَنْ أولئك المتقون الفائزون بهذه الكرامات السنية فقيل : هم الذين الخ أو النصبِ على المدح أو الجر على أنه تابعٌ للمتقين نعتاً أو بدلاً أو للعباد كذلك والأول أظهر ، وقوله تعالى : { والله بَصِيرٌ بالعباد } حينئذ معترضةٌ ، وتأكيد الجملة لإظهار أن إيمانهم ناشىء من وفور الرغبة وكمال النشاط ، وفي ترتيب الدعاء بقولهم { فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النار } على مجرد الإيمان دَلالةٌ على كفايته في استحقاق المغفرة والوقاية من النار { الصابرين } هو على تقدير كونه الموصول في محل الرفع منصوبٌ على المدح بإضمار أعني وأما على تقدير كونه في محل النصب أو الجر فهو نعت له ، والمراد بالصبر هو الصبر على مشاقّ الطاعات وعلى البأساء والضراء وحين البأس { والصادقين } في أقوالهم ونياتهم وعزائمِهم { والقانتين } المداومين على الطاعات المواظبين على العبادات { والمنافقين } أموالَهم في سبيل الله تعالى { والمستغفرين بالاسحار } قال مجاهدٌ وقَتادةُ والكلبي : هم المصلون بالأسحار ، وعن زيد بن أسلَمَ : هم الذين يصلون الصبحَ في جماعة . وقال الحسن : مدُّوا الصلاة إلى السحر ثم استغفروا . وقال نافع : كان ابن عمرَ رضي الله عنه يحيي الليلة ثم يقول : يا نافع أسْحَرْنا؟ فأقول : لا فيعاود الصلاة فإذا قلت نعم قعد يستغفر الله ويدعو حتى يصبح ، وعن الحسن : كانوا يصلون في أول الليل حتى إذا كان السحر أخذوا في الدعاء والاستغفار . وتخصيصُ الأسحار بالاستغفار لأن الدعاء فيها أقربُ إلى الإجابة إذِ العبادة حينئذ أسبقُ والنفسُ أصفى والروح أجمعُ لا سيما للمتهجّدين ، وتوسيط الواو بين الصفات المعدودة للدلالة على استقلال كلَ منها وكمالهم فيها ، أو لتغايُر الموصوفين بها .
{ شَهِدَ الله أَنَّهُ } بفتح الهمزة أي بأنه أو على أنه { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } أي بيّنَ وحدانيتَه بنصب الدلائل التكوينية في الآفاق والأنفس وإنزالِ الآيات التشريعية الناطقة بذلك . عبر عنه بالشهادة على طريقة الاستعارة إيذاناً بقوته في إثبات المطلوبِ وإشعاراً بإنكار المنكر ، وقرىء إنه بكسر الهمزة إما بإجراء . { شَهِدَ } مُجرى قال ، وإما بجعل الجملة اعتراضاً وإيقاعِ الفعل على قوله تعالى : { إِنَّ الدّينَ } الخ على قراءة أن بفتح الهمزة كما سيأتي وقرىء شهداءٌ لله بالنصب على أنه حال من المذكورين أو على المدح وبالرفع على أنه خبر مبتدإٍ محذوف ومآله الرفع على المدح أي هم شهداء لله وهو إما جمع شهيد كظرفاء في جمع ظريف أو جمع شاهد كشعراء في جمع شاعر .
{ والملئكة } عطف على الاسم الجليل بحمل الشهادة على معنىً مجازيّ شامل للإقرار والإيمان بطريق عموم المجاز أي أقروا بذلك { وَأُوْلُو * العلم } أي آمنوا به واحتجوا عليه بما ذكر من الأدلة التكوينية والتشريعية ، قيل : المرادُ بهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقيل : المهاجرون والأنصار وقيل : علماء مؤمني أهلِ الكتاب كعبد اللَّه بن سلام وأضرابِه وقيل : جميعُ علماء المؤمنين الذين عرفوا وحدانيته تعالى بالدلائل القاطعة ، وارتفاعُهما على القراءتين الأخيرتين قيل : بالعطف على الضمير في شهداء لوقوع الفصل بينهما وأنت خبير بأن ذلك على قراءة النصبِ على الحالية يؤدي إلى تقييد حالِ المذكورين بشهادة الملائكة وأولي العلم ، وليس فيه كثيرُ فائدةٍ فالوجه حينئذٍ كونُ ارتفاعِهما بالابتداء والخبرُ محذوفٌ لدلالة الكلام عليه أي والملائكة وأولو العلم شهداء ولك أن تحمل القراءتين على المدح نصباً ورفعاً فحينئذ يحسُن العطفُ على المستتر على كل حال وقوله تعالى : { قَائِمَاً بالقسط } أي مقيماً للعدل في جميع أمورِه بيان لكماله تعالى في أفعاله إثرَ بيانِ كماله في ذاته وانتصابُه على الحالية من { الله } كما في قوله تعالى :(1/364)
{ وَهُوَ الحق مُصَدّقًا } وإنما جاز إفرادُه مع عدم جواز جاء زيد وعمرو راكباً لعدم اللَّبس كقوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } ولعل تأخيرَه عن المعطوفين للدَلالة على علو رتبتهما وقُرب منزلتهما والمسارعةِ إلى إقامة شهودِ التوحيد اعتناءً بشأنه ورفعاً لمحله ، والسرُّ في تقديمه على المعطوفين مع ما فيه من الإيذان بأصالته تعالى في الشهادة به كما مر في قوله تعالى : { الرسول بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ والمؤمنون } أو مِنْ { هُوَ } وهو الأوجه ، والعامل فيها معنى الجملة أي تفرّد ، أو أُحِقّه لأنها حال مؤكدة أو على المدح وقبل على أنه صفة للمنفي أي لا إله قائماً الخ والفصل بينهما من قبيل توسعاتهم وهو مندرج في المشهود به إذا جعل صفة أو حالاً من الضمير أو نصباً على المدح منه وقرىء القائمُ بالقسط على البدلية من { هُوَ } فيلزم الفصلُ بينهما كما في الصفة أو على أنه خبر لمبتدإ محذوف وقرىء قيّماً بالقسط .
{ لا إله إِلاَّ هُوَ } تكريرٌ للتأكيد ومزيدِ الاعتناء بمعرفة أدلةِ التوحيد والحُكم به بعد إقامة الحجةِ وليجرِيَ عليه قوله تعالى : { العزيز الحكيم } فيُعلمَ أنه المنعوتُ بهما ، ووجهُ الترتيب إذن تقدمُ العلمِ بقدرته على العلم بحكمته تعالى ورفعُهما على البدلية من الضمير أو الوصفية لفاعل شهد ، أو الخبرية لمبتدأ مُضمَر وقد روي في فضلها أنه عليه السلام قال : " يُجاء بصاحبها يومَ القيامة فيقول الله عز وجل : إن لعبدي هذا عندي عهداً ، وأنا أحقُّ من وفى بالعهد ، أدخلوا عبدي الجنة " وهو دليل على فضل علم أصولِ الدين وشرفِ أهله ، وروي عن سعيد بن جبير أنه كان حول البيت ثلثُمائة وستون صنماً فلما نزلت هذه الآية الكريمة خرَرْنَ سُجّداً . وقيل : نزلت في نصارى نَجرانَ . وقال الكلبي : قدم على النبي صلى الله عليه وسلم حَبرانِ من أحبار الشام فلما أبصرا المدينة قال أحدُهما : ما أشبه هذه المدينةَ بصفة مدينة النبي الذي يخرُج في آخر الزمان فلما دخلا عليه عليه السلام عرفاه بصفته فقالا له عليه السلام : أنت محمدٌ؟ قال صلى الله عليه وسلم : «نعم» قالا : وأنت أحمدُ؟ قال عليه السلام : " أنا محمدٌ وأحمد " قالا : فإنا نسألك عن شيء فإن أخبرتنا به آمنا بك وصدقناك قال عليه السلام : «سلا» فقال : أخبِرْنا عن أعظم شهادةٍ في كتاب الله عز وجل فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة فأسلم الرجلان .(1/365)
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
{ إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام } جملةٌ مستأنفة مؤكدةٌ للأولى أي لا دينَ مرضياً لله تعالى سوى الإسلام الذي هو التوحيدُ والتدرُّع بالشريعة الشريفة ، وعن قتادة أنه شهادةُ { أَن لاَّ إله إِلاَّ الله } والإقرارُ بما جاء من عند الله تعالى وقرىء إن الدين عند الله الإسلام وقرىء أن الدين الخ على أنه بدلُ الكل إن فُسر الإسلامُ بالإيمان أو بما يتضمنه وبدلُ الاشتمال إن فسر بالشريعة أو على أن شهد واقعٌ عليه تقديرُ قراءةِ إنه بالكسر كما أشير إليه { وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب } نزلت في اليهود والنصارى حين تركوا الإسلامَ الذي جاء به النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأنكروا نبوّته ، والتعبيرُ عنهم بالموصول وجعْلُ إيتاءِ الكتاب صلةً لزيادة تقبيحِ حالهم فإن الاختلاف ممن أوتي ما يزيلُه ويقطع شأفته في غاية القُبح والسماجة وقوله تعالى : { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم } استثناءٌ مفرَّغ من أعم الأحوال أو أعم الأوقات أي وما اختلفوا في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات إلا بعد أن علموا بأنه الحقُّ الذي لا محيدَ عنه أو بعد أن علموا حقيقةَ الأمرِ وتمكّنوا من العلم بها بالحُجج النيّرة والآيات الباهرةِ وفيه من الدِلالة على ترامي حالِهم في الضلالة ما لا يزيد عليه فإن الاختلافَ بعد حصول تلك المرتبةِ مما لا يصدر عن العاقل وقوله تعالى : { بَغْياً بَيْنَهُمْ } أي حسداً كائناً بينهم وطلباً للرياسة لا لشبهة وخفاءٍ في الأمر ، تشنيعٌ إثرَ تشنيعٍ .
{ وَمَن يَكْفُرْ بآيات الله } أي بآياته الناطقةِ بما ذكر من أن الدينَ عند الله تعالى هو الإسلامُ ولم يعمَلْ بمقتضاها أو بأية آيةٍ كانت من آياته تعالى على أن يدخل فيها ما نحن فيه دخولاً أولياً { فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } قائمٌ مقامَ جوابِ الشرطِ علةٌ له أي ومن يكفرْ بآياته فإنه يجازيه ويعاقبه عن قريب فإنه سريعُ الحساب أي يأتي حسابُه عن قريب أو يتم ذلك بسرعة ، وإظهارُ الجلالة لتربية المهابة وإدخالِ الروعة ، وفي ترتيب العقاب على مطلق الكفرِ بآياته تعالى من غير تعرضٍ لخصوصية حالِهم من كون كفرِهم بعد إيتاء الكتاب وحصولِ الاطلاع على ما فيه وكونِ ذلك للبغي دلالةٌ على كمال شدة عقابهم { فَإنْ حَاجُّوكَ } أي في كون الدين عند الله الإسلامَ أو جادلوك فيه بعد ما أقمت عليهم الحجج { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ } أي أخلصتُ نفسي وقلبي وجملتي ، وإنما عبر عنها بالوجه لأنه أشرفُ الأعضاء الظاهرة ومظهرُ القُوى والمشاعر ومجمعُ معظم ما تقع به العبادةُ من السجودِ والقراءة وبه يحصل التوجُّه إلى كل شيء { لِلَّهِ } لا أشرك به فيها غيرَه وهو الدينُ القويم الذي قامت عليه الحججُ ودعت إليه الآياتُ والرسلُ عليهم السلام { وَمَنِ اتبعن } عطفٌ على المتصل في أسلمتُ وحسُن ذلك لمكان الفصل الجاري مجرى التأكيد بالمنفصل أي وأسلم من اتبعني أو مفعول معه { وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب } أي من اليهود والنصارى ، وُضِع الموصولُ موضعَ الضمير لرعاية التقابل بين وصفي المتعاطِفَيْن { والاميين } أي الذين لا كتابَ لهم من مشركي العرب { ءأَسْلَمْتُمْ } متّبعين لي كما فعل المؤمنون فإنه قد أتاكم من البينات ما يوجبه ويقتضيه لا محالة فهل أسلمتم وعمِلتم بمقتضاها ، أو أنتم على كفركم بعدُ؟ كما يقول من لخّص لصاحبه المسألة ولم يدَعْ من طرق التوضيح والبيان مسلكاً إلا سلكه فهل فهِمتها؟ على منهاج قوله تعالى :(1/366)
{ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } إثرَ تفصيلِ الصوارفِ عن تعاطي الخمر والميسِر وفيه من استقصارهم وتعبيرِهم بالمعاندة وقلةِ الإنصافِ وتوبيخِهم بالبلادة وكلّة القريحةِ ما لا يخفى .
{ فَإِنْ أَسْلَمُواْ } أي كما أسلمتم وإنما لم يصرّح به كما في قوله تعالى : { فَإِنْ ءامَنُواْ بِمِثْلِ مَا ءامَنتُمْ بِهِ } حسماً لباب إطلاق اسم الإسلام على شيء آخر بالكلية { فَقَدِ اهتدوا } أي فازوا بالحظ الأوفر ونجَوْا عن مهاوي الضلال { وَإِن تَوَلَّوْاْ } أي أعرضوا عن الاتباع وقَبول الإسلام { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } قائم مقامَ الجواب أي لم يضرّوك شيئاً إذْ ما علي إلا البلاغُ وقد فعلت على أبلغِ وجه ، رُوي أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآيةَ على أهل الكتاب قالوا : أسلمنا ، فقال عليه السلام لليهود : « أتشهدون أن عيسى كلمةُ الله وعبدُه ورسولُه؟ » فقالوا : معاذ الله ، قال عليه الصلاة والسلام للنصارى : « أتشهدون أن عيسى عبدُ الله ورسولُه؟ » فقالوا : معاذ الله أن يكون عيسى عبداً وذلك قولُه عز وجل : { وَإِن تَوَلَّوْاْ } { والله بَصِيرٌ بالعباد } عالم بجميع أحوالهم وهو تذييل فيه وعد ووعيد .(1/367)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)
إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بآيات الله } أيَّ آيةٍ كانت فيدخُل فيهم الكافرون بالآيات الناطقةِ بحقية الإسلام على الوجه الذي مر تفصيلُه دخولاً أولياً { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقّ } هم أهلُ الكتاب قتل أوّلوهم الأنبياءَ عليهم السلام وقتلوا أتباعَهم وهم راضون بما فعلوا وكانوا قاتلهم الله تعالى حائمين حول قتلِ النبي صلى الله عليه وسلم لولا أن عصَم الله تعالى ساحتَه المنيعة ، وقد أُشير إليه بصيغة الاستقبال ، وقرىء بالتشديد للتكثير ، والتقييدُ بغير حق للإيذان بأنه كان عندهم أيضاً بغير حق { وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس } أي بالعدل ، ولعل تكريرَ الفعل للإشعار بما بين القتلين من التفاوت أو باختلافهما في الوقت ، عن أبي عبيدة بن الجراح قلتُ : يا رسول الله أيُّ الناسِ أشدُّ عذاباً يوم القيامة؟ قال : « رجل قتل نبياً ، أو رجلاً أمر بمعروف ونهي عن منكر » ثم قرأها ثم قال : « يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيلَ ثلاثةً وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائةٌ واثنا عشرَ رجلاً من عبّاد بني إسرائيل فأمروا قَتلَتهم بالمعروف ونهَوْهم عن المنكر فقُتلوا جميعاً من آخر النهار » وقرىء ويقاتلون الذين { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } خبر إن والفاء لتضمن اسمها معنى الشرط فإنها بالنسخ لا تغير معنى الابتداء بل تزيده تأكيداً وكذا الحال في النسخ بأن المفتوحة كما في قوله تعالى : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } وكذا النسخ بلكن كما في قوله :
فوالله ما فارقتُكم عن ملالة ... ولكنّ ما يقضى فسوف يكون
وإنما يتغير معنى الابتداء في النسخ بليت ولعل وقد ذهب سيبويه والأخفش إلى منع دخول الفاء عند النسخ مطلقاً فالخبر عندهما .(1/368)
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
قوله تعالى : { أُولَئِكَ الذين حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والاخرة } كما في قولك : الشيطانُ فاحذر عدوٌ مبين وعلى الأول هو استئناف واسم الإشارة مبتدأ وما فيه من معنى البعد للدِلالة على ترامي أمرهم في الضلال وبُعد منزلتهم في فظاعة الحال ، والموصولُ بما في حيز صلته خبرُه أي أولئك المتصفون بتلك الصفات القبيحة أو المبتلون بأسوأ الحال الذين بطلت أعمالُهم التي عمِلوها من البر والحسنات ولم يبق لها أثر في الدارين بل بقي لهم اللعنة والخزيُ في الدنيا وعذاب أليم في الآخرة { وَمَا لَهُم مّن ناصرين } ينصرونهم من بأس الله وعذابِه في إحدى الدارين ، وصيغةُ الجميع لرعاية ما وقع في مقابلته لا لنفي تعددِ الأنصار من كل واحد منهم كما في قوله تعالى : { وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ } .
{ أَلَمْ تَرَ } تعجيبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى منه الرؤيةُ من حال أهل الكتاب وسوءِ صنيعِهم ، وتقرير لما سبق من أن اختلافهم في الإسلام إنما كان بعد ما جاءهم العلم بحقّيته أي ألم تنظرُ { إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب } أي التوراةِ على أن اللامَ للعَهدْ وحملُه على جنس الكتبِ الإلهية تطويلٌ للمسافة إذ تمامُ التقريب حينئذ بكون التوراة من جملتها لأن مدار التشنيع والتعجيب إنما هو إعراضُهم عن المحاكمة إلى ما دُعوا إليه وهم لم يُدْعَوا إلا إلى التوراة ، والمرادُ بما أوتوه منها ما بُيِّن لهم فيها من العلوم والأحكام التي من جملتها ما علِموه من نعوت النبي صلى الله عليه وسلم وحقّية الإسلام ، والتعبيرُ عنه بالنصيب للإشعار بكمال اختصاصِه بهم وكونِه حقاً من حقوقهم التي يجبُ مراعاتُها والعملُ بموجبها وما فيه من التنكير للتفخيم ، وحملُه على التحقير لا يساعده مقامُ المبالغة في تقبيح حالِهم { يُدْعَوْنَ إلى كتاب الله } الذي أوتوا نصيباً منه وهو التوراة ، والإظهارُ في مقام الإضمار لإيجاب الإجابة ، وإضافتُه إلى الاسم الجليلِ لتشريفه وتأكيدِ وجوب المراجعةِ إليه ، والجملةُ استئنافٌ مبيِّنٌ لمحل التعجيب مبنيّ على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل : ماذا يصنعون حتى ينظُرَ إليهم؟ فقيل : يُدعون إلى كتاب الله تعالى ، وقيل : حال من الموصول { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مِدراسَهم فدعاهم إلى الإيمان فقال له نعيمُ بن عمرو ، والحارث بن زيد : على أيّ دين أنت؟ قال عليه الصلاة والسلام : « على ملة إبراهيم » قالا : إن إبراهيمَ كان يهودياً فقال صلى الله عليه وسلم لهما : « إن بيننا وبينكم التوراةَ فهلُمّوا إليها » فأبيا . وقيل : نزلت في الرجم وقد اختلفوا فيه وقيل : { كتاب الله } القرآنُ فإنهم قد علموا أنه كتابُ الله ولم يشكوا فيه ، وقرىء ليُحكَم على بناء المجهول فيكون الاختلافُ بينهم بأن أسلم بعضُهم كعبد اللَّه بن سلام وأضرابه وعاداهم الآخرون { ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ } استبعاد لتولّيهم بعد علمِهم بوجوب الرجوع إليه { وَهُم مُّعْرِضُونَ } إما حال من { فَرِيقٌ } لتخصصه بالصفة أي يتولون من المجلس وهم معرضون بقلوبهم ، أو اعتراضٌ أي وهم قوم ديدنُهم الإعراضُ عن الحق والإصرارُ على الباطل .(1/369)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
{ ذلك } إشارة إلى ما مر من التولي والإعراض ، وهو مبتدأ خبرُه قوله تعالى : { بِأَنَّهُمْ } أي حاصل بسبب أنهم { قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار } باقتراف الذنوب وركوب المعاصي { إِلا أَيَّامًا معدودات } وهي مقدارُ عبادتهم العجلَ ، ورسَخ اعتقادُهم على ذلك وهوّنوا على أنفسهم الخطوب { وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من قولهم ذلك وما أشبهه من قولهم : إن آباءنا الأنبياءَ يشفعون لنا أو إن الله تعالى وعد يعقوبَ عليه السلام ألا يعذبَ أولادَه إلا تحِلّةَ القَسَم ولذلك ارتكبوا ما ارتكبوا من القبائح { فَكَيْفَ } ردٌّ لقولهم المذكور وإبطالٌ لما عراهم باستعظام ما سيدهَمُهم وتهويلِ ما سيحيق بهم من الأهوال أي فكيف يكون حالُهم؟ { إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ } أي لجزاءِ يوم { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي في وقوعه ووقوعِ ما فيه ، روي أن أولَ رايةٍ ترفع يوم القيامة من رايات الكفر رايةُ اليهود فيفضَحُهم الله عز وجل على رؤوس الأشهاد ثم يأمر بهم إلى النار { وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } أي جزاءَ ما كسبت من غير نقص أصلاً كما يزعُمون ، وإنما وُضِع المكسوبُ موضعَ جزائه للإيذان بكمال الاتصالِ والتلازم بينهما كأنهما شيء واحد ، وفيه دَلالة على أن العبادة لا تَحْبَط وأن المؤمن لا يخلّد في النار لأن توْفيةَ جزاءِ إيمانِه وعملِه لا تكون في النار ولا قبل دخولها فإذن هي بعد الخلاصِ منها { وَهُمْ } أي كلُّ الناس المدلولِ عليهم بكل نفس { لاَ يُظْلَمُونَ } بزيادة عذابٍ أو بنقص ثواب بل يصيب كلاً منهم مقدارُ ما كسبه { قُلِ اللهم } الميم عوضٌ عن حرف النداء ولذلك لا يجتمعان وهذا من خصائص الاسمِ الجليل كدخوله عليه مع حرف التعريفِ وقطعِ همزتِه ودخولِ تاء القسمِ عليه وقيل : أصلُه يا ألله أُمَّنا بخير أي اقصدنا به فخُفف بحذف حرف النداء ومتعلقاتِ الفعل وهمزته { مالك الملك } أي مالك جنسِ المُلك على الإطلاق مُلكاً حقيقياً بحيث تتصرف فيه كيفما تشاء إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة وتعذيباً وإثابةً من غير مشارِك ولا ممانعٍ وهو نداءٌ ثانٍ عند سيبويه فإن الميم عنده تمنع الوصفية { تُؤْتِى الملك } بيان ق لبعض وجوه التصرفِ الذي تستدعيه مالكيةُ الملك وتحقيقٌ لاختصاصها به تعالى حقيقةً وكونِ مُلك غيرِه بطريق المجاز كما يُنبىءُ عنه إيثارُ الإيتاءِ الذي هو مجردُ الإعطاء على التمليك المؤْذِن بثبوت المالكيةِ حقيقةً { مَن تَشَاء } أي إيتاءه إياه { وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاء } أي نزْعَه منه ، فالملكُ الأولُ حقيقي عام ومملوكيتُه حقيقية والآخرانِ مجازيان خاصان ونِسبتُهما إلى صاحبهما مجازية ، وقيل : الملكُ الأول عام والآخرانِ بعضانِ منه فتأمل . وقيل : المراد بالملك النبوة ونزعُها نقلُها من قوم إلى آخرين { وَتُعِزُّ مَن تَشَاء } أن تُعِزَّه في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما بالنصر والتوفيق { وَتُذِلُّ مَن تَشَاء } أن تُذِله في إحداهما أو فيهما من غير ممانعةٍ من الغير ولا مدافعة { بِيَدِكَ الخير } تعريفُ الخير للتعميم ، وتقديمُ الخبر للتخصيص أي بقدرتك الخيرُ كلُّه لا بقدرة أحدٍ غيرِك تتصرف فيه قبضاً وبسطاً حسبما تقتضيه مشيئتُك ، وتخصيصُ الخير بالذكر لما أنه مقضيٌّ بالذات وأما الشرُّ فمقضيٌّ بالعَرَض إذ ما من شر جزئي إلا وهو متضمِّنٌ لخير كلي أو لأن في حصول الشر دخْلاً لصاحبه في الجملة لأنه من أجزية أعماله ، وأما الخير ففضلٌ محضٌ أو لرعاية الأدب أو لأن الكلام فيه فإنه رُوي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خط الخندق عام الأحزاب وقطع لكل عشرةٍ من أهل المدينة أربعين ذِراعاً وأخذوا يحفِرونه خرج من بطن الخندق صخرةٌ كالتل لم تعمَلْ فيها المعاوِلُ فوجهوا سلمانَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخبره فجاء عليه السلام وأخذ منه المِعْول فضربها ضربة صدعَتْها وبرَقَ منها برقٌ أضاء ما بين لابتيها لكأن مِصباحاً في جوف بيت مظلم فكبر وكبر معه المسلمون وقال :(1/370)
« أضاءت لي منها قصورُ الحِيرة كأنها أنياب الكلاب » ثم ضرب الثانية فقال : « أضاءت لي منها القصورُ الحُمْرُ من أرض الروم » ثم ضرب الثالثة فقال : « أضاءت لي قصورُ صنعاء وأخبرني جبريلُ أن أمتي ظاهرةٌ على كلها فأبشروا » فقال المنافقون : ألا تعجبون؟ يُمنّيكم ويعِدُكم الباطلَ ويخبركم أنه يُبصر من يثربَ قصورَ الحِيرة ومدائن كسرى وأنها تُفتح لكم وأنتم إنما تحفِرون الخندقَ من الفرَق لا تستطيعون أن تبرُزوا فنزلت { إِنَّكَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } تعليل لما سبق وتحقيقٌ له .(1/371)
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
{ تُولِجُ اليل فِى النهار } أي تُدخِله فيه بتعقيبه إياه أو بنقص الأول وزيادةِ الثاني { وَتُولِجُ النهار فِى اليل } على أحد الوجهين { وَتُخْرِجُ الحى مِنَ الميت } أي تنشىء الحيواناتِ من موادها أو من النطفة ، وقيل : تخرِجُ المؤمنَ من الكافر { وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحى } أي تخرج النطفة من الحيوان وقيل : تخرج الكافر من المؤمن { وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } قال أبو العباس المَقَّرِي : ورد لفظُ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجهٍ بمعنى التعب قال تعالى : { وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } وبمعنى العدد قال تعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } وبمعنى المطالبة قال تعالى : { فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } والباء متعلقة بمحذوف وقع حالاً من فاعل ترزق أو من مفعوله وفيه دَلالةٌ على أن من قدَر على أمثال هاتيك الأفاعيلِ العظامِ المحيِّرة للعقول والأفهام فقُدرته على أن ينزعَ الملكَ من العجم ويُذِلهم ويُؤتيَه العربَ ويُعِزَّهم أهونُ من كل هيّن . عن علي رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن فاتحة الكتاب وآيةَ الكرسيِّ وآيتين من آل عمران شهد الله أنه { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } إلى قوله تعالى : { إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام } و { قُلِ اللهم مالك الملك } إلى قوله : { بِغَيْرِ حِسَابٍ } معلقاتٌ ما بينهن وبين الله تعالى حجابٌ » ، قلن : يا رب تُهبِطُنا إلى أرضك وإلى من يعصيك؟ قال الله تعالى : « إني حلفت أنه لا يقرؤكُنّ أحدٌ دُبُرَ كُلِّ صلاةٍ إلا جعلتُ الجنّةَ مثواه على ما كان منه وأسكنتُه في حظيرة القدس ، ونظرت بعيني كل يوم سبعين مرةً وقضيتُ له سبعين حاجة أدناها المغفرة ، وأعذتُه من كل عدو وحاسدٍ ، ونصرتُه عليهم » وفي بعض الكتب : « أنا الله ملكُ الملوك ، قلوبُ الملوكِ ونواصِيهم بيدي فإنِ العبادُ أطاعوني جعلتهم لهم رحمة وإنِ العبادُ عصَوْني جعلتهم عليهم عقوبة فلا تشتغلوا بسبِّ الملوك ولكن توبوا إليَّ أُعطِّفْهم عليكم » وهو معنى قوله عليه السلام : « كَما تَكُونُوا يُولَّ عَلَيْكُم »(1/372)
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
{ لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاء } نُهوا عن موالاتهم لقرابة أو صداقة جاهلية ونحوِهما من أسباب المصادقة والمعاشرة كما في قوله سبحانه : { الحكيم ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } وقولِه تعالى : { لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاء } حتى لا يكونَ حبهم ولا بغضهم إلا لله ، أو عن الاستعانة بهم في الغزو وسائر الأمور الدينية { مِن دُونِ المؤمنين } في موضع الحال أي متجاوزين المؤمنين إليهم استقلالاً أو اشتراكاً وفيه إشارة إلى أنهم الأحقاءُ بالموالاة وأن في موالاتهم مندوحةً عن موالاة الكفرة { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } أي اتخاذَهم أولياءَ ، والتعبيرُ عنه بالفعل للاختصار أو لإيهام الاستهجان بذكره { فَلَيْسَ مِنَ الله } أي من ولايته تعالى { فِي شَىْء } يصِح أن يُطلق عليه اسمُ الولاية فإن موالاة المتعاديَيْن مما لا يكاد يدخُل تحت الوقوع قال :
تودُّ عدوِّي ثم تزعُم أنني ... صديقُك ليس النَّوْكُ عنك بعازبِ
والجملة اعتراضية . قوله تعالى : { إِلا أَن تَتَّقُواْ } على صيغة الخطابِ بطريق الالتفاتِ استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوال ، والعامل فعل النهي معتبَراً فيه الخطابُ كأنه قيل : لا تتخذوهم أولياءَ ظاهراً أو باطناً في حال من الأحوال إلا حال اتقائكم { مِنْهُمْ } أي من جهتهم { تقاة } أي اتقاءً أو شيئاً يجب اتقاؤه على أن المصدر واقعٌ موقعَ المفعول فإنه يجوز إظهارُ الموالاة حينئذ مع اطمئنان النفس بالعداوة والبغضاء وانتظار زوالِ المانع من قَشْر العصا وإظهار ما في الضمير كما قال عيسى عليه السلام : كن وسَطاً وامشِ جانباً . وأصلُ ( تقاة ) وُقْيَةً ثم أبدلت الواو تاءً كتُخمة وتُهمة وقلبت الياء ألفاً وقرىء تُقْيةً { وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } أي ذاتَه المقدسة فإن جواز إطلاقِ لفظِ النفسِ مراداً به الذاتُ عليه سبحانه بلا مشاكلة مما لا كلام فيه عند المتقدمين ، وقد صرح بعضُ محققي المتأخرين بعدم الجواز وإن أريد به الذات بلا مشاكلة ، وفيه من التهديد ما لا يخفى عُظْمُه ، وذكرُ النفس للإيذان بأن له عقاباً هائلاً لا يؤبه دونه بما يحذر من الكفرة { وإلى الله المصير } تذييلٌ مقرِّر لمضمون ما قبله ومحقق لوقوعه حتماً { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ } من الضمائر التي من جملتها ولايةُ الكفرةِ { أَوْ تُبْدُوهُ } فيما بينكم { يَعْلَمْهُ الله } فيؤاخذْكم بذلك عند مصيرِكم إليه ، وتقديمُ الإخفاء على الإبداء قد مر سره في تفسير قوله تعالى : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } وقوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } { وَيَعْلَمُ مَا فِى * السموات وَمَا فِي الارض } كلامٌ مستأنف غيرُ معطوف على جواب الشرط وهو من باب إيرادِ العام بعد الخاص تأكيداً له وتقريراً { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } فيقدِرُ على عقوبتكم بما لا مزيدَ عليه إن لم تنتهوا عما نُهيتم عنه ، وإظهارُ الاسم الجليل في موضع الإضمارِ لتربية المهابة وتهويلِ الخطب وهو تذييلٌ لما قبله مبين لقوله تعالى : { وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } بأن ذاته المقدسةَ المتميزةَ عن سائر الذوات المتصفةَ بما لا يتصف به شيء منها من العلم الذاتي المتعلقِ بجميع المعلومات متصفةٌ بالقدرة الذاتية الشاملةِ لجميع المقدورات بحيث لا يخرُج من ملكوته شيءٌ قطُّ .(1/373)
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)
{ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ } أي من النفوس المكلفة { مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا } عندها بأمر الله تعالى وفيه من التهويل ما ليس في حاضراً { وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء } عطف على { مَّا عَمِلَتْ } والإحضار معتبرٌ فيه أيضاً إلا أنه خُص بالذكر في الخير للإشعار بكون الخير مراداً بالذات وكونِ إحضارِ الشر من مقتضيات الحكمة التشريعية { تَوَدُّ } عامل في الظرف والمعنى تود وتتمنى يوم تجد صحائفَ أعمالها من الخير والشر أن أجزِيتَها محْضَرة { لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ } أي بين ذلك اليوم { أَمَدَا بَعِيدًا } لشدة هوله وفي إسناد الود إلى كل نفس سواءٌ كان لها عملٌ سيء أو لا بل كانت متمحِّضةً في الخير من الدلالة على كمال فظاعةِ ذلك اليوم وهول مطلعِه ما لا يخفى ، اللهم إنا نعوذ بك من ذلك ويجوز أن يكون انتصابُ يومَ على المفعولية بإضمار اذكروا وتودّ إما حال من كل نفس أو استئنافٌ مبني على السؤال أي اذكروا يوم تجد كل نفس ما عملت من خير وشر محضراً وادّةً أن بينها وبينه أمداً بعيداً أو كأن سائلاً قال حين أمروا بذكر ذلك اليوم : فماذا يكون إذ ذاك؟ قيل : تود لو أن بينها الخ أو { تَجِدُ } مقصورٌ على ما عملت من خير ، وتود خبرُ ما عملت من سوء ولا تكون ما شرطية لارتفاع تود وقرىء ودّت فحينئذ يجوز كونُها شرطيةً لكن الحمل على الخبر أوقعُ معنىً لأنها حكايةُ حالً ماضية وأوفقُ للقراءة المشهورة { وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } تكرير لما سبق وإعادة له لكن لا للتأكيد فقط بل لإفادة ما يفيده قوله عز وجل : { والله * رَءوفٌ بالعباد } من أن تحذيرَه تعالى من رأفته بهم ورحمتِه الواسعةِ أو أن رأفته بهم لا تمنعُ تحقيقَ ما حذّرهُموه من عقابه وأن تحذيرَه ليس مبنياً على تناسي صفةِ الرأفة بل هو متحققٌ مع تحققها أيضاً كما في قوله تعالى : { ياأيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم } فالجملة على الأول اعتراضٌ ، وعلى الثاني حال وتكرير الاسم الجليل لتربية المهابة { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعونى } المحبة ميلُ النفس إلى الشيء لكمالٍ أدركتْه فيه بحيث يحمِلها على ما يقرّبها إليه ، والعبدُ إذا علم أن الكمالَ الحقيقيَّ ليس إلا الله عز وجل وأن كلَّ ما يراه كمالاً من نفسه أو من غيره فهو من الله وبالله وإلى الله لم يكن حبُّه إلا لله وفي الله ، وذلك مقتضى إرادةِ طاعته والرغبةِ فيما يقرّبه إليه ، فلذلك فُسِّرت المحبةُ بإرادة الطاعة وجُعلت مستلزِمةً لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في عبادته والحرصِ على مطاوعته { يُحْبِبْكُمُ الله } أي يرضَ عنكم { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } أي يكشفِ الحجبَ عن قلوبكم بالتجاوز عما فرَطَ منكم فيقرّبكم من جناب عزِّه ويبوِّئُكم في جوار قدْسِه ، عبّر عنه بالمحبة بطريق الاستعارة أو المشاكلة { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي لمن يتحبّب إليه بطاعته ويتقرّب إليه باتباع نبيِّه عليه الصلاة والسلام فهو تذييلٌ مقررٌ لما قبله مع زيادة وعد الرحمةِ ، ووضعُ الاسمِ الجليل موضع الضمير للإشعار باستتباع وصفِ الألوهية للمغفرة والرحمة ، روي أنها نزلت لما قالت اليهودُ : نحن أبناءُ الله وأحباؤه ، وقيل : نزلت في وفد نجرانَ لما قالوا : إنا نعبدُ المسيحَ حباً لله تعالى ، وقيل : في أقوام زعَموا على عهده عليه الصلاة والسلام أنهم يُحبون الله تعالى فأُمروا أن يجعلوا لقولهم مِصداقاً من العمل .(1/374)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)
{ قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول } أي في جميع الأوامرِ والنواهي فيدخلُ في ذلك الطاعةُ في اتباعه عليه الصلاة والسلام دخولاً أولياً ، وإيثارُ الإظهار على الإضمار بطريق الالتفات لتعيين حيثية الإطاعة والإشعارِ بعلّتها فإن الإطاعة المأمورَ بها إطاعتُه عليه الصلاة والسلام من حيث إنه رسولُ الله لا من حيث ذاتُه ولا ريب في أن عنوانَ الرسالة من موجبات الإطاعةِ ودواعيها { فَإِن تَوَلَّوْاْ } إما من تمام مقولِ القول فهي صيغة المضارعِ المخاطَب بحذف إحدى التاءين أي تتولوا وإما كلام متفرِّعٌ عليه مَسوقٌ من جهته تعالى فهي صيغةُ الماضي الغائب ، وفي ترك ذكرِ احتمالِ الطاعةِ كما في قوله تعالى : { فَإِنْ أَسْلَمُواْ } تلويحٌ إلى أنه غيرُ محتمَلٍ منهم { فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين } نفي المحبة كنايةٌ عن بغضه تعالى لهم وسُخطِه عليهم أي لا يرضى عنهم ولا يثني عليهم ، وإيثارُ الإظهارِ على الإضمار لتعميم الحكمِ لكل الكفَرَة والإشعار بعلّته فإن سخطه تعالى عليهم بسبب كفرهم والإيذان بأن التولّيَ عن الطاعة كفرٌ وبأن محبتَه عز وجل خاصة بالمؤمنين .
{ إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إبراهيم وَءالَ عمران عَلَى العالمين } لما بيّن الله تعالى أن الدين المرضيِّ عنده هو الإسلامُ والتوحيدُ وأن اختلاف أهل الكتابين فيه إنما هو للبغي والحسد وأن الفوز برضوانه ومغفرته ورحمته منوطٌ باتباع الرسولِ صلى الله عليه وسلم وطاعته شرَعَ في تحقيق رسالته وكونِه من أهل بيت النبوة القديمةِ فبدأ ببيان جلالةِ أقدارِ الرسل عليهم الصلاة والسلام كافةً وأتبعه ذكرَ مبدأ أمرِ عيسى عليه الصلاة والسلام وأمِّه وكيفيةِ دعوتِه للناس إلى التوحيد والإسلام تحقيقاً للحق وإبطالاً لما عليه أهلُ الكتابين في شأنهما من الإفراط والتفريط ثم بين بطلانَ مُحاجّتهم في إبراهيم عليه الصلاة والسلام وادعائِهما الانتماءَ إلى ملته ونزّه ساحتَه العلية عما هم عليه من اليهودية والنصرانية ثم نص على أن جميعَ الرسل عليهم الصلاة والسلام دعاةٌ إلى عبادة الله عز وجل وحده وطاعتِه منزَّهون عن احتمال الدعوة إلى عبادة أنفسِهم أو غيرِهم من الملائكة والنبيين وأن أممهم قاطبةً مأمورون بالإيمان بمن جاءهم من رسولٍ مصدقٍ لما معهم تحقيقاً لوجوب الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وكتابه المصدِّق لما بين يديه من التوراة والإنجيل ووجوب الطاعة له حسبما سيأتي تفصيلُه ، وتخصيصُ آدمَ عليه الصلاة والسلام بالذكر لأنه أبو البشر ومنشأ النبوة وكذا حالُ نوحٍ عليه السلام فإنه آدمُ الثاني ، وأما ذكرُ آل إبراهيمَ فلترغيب المعترفين باصطفائهم في الإيمان بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم واستمالتِهم نحوَ الاعترافِ باصطفائه بواسطة كونِه من زُمرتهم مع ما مر من التنبيه على كونه عليه الصلاة والسلام عريقاً في النبوة من زمرة المصطفَيْنَ الأخيار ، وأما ذكرُ آلِ عمرانَ مع اندراجهم في آل إبراهيمَ فلإظهار مزيدِ الاعتناء بتحقيق أمرِ عيسى عليه الصلاة والسلام لكمال رسوخِ الخلاف في شأنه فإن نسبةَ الاصطفاءِ إلى الأب الأقرب أدلُّ على تحققه في الآل وهو الداعي إلى إضافة الآلِ إلى إبراهيمَ دون نوحٍ وآدمَ عليهم الصلاة والسلام ، والاصطفاء أخذُ ما صفا من الشيء كالاستصفاء ، مثّل به اختيارَه تعالى إياهم النفوسَ القدسية وما يليق بها من الملكات الروحانيةِ والكمالاتِ الجُسمانية المستتبعةِ للرسالة في نفس المصطفى كما في كافة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، أو فيمن يلابسه وينشأ منه كما في مريمَ ، وقيل : اصطفى آدمَ عليه الصلاة والسلام بأن خلقه بيده في أحسنِ تقويمٍ وبتعليم الأسماء وإسجادِ الملائكة له وإسكانِ الجنة ، واصطفى نوحاً عليه الصلاة والسلام بكونه أولَ من نسخ الشرائعَ إذ لم يكن قبل ذلك تزويجُ المحارم حراماً وبإطالة عُمره وجعْلِ ذريتِه هم الباقين واستجابةِ دعوتِه في حق الكفرة والمؤمنين ، وحملِه على متن الماء ، والمرادُ بآل إبراهيمَ إسماعيلُ وإسحاقُ والأنبياءُ من أولادهما الذين من جملتهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، وأما اصطفاءُ نفسِه عليه الصلاة والسلام فمفهومٌ من اصطفائهم بطريق الأولوية ، وعدمُ التصريح به للإيذان بالغنى عنه لكمال شهرةِ أمرِه في الخِلّة وكونِه إمامَ الأنبياء وقدوةً للرسل عليهم الصلاة والسلام وكونِ اصطفاء آله بدعوته بقوله :(1/375)
{ رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ } الآية ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : « أنا دعوةُ أبي إبراهيمَ » . وبآل عمرانَ عيسى وأمُّه مريمُ ابنةُ عِمرانَ بنِ ماثانَ بنِ أبي بور بن رب بابل بن ساليان بن يوشيان بن أمون بن منشا بن حزقيا بن أحز بن يوثم بن عزياهو بن يهوشافاط بن أسا بن رحبعم بن سليمانَ بنِ داودَ عليهما الصلاة والسلام ابن بيشا بن عوفيذ بن بوعز بن سلمون بن نحشون بن عمينوذب بن رم بن حصرون بن بارص بن يهوذا بنِ يعقوبَ عليه الصلاة والسلام ، وقيل : موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ابنا عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب عليه الصلاة والسلام وبين العمرانين ألفٌ وثمانمائة سنة فيكون اصطفاءُ عيسى عليه الصلاة والسلام حينئذ بالاندراج في آل إبراهيمَ عليه السلام والأولُ هو الأظهرُ بدليل تعقيبِه بقصة مريمَ واصطفاءِ موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام بالانتظام في سلك آلِ إبراهيمَ عليه السلام انتظاماً ظاهراً ، والمرادُ بالعالمين أهلُ زمان كل واحدٍ منهم أي اصطفى كل واحد منهم على عالمي زمانه .(1/376)
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
{ ذُرّيَّةِ } نُصب على البدلية من الآلَيْن أو على الحالية منهما وقد مر بيانُ اشتقاقها في قوله تعالى : { وَمِن ذُرّيَتِى } وقوله تعالى : { بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } في محل النصب على أنه صفةٌ لذرية أي اصطفى الآلَيْن حالَ كونهم ذريةً متسلسلةً متشعّبةَ البعضِ من البعض في النسَب كما يُنْبىء عنه التعرُّضُ لكونه ذرية وقيل : بعضُها من بعض في الدين فالاستمالةُ على الوجه الأول تقريبيةٌ وعلى الثاني برهانية { والله سَمِيعٌ } لأقوال العباد { عَلِيمٌ } بأعمالهم البادية والخافية فيصطفي مِن بينِهم لخِدمته مَنْ تظهر استقامتُه قولاً وفعلاً على نهج قوله تعالى : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } والجملة تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبلها .(1/377)
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
إِذْ قَالَتِ امرأت عمران } في حيِّز النصب على المفعولية بفعل مقدَّرٍ على طريقة الاستئنافِ لتقرير اصطفاءِ آلِ عمرانَ وبيانِ كيفيته أي اذكر لهم وقت قولِها الخ وقد مر مراراً وجهُ توجيهِ التذكيرِ إلى الأوقات مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيها من الحوادث ، وقيل : هو منصوبٌ على الظرفية لما قبله أي سميع لقولها المحكيِّ عليمٌ بضميرها المَنْويّ ، وقيل : هو ظرفٌ لمعنى الاصطفاء المدلول عليه باصطفى المذكور كأنه قيل : واصطفى آلَ عمران إذ قالت الخ فكان من عطف الجُمل على الجمل دون عطفِ المفردات على المفردات ليلزَمَ كونُ اصطفاءِ الكلِّ في ذلك الوقت ، وامرأةُ عمرانَ هي حنّةُ بنتُ فاقوذا جدةُ عيسى عليه الصلاة والسلام وكانت لعِمرانَ بنِ يَصْهرَ بنتٌ اسمُها مريمُ أكبرُ من موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام فظن أن المراد زوجتُه وليس بذاك ، فإن قضيةَ كفالةِ زكريا عليه الصلاة والسلام قاضيةٌ بأنها زوجةُ عمرانَ بنِ ماثانَ لأنه عليه الصلاة والسلام كان معاصراً له وقد تزوج إيشاع أختَ حنة أم يحيى عليه الصلاة والسلام وأما قولُه عليه الصلاة والسلام في شأن يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام : « هما ابنا خالة » فقيل : تأويلُه أن الأختَ كثيراً ما تُطلق على بنت الأخت وبهذا الاعتبار جعلهما عليهما الصلاة والسلام ابنيْ خالة وقيل : كانت إيشاعُ أختَ حنةَ من الأم وأختَ مريمَ من الأب ، على أن عمرانَ نكحَ أولاً أمَّ حنة فولدت له إيشاع ثم نكح حنة بناءً على نكاح الربائبِ في شريعتهم فولدَتْ مريمَ فكانت إيشاعُ أختَ مريمَ من الأب وخالتَها من الأم لأنها أخت حنة من الأم ، روي أنها كانت عجوزاً عاقراً فبينما هي ذاتَ يوم في ظل شجرة إذ رأت طائراً يُطعم فرخَه فحنّت إلى الولد ، وتمنتْه ، وقالت : اللهم إن لك عليَّ نذراً إن رَزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس فيكونَ من سَدَنته . وكان هذا النذرُ مشروعاً عندهم في الغلمان ثم هلك عِمرانُ وهي حامل . وحينئذ فقولها : { رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي } لا بد من حمله على التكرير لتأكيد نذرِها وإخراجِه عن صورة التعليق إلى هيئة التنجيز ، والتعرضُ لوصف الربوبية المنبئة عن إفاضة ما فيه صلاحُ المربوب مع الإضافة إلى ضميرها لتحريك سلسلة الإجابة ، ولذلك قيل : إذا أراد العبد أن يستجاب له دعاؤه فليدعُ الله بما يناسبه من أسمائه وصفاته ، وتأكيدُ الجملة لإبراز وفورِ الرغبة في مضمونها ، وتقديمُ الجارّ والمجرور لكمال الاعتناءِ به ، وإنما عُبّر عن الولد ( بما ) لإبهام أمرِه وقصورِه عن درجه العقلاء { مُحَرَّرًا } أي مُعْتقاً لخدمة بيتِ المقدس لا يشغَلُه شأن عنه ، أو مُخلَصاً للعبادة ، ونصبُه على الحالية من الموصول والعامل فيه { نَذَرْتُ } وقيل : من ضميره في الصلة والعامل معنى الاستقرار فإنها في قوة ما استقر في بطني ، ولا يخفى أن المراد تقييدُ فعلِها بالتحرير ليحصُل به التقربُ إليه تعالى لا تقييدُ ما لا دخلَ لها فيه من الاستقرار في بطنها { فَتَقَبَّلْ مِنّي } أي ما نذرتُه والتقبُّل أخذُ الشيء على وجه الرضا وهذا في الحقيقة استدعاءٌ للولد إذ لا يُتصور القَبولُ بدون تحقيق المقبول بل للولد الذكَرِ لعدم قَبول الأنثى { إِنَّكَ أَنتَ السميع } لجميع المسموعات التي من جملتها تضرعي ودعائي { العليم } بكل المعلومات التي من زمرتها ما في ضميري لا غير ، وهو تعليلٌ لاستدعاء القبول لا من حيث إن كونه تعالى سميعاً لدعائها عليماً بما في ضميرها مصحّحٌ للتقبل في الجملة بل من حيث إن علمَه تعالى بصحة نيتها وإخلاصِها مستدعٍ لذلك تفضلاً وإحساناً ، وتأكيدُ الجملة لعرض قوةِ يقينها بمضمونها ، وقصرُ صفتي السمعِ والعلم عليه تعالى لعرض اختصاص دعائِها به تعالى وانقطاعِ حبل رجائها عما عداه بالكلية مبالغةً في الضراعة والابتهال .(1/378)
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
{ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا } أي ما في بطنها ، وتأنيثُ الضمير العائد إليه لما أن المقامَ يستدعي ظهورَ أنوثتِه واعتبارَه في حيز الشرط إذ عليه يترتب جوابُ لما ، أعني قوله تعالى : { قَالَتْ رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أنثى } لا على وضع ولدٍ ما كأنه قيل : فلما وضعت بنتاً قالت الخ ، قيل : تأنيثُه لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله تعالى أو لأنه مؤوّلٌ بالمرة من الحَبَل أو النفْس أو النَّسَمة وأنت خبير بأن اعتبارَ شيءٍ مما ذُكر في حيز الشرط لا يكون مداراً لترتب الجواب عليه وقولُه تعالى : { أنثى } حال مؤكّدة من الضمير أو بدلٌ منه ، وتأنيثُه للمسارعة إلى عَرْض ما دَهَمها من خيبة الرجاء أو لما مر من التأويل بالحبْلةِ أو النسمة فالحال حينئذ مبيِّنة وإنما قالته تحزُّناً وتحسّراً على خيبة رجائِها وعكسِ تقديرِها لما كانت ترجو أن تلدَ ذكَراً ولذلك نذرَتْه محرّراً للسِّدانة ، والتأكيدُ للرد على اعتقادها الباطل { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } تعظيمٌ من جهته تعالى لموضوعها وتفخيمٌ لشأنه وتجهيلٌ لها بقدره أي والله أعلم بالشيء الذي وضعتْه وما علِقَ به من عظائم الأمور وجعلِه وابنَه { للعالمين } وهي غافلةٌ عن ذلك والجملة اعتراضية وقرىء { وَضَعَتْ } على خطاب الله تعالى لها أي إنك لا تعلمين قدرَ هذا الموهوبِ وما أودع الله فيه من علو الشأنِ وسموِّ المقدار وقرىء وَضَعَتْ على صيغة التكلم مع الالتفات من الخطاب إلى الغَيبة إظهاراً لغاية الإجلال فيكون ذلك منها اعتذاراً إلى الله تعالى حيث أتت بمولود لا يصلُح لما نذرته من السدانة ، أو تسليةً لنفسها على معنى لعل لله تعالى فيه سراً وحكمة ولعل هذه الأنثى خيرٌ من الذكر فوجهُ الالتقاتِ حينئذ ظاهر وقوله تعالى : { وَلَيْسَ الذكر كالانثى } اعتراض آخرُ مبيِّن لما في الأول من تعظيم الموضوعِ ورفع منزلتِه ، واللامُ في الذكَر والأنثى للعهد أي ليس الذكرُ الذي كانت تطلُبه وتتخيل كماله ليكون كواحد من السَّدَنة كالأنثى التي وُهِبتْ لها فإن دائرةَ علمِها وأمنيتها لا تكاد تُحيط بما فيها من جلائل الأمور . هذا على القراءتين الأُولَيَيْن وأما على التفسير الأخير للقراءة الأخيرة فمعناه وليس الذكر كهذه الأنثى في الفضيلة بل أدنى منها ، وأما على تفسير الأول لها فمعناها تأكيدُ الاعتذارُ ببيان أن الذكر ليس كالأنثى في الفضيلة والمزية وصلاحيةِ خدمة المتعبّدات فإنهن بمعزل من ذلك فاللامُ للجنس ، وقوله تعالى : { وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } عطف على إني وضعتُها أنثى وغرضُها من عَرْضها على علام الغيوب التقربُ إليه تعالى واستدعاءُ العصمة لها فإن مريمَ في لغتهم بمعنى العابدة . قال القرطبي : معناه خادمُ الرب ، وإظهارُ أنها غيرُ راجعة عن نيّتها وإن كان ما وضعته أنثى وأنها وإن لم تكن خليقةً بسِدانة بيت المقدس فلتكنْ من العابدات فيه { وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ } عطف على إني سميتها وصيغةُ المضارع للدَلالة على الاستمرار أي أُجيرُها بحفظك ، وقرىء بفتح ياء المتكلم في المواضع التي بعدها همزةٌ مضمومة إلا في موضعين(1/379)
{ بِعَهْدِى أُوفِ } { اتُونِى أُفْرِغْ } { وَذُرّيَّتَهَا } عطف على الضمير ، وتقديمُ الجار والمجرور عليه لإبراز كمالِ العناية به { مِنَ الشيطان الرجيم } أي المطرود ، وأصلُ الرجم الرميُ بالحجارة . عن النبي صلى الله عليه وسلم : « ما من مولودٍ يولد إلا والشيطانُ يَمَسه حين يولد فيستهِلُّ صارخاً من مسّه إلا مريمَ وابنَها » ومعناه أن الشيطان يطمع في إغواء كلِّ مولود بحيث يتأثر منه إلا مريم وابنها فإن الله تعالى عصَمهما ببركة هذه الاستعاذة .(1/380)
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
{ فَتَقَبَّلَهَا } أي أخذ مريمَ ورضيَ بها في النذر مكانَ الذكَر { رَبُّهَا } مالكها ومُبلِّغها إلى كمالها اللائق بها وفيه من تشريفَها ما لا يخفى { بِقَبُولٍ حَسَنٍ } قيل : الباء زائدة والقَبول مصدرٌ مؤكِّد للفعل السابق بحذف الزوائد أي تقبّلها قبولاً حسناً وإنما عدَلَ عن الظاهر للإيذان بمقارنة التقبُّل لكمال الرضا وموافقته للعناية الذاتية فإن صيغة التفعُّل مُشعِرةٌ بحسب أصل الوضعِ بالتكليف ، وكونِ الفعل على خلاف طبع الفاعل وإن كان المرادُ بها في حقه تعالى ما يترتب عليه من كمال قوةِ الفعل وكثرتِه وقيل : القبولُ ما يقبل به الشيء كالسَّعوط واللَّدود لما يُسعَط به ويلُدّ ، وهو اختصاصُه تعالى إياها بإقامتها مُقام الذكَر في النَّذر ، ولم تُقبلْ قبلها أنثى أو بأنْ تُسلِّمها أمُّها عَقيبَ الولادة قبل أن تنشأ وتصلُحَ للسِّدانة . روي أن حنة حين ولدتها ، لفّتها في خرقة ، وحملتْها إلى بيت المقدس ، ووضعتها عند الأحبار أبناءِ هارونَ وهم في بيت المقدس كالحَجَبة في الكعبة فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة ، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنتَ إمامِهم ، وصاحبِ قُربانهم ، فإن بني ماثانَ كانت رؤوسَ بني إسرائيلَ وملوكَهم ، وقيل : لأنهم وجدوا أمرَها وأمرَ عيسى عليه الصلاة والسلام في الكتب الإلهية فقال زكريا عليه الصلاة والسلام : «أنا أحقُّ بها لأن عندي خالتَها» فأبوا إلا القُرْعةَ ، وكانوا سبعةً وعشرين ، فانطلقوا إلى نهر فألقَوْا فيه أقلامَهم فطفا قلمُ زكريا ورسبَتْ أقلامُهم فتكفلها . وقيل : هو مصدر وفيه مضافٌ مقدرٌ أي فتقبلها بذي قبولٍ أي بأمرٍ ذي قَبول حسن ، وقيل : تقبّل بمعنى استقبل كتقصَّى بمعنى استقصى وتعجَّل بمعنى استعجل أي استقبلها في أول أمرِها حين وُلدت بقبول حسن { وَأَنبَتَهَا } مجازٌ عن تربيتها بما يُصلِحها في جميع أحوالها { نَبَاتًا حَسَنًا } مصدر مؤكّدٌ للفعل المذكور بحذف الزوائد وقيل : بل لفعل مُضمر موافقٍ له تقديرُه فنبتت نباتاً حسناً { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } أي جعله عليه الصلاة والسلام كافلاً لها وضامناً لمصالحها قائماً بتدبير أمورِها لا على طريقة الوحي بل على ما ذُكر من التفصيل فإن رغبتَه عليه الصلاة والسلام في كفالتها وطُفوَّ قلمِه ورسوبَ أقلامِهم وغيرَ ذلك من الأمور الجارية بينهم كلُّها من آثار قدرته تعالى ، وقرىء أَكفلَها وقرىء زكرياءَ بالنصب والمد وقرىء بتخفيف الفاء وكسرِها ورفع زكرياءُ ممدوداً وقرىء وتقبَّلْها ربَّها وأنبِتْها وكفَّلْها على صيغة الأمر في الكل ونصبِ ربها على الدعاء أي فاقبلها يا ربها وربِّها تربيةً حسنةً واجعلْ زكريا كافلاً لها فهو تعيينٌ لجهة التربية . قيل : بنى عليه الصلاة والسلام لها مِحْراباً في المسجد أي غرفةً يُصعد إليها بسُلّم وقيل : المحرابُ أشرفُ المجالس ومُقدَّمُها كأنها وضعت في أشرف موضعٍ من بيت المقدس وقيل : كانت مساجدُهم تسمى المحاريب .(1/381)
روي أنه كان لا يدخل عليها إلا هو وحده وإذا خرج غلّق عليها سبعة أبواب { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب } تقديمُ الظرف على الفاعل لإظهار كمالِ العناية بأمرِها ونصبُ المحراب على التوسّع وكلمة { كُلَّمَا } ظرف على أن ما مصدرية والزمان محذوف ، أو نكرةٌ موصوفة معناها الوقتُ والعائد محذوفٌ والعامل فيها جوابُها أي كلَّ زمانِ دخولِه عليها أو كلَّ وقتٍ دخل عليها فيه { وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا } أي نوعاً منه غيرَ معتاد إذ كان ينزل ذلك من الجنة . وكان يجد عندها في الصيف فاكهةَ الشتاء وفي الشتاء فاكهةَ الصيف ولم ترضَعْ ثدياً قط { قَالَ } استئنافٌ مبني على السؤال كأنه قيل : فماذا قال زكريا عليه الصلاة والسلام عند مشاهدةِ هذه الآية؟ فقيل قال : { قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا } أي من أين جاء لك هذا الذي لا يُشبه أرزاقَ الدنيا والأبوابُ مغلقةٌ دونك؟ وهو دليل على جواز الكرامةِ للأولياء ومن أنكرها جعلَ هذا إرهاصاً وتأسيساً لرسالة عيسى عليه الصلاة والسلام ، وأما جعلُه معجزةً لزكريا عليه الصلاة والسلام فيأباه اشتباهُ الأمر عليه ، عليه السلام ، وإنما خاطبها عليه الصلاة والسلام بذلك مع كونها بمعزلٍ من رتبة الخطاب لما علم بما شاهده أنها مؤيَّدةٌ من عند الله تعالى بالعلم والقدرة { قَالَتْ } استئناف كما قبله كأنه قيل : فماذا صنعت مريمُ وهي صغيرة لا قدرة لها على فهم السؤال ورد الجواب؟ فقيل قالت : { هُوَ مِنْ عِندِ الله } فلا تعجبْ ولا تستبعد { إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاء } أن يرزُقَه { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي بغير تقدير لكثرته أو بغير استحقاقٍ تفضلاً منه تعالى وهو تعليل لكونه من عند الله إما من تمام كلامِها فيكونُ في محل النصب وإما من كلامه عز وجل فهو مستأنفٌ ، روي أن فاطمة الزهراءَ رضي الله عنها أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رغيفين وبضعةَ لحم فرجع بها إليها فقال : " هلُمّي يا بنية " فكشف عن الطبق فإذا هو مملوءٌ خبزاً ولحماً فقال لها : " أنى لك هذا؟ " قالت : «هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب» ، فقال عليه الصلاة والسلام : " الحمدُ لله الذي جعلك شبيهةً بسيدة بني إسرائيلَ " ، ثم جمع علياً والحسنَ والحسينَ وجميعَ أهلِ بيته رضوانُ الله عليهم أجمعين فأكلوا وشبِعوا وبقي الطعام كما هو فأوسعت على جيرانها .(1/382)
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)
{ هُنَالِكَ } كلامٌ مستأنفٌ وقصةٌ مستقلة سيقت في تضاعيف حكايةِ مريمَ لما بينهما من قوة الارتباطِ وشدةِ الاشتباك مع ما في إيرادها من تقرير ما سيقت له حكايتُها من بيان اصطفاءِ آلَ عمران ، فإن فضائلَ بعض الأقرباء أدلةٌ على فضائل الآخَرين ، وهنا ظرفُ مكانٍ واللامُ للدِلالة على البُعد والكافُ للخطاب أي في ذلك المكان حيث هو قاعدٌ عند مريمَ في المحراب أو في ذلك الوقت إذ يستعار هنا وثمَةَ وحيث للزمان { دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } لما رآى كرامةَ مريمَ على الله ومنزلتَها منه تعالى رغِب في أن يكون له من إيشاعَ ولدٌ مثلُ ولدِ حنّةَ في النجابة والكرامة على الله تعالى وإن كانت عاقِراً عجوزاً فقد كانت حنة كذلك وقيل : لما رأى الفواكهَ في غير إِبّانِها تنبه لجواز ولادةِ العجوز العاقرِ من الشيخ الفاني فأقبل بالدعاء من غير تأخير كما يُنبىء عنه تقديمُ الظرف على الفعل لا على معنى أن ذلك كان هو الموجبَ للإقبال على الدعاء فقط بل كان جزءاً أخيراً من العلة التامة التي من جملتها كِبَرُ سِنّه عليه الصلاة والسلام وضَعفُ قواه وخوفُ مَواليه حسبما فُصِّل في سورة مريم { قَالَ } تفسيرٌ للدعاء وبيانٌ لكيفيته لا محل له من الإعراب { رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ } كلا الجارَّين متعلقٌ بهَبْ لاختلاف معنييهما فاللامُ صلةٌ له و { مِنْ } لابتداء الغايةِ مجازاً أي أعطني من مَحْض قدرتِك من غير وسطٍ معتاد { ذُرّيَّةً طَيّبَةً } كما وهبتَها لحنّةَ ، ويجوز أن يتعلق مِنْ بمحذوفٍ وقع حالاً من { ذُرّيَّةِ } أي كائنة من لدنك ، والذريةُ النسلُ تقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى والمراد هاهنا ولدٌ واحد فالتأنيث في الصفة لتأنيث لفظ الموصوف كما في قول من قال :
أبوك خليفةٌ ولدتْه أُخرى ... وأنت خليفةٌ ، ذاك الكمالُ
وهذا إذا لم يُقصَدْ به واحدٌ معين أما إذا قُصد به المعيَّنُ امتنع اعتبارُ اللفظِ نحو طلحة وحمزة فلا يجوز أن يقال : جاءت طلحة وذهبت حمز { إِنَّكَ سَمِيعُ الدعاء } أي مجيبُه وهو تعليلٌ لما قبله وتحريكٌ لسلسلة الإجابة .(1/383)
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
{ فَنَادَتْهُ الملئكة } كان المناديَ جبريلُ عليه الصلاة والسلام كما تُفصح عنه قراءةُ من قرأ فناداه جبريلُ ، والجمع كما في قولهم : فلان يركب الخيلَ ويلبَس الثياب وما له غيرُ فرس وثوب ، قال الزجاج : أي أتاه النداءُ من هذا الجنس الذين هم الملائكة وقيل : لما كان جبرائيل عليه الصلاة والسلام رئيسَهم عَبّر عنه باسم الجماعة تعظيماً له وقيل : الرئيسُ لا بد له من أتباع فأسند النداء إلى الكل مع كونه صادراً عنه خاصة وقرىء { فنادِاه } بالإمالة { وَهُوَ قَائِمٌ } جملة حالية من مفعول النداء مقرِّرةٌ لما أفاده الفاءُ من حصول البِشارة عَقيب الدعاء ، وقوله تعالى : { يُصَلّى } إما صفةٌ لقائمٌ أو خبرٌ ثانٍ عند من يرى تعدُّدَه عند كونِ الثاني جملةً كما في قوله تعالى : { فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى } أو حال أخرى منه على القول بتعددها بلا عطف ولا بدلية أو حالٌ من المستكنِّ في قائم وقوله تعالى : { فِى المحراب } أي في المسجد أو في غرفةِ مريمَ متعلق بيصلي أو بقائم على تقدير كونِ يصلّي حالاً من ضمير قائمٌ لأن العامل فيه وفي الحال حينئذ شيء واحد فلا يلزم الفصلُ بالأجنبي كما يلزم على التقادير الباقية .
{ أَنَّ الله يُبَشّرُكَ بيحيى } أي بأن الله وقرىء بكسر الهمزة على تقدير القول أو إجراء النداء مُجراه لكونه نوعاً منه وقرىء يُبْشِرُك من الإبشار ويَبْشُرُك من الثلاثي وأياً ما كان ينبغي أن يكون هذا الكلام إلى آخره محكياً بعبارته عن الله عز وجل على منهاج قوله تعالى : { قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } الآية ، كما يلوح من مراجعته عليه الصلاة والسلام في الجواب إليه تعالى بالذات لا بواسطة الملك ، والعدولُ عن إسناد التبشير إلى نون العظمة حسبما وقع في سورة مريم للجري على سنن الكبرياء كما في قول الخلفاء : أميرُ المؤمنين يرسُم لك بكذا وللإيذان بأن ما حُكي هناك من النداء والتبشير وما يترتّب عليه من المحاورة كان كلُّ ذلك بتوسط الملك بطريق الحِكاية عنه سبحانه لا بالذات كما هو المتبادر ، وبهذا يتضح اتحادُ المعنى في السورتين الكريمتين فتأمل . ويحيى اسمٌ أعجمي وإن جعل عربياً فمنعُ صرفه للتعريف ووزن الفعل .
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنما سُمّي يحيى لأن الله تعالى أحيا به عُقرَ أمِه . وقال قتادة : لأنه تعالى أحيا قلبه بالإيمان ، قال القرطبيُّ : كان اسمُه في الكتاب الأول حيا ، ولا بد من تقدير مضافٍ يعود إليه الحالُ أي بولادة يحيى فإن التبشيرَ لا يتعلق بالأعيان { مُصَدّقاً } حال مقدرة من يحيى { بِكَلِمَةٍ مّنَ الله } أي بعيسى عليه الصلاة والسلام وإنما سمي كلمة لأنه وجد بكلمة كائنة منه تعالى قيل : هو أولُ من آمن به وصدق بأنه كلمةُ الله ورُوحٌ منه وقال السدي : لقِيَتْ أم يحيى أم عيسى فقالت : «يا مريم أشَعرتِ بحبَلي؟» ، فقالت مريم : «وأنا أيضاً حُبلى» ، قالت : «فإني وجدتُ ما في بطنك» ، فذلك قوله تعالى : { مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ } الخ وقال ابن عباس رضي الله عنهما : «إن يحيى كان أكبرَ من عيسى عليهما الصلاة والسلام بستة أشهرٍ» ، وقيل : بثلاث سنين ، وقتل قبل رفعِ عيسى عليهما الصلاة والسلام بمدة يسيرةٍ وعلى كل تقديرٍ يكون بين ولادة يحيى وبين البشارة بها زمانٌ مديد لما أن مريمَ ولَدت وهي بنتُ ثلاثَ عشرةَ سنة أو بنتُ عشرِ سنين وقيل : { بِكَلِمَةٍ مّنَ الله } أي بكتابِ الله سمّي كلمةً كما قيل : كلمة الحويدرة لقصيدته { وَسَيّدًا } عطفٌ على مصدقاً أي رئيساً يسود قومَه ويفوقهم في الشرف وكان فائقاً للناس قاطبةً فإنه لم يُلِمَّ بخطيئة ولم يَهُمَّ بمعصية فيا لها من سيادة ما أسناها { وَحَصُورًا } عطف على ما قبله أي مبالِغاً في حصر النفس وحبسِها عن الشهوات مع القدرة ، روي أنه مرَّ في صباه بصبيان فدعَوْه إلى اللعب فقال : «ما لِلَّعب خُلقنا» { وَنَبِيّا } عطف على ما قبله مترتب على ما عُدِّد من الخصال الحميدة { مّنَ الصالحين } أي ناشئاً منهم لأنه كان من أصلاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو كائناً من جملة المشهورين بالصلاح كما في قوله تعالى :(1/384)
{ وَإِنَّهُ فِى الاخرة لَمِنَ الصالحين } والمراد بالصلاح ما فوق الصلاحِ الذي لا بد منه في منصِب النبوة من أقاصي مراتبه ، وعليه مبنيٌّ دعاءُ سليمانَ عليه السلام : { وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين }(1/385)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
{ قَالَ } استئناف مبني عن السؤال كأنه قيل : فماذا قال زكريا عليه السلام حينئذ؟ فقيل قال : { رَبّ } لم يخاطِب الملَكَ المناديَ له بملابسة أنه المباشرُ للخطاب وإن كان ذلك بطريق الحكاية عنه تعالى بل جرى نهجُ دعائه السابق مبالغةً في التضرع والمناجاة وجِدّاً في التبتل إليه تعالى واحترازاً عما عسى يوهم خطابُ الملَكِ من توهّم أن علمه سبحانه بما يصدُر عنه يتوقف على توسّطه كما يتوقف وقوفُ البشر على ما يصدر عنه سبحانه على توسّطه في عامة الأحوال وإن لم يتوقف عليه في بعضها { أنى يَكُونُ لِي غلام } فيه دَلالةٌ على أنه قد أخبر بكونه غلاماً عند التبشير كما في قوله تعالى : { إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام اسمه يحيى } وأنى بمعنى كيف أو من أين وكان تامة وأنى واللام متعلقتان بها وتقديمُ الجارِّ على الفاعل لما مر مراراً من الاعتناء بما قُدم والتشويقِ إلى ما أُخر ، أي كيف أو من أين يحدُث لي غلام ويجوزُ أن تتعلق اللامُ بمحذوف وقع حالاً من غلام إذ لو تأخر لكان صفة له ، أو ناقصة واسمُها ظاهرٌ وخبرها إما أنى واللام متعلقة بمحذوف كما مر أو هو الخبر وأنى منصوب على الظرفية { وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر } حال من ياء المتكلم أي أدركني كِبَرُ السِّنِّ وأثّر فيَّ ، كقولهم : أدركته السنُّ وأخذته السن ، وفيه دلالةٌ على أن كبرَ السن من حيث كونُه من طلائع الموت طالبٌ للإنسان لا يكاد يتركه ، قيل : كان له تسعٌ وتسعون سنة ، وقيل : اثنتان وتسعون ، وقيل : مائة وعشرون ، وقيل : ستون ، وقيل : خمس وستون ، وقيل : سبعون ، وقيل : خمس وسبعون ، وقيل : خمس وثمانون ولامرأته ثمانٍ وتسعون { وامرأتى عَاقِرٌ } أي ذاتُ عُقر وهو أيضاً حال من الياء في لي عند من يجوز تعدد الحال أو من ياء { بَلَغَنِي } أي كيف يكون لي ذلك والحال أني وامرأتي على حالة منافية له كلَّ المنافاة وإنما قاله عليه الصلاة والسلام مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله تعالى عليه لا سيما بعد مشاهدته عليه الصلاة والسلام للشواهد السالفة استعظاماً لقدرة الله سبحانه وتعجيباً منها واعتداداً بنعمته عز وجل عليه في ذلك لا استبعاداً له وقيل : بل كان ذلك للاستبعاد حيث كان بين الدعاء والبشارة ستون سنةً وكان قد نسِيَ دعاءَه وهو بعيد ، وقيل : كان ذلك استفهاماً عن كيفية حدوثه { قَالَ } استئناف كما سلف { كذلك } إشارةٌ إلى مصدر { يَفْعَلُ } في قوله عز وجل : { الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء } أي ما يشاء أن يفعلَه من عجيب الأفاعيل الخارقةِ للعادات فالله مبتدأ ويفعل خبره والكاف في محل النصب على أنها في الأصل نعتٌ لمصدر محذوف أي الله يفعل ما يشاء أن يفعله فعلاً مثلَ ذلك الفعل العجيبِ والصنعِ البديعِ الذي هو خلقُ الولد من شيخٍ فانٍ وعجوزٍ عاقر ، فقُدِّم على العامل لإفادة القصر بالنسبة إلى ما هو أدنى من المشار إليه ، واعتبرت الكافُ مقحمةً لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارة من الفخامة وقد مر تحقيقه في تفسير قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا } أو على أنها حال من ضمير المصدرِ المقدر معرِفةٌ أي يفعل ما يشاء بيانٌ لذلك الشأن المبهم أو كذلك خبرٌ لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وقوله تعالى : { الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء } بيانٌ له .(1/386)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
{ قَالَ رَبّ اجعل لِّى ءايَةً } أي علامة تدلني على تحقق المسؤول ووقوعِ الحبَل وإنما سألها لأن العلوقَ أمرٌ خفيٌّ لا يوقف عليه فأراد أن يُطلعه الله تعالى عليه ليتلقّى تلك النعمةَ الجليلة من حين حصولِها بالشكر ولا يؤخِّرَه إلى أن يظهر ظهوراً معتاداً ، ولعل هذا السؤالَ وقع بعد البشارة بزمانٍ مديد إذ به يظهر ما ذُكر من كون التفاوت بين سِني يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام بستة أشهر أو بثلاثِ سنينَ لأن ظهورَ العلامة كان عَقيبَ تعيينها لقوله تعالى في سورة مريم : { فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب فأوحى إِلَيْهِمْ } الآية ، اللهم إلا أن تكونَ المجاوَبةُ بين زكريا ومريمَ في حالة كِبَرها وقد عُدت من جملة من تكلم في الصِغَر بموجب قولها المحكي والجعلُ إبداعيّ واللام متعلقة به والتقديم لما مر مراراً من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أُخر أو بمحذوف وقع حالاً من آية وقيل : هو بمعنى التصيير المستدعي لمفعولين أولُهما { ءايَةً } وثانيهما { لِى } والتقديم لأنه لا مسوّغ لكون آيةٌ مبتدأً عند انحلال الجملة إلى مبتدأ وخبر سوى تقديم الجار فلا يتغير حالهما بعد دخول الناسخ { قَالَ آيتك ألا تُكَلّمَ الناس } أي أن تقدر على تكليمهم { ثلاثة أَيَّامٍ } أي متوالية لقوله تعالى في سورة مريم : { ثلاث لَيَالٍ سَوِيّاً } مع القدرة على الذكر والتسبيح وإنما جُعلت آيتُه ذلك لتخليص المدة لذكر الله تعالى وشكره قضاءً لحق النعمة كأنه قيل : آيةُ حصولِ المطلوب ووصول النعمة أن تحبِسَ لسانك إلا عن شكرها ، وأحسنُ الجواب ما اشتق من السؤال { إِلاَّ رَمْزًا } أي إشارةً بيد أو رأس أو نحوِهما وأصلُه التحركُ يقال : ارتمزَ أي تحرك ومنه قيل للبحر : الراموز ، وهو استثناء منقطعٌ لأن الإشارة ليست من قبيل الكلام ، أو متصلٌ على أن المراد بالكلام ما فهم منه المرام ولا ريب في كون الرمز من ذلك القبيل وقرىء رَمَزاً بفتحتين على أنه جمع رامز كخَدَم وبضمتين على أنه جمع رَموز كرُسُل على أنه حال منه ومن الناس معاً بمعنى مترامزين كقوله :
متى ما تلْقني فردَيْنِ ترجُف ... روانف إليَتَيكَ وتُستطارا
{ واذكر رَّبَّكَ } أي في أيام الحبس شكراً لحصول التفضُّل والإنعام كما يُؤْذِن به العَرْضُ لعنوان الربوبية { كَثِيراً } أي ذكراً كثيراً أو زماناً كثيراً { وَسَبّحْ } أي سبحه تعالى أو افعل التسبيحَ { بالعشى } أي من الزوال إلى الغروب وقيل : من العصر إلى ذهاب الليل { والإبكار } من طلوع الفجرِ إلى الضحى ، قيل : المرادُ بالتسبيح الصلاةُ بدليل تقييده بالوقت كما في قوله تعالى : { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } وقيل : الذكر اللساني كما أن المراد بالذكر الذكرُ القلبي وقرىء الأبكار بفتح الهمزة على أنه جمعُ بكَر كسحرَ وأسحار .(1/387)
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)
{ وَإِذْ قَالَتِ الملئكة } شروعٌ في شرح بقيةِ أحكامِ اصطفاء آلِ عمران إثرَ الإشارةِ إلى نُبَذٍ من فضائل بعضِ أقاربهم أعني زكريا ويحيى عليهما الصلاة والسلام لاستدعاء المقامِ إياهما حسبما أشير إليه ، وقرىء بتذكير الفعل ، والمرادُ بالملائكة جبريلُ عليه الصلاة والسلام وقد مر ما فيه من الكلام ، وإذ منصوبٌ بمُضمر معطوفٍ على المُضمر السابق عطفَ القِصة على القصة ، وقيل : معطوفٌ على الظرف السابق أعني قولَه : { إِذْ قَالَتِ امرأت عمران } منصوبٌ بناصبة فتدبرْ . أي واذكر أيضاً من شواهد اصطفائِهم وقتَ قولِ الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام { يا مَرْيَمَ } وتكريرُ التذكير للإشعار بمزيد الاعتناء بما يحكى من أحكام الاصطفاءِ والتنبيهِ على استقلالها وانفرادِها عن الأحكام السابقة فإنها من أحكام التربية الجُسمانية اللائقة بحال صِغَر مريمَ وهذه من باب التربية الروحانية بالتكاليف الشرعيةِ المتعلقة بحال كِبَرها ، قيل : كلّموها شِفاهاً كرامةً لها أو إرهاصاً لنبوة عيسى عليه الصلاة والسلام لمكان الإجماعِ على أنه تعالى لم يَستنبِىء امرأةً وقيل : ألهموها { إِنَّ الله اصطفاك } أولاً حيث تقبّلك من أمك بقبولٍ حسن ولم يتقبل غيرَك أنثى وربّاك في حِجْرِ زكريا عليه السلام ورزقك من رزق الجنةِ وخصّك بالكرامات السنية { وَطَهَّرَكِ } أي مما يُستقذر من الأحوال والأفعال ومما قذفك به اليهودُ بإنطاق الطفلِ { واصطفاك } آخِراً { على نِسَاء العالمين } بأن وهبَ لك عيسى عليه الصلاة والسلام من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء وجعلكما آيةً للعالمين ، فعلى هذا ينبغي أن يكون تقديمُ حكاية هذه المقاولة على حكاية بشارتِها بعيسى عليه الصلاة والسلام لما مر مراراً من التنبيه على أن كلاً منهما مستحِقٌّ للاستقلال بالتذكير ، ولو رُوعي الترتيبُ الخارجيُّ لتبادر كونُ الكل شيئاً واحداً وقيل : المرادُ بالاصطفاءين واحدٌ والتكريرُ للتأكيد وتبيينِ مَن اصطفاها عليهن فحينئذ لا إشكالَ في ترتيب النظم الكريم إذ يُحمل حينئذ الاصطفاءُ على ما ذُكر أولاً ، وتُجعل هذه المقاولةُ قبل بشارتها بعيسى عليه الصلاة والسلام إيذاناً بكونها قبل ذلك متوفرةً على الطاعات والعبادات حسبما أُمِرت بها مجتهدةً فيها مُقْبِلةً على الله تعالى مُتبتِّلةً إليه تعالى منسلخةً عن أحكام البشرية مستعدةً لفيضان الروح عليها .(1/388)
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
{ ياَ مَرْيَمُ } تكريرُ النداءِ للإيذان بأن المقصودَ بالخطاب ما يرِدُ بعده وأن ما قبله من تذكير النِعم كان تمهيداً لذِكره وترغيباً في العمل بموجبه { اقنتى لِرَبّكِ } أي قومي في الصلاة أو أطيلي القيام فيها له تعالى ، والتعرضُ لعنوان ربوبيته تعالى لها للإشعار بعلة وجوبِ الامتثالِ بالأمر { واسجدى واركعى مَعَ الركعين } أُمِرت بالصلاة بالجماعة بذكر أركانها مبالغةً في إيجاب رعايتها وإيذاناً بفضيلة كلَ منها وأصالتِه ، وتقديمُ السجود على الركوع إما لكون الترتيب في شريعتهم كذلك وإما لكون السجودِ أفضلَ أركانِ الصلاة وأقصى مراتبِ الخضوع ، ولا يقتضي ذلك كونَ الترتيب الخارجيِّ كذلك بل اللائقُ به الترقي من الأدنى إلى الأعلى وإما لِيَقْترِن اركعي بالراكعين للإشعار بأن من لا ركوعَ في صلاتهم ليسوا مصلّين . وأما ما قيل من أن الواوَ لا توجب الترتيبَ فغايتُه التصحيحُ لا الترجيح ، وتجريدُ الأمر بالرُكنين الأخيرين عما قُيِّد به الأولُ لما أن المراد تقييدُ الأمر بالصلاة بذلك وقد فعل حيث قيد به الركن الأول منها ، وقيل : المرادُ بالقنوت إدامةُ الطاعات كما في قوله تعالى : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء اليل ساجدا وَقَائِماً } وبالسجود الصلاةُ لما مر من أنه أفضلُ أركانها وبالركوع الخشوعُ والإخباتُ ، قيل : لمّا أُمِرَت بذلك قامت في الصلاة حتى ورِمَتْ قدَماها وسالت دماً وقيحاً { ذلك } إشارةٌ إلى ما سلف من الأمور البديعة ، وما فيه من معنى البعد للتنبيه على علوِّ شأنِ المشارِ إليه وبُعد منزلتِه في الفضل ، وهو مبتدأ خبرُه قوله تعالى : { مِنْ أَنبَاء الغيب } أي من الأنباء المتعلقةِ بالغيب ، والجملةُ مستأنفةٌ لا محل لها من الإعراب وقوله تعالى : { نُوحِيهِ إِلَيْكَ } جملةٌ مستقلة مبينةٌ للأولى وقيل : الخبرُ هو الجملة الثانية و { مِنْ أَنبَاء الغيب } إما متعلق بنوحيه أو حال من ضميره أي نوحي من أنباء الغيب أو نوحيه حال كونه من جملة أنباء الغيب وصيغةُ الاستقبال للإيذان بأن الوحيَ لم ينقطعْ بعد { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ } أي عند الذين اختلفوا وتنازعوا في تربية مريمَ وهو تقريرٌ وتحقيق لكونه وحياً على طريقة التهكم بمُنكِريه كما في قوله تعالى : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى } الآية { وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ } الآية ، فإن طريقَ معرفةِ أمثالِ هاتيك الحوادثِ والواقعات إما المشاهدةُ وإما السماعُ ، وعدمُه محققٌ عندهم فبقيَ احتمالُ المعاينة المستحيلةِ ضرورةً فنُفِيَت تهكماً بهم { إِذْ يُلْقُون أقلامهم } ظرفٌ للاستقرار العامل في لديهم و { أقلامهم } أقداحُهم التي اقترعوا بها وقيل : اقترعوا بأقلامهم التي كانوا يكتُبون بها التوراة تبركاً { أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } متعلقٌ بمحذوف دلَّ عليه { يُلْقُون أقلامهم } أي يُلْقونها ينْظرون أو ليعلموا أيُّهم يكفلها { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } أي في شأنها تنافُساً في كفالتها حسبما ذكر فيما سبق . وتكريرُ ما كنت لديهم مع تحقق المقصودِ بعطف { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } على إذ يُلقون كما في قوله عز وجل : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نجوى } للدِلالة على أن كلَّ واحدٍ من عدم حضورِه عليه السلام عند إلقاءِ الأقلام وعدمِ حضوره عند الاختصام مستقلٌ بالشهادة على نبوَّته عليه السلام لا سيما إذا أريد باختصامهم تنازعُهم قبل الاقتراعِ فإن تغييرَ الترتيبِ في الذكر مؤكدٌ له .(1/389)
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)
{ إِذْ قَالَتِ الملئكة } شروعٌ في قصة عيسى عليه الصلاة والسلام وهو بدلٌ من { وَإِذْ قَالَتِ الملئكة } منصوبٌ بناصبه وما بينهما اعتراضٌ جيءَ به تقريراً لما سبق وتنبيهاً على استقلاله وكونِه حقيقاً بأن يُعدَّ كنظائره من شواهدِ النبوةِ ، وتركُ العطف بينهما بناءً على اتحاد المخاطِب والمخاطَب وإيذاناً بتقارُن الخطابين أو تقاربُهما في الزمان ، وقيل : منصوبٌ بمُضمرٍ معطوفٍ على ناصبه وقيل : بدل من { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } كأنه قيل : وما كنت حاضراً في ذلك الزمان المديد الذي وقع في طرفٍ منه الاختصامُ وفي طرفٍ آخرَ هذا الخطابُ إشعاراً بإحاطته عليه الصلاة والسلام بتفاصيلِ أحوالِ مريمَ من أولها إلى آخرها والقائلُ جبريلُ عليه الصلاة والسلام ، وإيرادُ صيغة الجمعِ لما مر { يامريم إِنَّ الله يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ } مِنْ لابتداءِ الغاية مَجازاً متعلقةٌ بمحذوف وقعَ صفةً لكلمة أي بكلمة كائنةٍ منه عز وجل { اسمه } ذُكر الضميرُ الراجعُ إلى الكلمة لكونها عبارةً عن مذكّر وهو مبتدأ خبرُه { المسيح } وقوله تعالى : { عِيسَى } بدل منه أي عطفُ بيانٍ ، وقيل : خبرٌ آخرُ وقيل : خبرُ مبتدإ محذوفٍ وقيل : منصوبٌ بإضمار أعني مدحاً ، وقوله تعالى : { ابن مَرْيَمَ } صفة لعيسى وقيل : المرادُ بالاسم ما به يتميز المسمَّى عمن سواه فالخبرُ حينئذ مجموعُ الثلاثةِ إذ هو المميّز له عليه الصلاة والسلام تمييزاً عن جميع مَنْ عداه والمسيحُ لَقَبُه عليه الصلاة والسلام وهو من الألقاب المشرّفة كالصّدّيق ، وأصلُه بالعبرية مشيحاً ومعناه المبارَك وعيسى معرّبٌ من إيشوع والتصدّي من المسْح والعَيْس وتعليلُه بأنه عليه الصلاة والسلام مُسِحَ بالبركة أو بما يطهِّره من الذنوب أو مسَحَه جبريلُ عليهما الصلاة والسلام أو مسَح الأرضَ ولم يُقِمْ في موضع ، أو كان عليه الصلاة والسلام يمسَح ذا العاهةِ فيبرَأُ وبأنه كان في لونه عيس أي بياض يعلوه حُمرةٌ من قبيل الرَّقْم على الماء وإنما قيل : ابنُ مريم مع كون الخطابِ لها تنبيهاً على أنه يُولدُ من غير أبٍ فلا يُنسب إلا إلى أمه وبذلك فُضّلت على نساء العالمين ، { وَجِيهًا فِي الدنيا والاخرة } الوجيهُ ذو الجاه وهو القوةُ والمنَعةُ والشرَفُ وهو حال مقدرة من { كَلِمَةَ } فإنها وإن كانت نكرةً لكنها صالحة لأن ينتصِبَ بها الحال وتذكيرُها باعتبار المعنى والوجاهةُ في الدنيا النبوةُ والتقدمُ على الناس وفي الآخرة الشفاعةُ وعلوُّ الدرجة في الجنة { وَمِنَ المقربين } أي من الله عز وجل وقيل : هو إشارةٌ إلى رفعه إلى السماء وصُحبةِ الملائكة ، وهو عطفٌ على الحال الأولى وقد عُطف عليه .(1/390)
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
قوله تعالى : { وَيُكَلّمُ الناس فِى المهد وَكَهْلاً } أي يكلمهم حال كونِه طفلاً وكهلاً كلام الأنبياء من غير تفاوت ، والمهدُ مصدرٌ سُمِّي به ما يُمْهَد للصبيِّ أي يُسوَّى من مضجعه وقيل : إنه رفع شاباً والمراد وكهلاً بعد نزوله وفي ذكر أحوالِه المختلفة المتنافيةِ إشارةٌ إلى أنه بمعزلٍ من الألوهية { وَمِنَ الصالحين } حالٌ أخرى من كلمة معطوفة على الأحوال السالفة أو من الضمير في يكلم .
{ قَالَتْ } استئنافٌ مبنيٌّ على السؤال كأنه قيل : فماذا قالت مريمُ حين قالت لها الملائكةُ ما قالت؟ فقيل : قالت متضرعةً إلى ربها : { رَبّ أنى يَكُونُ } أي كيف يكونُ أو من أين يكون { لِى وَلَدٌ } على وجه الاستبعاد العادي والتعجب واستعظامِ قدرةِ الله عز وجل وقيل : على وجه الاستفهامِ والاستفسارِ بأنه بالتزوج أو بغيره يكون الولدُ ، ويكون إما تامةٌ وأنى واللام متعلقتان بها ، وتأخيرُ الفاعل عن الجار والمجرور لما مر من الاعتناء بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخر ، ويجوز أن تتعلق اللامُ بمحذوفٍ وقع حالاً من ولد إذ لو تأخرَ لكان صفة له ، وإما ناقصةٌ واسمُها ولد وخبرها إما أنى واللامُ متعلقةٌ بمضمر وقع حالاً كما مر ، أو خبر وأنى نصبَ على الظرفية وقوله تعالى : { وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ } جملةٌ حالية محقّقةٌ للاستبعاد أي والحال أني على حالة منافيةٍ للولادة { قَالَ } استئنافٌ كما سلف والقائلُ هو الله تعالى أو جبريلُ عليه الصلاة والسلام { كذلك الله يَخْلُقُ مَا يَشَاء } الكلامُ في إعرابه كما مر في قصة زكريا بعينه خلا أن إيراد { يَخْلُقُ } هاهنا مكانَ يفعلُ هناك لما أن ولادةَ العذراءِ من غير أن يمسَّها بشرٌ أبدعُ وأغربُ من ولادة عجوزٍ عاقرٍ من شيخ فانٍ ، فكان الخلقُ المُنبىءُ عن الاختراع أنسبَ بهذا المقام من مطلق الفعل ، ولذلك عقّب ببيان كيفيته فقيل : { إِذَا قَضَى أَمْرًا } من الأمور أي أراد شيئاً كما في قوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً } وأصلُ القضاءِ الأحكامُ أُطلق على الإرادة الإلهية القطعيةِ المتعلقةِ بوجود الشيءِ لإيجابها إياه البتةَ ، وقيل : الأمرُ ومنه قوله تعالى : { وقضى رَبُّكَ } { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ } لا غيرُ { فَيَكُونُ } من غير تريثٍ وهو كما ترى تمثيلٌ لكمال قدرته تعالى وسهولةِ حصولِ المقدوراتِ حسبما تقتضيه مشيئتُه وتصويرٌ لسرعة حدوثِها بما هو علم فيها من طاعة المأمورِ المطيعِ للآمرِ القويّ المطاعِ ، وبيانٌ لأنه تعالى كما يقدِر على خلق الأشياءِ مُدرَجاً بأسباب وموادَّ معتادةٍ يقدِر على خلقها دفعةً من غير حاجة إلى شيء من الأسباب والمواد .(1/391)
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
{ وَيُعَلّمُهُ الكتاب } أي الكتابةَ أو جنسَ الكتُبِ الإلهية { والحكمة } أي العلومَ وتهذيبَ الأخلاق { والتوراة والإنجيل } إفرادُهما بالذكر على تقدير كونِ المرادِ بالكتاب جنسَ الكتب المنزلِ لزيادة فضلِهما وإنافتِهما على غيرهما ، والجملةُ عطف على { يُبَشّرُكِ } أو على { وَجِيهاً } أو على { يَخْلُقُ } أو كلام مبتدأ سيق تطييباً لقلبها وإزاحةً لما أهمّها من خوف اللائمةِ لمّا علِمَت أنها تلِدُ من غير زوجٍ ، وقرىء ونعلِّمه بالنون { وَرَسُولاً إلى بَنِى إسراءيل } منصوبٌ بمُضْمر يعود إليه المعنى معطوفٌ على يُعلّمه أي ويجعله رسولاً إلى بني إسرائيلَ أي كلِّهم ، وقال بعضُ اليهود إنه كان مبعوثاً إلى قوم مخصوصين ثم قيل : كان رسولاً حال الصِّبا وقيل : بعد البلوغ ، وكان أولَ أنبياءِ بني إسرائيلَ يوسفُ عليه الصلاة والسلام وآخِرُهم عيسى عليه الصلاة والسلام وقيل : أولُهم موسى وآخِرُهم عيسى عليهم الصلاة والسلام وقوله تعالى : { أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ } معمولٌ لرسولاً لما فيه من معنى النُطقِ أي رسولاً ناطقاً بأني الخ وقيل : منصوبٌ بمضمر معمولٍ لقول مضمرٍ معطوفٍ على يعلِّمه أي ويقول : أُرسِلتُ رسولاً بأني قد جئتُكم الخ وقيل : معطوفٌ على الأحوال السابقةِ ، ولا يقدَحُ فيه كونُها في حكم الغَيبة مع كونِ هذا في حكم التكلّم لِما عرَفتَ من أن فيه معنى النُطقِ ، كأنه قيل : حالَ كونه وجيهاً ورسولاً ناطقاً بأني الخ وقرىء ورسولٍ بالجر عطفاً على { كَلِمَةَ } والباء في قوله تعالى : { بِآيَةٍ } متعلقةٌ بمحذوفٍ وقع حالاً من فاعل الفعلِ على أنها للملابسة ، والتنوينُ للتفخيم دون الوحدة لظهور تعددها وكثرتها وقرىء بآيات . أو بجئتُكم على أنها للتعدية ومِنْ في قوله تعالى : { مّن رَّبّكُمْ } لابتداء الغاية مجازاً متعلقةٌ بمحذوف وقعَ صفةً لآيةٍ أي قد جئتُكم ملتبساً بآية عظيمةٍ كائنةٍ من ربكم أو أتيتكم بآية عظيمة كائنة منه تعالى والتعرضُ لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطَبين لتأكيد إيجاب الامتثالِ بما سيأتي من الأوامر وقولُه تعالى : { أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير } بدلٌ من قوله تعالى : { أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ } ومحلُه النصبُ على نزع الجارِّ عند سيبويهِ والفراء ، والجرُّ على رأي الخليلِ والكسائيّ ، أو بدلٌ من آية وقيل : منصوبٌ بفعل مقدرٍ أي أعني أني الخ وقيل : مرفوعٌ على أنه خبرُ مبتدإ محذوفٍ أي هي { أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ } وقرىء بكسر الهمزةِ على الاستئناف أي أقدّرُ لكم أي لأجل تحصيلِ إيمانِكم ودفعِ تكذيبِكم إيايَ من الطين شيئاً مثلَ صورةِ الطير { فَأَنفُخُ فِيهِ } الضمير للكاف أي في ذلك الشيءِ المماثلِ لهيئة الطيرِ ، وقرىء فأنفخُ فيها عل أن الضميرَ للهيئة المقدّرةِ أي أخلُق لكم من الطين هيئةً كهيئة الطيرِ فأنفخُ فيها { فَيَكُونُ طَيْرًا } حياً طياراً كسائر الطيور { بِإِذُنِ الله } بأمرِه تعالى أشارَ عليه الصلاة والسلام بذلك إلى أن إحياءَه من الله تعالى لا منه ، قيل : لم يَخْلُقْ غيرَ الخفاش ، رُوي أنه عليه الصلاة والسلام لما ادعى النبوةَ وأظهر المعجزاتِ طالبوه بخلق الخفاشِ فأخذ طيناً وصوَّره ونفخَ فيه فإذا هو يطيرُ بين السماء والأرض ، قال وهْبٌ : «كان يطير ما دام الناسُ ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز من خلق الله تعالى» ، قيل : إنما طالبوه خلق الخفاشِ لأنه أكملُ الطير خلقاً وأبلغ دلالة على القدرة لأن له ثُدِيّاً وأسناناً وهي تحيض وتطُهر وتلِد كسائر الحيوان وتضحك كا يضحك الإنسانُ وتطير بغير ريش ولا تُبصِرُ في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل وإنما ترى في ساعتين : ساعةٍ بعد الغروب وساعةٍ بعد طلوع الفجر وقيل : خَلَق أنواعاً من الطير { وَأُبْرِىء الاكمه } أي الذي وُلد أعمى أو الممسوحُ العين { والابرص } المبتلى بالبَرَص ، لم تكن العربُ تنفِرُ من شيءٍ نَفْرتَها منه ويقال له : الوَضَح أيضاً ، وتخصيصُ هذين الداءين لأنهما مما أعيا الأطباءَ وكانوا في غاية الحَذاقةِ في زمنه عليه الصلاة والسلام فأراهم الله تعالى المعجزةَ من ذلك الجنس .(1/392)
روي أنه عليه الصلاة والسلام ربما كان يجتمعُ عليه ألوفٌ من المرضى مَنْ أطاق منهم أتاه ومن لم يُطِقْ أتاه عيسى عليه الصلاة والسلام وما يداويه إلا بالدعاء { وَرَسُولاً إلى بَنِى إسراءيل } كرَّره مبالغةً في دفع وَهْمِ مَنْ توهّم فيه اللاهوتية . قال الكلبيُّ : كان عليه الصلاة والسلام يُحيي الموتى بيا حيُّ يا قيُّومُ ، أحيا عازَرَ وكان صديقاً له فعاش وولد له ومر على ابن عجوز ميت فدعا الله تعالى فنزل عن سريره حياً ورجع إلى أهله وبقي وولد له وبنت العاشر أحياها وولدت بعد ذلك فقالوا : إنك تحيي من كان قريبَ العهدِ من الموت فلعلهم لم يموتوا بل أصابتهم سكتةٌ فأحْييِ لنا سامَ بنَ نوحٍ فقال : «دُلوني على قبره» ففعلوا فقام على قبره فدعا الله عز وجل فقام من قبره وقد شاب رأسُه فقال عليه الصلاة والسلام : " كيف شِبْتَ ولم يكن في زمانكم شيبٌ؟ " قال : يا روحَ الله لما دعَوْتَني سمعتُ صوتاً يقول : أجبْ روحَ الله فظننتُ أن الساعةَ قد قامت فمِنْ هِولِ ذلك شِبْتُ فسأله عن النزْع قال : يا روحَ الله إن مرارتَه لم تذهَبْ من حَنْجَرَتي وكان بينه وبين موته أكثرُ من أربعةَ آلافِ سنةٍ وقال للقوم : صدِّقوه فإنه نبيُّ الله فآمن به بعضُهم وكذبه آخرون ، فقالوا : هذا سحرٌ فأرِنا آيةً فقال : " يا فلان أكلتَ كذا ويا فلان خُبِىءَ لك كذا " وذلك قولُه تعالى : { وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ } أي بالمغيَّبات من أحوالكم التي لا تشكّون فيها ، وقرىء تَذْخَرون بالذال والتخفيف { إِنَّ فِى ذَلِكَ } إشارةٌ إلى ما ذكر من الأمور العِظام { لآيَةً } عظيمةً وقرىء لآياتٍ { لَكُمْ } دالةً على صِحة رسالتي دَلالةً واضحة { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } جوابُ الشرطِ محذوفٌ لانصباب المعنى إليه أو دِلالةِ المذكورِ عليه أي انتفعتم بها ، أو إن كنتم ممن يتأتَّى منهم الإيمانُ دلَّتْكم الآية على صحة رسالتي والإيمانِ بها .(1/393)
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)
{ وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة } عطفٌ على المضمر الذي تعلَّق به قولُه تعالى : { بآيَةٍ } أي قد جئتُكم ملتبساً بآية الخ ومصدِّقاً لما بين يديَّ الخ أو على { رَسُولاً } على الأوجه الثلاثةِ فإن مصدِّقاً فيه معنى النُطقِ كما في رسولاً ، أي ويجعله مصدِّقاً ناطقاً بأني أُصَدِّق الخ أو ويقول : «أُرسلتُ رسولاً بأني قد جئتُكم» الخ و«مصدقاً» الخ أو حالَ كونه «مصدقاً بأني أُصدّق» الخ أو منصوبٌ بإضمار فعلٍ دلَّ عليه «قد جئتُكم مصدقاً» الخ وقولُه : { مِنَ التوراة } إما حالٌ من الموصول والعاملُ { مُصَدّقاً } وإما من ضميره المستترِ في الظرف الواقعِ صلةً والعاملُ الاستقرارُ المُضْمرُ في الظرف أو نفسُ الظرف لقيامه مَقامَ الفعل { وَلاِحِلَّ لَكُم } معمولٌ لِمُضمرٍ دل عليه ما قبله أي «وجئتكم لأُحِل» الخ وقيل : عطفٌ على معنى مصدقاً كقولهم : جئتُه معتذراً ولأجتلِبَ رضاه كأنه قيل : «قد جئتُكم لأصدِّق ولأحِل» الخ وقيل : عطفٌ على { بِآيَةٍ } أي «قد جئتُكم بآية من ربكم ولأُحِلَّ لكم» { بَعْضَ الذي حُرّمَ عَلَيْكُمْ } أي في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام من الشحومِ والثُروبِ والسمكِ ولحومِ الإبلِ والعملِ في السبت ، قيل : أحَلَّ لهم من السمك والطير ما لا صئصئة له ، واختلف في إحلال السبت ، وقرىء حَرَّم على تسمية الفاعل وهو ما بين يديّ أو الله عز وجل ، وقرىء حَرُم بوزن كَرُم وهذا يدل على أن شرعَه كان ناسخاً لبعض أحكام التوراةِ ولا يُخِل ذلك بكونه مصدِّقاً لها لما أن النسخَ في الحقيقة بيانٌ وتخصيصٌ في الأزمان ، وتأخيرُ المفعول عن الجارِّ والمجرور لما مر مراراً من المبادرة إلى ذكر ما يسُرُّ المخاطَبين وللتشويق إلى ما أُخِّر { وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ } شاهدةٍ على صحة رسالتي وقرىء بآيات { فاتقوا الله } في عدم قَبولها ومخالفةِ مدلولها { وَأَطِيعُونِ } فيما آمرُكم به وأنهاكم عنه بأمر الله تعالى وتلك الآية هي قولي :(1/394)
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
{ إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ } فإنه الحقُّ الصريحُ الذي أجمع عليه الرسلُ قاطبةً فيكون آيةً بيِّنة على أنه عليه الصلاة والسلام من جملتهم وقرىء { إِنَّ الله } بالفتح بدلاً من آية أي «قد جئتكم بآية على أن الله ربي وربُّكم» وقولُه : { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } اعتراض ، والظاهرُ أنه تكريرٌ لما سبق ، أي «قد جئتكم بآية بعد آية مما ذكرتُ لكم من خلق الطير وإبراءِ الأكمهِ والأبرصِ والإحياءِ والإنباءِ بالخفيات وغيرِه من ولادتي بغير أبٍ ومن كلامي في المهد وغير ذلك» ، والأولُ لتمهيد الحجة والثاني لتقريبها إلى الحكم ولذلك رُتّب عليه بالفاء قولُه : { فاتقوا الله } أي «لِمَا جئتُكم بالمعجزات الباهرةُ والآياتِ الظاهرة فاتقوا الله في المخالفة وأطيعونِ فيما أدعوكم إليه» ومعنى قراءةِ من فتح : «ولأن الله ربي وربكم فاعبدوه» كقوله تعالى : { لإيلاف قُرَيْشٍ } الخ ثم شرع في الدعوة وأشار إليها بالقول المجمل فقال : { إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ } إشارةً إلى أن استكمالَ القوةِ النظريةِ بالاعتقاد الحقِّ الذي غايتُه التوحيدُ وقال : { فاعبدوه } إشارةً إلى استكمال القوةِ العمليةِ فإنه يلازِمُ الطاعة التي هي الإتيانُ بالأوامر والانتهاءُ عن المناهي ثم قرر ذلك بأن بيّن أن الجمعَ بين الأمرين هو الطريقُ المشهودُ له بالاستقامة ، ونظيرُه قوله عليه الصلاة والسلام : " قُلْ آمَنْتُ بالله ثم اسْتَقِمْ " { فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر } شروعٌ في بيان مآلِ أحوالِه عليه السلام إثرَ ما أشير إلى طرَفٍ منها بطريق النقلِ عن الملائكة ، والفاءُ فصيحة تُفصِحُ عن تحقُّق جميعِ ما قالته الملائكةُ ، وخروجُه من القوة إلى الفعل حسبما شرحتُه كما في قوله تعالى : { فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } بعد قوله تعالى : { قَالَ الذى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب أَنَاْ ءاتِيكَ } كأنه قيل : فحمَلته فولدتْه فكان كيتَ وكيت وقال : ذيتَ وذيت وإنما لم يذكُرْه اكتفاءً بحكاية الملائكةِ وإيذاناً بعدم الخُلْفِ وثقةً بما فُصّل في المواضع الأُخَرِ . وأما عدمُ نظمِ بقية أحوالِه عليه الصلاة والسلام في سلك النقلِ فإما للاعتناء بأمرِها أو لعدم مناسبتها للمقام فيها من ذكر مُقاساتِه عليه الصلاة والسلام للشدائد ومعاناتِه للمكايد ، والمرادُ بالإحساس الإدراكُ القويُّ الجاري مَجرَى المشاهدةِ ، وبالكفر إصرارُهم عليه وعتوُّهم ومكابرتُهم فيه مع العزيمة على قتله عليه الصلاة والسلام كما ينبىء عنه الإحساسُ فإنه إنما يُستعمل في أمثال هذه المواقعِ عند كونِ مُتعلّقِه أمراً محذوراً مكروهاً كما في قوله عز وجل : { فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مّنْهَا يَرْكُضُونَ } وكلمةُ مِنْ متعلقةٌ بأحسّ والضميرُ المجرورُ لبني إسرائيلَ أي ابتدأ الإحساسَ من جهتهم ، وتقديمُ الجارِّ والمجرور على المفعول الصريحِ لما مر غيرَ مرةٍ من الاعتناء بالمقدَّم والتشويقِ إلى المؤخَّر ، وقيل : متعلقةٌ بمحذوف وقعَ حالاً من الكفر { قَالَ } أي لِخُلّصِ أصحابِه لا لجميعِ بني إسرائيلَ لقوله تعالى :(1/395)
{ كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ } الآية . وقوله تعالى : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُونُواْ أنصار الله كَمَا } ليس بنص في توجيه الخطابِ إلى الكل بل يكفي فيه بلوغُ الدعوة إليهم { مَنْ أَنصَارِى } الأنصارُ جمع نصير كأشراف جمع شريف .
{ إِلَى الله } متعلقٌ بمحذوف وقعَ حالاً من الياء أي مَنْ أنصاري متوجهاً إلى الله ملتجئاً إليه أو بأنصاري متضمناً معنى الإضافةِ كأنه قيل : «مَنِ الذين يُضيفون أنفسَهم إلى الله عز وجل ينصُرونني كما ينصُرني» وقيل : { إلى } بمعنى في ، أي في سبيل الله وقيل : بمعنى اللام وقيل : بمعنى مع { قَالَ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال ينساقُ إليه الذهنُ كأنه قيل : فماذا قالوا في جوابه عليه الصلاة والسلام؟ فقيل قال : { الحواريون } جمعُ حَواريّ يقال : فلان حَواري فلان أي صفوتُه وخالصتُه من الحَوَر وهو البياضُ الخالص ومنه الحوارياتُ للحَضَريات لخُلوص ألوانِهن ونقائِهن ، سُمّي به أصحابُ عيسى عليه الصلاة والسلام لخُلوص نياتِهم ونقاءِ سرائرِهم ، وقيل : لِمَا عليهم من آثار العبادةِ وأنوارِها ، وقيل : كانوا ملوكاً يلبَسون البياضَ وذلك أن واحداً من الملوك صنعَ طعاماً وجمع الناسَ عليه وكان عيسى عليه الصلاة والسلام على قصعةٍ لا يزال يأكلُ منها ولا تنقُص ، فذكروا ذلك للملك فاستدعاه عليه الصلاة والسلام فقال له : من أنت؟ قال : «عيسى بن مريم» ، فترك مُلكَه وتبِعه مع أقاربه فأولئك هم الحَواريون ، وقيل : كانوا صيادين يصطادون السمكَ يلبَسون الثيابَ البيض فيهم شمعونُ ويعقوبُ ويوحنا فمرّ بهم عيسى عليه الصلاة والسلام فقال لهم : «أنتم تصيدون السمكَ فإن اتبعتموني صَرْتم بحيث تصيدون الناسَ بالحياة الأبدية» قالوا : من أنت؟ قال : «عيسى بنُ مريم عبدُ اللَّه ورسولُه» فطلبوا منه المعجزة ، وكان شمعونُ قد رمى شبكتَه تلك الليلةَ فما اصطاد شيئاً فأمره عيسى عليه الصلاة والسلام بإلقائها في الماء مرةً أخرى ففعل فاجتمع في الشبكة من السمك ما كادَتْ تتمزقُ واستعانوا بأهل سفينةٍ أخرى وملأوا السفينتين ، فعند ذلك آمنوا بعيسى عليه السلام وقيل : كانوا اثنيْ عشرَ رجلاً آمنوا به عليه الصلاة والسلام واتبعوه وكانوا إذا جاعوا قالوا : جُعْنا يا روحَ الله فيضرِب بيده الأرضَ فيخرُجُ منها لكل واحد رغيفان ، وإذا عطِشوا قالوا : عطِشنا فيضرب بيده الأرضَ فيخرُج منها الماءُ فيشربون فقالوا : من أفضلُ منا؟ قال عليه الصلاة والسلام : " أفضلُ منكم من يعمل بيدِه ويأكلُ من كَسْبه " فصاروا يغسِلون الثيابَ بالأُجرة فسُمّوا حَواريين . وقيل : إن أمَّه سلّمتْه إلى صبّاغ فأراد الصباغُ يوماً أن يشتغل ببعض مَهمَّاتِه فقال له عليه الصلاة والسلام : هاهنا ثيابٌ مختلفة قد جَعَلْتُ لكل واحدٍ منها علامةً معينةً فاصبِغْها بتلك الألوانِ ، فغاب فجعلها عليه الصلاة والسلام كلَّها في جُبَ واحدٍ وقال : " كوني بإذن الله كما أُريد " فرجع الصبَّاغُ فسأله فأخبره بما صنع فقال : أفسدتَ عليّ الثيابَ قال : «قمْ فانظرْ» فجعل يُخرِجُ ثوباً أحمرَ وثوباً أخضرَ وثوباً أصفرَ إلى أن أخرج الجميعَ على أحسنِ ما يكون حسبما كان يريد فتعجَّبَ منه الحاضرون وآمنوا به عليه الصلاة والسلام وهم الحواريون ، قال القفالُ : ويجوزُ أن يكون بعضُ هؤلاء الحواريين الاثنيْ عشرَ من الملوك وبعضُهم من صيادي السمك وبعضُهم من القصّارين وبعضُهم من الصبَّاغين والكلُّ سُمّوا بالحَواريين لأنهم كانوا أنصارَ عيسى عليه الصلاة والسلام وأعوانَه والمخلِصين في طاعته ومحبتِه .(1/396)
{ نَحْنُ أَنْصَارُ الله } أي أنصار دينه ورسولِه { آمنَّا بالله } استئنافٌ جارٍ مَجرى العلةِ لما قبله فإن الإيمانَ به تعالى موجبٌ لنُصرة دينِه والذبِّ عن أوليائه والمحاربةِ مع أعدائه { واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } مخلِصون في الإيمانِ منقادون لما تريد منا من نُصرتك ، طلبوا منه عليه الصلاة والسلام الشهادةَ بذلك يومَ القيامة يوم أُشهِدَ الرسلُ عليهم الصلاة والسلام لأُممهم وعليهم إيذاناً بأن مرمى غرضِهم السعادةُ الأخروية .(1/397)
رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
{ رَبَّنَا ءامَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ } تضرّعٌ إلى الله عز وجل وعرْضٌ لحالهم عليه تعالى بعد عرضِها على الرسول مبالغةً في إظهار أمرِهم { واتبعنا الرسول } أي في كل ما يأتي ويذرُ من أمور الدينِ فيدخُل فيه الاتّباعُ في النُّصرة دخولاً أولياً { فاكتبنا مَعَ الشاهدين } أي مع الذين يشهدون بوحدانيتك أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم أو مع أمة محمدٍ عليه الصلاة والسلام فإنهم شهداءُ على الناس قاطبةً ، وهو حالٌ من مفعول اكتبنا .
{ وَمَكَرُواْ } أي الذين علِمَ عيسى عليه الصلاة والسلام كفرَهم من اليهود بأن وكلّوا به من يقتُله غِيلةً { وَمَكَرَ الله } بأن رفعَ عيسى عليه الصلاة والسلام وألقى شَبَهَه على من قصد اغتيالَه حتى قُتل ، والمكرُ من حيث أنه في الأصل حيلةٌ يُجلَب بها غيرُه إلى مَضرّة لا يمكن إسنادُه إليه سبحانه إلا بطريق المشاكلة ، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ملِكَ بني إسرائيلَ لما تصد قتلَه عليه الصلاة والسلام أمره جبريلُ عليه الصلاة والسلام أن يدخُلَ بيتاً فيه روزنة فرفعه جبريل من تلك الروزنة إلى السماء فقال الملكُ لرجل خبيثٍ منهم : أدخُل عليه فاقتُله فدخل البيت ، فألقى الله عز وجل شَبَهَه عليه فخرج يُخبرهم أنه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه وقيل إنه عليه الصلاة والسلام جمع الحواريين ليلةً وأوصاهم ثم قال : « لَيَكفرَنّ بي أحدُكم قبل أن يَصيح الديكُ ويَبيعَني بدراهِمَ يسيرة » فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهودُ تطلُبه فنافق أحدُهم فقال لهم : ما تجعلون لي إن دَلَلْتُكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين درهماً فأخذها ودلهم عليه فألقى الله عز وجل عليه شبهَ عيسى عليه الصلاة والسلام ورفعه إلى السماء فأخذوا المنافِقَ وهو يقول : أنا دليلُكم فلم يلتفتوا إلى قوله وصَلَبوه ثم قالوا : وجهُه يُشبه وجهَ عيسى وبَدَنُه يشبه بدنَ صاحبِنا فإن كان هذا عيسى فأين صاحبُنا وإن كان صاحِبَنا فأين عيسى؟ فوقع بينهم قتالٌ عظيم وقيل : لما صُلب المصلوب جاءت مريمُ ومعها امرأةٌ أبرأها الله تعالى من الجنون بدعاء عيسى عليه الصلاة والسلام وجعلتا تبكِيان على المصلوب فأنزل الله تعالى عيسى عليه الصلاة والسلام فجاءهما فقال : علام تبكيان؟ فقالتا : عليك فقال : إن الله تعالى رفعني ولم يُصِبني إلا خيرٌ وإن هذا شيءٌ شُبِّه لهم . قال محمد بنُ إسحاقَ : إن اليهودَ عذبوا الحواريين بعد رفعِ عيسى عليه الصلاة والسلام ولقُوا منهم الجَهْدَ فبلغ ذلك ملكَ الرومِ وكان ملكُ اليهود من رعيته فقيل له : إن رجلاً من بني إسرائيلَ ممن تحت أمرِك كان يخبرهم أنه رسولُ الله وأراهم إحياءَ الموتى وإبراءَ الأكمهِ والأبرص وفعل وفعل فقال : لو علِمْتُ ذلك ما خلَّيْتُ بينهم وبينه ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم ، وسألهم عن عيسى عليه الصلاة والسلام فأخبروه فبايعهم على دينهم وأنزل المصلوبَ فغيّبه وأخذ الخشبةَ فأكرمها ثم غزا بني إسرائيلَ وقتل منهم خلقاً عظيماً ومنه ظهر أصلُ النصرانيةِ في الروم ثم جاء بعده ملِكٌ آخرُ يقال له : تيتوس وغزا بيتَ المقدس بعد رفع عيسى عليه الصلاة والسلام بنحوٍ من أربعين سنةً فقتلَ وسبَى ولم يترُكْ في مدينة بيتِ المقدسِ حجراً على حجر ، فخرج عند ذلك قريظةُ والنضيرُ إلى الحجاز .(1/398)
قال أهلُ التواريخ : حملت مريم بعيسى عليه الصلاة والسلام وهي بنتُ ثلاثَ عشرةَ سنةً وولدته ببيتَ لَحْمَ من أرض «أورى شلم» لمُضيِّ خمسٍ وستين سنةً من غلبة الإسكندرِ على أرض بابلَ ، وأوحى الله تعالى إليه على رأس ثلاثينَ سنةً ورفعه إليه من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضانَ وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثين سنةً وعاشت أمُه بعد رفعِه ستَّ سنين { والله خَيْرُ الماكرين } أقواهم مكراً وأنفذُهم كيداً وأقدرُهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب ، وإظهارُ الجلالة في موقع الإضمارَ لتربية المهابة ، والجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله .(1/399)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
{ إِذْ قَالَ الله } ظرفٌ لمكرَ الله أو لمضمر نحوُ وقع ذلك { ياعيسى إِنّي مُتَوَفّيكَ } أي مستوفي أجلِك ومؤخرُك إلى أجلك المسمَّى عاصِماً لك من قتلهم أو قابضُك من الأرض ، من توفيتُ مالي ، أو متوفيك نائماً إذ رُوي أنه رُفع وهو نائم ، وقيل : مميتُك في وقتك بعد النزول من السماء ورافعُك الآن أو مميتُك من الشهوات العائقة عن التزوج إلى عالم الملكوت ، وقيل : أماته الله تعالى سبعَ ساعاتٍ ثم رفعه إلى السماء وإليه ذهبت النصارى ، قال القرطبيُّ : والصحيحُ أن الله تعالى رفعه من غير وفاةٍ ولا نومٍ كما قال الحسنُ وابنُ زيد وهو اختيارُ الطبري وهو الصحيحُ عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وأصل القصة أن اليهودَ لما عزموا على قتله عليه الصلاة والسلام اجتمع الحواريون وهم اثنا عشرَ رجلاً في غرفة فدخل عليهم المسيحُ من مِشكاة الغرفةِ فأخبر بهم إبليسُ جميعَ اليهود فركِبَ منهم أربعةُ آلافِ رجلٍ فأخذوا باب الغرفة فقال المسيحُ للحواريين : أيُكم يخرجُ ويُقتل ويكونُ معي في الجنة؟ فقال واحد منهم : أنا يا نبيَّ الله ، فألقى عليه مدرعة من صوفٍ وعِمامةٍ من صوف وناوله عكّازَه وأُلقيَ عليه شبَهُ عيسى عليه الصلاة والسلام فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه ، وأما عيسى عليه الصلاة والسسلام فكساه الله الريشَ والنورَ وألبسه النورَ وقطع عنه النورُ شهوةَ المطعمِ والمشرب وذلك قوله تعالى : { إِنّي مُتَوَفّيكَ } فطار مع الملائكة ثم إن أصحابه حين رأَوْا ذلك تفرَّقوا ثلاثَ فِرَقٍ فقالت فِرقةٌ : كان الله فينا ثم صعِدَ إلى السماء وهم اليعقوبيةُ ، وقالت فرقة أخرى : كان فينا ابنُ الله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه وهم النسطوريةُ ، وقالت فرقةٌ أخرى منهم : كان فينا عبدُ الله ورسولُه ما شاء الله ثم رفعه الله إليه وهؤلاء هم المسلمون فتظاهرت عليهم الفرقتانِ الكافرتان فقتلوهم فلم يزل الإسلامُ منطمساً إلى أن بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم .
{ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ } أي إلى محل كرامتي ومقرِّ ملائكتي { وَمُطَهّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ } أي من سوء جوارِهم وخبثِ صُحبتِهم ودنَسِ معاشرتِهم { وَجَاعِلُ الذين اتبعوك } قال قتادةُ والربيعُ والشعبيُّ ومقاتِلٌ والكلبيُّ : هم أهل الإسلام الذين صدّقوه واتبعوا دينَه من أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم دون الذين كذّبوه وكذَبوا عليه من النصارى { فَوْقَ الذين كَفَرُواْ } وهم الذين مكَروا به عليه الصلاة والسلام ومن يسير بسيرتهم من اليهود فإن أهلَ الإسلام فوقهم ظاهرين بالعزة والمَنَعة والحُجة ، وقيل : هم الحواريون فينبغي أن تُحمل فوقيتُهم على فوقية المسلمين بحكم الاتحادِ في الإسلام والتوحيد ، وقيل : هم الرومُ وقيل : هم النصارى ، فالمرادُ بالاتباع مجرَّدُ الادعاء والمحبة وإلا فأولئك الكفرةُ بمعزل من اتّباعه عليه الصلاة والسلام { إلى يَوْمِ القيامة } غايةٌ للجعل أو للاستقرار المقدّرِ في الظرف لا على معنى أن الجعلَ أو الفوقيةَ تنتهي حينئذ ويتخلّص الكفرةُ من الذِلة بل على معنى أن المسلمين يعلُونهم إلى تلك الغاية فأما بعدها فيفعل الله تعالى بهم ما يريد { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } بالبعث ، وثم للتراخي ، وتقديمُ الجار والمجرور للقصر المفيدِ لتأكيد الوعدِ والوعيد ، والضمير لعيسى عليه الصلاة والسلام وغيرِه من المتبعين له والكافرين به على تغليب المخاطَب على الغائب في ضمن الالتفاتِ فإنه أبلغُ في التبشير والإنذار { فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } يومئذ إثرَ رجوعِكم إليّ { فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من أمور الدين و { فِيهِ } متعلقٌ بتختلفون وتقديمُه عليه لرعاية الفواصل .(1/400)
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)
{ فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَأُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } تفسيرٌ للحكم الواقعِ بين الفريقين وتفصيلٌ لكيفيته ، والبدايةُ ببيانِ حالِ الكفرة لما أن مساقَ الكلامِ لتهديدهم وزجرِهم عما هم عليه من الكفر والعِناد ، وقولُه تعالى : { فِى الدنيا والاخرة } متعلقٌ بأعذبهم لا بمعنى إيقاعِ كلِّ واحدٍ من التعذيب في الدنيا والتعذيبِ في الآخرة وإحداثِهما يومَ القيامة بل بمعنى إتمامِ مجموعِهما يومئذ ، وقيل : إن المرجِعَ أعمُّ من الدنيوي والأخروي ، وقولُه تعالى : { إلى يَوْمِ القيامة } غايةٌ للفوقية لا للجعلِ ، والرجوعُ متراخٍ عن الجعل وهو غيرُ محدودٍ لا عن الفوقية المحدودةِ على نهج قولِك : سأُعيرك سكني هذا البيتَ شهراً ثم أخلَع عليك خلْعةً فيلزَمُ تأخرُ الخُلع عن الإعارة لا عن الشهر { وَمَا لَهُم مّن ناصرين } يُخلِّصونهم من عذاب الله تعالى في الدارين وصيغةُ الجمعِ لمقابلة ضميرِ الجمعِ أي ليس لواحد منهم ناصرٌ واحدٌ .(1/401)
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
{ وَأَمَّا الذين ءامَنُوا } بما أُرسِلْتُ به { وَعَمِلُواْ الصالحات } كما هو ديدَنُ المؤمنين { فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ } أي يعطيهم إياها كاملةً ، ولعل الالتفاتَ إلى الغَيبة للإيذان بما بين مصدري التعذيبِ والإثابةِ من الاختلاف من حيث الجلالُ والجمال ، وقرىء فنُوفيهم جرياً على سَنن العظمةِ والكبرياء { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } أي بعضَهم فإن هذه الكنايةَ فاشيةٌ في جميع اللغاتِ جاريةٌ مَجرى الحقيقةِ ، وإيرادُ الظلم للإشعار بأنهم بكفرهم متعدّون متجاوزوا الحدودِ واضعون الكفر مكانَ الشكرِ والإيمانِ ، والجملةُ تذييلٌ لما قبله مقرِّرٌ لمضمونه .
{ ذلك } إشارةٌ إلى ما سلف من نبأ عيسى عليه الصلاة والسلام ، وما فيه من معنى البُعد للدِلالة على عِظَمِ شأنِ المُشار إليه وبُعدِ منزلتِه في الشرف وعلى كونه في ظهور الأمرِ ونباهةِ الشأن بمنزلة المشاهَد المعايَن ، وهو مبتدأٌ وقولُه عز وجل : { نَتْلُوهُ } خبرُه وقولُه تعالى : { عَلَيْكَ } متعلقٌ بنتلوه وقولُه تعالى : { مِنَ الايات } حالٌ من الضمير المنصوب أو خبرٌ بعد خبرٍ ، أو هو الخبرُ وما بينهما حالٌ من اسمِ الإشارة أو { ذلك } خبرٌ لمبتدإ مضمرٍ أي الأمرُ ذلك ونتلوه حالٌ كما مر ، وصيغةُ الاستقبال إما لاستحضار الصورةِ أو على معناها إذ التلاوةُ لم تتِمَّ بعدُ { والذكر الحكيم } أي المشتملِ على الحِكَم أو المُحكمِ الممنوعِ من تطرُّق الخللِ إليه ، والمرادُ به القرآنُ فمن تبعيضيةٌ أو بعضٌ مخصوصٌ منه فمن بيانيةٌ ، وقيل : هو اللوحُ المحفوظُ فمن ابتدائية { إِنَّ مَثَلَ عيسى } أي شأنَه البديعَ المنتظِمَ لغرابته في سلك الأمثال { عَندَ الله } أي في تقديره وحُكمِه { كَمَثَلِ ءادَمَ } أي كحاله العجيبةِ التي لا يرتاب فيها مرتابٌ ولا ينازِعُ فيها منازِع { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } تفسيرٌ لما أُبهم في المَثَل وتفصيلٌ لما أُجمِلَ فيه وتوضيحٌ للتمثيل ببيان وجهِ الشبهِ بينهما وحسمٌ لمادة شُبهة الخصومِ فإن إنكارَ خلقِ عيسى عليه الصلاة والسلام بلا أبٍ ممن اعترف بخلقِ آدمَ عليه الصلاة والسلام بغير أبٍ وأمٍ مما لا يكاد يصح ، والمعنى خلق قالَبَه من تراب { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن } أي أنشأه بَشَراً كما في قوله تعالى : { ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً } أو قدّر تكوينَه من التراب ثم كوّنه ويجوز كونُ { ثُمَّ } لتراخي المُخبَرِ به { فَيَكُونُ } حكايةُ حالٍ ماضية ، روي أن وفد نجرانَ قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : مالك تشتمُ صاحبَنا؟ قال : « وما أقول؟ » قالوا : تقول إنه عبدٌ قال : « أجل هو عبدُ الله ورسولُه وكلمتُه ألقاها إلى العذراء البتولِ » فغضِبوا وقالوا : هل رأيتَ إنساناً من غير أبٍ؟ فحيثُ سلَّمتَ أنه لا أبَ له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله فقال عليه الصلاة والسلام : « إن آدمَ عليه الصلاة والسلام ما كان له أبٌ ولا أم ولم يلزم من ذلك كونُه ابناً لله سبحانه وتعالى فكذا حالُ عيسى عليه الصلاة والسلام » .(1/402)
{ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ } خبرُ مبتدإ محذوفٍ أي هو الحقُّ أي ما قصصنا عليك من نبإ عيسى عليه الصلاة والسلام وأمِّه ، والظرفُ إما حالٌ أي كائناً من ربك أو خبرٌ ثانٍ أي كائنٌ منه تعالى وقيل : هما مبتدأٌ وخبرٌ أي الحقُّ المذكورُ من الله تعالى ، والتعرضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطَبِ لتشريفه عليه الصلاة والسلام والإيذانِ بأن تنزيلَ هذه الآياتِ الحقةِ الناطقةِ بكنه الأمر تربيةٌ له عليه الصلاة والسلام ولُطفٌ به { فَلاَ تَكُنْ مّن الممترين } في ذلك ، والخطابُ إما للنبي صلى الله عليه وسلم على طريقة الإلهابِ والتهييجِ لزيادة التثبيتِ والإشعارِ بأن الامتراءَ في المحذورية بحيث ينبغي أن ينهى عنه من لا يكاد يمكن صدورُه عنه فكيف بمن هو بصدد الامتراء؟ وإما لكل من له صلاحيةُ الخطاب .(1/403)
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
{ فَمَنْ حَاجَّكَ } أي من النصارى إذ هم المتصدّرون للمُحاجّة { فِيهِ } أي في شأن عيسى عليه الصلاة والسلام وأمِّه زعماً منهم أنه ليس على الشأن المحكي { مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم } أي ما يُوجِبُه إيجاباً قطعياً من الآيات البيناتِ وسمعوا ذلك منك فلم يرعَوُوا عما هم عليه من الغي والضلال { فَقُلْ } لهم { تَعَالَوْاْ } أي هلُمّوا بالرأي والعزيمة { نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ } اكتُفيَ بهم عن ذكر البناتِ لظهور كونِهم أعزَّ منهن وأما النساءُ فتعلُّقُهن من جهة أخرى { وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ } أي ليدعُ كلٌّ منا ومنكم نفسَه وأعِزَّةَ أهلِه وألصقَهم بقلبه إلى المباهَلة ويحمِلْهم عليها ، وتقديمُهم على النفس في أثناء المباهلةِ التي هي من باب المهالكِ ومظانِّ التلفِ مع أن الرجلَ يخاطرُ لهم بنفسه ويحارب دونهم للإيذان بكمال أمنِه عليه الصلاة والسلام وتمامِ ثقتِه بأمره وقوةِ يقينِه بأنه لن يُصيبَهم في ذلك شائبةُ مكروهٍ أصلاً وهو السرُّ في تقديم جانبِه عليه السلام على جانب المخاطَبين في كل من المقدم والمؤخرِ مع رعاية الأصلِ في الصيغة فإن غيرَ المتكلم تبعٌ له في الإسناد .
{ ثُمَّ نَبْتَهِلْ } أي نتباهلْ بأن نلعنَ الكاذبَ منا والبُهلةُ بالضم والفتح اللعنةُ وأصلُها التركُ من قولهم : بَهَلْتُ الناقةَ أي تركتُها بلا صِرار { فَنَجْعَل لَّعْنَتُ الله عَلَى الكاذبين } عطفٌ على نبتهل مبينٌ لمعناه ، روي أنهم لما دُعوا إلى المباهلة قالوا : حتى نرجِعَ وننظُرَ فلما خلَوْا قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم : يا عبدَ المسيح ما ترى؟ فقال : والله لقد عرفتم يا معشرَ النصارى أن محمداً نبيٌّ مرسل ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبِكم ، والله ما باهل قومٌ نبياً قط فعاش كبيرُهم ولا نبت صغيرُهم ، ولئن فعلتم لتهلِكُنّ ، فإن أبيتم إلا إلفَ دينِكم والإقامةِ على ما أنتم عليه فوادِعوا الرجلَ وانصرِفوا إلى بلادكم ، فأتَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا محتضِناً الحسينَ آخذاً بيد الحسنِ وفاطمةُ تمشي خلفَه وعليٌّ خلفها رضي الله عنهم أجمعين وهو يقول : « إذا أنا دعوتُ فأمِّنوا » فقال أسقفُ نجرانَ : يا معشرَ النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله تعالى أن يُزيل جبلاً من مكانه لأزاله ، فلا تُباهلوا فتهلِكوا ولا يبقى على وجه الأرضِ نصرانيٌّ إلى يوم القيامة ، فقالوا : يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهِلَك وأن نُقِرَّك على دينك ونثبُتَ على ديننا ، قال صلى الله عليه وسلم : « فإذا أبيتم المباهلةَ فأسلِموا يكنْ لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين » فأبَوْا ، قال عليه الصلاة والسلام : « فإني أناجِزُكم » فقالوا : ما لنا بحربِ العربِ طاقةٌ ولكن نصالِحُك على ألا تغزونا ولا تُخيفَنا ولا ترُدَّنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كلَّ عامٍ ألفي حُلةٍ ، ألفاً في صَفَر وألفاً في رجبٍ وثلاثين درعاً عادية من حديد ، فصالحهم على ذلك وقال : « والذي نفسي بيده إن الهلاكَ قد تدلَّى على أهل نجرانَ ، ولو لاعنوا لَمُسِخوا قِردةً وخنازيرَ ولاضْطَرمَ عليهم الوادي ناراً ولاستأصَلَ الله نجرانَ وأهلَه حتى الطيرَ على رؤوس الشجر ، ولما حال الحولُ على النصارى كلِّهم حتى يهلكوا »(1/404)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
{ إِنَّ هَذَا } أي ما قُصّ من نبأ عيسى وأمِّه عليهما السلام { لَهُوَ القصص الحق } دون ما عداه من أكاذيبِ النصارى ، فهو ضميرُ الفصلِ دخلتْه اللامُ لكونه أقربَ إلى المبتدإ من الخبر ، وأصلها أن تدخُلَ المبتدأَ ، وقرىء لهْوَ بسكون الهاء ، والقصصُ خبرُ إن والحقُّ صفتُه ، أو مبتدأٌ والقصصُ خبرُه والجملةُ خبرٌ لإن { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله } صرّح فيه بمن الاستغراقية تأكيداً للرد على النصارى في تثليثهم { وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز } القادرُ على جميع المقدوراتِ { الحكيم } المحيطُ بالمعلومات لا أحدَ يشاركُه في القدرة والحِكمة ليشاركَه في الألوهية { فَإِن تَوَلَّوْاْ } عن التوحيد وقَبولِ الحقِّ الذي قصَصْنا عليك بعد ما عاينوا تلك الحُججَ النَّيرة والبراهينَ الساطعة { فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين } أي بهم ، وإنما وُضِعَ موضعَه ما وُضِع للإيذان بأن الإعراضَ عن التوحيد والحقِّ الذي لا محيدَ عنه بعد ما قامت به الحججُ إفسادٌ للعالم وفيه من شدة الوعيدِ ما لا يخفى { قُلْ ياأهل * أَهْلِ الكتاب } أمرٌ بخطاب أهلِ الكتابين وقيل : بخطاب وفدِ نجْرانَ وقيل : بخطاب يهودِ المدينةِ { تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } لا يختلف فيها الرسلُ والكتبُ وهي { أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ الله } أي نوحِّدُه بالعبادة ونُخلِصُ فيها { وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } ولا نجعلَ غيرَه شريكاً له في استحقاق العبادةِ ولا نراه أهلاً لأن يُعبد { وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ الله } بأن نقولَ عزيرٌ ابنُ الله والمسيحُ ابنُ الله ولا نُطيعَ الأحبارَ فيما أحدثوا من التحريم والتحليل لأن كلاً منهم بعضُنا بشرٌ مثلُنا ، روي أنه لما نزلت { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله } قال عديُّ بنُ حاتم : ما كنا نعبُدهم يا رسولَ الله ، فقال عليه السلام : « أليس كانوا يُحِلّون لكم ويحرِّمون فتأخذون بقولهم » قال : نعم ، قال عليه السلام : « هو ذاك » { فَإِن تَوَلَّوْاْ } عما دعوتَهم إليه من التوحيد وتركِ الإشراك { فَقُولُواْ } أي قل لهم أنت والمؤمنون : { اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي لزِمْتكم الحُجةُ فاعترِفوا بأنا مسلمون دونكم أو اعترِفوا بأنكم كافرون بما نطَقَتْ به الكتُب وتطابقت عليه الرسلُ عليهم السلام .
{ تنبيه } انظُر إلى ما روعيَ في هذه القصة من المبالغة في الإرشاد وحسنِ التدرُّجِ في المُحاجَّة حيث بيّن أولاً أحوالَ عيسى عليه السلام وما توارد عليه من الأطوار المنافيةِ للإلهية ثم ذُكر كيفيةُ دعوتِه للناس إلى التوحيد والإسلامِ فلما ظهر عندهم دُعُوْا إلى المباهلة بنوع من الإعجاز ثم لما أعرَضوا عنها وانقادوا بعضَ الانقياد دُعوا إلى ما اتفق عليه عيسى عليه السلام والإنجيلُ وسائرُ الأنبياء عليهم السلام والكتُب ، ثم لما ظهر عدمُ إجدائِه أيضاً أُمِرَ بأن يقال لهم : اشهدوا بأنا مسلمون .(1/405)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)
{ ياْ أَهْلِ الكتاب } من اليهود والنصارى { لِمَ تُحَاجُّونَ فِى إبراهيم } أي في مِلّته وشريعتِه . تنازعت اليهودُ والنصارى في إبراهيمَ عليه السلام وزعم كلٌّ منهم أنه عليه السلام منهم وترافَعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت ، والمعنى لم تدعون أنه عليه السلام كان منكم { وَمَا أُنزِلَتِ التوراة } على موسى عليه الصلاة والسلام { والإنجيل } على عيسى عليه الصلاة والسلام { إِلاَّ مِن بَعْدِهِ } حيث كان من بينه وبين موسى عليهما السلام ألفُ سنةٍ وبين موسى وعيسى عليهما السلام ألفا سنةٍ فكيف يمكن أن يتفوَّهَ به عاقلٌ { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي ألا تتفكرون فلا تعقِلون بطلانَ مذهبِكم أو أتقولون ذلك فلا تعقلون بُطلانه { هأَنتُمْ هؤلاء } جملةٌ من مبتدإ وخبر صُدِّرت بحرف التنبيه ثم بُيِّنت بجملة مستأنفة إشعاراً بكمال غفلتِهم أي أنتم هؤلاءِ الأشخاصُ الحمق حيث { حاججتم فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } في الجملة حيث وجدتموه في التوراة والإنجيل ، { فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } أصلاً إذ لا ذِكْرَ لدين إبراهيمَ في أحد الكتابين قطعاً وقيل : هؤلاء بمعنى الذين وحاججتم صلتُه وقيل : ها أنتم أصلُه أأنتم على الاستفهام للتعجب قلبت الهمزةُ هاءً { والله يَعْلَمُ } ما حاججتم فيه أو كلَّ شيءٍ فيدخُل فيه ذلك دخولاً أولياً { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } أي محلَّ النزاعِ أو شيئاً من الأشياء التي من جملتها ذلك { مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا } تصريحٌ بما نطَق به البرهانُ المقرِّر { وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا } أي مائلاً عن العقائد الزائغةِ كلِّها { مُسْلِمًا } أي منقاداً لله تعالى ، وليس المرادُ أنه كان على مِلَّة الإسلامِ وإلا لاشترك الإلزامُ { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } تعريضٌ بأنهم مشركون بقولهم : عزيرٌ ابنُ الله والمسيحُ ابنُ الله وردٌّ لادعاء المشركين أنهم على ملة إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام { إِنَّ أَوْلَى الناس بإبراهيم } أي أقربَهم إليه وأخصَّهم به { لَلَّذِينَ اتبعوه } أي في زمانه { وهذا النبى والذين ءامَنُواْ } لموافقتهم له في أكثرِ ما شُرع لهم على الأصالة ، وقرىء النبيَّ بالنصب عطفاً على الضمير في اتبعوه وبالجر عطفاً على إبراهيمَ { والله وَلِىُّ المؤمنين } ينصُرهم ويجازيهم الحسنى بإيمانهم ، وتخصيصُ المؤمنين بالذكر ليثبُتَ الحكمُ في النبيِّ صلى الله عليه وسلم بدَلالة النصِّ { وَدَّت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ } نزلت في اليهود حين دعَوا حُذيفةَ وعماراً ومُعاذاً إلى اليهودية و { لَوْ } بمعنى أن { وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ } جملةٌ حاليةٌ جيء بها للدَلالة على كمال رسوخِ المخاطبين وثباتِهم على ما هم عليه من الدين القويم أي وما يتخطاهم الإضلالُ ولا يعود وبالُه إلا إليهم لما أنه يُضاعفُ به عذابُهم وقيل : وما يُضِلّون إلا أمثالَهم ويأباه قوله تعالى : { وَمَا يَشْعُرُونَ } أي باختصاص وبالِه وضررِه بهم .(1/406)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)
{ يأَهْلَ الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بأيات الله } أي بما نَطَقتْ به التوراةُ والإنجيلُ ودلت على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم { وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } أي والحالُ أنكم تشهدون أنها آياتُ الله أو بالقرآن وأنتم تشهدون نعتَه في الكتابين أو تعلمون بالمعجزات أنه حقٌّ { ياأهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل } بتحريفكم وإبرازِ الباطِلِ في صورته أو بالتقصير في التمييز بينهما ، وقرىء تلَبّسون بالتشديد وتلْبَسون بفتح الباء أي تلبَسون الحقَّ مع الباطل كما في قوله عليه السلام : « كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ » { وَتَكْتُمُونَ الحق } أي نبوةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ونعتَه { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي حقِّيتَه { وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب } وهم رؤساؤُهم ومفسدوهم لأعقابهم { ءامِنُواْ بالذى أنزِلَ على الَّذِينَ آمنُوا } أي أظهِروا الإيمانَ بالقرآن المنْزلِ عليهم { وَجْهَ النهار } أي أولَه { واكفروا } أي أظهِروا ما أنتم عليه من الكفر به { ءاخِرَهُ } مُرائين لهم أنكم آمنتم به بادِيَ الرأي من غير تأملٍ ثم تأملتم فيه فوقَفتم على خلل رأيِكم الأولِ فرجعتم عنه { لَعَلَّهُمْ } أي المؤمنين { يَرْجِعُونَ } عما هم عليه من الإيمان به كما رجعتم والمرادُ بالطائفة كعبُ بنُ الأشرفِ ومالكُ بنُ الصيفِ قالا لأصحابهما لما حُوِّلت القِبلة : آمِنوا بما أنزل عليهم من الصلاة إلى الكعبة وصلّوا إليها أولَ النهار ثم صلوا إلى الصخرة آخِرَه لعلهم يقولون : هم أعلمُ منا وقد رجَعوا فيرجِعون ، وقيل : هم اثنا عشرَ رجلاً من أحبار خيبَر اتفقوا على أن يدخُلوا في الإسلام أولَ النهار ويقولوا آخرَه : نظرنا في كتابنا وشاوَرْنا علماءَنا فلم نجِدْ محمداً بالنعت الذي ورد في التوراة ، لعل أصحابه يشكّون فيه .
{ وَلاَ تُؤْمِنُواْ } أي لا تُقِرّوا بتصديقٍ قلبيَ { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } أي لأهل دينِكم أو لا تُظهِروا إيمانَكم وجهَ النهار إلا لمن كان على دينكم من قبلُ ، فإن رجوعَهم أرجى وأهمُّ { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } يهدي به من يشاءُ إلى الإيمان ويُثبِّته عليه { أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ } متعلِّقٌ بمحذوفٍ أي دبّرتم ذلك وقلتم لأن يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم ، أو بلا تؤمنوا أي ولا تظهِروا إيمانَكم بأن يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلا لأشياعكم ولا تُفْشوه إلى المسلمين لئلا يزيدَ ثباتُهم ولا إلى المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام ، وقولُه تعالى : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } اعتراضٌ مفيدٌ لكون كيدِهم غيرَ مُجدٍ لطائل أو خبر إن على هدى الله بدل من الهدى ، وقرىء أن يؤتى على الاستفهام التقريعي وهو مؤيدٌ للوجه الأولِ أي لأن يُؤتى أحدٌ الخ دبرتم؟ وقرىء أن على أنها نافيةٌ فيكونُ من كلام الطائفةِ ، أي ولا تؤمنوا إلا لمن تبِعَ دينَكم وقولوا لهم : ما يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ } عطفٌ على { أَن يؤتى } على الوجهين الأولين وعلى الثالث معناه حتى يحاجوكم عند ربِّكم فيدحَضوا حُجتَكم ، والواوُ ضميرُ { أَحَدٌ } لأنه في معنى الجمع إذ المرادُ به غيرُ أتباعِهم { قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء والله واسع عَلِيمٌ } ردٌّ لهم وإبطالٌ لما زعموه بالحجة الباهرةِ .(1/407)
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
{ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ } أي يجعل رحمتَه مقصورةً على { مَن يَشَاء والله ذُو الفضل العظيم } كلاهما تذييلٌ لما قبله مقرِّرٌ لمضمونه .
{ وَمِنْ أَهْلِ الكتاب } شروعٌ في بيان خيانتِهم في المال بعد بيانِ خيانتِهم في الدين ، والجارُّ والمجرورُ في محل الرفع على الابتداء حسبما مر تحقيقُه في تفسير قوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ } الخ خبرُه قوله تعالى : { مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ } على أن المقصودَ بيانُ اتّصافِهم بمضمون الجملةِ الشرطية لا كونُهم ذواتِ المذكورين كأنه قيل : بعضُ أهلِ الكتاب بحيث إن تأمنْه بقنطار أي بمالٍ كثيرٍ يؤدِّه إليك كعبد اللَّه بن سلامٍ استودَعه قرشيٌّ ألفاً ومِائتيْ أوقيةٍ ذهباً فأداها إليه { وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } كفِنحاصَ بنِ عازوراءَ استودعه قرشيٌّ آخرُ ديناراً فجحَده وقيل : المأمونون على الكثير النصارى إذ الغالبُ فيهم الأمانةُ والخائنون في القليل اليهودُ إذ الغالبُ فيهم الخيانة { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا } استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوال أو الأوقات أي لا يؤده إليك في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات إلا في حال دوام قيامِك أو في وقت دوامِ قيامِك على رأسه مبالِغاً في مطالبته بالتقاضي وإقامةِ البينة { ذلك } إشارةٌ إلى ترك الأداءِ المدلولِ عليه بقوله تعالى : { لاَّ يُؤَدِّهِ } وما فيه من معنى البُعد للإيذن بكمال غُلوِّهم في الشر والفساد { بِأَنَّهُمْ } أي بسبب أنهم { قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الاميين } أي في شأنِ مَنْ ليس من أهل الكتاب { سَبِيلٍ } أي عتابٌ ومؤاخذة { وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب } بادعائهم ذلك { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم كاذبون مفترون على الله تعالى وذلك لأنهم استحلوا ظُلْمَ من خالفهم وقالوا لم يُجعل في التوراة في حقهم حُرمةٌ وقيل : عامل اليهودُ رجالاً من قريشٍ فلما أسلموا تقاضَوْهم فقالوا : سقط حقُّكم حيث تركتم دينَكم وزعَموا أنه كذلك في كتابهم ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عند نزولِها : « كذَب أعداءُ الله ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانةَ فإنها مؤداةٌ إلى البَرِّ والفاجر »(1/408)
بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
{ بلى } إثباتٌ لما نفَوْه أي بلى عليهم فيهم سبيلٌ ، وقولُه تعالى : { مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ واتقى فَإِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } استئنافٌ مقرِّر للجملة التي سد { بلى } مسدَّها والضميرُ المجرور لمن أو لله تعالى وعمومِ المتقين نائبٌ منابَ الراجعِ من الجزاء إلى مَنْ ومُشعِرٌ بأن التقوى مَلاكُ الأمرِ ، عامٌّ للوفاء وغيرِه من أداء الواجباتِ والاجتنابِ عن المناهي { إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ } أي يستبدلون ويأخُذون { بِعَهْدِ الله } أي بدلَ ما عاهدوا عليه من الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم والوفاءِ بالأمانات { وأيمانهم } وبما حلفوا به من قولهم : والله لنُؤمِنن به ولننصُرَنّه { ثَمَناً قَلِيلاً } هو حُطامُ الدنيا { أولئك } الموصوفون بتلك الصفاتِ القبيحةِ { لاَ خلاق } لا نصيبَ { لَهُمْ فِى الاخرة } من نعيمها { وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله } أي بما يسُرّهم أو بشيء أصلاً وإنما يقع ما يقع من السؤال والتوبيخِ والتقريعِ في أثناء الحساب من الملائكة عليهم السلام أو لا ينتفعون بكلماتِ الله تعالى وآياتِه ، والظاهرُ أنه كنايةٌ عن شدة غضبِه وسَخَطِه نعوذ بالله من ذلك لقوله تعالى : { وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة } فإنه مَجازٌ عن الاستهانة بهم والسخطِ عليهم متفرِّعٌ على الكناية في حق من يجوزُ عليه النظرُ لأن مَن اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره بصرَه ثم كثُر حتى صار عبارةً عن الاعتداد والإحسانِ وإن لم يكن ثَمَّةَ نظَرٌ ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظرُ مجرد المعنى من الإحسان مَجازاً عما وقع كنايةً عنه فيمن يجوزُ عليه النظر ، ويومَ القيامة متعلقٌ بالفعلين وفيه تهويل للوعيد { وَلاَ يُزَكّيهِمْ } أي لا يُثني عليهم أو لا يُطَهِّرهم من أوضار الأوزار { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } على ما فعلوه من المعاصي قيل إنها نزلت في أبي رافعٍ ولُبابةَ بنِ أبي الحقيق وحُيَيِّ بنِ أخطَبَ حرّفوا التوراة وبدلوا نعتَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأخذوا الرِّشوةَ على ذلك . وقيل : نزلت في الأشعث بنِ قيسٍ حيث كان بينه وبين رجل نزاعٌ في بئر فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : « شاهداك أو يمينُه » فقال الأشعث : إذن يحلِفُ ولا ببالي ، فقال صلى الله عليه وسلم : « مَنْ حلف على يمين يستحِقُّ بها مالاً هو فيها فاجرٌ لقِيَ الله وهو عليه غضبان » ، وقيل : في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد اشتراها بما لم يكن اشتراها به . { وَإِنَّ مِنْهُمْ } أي من اليهود المحرِّفين { لَفَرِيقًا } ككعب بنِ الأشرفِ ومالكِ بنِ الصيف وأضرابِهما { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بالكتاب } أي يفتلونها بقراءته فيُميلونها عن المُنزّل إلى المحرّف أو يعطِفونها بشَبَه الكتاب ، وقرىء يُلوّون بالتشديد ويلُون بقلب الواو المضمومة همزةً ثم تخفيفِها بحذفها وإلقاء حركتها على ما قبلها من الساكن { لِتَحْسَبُوهُ } أي المحرِّفَ المدلولَ عليه بقوله تعالى : { يَلْوُونَ } الخ وقرىء بالياء والضميرُ للمسلمين { مّنَ الكتاب } أي من جملته وقولُه تعالى : { وَمَا هُوَ مِنَ الكتاب } حالٌ من الضمير المنصوبِ أي والحالُ أنه ليس منه في نفس الأمرِ وفي اعتقادهم أيضاً { وَيَقُولُونَ } مع ما ذكر من اللَّيِّ والتحريف على طريقة التصريحِ لا بالتورية والتعريض { هُوَ } أي المحرفُ { مِنْ عِندِ الله } أي منزلٌ من عند الله { وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله } حالٌ من ضمير المبتدأ في الخبر أي والحالُ أنه ليس من عنده تعالى في اعتقادهم أيضاً وفيه من المبالغة في تشنيعهم وتقبيحِ أمرِهم وكمالِ جرأتهم ما لا يخفى ، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ والكتاب في محل الإضمارِ لتهويل ما أقدموا عليه من القول .(1/409)
{ وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم كاذبون ومفترون على الله تعالى وهو تأكيدٌ وتسجيلٌ عليهم بالكذبِ على الله والتعمُّد فيه ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما هم اليهودُ الذين قدِموا على كعب بنِ الأشرف وغيَّروا التوراةَ وكتبوا كتاباً بدَّلوا فيه صِفةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثم أخذت قريظةُ ما كتبوا فخلَطوا بالكتاب الذي عندهم .(1/410)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ } بيانٌ لافترائهم على الأنبياء عليهم السلام حيث قال نصارى نجرانَ : إن عيسى عليه السلام أمرنا أن نتخِذَه رباً حاشاه عليه السلام ، وإبطالٌ له إثرَ بيانِ افترائِهم على الله سبحانه وإبطالِه ، أي ما صح وما استقام لأحد وإنما قيل : { لِبَشَرٍ } إشعاراً بعلة الحُكم فإن البشريةَ منافية للأمر الذي أسنده الكفرَةُ إليهم { أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب } الناطقَ بالحق الآمرَ بالتوحيد الناهيَ عن الإشراك { والحكم } هو الفهمُ والعلم أو الحكمةُ وهي السنة ، { والنبوة ثُمَّ يَقُولَ } ذلك البشرُ بعدما شرّفه الله عز وجل بما ذُكر من التشريفات وعرّفه الحقَّ وأطلعه على شؤونه العالية { لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى } الجارُّ متعلقٌ بمحذوف هو صفةٌ لعباد أي عباداً كائنين { مِن دُونِ الله } متعلقٌ بلفظ عباداً لما فيه من معنى الفعل أو صفةٌ ثانيةٌ له ويحتمِلُ الحاليةَ لتخصُّص النكرةِ بالوصف أي متجاوزين الله تعالى سواءٌ كان ذلك استقلالاً أو اشتراكاً فإن التجاوزَ متحققٌ فيهما حتماً . قيل : إن أبا رافعٍ القُرَظيّ والسيدَ النجرانيَّ قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتريد أن نعبُدَك ونتخِذَك رباً؟ فقال عليه السلام : « معاذَ الله أن يُعبَدَ غيرُ الله تعالى وأن نأمرَ بعبادة غيرِه تعالى فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرَني » فنزلت . وقيل : قال رجل من المسلمين : يا رسول الله نسلِّم عليك كما يُسلّم بعضُنا على بعض أفلا نسجُد لك؟ قال عليه السلام : « لا ينبغي أن يُسجَدَ لأحد من دون الله تعالى ولكن أكرِموا نبيَّكم واعرِفوا الحقَّ لأهله » { ولكن كُونُواْ } أي ولكن يقولُ كونوا { ربانيين } الربانيُّ منسوبٌ إلى الرب بزيادة الألف والنون كاللحياني والرقباني وهو الكاملُ في العلم والعمل ، الشديدُ التمسكِ بطاعة الله عز وجل ودينِه { بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ } أي بسبب مُثابرتِكم على تعليم الكتابِ ودراستِه أي قراءتِه فإن جعْلَ خبرِ كان مضارعاً لإفادة الاستمرارِ المتجدِّد وتكريرُ بما كنتم للإيذان باستقلال كلَ من استمرار التعليمِ واستمرارِ القراءةِ بالفضل وتحصيلِ الربانية ، وتقديمُ التعليم على الدراسة لزيادة شرفِه عليها أو لأن الخطابَ الأولَ لرؤسائهم والثاني لمن دونهم وقرىء تَعْلمون بمعنى عالمين وتُدَرِّسون من التدريس وتُدْرِسون من الإدراس بمعنى التدريس كأكرم بمعنى كرُم ويجوز أن تكون القراءةُ المشهورةُ أيضاً بهذا المعنى على تقدير بما تدْرُسونه على الناس .(1/411)
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
{ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا } بالنصب عطفاً على ثم يقولَ و { لا } مزيدةٌ لتأكيد معنى النفي في قوله تعالى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } أي ما كان لبشر أن يستنبِئَه الله تعالى ثم يأمرَ الناس بعبادة نفسِه ويأمرَ باتخاذ الملائكةِ والنبيين أرباباً ، وتوسيطُ الاستدراك بين المعطوفَين للمسارعة إلى تحقيق الحقِّ ببيان ما يليق بشأنه ويحِقُّ صدورُه عنه إثرَ تنزيهِه عما لا يليقُ بشأنه ويمتنِعُ صدورُه عنه ، وأما ما قيل من أنها غيرُ مزيدةٍ على معنى أنه ليس له أن يأمُرَ بعبادته ولا يأمرَ باتخاذِ أكفائِه أرباباً بل ينهى عنه وهو أدنى من العبادة فيقضي بفساده ما ذُكِر من توسيط الاستدراكِ بين الجملتين المتعاطفتين ضرورةَ أنهما حينئذ في حكم جملةٍ واحدة وكذا قوله تعالى : { أَيَأْمُرُكُم بالكفر } فإنه صريحٌ في أن المرادَ بيانُ انتفاءِ كِلا الأمرَين قصداً لا بيانُ انتفاءِ الأولِ لانتفاءِ الثاني ، ويعضُده قراءةُ الرفعِ على الاستئناف ، وتجويزُ الحالية بتقدير المبتدإ أي وهو لا يأمرَكم إلى آخره بيِّنُ الفساد لما عرَفته آنفاً ، وقولُه تعالى : { بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } يدل على أن الخطابَ للمسلمين وهم المستأذنون للسجود له عليه السلام { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين } منصوبٌ بمضمر خوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم أي اذكرْ وقتَ أخذِه تعالى ميثاقَهم { لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كتاب وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } قيل : هو ظاهره وإذا كان هذا حكمَ الأنبياءِ عليهم السلام كان الأممُ بذلك أولى وأحرى ، وقيل : معناه أخذُ الميثاقِ من النبيين وأممِهم ، واستُغنيَ بذكرهم عن ذكرهم ، وقيل : إضافةُ الميثاقِ إلى النبيين إضافةٌ إلى الفاعل والمعنى وإذْ أخذ الله الميثاقَ الذي وثّقه الأنبياءُ على أممهم ، وقيل : المرادُ أولادُ النبيين على حذف المضافِ وهم بنو إسرائيلَ أو سماهم نبيين تهكّماً بهم لأنهم كانوا يقولون : نحن أولى بالنبوة من محمد صلى الله عليه وسلم لأنا أهلُ الكتاب والنبيون كانوا منا ، واللام في { لَّمّاً } موطئةٌ للقسم لأن أخذَ الميثاق بمعنى الاستخلافِ ، وما تحتملُ الشرطيةَ ، ولتُؤمِنُنّ سادٌّ مسدَّ جوابِ القسم والشرط ، وتحتمل الخبرية ، وقرىء { لَّمّاً } بالكسر على أن ما مصدرية أي لأجل إيتائي إياكم بعضَ الكتاب ثم لمجيء رسولٍ مصدقٍ أخذَ الله الميثاقَ لتؤمِنُنَّ به ولتنصُرُنه ، أو موصولةٌ والمعنى أخذُه الذي آتيتُكموه وجاءكم رسولٌ مصدقٌ له وقرىء لَمّا بمعنى حين آتيتُكم أو لَمِنْ أجل ما آتيتُكم على أن أصله لَمِنْ ما بالإدغام فحُذف إحدى الميمات الثلاثِ استثقالاً .
{ قَالَ } أي الله تعالى بعدما أخذَ الميثاقَ { ءأَقْرَرْتُمْ } بما ذُكر { وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِى } أي عهدي سُمّيَ به لأنه يؤصَرُ أي يُشَدّ وقرىء بضم الهمزة إما لغةٌ كعبر وعبر أو جمع إصار وهو ما يشد به { قَالُواْ } استئنافٌ مبنيٌّ على السؤال كأنه قيل : فماذا قالوا عند ذلك؟ فقيل قالوا : { أَقْرَرْنَا } وإنما لم يُذكر أخذُهم الإصرارَ اكتفاءً بذلك { قَالَ } تعالى { فَأَشْهِدُواْ } أي فليشهدْ بعضُكم على بعض بالإقرار وقيل : الخطابُ فيه للملائكة { وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشاهدين } أي وأنا أيضاً على إقراركم ذلك وتشاهُدِكم به شاهدٌ ، وإدخالُ مع على المخاطبين لما أنهم المباشِرون للشهادة حقيقةً وفيه من التأكيد والتحذيرِ ما لا يخفى .(1/412)
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
{ فَمَنْ تولى } أي أعرض عما ذكر { بَعْدَ ذَلِكَ } الميثاقِ والتوكيدِ بالإقرار والشهادة ، فمعنى البُعد في اسم الإشارةِ لتفخيم الميثاق { فَأُوْلَئِكَ } إشارةٌ إلى مَنْ ، والجمعُ باعتبار المعنى كما أن الإفرادَ في تولى باعتبار اللفظ ، وما فيه من معنى البُعد للدِلالة على ترامي أمرِهم في السوء وبُعد منزلتِهم في الشر والفساد أي فأولئك المُتولُّون المتّصفون بالصفات القبيحةِ { هُمُ الفاسقون } المتمرِّدون الخارجون عن الطاعة من الكَفَرة فإن الفاسقَ من كل طائفةٍ مَنْ كان متجاوزاً عن الحد .
{ أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ } عطفٌ على مقدّر أي أيتوَلَّوْن فيبغون غيرَ دينِ الله؟ وتقديمُ المفعولِ لأنه المقصودُ إنكارُه ، أو على الجملة المتقدمةِ والهمزةُ متوسطةٌ بينهما للإنكار وقرىء بتاء الخطاب على تقدير وقل لهم { وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السموات والارض } جملةٌ حاليةٌ مفيدةٌ لوكادة الإنكار { طَوْعًا وَكَرْهًا } أي طائعين بالنظر واتباعِ الحجةِ وكارهين بالسيف ومعاينةِ ما يُلجىء إلى اللإسلام كنَتْق الجبلِ وإدراكِ الغرقِ والإشرافِ على الموت ، أو مختارين كالملائكة والمؤمنين ومسخَّرين كالكَفَرة فإنهم لا يقدِرون على الامتناع عما قُضيَ عليهم { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } أي مَنْ فيهما والجمعُ باعتبار المعنى ، وقرىء بتاء الخطاب ، والجملةُ إما معطوفةٌ على ما قبلها منصوبة على الحالية وإما مستأنفةٌ سيقت للتهديد والوعيد { قُلْ ءامَنَّا بالله } أمرٌ للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يُخبرَ عن نفسه ومَنْ معه من المؤمنين بالإيمان بما ذُكر ، وجمعُ الضمير في قوله تعالى : { وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا } وهو القرآنُ لما أنه منزلٌ عليهم أيضاً بتوسط تبليغِه إليهم أو لأن المنسوبَ إلى واحد من الجماعة قد يُنسَب إلى الكل ، أو عن نفسه فقط وهو الأنسبُ بما بعده والجمعُ لإظهار جلالةِ قدرِه عليه السلام ورفعةِ محلِّه بأمره بأن يتكلَّم عن نفسه على دَيْدَن الملوكِ ، ويجوز أن يكون الأمرُ عاماً ، والإفرادُ لتشريفه عليه السلام والإيذانِ بأنه عليه السلام أصلٌ في ذلك كما في قوله تعالى : { الحكيم يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء } ، { وَمَا أُنزِلَ على إبراهيم * وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطَ } من الصحُف ، والنزولُ كما يعدى بإلى لانتهائه إلى الرسل يعدى بعلى لأنه من فوق ، ومن رام الفرق بأن على لكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وإلى لكون الخطاب للمؤمنين فقد تعسف ألا يُرى إلى قوله تعالى : { بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ } الخ وقوله : { بالذي أُنزِلَ عَلَى الذين الذين كَفَرُواْ } الخ وإنما قدم المُنْزلُ على الرسول صلى الله عليه وسلم على ما أنزِل على سائر الرسل عليهم السلام مع تقدّمه عليه نزولاً لأنه المعروفُ له والعيار عليه . والأسباطُ جمع سِبْط وهو الحافد والمرادُ بهم حفَدَةُ يعقوبَ عليه السلام وأبناؤه الاثنا عشرَ وذراريهم فإنهم حفدةُ إبراهيمَ عليه السلام { وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى } من التوراة والإنجيلِ وسائرِ المعجزاتِ الظاهرةِ بأيديهما كما يُنبىء عنه إيثارُ الإيتاءِ على الإنزال الخاصِّ بالكتاب ، وتخصيصُهما بالذكر لما أن الكلامَ مع اليهود والنصارى { والنبيون } عطفٌ على موسى وعيسى عليهما السلام أي وما أوتي النبيون من المذكورين وغيرِهم { مّن رَّبّهِمُ } من الكتب والمعجزات { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ } كدأبِ اليهودِ والنصارى آمنوا ببعضٍ وكفروا ببعض ، بل نؤمن بصِحةِ نبوةِ كلَ منهم وبحقّية ما أُنزل إليهم في زمانهم ، وعدمُ التعرّضِ لنفي التفريق بين الكتبِ لاستلزام المذكورِ إياه وقد مرّ تفصيلُه في تفسير قولِه تعالى :(1/413)
{ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ } وهمزة أحدٍ إما أصلية فهو اسمٌ موضوعٌ لمن يصلُح أن يخاطَبَ يستوي فيه المفردُ والمثنى والمجموعُ والمذكرُ والمؤنث ولذلك صح دخولُ بين عليه كما في مثل المالُ بين الناس ، وإما مُبدلةٌ من الواو فهو بمعنى واحد ، وعمومُه لوقوعه في حيز النفي ، وصِحةُ دخولِ { بَيْنَ } عليه باعتبار معطوفٍ قد حُذف لظهوره أي بين أحدٍ منهم وغيرِه كما في قول النابغة :
فما كان بين الخيرِ إذ جاء سالما ... أبو حَجَرٍ إلا ليالٍ قلائلُ
أي بين الخير وبيني { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي منقادون أو مخلصون أنفسَنا له تعالى لا نجعلُ له شريكاً فيها ، وفيه تعريضٌ بإيمان أهلِ الكتاب فإنه بمعزل من ذلك .(1/414)
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)
{ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام } أي غيرَ التوحيد والانقيادِ لحكم الله تعالى كدأب المشركين صريحاً والمدّعين للتوحيد مع إشراكهم كأهل الكتابين { دِينًا } ينتحِلُ إليه وهو نصبٌ على مفعولٌ ليبتغ ، وغيرَ الإسلام حال منه لما أنه كان صفةً له فلما قُدِّمت عليه انتصبت حالاً ، أو هو المفعولُ وديناً تمييز لما فيه من الإبهام أو بدلٌ من غيرَ الإسلام { فَلَن يُقْبَلَ } ذلك { مِنْهُ } أبداً بل يُردّ أشدَّ ردَ وأقبحَه ، وقوله تعالى : { وَهُوَ فِى الاخرة مِنَ الخاسرين } إما حالٌ من الضمير المجرور أو استئنافٌ لا محل له من الإعراب أي من الواقعين في الخُسران والمعنى أن المعرض عن الإسلامَ والطالبُ لغيره فاقدٌ للنفع واقعٌ في الخسران بإبطال الفطرةِ السليمةِ التي فُطر الناسُ عليها وفي ترتيب الرد والخُسران على مجرد الطلبِ دَلالةٌ على أن حالَ من تديّن بغير الإسلام واطمأنّ بذلك أفظعُ وأقبحُ . واستُدل به على أن الإيمانَ هو الإسلامُ إذْ لو كان غيرَه لم يقبل ، والجوابُ أنه ينفي قَبولَ كلِّ دينٍ يُغايرُه لا قبولَ كل ما يغايرُه .
{ كَيْفَ يَهْدِى الله } إلى الحق { قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم } قيل : هم عشرَةُ رهطٍ ارتدوا بعد ما آمنوا ولحِقوا بمكةَ ، وقيل : هم يهودُ قُريظةَ والنَّضِير ومَنْ دان بدينهم كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين به قبل مَبْعثِه { وَشَهِدُواْ أَنَّ الرسول حَقٌّ وَجَاءهُمُ البينات } استبعادٌ لأن يهديَهم الله تعالى ، فإن الحائدَ عن الحق بعد ما وضَحَ له منهمِكٌ في الضلال بعيدٌ عن الرشاد ، وقيل : نفيٌ وإنكار له وذلك يقتضي أن لا تقبلَ توبةُ المرتد ، وقوله تعالى : { وَشَهِدُواْ } عطفٌ على إيمانهم باعتبار انحلالِه إلى جملة فعليةٍ كما في قوله تعالى : { إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله } الخ فإنه في قوة أن يقال : بعد أن آمنوا ، أو حالٌ من ضمير كفروا بإضمار قد ، وهو دليلٌ على أن الإقرارَ باللسان خارجٌ عن حقيقة الإيمان { والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } أي الذين ظلموا أنفسَهم بالإخلال بالنظر ووضعِ الكفر موضِعَ الإيمان فكيف مَن جاءه الحقُّ وعرَفه ثم أعرض عنه ، والجملةُ اعتراضية أو حالية .(1/415)
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
{ أولئك } إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافِهم بما مر من الصفات الشنيعة وما فيه من معنى البعدِ لما مر مراراً أو هو مبتدأ وقوله تعالى : { جَزَآؤُهُمْ } مبتدأ ثانٍ وقوله تعالى : { أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله والملئكة والناس أَجْمَعِينَ } خبرُه والجملةُ خبرٌ لأولئك وهذا يدلُّ بمنطوقه على جواز لعنِهم وبمفهومِه ينفي جوازَ لعنِ غيرِهم ، ولعل الفرقَ بينهم وبين غيرِهم أنهم مطبوعٌ على قلوب ممنوعون عن الهدى آيِسون من الرحمة رأساً بخلاف غيرِهم ، والمرادُ بالناس المؤمنون أو الكلُّ فإن الكافرَ أيضاً يلعن مُنكِرَ الحقِّ والمرتدِّ عنه ، ولكن لا يعرِف الحقَّ بعينه { خالدين فِيهَا } في اللعنة أو العقوبةِ أو النار وإن لم تُذكر لدَلالة الكلامِ عليها { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } أي يُمهَلون { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك } أي من بعد الارتدادِ { وَأَصْلَحُواْ } أي ما أفسدوا أو دخلوا في الصلاح { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فيَقبلُ توبتَهم ويتفضّلُ عليهم وهو تعليلٌ لما دل عليه الاستثناءُ ، وقيل : نزلت في الحارثِ بنِ سويد حين ندِم على رِدَّته فأرسل إلى قومه أن يسألوا : هل لي من توبة؟ فأرسل إليه أخوه ( الجُلاّس ) الآيةَ فرجَع إلى المدينة فتاب { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم ثُمَّ ازدادوا كُفْرًا } كاليهود كفروا بعيسى عليه السلام والإنجيلِ بعد الإيمانِ بموسى عليه الصلاة والسلام والتوراة ، ثم ازدادوا كفراً حيث كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام والقرآنِ أو كفروا به عليه السلام بعد ما آمنوا به قبل مبعثِه ثم ازدادوا كفراً بالإصرار عليه والطعنِ فيه والصدِّ عن الإيمان ونقضِ الميثاق أو كقوم ارتدوا ولحِقوا بمكةَ ثم ازدادوا كفراً بقولهم : نتربّصُ به رَيْبَ المنون أو نرجِعُ إليه فننافِقُه بإظهار الإيمان .
{ لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } لأنهم لا يتوبون إلا عند إشرافِهم على الهلاك فكنّى عن عدم توبتِهم بعدم قبولِها تغليظاً في شأنهم وإبرازاً لحالهم في صورة حالِ الآيسين من الرحمة ، أو لأن توبتَهم لا تكونُ إلا نفاقاً لارتدادهم وازديادِهم كفراً ، ولذلك لم تدخُلْ فيه الفاء { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضالون } الثابتون على الضلال .(1/416)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الارض ذَهَبًا وَلَوِ افتدى بِهِ } لمّا كان الموتُ على الكفر سبباً لامتناع قبولِ الفِديةِ زيدت الفاءُ هاهنا للإشعار به ، وملءُ الشيءِ ما يُملأ به ، وذهباً تمييزٌ وقرىء بالرفع على أنه بدلٌ من ملء ، أو خبرٌ لمحذوفِ { وَلَوِ افتدى } محمولٌ على المعنى ، كأنه قيل : فلن يُقبل من أحدهم فديةٌ ولو افتدى بملء الأرضِ ذهباً أو معطوف على مضمر تقديرُه فلن يقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهباً لو تصدق به في الدنيا ولو افتدى به من العذاب في الآخرة ، أو المرادُ ولو افتدى بمثلِه كقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى الارض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ } والمِثلُ يحذف ويراد كثيراً لأن المِثلَين في حكم شيءٍ واحد { أولئك } إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافِهم بالصفات الشنيعةِ المذكورة { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } مؤلمٌ . اسمُ الإشارةِ مبتدأ والظرفُ خبرُه ولاعتماده على المبتدأ ارتفع به عذابٌ أليم على الفاعلية { وَمَا لَهُم مّن ناصرين } في دفع العذابِ عنهم أو في تخفيفه ، و { مِنْ } مزيدةٌ للاستغراق ، وصيغةُ الجمعِ لمراعاة الضميرِ أي ليس لواحد منهم ناصرٌ واحد .
{ لَن تَنَالُواْ البر } مِنْ ناله نيلاً إذا أصابه ، والخطابُ للمؤمنين وهو كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان ما ينفعُ المؤمنين ويُقبلُ منهم إثرَ بيانِ ما لا ينفعُ الكفرةَ ولا يُقبل منهم . أي لن تبلُغوا حقيقةَ البِرِّ الذي يتنافس فيه المتنافسون ولن تُدركوا شأوَه ولن تلحَقوا بزُمْرة الأبرارِ أو لن تنالوا برَّ الله تعالى وهو ثوابُه ورحمتُه ورضاه وجنتُه { حتى تُنفِقُواْ } أي في سبيل الله عز وجل رغبةً فيما عنده ، و { مِنْ } في قوله تعالى : { مِمَّا تُحِبُّونَ } تبعيضيّة ويؤيده قراءةُ من قرأ بعضَ ما تحبون ، وقيل : بيانيةٌ و { مَا } موصولةٌ أو موصوفة ، أي مما تهوَوْن ويُعجبُكم من كرائمِ أموالِكم وأحبَّها إليكم كما في قوله تعالى : { أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ } أو مما يعُمّها وغيرَها من الأعمال والمُهَج ، على أن المرادَ بالإنفاق مطلقُ البذلِ وفيه من الإيذان بعزة منالِ البرِّ ما لا يخفى ، وكان السلفُ رضي الله عنهم إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله عز وجل ، ورُوي أنها لما نزلت جاء أبو طلحةَ فقال : يا رسولَ الله إن أحبَّ أموالي إليَّ بَيْرحاءُ فضعْها يا رسولَ الله حيث أراك الله ، فقال عليه السلام : « بخٍ بخٍ ذاك مالٌ رائجٌ أو رابحٌ وإني أرى أن تجعلَها في الأقربين » ، فقسَمها في أقاربه ، وجاء زيدُ بنُ حارثةَ بفرسٍ له كان يحبُّها فقال : هذه في سبيل الله فحمل عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أسامةَ بنَ زيدٍ فكأن زيداً وجَدَ في نفسه وقال : إنما أردتُ أن أتصدقَ بها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/417)
« أما إن الله تعالى قد قبِلها منك » قيل : وفيه دَلالةٌ على أن إنفاقَ أحبِّ الأموالِ على أقربِ الأقاربِ أفضلُ . وكتب عمرُ رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعريِّ أن يشتريَ له جاريةً من سبْي جَلولأَ يوم فُتِحت مدائنُ كسرى فلما جاءت إليه أعجبتْه فقال : إن الله تعالى يقول : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } فأعتقها ، وروي أن عمرَ بنَ عبد العزيز كانت لزوجته جاريةٌ بارعةُ الجمال وكان عمرُ راغباً فيها وكان قد طلبها منها مراراً فلم تُعطِها إياه ، ثم لما وليَ الخِلافةَ زيَّنَتْها وأرسلتها إليه فقالت : قد وهبتُكَها يا أميرَ المؤمنين فلتخدُمْك ، قال : من أين ملكتِها ، قالت : جئتُ بها من بيت أبي عبدِ الملك ، ففتش عن كيفية تملُّكِها إياها ، فقيل : إنه كان على فلانٍ العاملِ ديونٌ فلما تُوفيَ أُخِذت من ترِكَته ، ففتش عن حال العاملِ وأحضر ورثتَه وأرضاهم جميعاً بإعطاء المالِ ثم توجّه إلى الجارية وكان يهواها هوىً شديداً ، فقال : أنت حرةٌ لوجه الله تعالى ، فقالت : لمَ يا أميرَ المؤمنين وقد أزحْتَ عن أمرها كلَّ شُبهة؟ قال : لستُ إذن ممن نهى النفسَ عن الهوى . { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء } ما شرطيةٌ جازمةٌ لتنفقوا منتصبةٌ به على المفعولية ومن تبعيضيةٌ متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لاسم الشرطِ ، أيْ أيَّ شيءٍ تنفقوا كائناً من الأشياء ، فإن المفردَ في مثل هذا الموضعِ واقعٌ موقعَ الجمعِ ، وقيل : محلُّ الجارِّ والمجرور النصبُ على التمييز أيْ أيَّ شيءٍ تنفقوا طيباً تحبُّونه أو خبيثاً تكرَهونه ، { فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } تعليلٌ لجوابِ الشرطِ واقعٌ موقِعَه ، أي فمجازيكم يحسَبه جيداً كان أو رديئاً فإنه تعالى عليمٌ بكل شيءٍ تُنفِقونه علماً كاملاً بحيث لا يخفى عليه شيءٌ من ذاته وصفاته ، وتقديمُ الجارِّ والمجرور لرعاية الفواصلِ ، وفيه من الترغيب في إنفاق الجيدِ والتحذيرِ عن إنفاق الرديء ما لا يخفى .(1/418)
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
{ كُلُّ الطعام } أي كلُّ أفرادِ المطعوم أو كلُّ أنواعِه { كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسراءيل } أي حلالاً لهم ، فإن الحلَّ مصدرٌ نُعت به ، ولذلك استوى فيه الواحدُ والجمعُ والمذكرُ والمؤنث كما في قوله تعالى : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ } { إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسراءيل على نَفْسِهِ } استثناءٌ متصلٌ من اسم كان ، أي كان كلُّ المطعوماتِ حلالاً لبني إسرائيلَ إلا ما حرم إسرائيلُ أي يعقوبُ عليه السلام على نفسه وهو لحومُ الإبلِ وألبانُها ، قيل : كان به وجعُ النَّسا فنذَرَ لئن شُفِيَ لا يأكلُ أحبَّ الطعامِ إليه وكان ذلك أحبَّه إليه ، وقيل : فعل ذلك للتداوي بإشارة الأطباءِ ، واحتج به من جوّز للنبي الاجتهادَ . وللمانع أن يقولَ : كان ذلك بإذنٍ من الله تعالى فيه فهو كتحريمه ابتداءً { مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة } متعلقٌ بقوله تعالى : { كَانَ حِلاًّ } ولا ضيرَ في توسيط الاستثناءِ بينهما ، وقيل : متعلق بحرَّمَ وفيه أن تقييدَ تحريمِه عليه السلام بقَبْلية تنزيلِ التوراة ليس فيه مزيدُ فائدة أي كان ما عدا المستثنى حلالاً لهم قبلَ أن تنزّلَ التوراةُ مشتمِلةً على تحريم ما حُرِّم عليهم لظلمهم وبغيهم عقوبةً لهم وتشديداً وهو ردٌّ على اليهود في دعواهم البراءةَ عما نعى عليهم قولُه تعالى : { فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ } وقوله تعالى : { وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ } الآيتين ، بأن قالوا : لسنا أولَ من حُرِّمتْ عليه وإنما كانت محرمةً على نوحٍ وإبراهيمَ ومَنْ بعدَهما حتى انتهى الأمرُ إلينا فحرمت علينا ، وتبكيتٌ لهم في منع النسخِ والطعنِ في دعوى الرسولِ صلى الله عليه وسلم موافقتَه لإبراهيمَ عليه السلام بتحليله لحومِ الإبلِ وألبانِها .
{ قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها } أُمر عليه الصلاة والسلام بأن يُحاجَّهم بكتابهم الناطقِ بأن تحريمَ ما حُرِّم عليهم تحريمٌ حادثٌ مترتِّبٌ على ظلمهم وبغي كلما ارتكبوا معصيةً من المعاصي التي اقترفوها حُرِّم عليهم من الطيبات عقوبةً لهم ، ويكلّفهم إخراجَه وتلاوتَه ليُبَكِّتَهم ويُلقِمَهم الحجَرَ ويُظهرِ كذِبَهم ، وإظهارُ اسم التوراةِ لكون الجملةِ كلاماً مع اليهود منقطعاً عما قبله ، وقوله تعالى : { إِن كُنتُمْ صادقين } أي في دعواكم أنه تحريمٌ قديمٌ ، وجوابُ الشرط محذوفٌ لدلالة المذكورِ عليه أي إن كنتم صادقين فأتوا بالتوراة فاتلوها فإن صدْقَكم مما يدعوكم إلى ذلك اْلبتةَ . روي أنهم لم يجسَروا على إخراج التوراةِ فبُهتوا وانقلبوا صاغرين وفي ذلك من الحجة النيرة على صدق النبيِّ صلى الله عليه وسلم وجوازِ النسخ الذي يجحَدونه ما لا يخفى ، والجملةُ مستأنفةٌ مقرِّرة لما قبلها .(1/419)
فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)
{ فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب } أي اختلقه عليه سبحانه بزعمه أنه حرَّم ما ذُكر قبل نزولِ التوراةِ على بني إسرائيلَ و ( على ) مَنْ تقدَّمهم من الأمم { مِن بَعْدِ ذلك } من بعد ما ذُكر من أمرهم بإحضار التوراةِ وتلاوتِها وما ترتب عليه من التبكيت والإلزامِ ، والتقييدُ به للدَلالة على كمال القبحِ { فَأُوْلَئِكَ } إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافِه بما في حيز الصلةِ ، والجمعُ باعتبار معناه كما أن الإفراد في الصلة باعتبار لفظِه ، وما فيه من معنى البُعد للإشعار ببُعدِ منزلتِهم في الضلال والطُغيان ، أي فأولئك المُصِرُّون على الافتراء بعد ما ظهرت حقيقةُ الحال وضاقت عليهم حَلْبةُ المُحاجَّة والجدالِ { هُمُ الظالمون } المفْرِطون في الظلم والعُدوان المُبْعِدون فيهما ، والجملةُ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب مَسوقةٌ من جهته تعالى لبيان كمالِ عُتوِّهم ، وقيل : هي في محل النصبِ داخلةٌ تحت القولِ عطفاً على قوله تعالى : { فَأْتُواْ بالتوراة } { قُلْ صَدَقَ الله } أي ظهر وثبت صِدقُه تعالى فيما أنزل في شأن التحريمِ ، وقيل : في قوله تعالى : { مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا } الخ أو صَدَق في كل شأنٍ من الشؤون وهو داخلٌ في ذلك دخولاً أولياً ، وفيه تعريضٌ بكذبهم الصريح { فاتبعوا مِلَّةَ إبراهيم } أي ملةَ الإسلامِ التي هي في الأصل ملةُ إبراهيمَ عليه السلام فإنكم ما كنتم متّبعين لمِلّته كما تزعُمون ، أو فاتّبعوا مِلَّته حتى تتخلصوا من اليهودية التي اضطَرَّتْكم إلى التحريف والمكابدةِ وتلفيقِ الأكاذيبِ لتسوية الأغراضِ الدنيئةِ الدنيويةِ وألزمتكم تحريمَ طيباتٍ محلَّلةٍ لإبراهيمَ عليه السلام ومن تبِعَه للدَلالة على أن ظهورَ صدقِه تعالى موجبٌ للاتباع وتركِ ما كانوا عليه { حَنِيفاً } أي مائلاً عن الأديان الزائغةِ كلِّها { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } أي في أمر من أمور دينِه أصلاً وفرعاً ، وفيه تعريضٌ بإشراك اليهودِ وتصريحٌ بأنه عليه السلام ليس بينه وبينهم علاقةٌ دينيةٌ قطعاً ، والغرضُ بيانُ أن النبي صلى الله عليه وسلم على دين إبراهيمَ عليه السلام في الأصول لأنه لا يدعو إلا إلى التوحيد والبراءةِ عن كل معبودٍ سواه سبحانه وتعالى ، والجملةُ تذييلٌ لما قبلها .
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } شروعٌ في بيان كفرِهم ببعضٍ آخرَ من شعائر ملتِه عليه السلام إثرَ بيانِ كفرِهم بكون كلِّ المطعومات حِلاًّ له عليه السلام ، رُوي أنهم قالوا : بيتُ المقدس أعظمُ من الكعبة لأنه مُهاجَرُ الأنبياءِ و ( لكونه ) في الأرض المقدسة ، وقال المسلمون : بل الكعبةُ أعظمُ فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فنزلتْ ، أي إن أولَ بيتٍ وُضع للعبادة وجُعِل مُتعبَّداً لهم ، والواضعُ هو الله تعالى ويؤيِّده القراءةُ على البناء للفاعل ، وقوله تعالى : { لَلَّذِى بِبَكَّةَ } خبرٌ لإن وإنما أُخبر بالمعرفة مع كونِ اسمِها نكرةً لتخصُّصها بسببين : الإضافةِ والوصفِ بالجملة بعدها أي لَلْبيتُ الذي ببكةَ أي فيها ، وفي ترك الموصوفِ من التفخيم ما لا يخفى ، وبكةُ لغةٌ في مكةَ ، فإن العربَ تعاقِبُ بين الباء والميم كما في قولهم : ضربةُ لازبٍ ولازم ، والنميطُ والنبيط في اسم موضعٍ بالدَّهناء ، وقولِهم أمرٌ راتبٌ وراتمٌ وسبّد رأسَه وسمّدها وأغبطت الحمى وأغمطت .(1/420)
وهي عَلَم للبلد الحرام من بكّة إذا زحَمه لازدحام الناس فيه . وعن قتادة يُبكُّ الناسُ بعضُهم بعضاً أو لأنها تُبكُّ أعناقَ الجبابرة أي تدُقُّها ، لم يقصِدْها جبارٌ إلا قصمَه الله عز وجل ، وقيل : بكةُ اسمٌ لبطن مكةَ ، وقيل : لموضع البيتِ ، وقيل : للمسجد نفسِه ، ومكةُ اسمٌ للبلد كلِّه وأيَّد هذا بأن التَّباكَّ وهو الازدحامُ إنما يقع عند الطوافِ ، وقيل : مكةُ اسمٌ للمسجد والمطاف ، وبكةٌ اسمٌ للبلد لقوله تعالى : { لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً } . روي أنه عليه السلام سُئل عن أول بيتٍ وضع للناس فقال : « المسجدُ الحرام ثم بيتُ المقدس » وسئل : كم بينهما؟ فقال : « أربعون سنة » وقيل : أولُ من بناه إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام وقيل : آدمُ عليه السلام ، وقد استوفينا ما فيه من الأقاويل في سورة البقرة ، وقيل : أولُ بيتٍ وضعَ بالشرف لا بالزمان { مُبَارَكاً } كثيرَ الخير والنفعِ لِمَا يحصُل لمن حجَّه واعتمره واعتكف فيه وطاف حوله من الثواب وتكفيرِ الذنوب ، وهو حال من المستكنّ في الظرف ، لأن التقديرَ للذي ببكةَ هو ، والعاملُ فيه ما قُدّر في الظرف من فعل الاستقرار { وهدى للعالمين } لأنه قبلتُهم ومُتعبَّدُهم ولأن فيه آياتٍ عجيبةً دالةً على عظيم قدرتِه تعالى وبالغِ حكمتِه .(1/421)
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
كما قال : { فِيهِ ءايات بينات } واضحاتٌ كانحراف الطيورِ عن موازاة البيتِ على مدى الأعصارِ ومخالطةِ ضواري السباعِ الصيودَ في الحرم من غير تعرُّضٍ لها ، وقهر الله تعالى لكل جبارٍ قصَده بسوء كأصحاب الفيل ، والجملةُ مفسرةٌ للهدى أو حالٌ أخرى { مَّقَامِ إبراهيم } أي أثرُ قدميه عليه السلام في الصخرة التي كان عليه السلام يقوم عليها وقتَ رفعِ الحجارةِ لبناء الكعبةِ عند ارتفاعِه أو عند غسلِ رأسِه على ما رُوي أنه عليه السلام جاء زائراً من الشام إلى مكةَ فقالت له امرأةُ إسماعيلَ عليه السلام : انزلْ حتى أغسِلَ رأسَك فلم ينزِل فجاءته بهذا الحجرِ فوضعتْه على شقه الأيمنِ فوضع قدمَه عليه حتى غسَلت شِقَّ رأسِه ثم حولتْه إلى شقه الأيسرِ حتى غسلت الشِقَّ الآخَرَ فبقيَ أثرُ قدميه عليه . وهو إما مبتدأٌ حُذف خبرُه أي منها مقامُ إبراهيمَ أو بدلٌ من آياتٌ بدلَ البعضِ من الكل ، أو عطفُ بيانٍ إما وحدَه باعتبار كونِه بمنزلة آياتٍ كثيرةٍ لظهور شأنِه وقوةِ دَلالتِه على قدرة الله تعالى وعلى نبوة إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى : { إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً قانتا } أو باعتبار اشتمالِه على آياتٍ كثيرةٍ فإن كلَّ واحدٍ من أثر قدميه في صخرةٍ صمَّاءَ وغوْصِه فيها إلى الكعبين وإلانةِ بعضِ الصخور دون بعضٍ وإبقائِه دون سائرِ آياتِ الأنبياءِ عليهم السلام وحفظِه مع كثرة الأعداءِ ألفَ سنةٍ آيةٌ مستقلةٌ ، ويؤيده القراءةُ على التوحيد . وإما بما يفهم من قوله عز وجل : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً } فإنه وإن كان جملةً مستأنفةً ابتدائيةً أو شرطيةً لكنها في قوةِ أن يقال : وأَمِنَ مَنْ دَخَله فتكون بحسب المعنى والمآلِ معطوفةً على مقامُ إبراهيمَ ، ولا يخفى أن الأثنينِ نوعٌ من الجمع فيكتفى بذلك أو يحملُ على أنه ذُكر من تلك الآياتِ اثنتان وطُويَ ذكرُ ما عداهما دَلالةً على كثرتها ومعنى أمْنِ داخلِه أمنُه من التعرُّض له كما في قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } وذلك بدعوة إبراهيمَ عليه السلام : { رَبّ اجعل هذا البلد امِنًا } وكان الرجلُ لوْ جَرَّ كلَّ جريرةٍ ثم لجأ إلى الحرم لم يُطلب . وعن عمرَ رضي الله عنه لو ظفِرتُ فيه بقاتل الخطابِ ما مسَسْتُه حتى يخرُجَ منه . ولذلك قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : من لزِمه القتلُ في الحِلّ بقصاص أو رِدَّةً أو زنىً فالتجأ إلى الحرم لم يُتعرَّضْ له إلا أنه لا يؤوى ولا يُطْعم ولا يسقى ولا يُبايَع حتى يُضْطَرَّ إلى الخروج . وقيل : أمنُه من النار . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « من مات في أحد الحرَمين بُعث يومَ القيامة آمِناً » وعنه عليه الصلاة والسلام :(1/422)
« الحَجونُ والبقيعُ يؤخذ بأطرافهما ويُنثرَانِ في الجنة » وهما مقبرتا مكةَ والمدينة وعن ابن مسعود رضي الله عنه : وقف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على ثنيّة الحَجونِ وليس بها يومئذ مقبرَةٌ فقال : « يبعث الله تعالى من هذه البقعةِ ومن هذا الحرَم كلِّه سبعين ألفاً وجوهُهم كالقمر ليلةَ البدر يدخُلون الجنة بغير حساب يشفعُ كلُّ واحدٍ منهم في سبعين ألفاً وجوهُهم كالقمر ليلة البدر » وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « من صَبَر على حرَّ مكةَ ساعةً من نهار تباعدت عنه جهنمُ مسيرةَ مائتي عام »
{ وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } جملةٌ من مبتدإٍ هو حِجُّ البيت وخبرٍ هو لله ، وقولُه تعالى : { عَلَى الناس } متعلقٌ بما تعلق به الخبرُ من الاستقرار أو بمحذوفٍ هو حالٌ من الضمير المستكنِّ في الجار ، والعاملُ فيه ذلك الاستقرارُ ويجوز أن يكونَ { عَلَى الناس } هو الخبرُ ولله متعلقٌ بما تعلق به الخبرُ ، ولا سبيل إلى أن يتعلقَ بمحذوفٍ هو حالٌ من الضمير المستكن في على الناس لاستزامه تقديمَ الحالِ على العامل المعنوي وذلك مما لا مساغَ له عند الجمهور وقد جوّزه ابنُ مالكٍ إذا كانت هي ظرفاً أو حرفَ جر وعاملُها كذلك ، بخلاف الظرف وحرف الجر فإنهما يتقدمان على عاملهما المعنوي ، واللامُ في البيت للعهد ، وحجُّه قصْدُه للزيارة على الوجه المخصوص المعهود ، وكسر الحاء لغةُ نجدٍ ، وقيل : هو اسمٌ للمصدر ، وقرىء بفتحها { مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } في محل الجرِّ على أنه بدلٌ من الناس بدلَ البعضِ من الكل مخصِّصٌ لعمومه ، فالضميرُ العائد إلى المُبدْل منه محذوفٌ أي من استطاع منهم ، وقيل : بدلَ الكلِّ على أن المرادَ بالناس هو البعضُ المستطيعُ فلا حاجةَ إلى الضمير ، وقيل : في محل الرفعِ على أنه خبرُ مبتدإٍ مضمرٍ ، أي هم من استطاع الخ ، وقيل : في حيز النصبِ بتقدير أعني ، وقيل : كلمةُ { مِنْ } شرطيةٌ والجزاءُ محذوفٌ لدَلالة المذكور عليه وكذا العائدُ إلى الناس أي من استطاع منهم إليه سبيلاً فلله عليه حِجُّ البيت ، وقد رُجِّحَ هذا بكون من بعده شرطية ، والضميرُ المجرورُ في إليه راجعٌ إلى البيت أو إلى حِجّ ، والجارُّ متعلقٌ بالسبيل ، قُدِّم عليه اهتماماً بشأنه كما في قوله عز وجل : { فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ } و { هَلْ إلى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ } لما فيه من معنى الإفضاءِ والإيصالِ ، كيف لا وهو عبارةٌ عن الوسيلة من مال أو غيرِه فإنه قد روى أنسُ بنُ مالكٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « السبيلُ الزادُ والراحلة » وروى ابنُ عمرَ رضي الله عنهما أن رجلاً قال : يا رسول الله ما السبيلُ؟ قال : « الزادُ والراحلة » وهو المراد بما رُوي أنه عليه السلام فسَّر الاستطاعةَ بالزاد والراحلة وهكذا رُوي عن ابن عباسٍ وابنِ عمرَ رضي الله عنهم وعليه أكثرُ العلماء خلا أن الشافعيَّ أخذ بظاهره فأوجب الاستنابةَ على الزَّمِنِ القادر على أُجرة مَنْ ينوب عنه ، والظاهرُ أن عدمَ تعرُّضِه عليه السلام لصِحة البدنِ لظهور الأمر ، كيف لا والمفسَّرُ في الحقيقة هو السبيلُ الموصِلُ لنفس المستطيع إلى البيت وذا لا يُتصوَّرُ بدون الصِحة .(1/423)