لقاء العشر الأواخر بالمسجد الحرام (59)
إرشاد الحائر إلى علم الكبائر
تأليف
جمال الدين أبي المحاسن يوسف بن حسن بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي المعروف بابن المبرد
(840 - 909 هـ)
رحمه الله تعالى
تحقيق وتعليق
الدكتور وليد بن محمد بن عبد الله العلي
دار البشائر الإسلامية
الطبعة الأولى
1425 هـ - 2004 م(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرشد الحائر إلى أحسن الذخائر، أحمده حمد عبدٍ موحدٍ شاكرٍ، وأوحده توحيد عبدٍ خاضعٍ صابرٍ.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ سيد ولد آدم من غير كبرٍ ولا تفاخرٍ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأكابر والأصاغر، وسلم تسليماً.
وبعد: فهذا كتاب: (إرشاد الحائر إلى علم الكبائر)، وسألت الله أن ينفع به كاتبه وقارئه وجميع المسلمين، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
منها: الشرك.
وهو من أكبر الكبائر، ولا يخرج صاحبه من النار، إلا أن يشاء الله تعالى.(1/21)
ومنها: ترك الصلاة.
وهي معظمها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((بين المسلم والكفر: ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر)).
وكذا ما لا تصح مع عدمه، كالطهارة؛ والسترة؛ وعدم اجتناب النجاسة؛ وعدم استقبال القبلة؛ وعدم النية؛ وعدم الإتيان بأركان الصلاة والواجبات؛ إذا تعمدها ونحو هذا.(1/22)
فهذه وجميع ما لا تصح الصلاة إلا به؛ أو لا تصح معه ويأتي به: لا تصح الصلاة ممن فعل هذا، وإذا لم تصح صلاته فكأنه لم يأت بها، وتركها من الكبائر.
واختلف أصحاب الإمام: هل يقتل تارك الصلاة حداً أو كفراً؟ على روايتين.
والصلاة عندهم: أن تركها من الكبائر، وأن تاركها يقتل، لكن هل(1/23)
يقتل بعد ترك صلاةٍ واحدةٍ وضيق وقت الثانية؟ أو حتى يترك ثلاثاً ويضيق وقت الرابعة؟ أو حتى يتركها ثلاثة أيامٍ؟ فيه ثلاث رواياتٍ.
ولا خلاف فيه أنه يقتل بالسيف، ويقتل من جحد وجوبها، ولا يقتل في جميع الصور حتى يستتاب ثلاثاً، فإن تاب وإلا قتل.
ومنها: الزكاة.
فمن تركها عالماً بالتحريم: كفر، وإن تركها بخلاً عرف، فإن أصر كفر، وإذا كفر قتل، فإن قاتل عليها قتل.
وهذا في سائر الزكاة في زكاة المال؛ والسائمة؛ والخارج من الأرض؛ والأثمان؛ وعروض التجارة؛ والفطرة.(1/24)
وهل يقتل حداً أو كفراً؟ فيه أيضاً روايتان، والله أعلم.
ومنها: الصيام.
فمن أفطر رمضان أو بعضه مع القدرة والعلم بالتحريم: فهو من الكبائر، ويؤمر به، ويقتل مع الإصرار على الترك.
وكذا من جامع في نهار رمضان وهو به عالمٌ ذاكرٌ: فهو من الكبائر، لأنه أفسد صومه.
ومنها: إذا جحد الحج أو وجوبه.
وإنما لم أقل: إن ترك الحج من الكبائر: لأن الحج على التراخي، لكن حيث قلنا: إنه على الفور وتركه: فهو من الكبائر، وحكمه حكم باقي العبادات، والله أعلم بالصواب.
ومنها: إذا أعان الكفار على المسلمين: فهو من الكبائر.
وإن قيل: لم لا تقولوا: الجهاد تركه من الكبائر؟ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((من لم يغزو ولم تحدثه نفسه بالغزو: مات على شعبةٍ من النفاق)).
قيل: الجواب من وجوهٍ:
أحدها: أن هذا لأجل الترغيب في الجهاد.(1/25)
والثاني: أن الجهاد كان في بدء الإسلام فرض عينٍ، ثم نسخ، فيكون هذا في بدء الإسلام.
ومنها: من حرم البيع، أو أباح البيع المحرم: فهو من الكبائر.
ومنها: من أباح الربا، فهو من الكبائر.
وكذا من عامل به أو فعله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن: ((آكل الربا وموكله)).
ومنها: من أكل مال غيره بغير حق، أو ظلمه، أو غصبه: فهو من الكبائر.
فإن فعل: استحل منه ما استطاع، فإن مات فمن ورثته، وعن أحمد مثل هذا؛ ذكره في كتاب (الأدب الشرعي)، والله أعلم.
ومنها: منع الوارث عن ميراثه: من الكبائر.
ومع هذا فلا يسمع من الميت إذا فعل هذا، ويدفع إلى الوارث ميراثه.
ومنها: إن نكح الأم والجدة وإن علت، والبنت وإن نزلت.
وبنت الأخت وبنت الأخ، ومن أرضعته وبنتها وأختها، وأم زوجته، وبنتها، وأم من يلوط به وبنته، وأم الفاعل وبنته على المفعول به، ونكاح(1/26)
الملاعنة، والجمع بين الأختين، والمرأة وعمتها وخالتها، وملك اليمين بين الأختين في الوطء، والجمع بين أكثر من أربع نسوة للحر، وأكثر من اثنتين للعبد، ونكاح امرأة غيره، والمطلقة ثلاثاً قبل أن تنكح زوجاً غيره، والزانية قبل التوبة، والمستبرأة، والمعتدة، ونساء غير أهل الكتاب: من الكبائر، لأنه كالزنا.
ومنها: فعل المحلل: من الكبائر.
لأنه زناً محضٌ بلا خلافٍ، لأن فعله لم يقله أحدٌ، وحكمه حكم الزاني، والله أعلم.
ومنها: من استحل المطلقة ثلاثاً: فهي كبيرةٌ.
لأنها ليست زوجته.
ومنها: إذا لاعن زوجته وهو كاذبٌ عليها، متحققٌ كذب نفسه: فهو من الكبائر.
ومنها: إن قتل النفس التي حرم الله تعالى من الكبائر.
وهي أعظم الكبائر، ولا يوجد أكبر منها، لأن الله تعالى يقول: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً}.(1/27)
{فجزاؤه جهنم خالداً فيها}: هذا من أعظم الأمر في هذا الباب، {وغضب الله عليه}، فغضب الله أشد من الأول، {ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً}.
وفي السنة شيءٌ كثيرٌ من هذا، وتوعده الله بأربع عقوباتٍ هي أعظم شيءٍ يكون وعد بها.
ودائماً شيخنا الشيخ زين الدين بن الحبال يقول: (يتعلق بالقاتل ثلاث حقوقٍ: حق الورثة، وحق الميت، وحق الله تعالى).
فإنه لا بد أن يقف هو وقاتله بين يدي الله عز وجل، ويقول: ((يا رب سله فيم قتلني)).(1/28)
وهذه الخطيئة التي لا تقال، وأعظم الذنوب، فإنه متعلقٌ بالله وبالخلق، فإن ما كان متعلقاً بالله: قد يعفو الله عنه إذا تاب، وما كان متعلقاً بالخلق: أمره مشكلٌ، فنسأل الله العفو والعافية.
ومنها: الإعانة على القتل، ولو بالكلام.
وفي الحديث: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة فيهوي بها في النار سبعين خريفاً)).
فأما قتل الذمي وغير الحربي: فيحتمل أنه ليس من الكبائر، ويحتمل أن يكون منها، لأنه فيه الدية، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من ظلم ذمياً كنت خصمه يوم القيامة)).(1/29)
ودليل الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((لا يجتمع كافرٌ وقاتله في النار أبداً)).
فظاهره: الكافر مطلقاً.(1/30)
ومنها: الزنا
فإنه من الكبائر، وأعظم المفاسد وأقوى الجرائم، وعقوبته أعظم العقوبات في الدنيا والآخرة، فإنه إن كان غير محصنٍ: فحده الجلد والتغريب، جلد مائةٍ وتغريب عامٍ، وإن كان محصناً: فحده الجلد والرجم حتى يموت في إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله ورضي عنه.
والرواية الثانية: أن حده الرجم فقط، والله أعلم.
ومنها: اللواط.
وهو أعظم من الزنا وأشد، وهو إتيان الذكور في الأدبار، وهي الخطيئة التي تورث الدمار، وتخرب الديار، ومن أصر عليها خشي أن يموت على غير الإسلام ويدخل النار.
وهي أعظم المفاسد، وعقوبتها أعظم من عقوبة الزنا، فإنها على روايتين عن الإمام أحمد، إحداهما: حده كحد الزاني، من جلد البكر وتغريبه، ورجم الثيب وجلده.
والرواية الثانية عن الإمام أحمد: أن حده الرجم حتى يموت بكل حالٍ.
ولتعلم أن في زمننا هذا أناساً مزوجين، ويحبون الزنا واللواط أكثر من نسائهم الحلال، فنسأل الله العفو والعافية.(1/31)
فائدةٌ: وطء البهيمة: هل هو من الكبائر أو من الصغائر؟ فالذي ينبغي أن يكون من الصغائر، لأن ليس عليه فيه الحد، ويحتمل أنه من الكبائر، لأنه يجب قتل البهيمة، وتحريم أكل لحمها، وفيه مفسدةٌ.
ومنها: شرب الخمر من الكبائر.
وفيه الحد ثمانين إن كان حراً، وأربعين إن كان عبداً، هذا هو الصحيح من مذهب الإمام أحمد، والرواية الثانية: يحد بأربعين في حق الحر، وعشرين في حق العبد.
وفي الحد بوجود الرائحة إذا لم يتحقق السكر: روايتان عن الإمام أحمد رحمه الله ورضي عنه.
ومنها: السرقة من الكبائر أيضاً.
لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)).
وقد أوجب الله عز وجل عليه قطع اليد، وقطع اليد لا يكون إلا في كبيرةٍ، والله أعلم بالصواب.(1/32)
ومنها: قطع الطريق أيضاً من الكبائر.
وهو أعظم من السرقة.
ومنها: الردة من أعظم الكبائر.
وذلك أن من سب الله تعالى أو رسوله؛ أو جحد ربوبية الله عز وجل؛ أو جحد العبادات الخمس؛ أو أحل ما يحرم وحرم ما يحل؛ أو أنكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى الخلق عامة؛ ونحو هذا.
وقد ذكر في كتب الفقه: كل ما يرد عن الإسلام.
ولا شك أن المرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهل تقبل توبة الزنديق ومن تكررت ردته؟ على روايتين.
&فائدةٌ: تسقط المعاصي بالحسنات&، ولا تسقط الحسنات بالمعاصي،(1/33)
وتسقط الحسنات بالردة، فإن عاد إلى الإسلام: فهل تعود حسناته؟
فالصحيح: أنها لا تعود، والله أعلم.
ومنها: السحر من الكبائر.
وأعظمه الذي يركب المكنسة فتطير في الهواء، ويحيي ويميت، فإنه يكفر ويقتل، والذي يسحر بالأدوية: لا يكفر ولا يقتل، لكن ما أتلف ضمنه، وكذا من يزعم أنه يخاطب الجن، ويحادثها ويجمعها: فهي من الكبائر.
ومنها: التنجيم والطلسمانات والزندقة والأبواب النارنجية من الكبائر، والله أعلم.
ومنها: قتل نفسه من الكبائر.
وهي كبيرةٌ عظيمةٌ جداً.(1/34)
ومنها: عقوق الوالدين من الكبائر.
وهي كبيرةٌ عظيمةٌ ملحقةٌ بشرب الخمر ونحوه، ولو لم يحد فيه حد.
وعقوق الأم أقوى من عقوق الأب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بها ثلاثاً وبالأب مرة.
ومنها: الغيبة والنميمة.
على خلافٍ فيهما، فكونهما من الكبائر: لما جاء في القرآن والأحاديث الصحاح، وكونهما ليسا من الكبائر: كون لا شيء فيهما.(1/35)
ومنها: استحلال محرمٍ.
كالميتة والذئب والقرد والحمار ونحوهم من الكبائر، والله أعلم.
ومنها: اليمين الغموس من الكبائر.
خصوصاً بالقرآن، فإن عند أحمد رواية: أنه يلزمه بعدد كل حرفٍ كفارة.
ومنها: الرفض.
وهو بغض الصحابة أو أحداً منهم، سواءٌ أبو بكرٍ أو عمر أو عثمان أو علي أو كائنٌ من كان فهي من الكبائر، وهي كبيرةٌ عظيمةٌ، وأكبر من الزنا وشرب الخمر وأكل الميتة واللواط، والله أعلم.
ومنها: جحد شيءٍ من صفات الله تعالى.
أو جحد أنه ليس على العرش والكرسي، ولا فوق السبع(1/36)
سماوات، أو أنه لا ينزل كل ليلةٍ إلى سماء الدنيا، فهي من الكبائر.
ومنها: أن من كيف صفات الله تعالى، أو شبهه بخلقه، أو عطل،(1/37)
أو جسم، أو قال: إن الله بكل مكانٍ، فهي من الكبائر.
ومنها: أن من جحد أن لله وجهاً أو يدين أو رجلين، أو أنه يضحك، أو أنه يرى في الآخرة، أو جحد كبريائه أو جماله وأي شيءٍ من باقي الصفات، فهي من الكبائر.
ومنها: أن من جحد أن الله يحيي ويميت، ويرزق ويخلق، ويضر وينفع، ويهدي ويضل، ويرحم ويغضب، ويقدر الخير والشر وجميع الأشياء، وأن ليس بيد غيره ضرٌّ ولا نفعٌ ولا شيءٌ، فهي من الكبائر.
ومنها: من لم يقل بعذاب القبر وعذاب النار، وأن جهنم حقٌّ والنار حقٌّ والجنة حقٌّ والصراط حقٌّ والبعث حقٌّ والنشور حقٌّ والساعة حقٌّ ومحمدٌ حقٌّ وسؤال الملكين حقٌّ، وجميع ما صح من هذه الأشياء حقٌّ، فهي من الكبائر، والله أعلم.
ومنها: أن من لم يقل: القرآن كلام الله غير مخلوقٍ، منه بدأ وإليه يعود.
وجميع ما قيل فيه من أنه غير كلام الله ونحوه، وقد ذكر في محله في كتبه: فهو من الكبائر.(1/38)
ومنها: أن من لم يصل الجمعة والعيدين والكسوف والاستسقاء وعلى الجنائز، ويعتقده، ويعتقد المسح على الخفين فهي من الكبائر.
ومنها: المتعة من الكبائر.
ومنها: شهادة الزور من الكبائر.
ومنها: لعب الشطرنج.
على خلافٍ فيه، والصحيح: أنه من الصغائر.(1/39)
ومنها: مزمار الراعي والزمر ودف الصنج والسماع الشيطاني.
على خلاف فيهم، والصحيح: أنهم من الصغائر.
&فصلٌ: قال ابن القيم في آخر كتاب: (إعلام الموقعين)& بعد أن ذكر أشياء من الكبائر -ذكرناها، منها: قول الزور، والزنا، والشرك، وقتل الولد مخافة أن يطعم معه-: (فصلٌ: ومن الكبائر: ترك الصلاة، ومنع الزكاة، وترك الحج مع الاستطاعة، والإفطار في رمضان بغير عذرٍ.
وشرب الخمر، والسرقة، والزنا، واللواط، والحكم بغير الحق، وأخذ الرشا على الأحكام.
والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ، والقول على الله بلا علمٍ في أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه، وجحود ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، واعتقاد أن كلامه وكلام رسوله لا يستفاد منه يقينٌ أصلاً، وأن ظاهر كلامه وكلام رسوله باطلٌ وخطأٌ؛ بل كفرٌ وتشبيهٌ وضلالٌ، وترك ما جاء به لمجرد قول غيره،(1/40)
وتقديم الخيال المسمى بالعقل والسياسة الظالمة والعقائد الباطلة والآراء الفاسدة والأذواق والكشوفات الشيطانية على ما جاء به صلى الله عليه وسلم .
ووضع المكوس، وظلم الرعايا، والاستيثار بالفيء، والكبر، والفخر، والعجب، والخيلاء، والرياء، والسمعة، وتقديم خوف المخلوق على خوف الخالق، ومحبته على محبة الخالق؛ ورجائه على رجائه.
وإرادة العلو في الأرض والفساد؛ وإن لم ينل ذلك، ومسبة الصحابة رضوان الله عليهم، وقطع الطريق، وإقرار الرجل الفاحشة في أهله وهو يعلم، والمشي بالنميمة، وترك التنزه من البول.
وتخنث الرجل، وترجل المرأة، ووصل شعر المرأة؛ وطلبها ذلك، وطلب الوصل كبيرة، وفعله كبيرة، والوشم والاستيشام، والوشر والاستيشار، والنمص والتنميص، والطعن في النسب، وبراءة الرجل من أبيه؛ وبراءة الأب من ابنه، وإدخال المرأة على زوجها ولداً من غيره، والنياحة، ولطم الخدود، وشق الثياب، وحلق المرأة شعرها عند المصيبة بالموت وغيره.
وتغيير منار الأرض -وهو أعلامها-، وقطيعة الرحم، والجور في الوصية، وحرمان الوارث حقه من الميراث، وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، والتحليل، واستحلال المطلقة به، والتحيل على إسقاط ما أوجب الله، وتحليل ما حرم الله -وهو استباحة محارمه؛ وإسقاط فرائضه بالحيل-.(1/41)
وبيع الحر، وإباق المملوك من سيده، ونشوز المرأة على زوجها، وكتمان العلم عند الحاجة إلى إظهاره، وتعلم العلم للدنيا، والمباهاة والجاه والعلو على الناس، والغدر، والفجور في الخصام، وإتيان المرأة في دبرها؛ وفي حيضها، والمن بالصدقة وغيرها من عمل الخير.
وإساءة الظن بالله، واتهامه في أحكامه الكونية والدينية، والتكذيب بقضائه وقدره؛ واستوائه على عرشه، وأنه القاهر فوق عباده، وأن رسوله عرج به إليه، وأنه رفع المسيح إليه، وأنه يصعد إليه الكلم الطيب، وأنه كتب كتاباً فهو عنده على عرشه، وأن رحمته تغلب غضبه، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا حين يمضي شطر الليل فيقول: ((من يستغفرني فأغفر له؟)).
وأنه كلم موسى تكليماً، وأنه تجلى للجبل فجعله دكاً، واتخذ إبراهيم خليلاً، وأنه نادى آدم وحواء، ونادى موسى، وينادي عباده يوم القيامة، وأنه خلق آدم بيديه، وأنه يقبض سماواته بإحدى يديه والأرض باليد الأخرى يوم القيامة.
&فصلٌ : ومنها: الاستماع إلى حديث قومٍ لا يحبون استماعه&، وتخبيب المرأة على زوجها؛ والعبد على سيده، وتصوير صور الحيوان -كان له ظلٌّ؛ أو لم يكن-، وأن يري عينيه في المنام ما لم ترياه.(1/42)
وأخذ الربا وإعطاؤه؛ والشهادة عليه وكتابته، وشرب الخمر؛ وعصرها واعتصارها؛ وحملها وبيعها وأكل ثمنها، ولعن من لم يستحق اللعن.
وإتيان الكهنة والمنجمين والعرافين والسحرة؛ وتصديقهم والعمل بأقوالهم، والسجود لغير الله، والحلف بغيره، واتخاذ القبور مساجد، وجعلها أوثاناً وأعياداً يسجدون لها تارة؛ ويصلون إليها تارة؛ ويطوفون بها تارة، ويعتقدون أن الدعاء عندها أفضل من الدعاء في بيوت الله التي شرع أن يدعى فيها ويعبد؛ ويصلى له ويسجد.
ومنها: معاداة أولياء الله، وإسبال الثياب من الإزار والسراويل والعمامة وغيرها، والتبختر في المشي، واتباع الهوى؛ وطاعة الهوى؛ وطاعة الشح؛ والإعجاب بالنفس، وإضاعة من تلزمه مؤنته ونفقته من أقاربه وزوجته ورقيقه ومماليكه، والذبح لغير الله، وهجر أخيه المسلم سنةً، كما في صحيح الحاكم من حديث أبي خراشٍ السلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((من هجر أخاه سنةً: فهو كقتله)).(1/43)
وأما هجره فوق ثلاث أيامٍ: فيحمل أنه من الكبائر، ويحتمل أنه دونها.
ومنها: الشفاعة في إسقاط حدود الله، وفي الحديث عن ابن عمر يرفعه: ((من حالت شفاعته دون حد من حدود الله: فقد ضاد الله في أمره))، رواه أحمد وغيره بإسنادٍ جيدٍ.
ومنها: تكلم الرجل بالكلمة من سخط الله؛ لا يلقي لها بالاً.(1/44)
ومنها: أن يدعو إلى بدعةٍ أو ضلالةٍ أو ترك سنةٍ، بل هذا من أكبر الكبائر، وهو مضادةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومنها: ما رواه الحاكم في صحيحه من حديث المستورد بن شداد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من أكل بمسلمٍ أكلةً: أطعمه الله بها أكلة من نار جهنم يوم القيامة، ومن قام بمسلمٍ مقام سمعةٍ: أقامه الله يوم القيامة مقام رياءٍ وسمعةٍ، ومن اكتسى بمسلمٍ ثوباً: كساه الله ثوباً من نار جهنم يوم القيامة)).
ومعنى الحديث: أنه توصل إلى ذلك؛ وتوسل إليه بأذى أخيه المسلم من كذبٍ عليه؛ أو سخريةٍ؛ أو همزةٍ؛ أو لمزةٍ؛ أو غيبةٍ، والطعن عليه، والازدراء به، والشهادة عليه بالزور، والنيل من عرضه عند عدوه، ونحو ذلك مما كثيرٌ من الناس واقعٌ في وسطه، والله المستعان.
ومنها: التبجح والافتخار بالمعصية بين أصحابه وأشكاله، وهو الإجهار الذي لا يعافي الله صاحبه، وإن عافى من ستر نفسه.(1/45)
ومنها: أن يكون له وجهان ولسانان، فيأتي القوم بوجهٍ ولسانٍ، ويأتي غيرهم بوجهٍ ولسانٍ آخر.
ومنها: أن يكون فاحشاً بذياً يتركه الناس ويحذرونه اتقاء فحشه.
ومنها: مخاصمة الرجل في باطلٍ يعلم أنه باطلٌ، ودعواه ما ليس له وهو يعلم أنه ليس له.
ومنها: أن يدعي أنه من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس منهم، أو يدعي أنه ابن فلانٍ وليس بابنه، وفي الصحيحين: ((من ادعى إلى غير أبيه: فالجنة عليه حرامٌ)).
وفيهما أيضاً: ((لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه: فهو كافر)).(1/46)
وفيهما أيضاً: ((ليس من رجلٍ ادعى لغير أبيه وهو يعلمه: إلا كفر، ومن ادعى ما ليس له: فليس منا، وليتبوأ مقعده من النار، ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال: عدو الله؛ وليس كذلك: إلا حار عليه)).
فمن الكبائر: تكفير من لم يكفره الله ورسوله.
ومنها: أن يحدث حدثاً في الإسلام؛ أو يأوي محدثاً وينصره ويعينه، وفي الصحيحين: ((من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً: فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً)).
ومن أعظم الحدث: تعطيل كتاب الله وسنة رسول الله، وإحداث ما خالفهما، ونصر من أحدث ذلك والذب عنه، ومعاداة من دعا إلى كتاب الله وسنة رسوله.(1/47)
ومنها: إحلال شعائر الله في الحرم والإحرام، كقتل الصيد واستحلال القتال في حرم الله.
ومنها: لبس الحرير والذهب للرجال، واستعمال أواني الذهب والفضة للرجال.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الطيرة شركٌ)). فيحتمل: أن يكون من الكبائر، وأن يكون دونها.
ومنها: الغلول من الغنيمة.
ومنها: غش الإمام والوالي الرعية.
ومنها: أن يتزوج ذات محرمٍ منه، أو يقع على بهيمةٍ.
ومنها: المكر بأخيه المسلم ومخادعته ومضارته، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((ملعونٌ من مكر بمسلمٍ؛ أو ضار به)).(1/48)
ومنها: الاستهانة بالمصحف وإهدار حرمته، كما يفعله من لا يعتقد أن فيه كلام الله؛ من وطئه برجله ونحو ذلك.
ومنها: أن يضل أعمى عن الطريق، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك، فكيف بمن أضل عن طريق الله أو صراطه المستقيم.
ومنها: أن يسم إنساناً أو دابة في وجهها، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك.
ومنها: أن يحمل السلاح على أخيه المسلم، فإن الملائكة تلعنه.
ومنها: أن يقول ما لا يفعل، قال الله تعالى: {كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}.(1/49)
ومنها: الجدال في كتاب الله ودينه بغير علمٍ.
ومنها: إساءة الملكة برقيقه، وفي الحديث: ((لا يدخل الجنة: سيء الملكة)).
ومنها: أن يمنع المحتاج فضل ما لا يحتاج إليه مما لم تعمل يداه.
ومنها: القمار، وأما اللعب بالنرد: فهي من الكبائر، لتشبيه لاعبه بمن صبغ يده في لحم الخنزير ودمه، ولا سيما إذا أكل المال به، فحينئذٍ: يتم التشبيه، فإن اللعب بمنزلة غمس اليد، وأكل المال بمنزلة أكل لحم الخنزير.
ومنها: ترك الصلاة في الجماعة، وهو من الكبائر، وقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريق المتخلفين عنها، ولم يكن ليحرق مرتكب صغيرة.(1/50)
ومنها: ترك الجمعة، وفي صحيح مسلم: ((لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين)).
وفي السنن بإسنادٍ جيدٍ: ((من ترك ثلاث جمعٍ تهاوناً: طبع الله على قلبه)).
ومنها: أن يقطع ميراث وارثه من تركته، أو يدله على ذلك، ويعلمه الحيل ما يخرج به من الميراث.(1/51)
ومنها: الغلو في المخلوق حتى يتعدى به منزلته، وهذا قد يرتقي من الكبيرة إلى الشرك، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إياكم والغلو، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو)).
ومنها: الحسد، وفي السنن أنه: ((يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)).
ومنها: المرور بين يدي المصلي، ولو كانت صغيرة: لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال فاعله، ولم يجعل وقوفه عن حوائجه ومصالحه أربعين عاماً -كما في مسند البزار- خيراً له من(1/52)
مروره بين يديه، والله أعلم).
&فصل : وهذه الكبائر التي لا يرجى الخلاص منها إلا بالتوبة النصوح&، فمن أصر عليها ولم يتب منها: خشي عليه، ومصيبته مصيبةٌ عظيمةٌ، وجريمته ما مثلها جريمةٌ، وربما يخشى على فاعلها من الموت على غير الإسلام، أو أنه يخسف به، أو يمسخ، أو يموت بشؤم موتةٍ، من قتلٍ، أو مرضٍ يشق؛ أو نحو ذلك.
ولو لم يمت كذلك: فلينظر ما يجري للنفس الخبيثة من إزعاج الملائكة لها؛ ونتنها، وطرحها من السماء، وسبها كلما مرت على ملأ، وضرب الملائكة لها، ونحو ذلك.
وهذا كله يهون عند الميزان؛ وظهور الربح والخسران، وهذا يهون عند تطاير الصحف ذات اليمين وذات الشمال، وهذا يهون عند عذاب النار،(1/53)
وهذا يهون عند غضب الجبار، عندما يقول: {اخسئوا فيها ولا تكلمون}.
فانظر ما تصنع بنفسك؛ وانظر خلافه.
&فصلٌ : والصغائر فيهن إثمٌ&، لكن يتطيب عند الطاعة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((الجمعة إلى الجمعة؛ ورمضان إلى رمضان: كفارةٌ لما بينهما ما اجتنبت الكبائر)).
ولأنه لما قال له الرجل الذي لقي المرأة وأصاب منها كل ما يصيب الرجل من امرأته إلا النكاح: فأمره أن يتوضأ ويصلي العصر، فدل على أنه يكفر هذا.
والصلوات الخمس تكفر جميع الصغائر؛ وكذا الوضوء، لأن في الحديث: ((إذا توضأ الرجل فأحسن الوضوء؛ فإذا غسل يديه: خرجت كل خطيئةٍ عملها بيديه، وإذا غسل وجهه: خرجت(1/54)
كل خطيئةٍ نظرها، وإذا غسل رجليه: خرجت كل خطيئةٍ مشى إليها)).
وكذا الصيام يكفر الصغائر؛ وكذا الحج، لأن في الحديث: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق: رجع كيوم ولدته أمه)).
وكذا الجهاد والصدقة والصلاة على الجنائز، وصلاة التطوع وصدقة التطوع وحج التطوع وجهاد التطوع ونحوه.
&فصلٌ: وهذه الدنيا ليس خلقت للدوام حتى يعمل الإنسان فيها هذه الكبائر&، فإنها عن قليل تنفد وتزول، ويبقى التبعة على الإنسان، فمن عنده أدنى عقلٍ لم يفعل شيئاً من هذا، ويعتبر بالموت كيف يأخذ الناس واحداً بعد واحدٍ، وينظر إلى هذه الدنيا وسرعة تقلبها بأهلها، لكن الشيطان وهوى الإنسان: يلقيانه في الخسران، كما قيل:(1/55)
جنود المكاره أربعٌ ما جندت ... إلا لعظم شقاوتي وبلائي
إبليس والدنيا ونفسي والهوى ... كيف الخلاص وهذه أعدائي
قال بعض السلف: (ما ترك ذكر الموت لنا قرة عينٍ في أهلٍ ولا مالٍ).
وكان الإمام أحمد رضي الله عنه يقول: (يا دار؛ تخربين ويموت سكانك).
كما قيل:
قد نادت الدنيا على نفسها ... لو كان في العالم من يسمع
كم واثقٍ بالعمر أفنيته ... وجامعٍ بددت ما يجمع
وقال بعضهم: (ذهب ذكر الموت بلذة كل عيشٍ؛ وسرور كل نعيمٍ). ثم بكى وقال: (واهاً لدارٍ لا موت فيها).
&فصلٌ : ومن ترك هذا: فله النعيم المقيم&، في دارٍ ذات ملكٍ عظيمٍ، لا يفنى شبابها؛ ولا تبلى ثيابها؛ ولا يفنى نعميها؛ ولا يبيد حسنها وإحسانها، أدناهم له مثل الدنيا عشر مراتٍ، وأعلاهم ينظر إلى ربه بكرة وعشياً، بناؤها: الدر والياقوت والمرجان.(1/56)
روى إسحاق بن عمير عن بعض مشايخه قال: (الجنة مائة درجةٍ، أولها: درجة فضةٍ، وأرضها فضةٌ، ومساكنها فضةٌ، وترابها المسك.
والثانية: ذهبٌ، وأرضها ذهبٌ، ومساكنها ذهبٌ، وترابها ذهبٌ.
والثالثة: لؤلؤٌ، وأرضها لؤلؤٌ، ومساكنها لؤلؤٌ، وترابها المسك.
وسبعٌ وتسعون بعد ذلك ما لا عينٌ رأت؛ ولا أذنٌ سمعت؛ ولا خطر على قلب بشرٍ، قال: ومصدقه كلام الله تعالى: {فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرة أعينٍ}.
وعن المغيرة بن شعبة يرفعه: ((سأل موسى عليه السلام ربه عز وجل: ما أدنى أهل الجنة منزلةً؟ فقال: هو رجلٌ يجيء بعدما يدخل أهل الجنة الجنة، فيقول له الرب تبارك وتعالى: ادخل الجنة، فيقول: كيف يا رب وقد أخذ الناس منازلهم؛ وأخذوا أخذاتهم، فيقول: أترضى أن يكون لك مثل ملكٍ من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت يا رب، فيقول: لك ذلك؛ ومثله ومثله ومثله، فيقول: رضيت يا رب، فيقول: لك ذلك وعشر أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك؛ وقرت عينك.
قال: فما أعلاهم منزلةً؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي؛ وختمت عليها، فلم تر عينٌ؛ ولم تسمع أذنٌ؛ ولم يخطر على قلب(1/57)
بشرٍ. قال: ومصدقه كلام الله تعالى: {فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرة أعينٍ}.
وفي الحديث: ((إن أدناهم منزلةً: من ينظر إلى خدمه وملكه مسيرة ألف عامٍ)).
وفي الحديث: ((إن أدنى أهل الجنة منزلةً: من يستأذن ربه في ضيافة أهل الجنة، يقول: يا رب لو أذنت لي لأطعمتهم وأسقيتهم)).(1/58)
وحديث الذي يخرج من النار ويرى الشجرة، وأحاديث كثيرة في هذا الباب، والله أعلم.
&فصلٌ: وقد أوضحت لك الطريق، فاختر لنفسك أي الطريقين أردت&، فإن أردت إلى {جنةٍ عاليةٍ. قطوفها دانيةٌ}، وإن أردت إلى نارٍ حاميةٍ.
وإن أردت أن تؤتى كتابك بيمينك؛ وتقول: {هاؤم اقرءوا كتابيه}، وهو {في عيشةٍ راضيةٍ. في جنةٍ عاليةٍ}.
وإن أردت أن تؤتى كتابك بشمالك وتقول: {يا ليتني لم أوت كتابيه. ولم أدر ما حسابيه. يا ليتها كانت القاضية. ما أغنى عني ماليه. هلك عني سلطانيه}.
وإن أردت أن تكون ممن كب على وجهه في النار، وإن أردت تكون(1/59)
ممن جاوزوا مع الملائكة الكرام، فقالوا لهم: يا ملائكة الرحمن؛ أين الصراط والزحام؟ فقالوا: أبشروا؛ فقد جاوزتم الصراط بألف عامٍ.
&فصلٌ: ومن كان يعمل هذه المعاصي: فلا يسلم عليه&؛ ولا يرد سلامه؛ ولا يقام له ويهجر، ولا يصلي خلفه؛ ولا يهنأ؛ ولا يعزى؛ ولا يكرم، وهذا بخلاف زماننا، فإن فيه يكرمون العاصي؛ ويهينون العالم العامل الزاهد، والحمد لله وحده.
&فصلٌ: وهذه المحرمات لو تركها: عوض خيراً منها&، فمن لا يصلي تراه بالقلة والذلة، وتراه لو عمل ما عمل: لم تر معه بركةٌ، وكذا من لم يصم ولم يزك، ومن أخذ الربا، فلو ترك هذا الربا: لعوض بدله حلالاً، ولو ترك الزنا: لعوض بدله حلالاً، ولو ترك السرقة: لعوض بدله حلالاً، ولو ترك المعاصي جميعها: عوض بدلها حلالاً.
وما ترك أحدٌ شيئاً لله: إلا عوضه الله خيراً منه، ولو لم يكن في الدنيا:(1/60)
ففي الآخرة، ولهذا الدعاء: تارة يعجله الله لطالبه في الدنيا، وتارةً يعوضه خيراً منه، وتارةً يخليه له إلى الآخرة.
ومن هذا حكاية المازني: (أن ذمياً أعطاه مائة دينارٍ على أن يقرأه كتاب سيبويه، فقال: هذا كتابٌ يحتوي على ثلاثمائة آيةٍ وشيءٍ من كتاب الله، وأنا لا أستحل أمكن منها ذمياً.
فجرى أن غنت جارية قدام الواثق:(1/61)
أظلومٌ إن مصابكم رجلاً ... أهدى السلام تحيةً ظلم
فاختلف أهل المجلس في إعراب (رجل)؟ فقال بعضهم: بالرفع، وبعضهم: بالنصب. وأصرت الجارية على النصب، وقالت: قاله المازني. فأتي به، فقال له الخليفة: ما الإعراب؟ فقال: النصب. وأوصى له فأعطاه ألف دينارٍ)).
فلما ترك المائة دينارٍ لله: عوضه الله ألف دينارٍ.
وحكي أن بعضهم لقي ألف دينارٍ وهو فقيرٌ، فعرفها، فلقيه رجلٌ فقال: هي لي؛ ووصفها، فقال له: كم تعطي واجدها؟ فلم يعطه شيئاً، فقال: أعطه عشر دنانير، فلم يعطه شيئاً، فقال: أعطه خمسة، فلم يعطه شيئاً، فقال: أعطه دينارين، فلم يعطه شيئاً، فقال: أعطه ديناراً، فلم يعطه شيئاً، فدفعها إليه، فلما دفعها إليه قال له: والدي مات وخلف مالاً كثيراً، وأوصى أن يتصدق ببعضه، ولا يتصدق حتى يحط في كيسٍ ويرمى، فمن وجده ورده: يدفع إليه، فدفع إليه مالاً.(1/62)
وهذه قاعدةٌ مطردةٌ: (أن من ترك لله شيئاً: عوضه الله خيراً منه).
وقد ذكر في كتاب: (روضة المحبين) في هذا الباب شيئاً كثيراً، وقد رأيت حكاياتٍ في هذا الباب لا تحصر، وقل أن يحيط بها بشرٌ.
والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمدٍ؛ وعلى آله وصحبه وسلم.
وكان الفراغ منه يوم الاثنين؛ من شهر جمادى الأول؛ سنة ستين وثمانمائةٍ؛ على يد مؤلفها: العبد الفقير؛ الذليل الحقير؛ الراجي عفو ربه القدير؛ المعترف بالذنب والتقصير: يوسف بن حسن بن أحمد بن حسن بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي الجماعيلي، عفا الله عنه وعن جميع المسلمين، آمين؛ آمين؛ آمين.
والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمدٍ؛ وآله وصحبه وسلم.
سمع جميع هذا الكتاب: موسى بن عمران بن عامر الجماعيلي، وأبو بكر بن حسن بن أحمد بن حسن بن عبد الهادي، وأحمد بن حسن بن أحمد بن حسن بن عبد الهادي، وذلك بقراءتي في يوم الجمعة؛(1/63)
في شهر جمادى الآخر؛ في سنة ستين وثمانمائةٍ، وأجزت لهم أن يرووا عني جميع ما يجوز لي روايته بشرطه.
والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمدٍ؛ وآله وصحبه وسلم.
وكتبه يوسف بن حسن بن أحمد بن حسن بن عبد الهادي(1/64)