الكتاب: إذهاب الحزن وشفاء الصدر السقيم في تعليم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أصحابه ألفاظ القرآن الكريم = المنهج النبوي في التعليم القرآني
تأليف: عبد السلام مقبل عبده غالب المجيدي اليمني.
الناشر: دار الإيمان للطبع والنشر، الإسكندرية، مصر
الطبعة: ط.1، 2004 م
عدد الأجزاء: 1 = 573 صفحة(1/1)
الإهداء
إلى: سيدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم... صاحب خبر السماء صلّى اللّه عليه و سلّم... نفسي له الفداء...
أنفساك الطاهرة... طالما أقرأت الكتاب المجيد... فكان من يديك- يا سيدي- كلّ برّ أمين مبين رشيد... فخلف من بعدهم- يا سيدي- خلف ورثوا الكتاب... يأخذون عرض هذا الأدنى... طمعا في السراب... و بلي القران في صدور أقوام كما تبلى الثياب... و انطلق الملأ منهم ينتجون: إن سيرهم على حرف الكتاب لفي ضلال مبين... فحرفوه، و رموا به في غيابات الجب، و كانوا فاعلين... و هم يصعدون...
يصعدون- يا سيدي- و لا يلوون على أحد... و اشتري بايات اللّه ثمن قليل...
و حشرج الصدر لذلك بعويل الأسوار، و سمعت اهات نداء الحق خلف أسوار العويل... و ملأ من المؤمنين للحق كارهون... يجادلون في الحق بعدما تبين، و هم ينظرون... و أحلوا الخسر؛ إذ حطموا باستكبارهم التواصي بحق و صبر، و هم لا يشعرون... و صار ما سوى الكتاب المجيد عندهم هو العجاب... فمسنا حين من الدهر تاهت عنا فيه حقيقة المتاب... و أفل عنا كل نور صالح، و تركتنا شفقة عبد للّه ناصح، و لغبنا بعوج ماديات المصالح، و نأت خلفنا هدايات عليّ حكيم...
فذهبت الريح... و بكى الغار... و أنّ أحد وَ مَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ... أ لم تدعهم في أخراهم... و أخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على اللّه إلا الحق...
فكان نداؤك- يا حبيبي- يشق الأزمان للولهى، و يغيث أمة من اضطرام الفتنة حيرى: «هذا الكتاب... فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا بعده أبدا»، فسارع إلى الخيرات كلّ ممسّك بالكتاب يهدي إلى الحق و إلى طريق مستقيم... يبتغي الحق مظانه، و على شدة القروح انقلبوا بنعمة من اللّه و فضل... لم يمسسهم سوء... فإذا(1/3)
سعيهم محمّد محمود أحمد... بما علمتهم من الكتاب المجيد... حتى كادوا يكونون عليه- لهفا و شوقا- لبدا... ينتظرون ورود الحوض، و شروق شمسك أمامه... كأن وجهك ورقة مصحف علّمته... و ما زالوا- يا حبيبي- يخرون للأذقان... يبكون ابتغاء شربة هنيئة لا تظمأ بعدها قلوب لهفى طالما ظمئت إلى يدك الشريفة- أبدا...
يرددون مع الحبيب الجليل ابن أم عبد- إذ أمرتهم بالتمسك بعهده-:
«اللهم أسالك إيمانا لا يرتد... و نعيما لا ينفد... و مرافقة نبينا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم في أعلى جنان الخلد...(1/4)
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
المقدّمة
الحمد للّه على الائه... هدانا لهذا، و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه... لقد جاءت رسل ربنا بالحق، و مقال الصدق، صلى اللة عليهم اجمعين... اللهم صلّ على محمد صلاة أزدلف بها إلى مغفرتك، و سلم عليه تسليما يحشرني في زمرة أوليائه... الهم اجعل صلاتك و رحمتك و بركاتك على سيد المرسلين، و إمام المتقين، و خاتم النبيين محمد عبدك و رسولك إمام الخير، و قائد الخير، و رسول الرحمة... الهم ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون و الاخرون، و على اله و أصحابه الكرام الطيبين، الأخيار الطاهرين.
اللهم إني أعوذ بك أن أقول بحقّ أطلب به غير طاعتك، و أعوذ بك أن أتزين للناس بشي ء يشينني عندك... أعوذ بك أن أستعين بشي ء من معاصيك على ضرّ نزل بي... أعوذ بك أن تجعلني عبرة لأحد من خلقك في مقام الخزي... اجعلى ممن ابتدأته بفضلك... و أعقبته بودك، و رأفتك، و رحمتك.
و بعد: فكم عللت الفؤاد العليل بإشراق غده ان أن كان يتطلع لهفا و شوقا إلى معرفة المنهجية النبوية الصافية في تعليم اللفظ القراني... فمتى غده إن لم يكن الان؟ و الاخرة على الأبواب... و معرفة كهذه تفتح أبواب الإيمان و اليقين و العمل و الإخبات ففيها لكل ذلك مغتسل بارد و شراب... و قد كانت رسالة العالمية العليا (الدكتوراه) محاوله أولية في سبيل تحقيق ذلك، إلا أن طولها، و عمق أبواب كثيرة من مسائلها دعا عددا من الأحباب النصحة لكتاب اللّه و للمسلمين إلى طلب اختصارها عسى أن يعم النفع بها لعامة المسلمين بعد أن كان موقوفا على(1/5)
المختصين و الباحثين... فكان هذا الكتاب... ملتمسا من اللّه عز و جل خير ختام و حسن ماب.
المنهجية النبوية في تعليم اللفظ القراني... لماذا؟
1- لأن حاجة علماء الإقراء و التجويد ماسة و ضرورية إلى منهج محدد يوضح لهم كيفية إقراء النبي صلّى اللّه عليه و سلّم اللفظ القراني، ليكون أساسا تقعيديا يعتمدون عليه في تأصيل عمليات الإقراء، و ركنا واضحا يتخذونه سبيلا تطبيقيا في تعليم اللفظ القراني و تعلمه.
2- ليستبين المقياس المطلق لصحة المنهجية التعليمية للفظ القراني، و بالتالي يتم تصحيح بعض الأخطاء الشائعة في المنهجيات التعليمية السائدة كالغلو في حفظ الألفاظ دون مصاحبة ذلك لمنهجية في تعلم المعاني، و التخلق بالخلق القراني... فتكون هذه الدراسة محاولة في سبيل إعادة المنهجية النبوية إلى واقع الأمة، و تمثل أساسا لتقويم واقع الإقراء و تسديده في العصر الحاضر.
3- ليأوى معلم القران و متعلمه من المسلمين عامة إلى ظلال وارفة عيشا مع قضايا علم القراءة و التجويد في صورتها الصافية، و سيرتها الأولى... حيث كان الموجه القران الكريم، و السنة النبوية قبل حدوث الأقوال و تعددها- على فضلها-... عسى أن ينشر اللّه له فيها من رحمته، و يهيئ له من أمره مرفقا إذا دلف إلى جنانها في عصر أحزاننا المستديمة على حد قول القائل:
دخلت، و قلبي قد طار مني ولكنه عاد لمّا دخلت
دخلت الرحاب، و أسلمت نفسي إلى تلف الوجد حتى سلمت
و كان المقام العظيم العظيم عليه يخيم نور و صمت
فطوف بي من جلال القران ذهول فهمت، و همت، و همت(1/6)
4- لسد الثغرة القائمة في مؤلفات علوم القران الكريم؛ إذ لا يوجد- فيما أعلم- كتاب جامع يتضمن دراسة وصفية لتعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم القران الكريم لأصحابه رضى اللّه عنهم، و يؤصل لقواعد علم التجويد، و إن سدت كتب فضائل القران و مقدمات التفاسير جزا عظيما و هاما من ذلك.
الأهداف التفصيلية للكتاب:
1- التأصيل الشرعي الدقيق لمناهج القراء، و قواعد التجويد حيث تخلو الكتب المؤلفة في هذا العلم- غالبا- من ذلك.
2- الوصول إلى نتائج مبينة في بعض قضايا اللفظ القراني الشائكة كمسألة التواتر القراني... و التكبير عند خواتم القران... عدد الحفاظ في عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم...
صورة حفظ القران مسألة عامة شائعة... التأكيد على حفظ كبار الصحابة رضي اللّه عنهم للقران كله في حياة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم... العرضة الأخيرة... حل إشكالات في الفهم لبعض الروايات و النصوص التعليمية... الكلام عن القراءة التفسيرية... نظرية القراءة بالمعنى... أسلوب إدارة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم للجامعة النبوية القرانية... تخرج الاف الحفاظ للقران الكريم على أيدي أئمة الإقراء من أصحابه رضي اللّه عنهم.
3- إظهار الأداة الواقعية التي تؤدي إلى الاطمئنان على دقة نقل ألفاظ القران الكريم، و عدم طروء أي تطور مخالف لما كان عليه الأمر قديما في نقلها إلا ما كان عائدا إلى خدمة الأصل التوقيفي... فتتجلى عند ذاك واقعية الحقيقة الإيمانية (العقدية) الخالدة (حقيقة الحفظ الإلهي للقران الكريم) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (الحجر: 9)، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ (البقرة: 2)، تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (السجدة: 2)، من خلال وصف ذلك في العهد النبوي، و عرض حقائق التلاوة بطريقة فيها تنوع جديد.(1/7)
4- رام المؤلف أن يبين أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان- في أداء البلاغ المبين للفظ القراني- كرئيس جامعة عصرية تضم تحتها عددا من الكليات، و مجموعة متخصصة من هيئة التدريس يبرز بعضهم ككبار المدرسين، و يمكن تشبيه بعضهم بالمعلم الأول في عصرنا... و أما الطلاب فأعداد غفيرة تشكل الأمة بأسرها، و منهم المتفرغون لتعلم القران الكريم كالسبعين الذين قتلوا في بئر معونة، كما حاول أن يبين مفردات المنهج الذي يجب على جميعهم أن يتعلموه «الواجب العيني»، ثم يرتقي بعضهم إلى الدراسات العليا ليحيطوا بنسبة أكثر و أدق من المعرفة القرانية لهذا المنهج التعليمي «الفرض الكفائي»...
5- فصّل الكتاب كيفية تعليم الناس اللفظ القراني وفق منهجية التلقي، و كيف كانت تتم عملية التلقين و التلقي على الرغم من كثرة العدد، مع ضرورة تطبيق اللفظ القراني، و معرفة معانيه.
لماذا اختار الكتاب مصطلح (أصحاب) و لم يختر مصطلح (تلاميذ)؟
لأن هذا هو المصطلح النبوي لتلاميذ النبي صلّى اللّه عليه و سلّم... و الاصطلاح على المتعلم بأنه (تلميذ) نشأ متأخرا «1»، و الأصحاب مأخوذ من الصحبة التي «تعني المصاحبة و المرافقة و المجالسة على حب اللّه تعالى و حب رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم، و الصحابة هم أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و سلّم الذين صاحبوه و جالسوه و سمعوا منه و أخذوا عنه هدي الإسلام و سننه، فنصروه و عزّروه و جاهدوا معه بأموالهم و أنفسهم في سبيل اللّه.
و لقد قام المنهج النبوي على تأسيس الصلة و الصحبة و الجندية كلها على المتابعة بالمحبة و الصدق و الإخلاص» «2»، و لا شك أن الظلال النفسية لمصطلح صاحب لها
___________________________
(1) انظر: لسان العرب (3/ 478) و مما ذكره أن التلاميذ هم الخدم و الأتباع واحدهم تلميذ.
(2) أحمد علي الإمام (دكتور): الصحبة و الصحابة (ص 6)، منشورات مجمع الفقه الإسلامي، الخرطوم.
___________________________________(1/8)
أثرها الراقي بصورة أعلى بكثير من الظلال التي يثيرها مصطلح تلميذ خاصة في المرحلة الثانوية و الجامعية، و قد طلب البعض عدم استعمال مصطلح تلميذ لطلاب العلم في هاتين المرحلتين.
حول الروايات الواردة في الكتاب:
يلتزم الكاتب إيراد الروايات المقبولة دون غيرها في صلب البحث، و قد يورد غيرها مما لم يشتد ضعفه على سبيل الاستشهاد- إن كانت تلك الروايا صالحة للاعتبار- و ذلك ينسجم مع ما قاله الإمام أحمد- رحمه اللّه-: «الأحاديث الضعيفة قد يحتاج إليها في وقت، و المنكر أبدا منكر» «1»، و كل ذلك بحسب ما يلائم كل قضية من درجة في التوثيق. و قد يذكر الكاتب تخريج الهيثمي في مجمع الزوائد و حكمه على الرواية، مع أنه إنما يحكم على السند الذي أمامه و ليس على الحديث، و لذا فقد يضعّف بعض الأحاديث مع أنها مقولة من جهات أخرى، فأرجو ألا يغتر بذلك.
معوقات في مواجهة البحث:
1- شح المادة العلمية التفصيلية لهذا البحث، و ما ذاك إلا لصيرورة مفردات مناهج التعليم للفظ القراني بدهيات لا يستغنى عنها، فصار الجانب العملي فيها مغنيا عن النقل العلمي، كما أن هذا اقتضى التنقيب البالغ عن النصوص المطلوبة في كل كتاب علمي يمكن الاطلاع عليه... و هو ما جعل العب ء مضاعفا.
2- غموض الترتيب في المادة المجموعة لعدم النسج على مثال سابق في خصوص الموضوع، كما أن جلالة الموضوع، و هيبته؛ إذ إن حقيقته محاولة العيش بين الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و القران الكريم و الصحابة رضي اللّه عنهم مع أشرف وظيفة بعث بها
__________________________________________________
(1) أحمد علي الإمام (دكتور): الصحبة و الصحابة (ص 6)، منشورات مجمع الفقه الإسلامي، الخرطوم.(1/9)
الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم هي تعليم الكتاب... و هذا قد يؤود الباحث فيتنكب الصواب في ثنايا الاضطراب... و ذا أثر نفسي لا ينكره الباحث.
منهج الاختصار للبحث:
1- قرئ أصل هذا الكتاب عدة مرات أخر من أوله إلى اخره حتى يتم حذف ما يمكن حذفه، و تعديل ما يجب تعديله بحيث يتناسب مع الحيز المقترح له من عدد الصفحات.
2- حذفت الاراء الفقهية المختلفة، و اكتفي ببيان الراجح فقط عند وجود الاختلاف في المسألة... و من أراد الاستزادة فعليه بالأصل.
3- اكتفي بأهم النصوص القرانية و الحديثية التي توضح فكرة الموضوع، و اقتصر على واحد منها عندما يسوغ ذلك، كما اكتفي في غالب الأحيان بموضع الشاهد من النص القراني أو النبوي، و حذف تفصيل الكلام على تخريج الأحاديث، و كلام الشراح حولها إلا ما لابد منه في نظر الكاتب.
4- حذفت العبارات التي يمكن بدونها فهم الفكرة الأصلية، و كان وجودها زيادة إيضاح و بيان، و امتد هذا التصرف إلى النصوص المنقولة عن أهل العلم.
5- حذفت الاعتراضات على الفكرة أو المعنى الراجح و الأجوبة على ذلك غالبا.
6- دمجت عدد من المطالب و المباحث، و حذف بعضها لكن الكاتب أبقى على الهيكل العام (الفصول) كما هو.
7- تم حذف كثير من تفاصيل براهين النظريات التي مال إليها الباحث في الفصل الخامس، كما حذف موضوع التواتر القرائي بأكمله من هذا الفصل مما لا أظن الباحث يستطيع الاكتفاء بما هو موجود في هذا المختصر، فأنصح بالرجوع إلى الأصل في هذا الموضوع الكبير.(1/10)
8- حذفت معلومات المرجع من أول موضع ورد فيه غالبا، و اكتفى بمختصره، حيث يغني فهرس المراجع عن ذلك، كما تم حذف تراجم الأعلام، و تفاصيل التعريفات اللغوية.
9- تركت ما فيه ذكر لأخبار القراء من الصحابة و التابعين مما يزيّن القارئ به مجالسه و حلقته.
فإن اعترض على هذه الطريقة في الاختصار... فأنا أسلم بذلك، وليكن هذا كتاب جديد يكون مدخلا للأصل.
الهيكل العام للبحث «خطة البحث»:
يتكون البحث من مقدمة و خمسة فصول، و قد اختار الباحث أن يسير سيرا متدرجا بالنسبة لتعليم قراءة القران الكريم، ابتداء بما قبل القراءة و حتى ختامها...
و لما كان البحث دائرا حول شخصية النبي صلّى اللّه عليه و سلّم التعليمية في الإطار الخاص و هو تعليم ألفاظ القران الكريم لا التعليم لكل ما يتعلم فقد انعقد الفصل الأول لأجل ذلك فكان حول شخصية النبي صلّى اللّه عليه و سلّم التعليمية من الناحية العامة إشارة إليها، و من الناحية الخاصة المتعلقة بتعليم اللفظ القراني.
و لما كان البحث دائرا حول تعليم ألفاظ القران الكريم فقد لزم من هذا بيان أصول هذا التعليم في منهجية النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من الناحية الإدارية و المنهجية و عقد الفصل الثاني لأجل ذلك.
و لما كان محور البحث متركزا في كيفية تعليم تلاوة الألفاظ القرانية فقد عقد الفصل الثالث لإيضاح ذلك بالتفصيل، و بيان منهجية النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في تعليم الترتيل «التجويد».(1/11)
و لما كان حفظ «جمع» القران يمثل الغاية من هذا التعليم فقد انعقد الفصل الرابع لبيان جمع القران كتابة و عن ظهر قلب، و استتبع هذا الكلام عن جامعي القران الكريم من الصحابة على يد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم «المخرجات التعليمية».
و لأن القران قد اختص من بين سائر الكتب السماوية بنزوله على لغة العرب و من ثم امتناع ترجمته حرفيا، مع الإذن بقراءته على سبعة أحرف... فقد انعقد الفصل الخامس لبيان كيفية تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ذلك، و استتبع هذا ربط ذلك بحقيقة التواتر القراني و اثاره التي تدل على عدم مس القران الكريم كما أنزله اللّه تعالى بزيادة أو نقصان، و بيان الحقائق التي تجلي بعض الاستشكالات التي أوردت على المنهجية الشرعية لتناقل القران الكريم.
و على هذا انحصرت تبويبات البحث بعد المقدمة في التالي:
الفصل الأول: شخصية النبي صلّى اللّه عليه و سلّم التعليمية: و فيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: طبيعة الوظيفة الرسالية لسيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم.
المبحث الثاني: وظيفة التلاوة.
المبحث الثالث: حكم تعلم القران الكريم و تعليمه.
الفصل الثاني: أصول تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أصحابه ألفاظ القران: و فيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم كيفية تعلمه لكلام اللّه القراني.
المبحث الثاني: وسائل تعليم ألفاظ القران الكريم كما وضعها النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
المبحث الثالث: وسائل النشر التعليمية لألفاظ القران الكريم في عموم المجتمع المسلم كما قام بها النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
المبحث الرابع: القواعد التربوية المصاحبة لعملية الإقراء «من حيث اللفظ».(1/12)
الفصل الثالث: جماع منهجية النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في تحفيظ الألفاظ و ترتيلها: و فيه ستة مباحث و هي:
المبحث الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم أساسيات الدرس القراني «منهج الحلقات القرانية».
المبحث الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم ماهية التجويد و حكمه.
المبحث الثالث: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم أهمية التجويد و ضوابطه الشرعية.
المبحث الرابع: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم ترتيل ألفاظ القران الكريم.
المبحث الخامس: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم مراتب الأداء الأعلى من التجويد.
المبحث السادس: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم الملحقات بأحكام التجويد.
الفصل الرابع: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم جمع القران الكريم حفظا و كتابة «المخرجات التعليمية»: و فيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: أثر عامل السن في أسلوب تعليمه «منهجية النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في تعليم الصغار».
المبحث الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم ألقاب حامل القران و صفاته.
المبحث الثالث: أصحاب «تلاميذ» النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من أئمة الإقراء «المخرجات التعليمية».
المبحث الرابع: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم جمع القران.
الفصل الخامس: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم قراءة القران على أحرفه المنزلة: و فيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم القراءة بما تيسر من الأحرف السبعة.
المبحث الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم أن القراءة سنة يأخذها الاخر عن الأول.(1/13)
المبحث الثالث: المنهجية الشرعية لتناقل القران الكريم «التواتر في نقل ألفاظ القران».
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ، رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَ تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ.
و هذا أوان انطلاق القلم في البحث سائرا بسم اللّه مجراه و مرساه، و حسبنا اللّه و نعم الوكيل، على اللّه ربنا توكلنا.
الدكتور عبد السلام مقبل المجيدي(1/14)
الفصل الأول: شخصية النبي صلّى اللّه عليه و سلّم التعليمية «الرسول المعلم»:
و فيه ثلاثة مباحث:
يتناول هذا الفصل شخصية النبي صلّى اللّه عليه و سلّم التعليمية بما يعطي لمعلم القران الكريم الدلالات الاتية:
1- الاعتزاز بهذه الوظيفة، و استشعار أنها فعل النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و هديه، و سمته...
فهي أفضل الأعمال.
2- استشعار الاهتمام الشديد الذي أولاه الشرع لتلاوة القران و تعليمه بما يعين الفرد و المجتمع على استيعاب مدى الأهمية الشرعية و من ثم الواقعية لهذين العملين في الحياة، و ذلك لأن جميع وظائف النبي صلّى اللّه عليه و سلّم تفصيلا تعود إلى تلاوة الكتاب المجيد، و تعليمه... و بناء على ذلك يبين الفصل الأخير حكم تعلم ألفاظ القران الكريم و تعليمه، و لتحقيق الغاية من هذا الفصل فقد انقسم منطقيا إلى ثلاثة مباحث هي:
المبحث الأول: طبيعة الوظيفة الرسالية لسيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم.
المبحث الثاني: وظيفة التلاوة.
المبحث الثالث: حكم تعلم القران الكريم و تعليمه.
و لما كان المبحث الأول كالتقدمة للثاني و الثالث كالتتمة كان الثاني أطول منهما.(1/15)
المبحث الأول: طبيعة الوظيفة الرسالية لسيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم:
و فيه ثلاثة مطالب:
يناقش هذا المبحث وظيفة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم العامة، و يحلل الدلالات اللفظية لوصفها المصطلحي، و ماهية مرتكزاتها تفصيلا... و يرجع ذلك إلى ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الوظيفة العامة للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
المطلب الثاني: تحليل دلالات الوصف الإجمالي للوظيفة النبوية.
المطلب الثالث: تفصيل الوظيفة الرسالية للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
المطلب الأول: الوظيفة العامة للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم:
يمكن إيجاز وظيفة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في أن اللّه جل جلاله إنما بعثه معلما كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم: «إن اللّه لم يبعثني معنتا، و لا متعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا» «1»، و جعل وظيفته الكاملة القيام ب (البلاغ المبين) كما قال عزّ و جل: فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (المائدة: 92) و هذا الأسلوب يفيد حصر الوظيفة على البلاغ، و قصر المهمة على أن يكون البلاغ مبينا، و حصرت مهمته صلّى اللّه عليه و سلّم في ذلك ليعلم طبيعتها أهل المشرق و المغرب ممن اهتدى، أو اثر الردى... فقد بين اللّه جل جلاله لنبيه صلّى اللّه عليه و سلّم أن المعاندين إن «جادلوك بالأقاويل المزورة، و المغالطات فأسند أمرك إلى ما كلفت من الإيمان و التبليغ»»
.
__________________________________________________
(1) صحيح مسلم (2/ 110).
(2) الجامع لأحكام القران (4/ 45) عند تأويل قوله: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ... (ال عمران: 20).(1/16)
تحديد نطاق وظيفة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم:
و إذا كان ما سبق هو إخبار للمخاطبين يبين مهمة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و يحصرها؛ فقد أكّد هذا الحصر بخطاب اللّه تعالى للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم ذاته مباشرة بما يبين له نطاق مهمته و وظيفته صلّى اللّه عليه و سلّم قوله: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (النحل: 82)، و عمم الأمر خطابا للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و غيره زيادة في الإيضاح و التأكيد في قوله سبحانه و تعالى: وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (العنكبوت: 18)، و هذه هي وظيفة الرسل عامة كما قال جل جلاله: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (النحل: 35)، و قد أخذ هذا التحديد النظري طابعا تطبيقيا في إيضاح الرسل وظيفتهم لأقوامهم كما في قوله سبحانه و تعالى على لسان نوح و هود- عليهما السّلام- أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي (الأعراف: 62، 68)، و على لسان صالح عليه السّلام: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي (الأعراف: 79)، و شعيب عليه السّلام: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي (الأعراف: 93)، و رسل صاحب يس: وَ ما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ «1» (يس: 17).
تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أصحابه رضي اللّه عنهم حدود مهمته:
و قد علم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أصحابه نطاق مهمته الرسالية، لما يترتب على ذلك من ضرورات منهجية ترجع إلى حفظ أصول الدين و قواعده، و تتلخص في عنصر واحد: أن يكونوا شهودا على ذلك في الدنيا و الاخرة:
أما في الدنيا فحتى لا يفتري عليه أحد بكتمان، أو نقصان، و يعلم الثقلان أن ما بلغه هو الدين الكامل.
__________________________________________________
(1) هذه إشارات، و يستعان لمزيد من التحليل ب: المعجم المفهرس لمعاني القران العظيم (1/ 225).(1/17)
و أما في الاخرة فحتى يشهدوا له عند اللّه جل جلاله.
من أجل ذلك بين لهم صلّى اللّه عليه و سلّم- غير ما تقدم- أن اللّه عزّ و جلّ أوجب عليه البلاغ لكل ما أوحى إليه من ربه عزّ و جلّ، و إن لم يفعل فما قام بوظيفته التي أرسل من أجلها، كما قال سبحانه و تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (المائدة: 67)، كما قال الزهري في فقه هذه الاية:
«من اللّه الرسالة، و على الرسول البلاغ، و علينا التسليم» «1»،... فكل شي ء سكت عنه صلّى اللّه عليه و سلّم فهو مما لم يؤمر بتبليغه- إن كان ثم شي ء يبلّغ-، و قد علم الصحابة رضي اللّه عنهم بأنه لو كان ثم شي ء يستحق البلاغ لأمر بتبليغه فعن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال: صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم- قال إبراهيم: زاد أو نقص- فلمّا سلّم قيل له: يا رسول اللّه! أحدث في الصّلاة شي ء؟ قال: «و ما ذاك؟» قالوا:
صلّيت كذا و كذا. قال: فثنى رجليه، و استقبل القبلة، فسجد سجدتين ثمّ سلّم، ثمّ أقبل علينا بوجهه، فقال: «إنّه لو حدث في الصّلاة شي ء أنبأتكم به» «2».
استشهاده صلّى اللّه عليه و سلّم الخلق على قيامه بالبلاغ: و قد شهّد أمته على إبلاغه الرسالة، و استنطقهم بذلك في أعظم المجامع، كما في خطبته في حجة الوداع، فعن جابر بن عبد اللّه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال في خطبة حجة الوداع: «أيها الناس! إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت، و أديت، و نصحت. فجعل يرفع أصبعه إلى السماء و ينكسها إليهم و يقول: اللهم اشهد» «3».
__________________________________________________
(1) صحيح البخاري (6/ 2738).
(2) البخاري (1/ 156)، مسلم (1/ 400)، مرجعان سابقان.
(
3) و ورد مثل ذلك عن أبي بكرة عند البخاري (1/ 52)، و مسلم (3/ 1305)، و عن ابن عباس عند البخاري (2/ 619)، و قد جاء مثل ذلك أيضًا عن عدد من الصحابة في أكثر من موطن.. انظر: الأصل.(1/18)
و شهد له الصحابة رضي اللّه عنهم بكمال البلاغ في الدنيا: فمنعوا بذلك أوهام المتخرصين أن يكون فرّط أو كتم أو خص بعض الناس بشي ء من البيان العام الواجب تبليغه عليه صلّى اللّه عليه و سلّم، فعن ابن عباس أنه جاءه رجل فقال له: إن ناسا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئا لم يبده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم للناس، فقال ابن عباس: أ لم تعلم أن اللّه سبحانه و تعالى قال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ «1»، و عن مسروق عن عائشة قالت: من حدثك أن محمدا كتم شيئا مما أنزل اللّه عليه فقد كذب و هو يقول يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ «2».
مادة البلاغ الأساسية:
و مادة البلاغ الأساسية هي القران الكريم كما قال جل جلاله: وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ (الأنعام: 19)، و قال عزّ و جلّ: وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها (الأنعام: 92) أي:
«مكة و من حولها من أحياء العرب و سائر طوائف بني ادم من عرب و عجم» «3»، و قال جل جلاله: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ (هود: 17)، و قال سبحانه و تعالى:
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (الفرقان: 1).
و لأن مادة البلاغ الأساسية هي القران قال ابن عباس رضي اللّه عنها في قوله سبحانه و تعالى:
وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (المائدة: 67): «يعني إن كتمت اية مما أنزل
__________________________________________________
(1) تفسير ابن كثير: (2/ 78)، و قال عن هذا الحديث: «و هذا إسناد جيد»، و تتمته: «و اللّه ما ورثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سوداء في بيضاء».
(2) البخاري (6/ 2739)، مرجع سابق.
(3) ابن كثير (2/ 157)، مرجع سابق.(1/19)
إليك من ربك لم تبلغ رسالته» «1»، و قال لهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً (الأنعام: 90)، «أي لا أطلب منكم على إبلاغي إياكم هذا القران أجرا أي أجرة و لا أريد منكم شيئا» «2» كما كان يبين أن هذا العلم الذي أوتيه، و أمر بتبليغه خير كثير كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم: «قد علمني اللّه عز و جل خيرا» «3»، فتحددت وظيفة البلاغ بإيصال مادته الأساسية إلى هؤلاء الأحزاب باختلاف أمصارهم و أعصارهم.
الإبانة في البلاغ:
و نلحظ أن (الإبانة) صفة ضرورية ملازمة لوظيفة البلاغ، و الإبانة نوعان:
1- إبانة لفظية: أي يجب على الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أن يكون لفظه بالبلاغ مبينا كما في قوله تعالى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (الشعراء: 195).
2- و إبانة معنوية: أي يجب على الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أن يبين تأويل الكلام الذي أمر بتبليغه كما في قوله سبحانه و تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (النحل: 44)، فمما «يجب أن يعلم أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بين لأصحابه رضي اللّه عنهم معاني القران، كما بين لهم ألفاظه، فقوله تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ يتناول هذا و هذا» «4».
الاتصال بين الإبانة اللفظية و الإبانة المعنوية:
و اللفظ و المعنى متصلان اتصالا وثيقا إلا أنه لا يمكن للمعنى الثبات مع اهتزاز لفظه أو تغييره في الكلام المعجز إذ أول أوجه إعجازه تتمثل في إعجازه في لفظه كما لخص الخطابي- رحمه اللّه تعالى- أركان إعجاز القران في: «اللفظ الحامل،
__________________________________________________
(1) ابن كثير (2/ 79)، مرجع سابق.
(2) ابن كثير (2/ 157)، مرجع سابق.
(3) أحمد (5/ 368)، و قال ابن كثير في تفسيره (3/ 456)، مرجع سابق: «و هذا إسناد صحيح».
(4) مقدمة في أصول التفسير (ص 208).(1/20)
المعنى القائم به، الرباط الناظم لهما» «1»، و لأن إعجاز القران يعتمد على حقيقة واحدة هي أن اللّه سبحانه و تعالى قاله، كان لا بد من بلوغ أقصى درجات الإبانة اللفظية في كلام اللّه جل جلاله تمهيدا للإبانة المعنوية؛ و لذا يظهر الاهتمام بألفاظ القران واضحا في القران، و من ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: حم (1) وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ «أي البين الواضح الجلي المعاني و الألفاظ؛ لأنه نزل بلغة العرب التي هي أفصح اللغات للتخاطب بين الناس، و لهذا قال تعالى إِنَّا جَعَلْناهُ أي أنزلناه قُرْآناً عَرَبِيًّا أي بلغة العرب فصيحا واضحا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي تفهمونه و تتدبرونه كما قال عزّ و جلّ: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» «2».
و صار الطلب الشرعي لضبط ألفاظ القران الكريم استحضارا و استظهارا و إتقانا للأداء بديهية شرعية في حياة الصحابة رضي اللّه عنهم، كما كان تعظيمه، و صونه باستظهار ألفاظه، و العمل على نشره كتابة و حفظا و تعليما من أبرز مقاصد التنزيل الحكيم: أي ليعظم عندهم بألفاظه، فيحافظ عليها، و يتبع معانيها: كما في قوله سبحانه و تعالى: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (الزخرف: 4) ف «بين شرفه في الملأ الأعلى ليشرفه و يعظمه و يطيعه أهل الأرض...» «3» و كما قال تبارك و تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) (الواقعة: 77- 80) و قال تعالى: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (عبس: 11- 16) فإذا كانت «الملائكة يعظمون المصاحف المشتملة على القران في الملأ
__________________________________________________
(1) بيان إعجاز القران (ص 26).
(2) ابن كثير (4/ 123)، مرجع سابق.
(3) ابن كثير (4/ 123)، مرجع سابق.(1/21)
الأعلى، فأهل الأرض بذلك أولى و أحرى لأنه نزل عليهم و خطابه متوجه إليهم فهم أحق أن يقابلوه بالإكرام و التعظيم، و الانقياد له بالقبول و التسليم لقوله جل جلاله:
وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (الزخرف: 4)» «1».
و بايات اللّه التي تبلغ البحار، و ما وراء البحار... كان مستمسك العارفين...
و لها كان تعظيم السادات من المؤمنين... يعظمون ايات اللّه... و هي حبل النجاة في يوم الهول المبين:
قرت بها عين قاريها فقلت له لقد ظفرت بحبل اللّه فاعتصم
إن تتلها خيفة من حر نار لظى أطفأت نار لظى من وردها الشبم
كأنها الحوض تبيض الوجوه به من العصاة و قد جاؤه كالحمم
و كالصراط و كالميزان معدلة فالقسط من غيرها في الناس لم يقم
المطلب الثاني: تحليل دلالات الوظيفة الرسالية الإجمالية:
بعد أن استقر أن وظيفة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم هي (البلاغ)، و علمت مادته فيجب معرفة ماهيته؛ و سر اختيار هذا المصطلح للدلالة عليه.
فأصل البلاغ البلوغ و هو الوصول من بلغ يبلغ بلوغا «2»، و تظهر من مفاهيم البلاغ الدلالات التالية:
1- أنه يجب وصول المبلّغ به ليتم البلاغ:
فعدم وصوله نقص في التبليغ، إذ بلغ الشي ء يبلغ بلوغا و بلاغا: وصل و انتهى، و البلاغ: ما بلغك، و في التنزيل العزيز: إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَ رِسالاتِهِ
__________________________________________________
(1) ابن كثير (4/ 123)، مرجع سابق.
(2) تفسير القرطبي (6/ 327).(1/22)
(الجن: 23)، أي لا أحد منجى إلا أن أبلّغ عن اللّه ما أرسلت به، و الإبلاغ:
الإيصال، و كذلك التّبليغ، و الاسم منه البلاغ «1»، و هذا يقتضي فعل الوسائل القولية و العملية لإيصال المبلغ به.
2- الكفاية بالمبلغ به كما في قوله جل جلاله: إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (الأنبياء: 106)، و كما في قوله سبحانه و تعالى: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ (إبراهيم: 52) و الإشارة للقران الكريم كما في قوله عزّ و جلّ: أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ (العنكبوت: 51) و البلاغ هنا الكفاية «أي كفاية لأنه يبلغ مقدار الحاجة» «2»؛ و منه قول الراجز:
تزجّ من دنياك بالبلاغ و باكر المعدة بالدّباغ
«3» و يظهر من هذه الايات أن المادة الأساسية للتبليغ هو القران الكريم.
3- أن القران المبلغ به هو السبيل الوحيد الذي يوصل إلى مطلوب الإنسان من السعادة، فالبلاغ ما يتبلّغ و يتوصّل به إلى الشي ء المطلوب «4»، و تبلّغ بالشي ء:
وصل به إلى مراده «5».
4- الاجتهاد في أداء الرسالة فقولك: «أراه من المبالغين في التبليغ، بالغ يبالغ مبالغة و بلاغا إذا اجتهد في الأمر» «6».
__________________________________________________
(1) لسان العرب (8/ 419).
(2) القرطبي (6/ 327)، مرجع سابق.
(3) معجم مقاييس اللغة (1/ 156).
(4) النهاية في غريب الأثر (1/ 152).
(5) انظر: لسان العرب (8/ 419)، مرجع سابق.
(6) لسان العرب (8/ 419)، مرجع سابق.(1/23)
5- و يدل الوصف الشخصي للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم ب (الرسول)، و الوصف الوظيفي له ب (البلاغ) على المصدر الإلهي لتعلم الأنبياء، و ذكر هذا و التأكيد عليه هو دأب كل نبي و رسول يقولون: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ (الأحقاف: 23) أي لا أعلم من ذلك إلا ما علمني اللّه، و إنما أنا رسول إليكم من اللّه مبلغ أبلغكم عنه ما أرسلني به من الرسالة «1»، فهذا قول هود عليه السّلام، و مثله قول النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ (الكهف: 110) «أي قل يا محمد إنما أنا بشر مثلكم من بني ادم لا علم لي إلا ما علمني اللّه» «2» و مثله على لسان يوسف عليه السّلام: ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي (يوسف: 37)، و كان يبلغهم بالقران كمادة أساسية في منهاج التبليغ، فيحاولون إبعاده عن ذلك، و صرفه عنه فيقولون ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ (يونس: 15)، فيكون رده هو التأكيد على هذه المصدرية كما في قوله تعالى قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي (يونس: 15) «و إنما هو رسول مبلّغ، و مأمور متبّع» «3».
و نظرا لهذه المقتضيات يحاسب الرسل على ذلك كما في قوله عزّ و جلّ: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ (الجن: 28)، و كما في قوله جل جلاله: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ (المائدة: 117).
__________________________________________________
(1) انظر: تفسير الطبري (26/ 25).
(2) الطبري (16/ 39)، مرجع سابق.
(3) الطبري (11/ 95)، مرجع سابق.(1/24)
المطلب الثالث: تفصيل الوظيفة الرسالية للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم:
جاء تفصيل هذه الوظيفة (البلاغ)، و بيان امتداداتها في ايات أخر؛ إذ ورد بيانها في أربع ايات من القران الكريم: في سورة البقرة موضعان، و موضع في سورة ال عمران، و موضع في سورة الجمعة، و ترجع صيغها الإجمالية إلى قوله سبحانه و تعالى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (البقرة: 151) و قوله عزّ و جلّ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (الجمعة: 2)، و قد فرّعت هذه الايات وظيفة البلاغ إلى ثلاثة فروع:
[فروع وظيفة البلاغ ]
الأول: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ:
و قدم تلاوة الايات على سائر الفروع الاخرى في كل الايات، بل قد انفردت هذه الوظيفة بالذكر في عدد من المواضع كقوله جل جلاله: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (البينة: 2)، و كذلك قوله عزّ و جلّ: رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ (الطلاق: 11)، و يَتْلُوا هنا في موضع نصب نعت لرسول و معناه يقرأ، و التلاوة القراءة، و آياتِ اللَّهِ يعني القران «1» فقوله سبحانه و تعالى: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي يقرأ عليهم اي كتابه و تنزيله «2».
__________________________________________________
(1) انظر: القرطبي (18/ 92)، مرجع سابق.
(2) انظر: الطبري (4/ 163)، مرجع سابق.(1/25)
الثاني: وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ:
فالكتاب يعني القران، و يعني بالحكمة السنة التي سنها اللّه جل ثناؤه للمؤمنين على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و بيانه له، و قال ابن عباس: الكتاب الخط بالقلم لأن الخط فشا في العرب بالشرع لما أمروا بتقييده بالخط، و قال مالك بن أنس: الحكمة الفقه بالدين «1»، و لخص بعضهم معاني الحكمة بقوله:
و الحكمة العلم و قول الحق و فعله مقترنا بالصدق
«2» فالمراد أنه يعلمهم كتاب اللّه الذي أنزل عليه مقروا و مكتوبا، و يبين لهم تأويله و معانيه «3»، و (يعلمهم الكتاب و الحكمة) صفة أيضًا ل (رسولا) مترتبة في الوجود على التلاوة «4»، و كذلك التزكية تترتب في الوجود على التلاوة...
و الفرعان الأولان هما مدار هذا الكتاب؛ إذ يتحدث الأول عن التلاوة، و الاخر عن تعليم الكتاب تلاوة و كتابة... و بذلك تعلم ألفاظ القران الكريم.
الثالث: وَ يُزَكِّيهِمْ:
التزكية هي التطهير و الزكاة النماء و الزيادة فيكون معنى قوله جل جلاله وَ يُزَكِّيهِمْ يطهرهم من الشرك باللّه، و عبادة الأوثان، و دنس الكفر و الذنوب، و ينميهم و يكثرهم بطاعة اللّه»
،
فالتطهير إنما يكون باتباعهم إياه، و طاعتهم له فيما أمرهم و نهاهم «6»، فيحملهم على ما يصيرون به أزكياء طاهرين من خبائث العقائد
__________________________________________________
(1) انظر: القرطبي (18/ 92)، مرجع سابق.
(2) التيسير في علوم التفسير (ص 29).
(3) و انظر: الطبري (4/ 163)، مرجع سابق.
(4) انظر: روح المعاني (28/ 93)، مرجع سابق.
(5) انظر: الطبري (1/ 558)، مرجع سابق.
(6) انظر: الطبري 4/ 163، مرجع سابق.(1/26)
و الأعمال «1»، و بذلك «يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان» كما قاله ابن عباس «2»، و بين ابن كثير- رحمه اللّه تعالى- الوسيلة العملية لأداء عملية التزكية بقوله:
«يأمرهم بالمعروف، و ينهاهم عن المنكر لتزكو نفوسهم و تطهر من الدنس و الخبث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم و جاهليتهم» «3».
و معنى الاية إجمالا: «يقرأ عليهم و يبلغهم ما يوحى إليه من البينات، و يعلمهم القران، و الحكمة و ما يكمل به نفوسهم من أحكام الشريعة و المعارف الحقة» «4».
من حكم ترتيب هذه الفروع في المواضع الأربعة «5»:
نلحظ أن التلاوة جاءت في الايات كلها في أول الفروع، ثم اختلف ترتيب الفرعين الاخرين حيث جاء التعليم للكتاب و الحكمة أولا في دعاء إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام في قوله عزّ و جلّ: رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (البقرة: 129)، و الدعاء من أساليب الطلب، و جاءت التزكية قبل التعليم في ايات الإخبار في الموضع الثاني من سورة (البقرة: 151)، و (ال عمران: 16)، و (الجمعة: 2)، و قد تجلت من ذلك عدة حكم:
1- جاءت الفروع بهذه الهيئة في الترتيب مع أنها تعود لأمر واحد هو البلاغ المبين لأن المقام مقام تفصيل للنعم المطلوبة أو المرادة في العباد، و يدل على ذلك
__________________________________________________
(1) انظر: روح المعاني (28/ 93)، مرجع سابق.
(2) انظر: القرطبي (18/ 92)، مرجع سابق.
(3) ابن كثير (1/ 425)، مرجع سابق.
(4) تفسير أبي السعود (1/ 162).
(5) يسمى هذا العلم (علم توجيه متشابه الكتاب)، و هو فن مستقل من علوم القران... انظر: في الكتب المؤلفة فيه في مقدمة (السخاوي) علم الدين أبي الحسن علي بن محمد السخاوي ت 643 ه: كتاب هداية المرتاب و غاية الحفاظ و الطلاب في تبيين متشابه الكتاب.(1/27)
قوله عزّ و جلّ: وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (البقرة: 151) فإن الموصول مع كونه عبارة عن الكتاب و الحكمة قطعا قد عطف تعليمه على تعليمهما و ما ذلك إلا لتفصيل فنون النعم في مقام يقتضيه كما في قوله تعالى وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (هود: 58) عقب قوله تعالى نَجَّيْنا هُوداً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا (هود: 58) «و المراد بعدم علمهم أنه ليس من شأنهم أن يعلموه بالفكر و النظر و غير ذلك من طرق العلم لانحصار الطريق في الوحي» «1».
2- رتّبت بهذا الشكل دلالة على ضرورتها و ترتبها في الوجود، و المعلم البارز في الترتيب أن التلاوة جاءت أولا في كل الايات، و ذلك لأنها أساس الفرعين الاخرين، إذ حقيقة التعليم للكتاب تلاوة متعدية بإقراء ألفاظه، و تحفيظها و تفهيمها ببيان أحكامه للاخرين، و قد كان معظم تبليغه و كلامه صلّى اللّه عليه و سلّم تلاوة القران لا يزيد عليه إلا الأقل منه، و يدل على أن ذلك هو أساس وظائفه قوله عزّ و جلّ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَ لَهُ كُلُّ شَيْ ءٍ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَ أَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ (النمل: 91- 92).
3- و جاءت وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ ثانية في الدعاء: لأنها صفة أخرى مترتبة في الوجود على التلاوة، و أخر التزكية لأنها عبارة عن تكميل النفس بحسب القوة العملية و تهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة «2».
4- و يمكن النظر إلى الحكمة في الترتيب في كل سورة على حدة بالنظر إلى طبيعة وصف المخاطبين أو المتكلم عليهم: فلما كان ظاهر دعوته عليه السّلام أن البعث
__________________________________________________
(1) انظر: تفسير أبي المسعود (1/ 178)، روح المعاني (28/ 93)، مرجعان سابقان.
(2) تفسير أبي السعود (1/ 178)، مرجع سابق.(1/28)
لأمة مسلمة كانوا إلى تعليم ما ذكر أحوج منهم إلى التزكية؛ فإن أصلها موجود بالإسلام، فأخر قوله وَ يُزَكِّيهِمْ أي يطهر قلوبهم بما أوتي من دقائق الحكمة فترتقي بصفائها و لطفها من ذروة الدين إلى محل يؤمن عليها فيه من أن ترتد على أدبارها، و تحرف كتابها كما فعل من تقدمها، و التزكية اكتساب الزكاة بما هو لها بمنزلة الغذاء للجسم، «و لما ذكر سبحانه في سورة الجمعة بعثه في الأميين عامة اقتضى المقام تقديم التزكية التي رأسها البراءة من الشرك الأكبر ليقبلوا ما جاءهم من العلم، و أما تقديمها في ال عمران مع ذكر البعث للمؤمنين فلاقتضاء الحال بالمعاتبة على الإقبال على الغنائم الذي كان سبب الهزيمة لكونها إقبالا على الدنيا التي هي أم الأدناس» «1».
5- و من حكم الترتيب أن التلاوة عامة لجميع الناس، و التزكية خاصة بمن استجاب للايات فامن بها، و تعليم الكتاب و الحكمة خاص ببعض المؤمنين «2».
6- و في هذا الترتيب يظهر لنا الفرق في عملية تعليم القران (علم القراءة) عن عملية تعليم الأحكام، فعلم القراءة طريقه (التلقي) الذي تشير إليه لفظة يَتْلُوا، و علم الأحكام أعم من التلقي فقد يكون بالاستنباط مثلا كما تشير إليه لفظة وَ يُعَلِّمُهُمُ فرتب «التعليم على التلاوة كما هو الواقع لأن التلاوة أول ما يقرع السمع، و التعليم الذي هو التفهم بعده» «3».
__________________________________________________
(1) (البقاعي) برهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي ت 885 ه: نظم الدرر في تناسب الايات و السور.
(2) أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (16/ 185) إلى شي ء يشبه هذا مع خلاف في جزئية من الفكرة.
(3) (السيوطي) جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكرت 911 ه: قطف الأزهار في كشف الأسرار، تحقيق د. أحمد بن محمد الحمادي، إصدار وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية- قطر، 1414 ه- 1994 م.(1/29)
7- و من الحكم الظاهرة لهذا الترتيب: أن التلاوة للقران يجب أن تكون عامة للناس، و عامة في مجتمع المؤمنين ظاهرة لا يكون أحد من المؤمنين في المجتمع إلا سامعا أو قائما بها... بالقدر الذي يجعل هجران القران المذكور في قول جل جلاله: وَ قالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (الفرقان: 30)، منتف عنه.. أما التعليم للكتاب تعليما تفصيليا دقيقا ففرض كفاية يقوم به بعض المؤمنين عن المجتمع كله.
و هذا يقتضي منهجيا من الدولة المسلمة: العمل على إشاعة القران بالوسائل الإعلامية و التوجيهية المختلفة، و مواكبة تطور العصر في هذا السبيل.
علاقة البلاغ بالتلاوة و التعليم:
تقدم أن البلاغ هو الوصف المجمل لوظيفة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و يزاد هنا توضيح ذلك:
فالبلاغ هو غاية التلاوة و هو باعث التعليم كما في قوله تعالى بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (المائدة: 67)، و لا يبلغه إلا إذا تلاه، و لا بد من الإبانة في محاور البلاغ الثلاثة: التلاوة، و التعليم، و التزكية... و هذا البلاغ ينبغي أن يبقى متواصلا لكل الأجيال القادمة كما في قوله- تعالى ذكره-: «لأنذركم به و من بلغ»، فاقتضى هذا أمورا من حيث العملية التعليمية لألفاظ القران الكريم:
بقاء تلاوته بعد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ليحدث البلاغ.
أن تكون تلاوته بالطريقة ذاتها التي تلاه بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من حيث أداء اللفظ الخارجي و من حيث أداؤه الداخلي، و إن لم يكن هذا فما بلغت رسالة اللّه إلى العالمين.
أن يعلم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم صحابته طريقة تلاوته للقران الكريم و حفظه و أدائه ليتم ذلك البلاغ المتواصل، و أن يعلمهم صلّى اللّه عليه و سلّم طريقة التعليم ليعلموا من بعدهم حتى يبقى البلاغ متصلا.(1/30)
...
و بذا مضى خليل اللّه الأكرم صلّى اللّه عليه و سلّم معلم الناس أكرم كلام... و خير هدي و نظام... مضى يجذب القلوب إليه و هو يجري من فمه الطاهر الزكي عسلا مصفى... يتلو... و لتلاوته مذاق لم يتغير طعمه أبد الدهر... فأنى عن حبه يبتعد اللاهون؟ و بمن غيره تستشفي نظرات المتيمين؟
قلبي- و حبّك للقلوب شفاء- بهواك يخفق، و الهوى استهداء
يا من بعثت مسددا و مؤيدا و «محمدا»، و زكت بك الالاء
الوحي وحي اللّه أنت مكانه و بيانه، و صراطه الوضاء
قرانه يهدي لأقوم منهج في العالمين، و ايه غراء(1/31)
المبحث الثاني: وظيفة التلاوة:
لما كانت تلاوة ألفاظ القران الكريم هي أساس الوظائف الاخرى... فإن هذا يقتضي التوسع في شرح مفهوم التلاوة، و بيان أهميته، و حيزه الواقعي من وظيفة البلاغ... و لتحقيق ذلك انقسم هذا المبحث إلى أربعة مطالب:
المطلب الأول: مدلول التلاوة:
المطلب الثاني: علاقة التلاوة بالتعليم: و المراد هنا هل التلاوة وظيفة تعليمية في ذاتها؟.
المطلب الثالث: المنهج المقرر للتلاوة و التعليم.
المطلب الرابع: قيامه صلّى اللّه عليه و سلّم بوظيفة تعليم القران على أوسع نطاق.
المطلب الأول: مدلول التلاوة:
اقترن هذا اللفظ (التلاوة) دون غيره من الألفاظ بقراءة القران الكريم لما له من دلالات تجعله دون غيره المعبر عن مراد اللّه عزّ و جلّ من القراءة، و أهم مدلولين لهذا اللفظ:
أولا: التلاوة
تعني القراءة: فتلوت القران تلاوة: قرأته، و من ذلك قول اللّه جل جلاله: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها (ال عمران: 93) «1»، و عمّ به بعضهم كل كلام؛ كما في قوله جل جلاله: فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (الصافات: 3) سواء كانوا هم الملائكة، أو غيرهم ممن يتلو ذكر اللّه تعالى، و كما في قوله سبحانه و تعالى: وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ (البقرة: 102)؛ قال عطاء: على ما تحدّث
__________________________________________________
(1) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري (13/ 510).(1/32)
و تقصّ، و قيل: ما تتكلم به كقولك فلان يتلو كتاب اللّه أي: يقرؤه و يتكلم به، ثم صارت التلاوة حقيقة عرفية في قراءة القران الكريم، و قد تكون قراءة لغيره لكن في النادر و عند التقييد بذلك «1».
و سميت القراءة تلاوة لأن الايات أو الكلمات أو الحروف يتلو بعضها بعضا في الذكر، و التلو التبع «2»، كما قال الثعالبي: «يقرؤونه حق قراءته، و هذا أيضًا يتضمن الاتباع و الامتثال» «3»، «فاستعملت التلاوة في القراءة لأنه يتبع بعض الكلام ببعض في حروفه حتى يأتي على نسقه» «4»، و في قوله سبحانه و تعالى:
هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ (يونس: 30)، قرأ حمزة و الكسائي تتلو «من التلاوة أي تقرأ ذكر ما قدمت أو من التلو أي تتبع عملها فيقودها إلى الجنة أو إلى النار» «5»، و التلاوة بمعنى القراءة من أعظم خصائص القران الكريم فالكتب المتقدمة لا يجب فيها هذه التلاوة «6».
ثانيا: الاتباع:
إذ «التاء و اللام و الواو أصل واحد، و هو الإتباع. يقال: تلوته إذا تبعته» «7».
__________________________________________________
(1) انظر: التبيان في تفسير غريب القران (ص 351).
(2) التبيان في غريب القران (ص 82)، مرجع سابق.
(3) (الثعالبي) عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الجزائري: الجواهر الحسان في تفسير القران (1/ 104)، دار القلم، بيروت.
(4) انظر: القرطبي 1/ 369، مرجع سابق.
(5) تفسير البيضاوي المسمى بأنوار التنزيل و أسرار التأويل (3/ 195).
(6) (القاضي عبد الجبار) قاضي القضاة عماد الدين أبي الحسن عبد الجبار بن أحمد ت 415 ه: تنزيه القران عن المطاعن، طبعت على نفقة: محمد سعيد الرافع- صاحب المكتبة الأزهرية- ط 1 1329 ه- طبعت بمطبعة الجمالية بمصر.
(7) انظر: معجم مقاييس اللغة (1/ 181)، مرجع سابق.(1/33)
و المراد بالاتباع هنا أمران:
أ- الاتباع اللفظي:
بأن يتبع اللفظ اللفظ في قراءة القران الكريم على هيئة مخصوصة، فسميت قراءة القران تلاوة لأته يتبع اية بعد اية «1»، و منه جاءت الخيل تتاليا أي متتابعة «2».
ب- الاتباع العملي:
و منه تلا إذا اتّبع «3» فعلى قارئ القران يتبع في قراءته ما أنزله اللّه عز و جل، كما كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يتبع ذلك إذا قرأه عليه جبريل عليه السّلام، و يقال: كان يتلو كتاب اللّه؛ هو الذي يقرؤه و يعمل بما فيه، فيكون تابعا له، و القران يكون سائقا له و قائدا «4»، و منه (فإذا قرأناه فاتبع قرانه)، و يوضح ذلك قوله جل جلاله: وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ (البقرة: 44) ففيه توبيخ عظيم لمن فهم، و تتلون تقرؤن الكتاب التوراة و كذا من فعل فعلهم و كان مثلهم، و فلان يتلو فلانا أي: يحكيه و يتبع فعله «5»، و اتباعه هنا يكون بامتثال الأمر و النهي، و روى سفيان الثوري في تفسيره عن أبي رزين في قوله سبحانه و تعالى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ (البقرة: 121) قال: «يتبعونه حق اتباعه، و يعملون به حق عمله»، و قال قتادة:
«هم أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و سلّم آمنوا بكتاب اللّه، و عملوا بما فيه» «6».
__________________________________________________
(
1) انظر: معجم مقاييس اللغة (1/ 181)، مرجع سابق.
(2) مختار الصحاح (ص 23)، لسان العرب (14/ 102).
(3) لسان العرب (14/ 102)، مرجع سابق.
(4) انظر: (السخاوي) علم الدين علي بن محمد ت 643 ه: جمال القراء و كمال الإقراء (1/ 91)، مرجع سابق.
(5) انظر: لسان العرب (14/ 104)، مرجع سابق.
(6) فتح الباري شرح صحيح البخاري (13/ 510)، مرجع سابق.(1/34)
و أما قول اللّه عزّ و جلّ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ (البقرة: 121) فشامل للمعنيين «1»؛ إذ معناه يقرأونه حق قراءته... و يعملون بما فيه فيتّبعونه حقّ اتّباعه «2» كما قال الغزالي: «و تلاوة القران حق تلاوته هو أن يشترك فيه اللسان و العقل و القلب، فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل، و حظ العقل تفسير المعاني، و حظ القلب الاتعاظ و التأثر بالانزجار، و الائتمار. فاللسان يرتل، و العقل يترجم، و القلب يتعظ» «3».
ثالثا: أن تكون القراءة في التلاوة على هيئة مغنّاة مخصوصة أي مرتلة ترتيلا مع التغني، ف «العرب تسمي المراسل في الغناء و العمل المتالي، و المتالي الذي يراسل المغنّي بصوت رفيع؛ قال الأخطل:
صلت الجبين كأنّ رجع صهيله زجر المحاول، أو غناء متال»
«4» كما تظهر المحاكاة في التلاوة و محاولة التقليد المقطعي و التنغيمي، و منه قولهم:
فلان يتلو فلانا أي يحكيه و يتبع فعله «5».
__________________________________________________
(1) الصحيح أنه يجوز إرادة المعنيين بعبارة واحدة، و قد وضع الأصوليين بناء على ذلك أصولا، و استخرجوا للألفاظ دلالات، أشار المفسرون لذلك، و قد عقد الراغب الأصفهاني فصلا بعنوان: (فصل في جواز المعنيين المختلفين بعبارة واحدة) انظر: مقدمة التفسير (ص 425).
(2) انظر: (السخاوي) علم الدين علي بن محمد ت 643 ه: جمال القراء و كمال الإقراء (1/ 91)، مرجع سابق.
(
3) (الغزالي) أبو حامد محمد بن محمد ت 505 ه: إحياء علوم الدين (1/ 287)، دار المعرفة، بيروت.
(4) لسان العرب (14/ 102)، مرجع سابق.
(5) انظر: لسان العرب (10/ 104)، مرجع سابق.(1/35)
العلاقة بين التلاوة و القراءة:
مما سبق يتبين أن العلاقة بين التلاوة القراءة علاقة عموم و خصوص وجهي، فكل منهما خاصة من وجه عامة من وجه اخر، فالتلاوة خاصة من الناحية العرفية بقراءة القران الكريم أو ما يماثله من الكتب المنزلة، عامة من حيث ضرورة اجتماع الاتباع اللفظي مع المعنوي، و القراءة عامة من حيث شمولها لكل مقروء كتابا منزلا أو غيره، خاصة في الأمر النظري دون المعنوي، و على هذا ينزل قول الراغب: «التلاوة الاتباع، و هي تقع بالجسم تارة، و تارة بالاقتداء في الحكم، و تارة بالقراءة و تدبر المعنى، و التلاوة في عرف الشرع تختص باتباع كتب اللّه تعالى المنزلة تارة بالقراءة، و تارة بامتثال ما فيه من أمر و نهي، و هي أعم من القراءة فكل قراءة تلاوة من غير عكس» «1».
المطلب الثاني: علاقة التلاوة بالتعليم:
و المراد هنا هل التلاوة وظيفة تعليمية في ذاتها؟ و ما خصائصها الدالة على ذلك؟.
التلاوة وظيفة تعليمية:
و ذلك لأن مجرد إلقاء اللفظ القراني يتضمن الإشارة إلى السامع أن يؤمن به و يتعلمه من حيث هو قران، و يدعم هذه الحقيقة الواقعية من الناحية الشرعية قوله جل جلاله وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها (الإسراء: 110) كما قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: «و لا تجهر بصلاتك أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبون القران، و لا تخافت بها عن أصحابك فلا تسمعهم القران حتى يأخذوه عنك»»
، و في هذا إيضاح لطبيعة الوظيفة التعليمية لألفاظ القران الكريم، و إصرار على تثبيتها في نفوس الملأ على أنها أساس وظائفه، و جوهر تبليغه.
__________________________________________________
(
1) (الراغب) أبو القاسم الحسين بن محمد الأصفهاني ت 502 ه: المفردات في غريب القران (ص 79).
(2) ابن كثير (3/ 70)، مرجع سابق، و الحديث في صحيح ابن خزيمة (3/ 39).(1/36)
و إذا كان البلاغ أصل التعليم، فإن أول جزء في التعليم و البلاغ المبين هو إبانة لفظ القران الكريم تلاوة فردية على نفسه، و متعدية بقراءته على الغير أو بتعليمه لهم.
من خصائص التلاوة التعليمية للقران الكريم عند النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:
1- ألزم صلّى اللّه عليه و سلّم برفع صوته رفعا معتدلا تبين معه الايات حتى يستبين لسامعه مع سرية الدعوة أو اشتداد الأذى عليها فيؤخذ عنه، كما تقدم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما.
2- التكرار لتلاوة ألفاظ القران الكريم: للناس عامة، و يدل له التكرار في الكلام على مواقف الكفار من القران الكريم، كما في قوله عزّ و جلّ: وَ إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (الانشقاق: 21)، و قوله وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (فصلت: 26)، فقد كانوا يشتطون في محاولة صرف الناس عن سماع كلام اللّه بالاستهزاء و السخرية حتى كان ذلك مبررا كافيا لرد اعتدائهم بالقتل فقد روى ابن جرير أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قتل يوم بدر صبرا عقبة بن أبي معيط و طعيمة بن عدي و النضر بن الحارث، و كان المقداد أسر النضر، فلما أمر بقتله قال المقداد: يا رسول اللّه! أسيري؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إنه كان يقول في كتاب اللّه عزّ و جلّ ما يقول» فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بقتله، فقال المقداد: يا رسول اللّه أسيري؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «اللهم أغن المقداد من فضلك» فقال المقداد: هذا الذي أردت. و فيه أنزلت هذه الاية وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (الأنفال: 31) «1».
__________________________________________________
(1) الطبري (9/ 231)، مرجع سابق، و رواه أبو داود في المراسيل (ص 249)، انظر: (أبو داود) سليمان بن الأشعث السجستاني ت 275 ه: المراسيل، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1408 ه.(1/37)
و كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يكثر من تلاوة القران الكريم على من يبلغهم عامة، فيصل إلى شغاف من أراد اللّه بهم خيرا، و يحجب عن غفلة القلوب فكانوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (الكهف: 101) ف «لعداوتهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لا يقدرون أن يسمعوا ما يتلو عليهم» «1».
3- نقله صلّى اللّه عليه و سلّم الوظيفة لأصحابه رضي اللّه عنهم تعبدا لجعل نطاق المستمعين أكثر:
فقد قام الصحابة رضي اللّه عنهم بتلاوة القران الكريم على الناس منذ وقت مبكر فعن عائشة زوج النبي صلّى اللّه عليه و سلّم رضي اللّه عنها قالت: لم أعقل أبوي قط إلا و هما يدينان الدين، و لم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم طرفي النهار بكرة و عشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قبل الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة- و هو سيد القارة- فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر:
أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، قال ابن الدغنة: إن مثلك لا يخرج، و لا يخرج، فإنك تكسب المعدوم، و تصل الرحم، و تحمل الكل، و تقري الضيف، و تعين على نوائب الحق، و أنا لك جار، فارجع فاعبد ربك ببلادك. فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر فطاف في أشراف كفار قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله، و لا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، و يصل الرحم، و يحمل الكل، و يقري الضيف، و يعين على نوائب الحق. فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة و آمنوا أبا بكر، و قالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل و ليقرأ ما شاء، و لا يؤذينا بذلك، و لا يستعلن به فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا و نساءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فطفق أبو بكر يعبد ربه
__________________________________________________
(
1) (الواحدي) أبو الحسن علي بن أحمد ت 468 ه: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 673)، تحقيق: صفوان عدنان داودي، دار القلم- بيروت، ط 1، 1415 ه.(1/38)
في داره، و لا يستعلن بالصلاة و لا القراءة في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، و برز فكان يصلي فيه و يقرأ القران، فيتقصف عليه نساء المشركين و أبناؤهم يعجبون و ينظرون إليه، و كان أبو بكر رجلا بكّاء لا يملك دمعه حين يقرأ القران، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، و إنه جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره، و أعلن الصلاة و القراءة، و قد خشينا أن يفتن أبناءنا و نساءنا، فأته، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، و إن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا كرهنا أن نخفرك، و لسنا مقرّين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة: فأتى بن الدغنة أبا بكر فقال: قد علمت الذي عقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، و إما أن ترد إلى ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له. قال أبو بكر: إني أرد إليك جوارك و أرضى بجواز اللّه. و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يومئذ بمكة «1».
و هذا يدل على أن القراءة العامة كانت مذ كان الوحي، و لم تكن قاصرة على الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم.
4- زيادة التكرار على المؤمنين، ليحفظوها و يعوها كما قال سبحانه و تعالى: وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ (الأنعام: 51)، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (ق: 45) مع أنه ينذر به إنذارا عاما كما في قوله جل جلاله: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (الأعراف: 2)، و كما في قوله عزّ و جلّ: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ (الرعد: 30).
__________________________________________________
(1). البخاري (2/ 803)، مرجع سابق.(1/39)
5- أمر بمداومة التلاوة و الحرص عليها كما في قوله سبحانه و تعالى: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَ لَهُ كُلُّ شَيْ ءٍ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَ أَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ (النمل: 91- 92)، اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَ أَقِمِ الصَّلاةَ (العنكبوت: 45)، ف (اتل) هنا «أمر من التلاوة و الدأب عليها» «1».
6- كان يقرأ جميع القران في الصلاة و إن لم يرو حديثيا جزئيات تلك القراءة، لكن روي إجمالا ما يدل على ذلك فروى عبد اللّه بن عمرو ابن العاص رضي اللّه عنهما قال: «ما من المفصل سورة صغيرة و لا كبيرة إلا قد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يؤم بها الناس في الصلاة» «2»، و عن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال: أنزل اللّه عزّ و جلّ على رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم المفصل بمكة، فكنا حججا نقرؤه لا ينزل غيره «3».
وصف التلاوة في القران الكريم:
تكرر وصف مهمة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بتلاوة القران و حصرها في ذلك كما في قوله تعالى ذكره وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا (القصص: 59)، و عرف الصحابة أن هذه الوظيفة هي أساس وظائفه كما كان يؤديها بمقتضياتها كما قال عبد اللّه بن رواحة رضي اللّه عنه:
و فينا رسول اللّه يتلو كتابه إذا انشق معروف من الصبح ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع «4»
__________________________________________________
(1) القرطبي 13/ 347، مرجع سابق.
(2) مجمع الزوائد و منبع الفوائد 2/ 114.
(3) سنن سعيد بن منصور 2/ 388، و إسناده قوي كما في التعليق على شرح مشكل الاثار 4/ 397.
(4) البخاري 1/ 387 ابن كثير 3/ 460، مرجعان سابقان.(1/40)
و لا شك في المراد التعليمي مع القصد التعبدي المحض في هذه القراءة كما يقول (سير و ليم موير) الذي نقل رأيه صاحب كتاب (حياة محمد): «كان الوحي المقدس أساس أركان الإسلام، فكانت تلاوة ما تيسر منه جزا جوهريا من الصلوات اليومية عامة أو خاصة، و كان القيام بهذه التلاوة فرضا و سنة يجزى من يؤديهما جزاء دينيا صالحا... لذلك وعت القران ذاكرة كثرة المسلمين الأولين إن لم يكونوا جميعا. و قد يسرت عادات العرب هذا العمل. فقد كانوا ذوي ولع بالشعر عظيم... و لما كانت الوسائل لتحرير ما يفيض عن شعرائهم في غير متناول اليد، فقد اعتادوا أن ينقشوا هذه القصائد كما كانوا ينقشون ما يتعلق بأنسابهم و قبائلهم على صفحات قلوبهم، و بذلك نمت ملكة الذاكرة غاية النمو... و قد بلغ بعض أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من قوة الذاكرة و دقتها، و من التعلق بحفظ القران و استذكاره حدا استطاعوا معه أن يعيدوا بدقة يقينية كل ما عرف منه إلى يوم كانوا يتلونه» «1».
ملامح تعليمية في حياة المعلم القدوة صلّى اللّه عليه و سلّم:
1- ظهر التأكيد على التلاوة في الايات المدنية، فالايات الأربع التي ذكرت فيها وظائف النبي صلّى اللّه عليه و سلّم الثلاث كلها في سور مدنية دلالة على أهمية إيلاء هذا الجانب أشد الاهتمام بعد تأمين الدولة الإسلامية، و ليس معنى ذلك عدم الاستنفار لأداء هذه الوظيفة في عهد قبل ذلك بل المراد توسيع دائرة التعليم في هذا العهد، و ابتكار محاضن فردية و مؤسسية له بحسب نمو المجتمع مدنيا، و اتساعه جغرافيا، و لذا ورد المن بأن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إنما أرسل لأجل ذلك كما قال جل جلاله: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ (البقرة: 151).
__________________________________________________
(
1) انظر: حياة محمد ليهكل بواسطة محمد طاهر عبد القادر الكردي المكي: تاريخ القران و غرائب رسمه و حكمه (ص 1)، شركة مكتبة و مطبعة مصطفى البابي الحلبي و أولاده بمصر.(1/41)
2- أن هذه الوظيفة وظيفة مشتركة بين جميع الأنبياء، على أنه قد تميز بها النبي صلّى اللّه عليه و سلّم تميزا ظاهرا لتميزه بالقران ثم بالخاتمية، و قد حدد هذه الوظيفة ابتداء إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام «1».
3- أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم تأهل بالصفات التعليمية اللازمة للمعلم الكامل القدوة (النموذج)، و عرف الصحابة عنه ذلك، و مما يؤشر في هذا السبيل: ما قاله معاوية بن الحكم السلمي رضي اللّه عنه: «فلما صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فبأبي هو و أمي ما رأيت معلما قبله و لا بعده أحسن تعليما منه، فو اللّه ما كهرني و لا ضربني و لا شتمني» «2»، و المراد الإشارة إلى هذا المعلم من صفاته صلّى اللّه عليه و سلّم لا التفصيل.
4- كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يجعل ذلك أول شي ء يجب أن يتعلمه العبد عند إسلامه، و إن كان مقدار المحفوظ المعلّم يتفاوت بحسب الأهلية للتصدر معلّما دائما للإقراء، أو مسلما يجب عليه حفظ ورد معين... و يوضح ذلك ما رواه سعد بن جنادة رضي اللّه عنه قال: كنت فيمن أتى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من أهل الطائف، فخرجت من أهلي من السراة غدوة، فأتيت منى عند العصر فصاعدت في الجبل، ثم هبطت فأتيت النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فأسلمت، و علمني قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (الإخلاص: 1) و إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (الزلزلة: 1) و علمني هؤلاء الكلمات: سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلا اللّه و اللّه أكبر و قال: «هن الباقيات الصالحات و في رواية قل يا أيها الكافرون» «3».
__________________________________________________
(1) انظر: ابن كثير (1/ 184)، مرجع سابق.
(
2) مسلم (1/ 381)، مرجع سابق.
(3) الطبراني في الكبير (6/ 51)، الحديث في مجمع الزوائد (7/ 166)، مرجع سابق، و انظر: الإصابة (3/ 49).(1/42)
و يتضح مما سبق أن تعليم القران الكريم على الهيئة التي كانت في عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أفضل الأعمال: و قد أثبت النبي صلّى اللّه عليه و سلّم هذه الحقيقة بقوله: «خيركم من تعلم القران و علمه» «1»، و لا شك أن أول ما أمر النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بتعليمه إنما كان تعليم ألفاظ القران الكريم كما في صريح تلك الايات المتقدمة، و هو أول جزء من أجزاء وظيفة البلاغ الذي أمر به في رسالته، و قد سئل الثوري- رحمه اللّه تعالى- عن الجهاد و إقراء القران فرجح الثاني و احتج بهذا الحديث.
فإن اعترض على كون تعليم القران الكريم أفضل أنواع التعليم بحديث عبد اللّه بن عمرو رضي اللّه عنه قال: خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ذات يوم من بعض حجره، فدخل المسجد، فإذا هو بحلقتين إحداهما يقرؤون القران و يدعون اللّه، و الاخرى يتعلمون و يعلّمون، فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «كلّ على خير: هؤلاء يقرؤون القران و يدعون اللّه فإن شاء أعطاهم و إن شاء منعهم، و هؤلاء يتعلمون و يعلّمون و إنما بعثت معلما» فجلس معهم «2»، فدل هذا بظاهره على تقديم تعليم غير القران من أمور الشرع.
فالجواب: ليس في الحديث ذكر لتعليم القران الكريم في الحلقة الأولى بل غاية ما فيه ذكر قراءتهم للقران لا تعليم ألفاظه، و ليس هذا مدار المسألة، على أن ذكر التعليم في الحلقة الثانية منصرف أول ما ينصرف إلى تعليم القران الكريم، و لذا طلب الأوس و الخزرج من يعلّمهم القران الكريم، كما أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم عندما طلب منه إرسال من يعلم القبائل كان يرسل معهم القراء، و يحمل على هذا الرواية الاخرى عن عبد اللّه بن عمرو رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مر بمجلسين في
__________________________________________________
(1) البخاري (4/ 1919)، ابن حبان (1/ 324)، الترمذي (5/ 173)، مراجع سابقة.
(2) سنن ابن ماجه (1/ 83).(1/43)
مسجده فقال: «كلاهما على خير، و أحدهما أفضل من صاحبه: أما هؤلاء فيدعون اللّه و يرغبون إليه فإن شاء أعطاهم و إن شاء منعهم، و أما هؤلاء فيتعلمون الفقه و العلم، و يعلّمون الجاهل، فهم أفضل و إنما بعثت معلما» قال:
ثم جلس فيهم «1»، و في لفظ: دخل النبي صلّى اللّه عليه و سلّم المسجد و قوم يذكرون اللّه عزّ و جلّ، و قوم يتذاكرون الفقه، فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «كلا المجلسين إلى خير، أما الذين يذكرون اللّه عز و جل و يسألون ربهم فان شاء أعطاهم و ان شاء منعهم، و هؤلاء يعلّمون الناس و يتعلمون، و إنما بعثت معلما و هذا أفضل» فقعد معهم «2».
و قد أمر صلّى اللّه عليه و سلّم بالصبر على ذلك، و كانت له الحلقات الخاصة للقراءة و الإقراء:
كما في قول اللّه- تعالى ذكره-: وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ (الكهف: 28)، فقد قال بعض المفسرين فيها: «كان ذلك تعلّمهم القران و قراءته» «3»، و يدل لهذا حديث أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: إني لجالس ذات يوم في عصابة من ضعفاء المهاجرين، و رجل منا يقرأ علينا القران و يدعو لنا، و إن بعضنا لمستتر ببعض من العري و جهد الحال؛ إذ خرج علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فلما راه قارئنا أمسك عن القراءة، فجاء و جلس إلينا، فقال بيده، فاستدارت له حلقة القوم فقال: «أ لم تكونوا ترادون حديثا بينكم» قالوا: بلى يا رسول اللّه صاحبنا يقرأ علينا القران و يدعو لنا. قال: «فعودوا في حديثكم» فقال الرجل: يا رسول اللّه اقرأ و أنت فينا؟ قال: «نعم». ثم قال: «الحمد للّه الذي جعل في أمتي من أمرت أن
__________________________________________________
(1) (الدارمي) أبو محمد عبد اللّه بن عبد الرحمن 255 ه: سنن الدارمي (1/ 111)، تحقيق: أحمد فواز زمرلي، خالد السبع العلمي، 1407 ه، دار الكتاب العربي- بيروت.
(2) (الطيالسي) أبو داود سليمان بن داود الفارسي البصري ت 204 ه: مسند الطيالسي (ص 298)، دار المعرفة، بيروت.
(3) الطبري (7/ 205)، مرجع سابق.(1/44)
أصبر نفسي معهم».. «1».، و عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ذات يوم إلى المسجد، فوجد أصحابه عزين يتذاكرون فنون العلم، فأول حلقة وقف عليها وجدهم يقرؤون القران و جلس إليهم، فقال: «بهذا أرسلني ربي» ثم قام إلى الثانية فوجدهم يتكلمون في الحلال و الحرام و جلس إليهم و لم يقل شيئا ثم قام إلى الثالثة فوجدهم يذكرون توحيد اللّه عز و جل و نفي الأشباه و الأمثال عنه و جلس إليهم كثيرا ثم قال: «بهذا أمرني ربي» قال جابر: لأن التوحيد معرفة اللّه عز و جل، و من لا يعرف توحيد اللّه فليس بمؤمن «2».
المطلب الثالث: المنهج المقرر للتلاوة و التعليم:
بعد تقرير أن التلاوة وظيفة تعليمية في ذاتها ولكن للألفاظ فقط كالتعليم للكتاب الذي يزيد عليها في تفهيم المعاني لا بد من الكلام على المنهج الذي اختاره اللّه جل جلاله للبلاغ تلاوة و تعليما، و حدوده اللفظية «3»، غير أننا نشير هنا إلى أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم علم أصحابه عمومية القران و عدم جعله مادة خاصة، لا يعلمها إلا المتخصصون «4»:
__________________________________________________
(1) (الطبراني) مسند الدنيا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب ت 360 ه: المعجم الأوسط (8/ 357)، مراجعة: محمود الطحان، 1405- 1985، مكتبة المعارف- الرياض.
(2) (الأزدي) الربيع بن جبيب بن عمر البصري: مسند الربيع (ص 32)، تحقيق محمد إدريس و عاشور بن يوسف، دار الحكمة، بيروت، ط 1، 1415 ه... و إسناد هذا الحديث و الذي قبله بحاجة إلى مزيد نظر.
(3) انظر في مناقشة تعريف القران الكريم: تلقي النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ألفاظ القران الكريم (ص 289) للمؤلف.
(4) و الحديث عن القران من حيث هو قران لا عن القراات.(1/45)
الحدود اللفظية للقران الكريم:
كانت سور القران و آياته النازلة معلومة معروفة، و من ثم فحدوده باتت بدهية عند جملة المسلمين، و سوره النازلة يتابعها كل مسلم يكون قريبا من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و ذلك للتالي:
1- لأنه مادة البلاغ الأساسية: فليس للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم من همّ صباح مساء إلا تبليغه تلاوة و تعليما: بلغ النبي صلّى اللّه عليه و سلّم القران الكريم بخصوصه، و غيره من أنواع الوحي كالحديث النبوي تابع له إيضاحا و تفسيرا غالبا، فالقران هو أساس البلاغ كما هو منهاج التعليم فعن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال: «كان رسول صلّى اللّه عليه و سلّم يعرض نفسه على النّاس في الموقف فقال ألا رجل يحملني إلى قومه فإنّ قريشا قد منعوني أن أبلّغ كلام ربّي «1»، و لذا اشتد اهتمامه بإقراء القران: فهو وسيلة إنذاره و إبلاغه رسالته هي القران فبه ينطق، و به يتكلم، و به يخبر عن ماهية رسالته عندما يريد البيان، و به يجادل، و به يجاهد كما قال جل جلاله: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ (الأنعام: 19)، فمن بلغه هذا القران من عرب و عجم و أسود و أحمر و إنس و جان فهو نذير له و لهذا قال سبحانه و تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ (هود: 17)، و لا يكفرون به إلا بعد سماعه» «2»، و هي في الدّلالة كقوله سبحانه و تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (الفرقان: 1) فصارت المهمة في المقام الأول إبلاغ القران، و لما جادل عتبة بن ربيعة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لم يعد جواب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أن قرأ صلّى اللّه عليه و سلّم على عتبة بن ربيعة أوائل سورة فصلت لما أراد صلّى اللّه عليه و سلّم أن يرد عليه «3».
__________________________________________________
(1) أحمد (3/ 390)، الترمذي (5/ 184) و قال: «هذا حديث غريب صحيح».
(
2) ابن كثير (1/ 3)، مرجع سابق.
(3) في حديث طويل أخرجه الحاكم (2/ 278)، مرجع سابق، و صححه.(1/46)
و كما أن القران بلاغ فهو بيان لسائر المكلّفين من النّاس من عرف لغة العرب منهم و من لم يعرف، «و إن كان من لا يعرف لغة العرب يحتاج إلى أن يعرف معناه بلغته و ينقل إلى لسانه» كما في قوله سبحانه و تعالى: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ (ال عمران: 138)، و قال سبحانه و تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (التكوير: 27) فلما كان يخبرهم عن القران إنما كان يخاطبهم به عنه حتى كأنه بدهية معروفة بينهم، يعلمونها، و يعلمون حدودها كما لو كانت أسماءهم «1».
و لما توفي النبي صلى اللّه عليه و سلّم انقطع الوحي كما قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يقول: «إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و إن الوحي قد انقطع و إنما نأخذكم الان بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه و قربناه و ليس إلينا من سريرته شي ء، اللّه يحاسبه في سريرته، و من أظهر لنا سوا لم نأمنه و لم نصدقه و إن قال: إن سريرته حسنة» «2»... و انقطاعه يعني كمال المنزل، و ضرورة إبلاغه للعالمين، فالانقطاع دليل الكمال.
2- تكرير ذكره في مقام الإيصاء: و يتضح ذلك بذكره له في مقام الإيصاء...
فلا يوصيهم بمجهول فعن أبي شريح الخزاعي قال: خرج علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: «أبشروا و أبشروا أ ليس تشهدون ألاإله إلا اللّه و أني رسول اللّه؟» قالوا: نعم قال: «فإن هذا القران سبب طرفه بيد اللّه و طرفه بأيديكم، فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا و لن تهلكوا بعده أبدا» «3»، و عن زيد بن أرقم قال:
قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خمّا بين مكة و المدينة، فحمد اللّه،
__________________________________________________
(
1) أتى الباحث في هذا المقام باية مكية، و اية مدنية اختصارا و للدلالة على المراد.
(2) البخاري (2/ 934)، مرجع سابق، و وردت مثل هذه العبارة عن أم أيمن فيما رواه مسلم (4/ 1907).
(3) ابن حبان بترتيب ابن بلبان (1/ 329)، و صححه الألباني في: صحيح الجامع الصغير (1/ 69).(1/47)
و أثنى عليه، و وعظ و ذكر، ثم قال: «أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، و أنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب اللّه فيه الهدى و النور، فخذوا بكتاب اللّه و استمسكوا به» (هو حبل اللّه من اتبعه كان على الهدى، و من تركه كان على ضلالة) فحث على كتاب اللّه و رغب فيه ثم قال:
«و أهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي» «1»، و عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه أن رجلا جاءه فقال: أوصني فقال: «سألت عما سألت عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من قبلك» فقال: «أوصيك بتقوى اللّه، فإنه رأس كل شي ء و عليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، و عليك بذكر اللّه و تلاوة القران فإنه روحك في السماء و ذكرك في الأرض» «2».
و هو عندما يوصيهم بذلك، و يكرر، و يؤكد... أفتراه يوصيهم بمجهول، غير معلوم الماهية أو الحدود عندهم؟ و قد حصر وصيته بالكتاب الشريف، و أخبر صلّى اللّه عليه و سلّم أن «كتاب اللّه هو حبل اللّه الممدود من السماء إلى الأرض» «3» ليدل على عمومه و شيوعه، و صيرورته من العلم العام بينهم، فمن لم يحفظه عرف ماهيته الجملية و حدوده العامة، بخلاف الحديث النبوي الذي لا يعلمه إلا الخاصة غالبا، و قد يعترض معترض هاهنا بقول النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «ألا إني أوتيت الكتاب و مثله معه لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القران فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه و ما وجدتم فيه من حرام فحرموه...» «4»، فالحديث يدل على
__________________________________________________
(1) مسلم (4/ 1873)، مرجع سابق.
(2) مسند أحمد (3/ 82)، مرجع سابق، و صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/ 498)، مرجع سابق.
(3) مصنف ابن أبي شيبة (6/ 125) و صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (2/ 826).
(4) أبو داود (4/ 200)، مرجع سابق.(1/48)
حجية السنة، و هذا صحيح و ليس تقرير الباحث حول ذلك؛ إنما التقرير حول شيوع القران و صيرورته من العلم العام بين المسلمين و غيرهم، على أن هناك فرقا ضروريا بين علم القران و علم الحديث أن القران محدود معلوم و معروف يتردد في المحاريب أما الأحاديث فيعلمها الخاصة دون غيرهم.
3- القران هو معجزته التي قامت مقام العصا عند موسى عليه السّلام و أربت عليها، و قامت مقام إحياء الموتى عند عيسى عليه السّلام و أربت عليها... لذاك لا يعرض على الناس مسلمهم و كافرهم إلا القران... فصار شيوع العلم به، و بماهيته و حدوده كالعلم بهذه المعجزات... و قد ذكر النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ذلك فقال: «ما من الأنبياء نبيّ إلا أعطي ما مثله امن عليه البشر و إنّما كان الّذي أوتيت وحيا أوحاه اللّه إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» «1».
4- حديث القران عن نفسه حديث يدل على شدة ظهوره بين الناس، كما في قوله هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ (إبراهيم: 52)، وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (فصلت: 41- 42) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (الواقعة: 77- 78) وَ الطُّورِ (1) وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) (الطور: 1- 3) وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) (الشعراء: 196) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) (الأعلى: 18)، و قال: حم (1) وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) (الزخرف: 1- 2)، (الدخان: 1- 2).
و قال اللّه تعالى: وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا (الأعراف: 204) و قال سبحانه و تعالى: وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ
__________________________________________________
(1) البخاري (4/ 1905)، مرجع سابق.(1/49)
قالُوا أَنْصِتُوا (الأحقاف: 29). و قال اللّه سبحانه و تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (الجن: 1- 2).
5- تحديده كتابيا بشكل دقيق: حدد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم القران الكريم مكتوبا على صورة دقيقة؛ فكان القران- كلام اللّه المنزل- محصورا معلوما معروفا لا يعتريه ريب و لا التباس عند المسلمين و اليهود و النصارى و باقي العالمين، و هو الموجود بين الدفتين عندنا فيما عدا ما هو معلوم من أسماء السور، و التحزيب، و قد ورد تحديد هذا المنهج على لسان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و أنه بين دفتين قبل أن يجمع بين دفتين فقد قدم أبو جمعة الأنصاري صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بيت المقدس ليصلي فيه، فلما انصرف خرجوا معه ليشيعوه، فلما أرد الانصراف قال: إن لكم جائزة و حقا أن أحدثكم بحديث سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قلنا: هات رحمك اللّه قال: كنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و معنا معاذ بن جبل عاشر عشرة، و في لفظ: و معنا أبو عبيدة بن الجراح فقلنا: يا رسول اللّه هل من قوم أعظم منا أجرا؟ امنا بك و اتبعناك.
قال: «ما يمنعكم من ذلك و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بين أظهركم يأتيكم الوحي من السماء؟ بلى قوم يأتون من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين فيؤمنون به، و يعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجرا، أولئك أعظم منكم أجرا، أولئك أعظم منكم أجرا»»
.
__________________________________________________
(1) مسند الروياني (2/ 513)، الاحاد و المثاني (4/ 152)، الطبراني في الكبير (4/ 23). تنبيه: عظم الأجر لا يعني زيادة الفضل، إذ لا شك أن أجور من بعد الصحابة للصحابة مثلها إلى يوم القيامة كما ثبت في مسلم، فلا يبلغ أحد مد أحد الصحابة و لا نصيفه... و لعل الأجر المذكور على احاد الأعمال لا على جملتها...(1/50)
و ترى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم انتقل من ذكر الكتاب و تحديده بأنه بين لوحين إلى ذكر الإيمان به و العمل دلالة على ظهوره، و لا شك أن العمل به لا يكون إلا عن معرفته أي معرفة ما فيه.
و (علم القران) هو المصطلح العلمي المعروف لعلوم القراات و التجويد عند السلف:
فقد قال أهل العلم في تقسيم العلم: «العلوم الاعتقادية إما متعلقة بالنقل، أو فهم المنقول و تقريره و تشييده بالأدلة، أو استخراج الأحكام المستنبطة، فالنقل إن كان مما أتى به الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بواسطة الوحي فهو علم القران...» «1»، و قد يطلق على علم القران علم القراءة كما يكثر هذا الاصطلاح في كشف الظنون «2».
__________________________________________________
(
1) أبجد العلوم، الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم 1/ 98. تنبيه: استخدم الباحث هذا المصطلح العلمي- علم القران- بدلا من مصطلح علم القراءة لانصراف الذهن عند سماع هذا الأخير إلى علم القراات مع أن نقل القران يدخل فيه دخولا أوليا و انظر ورود مصطلح علم القران على ألسنة العلماء مثلا في: (الهروي) أبو عبيد القاسم بن سلام ت 224 ه: غريب الحديث (2/ 12)، تحقيق: د. محمد عبد المعيدخان، دار الكتاب العربي، بيروت، 1396 ه، و كذلك في: (ابن الجوزي) أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي إبن عبيد اللّه بن حمادي بن أحمد بن جعفر ت 597 ه: غريب الحديث (2/ 37)، تحقيق: د. عبد المعطي أمين قلعجي دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1985 م، لسان العرب (9/ 41)، مرجع سابق، و في (11/ 130) قال ابن منظور تعليقا على حديث «إن من العلم جهلا»: «قيل و هو أن يتعلم ما لا يحتاج إليه كالنجوم و علوم الأوائل و يدع ما يحتاج إليه في دينه من علم القران و السنة»، و انظر: (ابن النديم) محمد بن إسحاق أبو الفرج ت 385 ه: الفهرست (1/ 128، 1/ 326)، دار المعرفة، بيروت، 1398 ه- 1978 م، و تكرر هذا المصطلح في أبجد العلوم كثيرا، انظر: (2/ 52، 2/ 106، 2/ 303...)، مرجع سابق.
(2) انظر: كشف الظنون (1/ 11، 1/ 15، 3/ 1317)، مرجع سابق.(1/51)
و يتضح أن (علم القران) هو أساس بقية العلوم:
في تقديم التلاوة على تعليم الكتاب و الحكمة، فقد تكرر بذلك تعليم القران في التلاوة ثم في تعليم الكتاب لأن تعليم ألفاظ القران تدخل في ذلك دخولا أوليا، فهو أساس وظائف النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، فالتلاوة أساس التعليم، و التعليم أساس التزكية كما في قوله عزّ و جلّ وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى إذ كان المطلوب من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أن يقرئ ابن أم مكتوم رضي اللّه عنه، و كان علم نقل اللفظ القراني أساس العلوم الشرعية الاخرى و عليها تأسس بناؤها ثم شمخ و اشمخر، فالألفاظ أساس التفسير، و المباني أوعية المعاني، و لذا عرفوا علم التفسير بما يفيد شمول نقل علم اللفظ القراني: فقالوا: «هو العلم الباحث عن أحوال ألفاظ كلام اللّه سبحانه و تعالى من حيث الدلالة على مراد اللّه تعالى» «1»، ففي كل ذلك يكون علم القران في مقدمات مصادر علم التفسير.
و كون الإقراء هو الأساس بالنسبة إلى تعليم العلوم الاخرى:
مما عرفه السلف فقد سئل ابن محيريز عن مسألة فقال للسائل: ما تصنع بالمسائل؟ قال: لولا المسائل لذهب العلم قال: لا تقل ذهب العلم، إنّه لا يذهب العلم ما قرئ القران ولكن لو قلت يذهب الفقه، و عن الوليد بن مسلم قال: كنا إذا جالسنا الأوزاعي فرأى فينا حدثا قال: يا غلام! قرأت القران؟ فإن قال: نعم قال: اقرأ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ (النساء: 11)، و إن قال: لا! قال: اذهب تعلم القران قبل أن تطلب العلم، و عن أبى هشام الرفاعي يقول:
كان يحيى بن يمان إذا جاءه غلام أمرد استقرأه رأس سبعين من الأعراف، و رأس سبعين من يوسف فإن قرأه حدّثه و إلا لم يحدثه «2».
__________________________________________________
(1) انظر: كشف الظنون (1/ 427)، مرجع سابق.
(2) الجامع لأخلاق الراوي و اداب السامع (1/ 80).(1/52)
و مجالس العلم التي كان يحييها الصحابة رضي اللّه عنهم تنصرف في الغالب للإقراء:
و غيره يأتي تبعا فقد قال بعض أصحاب عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال: كنا جلوسا عند عبد اللّه بن مسعود و هو يقرئنا القران فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبد اللّه ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك.. «1».، و عن أبي رجاء العطاردي قال: كان أبو موسى يقرئنا يجلسنا حلقا حلقا عليه ثوبان أبيضان، فإذا قرأ هذه السورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) (العلق: 1) قال: «هذه الاية أول سورة أنزلت على محمد صلّى اللّه عليه و سلّم» «2».
و من ناحية عقلية:
فقد اجتمعت ثلاثة أمور توجب في الضرورة العقلية البدء بتعليم ألفاظ القران الكريم، و صرف الأوقات إليه:
أحدها «من جهة الموضوع فإن موضوعه كلام اللّه تعالى الذي هو ينبوع كل حكمة و معدن كل فضيلة.
و ثانيها من جهة الغرض فإن الغرض منه الاعتصام بالعروة الوثقى و الوصول إلى السعادة الحقيقية التي هي الغاية القصوى.
و ثالثها من جهة شدة الحاجة فإن كل كمال ديني أو دنيوي مفتقر إلى العلوم الشرعية و المعارف الدينية و هي متوقفة على العلم بكتاب اللّه تعالى» «3» و لأن ألفاظ القران الكريم تكون حقيقة (القران) و ماهيته، فهي أول العلم بكتاب اللّه و دينه مما يجعل تحديده يظهر ظهورا عاما على مستويين إجمالي، و تفصيلي.
__________________________________________________
(1) أحمد (1/ 398)، مرجع سابق.
(2) مجمع الزوائد (7/ 139)، مرجع سابق، و قال: «رواه الطبراني و رجاله رجال الصحيح».
(3) أبجد العلوم (1/ 175)، مرجع سابق.(1/53)
من جهة أخرى: تنقسم العلوم الشرعية إلى نقلية و عقلية «و أصناف العلوم النقلية كثيرة؛ لأن المكلف يجب عليه أن يعلم أحكام اللّه سبحانه و تعالى المفروضة عليه و على أبناء جنسه، و هي مأخوذة من الكتاب و السنة بالنص أو بالإجماع أو بالإلحاق، فلا بد من النظر في الكتاب ببيان ألفاظه أولا، و هذه هي علوم أداء الألفاظ القرانية من تلقين و تجويد و إقراء.
ثم بإسناد نقله و روايته إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم الذي جاء به من عند اللّه سبحانه و تعالى و اختلاف روايات القراء في قراءته و هو علم القراات...» «1».
تعريف القران (المنهج التعليمي):
و على هذا فكتاب اللّه سبحانه هو كلامه، و هو القران الذي نزل به جبريل عليه السلام على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و لا يعترض على هذا بأن البعض قد ذهبوا إلى أن الكتاب غير القران، إذ هذا القول على غرابة فلسفته عن الدين، فهو مخالف لصريح القران الكريم؛ إذ يقول اللّه تعالى: وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَ إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (الأحقاف: 29- 30)، و قال فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (الجن: 1) فأخبر اللّه تعالى أنهم استمعوا القران و سموه قرانا و كتابا، و قال تعالى: حم (1) وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (الزخرف: 1- 3) سماه قرانا و كتابا و هذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين و هو «ما نقل إلينا بين دفتي المصحف نقلا متواترا، و قيدناه بالمصحف
__________________________________________________
(
1) و انظر: كشف الظنون (1/ 40)، مرجع سابق، و الكلام مأخوذ منه بتصرف و تغيير بما يوافق رؤية الباحث.(1/54)
لأن الصحابة رضي اللّه عنهم بالغوا في نقله و تجريده عما سواه حتى كرهوا التعاشير و النقط كيلا يختلط بغيره فنعلم أن المكتوب في المصحف هو القران و ما خرج عنه فليس منه؛ إذ يستحيل في العرف و العادة مع توفر الدواعي عل حفظ القران أن يهمل بعضه فلا ينقل أو يخلط به ما ليس منه» «1»، واحد أول القران و اخره من بدهيات الإسلام، فالقران هو الكتاب، و هو قول اللّه، و هو «الذي أجمع المسلمون عليه من السور و الايات في القران» «2».
المطلب الرابع: قيامه بوظيفة تعليم القران على أوسع نطاق:
تقدمت الإشارة إلى أن التلاوة وظيفة تعليمية بحد ذاتها، أضيف لها وظيفة التعليم التفصيلي للكتاب و الحكمة... فصار ملخص ذلك أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إنما بعث معلما و هو ما ذكره النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في قوله: «إن اللّه لم يبعثني معنتا و لا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا» «3»... و لذا قام بوظيفة تلاوة الكتاب و تعليمه على أوسع نطاق:
تلاوته صلّى اللّه عليه و سلّم على المشركين:
أما تلاوته صلّى اللّه عليه و سلّم القران على المشركين، فمن مؤشراته ما تقدم من ايات و أحاديث، و قد قرأ النبي صلّى اللّه عليه و سلّم سورة النجم على أهل مكة مسلمهم و كافرهم، فسجد فيها و سجد من معه «4»...
__________________________________________________
(1) (ابن قدامة) موفق الدين أبي محمد عبد اللّه بن أحمد بن قدامة المقدسي الدمشقي ت 620 ه: روضة الناظر و جنة المناظر (2/ 62)، مكتبة المعارف- الرياض.
(2) (الجويني) عبد الملك بن عبد اللّه بن يوسف أبو المعالي إمام الحرمين ت 478 ه: البرهان في أصول الفقه (1/ 366)، تحقيق: د. عبد العظيم محمود الديب، دار الوفاء، المنصورة- مصر، 1418 ه، ط 4.
(
3) مسلم 2/ 1104، مرجع سابق.
(4) البخاري 1/ 363، مرجع سابق.(1/55)
تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم القران للمسلمين:
و أما إقراؤه للمسلمين، فذلك دأبه و دينه، فكان يقرئ من استطاع من المسلمين بنفسه، و ذلك ظاهر، و هو ما يشغل معظم يومه و ليلته: فعن عبد اللّه بن عمرو رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مر بمجلسين في مسجده، فقال: «كلاهما على خير و أحدهما أفضل من صاحبه أما هؤلاء فيدعون اللّه و يرغبون إليه فإن شاء أعطاهم و ان شاء منعهم و اما هؤلاء فيتعلمون الفقه و العلم و يعلمون الجاهل فهم أفضل و إنما بعثت معلما» قال ثم جلس فيهم «1»، و قد سبق أن رأس التعليم الذي بعث له صلّى اللّه عليه و سلّم تعليم القران الكريم، و صرح النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بذلك في قوله: «خيركم (و في لفظ: إن أفضلكم) من تعلم القران و علمه» «2» و التعليم ليس إلا الإقراء كما ثبت في الرواية الاخرى «خيركم من قرأ القران و أقرأه» «3» و كمثل تطبيقي على ذلك فإن سعد بن أبي وقاص روى أن رسول اللّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «خياركم من تعلم القران، و علم القران» ثم قال الراوي عن سعد: فأخذ بيدي و أقعدني هذا المقعد أقري «4».
و عن أنس رضي اللّه عنه قال: أتى أبو طلحة أم سليم و هي أم أنس فقال: عندك يا أم سليم شى ء؟ فإني مررت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و هو يقرئ أصحاب الصفة سورة النساء و قد ربط على بطنه حجرا من الجوع... الحديث «5».
__________________________________________________
(1) ابن ماجه (1/ 83)، الدارمي (1/ 111)، مرجعان سابقان.
(2) البخاري (4/ 1919)، مرجع سابق.
(3) الطبراني في الكبير (10/ 161) عن ابن مسعود.
(4) سنن سعيد بن منصور (1/ 102)، مرجع سابق، الدارمي (2/ 529)، مرجع سابق.
(5) الطبراني في الأوسط (3/ 267)، مرجع سابق.(1/56)
و قد كان جبريل عليه السّلام يقرئه الايات فيقرئ أصحابه من فوره و لئن سألوه عن المعنى لأحرى أن يستوثقوا من اللفظ قبل المعنى و من ذلك ما ذكره أبو سعيد الخدري: لما نزلت وَ جِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ (الفجر: 23) تغير لون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و عرف في وجهه حتى أشتد على أصحابه ثم قال: أقرأني جبريل كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَ جِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ (الفجر: 21- 23).. «1»..
و قد كان القراء و المقرئون أحب الناس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقد سمع علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ضجة في المسجد يقرؤون القران و يقرئونه فقال: طوبى لهؤلاء! هؤلاء كانوا أحب الناس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «2».
إرساله صلّى اللّه عليه و سلّم المقرئين لتأدية الوظيفة:
من لم يستطع صلّى اللّه عليه و سلّم أن يقرئه أرسل إليه المعلمين للقران الكريم إلى مختلف الأصقاع كوظيفة أساسية في بدء نشر الإسلام في أي منطقة: فعن أبي موسى رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بعث معاذا و أبا موسى إلى اليمن فأمرهما أن يعلّما النّاس القران «3»، و إلى المدينة أرسل مصعب بن عميرو هو المقرئ الذي بعثه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى الأنصار يقرئهم القران بالمدينة قبل قدوم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فأسلم معه خلق كثير «4».
__________________________________________________
(1) انظر: القرطبي (20/ 55).
(2) رواه الطبراني في الأوسط (7/ 214).
(3) حلية الأولياء و طبقات الأصفياء (1/ 256).
(4) الحاكم (3/ 728)، مرجع سابق.(1/57)
و كذلك كان يفعل مع البلاد المفتوحة، و من ذلك أنه لما فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مكة استخلف عليها عتاب بن أسيد يصلي بهم و خلف معاذا يقرئهم و يفقههم «1».
و عن أنس رضي اللّه عنه أن أهل اليمن قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالوا: ابعث معنا رجلا يعلّمنا كتاب ربّنا و السّنّة قال فأخذ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بيد أبي عبيدة فدفعه إليهم و قال: «هذا أمين هذه الأمّة» «2»، و يعني باليمن هنا أهل نجران.
داخل بيته صلّى اللّه عليه و سلّم: و قد قام بذلك خير قيام داخل بيته كما قام خارجه: فقد كان الوحي ينزل داخل بيوت النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و القران يتلى كما قال سبحانه و تعالى: وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَ الْحِكْمَةِ (الأحزاب: 34) ف آياتِ اللَّهِ القران و وَ الْحِكْمَةِ السنة «3».
تعيينه صلّى اللّه عليه و سلّم عرفاء الإقراء:
و كان لضرورة إقرائه القران الكريم يدفع من قدم عليه إلى إمام من أئمة الإقراء فعن عبادة بن الصّامت رضي اللّه عنه قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يشغل فإذا قدم رجل مهاجر على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، دفعه إلى رجل منّا يعلّمه القران، فدفع إليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم رجلا، و كان معي في البيت أعشّيه عشاء أهل البيت فكنت أقرئه القران...» «4»، و هذا يدل أيضًا على مقدار اعتناء الصحابة بحفظ القران الكريم، و تعلمه و تعليمه.
__________________________________________________
(1) سير أعلام النبلاء (1/ 447).
(2) الحاكم (3/ 299)، مرجع سابق، و قال: «صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه بذكر القران».
(3) تفسير الجلالين (ص 554)، دار الحديث، القاهرة، ط 1، و انظر: القرطبي (14/ 182)، الطبري (22/ 9).
(4) أبو داود (3/ 265)، الحاكم (3/ 401)، أحمد (5/ 324).(1/58)
إقراؤه صلّى اللّه عليه و سلّم للجن:
حتى أقرأ الجن القران كما فعل مع الإنس فهو مرسل إلى الثقلين: فقد سئل علقمة تلميذ ابن مسعود: هل كان ابن مسعود شهد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ليلة الجن؟
قال فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ليلة الجن؟ قال: لا ولكنا كنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ذات ليلة، ففقدناه فالتمسناه في الأودية و الشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل. قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا: إذا هو جاء من قبل حراء، قال: فقلنا: يا رسول اللّه فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم؟ فقال: «اتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القران» «1» و معنى عدم حضوره الوارد في قوله: لم أكن ليلة الجن مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و وددت أني كنت معه «2» أي قربه مع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في المكان ذاته.
و قد بين النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أن داعي الجن جاءه فأمره اللّه بالإجابة كما في رواية لابن حبان عن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «أمرت الليلة أن أقرأ على الجن واقفا بالحجون» «3».
و قد اهتم الجن لذلك و فرحوا به حتى كادوا يكونون عليه لبدا فعن ابن عباس رضي اللّه عنه في الاية قال: «لما سمعوا النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يتلو القران كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه و دنوا منه... و هو يصلي بأصحابه يركعون بركوعه و يسجدون بسجوده، فعجبوا من طواعية أصحابه فقالوا: لقومهم لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ
__________________________________________________
(1) مسلم (1/ 332)، مرجع سابق، و تتمته: قال: فانطلق بنا فأرانا اثارهم، و اثار نيرانهم...).
(2) مسلم (1/ 333)، مرجع سابق.
(3) موارد الظمان إلى زوائد ابن حبان (1/ 438).(1/59)
كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (الجن: 19)» «1»... ألا يكون الفرح في الإنس بكتاب اللّه أولى و أحرى.
و لم تكن قراءته صلّى اللّه عليه و سلّم عليهم لمرة واحدة بل تكررت فعن جابر رضي اللّه عنه قال:
خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى اخرها فسكتوا فقال: «لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم كنت كلما أتيت على قوله فبأي الاء ربكما تكذبان قالوا لا بشي ء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد» «2»... فأين مردود الإنس- أخي- أين؟.
أمره صلّى اللّه عليه و سلّم للصحابة رضي اللّه عنه و من بعدهم بتعليم القران و تبليغ الاي:
فعن أبي أمامة رضي اللّه عنه قال: أمرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بتعليم القران وحثنا عليه..
الحديث «3»، و عن عبد اللّه بن عمرو رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «بلغوا عني و لو اية»»
.
و كان الصحابة رضي اللّه عنهم يعرض بعضهم القران على بعض، فعن ابن عباس رضي اللّه عنه قال: كنت أقرئ عبد الرحمن بن عوف.. «5»..
و نعى صلّى اللّه عليه و سلّم على قوم عدم قيامهم بواجب التعليم العام فكيف يذهب التصور بشأن التعليم القراني؟، فعن عبد الرحمن بن أبزى رضي اللّه عنه قال:
__________________________________________________
(1) تفسير الشوكاني (5/ 313)، دار الفكر، بيروت... و هذا على أحد التفسيرين الواردين في الاية، و انظر: مفاتح فهم القران (ص 573).
(2) الترمذي (5/ 399).
(3) و قال في مجمع الزوائد (7/ 159)، مرجع سابق: «رواه الطبراني و فيه سويد بن عبد العزيز و هو متروك و أثنى عليه هشيم خيرا و بقية رجاله ثقات».
(4) البخاري (3/ 1275)، مرجع سابق، و تتمته: «و حدثوا عن بني إسرائيل و لا حرج و من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار».
(5) البخاري (6/ 2670)، مرجع سابق.(1/60)
«خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ذات يوم، فحمد اللّه و أثنى عليه، ثم ذكر طوائف من المسلمين فأثنى عليهم خيرا، ثم قال: «ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم؟ و لا يعلمونهم؟ و لا يفطنونهم؟ و لا يأمرونهم؟ و لا ينهونهم؟ و ما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم؟ و لا يتفقهون؟ و لا يتفطنون؟ و اللّه ليعلمن قوم جيرانهم، و يفقهونهم، و يفطنونهم، و يأمرونهم، و ينهوهم، و ليتعلمن قوم من جيرانهم، و يتفقهون، و يتفطنون، أو لأعاجلنهم العقوبة في الدنيا».
ثم نزل فدخل بيته، فقال قوم: من ترونه عني بهؤلاء؟ قالوا: نراه عنى الأشعريين، هم قوم فقهاء، و لهم جيران جفاة من أهل المياه و الأعراب، فبلغ ذلك الأشعريين، فأتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فقالوا: يا رسول اللّه، ذكرت قوما بخير، و ذكرتنا بشر، فما بالنا؟
فقال: «ليفقهن قوم جيرانهم، و ليفطننهم، و ليأمرنهم، و لينهونهم، و لتيعلمن قوم من جيرانهم، و يتفطنون، و يتفقهون، أو لأعاجلنهم العقوبة في الدنيا» فقالوا:
«يا رسول اللّه أنفطن غيرنا؟» فأعاد قوله عليهم، فأعادوا قولهم: أنفطن غيرنا؟
فقال ذلك أيضا.
فقالوا: «أمهلنا سنة، فأمهلهم سنة ليفقهوهم، و يعلموهم، و يفطنوهم».
ثم قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم هذه الاية: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (المائدة: 78- 79) «1».
__________________________________________________
(
1) الحديث قال فيه الألباني: «ضعيف...»، انظر: (الألباني) محمد ناصر الدين: أحاديث المزارعة و المؤاجرة و الرد على المفترين على الصحابة و التابعين و العلماء (ص 41) ضمن كتاب البرهان في رد البهتان و العدوان، و انظر: عبد الفتاح أبو غدة: الرسول المعلم و أساليبه في التعليم (ص 15)، و قد(1/61)
[حثه ص تعليم الأجيال الناشئة القرآن الكريم أولا]
و كان صلّى اللّه عليه و سلّم يحث على أن تعلّم الأجيال الناشئة القران الكريم أول ما تعلّم:
فعن بريدة بن الحصيب رضي اللّه عنه قال: كنت جالسا عند النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فسمعته يقول: «تعلموا البقرة... و إن القران يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب فيقول هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك فيقول: أنا صاحبك القران الذي أظمأتك في الهواجر و أسهرت ليلك، و إن كل تاجر من وراء تجارته و إنك اليوم من وراء كل تجارة فيعطى الملك بيمينه و الخلد بشماله و يوضع على رأسه تاج الوقار و يكسى والداه حلتين لا تقوم لهما الدنيا فيقولان:
عم كسينا هذا فيقال: بأخذ ولد كما القران، ثم يقال: اقرأ و اصعد في درج الجنة و غرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ حدرا كان أو ترتيلا» الحديث «1».
و عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «يجي ء القران يوم القيامة كالرجل الشاحب يقول لصاحبه: هل تعرفني أنا الذي كنت أسهر ليلك و أظمئ هواجرك و إن كل تاجر من وراء تجارته و أنا لك اليوم من وراء كل تاجر فيعطى الملك بيمينه و الخلد بشماله و يوضع على رأسه تاج الوقار و يكسى والداه حلتين لا تقوم لهما الدنيا و ما فيها فيقولان يا رب أنى لنا هذا فيقال لهما بتعليم ولد كما القران» «2».
__________________________________________________
قال في تخريجه: قال الحافظ ابن السكن: «إسناد هذا الحديث صالح» كما نقله في «كنز العمال» (3: 685)، و قال الحافظ المنذري: رواه الطبراني في «الكبير»، و قال الحافظ الهيثمي: «و فيه بكير بن معروف»، قال البخاري: أرم به، و وثقه أحمد في رواية، و ضعفه في أخرى، و قال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به فعلى هذا يكون سند الحديث ضعيفا إن لم نعتد بالرواية عن أحمد في توثيقه، و إن اعتددنا بها فهو حديث حسن أو يقارب الحسن. و هذا الذي جزم به الحافظ المنذري في «الترغيب و الترهيب» فإنه أورده بلفظ «عن علقمة...» الرسول المعلم (ص 17).
(1) الحاكم (1/ 756)، الدارمي (2/ 543)، مرجعان سابقان.
(2) روى الدارمي نحوه 2/ 543، أحمد 5/ 348.(1/62)
و عن معاذ بن أنس رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال: «من قال سبحان اللّه العظيم نبت له غرس في الجنة، و من قرأ القران فأكمله و عمل بما فيه ألبس والداه تاجا هو أحسن من ضوء الشمس في بيوت من بيوت الدنيا لو كانت فيه فما ظنكم بالذي عمل به» «1»، و عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «ما من رجل يعلم ولده القران في الدنيا إلا توج أبوه يوم القيامة بتاج في الجنة يعرفه به أهل الجنة بتعليم ولده القران في الدنيا» «2».
و الأحاديث يعضد بعضها بعضا، و هي تدل بدلالة الإشارة على الحض الشديد للوالدين على تعليم أولادهم القران، و تحفيظهما إياه و ما يستتبع ذلك من العمل به، و هذا يوحي بضرورة أن تكون مادة القران الكريم جزا مستقلا من التعليم العام و التعليم العالي، و أن تكون مادة ملزمة لسائر التخصصات، مع تفاوت الكمية المناسبة لكل بحسبه كلما أنتهي من جزء لفظي أو معنوي انتقل إلى غيره بحيث يبقى الجيل المسلم على صلة لا تنقطع بها.
و لذلك كله كان تعلم القران بدهية في حياة الصحابة رضي اللّه عنهم حتى صار مقياسا لغيره كما قال عمر رضي اللّه عنه: تعلموا الفرائض و اللحن و السنة كما تعلمون القران «3».
__________________________________________________
(1) أبو داود (2/ 170)، مرجع سابق.
(2) الطبراني في الأوسط (1/ 100).
(3) سنن البيهقي الكبرى (6/ 209).(1/63)
من المقتضيات المنهجية التعليمية لذلك في خطط التنمية الأساسية في البلاد الإسلامية:
1- رسم خطط استراتيجية في مجالات التربية و التعليم و التوجيه و الثقافية و العلاقات الخارجية تشمل كيفية تبليغ القران الكريم و تعليمه، و الوصول إلى حد الاكتفاء من المتخصصين في جوانبه المختلفة، و فروعه الدقيقة.
2- متابعة بعث المتقنين من القراء إلى الافاق للتأكد من نشر القران و معرفة الواجب منه على الأقل، و من تسلسل المنهجية عند عمر رضي اللّه عنه في ذلك ما جاء عن أبي موسى رضي اللّه عنه أنّه قال حين قدم البصرة: بعثني إليكم عمر بن الخطّاب أعلّمكم كتاب ربّكم، و سنّتكم، و أنظّف طرقكم «1».
3- الاعتزاز و الافتخار بوظيفة معلم القران الكريم، و عدم التصاغر من قبل القائم بها، و أن يقذف في وعي الأمة و إدراكها مقدار جلالة هذه الوظيفة، فتتغير النظرة السائدة الان على ضالة وظيفة معلم الصبيان.
4- أن تعطى هذه الوظيفة حقها من الرعاية و الاهتمام سواء من حيث الرواتب الدائمة أو من حيث المحفزات المصاحبة، و حرصا عليها من الابتذال فيهتم بإعداد ملاكاتها التعليمية وفق بقية الصفات التي ستظهرها هذه الدراسة فتكون في مكانها اللائق.
هذا هو النبي صلّى اللّه عليه و سلّم... صارخ في برية التيه التي سيطرت على العالم: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً... أبلغه للصغير
__________________________________________________
(
1) الدارمي (1/ 149)، مرجع سابق، و في مجمع الزوائد (5/ 213)، مرجع سابق: «رواه الطبراني و رجاله رجال الصحيح».(1/64)
و الكبير، و الإنس و الجن، و الرجال و النساء، و الأعراب و الأعاجم... لم يترك تبليغ القول الثقيل في ليل أو نهار... فذا ميراثه.. فأين هم ورثته؟ أين ورثته؟... لكنّ النور الذي نزل عليك قد عمّ انتشر... يا رسول اللّه... ف:
كيف ترقى رقيك الأنبياء يا سماء ما طاولتها سماء
أمع الصبح للنجوم تجل أم مع الصبح للظلام بقاء
و إذا ما تلا كتابا من الله تلته كتيبة خضراء
حبذا عقد سؤدد و فخار أنت فيه اليتيمة العصماء(1/65)
المبحث الثالث: حكم تعلم القران الكريم و تعليمه:
و بعد ما تقدم لا بد من الخوض بشي ء من التفصيل الفقهي في حكم تعليم القران و تعلمه و ذلك في الجهتين اللتين تكونان الأمة، و هاتان الجهتان تشكلان مطلبين:
المطلب الأول: على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
المطلب الثاني: على الأمة.
المطلب الأول: حكم تعلم القران على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:
بعث النبي صلّى اللّه عليه و سلّم معلما، و كان أول أدب قراني أدبه ربه سبحانه و تعالى به هو قوله جل جلاله:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ (العلق: 1)، مع أنه ليس بقارئ و لا كاتب فيكون المراد بالقراءة التلاوة عن ظهر قلب... و على هذا يكون تعلم القران الكريم و تعليمه جزا من حقيقة كونه نبيا، و هو يمثل ماهية رسالته... فلا تتصور نبوته، و لا تتأتى حقيقة رسالته إلا بكونه متعلما للقران الكريم من جبريل عليه السّلام، معلما له للثقلين...
و هذا من أعظم أدلة وجوب حفظ القران عليه، و الحفظ يشكل أرقى صور تعلم كتاب اللّه تعالى، و لذا اشتد حرصه صلّى اللّه عليه و سلّم على استظهار القران و حفظه أنه كان يحرك لسانه فيه في أشد حالات حرجه و شدته حتى قال اللّه عزّ و جلّ فقال له في سورة القيامة لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
(القيامة: 16- 19)، و قال جل جلاله له في سورة طه وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) (طه: 114)، «و من هنا كان صلّى اللّه عليه و سلّم أول جامع للقران في قلبه الشريف، و سيد الحفاظ في عصره المنيف، و مرجع المسلمين في كل ما يعنيهم من أمر القران(1/66)
و علوم القران، و كان صلّى اللّه عليه و سلّم يقرؤه على الناس على مكث كما أمره مولاه و كان يحيي به الليل، و يزين الصلاة، و كان جبريل عليه السّلام يعارضه إياه في كل عام مرة و عارضه إياه في العام الأخير مرتين» «1».
و أما تفصيل ذلك فقد أشير إليه في كتاب تلقي النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ألفاظ القران الكريم للمؤلف.
المطلب الثاني: حكم تعلم القران الكريم و تعليمه على الأمة:
أول مسألة في هذا الموضوع تتعلق بحفظ القران: هل هو واجب على أمة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم؟
الجواب: نعم! و الأدلة ذاتها الواردة على وجوب حفظ النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عن ظهر قلب ترد هنا لعالمية الرسالة الزمانية و المكانية، و الأمة هي التي تحمل هذه الرسالة بعده صلّى اللّه عليه و سلّم.
[حقيقتان ]
و أما قوله سبحانه و تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (الحجر: 9)، و قوله جل جلاله لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ (الأنعام: 115) فخبر يدل على حقيقتين:
1- الحقيقة الخبرية:
حيث تكفل اللّه سبحانه و تعالى بالحفظ لكتابه فلا مبدل لكلماته، فتكفل اللّه بحفظه أي من كل ما يقدح فيه كالتحريف و الزيادة و النقصان و غير ذلك حتى أن الشيخ المهيب لو غير نقطة يرد عليه الصبيان و يقولون له- أيا كان-: الصواب كذا «2»، و أما التوراة فقال اللّه جل جلاله عن أحبارها بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ (المائدة: 44) «فجعل حفظه إليهم فضاع» كما قال
__________________________________________________
(1) (الزرقاني) الشيخ محمد عبد العظيم: مناهل العرفان في علوم القران (1/ 168)، ط 3، 1943 ه، دار إحياء الكتب العربية.
(2) انظر: روح المعاني (14/ 16)، مرجع سابق.(1/67)
سفيان بن عيينة «1»، و أما القران فاستحفظه أهله مع تكفل اللّه بالحفظ، فإن يتول قوم من أهله عن ذلك استبدل اللّه بهم غيرهم، ولكن الاستحفاظ عام على الأمة جميعا، و هذا معنى ما قرره أهل العلم من أن جمع القران عن ظهر قلب فرض كفاية، مما سيأتي تفصيله بعد قليل- إن شاء اللّه تعالى-.
2- الحقيقة الإنشائية:
حيث أمر اللّه جل جلاله عباده بأن يحاولوا التشرف بالدخول في الأدوات الواقعية التي يحفظ اللّه بها كتابه، و من هذا الباب فعل الشيخين أبي بكر و عمر رضي اللّه عنهم في الجمع الأول للمصحف بعد زمن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، و فعل عثمان رضي اللّه عنه في الجمع الثاني، و لم يقولوا قد تكفل اللّه بحفظه فلا شأن لنا.
و على هذا التقرير يكون «المختار أن حفظ القران و إبقاءه كما نزل حتى يأتي أمر اللّه تعالى بالإعجاز و غيره مما شاء اللّه عز و جل، و من ذلك توفيق الصحابة رضي اللّه عنهم لجمعه» «2».
و تعلم القران الكريم و تعليمه على الأمة:
أمران مجتمعان لا ينفكان؛ إذ الجامع بين تعلم القران و تعليمه مكمل لنفسه و لغيره جامع بين النفع القاصر و النفع المتعدي و لهذا كان أفضل الخلق كما قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «خيركم من تعلم القران و علمه» «3»، و هو من جملة من يدخل في قوله جل جلاله: وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (فصلت: 33) «و الدعاء إلى اللّه يقع بأمور شتى من جملتها تعليم
__________________________________________________
(1) القرطبي (10/ 6)، مرجع سابق.
(2) روح المعاني (14/ 16)، مرجع سابق.
(3) البخاري (4/ 1919)، ابن حبان (1/ 324)، الترمذي (5/ 173)، مراجع سابقة.(1/68)
القران، و هو أشرف الجميع و عكسه الكافر المانع لغيره من الإسلام كما قال سبحانه و تعالى:
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَ صَدَفَ عَنْها» «1».
و ثاني مسألة: ما هو المقدار الواجب حفظه على الأمة من القران الكريم؟
و الجواب: هذه المسألة ذات جهتين:
الجهة الأولى: تعلم شي ء من القران تؤدى به الصلوات:
فهذا فرض عين إجماعا قطعيا عند الأمة، و هو أمران: سورة الفاتحة، ثم أي قدر من القران يجزئ بعدها، فقد قرر أئمة الفقه أنه « (يجب) أن يحفظ (منه) أي القران (ما يجب في الصّلاة) أي الفاتحة على المشهور، أو الفاتحة و سورة على مقابله» «2»، و من أهم المؤشرات في هذا الموضوع أنه لا يوجد أحد من الأمة يسقط عنه ذلك إلا العاجز الذي ورد في مثله حديث ابن أبي أوفى رضي اللّه عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: إني لا أحسن من القران شيئا فعلمني شيئا يجزئني منه، فقال:
«قل سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله الا اللّه و اللّه أكبر» قال: هذا لربي فما لي؟
قال: «قل اللهم اغفر لي و ارحمني و ارزقني و عافني» «3»، و قول الرجل (إني لا أحسن) معناه لا أستطيع التعلم كما في قوله في الرواية الاخرى: يا رسول اللّه إني لا أستطيع أن أتعلم القران فعلمني ما يجزئني من القران «4» حتى أوجب بعض العلماء على من لم يتعلم القران إلا بعد زمن أن يعيد جميع صلواته التي صلاها قبل تعلمه إن وجد للتعلم سبيلا قبل ذلك فلم يتعلم، ففي حلية العلماء: «و اتسع الزمان له
__________________________________________________
(1) فتح الباري (9/ 76)، مرجع سابق.
(2) كشاف القناع عن متن الإقناع (1/ 429)، مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (1/ 500).
(3) ابن حبان (5/ 116)، مرجع سابق.
(4) صحيح ابن حبان (9/ 76)، مرجع سابق، ابن خزيمة (1/ 273)، مرجع سابق، أبو داود (1/ 220)، مرجع سابق.(1/69)
و وجد من يعلمه فصلى بغير القراءة وجب عليه إعادة ما صلى إذا تعلم القران و في قدر ما يعيده و جهان أصحهما أنه يعيد كل صلاة صلاها إلى أن تعلم» «1»، كما أوجبوا على الحائض المتحيرة مراجعة القران خوف النسيان «2»، و في هذا قرر أهل العلم أن تعليم الواجب العيني من القران واجب عيني تحرم عليه الأجرة، و اختلفوا فيما بعد ذلك.
الجهة الثانية: تعلم ما فوق ذلك و تعليمه:
ينبغي أن يشار هنا إلى أن مسألتي التعليم و التعلم مرتبطتان ارتباطا لا ينفك، فلا تفرد مسألة التعلم عن مسألة التعليم، و كل دليل لهذه هو دليل لأختها.
و الصورة العليا لهذه الجهة: أن يتعلم المرء جميع ألفاظ القران و أن يحيط بجوانبها اللفظية المختلفة، إذ «المقصود من التّعليم للقران أن يكون حفظا و إتقانا لقوانينه من إخفاء و إظهار و نحوهما و تعليم مخارج الحروف» «3»، فقد علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أن هذا فرض كفاية على الأمة، ولكن ثم نوع من التلاوة التي تقتضي التعليم و التعلم هو واجب عيني على المكلفين و هو القراءة لأقل شي ء لا يكون به القران مهجورا «4»،... و قرر ذلك السيوطي- رحمه اللّه تعالى- فقال: «اعلم أن حفظ القران فرض كفاية على الأمة صرح به الجرجاني في الشافي و العبادي و غيرهما...
و تعليمه أيضًا فرض كفاية» «5» و قال في كشف القناع: «و حفظه فرض كفاية
__________________________________________________
(1) حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء (2/ 92).
(2) حاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب (التجريد لنفع العبيد) (1/ 140)، المكتبة الإسلامية، ديار بكر- تركيا.
(3) (أطفيش) محمد بن يوسف بن عيسى أطفيش: شرح النيل و شفاء العليل (في الفقه الأباضي) (1/ 354).
(4) و هل تكفي القراءة في الصلاة لئلا يكون القران مهجورا؟ فيه نظر.
(5) الإتقان في علوم القران (1/ 264).(1/70)
إجماعا» «1»، و قال في حاشية البجيرمي: «تعلّم القران فرض كفاية بأن تحفظه على ظهر قلب» «2»، و قرر الزركشي- رحمه اللّه تعالى- أنه «إذا لم يكن في البلد أو القرية من يتلو القران أثموا بأسرهم» «3»، و هذا الذي عناه ابن الجزري- رحمه اللّه تعالى- بقوله: «تعلم القراءة فرض كفاية فإن لم يكن من يصلح له إلا واحد تعين عليه، و أن كان جماعة يحصل المقصود ببعضهم فإن امتنعوا كلهم أثموا، و إن قام به بعضهم سقط الحرج عن الباقين» «4»، و من جملة شواهد تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لهم ذلك غير ما تقدم:
1- علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أن اللّه سبحانه و تعالى يأمرهم بأن تكون حالة حفظ القران (تعلمه) و تعليمه هي صفتهم الدائمة كأمة في قوله سبحانه و تعالى: وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (ال عمران: 79)، فقد قال الضحاك في هذه الاية: «لا ينبغي لأحد أن يدع حفظ القران جهده فإن اللّه سبحانه و تعالى يقول:
وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ» «5».
2- علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أن اللّه عزّ و جلّ يأمرهم بقراءة القران و ذلك لا يكون دون تعليم و تعلم، و ذلك في قوله جل جلاله: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ (المزمل: 20)، فقد قيل في تأويلها: «إن المراد به قراءة القران في غير الصلاة» «6»، و الصحيح أن الأمر هنا فيه تفصيل فلا يقال بأنه للوجوب مطلقا و لا للاستحباب مطلقا بل هو للوجوب في حالتين:
__________________________________________________
(1) كشف القناع عن متن الإقناع (1/ 235) مرجع سابق.
(2) حاشية البجيرمي على الخطيب في الفقه الشافعي (تحفة الحبيب على شرح الخطيب) (1/ 229).
(3) تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي (8/ 150).
(4) منجد المقرئين و مرشد الطالبين (ص 14).
(5) تفسير القرطبي (4/ 122)، مرجع سابق.
(6) تفسير القرطبي (19/ 58)، مرجع سابق.(1/71)
الأولى: لأقل ما لا يطلق عليه هجرا للقران الكريم، و هذا في حق جميع الأمة.
الثانية: و للوجوب له جميعا على من يؤدى بهم فرض الكفاية، و للاستحباب فيما عدا ذلك، و قد قيل بأنه للوجوب مطلقا لأن المراد قراءته و لا يلزمه إذا قرأه و عرف إعجازه و دلائل التوحيد منه أن يحفظه «لأن حفظ القران من القرب المستحبة دون الواجبة» «1» و هذا قريب من التفصيل المذكور إن لم يكن هو. و أما مقدار ما تضمنه هذا الأمر من القراءة فورد فيه خمسة أقوال: أحدها جميع القران لأن اللّه تعالى يسره على عباده قاله الضحاك، الثاني ثلث القران حكاه جويبر، الثالث مائتا اية قاله السدي الرابع مائة اية قاله ابن عباس الخامس ثلاث ايات كأقصر سورة قاله أبو خالد الكناني» «2»، و الظاهر أن القدر المطلوب هو ما لا يعد به عرفا هاجرا للقران، و لا مستهينا به، على أن الترك الذي يسمى هجرا لا يحتاج إلى استحضار نية، بل العمل فيه دليل عليه، و إن لم يقصد... و سبب هذا الترجيح القرائن التي تتمثل بكل ما في هذا الكتاب من أدلة تبين عظمة القران و مكانته، و حرمة هجره.
3- وَ قالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (الفرقان: 30)، و مهجورا مفعول ثان أي صيروا القران مهجورا بإعراضهم عنه «3» بأن «تركوه و صدوا عنه و عنه صلّى اللّه عليه و سلّم: «من تعلم القران و علق مصحفه و لم يتعاهده و لم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقا به يقول يا رب عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني
__________________________________________________
(1) تفسير القرطبي (19/ 58)، مرجع سابق.
(2) تفسير القرطبي (19/ 58)، مرجع سابق.
(3) التبيان في إعراب القران (2/ 162).(1/72)
و بينه» «1»، فإن هجر القران أنواع و منها: هجر تعلمه ثم تلاوته، و سماعه و الإيمان به، و الإصغاء إليه «2».
و الاية توجب تعلم القران بطريق أسلوب الحكيم، حيث يظهر فيها التهديد على الهجر، و تسمية فاعله من المجرمين عند توضيح دعاء الرسول؛ إذ قال تعقيبا على دعاء الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم الذي جاء بصيغة شكوى: وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ (الفرقان: 31)، فبين أن من هجر القران فهو من أعداء الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، و أن هذه العداوة أمر لابد منه و لا مفر عنه» «3»، كما أن هذا الفعل فيه تشبه بالمشركين الذين هجروا القران و أعرضوا عنه و لم يسمعوا له فهم كما قال اللّه جل جلاله: وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ (الأنعام: 26) «4»؛ و لذا جاء عن الأوزاعى قال: كان يعجبهم النظر في المصحف بعد القراءة هنيهة، قال بعضهم:
و ينبغي لمن كان عنده مصحف أن يقرأ فيه كل يوم ايات يسيرة و لا يتركه مهجورا «5».
ملحوظة: يتضح من الدليلين السابقين أن حفظ القران أو النظر الدوري فيه ملزم لكل أفراد الأمة حتى لا يحدث الهجر له، و حتى يقرأ ما تيسر منه امتثالا للأمر الذي تكرر مرتين في اية واحدة هي الاية الأخيرة من سورة المزمل... دلالة على التأكيد و الأهمية مع إعلام اللّه عزّ و جلّ للقوم أنه يعلم تشتت أحوالهم الدنيوية، و على الرغم من ذلك فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ، و هذا أمر عام لكل قطاعات الأمة يتطلب بذل الوسائل المتاحة لتعميم التعليم القراني.
__________________________________________________
(1) تفسير البيضاوي (4/ 215)، مرجع سابق، و الحديث المذكور ذكره البيضاوي و لم أعثر عليه.
(2) و انظر: الفوائد (ص 82).
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية (4/ 106).
(4) و انظر: الطبري (19/ 9)، مرجع سابق.
(5) انظر: (الزركشي): البرهان في علوم القران (1/ 463).(1/73)
4- الأمر الصريح بتعلم كتاب اللّه سبحانه و تعالى، مع إجماع الأمة على أن الوجوب كفائي: و من هذه الأوامر: قوله «تعلموا القران، و اقرؤه (و في لفظ: فاقرؤوه، و في لفظ للترمذي: و أقرئوه «1»»...) فقوله (تعلموا القران) «أي لفظه و معناه» «2»، و الفاء في قوله (فاقرأوه) كحرف العطف (ثم) في قوله سبحانه و تعالى: وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ (هود: 3)، أي تعلموا القران، و داوموا تلاوته، و العمل بمقتضاه يدل عليه، و الدلالة في الحديث تصريحا و تشبيها واضحة على الأمر بتعلم القران و تعليمه، و إنما تترتب تلاوته و قراءته على ذلك.
5- أن ذلك التعلم و التعليم هو حقيقة الرسالة النبوية لسيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، توجد بوجوده، و تنتفي بانتفائه.. و هو قد أرسل للعالمين نذيرا كما في قول اللّه سبحانه و تعالى:
وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (الأنبياء: 107)، و الشي ء الذي أمر بتبليغه و الإنذار به هو القران كما في قوله جل جلاله: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (الفرقان: 1)، و ما سبق من إيضاح لحقيقة وظيفة البلاغ للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم يفصل هذا المعنى، و لأنه مات صلّى اللّه عليه و سلّم فلا يستطيع تجاوز حدود الزمان و المكان فإن أتباعه يدعون إلى سبيله قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي (يوسف: 108)، و هذا يدل على وجوب تعلم القران عليهم و تعليمه، و لذا خص الاية بذكر البلاغ في قوله (بلغوا عني و لو اية) مع أنه قد يبلغ غيرها من الأحاديث مثلا، و قد سبق أن تبليغ القران هو الأصل كما في قول اللّه جل جلاله: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ (الأنعام: 19)، و سمى اللّه جل جلاله القران بلاغا هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ (إبراهيم: 52).
__________________________________________________
(1) الترمذي (5/ 156)، مرجع سابق.
(2) تحفة الأحوذي (8/ 150)، مرجع سابق.(1/74)
6- كل أصل عقدي، أو حكم فقهي، أو قاعدة شرعية... يحتاج إلى القران، و يفتقر إليه، فأي دليل يساق على وجوب العلم، أو العمل بشي ء من ذلك هو دليل على وجوب تعلم القران الكريم، و تعليمه، و لذا قال ابن تيمية- رحمه اللّه تعالى-: «فإن إعانة المسلمين بأنفسهم و أموالهم على تعلم القران و قراءته و تعليمه من أفضل الأعمال» «1».
7- أن ذلك من النصيحة المطلوبة لكتاب اللّه سبحانه و تعالى كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم: «الدين النصيحة قلنا لمن قال للّه و لكتابه و لرسوله و لائمة المسلمين و عامتهم» «2»، كما قرر الطحاوي- رحمه اللّه تعالى-: «أنّ ذلك عندنا على تعليم كتابه...» «3».
8- و عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «تعلموا القران و علموه الناس...» «4»، و عن أبي هريرة رضي اللّه عنه و أبي بكرة نحوه «5» و رواه الدارقطني عن أبي سعيد أيضًا ولكنه قال: «تعلموا العلم...» بدلا من «القران» «6»، و بقية الحديث مثل حديث ابن مسعود... و هو يدل على ما هو معلوم من كون القران مصدر العلم و البصيرة و البيان.
9- و كتب معاوية إلى عبد الرحمن بن شبل أن علم الناس ما سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فجمعهم فقال إني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «تعلموا القران
__________________________________________________
(1) ابن تيمية (24/ 316)، مرجع سابق.
(2) البخاري معلقا (1/ 30)، مسلم (1/ 74)، ابن حبان (10/ 435)، الترمذي (4/ 324)، مراجع سابقة.
(3) (الطحاوي) أحمد بن محمد بن سلامة مشكل الاثار (2/ 300)، دار الكتب العلمية.
(4) رواه (النسائي) السنن الكبرى (4/ 63).
(
5) الطبراني في الأوسط (4/ 237)، مرجع سابق.
(6) سنن الدارقطني (4/ 82).(1/75)
فإذا علمتموه فلا تغلوا فيه و لا تجفوا عنه و لا تأكلوا به و لا تستكثروا به» فذكر الحديث «1».
و قد كثر في الأحاديث تكرار الأمر (تعلموا القران، تعلم كتاب اللّه...)
و نكتفي بما سبق.
معنى الكفائية في هذا الفرض:
أي «هل يشترط في كلّ ناحية، تعلّم واحد أو لا بدّ من جمع بحيث يظهر حفّاظه، أو لا بدّ في كلّ بلد من ذلك؟» «2»، بين أهل العلم أن معنى فرض الكفاية هنا «ألا ينقطع عدد التواتر فيه فلا يتطرق إليه التبديل و التحريف، فإن قام بذلك قوم يبلغون هذا العدد سقط عن الباقين و إلا أثم الكل، و تعليمه أيضًا فرض كفاية» «3»، بل ذكروا ضرورة الاحتياط بموت بعض هذا العدد أو نسيانهم؛ و مما قرروه هنا أنه ينبغي أن يكون حافظ القران كالقاضي و المفتي في لزوم وجودهما، و هذا مما يرفع من مكانة الحافظ، و يجعله شديد الاعتزاز بما عنده في غير غرور «4».
تفريعات على هذه المسألة:
استنبط العلماء من الأدلة السابقة و أمثالها عدة أمور تعليمية في المنهجية النبوية في علم القراءة، منها:
__________________________________________________
(1) أحمد (3/ 428)، شرح معاني الاثار (3/ 18)، مرجعان سابقان و قال في مجمع الزوائد (4/ 95)، مرجع سابق: «رواه أحمد و أبو يعلي باختصار و الطبراني في الكبير و الأوسط و رجاله ثقات»، و صححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (260)، مرجع سابق، و انظر: لمحات الأنوار رقم (507)، مرجع سابق.
(2) حاشية البجيرمي على الخطيب (1/ 345)، مرجع سابق.
(3) الإتقان (1/ 264)، مرجع سابق.
(4) حاشية البجيرمي على الخطيب (1/ 345)، مرجع سابق.(1/76)
1- قرروا أنه يجوز للحائض: «القراءة للتعلم لأن تعلم القران من فروض الكفايات و ينبغي لها جواز مس المصحف و حمله إذا توقفت قراءتها عليهما» «1».
2- أكدوا على تقديم حفظ القران على غيره من العلوم الكفائية فقد «سئل شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه اللّه تعالى-: أيّما طلب القران أو العلم أفضل؟ فأجاب: أمّا العلم الّذي يجب على الإنسان عينا كعلم ما أمر اللّه به، و ما نهى اللّه عنه، فهو مقدّم على حفظ ما لا يجب من القران، فإنّ طلب العلم الأوّل واجب، و طلب الثّاني مستحبّ، و الواجب مقدّم على المستحبّ. و أمّا طلب حفظ القران: فهو مقدّم على كثير ممّا تسمّيه النّاس علما: و هو إمّا باطل، أو قليل النّفع، و هو أيضًا مقدّم في التّعلّم في حقّ من يريد أن يتعلّم علم الدّين من الأصول و الفروع، فإنّ المشروع في حقّ مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القران، فإنّه أصل علوم الدّين» «2».
3- ولكن لابد للباحث أن يكرر أن المراد بحفظ القران هنا هو على المنهجية النبوية التي يقوم هذا البحث بتوضيحها لا على المنهجية السائدة من بتر المحفوظ عن معانيه أو العمل به على ما سيأتي تفصيله في الفصول القادمة- إن شاء اللّه تعالى-.
4- كما قرروا أن «تعلّم بواقي القران أفضل من صلاة التّطوّع» «3».
أثر ذلك في حياة الصحابة رضي اللّه عنهم:
ما سبق و أمثاله- و هو كثير «يحفز الهمم و يحرك العزائم إلى حفظ القران، و استظهاره و المداومة على تلاوته» «4» فضلا عن تعلم شي ء منه.
__________________________________________________
(1) انظر: حاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب (1/ 140)، مرجع سابق.
(2) الفتاوى الكبرى (1/ 212).
(3) بريقة محمودية (1/ 245)، مرجع سابق.
(4) مناهل العرفان (1/ 207)، مرجع سابق.(1/77)
و كان تعلم القران هو الأصل، بل هو بدهية إسلامية في مجتمع المسلمين، و يظهر هذا من قول عمر رضي اللّه عنه: تعلموا الفرائض و اللحن و السنة كما تعلمون القران «1»، فجعل تعلم القران هو الأصل الذي يتم بناء عليه القياس، فمن هنا هب الصحابة «هبة واحدة يحفظون القران و يفهمون القران و يعملون بالقران و ينامون و يستيقظون على القران، نقرأ في القران الكريم قوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (فاطر: 29- 30)، فتأمل كيف قدم تلاوة القران على إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة» «2»، و كانوا يقلون من الحديث عن رسول اللّه رضي اللّه عنه، «و كأن ابن عمر اتبع رأي أبيه في ذلك فإنه كان يحض على قلة التحديث عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لوجهين أحدهما خشية الاشتغال عن تعلم القران» «3».
تسلسل المنهجية:
و كان هذا هو منهج أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم مع تلاميذهم حثا على تعلم القران و تلاوته فقد كان عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه يقول: «تعلموا القران، و اتلوه، تؤجروا بكل حرف عشر حسنات أما إني لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف، و لام حرف، و ميم حرف» «4»، و عنه رضي اللّه عنه قال: «يا أيها الناس تعلموا القران فإن أحدكم لا يدري متى يخيل إليه»، و أتى بمصحف قد زيّن بذهب فقال رضي اللّه عنه: «إن أحسن ما زين به المصحف تلاوته بالحق» «5».
__________________________________________________
(1) الدارمي (2/ 441)، مرجع سابق، البيهقي في الكبرى (6/ 209).
(2) مناهل العرفان (1/ 205)، مرجع سابق.
(3) فتح الباري (13/ 243)، مرجع سابق.
(4) سعيد بن منصور في سننه (1/ 35)، ابن أبي شيبة (6/ 118)، مرجعان سابقان.
(
5) مصنف عبد الرزاق (4/ 323).(1/78)
كما حث أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على قراءة للقران يكون معها المرء غير هاجر لكتاب اللّه فقد أخرج ابن أبي داود عن ابن عمر رضي اللّه عنه قال: «إذا فرغ الرجل من حاجته ثم رجع إلى أهله ليأت المصحف فليفتحه فليقرأ فيه فإن اللّه سيكتب له بكل حرف عشر حسنات أما أني لا أقول أ لم و لكن الألف عشر و اللام عشر و الميم عشر»، و عن خباب بن الأرت رضي اللّه عنه قال: «إن استطعت أن تقرب إلى اللّه عز و جل فإنك لا تقرب إليه بشي ء أحب إليه من كلامه» «1».
و بذا تتوافر أدوات الحفظ الواقعي المعجز للقران الكريم، و هذا جعل واحدا من المستشرقين المعاصرين يقول عن القران الكريم: «فبين أيدينا كتاب معاصر فريد في أصالته و في سلامته لم يشك في صحته كما أنزل أي شك جدي، و هذا الكتاب هو القران، و هو اليوم كما كان يوم كتب لأول مرة تحت إشراف محمد، و على الرغم من أن الأفكار قد دونت في الرقاع و سعف النخل، و العظام في لحظات غريبة فالسور و الايات الأصلية قد حفظت... و هذا الكتاب ليس مجموعة أحاديث أو تقارير يفترض فيها أن محمدا قد قالها فهي نفس الايات التي أملاها بنفسه يوما بعد يوم، و شهرا بعد شهر خلال حياته... و المهم هو أن القران هو العمل الوحيد الذي عاش أكثر من اثني عشر قرنا دون أن يبدل فيه، و لا يوجد شي ء يمكن أن يقارن بهذا أدنى مقارنة في الديانة المسيحية» «2».
__________________________________________________
(1) الحاكم (2/ 494)، مرجع سابق.
(2) هو المستشرق الأمريكي (ف. بودلي). انظر: عماد الدين خليل (دكتور): الإسلام و الوجه الاخر للفكر الغربي (قراات) (ص 50)، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1418 ه/ 1997 م.(1/79)
الفصل الثاني: أصول تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أصحابه ألفاظ القران:
يناقش هذا الفصل أصول تعليم اللفظ القراني عند النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و هي تقوم على أربعة محاور:
تعليمهم كيف تعلم هو اللفظ القراني ليتم الاقتداء به في تلك الكيفية ما دامت في حدود الطاقة البشرية.
و الوسائل التي اعتمد عليها مكانا و أسلوبا و طريقة إدارة ليتم التعليم.
و وسائل النشر لقيام هذا التعليم باتساع أفقي و رأسي.
و القواعد التربوية الضرورية المصاحبة لتعليم اللفظ القراني.
و بها تتضح الهيئة الإدارية للجامعة القرانية النبوية، كما تتضح بعض ملامح مفردات المنهج العلمي فيها...
فهذه محاور أربعة في أربعة مباحث... و إليها تشد رحال أهل العزم من حملة القران و مقرئيه المصطفين الأخيار:(1/81)
المبحث الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم كيفية تعلمه لكلام الله القراني:
و فيه ثلاثة مطالب:
يبين هذا المبحث دقة ضبط النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه رضي اللّه عنهم لما يتعلق بألفاظ القران الكريم كما يبين تعلم الصحابة رضي اللّه عنهم ذلك من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و أنه علمهم كيف تلقى القران الكريم عن جبريل عليه السّلام عن اللّه عزّ و جلّ، ليقتدوا به في حدود قدرتهم البشرية، و لذا انقسم المبحث إلى ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم كيفية نزول ألفاظ القران و تلقيها.
المطلب الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم أماكن القراءة.
المطلب الثالث: مقتضيات ذلك: إلزامهم الاقتداء به في هيئة تلاوته لألفاظ القران الكريم.
المطلب الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم كيفية نزول ألفاظ القران و تلقيها:
علّم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أصحابه رضي اللّه عنهم التفاصيل الدقيقة التي أحاطت بالنزول القراني من السماء إلى الأرض حيث بين لهم زمن النزول، و مدته، و سببه: فعن ابن عباس رضي اللّه عنه قال: «أنزل اللّه القران إلى السماء الدنيا (في رمضان) في ليلة القدر، فكان اللّه إذا أراد أن يوحي منه شيئا أوحاه، أو أن يحدث منه في الأرض شيئا أحدثه» «1»، و مثل هذا لا يقال بمحض الرأي فله حكم الرفع، فهو تعليم منه صلّى اللّه عليه و سلّم لأنه أضافه إلى زمن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كما هو مقرر في مواضعه «2».
__________________________________________________
(1) الحاكم (2/ 240)، مرجع سابق، و قال: «هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه».
(2) انظر في هذه المسألة في كتب أصول الحديث: مثل تدريب الراوي في تقريب النواوي (1/ 185).(1/82)
و علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم اليوم و الشهر الذي نزل فيه القران، فالشهر كما في قوله عزّ و جلّ شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (البقرة: 185) و اليوم وصفا كما في قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ (الدخان: 3) و قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (القدر: 1) و اليوم تاريخا كما في قول اللّه سبحانه و تعالى: وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ (الأنفال: 41)، و اليوم تحديدا كما جاء عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أن رجلا قال له: يا رسول اللّه صوم يوم الاثنين؟ قال: «فيه ولدت، و فيه أنزل علي القران» «1».
و علمهم صلّى اللّه عليه و سلّم متى يكثر النزول: فقد تتابع الوحي قبل وفاته مثلا، فعن أنس ابن مالك رضي اللّه عنه: «أن اللّه عز و جل تابع الوحي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قبل وفاته حتى توفي أكثر ما كان الوحي يوم توفي رسول اللّه» «2»، و المراد بالنسبة لما كان ينزل سابقا، فالأمر نسبي على ما هو معلوم.
كما علمهم صلّى اللّه عليه و سلّم متى يقل كما في حديث عائشة: «ثم لم ينشب ورقة أن توفي، و فتر الوحي فترة حتى حزن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم» «3»، و عائشة رضي اللّه عنها لم تشهد ذلك، فيكون علمها بذلك عن تعليم تلقيني.
و تعلموا أماكن النزول، و هو ما يسمى بعلم المكي و المدني، و هو علم مستقل، فعن أبي أمامة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «أنزل القران في ثلاثة أمكنة مكة و المدينة و الشام» «4»، و لعله يعني بالشام- إن صح الحديث- أطراف الجزيرة حيث تبوك... كما ضبطوا الليلي و النهاري، و الصيفي و الشتائي «5».
__________________________________________________
(1) مسلم (2/ 820)، مرجع سابق.
(2) مسلم (4/ 2312)، مرجع سابق.
(3) البخاري (4/ 1894)، مرجع سابق.
(4) مجمع الزوائد (7/ 157)، مرجع سابق، و قال الهيثمي: «رواه الطبراني و فيه عفير بن معدان و هو ضعيف».
(5) انظر تفاصيل ذلك في: الإتقان (1/ 65)، مرجع سابق.(1/83)
و تعلموا كم بين نزول أول القران و بين اخره:
فقد قال ابن عباس رضي اللّه عنه: «فكان بين أوله و اخره عشرين سنة»، بل ضبطوا كيفية النزول في السماء، و مقدار النازل منه، فعن ابن عباس رضي اللّه عنه قال: «فصل القران من الذكر فوضع في بيت العزة في السماء الدنيا فجعل جبريل عليه السّلام ينزل على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم [يتلوه ] يرتله ترتيلا» قال سفيان: خمس ايات و نحوها «1»، و تعلموا مدة نزوله في كل مكان نزل فيه: فعن عائشة و ابن عباس رضي اللّه عنهم: «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لبث بمكة عشر سنين ينزل عليه القران و بالمدينة عشرا» «2».
و قد علمهم صلّى اللّه عليه و سلّم تفاصيل أدق من ذلك:
بعضها علموها من القران مباشرة، و بعضها منه صلّى اللّه عليه و سلّم حتى ضبطوا هيئة النزول: من حيث كمية المنزل الجملي إلى السماء الدنيا، و المنزل التفصيلي إلى الأرض، و علامات نزوله (سبب النزول)، و من ذلك- مثلا- ما جاء عن ابن عباس قال: «أنزل القران جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة» و قرأ: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ (الإسراء: 106) الاية و في رواية (فرّق في السنين)، و في أخرى: «وضع في بيت العزة في السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم» «3»، و عنه في اللّه عزّ و جلّ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (القدر: 1) قال: «أنزل القران جملة واحدة حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا، و نزله جبريل عليه السّلام على محمد صلّى اللّه عليه و سلّم بجواب كلام
__________________________________________________
(1) الحاكم (2/ 667)، و صححه، و وافقه الذهبي، و كذلك رواه الضياء في المختارة (10/ 154)، مرجع سابق.
(2) مسند الإمام الربيع بن حبيب (ص 284).
(3) فتح الباري شرح صحيح البخاري (9/ 4)، مرجع سابق.(1/84)
العباد و أعمالهم» «1»، و عنه قال: نزل القران جملة واحدة في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، و كان بموقع النجوم، و كان اللّه عزّ و جلّ ينزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بعضه في أثر بعض فقالوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً (الفرقان: 32) «2».
و علمهم صلّى اللّه عليه و سلّم كيف علمه اللّه سبحانه و تعالى قراءة القران و إقرائه كما في قول اللّه جل جلاله:
وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (المزمل: 4)، و قوله لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ (الإسراء: 106) «3».
و كان فقهاء الصحابة رضي اللّه عنهم يجمعون بين الأدلة وفق هذه القاعدة: فقد قال ابن عباس رضي اللّه عنه و سئل عن قوله إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (القدر: 1) و قوله شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (البقرة: 185) و هو ينزل في غيره- فقال:
«نزل به جبريل عليه السّلام جملة واحدة ثم كان ينزل منه في الشهور» «4».
و ذكر اللّه عزّ و جلّ ذلك التنجيم في كتابه تعليما للصحابة رضي اللّه عنهم ثم لمن بعدهم في الإسراء و الفرقان و الواقعة، و قد صرح بذلك في الواقعة عدد من المفسرين «5»، و يرجحه ذكر القران بعده و حفظه جملة في السماء «6»، فقد جاء «عن عكرمة في قول اللّه عزّ و جلّ فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (الواقعة: 75) قال: القران نزل جملة واحدة فوضع في مواقع النجوم فجعل جبريل عليه السّلام ينزل بالاية و الايتين و قال غيره: بمواقع النجوم بمساقط نجوم القران كلها أوله و اخره»، و من الحجة لهذا
__________________________________________________
(1) الطبراني في الكبير (12/ 32)، مرجع سابق.
(2) النسائي في الكبرى (6/ 519)، مرجع سابق.
(3) و انظر تفصيل ذلك في كتاب التلقي كاملا، مرجع سابق.
(4) التمهيد (17/ 50)، مرجع سابق.
(
5) أكد على ذكرها للخلاف الوارد في تفسير معنى المواقع، و الظاهر ألا مانع من إرادة المعنيين.
(6) و لا ينفي هذا المعنى الثاني.(1/85)
القول قوله عزّ و جلّ: وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (الواقعة: 76- 77).
كمية المنزل: الذي استقرئ من الأحاديث الصحيحة و غيرها أن القران كان ينزل بحسب الحاجة خمس ايات و عشرا و أكثر و أقل، و قد صح نزول العشر ايات في قصة الإفك جملة، و صح نزول عشر ايات من أول المؤمنون جملة، و صح نزول غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ (النساء: 95)، واحدها و هي بعض اية، و كذا قوله جل جلاله:
وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ (التوبة: 28) نزلت بعد نزول أول الاية و ذلك بعض اية، و أخرج ابن أشته في كتاب المصاحف عن عكرمة قال:
«أنزل اللّه القران نجوما ثلاث ايات و أربع ايات و خمس ايات» «1».
و كل هذا تعليم منه صلّى اللّه عليه و سلّم لكيفية نزول ايات القران عليه.
تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم كيفية تلقيه للقران:
و تم تعليمهم هذا النوع تعليما تفصيليا، و قد بحث في رسالة ماجستير تحت عنوان تلقي النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ألفاظ القران الكريم فيرجع إليه «2»، و قد قالت أم سلمة:
كان جبريل عليه السّلام يملي على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم «3»، أي يلقنه الحروف تلقينا بطيئا كهيئة المملي، و كما كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يتلقى من جبريل الحرف بعد الحرف، كذلك كان الصحابة منه صلّى اللّه عليه و سلّم.
و الحكمة الواضحة من هذا كله متابعة التعلم على هيئة متدرجة تمكّن أكبر قدر منهم على حفظ المنزل الجديد من القران.
__________________________________________________
(1) الإتقان (1/ 123)، مرجع سابق.
(2) تلقي النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ألفاظ القران الكريم، مرجع سابق.
(
3) رواه الطبراني في الأوسط (7/ 197)، مرجع سابق، و هو في مجمع الزوائد (7/ 157)، مرجع سابق.(1/86)
تسلسل المنهجية: و كذلك كان من بعدهم عنهم فقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: «قرأت على أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه القران كثيرا، و أمسكت عليه المصحف فقرأ علي، و أقرأت الحسن و الحسين حتى قرا عليّ القران، و كانا يدرسان على أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه فربما أخذ على الحرف بعد الحرف» «1».
المطلب الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم أماكن القراءة:
مكان القراءة الأساس هو المسجد فهو المقر الرئيس للجامعة النبوية القرانية، فعن عقبة بن عامر الجهنيّ رضي اللّه عنه قال: خرج علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يوما و نحن في الصّفّة، فقال: «أيّكم يحبّ أن يغدو إلى بطحان أو العقيق فيأتي كلّ يوم بناقتين كوماوين زهراوين فيأخذهما في غير إثم و لا قطع رحم؟ قال: قلنا: كلّنا يا رسول اللّه يحبّ ذلك قال: فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلّم ايتين من كتاب اللّه خير له من ناقتين، و ثلاث خير من ثلاث، و أربع خير من أربع و من أعدادهنّ من الإبل» «2».
و كان يحثهم على لزوم المسجد لذلك حثا شديدا:
فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «ما من قوم يجتمعون في بيت من بيوت اللّه عزّ و جلّ يقرؤن و يتعلّمون كتاب اللّه عزّ و جلّ يتدارسونه بينهم إلا حفّت بهم الملائكة، و غشيتهم الرّحمة، و ذكرهم اللّه فيمن عنده...» «3»، و كان صلّى اللّه عليه و سلّم يعلمهم أن ذلك جزء من وظيفة المسجد: فقد قال صلّى اللّه عليه و سلّم لهم معلما: «إن هذه المساجد لا تصلح لشي ء من هذا البول و لا القذر إنما هي لذكر اللّه عز و جل و الصلاة،
__________________________________________________
(1) كتاب السبعة في القراات (ص 68).
(2) مسلم (1/ 552)، مرجع سابق.
(3) مسلم (4/ 2074)، مرجع سابق.(1/87)
و قراءة القران...» الحديث «1»، و هذا يقتضي منهجيا: أن تقوم خطط المؤسسات القرانية الرسمية و غيرها على جعل المسجد هو المكان النموذجي للإقراء، و في حالة التوسع لا مانع من جعل دور القران دائرة حول المسجد أو ملتصقة به بطريقة أو بأخرى.
هل الإقراء منحصر في المسجد؟:
و كون المسجد هو المكان النموذجي لتعلم القران و تعليمه، لا يمنع ذلك من قراءة القران في أي مكان، و على أي حال، و يدل على ذلك حديث عبد اللّه ابن مغافل رضي اللّه عنه حيث قال: «رأيت النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يقرأ و هو على ناقته أو جمله و هي تسير به و هو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة لينة يقرأ و هو يرجع» «2»، ففيه دليل على «ملازمته صلّى اللّه عليه و سلّم للعبادة لأنه حالة ركوبه الناقة و هو يسير لم يترك العبادة بالتلاوة» «3»، و قد بوب البخاري لذلك: «باب القراءة على الدابة» «4» أي لراكبها، «و كأنه أشار إلى الرد على من كره ذلك»، و قال ابن بطال: «إنما أراد بهذه الترجمة أن في القراءة على الدابة سنة موجودة، و أصل هذه السنة قوله سبحانه و تعالى: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ (الزخرف: 13)» «5»، فالأمر واسع في اتخاذ أماكن الإقراء، و قد قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «إن البيت الذي يقرأ فيه القران يكثر خيره و البيت الذي لا يقرأ فيه القران يقل خيره» «6»، فالأصل أن كل مكان
__________________________________________________
(1) مسلم (1/ 236)، مرجع سابق.
(2) البخاري (4/ 1925)، مرجع سابق.
(3) فتح الباري (9/ 92)، مرجع سابق.
(4) البخاري (4/ 1921)، مرجع سابق.
(5) فتح الباري (9/ 83)، مرجع سابق.
(6) عبد الرزاق (3/ 369)، و له شواهد أخرجها صاحب لمحات الأنوار (1/ 280)، برقم (353) و ما بعده، مرجع سابق.(1/88)
صالح لقراءة القران و إقرائه كما أن الأرض جعلت للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم مسجدا و طهورا إلا ما ورد النص بالمنع من الصلاة فيه، فيمنع فيه من قراءة القران كذلك.
هل المسجد مناسب لتعليم الصبيان القراءة؟:
و لا يرد على هذا التقرير تعليم الصبيان و ما قد يجره من مفاسد تلويث المسجد و الضوضاء و التشويش على المصلين؛ إذ قد يمنع من ذلك لعارض لا لذات الأمر، و قد سئل ابن تيمية: هل تعليم القران بالمسجد من حيث هو حرام أم لا؟
فأجاب: إقراء القران في المسجد قربة عظيمة ففي الحديث الصّحيح «إنّما بنيت المساجد لذكر اللّه و الصّلاة و قراءة القران» قال تعالى: وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ (النور: 36) و هذا عامّ في إقراء البالغين و غيرهم بشرطهم الاتي، و أمّا ما راه مالك من كراهة القراءة في المصحف في المسجد، و أنّه بدعة أحدثها الحجّاج، و أن يقاموا إذا اجتمعوا للقراءة يوم الخميس أو غيره فهو رأي انفرد به و من ثمّ قال الزّركشيّ: «هذا استحسان لا دليل عليه، و الّذي عليه السّلف و الخلف استحباب ذلك لما فيه من تعميرها بالذّكر و قراءة القران للحديث الصّحيح، أي الّذي قدّمناه هذا كلّه حيث كان المتعلّمون مميّزين يؤمن منهم تنجيس المسجد و تقذيره و عدم التّشويش على المصلّين، فإن كان فيهم غير مميّزين لا يؤمن تنجيسهم أو تقذيرهم له حرم على المعلّم إدخالهم و على الحاكم- وفّقه اللّه و سدّده- زجره و ردعه عن إدخاله مثل هؤلاء، و كذلك عليه نهيه أيضًا عن رفع الصّوت لإقامة صلاة فيه، و الحاصل أنّه لا يجوز إخراجه من المسجد بالكلّيّة لأجل ذلك من أوّل وهلة، و إنّما يمنع أوّلا من تمكينه من تنجيس المسجد أو تقذيره بمن يدخل إليه فيه...» «1».
__________________________________________________
(1) الفتاوى الكبرى (1/ 345)، مرجع سابق.(1/89)
المقاعد:
و قد كان صلى اللّه عليه و سلم يجلس ليتلقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الوحي من جبريل عليه السّلام في المسجد في مكان يدعى بمقاعد جبريل عليه السّلام فعن عائشة: أنها لما توفي سعد بن أبي وقاص صلّى اللّه عليه و سلّم أرسل أزواج النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أن يمروا بجنازته في المسجد فيصلين عليه، ففعلوا فوقف به على حجرهن يصلين عليه ثم أخرج به من باب الجنائز الذي كان إلى المقاعد.. «1».. و عن حارثة بن النعمان قال: مررت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و معه جبريل عليه السّلام جالس في المقاعد، فسلمت عليه، ثم أجزت فلما رجعت و انصرف النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «هل رأيت الذي كان معي» قلت: نعم! قال: «فإنه جبريل و قد رد عليك السلام» «2».
و المقاعد هي الدكاكين «3» التي كانت عند باب دار عثمان كانوا يجلسون عليها فسميت المقاعد «4».
__________________________________________________
(1) مسلم (2/ 688)، مرجع سابق.
(2) رواه أحمد (5/ 433)، مرجع سابق، و رواه الطبراني في الكبير (3/ 227) مرسلا، مرجع سابق، و قال الهيثمي في المجمع (9/ 313)، مرجع سابق: «و رجاله ثقات»، و قال ابن حجر في الإصابة (1/ 618): «و روى أحمد و الطبراني من طريق الزهري أخبرني عبد اللّه بن عامر بن ربيعة عن حارثة بن النعمان قال: مررت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و معه جبرائيل جالس في المقاعد، فسلمت عليه فلما رجعت قال: «هل رأيت الذي كان معي» قلت: نعم! قال: «فإنه جبريل و قد رد عليك السلام» و قال ابن حجر تعقيبا: «إسناده صحيح أيضا»، انظر: (ابن حجر) أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي ت 852 ه: الإصابة في تمييز الصحابة (1/ 618)، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1412 ه- 1992 م..
(
3) الدّكّان هو الذي يقعد عليه أي الدكة المبنية... و الدّكّان أيضًا واحد الدّكاكين و هي الحوانيت فارسي معرب. انظر: مختار الصحاح (ص 87)، النهاية (2/ 128) مرجعان سابقان.
(4) التمهيد (22/ 213)، مرجع سابق.(1/90)
و هي مصاطب حول المسجد «1»، فهذه المقاعد عرفت بمقاعد جبريل عليه السّلام، و قد صرّح بذلك فيما رواه أنس رضي اللّه عنه قال: «صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم صلاة الظهر يوما ثم انطلق حتى قعد على المقاعد التي كان يأتيه عليها جبريل فجاء بلال فناداه بالعصر» «2».
و هذا يدل على أن التعلم يمكن أن يكون حول المسجد ملتصقا به على هيئة دور التحفيظ اليوم... و هذه الأماكن بمثابة قاعات الكليات التي يتمم فيها ما قد يفوت في المسجد.
المطلب الثالث: إلزامهم الاقتداء به في هيئة تلاوته للفظ القراني:
و الدليل الكلي الجامع لهذا: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (الأحزاب: 21)؛ إذ إن معنى أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «خصلة حسنة من حقها أن يؤتسى بها» «3»، و يدخل في ذلك تلاوته لألفاظ القران الكريم أصلا و أداء ف «الأسوة القدوة، و الأسوة ما يتأسى به أي يقتدى به في جميع أفعاله، و يتعزى به في جميع أحواله» «4»، و على رأس ذلك تلاوة القران الكريم، و على هذا فالاية «عامة في
__________________________________________________
(1) (الزرقاني) محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني ت 1122 ه: شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك (1/ 98)، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1411 ه، و هي- جمعا بين الأحاديث- غير الحجارة أو الدرج أو الدكاكين التي بقرب دار عثمان، و في كل الأحوال فهي مواضع جرت العادة بالقعود فيها.
(
2) مسند أحمد (3/ 139)، مرجع سابق، و تتمته: «فقام كل من كان له بالمدينة أهل يقضي الحاجة و يصيب من الوضوء، و بقى رجال من المهاجرين ليس لهم أهالي بالمدينة فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بقدح أروح فيه ماء فوضع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كفه في الإناء فما وسع الإناء كف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كلها فقال بهؤلاء الأربع في الإناء ثم قال: «ادنوا فتوضؤوا» و يده في الإناء فتوضؤوا حتى ما بقى منهم أحد إلا توضأ قال قلت: يا أبا حمزة! كم تراهم؟ قال: بين السبعين و الثمانين».
(3) البيضاوي (4/ 368)، مرجع سابق.
(4) القرطبي (14/ 155)، مرجع سابق.(1/91)
كل أفعاله صلّى اللّه عليه و سلّم إذا لم يعلم أنها من خصوصياته» «1»، و بذلك كان الصحابة رضي اللّه عنهم يستدلون بها في جميع أحوالهم، فقد قال بعض أصحاب عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما له: رأيتك في السفر لا تصلي قبل الصلاة و لا بعدها؟ فقال: يا ابن أخي صحبت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كذا و كذا فلم أره يصلي قبل الصلاة و لا بعدها، و يقول اللّه تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «2»، و عن ابن عمر أنه سئل عن رجل معتمر طاف بالبيت أيقع على امرأته قبل أن يطوف بين الصفا و المروة؟
فقال: «قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فطاف بالبيت، و صلّى خلف المقام ركعتين، و سعى بين الصفا و المروة» ثم قرأ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «3»... و إنما كان هذا الاستطراد في وجه الدلالة لئلا يقول قائل بأن السياق هنا يخصص المنساق... كما ترد هنا جميع أدلة الاقتداء نحو فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ (الأنعام: 90).
حكمة تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم لهم ما سبق:
و إنما كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يعلمهم بما ذكر في القران، و بما يخبرهم به من حديثه الشريف عن كيفية تلقيه للفظ القران الكريم لأجل أن يقتدوا به في تلاوة القران الكريم و جمع ألفاظه تعلما و تعليما فيما كان في حدود طاقتهم البشرية... و زاد عن ذلك بما كان يصنعه في حلقات الإقراء التي كان يؤدي فيها درسا يوميا لإقرائهم القران، بالإضافة إلى عرضه اليومي لشي ء من القران في ست ركعات جهرية يومية من صلاته حيث كان إمامهم، فلا بد لهم من الاقتداء به في أركان الصلاة و هيئاتها التفصيلية، و كذلك في تلاوة لفظ القران الكريم أصلا و أداء، و مما يوضح
__________________________________________________
(1) روح المعاني (21/ 167)، مرجع سابق.
(2) (أبو عوانة) يعقوب بن إسحاق الأسفرائيني ت 316 ه: مسند أبي عوانة (2/ 337).
(3) البخاري (1/ 154)، مرجع سابق.(1/92)
ذلك أكثر ما جاء عن سهل بن سعد رضي اللّه عنه قال: أرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى امرأة:
«انظري غلامك النجار يعمل لي أعوادا، أكلم الناس عليها»، فعمل هذه الثلاث الدرجات عندما أمر بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فوضعت هذا الموضع فهي من طرفاء الغابة، و لقد رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قام عليه فكبر، و كبر الناس وراءه، و هو على المنبر، ثم رفع فنزل القهقرى، حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من اخر صلاته ثم أقبل على الناس، فقال: «يا ايها الناس إني صنعت هذا لتأتموا بي و لتعلموا صلاتي» «1».
التقعيد على ذلك: تأدية اللفظ كما سمع من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:
و لقد كان من أهم القواعد التعليمية المصاحبة لعملية الإقراء: تأدية اللفظ كما سمعوه من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فعن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «نضر اللّه امرأ سمع منا حديثا (فحفظه حتى يبلغه غيره) فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع، (فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، و رب حامل فقه ليس بفقيه)» «2»، و لا شك أن مراد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بقوله (حديثا) يتسع ليتضمن القران أولا، أو ليدخل من باب قياس الأولى كما قال اللّه عزّ و جلّ: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ (الطور: 34)، فسمى القران حديثا.
و هذا الحديث بين أن من أهم الأهداف التعليمية التي أراد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أن تتحقق في الصحابة رضي اللّه عنهم:
الحث على البلاغ لما يسمعه الصحابي من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
__________________________________________________
(1) مسلم (1/ 386)، مرجع سابق.
(2) ابن حبان (1/ 268)، مرجع سابق، و ما بين القوسين عنده من رواية زيد بن ثابت.(1/93)
و أن يكون المبلّغ كما سمع منه صلّى اللّه عليه و سلّم، و لذ قال ابن حبان تبويبا لهذا الحديث: «ذكر البيان بأن هذا الفضل إنما يكون لمن أدى ما وصفنا كما سمعه سواء من غير تغيير و لا تبديل» «1». فهذه الأدلة العامة في مسألة الاقتداء في أداء اللفظ القراني.
و من الأدلة الخاصة:
قول علي رضي اللّه عنه: «إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يأمركم أن تقرؤوا كما علمتم» «2»، فهذا في أداء اللفظ، و ويدل على الاقتداء به في الهيئة التي يكون عليها المرء عند أداء اللفظ ما قاله علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقضي حاجته فيقرأ القران، و يأكل معنا اللحم، و لم يكن يحجبه- و ربما قال- يحجزه عن القران شي ء ليس الجنابة» «3»، و من أجل هذا الاقتداء به صلّى اللّه عليه و سلّم فقد ظهر تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم في تعليم الصحابة رضي اللّه عنهم من تلاميذه، و تميّز أساليبهم و هي انعكاس صحيح لأسلوبه، و ما ذكر من أخبارهم في ذلك حجة على ما لم قيام ما لم يذكر.
__________________________________________________
(1) ابن حبان (1/ 271)، مرجع سابق.
(2) ابن حبان (3/ 21)، مرجع سابق.
(3) المختارة (2/ 215)، أبو داود (1/ 59)، البيهقي في سننه الكبرى (1/ 38)، مراجع سابقة.(1/94)
المبحث الثاني: وسائل تعليم ألفاظ القران الكريم كما وضعها النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:
يبين هذا المبحث وسائل التعليم القراني التي سلكها النبي صلّى اللّه عليه و سلّم مكانا و أسلوبا و طريقة إدارة ليتم التعليم، و هي ترجع إلى الحلقات القرانية، و إلى القراءة العامة (الجماعية)، و إلى القراءة الفردية و الإقراء الفردي، و إلى أسلوب التعلم الأساسي في ذلك هو التلقي، و يحاول المبحث تجلية أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم جعل من وسائل هذا التعليم تقسيمه إلى تعليم ملزم، و غير ملزم يشبه أن يكون ملزما، و استتبع هذا الكلام على أجرة التعليم؛ كما تحدث البحث عن ظهور التدرج في تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ليتم الاستيعاب الكلي للقران الكريم، و لذا انقسم هذا المبحث إلى خمسة مطالب:
المطلب الأول: الحلقات القرانية.
المطلب الثاني: تعليمهم هيئة التعلم الواجبة لألفاظ القران الكريم (التلقي).
المطلب الثالث: العرضة الأخيرة.
المطلب الرابع: التعليم القراني العام.
المطلب الخامس: التدرج في التعليم.(1/95)
المطلب الأول: الحلقات القرانية:
الدلالة اللغوية للحلقة:
الحلقة بالتسكين: كلّ شي ء استدار كحلقة الحديد و الفضّة و الذهب، و كذلك هو في الناس، فالحلقة فيهم هي الجماعة من الناس مستديرون، و تحلّق القوم جلسوا حلقة حلقة «1»، و الجمع حلق و حلقات و حلق «2».
فيكون تعريف الحلقة من الناس: القوم الذين يجتمعون متراصين و ذلك لاستفادة ما يلقيه شيخ الحلقة من العلوم، و يبثه من أحكام الشريعة، و تعليم الأمة ما ينفعهم في الدارين «3».
ثانيا: المدلول النفسي لهذا الاجتماع: و لهذا النوع من الاجتماع مدلول نفسي بين المناسبة يبيّن سبب انتقائها كوسيلة تعليمية أساسية؛ إذ إن الحلقة تضرب مثلا للقوم إذا كانوا مجتمعين مؤتلفين كلمتهم و أيديهم واحدة لا يطمع عدوّهم فيهم و لا ينال منهم، و لذا يقال للسلاح و الحديد حلقة لمناعته و بأسه...
ورود (الحلقة) في الحديث بمعناها المصطلحي:
وردت كلمة الحلقة بمعناها العرفي في كثير من الأحاديث و من ذلك ما جاء عند البخاري أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بينما هو جالس في المسجد و الناس معه إذ أقبل نفر ثلاثة، فأقبل اثنان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و ذهب واحد، فوقفا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة و جلس فيها، و أما الاخر فجلس خلفهم، و أما
__________________________________________________
(1) انظر: مختار الصحاح ص 65، مرجع سابق.
(2) انظر: مختار الصحاح ص65، مرجع سابق، لسان العرب (10/ 61)، مرجع سابق.
(3) انظر: عبد الرؤوف المناوي: فيض القدير شرح الجامع الصغير (1/ 120)، و انظر: لسان العرب (10/ 61)، مرجع سابق.(1/96)
الثالث فأدبر ذاهبا، فلما فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟: أما أحدهم فأوى إلى اللّه فاواه اللّه، و أما الاخر فاستحيا فاستحيا اللّه منه، و أما الاخر فأعرض فأعرض اللّه عنه» «1»، كما كان صلّى اللّه عليه و سلّم يحضهم على الاجتماع على تلاوة القران، و تدارسه بينهم، و تكوين حلقات جانبية، و لو كانت دون إشرافه عليهم: فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:
«... و ما اجتمع قوم في بيت من بيوت اللّه يتلون كتاب اللّه و يتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السّكينة و غشيتهم الرّحمة و حفّتهم الملائكة و ذكرهم اللّه فيمن عنده، و من بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه» «2».
و كان الصحابة رضي اللّه عنهم يفعلون ذلك فيجتمعون حلقا يذكرون اللّه جل جلاله أو يتدارسون القران:
و القران أعظم الذكر فعن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر اللّه! قال: اللّه ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: و اللّه ما أجلسنا إلا ذاك! قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم و ما كان أحد بمنزلتي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أقل عنه حديثا مني و إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم خرج على حلقة من أصحابه فقال: «ما أجلسكم؟» قالوا: جلسنا نذكر اللّه و نحمده على ما هدانا للإسلام و من به علينا، قال: «اللّه ما أجلسكم إلا ذاك؟» قالوا: و اللّه ما أجلسنا إلا ذاك! قال: «أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكنه أتاني جبريل عليه السّلام فأخبرني أن اللّه عزّ و جلّ يباهي بكم الملائكة» «3».
__________________________________________________
(1) البخاري (1/ 36)، مسلم (4/ 1713)، ابن حبان (1/ 286)، الترمذي (5/ 73)، مراجع سابقة.
(
2) مسلم (4/ 2074)، الترمذي (4/ 34)، الدارمي (2/ 340)، أبو داود (4/ 287)، النسائي في الكبرى (4/ 309)، أحمد (2/ 252)، مراجع سابقة.
(3) مسلم (4/ 2075)، مرجع سابق.(1/97)
الأحكام العامة للحلقات (النظم الإدارية المنظمة للحلقات القرانية):
صارت الحلقات العلمية التعليمية في المسجد مكانا تعليميا، و مرتعا تربويا له ادابه و نظمه التي أرشد لها النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و باتت هذه النظم بمثابة لائحة تفصيلية، و تقنين دقيق للحلقات التعليمية، كما صار لها أحكامها المستقلة التي تنظم انعقادها، و وقته، و كيفيته، و متى يجوز التعدد، و متى يجتمعون في حلقة واحدة...
و هذا يدل على شيوع هذه الوسيلة التعليمية، و اعتيادها، و صيرورتها جزا من النظام التعليمي العام، و الأحكام التعليمية للحلقات هي:
1- اعتيادها و كونها جزا من النسيج التعليمي:
فقد كان صلّى اللّه عليه و سلّم إذا جلس جلس إليه أصحابه حلقا حلقا «1»، و عن أنس ابن مالك رضي اللّه عنه قال: كنت جالسا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في الحلقة إذ جاء رجل على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و على القوم.. «2».، و كان رجل من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم له بني صغير يأتيان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، ثم إن بنيّه هلك، فمنعه الحزن عليه أن يحضر الحلقة فلقيه النبي صلّى اللّه عليه و سلم فسأله عن ابنه فأخبره أنه هلك، فعزاه النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: «يا فلان! أيما كان أحب إليك أن تمتاع به عمرك أو لا تأتي غدا بابا من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه ففتحه لك؟» قال: فقال: «يا نبي اللّه! لا بل يسبقني إلى أبواب الجنة أحب إلي» قال: «فذاك لك» قال: فقام رجل من الأنصار فقال: يا نبي اللّه! جعلني اللّه فداءك أهذا لهذا خاصة أو من هلك له طفل من المسلمين كان ذلك له؟
قال: «لا! بل من هلك له طفل من المسلمين كان ذلك له» «3».
__________________________________________________
(1) البزار (8/ 249).
(2) ابن حبان (3/ 125)، و الحديث الأول في: المختارة (5/ 285)، و النسائي في الكبرى (4/ 409).
(3) النسائي (4/ 118)، البيهقي في الكبرى (4/ 59)، مرجعان سابقان.(1/98)
2- نهى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عن القعود وسط الحلقة:
و هذا ينظّم الهيكل العام للحلقة كما يجمل منظرها: فقد قعد رجل وسط حلقة فقال حذيفة رضي اللّه عنه: «ملعون على لسان محمد أو لعن اللّه على لسان محمد صلّى اللّه عليه و سلّم من قعد وسط الحلقة» «1»، و ذلك لأنه إذا جلس في وسطها استدبر بعضهم بظهره فيؤذيهم بذلك فيسبّونه و يلعنونه «2»...
و النهي عن القعود وسط الحلقة يجعل منظرها العام شبيها إلى حد كبير بما يحاوله منظمو قاعات التعليم أو العرض بحيث يمكن للجميع مشاهدة مديري الحلقة.
و يستثنى من ذلك أن يرى الإمام أو المعلم المصلحة في بقاء أحدهم وسط الحلقة: فعن واثلة ابن الأسقع رضي اللّه عنه قال: «أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و هو جالس في نفر من أصحابه فجلست وسط الحلقة» فقال بعضهم: يا واثلة! قم من هذا المجلس فإنا قد نهينا عنه. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «دعوا واثلة فإني أعلم بالذي أخرجه من منزله» قلت: «يا رسول اللّه! و ما الذي أخرجني من منزلي؟» قال:
«خرجت تسأل عن البر من الشك» قلت: «و الذي بعثك بالحق ما أخرجني غيره» قال: «فإن البر ما استقر في النفس و اطمأن في القلب، و الشك ما لم يستقر في النفس، و لم يطمئن إليه القلب، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك، و إن أفتاك المفتون» «3».
__________________________________________________
(1) الترمذي (5/ 90)، و قال: «هذا حديث حسن صحيح، أحمد (5/ 384).
(2) انظر: النهاية في غريب الحديث (1/ 426).
(
3) (الطبراني): مسند الشاميين (1/ 117).(1/99)
3- كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ينظم كيفية تحلقهم بنفسه في حلقات الإقراء و غيرها:
فعن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: «كنت في حلقة من الأنصار، و إن بعضنا ليستتر ببعض من العري، و قارئ لنا يقرأ علينا، فنحن نسمع إلى كتاب اللّه؛ إذ وقف علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و قعد فينا ليعد نفسه معهم، فكفّ القاري، فقال: ما كنتم تقولون؟ فقلنا: «يا رسول اللّه! كان قارئ لنا يقرأ علينا كتاب اللّه» فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بيده، و حلق بها يومي إليهم أن تحلقوا، فاستدارت الحلقة.. «1»..
4- نهى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عن التحلق قبل صلاة الجمعة:
فعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما قال: «نهى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عن البيع و الابتياع، و أن ينشد الضوال، و عن تناشد الأشعار، و عن التحلق للحديث يوم الجمعة قبل الصلاة» يعني في المسجد «2»، و لعل من حكم ذلك أن تكون «الجماعة كثيرة و المسجد صغيرا و كأن فيه منع المصلين عن الصلاة» «3»، كذا ذكر البيهقي ولكن هذا عام في كل حلقة... و الظاهر أن المراد التهيؤ لخطبة الجمعة، و التفرغ قبلها للقران دون التشويش بمناقشة شي ء قد يضر بخطبة الخطيب لقرب العهد فيبطلها عن دورها.
و ربما تكون الحلق كثيرة فيما يمكن فيه الاجتماع في حلقة واحدة، و لا يظهر لتعدد الحلق إلا التشويش: فعن جابر بن سمرة قال: دخل علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و نحن حلق متفرقون فقال: «مالي أراكم عزين؟» «4» أي في حلق متفرقة.
__________________________________________________
(1) أحمد (3/ 63)، أبو يعلى (2/ 382).
(2) ابن خزيمة (2/ 275)، أبو داود (1/ 283)، النسائي في الكبرى (1/ 262)، النسائي في الصغرى (2/ 47)، الطبراني في الأوسط (6/ 358).
(
3) البيهقي في الكبرى (3/ 234)، مرجع سابق.
(4) مسلم (1/ 322)، ابن حبان (4/ 534)، المسند المستخرج على مسلم (2/ 54)، أبو عوانة في مسنده (1/ 419).(1/100)
5- حق من كان في الحلقة في حماية مكانه، و العودة إليه إذا خرج لعارض قريب:
فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إذا قام الرجل من مجلسه ثم عاد إليه فهو أحق به» «1»، و لو وضع ما يدل على رجوعه فهو أولى فعن أبي الدرداء رضي اللّه عنه: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إذا جلس و جلسنا حوله، فقام فأراد الرجوع نزع نعليه أو بعض ما يكون عليه فيعرف ذلك أصحابه فيثبتون «2».
6- حق أصحاب الحلقة في حماية حلقتهم فلهم رد من يريد السير من وسط الحلقة:
فقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «لا حمى إلا في ثلاث ثلاثة: البئر و مربط الفرس و حلقة القوم» «3»، أي لهم أن يحموها حتى لا يتخطّاهم أحد و لا يجلس وسطها «4»... و هل يدل هذا على ما يسمى في عصرنا الحرم الجامعي؟ فيه نظر، ولكن لا شك أن لمكان كالجامعة حماها الخاص بها.
7- و كانوا يجلسون مع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم متحلقين معه حلقة دون حلقة:
أي كأنهم صفوف دائرية مرتبة بعضها خلف بعض على وجه لا يحجب المتأخر فيها بالمتقدم كما في القاعات الكبيرة اليوم، و لذا كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يلتفت إلى هؤلاء مرة فيحدثهم، و إلى هؤلاء مرة فيحدثهم، ففي حديث إسلام كعب ابن زهير الشاعر: «... ثم دخل المسجد و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مع أصحابه مكان المائدة من
__________________________________________________
(1) البيهقي في الكبرى (6/ 151)، مرجع سابق.
(2) البيهقي الكبرى (6/ 151)، مرجع سابق.
(3) ابن أبي شيبة (4/ 389)، و بعض الأحاديث و إن لم تثبت فهي مما تناقله أهل العلم من اداب الحلقات.
(
4) انظر: النهاية في غريب الحديث (1/ 426)، مرجع سابق.(1/101)
القوم متحلقون معه حلقة دون حلقة يلتفت إلى هؤلاء مرة فيحدثهم، و إلى هؤلاء مرة فيحدثهم...» «1». ولكن هذا التنظيم ليس توقيفيا بل يسلك المنظمون لها أقرب السبل لتتم الاستفادة الكاملة منها.
خامسا: أنواع الحلقات:
تنقسم الحلقات التعليمية إلى نوعين هما:
أولا: الحلق العامة الكبيرة:
1- فكان صلّى اللّه عليه و سلّم يعقد الحلق العامة الكبيرة للتلاوة كجزء من البلاغ للقران، و قد بدأها النبي صلّى اللّه عليه و سلّم منذ بدأ نزول الوحي كما جاء ذلك عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال: قرأ النبي صلّى اللّه عليه و سلّم النجم بمكة فسجد فيها، و سجد من معه غير شيخ أخذ كفا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته، و قال: يكفيني هذا فرأيته بعد ذلك قتل كافرا «2»، و استمرت الحلقات العامة إلى أواخر نزول الوحي فعن ابن عمر رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قرأ عام الفتح سجدة فسجد الناس كلهم فمنهم الراكب و الساجد في الأرض حتى أن الراكب ليسجد على يده «3»، ولكن هذه الحلقة قد يستفيد منها المستمع البلاغ، و قد يزيد على ذلك فيعدها جزا من التعليم، فيحفظ و يتقن ما يستمعه...
2- و قد تكون القراءة في الحلقة قراءة عرض بأن يقرأ أحدهم و هو صلّى اللّه عليه و سلّم يستمع، و هذا ما يحتمله حديث ابن عمر قال: كنا نقرأ السجدة عند النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فيسجد و نسجد معه.. «4»..
__________________________________________________
(1) الحاكم (3/ 671)، مرجع سابق.
(2) البخاري (1/ 363)، مرجع سابق.
(3) ابن خزيمة (1/ 279)، مرجع سابق.
(4) ابن خزيمة (1/ 279)، مرجع سابق.(1/102)
3- و كان صلّى اللّه عليه و سلّم يشرف على الحلقات الاخرى التي لا يباشر فيها التعليم بنفسه: فعن عقبة بن عامر الجهني رضي اللّه عنه قال: كنا في المسجد نتعلم القران، فدخل علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فسلم علينا، فرددنا عليه السلام فقال: «تعلموا القران و اقتنوه و تغنوا...» «1»، و مما يدل على هذا الإشراف أيضًا ما جاء عن ابن عباس قال: خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ذات يوم إلى المسجد، فوجد أصحابه عزين يتذاكرون فنون العلم فأول حلقة وقف عليها وجدهم يقرؤون القران و جلس إليهم فقال: بهذا أرسلني ربي.. «2»..
4- و عملية الإقراء منه صلّى اللّه عليه و سلّم دائمة فعن علي رضي اللّه عنه قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقرئنا القران على كل حال ما لم يكن جنبا».
ثانيا: حلقات الإقراء الخاصة:
1- فقد كانت معروفة كأساس لشكل الملتقى التعليمي كما تقدم، و جاء عن سلمة بن الأكوع رضي اللّه عنه أنه كان يتحرى موضع مكان المصحف يسبح فيه و ذكر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يتحرى ذلك المكان «3».
2- و كان صلّى اللّه عليه و سلّم يشرف على حلقات الإقراء الخاصة بنفسه أيضا: فعن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: إني لجالس ذات يوم في عصابة من ضعفاء المهاجرين و رجل منا يقرأ علينا القران و يدعو لنا، و إن بعضنا لمستتر ببعض من العري و جهد الحال، إذ خرج علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فلما راه قارئنا أمسك عن القراءة، فجاء فجلس إلينا، فقال بيده فاستدارت له حلقة القوم... الحديث «4».
__________________________________________________
(1) بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث (2/ 734).
(2) مسند الربيع ص 32، مرجع سابق.
(3) صحيح مسلم (1/ 364)، مرجع سابق.
(4) الطبراني في الأوسط (8/ 357)، مرجع سابق.(1/103)
3- و قد يكون الإقراء فيها أي تعلم القران و تعليمه ثنائيا، كما هو شائع في حلقات المسلمين اليوم: فقد دخل حذيفة رضي اللّه عنه المسجد فمر على قوم يقرئ بعضهم بعضا فقال: «إن تكونوا على الطريقة لقد سبقتم سبقا بعيدا، و إن تدعوه فقد ضللتم» قال: ثم جلس إلى حلقة فقال: «إنا كنا قوما امنا قبل أن نقرأ و إن قوما سيقرأون قبل أن يؤمنوا» فقال رجل من القوم: تلك الفتنة؟ قال: «أجل قد أتتكم من أمامكم حيث تسوء وجوهكم، ثم لتأتينكم ديما ديما، إن الرجل ليرجع فيأتمر الأمرين أحدهما عجز و الاخر فجور» «1».
و كذلك كان الصحابة رضي اللّه عنهم يعقدون حلقات الإقراء فعن أبي إسحاق قال:
رأيت رجلا سأل الأسود بن يزيد و هو يعلم القران في المسجد فقال: كيف تقرأ هذه الاية فهل من مدكر أدالا أم ذالا؟ قال: بل دالا سمعت عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: مدكر دالا «2»، و وصف بعض تلاميذ أبي موسى الأشعري تعليم شيخهم رضي اللّه عنه لهم فقال: (تعلمنا القران في هذا المسجد يعني مسجد البصرة و كنا نجلس حلقا حلقا، و كأنما أنظر إليه بين ثوبين أبيضين و عنه أخذت هذه السورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (العلق: 1) قال:
و كانت أول سورة أنزلت على محمد صلّى اللّه عليه و سلّم «3».
__________________________________________________
(1) ابن أبي شيبة (7/ 451)، مرجع سابق.
(2) صحيح مسلم (1/ 565)، مرجع سابق.
(3) الحاكم (2/ 240)، و قال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه و له شاهد بإسناد صحيح على شرط مسلم».(1/104)
المطلب الثاني: تعليمهم هيئة التعلم الواجبة للفظ القراني (التلقي) «1»:
صارت هيئة التعلم الواجبة للألفاظ القرانية (التلقي) بدهية من البدهيات في حياة المسلمين حتى لقّبوا من تعلم القران بهيئة تعليمية غيرها كالأخذ من المصحف (مصحفيا) فقالوا: «لا تحملوا العلم عن صحفي، و لا تأخذوا القران من مصحفي» «2» فلا مجال لإثبات القران الكريم بالكتابة واحدها، و قد ذكر اللّه سبحانه و تعالى هذه الطريقة الواجبة في تعلم الألفاظ القران الكريم صراحة في قوله سبحانه و تعالى وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (النمل: 6) مع قوله جل جلاله: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (النجم: 5) إذ دل مجموع الايتين على أن تعلم النبي لألفاظ القران الكريم كان تعلما خاصا هو التلقي.
و قد أمرهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بالتلقي فقال لهم: «خذوا القران من أربعة: من ابن أم عبد فبدأ به و معاذ بن جبل و أبي بن كعب و سالم مولى أبي حذيفة» «3»، و هذا «يدل على أن قراءة القران تؤخذ بالتلقي من أفواه المقرئين، أتدري من خاطب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بقوله: «خذوا القران من أربعة»؟ خاطب الصحابة رضي اللّه عنهم، و هم عرب فصحاء، بل هم أفصح الأمة، و مع ذلك لم يكلهم إلى فصاحتهم بل أمرهم بالتلقي، و ما ذاك إلا لأن قراءة القران لها هيئة مخصوصة توقيفية» «4».
__________________________________________________
(1) ينظر في تعريف التلقي و بيان قواعده: تلقي النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ألفاظ القران الكريم ص 127.
(2) الحسن بن عبد اللّه بن سعيد العسكري أبو أحمد ت 382 ه: تصحيفات المحدثين ص 7، تحقيق: محمود أحمد ميرة المطبعة العربية الحديثة، القاهرة، ط 1، 1402 ه.
(3) البخاري (3/ 1385)، مسلم (4/ 1913)، الحاكم (3/ 250)، الترمذي (5/ 674)، مراجع سابقة.
(4) عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ (دكتور): سنن القراء و مناهج المجودين ص 48، مكتبة الدار، المدينة المنورة، ط 1، 1414 ه.(1/105)
و لذا كان الصحابة يظهرون طريقة تعلمهم لألفاظ القران الكريم عند إثبات أهليتهم ليصدر عنهم الناس في القراءة كما في قول ابن مسعود: بينا نحن مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم في غار إذ نزلت عليه وَ الْمُرْسَلاتِ (المرسلات: 1) فتلقيناها من فيه و إن فاه لرطب بها.. «1».، و قال عندما غضب من تولية زيد ابن ثابت أمر نسخ المصاحف: «لقد أخذت من في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سبعين سورة و إن زيد بن ثابت لصبي فلا أدع ما أخذت من في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم» «2».
و كان الصحابة رضي اللّه عنهم يجعلونه أسلوب تعلمهم للفظ القراني عند النزاع:
و كما كان التلقي من فم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم (سماعا أو عرضا) هو الأداة الوحيدة لتعلم القران الكريم و تعليمه، فإنه كان أيضًا الحكم بين المتخاصمين في القراءة فعن عاصم ابن أبي النجود عن زر- و هو شيخ عاصم في القران- عن ابن مسعود رضي اللّه عنه- و هو شيخ زر في القران- قال: أتيت المسجد فجلست إلى أناس و جلسوا إلي فاستقرأت رجلا منهم سورة ما هي إلا ثلاثون اية و هي حم الأحقاف «3» فإذا هو يقرأ حروفا لا أقرأها فقلت من أقراك قال: أقرأني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فاستقرأت الاخر فإذا هو يقرأ حروفا لا أقرؤها أنا و صاحبي فقلت: من أقرأك؟ قال: أقرأني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فانطلقنا إليه فأخذت بأيديهما حتى أتيت بهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و عنده رجل يعني عليا فقلت: يا رسول اللّه! إنا اختلفنا في قراءتنا قال: فتغير وجهه حين ذكرت الاختلاف فقال: «إنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف» فقال
__________________________________________________
(
1) البخاري (4/ 1879)، مرجع سابق، و بقية الحديث: إذ خرجت حية فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «عليكم اقتلوها» قال: فابتدرناها فسبقتنا قال: فقال: «وقيت شركم كما وقيتم شرها».
(2) مسند أبي داود الطيالسي (1/ 54)، مرجع سابق.
(3) سورة الأحقاف في عد الكوفيين خمس و ثلاثون اية فيحمل قول ابن مسعود على عدم نزول بعض اياتها انذاك، أو اختلافهم في العدد، أو على عدم اعتبار الكسر كالمعتاد في خطاب العرب.(1/106)
علي- فلا أدري أسر إليه ما لم أسمع أو علم الذي في نفسه فتكلم به-: «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما علّم» «1»، و قال صلّى اللّه عليه و سلّم «ليقرأ كل إنسان كما علّم كل حسن جميل» «2»، و عن أبي الجهم رضي اللّه عنه أن رجلين اختلفا في اية من القران قال هذا: تلقنتها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال الاخر: تلقنتها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «3»، و عن بن عباس رضي اللّه عنهما قال: بينما أنا أقرأ اية من كتاب اللّه عز و جل و أنا أمشي في طريق من طرق المدينة، فإذا أنا برجل يناديني من بعدي:
أتبع ابن عباس، فإذا هو أمير المؤمنين عمر فقلت: أتبعك على أبي بن كعب، فقال: أهو أقرأكها كما سمعتك تقرأ؟ قلت: نعم! قال: فأرسل معي رسولا قال: اذهب معه إلى أبي بن كعب فانظر أيقرئ أبي كذلك؟ قال: فانطلقت أنا و رسوله إلى أبي ابن كعب قال: فقلت: يا أبي قرأت اية من كتاب اللّه فناداني من بعدي عمر ابن الخطاب اتبع ابن عباس فقلت: أتبعك على أبي بن كعب فأرسل معي رسوله أفأنت أقرأتنيها كما قرأت؟ قال أبي: نعم! قال: فرجع الرسول إليه، فانطلقت أنا إلى حاجتي، قال: فراح عمر إلى أبي فوجده قد فرغ من غسل رأسه، و وليدته تدري لحيته بمدراها فقال أبي: مرحبا يا أمير المؤمنين! أزائرا جئت أم طالب حاجة؟ فقال عمر: بل طالب حاجة.
قال: فجلس و معه موليان له حتى فرغ من لحيته و أدرت جانبه الأيمن من لمته ثم ولاها جانبه الأيسر حتى إذا فرغ أقبل إلى عمر بوجهه، فقال: ما حاجة أمير المؤمنين؟ فقال عمر: يا أبي علام تقنط الناس؟ فقال أبي: يا أمير المؤمنين! إني تلقيت القران ممن تلقاه- و قال عفان ممن يتلقاه- من جبريل عليه السّلام و هو
__________________________________________________
(1) أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي ت 335 ه: المسند للشاشي (2/ 105).
(2) الطبراني في الكبير (5/ 198)، مرجع سابق.
(3) مجمع الزوائد (7/ 151)، مرجع سابق، و قال: «رواه أحمد و رجاله رجال الصحيح».(1/107)
رطب «1» و في رواية فقال أبي: صدق تلقيتها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال عمر: أنت تلقيتها من رسول اللّه؟ قال: نعم أنا تلقيتها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ثلاث مرات كل ذلك يقوله و في الثالثة و هو غضبان: نعم و اللّه لقد أنزلها اللّه على جبريل و أنزلها على محمد فلم يستأمر فيها الخطاب و لا ابنه. فخرج عمر و هو رافع يديه و هو يقول: اللّه أكبر اللّه أكبر «2».
التلقي عند أبي رضي اللّه عنه:
و بمناسبة أنهم كانوا رضي اللّه عنهم يجعلون التلقي عمدة أدلتهم في إثبات القراءة، فإن البحث يشير إلى أن سيد القراء أبيّ بن كعب رضي اللّه عنه كان يحتج بذلك، ولكن القراات الثابتة عنه قرائيا بل و في كثير من روايات الحديث الثابتة لم تخرج عن القراات المتناقلة إلى اليوم إلا أن تكون تفسيرا فأما قرائيا: فإن معظم أسانيد القراء العشرة ترجع إليه رضي اللّه عنه.
و أما حديثيا فالأمثلة السابقة توضح رجوع ما نسب إليه إلى القراات المتناقلة إلى اليوم، و من الروايات الحديثية ما جاء عن ابن عباس قال: أقرأني أبي ابن كعب كما أقرأه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ (الكهف: 86) مخففة «3»، و هذا المثال جد حسن؛ إذ يوضح أن قراءة أبي التي يستغربها عمر إنما هي إحدى قراات من الأحرف السبعة، و لا تخرج عن ذلك، و مثاله أيضًا في قراءة أبي ما جاء في قوله صلّى اللّه عليه و سلّم له: «أمرت أن أقرأ عليك القران» قال فقلت: و سماني لك
__________________________________________________
(1) الحاكم (2/ 245)، مرجع سابق، و قال: «هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه»، و رواه الضياء في المختارة (3/ 415).
(2) الحاكم (3/ 345)، مرجع سابق.
(3) النسائي في الكبرى (4/ 34)، مرجع سابق.(1/108)
ربك؟ قال: «نعم» قال: فقرأ علي فقال أبي قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (يونس: 58) «1» قرأها بالتاء (فلتفرحوا).. «2».،
و هذه الأمثلة تدل على عدم خروج قراءة أبي عن المتناقل من القراات... و من احتج ببعض ما ذكر عنه من قراات مخالفة يقال له عمدتنا: هو التلقي الذي جعله أبي عمدته أيضا، و منهج إثبات قرانية أو قرائية قراءة غير منهج إثبات حديث، على أن أبيا لم يثبت عنه حديثيا إلا ما وافق القراات المتناقلة، أو ما كان تفسيرا ظاهرا و قد ينسبه إلى القران تجوزا على أنه المراد من الاية، أو لأنه سمع فيه شيئا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
منهجية إثبات القراات غير منهجية إثبات الأحاديث:
و بما أن التلقي هو السبيل لإثبات القراءة فإن ما ثبت حديثيا على غير ما ثبت قرائيا- حال وجوده- لا يعول عليه في النسبة إلى القراء فقد تثبت اية قرائيا على غير ما وردت حديثيا كالذي روي عن نافع بن أبي نعيم- رحمه اللّه تعالى-:
فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ (البقرة: 283)، قرأها (فرهن)، ثم قال نافع: أقرأني خارجة بن زيد بن ثابت و قال: أقرأني زيد بن ثابت، و قال: أقرأني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ بغير ألف «3»، فإن الثابت عن نافع قرائيا فرهان «4» و هو اختياره فلا يقرأ بالاخرى لعدم التلقي، و أما توجيه الرواية فلها محامل: إما الصحة سندا
__________________________________________________
(1) انظر: الشاطبية عند قول الناظم: (و حق رهان ضم كسر و فتحة) من سورة البقرة ص 79، مرجع سابق.
(2) الحاكم (2/ 247)، مرجع سابق، و قال: «هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه».
(3) الحاكم (2/ 256)، مرجع سابق، و قال: «هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه».
(4) انظر: (الشاطبي) القاسم بن فيرة ت 590 ه: حرز الأماني و وجه التهاني (متن الشاطبية) سورة البقرة و انظر: (ابن الجزري) محمد بن محمد بن محمد بن علي ت 833 ه: طيبة النشر في القراات العشر- سورة البقرة.(1/109)
و متنا ولكن نافعا قرأ بالأمرين و بقي المتناقل عنه أحدهما، و إما بأن نافعا أراد إثبات صحة هذه القراءة ولكن لم يقرئ بها، و إما بالغلط في متن الرواية الحديثية.
كما أن التلقي هو المرجعية لتصويب كل قراءة:
تسلسل المنهجية: قال ابن مسعود رضي اللّه عنه: «فاقرأوا كما علمتم» «1»، و قد كان الصحابة رضي اللّه عنهم يعلمون الناس القران بذلك، كما قال أنس رضي اللّه عنه: بعثني الأشعري إلى عمر رضي اللّه عنه فقال لي: كيف تركت الأشعري؟ قلت: تركته يعلم الناس القران، فقال: أما إنه كيس و لا تسمعها إياه «2»... فكيف كان تعليمه القران للناس؟ كان تلقيا و تلقينا، فقد قال بعض تلاميذه واصفا هيئة تعليمه رضي اللّه عنه:
كان أبو موسى رضي اللّه عنه إذا صلّى الصبح استقبل الصفوف رجلا رجلا يقرئهم.. «3»..
الحرص على التلقي من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، أو ممن تلقاه عنه:
و كان الصحابة رضي اللّه عنهم يأمرون غيرهم بأخذ القران عمن تلقاه مباشرة من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم طلبا للإسناد العالي، و تثبتا في الحفظ فعن معدي كرب قال: أتينا عبد اللّه فسألناه أن يقرأ علينا طسم المائتين فقال: ما هي معي ولكن عليكم من أخذها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم خبّاب بن الأرتّ قال: فأتينا خبّاب ابن الأرتّ فقرأها علينا «4»... و هل كان هذا في حياته صلّى اللّه عليه و سلّم أو بعد مماته؟ احتمالان، و هل مراد ابن مسعود رضي اللّه عنه أنه لا يحفظ السورة أو أنه لم يتلقها مباشرة من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم؟...
المسألة محتملة، و الثاني أرجح لأن سورة الشعراء مكية، و عن عقبة بن عامر قال:
__________________________________________________
(1) النسائي في الصغرى (1/ 566)، مرجع سابق.
(2) سير أعلام النبلاء (2/ 389)، مرجع سابق.
(3) سير أعلام النبلاء (2/ 389)، مرجع سابق.
(4) قال في مجمع الزوائد (7/ 84)، مرجع سابق: «رواه أحمد و رجاله ثقات و رواه الطبراني».(1/110)
كنت أقود برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ناقته في السفر فقال لي: «يا عقبة ألا أعلمك خير سورتين قرئتا فعلمني قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (الفلق: 1) و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (الناس: 1) قال: فلم يرني سررت بهما جدا، فلما نزل لصلاة الصبح صلّى بهما صلاة الصبح للناس، فلما فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من الصلاة التفت إلي فقال: «يا عقبة كيف رأيت» «1»، و هذا من أقوى أنواع التلقي، و طلب العلو في الإسناد.
و لضرورة التلقي فقد انتشرت الحلق القرانية التي يحييها أئمة الإقراء:
و يتلقن فيها الناس ألفاظ القران الكريم: فصار لأبي حلقة، و لزيد بن ثابت أخرى، و لابن مسعود ثالثة... كما قال زيد بن أرقم رضي اللّه عنه: جاء رجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: أقرأني عبد اللّه بن مسعود سورة و أقرأنيها زيد و أقرأنيها أبي...
تكرار عرض القران:
و لأن عرض القران على الشيخ يمثل أسلوبا من أساليب التلقي؛ فقد تعلم الصحابة رضي اللّه عنهم من تكرار عرض النبي صلّى اللّه عليه و سلّم القران على جبريل عليه السّلام في رمضان «2»، تكرار عرض أصحابهم القران عليهم، و تسلسلت بذلك منهجية تكرار العرض، و من أمثلته في أئمة الإقراء: ما رواه عاصم بن بهدلة و عطاء بن السائب و محمد بن أبي أيوب و عبد اللّه بن عيسى أنهم قرؤوا على أبي عبد الرحمن السلمي و ذكروا أنه أخبرهم أنه قرأ على عثمان عامة القران، و كان يسأله عن القران فيقول: إنك تشغلني عن أمر الناس فعليك بزيد بن ثابت فإنه يجلس للناس و يتفرغ لهم، و لست أخالفه في شي ء من القران، و كنت ألقى عليا
__________________________________________________
(1) أبو داود (2/ 73)، مرجع سابق.
(2) رواه البخاري (1/ 6)، مسلم (4/ 1802)، مرجعان سابقان، و انظر: تلقي النبي ألفاظ القران الكريم ص 177، مرجع سابق.(1/111)
فأسأله: فيخبرني، و يقول: عليك بزيد فأقبلت على زيد فقرأت عليه القران ثلاث عشرة مرة «1».
و في تكرار العرض تأكيد بليغ على: دقة المحافظة على النص القراني، و مقدار إتقان القراءة من القراء.
تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم طرق تحمل القران الكريم:
و فيما سبق ذكره يتضح لنا أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم علمهم طرق تحمل القران الكريم عنه صلّى اللّه عليه و سلّم «2»، و أنهما طريقان لا غير: السماع من لفظ الشيخ أو السماع عليه بقراءة غيره، و العرض (القراءة) عليه، وعد أهل العلم من حكم قراءة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم على أبي أن يسنّ «عرض القران على حفاظه البارعين فيه المجيدين لأدائه، و ليسن التواضع في أخذ الانسان القران و غيره من العلوم الشرعية من أهلها و إن كانوا دونه في النسب والدين و الفضيلة و المرتبة و الشهرة و غير ذلك» «3».
... و ما بقي من الطرق المعروفة عند المحدثين من مناولة و إجازة (بالمعنى الحديثي)... و نحوها «4».
«فلا مكان لها في تحمل القران الكريم» «5»، كما قال الناظم:
__________________________________________________
(1) سير أعلام النبلاء (4/ 270)، مرجع سابق، و قال: «إسنادها ليس بالقائم»، و هذه سنة أئمة الإقراء فقد قال ابن مجاهد- مثلا-: «فأما قراءة نافع بن أبي نعيم فإني قرأت بها على عبد الرحمن بن عبدوس من أول القران إلى خاتمته نحوا من عشرين مرة» انظر: السبعة ص 88.
(2) أشار إلى هذا الموضوع الإمام السيوطي في الإتقان (1/ 264)، مرجع سابق.
(3) (النووي) أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي 676 ه: صحيح مسلم بشرح النووي (16/ 19)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 1392 ه.
(4) انظر في طرق تحمل الحديث: ألفية السيوطي في مصطلح الحديث بتعليق الشيخ شاكر ص 60.
(5) انظر: الإتقان (1/ 264)، مرجع سابق.(1/112)
و لا يجوز أخذها من الكتب كما به قد صرحوا، بل يجب
عليك أن تعرفها ممن يريك كيفية النطق بها فاه لفيك «1»
إلا أن الإجازة قد توجد بشرط أن تكون تابعة لهاتين الطريقتين بمعنى أنه تم سماع الطالب أو عرضه على شيخ اخر ثم أجيز بعد أن اختبره المجيز،... أما المناولة و نحوها فلا مكان لها لأمرين أساسين يختلف في علوم القراءة عن علوم الحديث هما:
1- أن علوم القراءة لا تختلف إلا اختلافا محدودا في هيئة أداء اللفظ الداخلية غالبا أما الأحاديث فقد يوجد في هذا الكتاب ما لا يوجد عند ذاك من متن الحديث أو سنده...
2- و لأن المقصود هنا كيفية الأداء و ليس كل من سمع من لفظ الشيخ يقدر على الأداء كهيئته بخلاف الحديث فإن المقصود فيه المعنى أو اللفظ لا بالهيئات المعتبرة في أداء القران، و أما الصحابة فكانت فصاحتهم و طباعهم السليمة تقتضي قدرتهم على الأداء كما سمعوه من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لأنه نزل بلغتهم، دون حاجة كبيرة إلى العرض و المران على قواعد التجويد التي تمثل ظواهر لغوية، و يحكى أن الشيخ شمس الدين بن الجزري لما قدم القاهرة و ازدحمت عليه الخلق لم يتسع وقته لقراءة الجميع فكان يقرأ عليهم الاية ثم يعيدونها عليه دفعة واحدة فلم يكتف بقراءته.
ولكن المستعمل عند القراء سلفا و خلفا هو العرض بالقراءة على الشيخ و أما السماع من لفظ الشيخ فيحتمل أن يقال به هنا لأن الصحابة رضي اللّه عنهم إنما أخذوا القران من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لكن لم يأخذ به أحد من القراء، و قد يمنع منه؛ إذ ظن أنه لن يؤدي الغرض.
__________________________________________________
(1) انظر: سنن القراء ص 15، مرجع سابق.(1/113)
و مما يتنبه له: أنه تجوز القراءة على الشيخ و لو كان غيره يقرأ عليه في تلك الحالة إذا كان بحيث لا يخفى عليه حالهم و قد كان الشيخ علم الدين السخاوي يقرأ عليه اثنان و ثلاثة في أماكن مختلفة و يرد على كل منهم، و كذا لو كان الشيخ مشتغلا بشغل اخر كنسخ و مطالعة، و أما القراءة من الحفظ فالظاهر أنها ليست بشرط بل يكفي و لو من المصحف.
المطلب الثالث: العرضة الأخيرة:
حقيقتها و إثبات وجودها:
العرضة من العرض، و هي مأخوذة من معارضة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم القران على جبريل عليه السّلام و معارضة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم القران على أصحابه، و المعارضة هنا مفاعلة؛ لأنها ثبتت في حديث المعارضة «1»... و قد أشار النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إلى اخر معارضة له مع جبريل عليه السّلام بقوله: «أن جبريل عليه السّلام كان يعارضني بالقران كل سنة مرة، و إنه قد عارضني به العام مرتين...» «2». و عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: كان يعرض على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم القران كل عام مرة فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه، و كان يعتكف كل عام عشرا فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه «3».
الهدف العام من معارضته صلّى اللّه عليه و سلّم له عليه السّلام بالقران كل سنة: لتتم مقابلة ما حفظه صلّى اللّه عليه و سلّم على ما أوحاه إليه جبريل عليه السّلام عن اللّه سبحانه و تعالى ليبقى ما بقي، و يذهب ما نسخ توكيدا و استثباتا و حفظا، و مراجعة للمحفوظ، و لتكون سنة رمضانية في الاتصال بالقران الكريم من جميع الأمة.
__________________________________________________
(1) انظر تفصيل ذلك في: تلقي النبي ألفاظ القران الكريم ص 177، مرجع سابق.
(2) صحيح البخاري (5/ 2317)، مرجع سابق.
(3) البخاري (4/ 1911)، مرجع سابق.(1/114)
و بعد أن علمنا أن جبريل عليه السّلام كان يعارض النبي صلّى اللّه عليه و سلّم القران في ليل رمضان، و كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يعارض أصحابه رضي اللّه عنهم و أئمة الإقراء منهم خاصة ما كان يعارضه جبريل عليه السّلام في وقت اخر... فهو صلّى اللّه عليه و سلّم مأمور بتبليغ الرسالة، و كيف يبلغها و لم يعلمهم و يتثبت من حفظهم؟ و مما يدل على إثبات هذه العرضة على أصحابه رضي اللّه عنهم ما جاء عن سمرة رضي اللّه عنه قال: عرض القران على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عرضات فيقولون: إن قراءتنا هذه هي العرضة الأخيرة «1»، و يدل له ما سيأتي من إثبات شهود ابن مسعود للعرضة الأخيرة، فهم كانوا يعارضون القران على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و بذا تم التيقن من ثبوت كامل القران كتابة و حفظا عند أئمة الإقراء.
و أما معنى قول الزهري: أخبرني أنس بن مالك رضي اللّه عنه أن اللّه سبحانه و تعالى تابع الوحي على رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم قبل وفاته حتى توفاه أكثر ما كان الوحي، ثم توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بعد. هذا لفظ البخاري؛ و لمسلم: إن اللّه عز و جل تابع الوحي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قبل وفاته حتى توفي، و أكثر ما كان الوحي يوم توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «2»، فقال فيه أبو شامة: «يعني عام وفاته أو حين وفاته، يريد أيام مرضه كلها، كما يقال: يوم الجمل و يوم صفين، و كانت أياما» «3»، و الظاهر عند الباحث أن المراد من كلام أنس رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ما توفي حتى اكتمل الوحي، و لذا نزل كثير منه في الفترة التي سبقت وفاته، و قد تمتد لتكون أكثر من سنة، و عرض ذلك في رمضان إلا ايات قلائل محصورة هي التي قيل إنها اخر ما نزل من القران، فليس ما ذكره خارجا عن العرضة.
__________________________________________________
(
1) الحاكم (2/ 250)، مرجع سابق، و قال ابن حجر في الفتح (9/ 44)، مرجع سابق: «و إسناده حسن».
(2) البخاري (4/ 1906)، مسلم (4/ 2312)، مرجع سابق.
(3) المرشد الوجيز ص 30، مرجع سابق.(1/115)
ولكن لم يكن يشهد العرضة كل الناس، للاكتفاء بوجوب تبليغ بعضهم البعض:
فقد قالت عائشة- رضي اللّه تعالى عنها-: كان فيما أنزل من القران عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم وهن فيما يقرأ من القران «1» فقولها (و هن فيما يقرأ) «أي يقرؤها بعض الناس لكونهم لم يبلغهم النسخ الواقع في العرضة الأخيرة لقرب عهداهم فلما بلغهم رجعوا و أجمعوا على أنه لا يتلى» «2» و هذا ما قرره بعض العلماء، و للفظ عائشة تقرير اخر عند الباحث- ربما كان أكثر وجاهة- هو أن يكون معنى قولها هذا على سبيل التأكيد البالغ على التحريم بالرضاع بهذا العدد دون نسخه، ولكن ذلك من قول الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و ليس من قول اللّه جل جلاله، و أرادت التأكيد على الالتزام فعزته إلى القران- و هذا من خواص لغة الصحابة- كما قال ابن مسعود رضي اللّه عنه: «لعن اللّه الواشمات، و المستوشمات، و النامصات، و المتنمصات، و المتفلجات للحسن المغيرات خلق اللّه» قال: فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب و كانت تقرأ القران فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات و المستوشمات و المتنمصات و المتفلجات للحسن المغيرات خلق اللّه فقال عبد اللّه:
و ما لي لا ألعن من لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و هو في كتاب اللّه؟ فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته. فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه قال اللّه عزّ و جلّ: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (الحشر: 7).. «3».
و من هذا الباب أيضًا إطلاق لفظ اية أو نسبته إلى اللّه سبحانه و تعالى لزيادة التأكيد على ثبوته
__________________________________________________
(1) مسلم (2/ 1075)، مرجع سابق.
(2) (السيوطي) أبوالفضل جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر ت 911 ه: الديباج على صحيح مسلم (4/ 61)، مراجعة: أبو إسحاق الحويني الأثري- دار ابن عفان- الخبر- السعودية.
(3) البخاري (4/ 1853)، مسلم (3/ 1678)، مرجع سابق.(1/116)
بسنة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم «1» حتى يظن بعضهم أنها من القران نحو ما جاء عن عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهما قال: قال: عمر بن الخطاب و هو جالس على منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:
إن اللّه قد بعث محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم بالحق و أنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه اية الرجم قرأناها، و وعيناها و عقلناها، فرجم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و رجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب اللّه فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللّه، و إن الرجم في كتاب اللّه حق على من زنى إذا أحصن من الرجال و النساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف «2» و ينظر التعبير الوارد في اخر الحديث (فريضة أنزلها اللّه)، و قوله (الرجم في كتاب اللّه حق)... كقول ابن مسعود المتقدم.
و تناقل التابعون نبأ وجود هذه العرضة:
فعن ابن سيرين قال: كان جبريل عليه السّلام يعارض النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في كل شهر رمضان فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه مرتين. قال ابن سيرين: فيرجى أن تكون قراءتنا هذه على العرضة الأخيرة «3»، و استنبط بعضهم من كتابة عثمان للمصاحف أنها إنما تمت وفق العرضة الأخيرة فعن ابن سيرين قال: جمع عثمان اثني عشر رجلا من قريش و الأنصار منهم أبى بن كعب، و أرسل إلى الربعة «4»
__________________________________________________
(
1) و ما زال- بعد هذا- يحتمل توجيها اخر هو أن يكون الحديث المذكور بلفظ يوهم أنه اية أن يكون حديثا قدسيا... و قد يضطرب الأمر على صحابي أو تابعي فيحسبه قرانا، و الأمر القاطع الذي يحسم هذه المسألة مرده إلى التواتر القراني الذي يزيل كل شبهة بإثبات أو نفي... و لم أجد من أشار إلى هذه المسألة بهذا النوع من المعالجة.
(2) البخاري (6/ 2503)، مسلم (3/ 1317)، مرجعان سابقان.
(3) الضياء في المختارة (7/)، سعيد بن منصور في سننه (1/ 237)، مرجعان سابقان.
(4) الربعة: إناء مربع كأنه مغطى ملتف يشبه الصندوق... انظر: النهاية (2/ 189)، مرجع سابق.(1/117)
التي في بيت عمر، قال فحدثني كثير بن أفلح- و كان ممن يكتب- قال فكانوا: إذا اختلفوا في الشي ء أخروه قال ابن سيرين: «أظنه ليكتبوه على العرضة الأخيرة» «1».
الجمع بين كتابة زيد للمصاحف في عهد عثمان و شهود ابن مسعود للعرضة:
و النصوص التي بين أيدينا تدل على شهود ابن مسعود للعرضة الأخيرة، و أنه تعلم من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم القران بعد أن عرضه على جبريل عليه السّلام، و يدل لذلك ما رواه أبو ظبيان قال: قال لنا ابن عباس: أي القراءتين تقرؤون؟ قلنا قراءة عبد اللّه قال: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يعرض عليه القران في كل عام مرة و إنه عرض عليه العام الذي قبض فيه مرتين فشهد عبد اللّه ما نسخ «2»، و في لفظ عنه: قال ابن عباس: أي القراءتين تعدون القراءة الأولى؟ قالوا: قراءة عبد اللّه. قال: قراءتكم القراءة الأولى و قراءة عبد اللّه القراءة الاخرة! إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يعرض عليه القران كل رمضان عرضة، فلما كان العام الذي قبض فيه عرض عليه عرضتان فشهده عبد اللّه، و شهد ما نسخ منه و ما بدل «فقراءة عبد اللّه الاخرة» «3»، و ورد عن زر بن حبيش الأسدي «4»، و ورد عن مجاهد «5»، و قد بين في بعض ألفاظ هذا الحديث ما ذا يعنون بالقراءة الاخرة، و أنها قراءة زيد فعن ابن عباس قال: أي
__________________________________________________
(1) فتح الباري (9/ 19)، مرجع سابق.
(2) الضياء في المختارة (9/ 542)، مرجع سابق.
(3) النسائي في الكبرى (5/ 7)، مرجع سابق، و قال ابن حجر في الفتح (9/ 45)، مرجع سابق: «و إسناده صحيح».
(4) الطبراني في الكبير (12/ 103)، مرجع سابق.
(5) مسند أحمد (1/ 275)، مرجع سابق، و في مجمع الزوائد (9/ 288)، مرجع سابق، قال: «رواه أحمد و البزار و رجال أحمد رجال الصحيح».(1/118)
القراءتين ترون كان اخر القراءة؟ قالوا: قراءة زيد. قال: لا! إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يعرض القران كل سنة على جبريل عليه السّلام فلما كانت السنة التي قبض فيها عرضه عليه عرضتين فكانت قراءة ابن مسعود اخرهن «1» و قال: إنه لاخر حرف عرض به النبي صلّى اللّه عليه و سلّم على جبريل عليه السّلام «2».
و مما تقدم من الروايات يظهر لنا أن ابن مسعود شهد العرضة الأخيرة بإثبات ابن عباس، و إثباته هو رضي اللّه عنه، فقد ورد صريحا عنه رضي اللّه عنه فقد قال رضي اللّه عنه متحدثا عن أخر عام عرض فيه النبي صلّى اللّه عليه و سلّم القران على جبريل عليه السّلام، و كان عرضه عرضتين-: فقرأت القران من في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ذلك العام، و اللّه لو أني أعلم أن أحدا أعلم بكتاب اللّه مني تبلغينه الإبل لركبت إليه و اللّه ما أعلمه «3».
و تدل الروايات السابقة على أن عبد اللّه بن مسعود شهد العرضة الأخيرة، و هذا يدل على سماعه ما هو أكثر من اثنتين و سبعين سورة من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و ذلك لأن النازل من سور القران الكريم حتى العرضة الأخيرة كان أكثر من ذلك قطعا، و إنما أثبت لنفسه هذه السور من فم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لأن الظاهر من ذلك أنه تلقنها بمفرده مباشرة من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و لذا جاء في رواية عنه: «فلقد أخذت من فيه صلّى اللّه عليه و سلّم سبعين سورة ما نازعني فيها بشر» «4» و أما العرضة فهي عامة، و الظاهر من العرضة على الناس إنها سماع منهم للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم لا عرض، و قد ذكر أنه أتم الباقي على علي بن أبي طالب، فعنه رضي اللّه عنه قال: قرأت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سبعين
__________________________________________________
(1) الحاكم (2/ 250)، مرجع سابق.
(2) انظر: فتح الباري (9/ 44)، مرجع سابق.
(
3) (ابن سعد) محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري (168 ه- ت 230 ه): الطبقات الكبرى (2/ 194)، دار صادر بيروت.
(4) ابن حبان (14/ 433)، أبو يعلى (8/ 403)، مرجعان سابقان.(1/119)
سورة و ختمت القران على خير الناس علي بن أبي طالب «1»... و في كل الأحوال فزعم عدم ختمه قبل وفاة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لا يرقى إلى مستوى الرأي المطروح مع هذه القرائن الدالة على إتمامه المصحف، و سماعه كل ما نزل على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إلى اخر رمضان قبل وفاة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم على الأقل، و هذا الزعم لو صح لكان كافيا للرد على ابن مسعود في تقديم زيد عليه، و ماذا يقول من ينفي ختم ابن مسعود في حياة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بحديث: «خذوا القران من أربعة من بن أم عبد فبدأ به و معاذ بن جبل و أبي بن كعب و سالم مولى أبي حذيفة» «2»؟ فقرنه صلّى اللّه عليه و سلّم بكبار أئمة الإقراء، بل بسيد سادات القراء و هو أبي بن كعب، و قدمه عليهم.
و قد قرر مكي بن أبي طالب ذلك بما يشبه هذا- ضمن احتمالات وضعها-:
«و أما ابن مسعود فإنه قال: قرأت من لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سبعين سورة، و قد كنت أعلم أنه يعرض عليه القران في كل رمضان حتى كان عام قبض، فعرض عليه القران مرتين، قال: فكان إذا فرغ النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أقرأ عليه فيخبرني أني محسن، فأما ما بقي عليه فيجوز أن يكون سمعه من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فيقوم سماعه منه مقام قراءته عليه من القران...» «3»، و أما الاحتمالات الاخرى التي ذكرها مكي فيردها ما سبق. و ما ورد مما ينافي حفظ ابن مسعود لبعض السور فضعيف، و يظهر منه أن تصوره كاف في إبطاله.. «4»..
__________________________________________________
(
1) مجمع الزوائد (9/ 288)، مرجع سابق، و قال: «رواه الطبراني و فيه يحيى ابن سالم و هو ضعيف» و الحديث بحاجة لزيادة تمحيص ليتم قبوله أو رده، و الظاهر أنه إن صح فالمراد العرض مرة ثانية... و إلا فما حاجة ابن مسعود لذلك و قد شهد العرضة الأخيرة؟.
(2) البخاري (3/ 1385)، مسلم (4/ 1913)، الحاكم (3/ 250)، الترمذي (5/ 674)، مراجع سابقة.
(3) (القيسي) مكي بن أبي طالب حموش القيسي 437 ه: الإبانة عن معاني القراات ص 117، قدم له و حققه، و علق عليه، و شرحه، و خرج قرااته: الدكتور عبد الفتاح إسماعيل شبلي: المكتبة الفيصلية، مكة المكرمة.
(4) انظر الأصل ففيه تفصيل حول تلك الروايات.(1/120)
إثبات حفظ ابن مسعود للقران الكريم في حياة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:
فثبت- بما سبق- إكمال ابن مسعود رضي اللّه عنه القران على عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و القائل بأن ابن مسعود لم يكمل القران أراد تبرير تقديم أبي بكر و عمر و عثمان لزيد، ولكن لا ينبغي أن يؤتى بمبرر خاطئ ينفي حقيقة حفظ ابن مسعود رضي اللّه عنه و جلالته في علم القران و علم القراءة:
فأما ملازمة زيد للنبي ف فهي للكتابة أما الملازمة بغير ذلك فما أكثر ما لازمه ابن مسعود رضي اللّه عنه حتى كان يلقب ب «صاحب النعلين و الطهور و الوساد، و السواد و هو السرار» «1»، و حتى كان أشبه الناس هديا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فعن عبد الرحمن بن يزيد قال: سألنا حذيفة عن رجل قريب السمت و الهدي من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقال:
ما أعرف أحدا أقرب سمتا و هديا و دلا بالنبي صلّى اللّه عليه و سلّم من ابن أم عبد «2»، و من شدة ملازمته رضي اللّه عنه ظنّ الناس أنه من ال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فعن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال: قدمت أنا و أخي من اليمن فمكثنا حينا ما نرى إلا أن عبد اللّه بن مسعود رجل من أهل بيت النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لما نرى من دخوله و دخول أمه على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم «3»، بل روى علي رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «لو كنت مستخلفا أحدا عن غير مشورة لاستخلفت ابن أم عبد» «4».
و من الثناء البديع على ابن مسعود رضي اللّه عنه مما يمثل مؤهلا كبيرا له لنسخ المصاحف: أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد، و كرهت
__________________________________________________
(1) البخاري (1/ 69)، و (3/ 1368)، مرجعان سابقان.
(2) البخاري (3/ 1383)، مرجع سابق.
(3) البخاري (3/ 1383)، مرجع سابق.
(4) ابن أبي شيبة (6/ 384)، الطبراني في الأوسط (6/ 272)، مرجعان سابقان.(1/121)
لأمتي ما كره لها ابن أم عبد» «1» فقد رضي لها النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ما يرضاه ابن أم عبد في عامة أمورها، و أما في خصوص الإقراء فتقدم حديث: «خذوا القران من أربعة من بن أم عبد فبدأ به...».
و مضت منزلة ابن مسعود رفعة و قوة في حياة الأمة فروى حذيفة رضي اللّه عنه قال:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر و عمر رضي اللّه عنهما و اهتدوا بهدي عمار بن ياسر و تمسكوا بعهد ابن أم عبد» «2»، و شهادة حذيفة كافية في هذا الباب؛ إذ يقول: «لقد علم المحظوظون من أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و سلّم أن ابن أم عبد من أقربهم إلى اللّه وسيلة» «3».
و منزلة ابن أم عبد في القراءة هي منزلته حتى فاق في نظر بعض العلماء منزلة أبي كما قال بعض أهل العلم: «فإن قيل فهل لأحد من الصحابة من الرتبة في القران مثل ما لأبي منها؟ قلنا: لعبد اللّه بن مسعود زيادة على ما وجدناه لأبي...» «4»، و شهد الصحابة له بذلك فقد اجتمع بعض أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في دار أبي موسى رضي اللّه عنه و هم ينظرون في مصحف فقام عبد اللّه، فقال أبو مسعود: ما أعلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ترك بعده أحدا أعلم بما أنزل اللّه عز و جل من هذا القائم، فقال أبو موسى: أما لأن قلت ذاك لقد كان يشهد إذا غبنا و يؤذن له إذا حجبنا «5»... فماذا بعد هذه المؤهلات العظيمة من أدلة تدل على تمام حفظ ابن
__________________________________________________
(1) ابن أبي شيبة (6/ 384)، و الطبراني في الأوسط (7/ 70)، مرجعان سابقان.
(2) ابن أبي شيبة (7/ 433)، الطبراني في الأوسط (6/ 76)، مرجعان سابقان.
(3) الطبراني في الأوسط (3/ 20)، مرجع سابق.
(4) (أبو المحاسن) يوسف بن موسى الحنفي أبو المحاسن: المعتصر من المختصر من مشكل الاثار (2/ 361)، عالم الكتب، مكتبة المتنبي، بيروت، القاهرة.
(5) مسلم (4/ 1912) المعجم الكبير (9/ 90)، مرجع سابق.(1/122)
مسعود و قوة أهليته في علم القران؟ و لذا كان يملي المصاحف في عهد عمر من حفظه بإقرار عمر رضي اللّه عنه و رضاه.
و أما رواية من روى عن ابن مسعود أنه سئل عن طسم فقال: «لا أحفظها سل خبابا عنها» «1» فدليل على ما قرره البحث؛ إذ ليس هكذا لفظها بل لفظها ما جاء عن معديكرب قال أتينا عبد اللّه فسألناه أن يقرأ علينا طسم المائتين فقال:
ما هي معي ولكن عليكم بمن أخذها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم خبّاب بن الأرتّ قال:
«
فأتينا خبّاب بن الأرتّ فقرأها علينا» «2»، فترك إقراءها لا لعدم حفظه، بل لعدم تلقيها مباشرة من الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، و أشار عليهم بالإسناد العالي.
و أما قول النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في عبد اللّه بن مسعود: «من أحب أن يقرأ القران غضا كما أنزل فليقرأه على رواية ابن أم عبد» «3» «فمؤهل ظاهر له في علم القران... و لا شك أن التحقيق العلمي يثير علامة استغراب حول ما تأوله بعضهم في معناه، و أن عبد اللّه بن مسعود كان يرتل القران فحض النبي صلّى اللّه عليه و سلّم على ترتيل مثل ترتيله لا غير» «4»، فهذه المنقبة مالها استحالت مثلبة؟ و في هذا التأويل نظر أيضا- إن اكتفي به-، بل مراده جودة الأداء، و إتقان الحفظ...، و هذا الذي فهمه عمر رضي اللّه عنه من الحديث أن المراد الحفظ مع إتقان الأداء فعن قيس بن مروان قال: أتى رجل عمر فقال: يا أمير المؤمنين! قد تركت بالعراق رجلا يملي المصاحف عن ظهر قلب.
فغضب عمر رضي اللّه عنه حتى احمر وجهه فقال له: عمر اعلم ما تقول! مرارا فقال:
__________________________________________________
(1) انظر: الناسخ و المنسوخ ص 483، مرجع سابق.
(2) أحمد (1/ 419)، المعجم الكبير (4/ 55)، مرجعان سابقان، مجمع الزوائد (7/ 84)، مرجع سابق، و قال: «رواه أحمد و رجاله ثقات و رواه الطبراني».
(3) المختارة (1/ 93)، مرجع سابق.
(4) انظر: الناسخ و المنسوخ ص 483، مرجع سابق.(1/123)
ما أتيتك إلا بحقّ فقال عمر رضي اللّه عنه: من هو؟ قال: ابن أم عبد. فسكن حتى ذهب عنه الغضب ثم قال: ما أصبح على ظهر الأرض أحد أحق بذلك منه، و سأحدثكم عن ذلك: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سمر في بيت أبي بكر رضي اللّه عنه ذات ليلة لبعض حاجته حتى أعتم، ثم رجع بيني و بين أبي بكر حتى انتهيت إلى المسجد إذا رجل من المهاجرين يصلي فقام فتسمع لقراءته ما أدري أنا و صاحبي من هو قال:
فلما قام ساعة قلت: يا رسول اللّه! رجل من المهاجرين يصلي لو رجعت و قد أعتمت قال: فغمزني و جعل النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يستمع لقراءته قال: فركع و سجد ثم قعد يدعو فجعل النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «سل تعطه! سل تعطه!» و لا أدري أنا و صاحبي من هو، حتى سمعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «من سره أن يقرأ القران غضا كما أنزل فليقرأه كما يقرأ ابن أم عبد» قال: فذلك حين علمت أنا و صاحبي من هو، قال: فغدوت إلى عبد اللّه لأبشره فقال: قد سبقك أبو بكر، و أيم اللّه ما سابقت أبا بكر إلى خير إلا سبقني «1»، ولكن مع أنهما بشراه إلا أنهما لم يولياه أمر المصحف في عهد أبي بكر لعلة ظاهرة تأتي الإشارة إليها. فقد اجتمع لابن أم عبد الجليل حديثان يأمران بالأخذ عنه حفظا و إتقانا للترتيل و الأحكام...
العرضة الأخيرة هي قراءة العامة:
يظهر أن الذي جمعه زيد في عهد عثمان هي قراءة العامة كما ورد هذا المصطلح في غير ما موضع من البخاري «2» كقوله: «قراءة العامة يُطِيقُونَهُ (البقرة: 184)» «3».
__________________________________________________
(1) المختارة (1/ 385)، مرجع سابق، و قال في مجمع الزوائد (9/ 288)، مرجع سابق: «رواه البزار و إسناده حسن».
(2) انظر: البخاري (3/ 1216)، مرجع سابق.
(3) البخاري (4/ 1638)، مرجع سابق، و ورد هذا المصطلح في المختارة (7/ 180)، مرجع سابق.(1/124)
و قراءة العامة لابد أن تكون العرضة الأخيرة قد اشتملت عليها لأنها العامة!... و هذا الذي قاله عبيدة السلماني: «القراءة التي عرضت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في العام الذي قبض فيه هي القراءة التي يقرأها الناس اليوم» «1».
و بعد سرد ما تقدم: يمكن أن يقرّر أن العرضة الأخيرة ليست حكرا على زيد و لا على ابن مسعود لأنها العامة أيضا، و إن لم يحضرها كل الصحابة فإنه لا ريب في حضور جمع كبير من أئمة الإقراء لها، لأنها العامة أيضًا...
اجتماع ابن مسعود و زيد في العرضة الأخيرة:
قرر ابن عباس أن الذي شهد العرضة الأخيرة هو ابن مسعود رضي اللّه عنه و هو ما صرح به ابن مسعود من قوله مع أن ابن عباس إنما تتلمذ على زيد و أبي في القراءة «2»، و كان ابن عباس يجل زيدا و يعظمه، فليس يتجنى عندما يشهد لابن مسعود، و الذي يثبت أن زيدا هو الذي شهد العرضة الأخيرة هم التابعون كأبي ظبيان و مجاهد وزرّ و جماعات... و يردهم ابن عباس لكن بلفظ يثبت شهود العرضة الأخيرة لابن مسعود دون أن ينفي شهود زيد بن ثابت لها... و قد يقال ها هنا: إن ابن عباس أراد نفي ما زعموه بشأن تغيب ابن مسعود عن العرضة الأخيرة لا إثبات تغيب زيد، و قد يسوغ عند هذا أن نقول بأن زيدا حضر هذه العرضة أيضًا و هو ما ذهب إليه أكثر أهل العلم «3»، و يعضده أن زيدا هو كاتب
__________________________________________________
(1) ابن أبي شيبة (6/ 154)، مرجع سابق.
(2) انظر إثبات ذلك في ترجمة زيد بن ثابت عند: (القيسراني) محمد بن طاهر بن القيسراني ت 507 ه: تذكرة الحفاظ (1/ 30)، تحقيق: حمدي عبد المجيد إسماعيل السلفي، دار الصميعي، الرياض، ط 1، 1415 ه، و كذلك في ترجمة ابن عباس في: يوسف بن الزكي عبد الرحمن أبو الحجاج المزي ت 742 ه: تهذيب الكمال (ص 15/ 155)، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1400- 1980.
(
3) انظر مثلا: سير أعلام النبلاء 1/ 488، مرجع سابق، مناهل العرفان 1/ 174، مرجع سابق.(1/125)
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الملازم، و تقديم زيد أقوى لذلك، و هو الذي أجمع عليه الصحابة في عهد أبي بكر رضي اللّه عنه و هم الأكابر، على أن بعض الوحي قد نزل بعد رمضان، و الكاتب المتلقن الملازم يقدم على الكاتب المتلقن غير الملازم.
السبب الحقيقي لتقديم زيد في جمع المصحف المصاحف و نسخه:
و بعد هذا البحث عن العرضة الأخيرة، و تقرير حضور ابن مسعود رضي اللّه عنه لها يمكن للباحث القول بأن البعض قد جانبه الصواب حينما جعل معيار تقديم زيد هو حضور العرضة الأخيرة «1»، و الذي نريد تقريره هنا لتتضح الصورة الكلية أن زيد بن ثابت رضي اللّه عنه ما تولى كتابة المصاحف في عهد عثمان إلا رئيسا للجنة قامت بهذا العمل، شارك فيها أبي- و كذلك في عهد أبي بكر-، و أما ابن مسعود فلم يكن في المدينة حيث كان العمل لنعلم أيعزل عنها كما قال هو أم لا، و الأمر كان أعجل من أن يؤخر حتى يرسل إلى ابن مسعود ليأتي من الكوفة حيث المسافة ذهبا و إيابا تقرب من شهرين، مع وجود الأكفاء، ثم وجد الكاتب الإمام الذهبي يقرر هذا التقرير ذاته حيث قال: «إنما شق على ابن مسعود لكون عثمان ما قدمه على كتابة المصحف، و قدم في ذلك من يصلح أن يكون ولده و إنما عدل عنه عثمان لغيبته عنه بالكوفة و لان زيدا كان يكتب الوحي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فهو إمام في الرسم، و ابن مسعود إمام في الأداء» «2».
و أما أيام أبي بكر رضي اللّه عنه فإن المؤهل الذي قدم زيدا على ابن مسعود مع إجلال أبي بكر و عمر له- و هما راويا حديث «من أحب أن يقرأ القران غضا...»-
__________________________________________________
(
1) انظر مثلا في: مختارات فصول الجاحظ- مخطوط مصور بدار الكتب رقم 24069، و عنه نقل (دكتور) عبد الصبور شاهين: تاريخ القران ص 123، دار القلم 1966 م، و عنه نقلا مؤلفا كتاب معجم القراات القرانية ص 9 معتبرين إجابة الجاحظ إجابة حكيمة واعية- و هي كذلك- لولا أنها مبنية على وهم.
(2) سير أعلام النبلاء (1/ 488)، مرجع سابق.(1/126)
أن ابن مسعود لم يكن في المدينة فيما يظهر، بل كان على النفل في اليرموك، و هذا يدل على أنه كان في حرب خارج المدينة... هذا بالإضافة إلى أن زيدا كان الكاتب الملازم و هو سبب قوي ذكره الشيخان في محاورتهما لزيد و إقناعه بأن يتولى ذلك.
وثمة أسباب أخر ليس هذاميدانها و لا مكان بسطها.
مشكل قراءة منسوبة لابن مسعود و أبي الدرداء:
عن علقمة قال: قدمنا الشام فأتانا أبو الدرداء فقال: أفيكم أحد يقرأ علي قراءة عبد اللّه؟ فقلت: نعم! أنا قال: فكيف سمعت عبد اللّه يقرأ هذه الاية وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى قال: سمعته يقرأ وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى و الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى قال:
و أنا و اللّه هكذا سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقرؤها، ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ وَ ما خَلَقَ فلا أتابعهم «1» فهذه القراءة المنسوبة للشيخين شاذة، و في الحديث علة ظاهرة توجب إما التأويل و إما الاطّراح، و هي:
أولا: مخالفة رجال سند هذا الحديث لكل الأمة الإسلامية في هذه الرواية، و ليست المخالفة لأربعة أو لخمسة من الثقات حتى تصير رواية الأقل شاذة لمخالفتها رواية الأكثر على ما هو مقرر في مصطلح الحديث.. و هذه علامة تعجب من بعض الذين يشذذون رواية في صحيح مسلم، و مع ذلك لا يشذذون ما ورد في هذا الحديث؟.
و لذا قال الشافعي: «من متناقض القول الجمع بين قبول رواية القراءة الشاذة في القران و بين رد الزيادة التي ينفرد بعض الرواة الثقات مع العلم بأن سبيل إثبات القران أن ينقل استفاضة و تواترا» «2».
__________________________________________________
(1) البخاري (3/ 1368)، مسلم (1/ 565)، مرجعان سابقان.
(2) البرهان (1/ 426)، مرجع سابق.(1/127)
ثانيا: مخالفة رجال السند في هذا الحديث لأهل المصرين اللذين انتشرت فيهما قراءة ابن مسعود و أبي الدرداء: الكوفة و الشام، و قراءة علقمة لها يدل على أنها سادت في الكوفة و لو لفترة قريبة لكننا لم نسمع همسا في الكوفة فضلا عن الشام، و تعجب من ذلك ابن حجر فقال: «و العجب من نقل الحفاظ من الكوفيين هذه القراءة عن علقمة و عن ابن مسعود و إليهما تنتهي القراءة بالكوفة، ثم لم يقرأ بها أحد منهم، و كذا أهل الشام حملوا القراءة عن أبي الدرداء، و لم يقرأ أحد منهم بهذا فهذا مما يقوي أن التلاوة بها نسخت» «1»، و لعل في القول بالنسخ نظرا؛ إذ ثم موازين دقيقة وضعها علماء الحديث كان ينبغي بحث هذا الحديث في ضوئها أيضًا مثل القلب، و الاضطراب، و الشذوذ.
و مما يؤكد الرد السابق: أن ابن عامر القارئ الرابع من السبعة قرأ على أبي الدرداء اتفاقا مباشرة، و هو قارئ أهل الشام و قراءته إلى القرن الخامس الهجري كانت هي الغالبة على أهل الشام... فما باله لم ينقل هذه القراءة؟ و لذا نؤكد على أن منهج إثبات القراءة هو التلقي، و ليس البحث في السطور التي يعتريها الوهم، أو الشذوذ، و لا يؤمن فيها من الدس...
أما تقرير من قال بأن العرضة الأخيرة كانت وفق قراءة زيد لأنه حضرها فقد بينا أن النصوص الموجودة تبين حضور ابن مسعود بصورة أصرح من حضور زيد (مع التأكيد على حضور زيد كما سبق)، و الفارق بين قراءة زيد و ابن مسعود غير ظاهر، و قد نظّر بعض المحققين على من زعم أن قراءة زيد هي السائدة؛ إذ كان هدف نسخ المصاحف في عهد عثمان تعميم المصاحف، و إعطاء الشرعية للقراات، و ابن مسعود لم بغضب لأنه سيجبر على قراءة زيد بل لتولية زيد دونه
__________________________________________________
(1) فتح الباري (8/ 707)، مرجع سابق.(1/128)
مع كبر سن ابن مسعود و أهليته «و أيضًا فمن المحال أن يكون عثمان أقرأ الخلفاء، و أقدمهم صحبة و كان يحفظ القران كله ظاهرا و يقوم به في ركعة... و يترك قراءته التي أخذها من فم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و يرجع إلى قراءة زيد و هو صبي من صبيانه» «1».
و لذا فإن الذي يمكن استنتاجه مما سبق أن الفرق بين عرضات القران المتتابعة يسير- حتى مع القول بوجود النسخ- و لعل الفرق الظاهر الجلي بينها هو ما يزيد من القران مما نزل منه في السنة الجديدة.
المطلب الرابع: التعليم القراني العام:
يدرس هذا المطلب وجود الصبغة الإلزامية للتعليم القراني، و تعميمه على كافة فئات المجتمع، و جعله مادة أساسية للمسلمين دون استثناء، و تشجيعه برفده بما يجعل تعلم جزء من القران اختياريا له مبررات النمو، و لذا ينقسم الكلام فيه إلى: كيفية الإقراء، الكلام عن التعليم الإلزامي، و التعليم غير الإلزامي، و استتبع هذا الكلام عن أخذ الأجرة على تعليم القران الكريم، و القول الراجح فيها، و أثر ذلك على نشر التعليم القراني.
كيفية الإقراء:
الإقراء الجماعي العام، و الإقراء الفردي الخاص:
التلقين للصحابة قد يأخذ الصبغة الخاصة بإقراء النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لحلقة أو لصحابي معين للايات، و قد يأخذ الصبغة العامة بالقراءة على الجمع الكثير في المسجد و هم يتلقون الايات، مع بقاء الصبغة الخاصة: كما في الصحيحين و غيرهما من حديث عائشة- رضي اللّه تعالى عنها- قالت: لما نزلت الايات من
__________________________________________________
(1) (ابن حزم) علي بن أحمد بن حزم الأندلسي أبو محمد ت 456 ه: الإحكام في أصول الأحكام (6/ 268)، دار الحديث، القاهرة، ط 1، 1404 ه.(1/129)
اخر سورة البقرة في الربا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى المسجد فقرأهن على الناس ثم حرم التجارة في الخمر «1».
و كانت المجامع العامة المعتادة فرصة لقراءة ايات جديدة نزلت، أو التذكير بايات أخرى فعن أبي بن كعب رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قرأ يوم الجمعة تبارك و هو قائم فذكرنا أيام اللّه، و أبو الدرداء أو أبو ذر يغمزني فقال: متى أنزلت هذه السورة إني لم أسمعها إلا الان؟ فأشار إليه: أن اسكت فلما انصرفوا قال:
سألتك متى أنزلت هذه السورة فلم تخبرني؟ فقال أبي: «ليس لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوت» فذهب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فذكر له و أخبره بالذي قال أبي فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «صدق أبي» «2».
و كان الصحابة رضي اللّه عنهم يفعلون ذلك أيضًا فيما بينهم، فيقرأ قارئ منهم و هم يستمعون، فعن أبي سعيد الخدريّ رضي اللّه عنه أنّهم كانوا جلوسا يقرؤن القران و يدعون.. «3»..
و قد يقوم بالقراءة العامة أصحابه (تلاميذه) رضي اللّه عنهم فيقرؤون على الناس في المجامع العامة السورة بأكملها: فعن جابر رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم حين رجع من عمرة الجعرانة بعث أبا بكر على الحج فأقبلنا معه حتى إذا كان بالعرج ثوب بالصبح ثم استوى ليكبر فسمع الرغوة خلف ظهره فوقف على التكبير، فقال:
__________________________________________________
(1) البخاري (2/ 743)، مسلم (3/ 1206)، المنتقى لابن الجارود (1/ 149)، ابن حبان (11/ 318)، مراجع سابقة.
(2) ابن ماجة (1/ 352)، مرجع سابق، و في مصباح الزجاجة (1/ 134)، مرجع سابق: «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات».
(3) أبو داود (3/ 323)، أحمد (3/ 96)، أبو يعلى (2/ 382)، الطبراني في الأوسط (3/ 348)، مراجع سابقة.(1/130)
هذه رغوة ناقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لقد بدا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في الحج فلعله أن يكون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فنصلي معه فإذا علي عليها فقال له: أبو بكر أمير أم رسول؟
فقال: لا! بل رسول أرسلني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ببراءة أقرؤها على الناس في مواقف الحج، فقدمنا مكة فلما كان قبل التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس فحدثهم عن مناسكهم حتى إذا فرغ، قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، ثم خرجنا معه حتى إذا كان يوم عرفة قام أبو بكر فخطب الناس فحدثهم عن مناسكهم، حتى إذا فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، ثم كان يوم النحر فأفضنا فلما رجع أبو بكر خطب الناس فحدثهم عن إفاضتهم و عن نحرهم و عن مناسكهم فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر فخطب الناس فحدثهم كيف ينفرون و كيف يرمون فعلمهم مناسكهم فلما فرغ قام علي فقرأ براءة علي على الناس حتى ختمها «1».
الإقراء الفردي:
و نظام الحلقات، و القراءة العامة لم يمنع من الإقراء الفردي، فقد كان الصحابة رضي اللّه عنهم يستقرئون النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، فيقوم بإقرائهم: فعن ابن عباس في قوله جل جلاله: عَبَسَ وَ تَوَلَّى (عبس: 1) قال: بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يناجي عتبة بن ربيعة و أبا جهل بن هشام و العباس بن عبد المطلب و كان يتصدى لهم كثيرا و يحرص عليهم أن يؤمنوا، فأقبل إليه رجل أعمى يقال له: عبد اللّه بن أم مكتوم يمشي و هو يناجيهم فجعل عبد اللّه يستقرى ء النبي صلّى اللّه عليه و سلّم اية من القران و قال: يا رسول اللّه! علمني مما علمك اللّه فأعرض عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و عبس في وجهه
__________________________________________________
(1) النسائي في الكبرى (2/ 416)، مرجع سابق.(1/131)
و تولى و كره كلامه، و أقبل على الاخرين.. «1».، و كما طلب ذلك منه عقبة بن عامر رضي اللّه عنه قال: تبعت النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يوما و هو راكب فوضعت يدي على يده فقلت: يا رسول اللّه! أقرئني من سورة هود و من سورة يوسف.. «2»..
و الأصل أن يقوم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بالإقراء:
إلا أن يشغله شاغل فيحيل المستقرئ على أحد عرفاء الإقراء أو أئمته الذين قام بتأهيلهم صلّى اللّه عليه و سلّم، فعن عبادة بن الصامت رضي اللّه عنه قال كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يشغل فإذا قدم الرجل مهاجرا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم دفعه إلى رجل منا يعلمه القران.. «3».،
و عن أبي سعيد رضي اللّه عنه و كان قرأ القران على أبي هريرة قال: ما قرأت القران إلا على أبي هريرة هو أقرأني «4».
و قد استبان لنا من هيئة جلسة الصحابة بين يديه صلّى اللّه عليه و سلّم في القراءة الفردية:
الهيئة التي ذكرها ابن مسعود رضي اللّه عنه في قوله: علمني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم التشهد كفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القران التحيات للّه.. «5».، فالتشبيه يحتمل شمولاه لهيئة الجلوس مع التدقيق في الحفظ و إتقان الأداء.
__________________________________________________
(1) الطبري (30/ 51)، مرجع سابق، و أخرجه عن عائشة مختصرا ابن حبان (2/ 293)، الترمذي (5/ 432)، مرجعان سابقان.
(2) ابن حبان (3/ 75)، النسائي في الكبرى (1/ 330)، مرجع سابق.
(3) المختارة (8/ 266)، مرجع سابق.
(4) الطبري (28/ 226)، مرجع سابق.
(5) البخاري (5/ 2311)، مسلم (1/ 302)، مرجع سابق.(1/132)
تعميم التعليم القراني:
أولا: التعليم القراني الإلزامي:
كان من أسس رسالة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إلزام المسلمين بالارتباط بالقران الكريم تلاوة و تعلما لأصل اللفظ و لأدائه يوميا، و تمثلت مظاهر هذا الإلزام في عدة أساليب تربوية:
1- ربط صحة أعظم عبادة يومية بإتقان شي ء من القران الكريم: فاتحة كتاب أو ما يقوم مقامها، و لا بد من إخراج حروفها من مخارجها، و إعطائها حقها و مستحقها.
2- وسم من لم يقرأ عشر ايات في اليوم بالغافلة في قوله صلّى اللّه عليه و سلّم: «من قرأ عشر ايات في ليلة لم يكتب من الغافلين» «1».
3- الأمر بتلاوة الكتاب عموما، و هو أمر يقتضي الوجوب، و يصدق على أقل ما يسمى قرانا كما في قوله جل جلاله: وَ اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ (الكهف: 27).
4- الإشارة إلى ذم من لم يتعلم سورا بعينها: فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «تعلموا البقرة فإن أخذها بركة و تركها حسرة و لا يستطيعها البطلة» «2».
5- وجوب تعليمه على من علمه بدون أخذ أجرة في مقابله ما دام لم يتفرغ لذلك كليا أو جزئيا... لأن منع تعليمه كتمان للعلم، و اللّه سبحانه و تعالى يقول: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ
__________________________________________________
(1) الحاكم (1/ 742)، مرجع سابق، و قال: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه».
(2) مسلم (1/ 553)، مرجع سابق..(1/133)
يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (البقرة: 159)، و قد تقدم وجوب التبليغ و لو لاية واحدة.
و كتطبيق لهذا نرى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يرسل المقرئين إلى البلاد التي دخلها الإسلام:
كإرساله مصعب بن عمير و عبد اللّه بن أم مكتوم إلى المدينة، و كذلك أرسل إلى البلاد التي ترغب بالدخول في الإسلام كإرساله السبعين مقرئا إلى قبائل نجد التي زعم أصحابها أنهم دخلوا في الإسلام:
فعن أنس رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أتاه رعل و ذكوان و بنو لحيان فزعموا أنهم قد أسلموا، و استمدوا على قومهم، فأمدهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بسبعين رجلا من الأنصار كنا ندعوهم القراء كانوا يحتطبون بالنهار و يصلون بالليل، فلما بلغوا بئر معونة، غدروا بهم فقتلوهم، فبلغ ذلك النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقنت شهرا في صلاة الصبح يدعو عليهم «1».
و هذا كله مقتض من الناحية المنهجية إنشاء المؤسسات الخاصة بتعليم القران الكريم، و إيجاد الاليات المناسبة لذلك، و يكون هذا من أهم واجبات الدولة، و لذا فلابد من أن يكون تعلم القران الكريم جزا من الحياة التعليمية للطالب المسلم في مرحلة التعليم العام، أو التعليم المتخصص الجامعي أيا كان تخصصه، و لا ينبغي أن تكون للرياضة وزارة خاصة و يقل القران عن أن تكون له الرعاية ذاتها، و إن كانت المقارنة هنا غير قائمة... و المراد الاعتناء بالجوانب القرانية اللفظية الخاصة، و إلا فالأصل صدور كل تصرفات الأمة عن هدي القران.
__________________________________________________
(1) مسلم (1/ 469)، البخاري (1/ 340)، أبو عوانة في مسنده (4/ 464)، مراجع سابقة.(1/134)
ثانيا: التعليم الذاتي: (التعليم غير الإلزامي):
و تمثل هذا النوع في الحث الشديد لكل أفراد الأمة ليحصّلوا أكبر قدر ممكن من فرض الكفاية في تعلم اللفظ القراني سواء من حيث الكمية، أو من حيث الهيئات و الظواهر الصوتية التي تتصل بالجوانب اللفظية للقران الكريم، و من هذه المظاهر:
1- بيان الأجر العظيم لمن يعلم ولده القران: فقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «من قرأ القران و عمل بما فيه ألبس والداه تاجا يوم القيامة ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا فما ظنكم بالذي عمل بهذا» «1».
2- بيان تميز حافظ القران، و غناه و لو بايات معدودة: فعن أنس ابن مالك صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حدثه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سأل رجلا من صحابته فقال:
«
أي فلان هل تزوجت؟» قال: لا! و ليس عندي ما أتزوج به. قال: «أ ليس معك قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» قال: بلى! قال: «ربع القران» قال: «أ ليس معك قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» قال: بلى! قال: «ربع القران» قال: «أ ليس معك إِذا زُلْزِلَتِ» قال: بلى! قال: «ربع القران» قال: «أ ليس معك إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ» قال: بلى! قال: «ربع القران» قال: «أ ليس معك اية الكرسي؟» قال: بلى! قال: «ربع القران»، قال: «تزوج تزوج تزوج» «2».
3- و كان هذا الحث يصل إلى حد الاستفزاز للفعل فعن عبد اللّه بن عمرو أن أبا أيوب الأنصاري كان في مجلس و هو يقول: ألا نستطيع أن نقوم بثلث القران
__________________________________________________
(1) أبو داود (2/ 70)، أحمد (3/ 440)، مرجعان سابقان، و انظر: لمحات الأنوار رقم 57، مرجع سابق.
(2) رواه الترمذي (5/ 166)، مرجع سابق، و قال: «حسن»، و انظر: لمحات الأنوار رقم (1522)، مرجع سابق.(1/135)
كل ليلة؟ قالوا: و هل نستطيع ذلك؟ قال: فإن قل هو اللّه أحد ثلث القران، قال فجاء النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و هو يسمع أبا أيوب فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «صدق أبو أيوب» «1».
4- تسمية سور مخصوصة و ربطها بالحوادث الدينية و الكونية: فعن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: «و من قرأ سورة الكهف كما أنزلت ثم أدرك الدجال لم يسلط عليه و لم يكن له عليه سبيل و من قرأ خاتمة سورة الكهف أضاء نوره من حيث قرأها ما بينه و بين مكة» «2»، و عن ابن مسعود رضي اللّه عنه: مات رجل فجاءته ملائكة العذاب فقعدوا عند رأسه فقال: لا سبيل لكم عليه قد كان يقرأ لي سورة الملك، فجلسوا عند رجليه، فقال لا سبيل لكم إنه كان يقوم علينا يقرأ سورة الملك، فجلسوا عند بطنه، فقال لا سبيل لكم عليه إنه أوعى في سورة الملك فسميت المانعة «3».
5- و من أساليب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في الحث على حفظ السور، و تعظيم القران مما يؤدي إلى الحفظ الذاتي: الترغيب بأقوى الأساليب الصادقة فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على أبي بن كعب... قال: «أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل لا في التوراة و لا في الإنجيل و لا في الزبور و لا في الفرقان مثلها؟» قلت: نعم أي رسول اللّه! قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إني لأرجو ألاأخرج من هذا الباب حتى تعلمها»، قال: فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بيدي يحدثني و أنا أتبطأ مخافة أن يبلغ قبل أن يقضي الحديث فلما دنونا من الباب، قلت: أي رسول اللّه ما
__________________________________________________
(1) مجمع الزوائد (7/ 147)، مرجع سابق، و قال: «رواه أحمد و فيه ابن لهيعة و فيه ضعف».
(2) عبد الرزاق (3/ 378)، مرجع سابق، و قد صححه الحاكم و وافقه الذهبي... انظر: لمحات الأنوار برقم 1018، مرجع سابق.
(3) رواه الحاكم (2/ 540)، مرجع سابق، و صححه و وافقه الذهبي، و انظر: لمحات الأنوار برقم 1378، مرجع سابق.(1/136)
السورة التي وعدتني؟ قال: ما تقرأ في الصلاة؟ قال: فقرأت عليه أم القران قال:
و الذي نفسي بيده ما أنزل اللّه في التوراة و لا في الإنجيل و لا في الزبور و لا في الفرقان مثلها إنها السبع المثاني «1»، و عن عبد اللّه بن جابر الأنصاري رضي اللّه عنه قال له النبي صلى اللّه عليه و سلّم: «ألا أخبرك يا عبد اللّه بن جابر بأخير سورة في القران؟» قلت: بلى يا رسول اللّه! قال: «اقرأ الحمد للّه رب العالمين حتى تختمها» «2».
و نتيجة لذلك فقد انتشر حفظ القران بين كبار الصحابة و صغارهم رضي اللّه عنهم حتى كان البعض يتلقنه من أفواه المسافرين و يكفيه ذلك كعمرو بن سلمة، و ساعد هذا أن الصحابة كانوا أمة يضرب بها المثل في الذكاء و الألمعية و قوة الحافظة و صفاء الطبع و سيلان الذهن واحدة الخاطر حتى لقد كان الرجل منهم ربما يحفظ ما يسمعه لأول مرة مهما كثر و طال، و حسبك أن تعرف أن رؤوسهم كانت دواوين شعرهم، و أن صدورهم كانت سجل أنسابهم، و أن قلوبهم كانت كتاب وقائعهم، و أيامهم ثم جاء الإسلام فأرهف فيهم هذه القوى و المواهب، و زادهم من تلك المزايا و الخصائص بما أفاد طبعهم من صقل و نفوسهم من طهر و عقولهم من سمو خصوصا إذا كانوا يسمعون لأصدق الحديث و هو كتاب اللّه «3».
ثالثا: تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لهم في مسألة أخذ الأجرة على إقراء القران:
نهاهم النبي صلى اللّه عليه و سلّم أن يقبلوا أجرا على تعليم القران الكريم، و قال: «من يأخذ على تعليم القران قوسا قلده اللّه قوسا من نار» «4»، و قد كثرت الأحاديث في هذا المعنى... و بناء على هذا منع بعض أهل العلم أخذ الأجرة على تعليم القران
__________________________________________________
(1) أحمد (2/ 412)، مرجع سابق.
(2) الضياء في المختارة (9/ 130)، مرجع سابق، و قال ابن كثير (1/ 11): «هذا إسناد جيد».
(3) انظر: مناهل العرفان (1/ 204)، مرجع سابق.
(4) مجمع الزوائد (4/ 95)، مرجع سابق، و قال: «رواه الطبراني في الكبير».(1/137)
الكريم، و علة التحريم عندهم هي وجوب هذا التعليم و تعينه على المسلم:
فالتعليم للقران واجب إلزامي عام يجب بذله لمن لم يطلبه فكيف بمن طلبه؟ «1».
و ذهب الجمهور كعطاء و مالك «2» و الشافعي و أبي ثور إلى جواز الاستئجار على قراءة القران- بل ذهب إلى ذلك الأئمة الثلاثة، و نقل القاضي عياض جواز الاستئجار لتعليم القران عن العلماء كافة إلا الحنفية- «3»، و قال الحكم: لم أسمع أحدا كره أجر المعلم «4»، و أجابوا عن أدلة المانعين، و استدلوا لمذهبهم بأدلة تعليمية صريحة في مشروعية حل الأجرة، و من أبرز الأدلة: قوله صلّى اللّه عليه و سلّم: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب اللّه» «5»، و هذا نص عام، و بقوله صلّى اللّه عليه و سلّم: «من أصاب برقية باطل فقد أصبت برقية حق كل و أطعم أصحابك» «6».
و فصّل بعض أهل العلم بالنظر إلى الواقع الحقيقي للمسلمين، فنظر إلى أن المسلمين يشغلون عن ذلك بمعائشهم، و ليس فيهم من يقوم به و يكفي الأمة ثغرته، فقال: «أخذ الأجرة على تعليم القران له حالات: فإذا كان في المسلمين غيره ممن يقوم به حل له أخذ الأجرة عليه لأن فرض ذلك لا يتعين عليه، و إذا كان في حال أو في موضع لا يقوم به غيره لم تحل له الأجرة و على هذا يؤول اختلاف الأخبار فيه» «7».
__________________________________________________
(1) انظر: بداية المجتهد (2/ 168)، مرجع سابق.
(2) انظر: الإمام مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي: المدونة الكبرى (1/ 62)، دار صادر، بيروت.
(3) انظر: فتح الباري (9/ 213)، شرح الزرقاني (3/ 169)، مرجعان سابقان.
(4) البخاري (2/ 795)، مرجع سابق.
(5) البخاري (5/ 2166)، مرجع سابق.
(6) ابن حبان (13/ 474)، الحاكم (1/ 747)، و الحديث في مجمع الزوائد (1/ 95)، مرجع سابق، و تفصيل الموضوع في الأصل.
(7) انظر: عون المعبود (9/ 204)، مرجع سابق.(1/138)
و صفة الكلام هنا أن علة الاختلاف هي إلزامية تعليم القران، و أن القائلين بالإباحة يجدون الأجرة تعين على التفرغ، و هي أجرة على حق في مقابل من يأكله على باطل، و إن كانت الكمية الملزمة تختلف من فرض العين إلى فرض الكفاية- حتى كان من أجوبة من أباح الأجرة على أدلة من منعها: «أن تكون الاية- أي وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا (البقرة: 41)- فيمن تعين عليه التعليم فأبى حتى يأخذه عليه أجرا فأما إذا لم يتعين فيجوز له أخذ الأجرة» «1» و من ثم فيجب على الإمام أن يعين المقرئين لإقامة الدين من بيت المال، و إلا فعلى المسلمين لأن الصديق رضي اللّه عنه لما ولي الخلافة و عين لها لم يكن عنده ما يقيم به أهله فأخذ ثيابا و خرج إلى السوق فقيل له في ذلك فقال: و من أين أنفق على عيالي؟
فردوه و فرضوا له كفايته «2».
و رجح ابن تيمية أن الأجرة تباح «للمحتاج، و لهذا اتفق العلماء على أنه يرزق الحاكم و أمثاله عند الحاجة و تنازعوا في الرزق عند عدم الحاجة و أصل ذلك في كتاب اللّه في قوله سبحانه و تعالى في ولي اليتيم وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ (النساء: 6) «3».
و الحاجة- فيما يظهر- ليس للشخص الذي لا بد من تفرغه، بل لسد ثغرة الدين الأعظم من كل الثغور، و هي تعليم أصل أصول الإسلام و المسلمين، و جعله عاما شائعا في حياة المسلمين... و التفرغ في الغالب مطلوب لذلك لجسامة المهمة التي يقوم بها معلم القران، و ضرورة تفرغه في الغالب لتبعاتها...
__________________________________________________
(1) القرطبي (1/ 336)، مرجع سابق.
(2) القرطبي (1/ 336)، مرجع سابق.
(3) ابن تيمية (30/ 193)، مرجع سابق.(1/139)
و لذلك فجواز الأجرة لمعلم القران كالإجماع، بل ذهب بعض المتأخرين إلى وجوبها، حتى أن فتوى الحنفية «اليوم على جواز الاستئجار لتعليم القران...
استحسنوا ذلك و قالوا: بنى أصحابنا المتقدمون الجواب على ما شاهدوا من قلة الحفاظ، و رغبة الناس فيهم، و لأن الحفاظ و المعلمين كان لهم عطايا في بيت المال، و افتقادات من المتعلمين في مجازات التعليم من غير شرط و هذا الزمان قل ذلك، و اشتغل الحفاظ بمعائشهم، فلو لم يفتح لهم باب التعليم بالأجر لذهب القران فأفتوا بالجواز، و الأحكام تختلف باختلاف الزمان و كان محمد بن الفضل يفتي بأن الأجرة تجب و يحبس عليها» «1».
و ينبغي التنبيه إلى أن هذا الخلاف إنما هو في أخذ الأجرة من المتعلم لا إذا كانت الأجرة من بيت مال المسلمين كما هو واضح من كلام أهل العلم فيما تقدم، و الكلام المتقدم لأهل العلم يدل صريحا على أن ذلك من مسؤوليات الدولة المباشرة... و لذا تنبغي المناداة بقيام وزارات لرعاية شؤون القران الكريم تكون رديفة لوزارات التعليم و التوجيه و المعارف، و تستقل للأهمية البالغة...
و ليست الرياضة بأحق في منحها وزارة مستقلة.
على أن الباحث يختم هه المسألة بضرورة التذكير بالإخلاص و ابتغاء وجه اللّه عزّ و جلّ و التعفف عن أجر القران ما دام المرء في غنى عنه قدر الإمكان فذلك أدعى أن يبسط للمرء باب القبول في الدنيا و الاخرة، و قد قال الحسن البصري: «قرأ القران ثلاثة: رجل أخذه بضاعة ينقله من مصر إلى مصر يطلب به ما عند الناس، و قوم قرؤوا القران و حافظوا حروفه و ضيعوا حدوده، و استنزلوا به الولاة، و استطالوا به على أهل بلادهم، فقد كثر هذا الضرب في حملة القران لا كثرهم اللّه، و رجل
__________________________________________________
(1) البحر الرائق (8/ 22)، مرجع سابق، و انظر: تحفة الأحوذي (6/ 191)، مرجع سابق.(1/140)
قرأ القران فتداوى بدواء القران فوضعه على داء قلبه فسهر ليله، و عملت عيناه، تسربلوا الحزن، و ارتدوا بالخشوع» «1».
المطلب الخامس: التدرج في التعليم:
نقف عند تأمل ما ورد في هذا الباب أمام جهاز تربوي عظيم له أساليبه المتعددة في التوجيه و التحضيض، و النشر و الإعلام...
و من مظاهر هذا التدرج:
1- نزول القران الكريم منجما في ذاته على الرغم من أنه قد أنزل إلى بيت العزة من السماء الدنيا جملة: و في هذا أعظم البيان على إرادة اللّه سبحانه و تعالى ثم رسوله المبلغ صلى اللّه عليه و سلّم أن يتدرج الصحابة رضي اللّه عنهم في حفظه و يستوعبوه بأيسر طريق، و لا يعترض على هذا بأن المراد بالتنجيم هنا نزوله على الحوادث، لعدم التنافي بين الأمرين من جهة، على أنه ليس كل ما في القران نزل بسبب أو بحادثة.
2- كان النبي صلى اللّه عليه و سلّم يقرئهم قليلا قليلا: ف «كان صلّى اللّه عليه و سلّم يعلمهم خمسا خمسا، و عشرا عشرا» «2»، و يتلقونها كذلك... و هذا مقتضى تربوي و منهجي من مقتضيات نزول القران منجما...
3- كان صلى اللّه عليه و سلّم يحثهم على حفظ عدد معين من الايات كعشر، و يتدرج في الحث و الإلزامية لذلك على نحوين:
__________________________________________________
(1) (البيهقي) أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي ت 458 ه: شعب الإيمان (2/ 531)، تحقيق: محمد السعيد بسيوني زغلول دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1410 ه.
(2) شعب الإيمان (2/ 331)، ابن أبي شيبة (6/ 117) مرجعان سابقان.(1/141)
الأول: إخراج القارئ أو الحافظ القارئ لهذا القدر من حيز الغافلة كما في قوله صلى اللّه عليه و سلّم: عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «من قرأ عشر ايات في ليلة لم يكتب من الغافلين» «1».
الثاني: بيان الربح الحسي العظيم عند حفظ هذا القدر: فعن أبي أمامة رضي اللّه عنه أن رجلا جاء إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: يا نبي اللّه! اشتريت مقسم بني فلان في تخت فيه كذا و كذا قال: «أفلا أنبئك بما هو أكثر منه ريحا» قال: و هل يوجد؟ قال:
«رجل تعلم عشر ايات» فذهب الرجل فتعلم عشر ايات، فأتى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فأخبره «2»، و مثل هذا الربح ما ورد عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه: «من قرأ عشر ايات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح أربعا من أولها و أية الكرسي و ايتان بعدها و ثلاث خواتيمها أولها للّه ما في السماوات» «3». و يمثل البيان للفضل نوعا من التدرج ليحفظ المخاطب أكثر بغية الحصول على فضل أكثر أو فضل معين متميز.
4- التعلم الجزئي و الجملي:
و كان النبي صلى اللّه عليه و سلّم يحثهم على التعلم جمليا للقران كله تشويقا و تهييجا، ثم يعود صلى اللّه عليه و سلّم فيحثهم جزئيا ليتدرج بهم، و يقدح في خلدهم إمكانية فعل بعضها على الأقل... فعن أبي أمامة الباهلي رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:
«اقرأوا القران فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرأوا الزهراوين البقرة و سورة ال عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو
__________________________________________________
(1) الحاكم (1/ 742)، مرجع سابق، و قال: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه».
(2) الحاكم (1/ 743)، مرجع سابق، و رواه الضياء في المختارة (8/ 278).
(3) الدارمي (2/ 541)، مرجع سابق.(1/142)
كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرأوا سورة البقرة فإن أخذها بركة و تركها حسرة و لا تستطيعها البطلة» «1».
أنموذج تطبيقي:
و لأن التدرج في الإقراء كان فعله صلّى اللّه عليه و سلّم فقد كانت طريقته التعليمية الإرشادية هي التي تستفز الصحابة رضي اللّه عنهم للحفظ و الإتقان على هيئة متدرجة، و لذا فسنأخذ نموذجا تستبين فيه الطريقة العلمية التي كان يسلكها النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لإلزام أصحابه بحفظ القران و استظهاره دون إلزام! مباشر، فقد روى أبو الدرداء عن النبي صلى اللّه عليه و سلّم قال: «من قرأ عشر ايات من الكهف عصم من فتنة الدجال» «2»، دون تحديد لمكان العشر و هو تحضيض على حفظ أي عشر منها، و روى النواس بن سمعان قال: ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الدجال فقال: «من راه منكم فليقرأ فواتح سورة الكهف» «3» دون تحديد لكمية هذه الفواتح، و حددت الفواتح بعشر فيما رواه مسلم عن أبي الدرداء مرفوعا: «من حفظ عشر ايات من أول سورة الكهف عصم من الدجال» و في لفظ عنده: «من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف»، و رواية «العشر الأخيرة» تدرج اخر و حثّ فبقيت كل أجزاء السورة محفوظة بين الغالب الأعم من المسلمين، و إنما نوّع الكمية التي تحفظ و مكانها من السورة بغية الوصول بالمسلمين إلى حفظها كلها، أو إلى أن يحفظها معظم المسلمين
__________________________________________________
(1) مسلم (1/ 553)، مرجع سابق.
(2) ابن حبان (3/ 65)، مرجع سابق، انظر: (النسائي) أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ت 303 ه: فضائل القران ص 95، تحقيق: د. فارروق حمادة، دار إحياء العلوم، بيروت، ط 2، 1992 م.
(3) مسلم (4/ 2252)، الحاكم (4/ 538)، الترمذي (4/ 510)، أبو داود (4/ 117)، النسائي في الكبرى (5/ 15)، ابن ماجة (2/ 1356)، مراجع سابقة.(1/143)
و لو بالتوزيع بينهم، فقد يفضل البعض أولها، و قد يختار بعضهم اخرها، و قد يختار البعض ما بين ذلك، و العادة جارية بذلك كله... هذا إن لم يقم الواحد منهم بحفظها مع أن التحضيض على ذلك شديد، و بذا جمع السيوطي بين الروايات المختلفة فقال: «و على هذا يجتمع رواية من روى أول سورة الكهف مع من روى من اخرها و يكون ذكر العشر على جهة الاستدراج في حفظها كلها» «1»، و هذا أرجح و أملح من جعل بعض الروايات شاذة بالميزان الحديثي لأول وهلة؛ إذ الترجيح فرع التعارض، و لا تعارض مع الجمع.
و في حال عدم الحفظ لهذه السورة- و هذا نادر مع هذا الحض الشديد و التهييج البالغ لحفظها- فقد حث النبي صلّى اللّه عليه و سلّم على قراءتها و لو نظرا فيما رواه عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له النور ما بينه و بين البيت العتيق» «2» و في لفظ: «أضاء له النور ما بين الجمعتين» «3».
و حفنا اللّه عزّ و جلّ بتنوع الأجر فيها زيادة في التحضيض على حفظها و التدرج على حفظها، فعن معاذ ابن أنس رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال: «من قرأ أول سورة الكهف و اخرها كانت له نورا من قدمه إلى رأسه و من قرأها كلها كانت له نورا ما بين الأرض إلى السماء» «4»، على أنه- مع ذلك- أمر بإتقانها
__________________________________________________
(1) نقله عنه صاحب عون المعبود (11/ 304)، و صاحب تحفة الأحوذي (8/ 157)، مرجعان سابقان.
(2) الدارمي (2/ 546)، مرجع سابق، و صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم 6471، مرجع سابق.
(3) الحاكم، و صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم 6470، مرجع سابق.
(4) الطبراني في الكبير 20/ 197، مرجع سابق.(1/144)
إتقانا بينا من حيث الأداء فيما رواه أبو سعيد الخدري أن نبي اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «من قرأ سورة الكهف كما أنزلت كانت له نورا من مقامه إلى مكة و من قرأ بعشر ايات من اخرها فخرج الدجال لم يسلط عليه» «1».
و هو هنا حثّ على حفظ الأصل اللفظي و قراءته كما حث على إتقان أداء اللفظ بأسلوب تعليمي متدرج كاد يشبه الإلزام التكليفي و الفعلي و يظهر أنه فاق ذلك، ولكن بأسلوب فريد كم هو بحاجة و إلى تأمل و إعجاب.
و ليس المراد من الحديث مجرد القراءة و الحث بفضل مزيّف... حاشا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من ذلك، و قد أنكر ذلك العلماء فقد قال الغزالي: «و أما قوله عليه السّلام قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (الإخلاص) تعدل ثلث القران فما أراك أن تفهم وجه ذلك فتارة تقول هذا ذكره للترغيب في التلاوة و ليس المعنى به التقدير و حاشا منصب النبوة عن ذلك» «2»، بل هذا الذي ذكر ها هنا من إرادة الحفظ إنما دلت عليه دلالة التنبيه، و هي فوق دلالة الإشارة «3».
__________________________________________________
(1) النسائي في الكبرى (6/ 236)، مرجع سابق.
(2) (الغزالي) أبو حامد محمد بن محمد الغزالي ت 505 ه: جواهر القران ص 77، تحقيق: د. محمد رشيد رضا القباني، دار إحياء العلوم، بيروت، ط 1، 1985 م.
(3) انظر في دلالة التنبيه (الامدي) علي بن محمد الامدي أبو الحسن ت 631 ه: الإحكام في أصول الأحكام (3/ 71)، تحقيق: د. سيد الجميلي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1404 ه.(1/145)
المبحث الثالث: وسائل النشر التعليمية لألفاظ القران الكريم في عموم المجتمع المسلم كما قام بها النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:
تقدم في الفصل الأول أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قام بوظيفته على أوسع نطاق جغرافي و تاريخي، و ظهر هناك ما قام به النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لذلك، و يذكر هنا الوسائل التعميمية للقران الكريم، كما جعلت هذه الوسائل نشر القران مسألة ضرورية ذاتية لكون المسلمين مسلمين إجمالا، و لكون المجتمع المسلم مجتمعا مسلما، فلا يكتفي المسلم بمجرد مصحف معلّق في بيته- مع حسن ذلك-، و لأن هذه الوسائل تنقسم إلى وسائل عامة، و وسائل خاصة أكثر ظهورا في النشر، فإن البحث ينقسم إلى:
المطلب الأول: وسائل النشر العامة.
المطلب الثاني: (الصلاة) وسيلة لنشر القران و تعليمه.
المطلب الثالث: منح قراء القران الصدارة في الألقاب العلمية و قيادة الناس.
المطلب الرابع: تعليمهم تسمية السور و ألقابها.
المطلب الأول: وسائل النشر العامة:
و هي تمثل عمل جهاز تعميمي للثقافة القرانية خارج نطاق الحيز المكاني للجامعة القرانية: و تنقسم إلى وسائل تطبيقية فيه شي ء من شبه الإلزام، و إلى وسائل إغرائية دعائية ولكن بالحق، و الصدق، و ليس بمجرد الإغراء و الدعاية:
أولا: وسائل تطبيقية شبه إلزامية و هي وسائل النشر العامة:
1- التعليم العام للقران الكريم: فقد أقرأ صلّى اللّه عليه و سلّم مبلغ جهده، و خصص مقرئين للافاق...(1/146)
2- ربط الحياة اليومية للمسلمين بايات القران الكريم: فالمسلم يستيقظ فيقرأ عشر ايات من اخر سورة ال عمران، ثم يقرأ اية الكرسي و المعوذات في مواضعها من يومه، و يختم ليلته بقراءة لسور الإسراء و الزمر أو الملك أو أواخر البقرة على الأقل، و لا بد أن يقرأ عشر ايات في اليوم حتى لا يكون من الغافلين.
3- أمر النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لهم بكتابة القران و التشديد في ذلك حتى منع من كتابة غيره معه في أول الأمر: كما قال لهم صلّى اللّه عليه و سلّم: «لا تكتبوا عني، و من كتب غير القران فليمحه، و حدثوا عني و لا حرج، و من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» «1».
4- ربط الحرز اليومي، أو سد التقصير بالقران الكريم: فقد جاء عن عبد الرحمن بن يزيد قال: لقيت أبا مسعود عند البيت فقلت: حديث بلغني عنك في الايتين في سورة البقرة؟ فقال: نعم! قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «الايتان من اخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه» «2» و المعنى: «أغنتاه عن قيام اللّيل و قيل أراد أنهما أقلّ ما يجزئ من القراءة في قيام الليل، و قيل تكفيان الشّرّ و تقيان من المكروه» «3»، و كالمعوذات، و التحرز من الشيطان باية الكرسي...
5- الأمر بتعلمه و جعله أول مادة دراسية في إطار منهج بناء الأمة: كما قال ابن مسعود رضي اللّه عنه: «هذا القران مأدبة اللّه فمن استطاع أن يتعلم منه شيئا فليفعل فإن أصغر البيوت من الخير الذي ليس فيه من كتاب اللّه شي ء، و إن البيت الذي ليس فيه من كتاب اللّه شي ء كخراب البيت الذي لا عامر له، و إن
__________________________________________________
(1) مسلم (4/ 2298)، ابن حبان (1/ 265)، الحاكم (1/ 216)، أحمد (3/ 12)، مراجع سابقة.
(2) البخاري (4/ 1174) مسلم (1/ 554)، مرجعان سابقان.
(3) النهاية (4/ 193)، مرجع سابق.(1/147)
الشيطان يخرج من البيت يسمع فيه سورة البقرة» «1» و ظاهر أن الحديث له حكم الرفع فقوله: «فمن استطاع أن يتعلم منه شيئا فليفعل» ظاهر فيه الإلزام للتعلم، و تقدمت في الفصل الأول الأدلة الامرة بالتعلم... و مع هذه الأدلة التي تعم الراعي و الرعية فإن نفي الاستطاعة غير موجود في مؤسسات المجتمعات الإسلامية و يأمل المرء أن يجد مناهج كليات الطب و الهندسة، و الحاسوب... و نحوها من الكليات الفنية غير خلية من هذه المادة العامة الأساسية، مع أنه يوجد المتفوقون و النابهون في الغالب، و قد تقرر عليهم محفوظات كثيرة، و لا يقرر عليهم حفظ شي ء من القران مفسرا تفسيرا ميسرا «2»، بالإضافة إلى الربط الإسلامي التربوي للمناهج المأخوذة في مثل هذه الكليات بالقران الكريم و المعتقدات الإسلامية، و لو بإشارات خفيفة قياما بالتذكير، و درا للغافلة.
6- و كان صلّى اللّه عليه و سلّم يعلمهم سماع القران إذا لم يريدوا تلاوته مباشرة لعارض كسل، أو لإرادة تدبر، أو غيره: كما سمع صلّى اللّه عليه و سلّم من ابن مسعود رضي اللّه عنه، و لذا بوب البخاري باب «من أحب أن يسمع القران من غيره» «3».
7- صبغ الأجواء و مختلف الأمكنة بالقران: فيحثهم على قراءة القران في البيت، فعن أنس رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إن البيت يقرأ فيه القران يكثر خيره و البيت الذي لا يقرأ فيه القران يقل خيره» «4»، و من هذا الباب قوله سبحانه و تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ... (ال عمران: 191)
__________________________________________________
(1) الدارمي (2/ 521)، عبد الرزاق (3/ 368)، المعجم الكبير (9/ 129) مراجع سابقة.
(2) انظر: أحمد علي الإمام (دكتور): مفاتح فهم القران: تفسير لغريبه، و تأويل لمشكله، دار المنى، دمشق، ط 1، 1421 ه- 2000 م كمقترح لهذا التفسير الميسر، أو يعتمد تفسير الجلالين.
(
3) البخاري (4/ 1925)، مرجع سابق.
(4) رواه الدارقطني في الأفراد. انظر: مجمع الزوائد (7/ 171).(1/148)
و القران أعظم الذكر، و من هذا الباب حديث عبد اللّه بن المغافل في قراءة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم القران على دابته... ليصير الجو مصبوغا بصبغة اللّه جل جلاله: وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً (البقرة: 138)، و يبلغ التفاعل مع القران و صبغ الأجواء به حدا أن يصبغ الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بصبغة القران: فقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «شيبتني هود و أخواتها سورة الواقعة و سورة القيامة و المرسلات و إذا الشمس كورت و إذا السماء انشقت و إذا السماء انفطرت قال و أحسبه ذكر سورة هود» «1».
8- ترديد القران في مواضع حياتهم اليومية: كقراءة قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (الكافرون: 1) عند النوم، و مثلها اية الكرسي و أواخر سورة البقرة: فعن جبلة رضي اللّه عنه قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قلت علمني شيئا ينفعني، قال: «إذا أخذت مضجعك فاقرأ قل يا أيها الكافرون حتى تختمها فإنها براءة من الشرك» «2»، و تكثر الايات التي تردد عقب الصلوات و قبل النوم و بعد الاستيقاظ منه...
9- الأمر بقراءة أقل قدر مستطاع من القران الكريم خارج الفاتحة: ففي صحيح ابن حبان عن عبد اللّه بن عمرو رضي اللّه عنهما أن رجلا أتى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: «يا رسول اللّه! أقرئني القران. قال: «اقرأ ثلاثا من ذوات الر» قال الرجل: كبر سني، و ثقل لساني، و غلظ قلبي. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «اقرأ ثلاثا من ذوات حم» فقال الرجل مثل ذلك ولكن أقرئني يا رسول اللّه سورة جامعة فأقرأه رسول اللّه إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ (الزلزلة: 1) حتى بلغ من يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره قال الرجل: و الذي بعثك بالحق ما أبالي ألاأزيد عليها حتى ألقى اللّه، ولكن أخبرني بما علي من العمل أعمل ما أطقت العمل.
__________________________________________________
(1) الحاكم (2/ 374)، الترمذي (5/ 402)، سعيد بن منصور في سننه (5/ 370)، مرجع سابق.
(2) النسائي في الكبرى (6/ 200)، مرجع سابق.(1/149)
قال: الصلوات الخمس، و صيام رمضان، و حج البيت، و أد زكاة مالك، و مر بالمعروف و انه عن المنكر «1». و مراد الرجل أن يحفظ فلينظر كيف أمره النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بحفظ هذه السور الطوال؟ و لذا فإن معنى قوله: «و غلظ قلبي» أي غلب عليه قلة الحفظ و كثرة النسيان و «ثقل لساني» أي ثقل بحيث لم يطاوعني في تعلم القران و لا تعلم السور الطوال» «2».
10- قيام كتبة الوحي بتبليغ النازل من القران الكريم: فعن زيد بن ثابت رضي اللّه عنه قال: كنت أكتب الوحي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و كان إذا نزل عليه الوحي أخذته برحاء شديدة، و عرق عرقا شديدا مثل الجمان ثم سرى عنه فكنت أدخل عليه بقطعة الكتف أو كسرة فأكتب و هو يملي علي، فما أفرغ حتى تكاد رجلي تنكسر من ثقل القران، حتى أقول لا أمشي على رجلي أبدا فإذا فرغت قال: «اقرأ» فأقرأه فإن كان فيه سقط أقامه ثم أخرج به إلى الناس «3».
11- و مثله إقامة النواب عنه صلّى اللّه عليه و سلّم في الإقراء: فعن عبادة بن الصّامت رضي اللّه عنه قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يشغل فإذا قدم رجل مهاجر على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم دفعه إلى رجل منّا يعلّمه القران...» «4».
12- جعله خير ما يتقرب به المتقربون: فعن أبي أمامة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «ما و ما تقرّب العباد إلى اللّه تعالى بمثل ما خرج منه يعني القران» «5».
__________________________________________________
(1) ابن حبان (3/ 50)، أبو داود (2/ 57)، النسائي في الكبرى (5/ 16)، و الصغرى (2/ 158)، أحمد (4/ 149)، مراجع سابقة.
(2) انظر: عون المعبود (4/ 192)، مرجع سابق.
(3) الطبراني في الأوسط (2/ 257)، و الكبير (5/ 142)، مرجعان سابقان.
(4) المختارة (8/ 267)، أحمد (5/ 324)، مرجعان سابقان.
(5) الترمذي (5/ 176)، أحمد (5/ 268)، مرجعان سابقان.(1/150)
13- التفضيل لبعض السور من باب التحضيض التنويعي على قراءتهن: مما يجعل النفس تتشوف إلى حفظها أو تلاوتها... و لنأخذ سورة البقرة نموذجا لأنها أطول السبع الطول: فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة» «1».
14- الترهيب من عدم القراءة: و فيه تعميم للقراءة فهي قراءة عامة تتوجه لكل الأمة: كما في حديث ابن مسعود رضي اللّه عنه الذي تقدم قبل قليل في رقم (5) من هذه الفقرة.
ثانيا: وسائل إغرائية دعائية ولكن بالحق، و الصدق، و ليس بمجرد الإغراء و الدعاية الباطلة:
فتلحظ من طريقة القران و أسلوب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في نشر القران و تعميم تعليمه منهجا تشويقيا إغرائيا يؤدي إلى تعظيم القران و تبجيله، و تعلمه- من بعد- ليصبغ جو المسلمين بالثقافة القرانية، و تمثل ذلك في عدة مظاهر:
كثرة الأسماء المعنوية، و الصفات المختلفة للقران: فإن ذلك يجذب المرء إليه، و يجعله شديد التعظيم له، على أن مقاصد القران الكريم مختصرة في أسمائه، و هو إعجاز من نوع اخر...
فمن أسمائه المذكورة في ثناياه: التنزيل، و الذكر، و الزبور، و السبع المثاني، و الصحف، و الفرقان، و الكتاب، و النور، و البشرى، و البصيرة، و البلاغ، و الحق، و الحكيم، و الذكرى، و الرحمة، و الشفاء، و العربي، و العزيز، و العظيم، و العلي، و الكريم، و المبارك، و المبين، و المجيد...
__________________________________________________
(1) مسلم (1/ 539)، و انظر ما جمعه الغافقي في لمحات الأنوار ابتداء من الحديث رقم 726 حول فضلها، و كيف تنوع أسلوب بيان الفضل عند النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.(1/151)
نسبة التعليم فيه إلى اللّه سبحانه و تعالى في قوله: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) (الرحمن: 1- 2)، و هذا شبيه بنسبة فضل الصوم إليه في قوله جل جلاله «الصوم لي و أنا أجزي به»، ولكن هذا ورد في الحديث و الأول في القران، و في ذلك إغراء شديد بتعلم ألفاظ القران الكريم.
الأمر بتلاوته و تفصيل ادابها في القران الكريم ذاته، و هو أمر لافت... أن يختزل ذكر بعض الأحكام الفقهية اليومية كالوضوء و الصلاة، فتذكر إجمالا في القران الكريم، و يذكر الأمر بالتلاوة و تفصل ادابها و فضائلها.
إخبار اللّه و نبيه صلّى اللّه عليه و سلّم عن الأجور العظيمة التي يهبها اللّه لمن يتقن القران أو بعضا منه مما يجعل المرء يقدس القران أعظم التقديس فمن ذلك فعن بريدة رضي اللّه عنه قال: كنت جالسا عند النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فسمعته يقول: «تعلموا البقرة فإن أخذها بركة، و تركها حسرة، و لا يستطيعها البطلة، قال: ثم سكت ساعة ثم قال: تعلموا البقرة و ال عمران فإنهما الزهراوان يظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف و إن القران يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب فيقول هل تعرفني فيقول ما أعرفك فيقول أنا صاحبك القران الذي أظمأتك في الهواجر و أسهرت ليلك و إن كل تاجر من وراء تجارته و إنك اليوم من وراء كل تجارة فيعطى الملك بيمينه و الخلد بشماله و يوضع على رأسه تاج الوقار و يكسى والداه حلتين لا تقوم لهما الدنيا فيقولان عم كسينا هذا فيقال بأخذ ولد كما القران ثم يقال اقرأ و اصعد في درج الجنة و غرفها فهو في صعود ما دام يقرأ حدرا كان أو ترتيلا» «1»، و كان التابعون من تلاميذ الصحابة رضي اللّه عنهم يذكرون هذا الحديث بأسلوبهم، فعن وهب الذّماريّ قال:
__________________________________________________
(1) الدارمي (2/ 543)، أحمد (5/ 348)، مرجعان سابقان.(1/152)
من اتاه اللّه القران فقام به اناء اللّيل و اناء النّهار و عمل بما فيه و مات على الطّاعة بعثه اللّه يوم القيامة مع السّفرة و الأحكام- قال سعيد السّفرة الملائكة و الأحكام الأنبياء- قال: و من كان حريصا و هو يتفلّت منه و هو لا يدعه أوتي أجره مرّتين، و من كان عليه حريصا و هو يتفلّت منه و مات على الطّاعة فهو من أشرافهم، و فضّلوا على النّاس كما فضّلت النّسور على سائر الطّير، و كما فضّلت مرجة خضراء على ما حولها من البقاع فإذا كان يوم القيامة قيل: أين الّذين كانوا يتلون كتابي لم يلههم اتّباع الأنعام فيعطى الخلد و النّعيم فإن كان أبواه ماتا على الطّاعة جعل على رؤسهما تاج الملك فيقولان: ربّنا ما بلغت هذا أعمالنا؟ فيقول بلى إنّ ابنكما كان يتلو كتابي، و من ذلك ما جاء عن كعب قال: عليكم بالقران فإنّه فهم العقل و نور الحكمة و ينابيع العلم و أحدث الكتب بالرّحمن عهدا و قال في التّوراة: يا محمّد إنّي منزّل عليك توراة حديثة تفتح فيها أعينا عميا و اذانا صمّا و قلوبا غلفا «1».
التشويق بالتشبيه بالمحسوسات: فعن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم: «مثل الذي يقرأ القران و لا يعمل به كمثل ريحانة ريحها طيب و لا طعم لها، و مثل الذي يعمل بالقران كمثل التمرة طعمها طيب و لا ريح لها، و مثل الذي يعمل بالقران و يقرؤه كمثل الأترجة طعمها طيب و ريحها طيب و مثل الذي لا يقرأ القران و لا يعمل كمثل الحنظلة طعمها خبيث و ريحها خبيث» «2».
__________________________________________________
(1) الدارمي (2/ 525)، مرجع سابق.
(2) مجمع الزوائد (7/ 159)، مرجع سابق، و قال: «روى ابن ماجه منه طرفا رواه أحمد و رجاله رجال الصحيح».(1/153)
المطلب الثاني: (الصلاة) وسيلة لنشر القران و تعليمه:
ربط العبادات الإسلامية بالقران الكريم:
ربطت العبادات الإسلامية بالقران الكريم سماعا و إسماعا، و قراءة و إقراء...
سواء كانت هذه العبادات:
يومية (كالصلاة)، أو قراءة ايات أو سور عند النوم، أو عند الاستيقاظ منه فقد ثبت عنه صلى اللّه عليه و سلّم كان يقرأ في كل ليلة سورة بني إسرائيل و الزمر «1»، و فعله للاقتداء كما سبق.
أم كانت أسبوعية كيوم الجمعة كما ورد عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه و سلّم قال: «إن من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين» «2»، و من ذلك قراءته التعليمية على المنبر في خطبة الجمعة حيث يجتمع أكبر قدر من المسلمين، حيث قد ثبتت هذه الناحية التعليمية لألفاظ القران في خطبة الجمعة بصفة عامة كما في حديث جابر بن سمرة رضي اللّه عنه قال: كانت له صلّى اللّه عليه و سلّم خطبتان يجلس بينهما: يقرأ القران و يذكر الناس «3»، و من أمثلة أثر هذا النوع من تعليم القران ما جاء عن أمّ هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: لقد مكثنا سنة أو سنتين كان تنّورنا و تنّور النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم واحدا سنتين أو سنة و بعض سنة و ما أخذت ق و القران المجيد إلّا على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يقرأ بها كلّ يوم جمعة على المنبر إذا خطب النّاس و في لفظ: كان يعلم الناس يقرأها كل جمعة على المنبر «4».
__________________________________________________
(1) الحاكم (2/ 472)، النسائي في السنن الكبرى (6/ 444)، الترمذي (5/ 475)، مراجع سابقة.
(2) الحاكم (2/ 399)، النسائي (1/ 372)، مرجعان سابقان.
(3) مسلم (2/ 589).
(4) مسلم (2/ 595).(1/154)
- أم كانت العبادات سنوية كما في رمضان و هو شهر القران حيث ينفر الناس خفافا و ثقالا لتدارس القران و أقل المسلمين في الغالب الأعم من يختم مرة على الأقل.
أم كانت عمرية (الحج).
و هذا الربط بالقران الكريم إما فهما و إما قراءة في معظم تفاصيل و جزيئات تلك العبادة... و بذا لا يستطيع مسلم داخل في هذا المسمى (الإسلام) إلا أن يتعلم الواجب العيني من القران الكريم، و هذه نقطة جديرة بالنظر...
الصلاة:
و إنما أفردناها بالذكر لأثرها البالغ فهي عبادة تؤدى خمس مرات يوميا، منها ست ركعات جهرية- على الأقل-، و لنذكر بشي ء من التفصيل ربط الصلاة بالقران الكريم، و الأثر التعليمي لذلك على مستوى ألفاظ القران الكريم عظيم؛ إذ أضحت هذه المفروضات اليومية وسيلة لنشر القران الكريم تحفيظا و إقراء، و صارت الصلاة بذلك مدار قراءته و تلقينه للايات «قارن هذه النقطة فقط بما عند أهل الكتابين فضلا عن غيرهم في حفظ كتاب اللّه عزّ و جلّ، أو جعله عاما»:
فقد كان صلّى اللّه عليه و سلّم يقرأ معظم القران موزعا على ركعات الفريضة اليومية:
و ذلك إن لم يكن يقرؤه كله، و يدل على هذا ما جاء عن ابن عمر رضي اللّه عنه أنه قال: ما من سورة من المفصل صغيرة و لا كبيرة إلا و قد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقرأها كلها في الصلاة «1»، و كان صلّى اللّه عليه و سلّم يعدد الاي في الصلاة فعن عبد اللّه بن عمرو رضي اللّه عنه قال: رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يعدد الاي في الصلاة «2»، و كان الصحابة رضي اللّه عنهم
__________________________________________________
(1) الطبراني في الكبير (12/ 365)، مرجع سابق، و هو في مجمع الزوائد (2/ 114)، مرجع سابق.
(2) الحديث عزاه في مجمع الزوائد (2/ 114) إلى الطبراني، مرجع سابق، و انظر: البيهقي في الكبرى (2/ 253)، أبو داود (2/ 253)، مرجعان سابقان فقد بوبا لعد الاي في الصلاة.(1/155)
يختمون القران في الصلاة، و لا يفعلون ذلك إلا عن اقتداء فعن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال: كان أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يقرؤن القران من أوله إلى اخره في الفرائض «1»، و عن أبي العالية: قال أخبرني من سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «لكل سورة حظها من الركوع و السجود» «2»، و عن أبي برزة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يقرأ في صلاة الغداة من الستين إلى المائة «3» و في هذا دلالة واضحة على متابعتهم الدقيقة له، حتى كانوا يعدون الايات؛ إذ لم تكن عدد الايات قد دونت بالصورة السهلة الموجودة في عهدنا، ثم استمر العلماء على استحباب ذلك القدر في الصلاة «4»، و عن ابن عباس قال: إن أم الفضل بنت الحارث سمعته و هو يقرأ وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (المرسلات: 1) فقالت: يا بني! لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لاخر ما سمعت رسول اللّه يقرأ بها في المغرب «5»، و روى ابن مسعود و ابن عباس و أبي هريرة رضي اللّه عنهم أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان يقرأ في الركعة الأولى من الفجر ب «أ لم تنزيل السجدة»، و في الاخرى ب «هل أتى على الإنسان» «6»، بل كان ذلك واضحا حتى قبل الصدع بالدعوة، فعن أسماء بنت أبي بكر قالت: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و هو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر، و المشركون يسمعون «فبأى الاء ربكما تكذبان» «7».
__________________________________________________
(1) الطبراني في الأوسط 8/ 123، مرجع سابق.
(2) أحمد (5/ 59)، مجمع الزوائد (2/ 114)، مرجع سابق، و قال: «رواه أحمد و رجاله رجال الصحيح».
(3) البخاري (1/ 202)، مسلم (1/ 338)، مرجعان سابقان.
(4) انظر مثلا: علاء الدين الكاساني ت 587 ه: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/ 205)، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 2، 1982.
(
5) مسلم (1/ 338)، مرجع سابق، (الشافعي) محمد بن إدريس أبو عبد اللّه ت 204 ه: مسند الشافعي ص 215، دار الكتب العلمية، بيروت.
(6) البخاري (1/ 303)، مسلم (2/ 599)، الحاكم (2/ 554)، أبو داود (1/ 282)، ابن ماجه (1/ 269)، مراجع سابقة.
(7) مجمع الزوائد (2/ 115)، مرجع سابق، و قال: «رواه أحمد و الطبراني في الكبير و فيه ابن لهيعة و فيه كلام».(1/156)
و كان صلّى اللّه عليه و سلّم يقرأ بالطوال كثيرا، و يكمل السورة غالبا، فعن زيد بن ثابت و أبي أيوب الأنصاري رضي اللّه عنهما أنه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يقرأ في الركعتين من المغرب بسورة الأنفال «1»، و قد يقرأ بغيرها لعارض كما ورد عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال: كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يسمع بكاء الصبي و هو في الصلاة مع أمه فيقرأ بالسورة الخفيفة أو السورة القصيرة «2».
و تسلسلت هذه المنهجية فقد ورد أن أبا بكر رضي اللّه عنه قرأ في الفجر سورة البقرة فلما فرغ قال له عمر: كادت الشمس تطلع يا خليفة رسول اللّه؟ فقال رضي اللّه عنه: لو طلعت لم تجدنا غافلين «3»، و عن نافع قال: ربما أمنا ابن عمر رحمه اللّه بالسورتين و الثلاث في الفريضة «4».
و وصل الاعتناء بنشر القران الكريم أنه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يسمعهم الايات في الصلاة السرية أحيانا، و ضبطوا السور التي كان يقرؤها في الصلاة السرية، فعن أبي قتادة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب و سورة في كل ركعة، و كان يسمعنا أحيانا الاية و كان يطيل في الأولى ما لا يطيل في الثانية، و كان يقرأ في الركعتين الاخريين بفاتحة الكتاب في كل ركعة.
قيل: و كذلك في صلاة العصر؟ قال: و كذلك في صلاة العصر «5»، و عن زيد بن ثابت رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قرأ في المغرب بالأعراف فرقها في الركعتين «6»، و عن
__________________________________________________
(1) مجمع الزوائد (2/ 118)، مرجع سابق، و قال: «رواه الطبراني في الكبير و رجاله رجال الصحيح».
(2) أبو عوانة في مسنده (1/ 422)، مرجع سابق.
(3) ابن أبي شيبة (1/ 310)، مرجع سابق، عبد الرزاق (2/ 113)، مرجع سابق.
(4) مجمع الزوائد (2/ 114)، مرجع سابق، و قال: «رواه أحمد و رجاله رجال الصحيح».
(5) البخاري (1/ 270)، مسلم (1/ 333)، المنتقى (1/ 56)، أبو عوانة في مسنده (1/ 474)، مراجع سابقة.
(6) سنن النسائي الكبرى (1/ 340).(1/157)
أنس رضي اللّه عنه أم أهل بيته فصلّى بنا الظهر و العصر فقرأ قراءة همسا فقرأ بالمرسلات و النازعات و عم يستاءلون و نحوها من السور «1»، و عن أنس رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان يقرأ في الظهر و العصر سبح اسم ربك الأعلى و هل أتاك حديث الغاشية «2»، و عنه رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم صلّى بهم الهاجرة فرفع صوته، فقرأ وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها (الشمس: 1) وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى (الليل: 1) فقال له أبي بن كعب: يا رسول اللّه أمرت في هذه الصلاة بشي ء؟ قال: «لا! ولكني أردت أن أوقت لكم» «3».
كان صلّى اللّه عليه و سلّم يسمعهم قراءته في الغالب في نوافل الليل خاصة فعن أنس رضي اللّه عنه قال: كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يوتر بتسع ركعات، فلما أسن و ثقل أوتر بسبع، و صلّى ركعتين و هو جالس يقرأ فيهن بالرحمن و الواقعة قال أنس: و نحن نقرأ بالسور القصار إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (الزلزلة: 1) و قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (الكافرون: 1) و نحوهما «4».
و مثل ذلك كان فعل الصحابة، فتسلسلت المنهجية بذلك عن عبد الرحمن بن يزيد قال: صلّى ابن مسعود العشاء الاخرة فاستفتح بسورة الأنفال حتى بلغ نِعْمَ الْمَوْلى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ (الأنفال: 40) ركع، ثم قرأ في الركعة الثانية بسورتين من المفصل و في رواية بسورة من المفصل «5» و عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قدمت
__________________________________________________
(1) الطبراني في الأوسط (3/ 147)، و هو في مجمع الزوائد (2/ 116)، مرجعان سابقان.
(2) مجمع الزوائد (2/ 116)، مرجع سابق، و قال: «رواه البزار و رجاله رجال الصحيح و رواه الطبراني في الأوسط».
(3) الطبراني في الأوسط (9/ 106)، و الحديث في مجمع الزوائد (2/ 116)، مرجعان سابقان.
(4) صحيح ابن خزيمة (2/ 143)، مرجع سابق.
(5) البخاري (1/ 268) معلقا، و وصله الطبراني في الكبير (9/ 263).(1/158)
المدينة و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بخيبر و رجل من بني غفار يؤم الناس فقرأ في الركعة الأولي بسورة مريم، و في الثانية ويل للمطففين أحسبه قال في صلاة الفجر «1».
و وضع ابن عباس قاعدة عامة لحفظ السور من في النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في الصلاة، فعن كريب قال: سألت ابن عباس عن جهر النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بالقراءة بالليل فقال: كان يقرأ في حجرته قراءة لو شاء حافظ أن يتعلمها لفعل «2».
بل كانت القراءة في الصلاة وسيلة بلاغ و إنذار فعن جبير بن مطعم رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقرأ بالطور في المغرب، و ذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي «3».
و ربط الاجتهاد في النوافل بالقران الكريم: فعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «من قام بعشر ايات لم يكتب من الغافلين و من قام بمائة اية كتب من القانتين و من قام بألف اية كتب من المقنطرين» «4»، و المقنطرين أي من المالكين مالا كثيرا و المراد كثرة الأجر «5».
__________________________________________________
(1) شرح معاني الاثار (1/ 183).
(2) شعب الإيمان (2/ 383)، مرجع سابق.
(3) البخاري (4/ 1475)، مسلم (1/ 338)، مرجعان سابقان.
(4) أبو داود (2/ 57)، ابن خزيمة (2/ 181)، مرجعان سابقان.
(5) انظر: عون المعبود (4/ 172)، مرجع سابق.(1/159)
المطلب الثالث: منح قراء القران الصدارة في الألقاب العلمية و قيادة الناس:
و تمثل ذلك في التالي:
أولا: جعل حملة القران ممن يتلوه حق تلاوته هم المقدمون في إمامة الناس الدينية و الدنيوية:
فأما الدينية فيكاد يكون هذا من المعلوم من الدين بالضرورة، لذا بوب ابن خزيمة: «باب استحقاق الإمامة بالازدياد من حفظ القران و إن كان غيره أسن منه و أشرف» «1»، ثم ذكر حديث أبي مسعود «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب اللّه» «2» الحديث، و رواه الحاكم في مستدركه ولكن عوض قوله فأعلمهم بالسنة «فأفقههم فقها فإن كانوا في الفقه سواا فأكبرهم سنا»، و قول بعضهم: إن الأقرأ زمن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان الأعلم صحيح، لكن قد ورد تخصيص القراءة من حيث هي قراءة، و لفظه: «يؤم القوم أكثرهم قرانا، فإن كانوا في القران واحدا فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة واحدا فأفقهم فقها، فإن كانوا في الفقه واحدا فأكبرهم سنا» «3».
و على هذا: فلا يقدّم أي معيار اخر إلا مع التماثل في القراءة، فعن أبي قلابة عن مالك بن الحويرث رضي اللّه عنه قال أتيت النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنا و صاحب لي، فلما أردنا الإقفال قال لنا: «إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما ثم ليؤمكما أكبركما»، فقيل لأبي قلابة: فأين القراءة؟ قال: كانا متقاربين «4».
__________________________________________________
(1) ابن خزيمة (3/ 5)، مرجع سابق.
(2) مسلم (1/ 465).
(3) الحاكم (1/ 370)، مرجع سابق.
(4) مسلم (1/ 466)، ابن خزيمة (1/ 206)، أبو داود (1/ 161)، مراجع سابقة.(1/160)
و أما ما جاء عن أبي يوسف قال: قال أبو حنيفة: لما أردت طلب العلم جعلت أتخير العلوم، و أسأل عن عواقبها، فقيل: تعلم القران. فقلت: إذا حفظته فما يكون اخره؟ قالوا: تجلس في المسجد فيقرأ عليك الأحداث، ثم لا يلبث أن يخرج فيهم من هو أحفظ منك أو مساويك فتذهب رئاستك... فحكاية هشة لا يستسيغها اللسان لمكان أبي حنيفة، و قد قال الذهبي تعليقا عليها: «قلت: من طلب العلم للرئاسة قد يفكر في هذا و إلا فقد ثبت قول المصطفى صلوات اللّه عليه «أفضلكم من تعلم القران و علمه»، يا سبحان اللّه! و هل محل أفضل من المسجد؟
و هل نشر لعلم يقارب تعليم القران؟ كلا و اللّه و هل طلبة خير من الصبيان الذين لم يعملوا الذنوب؟» «1».
و علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ذلك تطبيقيا:
فجعل الحافظ (حامل القران) هو المقدم على أمور الناس الدينية و الدنيوية ما دامت العوامل المساعدة الاخرى قد وجدت فيه، و قد جعل النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عثمان بن أبي العاص أمير الطائف «2» لما كان أكثرهم قرانا على الرغم من أنه أصغرهم سنا فعنه رضي اللّه عنه قال: قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «أمّ قومك». «3».، و بيان قصة تأميره رضي اللّه عنه عليهم فيما جاء عنه قال: قدمت في وفد ثقيف حين قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فلبسنا حللنا بباب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقالوا: من يمسك لنا رواحلنا؟ فكل القوم أحب الدخول على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و كره التخلف عنه، قال عثمان- و كنت أصغرهم- فقلت: إن شئتم أمسكت لكم على أن عليكم عهد اللّه لتمسكن لي إذا خرجتم.
__________________________________________________
(1) سير أعلام النبلاء (6/ 396)، مرجع سابق.
(2) انظر: فتح الباري (13/ 241)، مرجع سابق.
(3) أبو عوانة في مسنده (1/ 420)، مرجع سابق.(1/161)
قالوا: فذلك لك فدخلوا عليه، ثم خرجوا، فقالوا: انطلق بنا! قلت: أين؟
قالوا: إلى أهلك. فقلت: خرجت من أهلي حتى إذا حللت بباب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أرجع، و لا أدخل عليه، و قد أعطيتموني ما قد علمتم. قالوا: فاعجل فإنا قد كفيناك المسألة فلم ندع شيئا إلا سألناه. فدخلت: فقلت: يا رسول اللّه! ادع اللّه أن يفقهني في الدين و يعلمني. قال: «ماذا قلت»، فأعدت عليه القول فقال: «لقد سألتني عن شي ء ما سألني عنه أحد من أصحابك اذهب فأنت أمير عليهم و على من يقدم عليك من قومك» فذكر الحديث «1»، و في رواية أخرى مختصرة قال: فيها فدخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فسألته مصحفا كان عنده فأعطانيه «2»، و ما سأل مصحفا إلا لأنه كان أحفظهم.
فصارت الإمامة الدنيوية استحقاقا واجبا من استحقاقات الحافظ (حامل القران)، بل يقدم الصغير على الكبار إذا كان قارئا كما ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن سلمة قال: كنا بماء ممر الناس، و كان يمر بنا الركبان، فنسألهم: ما للناس ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن اللّه أرسله أوحى إليه كذا أوحى إليه، كذا فكنت أحفظ ذلك الكلام فكأنما يقر في صدري، و كانت العرب تلوم بإسلامها، فيقولون: أتركوه و قومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، و بدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم و اللّه من عند نبي اللّه حقا. قال: «صلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم و ليؤمكم أكثركم قرانا» فنظروا فلم يكن أحد أكثر مني قرانا لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم و أنا ابن ست أو
__________________________________________________
(1) الطبراني في الكبير (9/ 50).
(2) الاحاد و المثاني (3/ 191).(1/162)
سبع سنين، و كانت علي بردة إذا سجدت تقلصت عني، فقالت امرأة من الحي:
ألا تغطون عنا است قارئكم؟ فاشتروا فقطعوا لي قميصا فما فرحت بشى ء فرحي بذلك القميص «1»، و هذا يردّ ما ذهب إليه بعضهم من أن الصحابة لم يكونوا يؤمون إلا لأنهم فقهاء حيث أسلموا على كبر.
تسلسل المنهجية:
لقي نافع بن عبد الحارث عمر بن الخطاب بعسفان، و كان عمر استعمله على مكة فقال عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال:
استخلفت عليهم ابن أبزى. قال: و من بن أبزى؟ قال: رجل من موالينا. قال عمر: فاستخلفت عليهم مولى. قال: إنه قارئ لكتاب اللّه تعالى، عالم بالفرائض، قاض. قال عمر: أما إن نبيكم صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إن اللّه يرفع بهذا الكتاب أقواما و يضع به اخرين» «2».
ثانيا: جعل من تعلمه و علمه في الذروة العليا من الخيرية:
فإذا كانت أمة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم خير أمة أخرجت للناس، فإن خيرها هم من علم القران و علمه، و قد ورد هذا في تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم للصحابة رضي اللّه عنهم أهمية ذلك من طريق عدد من الصحابة، فعن عثمان بن عفان رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:
«خيركم من تعلم القران و علمه» «3»، و نحوه عن أنس ابن مالك رضي اللّه عنه، و مثله عن علي و عبد اللّه بن مسعود «4»، و في لفظ «خيركم من قرأ القران و أقرأه» «5»، و من هذا الحديث تستبين المعالم التالية:
__________________________________________________
(1) البخاري (4/ 1564)، مرجع سابق.
(2) ابن ماجة (1/ 79)، مرجع سابق.
(3) البخاري (4/ 1919)، ابن حبان (1/ 324)، الترمذي (5/ 173)، مراجع سابقة.
(4) انظر تخريجها في مجمع الزوائد (7/ 166).
(5) الطبراني في الأوسط (3/ 252).(1/163)
الخيرية مطلقة هنا فهي على الناس أجمعين خلا الأنبياء؛ و لذا ورد عن عيسى عليه الصلاة و السلام: «من علم و عمل و علم يدعى في الملكوت عظيما»، و الفرد الأكمل من هذا الجنس هو النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ثم الأشبه فالأشبه «1»، ولكنه جعلهم خير الناس باعتبار التعلم و التعليم.
لابد أن يكون هذا الوصف قائما في المرء حق القيام لينال ثوابه و يقدم على غيره، فقوله (من تعلم القران) أي حق تعلمه (و علمه) أي حق تعليمه «2»...
ثالثا: بيان أنهم أحب الخلق إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:
كيف لا يكون ذلك و هم ينشرون ما جاء هو لنشره صلّى اللّه عليه و سلّم؟ فقد سمع علي بن أبي طالب ضجة في المسجد، فقال: من هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء قوم يقرؤون القران و يقرئونه. فقال: طوبى لهؤلاء! هؤلاء كانوا أحب الناس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «3»، و بالجملة فإن «فضايل «4» أهل القران لا تحصى كما أن فضايل القران لا يحصى و كما فضله على ساير الكلام فضل حملته على ساير الأمم و منحهم ما نالوا به الفخر في الدنيا و الاخرة و الذخر في العقبى» «5».
و قد يعترض على هذا بأنه يلزم أن يكون المقرئ أفضل ممن هو أعظم غناء في الإسلام بالمجاهدة و الرباط و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و الجواب: حرف المسألة يدور على النفع المتعدي فمن كان حصوله عنده أكثر كان أفضل، و لا بد
__________________________________________________
(1) عون المعبود (4/ 229)، مرجع سابق.
(2) عون المعبود (4/ 229)، مرجع سابق.
(3) مجمع الزوائد (7/ 166)، و انظر تخريجه في لمحات الأنوار رقم 6، مرجع سابق.
(4) كذا في كلام الهذلي فالهمزة عنده مخففة بإبدالها ياء..
(5) (الهذلي) أبو القاسم علي بن جبارة: الكامل ص 5 وجه أ، مصورة مخطوطة عند كاتب هذه الأسطر.(1/164)
مع ذلك من مراعاة الإخلاص في كل منهم «1»، و هذا يختلف زمانا و مكانا و شأنا، على أن لحفظ كلام اللّه جل جلاله مزية خاصة ظاهرة.
رابعا: النشر العام لفرض الكفاية من تعلم القران هو المقصد من ذكر الجوائز الحقيقية التحفيزية:
فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خلفات سمان عظام؟» قال: قلنا: نعم! قال: «فثلاث ايات يقرؤهن أحدكم في صلاته خير له من ثلاث خلفات سمان عظام» «2»، و نحوه عن عقبة بن عامر رضي اللّه عنه «3»، و المعنى: «فيتعلم ايتين من كتاب اللّه خير من ناقتين و ثلاث لو تصدق بها» لأن فضل تعلم ايتين من كتاب اللّه أكبر من فضل ناقتين و عدادهن من الإبل لو تصدق بها؛ إذ محال أن يشبه من تعلم ايتين من كتاب اللّه في الأجر بمن نال بعض حطام الدنيا «4».
و ذكر الصحابيين أبي هريرة و عقبة رضي اللّه عنهما لهذا الحديث يدل على تكرار النبي صلّى اللّه عليه و سلّم له، كما أن ذكر الصلاة في الأول و عدم ذكرها في الثاني، و ذكر المسجد للتعلم في الثاني دون ذكر الصلاة دال على حثه المطلق و العام لتتم القراءة في المسجد أو في غيره، و في الصلاة أو في غيرها.
تسلسل المنهجية:
كان الصحابة رضي اللّه عنهم يرغبون تلاميذهم على نفس المنوال، فعن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال: «لو جعل لأحد خمس قلائص إن صلّى الغداة بالقرية لبات يقول لأهله لقد ان لي أن أنطلق، و اللّه لا يقعد أحدكم فيتعلم
__________________________________________________
(1) انظر: فتح الباري (9/ 76)، مرجع سابق.
(2) مسلم (1/ 552).
(3) مسلم (1/ 552).
(4) انظر: ابن حبان (1/ 321)، مرجع سابق.(1/165)
خمس ايات من كتاب اللّه فلهن خير له من خمس قلائص و خمس قلائص» «1»، و في رواية تصف كيفية إقراء ابن مسعود، و تنشيطه لتلاميذه رضي اللّه عنه: كان إذا أصبح أتاه الناس في داره فيقول: على مكانكم، ثم يمر بالذين يقرئهم القران، فيقول: أيا فلان بأي سورة أتيت فيخبره في أي اية فيفتح عليه الاية التي تليها، ثم يقول: تعلمها فإنها خير لك مما بين السماء و الأرض، قال: فنظر الرجل اية ليس في القران خير منها، ثم يمر بالاخرى فيقول اية مثل ذلك حتى يقول ذلك لكلهم «2»، و عن أبي إسحاق قال: قال عبد اللّه بن مسعود: لو قيل لأحدكم لو غدوت إلى القرية كان لك أربع قلائص كان يقول لك قد أبى اللّه لي أن أغدو، و إن أحدكم غدا فتعلم اية من كتاب اللّه كانت خيرا له من أربع و أربع و أربع حتى عد شيئا كثيرا «3».
خامسا: تكريم حفظة القران و إلزامهم بتعليمه في مقابل تيسير الأمور الدنيوية الهامة لهم، و تعميم التعليم على الرجال و النساء:
ففي قصة الواهبة نفسها للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم طلبها بعض أصحابه، فلم يجد مهرا فقال له صلّى اللّه عليه و سلّم: «ماذا معك من القران» قال: معي سورة كذا و سورة كذا عددها، فقال: «تقرؤهن عن ظهر قلبك؟» قال: نعم! قال: «اذهب فقد ملكتها بما معك من القران» «4»، و السور المذكورة «سماها في فوائد تمام أنها سبع من المفصل، و في رواية: سورة البقرة أو التي تليها بأو، و في رواية البقرة و سورة من المفصل، و في رواية قال: «قم فعلمها عشرين اية و هي امرأتك» و جمع بينها بأن كلا من الرواة
__________________________________________________
(1) ابن أبي شيبة (6/ 132)، مراجع سابق.
(2) مجمع الزوائد (7/ 167)، مرجع سابق، و قال: «رواه كله الطبراني».
(3) مصنف عبد الرزاق (3/ 366)، و الطبراني في المعجم الكبير (9/ 135).
(4) البخاري (4/ 1919)، مسلم (2/ 1040) و اللفظ له، مرجعان سابقان.(1/166)
حفظ ما لم يحفظ الاخر «1»، و في رواية لمسلم: «اذهب فعلمها من القران» «2»، و في حديث ابن مسعود رضي اللّه عنه: «و قد أنكحتكها على أن تقريها و تعلمها و إذا رزقك اللّه عوضتها» فتزوجها الرجل على ذلك «3» و سواء كان المهر هذا هو المهر أو لا- على الخلاف- فالمراد اشتراط ذلك دلالة على منزلة القارئ، و نشرا للقران.
و تنبني على هذا مسألة عقد المسابقات القرانية، و رصد الجوائز عليها:
فتشجيع الحفظ و نشر القران الكريم بالمسابقات القرانية و نحوه لا بأس به، و من النصوص السابقة يظهر نوع إشارة من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بذلك، و قد حث بعض أهل العلم على أن يعمل على وضع المحفزات لحفظ القران، و منهم شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: «و أما هذه الأوقاف على الترب ففيها من المصلحة بقاء حفظ القران و تلاوته هذه الأموال معونة على ذلك و حاضة عليه إذ قد يدرس حفظ القران بسبب عدم الأسباب الحاملة عليه، و فيها مفاسد أخر من حصول القراءة لغير اللّه، و التأكل بالقران، و قراءته على غير الوجه المشروع، و اشتغال النفوس بذلك عن القراءة المشروعة، فمتى أمكن تحصيل هذه المصلحة بدون ذلك الفساد جاز و الوجه النهي عن ذلك المنع، و إبطاله إن كان حصول مفسدة أكثر من ذلك» «4»، و قال في موضع اخر: «و الوقوف التي وقفها الناس على القراءة عند قبورهم فيها من الفائدة أنها تعين على حفظ القران، و أنها رزق لحافظ القران، و باعثة لهم على حفظه و درسه و ملازمته» «5».
__________________________________________________
(1) انظر: شرح الزرقاني (3/ 168)، مرجع سابق.
(2) مسلم (2/ 1041)، مرجع سابق.
(3) شرح الزرقاني (3/ 168)، مرجع سابق.
(4) الفتاوى الكبرى (4/ 447)، مرجع سابق.
(5) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ص 380.(1/167)
و تعرض ابن القيم لهذه المسألة فقال: «المسابقة على حفظ القران و الحديث و الفقه و غيره من العلوم النافعة و الإصابة في المسائل هل تجوز بعوض؟ منعه أصحاب مالك و أحمد و الشافعي و جوزه أصحاب أبي حنيفة و شيخنا و حكاه ابن عبد البر عن الشافعي، و هو أولى من الشباك و الصراع و السباحة، فمن جوز المسابقة عليها بعوض فالمسابقة على العلم أولى بالجواز، و هي صورة مراهنة الصديق لكفار قريش على صحة ما أخبرهم به و ثبوته، و لم يقم دليل شرعي على نسخه و أن الصديق أخذ رهنهم بعد تحريم القمار و أن الدين قيامه بالحجة و الجهاد فإذا جازت المراهنة على الات الجهاد فهي في العلم أولى بالجواز» «1»...
و هذا الحفاوة النبوية بحملة القران الكريم تقتضي- واقعا- أن تعقد لهم الاحتفالات في عصرنا، و تشهر أسماؤهم في وسائل الإعلام، و يعطون أعلى الأوسمة حال المسابقات، و اللافت للنظر أن ما يحفل به الناس هذه الأيام من الفن و الرياضة، لم يكن له هذا الرصيد من الحفاوة في العهد النبوي- و إن كان هذان الأمران قد يحترمان في بعض الجوانب الإيجابية، أو غير السيئة، و قد تعقد له دعاية معينة بحدودها في أوساط الأمة كما في سباق النبي صلّى اللّه عليه و سلّم للخيل المضمرة إلا أن الفرق شاسع بين الدعاية الحقة التي بثها النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لحملة القران و بين هذين الصنفين.
ولكن يجب دراسة الأساليب التي تضبط نفوس المشاركين- قدر الإمكان- نحو الإخلاص، و طلب الدار الاخرة.
__________________________________________________
(1) شمس الدين أبو عبد اللّه محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي ت 751 ه: الفروسية، تحقيق: مشهور بن حسن بن محمود بن سلمان، دار الأندلس، السعودية- حائل، ط 1، 1414 ه- 1993 م.(1/168)
المطلب الرابع: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم تسمية السور و ألقابها:
و هذا مما علمه النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لأصحابه رضي اللّه عنهم، و جعله أصلا من أصول التعليم لأنه ترتيب للايات بعلامات مميزة، و ضبطها في طوائف معروفة هي السور، مما يجعل عملية الحفظ، و التعلم أسهل.
فعلمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم تسمية السور؛ إذ لا يظهر أن ذلك يخضع للاجتهاد بل هو توقيفي في الغالب، و تدل على ذلك دلائل منها ما يظهر من الروايات الواردة في هذا الشأن كحديث: «شيبتني هود و أخواتها سورة الواقعة و سورة القيامة و المرسلات و إذا الشمس كورت و إذا السماء انشقت و إذا السماء انفطرت قال و أحسبه ذكر سورة هود» «1»، و منها: إفراد السور بأسماء معينة مع أن في السورة ما يجعل غيرها بالتسمية أولى كما في سورة البقرة مثلا.
و قد تسمى مجموعة من السور باسم مميز فعن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال:
أقرأني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سورة من ال حم يعني الأحقاف قال: و كانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين اية سميت ثلاثين «2»، و في التسمية يقال سورة كذا كما بوب البخاري: «باب من لم ير بأسا أن يقول سورة البقرة و سورة كذا و كذا» «3»، و من ذلك حديث أبي مسعود الأنصاري رضي اللّه عنه قال: قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «الايتان من اخر سورة البقرة من قرأ بهما في ليلة كفتاه»، و فيه ردّ على من كره ذلك معتمدا على ما روي عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «لا تقولوا سورة البقرة و لا سورة ال عمران و لا سورة النساء و كذا القران كله ولكن
__________________________________________________
(1) الحاكم (2/ 374)، الترمذي (5/ 402)، أبو يعلى (1/ 102)، مراجع سابقة.
(2) مجمع الزوائد (7/ 105)، مرجع سابق، و قال: «رواه أحمد بإسنادين رجال أحدهما ثقات».
(3) البخاري (4/ 1923)، مرجع سابق.(1/169)
قولوا السورة التي يذكر فيها البقرة و التي يذكر فيها ال عمران و كذا القران كله» «1»، و الأحاديث في هذا المعنى كثيرة، و عن ابن مسعود أنه رمى الجمرة من بطن الوادي فجعل البيت عن يساره و منى عن يمينه ثم قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة «2».
و في خبر يوم حنين: «فانهزموا حتى لم يبق مع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إلا العباس و أبو سفيان بن الحارث قال العباس: و كنت اخذا بلجام بغلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن يمينه و أبو سفيان اخذ بركابه عن يساره فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «يا عباس ناد في الناس: يا أصحاب السمرة يا أصحاب سورة البقرة- يذكرهم البيعة التي بايعوه تحت الشجرة و الشجرة سمرة بايعوه تحتها على ألايفروا- قال العباس: فناديت فخلصت الدعوة إلى الأنصار إلى بني الحارث بن الخزرج، فأقبلوا و لهم حنين كحنين الإبل فقالوا: لبيك يا رسول اللّه! و سعديك...» «3»
و عن هشام بن عروة عن أبيه: أن شعار أصحاب النبى صلّى اللّه عليه و سلّم يوم مسيلمة كان:
يا أصحاب سورة البقرة «4»...
__________________________________________________
(1) شعب الإيمان (2/ 519)، مرجع سابق، و قال في مجمع الزوائد (7/ 157)، مرجع سابق: «رواه الطبراني في الأوسط و فيه عبيس بن ميمون و هو متروك» فلا يصح هذا الحديث مرفوعا... و إنما صح من قول الحجاج بن يوسف النقفي رواه عنه مسلم (2/ 942)، مرجع سابق، و نقل مسلم معه إنكار التابعين عليه.
(2) البخاري (2/ 622)، مسلم (2/ 943)، مرجعان سابقان.
(3) أبو عوانة في مسنده (4/ 279)، مصنف ابن أبي شيبة (6/ 529)، الطبراني في الأوسط، أحمد (1/ 207)، و خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 180)، مراجع سابقة.
(4) سعيد بن منصور في سننه (2/ 376)، ابن أبي شيبة (6/ 547)، مرجعان سابقان.(1/170)
و قد يلقبون السورة بعلامة مميزة من حيث كمية اياتها، و لا يتحرجون:
نحو قول السورة القصيرة كما جاء عن أنس رضي اللّه عنه قال: كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يسمع بكاء الصبي مع أمه و هو في الصلاة أو الشي ء في الصلاة فيقرأ السورة القصيرة «1»، و في لفظ بالسورة الخفيفة «2».
و هذا يرد على من زعم أن من حرمة القران ألا يقال سورة صغيرة كأبي العالية فقد روي عنه أنه كره أن يقال سورة صغيرة أو كبيرة و قال: لمن سمعه قالها أنت أصغر منها و أما القران فكله عظيم «3»، و قد تقدم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: «ما من المفصل سورة صغيرة و لا كبيرة إلا قد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يؤم بها الناس في الصلاة» «4».
و من هذا الباب: زيادة التنويه ببعض الايات: فعن أبي بن كعب رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «أي اية في كتاب اللّه أعظم؟» فقال: اللّه و رسوله أعلم. يكررها مرارا ثم قال أبي: اية الكرسي. فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «ليهنك العلم أبا المنذر و الذي نفسي بيده أن لها للسانا و شفتين تقدسان للملك عند ساق العرش» «5».
__________________________________________________
(1) (الكسي) أبو محمد عبد بن حميد بن نصر (ت 249 ه): المنتخب من مسند عبد بن حميد ص 404، مراجعة: صبحي البدري السامرائي- محمود محمد خليل الصعيدي، 1408 ه- 1988 م، مكتبة السنة- القاهرة.
(2) أبو عوانة في مسنده (2/ 88)، مرجع سابق، أبو يعلى (6/ 157)، مرجع سابق.
(3) انظر: القرطبي (1/ 31)، مرجع سابق.
(4) الطبراني في الكبير (12/ 365)، مرجع سابق، و هو في مجمع الزوائد (2/ 114)، مرجع سابق.
(
5) الحاكم (3/ 344)، المسند المستخرج (2/ 406)، النسائي في الصغرى (1/ 548)، مراجع سابقة، و قد ورد في فضلها أحاديث كثيرة منها في صحيح البخاري (2/ 812)، مرجع سابق حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه في قراءتها عند النوم علمه ذلك شيطان فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «صدقك و هو كذوب»، فإن ضعّف الحديث السابق فهذا يغني عنه.(1/171)
و هذا يدل على شيوع التسمية بينهم- رضي اللّه تعالى عنهم- سواء بتعليم من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أم غير ذلك فهو دال على سعة الأمر في ذلك... ولكنه يرتبط بالعملية التعليمية لألفاظ القران الكريم من حيث شدة حفظ الصحابة لايات كل سورة و قدرتهم على تمييز كل سورة من الاخرى، و على الرغم من عدم شيوع العلامات الاصطلاحية للفصل بين الايات و السور إلا أن ما سبق يدل على قدرتهم على التمييز بينها بتلقائية، مما يدل على أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان يوضح لهم ذلك أتم إيضاح.(1/172)
المبحث الرابع: القواعد التربوية و العلمية المصاحبة لعملية الإقراء (من حيث اللفظ):
و المراد هنا الاداب اللازمة للقارئ كما وضعها النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و ذلك ينحصر في أربعة مطالب:
المطلب الأول: الانفعال بالقران الكريم.
المطلب الثاني: لزوم أبجديات منهج التلقي.
المطلب الثالث: تعليمهم تعظيم القران
المطلب الرابع: تعليمهم الهيئة التي يكون عليها قارئ القران إذا أراد القراءة.
المطلب الأول: الانفعال بالقران الكريم:
و له مظاهر متعددة منها:
أولا: الخلق القراني:
فهو وسيلة لتثبيت الحفظ، و قد علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم هذا الخلق و كيفيته بتطبيقه مباشرة فعن أبي الدرداء رضي اللّه عنه قال: سألت عائشة عن خلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالت: «كان خلقه القران يغضب لغضبه و يرضى لرضاه «1»، و سألها عن خلق النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقالت: ألست تقرأ القران؟ قلت: بلى قالت: فإن خلق نبي اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان القران «2»، و كون خلقه القران معناه أنه صلّى اللّه عليه و سلّم كان متمسكا بادابه و أوامره
__________________________________________________
(1) الطبراني في الأوسط (1/ 30)، أحمد (6/ 91)، مرجعان سابقان.
(2) مسلم (1/ 513)، ابن خزيمة (2/ 171)، ابن حبان (6/ 191)، مراجع سابقة.(1/173)
و نواهيه و محاسنه، فجميع ما قص اللّه تعالى في كتابه من مكارم الأخلاق مما قصه من نبي أو ولي أو حث عليه كان صلّى اللّه عليه و سلّم متخلقا به و كل ما نهى اللّه تعالى عنه فيه كان صلّى اللّه عليه و سلّم لا يحوم حوله» «1»، ثم باتت هذه قاعدة مقررة لتثبيت الحفظ، لذا قالوا:
«كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل» «2».
ثانيا: تحقيق للفاعلية الحركية للقران الكريم:
فهو ربط اللفظ بالاعتقاد و الفكر، و ربط الاعتقاد و الفكر بالعمل و التطبيق و يشير إلى ذلك قوله تعالى: وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (الأنعام: 92).
و من هذه الفاعلية: أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم علمهم أن ينفعلوا بايات القران بحسب معانيها؛ فإذا مر باية رحمة سأل اللّه من فضله، و إذا مر باية عذاب تعوذ باللّه من شر العذاب، أو سأل اللّه العافية، و إذا مر باية تنزيه نزه اللّه تعالى، سواء كان ذلك في الصلاة أو خارجها، مأموما و إماما و منفردا «3» فعن حذيفة رضي اللّه عنه قال: صليت مع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المائة ثم مضى فقلت:
يصلي بها في ركعة، فمضى فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح ال عمران فقرأها، يقرأ مترسلا، إذا مر باية فيها تسبيح سبح، و إذا مر بسؤال سأل، و إذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع... الحديث «4».
__________________________________________________
(1) حاشية السندي على النسائي (3/ 200).
(2) الجامع لأخلاق الراوي (2/ 314)، مرجع سابق.
(3) (النووي) أبو زكريا يحيى بن شرف الدين النووي 676 ه: التبيان في اداب حملة القران ص 46، الوكالة العامة للتوزيع، دمشق، ط 1.
(4) مسلم (1/ 536)، مرجع سابق.(1/174)
و منها: أنه كان إذا مر باية سجود- و هو يعلمهم القران- علمهم مشروعية السجود عندها، فعن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يعلّمنا القران فإذا مرّ بسجود القران سجد و سجدنا معه «1»، ولكنه جاء عن زيد بن ثابت قال: قرأت على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و النجم فلم يسجد فيها «2»... فذهب بعضهم إلى أنه لا يسجد حال التعليم لأنه يشق على الطالب و الشيخ لكثرة الطلاب، و بذلك كان يأخذ الإمام أبو القاسم الشاطبي، و يعتمد على حديث زيد، و الجمع بينهما عند المؤلف أن التعليم إن كان بالسماع فيسجد؛ إذ تنتفي المشقة، و كذلك هو واقع ما حكاه ابن عمر، و إن كان بالعرض فلا يسجد، و هو واقع حديث زيد، و اللّه أعلم.
و منها: أن يتفاعلوا مع الايات حسب معنى كل: فعن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قرأ سورة الرحمن- أو قرئت عنده-، فقال: «مالي أسمع الجن أحسن جوابا لردها منكم؟ قالوا: و ما ذاك يا رسول اللّه؟ قال: ما أتيت على قول اللّه تعالى فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (الرحمن: 13) إلا قالت الجن: و لا بشي ء من نعمك ربنا نكذب» «3».
ثالثا: تعليمهم لغتهم الاصطلاحية القرانية الخاصة:
فليس من لغتهم (نسيت اية كذا)، و قد كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يعلمهم الانفعال بلغة القران كالذي ورد عن عائشة- رضي اللّه تعالى عنها- قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يكثر أن يقول في ركوعه و سجوده سبحانك اللهم ربنا و بحمدك اللهم اغفر لي يتأول القران «4» أي يتأول قول اللّه جل جلاله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ (النصر: 3)،
__________________________________________________
(1) أحمد (2/ 157)، مرجع سابق.
(2) البخاري (1/ 364)، مرجع سابق.
(3) زوائد تاريخ بغداد على الكتب السنة (4/ 68)، و قد حسّن المؤلف الحديث.
(4) البخاري (1/ 274)، مسلم (1/ 350)، مرجعان سابقان.(1/175)
و الظاهر أن هذا يقاس عليه ما دام دعاء في حدود ضوابطه المقررة- اجتهادا من الباحث-، فيقول مثلا: رب انشر لي من رحمتك و هيئ لي من أمري مرفقا، أخذا من قوله سبحانه و تعالى: يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (الكهف: 16)، و نحو ذلك.
رابعا: البكاء مع قراءة اللفظ:
و قد علمهم صلّى اللّه عليه و سلّم ذلك قولا و تطبيقا فقد قال صلّى اللّه عليه و سلّم: «إن القران نزل بحزن فإذا قرأتموه فتحازنوا» «1»، و عن جرير رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لنفر من أصحابه: «إني قارئ عليكم ايات من اخر الزمر فمن بكى منكم وجبت له الجنة» فقرأها من عند وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ (الزمر: 67) إلى اخر السورة فمنا من بكى، و منا من لم يبك فقال الذين لم يبكوا: يا رسول اللّه! لقد جهدنا أن نبكي فلم نبك فقال: «إني سأقرأها عليكم فمن لم يبك فليتباك» «2»، و ذاك صدى الجواب لقول اللّه عزّ و جلّ: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ (الزمر: 22)، و قوله جل جلاله: أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَ تَضْحَكُونَ وَ لا تَبْكُونَ (النجم: 59- 60)، و كان صلّى اللّه عليه و سلّم يبكي سواء قرأ هو الايات أو قرئت عليه كما في قراءة ابن مسعود عليه من سورة النساء «3»، و كانوا يشاهدون هذا من حاله صلّى اللّه عليه و سلّم فعن مطرف بن عبد اللّه بن الشخير عن أبيه قال: رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يصلّى و لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء «4» و الأزيز بزايين: صوت الرعد و غليان القدر.
__________________________________________________
(1) ذكر هذا الحديث الغزالي في الإحياء (1/ 277)، و علق عليه العراقي: «أخرجه أبو يعلى و أبو نعيم في الحلية بسند ضعيف».
(2) الطبراني في الكبير (2/ 348)، مرجع سابق.
(3) البخاري (4/ 1673)، مسلم (1/ 551)، ابن خزيمة (2/ 354)، مراجع سابقة.
(4) ابن خزيمة (2/ 53)، ابن حبان (2/ 439)، الحاكم (1/ 396)، المختارة (9/ 463)، مراجع سابقة.(1/176)
و قد وصفت أسماء حال أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عند سماع القران دلالة على نجاح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بغرس صفة الانفعال الصادق بالقران فيهم، مع عدم المبالغة المتكلفة، فعن عبد اللّه بن عروة بن الزبير قال: قلت لجدتي أسماء: كيف كان يصنع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؟ إذا قرأوا القران؟ قالت: كانوا كما نعتهم اللّه عز و جل تدمع أعينهم و تقشعر جلودهم قلت: فان ناسا هاهنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم عليه غشية. فقالت: أعوذ باللّه من الشيطان «1».
تسلسل المنهجية: و علم الأصحاب رضي اللّه عنهم تلاميذهم ذلك فعن عبد الرحمن ابن السائب قال: قدم علينا سعد بن أبي وقاص رضي اللّه عنه و قد كف بصره فسلمت عليه، فقال: من أنت فأخبرته فقال: مرحبا بابن أخي! بلغني أنك حسن الصوت بالقران سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «إن هذا القران نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا و تغنوا به فمن لم يتغن به فليس منا» «2».
خامسا: التشنيع العاطفي الحساس مما يشير إلى النسيان:
و ذلك بالتنفير من الألفاظ الشكلية فضلا المعاني الجوهرية وصولا إلى كمال المحاربة الشعورية و الظاهرية للنسيان الفردي للقران الكريم فلا يتطرق إليه الترك الجماعي كما في قوله صلّى اللّه عليه و سلّم: «بئسما لأحدهم يقول نسيت اية كيت و كيت بل هو نسّي «3»» «4».
__________________________________________________
(1) سعيد بن منصور في سننه (2/ 330)، مرجع سابق.
(2) ابن ماجة (1/ 424)، و قال العراقي في المغني (1/ 234): «أخرجه ابن ماجه من حديث سعد بن أبي وقاص بإسناد جيد».
(3) قال النووي: «ضبطناه بتشديد السين و قال القاضي ضبطناه بالتشديد و التخفيف». انظر: شرح مسلم (6/ 323)، مرجع سابق.
(4) البخاري (4/ 1923)، مسلم (1/ 544)، مرجعان سابقان.(1/177)
المطلب الثاني: لزوم أبجديات منهج التلقي:
و لأن القران تلق من الشفاه كما سبق بيانه فإنه يترتب على ذلك قواعد أساسية بينها النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لأصحابه، و رباهم عليها، و هي:
أولا: القراءة كما تلقى الإنسان دون تغيير:
ثانيا: قبول القراءة من أي صحابي ما دام يعزوها إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بحسب منهجية التلقي، و تحسينها:
ثالثا: المراء في القران كفر:
و يأتي الكلام عن ذلك في الفصل الخامس- إن شاء اللّه تعالى-، إنما أحببنا الإشارة إلى أن هذا من القواعد العلمية و التربوية التي ربى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عليها أصحابه رضي اللّه عنهم.
المطلب الثالث: تعليمهم تعظيم القران «1»:
و لذلك مظاهر متعددة منها:
أولا: تعليمهم الاستغناء بالقران عن غيره:
فقد علمه ربه جل جلاله أن يستغني بالقران عما سواه في قوله سبحانه و تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (الحجر: 87) فاللّه جل جلاله يقول لنبيه صلّى اللّه عليه و سلّم: «كما اتيناك القران العظيم فلا تنظرن إلى الدنيا و زينتها و ما متعنا به أهلها من الزهرة الفانية لنفتنهم فيه فلا تغبطهم بما هم فيه» «2»، «و لا تطمح ببصرك طموح راغب إلى ما متعنا به أزواجا منهم أصنافا من الكفار فإنه
__________________________________________________
(1) و انظر في الاداب المعظمة له: القرطبي (1/ 29)، مرجع سابق.
(2) ابن كثير (2/ 552)، مرجع سابق.(1/178)
مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته فإنه كمال مطلوب بالذات، مفض إلى دوام اللذات» «1» «فاستغن بما اتاك من القران العظيم عما هم فيه من المتاع و الزهرة الفانية» «2».
و عن معقل بن يسار رضي اللّه تعالى عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «اعملوا بالقران أحلوا حلاله و حرموا حرامه و اقتدوا به و لا تكفروا بشي ء منه و ما تشابه عليكم منه فردوه إلى اللّه و إلى أولي العلم من بعدي كما يخبروكم و آمنوا بالتوراة و الإنجيل و الزبور و ما أوتي النبيون من ربهم و ليسعكم القران و ما فيه من البيان فإنه شافع مشفع و ما حل مصدق ألا و لكل اية نور يوم القيامة و إني أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول و أعطيت طه و طواسين و الحواميم من ألواح موسى و أعطيت فاتحة الكتاب من تحت العرش» «3».
و بذلك رجح من رجح أن المراد بالتغني الوارد في حديث «ليس منا من لم يتغن بالقران» فهو الاستغناء به- عندهم- عن سائر الأشياء سواه «4».
تفسير الاستغناء: و هذا الغنى يحتمل غنى النفس بمعنى أنهم يرون أن ما منحوه من تيسير حفظه هو الغنى الحقيقي، و أن غنى بالمال في جنب ذلك لا عبرة به لأنه غاد و رائح، و يحتمل أن حفظه و العمل به يجلب الغنى بالمال «5»، «و قد روى ابن عساكر في تاريخه عن أنس رضي اللّه عنه: أغنى الناس حفظة القران، و المراد بهم من جعله اللّه تعالى في جوفه أي سهل له حفظه عن ظهر قلب مع العمل به كما تقرر...
__________________________________________________
(1) القرطبي (10/ 55)، مرجع سابق.
(2) ابن كثير (2/ 552)، مرجع سابق.
(3) البيهقي في الكبرى (10/ 9)، مرجع سابق، و لأكثر فقراته شواهد معلومة.
(4) شرح مشكل الاثار (4/ 353).
(5) فيض القدير (2/ 19)، مرجع سابق.(1/179)
قال أبو إسحاق الدمشقي: كنت أمشي بالبادية واحدي فإذا أعييت رفعت صوتي بالقران فحمل عني أ لم الجوع حتى قطعت مراحل كثيرة» «1».
و من أهم مظاهر الاستغناء به:
نبذ كل ما خالفه و جعله المهيمن في كل الأمور، و قد علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ذلك في قول اللّه سبحانه و تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ (المائدة: 48).
و عن أنس بن مالك أنّه سمع عمر الغد حين بايع المسلمون أبا بكر و استوى على منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم تشهّد قبل أبي بكر فقال أمّا بعد فاختار اللّه لرسوله صلّى اللّه عليه و سلّم الّذي عنده على الّذي عندكم و هذا الكتاب الّذي هدى اللّه به رسولكم فخذوا به تهتدوا و إنّما هدى اللّه به رسوله «2»، و كذلك كان ابن مسعود رضي اللّه عنه يقول: إن هذا الصراط محتضر تحضره الشياطين ينادون يا عبد اللّه هذا الطريق فاعتصموا بحبل اللّه فإن حبل اللّه القران «3».
ثانيا: تعليمهم الاعتزاز بحفظ القران: و من مظاهره:
1- تعليمهم إحكام القران بسلامته من الاختلاف: كما في قوله سبحانه و تعالى: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (النساء: 82)، فإن الاختلاف على ثلاثة أوجه:
اختلاف تناقض بأن يدعو أحد الشيئين إلى فساد الاخر، و اختلاف تفاوت و هو أن يكون بعضه بليغا و بعضه مرذولا ساقطا و هذان الضربان من الاختلاف
__________________________________________________
(1) فيض القدير (2/ 20)، مرجع سابق.
(2) البخاري (6/ 2653)، ابن حبان (14/ 590)، مرجعان سابقان.
(3) الدارمي (2/ 524)، الطبراني في الكبير (9/ 212)، مرجعان سابقان.(1/180)
منفيان عن القران، و الثالث: اختلاف التلاؤم هو أن يكون الجميع متلائما في الحسن كاختلاف وجوه القراات و مقادير الايات» «1».
1- تعليمهم الاكتفاء به في بيان منهج التلقي و الاستدلال، و النجاة الدنيوية و الاخروية: فقد علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قوله جل جلاله: أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ (العنكبوت: 51)، و علمهم أنه لا مجال للخسارة و التلجلج و الاضطراب بعد أن يوهب المرء الكتاب حفظا إلا لمن لا عقل له و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «لو أن القران جعل في إهاب ثم ألقي في النار ما احترق» «2»، و فسره بعض الرواة بأن من جمع القران ثم دخل النار فهو شر من الخنزير، و علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنه الداعي إلى النجاة، و دستور الفلاح فعن النّوّاس بن سمعان الأنصاريّ رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «ضرب اللّه مثلا صراطا مستقيما و على جنبتي الصّراط سوران فيهما أبواب مفتّحة و على الأبواب ستور مرخاة و على باب الصّراط داع يقول أيّها النّاس ادخلوا الصّراط جميعا و لا تتفرّجوا وداع يدعو من جوف الصّراط فإذا أراد يفتح شيئا من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه فإنّك إن تفتحه تلجه و الصّراط الإسلام و السّوران حدود اللّه تعالى و الأبواب المفتّحة محارم اللّه تعالى و ذلك
__________________________________________________
(1) أحكام القران للجصاص (3/ 182).
(
2) الدارمي (2/ 522)، أحمد (4/ 151)، و حسنه الألباني في صحيح الجامع رقم 5266، و قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث ص 200 في معناه: «حدثني يزيد بن عمرو قال: سألت الأصمعي عن هذا الحديث فقال: يعني لو جعل القران في إنسان ثم ألقي في النار ما احترق، و أراد الأصمعي أن من علمه اللّه تعالى القران من المسلمين و حفظه إياه لم تحرقه النار يوم القيامة إن ألقي فيها بالذنوب كما قال أبو أمامة احافظوا القران أو اقرؤا القران و لا تغرنكم هذه المصاحف فإن اللّه تعالى لا يعذب بالنار قلبا وعى القران و جعل الجسم ظرفا للقران كالإهاب و الإهاب الجلد الذي لم يدبغ...» انظر: (ابن قتيبة): تأويل مختلف الحديث ص 200.(1/181)
الدّاعي على رأس الصّراط كتاب اللّه عزّ و جلّ و الدّاعي فوق الصّراط واعظ اللّه في قلب كلّ مسلم» «1».
2- نعت حملة القران بأعظم النعوت، و أجلها: مثل أهل اللّه و خاصته، خيركم، القراء على الإطلاق... و من مقتضى هذا الإطلاق: الإشارة إلى أن غيرهم أمي لا يعرف القراءة و لا الكتابة، و كأن عدم إتقان ألفاظ القران و حفظها أمية غير لائقة بالمديح حتى لو كان صاحبها متقنا لكل علم غير ذلك...، و ذكر رجل عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بخير فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «أولم تروه يتعلّم القران» «2»، و قد حاد عن المنهجية من يمتهن ما كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه يعظمونه.
3- و لتعليمهم الاعتزاز بحفظ القران الكريم أمرهم بالفرح به في قوله سبحانه و تعالى:
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا (يونس: 58) فقد قال ابن عباس فيها: «بكتاب اللّه و بالإسلام خير مما يجمعون» «3»، و عن البراء بن عازب رضي اللّه عنه قال: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ القران وَ بِرَحْمَتِهِ أن جعلكم من أهله «4».
4- أوجب عليهم تطبيقه و هيمنته على كل أمور الحياة الفردية و الجماعية، فيكون الإنسان محاطا به في يقظته و منامه، و أكله وجوعه، و ذهابه و إيابه، و ارتباطه الفردي و الجماعي.
__________________________________________________
(1) أحمد (4/ 182)، مرجع سابق.
(2) أحمد (5/ 284)، مرجع سابق.
(3) سعيد بن منصور (5/ 314)، مرجع سابق.
(4) الطبراني في الأوسط (5/ 347)، مرجع سابق، و قال في مجمع الزوائد (7/ 36)، مرجع سابق: «و فيه عطية العوفي و هو ضعيف» و انظر في شواهده: لمحات الأنوار (1/ 34) برقم 18، مرجع سابق.(1/182)
5- التشديد على من ذكره في حلف أو قسم كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «من حلف بسورة من القران فعليه بكل اية كفارة إن شاء بر و إن شاء فجر» «1».
6- و كنتيجة لهذا الاعتزاز بالقران فقد كان من اعتزازهم بالقران يطردون البطالين فعن ابن مسعود رضي اللّه عنه أن بطالا أقبل إليهم فقال ابن مسعود اطردوه بالقران، ثم أمر غلاما أن يقرأ سورة في المصحف فلما سمع البطال القران ذهب «2»، و في المقابل فقد كان صلّى اللّه عليه و سلّم يعلمهم أن يشجع المقرئ القارئ فيقول المقرئ للقارئ أحسنت أو نحوها من العبارات: فعن عبد اللّه ابن مسعود قال:
بينا أنا بالشام بحمص فقيل لي: اقرأ سورة يوسف، فقرأتها فقال رجل: ما كذا أنزلت! فقلت: و اللّه لقد قرأتها على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال أحسنت فبينا أنا أكلمه إذ وجدت ريح الخمر، قلت: أتكذب بكتاب اللّه و تشرب الخمر؟ و اللّه لا تبرح حتى أجلدك الحد «3».
و من تسلسل المنهجية في تعليم الاعتزاز بالقران ما جاء عن عطاء بن السائب قال أقرأني أبو عبد الرحمن السلمي القران، و كان إذا قرأ عليه أحدنا القران، قال: قد أخذت علم اللّه، فليس أحد اليوم أفضل منك إلا بعمل، ثم يقرأ قوله أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (النساء: 166) «4».
__________________________________________________
(1) البيهقي في سننه الكبرى (10/ 43)، مرجع سابق.
(2) (أبو يوسف) القاضي يعقوب بن إبراهيم الأنصاري ت 182 ه: الاثار ص 53، دار الكتب العلمية، بيروت، 1355 ه، و البطال يطلق على الساحر، و يطلق على اللعاب العابث.
(3) النسائي في السنن الكبرى (5/ 29)، مرجع سابق.
(4) ابن كثير (1/ 590)، مرجع سابق.(1/183)
المطلب الرابع: تعليمهم صلّى اللّه عليه و سلّم الهيئة التي يكون عليها قارئ القران إذا أراد القراءة «1»:
أولا: علمهم صلّى اللّه عليه و سلّم ألا يمس المصحف إلا طاهر من كل حدث أصغر أو أكبر «2»:
فقد علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ذلك فيما رواه عبد اللّه بن أبي بكر بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لعمرو بن حزم: «ألايمس القران إلا طاهر» «3» و قال الإمام مالك تفصيلا و بيانا للعلة: «و لا يحمل أحد المصحف بعلاقته و لا على وسادة إلا و هو طاهر و لو جاز ذلك لحمل في خبيئته و لم يكره ذلك لأن يكون في يدي الذي يحمله شي ء يدنس به المصحف ولكن إنما كره ذلك لمن يحمله و هو غير طاهر إكراما للقران و تعظيما له» «4»، و أما قوله جل جلاله: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (الواقعة: 79)، فلا يدل على المسألة على الراجح كما قال مالك: أحسن ما سمعت في هذه الاية لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) إنما هي بمنزلة هذه الاية التي في عبس و تولى قول اللّه تبارك و تعالى كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (عبس: 11- 16) «5»، و قد استنبط العلماء ذلك التعظيم للمصحف من
__________________________________________________
(1) و انظر: القرطبي (1/ 27)، شعب الإيمان (2/ 319)، الفردوس بمأثور الخطاب (3/ 538)، مرجعان سابقان.
(2) انظر تفصيل هذه المسألة في: تفسير القرطبي (17/ 227)، مرجع سابق.
(3) انظر في الكلام على صحة كتاب عمرو بن حزم: التمهيد (17/ 397)، مرجع سابق، (ابن رشد الحفيد) محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي أبو الوليد ت 595 ه: بداية المجتهد و نهاية المقتصد (1/ 30)، دار الفكر، بيروت.
(4) موطأ الإمام مالك (1/ 199)، مرجع سابق.
(5) موطأ الإمام مالك (1/ 199)، مرجع سابق.(1/184)
ايات الواقعة و عبس، ولكن بطريق اخر «لأن الملائكة يعظمون المصاحف المشتملة على القران في الملأ الأعلى فأهل الأرض بذلك أولى و أحرى لأنه نزل عليهم و خطابه متوجه إليهم فهم أحق أن يقابلوه بالإكرام و التعظيم و الانقياد له بالقبول و التسليم» «1»، و قد علم الصحابة أصحابهم ذلك.
و ذكر ابن عبد البر رواية تؤكد إرادة معنى الوضوء هي (ألايمس القران إلا على طهور)، و لذا لم يختلف فقهاء الأمصار بالمدينة و العراق و الشام أن المصحف لا يمسه إلا الطاهر على وضوء، و هو قول مالك و الشافعي و أبي حنيفة و الثوري و الأوزاعي و أحمد بن حنبل و إسحاق بن راهواه و أبي ثور و أبي عبيد و هؤلاء أئمة الفقه و الحديث في أعصارهم «2».
تسلسل المنهجية:
و حرص الصحابة على ذلك فعن مصعب بن سعد أنه قال: كنت أمسك المصحف على سعد بن أبي وقاص فاحتككت فقال سعد:
لعلك مسست ذكرك فقلت: نعم فقال قم فتوضأ فقمت فتوضأت ثم رجعت «3»، و عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا مع سلمان فخرج فقضى حاجته، ثم جاء فقلت: يا أبا عبد اللّه لو توضأت لعلنا أن نسألك عن ايات قال: إني لست أمسه إنما لا يمسه إلا المطهرون فقرأ علينا ما شئنا «4».
ثانيا: علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنه يجوز القراءة على كل حال ما لم يكن جنبا:
فعدم المس لا يعني اطّراح القراءة، بل القراءة مطلوبة على كل حال ما لم يكن المرء جنبا، و ذلك ما علمه الصحابة رضي اللّه عنهم لمن بعدهم كما تعلموه من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم
__________________________________________________
(1) ابن كثير (4/ 123)، مرجع سابق.
(2) انظر: التمهيد (17/ 397)، مرجع سابق.
(3) البيهقي في الكبرى (1/ 88)، مرجع سابق.
(4) البيهقي في الكبرى (1/ 88)، مرجع سابق.(1/185)
فعن عبد اللّه بن سلمة قال: دخلت على علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنا و رجلان رجل من قومي و رجل أحسبه من بني أسد فبعثهما وجها و قال إنكما علجان فعالجا عن دينكما ثم دخل المخرج فقضى حاجته ثم خرج فأخذ حفنة من ماء فمسح بها ثم جعل يقرأ القران قال فكأنه رأى أنا أنكرنا ذلك فقال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقضي حاجته فيقرأ القران و يأكل معنا اللحم و لم يكن يحجبه و ربما قال يحجزه عن القران شي ء ليس الجنابة «1»، و بات ذلك قولا لعلي رضي اللّه عنه، إذ ورد عنه أنه قال: لا بأس أن تقرأ القران و أنت على غير وضوء فأما و أنت جنب فلا و لا حرفا «2».
و إنما أخذ الصحابة ذلك تعليما من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في عدة وقائع، منها ما جاء عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أخبره أنه بات ليلة عند ميمونة أم المؤمنين و هي خالته، قال فاضطجعت في عرض الوسادة و اضطجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أهله في طولها فنام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حتى إذا نتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده ثم قرأ العشر الايات الخواتم من سورة ال عمران ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه ثم قام فصلّى و ذكر باقي الحديث «3».
و أخذ ذلك ابن عباس رضي اللّه عنه و أفتى به فعن سعيد بن جبير قال: كان ابن عمر و ابن عباس يقولان: إنا لنقرأ الجزء من القران بعد الحدث «4».
__________________________________________________
(1) المنتقى (1/ 34)، ابن خزيمة (1/ 104)، الحاكم (1/ 253)، المختارة (2/ 215)، أبو داود (1/ 59)، البيهقي في سننه الكبرى (1/ 38).
(2) مصنف عبد الرزاق (1/ 336)، البيهقي في الكبرى (1/ 90)، مرجع سابق.
(3) البخاري (1/ 78)، مسلم (1/ 526)، ابن حبان (6/ 317)، مرجع سابق.
(4) البيهقي في الكبرى (1/ 38)، مرجع سابق.(1/186)
و هذا لبيان الجواز في قراءة غير الجنب دون مس للمصحف خشية الحجب الكثير عن القراءة تلاوة و حفظا و مراجعة، و إلا فالأكمل ألايذكر اللّه على غير طهارة لما رواه المهاجر بن قنفذ بن عمر بن جدعان أنه أتى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و هو يبول فسلم عليه فلم يرد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم حتى توضأ ثم اعتذر إليه فقال: «إني كرهت أن أذكر اللّه إلا على طهر» أو قال: «على طهارة» «1».
و أما قراءة الجنب و الحائض للقران:
فلأهل العلم في ذلك ثلاثة أقوال:
قيل يجوز لهذا و لهذا و هو مذهب أبي حنيفة، و المشهور من مذهب الشافعي و أحمد. و ذهب البعض إلى أن الحائض لا تمس المصحف و لا تقرأ القران «2»، و قال الأوزاعي سئل الزهري عن الجنب و النفساء و الحائض فقال: لم يرخص لهم أن يقرؤوا من القران شيئا «3».
و قيل لا يجوز للجنب و يجوز للحائض إما مطلقا أو إذا خافت النسيان و هو مذهب مالك و قول في مذهب أحمد و غيره، فقد غلب المحققون جانب قراءة القران فأجازوا للحائض القراءة تغليبا لهذا الأصل استحسانا لطول مقامها حائضا و هو مذهب مالك «4»، بل ذهب البعض إلى أنه إذا ظنت نسيانه وجبت «5»، فإن قراءة الحائض القران لم يثبت عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فيه شي ء غير: «لا تقرأ الحائض و لا
__________________________________________________
(1) ابن خزيمة (1/ 103)، ابن حبان (3/ 82)، الحاكم (1/ 272)، مرجع سابق.
(2) انظر: البيهقي في الكبرى (1/ 309)، الترمذي (1/ 236)، مرجع سابق.
(3) البيهقي (1/ 309)، مرجع سابق.
(4) انظر: بداية المجتهد (1/ 35)، مرجع سابق.
(5) انظر: المبدع في شرح المقنع (1/ 260)، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل (1/ 243 و 1/ 337).(1/187)
الجنب من القران شيئا» «1»، و هو حديث ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث، و معلوم أن النساء كن يحضن على عهد رسول اللّه و لم يكن ينههن عن قراءة القران كما لم يكن ينههن عن الذكر و الدعاء بل أمر الحيض أن يخرجن يوم العيد فيكبرن بتكبير المسلمين و أمر الحائض أن تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت تلبي و هي حائض و كذلك بمزدلفة و منى و غير ذلك من المشاعر، و أما الجنب فلم يأمره أن يشهد العيد و لا يصلي و لا أن يقضي شيئا من المناسك لأن الجنب يمكنه أن يتطهر فلا عذر له فيترك الطهارة بخلاف الحائض فإن حدثها قائم لا يمكنها مع ذلك التطهر لكن المقصود أن الشارع أمر الحائض أمر إيجاب أو استحباب بذكر اللّه و دعائه مع كراهة ذلك للجنب فعلم أن الحائض يرخص لها فيما لا يرخص للجنب فيه لأجل العذر، و إن كانت عدتها أغلظ، و ليست القراءة كالصلاة و كان النبي يضع رأسه في حجر عائشة رضي اللّه عنها و هي حائض، و في صحيح مسلم أيضًا يقول اللّه عز و جل للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «إني منزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما و يقظانا» فتجوز القراءة قائما و قاعدا و ماشيا و مضطجعا و راكبا «2».
ثالثا: لا يمكن الكافر من لمس المصحف:
و ذلك لئلا يتمكن من الاستهانة به، فقد علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ذلك فيما رواه عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «لا تسافروا بالقران فإني لا امن أن يناله العدو» «3».
__________________________________________________
(1) الترمذي (1/ 236)، البيهقي في الكبرى (1/ 309)، مصنف ابن أبي شيبة (1/ 98).
(2) انظر الكلام بطوله لابن تيمية (21/ 460)، مرجع سابق.
(3) مسلم (3/ 1490)، أحمد (2/ 76)، مرجعان سابقان، و لعل الخوف المذكور مخافة أن يناله العدو فيغير فيه في وقت نزوله مع قلة المصاحف... فيحدث ذلك بلبلة في المجتمع المسلم... فإن صحت هذه علة فقد تنتفي أحيانا...(1/188)
و أما ترجمة معاني القران و إهداؤها أو بيعها لمن يؤمل فيه الهداية فالظاهر الجواز مطلقا و لا يدخل في الخلاف، فيشرع مس الكتاب الذي فيه معاني القران ككتب التفسير و الفقه و نحوها مما يؤمل معه أن يسلم، أو يتعرف إلى الإسلام كما أرسل النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كتابه إلى هرقل.
و قد اشتد المسلمون في تنفيذ ذلك حتى منعوا منه أولي القوة من المشركين فقد قال عمر لأخته قبل أن يسلم: أعطوني الكتاب الذي هو عندكم فأقرأ- و كان عمر يقرأ الكتاب- فقالت أخته: إنك رجس، و إنه لا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل أو توضأ قال فقام عمر فتوضأ ثم أخذ الكتاب فقرأ طه و لهذا الحديث شواهد كثيرة و هو قول الفقهاء السبعة من أهل المدينة «1»، ولكن رخص مالك للصبيان في مس المصحف على غير طهر لأنهم غير مكلفين «2».
رابعا: استعمال السواك عند القراءة:
و الراوي لهذا إنما هو شيخ القراء أبو عبد الرحمن السلمي عن علي قال:
أمرنا بالسواك و قال إن العبد إذا قام يصلي أتاه الملك فقام خلفه يستمع القران و يدنو فلا يزال يستمع و يدنو حتى يضع فاه على فيه فلا يقرأ اية إلا كانت في جوف الملك «3» فيطيّب فاه إذ هو طريق القران كما جاء في حديث علي: «إن أفواهكم طرق للقران فطهروها بالسواك» «4»، بل ذكر بعض العلماء أن من فمه نجس يحتمل المنع من قراءة القران و أنه أولى «5».
__________________________________________________
(1) البيهقي في الكبرى (1/ 38)، مرجع سابق.
(2) انظر: بداية المجتهد (1/ 30)، مرجع سابق.
(3) البيهقي في الكبرى (1/ 38)، مرجع سابق.
(4) رواه أبو نعيم في الحلية (4/ 296)، مرجع سابق، و انظر تخريجه في تلخيص الحبير (1/ 70)، مرجع سابق.
(5) المبدع (1/ 186)، مرجع سابق.(1/189)
خامسا: و علمهم من تعظيمه أن يستقبل القبلة لقراءته:
و من النصوص التعليمية الواردة في استقبال القبلة ما رواه أبو هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إن لكل شي ء سيدا و إن سيد المجالس قبالة القبلة» «1»، و ذلك يشير إلى أن كل حركة و سكون من العبد على نظام العبودية بحسب نيته في يقظته و منامه و قعوده و قيامه و شرابه و طعامه تشرف حالته بذلك فيتحرى القبلة في مجلسه و يستشعر هيئتها، فلا يعبث فيسن المحافظة على استقبالها ما أمكن حتى للمدرس على الأصح، و إنما سن استدبار الخطيب للقبلة لأن المنبر يسن كونه بصدر المجلس فلو استقبل خرج عن مقاصد الخطاب، لأنه يخاطب حينئذ من هو خلف ظهره و قد يفعل كما كان يصنع شيخ الإسلام الشرف المناوي يجلس لإلقاء الدرس مستدبرها، و القوم أمامه قياسا على الخطبة و يعلله بما ذكر من أن ترك استقبال واحد أسهل من تركه لخلق كثير «2».
سادسا: تعليمهم الحالة التي يكون عليها قارئ القران أثناء القراءة:
1- أن يتمضمض كلما تنخع روى شعبة بن أبي حمزة عن ابن عباس رضي اللّه عنه: أنه كان يكون بين يديه تور إذا تنخع مضمض ثم أخذ في الذكر و كان كلما تنخع مضمض «3». و هذا ليس على إطلاقه كما في تحليل أدلة ذلك كله، فإن من مقاصد الشرع أن يجعل الذكر حياة المؤمن فيذكر اللّه قائما و قاعدا و على جنب، لا يحجبه عن الذكر شي ء ما لم يكن الجنابة، و فيه إبقاء لنوع التميز للذكر و قراءة القران.
__________________________________________________
(1) رواه الطبراني في الأوسط (3/ 25)، مرجع سابق، و قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 59)، مرجع سابق،: «و إسناده حسن».
(2) انظر: فيض القدير (2/ 512)، مرجع سابق.
(3) القرطبي (1/ 27)، مرجع سابق.(1/190)
2- الخشوع عند قراءة القران: فعن أبي وائل قال: جاء رجل يقال له نهيك بن سنان إلى عبد اللّه فقال: يا أبا عبد الرّحمن كيف تقرأ هذا الحرف ألفا تجده أم ياء من ماء غير اسن أو من ماء غير ياسن قال فقال عبد اللّه: و كلّ القران قد أحصيت غير هذا قال إنّي لأقرأ المفصّل في ركعة فقال عبد اللّه هذا كهذّ الشّعر إنّ أقواما يقرؤن القران لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع «1».
3- إذا تثاءب أن يمسك عن القراءة: لأنه إذا قرأ فهو مخاطب ربه و مناج و التثاؤب من الشيطان، و عن مجاهد قال: إذا تثاءبت و أنت تقرا فامسك عن القراءة حتى يذهب عنك «2»، يريد أن في ذلك الفعل إجلالا للقران «3».
4- إذا أخذ في القراءة لم يقطعها ساعة فساعة بكلام الادميين من غير ضرورة.
5- أن يقرأه بالترتيل.
6- أن يستعمل فيه ذهنه و فهمه حتى يعقل ما يخاطب به، كما في قوله جل جلاله:
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ (ص: 29) كما قال الغزالي: «و لا يعرفه إلا من طال في تدبر كلماته فكره و صفا له فهمه حتى تشهد له كل كلمة منه بأنه كلام جبار قهار و أنه خارج عن حد استطاعة البشر» «4».
7- أن يقف على اية الوعد فيرغب إلى اللّه تعالى و يسأله من فضله و أن يقف على اية الوعيد فيستجير باللّه منه: كما تقدم في الفاعلية الحركية.
__________________________________________________
(1) مسلم (1/ 563)، المسند المستخرج على صحيح مسلم (2/ 415)، ابن أبي شيبة (2/ 256)، مراجع سابقة.
(2) سعيد بن منصور في سننه (2/ 342)، مرجع سابق، و قال المعلق: «سنده صحيح».
(3) القرطبي (1/ 27)، مرجع سابق.
(4) فيض القدير (1/ 558)، مرجع سابق.(1/191)
8- يمنع رفع الصوت و اللغط عند قراءة القران: فعن أبي عبد الرحمن قال:
القران وحشى و لا يصلح مع اللغط «1»، و المراد يحتاج ليكون واحده في السماع و القلب دون أن يزاحمه غيره، و عن قيس بن عبادة قال كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يكرهون رفع الصوت عند الذكر «2» أي من غير الذاكرين أو منهم على وجه مناف للخشوع.
فأما منهج الحلقات، و هيئة القراءة كما علمها الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أصحابه رضي اللّه عنهم فقد بسط لها الفصل الثالث كاملا.
__________________________________________________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (6/ 143)، مرجع سابق.
(2) مصنف ابن أبي شيبة (6/ 143)، مرجع سابق.(1/192)
الفصل الثالث: جماع منهجية النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في تحفيظ الألفاظ و ترتيلها:
هذا الفصل معقود لبيان كيفية تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم اللفظ القراني في اتجاهين:
تقسيم معالم التدريس في الحقل القراني إلى معالم أساسية سواء كانت في الوقت الرسمي للحلقات القرانية أو في غيره.
و بيان كيفية تلقينه صلّى اللّه عليه و سلّم لهم اللفظ القراني، و ذلك اقتضى بيان التأصيل الشرعي للتجويد، و الملحقات به...
و لتحقيق البيان الكامل حول هذين الاتجاهين انقسم هذا الفصل إلى ستة مباحث هي:
المبحث الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم أساسات الدرس القراني (منهج الحلقات القرانية).
المبحث الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم ماهية التجويد و حكمه.
المبحث الثالث: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم أهمية التجويد و ضوابطه الشرعية.
المبحث الرابع: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم ترتيل ألفاظ القران الكريم.
المبحث الخامس: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم مراتب الأداء الأعلى من التجويد.
المبحث السادس: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم الملحقات بأحكام التجويد.(1/193)
المبحث الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم أساسات الدرس القراني «منهج الحلقات القرانية»:
و يتحدث هذا المبحث عن أساسات التعليم القراني عند النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و يبين أنها الأساسات ذاتها التي يسير عليها معلمو القران الكريم في عصرنا سواء كان ذلك في وقت الحلقات القرانية أو بعدها مما تستلزمه الدراسة... و لبيان ذلك انقسم المبحث إلى أربعة مطالب، تمثل أساسات الدرس القراني:
المطلب الأول: القراءة نظرا من المصحف.
المطلب الثاني: القراءة عن ظهر قلب.
المطلب الثالث: التعاهد (المراجعة).
المطلب الرابع: تعليمهم مقدار الورد (الحزب) اليومي.
المطلب الأول: القراءة نظرا من المصحف:
كان صلّى اللّه عليه و سلّم يعلمهم القراءة من المصحف نظرا بالإضافة إلى استظهاره عن ظهر قلب فهو يقول لأصحابه: «من سره أن يحب اللّه و رسوله؛ فليقرأ في المصحف» «1»، و لعله صلّى اللّه عليه و سلّم كان يملي عليهم القران ليكتبوه عند موضع يقال له موضع المصحف فعن سلمة بن الأكوع أنه رضي اللّه عنه كان يتحرى موضع مكان المصحف فكان يتحرى الصلاة عند الاسطوانة التي عند المصحف. «2».، و وقع عند مسلم بلفظ: (يصلي وراء الصندوق)، و كأنه كان للمصحف صندوق يوضع
__________________________________________________
(1) حلية الأولياء و طبقات الأصفياء (7/ 209)، 1405 ه.
(2) البخاري (1/ 189)، مسلم (1/ 364)، مرجعان سابقان.(1/194)
فيه «1»، و قيل في مسجده صلّى اللّه عليه و سلّم موضع خاص للمصحف كان ثمة من عهد عثمان «2».
و الحث على القراءة نظرا من المصحف ليتحقق أمران منهجيان أساسان في نقل اللفظ القراني:
1- وجود القران مكتوبا على أوسع نطاق في الأمة، فلكل أسرة على الأقل مصحف مما يجعل مسألة التشكيك فيه ضربا من الهذيان، و هذا من مقتضيات تسمية القران بالكتاب.
2- تعضيد القراءة بالكتابة، و تثبيت الكتابة بالقراءة... و لذا كان أشهر اسمين للقران هما (القران و الكتاب)، و من الفوائد غير ذلك:
أن يثبت في ذهن المؤمنين و غيرهم أن الكتاب الذي يستحق وصف الكتاب بإطلاق هو القران، كما قال اللّه عزّ و جلّ: ذلِكَ الْكِتابُ (البقرة: 2).
فيه مواساة لمن لا يحفظ لبقاء اتصاله بالقران و لو لم يكن من حملة القران بالمعنى الخاص.
نشر الكتابة في الأمة على أوسع نطاق بربطه بما ينبغي نشره على أوسع نطاق و هو المصحف، مما يجعلها تأخذ بنواصي التقدم العلمي دائما.
التدبر: فإن النظر في المصحف يعين على ذلك: قال صلّى اللّه عليه و سلّم: «أعطوا أعينكم حظها من العبادة قيل: يا رسول اللّه ما حظها من العبادة؟ قال: النظر في المصحف و التفكر فيه و الاعتبار عند عجائبه» «3».
__________________________________________________
(1) فتح الباري (1/ 577)، مرجع سابق.
(2) شرح سنن ابن ماجه ص 103.
(3) العظمة (5/ 225).(1/195)
و أمرهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بتملك المصاحف: كما في قوله صلّى اللّه عليه و سلّم: «تعلّموا كتاب اللّه تعالى و تعاهدوه و اقتنوه و تغنّوا به فوالّذي نفسي بيده لهو أشدّ تفلّتا من المخاض في العقل» «1»؛ إذ إن قوله «اقتنوه» يفيد التملك أو اللزوم... و كلاهما يدل على مصاحبة المصحف للمرء.
و قد اهتم الصحابة بتملك المصاحف، و صار المصحف قطعة من فؤادهم:
حتى جعلوه مقياسا للجمال عندهم لكثرة نظرهم فيه فعن أنس بن مالك الأنصاري رضي اللّه عنه أن أبا بكر رضي اللّه عنه كان يصلي لهم في وجع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الاثنين و هم صفوف في الصلاة، فكشف النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ستر الحجرة ينظر إلينا و هو قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم يضحك فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.. «2».، فقوله (كأن وجهه ورقة مصحف) عبارة عن الجمال البارع، و حسن البشرة و صفاء الوجه و استنارته «3».
و كان الصحابة رضي اللّه عنهم يتابعون النظر في المصحف و لو كانوا حفظة فعن الحسن البصري قال: دخلوا على عثمان و المصحف في حجره «4»، و عثمان رضي اللّه عنه هو القائل رضي اللّه عنه: (لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، و إني لأكره أن يأتي علي يوم لا أنظر في المصحف) «5»، و ما مات رضي اللّه عنه حتى خرق مصحفه من كثرة ما كان يديم النظر فيه «6»، و عن عكرمة قال: دخلت على ابن عباس رضي اللّه عنه وهو
__________________________________________________
(1) ابن حبان (1/ 325)، أحمد (4/ 153)، و قال في مجمع الزوائد (7/ 169)، مراجع سابقة: «و رجال أحمد رجال الصحيح».
(2) البخاري (1/ 240)، مرجع سابق.
(3) شرح النووي (4/ 142)، مرجع سابق.
(4) ابن أبي شيبة (2/ 241)، مرجع سابق.
(5) انظر: شعب الإيمان (2/ 409)، مرجع سابق.
(6) انظر: شعب الإيمان (2/ 409)، مرجع سابق.(1/196)
يقرأ في المصحف قبل أن يذهب بصره و هو يبكي.. «1».، و كان الصحابة رضي اللّه عنهم يحثون الناس على القراءة من المصحف فقد أتى قوم واثلة بن الأسقع فقالوا:
حدثنا حديثا سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ليس فيه زيادة و لا نقصان، فغضب و قال: «إن مصحف أحدكم معلق في بيته و هو يزيد و ينقص...» «2» أي لا يتقن حفظ القران و يسأل عن حديث النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و عن ثابت قال: كان عبد الرحمن بن أبي ليلى إذا صلّى الصبح قرأ المصحف حتى تطلع الشمس قال و كان ثابت يفعله «3»، و عن عبد اللّه بن عمرو قال: انتهيت إليه و هو ينظر في المصحف قال قلت أي شي ء تقرأ في المصحف قال: حزبي الذي أقوم به الليلة «4» و عن يونس قال: كان خلق الأولين النظر في المصاحف قال: و كان الأحنف بن قيس إذا خلا نظر في المصحف «5».
المطلب الثاني: القراءة عن ظهر قلب:
علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أهمية الحفظ (عن ظهر قلب)... و ورد هذا التعبير في الدلالة على استظهار القران في قول النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لرجل قال: معي سورة كذا و سورة كذا و سورة كذا عدها قال: «أتقرؤهن عن ظهر قلبك» قال: نعم! «6»، و بوب البخاري لذلك: «باب القراءة عن ظهر قلب» «7».
__________________________________________________
(1) الحاكم (2/ 352)، مرجع سابق.
(2) الحاكم (2/ 230)، مرجع سابق.
(3) سنن الدارمي (2/ 532)، مرجع سابق.
(4) ابن أبي شيبة (2/ 124)، مرجع سابق.
(5) ابن أبي شيبة (2/ 124)، مرجع سابق.
(6) البخاري (4/ 1920).
(7) و انظر بحثا تحليليا وافيا عن (الحفظ) في كتاب الباحث: تلقي النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ألفاظ القران الكريم ص 232، مرجع سابق.(1/197)
المفاضلة بين القراءة نظرا و بين القراءة عن ظهر قلب:
دل سؤال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم له بقوله: أتقرأهن عن ظهر قلبك؟ على فضل القراءة عن ظهر قلب لأنها أمكن في التوصل إلى التعليم، «و الذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال و الاشخاص» «1» لمن كان قد حفظ عن ظهر قلب... أما التفضيل بين حافظ و غير حافظ فظاهر، و قد قال أبو أمامة في تفضيل الحفظ عن ظهر قلب: «اقرأوا القران و لا تغرنكم هذه المصاحف المعلقة فإن اللّه لا يعذب قلبا وعى القران» «2»، و يناسب هذا الحديث الموقوف حديث عقبة ابن عامر المرفوع...
قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «لو جعل القران في إهاب ثم ألقي في النار ما احترق» «3»، و كان مصطلح القراء أو قرأة القران يرد في الحافظ له عن ظهر قلب، و مثله مصطلح حملة القران، و أهل القران، و صاحب القران.
القراءة (السماع) نظرا هي المطلوبة حال عرض التلاميذ:
لا شك أن القراءة نظرا أكثر تثبيتا، و أدعى للطمأنينة على المحفوظ و أسلم من الغلط، و هي المطلوبة للمقرئ حال عرض الاخرين عليه كما في حديث قيس ابن مروان قال: جاء رجل إلى عمر و هو بعرفة فقال: يا أمير المؤمنين جئت من الكوفة و تركت بها رجلا يملي المصاحف عن ظهر قلب قال: فغضب عمر و انتفخ حتى كاد يملأ ما بين شعبتي الرحل. فقال: ويحك! من هو؟ فقال: عبد اللّه بن مسعود فما زال عمر يطفئ و يسري عنه الغضب حتى عاد إلى حاله التي كان عليها.
__________________________________________________
(1) فتح الباري (9/ 80)، مرجع سابق.
(2) أخرجه ابن أبي داود بإسناد صحيح كما في فتح الباري (9/ 80)، مرجع سابق.
(3) الدارمي (2/ 522)، أبو يعلى (3/ 284)، الطبراني في الكبير (6/ 172)، مراجع سابقة، و انظر: مجمع الزوائد (7/ 158)، مرجع سابق.(1/198)
فقال: ويحك و اللّه ما أعلمه بقي أحد من الناس هو أحق بذلك منه... و ذكر الحديث «1»، ولكن الحديث دال أيضًا عن منزلة القراءة عن ظهر قلب، و مكانتها و أفضليتها، و لذا لا يقدر على القيام بها حق القيام إلا الخاصة، فتفضيل القراءة نظرا على القراءة عن ظهر قلب إنما هو لمن حفظ ابتداء، و لذا لم يخل أحد من الحفاظ من مصحف يقرأ فيه القران نظرا فقد كان لأبي موسى رضي اللّه عنه مصحف و كان يسميه لباب الفؤاد، و كان لعائشة رحمة اللّه عليها مصحف و كانت تسميه المجيد «2»، و كان لعلي مصحف، و كذلك لأبي و ابن مسعود و ابن عمر «3»....
تعاضد القراءة عن ظهر قلب و القراءة من المصحف على حفظ القران الكريم:
على أن الأمرين مطلوبان فقد كانت وسيلتا الحفظ للكتاب الكريم هما الحفظ في الصدور و الحفظ في السطور، و لذا لن يرفع القران حتى يرفع من هذين الأمرين فعن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال: «لينتزعن هذا القران من بين أظهركم» قلت: يا أبا عبد الرحمن! كيف ينتزع و قد أثبتناه في مصاحفنا؟ قال: يسري عليه في ليلة فلا يبقى في قلب عبد و لا مصحف منه شي ء و يصبح الناس فقراء كالبهائم ثم قرأ عبد
__________________________________________________
(1) رواه النسائي في السنن الكبرى (5/ 71).
(2) (ابن أبي عاصم) أحمد بن عمرو بن أبي عاصم الشيباني أبو بكر ت 287 ه: الزهد ص 387، تحقيق: عبد العلي عبد الحميد حامد، دار الريان للتراث، القاهرة، 1408 ه، ط 2.
(
3) و المصاحف مصاحف! يعرف كل من يسمع هذه اللفظة (مصاحف) أنها نسخ لكتاب واحد، حتى لو اختلف فيها ترتيب السور... فكيف استحالت إلى قرائين مختلفة؟ كما يقرر ذلك صاحب كتاب (حقيقة مصحف فاطمة)؟ و كيف استحالت جريمة اختلاق مصحف مختلف عن القران الكريم لفاطمة الزهراء منقبة عظيمة، و وجود نسخ من القران عند الصحابة مثلبة؟ إلا بعسف القول، و سوء النتيجة المبيتة مسبقا... انظر للاطلاع على كلام المذكور: أكرم بركات العاملي: حقيقة مصحف فاطمة عند الشيعة، دار الصفوى، بيروت، ط 1، 1418 ه/ 1997 م-.(1/199)
اللّه وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا (الإسراء: 86) «1».
من حكم نسيان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عند القراءة:
كان صلّى اللّه عليه و سلّم ينسّى بعد التبليغ ليطمأنّ إلى حفظ الصحابة رضي اللّه عنهم، و استظهارهم لما بلغهم به من القران، و يشجعهم على الفتح عليه فعن المسور بن يزيد المالكي قال: شهدت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقرأ في الصلاة فترك شيئا لم يقرأه فقال له رجل: يا رسول اللّه؟ تركت اية كذا و كذا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «هلا أذكر تنيها» «2»، و عن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم صلّى صلاة فقرأ فيها فلبس عليه فلما انصرف قال لأبي: «أصليت معنا؟» قال: نعم! قال: فما منعك؟ «3» و أما ما روي عن علي رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «يا علي لا تفتح على الإمام في الصلاة» «4» فضعيف.
الحث على استظهار أقل فرض الكفاية:
و كان صلّى اللّه عليه و سلّم يحثهم على حفظ أقل قدر عن ظهر قلب، و يرمز إلى من تقاصر عند ذلك بالذم ما دام مستطيعا فعن ابن عباس رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه:
صلّى اللّه عليه و سلّم: «إن الذي ليس في جوفه شي ء من القران كالبيت الخرب» «5».
__________________________________________________
(1) الطبراني في الكبير (9/ 141)، مرجع سابق.
(2) أبو داود (1/ 238)، مرجع سابق.
(3) أبو داود (1/ 238)، مرجع سابق.
(4) أبو داود (1/ 239)، مرجع سابق، و فيه: «قال أبو داود أبو إسحاق لم يسمع من الحرث إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها».
(5) الترمذي (5/ 177)، مرجع سابق، و قال: «هذا حديث حسن صحيح».(1/200)
و كان الصحابة رضي اللّه عنهم يتفاضلون في مقدار أخذهم للقران، و حفظهم له غيبا فعن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال: كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول أيهم أكثر أخذا للقران فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد و قال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة»، و أمر بدفنهم في دمائهم و لم يغسلوا و لم يصل عليهم «1»، و في رواية: «فكان يقول: انظروا أكثر هؤلاء جمعا للقران فاجعلوه أمام أصحابه».
القراءة عن ظهر قلب من خصائص الأمة، تتميز بها عن أهل الكتاب:
و لذا طرح أهل العلم مسألة مهمة في هذا الباب، و هي: هل تجوز القراءة من المصحف حال الصلاة؟ و الجواب جاءت الكراهة عن البعض كإبراهيم النخعي، و مجاهد، و حماد الشعبي لا لذاته بل كراهة أن يتشبهوا بأهل الكتاب «2».
و عن قتادة عن الحسن أنه كرهه و قال: هكذا تفعل النصارى «3»، و الصحيح جوازها و لذا بوب البخاري: «باب إمامة العبد و المولى و كانت عائشة يؤمها عبد ها ذكوان من المصحف» «4»، و عن القاسم قال: كان يؤم عائشة عبد يقرأ في المصحف «5»، و ذكر أبو بكر بن أبي مليكة أن عائشة أعتقت غلاما لها عن دبر فكان يؤمها في رمضان في المصحف، و الترخيص فيه جاء عن الحكم و الحسن و محمد و عطاء، و عن الحسن قال لا بأس أن يؤم في المصحف إذا لم يجد يعني من يقرأ ظاهرا، و عن ثابت البناني قال: كان أنس يصلي و غلامه يمسك المصحف
__________________________________________________
(1) البخاري (1/ 450)، مرجع سابق.
(2) انظر القائلين بذلك في ابن أبي شيبة (2/ 124، 123)، مرجع سابق.
(3) ابن أبي شيبة (2/ 124)، مرجع سابق.
(4) صحيح البخاري (1/ 245)، مرجع سابق.
(5) ابن أبي شيبة (2/ 123)، مرجع سابق.(1/201)
خلفه فإذا تعايا في اية فتح عليه «1»، و إنما ذكرنا هذه المسألة لتستبين منزلة القراءة عن ظهر قلب.
المطلب الثالث: التعاهد (المراجعة):
و كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يعلمهم ضرورة مراجعة المحفوظ من القران الكريم، و تعاهده و يشتد في ذلك حتى يضرب لهم الأمثال، و يحددلهم الوقت النموذجي المناسب للمراجعة الحقيقية للفظ القران الكريم، و يتجلى ذلك فيما يلي:
أولا: أمرهم بتعاهده و مراجعته مطلقا ليلا أو نهارا:
1- فعن عقبة بن عامر رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «تعلّموا كتاب اللّه تعالى و تعاهدوه و اقتنوه و تغنّوا به فو الّذي نفسي بيده لهو أشدّ تفلّتا من المخاض في العقل» «2»... و قد أشار النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إلى المراجعة في الحديث بقوله (تعاهدوه) بعد قوله (تعلموا)؛ إذ لو لا ذلك لرجح أن يكون معناها مجرد النظر فيه، و عدم الانقطاع عنه «فيقول لهم (تعاهدوا القران) أي داوموا على تكراره و درسه لئلا تنسوه، فتعاهد الشي ء محافظته، و تجديد العهد به و المراد منه الأمر بالمواظبة على تلاوته و المداومة على تكراره و درسه» «3»، ثم أكد أن المراد هو مراجعته بعد حفظه فقال: «فو الذي نفسي بيده» أي بقدرته و تصرفه «لهو أشد تفصيا» أي أسرع تفصيا و تخلصا و ذهابا و انقلابا و خروجا من قلوب الرجال يعني حفظته «من الإبل من عقلها» جمع عقال أي لهو أشد ذهابا من الإبل إذا تخلصت
__________________________________________________
(1) ابن أبي شيبة (2/ 123)، مرجع سابق.
(2) ابن حبان (1/ 325)، أحمد (4/ 153)، أبو عوانة (1/ 515)، الدارمي (2/ 531)، النسائي في الكبرى (5/ 18).
(3) فيض القدير (3/ 249)، مرجع سابق.(1/202)
من العقال فإنها تفلت حتى لا تكاد تلحق... شبه القران و كونه محفوظا على ظهر قلب بالإبل الابدة النافرة و قد عقل عقلها و شد بذراعيها بالحبل المتين، و ذلك أن القران ليس من كلام البشر بل من كلام خالق القوى و القدر، و ليس بينه و بين البشر مناسبة قريبة، و اللّه سبحانه بلطفه العميم منحهم هذه النعم العظيمة و يسرها لهم فينبغي تعاهده بالحفظ «1».
و كان عقبة بن عامر يأمر بمقتضى هذا الحديث حفظة كتاب اللّه من المسلمين، و سائر المسلمين كأنه من أمره و من نتاج تجربته لأهميته فكان يقول هذا الحديث موقوفا «2»... و ذلك كما أنه أحيانا كان يرفعه.
و قد انتشر هذا الحديث فأضحى معلما من معالم حفظ القران البدهية حيث جاء هذا الحديث عن غير عقبة بن عامر- خاصة عن أئمة الإقراء- فعن أنس بن مالك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «تعاهدوا القران فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من صدور الرجال من الإبل المعقلة إلى أعطانها» «3» و مثله عن أبي موسى «4»، و عن شقيق قال: قال عبد اللّه بن مسعود: تعاهدوا هذه المصاحف و ربّما قال القران فلهو أشدّ تفصّيا من صدور الرّجال من النّعم من عقله قال و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «لا يقل أحدكم نسيت اية كيت و كيت بل هو نسّي» «5»، و في رواية: «تعاهدوا القران فإنه وحشي» «6»، و قد رفعه و وقفه كعقبة بن عامر.
__________________________________________________
(1) فيض القدير (3/ 249)، مرجع سابق.
(2) فيض القدير (3/ 249)، مرجع سابق.
(3) المختارة (5/ 251).
(4) البخاري (4/ 1921).
(5) أحمد (1/ 423)، سعيد بن منصور (1/ 76).
(6) الحاكم (1/ 739)، عبد الرزاق (3/ 359)، مرجعان سابقان.(1/203)
ثانيا: ضرب لهم الأمثال المحسوسة لتدلهم على ضرورة المراجعة:
فعن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إنما مثل صاحب القران كمثل الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها و إن أطلقها ذهبت» «1».
فذكر النبي صلّى اللّه عليه و سلّم مراجعة القران و قرنها بلفظ المصاحبة بين القران و بين حامله «ليبين ضرورة وجود ألفة دائمة بينهما، ينتفي فيها الهجران، لأن الصاحب هو الذي ألفه كما تقدم في تحرير المصطلح»، و قوله: «المعقلة بضم الميم و فتح العين المهملة و تشديد القاف أي المشدودة بالعقال و هو الحبل الذي يشد في ركبة البعير» «2»، فشبه درس القران و استمرار تلاوته، و ديمومة مراجعته بربط البعير الذي يخشى منه الشراد فما زال التعاهد موجودا فالحفظ موجود كما أن البعير ما دام مشدودا بالعقال فهو محفوظ، و خص الإبل بالذكر لأنها أشد الحيوان الإنسي نفورا و في تحصيلها بعد استمكان نفورها صعوبة قوله أن عاهد عليها أمسكها أي استمر إمساكه لها و في رواية أيوب عن نافع عند مسلم: «فإن عقلها حفظها و أن أطلقها ذهبت» أي انفلتت «3».
ثالثا: منعهم من الألفاظ التي تكون نفسية متساهلة مع عدم مراجعة القران:
فكره لهم قول نسيت اية كذا و علمهم جواز قول أنسيتها، و أسقطتها فعن عبد اللّه قال: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: «بئس ما لأحدهم أن يقول نسيت اية كيت و كيت بل نسّي و استذكروا القران فإنّه أشدّ تفصّيا من صدور الرّجال من النّعم» «4»،
__________________________________________________
(1) البخاري (4/ 1920)، مسلم (1/ 543)، مرجعان سابقان.
(2) فتح الباري شرح صحيح البخاري (9/ 80)، مرجع سابق.
(3) فتح الباري شرح صحيح البخاري (9/ 80)، مرجع سابق.
(4) مسلم 1/ 544، النسائي في الكبرى (1/ 327)، أحمد (1/ 417)، مراجع سابقة.(1/204)
و عن عائشة أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم سمع رجلا يقرأ من الليل فقال: «يرحمه اللّه لقد أذكرني كذا و كذا اية كنت أسقطتها» و لفظ البخاري «أنسيتها من سورة كذا و كذا» «1»، ففي هذه التعاليم المتقدمة «كراهة قول نسيت اية كذا و هي كراهة تنزيه، و أنه لا يكره قول أنسيتها، و إنما نهي عن نسيتها لأنه يتضمن التساهل فيها و التغافل عنها، و قد قال سبحانه و تعالى: أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها (طه: 126)، و اللغة ليست أداة للتعبير بل هي وعاء للتفكير أيضًا «2»، و قال القاضي عياض: «أولى ما يتأول عليه الحديث أن معناه ذم الحال لا ذم القول أي نسيت الحالة حالة من حفظ القران فغافل عنه حتى نسيه» «3».
رابعا: رهبهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من نسيانه «4»:
فعن عبادة بن الصامت رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «ما من أمير عشرة إلا جي ء به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه حتى يطلقه الحق أو يوثقه و من تعلم القران ثم نسيه لقي اللّه تعالى و هو أجذم» «5».
خامسا: جعل الشرع قلة تعاهده و مراجعته جفاء، و هجرا:
فالهجر كما قال جل جلاله: وَ قالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (الفرقان: 30)، و علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أن ذلك منهي عنه في قوله: «اقرؤوا القران، و لا تأكلوا به، و لا تستكثروا به، و لا تجفوا عنه...»، و المراد تعاهدوه
__________________________________________________
(1) البخاري (4/ 1929)، مسلم (1/ 543) و اللفظ له، مرجعان سابقان.
(2) انظر: نحو تقويم جديد للكتابة العربية (المقدمة)، كتاب الأمة رقم 69.
(3) نقل هذا القول عنه النووي في شرح مسلم (6/ 76)، و المباركفوري في تحفة الأحوذي (8/ 76)، مرجعان سابقان.
(
4) أشار الؤلف لهذا البند إشارة؛ اكتفاء بما ذكره في إثبات قبول هذه الأحاديث، و مدلولها في كتاب تلقي النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ص 245، مرجع سابق، و خشية من التكرار.
(5) مجمع الزوائد (7/ 166)، مرجع سابق، و قال: «رواه عبد اللّه بن أحمد و رجاله ثقات و في بعضهم خلاف».(1/205)
و لا تبعدوا عن تلاوته بأن تتركوا قراءته و تشتغلوا بتفسيره و تأويله، و لذا قيل:
«اشتغل بالعلم بحيث لا يمنعك عن العمل، و اشتغل بالعمل بحيث لا يمنعك عن العلم و حاصله: أن كلا من طرفي الإفراط و التفريط مذموم، و المحمود هو الوسط العدل المطابق لحاله» «1».
سادسا: علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كيفية مراجعته:
بأن يقرأه بالليل و النهار فقال: «إذا قام صاحب القران فقرأه بالليل و النهار ذكره، و إن لم يقم به نسيه» «2»، و قال صلّى اللّه عليه و سلّم: «مثل القران إذا عاهد عليه صاحبه فقرأه باللّيل و النّهار كمثل رجل له إبل فإن عقلها حفظها و إن أطلق عقلها ذهبت فكذلك صاحب القران» «3»، و بيان هذه الكيفية: أن يراجع حزبه بالنهار، و يقوم به في صلاة الليل كما طبق ذلك الصحابة رضي اللّه عنهم، فعن خيثمة قال:
انتهيت إليه- أي عبد اللّه بن عمرو- و هو يقرأ في المصحف فقال: هذا حزبي الذي أريد أن أقوم به الليلة «4».
سابعا: الوقت النموذجي للمراجعة:
حدد صلّى اللّه عليه و سلّم لهم الوقت النموذجي للمراجعة و هو الليل، و أفضل ذاك أن يقوم الإنسان الليل بما حفظه، أو بما قرأه نظرا في نهاره كما في قوله تعالى:
__________________________________________________
(1) عون المعبود (13/ 32)، مرجع سابق.
(
2) رواه مسلم (1/ 536)، و للضرورة أنقل ما ذكر في كتاب التلقي في هذا الموضع: «و قوله (لم يقم به) تحتمل معنى قيام الليل، و تحتمل معنى العمل به»، و قد قال المباركفوري في معنى قول الصحابي يخاطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: (ألاأقوم بها): كما في تحفة الأحوذي (8/ 150)، مرجع سابق: «أي في صلاة الليل».
(3) البخاري (4/ 1920)، مسلم (1/ 543)، ابن حبان (3/ 42)، مراجع سابقة.
(4) ابن أبي شيبة (2/ 240)، مرجع سابق.(1/206)
إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا (المزمل: 6- 7)... فتحديد هذا الوقت هو تسلسل لمنهجية الإقراء فقد أمره اللّه سبحانه و تعالى بهذا الوقت للمراجعة و رغبه فيه، ثم أمر هو أصحابه به، و رغبهم فيه فعن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «تعلّموا القران و اقرؤه و ارقدوا فإنّ مثل القران و من تعلّمه فقام به كمثل جراب محشوّ مسكا يفوح ريحه كلّ مكان و مثل من تعلّمه فرقد و هو في جوفه كمثل جراب أو كي على مسك» «1».
و قد أشار النبي صلّى اللّه عليه و سلّم للمراجعة و التعاهد في هذا الحديث بقوله: «و اقرؤه» بعد قوله «تعلموا القران» فلا يكون معنى الأمر بالقراءة بعد الأمر بالتعلم إلا معنى المراجعة.
و هذه المراجعة من اللوازم في حياة المسلم بحيث لا ينبغي لحافظ القران قبل إن يراجع القران أن ينام، فقوله «فقام به» أي تشمر لأداء حقه قراءة و عملا، ثم شبه المراجع للقران في وقته النموذجي، و هو قيام الليل بما يرفعه و ينفعه، و هو قوله «كمثل جراب محشوّ مسكا يفوح ريحه كلّ مكان» لكأن حافظ القران المراجع له في قيام الليل وعاء مملوء بالمسك الفواح...
و في ذلك إيماء إلى أن بركات القران و بصائره و نوره لا تنال إلا بذلك... و إلا فلم التعنّي؟ و أما من رقد أي غفل و نام «كمثل جراب أوكي على مسك»، و المعنى أنه ملأه مسكا و ربط فمه على المسك أي لأجله...
و هذا مثال على البله و سفه العقل، فإنما يراد المسك لتشم الرائحة الطيبة من صاحبه، و هذا منعها أن تفوح.
__________________________________________________
(1) ابن ماجة 1/ 73، مرجع سابق.(1/207)
و بذا تحدد أن الوقت النموذجي للمراجعة هو ناشئة الليل:
و ناشئة الليل هي «أوقاته و ساعاته لأن أوقاته تنشأ أولا فأولا» «1»، فالوقت النموذجي للمراجعة من الحفظ هو الليل، و أحسن ذلك أن يكون في قيام الليل، و يمكن أن يكون من أول الليل أي يبدأ بما بعد المغرب فقد كان علي بن الحسين يصلي بين المغرب و العشاء و يقول: «هذا ناشئة الليل» «2»، و إن كان أول الليل يفضل لمن لا يوقن من نفسه القيام في اخره، كما قال ابن عباس: «كانت صلاتهم أول الليل، و ذلك أن الإنسان إذا نام لا يدري متى يستيقظ» «3». و لذا كان من دلائل هذه الاية أن اللّه جل جلاله بين فيها «فضل صلاة الليل على صلاة النهار، و أن الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن أعظم للأجر و أجلب للثواب» «4».
حكمة اختيار هذا الوقت:
ظهرت في الاية حكمة اختيار هذا الوقت ليكون أنسب لمراجعة القران الكريم، و هي:
1- أنه أشد وطأ: أي أن العمل فيه يكون أثقل على النفس «من قولك اشتدت على القوم وطأة سلطانهم» أي ثقل عليهم ما حملهم من المؤن، و إذا ثقل العمل في هذا الوقت، فإنه يكون وقتا نموذجيا لمجاهدة النفس و معاركتها، فإذا دربت سهل قيادها، و لذا فلا ينافي هذا ما قاله عكرمة: «عبادة الليل أتم نشاطا، و أتم إخلاصا، و أكثر بركة»، لأن عكرمة رحمه اللّه أراد باعتبار المال، و هذا على قراءة وطأ «5».
__________________________________________________
(
1) تفسير القرطبي (19/ 39)، مرجع سابق.
(2) تفسير القرطبي (19/ 40)، مرجع سابق، و انظر: مختار الصحاح ص 274، مرجع سابق.
(3) تفسير القرطبي (19/ 40)، مرجع سابق.
(4) تفسير القرطبي (19/ 40)، مرجع سابق.
(5) فيها قراءتان متناقلتان: وطاء لابن عامر و أبي عمرو، وطا لبقية السبعة... انظر: الشاطبية ص 144، مرجع سابق عند قول الناظم: و وطأ وطاء فاكسروه كما حكوا... من سورة المزمل.(1/208)
2- أنه أشد موافقة بين القلب و السمع و اللسان: لانقطاع الأصوات و الحركات، و هذا على قراءة من مد فهو مصدر و اطأت وطاء، فيواطى ء السمع القلب في الليل، و منه قول اللّه جل جلاله: لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ (التوبة: 37) أي ليوافقوا، و فائدة ذلك من جهة اللفظ: رسوخ اللفظ و ثبوته، و استقامة الحفظ فلا يزيغ و ذلك أنه لا يعرض له حوائج «1»، و كذا إن قرأ نظرا في النهار ثم أعاده في الليل: فيتواطأ (يتوافق) عند ذلك البصر و السمع و القلب فعن مجاهد قال: تواطؤ سمعك و بصرك و قلبك، فهي أجدر أن يتواطأ لك فيها سمعك و بصرك «2»، ثم أكد على شدة الاشتغال في النهار فقال: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا (المزمل: 7) أي تصرفا في حوائجك و إقبالا و إدبارا و ذهابا و مجيئا «3»..
3- كما أن العمل بالليل «أشد ثباتا من النهار» «4»، فإن مراجعة القران تحتاج إلى الديمومة و التعاهد، و هذا في الليل أسهل منه في النهار" فإن الليل يخلو فيه الإنسان بما يعمله فيكون ذلك أثبت للعمل، و أنفى لما يلهي و يشغل القلب فأشد وطئا أي أشد نشاطا للمصلي، و أثبت للقراءة، و هذا هو معنى قوله سبحانه و تعالى: وَ أَقْوَمُ قِيلًا (المزمل: 6) أي أصوب للقراءة، و أثبت للقول لأنه زمان التفهم، أو أشد استقامة لفراغ البال بالليل، أو أجدر أن يتفقه في القران «5».
__________________________________________________
(
1) تفسير الطبري (29/ 130)، مرجع سابق.
(2) تفسير الطبري (29/ 130)، مرجع سابق.
(3) تفسير القرطبي (19/ 42)، مرجع سابق، و انظر: الجلالين ص 773، مرجع سابق.
(4) تفسير القرطبي (19/ 41)، مرجع سابق.
(5) انظر: تفسير القرطبي (19/ 41)، مرجع سابق.(1/209)
قضاء الحزب الليلي:
إذا فات الورد الليلي فينبغي له أن يقضيه في النهار؛ إذ قد ذهب البعض إلى أن معنى «السبح الفراغ أي إن لك فراغا طويلا للحاجات بالنهار» و منه قال الزجاج: «إن فاتك في الليل شي ء فلك في النهار فراغ الاستدراك» «1»، و كذلك كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يعلم أصحابه: فعن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «من نام عن حزبه أو عن شي ء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر و صلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل» «2»، و كذلك كانت سنته العملية فعن عائشة- رضي اللّه تعالى عنها- قالت: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إذا عمل عملا أثبته و كان إذا نام من الليل أو مرض صلّى من النهار ثنتي عشرة ركعة» «3».
و علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أن يضبطوا هيئات التعامل مع النفس الإنسانية المتغيرة:
بحيث لا تخل بالحفظ اليومي: فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إن لهذا القران شرة، و للناس عنه فترة، فمن كانت فترته إلى القصد فنعما هي، و من كانت فترته إلى الأرض فأولئك هم قوم بور» «4»، و عنه رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القران على لسانه فلم يدر ما يقول فليضطجع» «5»، و لا ينبغي أن يحول شي ء بين المرء و بين إكمال حزبه
__________________________________________________
(1) تفسير القرطبي (19/ 42)، مرجع سابق.
(2) مسلم (1/ 515)، مرجع سابق.
(
3) مسلم (1/ 515)، مرجع سابق.
(4) قال في مجمع الزوائد (7/ 168)، مرجع سابق: «أبو يعلى و فيه أبو معشر نجيح و هو ضعيف يعتبر بحديثه».
(5) مسلم (1/ 543)، مرجع سابق.(1/210)
فيقرؤه و لو مضطجعا كما قال جل جلاله: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ (ال عمران: 191)، و القران أعظم الذكر، و عن الأسود عن عائشة قالت: «إني لأقرأ حزبي أو عامة حزبي و أنا مضطجعة على فراشي» «1».
و قد علّموا كيفية السؤال عن اية نسيت فعن ابن مسعود رضي اللّه عنه: «إذا سأل أحدكم صاحبه كيف يقرأ اية كذا و كذا فليسأله عما قبلها» «2».
المطلب الرابع: تعليمهم مقدار الورد اليومي:
علم النبي صلّى اللّه عليه و سلم أصحابه رضي اللّه عنهم مقدار الورد اليومي سواء كان هذا الورد حفظا أو مراجعة أو كان قراءة من المصحف فلا يتخلف عنه الإنسان، كما حدد أقل المطلوب و أكثر المطلوب...
ورد الحفظ الجديد عن ظهر قلب:
فكانوا يتعلمون القران من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم حفظا عن ظهر قلب خمسا خمسا كمقتضى تلقائي من مقتضيات التنزيل المفرق، فقد قال عمر رضي اللّه عنه: تعلموا القران خمسا خمسا فإن جبريل عليه السّلام نزل بالقران على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم خمسا خمسا، و قد قال بعض أهل العلم: من تعلم خمسا خمسا لم ينسه «3»، و عن أبي نضرة قال: كان أبو سعيد الخدري رضي اللّه عنه يعلمنا القران خمس ايات بالغداة، و خمس ايات بالعشي و يخبر أن جبريل عليه السّلام نزل بالقران خمس ايات خمس ايات «4»__________________________________________________
(1) ابن أبي شيبة 2/ 124، مرجع سابق.
(2) عبد الرزاق 3/ 365، مرجع سابق.
(3) شعب الإيمان 2/ 331، مرجع سابق.
(4) الإتقان 1/ 124، مرجع سابق.(1/211)
و أخذه النبي صلّى اللّه عليه و سلّم خمسا خمسا «أي تلقنه منه» «1»، و روي مرسلا من قول أبي العالية: تعلموا القران خمس ايات خمس ايات فإن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يأخذه خمسا خمسا، و كان أبو عبد الرحمن السلمي يعلم خمسا خمسا «2». و قد تكون كمية المتعلّم عشرا عشرا، و يسمى (المعشر) كما جاء عن أبي عبد الرّحمن قال:
حدّثنا من كان يقرئنا من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّهم كانوا يقترئون من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عشر ايات فلا يأخذون في العشر الاخرى حتّى يعلموا ما في هذه من العلم و العمل قالوا: فعلمنا العلم و العمل «3»، و عن شريك أنه قال: كنا نعلم ما أنزل في هذا العشر من العلم «4».
و يحمل الفرق بين الكميتين على اختلاف الأشخاص، أو على اختلاف الأحوال.
و (العشرة) من المناسب الملائم الذي يعتبر فيه نوع الوصف و هو تحديد العشرة في نوع الحكم و هو حفظ القران «5»:
فقد ورد كثيرا في مجال حفظ القران الكريم باعتباره المتوسط الذي يراعي الفروق الفردية، و باعتبار أمر اخر هو مواكبة العمل و العلم بالمعاني للمحفوظ فقد ورد هذا العدد في الذي يحفظه الإنسان من سورة الكهف اتقاء للدجال فعن أبي الدّرداء أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «من حفظ عشر ايات من أوّل سورة الكهف عصم من الدّجّال» «6»، و الايات التي نزلت في عائشة عشر «7».
__________________________________________________
(1) فيض القدير (5/ 193)، مرجع سابق.
(2) ابن أبي شيبة (6/ 117)، مرجع سابق.
(3) أحمد (5/ 410)، مرجع سابق.
(4) شعب الإيمان (2/ 331)، مرجع سابق.
(5) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ص 369.
(6) مسلم (1/ 555)، الحاكم (2/ 399)، أبو داود (4/ 117)، مراجع سابقة.
(7) البخاري 4/ 1729، مسلم 4/ 2136، ابن حبان 10/ 20، مراجع سابقة.(1/212)
و كانت الايات تنزل عليه في الغالب بهذا المقدار فيتلقفها الصحابة يحفظونها فعن عبد الرّحمن بن عبد القاريّ قال: سمعت عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه يقول: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم إذا أنزل عليه الوحي سمع عند وجهه كدويّ النّحل فأنزل عليه يوما فمكثنا ساعة فسرّي عنه فاستقبل القبلة و رفع يديه و قال: «اللّهمّ زدنا و لا تنقصنا و أكرمنا و لا تهنّا و أعطنا و لا تحرمنا و اثرنا و لا تؤثر علينا و ارضنا و ارض عنّا» ثمّ قال صلّى اللّه عليه و سلّم: «أنزل عليّ عشر ايات من أقامهنّ دخل الجنّة ثمّ قرأ قد أفلح المؤمنون حتّى ختم عشر ايات» «1»، فالعشر هي عادة النزول، و يبلغ بها صلّى اللّه عليه و سلّم الناس فيتلقاها الناس حفظا و هو الغالب لقلة عدد الكتبة مقارنة بالحفظة.
التعشير:
و لأنهم كانوا يحفظون القران في الغالب عشرا عشرا فقد سموا ذلك التعشير، و سموا الورد اليومي منه المعشر، ثم إنهم صاروا يضعون علامة يدلون بها على المعشر السابق أو اللاحق في التعلم أو القراءة... و لأن طريقة تعليم الصحابة رضي اللّه عنهم لمن بعدهم أخذت الطابع ذاته، و لأن كمية الايات قد استقرت في المصحف بانقضاء الوحي، و جمع الصحابة القران في موضع واحد فقد ذهب بعض تلاميذ الصحابة إلى وضع علامات تدل على المعشر، أي إلى تمييز الأعشار، و تسمى عند البعض (بالمأشر)، و قد ألّفت مؤلفات في أعشار القران فأقدم من ألف فيه قتادة بن دعامة السدسي ت 118 ه في كتاب سماه (أعشار القران)... و ألف مكي بن أبي طالب حموش كتاب (الاختلاف) في عدد الأعشار «2».
__________________________________________________
(1) الحاكم (1/ 717)، المختارة (1/ 342)، الترمذي (5/ 326)، النسائي في الكبرى (1/ 450)، أحمد (1/ 34)، مراجع سابقة.
(2) انظر: ابتسام مرهوان لصفار (دكتورة): معجم الدراسات القرانية ص 27، ساعدت جامعة بغداد على نشره رقم تسلسل التعضيد 4 لسنة 83- 1984 م.(1/213)
ولكن هذا التحديد بالعشر لا يعني التزامه بدقة بل من أكثر فاللّه أكثر «1»، و كذا تحمل رواية خمسا؛ إذ الأصل أن هذا طاعة، فالطلبة فيه بحسب وسعهم، و حمل البعض الخمس و العشر على حالة التلقين «2»، و الصحيح أن ذلك يختلف من شخص لاخر.
كمية المراجعة:
كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يجعل العشر ايات أقل ما ينبغي أن يقرأه المسلم في مراجعته في الليل فعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «من قام بعشر ايات لم يكتب من الغافلين و من قام بمائة اية كتب من القانتين و من قام بألف اية كتب من المقنطرين» «3»، و كان الصحابة رضي اللّه عنهم يذكرون هذه الأحاديث موقوفة- مع أن لها حكم الرفع- دلالة على بدهية رفعها لأهميتها فعن تميم الدّاريّ رضي اللّه عنه قال: «من قرأ عشر ايات في ليلة لم يكتب من الغافلين» «4»، ولكنه صلّى اللّه عليه و سلّم حثهم على المزيد، و رتب الشارع الحكيم على ذلك الأجور العظيمة كل بقدر مشقته، ليرد كل أناس مشربهم فعن تميم الدّاريّ و فضالة بن عبيد قالا:
__________________________________________________
(1) إشارة إلى حديث عبادة بن الصّامت حدّثهم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «ما على الأرض مسلم يدعو اللّه بدعوة إلا اتاه اللّه إيّاها أو صرف عنه من السّوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم فقال رجل من القوم إذا نكثر قال اللّه أكثر» رواه الترمذي (5/ 566)، مرجع سابق، و قال: «و هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه».
(
2) (النويري) أبو القاسم محمد بن محمد بن محمد: شرح طيبة النشر في القراات العشر (2/ 47)، تحقيق و تعليق: عبد الفتاح السيد سليمان أبو سنه خبير التحقيق بمجمع البحوث الإسلامية، مراجعة لجنة إحياء التراث الإسلامي، بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، 1406 ه- 1986 م.
(3) أبو داود (2/ 57)، ابن خزيمة (2/ 181)، مرجعان سابقان.
(4) الدارمي (2/ 554)، مرجع سابق.(1/214)
من قرأ بعشر ايات في ليلة كتب من المصلّين «1»، و عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال: «من قرأ في ليلة عشر ايات لم يكتب من الغافلين و من قرأ في ليلة بمائة اية كتب من القانتين و من قرأ بمائتي اية كتب من الفائزين» «2» و عن أبي سعيد الخدريّ رضي اللّه عنه قال: «من قرأ في ليلة عشر ايات كتب من الذّاكرين، و من قرأ بمائة اية كتب من القانتين، و من قرأ بخمس مائة اية إلى الألف أصبح و له قنطار من الأجر قيل و ما القنطار قال مل ء مسك الثّور ذهبا» «3»، و عن أبي أمامة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «من قرأ عشر ايات في ليلة لم يكتب من الغافلين، و من قرأ مائة اية كتب له قنوت ليلة، و من قرأ مائتي اية كتب من القانتين، و من قرأ أربعمائة اية كتب من العابدين، و من قرأ خمسمائة اية كتب من الحافظين، و من قرأ ستمائة اية كتب من الخاشعين، و من قرأ ثمانمائة اية كتب من المخبتين، و من قرأ ألف اية أصبح له قنطار، و القنطار ألف و مائتا أوقية خير مما بين السماء و الأرض قال خير مما طلعت عليه الشمس و من قرأ ألفي اية كان من الموجبين» «4»، و عن عبادة بن الصامت رضي اللّه عنه مثله «5».
و نلحظ أن من دلالة الإشارة للتفريق بين الايات هنا أن قد رسخ في ذهن الحفاظ و غيرهم كمال السورة و مقدارها و مواضع الايات، فيستبينون أنها طويلة أو قصيرة... و لا شك أن لهذا دلالته في حفظ القران الكريم.
__________________________________________________
(1) الدارمي (2/ 555)، مرجع سابق.
(2) الدارمي (2/ 555)، مرجع سابق.
(3) الدارمي (2/ 557)، مرجع سابق.
(4) مسند الشاميين (2/ 44)، الطبراني في الكبير (8/ 180)، مرجعان سابقان، و قال في مجمع الزوائد (2/ 267)، مرجع سابق: «رواه الطبراني في الكبير و فيه يحيى بن عقبة بن أبي العيزار و هو ضعيف».
(5) المختارة 8/ 278، مرجع سابق.(1/215)
المبحث الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلّم ماهية التجويد و حكمه:
يناقش هذا المبحث حقيقة التجويد، و مدى تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم له، و المصطلحات التي كانت تطلق عليه في العهد النبوي و القرون المفضلة، و يصل من ذلك إلى حكمه الشرعي، و مدى تطبيق المسلمين على مختلف الأعصر لهذا الحكم..
و لتحقيق مقصد المبحث فقد انقسم إلى ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الأصول الشرعية لعلم التجويد.
المطلب الثاني: مكونات علم التجويد- كما علمها النبي صلّى اللّه عليه و سلّم-.
المطلب الثالث: حكم تعلم أحكام التجويد كما علمه النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
المطلب الأول: الأصول الشرعية لعلم التجويد:
دل على التجويد في عصر النبي صلّى اللّه عليه و سلم و أصحابه مصطلحات أخرى غير هذا المصطلح (التجويد) مثل: الترتيل، و التحسين، و التزيين، و التحبير، و الترجيع.
و هذه المصطلحات- كما سنرى من كيفية تعليمها من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لأصحابه إن شاء اللّه عزّ و جلّ- تستخدم في وصف القراءة إذا جمعت مرتبتين في النطق: الإعراب للكلام (تبيينه و إظهاره في نطقه العربي الفصيح)، و الزينة في الأداء باستخدام قواعد التزيين الصوتية العربية.
و لم يرد من هذه الكلمات الخمس في القران الكريم سوى كلمة الترتيل «1»، و البقية وردت في السنة النبوية، فقد كانت هذه الأصول هي المكونة لعلم التجويد التطبيقي.
__________________________________________________
(1) قال اللّه سبحانه و تعالى: وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (الفرقان: 32)، و قال: وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (المزمل: 4).(1/216)
و مرد التقعيدات النظرية و التطبيقية في علم التجويد:
إلى أمرين يشكلان الأصلين الشرعيين لعلم التجويد في صورته التامة:
النصوص الشرعية، و قواعد اللغة العربية من حيث كون اللسان الذي نزل به القران عربيا، و من حيث رجوع تلك القواعد إلى ما اختاره النقل الشرعي منها، أو يقال أخذت مادة علم التجويد الوضعي و التطبيقي من علمين: علم القراءة (المشافهة)، و علم اللغة العربية، و لنأخذ في تفصيل ذلك:
الأصل الأول لعلم التجويد:
تعليمهم اللفظ القراني من حيث كونه نزل بلسان عربي مبين:
فيقرأ القران باللفظ العربي «1» المنقول في أصل لفظه أو في كيفية التصويت به ولكن على الصورة المنقولة بالمشافهة، إذ القراءة و الأداء أمران يتعلقان باللفظ و يبنيان على وجوه اللغة.
و أول أجزاء المعاني التي منها يلتئم النطق هو الصوت ثم الصوت بتقطيع الهواء يصير حرفا، ثم عند جمع الحروف يصير كلمة ثم عند تعيين بعض الحروف المجتمعة على هيئة مخصوصة يصير لغة عربية، ثم بكيفية تقطيع الحروف يصير معربا، ثم بتعيين بعض وجوه الإعراب يصير قراءة منسوبة إلى الأحرف السبعة، ثم إذا صار كلمة عربية صحيحة معربة صارت دالة على معنى من المعاني فتتقاضى للتفسير الظاهر «2».
__________________________________________________
(1) لا نتناول ها هنا تفاصيل هذا الموضوع، من أنواع اللغات (اللهجات) العربية في القران فقد أفردوه بالتصنيف، قال أبو بكر الواسطي في كتابه الإرشاد في القراات العشر: «في القران من اللغات العربية خمسون لغة»، و انظر فيه: كتاب لغات القبائل الواردة في القران الكريم لأبي عبيد، و قد عدها السيوطي في الإتقان (2/ 476)، و حسب البحث تقرير الحقائق التعليمية في هذا الموضوع.
(2) انظر: جواهر القران ص 36، مرجع سابق.(1/217)
فقد علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أن القران نزل بلسان عربي مبين: كما قال وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (الشعراء: 192- 195) فعربية القران: كالحوالة من الشارع لاستخدام قوانين العربية في تلاوة القران و كتابته من إعراب و بناء و تصريف و إظهار و إدغام و إمالة و تغليظ و تفخيم و ترقيق و فتح و إسكان و تخفيف و تحقيق...
لا من حيث العموم بل في إطار المتناقل.
و على هذا فالعربية أصل النطق بألفاظ القران الكريم، كما «هي أصل فهم القران و مجموعها متواتر، و في أهميتها لإدراك كيفية قواعد التلفظ و التفهم قيل:
حفظ اللغات علينا فرض كفرض الصلاة
فليس يضبط دين إلا بحفظ اللغات»
«
1» و قد كان لفظ القران الكريم ميسرا بلسانه صلّى اللّه عليه و سلّم سهلا مذللا لتتم وظيفة التبليغ:
و دون ذلك التيسير لا يتم أداء هذه الوظيفة كما قال جل جلاله: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ (مريم: 97)، و كما قال سبحانه و تعالى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (الدخان: 58)، فقد كان يعلمهم كلاما عربيا بينا مظهرا باللسان، لا كلاما خفيا، فإن مدلول كلمة لسان يظهر أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم علم أصحابه هيئة أداء اللفظ الداخلي و الخارجي: فلا بد من أن تكون مبينة واضحة كما قال جل جلاله: رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ (الطلاق: 11) «أي في حال كونها بينة واضحة جلية» «2»، و هذا يشمل اللفظ الخارجي و الداخلي من الهيئات الصوتية الموغلة في الجزئية.
__________________________________________________
(1) نقل كلام الفارابي و البيتين الإمام السيوطي في المزهر (1/ 302).
(2) ابن كثير (4/ 385)، مرجع سابق.(1/218)
و لهذا أثره العظيم في بيان كيفية تلاوة القران الكريم في جهتين:
1- جهة صيرورة موافقة اللغة العربية ركنا من أركان القراءة المقبولة.
2- جهة خضوع أداء ألفاظ القران الكريم لأحوال اللسان العربي الأدائية من إظهار و إدغام، و فتح و إمالة، و تخفيف و تثقيل، و تحريك و إسكان، و حذف و إثبات، و مد و قصر...
و إذا كان هذا هو الأساس الأول لعلم التجويد و تقعيداته فلا يبحث في حكم التجويد بهذا المعنى- عند غالب المصنفين القدماء- لأنه أصل الكلام... و تواتره بمعنى ثبوته يقينا قطعيا لا ارتياب فيه بدهي لأن التجويد هنا مخارج الحروف و صفاتها و هي التي تتكون منها ماهية الكلام العربي الفصيح... مع ملحوظتين:
الأولى: أن المختلف فيه بين القراء في التجويد يرجع إلى أصول النطق العربي الفصيح أيضًا مما فيه سعة كاختلاف كلمة بين الإظهار و الإدغام.
الثانية: أن الزيادة على أصول الكلام العربي الفصيح في التجويد إنما هو في الترتيل و التزيين و التحسين الذي أمرنا به في القراءة، فأصول علم التجويد و قواعده إذن كانت موجودة في الكلام العربي يحرص عليها القراء و يعتمدون عليها في قراءتهم و إقرائهم، و إن لم تكن مدونة، شأنها في ذلك شأن قواعد النحو و الصرف التي استنبطها علماء العربية في وقت لاحق.
و لذا فإن اختلاف القراء في إثبات بعض فروع علم التجويد الدقيقة:
مثل حكم الميم الساكنة عند الباء: هل هو الإخفاء أو الإظهار- على ثلاثة أقوال كما هو معلوم في مظانه «1»- يعزى إلى علم العربية، و ذلك إذا كان ضمن
__________________________________________________
(1) انظر ذلك في: المفيد في شرح عمدة المجيد ص 134 عند قول الناظم: لكن مع البافي إبانتها و في إخفائها رأيان مختلفان.(1/219)
القياس الجائز في علم القراءة لا الممنوع، و هو ما يتعلق بهيئة الأداء الداخلية في مواضع محدودة.
الأصل الثاني لعلم التجويد: علم القراءة:
حيث كان هذا العلم هو الذي يحوي علم التجويد من الناحية التطبيقية.
كيفية تشكل علم التجويد من علم القراءة:
1- إن متعلم قراءة القران يقوم يقرأ على الشيخ فيلقنه الشيخ كيفية القراءة مطلقا أي ما تعلق منها بأصل اللفظ أو ما تعلق بأدائه، أو ما تعلق بتحسين صوته فيها وفق القواعد المتلقاة، فيأمره بالمد أو بالغنة أو بالإدغام..
و هكذا... و يلحظ الشيخ الخطأ في القراءة كما كانوا- تماما- يلحظون الخطأ النحوي فيردونه على صاحبه طبيعة، على الرغم من عدم وجود مؤلفات في النحو... ثم إنهم نظروا إلى هذه الأحكام المتلقاة شفاها فدونوها أشباها و نظائر بالاستقراء... ثم جعلوها قواعد مسطرة، و ضوابط مبثوثة في الكتب فاستقام منها علم القراءة مدونا مكتوبا في كتبه، و احتوى فيما احتوى على أكثر علم التجويد من إدغام و إمالة و مد و قصر و تسهيل للهمز و غنة و مخارج للحروف و الصفات... ولكن بصورة أوسع شملت ما كان مقتضى تلقائي من مقتضيات النطق الفصيح للغة العربية، ثم جمّل بما أمر به النبي صلّى اللّه عليه و سلم و أمر به من التحسين و التزيين و الترتيل كمد المتصل فإن النطق العربي الفصيح يقتضيه، و قواعد الصرف توجبه و ترتضيه، و لا بد من زيادة حسنه طلبا لترتيله و تزيينه و تحسينه...
و هكذا بقية الأحكام.
2- ثم بدأ علم التجويد ينفرد بالتأليف ليكون علما مستقلا يحتوي على ما يدل على النطق العربي الصحيح مما كان مختصا بالمتفق عليه بين القراء و حال(1/220)
الاختلاف يذكر ما يتعلق برواية واحدة فقط... فانفرد كما انفرد علم أسباب النزول عن التفسير، و علم عدد الاي عن علم القراءة.
الفرق بين علم التجويد و بين علم القراءة:
1- علم القراات علم يعرف فيه اختلاف أئمة الأمصار في نفس حروف القران أو في صفاته، فإذا ذكر فيه شي ء من ماهية صفات الحروف فهو تتميم؛ إذ لا يتعلق الغرض به، و أما علم التجويد فالغرض منه معرفة ماهيات صفات الحروف، فإذا ذكر فيه شى ء من اختلاف الأئمة فهو تتميم، فالتجويد يناقش حق الحرف و مستحقه، و القراات يناقش بعد أن يكون حق الحرف و مستحقه قد صار من المسلمات.
2- القراات علم رواية و اختلاف الألفاظ، و التجويد علم دراية فهو أداء تلك الألفاظ «1».
و مما ينبغي التنبيه له أن علم القراءة و علم التفسير كانا متلازمين:
لم يستقل أحدهما عن الاخر، و لذا ذكروا أن القراات جزء من علم التفسير، و يبين هذا قول مجاهد- رحمه اللّه تعالى-: «عرضت القران على ابن عباس ثلاث عرضات أوقفه على كل اية أسأله فيما نزلت و كيف كانت» «2»، و كما أن مجاهد كان إمام المفسرين فقد كان شيخ القراء كذلك و هو شيخ الإمام المكي ابن كثير الداري.
__________________________________________________
(1) انظر: الدراسات الصوتية عند علماء التجويد ص 20، مرجع سابق.
(2) الحاكم (2/ 307)، الدارمي (1/ 273)، ابن أبي شيبة (6/ 154)، مراجع سابقة.(1/221)
هل لتأخر التأليف في علم التجويد أثر سلبي؟:
لا يعني تأخر ظهور التأليف في علم التجويد أن القراء كانوا ينطقون القران قبل ذلك على غير أصل واضح، كما لا يعني أن علماء التجويد اختلقوا هذه الأصول أو ابتدعوها.
ف «تجويد القران قد يحصله الطالب بمشافهة الشيخ المجود، بدون معرفة مسائل هذا العلم، بل المشافهة هي العمدة في تحصيله، لكن بذلك العلم يسهل الأخذ بالمشافهة، و تزيد المهارة، و يصان به المأخوذ عن طريان الشك و التحريف» «1»، فكانت أجيال المسلمين تجود القران بالمشافهة منذ عصر الصحابة حتى ظهرت المؤلفات التي تعني بالتجويد، و ظلت المشافهة و التلقي عن الشيخ المتقن هي الأساس في قراءة القران و إتقان اللفظ بحروفه.
المطلب الثاني: مكونات علم التجويد- كما علمها النبي صلّى اللّه عليه و سلم-:
تمت صياغة مادة علم التجويد النظرية من المصدرين السابقين العملي و النظري، ثم واصل المتخصصون في علم التجويد أبحاثهم الصوتية و غيرها مستندين إلى تلك المادة، و أضافوا إليها خلاصة جهداهم حتى بلغ علم التجويد منزلة عالية من التقدم في دراسة الأصوات اللغوية.
و من ثم فمن الجنف الشديد عند الكلام على حكم التجويد علما و عملا أن يتكلّم عنه بعيدا عن تصور مادته و ماهيته و تصور أصوله الشرعية و النظرية، فتعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلم أصحابه تجويد القران هو تعليم لمراتبه و أصوله الشرعية- بعد تقرير حداثة هذا المصطلح-، فيجب معرفة أصوله الشرعية حتى يتم الحكم
__________________________________________________
(1) الدراسات الصوتية عند علماء التجويد ص 20، مرجع سابق نقلا عن محمد المرعشس الملقب ساجقلي زاده ت 1150 ه.(1/222)
عليها... شأنه في ذلك شأن البيوع المحدثة لا بد من ردها إلى أصولها الشرعية للنظر في أحكامها تحليلا و تحريما.
و تجويد الشي ء في اللغة «1»:
هو إحكامه و إتقانه يقال جوّد فلان الشي ء و أجاده إذا أحكم صنعته، و أتقن وضعه، و بلغ به الغاية في الإحسان و الكمال سواء كان ذلك الشي ء من نوع القول، أو من نوع الفعل «2».
و أما اصطلاحا:
له إطلاقان في اصطلاح علماء القراءة «3»:
التجويد العلمي:
معرفة القواعد و الضوابط التي وضعها علماء التجويد و دونها أئمة القراءة من المخارج و الصفات و أحكام النون الساكنة، و الوقف و الابتداء.
التجويد العملي: هو إحكام حروف القران و إتقان النطق بكلماته و بلوغ الغاية في تحسين ألفاظه و الإتيان بها معربة بشرط النقل (التلقي).
و يقال: يجود فلان القران تجويدا: «إذا أتى بالقراءة مجودة الألفاظ، بريئة من الجور في النطق بها، لم تهجنها الزيادة، و لم يشنها النقصان» «4».
و لا يتحقق الإعراب و الإتقان للكلمات إلا بإعطاء الحروف حقها و مستحقها، و لذا ذهب بعضهم في تعريفه على أنه: إخراج كل حرف من مخرجه مع إعطائه حقه و مستحقه «5».
__________________________________________________
(1) انظر في تعريف التجويد: التحديد في الإتقان و التجويد ص 70، التمهيد ص 59، نهاية القول المفيد في علم التجويد ص 11.
(
2) لسان العرب (3/ 135)، مرجع سابق.
(3) انظر: أحكام قراءة القران الكريم ص 20.
(4) جمال القراء و كمال الإقراء (2/ 526)، مرجع سابق.
(5) انظر مثلا: نهاية القول المفيد ص 12، أحكام تلاوة القران للحصري ص 15، مرجعان سابقان.(1/223)
و حق الحرف هو: صفاته الذاتية اللازمة له فلا تنفك عنه كالجهر و الشدة و الاستعلاء، و كالإعراب النحوي... فإن انفكت عنه فإن الانفكاك يغير ذات الحرف فإن عصى و محظور إذا لم يعط الصاد و الظاء حقهما من الاستعلاء و الإطباق يصيران عسى و محذور.
و مستحقه هو: صفاته العارضة الناشئة عن الصفات الذاتية كالتفخيم فإنه ناشئ عن الاستعلاء و التكرير، و الترقيق فإنه ناشئ عن الاستفال... و الكسر و التفخيم متضادان لأن الأول يستدعي انخفاض اللسان و الثاني يستدعي ارتفاعه... و هذا على سبيل الإجمال، و إلا فالتفصيل أن التفخيم لا ينشأ دائما عن الاستعلاء... و كالإظهار و القلب و الإخفاء فإنها ناشئة إما عن التماثل و إما عن التقارب و إما عن التباعد، و إما عن التجانس، و هذه من الصفات الذاتية التركيبية.. كما هو مبسوط في محاله.
و لأن التجويد يعتمد على التلقي فما زال العلماء يكثرون من التنبيه أن إتقان التجويد لا بد فيه من رياضة الألسن و التكرار للفظ المتلقى كما قال الداني: «ليس بين التجويد و بين تركه إلا رياضة لمن تدبره بفكه» «1»؛ إذ تنشأ في حال التركيب أحكام غيرها حال الإفراد «فمن أحكم صحة التلفظ حالة التركيب حصّل حقيقة التجويد بالإتقان و التدريب» «2»، و قال صاحب كشف الظنون عن هذا العلم:
«و هو كالموسيقي من جهة أن العلم لا يكفي فيه بل هو عبارة عن ملكة حاصلة من تمرن امرئ بفكه و تدربه بالتلقف عن أفواه معلميه» «3» و الناس في ذلك بين محسن مأجور، و مسي ء اثم أو معذور كما قال ابن الجزري «4».
__________________________________________________
(
1) التحديد ص 60، مرجع سابق.
(2) التمهيد ص 65، مرجع سابق.
(3) كشف الظنون (1/ 353)، مرجع سابق.
(4) كشف الظنون (1/ 353)، مرجع سابق.(1/224)
و جميع ما عليه القراء من القراءة تجويد و تحقيق، و حسن أداء، فقراءة ابن كثير مع تسهيله كقراءة حمزة في التجويد، لأن المراد بالتجويد: إعطاء الحروف حفها، و إخراجها من مخارجها، و اجتناب اللحن الخفي، و ذلك لا يختلف بحدر و لا بتأن «1».
فأركان التجويد العملي ثلاثة هي:
أولا: إحكام حروف القران، و إتقان النطق بكلماته، و الإتيان بها معربة بإعطاء الحرف حقه:
و هذا الركن راجع إلى كون القران نزل بلسان عربي مبين... فالعمل به واجب قطعي لا ريب فيه، و لو لا ما تقتضيه الضرورة البحثية لكفت البديهة في تصور دليله.
و لعل من أهم أسباب تأخر ظهور علم التجويد مدونا مستقلا غير اندماجه الظاهر في علم القراء: اعتماده الشديد على التلقي من الأفواه، و هذا مما يوضح أن الصحابة تعلموه من النبي صلّى اللّه عليه و سلم تلقائيا، لم يحتج إلى نص تفصيلي، لأنه جزء من البلاغ المبين للفظ القران الكريم، و لا شك أن الأمة كما هم متعبدون بفهم معاني القران و إقامة حدوده هم متعبدون بتصحيح ألفاظه و إقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراء المتصلة بالحضرة النبوية.
و الموضوعات التي تتعلق بهذا الركن من علم التجويد مخارج الحروف و صفاتها الأصلية، و الإدغام الواجب المتفق عليه، و المد الواجب من لازم و متصل بغض النظر عن مراتبه....
__________________________________________________
(1) (السخاوي) علم الدين علي بن محمد ت 643 ه: جمال القراء و كمال الإقراء (2/ 526)، مرجع سابق.(1/225)
ثانيا: إحكام حروف القران، و إتقان النطق بكلماته بإعطاء الحرف مستحقه:
مستحق الحرف هو صفاته العرضية الناشئة عن الصفات الذاتية، و هذا الركن كالأول، غير أن الفارق بينهما أن صفة الحرف هنا لا تغير من ذاته في الغالب، فإن الترقيق لا يغير من ذات الراء المفخمة، إنما يغير صفة الكمال فيها، و الإشمام أو الروم لا يغير من ذات النون مثلا.
و يتعلق بهذا الركن موضوعات التجويد الاخرى مثل الصفات الفرعية من تفخيم و ترقيق (دروس الراات و اللامات و حروف الإطباق)، و أبواب كيفية الوقف على أواخر الكلم...
ثالثا: تحسين التلفظ بالحروف:
و هذا الركن هو ما يتميز به نطق الكلمات القرانية عن نطق سائر الكلمات العربية، و لذا فالجمهور لا يدخلون العمل بالتجويد في الحديث النبوي، و هذا الركن هو الذي عبر عنه العلماء بقولهم: «هو حلية التلاوة و زينة القراءة» «1» من غير إسراف و لا تعسف و لا إفراط و لا تكلف، و من أبرز من تميز به من الصحابة ابن مسعود، و أبو موسى الأشعري، و سالم مولى أبي حذيفة.
فالركنان الأولان هما التلاوة، و هما القراءة... و لا يتصور أداء اللفظ إلا بالأول، و ينفر من أدائه دون الثاني في الفصيح، و أما الثالث فهو تحسينهما و تجميلهما.
و تظهر الأركان الثلاثة في تعريف صاحب كشف الظنون لعلم التجويد بأنه «علم باحث عن تحسين تلاوة القران العظيم من جهة مخارج الحروف و صفاتها،
__________________________________________________
(1) الكامل للهذلي ص 19 وجه ب، مصورة مخطوطة عند الباحث. ملحوظة: وردت مصطلحات التلاوة و الأداء و القراءة في هذا الموضوع: «و الفرق بين الثلاثة أن التلاوة: قراءة القران متتابعا، كالأوراد و الأسباع و الدراسة، و الأداء: الأخذ عن المشايخ، و القراءة: تطلق عليهما، فهي أعم منهما» انظر: الدقائق المحكمة في شرح المقدمة.(1/226)
و ترتيل النظم المبين بإعطاء الحروف حقها من الوصل و الوقف و المد و القصر و الإدغام و الإظهار...» «1». فتعبير العلماء عن التجويد بالتحسين مع أنه الركن الثالث؛ لأن الركنين الأولين دخلا ضمنا، فلا يتصور تحسين للفظ بغيرهما.
المطلب الثالث: حكم التجويد كما علمه النبي صلّى اللّه عليه و سلم:
أما الركنان الأولان من التجويد فلا يرتاب أحد في أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قد علمهما أصحابه رضي اللّه عنهم لن ذلك من مقتضيات نزول القران بلسان عربي مبين، إذ أصل أصول هيئة الأداء: عربية اللسان، و كل دليل للركن الثالث هو دليل للركنين السابقين.
و دليل تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلم لأصحابه الركن الثالث:
1- أمر اللّه عزّ و جلّ النبي صلّى اللّه عليه و سلم بتجويد القران: و النبي صلّى اللّه عليه و سلم إنما تلقاه مرتلا من جبريل عليه السّلام كما في اية الفرقان وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (الفرقان: 32)، و أمر بأن يقرأه كما سمعه من جبريل عليه السّلام كما في اية المزمل وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (المزمل: 4)، و اية القيامة فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
(القيامة: 18)، و وقع ذلك منه عمليا كما في حديث المعالجة «2»، و لا شك أننا مأمورون بالاقتداء به صلّى اللّه عليه و سلم.
2- قوله سبحانه و تعالى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ (البقرة: 121): أي يقرؤونه حق قراءته، و هي قراءة تأخذ بمجامع القلب فيراعى فيها ضبط اللفظ و التأمل في المعنى، و حق الأمر و النهي.
و إعطاء اللفظ حقه في التلاوة: تظهر ضرورته الشرعية من هذه الاية و هذا هو التجويد؛ إذ عرّف العلماء (التجويد) بأنه إعطاء الحرف حقه و مستحقه،
__________________________________________________
(1) كشف الظنون (1/ 353)، و انظر: أبجد العلوم (2/ 144)، مرجعان سابقان.
(
2) و تفصيل ذلك في كتاب تلقي النبي صلّى اللّه عليه و سلم ألفاظ القران الكريم ص 113، مرجع سابق.(1/227)
فالتجويد من حق تلاوة الكتاب العزيز، و قد روى الطبري أن ابن مسعود رضي اللّه عنه كان يقول: «إن حق تلاوته أن يحل حلاله، و يحرم حرامه، و أن يقرأه كما أنزله اللّه عزّ و جلّ، و لا يحرفه عن مواضعه» «1»، و عن قتادة قال في معنى الاية: «يتبعونه حق اتباعه- قال- اتباعه يحلون حلاله و يحرمون حرامه و يقرؤنه كما أنزل».
3- قوله جل جلاله: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ (الإسراء: 106).
4- أحاديث التحسين للقران، و التزيين لتلاوته، و التغني به، كما قال النبي صلّى اللّه عليه و سلم: «اقرؤوا القران و تغنوا به..»، و قال صلّى اللّه عليه و سلم: «ليس منا من لم يتغن بالقران»...
5- و اشتد اهتمام النبي صلّى اللّه عليه و سلم بتعليمهم قواعد تجويد القران تلقينا كقوله صلّى اللّه عليه و سلم:
«الماهر بالقران مع السفرة الكرام البررة»، «و المهارة في القران جودة التلاوة بجودة الحفظ فلا يتلعثم و لا يتشكك و تكون قراءته سهلة بتيسير اللّه تعالى كما يسره على الكرام البررة، فالماهر بالقران هو الحافظ له مع حسن الصوت به، و الجهر به بصوت مطرب بحيث يلتذ سامعه» «2».
6- و أعظم أدلة وجوب التجويد العملي هو التلقي القراني المتواتر تواترا ضروريا.
و يشير إلى ذلك ما جاء عن علي رضي اللّه عنه: «إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يأمركم أن تقرؤوا كما علمتم» «3»، و حدد لهم بعض المعلمين فقال: «خذوا القران من أربعة من بن أم عبد فبدأ به و معاذ بن جبل و أبي بن كعب و سالم مولى أبي حذيفة» «4»، و هذا هو معنى قول الجزري في المقدمة:
__________________________________________________
(1) الطبري (1/ 519)، مرجع سابق، تفسير الجلالين ص 25، مرجع سابق.
(
2) انظر: فتح الباري (13/ 519)، مرجع سابق.
(3) ابن حبان (3/ 21)، مرجع سابق.
(4) البخاري (3/ 1385)، مسلم (4/ 1913)، الحاكم (3/ 250)، الترمذي (5/ 674)، مراجع سابقة.(1/228)
و الأخذ بالتجويد حتم لازم من لم يجود القران اثم
لأنه به الإله أنزلا و هكذا منه إلينا وصلا
«أي أن القراءة بالتجويد واجبة لأن اللّه أنزل القران به، فتجويد القران وصلنا من اللّه بسلسلة الإسناد الجليلة هذه، إذ إن المقصود الاصطلاحي بتجويد القران:
قراءته على الصفة التي قرأه بها النبي صلّى اللّه عليه و سلم و أداؤه بالهيئة التي أداه بها» «1».
فعلم التجويد بأركانه «هو عبارة عن وصف اصطلاحي لما ثبتت الرواية به من صفة قراءة النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و إلا فالمقصود هو تلك الهيئة التي نزل بها الوحي، و تلقاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من جبريل مشافهة، عرضا و سماعا، كما سبق بيانه، و أقرأ بها عددا من أصحابه» «2».
فهذه النصوص واضحة الدلالة على أن القراءة توقيفية، فلا يجوز أن يقرأ أحد إلا بالهيئة التوقيفية المتلقاة من الحضرة النبوية، و التي يتعلمها مشافهة من المقرئين، و قد عين النبي صلّى اللّه عليه و سلم لجيل الصحابة رضي اللّه عنه هؤلاء المقرئين ليتعلموا منهم القراءة، و يتلقوا منهم نص القران، و ذكرهم ليس على سبيل الحصر، فقد نوه النبي صلّى اللّه عليه و سلم في أحاديث أخرى بقراء اخرين من الصحابة رضي اللّه عنه «3».
و أكد النبي صلّى اللّه عليه و سلم على تجميل الصوت و تحليته عند قراءة القران الكريم فعن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «لكل شي ء حلية و حلية القران حسن الصوت» «4»، و عن البراء رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «زينوا القران
__________________________________________________
(
1) انظر: سنن القراء ص 28، مرجع سابق، و انظر تفصيل ذلك في كتاب التلقي الفصل الثالث كاملا.
(2) انظر: سنن القراء ص 110، مرجع سابق.
(3) انظر: سنن القراء ص 110، مرجع سابق.
(4) المختارة (7/ 88)، مرجع سابق، و نحوه ذكره في مجمع الزوائد (7/ 171)، مرجع سابق.(1/229)
بأصوآتاكم فإن الصوت الحسن يزيد القران حسنا» «1»، و عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول: «إن حسن الصوت يزين القران» «2»، و تسلسلت المنهجية: فعن علقمة أنه قرأ على بن مسعود رضي اللّه عنه فقال: «رتل فداك أبي أمي فإنه زينة القران» «3»، و في رواية عنه قال: كنت رجلا قد أعطاني اللّه حسن الصوت، و كان ابن مسعود يرسل إلي فأقرأ عليه القران فكنت إذا فرغت من قراءتي قال: زدنا من هذا فداك أبي و أمي فإني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول: «حسن الصوت زينة للقران» «4».
المسلمون في أغلبهم الأعم يقومون بالأركان الثلاثة:
و حتى لا يبادر البعض بالإنكار على وجوب ما سبق فإنه يجب تقرير حقيقة واقعة في حياة المسلمين هي: أن المرتبة الثالثة حقيقة ملموسة واقعية فلا تجد صغيرا و لا كبيرا و لا رجلا و لا امرأة و لا شابا و لا هرما إلا غير نبرة تصويته عند قراءة القران الكريم إلى هيئة فيها تغن ظاهر كل حسب قدرته و طاقته الصوتية.
و على هذا يحفظ هذا الكتاب المجيد من جميع الجهات:
فثم غاية لقراءة القران هي التدبر أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ (النساء: 82)، كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ (ص: 29) سواء كانت اللام أن تكون للتعليل أو للعاقبة.
__________________________________________________
(1) الحاكم (1/ 768)، مرجع سابق.
(2) الشاشي في مسنده (1/ 339)، مرجع سابق، و هو في مجمع الزوائد (7/ 171)، مرجع سابق.
(
3) ابن الجعد (1/ 496)، الطبراني في الكبير (10/ 82)، الفردوس بمأثور الخطاب (2/ 141)، مراجع سابقة.
(4) الطبراني في الكبير (10/ 82)، مرجع سابق.(1/230)
و ثم مقتضى يوجبه التدبر هو الخشوع اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ (الزمر: 23).
و ثم طريقة لقراءة هذا الكلام هي التلاوة بالترتيل و تحسين التصويت به، فليست قراءة القران كمعتاد الكلام، أو إلقاء الشعر.
فتحصل بمجموع ذلك كله: وجوب ترتيل (تجويد) القران كما تلقي و سمع مع المنع من غثاثة الإفراط في التغني للتوقيفية التعبدية المحضة.
فالواجب الشرعي في التجويد:
و هو ما أجمع عليه القراء كالإخفاء و الإدغام و الإظهار و القلب و ترك المد فيما أجمع على قصره و ترك القصر فيما أجمع على مده و غيره ذلك مع أن الواجب من المد هو القدر المجمع عليه مما ليس فيه خلاف، و تزيين القراءة بحيث تختلف عن سجية معتاد الكلام حال التلاوة، فهذا هو الواجب الشرعي؛ إذ يمثل الترتيل المأور به، و يبقى العذر بالجهل مانعا من وقوع العامي في الإثم، ولكن أي عذر لمتعلم جامعي في أرقى التخصصات الفنية ألا يعرف كيفية قراءة كتاب اللّه الكريم أكثر من العامي أو الأمي؟.
و حقيقة الوجوب هنا قائمة على ركائز:
توفر الحد الأدنى من أحكام التجويد مما هو مجمع عليه بين القراء، فليس من الواجب تحقيق المد تماما و إنما المجي ء بأصله الذي يسمى به مدا، و كذلك الغن، و لا يكون ذلك إلا بتحقيق مخرج الحرف و صفته... و لذا ذكر قالون عن نافع أنه كان يمد و يحقق القراءة، و لا يشدد، و يقرب بين المدود و غير المدود، قال ابن(1/231)
مجاهد: و كذلك مذهب ابن كثير و أبي عمرو «1»، و قال حمزة: ترك الهمز في المحاريب من الأستاذية «2»، و المراد ترك الكمال في ذلك كله.
تحسين الصوت تغنيا و تزيينا بالمستطاع: و المراد تغيير نغمة الصوت عند التلاوة على هيئة مميزة للقران الكريم.
أن الأركان الثلاثة تتفاوت في وجوبها، فالأول لا تسمى القراءة قراءة إلا به، و الثاني يخل بعرف القراءة و قد يخل بالمعنى، و وجوبه في درجة أدنى، و الثالث يخل بعرف تلاوة القران و وجوبه أقل مما سبقه، و التساهل فيه كائن، و اللّه أعلم.
__________________________________________________
(1) (الداني) أبو عمرو عثمان بن سعيد الأندلسي ت 444 ه: التحديد في الإتقان و التجويد ص 87، مرجع سابق.
(2) (السخاوي) علم الدين علي بن محمد ت 643 ه: جمال القراء و كمال الإقراء (2/ 471)، مرجع سابق، و يراجع كلام السخاوي القيم في الدفاع عن ابن عامر و حمزة.(1/232)
المبحث الثالث: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم أهمية التجويد و ضوابطه الشرعية:
بعد معرفة الأصول الشرعية للتجويد و تصور ماهيته، و حكم تعلمه، لا بد من الإشارة إلى وسائل النبي صلّى اللّه عليه و سلم في بيان أهميته، و اجتناب ما يضاده، و بيان حدوده، و هو ما يتحدث عنه هذا المبحث، و لذا انقسم إلى ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم أهمية التجويد.
المطلب الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم اجتناب اللحن.
المطلب الثالث: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم ضوابط التجويد.
المطلب الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم أهمية التجويد:
علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم أهمية التجويد من وقت مبكر من البعثة حيث نزلت سورة المزمل... و من معالم تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم للصحابة أهمية التجويد:
1- كان النبي صلّى اللّه عليه و سلم يعلمهم القران حرفا حرفا:
و هذا إنما يكون بالتلقين القراني للحروف مصحوبة بالترتيل حتى قال عبد اللّه بن مسعود في وصف تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلم لهم التشهد «كما يعلمنا السورة من القران» «1»، و مثله حديث ابن عباس، و جابر في تعلم الاستخارة «2»، فيحتمل أن يكون وجه الشبه هو التكرار، و يحتمل دقة التلقين، و الاهتمام بدقة الحفظ و الأظهر أن ذلك شمل الأمرين معا، و يدل على ذلك و على تسلسل هذه المنهجية أيضًا أن إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي و الأسود بن يزيد بن قيس النخعي رويا
__________________________________________________
(1) صحيح ابن خزيمة (1/ 349)، مرجع سابق.
(2) البخاري (1/ 391)، مرجع سابق.(1/233)
عن عبد اللّه بن مسعود أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم علمه التشهد في الصلاة فقالا: «كنا تحفظه عن عبد اللّه بن مسعود كما نحفظ حروف القران الواو و الألف» «1»، و قد شدد ابن مسعود رضي اللّه عنه في ذلك «حتى أخذ على أصحابه الواو و الألف فيه كي يوافقوا لفظ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم» «2».
و يدل قوله «الواو و الألف»: على تحري الحروف و عدم إبدالها بغيرها، و يحتمل أن يكون المعنى إتقان نطق الحرف، و التشديد على ما يخل به الإنسان عادة كالحركات (التي تسمى في علم الأصوات: الألفونات و المصوتات) التي قد تتعرض إلى البتر إذا كانت طويلة، أو إلى المط إذا كانت قصيرة... فيحمل على العموم، و ذكر الألف و الواو يدل على مقدار الإتقان في الحفظ و الأداء معا كما قال مجاهد:
«صليت خلف مسلمة بن مخلد فافتتح البقرة فما أخطأ فيها واو و لا ألفا» «3».
2- جعل الترتيل (التجويد) القراني مقياسا لدقة الترتيل في غيره:
و لذا كانوا يشبهون دقة تعليم أي شي ء اخر بتعلم ألفاظ القران كالتشهد و الاستفتاح و الاستخارة، و الأذان الذي يؤدى مرتلا مغنى به.
3- و قد كان صلّى اللّه عليه و سلم يعلمهم مد الصوت في الأذان فكيف تراه في تعليم القران؟:
فعن أبي محذورة رضي اللّه عنه قال: ألقى علي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم التأذين «حرفا حرفا» هو بنفسه فقال قل اللّه أكبر... قال: ثم أرجع فمد من صوتك... الحديث «4». فالمراد بمد الصوت هنا رفع الصوت و إطالة المد بنداوة.
__________________________________________________
(1) صحيح ابن خزيمة (1/ 438)، ابن أبي شيبة (1/ 262)، مرجعان سابقان.
(2) شرح معاني الاثار (1/ 265).
(3) ابن أبي شيبة (6/ 139)، الحاكم (3/ 565)، مرجعان سابقان، و مسلمة المذكور هو الأنصاري الزرقي صحابي معروف ولد في السنة الأولى للهجرة، كان أميرا لمصر و مات و هو وال عليها سنة 62 ه، انظر في ترجمته: سير أعلام النبلاء (3/ 125)، المعين في طبقات المحدثين ص 26، مشاهير علماء الأمصار ص 56.
(4) أبو داود 1/ 137، مرجع سابق.(1/234)
4- ديمومة الإقراء لهم بالترتيل ليصير عادة قرانية في التلاوة:
فكانوا يسمعون القران منه صلّى اللّه عليه و سلم مرارا، فيكون ذلك مراسا لهم على الحفظ و إتقان الأداء على ما هو معلوم من صلاته الجهرية، و حلقاته القرانية و إقرائه الفردي و تبليغه العام.
5- تقديم الأقرأ في أهم العبادات و هي الصلاة:
و قد أمر أن يؤمّ باقوم الأقرأ، و هذا يدل على اهتمامه بتعليمهم ما يتفاضلون فيه في القراءة، و الأقرأ «محتمل لشيئين أحدهما أن يكون المراد به أحفظهم للقران، و هو المتبادر الثاني: أحسنهم تلاوة للقران باعتبار تجويد قراءته و ترتيلها» «1»، و لا شك أن الأكثر قراءة هو الذي جمع بين الأمرين و عليه عمل عامة المسلمين إلى اليوم.
6- تقسيم قرأة القران إلى قسمين: الماهر، و المتعتع:
فعن عائشة- رضي اللّه تعالى عنها- قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «الماهر بالقران مع السّفرة الكرام البررة و الّذي يقرأ القران و يتتعتع فيه و هو عليه شاقّ و في لفظ: و الّذي يقرأ و هو يشتدّ عليه له أجران له أجران» «2».
و الماهر بالقران: أصل المهارة الحذق بالسباحة، و المراد بالمهارة بالقران جودة الحفظ وجودة التلاوة من غير تردد فيه «3»، فالماهر هو «الحاذق الكامل الحفظ الذي لا يتوقف و لا يشق عليه القراءة بجودة حفظه و إتقانه» «4»، و لذا ففي رواية البخاري: «مثل الذي يقرأ القران و هو حافظ له» «5» فالماهر من اجتمع فيه
__________________________________________________
(1) البحر الرائق (1/ 368)، مرجع سابق.
(2) البخاري (4/ 1882)، مسلم (1/ 549).
(3) انظر: فتح الباري (13/ 519)، مرجع سابق.
(4) انظر: شرح النووي (6/ 84)، مرجع سابق.
(5) البخاري (4/ 1882)، مرجع سابق.(1/235)
شرطان: جودة الحفظ، إتقان الأداء «فالمهارة في القران بهذا جودة التلاوة بجودة الحفظ فلا يتلعثم و لا يتشكك و تكون قراءته سهلة...» «1».
«و ثواب الماهر أن يكون مع الملائكة أو الرسل وياله من حظ و شرف، و سبب ذلك أن اللّه تعالى يسره اللّه تعالى عليه كما يسره على الملائكة فكان مثلها في الحفظ و الدرجة» «2»، «و يحتمل أن يكون معنى كونه مع الملائكة أن له في الاخرة منازل يكون فيها رفيقا للملائكة السفرة؛ لاتصافه بصفتهم من حمل كتاب اللّه تعالى، و يحتمل أن يراد أنه عامل بعملهم» «3».
و أما التتعتع فهو «التردد في الكلام عيا و صعوبة» «4» و الذي يتتعتع فيه هو الذي يتردد في تلاوته لضعف حفظه، أو لصعوبة أدائه و إتقانه و قوله «و هو شديد عليه» أي يصيبه شدة و مشقة، و الشدة و المشقة قد تكون في حفظه، و قد تكون في أدائه، و قوله «له أجران»: أجر بالقراءة، و أجر بتتعتعه في تلاوته و مشقته «5».
و ليس معنى الحديث أن الذي يتتعتع عليه له من الأجر أكثر من الماهر به، بل الماهر أفضل و أكثر أجرا؛ «لأنه مع السفرة و له أجور كثيرة، و لم يذكر هذه المنزلة لغيره» «6» كما يقال أيضا: «درجات الماهر فوق ذلك كله لأنه قد كان القران متعتعا عليه ثم ترقى عن ذلك إلى أن شبه بالملائكة» «7».
__________________________________________________
(1) انظر: فتح الباري (13/ 519)، مرجع سابق.
(2) انظر: فتح الباري (13/ 519)، مرجع سابق.
(3) انظر: شرح النووي (6/ 84)، مرجع سابق.
(4) انظر: القرطبي (1/ 7)، مرجع سابق.
(5) انظر: شرح النووي (6/ 84)، مرجع سابق.
(6) انظر: شرح النووي (6/ 84)، مرجع سابق.
(7) انظر: القرطبي (1/ 7)، مرجع سابق.(1/236)
7- فرضية أداء المستطاع في تلاوة القران الكريم من الترتيل:
كما دل عليه الحديث السابق.
8- و كان النبي صلّى اللّه عليه و سلم يجعل ميادين تجويد القران مختلفة ليرسخ بأكثر من أسلوب:
و ذلك كالصلاة الجهرية الجماعة، و حلقة التعليم، و التعليم الفردي، و الصلاة الفردية، و القراءة الفردية فكان يرفع الصوت بالقراءة، و لا شك أن من المقاصد الشرعية لذلك سماع القران لفظا و كيفية (أداء) فعن أم هانئ قالت: كنت أسمع قراءة النبي صلّى اللّه عليه و سلم و أنا على عريشي «1».
و تسلسلت هذه المنهجية فقد علم الصحابة رضي اللّه عنهم تلاميذهم ذلك كما تعلموه من النبي صلّى اللّه عليه و سلم فأخبروهم أن من أعظم واجبات حامل القران تلاوته بالحق أي بأحكامه ليس التلاوة المجردة فعن شقيق قال: أتى عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه بمصحف قد زين فقال: إن أحسن ما زين به المصحف تلاوته بالحق «2».
و قد نبه الصحابة رضي اللّه عنهم تلاميذهم إلى ضرورة التزام التجويد:
و ذموا تاركه فعن حذيفة رضي اللّه عنه: «إنّ من أقرأ الناس للقران منافقا لا يدع منه واوا و لا ألفا، يلفته بلسانه كما تلفت البقرة الخلى بلسانها» «3»، فقد وسم من لا يعطي الحروف حقها بالنفاق و ذلك أن اللفت هنا من قولهم: الرّاعي يلفت الماشية بالعصا، أي يضربها بها، لا يبالي أيها أصاب، و المعنى: «يقرؤه من غير رويّة و لا
__________________________________________________
(1) ابن ماجة (1/ 429)، و قال في مصباح الزجاجة (1/ 159)، مرجع سابق: «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات».
(2) سعيد بن منصور في سننه (2/ 485)، مرجع سابق، و قال المحقق: «سنده صحيح».
(3) ابن أبي شيبة (6/ 127)، مرجع سابق، صفة المنافق ص 59 للفريابي.(1/237)
تبصّر بمخارج الحروف، و تعمّد للمأمور به من الترتيل و الترسّل في التلاوة، غير مبال بمتلوّه كيف جاء؛ كما تفعل البقرة بالحشيش إذا أكلته، و أصل اللّفت ليّ الشي ء عن الطريق المستقيمة» «1»، و قد يحتمل عند الباحث أن يكون المعنى:
اهتمام المنافق بالقراءة حتى لا يترك منه ألفا و لا واوا إلا أتقنه ليفتن الناس بذلك.
و من ذلك ما جاء عن أبي جمرة قال قلت لابن عباس: إني (رجل) سريع القراءة، إني أهذ القران «و ربما قرأت القران في ليلة مرة أو مرتين». فقال ابن عباس: لأن أقرأ سورة البقرة فأرتلها أحب إلي من أن أقرأ القران كله «فإني كنت فاعلا لابد فاقرأه قراة تسمع أذنيك و يعيه قلبك» «2»... و هذا الأخير هو حدّ الحدر الاصطلاحي...
و صيغة التفضيل (أحب) في قول ابن عباس لا تدل على جواز قراءة القران بغير ترتيل بل تدل على الاستبداد، و تشبه في ذلك قوله سبحانه و تعالى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (الصف: 11)، أو يكون من باب الترتيل الذي بمعنى التأني و التؤدة (يطابق التحقيق الاصطلاحي)، و المفاضلة بينه و بين الهذ و هو الإسراع (يطابق الحدر الاصطلاحي) مع بقاء الأحكام الواجبة في كل منهما، كما سيأتي في مراتب الترتيل- إن شاء اللّه عزّ و جلّ- في المبحث القادم.
و من أهم معالم تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلم لهم أهمية التجويد: تعليمه اجتناب اللحن، و هو ما يأتي في الفصل التالي.
__________________________________________________
(1) انظر: الفائق في غريب الحديث (3/ 224).
(2) البيهقي في الكبرى (3/ 13)، مرجع سابق.(1/238)
المطلب الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم اجتناب اللحن «1»:
الدلالة اللغوية و الاصطلاحية للحن:
ذكر بعضهم للحن ستة معان: الخطأ في الإعراب، و اللغة، و الغناء، و الفطنة و التّعريض و المعنى «2» و منه قول الشاعر:
منطق صائب و تلحن أحيانا و خير الحديث ما كان لحنا
و أما اللحن في اصطلاح القراء فهو: هو الميل عن الصواب فهو خطأ يطرأ على القراءة فيخل بعرف القراءة و بمعناها و هو الجلي، أو يخل بالعرف دون المعنى و هو الخفي.
و قد جعل النسفي «الخطأ في القراءة ستة أنواع أحدها: في الاية و الثاني في الكلمة و الثالث في الحروف و الرابع في الإعراب و الخامس في قطع الكلمة و السادس في الوقف و الابتداء» ثم جعل للثلاثة الأولى ستة أوجه «و هي الزيادة و النقصان و التقديم و التأخير و الإبدال و التكرار... و جعل الضابط في فساد الصلاة في الغالب هو تغير المعنى عند أبي حنيفة و محمد و أما أبو يوسف فيشترط اللفظ» «3»، و على هذا الجماهير أن الخطأ اللفظي لا يغتفر في فساد الصلاة لقادر على التعلم.
__________________________________________________
(1) انظر في مناقشة موضوع اللحن من زاوية تجويدية: التمهيد ص 76، مرجع سابق، نهاية القول المفيد ص 22، مرجع سابق.
(2) انظر: لسان العرب (13/ 379 و 13/ 381)، مختار الصحاح (1/ 248)، مرجعان سابقان.
(3) من مصورة مخطوطة للشيخ أبي حفص عمر بن محمد بن أحمد النسفي ورقة 1 وجه أ في ملك الباحث، و الصورة مستجلبة من مخطوطات كتب خانة بالهند.(1/239)
و من معالم أمر النبي صلّى اللّه عليه و سلم باجتناب اللحن و تصحيحه:
1- الأمر بإعراب القران:
و ذلك كائن بإعطاء كل حرف حقه و مستحقه، و هو معنى التجويد، و الأمر بإعراب القران إبعاد للركن الأساسي من أركان اللحن الجلي، و قد «جاء عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم و عن أصحابه و تابعيهم رضوان اللّه عليهم من تفضيل إعراب القران، و الحض على تعليمه، و ذم اللحن و كراهيته ما وجب به على قراء القران أن يأخذوا أنفسهم بالاجتهاد في تعلمه» «1» كما جاء عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «أعربوا القران و التمسوا غرائبه» «2»، و عن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «أعربوا القران فإن من قرأ القران فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات و كفارة عشر سيئات و رفع عشر درجات» «3»، و معنى إعراب القران كما قال الحليمي: «شيئان أحدها أن يحافظ على الحركات التي بها يتميز لسان العرب على لسان العجم، و الاخر أن يحافظ على أعيان الحركات و لا يبدل شيئا منه بغير لأن ذلك ربما أوقع اللحن أو غير المعنى» «4»، و كذلك أن يؤدي لكل حرف حقه من الأداء حتى يبرز الكلام باللفظ تماما، و إنما تكون دقائق العربية بتطبيق دقائق التجويد لأن حقيقة التجويد البحث عن أحوال الحروف و دقائق النطق بها «5».
__________________________________________________
(1) تفسير القرطبي (1/ 23)، مرجع سابق و قد نقل ذلك عن أبي بكر الأنباري.
(2) الحاكم (2/ 477)، مرجع سابق و قال: «هذا حديث صحيح الإسناد على مذهب جماعة من أئمتنا و لم يخرجاه»، و في مجمع الزوائد (7/ 163): «رواه أبو يعلى و فيه عبد اللّه بن سعيد بن أبي سعيد المقبري و هو متروك»، و هو في ابن أبي شيبة (6/ 116)، و انظر: خالدون الأحدب (دكتور): زوائد تاريخ بغداد على الكتب السنة (6/ 216)، دار القلم- دمشق ط 1، 1996 م- 1417 ه، و قال في إسناده عند الخطيب: «إسناده ضعيف جدا».
(3) الطبراني في الأوسط (7/ 307)، مرجع سابق، مجمع الزوائد (7/ 163)، مرجع سابق، و قال: «رواه الطبراني في الأوسط و فيه نهشل و هو متروك».
(4) شعب الإيمان (2/ 429)، مرجع سابق.
(5) انظر: لسان العرب (1/ 590)، مرجع سابق.(1/240)
و تسلسلت المنهجية فقال ابن مسعود رضي اللّه عنه: «أعربوا القران فإنه عربي و سيكون بعدكم أقوام يثقفونه و ليسوا بخياركم» «1»، و الظاهر أن معنى يثقفونه أي يلتقطون كلامه التقاطا كأنهم لا يبالون بإعرابه، أو يسردونه دون مبالاة ببيانه، و كان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يقول: «أعربوا القران فإنه عربي، و تفقهوا في السنة، و أحسنوا عبارة الرؤيا، و إذا قص أحدكم على أخيه فليقل اللهم إن كان خيرا فلنا و ان كان شرا فعلى عدونا» «2».
2- الأمر الصريح باجتناب اللحن عموما و تصحيحه لمن وقع فيه:
فعن أبي الدرداء رضي اللّه عنه قال: سمع النبي صلّى اللّه عليه و سلم رجلا قرأ فلحن فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «أرشدوا أخاكم» «3» و عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه قال: «تعلموا السنة و الفرائض و اللحن كما تعلموا القران» «4»، و عن أبي بن كعب قال: «تعلموا اللحن في القران كما تعلمون القران» «5». و أما ما ورد عن ابن عباس رضي اللّه عنهما مرفوعا: «إذا قرأ القارئ فأخطأ أو لحن أو كان أعجميا كتبه الملك كما نزل» «6» فالمراد به- إن صح- كأن يبدل «حرفا بحرف لفقد معلم أو عجز أو لحن فيه بأن
__________________________________________________
(1) سعيد بن منصور (1/ 146)، الطبراني في الكبير (9/ 139)، شعب الإيمان (2/ 429)، مراجع سابقة، و قال فيه الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 163)، مرجع سابق: «رواه الطبراني من طرق و فيها ليث بن أبي سليم و فيه ضعف و بقية رجال أحد الطرق رجال الصحيح»، و معنى يثقفونه كما قال البيهقي في شعب الإيمان (2/ 541)، مرجع سابق: «يعني يسردونه»، و جاء الجزء الأول منه «أعربوا القران» مرفوعا و موقوفا في المعجم الكبير للطبراني (9/ 139)، مرجع سابق.
(2) سعيد بن منصور (2/ 267)، مرجع سابق.
(3) الحاكم (2/ 477)، مرجع سابق، و قال: «صحيح الإسناد و لم يخرجاه».
(4) شعب الإيمان (2/ 429)، مرجع سابق.
(
5) شعب الإيمان (2/ 429)، مرجع سابق.
(6) الفردوس (1/ 289)، مرجع سابق.(1/241)
حرفه أو غير إعرابه» «1»، و ليس معنى هذا الحديث إلا معنى الاخر (الماهر بالقران) ففي هذا الحديث «أن القارئ يكتب له ثواب قراءته، و إن أخطأ و لحن لكن محله إذا لم يتعمد و لم يقصر في التعلم و إلا فلا يؤجر بل يؤزر» «2».
و التجويد معرفة الصواب في القراءة و اجتناب الخطأ، فمعرفة اللحن هي الركن الثاني من ركني الإتقان في هذا الباب، و قد أشار إلى ذلك الخاقاني بقوله:
فأول علم الذكر إتقان حفظه و معرفة باللحن من فيك إذ جرى
فكن عارفا باللحن كيما تزيله و ما للذي لا يعرف اللحن من عذر
«3» ملحوظة: ظهر أن أكثر ما ورد من أحاديث و اثار في هذا المطلب ضعيفة ضعفا غير منجبر لكن الباحث ذكرها محاولة للإحاطة بما ورد في الباب، و لأن أصل الموضوع قائم في التلقي ذاته... إذ عملية الإقراء و التلقين قائمة على سماع الصواب و تسميعه في اللفظ و الأداء، و نفي الخطأ المنع منه في اللفظ و الأداء أيضا.
المطلب الثالث: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم ضوابط التجويد:
و كما أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم علمهم التجويد و أهميته، و نفرهم من اللحن فقد علمهم الضوابط التي تضبط طريقة أداء اللفظ القراني لئلا يحدث البغي في ترتيل ألفاظ القران، و هيئات التصويت بحروفه بحيث لا يغالى في تجويد القران، و لا يوغل في التغني به حتى يخرج عن كونه قرانا معظّم اللفظ و المعنى إلى جعله كلاما مغنى اللفظ متروك المعنى، و من معالم تعليمه في ذلك:
__________________________________________________
(1) فيض القدير (1/ 416)، مرجع سابق، و قال: «و فيه هشيم بن بشير قال الذهبي حافظ حجة مدلس عن أبي بشر مجهول».
(2) فيض القدير (1/ 416)، مرجع سابق.
(
3) محمد مكي نصر: نهاية القول المفيد في علم التجويد ص 22، طبع بمطبعة مصطفى البابي الحلبي و أولاده بمصر: راجع هذه النسخة و صححها على محمد الضباع ربيع الثاني 1349 ه.(1/242)
1- المنع من الغلو في ترتيل لفظ القران:
فعن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «إن من إجلال اللّه إكرام... حامل القران غير الغالي فيه و الجافي عنه...» «1»، و الغلو هو المبالغة في التجويد، أو الإسراع في القراءة بحيث يمنعه عن تدبر المعنى، و التشديد و مجاوزة الحد في العمل به، و تتبع ما خفي منه و اشتبه عليه من معانيه، و أما قوله «و لا الجافي عنه» أي و غير المتباعد عنه المعرض عن تلاوته و إحكام قراءته و إتقان معانيه و العمل بما فيه «2»، و لذا نبه أهل العلم على ضرورة ألايخرج التغني بالقران عن حده المعلوم، فالأمر بالتجويد و ما يتبعه من تغن: «إذا لم يخرجه التغني عن التجويد، و لم يصرفه عن مراعاة النظم في الكلمات و الحروف، فإن انتهى إلى ذلك عاد الاستحباب كراهة» «3».
2- التخفيف في المطالبة بالدقة البالغة لأحكام التجويد خاصة للعامة:
كما جاء عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال: خرج علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و نحن نقرأ القران و فينا الأعرابي و الأعجمي فقال: «اقرؤا فكل حسن، و سيجي ء أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه و لا يتأجلونه» «4»، و عن سهل بن سعد الساعدي رضي اللّه عنه قال: خرج علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يوما و نحن نقترئ فقال: «الحمد للّه كتاب اللّه واحد و فيكم الأحمر و فيكم الأبيض و فيكم الأسود اقرؤه قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقوم السهم يتعجل أجره و لا يتأجله» «5».
__________________________________________________
(1) أبو داود (4/ 261)، مرجع سابق.
(2) انظر: عون المعبود (13/ 32)، مرجع سابق.
(
3) فيض القدير (4/ 68)، مرجع سابق.
(4) سنن أبي داود (1/ 220)، مرجع سابق.
(5) سنن أبي داود (1/ 220)، مرجع سابق.(1/243)
فقوله: «اقرؤا فكل حسن»: أي فكل واحدة من قراءتكم حسنة مرجوة للثوب، و لا عليكم ألاتقيموا ألسنتكم إقامة القدح و هو السهم قبل أن يراش «و سيجي ء أقوام يقيمونه»: أي يصلحون ألفاظه و كلماته و يتكلفون في مراعاة مخارجه و صفاته (كما يقام القدح): أي يبالغون في عمل القراءة كمال المبالغة لأجل الرياء و السمعة و المباهاة و الشهرة، و قال الطيبي- رحمه اللّه تعالى-: «و في الحديث رفع الحرج و بناء الأمر على المساهلة في الظاهر، و تحري الحسبة و الإخلاص في العمل، و التفكر في معاني القران» «1»، و هذا يعطي سعة في عدم التعمق في إتقان التجويد، و التساهل في ذلك ما دامت أصول القواعد ظاهرة و ذلك مثل وجود الحد الأدنى من المدود الفرعية فيغض النظر عن توفر الكمال فيها، و جاء رجل إلى نافع فقال:
تأخذ عليّ الحدر، فقال نافع: ما الحدر؟ ما أعرفها، أسمعنا. قال: فقرأ الرجل، فقال نافع: الحدر، أو قال حدرنا، ألانسقط الإعراب، و لا ننفي الحروف، و لا نخفف مشددا، «و لا نشدد مخففا»، و لا نقصر ممدودا، و لا نمد مقصورا، قراءتنا قراءة أكابر أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم سهل جزل، لا نمضغ، و لا نلوك «2».
و قد أشار إلى بعض ذلك الإمام السخاوي في منظومه بقوله:
لا تحسب التجويد مدا مفرطا أو مد ما لا مد فيه لوان
أو أن تشدد بعد مدّ همزة أو أن تلوك الحرف كالسكران
أو أن تفوه بهمزة متهوعا فيفر سامعها من الغثيان
للحرف ميزان فلا تك طاغيا فيه و لا تك مخسر الميزان
«3»
__________________________________________________
(1) عون المعبود (3/ 42)، مرجع سابق.
(2) (الداني) أبو عمرو عثمان بن سعيد الأندلسي ت 444 ه: التحديد في الإتقان و التجويد هامش ص 93، مرجع سابق.
(
3) (ابن أم قاسم) الحسن بن قاسم المرادي ت 749 ه: المفيد في شرح عمدة المجيد في النظم و التجويد ص 15، تحقيق: د. علي حسين البواب، مكتبة المنار، 1407 ه- 1987 م، الزرقاء- الأردن.(1/244)
3- ألا تؤدي أحكام الترتيل إلى إلغاء الغاية من التلاوة و هي التدبر:
فتصبح القراءة بذلك مجرد مثار للطرب: كما قال سبحانه و تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ (ص: 29)، و لذا قيل في قول أنس رضي اللّه عنه: «يمد صوته مدا» «أي يطيل الحروف الصالحة للإطالة يستعين بها على التدبر و التفكر و تذكير من يتذكر» «1» و ليس الإطالة للتطريب المجرد.
و هذا الوصف هو الذي يتأتى منه الغرض من التلاوة و هو التدبر و التأمل كما في قوله سبحانه و تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ (النساء: 82)، كما أنه هو الوصف الذي يتأتى معه الغرض من خشوع القلب كما في قوله جل جلاله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ (الزمر: 23) و لا تتأثر به الجلود و القلوب إلا إذا كان مرتلا، فإذا هذا كالشعر أو الكلام العادي لما فهم، و إذا كان مطربا كالأغاني لما أثر، فوجب الترتيل كما بين «2».
و تسلسلت المنهجية فنقل الصحابة ذلك الهم فعلموه تلاميذهم فعن حذيفة قال: «ليقرأن القران أقوام يقيمونه كما يقام القدح لا يدعون منه ألفا و لا يجاوز إيمانهم حناجرهم» «3».
4- عدم التدافع المعنوي و اللفظي في القران:
فنهاهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم عن أن يخطئ بعضهم بعضا فيما كان الأمر فيه واسعا في تأدية الألفاظ أو في دلالاتها، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:
سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قوما يتدارؤن في القران فقال: «إنما هلك من كان قبلكم
__________________________________________________
(
1) حاشية السندي (2/ 179)، مرجع سابق.
(2) انظر: أضواء البيان (8/ 610)، مرجع سابق.
(3) سعيد بن منصور في سننه (1/ 249)، مرجع سابق.(1/245)
بهذا ضربوا كتاب اللّه بعضه ببعض، و إنما نزل كتاب اللّه يصدق بعضه بعضا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوه، و ما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه» «1».
__________________________________________________
(1) أحمد (2/ 185)، مرجع سابق، الجامع لمعمر بن راشد (11/ 216)، مرجع سابق.(1/246)
المبحث الرابع: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم ترتيل ألفاظ القران الكريم:
و فيه ثلاثة مطالب:
التجويد- كمصطلح- استحدث ليعبّر عن الترتيل و نحوه من المصطلحات الشرعية، فلا بد من بسط مفهوم الترتيل لنرى كيف علمه النبي صلّى اللّه عليه و سلم لأصحابه رضي اللّه عنهم، و اقتضى ذلك أن ينقسم المبحث إلى ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الترتيل و أركانه.
المطلب الثاني: مثال على فروع الترتيل التي علمها النبي صلّى اللّه عليه و سلم.
المطلب الثالث: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم مراتب الترتيل.
المطلب الأول: الترتيل و أركانه:
الترتيل في الوضع اللغوي:
يفهم من دلالات الوضع اللغوي للترتيل أنه الذي يجمع عدة دلائل «1»:
1- حسن التنسيق و التنضيد للشي ء المرتل:
و منه «ثغر رتل و رتل: حسن التنضيد مستوي النبات» و الرتل: حسن تناسق الشي ء.
2- حسن التنسيق بين أجزاء الشي ء المرتل مع شدة البيان
و الظهور لها بحيث يتميز بعضها عن بعض: و منه يقال «ثغر رتل و هو المفلّج الذي بين أسنانه فروج لا يركب بعضها بعضا، و رتّل الكلام: أحسن تأليفه و أبانه و تمهّل فيه»، و هذا لا يكون إلا إذا ميز كل حرف عن الاخر، و أبان كل حركة من الاخرى.
__________________________________________________
(1) انظر: لسان العرب (11/ 265)، مرجع سابق.(1/247)
3- أن يكون حسنه على تؤدة:
و منه كلام رتل أي مرتّل إذا كان «حسنا على تؤدة».
4- أن يكون التبيين و التمهل و التؤدة بغير بغي
يخرجه عن سنن الكلام المرتل، و يضبط هذا في ترتيل لفظ القران الكريم التلقي.
5- و هذا المعنى اللغوي للترتيل هو الذي يستلزم السكينة و الوقار
فلا يكون التنسيق و التنضيد للكلام القراني، و الإبانة و التأني... مخرجا له عن الكلام القراني إلى الغناء المتخلع لما هو غير قران...
و اجتمع هذا كله في تأويل قوله سبحانه و تعالى: وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (المزمل: 4)؛ فقد قال بعض اللغويين فيها: «ما أعلم الترتيل إلّا التحقيق و التبيين و التمكين»، أراد في قراءة القران؛ و ترتيل القراءة: التأني فيها و التمهّل و تبيين الحروف و الحركات «1»، و لذا ففي صفة قراءة النبي صلّى اللّه عليه و سلم كان يرتّل اية اية «2».
و إذا كان الرسول صلّى اللّه عليه و سلم كما قالت عائشة- رضي اللّه تعالى عنها-: يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه لم يكن يسرد كسردكم و في لفظ إنما كان حديث رسول اللّه فصلا تفهمه القلوب «3»... فكيف به في ترتيل لفظ القران؟، و إذا كانت عائشة- رضي اللّه تعالى عنها- قد حفظت عنه ذلك في كلامه الشريف فكيف تراها تعلمت منه ترتيل لفظ القران الكريم، و اللّه جل جلاله يقول: وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَ الْحِكْمَةِ (الأحزاب: 34)، و لذا حفظ عنه ترتيله للفظ القران الكريم بدقة بالغة أزواجه صلّى اللّه عليه و سلم.
__________________________________________________
(1) لسان العرب (11/ 265)، مرجع سابق.
(2) نص حديث حذيفة مرفوعا: (فقرأ قراءة حسنة يرتل فيها يسمعنا...) أخرجه الإمام أحمد (5/ 401)، مرجع سابق.
(3) البخاري (3/ 1307)، مسلم (4/ 2298)، أبو داود (3/ 320)، مراجع سابقة.(1/248)
مواضع ذكر كلمة الترتيل في القران الكريم:
وردت كلمة الترتيل في موضعين في القران الكريم:
الأول: جاء على سبيل الإخبار عن كيفية قراءة الملك الذي أقرأ النبي صلّى اللّه عليه و سلم حال تعليمه له صلّى اللّه عليه و سلم و هو قوله سبحانه و تعالى: وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (الفرقان: 32)، فقد كان جبريل عليه السّلام إذا نزل بالعشر من القران أو نحوها نزل به مرتلا، و إسناد الفعل إلى اللّه سبحانه و تعالى من باب إسناد ما هو للمأمور للامر زيادة في التأكيد على أن ما أداه جبريل عليه السّلام هو ما أمر بتأديته حرفيا، و عن ابن عباس في هذه الاية قال: «فصل القران من الذكر فوضع في بيت العزة في السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل على النبي صلّى اللّه عليه و سلم يرتل ترتيلا»، و في لفظ: «فجعل جبريل ينزله على النبي صلّى اللّه عليه و سلم يرتله ترتيلا» قال سفيان: خمس ايات و نحوها «1» هكذا (يرتله ترتيلا) و الفعل المضارع دال على أن الجملة حالية يراد به الكيفية المعروفة.
الثاني: في سورة المزمل على سبيل الأمر، و هو قوله سبحانه و تعالى: وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (المزمل: 4).
أركان الترتيل:
اجتمع لنا من خلال السابق أن متضمنات الترتيل و أركانه ستة هي:
أولا: تبيين الكلام المرتل:
و ذلك يكون بتبيين الحروف و الحركات المكونة للكلام، فقد قال ابن عباس رضي اللّه عنهما في قوله عزّ و جلّ: وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (المزمل: 4)؛ قال: «بيّنه تبيينا» «2»،
__________________________________________________
(1) الضياء في المختارة (10/ 154)، مرجع سابق.
(2) لسان العرب (11/ 265).(1/249)
و قد أكّد الأمر بالترتيل و الإخبار عنه في ايتي الفرقان و المزمل بالمصدر، و ذلك لما لأنه: «يدل على المبالغة على وجه لا يلتبس فيه بعض الحروف ببعض، و لا ينتقص من النطق من مخرجه المعلوم مع استيفاء حركته المعتبرة» «1».
و هذا التبيين في قراءة المرتّل يجب أن يكون بحيث يتميز كل حرف عن الاخر، و لا يتميز عن الاخر إلا إذا عرف حق الحرف و مستحقه (التجويد)، و لا يكون ذلك بالضرورة بالتوصيف العلمي الذي درج عليه المتأخرون، بل بالتطبيق العملي، فقد كان النبي صلّى اللّه عليه و سلم يعلمهم هذا على هيئة دقيقة، و كانوا يتعلمون منه الحروف و حقوقها عمليا، على أن معظم أحكام التجويد كان معروفا عند العرب بسليقتهم اللغوية، حتى استدل العلماء على جواز نطق الضاد ظاء بأدلة ليس منها- فقط- ما ذكره «ابن جني في كتاب التنبيه و غيره أن من العرب من يجعل الضاد ظاء مطلقا في جميع كلامهم و هذا قريب و فيه توسع للعامة» «2»، بل ما ذكره الفخر الرازي في تفسيره من أن «المختار عندنا أن اشتباه الضاد بالظاء لا يبطل الصلاة و يدل عليه أن المشابهة حاصلة فيهما جدا و التميز عسير فوجب أن يسقط التكليف بالفرق و بيان المشابهة، و إذا ثبت هذا فنقول لو كان الفرق معتبرا لوقع السؤال عنه في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و في أزمنة الصحابة لا سيما عند دخول العجم فلما لم ينقل وقوع السؤال عن هذا البتة علمنا أن التمييز بين هذين الحرفين ليس في محل التكليف» «3».
__________________________________________________
(1) انظر: معاني القران للزجاج.
(2) (شعلة) أبو عبد اللّه محمد بن أحمد بن محمد بن الحسين الموصلي ت 656 ه: شرح شعلة على الشاطبية المسمى كنز المعاني شرح حرز الأماني ص 28، المكتبة الأزهرية للتراث.
(3) انظر: تفسير الرازي.(1/250)
ثانيا: التؤدة و التمهل في النطق بأجزاء الكلام المرتل:
سواء كانت حركات و حروفا، حتى كأن الناطق به يقرؤه حرفا حرفا، فمعنى (رتل) أي: «انبذه حرفا حرفا»، و الصورة التطبيقية من تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلم لصحابته رضي اللّه عنهم ما تعلمته أم سلمة- رضي اللّه تعالى عنها- من كيفية ترتيل القران الكريم فقد سأل يعلى بن مملك أم سلمة عن قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و صلاته فقالت: و ما لكم و صلاته؟ كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى ثم يصلي قدر ما نام ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح و نعتت له قراءته فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا «1».
فقوله في الرواية (ثم نعتت) أي وصفت قراءة مفسرة أي مبينة حرفا حرفا أي كان يقرأ بحيث يمكن عد حروف ما يقرأ، قال الطيبي: «يحتمل وجهين الأول أن تقول كانت قراءته كيت و كيت و الثاني أن تقرأ مرتلة كقراءة النبي صلّى اللّه عليه و سلم» «2»، و «المراد حسن الترتيل و التلاوة على نعت التجويد» «3».
و من أقوى أدلة التأني و التؤدة قوله جل جلاله: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ (الإسراء: 106)، و قد استدل البخاري بهذه الاية على الترتيل «4»، و عن كريب قال: سألت ابن عباس عن جهر النبي صلّى اللّه عليه و سلم بالقراءة بالليل. فقال:
«كان يقرأ في حجرته قراءة لو شاء حافظ أن يتعلمها لتعلمها» «5».
تسلسل المنهجية:
فقد أنكر ابن مسعود رضي اللّه عنه على تلاميذه الهذ في القراءة فعن أبي وائل قال غدونا على عبد اللّه فقال رجل: قرأت المفصل البارحة. فقال:
__________________________________________________
(1) صحيح ابن خزيمة (2/ 188)، مرجع سابق.
(2) تحفة الأحوذي (8/ 194)، مرجع سابق.
(3) تحفة الأحوذي (8/ 194)، مرجع سابق.
(4) البخاري (4/ 1924)، مرجع سابق.
(5) شعب الإيمان (2/ 383)، مرجع سابق.(1/251)
و تقصّ، و قيل: ما تتكلم به كقولك فلان يتلو كتاب اللّه أي: يقرؤه و يتكلم به، ثم صارت التلاوة حقيقة عرفية في قراءة القران الكريم، و قد تكون قراءة لغيره لكن في النادر و عند التقييد بذلك «1».
و سميت القراءة تلاوة لأن الايات أو الكلمات أو الحروف يتلو بعضها بعضا في الذكر، و التلو التبع «2»، كما قال الثعالبي: «يقرؤنه حق قراءته، و هذا أيضًا يتضمن الاتباع و الامتثال» «3»، «فاستعملت التلاوة في القراءة لأنه يتبع بعض الكلام ببعض في حروفه حتى يأتي على نسقه» «4»، و في قوله سبحانه و تعالى:
هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ (يونس: 30)، قرأ حمزة و الكسائي تتلو «من التلاوة أي تقرأ ذكر ما قدمت أو من التلو أي تتبع عملها فيقودها إلى الجنة أو إلى النار» «5»، و التلاوة بمعنى القراءة من أعظم خصائص القران الكريم فالكتب المتقدمة لا يجب فيها هذه التلاوة «6».
ثانيا: الاتباع:
إذ «التاء و اللام و الواو أصل واحد، و هو الإتباع. يقال: تلوته إذا تبعته» «7».
__________________________________________________
(1) انظر: التبيان في تفسير غريب القران (ص 351).
(2) التبيان في غريب القران (ص 82)، مرجع سابق.
(
3) (الثعالبي) عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الجزائري: الجواهر الحسان في تفسير القران (1/ 104)، دار القلم، بيروت.
(4) انظر: القرطبي 1/ 369، مرجع سابق.
(5) تفسير البيضاوي المسمى بأنوار التنزيل و أسرار التأويل (3/ 195).
(6) (القاضي عبد الجبار) قاضي القضاة عماد الدين أبي الحسن عبد الجبار بن أحمد ت 415 ه: تنزيه القران عن المطاعن، طبعت على نفقة: محمد سعيد الرافع- صاحب المكتبة الأزهرية- ط 1 1329 ه- طبعت بمطبعة الجمالية بمصر.
(7) انظر: معجم مقاييس اللغة (1/ 181)، مرجع سابق.(1/252)
المزمل: «اقرأه مترسلا بتبيين الحروف و إشباع الحركات»، حتى يكاد المرء يعد الحروف الخارجة من فم القارئ، و أخرج العسكري في المواعظ عن علي: «بينه تبيينا و لا تنثره نثر الدقل، و لا تهذه هذ الشعر قفوا عند عجائبه و حركوا به القلوب، و لا يكن هم أحدكم اخر السورة» «1».
رابعا: حسن التنسيق و التنضيد:
و المراد التنضيد لعلاقة كل حرف بالاخر، و هذا ما نطلق عليه تحقيق الحروف، و لذا جعل الزجاج أصل الترتيل: «التفنين و التنسيق و حسن النظام»، و قد كان النبي صلّى اللّه عليه و سلم يعلمهم التشهد كما يعلمهم السورة من القران.
خامسا: أن يكون ذلك كله بغير بغي:
فلا يتولد من الحرف اخر، و لا من الحركة حرفا، فالتّرتيل في القراءة «الترسل فيها و التبيين بغير بغي» «2».
و سلك الباحث هذا السبيل في الجمع بين الأقوال لأن عادة السلف أن يفسروا الشي ء ببعض معناه، «إذ المراد من هذا الأمر التبيين و الإفصاح و التحسين، حتى يؤدي القران على أكمل وجه، فيظهر حسنه، و يبدو رونقه، و ذلك لا يتم إلا بالتجويد» «3».
سادسا: أن يكون ذلك على نحو مستملح مستطاب:
في حدود التلقي الذي ضبط و حدّد بقواعد موزونة، و هو الذي أمر به النبي صلّى اللّه عليه و سلم فقال: «زينوا أصوآتاكم بالقران» كما سيأتي إن شاء اللّه عزّ و جلّ.
__________________________________________________
(1) روح المعاني (29/ 104)، مرجع سابق.
(2) مختار الصحاح (11/ 98)، مرجع سابق.
(3) انظر: سنن القراء ص 68، مرجع سابق.(1/253)
و قد كان النبي صلّى اللّه عليه و سلم يعلمهم ذلك عمليا في حلقات الإقراء:
أو في التبليغ العام، أو في الصلوات الجهرية من فرائض و تطوع، و حسبك أن تكون ثلاث صلوات يعلمهم فيها أداء القران تلقينا.
و من ذلك ما جاء عن حذيفة رضي اللّه عنه قال: أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ذات ليلة لأصلى بصلاته فافتتح فقرأ قراءة ليست بالخفية و لا بالرفيعة قراءة حسنة يرتل فيها يسمعنا.. «1»..
و تستلزم هذه الستة ركنا سابعا هو: السكينة و الوقار:
إذ لا بد منه في الترتيل لتضبطه «و هو ضابط من ضوابط التجويد و التغني».
زمن القراءة حال الترتيل:
لا شك أن الترتيل بهذه الأركان يقتضي أن تكون القراءة أطول من المقروء و هذا سمت النبي صلّى اللّه عليه و سلم في ترتيله فعن حفصة رضي اللّه عنها قالت: ما رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في سبحته قاعدا قط حتى كان قبل وفاته بعام فكان يصلي قاعدا و يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها «2». و هذا هو المعمول به عند المسلمين في قراءة القران، و إن تفاوت زمن القراءة عندهم.
و قد تعلم الصحابة رضي اللّه عنهم كيفية ترتيله حتى النساء، كما في السؤال الذي سئلته أم سلمة- رضي اللّه تعالى عنها- عن قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فوصفتها له بالأداء التطبيقي كما سبق.
__________________________________________________
(1) أحمد (5/ 401)، مرجع سابق.
(2) مسلم (1/ 507)، ابن خزيمة (2/ 238)، ابن حبان (6/ 253)، أبو عوانة (1/ 532)، مراجع سابقة.(1/254)
و الترتيل مطلوب من القارئ في الدنيا و الاخرة:
و قد روى هذا سلسلة القراء فعن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن عبد اللّه بن عمرو رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «يقال لصاحب القران اقرأ وارق و رتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عن اخر اية تقرؤها» «1»، فقوله «و رتل» أي: «اقرأ بالترتيل و لا تستعجل بالقراءة كما كنت ترتل في الدنيا من تجويد الحروف و معرفة الوقوف» «2».
العلاقة بين الترتيل و التجويد:
و مما سبق، و بمقارنة ما فصلناه من أركان الترتيل السبعة بأركان التجويد الثلاثة، و بالمقارنة التي تضمنها الكلام التفصيلي عن أركان الترتيل بتعريف التجويد نصل إلى حقيقة ظاهرة في العلاقة بين الترتيل و التجويد: فالعلاقة بينهما هي المثلية، فترتيل القران هو التجويد، إلا أنه اصطلاح حادث، ثم صار يطلق أكثر على التوصيف العلمي الدقيق منه على المطلوب العملي.
المطلب الثاني: مثال على فروع الترتيل التي علمها النبي صلّى اللّه عليه و سلم (المد):
يمثل المد أساس هيئة التغني الواضحة المميزة للقران من أحكام التجويد (الترتيل)، فكان لا بد من الكلام على ما يدل على تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلم لأصحابه هذا الحكم، و قد اعتنى العلماء بإيضاح ذلك حتى بوب أهل العلم له أبوابا مستقلة، و منهم الإمام البخاري «3» مع أن التلقي كاف في الإثبات لذلك، لكن نذكر هذا التفصيل لزيادة البيان و الإيضاح:
__________________________________________________
(1) السنن الكبرى للنسائي (5/ 22)، مرجع سابق.
(2) تحفة الأحوذي (8/ 187)، مرجع سابق.
(3) انظر: البخاري (4/ 1924)، مرجع سابق، و انظر: أصوات القران ص 20، مرجع سابق.(1/255)
1- فقد كانت يظهر في قراءة النبي صلّى اللّه عليه و سلم المد فقد قال قتادة: سألت أنسا كيف كانت قراءة النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: «كانت مدا» «1»، و في لفظ: «كان يمد مدا» «2»، و في لفظ «كان يمد صوته مدا» «3»، أي كانت ذات مد «4»، فيطيل الحروف الصالحة للإطالة يستعين بها على التدبر و تذكير من يتذكر «5».
2- و مثّل أنس لهذا النوع من المد فقرأ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم (الفاتحة: 1) يمد بِسْمِ اللَّهِ و يمد ب الرَّحْمنِ و يمد ب الرَّحِيمِ «6».
و هذا التمثيل يدل على غاية التحقيق في الترتيل فإن مد الكلمات الثلاث (اللّه، الرحمن، الرحيم) و المراد مد اللام التي قبل الهاء من الجلالة، و الميم التي قبل النون من الرحمن، و الحاء من الرحيم في غير الوقف عليها هو من نوع الأصلي، و معلوم أن المد الأصلي مقداره حركتان فهو مد طبيعي، و أجاز بعض علماء التجويد مده ثلاث حركات عند الأخذ بوجه التحقيق... و هذا ما ينطبق على هذه الرواية و لذا رجح العلماء أن «المراد من الترجمة الضرب الأول» «7»، و في هذا إثبات للمد الفرعي من باب الأولى، و قد قال الداني في حديث أنس رضي اللّه عنه:
«و يمد (الرحمن)، و يمد (الرحيم)، و هو أصل في تحقيق القراءة، و تجويد الألفاظ،
__________________________________________________
(1) البخاري (4/ 1925)، مرجع سابق، و انظر: (الترمذي) أبو عيسى محمد بن سؤرة الترمذي ت 279 ه: مختصر الشمائل المحمدية، اختصره و صححه: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر و التوزيع، الرياض، ط 4، 1413 ه.
(2) البخاري (4/ 1924)، مرجع سابق.
(3) السنن الكبرى للنسائي (1/ 347)، صحيح ابن حبان (14/ 222)، مرجعان سابقان.
(4) فتح الباري (9/ 91)، مرجع سابق.
(5) (السندي) أبو الحسن نور الدين بن عبد الهادي (1138 ه): حاشية السندي على النسائي (2/ 179)، مراجعة: عبد الفتاح أبو غدة 1406 ه- 1986 م، مكتبة المطبوعات الإسلامية- حلب.
(6) البخاري (4/ 1925)، مرجع سابق.
(7) فتح الباري (9/ 91)، مرجع سابق.(1/256)
و إخراج الحروف من مواضعها، و النطق بها على مراتبها، و إيفائها صيغتها، و كل حق هو لها، من تبيين و مد و تمكين و إطباق و تفش و صفير و غنة و تكرير و استطالة و غير ذلك، على مقدار الصيغة و طبع الخلقة، من غير زيادة و لا نقصان» «1».
3- و أخرج ابن أبي داود من طريق قطبة بن مالك رضي اللّه عنه: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قرأ في الفجر (ق) فمر بهذا الحرف لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (ق: 10) فمد نضيد «2»، و المد في نَضِيدٌ من نوع العارض للوقف؛ إذ عادة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم الوقف على رؤوس الاي. و هذا المد في قراءته صلّى اللّه عليه و سلم دائم سواء كان في الصلاة و غيرها.
4- و لا تنبغي المماراة في مده صلّى اللّه عليه و سلم لما يمد من الحروف في قراءة القران فقد كان كذلك ديدنه فيما يردده من شعر مرتجز يشبه الحداء في أماكنه فعن البراء بن عازب يحدث قال: لما كان يوم الأحزاب و خندق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه و كان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة و هو ينقل من التراب يقول:
اللهم لو لا أنت ما اهتدينا و لا تصدقنا و لا صلينا
فأنزلن سكينة علينا و ثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا و إن أرادوا فتنة أبينا
قال: ثم يمد صوته باخرها «3» و لا يعترض على هذا بأن المراد هو رفع الصوت لا إطالته لأن المقام مقام ارتجاز مسموع على ما هو معتاد معلوم، و مد الصوت يناسب الألف تماما في أبينا و تدل عليه الأحوال المعتادة في مثل هذا.
__________________________________________________
(1) التحديد في الإتقان و التجويد ص 79، مرجع سابق.
(2) فتح الباري (9/ 91)، مرجع سابق.
(3) البخاري (4/ 1507)، مرجع سابق.(1/257)
و قد يمد المدود غير الواجبة مما هو جائز المد في قراءة التحقيق مثل ما اصطلح على تلقيبه بمد البدل كمده لكلمة (امين) فعن وائل بن حجر رضي اللّه عنه قال: كان النبي صلّى اللّه عليه و سلم إذا قال أمين رفع بها صوته، و في رواية: سمعت النبي صلّى اللّه عليه و سلم إذا قال: وَ لَا الضَّالِّينَ (الفاتحة: 7) قال: امين رفع بها صوته في الصلاة، و قال رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لما قال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ (الفاتحة: 7) قال امين يمد بها صوته «1»، ف «رفع صوته بامين و طول بها» «2» حتى يسمعها الصف الأول فيرتج بها المسجد «3»، و مد الصوت يأتي للمعنيين: إطالة الحرف، و الجهر به «4».
5- و في قول عبد اللّه بن مغافل رضي اللّه عنه يحكي ترجيع النبي صلّى اللّه عليه و سلم ابمد الهمزة و السكوت «دلالة على أنه صلّى اللّه عليه و سلم كان يراعي في قراءته المد و الوقف» «5».
و تسلسلت المنهجية: فعن مسعود بن يزيد الكندي قال: كان ابن مسعود يقرئ رجلا فقرأ الرجل إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ (التوبة: 60) مرسلة، فقال ابن مسعود: ما هكذا أقرأنيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم. قال: كيف أقرأكها يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أقرأنيها إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ فمددوها «6».
هل اختلاف أهل الأداء و المجودين من علماء القراءة في بعض الفروع الصغيرة مؤثر على التواتر القراني؟:
__________________________________________________
(1) البيهقي في الكبرى (2/ 57)، مرجع سابق.
(2) البيهقي في الكبرى (2/ 57)، مرجع سابق.
(3) ابن ماجة (1/ 278)، مرجع سابق.
(4) انظر: تحفة الأحوذي (2/ 59)، مرجع سابق.
(5) فتح الباري (13/ 515)، مرجع سابق.
(6) مجمع الزوائد (7/ 155)، مرجع سابق: «رواه الطبراني و رجاله ثقات».(1/258)
الجواب: كل الاختلافات الأدائية التجويدية تعود إلى الترجيح اللغوي في بعض الفروع الموغلة في الدقة من حيث الأداء نحو المد المتصل هل يكون ثلاث حركات أو أكثر، و الميم الساكنة هل تخفى عند الباء أم تظهر، و لا ضير من ذلك كله، كما هو واضح.
ملحوظات هامة:
1- لا يخفى أن الواجب من المد قراءة لا رواية هو القدر المجمع عليه من المد؛ إذ هو أصل المد الذي لا تستقيم الكلمة بدونه و أما الزيادة على ذلك مما اختلف فيه القراء فواجب صناعي لا شرعي، كالوجوب في أداء الرواية.
2- اختلف أهل العلم في تقدير المراتب للقراء بالألفات في ما زاد على المد الطبيعي من أنواع المدود، و هذا الاختلاف «لا تحقيق وراءه بل يرجع إلى أن يكون لفظيا و ذلك أن المرتبة الدنيا و هي القصر إذا زيد عليها أدنى زيادة صارت ثانية، ثم كذلك حتى تنتهي إلى القصوى و هذه الزيادة بعينها إن قدرت بألف أو بنصف ألف هي واحدة فالمقدر غير محقق، و المحقق إنما هو الزيادة، و هذا ما تحكمه المشافهة، و توضحه الحكاية، و يبينه الاختبار، و يكشفه الحسن قال الحافظ أبو عمرو رحمه اللّه: و هذا كله جار على طباعهم و مذاهبهم في تفكيك الحروف، و تخليص السواكن، و تحقيق القراءة و حدرها و ليس لواحد منهم مذهب يسرف فيه على غيره إسرافا يخرج عن المتعارف عليه في اللغة، و المتعالم في القراءة بل ذلك قريب بعضه من بعض، و المشافهة توضح حقيقة ذلك، و الحكاية تبين كيفيته» «1»، و إنما يزادي ذلك للمبتدئ ليتقن كما قال حمزة يقول: إنما أزيد على الغلام في المد ليأتي بالمعنى «2».
__________________________________________________
(1) النشر في القراات العشر (1/ 326)، مرجع سابق.
(2) النشر في القراات العشر (1/ 326)، مرجع سابق.(1/259)
و بذا يستبين أن الوجوب المذكور في حكم التجويد يراد به أصول هذه الأركان من الناحية العملية، و ليس التفاصيل الموغلة في الأداء من غير المجمع عليه بين القراء إظهارا و إدغاما، و غنا و مدا، و تفخيما و ترقيقا... و أما المختلف فيه إظهارا و إدغاما مثلا فالسعة في القراءة بأيهما قائمة ما لم يسند ذلك إلى الرواية... و مثل ذلك حسن الأداء، و التزيين، و التحسين؛ إذ يراد منها ليس الوجوب على كل بحسب القدرة بقدر ما يراد أن يغير تصويته بالقران إلى هيئة مغناة مزينة، و هو ما يفعله كل المسلمين على تفاوت بينهم في مقدار حسن ذلك.
تواتر أركان التجويد (الترتيل):
بعد هذا العرض يتضح أن عمل المسلمين في التلاوة المقبولة بينهم يجعل التواتر لهذا العلم- عمليا- بينهم أمرا قطعيا لا يحتاج إلى أسانيد أصلا؛ إذ هو عمل الأمة بأسرها: خاصتها و عامتها... فبعضه جزء من صميم لسانها الذي نزل القران به (و هو المخارج و الصفات على التفصيل السابق) و بعضه هو المميز لتلاوة القران الكريم عن قراءة أي كتاب اخر... و المراد المجمع عليه مما يمثل الحد الأدنى المطلوب في الوجوب الشرعي.
المطلب الثالث: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم مراتب الترتيل:
ملحوظة في معنى الترتيل:
سبق معنى الترتيل و دلالته اللغوية و الشرعية، ولكن علماء القراءة يستعملون الترتيل في معنيين:
أحدهما عام و هو ما تقدم.(1/260)
و الثاني: أن هذا الترتيل العام من حيث مدى التؤدة و التأني ينقسم إلى مراتب هي المراتب المعروفة في علم القراءة و التجويد للقراءة، و هذا يعني أن الترتيل هنا يأتي بالمعنى العام الشامل للحدر و التدوير و المرتبة الثالثة التي قد تدعى بالترتيل، و قد تدعى بالتحقيق، و قد يستعمل هذا المصطلح في معنى خاص هو ما توفرت فيه الأركان السابقة مع أعلى مراتب التؤدة اللائقة بقراءة القران و هو الذي اصطلح عليه بعض علماء القراءة ب (التحقيق) «1».
مراتب الترتيل:
و على هذا فإن مراتب الترتيل بالمعنى العام ثلاثة: و محور تقسيمها و حيثيته هو مدى التأني و التؤدة، مع بقاء الأركان الاخرى للترتيل كما هي، فللتأني و للطمأنينة المقبولة في علم القراءة أعلى و أوسط و أدنى، فالأعلى اصطلح عليه بالتحقيق أو بالترتيل (بالمعنى الخاص) و الأوسط يدعى بالتدوير، و الأدنى يدعى بالحدر... ولكنها تشترك في جميع أركان الترتيل (بالمعنى العام)، و تتفاوت في ركن واحد هو التأني و التؤدة... كما أنها تتفق جميعا في الركنيين الأولين من أركان التجويد العملي، و تتفاوت في مدى الإشباع الجائز للحركات و الحروف و الصفات العارضة التي تتعلق بالركن الثالث من التجويد العملي، و لذا قال العلماء في الفرق بين مراتب الترتيل- بعد أن جعلوها كيفيات جائزة للقراءة-:
__________________________________________________
(1) ممن اصطلح عليه بالتحقيق: الإمام السيوطي في الإتقان (1/ 265)، و ذهب بعضهم مذهبا مغايرا فجعل مراتب القراءة أربعة يجمعها الترتيل بالمعنى العام، و أعلاها التحقيق و بعده الترتيل و جعل الفرق بين الترتيل و بين التحقيق فيما ذكره بعضهم أن التحقيق يكون للرياضة و التعليم و التمرين و الترتيل يكون للتدبر و التفكر و الاستنباط فكل تحقيق ترتيل و ليس كل ترتيل تحقيقا. انظر: الإتقان (1/ 265)، مرجع سابق.(1/261)
الأولى: التحقيق «1»:
و هو إعطاء كل حرف حقه من إشباع المد، و تحقيق الهمزة، و إتمام الحركات، و اعتماد الإظهار و التشديدات، و بيان الحروف و تفكيكها، و إخراج بعضها من بعض بالسكت و الترتيل و التؤدة، و ملاحظة الجائز من الوقوف بلا قصر و لا اختلاس و لا إسكان محرك و لا إدغامه، و هو يكون لرياضة الألسن و تقويم الألفاظ، و يستحب الأخذ به على المتعلمين من غير أن يتجاوز فيه إلى حد الإفراط بتوليد الحروف من الحركات، و تكرير الراات... كما قال حمزة لمن سمعه يبالغ في ذلك: أما علمت أن ما فوق البياض برص، و ما فوق الجعودة قطط و ما فوق القراءة ليس بقراءة، و كذا يحترز من الفصل بين حروف الكلمة كمن يقف على التاء من نستعين وقفة لطيفة مدعيا أنه يرتل، و هذا النوع من القراءة يظهر في بعض طرق الإمام حمزة و ورش بصورة جلية «2».
__________________________________________________
(
1) لم يستقر- حتى الان- الفرق المصطلحي بين الترتيل و التحقيق، فقد ذهب البعض إلى عد مراتب القراءة أربعة مراتب منها التحقيق و الترتيل و التدوير و الحدر كما فعل ذلك الشيخ محمد مكي نصر في نهاية القول المفيد ص 14، و ذهب البعض إلى جعلها ثلاثة مراتب هي الترتيل و الحدر و التوسط كما فعل ابن أم قاسم في المفيد ص 38، و ذهب القدماء إلى جعل المراتب ثلاثة هي التحقيق و الترتيل و الحدر كما فعل الداني في التحديد ص 70، و الجزري في التمهيد ص 62... و قد ألف هذا الكتاب و هو في التاسعة عشرة من عمره كما ذكر في اخره، و في هذه الحالة فإن هذه المراتب- اصطلاحا- هي المراتب الثلاث عند البعض: التحقيق (كما هو)، و التدوير (هو الذي أطلقوا عليه الترتيل)، و الحدر (كما هو)، و هو الذي ارتضاه الباحث... و ذلك أن المتقدمين يجعلون التحقيق للتعلم، و الترتيل لطريقة التلاوة كالحدر... ولكن التحقيق مستعمل واقعا في التلاوة كالترتيل من جهة، و من جهة أخرى فإن جعل الترتيل مرتبة مع الحدر و التحقيق يوهم خروجهما من المعنى العام للترتيل الوارد في سورة المزمل، و ليس كذلك؛ إذ الترتيل يشمل كل المراتب بمعناه العام و خروجا من هذا اللبس ارتضى الباحث تقسيم المراتب إلى ثلاثة تنضوي تحت الترتيل هي: التحقيق، و التدوير، و الحدر، و هو ما قرره ابن الجزري، و رجع إليه في اخر أمره حيث ذكر ذلك في النشر الذي ألفه في سنة 799 ه، أي و عمره تسع و أربعون سنة، فقسم في النشر (1/ 205) المراتب إلى تحقيق، و تدوير، و حدر، و قال عن التحقيق: «هو نوع من الترتيل».
(2) انظر: الإتقان (1/ 265)، مرجع سابق.(1/262)
و قد صرّح بمصطلح التحقيق في حديث عزيز أسنده الداني مما يدل على تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلم هذا الأمر بدقة بالغة، فأسند الداني إلى ورش التحقيق، قال:
قرأ على نافع التحقيق، قال نافع: إنه قرأ على الخمسة (ذكر خمسة من مشايخه) التحقيق، قال: و أخبرني الخمسة أنهم قرأوا على عبد اللّه بن عياش بن أبي ربيعة التحقيق، و أخبرهم عبد اللّه أنه قرأ على أبي بن كعب رضي اللّه عنه التحقيق، و أخبره أنه قرأ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم التحقيق، قال: و قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم علي التحقيق، ثم قال أبو عمرو: هذا الخبر الوارد بتوقيف قراءة التحقيق من الأخبار الغريبة و السنن العزيزة التي لا توجد روايته إلا عند المكثرين الباحثين، و لا يكتب إلا عند الحفاظ الماهرين، و هو أصل كبير في استعمال قراءة التحقيق و تعلم الاتقان و التجويد، لاتصال سنده و عدالة نقلته، و لا أعلمه يأتي متصلا إلا من هذا الوجه «1».
الثانية: الحدر:
هو إدراج القراءة و سرعتها و تخفيفها بالقصر و التسكين و الاختلاس و البدل و الإدغام الكبير و تخفيف الهمزة و نحو ذلك مما صحت به الرواية مع مراعاة إقامة الإعراب، و تقويم اللفظ، و تمكن الحروف بدون بتر حروف المد، و اختلاس أكثر الحركات، و ذهاب صوت الغنة، و التفريط إلى غاية لا تصح بها القراءة، و لا توصف بها التلاوة، و هذا النوع يظهر بصورة جلية في بعض طرق مذهب ابن كثير و أبي جعفر و من قصر المنفصل كأبي عمرو و يعقوب «2».
__________________________________________________
(1) التحديد في الإتقان و التجويد ص 79، مرجع سابق.
(2) انظر: الإتقان (1/ 265)، مرجع سابق، و انظر وصفا لطبيعة القراات السبع من حيث مراتب القراءة في: التحديد ص 94، مرجع سابق.(1/263)
و يظهر الفرق جليا بين الترتيل و الحدر:
يما يسمعه الناس من الأذان و الإقامة فإن الترتيل يكون في الأذان، و الحدر يكون في الإقامة فعن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه يقول: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يأمرنا أن نرتل الأذان و نحدر الإقامة «1»، و مثله من فعل ابن عمر «2»، و معنى التّرتيل كأنه يقطع الكلام بعضه عن بعض، و الحدر هو الإسراع من الحدور ضد الصعود «3» فالترتيل هنا بالمعنى الخاص هو المبالغة في التأني... و على المرتبتين لا بد من إعطاء الحروف حقوقها كما قال الخاقاني:
فذو الحذق معطر للحروف حقوقها إذا رتل القران أو كان ذا حدر
الثالثة: التدوير:
و هو التوسط بين المقامين من التحقيق و الحدر، و هو الذي ورد عن أكثر الأئمة، و هو مذهب سائر القراء، و هو المختار عند أكثر أهل الأداء «4».
و كل هذه المراتب يصحبها الترتيل إلا أنها تختلف في مدى التؤدة و التأني، و لذلك أشار بعضهم فقال:
حدود حروف الذكر في لفظ قارئ بحدر و تحقيق و دور مرتلا
فإني رأيت البعض يتلو القران لا يراعي حدود الحرف وزنا و منزلا «5»
.
__________________________________________________
(1) الدارقطني (1/ 238)، مرجع سابق، و انظر: تلخيص الحبير (1/ 200).
(2) مسند ابن الجعد ص 318.
(3) النهاية في غريب الأثر (2/ 16)، مرجع سابق.
(4) انظر: الإتقان (1/ 266)، مرجع سابق.
(5) نهاية القول المفيد في علم التجويد ص 19، مرجع سابق.(1/264)
أي مراتب الترتيل هي الأفضل؟
و علاقة هذا السؤال بالبحث تستبين بأن يقال بصيغة أخرى:
هل علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم القراء بالتحقيق أم بغيره؟
الجواب: الظاهر أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم علمهم القراءة بمراتبها المختلفة، و إن لم تكن التسمية الاصطلاحية سائدة لكن الغالب على قراءته و أصحابه التحقيق المتوسط (يقرب من التدوير) لما تقدم من حديث حفصة تصف قراءة النبي صلّى اللّه عليه و سلم يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها «1»، و لا يكون ذلك إلا بالتحقيق (الترتيل بمعناه الخاص) أو بالتدوير، و حديث حذيفة قال: صليت مع النبي صلّى اللّه عليه و سلم ليلة... فقرأها يقرأ مترسلا إذا مر باية فيها تسبيح سبح و إذا مر بسؤال سأل و إذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع... الحديث «2».
و قد تعلم منه الصحابة رضي اللّه عنهم التحقيق و أمروا به تلاميذهم و نفروهم من الهذ الذي يتجاوز الحدر و لذا قال البخاري- رحمه اللّه تعالى-: «باب الترتيل في القراءة و قوله تعالى وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (المزمل: 4) و قوله وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ (الإسراء: 106) و ما يكره أن يهذ كهذ الشعر» «3» و بوب النووي في مسلم: «باب ترتيل القراءة و اجتناب الهذ و هو الإفراط في السرعة»، و جاء رجل يقال له نهيك بن سنان إلى عبد اللّه، فقال: يا أبا عبد الرحمن! كيف تقرأ هذا الحرف ألفا تجده أم ياء من اسن أو من ياسن؟ قال فقال:
عبد اللّه و كل القران قد هذا قال إني لأقرأ المفصل في ركعة، فقال عبد اللّه: هذا
__________________________________________________
(1) مسلم (1/ 507)، مرجع سابق.
(2) مسلم (1/ 536)، أبو عوانة (1/ 460)، مرجعان سابقان.
(3) البخاري (4/ 1924)، مرجع سابق.(1/265)
كهذ الشعر؟ إن أقواما يقرؤون القران لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع إن أفضل الصلاة الركوع و السجود.. «1»..
و هذا كله يدل على أن الغالب على قراءته التحقيق.
و قد علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم الفرق بين الهذ و بين الحدر:
فالهذ هو السرعة المفرطة التي تخل بقواعد التلاوة، و الحدر هو الهذ المعتدل الملتزم بأركان الترتيل بمعناه العام: و يدل لهذا قول النبي صلّى اللّه عليه و سلم- فيما رواه عبد اللّه بن بريدة عن أبيه- قال: كنت جالسا عند النبي صلّى اللّه عليه و سلم فسمعته يقول: «... ثم يقال له اقرا و اصعد في درج الجنة و غرفها فهو في صعود ما دام يقرأ هذا كان أو ترتيلا» «2»، و في رواية «فهو في صعود ما دام يقرأ حدرا كان أو ترتيلا» «3»، فقوله «هذا كان أو ترتيلا» يدل على أن المراد مدى السرعة في تتابع الصوت لا على ترك الأحكام، فالترتيل هنا بمعناه الخاص لا العام الشامل للحدر التدوير و التحقيق «4»، و يدل على هذا حديث عبد اللّه بن عمرو رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «يقال لصاحب القران اقرأ و ارق و رتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عن اخر اية تقرؤها» «5»، فإن هذا الحديث يبين معنى التخيير في الحديث الأول بأنه تخيير بين أنواع الترتيل بالمعنى العام الشامل لجميع مراتب الترتيل فلذا قال له هنا «و رتل كما كنت ترتل في الدنيا» أي بأحد أنواع الترتيل
__________________________________________________
(1) البخاري (1/ 269)، مسلم (1/ 563)، مرجعان سابقان.
(2) الدارمي (2/ 543)، مرجعان سابقان.
(3) و قال في مجمع الزوائد (7/ 159)، مرجع سابق: «روى ابن ماجة منه طرفا رواه أحمد و رجاله رجال الصحيح».
(4) و يحتمل أن للقارئ ذلك حتى لو لم يقرأه على الطريقة الواجبة رحمة من اللّه و فضلا... و هذا الاحتمال ضعيف.
(5) النسائي في الكبرى (5/ 22)، مرجع سابق.(1/266)
التي كان غالب قراءتك ترجع إليها، كما يبين هذا الحديث أن كلمة ترتيل في الحديث الأول هي بالمعنى الخاص التي ترادف التحقيق، أو يكون من باب الترتيل الذي بمعنى التأني و التؤدة «يطابق التحقيق الاصطلاحي».
و قد علم الصحابة رضي اللّه عنهم تلاميذهم الحرص على الترتيل و اجتناب الهذ و السرعة المفرطة: فقد فعن أبي جمرة قلت لابن عباس رضي اللّه عنهما: إني رجل سريع القراءة إني لأقرأ القران في ليلة فقال ابن عباس رضي اللّه عنهما: لأن اقرأ سورة أحب إلىّ، فإن كنت لا بد فاعلا فأقرأ قراءة تسمعها أذنيك و يوعها قلبك «1»، و هذا الأخير هو الحدر الاصطلاحي، و سئل مجاهد- رحمه اللّه تعالى- عن رجل قرأ البقرة و ال عمران و رجل قرأ البقرة فقط قيامهما واحد ركوعهما واحد و سجودهما واحد فقال: الذي قرأ البقرة فقط أفضل ثم تلا وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ (الإسراء: 106) «2».
و على الرغم من أن الغالب على قراءة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم هو التحقيق إلا أنه صلّى اللّه عليه و سلم لا ريب قد قرأ لهم بالحدر فإن حديث قراءته بطولى الطوليين في المغرب يدل على ذلك استنباطا.
و لذا ذكر الحنفية استعمال الحدر في تهجد الليل فقيد الحنفية القراءة بالليل بالإسراع في القراءة، و لعل «وجه التقيد به أن عادة المتهجدين كثرة القراءة في تهجدهم فلهم الإسراع ليحصلوا وردهم من القراءة» «3»، ولكن كل الفقهاء يجعلون الإتيان بأقل الواجب الشرعي للتجويد أمر لا بد منه لصحة الصلاة،
__________________________________________________
(1) البيهقي في الكبرى (3/ 13)، مرجع سابق.
(2) أبو عبيد في الفضائل ص 158، مرجع سابق.
(3) حاشية ابن عابدين (1/ 541)، مرجع سابق.(1/267)
و نصوا في هذا على المد الواجب فقالوا و هم يتكلمون عن الحدر: «أن يمد أقل مد قال به القراء و إلا حرم لترك الترتيل المأمور به شرعا» «1».
و الصحيح في هذا الباب التفصيل، فالقران العزيز «يقرأ للتعلم، فالواجب التقليل و التكرير، و يقرأ للتدبر، فالواجب الترتيل و التوقف، و يقرأ لتحصيل الأجر بكثرة القراءة، فله أن يقرأ ما استطاع» «2»، و معنى هذا أنه يستحب لكل إنسان ما يوافقه طبعه و يخف عليه فربما يكلف غير ذلك مما يخالف طبعه فيشق عليه و يقطعه ذلك عن القراءة أو الإكثار أما من تساوى عند الأمران فالترتيل أولى...
و أشار الخاقاني إلى ذلك بقوله:
و ترتيلنا القران أفضل للذي أمرنا به من لبثنا فيه و الفكر
و مهما حدرنا درسنا فمرخص لنا فيه إذ دين العباد إلى اليسر
و كان الناس منذ العهد الأول قد تعلموا ذلك من النبي صلّى اللّه عليه و سلم:
فصاروا يستعملون كل مرتبة في مواضعها فعن أبي عثمان النهدي قال: دعا عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه بثلاثة قراء فاستقرأهم فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ الناس ثلاثين اية، و أمر أوسطهم أن يقرأ خمسا و عشرين و أمر أبطأهم أن يقرا للناس عشرين اية «3»، و عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج قال: ما أدركت الناس إلا و هم يلعنون الكفرة في رمضان- قال- فكان القارئ يقوم بسورة البقرة في ثمان ركعات فإذا قام بها في اثنتي عشرة ركعة رأى الناس أنه قد خفف «4».
__________________________________________________
(1) حاشية ابن عابدين (1/ 541)، مرجع سابق.
(2) جمال القراء و كمال الإقراء (2/ 547)، مرجع سابق.
(3) البيهقي في الكبرى (2/ 497)، مرجع سابق.
(4) البيهقي في الكبرى (2/ 497)، مرجع سابق.(1/268)
المبحث الخامس: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم مراتب الأداء الأعلى من التجويد:
إذا كان الترتيل هو أساس التجويد، فإن ثمّ أسسا أخرى في علم القراءة تطلب شرعا من القارئ، فعقد هذا المبحث لدراستها، و لتحقيق هذه الغاية انقسم المبحث على أربعة مطالب:
المطلب الأول: تعليمهم تزيين التصويت بألفاظ القران الكريم.
المطلب الثاني: تعليمهم التغني بألفاظ القران الكريم.
المطلب الثالث: تعليمهم الترجيع لألفاظ القران الكريم.
المطلب الرابع: القراءة بالألحان.
المطلب الأول: تعليمهم تزيين التصويت بألفاظ القران الكريم:
علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم ضرورة تزيين القران بالأصوات في عدة أحاديث كالذي رواه البراء بن عازب رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: «زينوا القران بأصوآتاكم» «1»، ولكن في مستدرك الحاكم ورد بلفظ: «زينوا أصوآتاكم بالقران» «2»، أي بتقديم الأصوات على القران، و عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «زينوا أصوآتاكم بالقران» و في رواية: «أحسنوا أصوآتاكم بالقران» «3»، و قال البخاري بعد ذكر أحاديث تحسين و تزيين القران: «و عامة هذه الأخبار مستفيضة عند أهل العلم» «4».
__________________________________________________
(1) أبو داود (2/ 74)، النسائي في الكبرى (1/ 384).
(2) مستدرك الحاكم (1/ 762)، عبد الرزاق (2/ 485)، مرجعان سابقان، و انظر: مجمع الزوائد (7/ 170)، مرجع سابق.
(3) الطبراني في المعجم الكبير (11/ 81).
(4) خلق أفعال العباد ص 69.(1/269)
معنى التزيين:
تدور معاني زين على: الملاحة و الغاية في الحسن؛ إذ الزاي و الياء و النون أصل صحيح يدل على حسن الشي ء و تحسينه «1».
معنى الحديث:
اختلف العلماء في معناه حتى ذكر القرطبي ست تأويلات في معناه «2»، و البحث يذكر أشهرها مما يتعلق بموضوعنا:
التأويل الأول: معناه اللهج بقراءته، و كثرة ترداده حتى يصير زينة الصوت، و حليته في الكلام أي أشغلوا أصوآتاكم بالقران، و الهجوا بقراءته، و اتخذوه زينة و شعارا «3»: فعلى هذا «هو مقلوب أي زيّنوا أصوآتاكم بالقران، و المعنى الهجوا بقراءته و تزينوا به و ليس ذلك على تطريب القول و التحزين» «4»، و قالوا: «فالزينة للصوت لا للقران» «5»، و بين أصحاب هذا المذهب أنهم اضطروا إلى هذا التأويل اضطرارا لأنه: لا يجوز على القران- في نظرهم- و هو كلام الخالق أن يزينه صوت مخلوق بل هو بالتزيين لغيره و التحسين له أولى «6»، و لذا فقد توقى هذه الرواية قوم، و أسند الخطابي عن شعبة قال: نهاني أيوب أن أحدث «زينوا القران بأصوآتاكم»، و قالوا: لم يرد تطريب الصوت به و التحزين له؛ إذ ليس «هذا في وسع كل أحد فلعل من الناس من إذا أراد التزيين له أفضى به إلى التهجين» «7»،
__________________________________________________
(1) معجم مقاييس اللغة (1/ 341).
(2) انظر: تفسير القرطبي (1/ 11)، مرجع سابق.
(3) انظر: الغريب للخطابي (1/ 357)، حاشية السندي (2/ 179)، مرجعان سابقان.
(4) النهاية (2/ 325)، مرجع سابق.
(5) فيض القدير (4/ 68)، مرجع سابق.
(6) انظر: الغريب للخطابي (1/ 356)، مرجع سابق.
(7) انظر: الغريب للخطابي (1/ 357)، مرجع سابق.(1/270)
كما استدل القرطبي على ذلك بأن المراد بالتغني الجهر به كما ثبت ذلك في حديث أبي هريرة «1»، ولكن الظاهر أن هذا اللفظ (يجهر) يدل على تحسين الصوت و هو ما جعل الإمام السيوطي يستدل بقوله (يجهر به) على تحسين الصوت «2».
التأويل الثاني: و قيل هو تزيين القران بجمال الصوت:
فإن القران قد يخرج بصوت جاف فظّ يلقيه قارئه و لا يبالي بتجميله فلا تلتفت إليه القلوب لا لأنه كلام اللّه بل لأن المتلفظ به ما أبان البلاغ، و لا أجمل الأداء و على هذا فلا «حاجة إلى القلب و إنما معناه الحثّ على التّرتيل الذي أمر به في قوله تعالى وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» «3» فحقيقة الحديث: أنه يحث على ترتيل القران «و رعاية إعرابه و تحسين الصوت به و تنبيه على التحرز من اللحن و التصحيف فإنه إذا قرئ كذلك كان أوقع في القلب و أشد تأثيرا و أرق لسامعه» «4»، و الرواية الاخرى- إن ثبتت- فهي تتميم لها ف «زينوا أصوآتاكم بالقران» أي الهجوا بقراءته و اشغلوا أصوآتاكم به، و اتخذوه شعارا و زينة لأصوآتاكم «5»، كما ينبغي لكم أن تخرجوه بأحسن لفظ و أجمل أداء.
توجيه الزينة في الحديث:
و يكون للحديث على هذا توجيه حسن جدا؛ إذ تكون «الزّينة للمرتّل لا للقران كما يقال ويل للشّعر من راوية السّوء فهو راجع إلى الرّاوي لا للشّعر» «6»،
__________________________________________________
(1) البخاري (4/ 1918)، مسلم (1/ 545)، مرجعان سابقان.
(2) الديباج على صحيح مسلم (2/ 393)، مرجع سابق.
(3) النهاية (2/ 325)، مرجع سابق.
(4) فيض القدير (4/ 68)، مرجع سابق.
(5) فيض القدير (4/ 68)، مرجع سابق.
(6) النهاية (2/ 325)، مرجع سابق.(1/271)
و سماه تزيينا «لأنه تزيين للفظ و المعنى فإن الصوت الحسن يزيد القران حسنا، و في أدائه بحسن الصوت، وجودة الأداء بعث للقلوب على استماعه، و تدبره، و الإصغاء إليه» «1».
و يؤيد هذا المعنى للحديث الأحاديث المستفيضة الاخرى التي تحض على التحبير و الترتيل و التحسين و التحزين مما هو في مستوى العلمي الضروري، كما يؤيد هذا المعنى رواية «أحسنوا أصوآتاكم بالقران» «2» و المعنى: «رتلوه و اجهروا به» «3» و لذا «قال الطيبي: هذا الحديث لا يحتمل القلب لتعليله بقوله فإن الصوت الحسن يزيد القران حسنا» «4»، و يشهد لصحة هذا التأويل حديث أبي موسى رضي اللّه عنه أنّ النبي صلّى اللّه عليه و سلم استمع إلى قراءته فقال: «لقد أوتيت مزمارا من مزامير ال داود فقال لو علمت أنك تستمع لحبّرته لك تحبيرا» أي حسّنت قراءته و زينتها، و يؤيدّ ذلك تأييدا لا شبهة فيه حديث ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «لكلّ شي ء حلية و حلية القران حسن الصوت» «5».
و الكاتب يؤيد الجمع بين هذه المعاني:
فالنبي صلّى اللّه عليه و سلم قد علمهم تحسين الصوت بالقران، و تحسين القران بالصوت بعد أن وجدنا الروايات تذكر ذلك و لا شذوذ يظهر لنا و لذا فلا وجه لقول البعض
__________________________________________________
(1) فيض القدير (4/ 68)، مرجع سابق.
(2) الطبراني في المعجم الكبير (11/ 81).
(3) فيض القدير (3/ 387)، مرجع سابق.
(4) فيض القدير (3/ 387)، مرجع سابق، و لا ينبغي أن يستدل بهذا الحديث على جواز الغناء كما ذهب إليه القشيري حيث قال: «هذا دليل على فضيلة الصوت الحسن فالسماع لا بأس به و تعقبه ابن تيمية بأنه إنما يدل على فضل الصوت الحسن بكتاب اللّه لا بالغناء فمن شبه هذا بهذا فقد شبه الحق بالباطل».
(5) النهاية (3/ 326)، مرجع سابق.(1/272)
«القلب لا وجه له» «1»، و القول الثاني لا ينفي الأول أما الأول فنفى أصحابه الثاني، و قولهم مقبول لكن نفيهم مردود، فالتزيين لكلام اللّه عزّ و جلّ لأن الصوت صوت القاري، و إن كان الكلام كلام الباري.
و واقع المسلمين بشيبهم و شبابهم و ذكورهم و إناثهم، و كبارهم و صغارهم شاهد على ذلك فإنك تجد كل واحد منهم لو كان أميا إن أراد أن يقرأ غير صوته على هيئة تتشابه بينهم جميعا، و إن كانت تتفاوت في حسنها، و انضباط قواعدها في تظاهرة عجيبة تدل على مقدار الحفظ الإلهي للقران الكريم.
و يبقى- بعد ذلك- الاختلاف في الأصوات البشرية مسألة طبعية:
كما قال الإمام البخاري: «فبين النبي صلّى اللّه عليه و سلم أن أصوات الخلق و قرااتهم و دراستهم و تعليمهم و ألسنتهم مختلفة بعضها أحسن و أزين و أحلى و أصوت و أرتل و ألحن و أعلى و أخف و أغض و أخشع و قال وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً (طه: 108) و أجهر و أخفى و أمهر و أمد و ألين و أخفض من بعض» «2».
و هنا نلحظ معلما هاما هو أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم علمهم تقديم حسن الصوت في الأذان فأحرى أن يكون ذاك في القران: فعن عبد اللّه بن زيد قال: لما أصبحنا أتينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فأخبرته بالرؤيا فقال: «إن هذه الرؤيا حق فقم مع بلال فإنه أندى أو أمد صوتا منك فألق عليه ما قيل لك فينادي بذلك» «3».
__________________________________________________
(1) النهاية (3/ 326)، مرجع سابق.
(2) خلق أفعال العباد ص 73، مرجع سابق.
(3) اللفظ المذكور لابن خزيمة (1/ 189)، و ابن حبان (4/ 573)، و الضياء في المختارة (9/ 374)، و رواه الترمذي (1/ 359)، مراجع سابقة، و هو عند أبي داود (1/ 135)، مرجع سابق بلفظ (أندى)، و في تلخيص الحبير (1/ 197)، مرجع سابق.(1/273)
و (أندى) أصله «من الندى أي الرطوبة يقال صوت ندي أي رفيع و استعارة النداء للصوت من حيث أن من تكثر رطوبة فمه حسن كلامه» «1»، فأندى: «أي أرفع و أعلى، و قيل أحسن و أعذب، و قيل أبعد» «2» فالأحسن أن يراد بأندى «ههنا أحسن و أعذب و إلا لكان في ذكر قوله أمد بعده تكرار» «3»، و على هذا ففي الحديث «دليل على اتخاذ المؤذن حسن الصوت» «4».
و في حديث أبي محذورة قال: لما خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من حنين خرجت عاشر عشرة من أهل مكة نطلبهم فسمعناهم يؤذنون بالصلاة فقمنا نؤذن لنستهزى ء بهم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «قد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت»، فأرسل إلينا فأذنا رجل رجل و كنت اخرهم، فقال حين أذنت:
«تعال»، فأجلسني بين يديه فمسح على ناصيتي فبرك علي ثلاث مرات ثم قال:
«اذهب فأذن عند البيت الحرام» «5» فإذا كان ذلك كذلك في الأذان، فكيف به في القران؟.
و كان الصحابة رضي اللّه عنهم يلتمسون حسن الصوت بالقران فعن عمر أنه قال لرجل: اقرأ سورة الحجر. قال: أو ليست معك يا أمير المؤمنين؟ قال: أما بمثل صوتك فلا «6».
__________________________________________________
(1) انظر: عون المعبود (2/ 121)، مرجع سابق.
(2) النهاية (5/ 26)، مرجع سابق.
(3) انظر: تحفة الأحوذي (1/ 480)، مرجع سابق.
(4) انظر: تحفة الأحوذي (1/ 480)، مرجع سابق.
(5) ابن خزيمة (1/ 201)، أبو داود (1/ 136)، عبد الرزاق (1/ 459)، الدارقطني في سننه (1/ 235)، مراجع سابقة.
(6) شعب الإيمان (2/ 527)، مرجع سابق.(1/274)
المطلب الثاني: تعليمهم التغني بألفاظ القران الكريم:
الأحاديث الواردة في ذلك:
بين النبي صلّى اللّه عليه و سلم فضيلة التغني بالقران فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنه كان يقول:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «لم يأذن اللّه لشي ء ما أذن للنبي يتغنى بالقران» و قال صاحب له: يريد يجهر به «1»، و (يأذن): «معناه الاستماع و منه قوله تعالى و أذنت لربها» «2»، فالمعنى- كما قال أبو عبيد- يعني ما استمع اللّه لشي ء كاستماعه لنبي يتغنى بالقران «3»، و المراد بالاستماع هنا الاستماع الخاص، و ذلك كتفريق العلماء بين المعية العامة الواردة في قوله جل جلاله: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ (الحديد: 4)، و المعية الخاصة في قوله سبحانه و تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (النحل: 128) و هو ما يعني قرب القارئ من اللّه سبحانه و تعالى، و عظيم شرفه بالقراءة.
و لم يقف ذلك عند مجرد الفضيلة حتى ورد الأمر بالقراءة بهذه الكيفية فعن عقبة ابن عامر رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «تعلموا كتاب اللّه و تعاهدوا و اقتنوه و تغنوا به فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفلتا من المخاض في العقل» «4».
و في المقابل فقد ورد الزجر الشديد و التنفير القراءة بغير هذه الكيفية فعن عبد اللّه بن أبي نهيك عن سعد بن أبي وقاص رضي اللّه عنه قال: أتيته فسألني من أنت فأخبرته عن نسبي فقال سعد: تجار كسبة سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول:
__________________________________________________
(1) البخاري (1/ 1918)، مرجع سابق.
(2) شرح النووي (6/ 78)، مرجع سابق.
(3) النسائي في الصغرى (1/ 558)، مرجع سابق.
(4) النسائي في الكبرى (5/ 521) و الصغرى (2/ 543).(1/275)
«ليس منا من لم يتغن بالقران» «1» و مثله عن ابن عباس «2»، و نحوه عن عائشة «3» و ابن الزبير رضي اللّه عنهم «4»، و عن أبي لبابة رضي اللّه عنه قال: سمعت النبي صلّى اللّه عليه و سلم يقول:
«
ليس منا من لم يتغن بالقران» فقيل: لابن أبي مليكة: يا أبا محمد! أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت؟ قال: يحسنه ما استطاع «5»، و عن عبد الرحمن بن السائب قال: قدم علينا سعد بن أبي وقاص- و قد كف بصره- فسلمت عليه فقال: من أنت؟ فأخبرته فقال: مرحبا بابن أخي بلغني أنك حسن الصوت بالقران سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول: «إن هذا القران نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا، و تغنوا به فمن لم يتغن به فليس منا» «6».
معنى التغني الوارد في الأحاديث:
اختلف العلماء في معنى التغني الوارد في الحديث على قولين مشهورين:
المعنى الأول: معنى التغني الاستغناء و حدوث الكفاية به، و قد ذهب إلى هذا الإمام البخاري فقال: «باب من لم يتغن بالقران و قوله سبحانه و تعالى: أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ (العنكبوت: 51) «7»، و هو مذهب سفيان بن عيينة قال: تفسيره يستغني به» «8».
__________________________________________________
(1) ابن حبان (1/ 327)، الضياء في المختارة (3/ 172).
(2) الحاكم (1/ 760)، مرجع سابق.
(3) قال في مجمع الزوائد (7/ 170): «رواه البزار و الطبراني و رجال البزار رجال الصحيح».
(4) قال في مجمع الزوائد (7/ 170)، مرجع سابق: «رواه الطبراني و رجاله ثقات».
(5) البيهقي في الكبرى (2/ 54)، مرجع سابق، و قال في مجمع الزوائد (7/ 171)، مرجع سابق: «رواه الطبراني و رجاله ثقات».
(6) ابن ماجه (1/ 424)، مرجع سابق.
(7) البخاري (1/ 1918)، مرجع سابق.
(8) البخاري (1/ 1918)، مرجع سابق.(1/276)
المعنى الثاني: معناه التطريب به و الحداء و «تحزين القراءة و ترقيقها» «1»، وفق قواعد معلومة لأنه أوقع في النفوس، و أنجع في القلوب «2»، و قد ذهب إلى هذا «الشافعي و أصحابه و أكثر العلماء من الطوائف و أصحاب الفنون يحسن صوته به» «3»، «و قال صالح قلت لأبي (أي أحمد بن حنبل): «زينوا القران بأصوآتاكم» ما معناه؟ قال: أن يحسنه، و قيل له: ما معنى «من لم يتغن بالقران» قال: «يرفع صوته به، و قال الليث: يتحزن به، و يتخشع به، و يتباكى به» «4»، ورد الإمام الشافعي على ابن عيينة تأويله، فقال رحمه اللّه تعالى: نحن أعلم بهذا. لو أراد النبي صلّى اللّه عليه و سلم الاستغناء به لقال ليس منا من لم يستغن بالقران فلما قال ليس منا من لم يتغن بالقران علمنا أنه التغني به «5» و قال: معناه يقرأه حزنا و تحزينا «6».
تعريف الغناء:
هو كما قال «الأصمعي: كلّ من رفع صوته و والاه فصوته عند العرب غناء» «7»، فالغناء عند العرب هو المردد المرجّع من الكلام لا شأن له بالالات، «و في حديث عائشة: و عندي جاريتان تغنّيان بغناء بعاث أي تنشدان الأشعار
__________________________________________________
(1) شرح النووي (6/ 79)، مرجع سابق، و قد أوصل القرطبي في تفسيره التاويل الواردة في معنى التغني الوارد في حديث «ما أذن اللّه..» إلى ست تأويلات، ورد بقوة أن يكون المعنى هو تحسين الصوت و الترنم بالقران. انظر تفسير القرطبي (1/ 15)، مرجع سابق.
(2) شرح السنة (4/ 485).
(3) شرح النووي (6/ 78)، مرجع سابق.
(4) المغني (10/ 178)، مرجع سابق.
(5) النسائي في الصغرى (1/ 559)، مرجع سابق.
(6) النسائي في الصغرى (1/ 559)، مرجع سابق.
(7) لسان العرب (15/ 136)، مرجع سابق.(1/277)
التي قيلت يوم بعاث، و لم ترد الغناء المعروف بين أهل اللّهو و اللّعب، و قد رخّص عمر رضي اللّه عنه في غناء الأعراب و هو صوت كالحداء «1».
و قد تأيد هذا التأويل بالتالي:
1- بقوله صلّى اللّه عليه و سلم لأبي موسى الأشعري: «لقد أعطى هذا مزمارا من مزامير ال داود» «2».
2- و يؤيد هذا المعنى تأييدا متينا رواية (يجهر به) فعن الشافعي أنه قال:
معناه تحسين القراءة و ترقيقها، قال: و مما يحقّق ذلك الحديث الاخر:
«زيّنوا القران بأصوآتاكم» «3»، و العرب تقول: سمعت فلانا يتغنى بكذا أي يجهر به «4».
3- سئل ابن أبي مليكة- و هو أحد رواة الحديث-: يا أبا محمد! أرأيت أن لم يكن حسن الصوت قال: يحسنه ما استطاع «5»، و هذا يدل على إرادة الصوت.
4- و يدل له رواية «ما أذن لنبي في الترنم في القران» أخرجه الطبري «6»، و في لفظ: «ما أذن لنبي حسن الصوت» «7»، و في لفظ «حسن الترنم بالقران» «8» «و الترنم
__________________________________________________
(1) لسان العرب (15/ 137)، مرجع سابق.
(2) النسائي في الصغرى (1/ 559)، مرجع سابق.
(3) لسان العرب (15/ 136)، مرجع سابق.
(4) فتح الباري (9/ 71)، و انظر: شرح النووي (6/ 79)، مرجعان سابقان.
(5) سنن البيهقي الكبرى (2/ 54)، مرجع سابق، مجمع الزوائد (7/ 171)، مرجع سابق: «رواه الطبراني و رجاله ثقات».
(6) فتح الباري (9/ 71)، مرجع سابق.
(7) البخاري (6/ 2743)، مسلم (1/ 545)، مرجع سابق.
(8) البيهقي في الكبرى 10/ 228، و في الترغيب و الترهيب 2/ 237، مرجع سابق: «خرجه ابن جرير الطبري بإسناد صحيح».(1/278)
لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه القاري ء و طرب به قال: و لو كان معناه الاستغناء لما كان لذكر الصوت و لا لذكر الجهر معنى» «1».
و أما حديث «إن اللّه لم يأذن لمترنم بالقران» «2» فإن كان معناه المنع فهو ممنوع بعدم ثبوته بل هو إلى الوضع أقرب، و لقد علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم تحسين أصواتهم بالقران، و كان يثني على حسن الصوت منهم حتى قال عن سالم مولى أبي حذيفة: «الحمد للّه الذي جعل في أمتي مثل هذا» «3»، و ذلك لما قالت عائشة عن حسن صوته: كنا نسمع قراءة رجل من أصحابك في المسجد لم أسمع مثل صوته و لا قراءة من أحد من أصحابك، «و أخرج ابن أبي داود أن عمر: كان يقدم الشاب الحسن الصوت لحسن صوته بين يدي القوم، و لا شك أن النفوس تميل إلى سماع القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم لأن للتطريب تأثيرا في رقة القلب، و إجراء الدمع» «4».
الجمع بين المعنيين أولى عند الباحث:
و لأن الجمع مقدم على الترجيح فبين أن إرادة المعنيين واردة، بل ظاهرة فأما من حيث اللغة فهو صالح للمعنيين، فما فسر به ابن عيينة ليس بمدفوع، و إن كانت ظواهر الأخبار ترجح أن المراد تحسين الصوت «5»، إلا أن ورود يتغنى بمعنى يستغني ليس منكرا عربية كما أنكره الشافعي، و لذا رد ابن حجر على الطبري
__________________________________________________
(1) ذكر ابن حجر في فتح الباري (9/ 71)، مرجع سابق.
(2) في مجمع الزوائد (7/ 170)، مرجع سابق: «رواه الطبراني في الأوسط و فيه سليمان بن داود الشاذكوني و هو كذاب».
(3) ابن ماجه (1/ 425)، مرجع سابق، و قال في مصباح الزجاجة (1/ 158)، مرجع سابق: «هذا إسناد صحيح».
(4) انظر: فتح الباري (9/ 72)، مرجع سابق.
(5) فتح الباري (9/ 71)، مرجع سابق.(1/279)
فقال: «و أما إنكاره أن يكون تغنى بمعنى استغنى في كلام العرب فمردود، و من حفظ حجة على من لم يحفظ،... (و) في حديث الخيل: «و رجل ربطها تعففا و تغنيا» و هذا من الاستغناء بلا ريب، و المراد يطلب الغنى بها عن الناس بقرينة قوله تعففا» «1» فيكون الجمع بين التأويلات المذكورة هو الصحيح البين، و مال إليه عدد من المحققين كابن حجر فيقال في معنى التغني الوارد في الأحاديث: يحسن به صوته جاهرا به مترنما على طريق التحزن متغنيا به عن غيره من الأخبار طالبا به غنى النفس راجيا به غنى اليد، و نظم ابن حجر ذلك في بيتين فقال:
تغن بالقران حسّن به الصوت حزينا جاهرا رنم و استغن عن كتب الألى طالبا غنى يد و النفس ثم الزم
«2» و كذلك أن يجعل القران مكان الغناء أمر مقصود شرعا كما هو ظاهر، و تقدم ذكر الزجر عن الامتلاء بالشعر و لذلك صار القران هو الذي يترنم به العارفون مكان غناء القوم و حدوهم و إنشادهم فقد قال بعض العارفين لمريد:
أتحفظ القران؟ قال: لا، قال: وا غوثاه يا لمريد لا يحفظ القران فيم يتغنى؟ فيم يترنم؟ فيم يناجي ربه تعالى؟ «3».
و قد كان أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلم يتفاضلون في حسن تغنيهم بالقران، و يثني النبي صلّى اللّه عليه و سلم عليهم في كل ذلك، و تقدم ما قاله في سالم، و أبي موسى، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في الأشعريين: «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقران حين يدخلون بالليل و اعرف منازلهم من أصواتهم بالقران بالليل و ان كنت لم
__________________________________________________
(1) فتح الباري (9/ 71)، مرجع سابق.
(2) انظر: فتح الباري (9/ 72)، مرجع سابق.
(3) الشريعة الإسلامية و الفنون ص 307- 318.(1/280)
أر منازلهم حين نزلوا بالنهار» «1»، و قد عدوا من حكم تلاوة النبي صلّى اللّه عليه و سلم على أبي «أن يتعلم أبي الفاظه، و صيغة أدائه، و مواضع الوقوف، و صنع النغم في نغمات القران على أسلوب ألفه الشرع و قدره بخلاف ما سواه من النغم المستعمل في غيره» «2».
ينبغي أن يتجه التغني بالقران و تزيين التصويت بألفاظه نحو التحزن:
من الضوابط الهامة في التغني بالقران الكريم أنه لا بد من الميل باتجاه التصويت نحو الحزن، و يدل على ذلك في تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلم لأصحابه قوله صلّى اللّه عليه و سلم:
«اقرؤوا القران بالحزن فإنه نزل بالحزن» «3»، و يشهد لهذا الحديث قوله صلّى اللّه عليه و سلم: «إن أحسن الناس قراءة من إذا قرأ القران يتحزن» «4»، و الميل بالقراءة نحو الحزن إخبار ضمني من القارئ بفقره و خشيته من ربه، و اعترافه بالتقصير، و هي الضابط الحقيقي لحسن القراءة و زينتها، ثم ضبط النبي صلّى اللّه عليه و سلم لهم هذا التحزن و هو يعلمهم بأنه الذي يحقق هذا المقصد من إظهار الجزع على النفس بين يدي اللّه جل جلاله، و الخشية منه، و الإشفاق من عذابه، و الطمع في رحمته كما في حديث ابن عمر قال سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «من أحسن الناس صوتا بالقران قال: من إذا سمعت قراءته رأيت أنه يخشى اللّه عزّ و جلّ» «5».
__________________________________________________
(1) البخاري (4/ 1547)، مسلم (4/ 1944)، مرجعان سابقان.
(2) شرح النووي (16/ 19)، مرجع سابق.
(3) مجمع الزوائد (7/ 170)، مرجع سابق، و قال: «رواه الطبراني في الأوسط و فيه إسماعيل بن سيف و هو ضعيف».
(4) مجمع الزوائد (7/ 170)، مرجع سابق، و قال: «رواه الطبراني و فيه ابن لهيعة و هو حسن الحديث و فيه ضعف».
(5) سعيد بن منصور (1/ 194)، و في زوائد تاريخ بغداد على الكتب السنة (2/ 543)، مرجع سابق: «و الحديث حسن بمجموع طرقه».(1/281)
و لا ينبغي أن يقال إن في ذلك رئاء؛ إذ هذا أمر قلبي لا يحكم به ها هنا فقد كان صلى اللّه عليه و سلم القدوة العظمى في ذلك، فعن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال: قال لي النبي صلى اللّه عليه و سلم: «اقرأ علي القران»، قلت: اقرأ عليك و عليك أنزل؟ قال: «إني أحب أن أسمعه من غيري»، قال: نعم! فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الاية فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (النساء: 41) قال حسبك الان، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان.
و تسلسلت المنهجية فكان الترتيل سمت الصحابة رضي اللّه عنهم يميل نحو الحزن فعن بن أبي مليكة قال: صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة كان إذا نزل قام شطر الليل، فسأله أيوب: كيف كانت قراءته؟ قال قرأ وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (ق: 19) فجعل يرتل و يكثر في ذلكم النشيج «1»، و هكذا علم النبي صلى اللّه عليه و سلم أصحابه من أئمة الإقراء، فكانت قراءتهم كذلك: فعن سليمان بن مسلم بن جماز الزهري قال: سمعت أبا جعفر يحكي لنا قراءة أبي هريرة رضي اللّه عنه عنه في إذا الشمس كورت يحزنها شبه الرثاء «2».
المطلب الثالث: تعليمهم الترجيع لألفاظ القران الكريم:
الأحاديث التعليمية الواردة في ذلك:
علمهم النبي صلى اللّه عليه و سلم الترجيع ففي حديث عبد اللّه بن مغافل رضي اللّه عنه قال: رأيت النبي صلى اللّه عليه و سلم يقرأ و هو على ناقته أو جمله و هي تسير به و هو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة لينة يقرأ و هو يرجع «3» قال معاوية بن قرة: لولا أن أخشى أن
__________________________________________________
(1) فضائل الصحابة (2/ 950).
(2) السبعة ص 57، مرجع سابق.
(3) البخاري (4/ 1560)، مرجع سابق.(1/282)
يجتمع عليكم الناس لحكيت لكم عن عبد اللّه بن مغافل ما حكى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، فقيل لمعاوية: كيف كان ترجيعه؟ قال: ااا ثلاث مرات «1»، و قد ثبت الترجيع في غير هذا الموضع من حديث أم هانئ- رضي اللّه تعالى عنها-: كنت أسمع صوت النبي صلى اللّه عليه و سلم و هو يقرأ و أنا نائمة على فراشي يرجع القران «2».
هل حدث منه ذلك عمدا؟: ذهب بعضهم إلى هذا «إنما حصل منه يوم الفتح لأنه كان راكبا فجعلت الناقة تحرّكه و تنزّيه فحدث التّرجيع في صوته» «3»، و رجح عدد من المحققين أن ذلك تحسين للصوت و تغن بالقران على سبيل القصد، و هو أشبه بالسياق ففي لفظ: و هو يقرأ قراءة لينة فقال: لولا أن يجتمع الناس علينا لقرأت ذلك اللحن «4».
الدلالة اللغوية و الشرعية للترجيع:
الترجيع هو الترديد و منه قوله جل جلاله: يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ (سبأ: 31) أي يتلاومون، و المراجعة المعاودة يقال راجعه الكلام، و رجّع الرجل و ترجّع: ردّد صوته في قراءة أو أذان أو غناء أو زمر أو غير ذلك مما يترنم به «5»، و على هذا فالترجيع في القراءة يتضمن ما يلي:
1- ترديد القراءة، و منه ترجيع الأذان، فترجيع الصوت هو ترديده في الحلق كقراءة أصحاب الألحان «6».
__________________________________________________
(1) فتح الباري (13/ 515)، مرجع سابق.
(2) ابن ماجة (1/ 429)، شرح معاني الاثار (1/ 344)، مرجعان سابقان، و قال في مصباح الزجاجة (1/ 159)، مرجع سابق: «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات».
(3) انظر: النهاية (2/ 202)، مرجع سابق.
(4) انظر: فتح الباري (5/ 584، و 9/ 92)، مرجع سابق.
(5) انظر: لسان العرب (8/ 115)، مرجع سابق.
(6) انظر: لسان العرب (8/ 115)، مختار الصحاح (1/ 99)، مرجعان سابقان.(1/283)
2- «تقارب ضروب الحركات في الصّوت، و قد حكى عبد اللّه ابن مغفّل ترجيعه بمدّ الصّوت في القراءة نحو اء اء اء» «1»، و المراد أن في الترجيع إشباعا للمد في مواضعه «2».
3- و يظهر في الترجيع حسن الصوت بتقطيعه، و علوه، و منه رجّع الحمام في غنائه «3»؛ و يدل على العلاقة الوطيدة بين الترجيع و التنغيم ما جاء في رواية أخرى: «لو لا أن يجتمع الناس لقرأت لكم بذلك اللحن» أي النغم «4».
و عند التأمل فلا تنافي بين التأويلات الثلاثة، فتنغيم القراءة يستلزم مد الصوت في مواضعه على هيئة التحقيق البالغ، كما يستلزم الترديد للمقروء، و منه الترديد الذي يعمد إليه القراء في المحافل عند بلوغ النهاية في تزيين القران بالأصوات.
و القول الجامع في تعريف الترجيع:
أنه ترديد القراءة، و تقارب ضروب الحركات في الصّوت «5»، و في ذلك ترديد للصوت في الحلق أي تنغيم له و ترنيم مع تفاوت الصوت في الجهر و الإخفاء على هيئة الترجيع في الأذان، و مد الصّوت في القراءة نحو اء اء اء.
العلاقة بين الترجيع و الترتيل:
يظهر بهذا أن في الترجيع قدرا زائدا على الترتيل، فهو تزيين للقران بالألحان:
ف «في هذا الحديث إجازة القراءة بالترجيع و الألحان الملذذة للقلوب بحسن الصوت، و قول معاوية: لو لا أن يجتمع الناس يشير إلى أن القراءة بالترجيع تجمع نفوس
__________________________________________________
(1) النهاية (2/ 202)، مرجع سابق.
(2) فتح الباري (9/ 92)، مرجع سابق.
(3) انظر: لسان العرب (8/ 116)، مرجع سابق.
(4) انظر: فتح الباري (9/ 92)، مرجع سابق.
(5) فتح الباري (9/ 92)، مرجع سابق.(1/284)
الناس إلى الإصغاء، و تستميلها بذلك حتى لا تكاد تصبر عن استماع الترجيع المشوب بلذة الحكمة المهيمنة» «1».
و أما ما روي عن أبي بكرة قال: كانت قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم المد ليس فيها ترجيع «2» فحديث ضعيف بل قد رماه صيارفة الجرح و التعديل بالوضع، فلا يقاوم ما سبق، و مثله في الضعف و عدم الصحة ما ورد عن قتادة قال: «ما بعث اللّه نبيا إلا حسن الوجه، حسن الصوت، و كان نبيكم صلّى اللّه عليه و سلم حسن الوجه، حسن الصوت، و كان لا يرجع» «3».
العلاقة بين الترجيع و الغناء و التغني:
بين الترجيع و الغناء: هذا الترجيع ليس كترجيع الغناء و قوانين النغم، إذ إن الغناء المعروف لا ينضبط أو ينضبط بقواعد غير القواعد الضابطة لتلاوة القران كما قال بعض أهل العلم: «معنى الترجيع تحسين التلاوة، لا ترجيع الغناء لأن القراءة بترجيع الغناء تنافى الخشوع الذي هو مقصود التلاوة» «4».
__________________________________________________
(1) فتح الباري (13/ 515)، مرجع سابق.
(2) الطبراني في الأوسط (5/ 86)، مرجع سابق، و قال في مجمع الزوائد (2/ 266)، مرجع سابق: «رواه الطبراني في الكبير و فيه عمرو بن وجيه و هو ضعيف»، و قال المناوي في فيض القدير (5/ 173)، مرجع سابق: «رمز المصنف لحسنه و ليس كما ظن فقد قال الهيثمي و غيره فيه عمرو بن وجيه و هو ضعيف و قال مرة أخرى فيه من لم أعرفه و في الميزان تفرد به عمرو بن موسى يعني ابن وجيه و هو متهم أي بالوضع».
(3) قال الألباني فيه: «هذا الحديث مرسل لأنه من رواية تابعي الذي لم يذكر فيه الصحابي. (قلت: طرفه الأول ليس بحديث، لأنه لم يرفعه إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلم، ثم إن إسناده غير صحيح، فيه حسام بن مصك، قال الحافظ: «ضعيف يكاد يترك» فلا داعي للتوفيق بينه و بين حديث ابن مغافل الذي قبله كما فعل في الأصل». انظر: مختصر الشمائل المحمدية ص 165، مرجع سابق.
(4) فتح الباري (9/ 92)، مرجع سابق.(1/285)
بين الترجيع و التغني: الترجيع تدقيق لوصف التغني فالمعروف «في كلام العرب أن التغني الترجيع بالصوت كما قال حسان:
تغن بالشعر إما أنت قائله إن الغناء بهذا الشعر مضمار»
«1» فالترجيع وصف دقيق لكيفية التغني المشروع الذي أمر به النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و الظاهر أنه يمثل إحدى الكيفيات التي يتم بها التغني، و قد يكون التغني بغيره فعن علقمة بن قيس قال: بت مع عبد اللّه ابن مسعود رضي اللّه عنه ليلة فقام أول الليل ثم قام يصلي فكان يقرأ قراءة الإمام في مسجد حيه يرتل و لا يرجع، يسمع من حوله و لا يرجع صوته، حتى لم يبق من الغلس إلا كما بين أذان المغرب إلى الانصراف منها ثم أوتر «2».
علاقة الترجيع و التزيين و التغني بالترتيل الواجب:
[مراتب قراءة القرآن الكريم ]
في قراءة القران الكريم توجد عندنا مراتب:
1- المرتبة الأولى:
هي مرتبة القراءة المجردة لألفاظ القران الكريم، و هذه المرتبة هي أصل الكلام لا يسمى الكلام كلاما بدونها.
2- المرتبة الثانية:
هي الترتيل لألفاظ القران الكريم: و هي واجبة وجوبا لا مرية فيه، و تزيد على القراءة المجردة بضرورة توفر أركان الترتيل السبعة للكلام المقروء.
3- المرتبة الثالثة:
مرتبة التزيين للكلام المرتل أو التحسين له: فقول النبي صلّى اللّه عليه و سلم: «زينوا القران بأصوآتاكم» هو شي ء زائد على ذات الكلام العربي أي شي ء
__________________________________________________
(1) فتح الباري (9/ 71)، مرجع سابق.
(2) ابن أبي شيبة (2/ 84)، مسند ابن الجعد ص 368 مجمع الزوائد (2/ 260)، مراجع سابقة، و قال: «رواه الطبراني في الكبير و رجاله رجال الصحيح» و عزاه في فتح الباري (9/ 92)، مرجع سابق لابن أبي داود.(1/286)
زائد على مخارج الحروف، و صفاتها الأصلية؛ لأن هذه تمثل ذات الحرف...
فيكون التزيين المراد في الحديث يتعلق: بالصفات الفردية العارضة، و الصفات التركيبية العارضة فقط... فالأمر بالتزيين دال على وجوب التزيين لألفاظ القران الكريم أي يدل على وجوب إدغام النون الساكنة في حروفها، و تفخيم الراات في مواضعها، و الزيادة على أصل المد الأصلي، أو المد الواجب الفرعي، كالزيادة على مقدار ثلاث حركات في المتصل، و على مقدار حركتين في المنفصل، و على مقدار ما يقوم به الكلام في اللازم...
4- و المرتبة التالية للتزيين مرتبة التغني
و هو تحسين الصوت في ذاته، و تحويله على هيئة الغناء و الحداء، فالتزيين للفظ و التغني للصوت، و كمثال على ذلك فإن قوله سبحانه و تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ (المائدة: 15)، قراءتها بحروفها و صفاتها الأصلية يسمى قراءة، فإذا كانت القراءة مع الاهتمام بالصفات العارضة فيها و هي القلقلة في الدال، و الزيادة على أدنى ما يقوم به المتصل، و الإدغام صار ترتيلا و تزيينا، فإذا ما نغم الصوت صار تزيينا و تغنيا... و لا شك في التداخل بين الترتيل و التغني و التزيين. فالتغني مرتبة من أعلى مراتب الأداء... و من الكيفيات الأعلى في التغني: الترجيع و التحبير:
فأما الترجيع
فقد تقدم، و وصف الترجيع يدل على أنه أخص من التغني، فقد يحصل التغني بدون ترجيع، ولكنه ليس في قوته و جماله، و يدل على العلاقة الوطيدة بين الترجيع و التنغيم قول الراوي: «لولا أن يجتمع الناس لقرأت لكم بذلك اللحن» أي النغم «1».
__________________________________________________
(1) انظر: فتح الباري (9/ 92)، مرجع سابق.(1/287)
و أما التحبير:
فلما مر النبي صلّى اللّه عليه و سلم على أبي موسى الأشعري و هو يتلو القران من الليل و كان ذا صوت حسن، فوقف و استمع لقراءته و قال: «لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير ال داود قال: يا رسول اللّه لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا» «1» و قال أبو عثمان النهدي: ما سمعت صوت صنج و لا بربط* و لا مزمار مثل صوت أبي موسى رضي اللّه عنه، و مع هذا قال صلّى اللّه عليه و سلم: «لقد أوتي مزمارا من مزامير ال داود» «2».
و التحبير هنا هو شدة التحسين، و قوة الجمال، مع المبالغة في ذلك و المراد بذلك هنا في الصوت حتى يسر به المرء «3»، فأبو موسى يريد بالتحبير شدة تحسين الصّوت و تحزينه «4».
و هذا القدر من شدة الحسين ليس بواجب لكنه قد يزيد النشاط في التلاوة، إذ لم ينكر النبي صلّى اللّه عليه و سلم عدم وجوده، و تدخل فيه الخلقة البشرية، و المنحة الإلهية وفق القواعد المتلقاة.
__________________________________________________
(1) ابن حبان (16/ 170)، الحاكم (3/ 529)، المختارة (5/ 41)، النسائي في الصغرى (1/ 560)، مرجع سابق.
* الصّنج العربيّ: هو الذي يكون في الدّفوف و نحوه؛ فأما الصّنج ذو الأوتار فدخيل معرّب، تختص به العجم و قد تكلمات به العرب... انظر: لسان العرب (2/ 311)، مرجع سابق. البربط: ملهاة تشبه العود، و هو فارسي معرّب و أصله بربت، لأن الضارب به يضعه على صدره، و اسم الصّدر: بر... انظر: النهاية (1/ 112)، مرجع سابق.
(2) مسلم (1/ 546)، البخاري (4/ 1925)، ابن حبان (3/ 174)، الترمذي (5/ 693)، مراجع سابقة، و ذكر الشيخ القاري في (سنن القراء) ص 88، مرجع سابق أنه جاءت رواية بلفظ: لشوقت تشويقا و حبرت تحبيرا... و لم أعثر عليها.
(3) النهاية (1/ 327)، مرجع سابق.
(4) النهاية (1/ 327)، مرجع سابق.(1/288)
خاتمة في التأكيد على تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلم أصحابه حسن التصويت بالقران الكريم:
و قد كان النبي صلّى اللّه عليه و سلم يعلمهم تحسين أصواتهم بالقران و يتحري منهم ذلك فإن الصوت الحسن بالقران يجعل المخلوقات تميل مع القارئ، و تجيبه و يدل لذلك قوله سبحانه و تعالى: وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَ الطَّيْرَ (الأنبياء: 79)، و ذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور، و كان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه، و ترد عليه الجبال تأويبا.
و قد أوتي النبي صلّى اللّه عليه و سلم من حسن الصوت حظا عظيما، فبوب ابن حبان: «ذكر البيان بأن المصطفى صلّى اللّه عليه و سلم كان من أحسن الناس قراءة إذا قرأ» «1»، و في ذلك يقول البراء صلّى اللّه عليه و سلم قال: سمعت النبي صلّى اللّه عليه و سلم يقرأ و التين و الزيتون في العشاء و ما سمعت أحدا أحسن صوتا منه أو قراءة «2».
و كان الصحابة رضي اللّه عنهم يقومون بذلك على قدرهم و يسمع النبي صلّى اللّه عليه و سلم لهم، و يحثهم على المزيد، و يشجع أئمة الإقراء على زيادة التأنق في قراءة القران و يتعهداهم في ذلك فيقرأ على أبي و يسمع من ابن مسعود شيئا قد أقرأه إياه، و يستمع لأبي موسى في غير وقت التعليم، و يسمع هو و عائشة له و لسالم مولى أبي حذيفة «3»... و ربما يتفنون في ذلك بما يزيد عن الحد الواجب فيصلون إلى الترجيع و التحبير.
__________________________________________________
(1) ابن حبان (14/ 224)، مرجع سابق.
(2) البخاري (1/ 266)، ابن خزيمة (1/ 263)، ابن حبان (14/ 224)، مراجع سابقة.
(3) ابن ماجة (1/ 425)، مرجع سابق، و قال في مصباح الزجاجة (1/ 158)، مرجع سابق: «هذا إسناد صحيح»، مجمع الزوائد (9/ 300)، مرجع سابق، و قال: «رواه البزار و رجاله رجال الصحيح»، الحاكم (3/ 250)، مرجع سابق.(1/289)
و لأن الترجيع و التحبير يعتبران من الأنواع الخاصة للتغني بالقران الكريم فإن هذا يقود البحث إلى الكلام عن القراءة بالألحان، و هو ما خصصنا له المطلب الرابع لأهميته.
المطلب الرابع: القراءة بالألحان «1»:
و سبب إيراد هذه المسألة أنها «مبنية على أساس تحسين الصوت بالقران» «2».
الدلالة اللغوية للحن في هذا الباب:
لا يعدو معنى اللحن في اللغة- من هذه الجهة- أن يكون الصوت المغنّى على نسق منضبط محدد مستملح دون أن يتبادر إلى الذهن أن تصحبه أدوات المعازف كما هو الشائع في لغة الناس اليوم؛ فاللّحن هو الغناء و ترجيع الصوت و التّطريب، و التطريب هو تطريب المراد به تقطيع الصوت بالأنغام دون صحبة الة أو معها «3» و يشهد له قول الشاعر:
لقد تركت فؤادك مستجنّا مطوّقة على فنن تغنّى
يميل بها، و تركبه بلحن إذا ما عنّ للمحزون أنّا
فلا يحزنك أيام تولّى تذكّرها، و لا طير أرنّا «4»
و ظهر من هذا أن اللحن و الترنم و التغني هو ترديد الكلام المقفى الموزون على هيئة منضبطة، و قوانين خاصة، دون علاقة له بأصوات المعازف.
__________________________________________________
(1) أشار إلى هذا الموضوع، كثرة من مؤلفي علم التجويد و التفسير، و يدرجونه ضمن موضوع أعم منه هو أنواع القراءة الممنوعة، انظر- مثلا-: التمهيد ص 55، مرجع سابق.
(2) انظر: الشريعة الإسلامية و الفنون ص 307- 318، مرجع سابق.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (4/ 18).
(4) انظر: لسان العرب (13/ 382)، مرجع سابق.(1/290)
و الظاهر ألاحرج في استعمال كلمة ألحان دلالة على نمط معين لقراءة القران الكريم، لجريانها في لسان العرب، و لورودها في المصطلح الشرعي كما سيأتي بعض ذلك، و من ثم فإن استخدام ألفاظ:
الإيقاع و النغم للدلالة على ذلك ليس فيه ما يسوء، و إن كان الاستعمال العرفي العصري يجعل عدم الاستعمال أولى لارتباطه في لسان العصر بالمعازف مباشرة، و تتلخص معالم تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلم لهذا النوع من التغني بالقراءة في التالي:
أولا: الأصل الشرعي للقراءة بالألحان:
يعود إلى عدة أركان، و قد علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم كل هذه الأركان، و هي:
1- الترتيل المقتضي للتأني.
2- تزيين الأصوات و تحسينها بالقران الكريم- على ما تقدم- فيه إيماء لطلب أجمل أنواع التحسين و التزيين، و قد أمرهم صلّى اللّه عليه و سلم بتحسين أصواتهم عند تلاوة القران الكريم، و تحسين الصوت من حيث هو أمر مختلف عن القراءة بالألحان، و لذا فقد «كان بين السلف اختلاف في جواز القران بالألحان، أما تحسين الصوت و تقديم حسن الصوت على غيره لا نزاع في ذلك» «1».
و المراد بتحسين الصوت على القواعد المتلقاة ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط فإن خرج حتى زاد حرفا أو أخفاه حرم «2».
فالتحسين و التزيين أمران عامان و القراءة بالألحان أمر خاص يدخل ضمنهما مادام الالتزام بقواعد التلاوة و أحكام التجويد قائما.
__________________________________________________
(1) انظر: فتح الباري (9/ 72)، مرجع سابق.
(2) انظر: فتح الباري (9/ 72)، مرجع سابق.(1/291)
3- علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم أجمل أنواع التحسين عمليا بأن قرأ بالترجيع و أقرهم على تحبير الصوت، و كان صوته صلّى اللّه عليه و سلم في قراءة القران غاية في الملاحة و هو المقتدى به، و قد تقدم ذلك كله.
فتحسين الصوت مطلوب من حيث العموم فإن كان التحسين على خصوص قواعد النغم فيظهر ألا مانع بحسب المقدمات السابقة، إلا أن يخاف من المشابهة بين لحن القراءة و لحن الغناء مما يؤدي إلى تهوين شأن القراءة، و ترك التعظيم الواجب لها فيمنع... و قد تقدم أن من أركان الترتيل السكينة و الوقار...
فيلتزم ذلك كذلك.
و الذي يتحصل من الأدلة هو ما قاله ابن حجر: «أن حسن الصوت مطلوب فإن لم يكن حسنا فليحسنه ما استطاع كما قال ابن أبي مليكة أحد رواة الحديث، و من جملة تحسينه أن يراعى فيه قوانين النغم فإن الحسن الصوت يزداد حسنا بذلك ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراات؛ و لعل هذا مستند من كره القراءة بالأنغام لأن الغالب على من راعى الأنغام ألايراعى الأداء فإن وجد من يراعيهما معا فلا شك في أنه أرجح من غيره لأنه يأتي بالمطلوب من تحسين الصوت و اجتناب الممنوع من حرمة الأداء» «1»، حتى تقرر عند المالكية أن «القراءة بالتلحين سنة، و سماعه يزيد إيمانا بالقران و غبطة و يكسب القران خشية» «2»، و قال القاضي عياض: «من إعجاز القران أن قارئه لا يمله و سامعه لا يمجه، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة، و ترديده يوجب له محبة... و سواء من الكتب لا يوجد ذلك فيها حتى أحدث أصحابها ألحانا و طرقا يستجلبون بتلك
__________________________________________________
(1) انظر: فتح الباري (9/ 72)، مرجع سابق.
(2) (العبدري) محمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري أبو عبد اللّه ت 897 ه: التاج و الإكليل لمختصر خليل، دار الفكر، بيروت، ط 2، 1398 ه.(1/292)
اللحون تنشيطهم على قراءتها» «1»، و قالوا: «القلب يخشع للصوت الحسن كما يخضع للوجه الحسن، و ما تتأثر به القلوب في التقوى فهو أعظم في الأجر، و قال في العارضة: للصوت الحسن أثر عظيم في النفوس فإن كان المنطق رخيما رقيق الحواشي أوسع الأذن سماعا و النفس ميلا و قبولا و إن كان منغما،... و ذلك هو التحبير في الكلام و التنغيم في الغناء» «2».
«و أشار الجعبري إلى ذلك بقوله:
اقرأ بالألحان الأعارب طبعها و أجيزت الأنغام بالميزان»
«3» و على هذا نستطيع أن نقول: إن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قد علمهم تحسين أصواتهم بتلاوة القران الكريم عموما قولا و فعلا تطبيقيا و إقرارا، و القراءة بالألحان إن كانت لا تخرج قراءة القران الكريم عن كونها قراءة للقران الكريم فهي داخلة ضمنا.
و بالجمع بين كل هذه النصوص يتقرر «أنه لا تلازم بين التلحين المذموم و تحسين الصوت المطلوب، و أن التلحين المذموم و الأنغام المنهي عنها هو إخراج الحروف عما يجوز له في الأداء كما يصرح به كلام جمهور الأئمة و منهم الإمام أحمد فإنه سئل عنه في القران فمنعه فقيل له: لم؟ فقال: ما اسمك؟ قال: محمد.
قال: أيعجبك أن يقال لك يا محامد» «4».
ثانيا: علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم أن التغني المطلوب ليس مقصودا بالأصالة بل هو مطلوب بالتبع لعظمة القران و تدبره:
__________________________________________________
(1) (أبو الفضل) القاضي عياض بن موسى اليحصبي ت 544 ه: الشفا بتعريف حقوق المصطفى (1/ 277)، دار الكتب العلمية، 1399 ه- 1979 م، بيروت- لبنان.
(2) التاج و الإكليل (2/ 62)، مرجع سابق.
(3) نهاية القول المفيد في علم التجويد ص 19، مرجع سابق.
(4) فيض القدير (2/ 65)، مرجع سابق.(1/293)
فإن كان التغني مقصودا بالأصالة، و الترنم مرغوبا لذاته فقد كرهه النبي صلّى اللّه عليه و سلم لأصحابه فيما رواه عابس الغفاري رضي اللّه عنه أنهم كانوا معه فوق أجار له فمر بقوم يتحملون فقال: ما هؤلاء؟ قيل: قوم يفرون من الطاعون؟ قال: يا طاعون خذني! يا طاعون خذني! يا طاعون خذني! فقال له ابن أخ له و كانت له صحبة:
تتمنى الموت و قد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول: «لا يتمنى أحدكم الموت...»
قال: يا ابن أخي أني أبادر خلالا سمعتهن من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم تكون في اخر الزمان يتخوفهن على أمته إمارة السفهاء، و كثرة الشرط، و استخفاف بالدم، و قطيعه الرحم، و نشوا يتخذون القران مزامير يقدمون الرجل ليس بأفقههم في الدين و لا بأعلمهم و فيهم من هو أفقه منه و أعلم يقدمونه يغنيهم غناء، و في رواية الطبراني في الأوسط «يقدمون الرجل ليس بأفقههم و لا أعلمهم و لا بأفضلهم بعينهم غنى» «1» و في لفظ: «و الرجل يقرأ القران مزامير يغني به القوم، و القوم يقدمون الرجل ليس بخيرهم و لا بأفقههم يغنيهم بالقران» «2».
فالنش ء المذكور اتخذوا أئمة في الصلوات لصوتهم فقط و ليسوا أهلا لها لوجود من هو أهل لها ممن هو أقرأ «3» و إن لم يكن لهم حسن الصوت و رغبوا عن ذلك إلى
__________________________________________________
(
1) مسند أحمد (3/ 494)، الطبراني في الطبراني في الكبير (3/ 211)، و في الأوسط (1/ 212)، ابن أبي شيبة (7/ 529)، مصنف عبد الرزاق (2/ 488)، شعب الإيمان (2/ 541)، مراجع سابقة، و قال ابن عبد البر في التمهيد (17/ 147): «و هذا حديث مشهور»، و انظر: مجمع الزوائد (2/ 316، و 4/ 199)، مرجع سابق، و في (5/ 245)، و قال: «و في إسناد أحمد عثمان بن عمير البجلي و هو ضعيف واحد إسنادي الكبير رجاله رجال الصحيح»، و نحوه في مسند أحمد (6/ 22)، مرجع سابق عن عوف بن مالك، و هو في الحاكم (3/ 501)، مرجع سابق، عن الحكم بن عمرو الغفاري.
(2) الاحاد و المثاني (2/ 268)، مرجع سابق.
(3) و ليس لوجود الأعلم كما في معتصر المختصر (2/ 282)، مرجع سابق لأنه لا يقدم على الأقرأ.(1/294)
حسن الصوت راغبين عن السنة فذمّوا فلذا بادر الموت، «و ليس من ذلك من يحسن صوته ليرق قلبه، أو قلوب سامعيه في شي ء حتى لو اجتمع مستحقان للإمامة و أحدهما حسن الصوت يقدم على الذي ليس معه حسن الصوت، فلا تعارض كيف و قد وصفه اللّه تعالى بأنه لا ينطق عن الهوى و عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا رأى أبا موسى قال: ذكرنا يا أبا موسى فيقرأ عنده و كان حسن الصوت» «1».
ثالثا: علم النبي صلّى اللّه عليه و سلم أصحابه قراءة القران بلحون العرب و عاداتها في التنغيم، و نهاهم عن قراءته باللحون التي يستخدمها أهل الفسق و الكبائر:
فعن حذيفة بن اليمان رضي اللّه عنه قال: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «اقرؤا القران بلحون العرب و أصواتها و إياكم و لحون أهل الكتابين و أهل الفسق فإنه سيجي ء بعدي قوم يرجعون بالقران ترجيع الغناء و الرهبانية و النوح لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم و قلوب من يعجبهم شأنهم» «2»، و الذي ذكره ابن الأثير في النهاية في رواية هذا الحديث أنه «و إياكم و لحون أهل العشق» «3».
فقوله: «اقرؤوا القران بلحون العرب» أي تطريبها «و أصواتها» أي ترنماتها الحسنة التي لا يختل معها شي ء من الحروف عن مخرجه؛ لأن القران لما اشتمل عليه من حسن النظم، و التأليف و الأسلوب البليغ اللطيف يورث نشاطا للقارئ
__________________________________________________
(1) معتصر المختصر (2/ 282)، مرجع سابق.
(2) الطبراني في الأوسط (7/ 183)، شعب الإيمان (2/ 540)، مرجعان سابقان، و قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 169)، مرجع سابق: «و فيه راو لم يسم و بقية أيضا»، و في فيض القدير (2/ 66): «رواه الطبراني في الأوسط و البيهقي من حديث بقية عن الحصين الفزاري عن أبي محمد عن حذيفة»، قال ابن الجوزي في العلل: «حديث لا يصح و أبو محمد مجهول و بقية يروي عن الضعفاء و يدلسهم» قال الهيثمي: «فيه راو لم يسم و في الميزان تفرد عن أبي حصين بقية و ليس بمعتمد و الخبر منكر».
(3) النهاية (4/ 242)، مرجع سابق.(1/295)
لكنه «إذا قرئ بالألحان التي تخرجه عن وضعه تضاعف فيه النشاط و زاد به الانبساط، و حنت إليه القلوب القاسية، و كشف عن البصائر غشاوة الغاشية» «1» و قوله «و إياكم و لحون أهل الكتابين» «أي احذروا لحون اليهود و النصارى و أهل الفسق من المسلمين يخرجون القران عن موضعه بالتمطيط بحيث يزاد حرف أو ينقص حرف فإنه حرام إجماعا كما ذكره النووي في التبيان «ترجيع الغناء» أي أهل الغناء و رهبانية النصارى و أهل النوح لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم بنحو محبة الشبان و النساء و قلوب من يعجبهم شأنهم فإن من أعجبه شأنهم فمال مصيره منهم» «2».
فقراءة القران تكون باللحن الذي يتنوع و يستعمل من قبل فئتين متقابلتين:
الفئة الأولى:
فئة تقرؤه وفق ما اعتادته العرب في تلحينها منضبطا بقواعد لغتها و هو ما عليه عامة المسلمين الذين يقرأون القران منضبطا أداؤه بأحكام التجويد و يبقى الاختلاف بينهم عائدا إلى مدى الملاحة في الصوت و هو أمر عائد إلى الجبلة البشرية، و الطبيعة الخلقية «3»، و يحكى عن الشيخ تقي الدين محمد بن أحمد الصائغ ت 725 ه أنه قرأ يوما في صلاة الصبح (و تفقد الطير) و كررها فنزل طائر على رأسه يسمع قراءته فنظروا إليه فإذا هو هدهد، و قد أسلم جماعة من اليهود و النصارى بمجرد سماع قراءة سبط الخياط عبد اللّه بن علي البغدادي ت 541 ه.
الفئة الثانية:
فئة هم أهل الكتابين و النوح و الغناء و الرهبانية حيث يسير إما على ذوق فاعله دون قواعد ضابطة، و إما على قواعد و نواميس الإيقاع و الغناء
__________________________________________________
(1) فيض القدير (2/ 65)، مرجع سابق.
(2) فيض القدير (2/ 65)، مرجع سابق.
(3) النهاية (4/ 241)، مرجع سابق.(1/296)
غير المنضبطة بأحكام التجويد فهذا هو الممنوع، «و يشبه أن يكون أراد هذا الذي يفعله قرّاء الزّمان من اللّحون الّتي يقرأون بها النّظائر في المحافل فإن اليهود و النّصارى يقرأون كتبهم نحوا من ذلك» «1».
كيف ظهر أتباع ألحان الغناء في القراءة:
أوّل من قرأ بالألحان عبيد اللّه بن أبي بكرة، و كانت قراءته حزنا ليست على شي ء من ألحان الغناء و الحداء، فورثه عنه حفيده عبيد اللّه بن عمر، و لذلك يقال قرأت العمريّ، و أخذ ذلك عنه سعيد العلّاف الإباضيّ «2»، و صار سعيد رأس هذه القراءة في زمنه و عرفت به، لأنه أتصل بالرشيد فأعجب بقراءته و كان يحظيه و يعطيه حتى عرف بين الناس بقارئ أمير المؤمنين، و كان القراء بعده:
كالهيثم، و أبان، و ابن أعين، و غيرهم ممن يقرؤن في المجالس أو المساجد، يدخلون في القراءة من ألحان الغناء و الحداء و الرهبانية، فمنهم من كان يدس الشي ء من ذلك دسا خفيا، و منهم من يجهر به حتى يسلخه، فمن هذا قراءة الهيثم أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ (الكهف: 79) فإنه كان يختلس المد اختلاسا فيقرؤها (لمسكين) و إنما سلخه من صوت الغناء كهيئة اللحن في قول الشاعر:
أما القطاة فإني سوف أنعتها نعتا يوافق عندي بعض (مفيها)
أي ما فيها، حتى كان الترمذي محمد بن سعيد في المائة الثالثة، و كان الخلفاء و الأمراء يؤمئذ قد أولعوا بالغناء، فقرأ محمد هذا على الأغاني المولدة المحدثة سلخها في القراءة بأعيانها «3».
__________________________________________________
(1) النهاية (4/ 242)، مرجع سابق.
(2) لسان العرب (15/ 137)، مرجع سابق.
(3) تاريخ اداب العرب (1/ 61)، مرجع سابق.(1/297)
و على هذا فالنواميس التي يجوز بها استعمال قوانين الإيقاع عند التلاوة هي «1»:
1- الالتزام بضوابط التجويد و أركان الترتيل دون شطط.
2- و إبقاء الجو القراني على حاله من التحزين و الخشوع و الإخبات.
3- ألايتولد من حروف ليست من القران كزيادة ألف أو تطويل الحركة القصيرة إلى طويلة، و هو ما يعبر عنه العلماء بالتمطيط.
4- ألايترتب على ذلك التقصير في أداء حركة طويلة، أو البتر في حرف لين، أو حرف مشدد مثل التقصير في تشديد (ذرية) و نحو ذلك.
5- عدم الغلو في التلحين حتى يظهر أنه الغاية من القراءة لا أنه يعين على تدبر القراءة، فيكون صاحبه مفتونا قلبه و قلب من يسمعه لدرجة أنه لا يسمع القران إلا له، لا لأنه القران.
6- عدم الغلو في طلب اللحن حتى يبحث عن أصوله من غناء اللاهين، و يصبح فنا مستقلا عن المراد منه «2»، يبذل له التكلف، و يخرج به عن طبيعة المرء...
كما قال ابن الجزري:
__________________________________________________
(1) قد ظهر مما سبق و مما يتلخص الان الإطار العام لبحث هذه القضية، فالبحث لا يتناولها بالإسفاف الذي تناولها به صاحب كتاب (ألحان السماء) الذي يشير إلى الثروة الكبيرة التي يكتسبها القارئ الفنان عند امتلاكه اسطوانات باخ و موزارت و بيتهوفن و لست، و ضرورة النهل منها... و على الرغم من أن المكتبة الإسلامية العصرية تفتقر إلى تراجم القراء المتأخرين، و قد ظهر في هذا الكتاب أنه يريد أن يسد جزا من ذلك... إلا أن أسلوب التناول كان غير لائق، و لا يستند على البحث العلمي، أو الصبغة الشرعية. انظر: محمود السعدني: ألحان السماء، كتاب اليوم يصدر عن دار أخبار اليوم أول كل شهر، عدد يناير 1996 م.
(2) انظر: أيمن سويد: البيان لحكم قراءة القران الكريم بالألحان، قرظه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد اللّه بن باز، ط 1، 1412 ه/ 1991 م، حيث نقل المؤلف فتاوى للعلماء الأقدمين و المعاصرين الذين منعوا القراءة بالألحان، و انظر: كيف يتلقى القران؟ اداب التلاوة و أحكام التجويد ص 29، مرجع سابق.(1/298)
مكملا من غير ما تكلف باللطف في النطق بلا تعسف
فالقراءة بالألحان مع مخالفة هذه الشروط هو الذي كرهه العلماء و منعوه، و هو الذي قالوا فيه «ما أحدثه المتكلفون بمعرفة الأوزان و الموسيقى فيأخذون في كلام اللّه مأخذهم في التشبيب و العزل فإنه من أسوأ البدع فيجب على السامع النكير و على التالي التعزير» «1»، و جاء زياد النميري مع القراء إلى أنس بن مالك رضي اللّه عنه فقيل له:
اقرأ فرفع صوته و طرّب، و كان رفيع الصوت فكشف أنس عن وجهه، و كان على وجهه خرقة سوداء فقال: يا هذا ما هكذا كانوا يفعلون و كان إذا رأى شيئا ينكره كشف الخرقة عن وجهه، و في ترجمة الحافظ السلفي: أزال من جواره منكرات كثيرة رأيته منع القراء بالألحان و قال: هذه القراءة بدعة اقرؤا ترتيلا «2».
الاستعانة على تحسين الصوت بالوسائل المشروعة كالمحاكاة:
و يستفاد من النصوص السابقة، و منها قول ابن أبي مليكة راوي حديث (التغني) حينما قيل له: أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت ماذا يصنع؟ قال: يحسنه ما استطاع.
«أنه لقارئ القران أن يستعين بما تيسر له من الوسائل لتحسين صوته، و منها أن يتعلم من قانون النغم و ما يختاره أو يختار له من الألحان المناسبة لقراءة القران، و ذلك بقدر ما يحتاج إليه للتغني بالقران، يتلقى ذلك عن شيخه الذي يقرئه إن كان ممن يتقن ذلك.
و منها: التقليد و المحاكاة، بأن يحاكي شيخه، و هذا لا بد منه عند التعلم، أو يحاكي أحد المتقنين من القراء أصحاب الأصوات الحسنة، و الأنغام المؤثرة،
__________________________________________________
(1) فيض القدير (4/ 68)، مرجع سابق.
(2) تذكرة الحفاظ (4/ 1302)، مرجع سابق.(1/299)
كالمنشاوي، أو عبد الباسط عبد الصمد، أو أصحاب الترتيل المتقن حدرا و تحزينا من أئمة التراويح الذين يصدحون في المحاريب بأجمل الأصوات و أحسن الأداء» «1» ففي حديث الترجيع «قلد الصحابي- و هو عبد اللّه بن مغافل- النبي صلّى اللّه عليه و سلم في ترجيعه بذلك اللحن، و التابعي- و هو معاوية بن قرة- كاد أن يفعل.
أفلا يشرع لكل قارئ أن يحاكي النبي صلّى اللّه عليه و سلم في هذا اللحن؟
و هل يلزم أن ينقل إلينا نص بأن الصحابة كانوا يحاكونه صلّى اللّه عليه و سلم في لحنه؟
ألا يكفي ما نعلمه من شدة حرصهم على متابعته و الاقتداء به.
إذا كان لكل تلميذ أن يحاكي شيخه في أدائه، و صوته، و لحنه، أفلا نحاكي معلمنا الأول و إمامنا و نبينا و سيدنا صلّى اللّه عليه و سلم في ذلك كله؟!» «2».
__________________________________________________
(1) انظر: سنن القراء ص 107، مرجع سابق.
(2) انظر: سنن القراء ص 108، مرجع سابق.(1/300)
المبحث السادس: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم الملحقات بأحكام التجويد:
من الأبواب التي تطرقها كتب التجويد أبواب الاستعاذة و البسملة، و أحكام الختم، و أحكام الوقف، و أحكام الجهر و الإسرار، و قد صنفها الباحث اجتهادا فجعلها ملحقات بأحكام التجويد و ليست منه لأنها لا تتعلق بحق الحرف أو مستحقه، و يروم هذا المبحث كشف تفاصيل تعليم هذه الأبواب و المسائل من النبي صلّى اللّه عليه و سلم لأصحابه، و لذا انقسم هذا المبحث إلى أربعة مطالب:
المطلب الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم أحكام الابتداء.
المطلب الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم أحكام الختم.
المطلب الثالث: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم أحكام الوقف.
المطلب الرابع: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم أحكام الجهر و الإسرار بقراءة القران.
المطلب الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم أحكام الابتداء:
و المراد بالابتداء هنا ابتداء القراءة لا الابتداء المعروف في أحكام التجويد الذي يقابل الوقف، و تتعلق بالابتداء الأحكام التالية من حيث تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم:
أولا: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم الاستعاذة في أول القراءة:
أمر اللّه جل جلاله نبيه صلّى اللّه عليه و سلم بالاستعاذة عند أول كل قراءة فقال سبحانه و تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (النحل: 98) أي إذا أردت أن تقرأ فأوقع الماضي موقع المستقبل كما قال الشاعر:
و إني لاتيكم لذكرى الذي مضى من الود و استئناف ما كان في غد(1/301)
أراد ما يكون في غد، و مثله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ (القمر: 1) و هو كثير «1».
و قد روي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن الاستعاذة بعد القراءة و قال به داود و عقب ابن العربي على ذلك قائلا: «انتهى العيّ بقوم إلى أن قالوا: إذا فرغ القارئ من قراءة القران يستعيذ باللّه من الشيطان الرجيم و قد روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة و هذا نص» «2».
و الظاهر أنه إن صح عن البعض أن الاستعاذة تكون بعد القراءة: فإنهم لا يعنون بها حال الفراغ و إنما أثناء القراءة زيادة على التعوذ قبل القراءة، و ذلك طردا للوسواس الحادث في الأثناء إن قوي شيطانه على الإنسان، كما يحدث في الصلاة فإن التعوذ مجمع على مشروعيته قبل قراءة الفاتحة في الصلاة، و قد يتكرر لعارض اشتداد الوسواس كما جاء ذلك عن عثمان بن أبي العاص أنه أتى النبي صلّى اللّه عليه و سلم فقال: يا رسول اللّه! إن الشيطان قد حال بيني و بين صلاتي و قراءتي يلبسها علي، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ باللّه منه و اتفل على يسارك ثلاثا» قال: ففعلت ذلك فأذهبه اللّه عني «3»، فتكون فائدتها امتثال الأمر بالاستعاذة من وسوسة الشيطان عند القراءة كما قال سبحانه و تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ (الحج: 52)؛ إذ إن معنى الاستعاذة: الاستجارة و التحيز إلى الشي ء على معنى الامتناع به من المكروه، و اللّه عياذي أي ملجئي... فالالتجاء
__________________________________________________
(1) انظر: القرطبي (1/ 86)، مرجع سابق.
(2) أحكام القران لابن العربي (1/ 88)، مرجع سابق.
(3) مسلم (4/ 1728)، مرجع سابق.(1/302)
و الاعتصام مطلوب ابتداء و أثناء حتى يتم العمل، و لذا مال بعض المفسرين إلى اعتبار التعوذ فرض، لظاهر الأمر في الاية فإذا نسيه القارئ، و ذكره في بعض الحزب قطع و تعوذ ثم ابتدأ من أوله، و قيل: يستعيذ ثم يرجع إلى موضعه الذي وقف فيه «1».
الصيغة التي علمهم صلّى اللّه عليه و سلم إياها:
هي تلك الواردة في سورة النحل، لكن أولها أعوذ، و لم يثبت أنه استخدم لفظة أستعيذ، و قد قالها النبي صلّى اللّه عليه و سلم بصيغتها في غير ما موقف كما في الحديث السابق، و عن أبي موسى رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «إذا اجتمع أهل النار في النار، و معهم من شاء اللّه من أهل القبلة قال الكفار للمسلمين: أ لم تكونوا مسلمين؟ قالوا: بلى! قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم و قد صرتم معنا في النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها، فسمع اللّه ما قالوا: فأمر من كان في النار من أهل القبلة فأخرجوا فلما رأى ذلك من بقي من الكفار في النار قالوا:
يا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما خرجوا»، ثم قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (الحجر: 1- 2) «2»، و في هذا إشارة إلى أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم كان يبدأ الاية التي يتلوها في حديثه بالاستعاذة.
__________________________________________________
(1) انظر القرطبي (1/ 88)، مرجع سابق.
(2) و قال في مجمع الزوائد (7/ 45)، مرجع سابق، «رواه الطبراني و فيه خالد بن نافع الأشعري قال أبو داود: متروك قال الذهبي: هذا تجاوز في الحد فلا يستحق الترك فقد حدث عنه أحمد بن حنبل و غيره و بقية رجاله ثقات».(1/303)
و قد وردت الزيادة على هذه الصيغة «1»:
إن كانت الزيادة تنزيها للّه سبحانه و تعالى، أو ذما للشيطان فقد علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم ذلك فعن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إذا قام من الليل إلى الصلاة كبر ثلاثا ثم قال: «سبحانك اللهم و بحمدك تبارك اسمك و تعالى جدك و لا إله غيرك ثم يقول لا إله إلا اللّه» ثلاث مرات ثم يقول «اللّه أكبر» ثلاثا ثم يقول «أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه و نفخه و نفثه ثم يقرأ» «2»، و مثله عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه «3»، ومثله في صيغة الاستعاذة عن أبي أمامة الباهلي «4» إلا أنه قال في رواية أخرى: ثم يقول «اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزة و نفخه و شركه» «5»، و عن عائشة رضي اللّه عنها في ذكر الإفك قالت: جلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و كشف عن وجهه و قال: «أعوذ بالسميع» أو قال «أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم» إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ الاية «6» ولكن قال أبو داود: أخاف أن يكون أمر الاستعاذة من كلام حميد «7»،
__________________________________________________
(1) انظر في هذه المسألة: الشاطبية باب الاستعاذة ص 25، طيبة النشر باب الاستعاذة ص 38، و شروحهما و انظر: القرطبي (1/ 87).
(2) أحمد (3/ 50)، أبو داود (1/ 206)، الترمذي (2/ 10)، و قال الهيثمي في المجمع (2/ 265): «رواه أحمد و رجاله ثقات».
(3) سنن أبي داود (1/ 203)، أحمد (4/ 85)، مرجعان سابقان، و فيه: قال عمر و همزه الموتة و نفخه الكبر و نفثه الشعر، و قال ابن ماجة: المؤتة يعني الجنون و النفث: نفخ الرجل من فيه من غير أن يخرج ريقه و الكبر: التيه.
(4) أحمد (5/ 253)، مرجع سابق.
(5) رواه أحمد (5/ 253)، مرجع سابق، و قال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 265)، مرجع سابق: «رواه أحمد و فيه من لم يسم».
(
6) أبو داود (1/ 208)، البيهقي في الكبرى (2/ 43)، مرجعان سابقان.
(7) انظر: سنن أبي داود (1/ 208)، مرجع سابق.(1/304)
هذا مع أن العلماء أجمعوا على أن التعوذ ليس من القران و لا اية منه «1»، و أما ما روي عن ابن مسعود أنه قال: قلت: أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم فقال لي النبي صلّى اللّه عليه و سلم: «يا ابن أم عبد أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم هكذا أقرأني جبريل عن اللوح المحفوظ عن القلم» «2» فهو حديث لا يعرف و يرده ما سبق من أحاديث.
و لذا ذهب المقرئون إلى عدم التزام هذه اللفظة بعد إذ رأوا أن التزامها ليس واجبا، فجاء عن ابن القاسم أن الاستعاذة: أعوذ باللّه العظيم من الشيطان الرجيم إن اللّه هو السميع العليم بسم اللّه الرحمن الرحيم «3» فهذا مما للاجتهاد البشري مدخل في التصرف في لفظه، و إن كان الوارد في الاية هو الأفضل، و لذا قال ابن عطية: «و أما المقرئون فأكثروا في هذا من تبديل الصفة في اسم اللّه تعالى و في الجهة الاخرى كقول بعضهم: أعوذ باللّه المجيد من الشيطان المريد و نحو هذا مما لا أقول فيه: نعمت البدعة و لا أقول: إنه لا يجوز» «4».
ثانيا: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم البسملة «5»:
علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم أن البسملة فصل بين السور من الناحية العامة، و أنها تقرأ حال الابتداء بالسورة، عند ابتداء القراءة أو أثنائها و هذا مجمع عليه بين القراء «6»،
__________________________________________________
(1) انظر: القرطبي (1/ 86)، مرجع سابق.
(2) القرطبي (1/ 87)، مرجع سابق.
(3) انظر: القرطبي (1/ 86)، مرجع سابق.
(4) تفسير ابن عطية (1/ 120)، مرجع سابق.
(5) انظر في معناها: القرطبي (1/ 100)، مرجع سابق.
(6) لذا قال الشاطبي- رحمه اللّه تعالى-: و لا بد منها في ابتدائك سورة سواها... انظر الشاطبية ص 26، مرجع سابق.(1/305)
بغض النظر عن كونها اية من الفاتحة، أو من كل سورة، أو ليست باية، و من المؤشرات على هذا التعليم: ما جاء عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم اللّه الرحمن الرحيم «1»، و هذا يعني أنهم كانوا يعلمون أن هذه الاية أو الايات التي نزلت ابتداء سورة جديدة بأن يقرأ النبي صلّى اللّه عليه و سلم بسم اللّه الرحمن الرحيم عند قراءتها، و إلا فهي من سورة سابقة يخبرهم بها صلّى اللّه عليه و سلم كما تلقاه من جبريل عليه السّلام فعند ابتداء السورة لا بد من ذكر البسملة في القراءة بغض النظر عن الخلاف المذكور؛ و لما وصفت أم سلمة قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ذكرت أنه يبدأ بالبسملة فقالت: بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين يقطع قراءته (اية اية) «2»، و لما قرأ عليهم سورة الكوثر قرأها عليهم: بسم اللّه الرحمن الرحيم:
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) (سورة الكوثر)... الحديث «3»، و عن ابن عباس رضي اللّه عنه أنه كان يقول: تفتتح القراءة ب بسم اللّه الرحمن الرحيم «4»، و هل هذا اجتهاد منه أم له حكم الرفع؟ احتمال...
و قوله (القراءة) قد يريد السورة كما سبق في حديثه المرفوع، و قد يريد القراءة و لو كانت من غير أول السورة... و يكون عند هذا شاهدا لمن قال: يبسمل في أثناء السور «5».
__________________________________________________
(1) المختارة (10/ 315)، النسائي في الصغرى (1/ 250)، أبو داود (1/ 209)، مراجع سابقة.
(
2) أبو داود (4/ 37)، الحاكم (2/ 252)، و اللفظ له، البيهقي في الكبرى (2/ 44)، مراجع سابقة، و ما بين القوسين له، الدارقطني (1/ 307)، مرجع سابق، و خرجه أيضًا في (1/ 312) و قال: «إسناده صحيح و كلهم ثقات».
(3) مسلم (1/ 300)، مرجع سابق.
(4) البيهقي في الكبرى (2/ 49)، مرجع سابق، و لم يكر الاستعاذة لأنها ليست من القران بالإجماع.
(5) انظر: الشاطبية عند قول الناظم في باب البسملة ص 26، مرجع سابق: و في الأجزاء خير من تلا.(1/306)
و علمهم صلّى اللّه عليه و سلم كيفية ترتيلها:
فسئل أنس بن مالك رضي اللّه عنه كيف كانت قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: كانت مدا ثم قرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم يمد بسم اللّه و يمد الرحمن و يمد الرحيم «1».
و علمهم صلّى اللّه عليه و سلم كيفية الوقف فيها:
و أنه يكون عند اخرها كما روت ذلك أم سلمة رضي اللّه تعالى عنها ففي لفظ عنها: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قرأ في الصلاة بسم اللّه الرحمن الرحيم فعدها اية، الحمد للّه رب العالمين ايتين، الرحمن الرحيم ثلاث ايات، مالك يوم الدين أربع ايات، و قال هكذا إياك نعبد و إياك نستعين و جمع خمس أصابعه «2».
و كان صلّى اللّه عليه و سلم يعلمهم أنها من لوازم القراءة في سورة الفاتحة:
و هذا متفق عليه بين القراء، فعن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: «إذا قرأتم الحمد للّه رب العالمين فاقرؤا بسم اللّه الرحمن الرحيم إنها أم القران و أم الكتاب و السبع المثاني و بسم اللّه الرحمن الرحيم أحد اياتها» «3».
و عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: اية من كتاب اللّه أغفلها الناس بسم اللّه الرحمن الرحيم «4».
__________________________________________________
(1) البخاري (4/ 1925)، ابن حبان (14/ 223)، مرجعان سابقان.
(2) انظر تخريج ما قبله.
(
3) البيهقي في الكبرى (2/ 45)، الدارقطني (1/ 312)، مرجعان سابقان.
(4) الفضائل لأبي عبيد ص 218، مرجع سابق، و انظر: تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب، و قال ابن كثير: «إسناده جيد».(1/307)
و علمهم صلّى اللّه عليه و سلم الجهر بها أحيانا في الصلاة «1»:
فعن نعيم المجمر قال: كنت وراء أبي هريرة رضي اللّه عنه فقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم القران حتى بلغ وَ لَا الضَّالِّينَ (الفاتحة: 7) قال: امين و قال: الناس امين... و يقول إذا سلم و الذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم «2».
و علمهم صلّى اللّه عليه و سلم المخافتة بها أحيانا أخرى في الصلاة و غيرها:
و قد تكون المخافتة لعارض يقتضي ذلك كما جاء عن سعيد بن جبير قال:
كان المشركون يحضرون بالمسجد فإذا قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: بسم اللّه الرحمن الرحيم قالوا: هذا محمد يذكر رحمان اليمامة يعنون مسيلمة فأمر أن يخافت ببسم اللّه الرحمن الرحيم و نزل: وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ (الإسراء: 110) «فبقي ذلك إلى يومنا هذا على ذلك الرسم و إن زالت العلة كما بقي الرمل في الطواف و إن زالت العلة و بقيت المخافتة في صلاة النهار و إن زالت العلة» «3»، و القول بهذا الحديث حال صحته.
هل هي اية؟:
ليس هذا من نطاق البحث، ولكن الباحث يود الإشارة إلى أن الرجوع إلى مناهج كل علم يزيل كثيرا من الخلاف فالصحيح هنا ما قرره حذاق العلماء من
__________________________________________________
(1) و هذا اختيار ابن القيم في الجمع بين النصوص. انظر: زاد المعاد في هدي خير المعاد (1/ 206).
(2) ابن خزيمة 251، ابن حبان (5/ 100)، و رواه الدارقطني (1/ 305)، و قال: «هذا حديث صحيح و رواته كلهم ثقات».
(3) القرطبي (1/ 96)، مرجع سابق.(1/308)
أنها اية من القران في بعض القراات دون بعض «1» شأنها في ذا كشأن لفظة كلمة (من) في الاية 100 من سورة براءة، بعدد الكوفيين، فهي من القران في قراءة ابن كثير دون غيرها، أو كلمة (هو) في الاية 24 من سورة الحديد فهي من القران في قراءة الجمهور دون قراءة نافع و ابن عامر، و لذا اختلف علماء العدد في عدها في الفاتحة «2»، و لذا فالاستدلال بالاختلاف فيها على نفي قرانيتها غير سديد، كما فعل كثير من المالكية «3»... و بذلك تجتمع الأقوال و يزول الخلاف- إن شاء اللّه تعالى-، و أشار إلى هذا الجمع صاحب مراقي السعود في أصول الفقه بقوله:
و ليس للقران تعزى البسملة و كونها منه الخلاف نقله
و بعضهم إلى القران نظر و ذاك للوفاق رأي معتبر
و قد اتفقوا على ابتداء السورة بالبسملة و لذا فإن الإمام مالك قال: و لا بأس أن يقرأ بها النافلة و من يعرض القران عرضا «4»، بل اختلفت الرواية عنه في إثباتها في أول كل سورة فروى عنه ابتداء القراءة بها في الصلاة الفرض و النفل و لا تترك بحال «5».
__________________________________________________
(1) انظر: (الشنقيطي) محمد الأمين بن المختار: مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر لابن قدامة ص 55، دار القلم، بيروت، و انظر: شرحه نثر الورود على مراقي السعود، مع تتمته للدكتور محمد ولد سيدي الشنقيطي (1/ 90)، ط 1، 1415 ه- 1995 م، دار المنارة للنشر و التوزيع- جدة.
(2) انظر: تفصيل الخلاف في هذه المسألة في: روح المعاني (1/ 40)، أحكام القران للجصاص (1/ 19)، بدائع الصنائع (1/ 204)، حاشية ابن عابدين (1/ 491)، الإحكام للامدي (1/ 215)، المستصفى (1/ 82)، مراجع سابقة.
(3) انظر: تفسير القرطبي (1/ 95)، مرجع سابق.
(4) القرطبي (1/ 95)، مرجع سابق، و أما بقية الأئمة الثلاثة فمتفقون على كونها من القران مع خلاف بينهم في تفصيل ذلك.
(5) القرطبي (1/ 96)، مرجع سابق.(1/309)
المطلب الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم أحكام الختم:
أحكام الختم كثيرة، و نذكر هنا ما ورد فيه التعليم تصريحا:
أولا: علمهم صلّى اللّه عليه و سلم الأمد الزماني لختم القران:
فقد علم النبي صلّى اللّه عليه و سلم أصحابه مدة الختم فعن عبد اللّه بن عمرو رضي اللّه عنهما قال لي النبي صلّى اللّه عليه و سلم: في كم تقرأ القران؟ و في لفظ: قلت يا رسول اللّه في كم أقرأ القران؟
قال: «اختمه في شهر» و في لفظ للدارمي: قلت يا رسول اللّه إني أطيق أفضل من ذلك. قال: «اختمه في خمسة و عشرين» قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، و في لفظ: قلت إني أجد قوة قال: «اختمه في عشرين» قلت: إني أطيق أفضل من ذلك قال: «اختمه في خمسة عشر». قلت إني أطيق أفضل من ذلك قال: «اختمه في عشر» قلت إني أطيق أفضل من ذلك، و في لفظ:- حتى قال-: «فاقرأه في سبع و لا تزد على ذلك» «1»، و في رواية: قال: «اختمه في خمس» قلت إني أطيق أفضل من ذلك قال: «فما رخص لي» و لفظ الدارمي: قال: «لا» «2» و عنه أيضًا قال أمره النبي صلّى اللّه عليه و سلم أن يقرأ في أربعين ثم في شهر ثم في عشرين ثم في خمسة عشر و في عشر ثم في سبع قال انتهى إلى سبع «3» و في لفظ لأبي داود: لم ينزل من سبع «4».
و قوله: «و لا تزد على ذلك» «أي لا يغير الحال المذكورة إلى حالة أخرى، أي لا يقرؤه في أقل من سبع» «5».
__________________________________________________
(1) البخاري (7/ 1972)، مرجع سابق.
(2) الترمذي (5/ 196)، مرجع سابق، و قال: «هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه».
(3) سنن النسائي الكبرى (5/ 25)، و نحوه في سنن أبي داود (2/ 56)، و انظر: سنن البيهقي الكبرى (2/ 396)، مراجع سابقة.
(4) أبو داود (2/ 56)، مرجع سابق.
(5) انظر: فتح الباري (9/ 97)، مرجع سابق.(1/310)
و الجمع بين روايتي الثلاث و السبع أن يحمل على «تعدد القصة فلا مانع أن يتعدد قول النبي صلّى اللّه عليه و سلم لعبد اللّه بن عمرو ذلك تأكيدا، و كأن النهي عن الزيادة ليس على التحريم كما أن الأمر في جميع ذلك ليس للوجوب، و أغرب بعض الظاهرية فقال: يحرم أن يقرأ القران في أقل من ثلاث» «1» ولكن ما استغربه ابن حجر هو الغريب؛ إذ لم يرخص النبي صلّى اللّه عليه و سلم في أقل من ذلك، إلا أن يوضحه بعمل بعض الصحابة على خلافه دلالة على الجواز، و يكون سبيله في هذا التحقيق سبيل التحقيق في جواز صوم الوصال مع النهي عنه.
و ليس هذا خاصا بعبد اللّه فقد انتشر تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلم لذلك بين أصحابه فعن سعد بن المنذر الأنصاري رضي اللّه عنه أنه قال: يا رسول اللّه أقرأ القران في ثلاث قال:
«نعم». قال: و كان يقرؤه حتى توفي «2»، و سعد بن المنذر أنصاري عقبي بدري «3».
و هل المراد بالقران الوارد في هذه الأحديث الذي سبقه: جميع القران أم بعضه: إذ القصة وقعت قبل وفاة النبي صلّى اللّه عليه و سلم و قبل أن يكتمل القران؟.
الجواب: بل المراد من لفظة القران هنا جميعه لعدة أوجه:
1- أن بعض القران لا يحتاج إلى ختم لأنه يصدق على الاية و السورة القصيرة التي تختم في أقل من دقيقة و لا يصدق على ذلك اسم ختم.
__________________________________________________
(1) انظر: فتح الباري (9/ 97)، مرجع سابق.
(
2) الطبراني في الكبير (6/ 51)، مرجع سابق، و قال في مجمع الزوائد (7/ 171)، مرجع سابق: «رواه أحمد و فيه ابن لهيعة و حديثه حسن و فيه ضعف»، و في الإصابة (3/ 86): «سعد بن المنذر الأنصاري ذكره البخاري و قال روى حديثه ابن لهيعة و لم يصح قلت و أخرجه بن المبارك في الزهد عن أبي لهيعة حدثني واسع بن حبان عن أبيه عن سعد بن المنذر الأنصاري أنه قال يا رسول اللّه أقرأ القران في ثلاث قال نعم إن استطعت و كان يقرؤه كذلك إلى أن توفى و أخرجه الحسن بن سفيان و البغوي من طريق بن لهيعة عن حبان».
(3) فيض القدير (2/ 61)، مرجع سابق.(1/311)
2- أن العبرة بما دل عليه الإطلاق في قوله صلّى في كم تقرأ القران، و يضاف إلى هذا الوجه إشعار السياق بذلك للوجه السابق.
3- أن هذا هو الذي فهمه الصحابي رضي اللّه عنه: «فكان يقول: ليتني لو قبلت الرخصة» و لا شك أنه بعد نزول شي ء جديد من الوحي على النبي صلّى اللّه عليه و سلم كان يضيفه الصحابي إلى محفوظه، «فالمراد بالقران جميع ما كان نزل إذ ذاك و هو معظمه و وقعت الإشارة إلى أن ما نزل بعد ذلك يوزع بقسطه» «1».
ثانيا: علمهم صلّى اللّه عليه و سلم الحد الأعلى لختم القران:
فلا ينبغي لمسلم أن يتجاوزه في ختم الكتاب الكريم فعن عبد اللّه بن عمرو أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال له: «اقرأ القران في أربعين» «2»، قال بعض أهل العلم: و لا نحب للرجل أن يأتي عليه أكثر من أربعين و لم يقرأ القران لهذا الحديث «3».
ثالثا: علمهم صلّى اللّه عليه و سلم الحد الأدني لمدة الختم:
فعن عبد اللّه بن عمرو رضي اللّه عنهما قال: أمرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ألاأقرأ القران في أقل من ثلاث «4» و بين صلّى اللّه عليه و سلم علة ذلك فقال: «لم يفقه من قرأ القران في أقل من ثلاث» «5»، و شاهده عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح من وجه اخر عن ابن مسعود رضي اللّه عنه: «أقرؤا القران في سبع و لا تقرؤه في أقل من ثلاث»، و عن
__________________________________________________
(1) فتح الباري (9/ 98)، مرجع سابق.
(2) الترمذي (5/ 197)، و قال: «هذا حديث حسن»، أبو داود (2/ 56)، مرجع سابق.
(3) الترمذي (5/ 196)، مرجع سابق.
(4) الدارمي (2/ 502)، مرجع سابق.
(5) الترمذي (5/ 198)، و قال: «هذا حديث حسن صحيح»، سنن النسائي الكبرى (5/ 25)، و في سننه الصغرى (1/ 562)، مراجع سابقة، و قال في تحفة الأحوذي (8/ 220)، مرجع سابق: «أي لم يفهم ظاهر معانيه و أما فهم دقائقه فلا يفي به الأعمار و المراد نفي الفهم لا نفي الثواب».(1/312)
عائشة أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم كان لا يختم القران في أقل من ثلاث «1» و قد أوصى النبي صلّى اللّه عليه و سلم عددا من الصحابة بذلك، و منهم سعد بن المنذر الأنصاري كما تقدم قيل قليل.
و في أن الأصل لزوم ذلك يقول الترمذي «و قال بعض أهل العلم: لا يقرأ القران في أقل من ثلاث للحديث الذي روي عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم» «2» و هذا اختيار أحمد و أبي عبيد و إسحاق بن راهواه و غيرهم «3» و هذا «أولى ما يرجع إليه في التقديرات... و ذلك لأن الزيادة عليه تمنعه الترتيل» «4».
من الصحابة رضي اللّه عنهم لتلاميذهم: كان الصحابة رضي اللّه عنهم يوصون أصحابهم بذلك فعن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه: «اقرؤا القران في سبع و لا تقرؤه في أقل من ثلاث و ليحافظ الرجل في يومه و ليلته على جزئه» «5»، و قال عبد اللّه رضي اللّه عنه: «من قرأ القران في أقل من ثلاث فهو راجز» «6»، و كان ابن مسعود «يقرأ القران في كل ثلاث و قلما يستعين بالنهار» «7»، و عنه رضي اللّه عنه أنه كان يقرأ القران من الجمعة إلى الجمعة و في رمضان يختمه في كل ثلاث «8» و قد أخذ أصحابه بذلك فعن علقمة أنه كان يقرأ القران في خمس، و كان الأسود بن يزيد يقرؤه في ست «9»، و عن أبي بن
__________________________________________________
(1) انظر: فتح الباري (9/ 97)، مرجع سابق.
(2) انظر: فتح الباري (9/ 97)، مرجع سابق.
(3) انظر: فتح الباري (9/ 97)، مرجع سابق.
(4) إحياء علوم الدين (1/ 275)، مرجع سابق.
(5) البيهقي في الكبرى (2/ 396)، ابن أبي شيبة (2/ 242)، مرجعان سابقان، و انظر: تحفة الأحوذي (8/ 219)، التبيان في اداب حملة القران ص 31 للوقوف على أمثلة كثيرة لعادات السلف الصالح في مدة الختم.
(6) ابن أبي شيبة (2/ 241)، مرجع سابق.
(7) ابن أبي شيبة (2/ 242)، مرجع سابق.
(8) شعب الإيمان (2/ 415)، مرجع سابق.
(9) ابن أبي شيبة (2/ 242)، مرجع سابق.(1/313)
كعب أنه كان يختم القران في ثمان و أن تميما الداري كان يختم القران في سبع «1»، و عن أبي العالية قال: كان معاذ يكره أن يقرأ القران في أقل من ثلاث «2»، و عن زيد بن ثابت قال: لأن أقرأ القران في شهر أحب إلي من أن أقرأه في خمس عشرة و أن أقرأه في خمس عشرة أحب إلي من أن أقرأه في عشر و لأن أقرأه في عشر أحب إلي من أن أقرأه في سبع و أدعو «3»، و سئل زيد بن ثابت: كيف ترى في قراءة القران في سبع فقال زيد: حسن و لأن أقرأه في نصف أو عشر أحب إلى وسلني لم ذاك قال فإني أسألك قال زيد لكي أتدبره و أقف عليه «4».
تنبيه حول قراءة الفاتحة و أول سورة البقرة بعد تمام الختمة:
جعل البعض من تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلم لأصحابه ختم القران الكريم: ما جاء عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن رجلا قال: يا رسول اللّه! أي الأعمال أفضل؟ قال: «الحال المرتحل» قال: يا رسول اللّه! و ما الحال المرتحل؟ قال: «صاحب القران يضرب من أوله حتى يبلغ اخره و من اخره حتى يبلغ أوله كلما حل ارتحل» «5»، و له شاهد من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قام رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلم فقال: يا رسول اللّه! أي العمل أفضل أو أي العمل أحب إلى اللّه؟ قال: «الحال المرتحل الذي يفتح القران و يختمه صاحب القران يضرب من أوله إلى اخره و من اخره إلى أوله كلما
__________________________________________________
(1) ابن أبي شيبة (2/ 242)، مرجع سابق.
(2) ابن أبي شيبة (2/ 242)، مرجع سابق.
(3) ابن أبي شيبة (2/ 242)، مرجع سابق.
(4) الموطأ (1/ 200)، مرجع سابق.
(5) الترمذي (5/ 197)، مرجع سابق، قال أبو عيسى: «هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث بن عباس إلا من هذا الوجه و إسناده ليس بالقوي» و هو عند الحاكم (1/ 757)، مرجع سابق، و قال: «تفرد به صالح المري و هو من زهاد أهل البصرة إلا أن الشيخين لم يخرجاه».(1/314)
حل ارتحل» «1» «و حديث ابن عباس روي أيضًا بلفظ قام رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلم فقال: يا رسول اللّه! أي العمل أفضل؟ أو قال أي العمل أحب إلى اللّه؟ قال:
«الحال المرتحل» قال: يا رسول اللّه! و ما الحال المرتحل؟ قال: «فتح القران و ختمه من أوله إلى اخره، و من اخره إلى أوله كلما حل ارتحل» «2».
و على فرض ثبوت هذا الحديث «3» فإن العلماء اختلفوا في معنى الحال المرتحل فذهب بعضهم إلى أنه الذي يختم القران بتلاوته، ثم يفتتح التّلاوة من أوّله شبهه بالمسافر يبلغ المنزل فيحلّ فيه، ثم يفتتح سيره: أي يبتدؤه، و كذلك قرّاء أهل مكة إذا ختموا القران بالتّلاوة ابتدأوا و قرأوا الفاتحة و خمس ايات من أوّل سورة البقرة الى و أولئك هم المفلحون، ثم يقطعون القراءة، و يسمّون فاعل ذلك: الحالّ المرتحل، أي ختم القران و ابتدأ بأوّله و لم يفصل بينهما بزمان، و قيل: أراد بالحالّ المرتحل الغازي الذي لا يقفل عن غزو إلّا عقبه باخر «4» و هو الذي أبى ابن القيم- رحمه اللّه تعالى- في الإعلام سواه و قال عن التأويل الأول: «و هذا لم يفعله أحد من الصحابة و لا التابعين، و لا استحبه أحد من الأئمة، و المراد بالحديث الذي كلما حل من غزاة ارتحل في أخرى أو كلما حل من عمل ارتحل إلى غيره تكميلا له كما كمل الأول، و أما هذا الذي يفعله بعض القراء فليس مراد الحديث قطعا» «5»، ولكن يردّ هذا القطع تفسير الحديث في اخره- حال قبوله- سواء كان مرفوعا أم مدرجا، و أشار الإمام الشاطبي إلى عمل أهل مكة في ذلك فقال:
__________________________________________________
(1) الحاكم (1/ 758)، مرجع سابق.
(2) تحفة الأحوذي (8/ 220)، مرجع سابق.
(3) إذ إن افته اتية من صالح المري فهو ضعيف. انظر: تهذيب التهذيب (4/ 334).
(4) انظر: النهاية (1/ 420)، مرجع سابق.
(
5) (ابن القيم) محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد اللّه ت 751 ه: إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 306)، تحقيق: طه عبد الرؤف سعد، دار الجيل، بيروت، 1973 م.(1/315)
و فيه عن المكين تكبيرهم مع الخواتم قرب الختم يروى مسلسلا «1»
ولكن أعمل أهل مكة عن عادة محدثة أم هي عن سنة قديمة توارثها القوم مذ كانت قراءة القران؟ و هل تفسير الحديث يتحقق في هذه الصورة التي يعملون بها؟
فقد قال بعض العلماء: «المقصود من الحديث السير دائما لا يفتر كما يشعر به قوله (من أوله إلى اخره و من اخره إلى أوله) فقارئ خمس ايات و نحوها عند الختم لم يحصل تلك الفضيلة، و ليس المراد الارتحال لفور الحلول فالمسافر السائر لا بد أن ينزل فيقيم ليلة أو بعض ليلة أو بعض يوم أو يعرس» «2».
و الظاهر: أن ذلك قائم على سنة متوارثة، فقد ورد ذلك نصا عن القارئ المكي ابن كثير- رحمه اللّه تعالى- من رواية البزي و قنبل و غيرهما أنه كان إذا انتهى في اخر الختمة إلى قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (الناس: 1) قرأ سورة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (الفاتحة: 2) و خمس ايات من أول سورة البقرة على عدد الكوفيين و هو إلى وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (البقرة: 5) لأن هذا يسمى الحال المرتحل ثم يدعو بدعاء الختمة، و قال الحافظ أبو عمرو الداني- رحمه اللّه تعالى-:
لابن كثير في فعله هذا دلائل من اثار مروية ورد التوقيف فيها عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم و أخبار مشهورة مستفيضة جاءت عن الصحابة و التابعين و الخالفين «3»، و قد روى الحافظ أبو عمرو أيضًا بإسناد صحيح عن الأعمش عن إبراهيم قال: كانوا يستحبون إذا ختموا القران أن يقرؤا من أوله ايات، و هذا صريح في صحة ما اختاره القراء و ذهب إليه السلف «4».
__________________________________________________
(1) الشاطبية ص 149، مرجع سابق.
(
2) انظر: تحفة الأحوذي (8/ 220)، مرجع سابق.
(3) انظر: النشر في القراات العشر (2/ 449)، مرجع سابق.
(4) انظر: النشر في القراات العشر 2/ 440، مرجع سابق.(1/316)
رابعا: علمهم صلى اللّه عليه و سلم تنزيه الله سبحانه و تعالى أو تصديقه، و الشهادة لرسوله صلّى اللّه عليه و سلم بالبلاغ حال الانتهاء من قراءته:
فمن اداب ختمه إذا انتهت قراءته أن يصدّق ربه جل جلاله، و يشهد بالبلاغ لرسوله صلى اللّه عليه و سلم، و يشهد على ذلك أنه حق، و لا يقتصر في ذلك على لفظ بعينه بل بأي لفظ حصل المقصود شرع «1»، و قد ناقش بعضهم هذه المسألة من زاوية فقهية «2»، و البحث يذكرها هنا من حيث تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلم لأصحابه هذا الأدب:
بعض الألفاظ المشروعة عند الانتهاء من القراءة:
قد وردت مشروعية أن يقول المقرئ للقارئ حسبنا، أو حسبك، أو أمسك لورود روايات مختلفة في هذا الشأن فعن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال: قال لي النبي صلى اللّه عليه و سلم: «اقرأ علي» قلت: يا رسول اللّه! اقرأ عليك و عليك أنزل؟ قال:
«نعم!» فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الاية فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (النساء: 41) قال: «حسبك الان» فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان «3» و في رواية فدمعت عيناه و قال حسبنا «4» و في لفظ قال أمسك و عيناه تذرفان «5»، ولكن ليس شي ء من هذا يدل على تخصيص هذا
__________________________________________________
(1) فلا يرد على هذا التقرير التبديع بلزوم لفظ معين، مع أن ما سيرد عن الصحابة من تعلم من النبي صلّى اللّه عليه و سلم ينفي ذلك.
(
2) انظر- مثلا-: لؤي محمد قبيصي علي الشريف: القسطاس المستقيم في بيان مدى مشروعية صدق اللّه العظيم عقب تلاوة القران الكريم، المجموعة المتحدة للطباعة، القاهرة، ط بدون، و ما ذكر هاهنا أضعاف ما استشهد به من السنة و هو يصح أن يكون أدلة له.
(3) البخاري (4/ 1925)، مرجع سابق.
(4) النسائي في السنن الكبرى (5/ 28)، مرجع سابق.
(5) النسائي في السنن الكبرى (5/ 29)، مرجع سابق.(1/317)
اللفظ بالذكر حال الانتهاء من القراءة، و يدل على هذا تعدد اللفظ، و لعل المراد من التبويب بيان جواز الإسكات بأي لفظ كان، مع أن المتكلم يرتل كلام اللّه سبحانه و تعالى، و عدم ذكر التصديق و نحوه من ألفاظ التعظيم و التنزيه هنا لا يدل على العدم المطلق.
أدلة مشروعية الصدقلة «1» أو ما يقوم مقامها من ألفاظ التنزيه:
و يستدل لذلك- حال وجود ضرورة للاستدلال هنا- بقول اللّه عزّ و جلّ: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ (ال عمران: 95)، «أي قل يا محمد صدق اللّه فيما أخبر به و فيما شرعه في القران» «2»، و الاستماع إلى القران استماع لخبر اللّه عزّ و جلّ و كلامه- أخبارا أو أحكاما- فكيف لا يصدق عند الانتهاء من الاستماع و قد علمنا النبي صلّى اللّه عليه و سلم ذلك بهذه الاية و المعنى «قل يا محمد صدق اللّه فيما أخبرنا به» «3»، و قد فعل النبي صلّى اللّه عليه و سلم و أنفذ أمر اللّه عزّ و جلّ في نفسه فكان يقول صدق اللّه في مواقف متعددة منها:
1- عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلم فقال: إن أخي استطلق بطنه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «اسقه عسلا» فسقاه، ثم جاءه فقال:
إني سقيته عسلا فلم يزده إلا استطلاقا، فقال له ثلاث مرات ثم جاء الرابعة فقال: «اسقه عسلا» فقال لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم:
«
صدق اللّه و كذب بطن أخيك» فسقاه فبرئ «4»، و ما قال ذلك إلا أنه استحضر قوله سبحانه و تعالى: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ (النحل: 69).
__________________________________________________
(1) أي صدق اللّه العظيم، و هو مصدر منحوت كالبسملة و الحوقلة.
(2) ابن كثير (1/ 383)، مرجع سابق.
(3) الطبري (4/ 6)، مرجع سابق.
(4) البخاري (5/ 2135)، مسلم (4/ 1736)، مرجع سابق.(1/318)
2- و عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما قال: كان معاذ يصلي مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم العشاء ثم يرجع فيصلي بأصحابه فرجع ذات يوم فصلى بهم و صلى خلفه فتى من قومه فلما طال على الفتى صلى و خرج فأخذ بخطام بعيره و انطلقوا فلما صلى معاذ ذكر ذلك له فقال إن هذا لنفاق لأخبرن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فأخبره معاذ بالذي صنع الفتى فقال الفتى: يا رسول اللّه! يطيل المكث عندك ثم يرجع فيطول علينا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «أفتان أنت يا معاذ؟» و قال للفتى: «كيف تصنع يا ابن أخي إذا صليت؟» قال: أقرأ بفاتحة الكتاب، و أسأل اللّه الجنة و أعوذ به من النار، و إني لا أدري ما دندنتك و دندنة معاذ. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «إني و معاذ حول هاتين أو نحو ذي» قال: قال الفتى: ولكن سيعلم معاذ إذا قدم القوم، و قد خبروا أن جيش العدو قد دنا قال: فقدموا قال: فاستشهد الفتى. فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلم بعد ذلك لمعاذ: «ما فعل خصمي و خصمك؟» قال: يا رسول اللّه! صدق اللّه و كذبت استشهد «1». و ذلك أنه استحضر قول اللّه جل جلاله: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (النجم: 32).
3- و عن بريدة بن حصيب رضي اللّه عنه قال: بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم على المنبر يخطب إذ أقبل الحسن و الحسين يمشيان و يعثران عليهما قميصان أحمران قال:
فنزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فحملهما ثم قال: «صدق اللّه نَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
(التغابن: 15) إني رأيت هذين الغلامين يمشيان و يعثران فلم أصبر حتى نزلت و حملتهما» «2».
__________________________________________________
(1) ابن خزيمة (3/ 64)، مرجع سابق.
(2) ابن خزيمة (2/ 355)، مرجع سابق.(1/319)
و أثنى اللّه سبحانه و تعالى على المؤمنين لما قالوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ (الأحزاب: 22)، و ذلك أنهم استحضروا إخبار اللّه عزّ و جلّ بنصر المؤمنين في الايات المختلفة، و إخبار النبي صلّى اللّه عليه و سلم لهم بهزيمة الأحزاب و ذلك وحي لا غير.
و كان هذا ديدن العلماء عند ذكر كلام للّه سبحانه و تعالى يقتضي المقام منهم إظهار هذه الكلمة، قال القرطبي عند قوله سبحانه و تعالى: وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ (الذاريات: 22) «فإنا نقول صدق اللّه العظيم و صدق رسوله الكريم و أن الرزق هنا المطر» «1».
و قد تعلم الصحابة رضي اللّه عنهم هذا من نبيهم صلّى اللّه عليه و سلم فكانوا يرددون التصديق بصفة خاصة عند استحضار شي ء من كلام اللّه سبحانه و تعالى:
1- فقد فعل ذلك علي رضي اللّه عنه لما رأى الرجل المخدج بين قتلى الخوارج ثم قال: صدق اللّه و بلغ رسوله «2» و كان هذا ديدنه رضي اللّه عنه، فقد قالت عائشة:
قالت: أجل صدق اللّه و رسوله يرحم اللّه عليا إنه كان من كلامه لا يرى شيئا يعجبه إلا قال صدق اللّه و رسوله فيذهب أهل العراق فيكذبون عليه و يزيدون عليه في الحديث «3»، و في هذا دليل على التفوه بما يدل على تنزيه اللّه و تعظيمه و تصديقه عند رؤية ما يعجب من خبر اللّه عزّ و جلّ و رسوله صلّى اللّه عليه و سلم، فما يفعل المرء بالخبر الأعجب- القران الكريم-؟.
2- و قال معاوية- و هو من كتاب النبي صلّى اللّه عليه و سلم- لما حدثه رجل بحديث أبي هريرة رضي اللّه عنه عن أول ثلاثة الذين تسعر بهم النار بعد أن بكى معاوية بكاء شديدا فقال: «صدق اللّه و رسوله مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ
__________________________________________________
(1) القرطبي (13/ 15)، مرجع سابق.
(2) مسلم (2/ 742)، مرجع سابق.
(3) الضياء في المختارة (2/ 225)، مرجع سابق.(1/320)
أَعْمالَهُمْ فِيها وَ هُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَ حَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (هود: 15- 16)» «1».
3- و من ذلك أنه جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان و هو يحدث أصحابه و كانت يده قد أصيبت يوم نهاوند، فقال الأعرابي: و اللّه إن حديثك ليعجبني و إن يدك لتريا بني فقال زيد: ما يريبك من يدي إنها الشمال فقال الأعرابي: «و اللّه ما أدري اليمين يقطعون أو الشمال؟ فقال زيد ابن صوحان: صدق اللّه و رسوله الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ (التوبة: 97)» «2».
4- و كذلك قال ابن مسعود رضي اللّه عنه فقد لقيه رجل فقال: السلام عليك يا ابن مسعود فقال عبد اللّه: صدق اللّه و رسوله سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و هو يقول: «إن من أشراط الساعة أن يمر الرجل في المسجد لا يصلي فيه ركعتين و ألايسلم الرجل إلا على من يعرف» «3»، و لم يرد في السنة أن يقول الإنسان صدق رسول اللّه عما قاله رسول اللّه، إلا من فعل الصحابة فكذلك في قول اللّه عزّ و جلّ، و هو أعظم و أجل... ولكنه الأدب مع اللّه و رسوله، و البدهية عند سماع خبره، أو قوله أو تذكره.
و لا يعترض على هذا التقرير بأن الصدق له «ذكر مطلق، فتقييده بزمان أو مكان، أو حال من الأحوال، لابد له من دليل، إذا الأذكار المقيدة لا تكون إلا بدليل، و عليه: فإن التزام هذه بعد قراءة القران، لا دليل عليه، فيكون غير
__________________________________________________
(1) ابن حبان (2/ 138)، الطبري (21/ 13)، مرجعان سابقان.
(2) ابن كثير (2/ 483)، مرجع سابق.
(3) ابن خزيمة (2/ 283)، مرجع سابق.(1/321)
مشروع، و التعبد بما لم يشرع من البدع، فالتزامها و الحال هذه بدعة» «1» لأن الباحث لا يقول بالتزامها دوما بلفظها، و تراجع تقسيمات العز بن عبد السلام للبدعة؛ إذ ذكر العز أن من البدع ما يكون مشروعا واجبا أو مندوبا أو مباحا على تفصيل مهم في هذا الباب «2».
و أما الشهادة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بالبلاغ:
فهي السنة التي تعلمناها من النبي صلّى اللّه عليه و سلم و صحبه رضي اللّه عنهم:
1- عن أبى بكرة رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السماوات و الأرض السنة اثنا عشرة شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم و رجب مضر الذي بين جمادى و شعبان» ثم قال: «أي شهر هذا» قلنا: اللّه و رسوله اعلم قال: فسكت حتى ظننا انه سيسميه بغير اسمه قال: «أ ليس ذا الحجة» قلنا: بلى! قال: «أي بلد هذا» قلنا: اللّه و رسوله اعلم. قال: فسكت حتى ظننا انه سيسميه بغير اسمه، قال: «أ ليس ذا البلدة» قلنا:
بلى! قال: «أي يوم هذا» قلنا: اللّه و رسوله اعلم، قال: «أ ليس يوم النحر؟» قلنا:
بلى! قال: «فإن دماءكم و أموالكم و أعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا و ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم إلا فلا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض إلا ليبلغ الشاهد منكم الغائب فلعل بعض من يبلغه يكون أوعي له من بعض من سمعه» قال: فكان محمد إذا ذكره يقول:
صدق اللّه و رسوله قد كان ذاك ثم قال صلّى اللّه عليه و سلم: «ألا هل بلغت ألا هل بلغت» «3».
__________________________________________________
(1) معجم المناهي اللفظية و يليه فوائد في الألفاظ ص 337.
(2) انظر: (العز) أبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمى ت 660 ه: قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/ 172)، دار الكتب العلمية، بيروت.
(3) ابن حبان (13/ 313)، مرجع سابق.(1/322)
2- و عن أبي مسلم الخولاني حج فدخل على عائشة زوج النبي صلّى اللّه عليه و سلم فجعلت تسأله عن الشام و عن بردها فجعل يخبرها فقالت: كيف يصبرون على بردها؟ قال: يا أم المؤمنين! إنهم يشربون شرابا لهم يقال له الطلا قالت: صدق اللّه و بلغ حبي صلّى اللّه عليه و سلم سمعته يقول: «إن ناسا من أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها» «1».
3- و عن أبي سنان الدؤلي صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: رأيت عمار ابن ياسر دعا غلاما له بشراب فأتاه بقدح من لبن فشربه ثم قال: صدق اللّه و رسوله اليوم ألقى الأحبة محمدا و حزبه إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «إن اخر شي ء أزوده من الدنيا ضيحة لبن» ثم قال: «و اللّه لو هزمونا حتى يبلغوا سعفات هجر لعلمنا أنا على حق و أنهم على باطل» «2».
و الأمثلة في هذا الباب كثيرة، نجتزئ بهذه.
خامسا: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم الدعاء عند ختم القران:
فعن العرباض بن سارية رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «من صلى صلاة فريضة فله دعوة مستجابة، و من ختم القران فله دعوة مستجابة» «3»، و عن أنس رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: «مع كل ختمة دعوة مستجابة» «4» و قد ذكر البيهقي و غيره «5» ثلة من أحاديث الختم لعلها صالحة للاعتبار مقبولة في هذا الباب من
__________________________________________________
(1) الحاكم (4/ 164)، مرجع سابق، و قال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه».
(2) مجمع الزوائد (9/ 297)، مرجع سابق، و قال: «رواه الطبراني و إسناده حسن».
(3) مجمع الزوائد (7/ 172)، مرجع سابق، و قال: «رواه الطبراني و فيه عبد الحميد بن سليمان و هو ضعيف».
(4) شعب الإيمان (2/ 374)، مرجع سابق، و قال البيهقي: «في إسناده ضعف و اللّه أعلم و روي من وجه اخر ضعيف عن أنس».
(5) انظر: شعب الإيمان (2/ 373)، مرجع سابق.(1/323)
الفضائل، و قال البيهقي: «قال أحمد: و قد روي عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم في دعاء الختم حديث منقطع بإسناد ضعيف، و قد تساهل أهل الحديث في قبول ما ورد من الدعوات و فضائل الأعمال ما لم تكن من رواته من يعرف بوضع الحديث أو الكذب في الرواية» «1» و أخذ بذلك أصحابه رضي اللّه عنهم فعن ثابت أن أنس ابن مالك كان إذا ختم القران جمع أهله و ولده فدعا لهم «2»، و عن الحكم بن عتيبة قال:
كان مجاهد، و عبدة بن أبي لبابة، وناس؛ يعرضون المصاحف فلما كان اليوم الذي أرادوا أن يختموا أرسلوا إلي، و إلى سلمة بن كهيل، فقالوا: إنا كنا نعرض المصاحف فأردنا أن نختم اليوم فأحببنا أن تشهدونا فإنه كان يقال: إذا ختم القران نزلت الرحمة عند خاتمته، أو حضرت الرحمة عند خاتمته «3»، و كان محمد بن إسماعيل البخاري إذا كان أول ليلة من شهر رمضان اجتمع إليه أصحابه فيصلي بهم فيقرأ في كل ركعة عشرين اية إلى أن يختم القران و كذلك يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القران فيختم عند السحر في كل ثلاث ليال و كان يختم بالنهار كل يوم ختمه، و يكون ختمه عند الإفطار كل ليلة و يقول: عند كل ختمة دعوة مستجابة «4».
و أما قول بعض المعاصرين: «و لا حديث يصح عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم، فهي ما بين موضوع أو ما يتقاعد عن الجابر، و لم يصح سوى قول مجاهد رحمه اللّه تعالى..» «5»
__________________________________________________
(1) انظر: شعب الإيمان (2/ 371)، مرجع سابق.
(2) مجمع الزوائد (7/ 172)، مرجع سابق، و قال: «رواه الطبراني و رجاله ثقات».
(3) مرويات دعاء ختم القران ص 27، مرجع سابق، و قال: «و عن مجاهد قال: «الرحمة تنزل عند ختم القران» و رواه سعيد بن منصور في سننه بلفظ: «من ختم القران أعطي دعوة لا ترد»، و أشار الحافظان: النووي، و ابن حجر إلى أن أسانيده صحيحة موقوفا».
(4) شعب الإيمان (2/ 416)، مرجع سابق.
(5) القائل هو الشيخ العلامة بكر بن عبد اللّه أبو زيد. انظر: مرويات دعاء ختم القران ص 34، مرجع سابق.(1/324)
فغير ضائر في إثبات مشروعية الدعاء عند الختم؛ إذ كان ذلك فعل أنس، و فعل بعض التابعين وفق نقده هو؛ و لذا قال: «و أما الرواية في حضور الأهل و الأولاد للختم: فثابتة من فعل الصحابي الجليل أنس رضي اللّه عنه، و روايته له مرفوعا لا تصح» «1».
و أما قوله: «و لعله لما كانت الرواية في هذا الباب لا يثبت منها شي ء في المرفوع إلى النبي صلى اللّه عليه و سلم، و قد خلت منها دواوين الإسلام المشهورة كالستة و الموطأ، و مسند أحمد- تنكب المؤلفون في الأحكام ذكر هذا الباب بالكلية، أمثال: ابن دقيق العيد في «الإلمام» و المجد في «المنتقى» و ابن حجر في «البلوغ» و غيرهم، لا يعرجون على شي ء من ذلك» «2» فما الضير في ذلك؟ إذ كانوا قد فعلوا في غيرها من الكتب كالبيهقي و النووي... و قد قرر القائل ذاته مشروعية الدعاء عقب الختم فقال:
«و دعاء القارئ لختم القران خارج الصلاة، و حضور الدعاء في ذلك:- أمر مأثور من عمل السلف الصالح من صدر هذه الأمة»: كما تقدم من فعل أنس وقفاه جماعة من التابعين و الإمام أحمد، و لأنه من جنس الدعاء المشروع، و تقدم قول ابن القيم رحمه اللّه تعالى: «و هو من اكد مواطن الدعاء و مواطن الإجابة» «3».
نعم ما ذكره بعد من عدم وضوح الدليل على دعاء الختم في الصلاة فصحيح لا مراء و إن كان قول أحمد لما قيل له: إلى أي شي ء تذهب في هذا، قال: رأيت أهل مكة يفعلونه...: دليل على أن له سنة مندثرة كانت عامة مشتهرة و لا يضير اندثارها أن يعمل بها دون اشتهار و حرص حذو التكبير، و شأنهم في هذا شأن
__________________________________________________
(1) انظر: مرويات دعاء ختم القران ص 34، مرجع سابق.
(2) مرويات دعاء ختم القران ص 34، مرجع سابق، و هناك ملحوظات أخرى على هذا الجزء ليس هذا ميدانها.
(3) مرويات دعاء ختم القران ص 72، مرجع سابق.(1/325)
القراءة التي ثبتت عندهم و كتبت في مصاحفهم دون غيرها كقراءة (من) في الاية (100) من براءة، و لا تحتاج الألوف المؤلفة من سكان المصرين إلى متابع، أو شاهد... بل هل لا بد من (الاعتبار) بمعناه في مصطلح الحديث ليقبل فعلهم؟.
سادسا: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم التكبير:
إذا وصل القارئ إلى سورة الضحى فإنه يكبر من أولها فيقول اللّه أكبر، و قد يكبر من اخرها، و قد يضيف إلى التكبير التهليل في أوله و قد يضيف التحميد في اخره.
المستند في تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم التكبير:
جاءت الرواية به عن ابن كثير القارئ: قال تلاميذه: «قرأنا على ابن كثير فأمرنا بذلك و أخبرنا أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك و أخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس فأمره بذلك و أخبره ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب فأمره بذلك و أخبره أبي أنه قرأ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فأمره بذلك» ولكن هذه السنة تفرد بها رواية (حديثية) أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد اللّه البزي من ولد القاسم بن أبي بزة و كان إماما في القراات فأما في الحديث فقد ضعفه بعض أئمة الجرح و التعديل لكن حكى الشيخ شهاب الدين أبو شامة عن الشافعي أنه سمع رجلا يكبر هذا التكبير في الصلاة فقال أحسنت و أصبت السنة و هذا يقضي صحة هذا الحديث عند الشافعي «1»، و ذكر القراء في مناسبة التكبير من أول سورة الضحى «أنه لما تأخر الوحي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و فتر تلك المدة و جاءه الملك فأوحى إليه «و الضحى و الليل إذا سجى» السورة بتمامها كبر فرحا و سرورا و لم يرو ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة و لا ضعف» «2».
__________________________________________________
(1) إبراز المعاني ص 735، مرجع سابق.
(2) ابن كثير (4/ 522)، مرجع سابق.(1/326)
- بعد هذا العرض الحديثي- هل التكبير مما علمه النبي صلّى اللّه عليه و سلم لأصحابه؟:
فهذا مما علمه النبي صلّى اللّه عليه و سلم لأصحابه حال الختم، و إن ضعف البعض هذا الحديث، و ذلك يتجلى بما يلي:
1- هذا التفرد في هذه الرواية الحديثية- القرائية، عضده عمل أهل مكة، فقد قال الفاكهي: «و يروى عن بعض من مضى من قراء أهل مكة أنهم كانوا في الختمة إذا بلغوا و الضحى كبر الخاتم بعد فراغه من كل سورة يقول اللّه أكبر في الصلاة ثم تركوا ذلك بعد و جعلوا التكبير عند قراءة القران في المسجد الحرام في غير شهر رمضان ثم تركوه بعد ذلك» «1»، فهي بذا سنة قديمة عليها عمل أهل مكة، و تلقي أهل مكة لها بالقبول زمنا مع كونها تروى في حلقات الإقراء عن البزي، و قد تروى عن قنبل، بل و عن سائر القراء العشرة الذين تتناقل قراءتهم إلى اليوم تلاوة للقران الكريم... كل هذا يجعلها مقبولة داخلة ضمن منهاج التواتر القرائي، بل إن ابن الجزري قال: «التكبير صح عند أهل مكة قرائهم و علمائهم و أئمتهم و من روى عنهم صحة استفاضت و اشتهرت و ذاعت حتى بلغت حد التواتر... و وردت أيضًا عن سائر القراء «2»، و قال أبو الطيب عبد المنعم بن غلبون:
و هذه سنة مأثورة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و عن الصحابة و التابعين و هي سنة بمكة لا يتركونها البتة و لا يعتبرون رواية البزي و لا غيره» «3».
2- و هذه السنة بمكة شوهدت في زمن ابن الجزري فقد وصف ذلك بقوله:
«و لما من اللّه تعالى علي بالمجاورة بمكة و دخل شهر رمضان فلم أر أحدا ممن صلى
__________________________________________________
(1) (الفاكهي) محمد بن إسحاق بن العباس الفاكهي أبو عبد اللّه ت 275 ه: أخبار مكة في قديم الدهر و حديثه (2/ 156)، تحقيق: د. عبد الملك عبد اللّه دهيش دار خضر، بيروت، ط 2، 1414 ه.
(2) النشر في القراات العشر (2/ 440)، مرجع سابق.
(3) إبراز المعاني من حرز الأماني في القراات السبع ص 736، مرجع سابق.(1/327)
التراويح بالمسجد الحرام إلا يكبر من الضحى عند الختم فعلمت أنها سنة باقية فيهم إلى اليوم» «1».
3- معلوم أن الأمر إن عاد إلى الرواية القرائية فإن منهاجها في جعل القراءة قراءة أن ترويه وفق قواعدها و ضوابطها لا وفق قواعد الحديث بالضرورة، و هذه الرواية التي تتداولها أمهات كتب القراات رواية و عملا مقبولة عند القراء بلا مخالف... و ذلك كاف في إثباتها... و إلا لقيل أين السند الحديثي للإدغام، و الإظهار، و تخفيفات الهمز، و تحقيقاته، و الإمالة و الفتح، و الترقيق و التفخيم...،
بل أين سند البخاري و مسلم و جامعي الحديث في أن كلمات سورة البقرة (الم...)
و أن كلمات سورة النساء (يا أيها الناس...)؟... و مثل هذا العوج في التفكير، و الخلط بين مناهج العلوم مدمر لأسس العلم، و الدين و العقل...
4- و لأجل ذلك قبله الأئمة و على رأسهم إمام أهل السنة أحمد بن حنبل فقد «قال في المغني و الشّرح: و استحسن أبو عبد اللّه التّكبير عند اخر كلّ سورة من الضّحى إلى أن يختم، و الرّواية الثّانية يكبّر من أوّل أَ لَمْ نَشْرَحْ اختاره المجد (قلت) قد صحّ هذا و هذا عمّن رأى التّكبير، فالكلّ حسن، و تحرير النّقل عن القرّاء أنّه وقع بينهم اختلاف، فرواه الجمهور من أوّل أ لم نشرح أو من اخر الضّحى على خلاف.. «2»..
5- و قبل أحمد ذلك لأن المنهج القرائي يلزم بالقبول و ذلك لأن التكبير هو قراءة أهل مكّة أخذها البزّيّ عن ابن كثير و أخذها ابن كثير عن مجاهد و أخذها
__________________________________________________
(1) النشر في القراات العشر (2/ 428)، مرجع سابق.
(2) (ابن مفلح) محمد بن مفلح المقدسي أبو عبد اللّه ت 762 ه: الفروع و تصحيح الفروع (1/ 494)، تحقيق: أبو الزهراء حازم القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1418 ه، و انظر: المغني (1/ 458)، مرجع سابق.(1/328)
مجاهد عن ابن عبّاس و أخذها ابن عبّاس عن أبيّ بن كعب و أخذها أبيّ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، و قال الماورديّ: كان ابن عبّاس يفصل بين كلّ سورتين بالتّكبير من الضّحى و هو راوي قرّاء مكّة «1».
6- و لذلك تعد سنة التكبير من سنن القراءة لا من السنن (مطلقا) و هي التي تثبت عادة بالمنهج الحديثي فقد سئل ابن حجر الهيثمي عن استحباب التّكبير من سورة الضّحى إلى الاخر هل هو مختصّ بمن يختم القران من أوّله إلى اخره أو عامّ فيمن ابتدأ القراءة أو ممّا قبلها و فيمن ابتدأها ممّا بعدها؟ و كيف الحكم في ذلك؟ (فأجاب) بقوله: الّذي حكاه الزّركشيّ عن الحليميّ و البيهقيّ و ابن الجزريّ في النّشر عن طوائف من السّلف و جمع من متأخّري الشّافعيّة، و أطال فيه (أنّ من سنن القراءة التّكبير في اخر سورة الضّحى إلى أن يختم... و قال الشّافعيّ: «إن تركت التّكبير فقد تركت سنّة من سنن نبيّك يقتضي تصحيحه لهذا الحديث)، و اقتضى إطلاقهم أيضًا أنّه لا فرق بين القراءة بقراءة ابن كثير و غيرها» «2».
7- ولكن قال أبو الفتح فارس بن أحمد: لا نقول إنه لا بد لمن ختم أن يفعله لكن من فعله فحسن و من لم يفعله فلا حرج عليه و هو سنة مأثورة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و عن الصحابة و التابعين «3».
و هذا يدل على أن أمر التكبير اختياري و لا تعلق له بالقران فلا وجه للمحافظة الشديدة و لا للتبديع أيضا.
__________________________________________________
(1) (ابن مفلح) محمد بن مفلح بن محمد المقدسي ت 762 ه: الاداب الشرعية و المنح المرعية (2/ 34)، عالم الكتب.
(2) (ابن حجر) أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي ت 973 ه: الفتاوى الفقهية الكبرى (1/ 345)، المكتبة الإسلامية، عمان.
(3) النشر في القراات العشر (2/ 411)، مرجع سابق.(1/329)
المطلب الثالث: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم أحكام الوقف:
فقد علمهم صلّى اللّه عليه و سلم الوقف و الابتداء كما قال ابن عمر رضي اللّه عنه:... و تنزل السورة على محمد صلّى اللّه عليه و سلم فنتعلم حلالها و حرامها و امرها و زاجرها و ما ينبغي أن يقف عنده منها كما تعلمون أنتم اليوم القران ثم لقد رأيت اليوم رجالا يؤتى أحدهم القران قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدرى ما امره و لا زاجره و لا ما ينبغي أن يقف عنده منه فينثره نثر الدقل «1»، فقوله: (و ما ينبغي أن يقف عنده منها) تحتمل الوقف الاصطلاحي عند أئمة الإقراء و هو الظاهر إذ لو رجح غيره لما كان ثم فائدة لما قبله؛ إذ ما قبله من وصف يدل على الوقف المعنوي... و قد علمهم صلّى اللّه عليه و سلم الوقف عند رؤوس الاي فعن أم سلمة قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقطع قراءته [اية اية] يقول بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين ثم يقف الرحمن الرحيم ثم يقف «2» أي يقف عند كل اية...
و حاول أهل العلم تبسيط ذلك على الناس، فاصطلحوا على تسمية الأوقاف بتسمية معينة حسب حسن الوقف، لا حسب حسن القران إذ القران كله حسن فقالوا: «الوقف على مراتب: أعلاها التام، ثم الحسن، ثم الكافي، ثم الصالح ثم المفهوم، ثم الجائز، ثم البيان، ثم القبيح،.. «3». و أكثر ما ذكر الناس في أقسامه غير منضبط و لا منحصر «4».
__________________________________________________
(1) البيهقي في الكبرى (3/ 119)، مرجع سابق.
(2) أبو داود (4/ 37)، الترمذي (5/ 185)، و خرجه الدارقطني (1/ 312) و قال: «إسناده صحيح و كلهم ثقات».
(3) (الأنصاري): شيخ الإسلام أبي يحي زكريا الأنصاري: المقصد لتلخيص ما في المرشد في الوقف و الابتدا ص 5- بذيل منار الهدى ط 2، 1393 ه/ 1973 م.
(4) النشر في القراات العشر (1/ 255)، مرجع سابق.(1/330)
ولكن أهناك أوقاف محرمة في القران الكريم، و أوقاف واجبة؟...
يذهب بعض العلماء كالبقاعي إلى أنه لا وقف تام في كتاب اللّه، فالاصطلاحات للتقريب و التبسيط، و بيان القبح في السمع أو الحسن، لا أنه يجب شي ء من ذلك أو يحرم لعدم النص، فما كان من جهة الوقف فإنه لا يجب على القارئ الوقف على محل معين بحيث لو تركه يأثم، و لا يحرم الوقف على كلمة بعينها إلا إذا كانت موهمة و قصدها... فإن اعتقد معناها كفر و العياذ باللّه كأن وقف على قوله إن اللّه لا يستحيى- و ما من إله- و إني كفرت و شبه ذلك...
و معنى قولهم لا يوقف على كذا معناه أنه لا يحسن الوقف صناعة على كذا، و ليس معناه أن الوقف يكون حراما أو مكروها بل خلاف الأولى إلا أن تعمد الوقف على نحو قوله (لقد كفر الذين قالوا) و نحو قوله: (لقد سمع اللّه قول الذين قالوا) و ابتدأ بما بعد ذلك فيحرم عليه فإن اعتقد معناه كفر كما هو ظاهر «1»، و في ذلك يقول ابن الجزري:
و ليس في القران من وقف وجب و لا حرام غير ماله سبب «2»
و يقول في النشر: «قول الأئمة لا يجوز الوقف على المضاف دون المضاف إليه، و لا على الفعل دون الفاعل، و لا على الفاعل دون المفعول، و لا على المبتدأ دون الخبر... إلى اخر ما ذكروه و بسطوه من ذلك إنما يريدون بذلك الجواز الأدائي و هو الذي يحسن في القراءة، و يروق في التلاوة، و لا يريدون بذلك أنه حرام و لا مكروه بل أرادوا بذلك الوقف الاختياري الذي يبتدأ بما بعده، و كذلك لا يريدون بذلك أنه لا يوقف عليه البتة فإنه حيث اضطر القارئ إلى الوقف على
__________________________________________________
(1) نهاية القول المفيد في علم التجويد ص 25، مرجع سابق.
(2) طيبة النشر ص 37، مرجع سابق.(1/331)
شي ء من ذلك باعتبار قطع النفس أو نحوه من تعليم أو اختبار جاز له الوقف بلا خلاف عند أحد منهم ثم يعتمد في الابتداء ما تقدم من العود إلى ما قبل فيبتدئ به، اللهم إلا من يقصد بذلك تحريف المعنى عن مواضعه، و خلاف المعنى الذي أراد اللّه تعالى فإنه و العياذ باللّه يحرم عليه ذلك و يجب ردعه بحسبه على ما تقتضيه الشريعة المطهرة» «1».
و لذا ورد عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه صلى الغداة فقرأ في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب و ب (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) و في الثانية بفاتحة الكتاب و ب (الذين يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون) ثم سلم، و أي مقتدى به أعظم من ابن عباس ترجمان القران «2».
تنبيه:
و ليس المراد من هذا تهوين شأن الوقف، و تحسين التلعب بأوقاف القران، فإن الناس يمقتون من يعي في الحديث العابر أو يعبث به، و يعدونه ذا خلل، بل يراعي المغنون الأوقاف في كلامهم ليجعلوا السامع أمام وقع أعظم تأثيرا... و كلام اللّه أحسن الكلام، يؤدى بأحسن أداء ترتيلا، و تغنيا، وقفا و ابتداء، و معرفة الوقف الحسن فيه كما قال الإمام الهذلي: «الوقف حلية التلاوة، و زينة القارئ، و بلاغ التالي، و فهم المستمع، و فخر العالم...» «3».. ولكن الضرورة اقتضت الإشارة إلى هذه الحقيقة الخافية عن بعض الذين يغالون في هذا الباب فيوغلون... و لأن الكلام عن تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلم؛ فإنه قد يرد على البحث سؤال عن الأوقاف الاصطلاحية: هل علمها النبي صلّى اللّه عليه و سلم كما هي الان؟.
__________________________________________________
(1) النشر في القراات العشر (1/ 230)، مرجع سابق.
(2) النشر في القراات العشر (1/ 234)، مرجع سابق.
(3) (الهذلي): الكامل في القراات ورقة (55) وجه أ، مرجع سابق.(1/332)
المطلب الرابع: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم أحكام الجهر و الإسرار بقراءة القران:
1- علمهم صلّى اللّه عليه و سلم أن الجهر بالقراءة هو الأصل في قراءة القران، و يشرع مشروعية مؤكدة إذا أريد منه التعليم أو الاقتداء أو تعظيم شعائر اللّه، أو التعود على الترنم بكلام اللّه ليكون هجيراه، و يدل على ذلك أنه كان يرفع صوته بالقراءة في قيامه بالليل تعليما و تنبيها فعن كريب قال سألت ابن عباس فقلت: كيف كانت صلاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بالليل؟ فقال: كان يقرأ في بعض حجره فيسمع قراءته من كان خارجا «1» و عن أم هانئ قالت: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقرأ بالليل و أنا على عريشي بمكة «2» كما يدل على هذا جهره بالقراءة و هو راكب على ناقته عند فتح مكة، ففي ذلك «إرشاد إلى أن الجهر بالعبادة قد يكون في بعض المواضع أفضل من الإسرار و هو عند التعليم و إيقاظ الغافل...» «3» كما أقر أبا بكر رضي اللّه عنه على قراءته رفع صوته بالقران في بيته، بل كان يحث عليه أصحابه، و يثني عليهم إن سمعهم فعن عائشة أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم سمع رجلا يقرأ من الليل فقال: «يرحمه اللّه لقد أذكرني كذا و كذا اية كنت أسقطتها (و لفظ البخاري أنسيتها) من سورة كذا و كذا» «4»، و عن جابر رضي اللّه عنه قال: رؤى في المقبرة ليلا نار فإذا النبي صلّى اللّه عليه و سلم في قبر و هو يقول:
«ناولوني صاحبكم»، و فيه: هو الرجل (الأواه) الذي كان يرفع صوته بالقران «5» و عن عقبة بن عامر رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال لرجل يقال له ذو البجادين: إنه أواه و ذلك إنه كثير الذكر للّه عز و جل في القران و كان يرفع صوته في الدعاء «6».
__________________________________________________
(1) البيهقي في سننه الكبرى (3/ 11)، مرجع سابق.
(2) شعب الإيمان (2/ 383)، مرجع سابق.
(3) فتح الباري (9/ 92)، مرجع سابق.
(
4) البخاري (4/ 1929)، مسلم (1/ 543) و اللفظ له، مرجعان سابقان.
(5) شرح معاني الاثار (1/ 512)، مرجع سابق، و أوله في الحاكم (1/ 523)، مرجع سابق.
(6) مجمع الزوائد (9/ 369)، مرجع سابق، و قال: «رواه أحمد و الطبراني و إسنادهما حسن».(1/333)
2- و علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم بأمر اللّه تعالى له أن يسلكوا طريقا وسطا في قراءة القران بين الجهر و الإسرار- لعارض خارجي يمنع الجهر- فعن ابن عباس في قوله عز و جل قال تعالى: وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها (الإسراء: 110) قال: نزلت و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم متوار بمكة فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقران فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القران و من أنزله و من جاء به فقال اللّه تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه و سلم وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فيسمع المشركون قراءتك وَ لا تُخافِتْ بِها عن أصحابك أسمعهم القران و لا تجهر ذلك الجهر وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا يقول بين الجهر و المخافتة «1»... و هذا يدل على أصالة الجهر أيضا، و علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم ذلك حتى في المدينة لدرء مفسدة مترتبة على الجهر الشديد من إزعاج نائم و نحو ذلك فعن أبي قتادة أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم مر بأبي بكر و هو يصلي يخفض من صوته، و مر بعمر و هو يصلي رافعا صوته قال فلما اجتمعا عند النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال لأبي بكر: «يا أبا بكر مررت بك و أنت تصلي تخفض من صوتك» فقال: «قد أسمعت من ناجيت» فقال: «مررت بك يا عمر و أنت ترفع صوتك» فقال يا رسول اللّه احتسب به أوقظ الوسنان قال فقال لأبي بكر «ارفع صوتك شيئا» و قال لعمر: «اخفض من صوتك شيئا» «2».
3- و علمهم صلّى اللّه عليه و سلم أنه يمكن المبادلة بين الجهر و الإسرار لزيادة النشاط و طردا للفتور العارض، و محافظة على الحزب اليومي بحسب نشاط المرء فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه: أنه كان إذا قام من الليل رفع صوته طورا و خفضه طورا و كان يذكر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان يفعل ذلك «3» و عن عبد اللّه بن أبي قيس أنه سأل عائشة
__________________________________________________
(1) البخاري (4/ 1749) مسلم (1/ 329)، مرجعان سابقان.
(2) الحاكم (1/ 454)، مرجع سابق، و رواه البيهقي في سننه الكبرى (3/ 11)، مرجع سابق.
(3) الحاكم (1/ 454)، مرجع سابق، و قال: «هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه».(1/334)
- رضي اللّه تعالى عنها- كيف كانت قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من الليل كان يجهر أم يسر؟ قالت: كل ذلك كان يفعل ربما يجهر و ربما يسر قال قلت الحمد للّه الذي جعل في الأمر سعة «1»، «و قد استحب بعض أهل العلم الجهر ببعضها و الإسرار ببعضها لأن السر قد يمل فيأنس بالجهر و الجاهر قد يكل فيستريح بالإسرار إلا أن من قرأ بالليل جهر بالأكثر و من قرأ بالنهار أسر بالأكثر إلا أن يكون بالنهار في موضع لا لغو فيه و لا صخب و لم يكن في صلاة فيرفع صوته بالقران» «2».
4- كما علمهم صلّى اللّه عليه و سلم عدم الجهر إن ترتب عليه الإيذاء، و خاصة في الصلاة فعن علي رضي اللّه عنه قال: نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أن يرفع الرجل صوته بالقران قبل العتمة و بعدها يغلط أصحابه في الصلاة «3» و في لفظ لأبي يعلى: و القوم يصلون، و عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: اعتكف النبي صلّى اللّه عليه و سلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة و هو في قبة فكشف الستور و قال: «ألا كلكم يناجي ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا و لا يرفعن بعضكم على بعض في القراءة في الصلاة» «4»، و خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم على الناس و هم يصلون و قد علت أصواتهم بالقراءة فقال: «إن المصلي مناج ربه فلينظر ما يناجيه به و لا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة» «5».
__________________________________________________
(1) الحاكم (1/ 454)، مرجع سابق، شعب الإيمان (2/ 384)، و انظر: مختصر الشمائل المحمدية ص 161، مرجع سابق.
(2) شعب الإيمان (2/ 383)، مرجع سابق.
(3) مسند أحمد (1/ 104)، أبو يعلى (1/ 384)، مرجعان سابقان.
(4) الحاكم (1/ 454)، مرجع سابق، و قال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه»، و أخرجه كذلك البيهقي في سننه الكبرى (3/ 11)، مرجع سابق.
(5) البيهقي في سننه الكبرى (3/ 11)، مرجع سابق.(1/335)
5- و كان يعلمهم الإسرار بالقران إذا خيف العجب و الرياء «1» فعن عقبة بن عامر رضي اللّه عنه قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول: «الجاهر بالقران كالجاهر بالصّدقة و المسرّ بالقران كالمسرّ بالصّدقة» «2»، و بوب له ابن حبان: «ذكر البيان بأن قراءة المرء القران بينه و بين نفسه تكون أفضل من قراءته بحيث يسمع صوته» قال الترمذي: «و معنى هذا الحديث أنّ الّذي يسرّ بقراءة القران أفضل من الّذي يجهر بقراءة القران لأنّ صدقة السّرّ أفضل عند أهل العلم من صدقة العلانية و إنّما معنى هذا عند أهل العلم لكي يأمن الرّجل من العجب لأنّ الّذي يسرّ العمل لا يخاف عليه العجب ما يخاف عليه من علانيته» و قال البيهقي رحمه اللّه: «و قد قال اللّه عزّ و جلّ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ و هذا و اللّه أعلم لأن إخفاءها يكون أبعد من الرياء و كذلك قراءة القران» «3».
و علمهم حدود الإسرار: فأقل الإسرار أن يحرك لسانه، فالقراءة النفسية لا تسمى قراءة: و لذا بوب البيهقي «باب لا تجزئه قراءته في نفسه إذا لم ينطق به لسانه» «4» ثم ذكر حديث أبي معمر عبد اللّه بن سخبرة قال: سألت خبابا: أكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقرأ في الأولى و العصر قال نعم قال قلنا بأي شي ء كنتم تعرفون ذاك قال باضطراب لحيته «5» قال البيهقي: «و فيه دليل على أنه لا بد من أن يحرك لسانه بالقراءة» «6».
__________________________________________________
(1) و انظر: التمهيد في علم التجويد ص 57، مرجع سابق.
(2) ابن جبان (3/ 8)، و النسائي في السنن الكبرى (2/ 41)، الترمذي (5/ 180)، مراجع سابقة.
(3) شعب الإيمان (2/ 528)، مرجع سابق.
(4) البيهقي في الكبرى (2/ 54)، مرجع سابق.
(5) البخاري (1/ 264)، مرجع سابق.
(6) البيهقي في الكبرى (2/ 54)، مرجع سابق.(1/336)
الفصل الرابع: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم جمع القران الكريم حفظا و كتابة «المخرجات التعليمية»:
و يبحث هذا الفصل في كيفية تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم جمع القران الكريم استظهارا له، و وقاية لهذا الاستظهار بالكتابة، و عدم عرقلة عامل الصغر للمنهجية النبوية التعليمية لألفاظ القران الكريم، و الألقاب التي ميز بها الشارع الحكيم أهل القران في المجتمع الإسلامي عن غيرهم، و ما تستدعيه هذه الألقاب من صفات حتى يستحق أصحابها الدخول في هذه الفئة المتميزة... كما يبحث في أئمة الإقراء من أصحابه رضي اللّه عنهم، و عددهم (مخرجات التعليم)، و ما يتبع ذلك من تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم جمع القران كتابة بأمره لهم بذلك و متابعته مع بقاء أميته صلّى اللّه عليه و سلم، و تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم تحزيب القران و بيانه لعدد آياته، و تسمية سوره...
و اقتضى تحقيق البيان لهذه الغاية أن ينقسم هذا الفصل إلى أربعة مباحث:
المبحث الأول: أثر عامل السن في أسلوب تعليمه (منهجية النبي صلّى اللّه عليه و سلم في تعليم الصغار).
المبحث الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم ألقاب حامل القران و صفاته.
المبحث الثالث: أصحاب (تلاميذ) النبي صلّى اللّه عليه و سلم من أئمة الإقراء.
المبحث الرابع: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم جمع القران.(1/337)
المبحث الأول: أثر عامل السن في أسلوب تعليمه «منهجية النبي صلّى اللّه عليه و سلم في تعليم الصغار»:
تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم حكم تعليم الصبيان:
علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم أن تعليم الصبيان مستحب استحبابا متأكدا: و علمهم صلّى اللّه عليه و سلم ذلك بقوله جل جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً (التحريم: 6) و المعنى كما قال غير واحد من السلف: معناه علّموهم ما ينجون به من النّار، و ثبت في الصّحيحين عن ابن عمر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أنّه قال: «كلّكم راع و مسئول عن رعيّته» «1» ف: «الصّبيّ أمانة عند والديه، و قلبه الطّاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كلّ نقش و صورة، و هو قابل لكلّ نقش و قابل لكلّ ما يمال به إليه، فإن عوّد الخير و علّمه نشأ عليه و سعد في الدّنيا و الاخرة، يشاركه في ثوابه أبواه و كلّ معلّم له و مؤدّب، و إن عوّد الشّرّ و أهمل شقي و هلك، و كان الوزر في رقبة القيّم به و الوليّ عليه، و مهما كان الأب يصون ولده من نار الدّنيا فينبغي أن يصونه من نار الاخرة، و هو أولى، و صيانته بأن يؤدّبه و يهديه و يعلّمه محاسن الأخلاق، و يحفظه من قرناء السّوء، و لا يعوّده التّنعّم، و لا يحبّب إليه الزّينة و أسباب الرّفاهية فيضيع عمره في طلبها إذا كبر و يهلك هلاك الأبد» «2»، و قال ابن الحاج: «و ينبغي له أن يمتثل السّنّة في الإقراء و من جملة ذلك أنّ السّلف الماضين رضي اللّه عنهم أجمعين إنّما كانوا يقرئون أولادهم في سبع سنين» «3».
__________________________________________________
(1) البخاري (1/ 304)، مسلم (3/ 1459).
(2) وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية بالكويت: الموسوعة الفقهية (13/ 234).
(3) المدخل لابن الحاج (2/ 345)، مرجع سابق.(1/338)
و قد بوب البخاري: باب تعليم الصبيان القران «1» «كأنه أشار إلى الرد على من كره ذلك و قد جاءت كراهية ذلك عن سعيد بن جبير، و إبراهيم النخعي، و أسنده ابن أبي داود عنهما و لفظ إبراهيم: (كانوا يكرهون أن يعلموا الغلام القران حتى يعقل)، و كلام سعيد بن جبير يدل على أن كراهة ذلك من جهة حصول الملال له و لفظه عند بن أبي داود أيضا: كانوا يحبون أن يقرأ الصبي بعد حين «2»، فكلام من كره يدل على استحباب تعليم الصبي لكن بعد التمييز، لا فور النطق، و هو ما عضده ابن الحاج بقوله: «بل بعضهم يكون سنّه بحيث لا يقدر أن يمسك ضرورة نفسه بل يفعل ذلك في المكتب و يلوّث به ثيابه و مكانه فليحذر من أن يقرئ مثل هؤلاء إذ لا فائدة في إقرائه لهم إلا وجود التّعب غالبا و تلويث موضع القران و تنزيهه عن ذلك متعيّن...» «3».
... «و أما كلام سعيد بن جبير فيدل على ترك التعليم إذا خيف تسرب الملال من القران إلى الصبي، و هو أمر مطلوب بكل حال، فالأصل أن يحبب القران إليه لا أن يبغض...» «4».
منهجية النبي صلّى اللّه عليه و سلم في تعليم الصغار:
لم تختلف منهجية تعليم الصغار عن تعليم الكبار في عهده صلّى اللّه عليه و سلم: بل كانت تسير على الهيئة ذاتها: تعليم الألفاظ مع معانيها و العمل بها: الترتيل، الترجيع، حفظ القران... و يدل لذلك مما علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم إياه:
__________________________________________________
(1) البخاري (4/ 1922)، مرجع سابق.
(2) فتح الباري (9/ 83)، مرجع سابق.
(3) المدخل لابن الحاج (2/ 345)، مرجع سابق.
(4) فتح الباري (9/ 83)، مرجع سابق.(1/339)
1- أن ابن عباس بنباهته و ذكائه و مع كونه ترجمان القران إلا أنه لم يتقن إلا المفصل مع وفاة النبي صلّى اللّه عليه و سلم فقد بوب البخاري: «باب تعليم الصبيان القران» ثم روى عن سعيد بن جبير قال: إن الذي تدعونه المفصل هو المحكم قال: و قال ابن عباس: توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أنا ابن عشر سنين، و قد قرأت المحكم و في لفظ:
جمعت المحكم في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فقلت له: و ما المحكم؟ قال: المفصل «1».
2- ما رواه جندب قال: كنا غلمانا حزاورة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فيعلمنا الإيمان قبل القران، ثم يعلمنا القران فازددنا به إيمانا و إنكم اليوم تعلمون القران قبل الإيمان «2».
و من دلائل الحديثين:
أن الصغار يبتدئون حفظهم من اخر القران لا من أوله، و مثلهم من يكون على شاكلتهم، و أنه لا حرج في هذا التنكيس، و رأى البعض في هذا الحديث ما يدل «على أنه يستحسن ألا يبلغ عشر سنين إلا و قد حفظ المفصل، و معنى هذا أنه يبدأ بتعليمه في سن السابعة، إذ لا يحتاج الصغير إلى أكثر من ثلاث سنين ليحفظ المفصل و يجوده» «3».
كما أن في الحديثين الدلالة الصريحة على اتباع تلك المنهجية دون تفريق بين صغار و كبار، إلا أنه لا شك في مراعاة مدى الاستيعاب بين الفئات المختلفة للمعاني و الأحكام، فيدربون على ما يدرسه الراشدون بحسب الاستيعاب العقلي.
__________________________________________________
(1) البخاري (4/ 1922)، مرجع سابق.
(2) ابن ماجه (1/ 23)، مرجع سابق، البيهقي في الكبرى (3/ 119)، مرجع سابق، و قال في مصباح الزجاجة (1/ 12)، مرجع سابق: «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات».
(3) انظر: سنن القراء ص 51، مرجع سابق.(1/340)
تدريب النبي صلّى اللّه عليه و سلم لهم:
كان من هديه صلّى اللّه عليه و سلم تدريبهم على أمور الكبار:
فقد كان صلّى اللّه عليه و سلم يسلم على الصبيان فعن أنس بن مالك رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم مر على غلمان فسلم عليهم «1».
و كان صلّى اللّه عليه و سلم يدخلهم في ثنايا الصف في الصلاة بحسب النضج العقلي مع أن الأصل أن صفوفهم متأخرة فعن ابن عباس رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم مر بقبر قد دفن ليلا فقال: «متى دفن هذا؟» قالوا: البارحة قال: «أفلا اذنتموني؟». قالوا:
دفناه في ظلمة الليل فكرهنا أن نوقظك، فقام فصففنا خلفه، قال ابن عباس: و أنا فيهم، فصلى عليه «2».
و كان صلى اللّه عليه و سلم يخرجهم إلى مجامع المسلمين العامة كمصلى العيد، و لذا بوب البخاري: «باب خروج الصبيان إلى المصلى» «3»، و ذكر في ذلك حديث ابن عباس في خروجه إلى المصلى مع النبي صلّى اللّه عليه و سلم.
و كان يخرجهم في الغزو للخدمة و مشاهدة القتال و لذا قال ابن حبان: ذكر إباحة خروج الصبيان إلى الغزو ليخدموا الغزاة في غزاتهم- ثم ذكر حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال لأبي طلحة: «التمس لي غلاما من غلمانكم يخدمني حتى اتي خيبر» فخرج بي أبو طلحة مردفي و أنا غلام راهقت الحلم فكنت أخدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إذا نزل «4».
__________________________________________________
(1) صحيح مسلم (4/ 1708)، مرجع سابق.
(2) البخاري (1/ 444)، مرجع سابق.
(3) البخاري (1/ 331)، مرجع سابق.
(4) ابن حبان (11/ 27)، مرجع سابق.(1/341)
و قد كانوا يجعلونهم أئمة لهم، و لا بد للإمامة من وقارها فقد قالت عائشة رضي اللّه عنها: كنا نأخذ الصبيان من الكتاب ليقوموا بنا في شهر رمضان فنعمل لهم القلية و الخشكنانج «1»، و قدم الأشعث غلاما فقيل له فقال: إنما قدمت القران «2».
ضرورة المراعاة بين الفروق الفردية:
و هذه المراعاة للفروق الفردية و القدرات العقلية بين الكبار و الصغار، بل بين أفراد الفئة الواحدة هي التي تسوغ أن يبدأ الصبي في تعلمه للقران الكريم من سورة الناس.
كما أن هذه المراعاة هي التي تجعل تعليم القران لبعض الصبيان محدودا لأن الكمية التي يتعلمها تختلف باختلاف الأشخاص.
__________________________________________________
(1) البيهقي في الكبرى (2/ 495)، مرجع سابق.
(2) ابن أبي شيبة (1/ 305)، مرجع سابق، و أخرجه ابن أبي داود كما قال ابن حجر في فتح الباري (9/ 83)، مرجع سابق بإسناد صحيح.(1/342)
المبحث الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم ألقاب حامل القران و صفاته:
يتناول المبحث هذا الجانب من الناحية الأكثر تعلقا بالكتاب، و هي الأقرب لتعلم ألفاظ القران الكريم «1»، و يبين الألقاب التي ميز بها الشارع الحكيم أهل القران في المجتمع الإسلامي عن غيرهم، و ما تستدعيه هذه الألقاب من صفات حتى يستحق أصحابها الدخول في هذه الفئة المتميزة:
و لذا انقسم المبحث إلى ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم تلقيب القراء و المقرئين بألقاب مميزة.
المطلب الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم صفات حامل القران الذي يستحق هذه الألقاب.
المطلب الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم تلقيب القراء و المقرئين بألقاب مميزة:
أولا: مصطلح (حامل القران):
ذكر هذا المصطلح في قوله صلّى اللّه عليه و سلم: «إن من إجلال اللّه إكرام ذي الشيبة المسلم و حامل القران غير الغالي فيه و لا الجافي عنه و إكرام ذي السلطان المقسط» «2»، و في قوله صلّى اللّه عليه و سلم: «ثلاث لا يكترثون للحساب و لا تفزعهم الصيحة، و لا يحزنهم الفزع الأكبر: حامل القران يؤديه إلى اللّه بما فيه يقدم على ربه عز و جل سيدا شريفا حتى يوافق المرسلين...» «3»، و في غير ذلك من
__________________________________________________
(1) أفاض العلماء في ذكر صفات حملة القران، و ألف الإمام الاجري لذلك (أخلاق حملة القران) و ألف النووي (التبيان في اداب حملة القران)، و انظر لمزيد من ذلك: القرطبي (1/ 20)، مرجع سابق، و ما بعدها.
(2) أبو داود (4/ 261)، و قال في تلخيص الحبير (2/ 118)، مرجع سابق: «و إسناده حسن».
(3) شعب الإيمان (2/ 555)، مرجع سابق، و قال محقق لمحات الأنوار (1/ 28): و هو حسن بشواهده، مرجع سابق.(1/343)
الأحاديث، و ذكر هذا المصطلح على ألسنة الصحابة رضي اللّه عنهم فسالم مولى أبي حذيفة قيل له يوم اليمامة في اللواء: تخشى من نفسك شيئا فتولي اللواء غيرك فقال: بئس حامل القران أنا إذا فقطعت يمينه فأخذ اللواء بيساره، فقطعت يساره فاعتنق اللواء و هو يقول: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اسْتَكانُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (ال عمران: 144- 146) فلما صرع قال لأصحابه: ما فعل أبو حذيفة؟ قيل: قتل قال: فما فعل فلان؟
لرجل قد سماه قيل: قتل قال: فأضجعوني بينهما «1».
تحريره:
يدل على من يحفظ عن ظهر قلب كما هو واضح من كونه يحمل القران، و ليس معتادا في عصر النبي صلّى اللّه عليه و سلم أن يحملوا مصاحفا معهم لعسر ذلك في وقتهم، فتعين أنه يريد من حفظه و قرأه عن ظهر قلب، و قد بين أهل العلم أن مصطلح حامل القران إنما يكون لمن «يلازمه بالتلاوة و العمل لا من يقرؤه و لا يعمل به» «2»، و لا يدعى بحامل للقران من لا يرتل القران، و يتقن أداءه، فمن حفظ لفظه و لم يتقن أداءه فلا يدعى حاملا للقران و لا ينال الثواب المتميز الوارد في
__________________________________________________
(1) الحاكم (3/ 252)، و انظر: الجهاد ص 98 لابن المبارك، تحقيق: نزيه حماد، الدار التونسية، تونس، 1972 م.
(2) عون المعبود (4/ 237)، مرجع سابق.(1/344)
حملة القران و قرائه على ما قرره علماء الإسلام، إذ «يؤخذ من الحديث أنه لا ينال هذا الثواب الأعظم إلا من حفظ القران و أتقن أداءه و قراءته كما ينبغي له» «1»، و على هذا فحملة القران «أي حفظته عن ظهر قلب المداومين لتلاوته العاملين بأحكامه» «2» العاملون بما فيه الواقفون عند حدوده و رسومه الامرون بما أمر به الناهون عما نهى عنه «3»... ولكن الواقع هو الأخذ بالظاهر فينادى بهذا اللفظ من جمع القران ما دام لم يظهر منه علنا ما ينافي القران، مع الأخذ بعين الاعتبار الحقيقة السابقة.
ثانيا: مصطلح (صاحب القران):
و ورد مصطلح (صاحب القران): في قول النبي صلّى اللّه عليه و سلم: «يقال لصاحب القران إذا دخل الجنّة اقرأ و اصعد فيقرأ و يصعد بكلّ اية درجة حتّى يقرأ اخر شي ء معه» «4»، و قوله صلّى اللّه عليه و سلم: «إذا قام صاحب القران فقرأه بالليل و النهار ذكره..» «5».
تحريره:
يدل على المؤالفة بين القران و الإنسان الملقب بهذا اللقب؛ إذ المصاحبة هي المؤالفة، و هو كقوله سبحانه و تعالى: أَصْحابَ الْجَنَّةِ (القلم: 17) و الإلف المطلوب هنا إلف لتلاوته و هو أعم من أن يألفها نظرا من المصحف، أو عن ظهر قلب فإن الذي يداوم على ذلك يذل له لسانه، و يسهل عليه قراءته، فإذا هجره ثقلت عليه
__________________________________________________
(1) عون المعبود (4/ 237)، مرجع سابق.
(2) فيض القدير (1/ 226)، مرجع سابق.
(3) فيض القدير (2/ 19)، مرجع سابق.
(4) ابن حبان (3/ 43)، الحاكم (1/ 739)، النسائي في الصغرى (1/ 560)، الترمذي (5/ 177)، و قال: «هذا حديث حسن صحيح».
(5) رواه مسلم (1/ 536)، مرجع سابق.(1/345)
القراءة، و شقت عليه «1»، ولكن المصطلح الشرعي حصر (صاحب بالقران) بمن يقرؤه عن ظهر قلب، و يحفظه غيبا فيما يظهر من قول النبي صلّى اللّه عليه و سلم: «مثل القران إذا عاهد عليه صاحبه فقرأه باللّيل و النّهار كمثل رجل له إبل فإن عقلها حفظها و إن أطلق عقلها ذهبت فكذلك صاحب القران» «2»... إذ المفهوم العام يدل على أن المراد تنبيه الحافظ لديمومة حزبه... و قد يعترض على هذا بأن الذي يترك قراءته نظرا أمدا طويلا... يشق عليه بعد ذاك... فيصدق على القارئ للمصحف نظرا هذا المصطلح، و هو ما يظهر أن ابن حجر حاول إثباته عندما قال: «و قوله إنما يقتضي الحصر على الراجح لكنه حصر مخصوص بالنسبة إلى الحفظ و النسيان بالتلاوة و الترك» «3» ولكن ذلك غير راجح- و إن قبل- لأن الحفظ المذكور في الحديث يقرب أن يكون المراد عن ظهر قلب.
ثالثا: أهل القران:
و قد ورد هذا المصطلح في قوله صلّى اللّه عليه و سلم: «إن للّه اهلين من الناس» قيل: من هم يا رسول اللّه؟ قال: «أهل القران هم أهل اللّه و خاصته» «4»، و عن عبيدة المليكي رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أنه كان يقول: «يا أهل القران لا توسدوا القران و اتلوه حق تلاوته في اناء الليل و النهار، و أفشوه، و تغنوا به، و اذكروا ما فيه لعلكم تفلحون و لا تستعجلوا ثوابه فإن له ثوابا» «5»، و عن طاووس أنه سأل ابن
__________________________________________________
(1) انظر: فتح الباري (9/ 80)، مرجع سابق.
(2) البخاري (4/ 1920)، مسلم (1/ 543)، ابن حبان (3/ 42)، مرجع سابق.
(3) انظر: فتح الباري (9/ 80)، مرجع سابق.
(4) النسائي في الكبرى (5/ 17)، ابن ماجة (1/ 78)، و في مصباح الزجاجة (1/ 29)، مرجع سابق: «هذا إسناد صحيح و رجاله موثقون».
(5) شعب الإيمان (2/ 350).(1/346)
عباس رضي اللّه عنه: ما معنى قول الناس: أهل القران عرفاء أهل الجنة. فقال: رؤساء أهل الجنة «1».
و انتشر هذا المصطلح فيما بعد فقد جاء عن عبيد بن عمير كان يقول إذا جاء الشتاء: يا أهل القران طال الليل لصلاتكم، و قصر النهار لصيامكم فاغتنموا «2».
رابعا: مصطلح (جمع القران) فالاسم منه جامع:
ورد هذا المصطلح في أحاديث عديدة و منها: حديث أنس رضي اللّه عنه: جمع القران على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أربعة... الحديث، و حديث أبي هريرة في أول ثلاثة يقضى بينهم يوم القيامة و فيه: «فأول من يدعوا به رجل جمع القران و رجل يقتل في سبيل اللّه و رجل كثير المال فيقول للقارئ أ لم أعلمك ما أنزلت على رسولي قال بلى يا رب قال فماذا عملت فيما علمت قال كنت أقوم به أثناء الليل و اناء النهار فيقول اللّه له كذبت و تقول الملائكة كذبت و يقول اللّه بل أردت أن يقال فلان قارئ فقد قيل...» الحديث «3».
تحرير هذا المصطلح:
واضح أن المراد به القراءة عن ظهر قلب، و من ذلك قول المحدث أبي صالح: لأن أكون جمعت القران ثم قمت به سنة كان أحب إلي من كذا و كذا، و ذلك أنه بلغني أنه يقال لصاحب القران اقرأ وارق و رتل فيرجى إذا كان جمع القران أن يكون من المقربين «4»، و قد يرد هذا المصطلح بمعنى كتابته كله
__________________________________________________
(1) لسان العرب (9/ 239)، مرجع سابق.
(2) ابن أبي شيبة (2/ 344)، مرجع سابق.
(3) ابن خزيمة (4/ 116)، ابن حبان (2/ 136)، الحاكم (1/ 579)، الترمذي (4/ 591)، مراجع سابقة.
(4) سعيد بن منصور (1/ 69)، مرجع سابق.(1/347)
حروفا و كلمات و ايات و سورا هذا جمع في الصحائف و السطور و ذاك جمع في القلوب و الصدور «1».
خامسا: مصطلح (حافظ القران):
ورد في حديث الماهر بالقران قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «مثل الذي يقرأ القران و هو حافظ له» «2»، و ورد بصيغة الفعل منه، و ورد بلفظه في لغة التابعين فعن مكحول قال: دخلت أنا و أبو الأزهر على واثلة بن الأسقع فقلنا: يا أبا الأسقع حدثنا بحديث سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ليس فيه و هم و لا تزيد و لا نسيان فقال:
هل قرأ أحد منكم من القران شيئا فقلنا نعم و ما نحن له بالحافظين جدا إنا لنزيد الواو و الألف و ننقص.. «3»..
و ورد أصل اسم الفاعل و هو الفعل، و قد كثر هذا فعن أبي الدّرداء رضي اللّه عنه أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم قال: «من حفظ عشر ايات من أوّل سورة الكهف عصم من الدّجّال» «4».
و قد شاع هذا المصطلح لموافقته لقول اللّه عزّ و جلّ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (الحجر: 9)، و لأنه يحقق مراد مصطلح الصاحب و الحامل و هو (الحافظ) ليطلقوه على من قرأ القران عن ظهر قلب... و لذا كثر في عبارات المتأخرين... و لا شك أن مصطلح (حامل القران) أكثر دلالة و ظهورا على المطلوب مع التواضع الظاهر فيه مقارنة بمصطلح حافظ القران.
__________________________________________________
(1) مناهل العرفان (1/ 167)، مرجع سابق.
(2) البخاري (4/ 1882)، مرجع سابق.
(3) الطبراني في الكبير (2/ 54)، مسند الشاميين (2/ 368)، مرجعان سابقان.
(4) مسلم (1/ 555)، الحاكم (2/ 399)، أبو داود (4/ 117)، مرجع سابق.(1/348)
سادسا: مصطلح القارئ، و جمعه القراء:
و قد ورد كثيرا في الأحاديث النبوية و تقدم بعضها و سيأتي بعضها بعد هذا- إن شاء اللّه-.
تحرير هذا المصطلح:
بيان حقيقة هذا المصطلح مسألة جليلة تغافل عنها كثير من مؤسسات تعليم القران الكريم و لذا لا بد من التوسع في تبيينها فإن لمصطلح (القراء) عند القوم إطلاقين: مطلق العالم بما يتعلق بالكتاب و السنة، و الجامع للقران الكريم الذي يقرؤه عن ظهر قلب، ولكن لم يكن الفرق بينا في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بين هذين المعنيين، و يدل على شمول مصطلح القارئ لمفهوم العالم قولها صلّى اللّه عليه و سلم: «فأول من يدعوا به رجل جمع القران و رجل يقتل في سبيل اللّه و رجل كثير المال فيقول للقارئ: أ لم أعلمك ما أنزلت على رسولي قال بلى يا رب قال فماذا عملت فيما علمت قال كنت أقوم به أثناء الليل و اناء النهار فيقول اللّه له كذبت و تقول الملائكة كذبت و يقول اللّه بل أردت أن يقال فلان قارئ فقد قيل...» الحديث «1».
و هذان اللفظان: قارئ و عالم إن اجتمعا افترقا، و إن انفرد القارئ فالأصل فيه الدلالة على العلم، و يؤيد هذا الرواية الاخرى لهذا الحديث: «إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة... و رجل تعلم العلم و علمه و قرأ القران فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم و علمته و قرأت فيك القران قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم و قرأت القران ليقال هو قاري ء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار...» الحديث «2».
__________________________________________________
(1) ابن خزيمة (4/ 116)، ابن حبان (2/ 136)، الحاكم (1/ 579)، الترمذي (4/ 591)، مراجع سابقة.
(2) مسلم (3/ 1513)، النسائي في الكبرى (6/ 477)، مرجعان سابقان.(1/349)
و غلب على الصحابة رضي اللّه عنهم علم نقل اللفظ القراني لأنه مادة البلاغ الأصلية حتى قال فيهم المنافقون: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، و لا أكذب ألسنا، و لا أجبن عند اللقاء «1».
و من هذا الباب: «أن القارئ لا يكون قارئا إلا مع فهم القران» قال ابن زيد في قوله: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (النحل: 43): «الذكر القران» و قرأ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (الحجر: 9)، و قرأ:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ (فصلت: 41) «2».
فقد دخل في معنى قوله صلّى اللّه عليه و سلم: «خيركم من تعلم القران و علمه» «تعليم حروفه و معانيه جميعا، بل تعلم معانيه هو المقصود الأول بتعليم حروفه، و ذلك هو الذي يزيد الإيمان» «3».
صفة أئمة الإقراء من أصحابه رضي اللّه عنهم: و هذه صفة تلاميذه (أصحابه) من القراء فقد كانوا أعلم الناس بالعلوم الشرعية فعن عبد اللّه بن مسعود قال: من تعلم القران فليتعلم الفرائض و لا يكن كرجل لقيه أعرابي فقال له: يا عبد اللّه أعرابي أم مهاجر؟ فإن قال: مهاجر. قال: إنسان من أهلي مات فكيف نقسم ميراثه فإن علم كان خيرا أعطاه اللّه إياه و إن قال لا أدري قال فما فضلكم علينا؟
أنكم تقرؤون القران و لا تعلمون الفرائض «4»، و قال أبو موسى رضي اللّه عنه: من علم القران و لم يعلم الفرائض فإنّ مثله مثل البرنس لا وجه له أو ليس له وجه «5».
__________________________________________________
(1) ابن كثير (2/ 362)، مرجع سابق.
(2) الطبري (14/ 109)، مرجع سابق.
(3) ابن تيمية (13/ 403)، مرجع سابق.
(4) سنن البيهقي الكبرى (6/ 209)، مرجع سابق.
(5) الدارمي (2/ 441)، مرجع سابق.(1/350)
و من أعظم مخاطر اقتصار المقرئ على مجرد تلقين الألفاظ أن يفسد عمله في تعليم الناس القران دون أن يشعر:
إذ أصناف القراء على التحقيق ثلاثة: «فمن حملة القران المعرب العالم بوجوه الإعراب و القراات العارف باللغات و معاني الكلمات البصير بعيب القراات المنتقد للاثار فذلك الإمام الذي يفزع إليه حفاظ القران في كل مصر من أمصار المسلمين، و منهم من يعرب و لا يلحن و لا علم له بغير ذلك فذلك كالأعرابي الذي يقرأ بلغته و لا يقدر على تحويل لسانه فهو مطبوع على كلامه، و منهم من يؤدي ما سمعه ممن أخذ عنه ليس عنده إلا الأداء لما تعلم لا يعرف الإعراب و لا غيره فذلك الحافظ فلا يلبث مثله أن ينسى إذا طال عهده فيضيع الإعراب لشدة تشابهه و كثرة فتحه و ضمه و كسره في الاية الواحدة لأنه لا يعتمد على علم بالعربية و لا بصر بالمعاني يرجع إليه و إنما اعتماده على حفظه» «1».
و على ضوء هذا يفهم معنى ما جاء عن ابن المبارك عندما قام رجل إليه فقال: يا أبا عبد الرحمن! في أي شي ء أجعل فضل يومي في تعلم القران أو في طلب العلم؟ فقال: هل تقرأ من القران ما تقيم به صلاتك؟ قال: نعم! قال:
فاجعله في طلب العلم الذي يعرف به القران «2».
كما أن المراد بتعلم المعاني ليس تعلم العلوم بالمعنى المصطلحي- و إن كان مطلوبا للمتأهل و المتصدر للإقراء، بل المراد بالنسبة للعامة من المقرئين التدبر و فهم المعنى على الأقل.
__________________________________________________
(1) السبعة ص 46، مرجع سابق.
(2) حلية الأولياء (8/ 165)، مرجع سابق.(1/351)
ولكن ينبغي ذلك مع عدم الإكثار من المادة المصاحبة لحفظ ألفاظ القران الكريم كما في حديث بن مسعود رضي اللّه عنه: جرّدوا القران ليربو فيه صغيركم و لا ينأى عنه كبيركم «أي لا تقرنوا به شيئا من الأحاديث ليكون واحده مفردا و قيل أراد ألايتعلّموا من كتب اللّه شيئا سواه...، و المعنى اجعلوا القران لهذا و خصّوه به، و اقصروه عليه، دون النّسيان و الإعراض عنه، لينشأ على تعلّمه صغاركم، و لا يتبعاد عن تلاوته و تدبّره كباركم» «1».
المطلب الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم صفات حامل القران الذي يستحق هذه الألقاب:
علم النبي صلّى اللّه عليه و سلم أصحابه رضي اللّه عنهم صفات حامل القران الذي يستحق الألقاب السابقة:
أولا: أول صفات الحافظ التي تجعله يعتز بكونه حاملا للقران: محاولته الدائمة للتفكر في جلال اللّه، و أسمائه الحسنى، و صفاته العلى:
فإن ذلك هو الذي يولد في قلبه مقدار جلال كلامه جل جلاله، و قد علم النبي صلّى اللّه عليه و سلم أصحابه ذلك أشد التعليم و أعظمه؛ إذ تلحظ ذلك من أحاديثه المتوافرة، و من إضافة ايات الكتاب إليه سبحانه في مثل قوله جل جلاله: آياتُ اللَّهِ (البقرة: 252)، و من تبجيل كلام اللّه سبحانه و تعالى ببيان كيف تلقاه جبريل عليه السّلام، و كيف كان يتلقاه النبي صلّى اللّه عليه و سلم... و هو الذي جعله الغزالي في جواهر القران أهم ما يستعان به على حفظ القران و فهمه، و مما قاله: «حال العارفين و نسبة لذتهم إلى لذة الغافلين: و اعلم أنه لو خلق فيك شوق إلى لقاء اللّه، و شهوة إلى معرفة جلاله أصدق و أقوى من شهوتك للأكل و النكاح لكنت تؤثر جنة المعارف و رياضها و بساتينها على الجنة
__________________________________________________
(1) النهاية في غريب الأثر (1/ 256)، مرجع سابق.(1/352)
التي فيها قضاء الشهوات المحسوسة» «1»، فإذا استقر في ذهن المرء و سويداء قلبه أن القران كلام اللّه جل جلاله أنزله اللّه على البشر مباركا و هدى للناس... علم مقدار جلاله، و عظمته.
و إنما كان خير الناس هو المقرئ إلا لأن خيرهم بعد النبيين من يتعلم القران و يعلمه «2» بعد أن استقر أن خير الكلام كلام اللّه، فقوله صلّى اللّه عليه و سلم: «خيركم من تعلم القران و علمه» أي خير المتعلمين و المعلمين من كان تعلمه و تعليمه في القران لا في غيره إذ خير الكلام كلام اللّه فكذا خير الناس بعد النبيين من اشتغل به «3»، و لذا فإن معنى كونه مع الملائكة أنه يكون رفيقا لهم هناك لاتصافه بصفتهم من حمل كتابه «4».
ثانيا: تعلم معاني الألفاظ مع تلقيها:
فيتعلمون مع ألفاظه معانيه، و يتدبرونه، و يعلمون حلاله و حرامه: فإن النبي صلّى اللّه عليه و سلم هكذا علمه فلم يكن تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلم لأصحابه ألفاظ القران الكريم إلا مع معانيه و تدل لهذا الأدلة التالية:
1- ما جاء في قوله سبحانه و تعالى: وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ (ال عمران: 79): فقد قال الضحاك فيها: «حق على كل من تعلم القران أن يكون فقيها» و قد قال الفضيل بن عياض في المكثرين من العلوم الاخرى تاركين كتاب اللّه:... و قد ضيعتم كتاب اللّه و لو طلبتم كتاب اللّه لوجدتم فيه شفاء لما
__________________________________________________
(1) جواهر القران ص 82، مرجع سابق.
(2) شرح سنن ابن ماجة (1/ 19)، مرجع سابق.
(3) انظر: فيض القدير (3/ 499)، مرجع سابق.
(4) فيض القدير (1/ 226)، مرجع سابق.(1/353)
تريدون قال قلنا: قد تعلمنا القران قال: إن في تعلمكم القران شغلا لأعماركم و أعمار أولادكم... إذا عرفتم ذلك استغنيتم عن كلام فضيل و ابن عيينة ثم قال: أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم اللّه الرحمن الرحيم:
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (يونس: 57- 58) «1».
2- لم يعلمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم أن يتقنوا الألفاظ إلا لتحقيق مقاصد القران:
كما في قوله سبحانه و تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ (ص: 29)، و أنكر النبي صلّى اللّه عليه و سلم على قوم يقرؤونه لا يفقهونه فقال: «يقرؤن القران لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع» فالمطلوب تعقله و تدبره بوقوعه في القلب «2».
و لذا نعى العلماء على قارئ أو مقرئ لا يحسن غير ذلك، فقد قال الغزالي رحمه اللّه تعالى-: «أنبهك على رقدتك أيها المسترسل في تلاوتك المتخذ دراسة القران عملا المتلقف من معانيه ظواهر و جملا إلى كم تطوف على ساحل البحر مغمضا عينيك عن غرائبها، أو ما كان لك أن تركب متن لجتها لتبصر عجائبها و تسافر إلى جزائرها لاجتناء أطايبها، و تغوص في عمقها فتستغني بنيل جواهرها؟ أو ما بلغك أن القران هو البحر المحيط و منه يتشعب علم الأولين و الاخرين؟» «3».
__________________________________________________
(1) القرطبي (1/ 22)، مرجع سابق.
(2) الديباج على صحيح مسلم (2/ 415)، مرجع سابق.
(3) جواهر القران ص 21، مرجع سابق.(1/354)
3- حديث ابن مسعود رضي اللّه عنه قال: كنّا نتعلّم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عشر ايات فما نعلم العشر الّتي بعدهنّ حتّى نتعلّم ما أنزل في هذه العشر من العمل «1»...
فهذا بيان للمنهجية النبوية في تعليم اللفظ القراني.
4- عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثني الذين كانوا يقرئوننا عثمان بن عفان و عبد اللّه بن مسعود و أبي بن كعب رضي اللّه عنهم و في رواية الطحاوي كان أصحابنا يقرئونا و يعلّمونا و يخبرونا- أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم كان يقرئ أحدهم عشر ايات فما يجاوزها حتّى يتعلّم العمل فيها قال: و قالوا علمنا القران و العمل جميعا «2» و في لفظ: فعلمنا العلم و العمل «3».
5- و قال: إنا أخذنا هذا القران عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر ايات لم يجاوزوهن إلى العشر الاخر حتى يعلموا ما فيهن، فكنا نتعلم القران و العمل به، و إنه سيرث القران بعدنا قوم ليشربونه شرب الماء لا يجاوز تراقيهم بل لا يجاوز ها هنا و وضع يده على الحلق «4».
6- و عن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنه قال: لقد عشنا برهة من دهر و أحدنا يؤتى الإيمان قبل القران و تنزل السّورة على محمّد صلّى اللّه عليه و سلم فيتعلّم حلالها و حرامها و امرها و زاجرها و ما ينبغي أن يوقف عنده منها كما تتعلّمون أنتم اليوم القران ثمّ لقد رأيت اليوم رجالا يؤتى أحدهم القران قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى
__________________________________________________
(1) مشكل الاثار للطحاوي (2/ 456)، مرجع سابق، البيهقي في الكبرى (3/ 119)، مرجع سابق.
(2) مشكل الاثار للطحاوي (2/ 456)، مرجع سابق.
(3) أحمد (5/ 410)، ابن أبي شيبة (6/ 117)، مرجعان سابقان، و انظر: مجمع الزوائد (7/ 165)، مرجع سابق.
(4) (ابن سعد) محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري ت 230 ه: الطبقات الكبرى (6/ 172)، دار صادر بيروت.(1/355)
خاتمته، و لا يدري ما امره، و لا زاجره، و لا ما ينبغي أن يوقف عنده منه و ينتثره نثر الدّقل «1».
و هذا يقتضي منهجيا أن يتدرج القائمون على دور القران و كلياته و جامعاته في تدريس المواد الشرعية الضرورية مع تعليم القران الكريم بحسب المرحلة المناسبة للطالب.
و كان مجلس أئمة الإقراء رضي اللّه عنهم يمتلئ بالمذاكرة العلمية فمثلا كان الناس عند عبد اللّه بن مسعود فوقع بين رجلين ما يقع بين الناس فوثب كل واحد منهم إلى صاحبه فقال بعضهم: ألا أقوم فامرهما بالمعروف و أنهاهما عن المنكر فقال:
بعضهم عليك نفسك إن اللّه تعالى قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ (المائدة: 105) فسمعها ابن مسعود فقال: لم يجي ء تأويل هذه الاية بعد، إن القران أنزل حين أنزل و كان منه اي مضى تأويله قبل أن ينزل، و كان منه اي وقع تأويله اليوم، و منه اي يقع تأويله عند الساعة، و ما ذكروا من أمر الساعة، و منه اي يقع تأويله بعد يوم الحساب و الجنة و النار، فما دامت قلوبكم واحدة و أهواؤكم واحدة و لم تلبسوا شيعا و لم يذق بعضكم بأس بعض فمروا و انهوا، فإذا اختلفت القلوب و الأهواء و ألبستم شيعا و ذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ و نفسه فعند ذلك جاء تأويلها «2».
ثالثا: تعلم الإيمان مع تعلم ألفاظ القران «3»:
و المراد به هنا العمل؛ إذ لفظ الإيمان يستغرق العلم و العمل جميعا، ولكن تخصيص مدلول الإيمان بالعمل يقتدى فيه بالتعبير القراني في قوله جل جلاله: وَ قالَ
__________________________________________________
(1) مشكل الاثار للطحاوي (2/ 457)، الإيمان لابن منده (1/ 369).
(2) البيهقي في الكبرى (10/ 92)، مرجع سابق.
(3) و ينظر- مثلا- في أعمال الباطن في التلاوة: الإحياء (1/ 280)، مرجع سابق.(1/356)
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ (الروم: 56)، و سلب الإيمان (العمل) من أخوف ما يتقيه حامل القران، و قد علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم ذلك حتى أخبرهم بأن القران قد يستظهره ألد أعدائه فقال صلّى اللّه عليه و سلم: «يخرج من الكاهنين رجل يدرس القران دراسة لا يدرسها أحد يكون بعده» «1».
و أما ما أشار إليه بعض الصحابة كجندب بن عبد اللّه، و عبد اللّه بن عمر و غيرهما بقولهم: تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القران فازددنا إيمانا و أنتم تتعلمون القران ثم تتعلمون الإيمان، و كذلك قال حذيفة: إنا قوم أوتينا الإيمان قبل أن نؤتى القران، و إنكم قوم أوتيتم القران قبل أن تؤتوا الإيمان «2»... فالمراد بالإيمان هنا أخص العمل و هو الاستعداد و الخشية و الحب و التلهف، و مثله ما جاء عن حذيفة قال: حدثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم حديثين رأيت أحدهما و أنا أنتظر الاخر أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القران ثم علموا من السنة.. «3». على أن تعلم لفظ القران سابق على كل شي ء.
و لا يتوهم من قوله صلّى اللّه عليه و سلم: «خيركم من تعلم القران و علمه»: «أن العمل خارج عنهما؛ لأن العلم إذا لم يكن مورثا للعمل ليس علما في الشريعة إذا أجمعوا على أن من عصى اللّه فهو جاهل» «4»، و قد قال ابن عبد البر: «و حملة القران هم العاملون بأحكامه و حلاله و حرامه بما فيه» «5»، و لذا فالأجر إنما يكون لمن يعمل به فعن النّوّاس بن سمعان الكلابيّ قال: سمعت النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم يقول:
__________________________________________________
(1) الطبراني في الكبير (22/ 197)، مرجع سابق.
(2) البيهقي في الكبرى (3/ 119)، مرجع سابق.
(3) البخاري (5/ 2382)، مرجع سابق.
(4) تحفة الأحوذي (8/ 179)، مرجع سابق.
(5) التمهيد لابن عبد البر (17/ 430)، مرجع سابق.(1/357)
«يؤتى بالقران يوم القيامة و أهله الّذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة و ال عمران و ضرب لهما رسول اللّه ف ثلاثة أمثال ما نسيتهنّ بعد قال كأنّهما غمامتان أو ظلّتان سوداوان بينهما شرق أو كأنّهما حزقان من طير صوافّ تحاجّان عن صاحبهما» «1».
مثال تطبيقي من تلاميذ النبي صلى اللّه عليه و سلم: و قد أثنى النبي صلّى اللّه عليه و سلم على رجل ذكر عنده بأنه يعمل بالقران: فعن السائب بن يزيد أنّ شريحا الحضرميّ ذكر عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «لا يتوسّد القران» «2»، فقوله: «لا يتوسد القران» مدح على الراجح بأنه يعظّم القران و يجلّه و يداوم على قراءته، لا كمن يمتهنه و يتهاون به و يخلّ بتلاوته «3».
و من الأمور العملية التي خص حملة القران بالنداء إليها: ما ورد عن علي رضي اللّه عنه قال: إن الوتر ليس بحتم و لا كصلاتكم المكتوبة ولكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أوتر ثم قال: «يا أهل القران أوتروا فإن اللّه وتر يحب الوتر» «4»، و ذكر بعض أهل العلم أن تخصيصه أهل القران بالأمر فيه يدل على أنه واجب. «5».، و يؤكد التخصيص نص حديث عبد اللّه بن مسعود عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: «إن اللّه وتر يحب الوتر أوتروا يا أهل القران» فقال أعرابي: ما يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم؟ قال: ليس لك و لا لأصحابك.
__________________________________________________
(1) مسلم (1/ 553)، ابن حبان (1/ 322)، الحاكم (1/ 747)، مراجع سابقة.
(2) أحمد (3/ 449)، النسائي في الكبرى (1/ 412)، و الصغرى (3/ 256)، مراجع سابقة.
(3) انظر: الفائق (4/ 59)، النهاية (5/ 182)، حاشية السندي (3/ 257)، مراجع سابقة.
(4) ابن خزيمة (2/ 136)، الحاكم (1/ 441)، المختارة (2/ 136)، أبو داود (2/ 61)، الترمذي (2/ 316)، مراجع سابقة.
(5) عون المعبود (4/ 205)، مرجع سابق.(1/358)
و علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم أن شيوع القران ترتيلا و تغنيا دون إيمان و عمل و تدبر من الخصال التي يخاف أن تصيبهم فعن عابس الغفاري رضي اللّه عنه قال: سمعت النبي صلّى اللّه عليه و سلم يعني خصالا يتخوفهن على أمته من بعده إمارة السفهاء و استخفافا بالدم و قطيعة الرحم و كثرة الشرط و نش ء يتخذون القران مزامير يتغنون غناء يقدمون الرجل بين أيديهم ليس بأفضلهم و لا أعلمهم لا يقدمونه إلا ليغنى لهم «1» «فما أقبح لحامل القران أن يتلو فرائضه و أحكامه عن ظهر قلب، و هو لا يفهم ما يتلو، فكيف يعمل بما لا يفهم معناه» «2».
و كتسلسل لهذه المنهجية كان أبو موسى رضي اللّه عنه يقول لتلاميذه: إنّ هذا القران كائن لكم أجرا و كائن لكم ذكرا و كائن بكم نورا و كائن عليكم وزرا.
اتّبعوا القران و لا يتّبعكم القران فإنّه من يتّبع القران يهبط به في رياض الجنّة و من اتّبعه القران يزخّ في قفاه فيقذفه في جهنّم «3»، و كان أبو عبد الرحمن السلمى إذا ختم عليه الخاتم القران أجلسه بين يديه و وضع يده على رأسه و قال له: يا هذا اتق اللّه فما أعرف أحدا خيرا منك إن عملت بالذي عملت «4» و ذكر أبو بكر الأنباري عن عبد اللّه بن مسعود: إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القران و سهل علينا العمل به و إن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القران و يصعب عليهم العمل به.
تعلم العلم و العمل جميعا أساس في المنهجية النبوية:
فقد ظهر مما سبق المنع من تعلم المعشر الجديد حتى يتم العلم بما في القديم من العمل، و هذا يقتضي العلم بما فيها من المعنى.
__________________________________________________
(1) شعب الإيمان (2/ 541)، مرجع سابق.
(2) القرطبي (1/ 21)، مرجع سابق.
(3) الدارمي (2/ 526)، سعيد بن منصور في سننه (1/ 49)، ابن أبي شيبة (7/ 142)، مراجع سابقة.
(4) القرطبي (1/ 7)، مرجع سابق.(1/359)
و المقتضى المنهجي لذلك:
إعادة هذا الأسلوب، و تطبيقه، و إتحافه بعدد من الأنشطة العملية التي تواكب تطبيق الايات: كالإنفاق و لو بمبلغ رمزي عند قراءة اية الإنفاق، و التفكر عند قراءة اية التفكر، و أمر المتعلم بشرح أحكام الزواج مثلا بعد قراءتها كنوع من الإصرار على الفهم العام.
و من المقتضيات إعداد منهج مواكب لعمل التحفيظ أو التلقين أو الإقراء تشرح فيه معاني القران بيسر، و تقترح فيه النشطة العملية المقترحة لمواكبة الايات المتعلمة.
اعتراض و جوابه:
قد يعترض على هذا بأنه يطيل أمد الحفظ و مدته و الجواب أن هذا هو الأمر الشرعي، و لا دخل لما ال إليه الأمر هذه الأيام في كثير من مؤسسات التحفيظ، كما أن من مقتضيات ذلك إعداد معلم القران إعدادا قويا يناسب قيامه بهذه الوظيفة الجليلة. كما لا يعترض على هذا بتفاوت مدارك المتعلمين لأن هذا المبدأ يفرض تفاوت التعامل مع كل طالب بحسب حاله.
و أما الصغار فلا بد من مراعاة مقدار ذلك معهم ذلك لا إزالة الفكرة من أصلها.
رابعا: و رأس الصفات العملية للإيمان الإخلاص للّه تعالى:
و هو ما كان النبي صلّى اللّه عليه و سلم يعلمهم إياه مذ بعث، و بين القاري أن الخيرية في قوله صلّى اللّه عليه و سلم: «خيركم من تعلم»: «لكن لا بد من تقييد التعلم و التعليم بالإخلاص» «1»، فمن أخلصهما و تخلق بهما دخل في زمرة الأنبياء «2»، و لإذكاء صفة الإخلاص في نفس القارئ، فقد كان من أسلوب النبي صلّى اللّه عليه و سلم في نفوس حملة القران أن يبين لهم
__________________________________________________
(1) شرح سنن ابن ماجه (1/ 19)، مرجع سابق.
(2) انظر: فيض القدير (3/ 499)، مرجع سابق.(1/360)
مقدار الوعيد الشديد فيمن يزيغ عن ايات اللّه بعد أن يعلمها كما في قول جل جلاله:
وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) (الأعراف: 175- 176)، ففي ذلك زيادة التشنيع لمن يفعل فعل الذي أخلد إلى الأرض، و بيان حقيقة مكانة حامل القران إن اهتدى أو ضل، و قد حبذ بعض المقرئين تحفيظ القراء- مع قراءتهم- حديث أبي هريرة في أول ثلاثة يقضى بينهم يوم القيامة و فيه: «فأول من يدعوا به رجل جمع القران و رجل يقتل في سبيل اللّه و رجل كثير المال فيقول للقارئ أ لم أعلمك ما أنزلت على رسولي قال بلى يا رب قال فماذا عملت فيما علمت قال كنت أقوم به أثناء الليل و اناء النهار فيقول اللّه له كذبت و تقول الملائكة كذبت و يقول اللّه بل أردت أن يقال فلان قارئ فقد قيل...» الحديث «1»..
و تسلسل منهجية التذكير بالإخلاص للقراء، فقد خطب عمر ابن الخطّاب رضي اللّه عنه فقال: يا أيّها النّاس ألا إنّا إنّما كنّا نعرفكم إذ بين ظهرينا النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و إذ ينزل الوحي و إذ ينبئنا اللّه من أخباركم ألا و إنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم قد انطلق و قد انقطع الوحي و إنّما نعرفكم بما نقول لكم من أظهر منكم خيرا ظننّا به خيرا و أحببناه عليه و من أظهر منكم لنا شرّا ظننّا به شرّا و أبغضناه عليه سرائركم بينكم و بين ربّكم ألا إنّه قد أتى عليّ حين و أنا أحسب أنّ من قرأ القران يريد اللّه و ما عنده فقد خيّل إليّ باخرة إنّ رجالا قد قرؤه يريدون به ما عند النّاس فأريدوا اللّه بقراءتكم و أريدوه بأعمالكم «2».
__________________________________________________
(1) ابن خزيمة (4/ 116)، ابن حبان (2/ 136)، الحاكم (1/ 579)، الترمذي (4/ 591)، مراجع سابقة.
(2) المختارة (1/ 219)، عبد الرزاق (3/ 383)، أحمد (1/ 41)، أبو يعلى (1/ 175)، و انظره في مجمع الزوائد (5/ 211)، مراجع سابقة.(1/361)
خامسا: مداومة تلاوته:
و المراد بالتلاوة هنا معناها الخاص، و هو القراءة فقد علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم ذلك فيما رواه أبو هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «لا حسد إلا في اثنتين رجل علّمه اللّه القران فهو يتلوه اناء اللّيل و اناء النّهار فسمعه جار له فقال ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل» «1».
و قد علمهم أن ذلك يجب ألا يعدل ما سواه حتى لو كان حديث رسول اللّه فقد حدث عقبة بن عامر الجهنيّ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أحاديث فقال أبو موسى:
إنّ صاحبكم هذا لحافظ أو هالك إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان اخر ما عهد إلينا أن قال عليكم بكتاب اللّه و سترجعون إلى قوم يحبّون الحديث عنّي فمن قال عليّ ما لم أقل فليتبوّأ مقعده من النّار و من حفظ عنّي شيئا فليحدّثه «2».
و كثرة التلاوة لأن اللّه عزّ و جلّ «أراد انصباغ النفوس بصبغة هذه المعلومات و تردادها بالنسبة إلى العالم... و لأجل ذلك أمرنا بتكرار التلاوة و الإكثار منها، و لم يكتف بمجرد الفهم» «3».
و لذا علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم القراءة في الطريق، بل علمهم التلاوة قائما، أو مضطجعا، أو في فراشه، أو على غير ذلك من الأحوال، و له أجر «4».
فعن عائشة قالت: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يتكئ في حجري و أنا حائض و يقرأ القران»، «و رأسه في حجري»، و عن أبي موسى الأشعري قال: إني أقرأ القران
__________________________________________________
(
1) البخاري (1/ 39)، مسلم (1/ 558)، ابن حبان (1/ 292)، مراجع سابقة.
(2) المسند المستخرج على مسلم (1/ 43)، مرجع سابق.
(3) الفوز الكبير في أصول التفسير ص 97، مرجع سابق.
(4) التبيان في اداب حملة القران ص 41، مرجع سابق.(1/362)
في صلاتي و أقرأ على فراشي، و عن عائشة قالت: إني لأقرأ حزبي و أنا مضطجعة على السرير «1».
و كان النبي صلّى اللّه عليه و سلم يعلمهم ذلك و يشتد فيه حتى قال: «تعلّموا القران و اقرؤه و ارقدوا فإنّ مثل القران و من تعلّمه فقام به كمثل جراب محشوّ مسكا يفوح ريحه كلّ مكان و مثل من تعلّمه فرقد و هو في جوفه كمثل جراب أوكي على مسك» «2».
و قد ضرب لهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم الأمثال التعليمية المحسوسة التي ترغب في الإكثار من تلاوة القران الكريم لكل المؤمنين من حملة القران و غيرهم، فمن ذلك ما روي عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «مثل المؤمن الذي يقرأ القران مثل الأترجة ريحها طيب و طعمها طيب و مثل المؤمن الذي لا يقرأ القران مثل التمرة لا ريح لها و طعمها حلو و مثل المنافق الذي يقرأ القران مثل الريحانة ريحها طيب و طعمها مر و مثل المنافق الذي لا يقرأ القران كمثل الحنظلة ليس لها ريح و طعمها مر» «3»، و قد زاد البخاري في لفظ له «المؤمن الذي يقرأ القران و يعمل به»، «و هي زيادة مفسرة للمراد و أن التمثيل وقع بالذي يقرأ القران و لا يخالف ما اشتمل عليه من أمر و نهي لا مطلق التلاوة» «4».
و قد حذرهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم من ازدياد حفظهم و تكريرهم لأمر اخر فوق حفظ القران الكريم و تكريره، فقال صلّى اللّه عليه و سلم: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا» «5»، و هو ما فقهه البيهقي فبوب: «باب ما يكره أن يكون الغالب
__________________________________________________
(
1) ابن أبي شيبة (2/ 241)، مرجع سابق.
(2) ابن ماجة (1/ 73)، مرجع سابق.
(3) البخاري (5/ 2070)، مسلم (1/ 549)، ابن حبان (3/ 47)، مراجع سابقة.
(4) فتح الباري (9/ 67)، مرجع سابق.
(5) مسلم (4/ 1769)، و البخاري (5/ 2279)، و ابن حبان (13/ 93)، مرجع سابق.(1/363)
على الإنسان الشعر حتى يصده عن ذكر اللّه و العلم و القران» «1»، و وجهه أن يمتلئ قلبه حتى يغلب عليه فيشغله عن القران و عن ذكر اللّه فيكون الغالب عليه من أي الشعر كان «2» فالامتلاء يكون للقران.
المقصود من الديمومة في التلاوة:
المراد بها الحزب اليومي الذي لا ينبغي لحامل القران تركه، و الذي علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم إياه كما في قوله: «إنه طرأ على حزبي من القران فكرهت أن أخرج حتى أتمه» «3»، و لا مانع من الزيادة لا النقصان مع عمل توازن بين هذه الزيادة و المتطلبات الاخرى لحامل القران على ما قرره ابن تيمية في قوله: «و أما الأفضل في حق الشخص فهو بحسب حاجته و منفعته فان كان يحفظ القران و هو محتاج إلى تعلم غيره فتعلمه ما يحتاج إليه أفضل من تكرار التلاوة التي لا يحتاج إلى تكرارها «4»، و كذلك إن كان قد حفظ القران أو بعضه و هو لا يفهم معانيه فتعلمه لما يفهمه من معاني القران أفضل من تلاوة ما لا يفهم معانيه» «5».
و تسلسلت المنهجية حيث كان أئمة الإقراء من الصحابة ي يأمرون بالإكثار من تلاوة القران الكريم: فعن شقيق قال: قال عبد اللّه: إن أحسن ما زين به المصحف لتلاوته في الحق «6».
__________________________________________________
(1) البيهقي في الكبرى (10/ 244)، مرجع سابق.
(2) البيهقي في الكبرى (10/ 244)، مرجع سابق.
(3) ابن ماجة (1/ 427)، مرجع سابق.
(4) مجموع الفتاوى (23/ 55)، مرجع سابق.
(5) مجموع الفتاوى (23/ 56)، مرجع سابق، و انظر فتوى جيدة له- بعد هذا- في المفاضلة بين التلاوة و الذكر المطلق.
(
6) خلق أفعال العباد (1/ 87)، مرجع سابق.(1/364)
سادسا: تحري الصواب مع خفض الجناح في طلبه:
فقد علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم أن مجرد قراءة القران لا تنجي صاحبها و لا ترفع عنه إصره فعن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «يخرج في اخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول الناس يقرؤن القران لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية فمن لقيهم فليقتلهم فإن قتلهم أجر عند اللّه لمن قتلهم» «1»، و عن أم الفضل و عبد اللّه بن عباس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أنه قام ليلة بمكة من الليل فقال:
«اللهم هل بلغت» ثلاث مرات فقام عمر بن الخطاب: و كان أواها فقال: اللهم نعم و حرضت و جهدت و نصحت فقال: «ليظهرن الإيمان حتى يرد الكفر إلى مواطنه و لتخاضن البحار بالإسلام و ليأتين على الناس زمان يتعلمون فيه القران يتعلمونه و يقرؤونه و يقولون قد قرأنا و علمنا فمن ذا الذي هو خير منا فهل في أولئك من خير؟ قالوا: يا رسول اللّه! و من أولئك؟ قال: أولئك منكم و أولئك و قود النار» «2».
و علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم خطورة جدال المنافق بالقران: فقال صلّى اللّه عليه و سلم: «إياكم و ثلاثة: زلة عالم، و جدال منافق بالقران و دنيا تقطع أعناقكم فأما زلة عالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم، و إن يزل فلا تقطعوا عنه امالكم، و أما جدال منافق بالقران فإن للقران منارا كمنار الطريق فما عرفتم فخذوه و ما أنكرتم فردوه إلى عالمه، و أما دنيا تقطع أعناقكم فمن جعل اللّه في قلبه غنى فهو غني» «3».
__________________________________________________
(1) البخاري (3/ 1321)، مسلم (1/ 563)، المنتقى (1/ 272)، ابن ماجة (1/ 59)، مراجع سابقة.
(2) الطبراني في الكبير (12/ 250).
(
3) ابن أبي شيبة (6/ 128)، الطبراني في الأوسط (8/ 307) مرجعان سابقان.(1/365)
سابعا: المحافظة على ما يقرب من اللّه و ينال به حبه من النوافل مع الترفع عن سفاسف الدنيا و إن جازت:
فقال: «إن اللّه وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القران» فقال أعرابي: ما تقول قال ليس لك و لا لأصحابك «1»، و قال صلّى اللّه عليه و سلم: «تعلّموا القران و اقرؤه و ارقدوا فإنّ مثل القران و من تعلّمه فقام به كمثل جراب محشوّ مسكا يفوح ريحه كلّ مكان و مثل من تعلّمه فرقد و هو في جوفه كمثل جراب أو كي على مسك» «2» و عليه يحمل نهي النبي صلّى اللّه عليه و سلم عن بعض المظاهر التي قد يجتنى منها الخير بزيادة التورع، و المحاسبة الدقيقة لقرأة القران كحديث ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: «إن أناسا من أمتي سيتفقهون في الدين و يقرؤون القران و يقولون نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم و نعتزلهم بديننا و لا يكون ذلك كما لا يجتنى من القتاد ألا الشوك كذلك لا يجتنى من قربهم إلا قال محمد بن الصباح كأنه يعني الخطايا» «3»، و قام رجل إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و هو على المنبر فقال: يا رسول اللّه أيّ النّاس خير؟ فقال صلّى اللّه عليه و سلم: «خير النّاس أقرؤهم و أتقاهم و امرهم بالمعروف و أنهاهم عن المنكر و أوصلهم للرّحم» «4».
__________________________________________________
(1) الترمذي (2/ 316).
(2) ابن ماجة (1/ 73)، مرجع سابق.
(3) ابن ماجة (1/ 93).
(4) أحمد (6/ 432).(1/366)
و يمكن تلخيص تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم الدوافع لتعلم القران الكريم:
أولا: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم الدوافع الصحيحة لتعلم القران الكريم و هي:
1- الدافع الإيماني العام: نصرة للعقيدة، و رفعة للشريعة، و حملا للوائها كما قال عبد اللّه بن عمر يقول لقد عشنا برهة من دهرنا و أحدنا يؤتى الإيمان قبل القران... الأثر «1».
2- التشرف بأن يكون الحافظ أحد الأدوات الواقعية لحقيقة الحفظ الإلهي للقران الكريم إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (الحجر: 9)، فيكون من أهل اللّه و خاصته.
3- زرع الرغبة في الأجر العظيم للحافظ كما سبقت الإشارة إليه.
ثانيا: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم الدوافع الخاطئة التي قد تغرس في فؤاد رائم تعلم ألفاظ القران الكريم:
1- التأكل بالقران الكريم: كأن يكون الدافع ابتداء هو المشاركة في مسابقة أو لأجل وظيفة: فمن أهم القواعد التربوية في التعليم لألفاظ القران ما أجمله النبي صلّى اللّه عليه و سلم في قوله: «تعلموا القران فإذا علمتموه فلا تغلوا فيه و لا تجفوا عنه و لا تأكلوا به و لا تستكثروا به...» «2»، و قال صلّى اللّه عليه و سلم: «فيكم كتاب اللّه يتعلّمه الأسود و الأحمر و الأبيض تعلّموه قبل أن يأتي زمان يتعلّمه ناس و لا يجاوز تراقيهم و يقوّمونه كما يقوّم السّهم فيتعجّلون أجره و لا يتأجّلونه» «3».
__________________________________________________
(1) البيهقي في الكبرى (3/ 119)، مرجع سابق.
(2) البيهقي في الكبرى (2/ 17)، مرجع سابق.
(3) أحمد (5/ 338)، مرجع سابق.(1/367)
2- الرئاء و المباهاة، و الرئاسة و نحوها من الأخلاق المرذولة: و تقدم اقتراح تحفيظ متعلم القران حديث أول ثلاثة يقضى بينهم يوم القيامة، و عن عبد اللّه بن مسعود قال: كيف أنتم! إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير، و يهرم الكبير و تتز سنة مبتدعة يجري عليها الناس فإذا غير منها شي ء قيل: قد غيرت السنة قيل:
متى ذلك يا أبا عبد الرحمن قال: إذا كثر قراؤكم، و قل فقهاؤكم، و كثر أمراؤكم، و قل أمناؤكم و التمست الدنيا بعمل الاخرة، و تفقه لغير الدين «1»، و عن ابن عباس أنه قال: لو أن حملة القران أخذوه بحقه و ما ينبغي لأحبهم اللّه ولكن طلبوا به الدنيا فأبغضهم اللّه و هانوا على الناس «2».
__________________________________________________
(1) الحاكم (4/ 560)، الدارمي (1/ 75)، ابن أبي شيبة (7/ 425)، مرجع سابق.
(2) القرطبي (1/ 20)، مرجع سابق.(1/368)
المبحث الثالث: أصحاب (تلاميذ) النبي صلّى اللّه عليه و سلم من أئمة الإقراء «المخرجات التعليمية»:
يروم هذا المبحث أن يبين أن حفظ القران الكريم و جمعه بين الصحابة قد صار من العلم العام الأساسي في حياة الأمة الإسلامية، و أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قد أخرج عددا كبيرا من حفاظ القران ختموه في حياته، و تابعوا جمع آياته النازلة أولا بأول، و ذلك في مطلبين:
المطلب الأول: مؤشرات و قواعد عامة في عدد حفاظ القران الكريم في عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلم.
المطلب الثاني: من أشهر أئمة الإقراء من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلم على سبيل التفصيل.
فإلى الصحب الألى حافظوا القران و رفعوه نتجه... فماذا سنرى؟
حدّث عن القوم فالألفاظ ساجدة خلف المحاريب و الأوزان تبتهل
المطلب الأول: مؤشرات و قواعد عامة في عدد حفاظ القران الكريم في عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلم:
لأن تلاوة القران تعليما و هداية (تزكية) هي وظيفة النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و لأن معجزته الأولى الخالدة، و برهان خاتمته للأنبياء هو القران الكريم، و هو أصل أصول الدين- فقد لزم من ذلك ما يلي:
1- ضرورة اليقين في ثبوت كل لفظ من ألفاظه، و هيئة من هيئات أدائه...
و ذلك لأن العادة تقتضي تواتر تفاصيل ذلك، و ذلك يقتضي بالضرورة القطع(1/369)
بالثبوت، و الجزم بصحة النقل، و اليقين بعدم التغيير، و يتفاوت ذلك بحسب تأثير هيئة الأداء على المعنى. ذلك بأن القران «معجزة للرسول عليه السلام، و أمر الرسول عليه السلام بإظهاره مع قوم تقوم الحجة بقولهم و هم أهل التواتر فلا يظن بهم التطابق على الإخفاء و لا مناجاة الاحاد به حتى لا يتحدث أحد بالإنكار فكانوا يبالغون في حفظ القران حتى كانوا يضايقون في الحروف و يمنعون من كتبة أسامي السور مع القران و من التعاشير و النقط كيلا يختلط بالقران غيره فالعادة تحيل الإخفاء فيجب أن يكون طريق ثبوت القران القطع» «1».
2- انتشار القران في الأمة حتى تصير ألفاظه و هيئات أدائه على سبيل الإجمال من المشاع المعلوم عندهم بالضرورة فلا تستطيع بادرة التغيير أن تتسرب إليه لفظا و أداء (العلم العام بمحتوى القران).
3- أن يشمل تعليمه كل الأمة، مع وجود متخصصين في دقائقه؛ لطبيعة رسالة النبي صلّى اللّه عليه و سلم و هي أنه ما جاء إلا لتبليغهم كلام ربهم الحافظ المهيمن على معاشهم و معادهم، و هذا الكلام هو هذا الكتاب.
4- أن تكون الأمة بمجموعها هي الأداة الواقعية لحقيقة الحفظ الإلهية.
و هذا اليقين القاطع بنقل القران، و الدقة البالغة بتوثيقه هو ما اصطلح عليه العلماء بالتواتر، و مرادهم نتيجة التواتر، أو مقتضاه و هو العلم اليقيني الاضطراري بتوثيق نقل القران.
و لهذه الأمور مجتمعة صح- واقعيا- «بنقل الكافة الذي لا مجال للشك فيه أن هذا القران هو المكتوب في المصاحف المشهورة في الافاق كلها» «2».
__________________________________________________
(1) المستصفى ص 82، مرجع سابق.
(2) الإحكام لابن حزم (1/ 92)، مرجع سابق.(1/370)
و لذا ظهر الفرق بين القران الكريم و بين الحديث بنوعيه القدسي و النبوي لزاما واقعيا و شرعيا؛ إذ إن هذين للخاصة، بخلاف القران المحفوظ كليا في صدور عدد كبير من الأمة، المكتوب في المصاحف المتلو في المحاريب، و في سائر الأمكنة التي تسوغ قراءته فيها اناء الليل و أطراف النهار.
قاعدة في حفظ القران في عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلم:
بالنظر إلى الطبيعة الأصلية لرسالة النبي صلّى اللّه عليه و سلم و هي تبليغ الوحي السماوي المنزل (القران الكريم)، و بالنظر إلى تفصيل وظائف النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و بيانها، و بالتأمل في واقع الصحابة رضي اللّه عنهم، و بعيدا عن اتهام الكاتب بالعاطفية المفرطة، أو بالتأثر العاطفي الديني فإنه يمكن إرساء القاعدة التالية:
الأصل في الصحابي المهاجر (المتمدن)- و هو الملازم المقيم في المدينة الذي حرم عليه التعرب بعد الهجرة- أن يكون حافظا للقران، ولكن قد يتلقنه كله أو بعضه من النبي صلّى اللّه عليه و سلم مباشرة، و قد يتلقن البعض من النبي صلّى اللّه عليه و سلم و بقيته من غيره من الصحابة رضي اللّه عنهم، و قد يتلقنه كله من الصحابة أمثاله، و مما يستدل به في طريق ذلك:
1- كان حفظ القران بديهيا بالنسبة للصحابة الكرام:
أما أولا فللطبيعة العربية في ذلك الوقت فهم أميون:
و من شأن الأمي أن يعول على حافظته فيما يهمه أمره و يعنيه استحضاره و جمعه خصوصا إذا أوتي من قوة الحفظ و الاستظهار ما ييسر له هذا الجمع و الاستحضار، و كذلك كانت الأمة العربية على عهد نزول القران و هي متمتعة بخصائص العروبة الكاملة التي منها سرعة الحفظ و سيلان الأذهان حتى كانت قلوبهم أناجيلهم، و عقولهم سجلات أنسابهم و أيامهم، و حوافظهم دواوين أشعارهم و مفاخرهم، ثم جاء القران فبهرهم بقوة بيانه، و أخذ عليهم مشاعرهم(1/371)
بسطوة سلطانه، و أستأثر بكريم مواهبهم في لفظه و معناه فخلعوا عليه حياتهم حين علموا أنه روح الحياة «1».
و أما ثانيا: فلأنه المادة العلمية الوحيدة المقررة عليهم في رسالة النبي صلّى اللّه عليه و سلم التعليمية كما سبق تفصيله في الفصل الأول.
2- تقدمت في الفصل الأول أحاديث تبين اعتماد النبي صلّى اللّه عليه و سلم على كثير من المسلمين في إقراء المسلمين الجدد، أو النائين عن المدينة، و من ذلك:
ما جاء عن عبادة بن الصّامت رضي اللّه عنه قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يشغل فإذا قدم رجل مهاجر على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم دفعه إلى رجل منّا يعلّمه القران.. «2»..
3- ثبوت حفظ كثير من أئمة الإقراء في عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلم:
و المراد غير الذين حددهم بعض الصحابة أو التابعين، و لذا فالحصر لا مفهوم له في كلام من حصر، و قد وصل عدد الحفظة من الأنصار إلى سبعين شخصا من المتفرغين للقران دون غيره، فقد قال ابن حبان: «ذكر وصف القراء من الأنصار» ثم أسند عن أنس بن مالك قال: كان شباب من الأنصار يسمون القراء يكونون في ناحية من المدينة يحسب أهلوهم أنهم في المسجد و يحسب أهل المسجد أنهم في أهليهم فيصلون من الليل حتى إذا تقارب الصبح احتطبوا الحطب و استعذبوا من الماء فوضعوه على أبواب حجر رسول اللّه فبعثهم جميعا إلى بئر معونة فاستشهدوا فدعا النبي صلّى اللّه عليه و سلم على قتلتهم أياما «3».
4- القران إنما نزل ليقرأ و يحفظ و ينشر، و ينذر به:
__________________________________________________
(1) انظر: مناهل العرفان (1/ 168)، مرجع سابق.
(2) المختارة (8/ 267)، أحمد (5/ 324)، مرجعان سابقان.
(3) ابن حبان (16/ 253)، و هو في البخاري.(1/372)
و لأنها كذلك فقد كانت قراءة القران و حفظه في عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلم لا تحتاج إلى التصريح حديثيا بأنها قد تمت، لضرورة ذلك بما علم من حال المسلمين، و طبيعة الرسالة، و غلبة الحافظة عليهم، و الأهمية التي كانت تلقاها الايات النازلة وحيا من اللّه عزّ و جلّ... و لذا فالتصريح القائم في الأحاديث لزيادة أهمية المصرّح بهم لا لضرورة التصريح، و لذلك كان الصحابة حتى المتأخرون منهم يختلفون في قراءة القران لعدم العلم بتقرير نزوله على الأحرف السبعة... دلالة على إتقانهم لحرف واحد منه على الأقل... و أذعن لهذه الحقيقة بعض الباحثين الأوروبيين فقال:
«فور تنزيل القران، و أولا بأول، كان النبي صلّى اللّه عليه و سلم و المؤمنون من حوله يتلونه عن ظهر قلب و كان الكتبة من صحبه يدوّنونه. إذن فالقران يتمتاع، منذ البداية، بعنصري الصحة هذين اللذين لا تتمتاع بهما الأناجيل، و ظل الأمر هكذا حتى مات النبي صلّى اللّه عليه و سلم و في عصر لا يستطيع فيه الكل أن يكتب، و إن كان يستطيع أن يحفظ عن ظهر قلب، تصبح التلاوة ذات فائدة لا تقدّر، و ذلك لإمكانيات التحقيق العديدة التي تعطيها ساعة التثبيت النهائي للنص» «1».
5- تنافس الصحابة رضي اللّه عنهم في حفظ القران الكريم:
و قد كان كتاب اللّه جل جلاله بالنسبة للصحابة رضي اللّه عنهم «في المحل الأول من عنايتهم يتنافسون في استظهاره، و حفظه، و يتسابقون إلى مدارسته، و تفهمه، و يتفاضلون فيما بينهم على مقدار ما يحفظون منه و ربما كانت قرة عين السيدة منهم أن يكون مهرها في زواجها سورة من القران يعلمها إياها زوجها، و كانوا يهجرون لذة النوم و راحة الهجود إيثارا للذة القيام به في الليل و التلاوة له في الأسحار و الصلاة به
__________________________________________________
(
1) الإسلام و الوجه الاخر للفكر الغربي (قراات) ص 96 نقلا عن موريس بوكاي في كتابه (القران الكريم و التوراة و الإنجيل و العلم).(1/373)
و الناس نيام حتى لقد كان الذي يمر ببيوت الصحابة في غسق الدجى يسمع فيها دويا كدوي النحل بالقران «1»، و كانوا يتبارون في المحفوظ في الصلاة- و هي المحل النموذجي للمراجعة- فقد اعتكف النبي صلّى اللّه عليه و سلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة و هو في قبة له فكشف المستورة و قال ألا أن كلكم يناجي ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا، و لا يرفعن بعضكم على بعض في القراءة في الصلاة «2».
6- و قد كان الاعتماد على الحفظ مقدما على أي شي ء اخر للأحاديث فضلا عن القران كما هو معلوم.
7- نزّل القران منجما:
و كان من حكم نزول القران منجما استظهار القران، و حفظه عن ظهر قلب، و زيادة على بلاغ النبي صلّى اللّه عليه و سلم للنازل من الوحي القراني أولا بأول كان كتبة الوحي يقومون بذلك: فعن زيد ابن ثابت قال كنت أكتب الوحي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و كان إذا نزل عليه الوحي أخذته برحاء شديدة و عرق عرقا شديدا مثل الجمان ثم سرى عنه فكنت أدخل عليه بقطعة الكتف أو كسرة فأكتب و هو يملي علي فما أفرغ حتى تكاد رجلي تنكسر من ثقل القران حتى أقول لا أمشي على رجلي أبدا فإذا فرغت قال اقرأ فأقرأه فإن كان فيه سقط أقامه ثم أخرج به إلى الناس «3».
و قد كان القاص يوم اليرموك و هو يوم قريب من وفاة النبي صلّى اللّه عليه و سلم أبو سفيان بن حرب مع قرب إسلامه، و هم لا يجعلون شخصا غير متأهل بالقران.
__________________________________________________
(1) مناهل العرفان (1/ 168)، مرجع سابق.
(2) ابن خزيمة (1/ 190)، الحاكم (1/ 594)، النسائي في الكبرى (5/ 32)، البيهقي في السنن الكبرى (3/ 11)، مرجع سابق.
(3) الطبراني في الأوسط (2/ 257)، و الكبير (5/ 142).(1/374)
8- و من أقوى أدلة هذه القاعدة:
و أقوى أدلة هذه القاعدة أن القراء قد كثروا كثرة عظيمة مذ استقرت قواعد دولة الإسلام في المدينة، فكان منهم السبعون من أصحاب بئر معونة، و أشخاصهم بدقة لم تعرف كلها حتى الان، و كان منهم سبعون على الأقل ممن قتل من قراء المسلمين يوم اليمامة، و لا شك أن القتلى قد جمعوا القران في حياة النبي صلّى اللّه عليه و سلم إذ تسارعت أحداث الردة و لم تكن لتجعلهم يفرغون لذلك بعد وفاته.
و لهذه القاعدة فقد كان الصحابة يبحثون عن الاية مكتوبة في جمع القران الكريم في عهد أبي بكر للاستيثاق مع أنها كانت محفوظة في صدورهم، و هذا معنى قول زيد بن ثابت: «ففقدت اية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقرأ بها فلم أجدها إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم شهادته شهادة رجلين» «1»، فالمراد أنه فقد الاية مكتوبة؛ لأن وجود الاية مكتوبة أمر حتمي فهمه الصحابة من تسمية القران كتابا، و من اجتهاد النبي صلّى اللّه عليه و سلم في كتابة المصحف و كانوا يطلبون على كتابتها بين يدي النبي صلّى اللّه عليه و سلم شاهدين إضافة إلى كونها محفوظة في صدروهم و هذا يبين أن حفظ القران صار بينهم شيئا عاما شائعا.
و كان الصحابة لا يظهرون أحسن ما عندهم شأنهم في شأن شأن الصالحين الذين اقتفوا اثارهم فعن الحسن قال: «إن كان الرجل لقد جمع القران و ما يشعر به جاره و إن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير و ما يشعر به الناس و إن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته و عنده وردت الزور- الضيوف- و ما يشعرون به
__________________________________________________
(1) البخاري (3/ 1033)، مرجع سابق.(1/375)
و لقد أدركنا أقواما ما كان على ظهر الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في سر فيكون علانية أبدا، و لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء و ما يسمع إن كان إلا همسا بينهم و بين ربهم عز و جل» «1».
و على هذه القاعدة فإن هشام بن حكيم بن حزام يعد ممن كان يحفظ في عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و قد أم قوما فيهم عمر بن الخطاب كما في صحيح البخاري «2».
و قد يعترض على هذه القاعدة بما يلي:
1- بحديث جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال: كان النبي صلّى اللّه عليه و سلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: أيهم أكثر أخذا للقران؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد و قال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة و أمر بدفنهم في دمائهم و لم يغسلوا و لم يصل عليهم «3».
و الجواب: أن الحديث يؤيد ما ذكر من القاعدة؛ إذ لم تفترض القاعدة أن الجميع يحفظ القران الكريم كله، بل التنافس بينهم جار على قراءته، فالأصل فيهم حفظه، و لذا ترى النص هنا يدل على أن صيغة التفضيل (أيهم أكثر أخذا للقران)، كما يدل هذا النص الذهبي على أن أخذ القران مسألة عامة فاشية أكثر من كتابته، و بدهيته و هو الموافق للطبيعة العربية.
2- و قد يعترض بتسمية السبعين من أصحاب بئر معونة ب (القراء) دلالة على حصر ذلك فيهم و نفيها عن غيرهم...
__________________________________________________
(1) الزهد لابن المبارك (1/ 45)، مرجع سابق.
(2) البخاري (4/ 1909)، مسلم (1/ 561)، المسند المستخرج على صحيح مسلم (2/ 413)، الترمذي (5/ 193).
(3) البخاري (1/ 450)، مرجع سابق.(1/376)
و الجواب: أين الحصر؟ و قد اشتهر بجمع القران من ليس فيهم كالأنصار الذين سماهم أنس رضي اللّه عنه، و يرد تفصيل ذلك في المطلب الثاني- إن شاء اللّه جل جلاله- فامتنع الحصر، إنما سموا بذلك دلالة على تفرغهم لها، و عدم امتهانهم شيئا اخر و لزومهم المسجد غالبا.
3- كما قد يعترض بما روي أن ابن عمر البقرة في ثمان سنين فعن مالك أنه بلغه أن عبد اللّه بن عمر مكث على سورة البقرة ثمان سنين يتعلمها و عنه عن نافع عن ابن عمر قال تعلم عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه البقرة في إثني عشرة سنة فلما أتمها نحر جزورا «1».
و الجواب: أما الأول فبلاغ عن مالك، و هو مع الثاني يحتاجان زيادة نظر في الإسناد، و على كل فالتعلم هنا هل المراد به الحفظ أم قراءته بتدبر و تفهم؟ الأمر محتمل على أنه سيأتي في المطلب الثالث أن عمر بن الخطاب كان من حفظة كتاب اللّه سبحانه و تعالى.
4- و قد يعترض أيضا: بما روي عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال: «كان الفاضل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القران إلا السورة أو نحوها و رزقوا العمل بالقران و إن اخر هذه الأمة يقرؤن القران منهم الصبي و الأعمى و لا يرزقون العمل به» «2»...
و الجواب: واضح أن ابن عمر- إن صح هذا عنه- يريد أن الفاضل لا يحفظ السورة حتى يعمل لا أنه لا يحفظ غيرها، و أما غيره فيحفظ القران كله و على الرغم م ذلك تجد أنه لما يعمل به بعد.
__________________________________________________
(1) شعب الإيمان (2/ 331)، مرجع سابق.
(2) بحثت عنه و لم أجده.(1/377)
قاعدة في التنصيص على بعض الأشخاص في أمر معين:
الثناء على صحابي في ميدان علمي لا يعني عدم إمامة غيره لذاك الميدان، و مما يوضح ذلك ما جاء عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم:
«
أرحم أمتي أبو بكر و اشدهم في دين اللّه عمر و اصدقهم حياء عثمان و افرضهم زيد و اقرؤوا أبي و اعلمهم بالحلال و الحرام معاذ و ان لكل أمة أمينا و أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» «1».
فذكر أبي في الإقراء لا يعني أن غيره من المذكورين ليست لهم الإمامة و الريادة في القراءة بل هي لهمن و لذا ذكر النبي صلّى اللّه عليه و سلم معاذا و أبا عبيدة بالقراءة و تعليم الناس القران في مواضع أخرى.
و بمثل ذلك تفهم كثير من الأحاديث التي فيها تنصيص فلا تقتضي تخصيصا بل بيان لمزية ظاهرة قد توجد في الغير و إنما قيلت في البعض للتأكيد أو نحوه من الأغراض.
و على هذه القاعدة العظيمة تنزل رواية أنس رضي اللّه عنه قال: «جمع القران على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أربعة كلهم من الأنصار معاذ بن جبل و أبي بن كعب و زيد بن ثابت و أبو زيد» «2» فإن هذا الحديث لا يدل على الحصر، و مثل حديث أنس أو أبعد منه في الحصر- ما أخرج البيهقي في المدخل عن ابن سيرين قال: جمع القران على عهد رسول اللّه أربعة لا يختلف فيهم... و مثله ما أخرجه هو و أبو داود عن عامر الشعبي قال: جمع القران في عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلم ستة.. «3».، فكله تنصيص
__________________________________________________
(1) الضياء في المختارة (6/ 226)، الترمذي (5/ 664)، ابن ماجة (1/ 55)، مراجع سابقة.
(2) البخاري (3/ 1386)، و مسلم (4/ 1914).
(3) رواه الطبراني في المعجم الكبير (2/ 261) مرسلا، و انظر: الإتقان (1/ 195)، مرجع سابق.(1/378)
فلا يدل على التخصيص خاصة و أن أنس هو ذاته راوي حديث السبعين قارئا...،
و هذا إن صحت هذه الاثار و تفصيل ذلك في الأصل.
واقعية الإحاطة بحفظ ألفاظ القران:
و لذا فقد كانت الأمة كلها تسمع القران الكريم إجمالا منه صلّى اللّه عليه و سلم أو ممن سمع منه، أما حفاظه المحيطون بألفاظه، و دقائقها، و تفاصيل هيئات أدائه فقد كثروا كثرة غامرة، و يظهر أول فرق بين حفاظ القران و حفاظ الحديث في أن حفاظ القران لا بد أن يحيطوا به حفظا بخلاف حفاظ الحديث؛ إذ لا يوجد واحد يدعي أنه قد أحاط بالحديث حفظا...
تفرغ الأصحاب رضي اللّه عنهم لحفظ القران:
و قد كان تلاميذ النبي صلّى اللّه عليه و سلم الذين تعلموا على يديه القران يفرغون أنفسهم من كل شاغل في الغالب حتى الضرب في الأرض لأجل الرزق، و فيهم نزل قول اللّه عزّ و جلّ: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ (البقرة: 273)؛ إذ المراد أنهم على قول بعض المفسرين: «أهل الصفة منعهم تعلم القران، أو شدة الحاجة و الجهد عن الضرب في الأرض للتكسب» «1».
و مما يتنبه له في هذا الموضوع، و هو مثير للانتباه في منهجية النبي صلّى اللّه عليه و سلم التعليمية أنه كان يوجه من توسم فيه الأهلية للتصدر في علم معين إليه:
و خاصة في علم القران فإنه كان يشجع أصحاب الأصوات الحسنة و يثني على قراءتهم كما ورد ذلك في ثنائه على سالم مولى أبي حذيفة، و أبي موسى الأشعري، و ابن مسعود، و أسيد بن حضير، و من ذلك توجيهه صلّى اللّه عليه و سلم لأبي محذورة
__________________________________________________
(1) حاشية على كتاب الهداية (3/ 125).(1/379)
ليكون مؤذنا بعد أن رأى حسن صوته، فعن أبي محذورة قال لما رجع النبي صلّى اللّه عليه و سلم من حنين خرجت عاشر عشرة من مكة نطلبهم فسمعتهم يؤذنون بالصلاة فقمنا نؤذن نستهزئ بهم فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلم: «لقد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت»، فأرسل إلينا فأذنا رجل رجل فكنت اخرهم فقال حين أذنت: «تعال» فأجلسني بين يديه فمسح على ناصيتي و بارك علي ثلاث مرات ثم قال اذهب فأذن عند البيت الحرام قلت كيف يا رسول اللّه فعلمني الأذان... الحديث «1».
تتبع الأصحاب للنازل أولا بأول:
فعن أبيّ بن كعب رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قرأ يوم الجمعة تبارك و هو قائم فذكرنا أيام اللّه، و أبو الدرداء أو أبو ذر يغمزني فقال متى أنزلت هذه السورة إني لم أسمعها إلا الان فأشار إليه أن اسكت فلما انصرفوا قال سألتك متى أنزلت هذه السورة فلم تخبرني فقال أبي ليس لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوت فذهب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فذكر له و أخبره بالذي قال أبي فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: صدق أبي «2»، و كلام أبي ذر دال على أنهم كانوا يتتبعون القران النازل، و أبو ذر لم يذكر في عداد الحفاظ.
و مثل ذلك قول عمار رضي اللّه عنه فقال: «إنا كنا ضلالا فهدانا اللّه، و كنا أعرابا فهاجرنا يقيم مقيم يتعلم القران، و يغزو الغازي فإذا قدم الغازي أقام يتعلم القران و غزا المقيم» «3».
__________________________________________________
(1) ابن خزيمة (1/ 201)، مرجع سابق.
(2) ابن ماجه (1/ 352)، مرجع سابق، و في مصباح الزجاجة (1/ 134)، مرجع سابق: «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات».
(3) طبقات ابن سعد (3/ 83)، مرجع سابق.(1/380)
كثرة القراء:
و من المؤشرات التي تدل على كثرة هؤلاء القراء كثرة ظاهرة: قصة بئر معونة فعن أنس قال: ما رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم وجد على سرية ما وجد على السبعين الذين أصيبوا يوم بئر معونة كانوا يدعون القراء.. «1».، و القراء هنا هم «الذين كانوا يحفظون القران» «2».
و مما يدل على هذه الكثرة أيضًا كثرة من قتل من القراء في وقعة اليمامة كما قال الشاطبي:
إن اليمامة أهواها مسيلمة ال كذاب في زمن الصديق إذ خسرا
و بعد بأس شديد حان مصرعه و كان بأسا على القراء مستعرا
«3» و في حديث زيد بن ثابت رضي اللّه عنه قال: قال أبو بكر رضي اللّه عنه إن عمر أتاني فقال إن القتل قد أستحر يوم اليمامة بقراء القران، و إني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القران... الحديث «4» يدل على انتشار القراء في المواطن و الثغور، و أقل ما قيل في عدد من قتل من القراء أنهم سبعون قارئا و لم نعرف أكثرهم باسمه على ما هو معلوم.
و قد بلغت القراء في عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلم كثرة غامرة، و تخصصوا في دقائقه النطقية حتى تنازعوا في بعض الأمور التي اختلفوا فيها، و كان منهم الأعرابي و الأعجمي فقد خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم على أصحابه و هم يقرؤون القران- قال جابر بن عبد
__________________________________________________
(1) مسلم (1/ 467)، مرجع سابق.
(2) حاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب (1/ 208)، مرجع سابق.
(3) شرح تلخيص الفوائد و تقريب المتباعد على عقيلة أتراب القصائد ص 10.
(4) البخاري (4/ 1720)، ابن حبان (10/ 364)، مرجعان سابقان.(1/381)
اللّه: و فينا الأعرابي و الأعجمي- فقال: «اقرؤوا فكل كتاب اللّه من قبل أن يأتي قوم يقومونه كما يقام القدح يتعجلونه و لا يتأجلونه» «1».
و قد أخذ هؤلاء دورهم في قراءة القران على المسلمين و الكفار كما اتضح من واقعة بئر معونة؛ إذ أرسل النبي صلّى اللّه عليه و سلم القراء إلى القبائل لنشر القران الكريم، و قد كثرت قراءة الأصحاب القران الكريم على المسلمين و الكفار حتى أنزل اللّه في سماع الكفار ايات تدل على ردود الفعل الهائجة أمام تأثير القران الكريم كقول اللّه عزّ و جلّ: وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا (الحج: 72) «أي أن أثر الإنكار من الكراهة و تعبيس الوجوه معروف عندهم (يكادون يسطون) أي يبطشون و يوقعون بمن يتلو عليهم القران من شدة الغيظ» «2».
كما كثر حفظة القران كثرة عظيمة بعد عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و يكفي مؤشرا على ذلك أن يعلم أن عدد التلاميذ من حفاظ القران الذين كانوا في البصرة واحدها من تلاميذ أبي موسى الأشعري كانوا قد بلغوا قريبا من ثلاثمائة؛ فعن معاوية بن قرة رضي اللّه عنه أن أبا موسى الأشعري رضي اللّه عنه جمع الذين قرؤوا القران فإذا هم قريب من ثلاثمائة فعظم القران و قال: «إن هذا القران كائن لكم أجرا، و كائن عليكم وزرا، فاتبعوا القران و لا يتبعنكم القران، فانه من اتبع القران هبط به على رياض الجنة، و من تبعه القران زخ في قفاه فقذفه في النار» «3».
__________________________________________________
(1) سعيد بن منصور في سننه (1/ 150)، أبو داود (1/ 220).
(2) زاد المسير (4/ 451)، مرجع سابق.
(3) المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم (3/ 115)، ابن أبي شيبة (7/ 142)، حلية الأولياء (1/ 257)، مراجع سابقة.(1/382)
و أما تلاميذ أبي الدرداء فبلغوا ألفا و ستمائة و نيفا يقرئهم جميعا في يوم واحد بطريقة فذة، كأنه أسس بها جامعة قرانية «1».
و يدل على كثرتهم ما جاء عن ابن عباس رضي اللّه عنه قال: قدم على عمر رجل فجعل عمر يسأله عن الناس فقال: يا أمير المؤمنين قد قرأ منهم القران كذا و كذا فقال ابن عباس رضي اللّه عنه فقلت: و اللّه ما أحب أن يتسارعوا يومهم هذا في القران هذه المسارعة قال: فزبرني عمر ثم قال: مه قال: فانطلقت إلى أهلي مكتئبا حزينا فقلت: قد كنت نزلت من هذا الرجل منزلة فلا أراني إلا قد سقطت من نفسه قال: فرجعت إلى منزلي فاضطجعت على فراشي حتى عادني نسوة أهلي و ما بي وجع، و ما هو إلا الذي تقبلني به عمر قال: فبينا أنا على ذلك أتاني رجل:
فقال: أجب أمير المؤمنين قال: خرجت فإذا هو قائم ينتظرني، قال: فأخذ بيدي ثم خلا بي فقال: ما الذي كرهت مما قال الرجل انفا؟ قال: فقلت: يا أمير المؤمنين! إن كنت أسأت فإني استغفر اللّه و أتوب إليه و أنزل حيث أحببت قال:
لتحدثني بالذي كرهت مما قال الرجل فقلت: يا أمير المؤمنين! متى ما تسارعوا هذه المسارعة، يحيفوا و متى ما يحيفوا يختصموا، و متى ما يختصموا يختلفوا و متى ما يختلفوا يقتتلوا فقال عمر: للّه أبوك لقد كنت أكاتمها الناس حتى جئت بها «2».
و قد خرج على علي رضي اللّه عنه ثمانية الاف من قراء الناس... و لما طلبهم قيل لا يدخل إلا رجل قد حمل القران فلما أن امتلأ الدار من القراء.... الحديث «3»...
__________________________________________________
(1) جمال القراء و كمال الإقراء (2/ 454)، مرجع سابق، و انظر: سير أعلام النبلاء (2/ 353)، مرجع سابق.
(2) الجامع لمعمر بن راشد (1/ 217)، مرجع سابق.
(3) الحاكم (2/ 165)، المختارة (2/ 223)، أحمد (1/ 86)، أبو يعلى (1/ 368)، مجمع الزوائد (6/ 223)، مراجع سابقة، و قال: «و رجاله ثقات».(1/383)
و هؤلاء القراء من الخوارج جزء من قراء الأمة ضرورة، فإذا كانوا هنا ثمانية الاف في مكان واحد، و من فرقة خارجة على جمهور الأمة، فكم يكونون في الأمة؟.
و ظهرت حافظات القران حتى كن يناقشن المقرئين فيه كما في مناقشة أم يعقوب القارئة لابن مسعود بشأن حديث النامصات.
هيئة الإقراء في عهده صلّى اللّه عليه و سلم:
و على الرغم من هذه الكثرة إلا أن المقرئين المتخصصين في إقراء الناس في عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلم أناس معروفون قد حددهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم بنفسه، فشكلوا مثل هيئة إقراء، و يدل على هذا حديث بئر معونة، كما يدل عليه قصة إسلام عدد من الصحابة الذين ورد فيهم التصريح بتعليمهم القران دلالة على أن ذلك دأب و عادة كما في قص إسلام عمير بن وهب: فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «اجلس نواسك» و قال: «علموا أخاكم القران» و أطلق له أسيره «1».
و بذا يكون النبي صلّى اللّه عليه و سلم قد اصطفى من أصحابه رضي اللّه عنهم نخبة أقرأهم القران، كله أو بعضه، حتى أتقنوا صفة أدائه و هيئة قراءته، و أقبلت الأمة على هؤلاء فتلقت القران عنهم مشافهة، و نوه بهم في مثل قوله: «خذوا القران عن أربعة...»، أو «من أحب أن يقرا القران غضا...»، أو في بعثه مصعب بن عمير و ابن أم مكتوم إلى المدينة، أو في بعثه أبا عبيدة إلى نجران أو في بعثه عليا و معاذا إلى اليمن.. «2»..
و قد ابتغى الباحث من إبراز كثرة عدد القراء في الأمة تثبيت حقيقة أن علم القراءة بذلك صار علما عاما شائعا.
__________________________________________________
(1) المعجم الكبير (17/ 57)، مرجع سابق.
(2) و انظر: سنن القراء ص 15، مرجع سابق.(1/384)
المطلب الثاني: من أشهر أئمة الإقراء من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلم على سبيل التفصيل:
أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه:
فقد كان من حفظة كتاب اللّه عزّ و جلّ و ممن جمع القران عن ظهر قلب، و من أكثر القوم قراءة، و ذلك لا مراء فيه لمن يعرف حال أبي بكر رضي اللّه عنه مع شدة حرصه على تلقي القران من النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و فراغ باله له و هما بمكة، و كثرة ملازمة كل منهما للاخر حتى بينت عائشة أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم كان يأتيهم بكرة و عشية «1» فماذا ترى النبي صلّى اللّه عليه و سلم كان يفعل إلا بيان اخر ما نزل من الوحي عليه، مع ظهور اهتمام أبي بكر و حفظه و تلاوته، حتى اتخذ له مسجدا في بيته يقرأ فيه مستعلنا، و هذا الحديث يدل دلالة واضحة على عدة أمور أساسية:
أ- أن أبا بكر كان يحفظ القران أولا بأول، كيف و النبي صلّى اللّه عليه و سلم يغدو إليه و يروح، و هل يكون حديث بينهما أهم من الوحي المنزل؟.
ب- أن أبا بكر كان يقرأ القران بالترتيل (التجويد) الذي أمر اللّه به في السورة الثالثة في ترتيب النزول «2»... و ذلك هو الذي أعجب النساء و الأطفال و جذبهم نحوه.
فهذا حاله رضي اللّه عنه في مكة من ملازمة النبي صلّى اللّه عليه و سلم حتى كان صاحبه الوحيد الذي انفرد بمنقبة مصاحبته له في هجرته صلّى اللّه عليه و سلم بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم له، و أما حاله في المدينة من الملازمة فقد وصفها عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه بقوله: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لا يزال يسمر عند أبي بكر الليلة في الأمر من أمور المسلمين، و إنه سمر عنده ذات ليلة و أنا
__________________________________________________
(1) البخاري (1/ 181)، ابن خزيمة (1/ 133)، مرجعان سابقان.
(2) انظر: الإتقان (169)، مرجع سابق.(1/385)
معه «1»، و قول عمر (لا يزال) يدل على الاستمرار و الديمومة، و أبو بكر في المدينة هو الذي نعته رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بصاحبه مطلقا (مفردا معينا) دون غيره في قوله لعمر بن الخطاب: «فهل أنتم تاركو لي صاحبي» مرتين «2» حتى كاد أن يتخذه خليلا لو لا أن اللّه عزّ و جلّ اتخذ رسوله صلّى اللّه عليه و سلم خليلا...
و بعد هذا البيان لمدى ملازمة أبي بكر و صحبته رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم تكون هذه هي المقدمة الصغرى في قضيتنا المنطقية، و المقدمة الكبرى هي قول النبي صلّى اللّه عليه و سلم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب اللّه» «3»، و رواية الحاكم: «يؤم القوم أكثرهم قرانا»، و قد أمر النبي صلّى اللّه عليه و سلم أبا بكر أن يؤم في مكانه لما مرض فدل ذلك على أنه كان أقرأهم رضي اللّه عنه، و نص على حفظه للقران أجلة المحققين منهم: أبو الحسن الأشعري، و مكي بن أبي طالب، والداني، و يستأنس ها هنا بموقفين في تلاوة القران لأبي بكر غير ما تقدم تظهر فيهما تلاوة أبي بكر للقران الكريم:
الأول: ما أورده البخاري في قصة وفاة النبي صلّى اللّه عليه و سلم حيث قال أبو بكر لعمر:
«أيها الحالف على رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر فحمد اللّه أبو بكر و أثنى عليه و قال: ألا من كان يعبد محمدا صلّى اللّه عليه و سلم فإن محمدا قد مات، و من كان يعبد اللّه فإن اللّه حي لا يموت و قال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) (الزمر: 30) و قال:
وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
__________________________________________________
(1) ابن حبان 5/ 379، موارد الظمان 1/ 91، مرجع سابق.
(
2) البخاري 3/ 1339، أبو عوانة في مسنده 4/ 240، مرجعان سابقان.
(3) مسلم (1/ 465)، المنتقى (1/ 85)، ابن خزيمة (3/ 4)، ابن حبان (5/ 501)، الترمذي (1/ 459).(1/386)
(ال عمران: 144) فنشج الناس يبكون» «1»... فانظر لشدة الاستحضار عند أبي بكر رضي اللّه عنه، و هذا استئناس لما نحن بصدده و ليس استدلالا.
الثاني: ما جاء من وصف لتلاوة أبي بكر القران في صلاته فعن أنس قال:
صلّى بنا أبو بكر صلاة الصبح، فقرأ ال عمران فقالوا: كادت الشمس تطلع قال: لو طلعت لم تجدنا غافلين «2»، و عن عبد اللّه بن الحارث بن جزء الزبيدي قال: صلّى بنا أبو بكر رضي اللّه عنه صلاة الصبح، فقرأ بسورة البقرة في الركعتين جميعا.. «3». فأين يكون هذا إلا من محفوظه رضي اللّه عنه، و قد أخذ عمر ذلك منه فعن أبي عثمان النهدي قال: صليت خلف عمر رضي اللّه عنه الفجر فما سلم حتى ظن الرجال ذوو العقول أن الشمس قد طلعت فلما سلم قالوا: يا أمير المؤمنين كادت الشمس تطلع قال: لو طلعت الشمس لم تجدنا غافلين «4».
و قد ذكر البعض أن تقديم أبي بكر كان لأجل الفضل و العلم لا القراءة، و للإشارة للخلافة «5»، فأما الإشارة للخلافة فصحيح ظاهر، و أما نفي أن يكون أبو بكر أقرأهم فغريب مستبعد؛ فإن قراءة أبي بكر للقران كانت مشهورة، و في حديث تأمين ابن الدغنة لأبي بكر: قالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل و ليقرأ ما شاء و لا يؤذينا بذلك و لا يستعلن به فإنا قد خشينا أن يفتن
__________________________________________________
(1) البخاري (3/ 1341)، ابن حبان (14/ 589)، المختارة (2/ 233)، الحاكم (3/ 136)، النسائي في الكبرى (5/ 125)، مراجع سابقة.
(2) عبد الرزاق (2/ 113)، شرح معاني الاثار (1/ 181)، البيهقي في سننه الكبرى (1/ 379)، مراجع سابقة.
(
3) ابن أبي شيبة (1/ 310)، البيهقي في سننه الكبرى (1/ 389)، شرح معاني الاثار (1/ 182)، مراجع سابقة.
(4) عبد الرزاق (2/ 115)، البيهقي في سننه الكبرى (1/ 379).
(5) انظر: السنة للخلال (2/ 303).(1/387)
أبناءنا و نساءنا. فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره، و لا يستعلن بالصلاة و لا القراءة في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، و برز فكان يصلي فيه،و يقرأ القران فيتقصف عليه نساء المشركين و أبناؤهم يعجبون و ينظرون إليه و كان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القران فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين.. «1». على أن في قبول ذلك القول إبعاد لمعالم تطبيق المنهج الشرعي، و هو ادعاء بأن النبي صلّى اللّه عليه و سلم يقول قولا و يعمل بغيره دون صارف، أو بصارف غير ظاهر.
و إنما أطال الباحث النفس في تقرير حفظ أبي بكر للأهمية الشديدة و اكتفاء به عن بقية الخلفاء الراشدين الذين قيل بأنهم لم يحافظوا القران أ و لم يجمعوه، و إنما كان هذا القول واردا عن بعض التابعين مع الانقطاع و عدم التأكد من صحة سند الرواية.
2- و منهم عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه:
و جعله أبو بكر مساعدا لزيد في جمع القران في عهده حيث قال لهما- كما عند ابن أبي داود من طريق هشام بن عروة عن أبيه-: اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شي ء من كتاب اللّه فاكتباه «2»، و قد بلغ ذلك من عمر حدا جعل جابر بن عبد اللّه يقول: «ما رأيت أحدا كان اقرأ لكتاب اللّه و لا أفقه في دين اللّه و لا أعلم باللّه من عمر» «3».
و يؤيد هذا أيضًا حديث ابن عمر قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج في أظفاري ثم أعطيت
__________________________________________________
(1) البخاري (2/ 804)، مرجع سابق.
(
2) رواه ابن أبي داود في المصاحف (1/ 168)، مرجع سابق، و في تحفة الأحوذي (8/ 408)، مرجع سابق: «و رجاله ثقات مع انقطاعه».
(3) ابن أبي شيبة (6/ 139)، مرجع سابق.(1/388)
فضلي عمر بن الخطاب قالوا فما أولته يا رسول اللّه قال العلم «1»، و هل يكون علم أو عالم بدون حفظ القران، و قد قال ابن مسعود: من أراد العلم فليثور القران فإن فيه علم الأولين و الاخرين «2»، و في حديث أبي بكر: استخلفت عليهم خير أهلك مع قول النبي صلّى اللّه عليه و سلم: «أهل القران هم أهل اللّه و خاصته» و قد ثبت أن عمر رضي اللّه عنه كان يصلي الصبح فيقرأ فيها سورة يوسف و سورة الحج قراءة بطيئة «3» و عن الأحنف قال: صليت خلف عمر الغداة فقرأ بيونس و هود و نحوهما و عن زيد بن وهب أن عمر قرأ في الفجر بالكهف «4».
و انتشر تلاميذ عمر الذين قرأوا عليه فعن زيد بن وهب قال: أتينا ابن مسعود فوجدناه يصلي فانتظرناه حتى فرغ من صلاته فجاءه رجلان قد اختلفا في اية فقرأه أحدهما فقال عبد اللّه: أحسنت من أقرأك؟ قال: أقرأني أبو حكيم المزني، و استقرأ الاخر فقال: من أقرأك فقال أقرأني عمر ابن الخطاب فبكي عبد اللّه حتى خضبت دموعه الحصا ثم قال: اقرأ كما أقرأك عمر ثم دور دارة بيده ثم قال: إن عمر كان حصنا حصينا للإسلام يدخل الناس منه، و لا يخرجون منه فلما مات عمر انثلم الحصن فالناس يخرجون منه و لا يدخلون «5».
و قد ثرّب الإمام أبو القاسم الهذلي على ابن قتيبة في كونه لم يذكر أبا بكر و عمر في جملة الحفظة فقال: «و قد تجاوز ابن قتيبة حين قال توفى أبو بكر و عمر و لم يكملا القران» «6».
__________________________________________________
(1) البخاري (1/ 43)، مرجع سابق.
(2) الطبراني في الكبير (9/ 135)، الزهد لابن أبي عاصم (1/ 157).
(3) خرج هذه الاثار البيهقي في الكبرى (2/ 389)، مرجع سابق.
(
4) خرج هذه الاثار ابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 310)، مرجع سابق.
(5) الطبراني في الكبير (9/ 162)، مرجع سابق.
(6) الكامل ص 38 وجه ب، مرجع سابق.(1/389)
3- و أما عثمان بن عفان رضي اللّه عنه:
فأمره أشهر من أن يذكر، و هو مجمع على حفظه القران الكريم، و قد ذكره الذهبي في طبقاته في القراء كأول صحابي «1».
4- علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه:
و قد ذكره الذهبي- رحمه اللّه تعالى- في جملة من حفظ القران من الصحابة في أول كتابه (طبقات القراء)، و قد ذكر عن علي رضي اللّه عنه جمعه للقران فور وفاة النبي صلّى اللّه عليه و سلم كما ذكر ذلك ابن أبي داود عن محمد بن سيرين قال: لما توفي النبي صلّى اللّه عليه و سلم أقسم علي ألا يرتدي برداء إلا لجمعة حتى يجمع القران في مصحف ففعل، فأرسل إليه أبو بكر بعد أيام: أكرهت إمارتي يا أبا الحسن؟ قال: لا! و اللّه إلا إني أقسمت ألاأرتدي برداء إلا لجمعة فبايعه ثم رجع «2»...
و لكن ابن أبي داود ضعّف هذه الرواية، و قالك «لم يذكر المصاحف أحد إلا الأشعث، و هو لين الحديث، و إنما رووا حتى أجمع القران، يعني أتم حفظه، فإنه يقال للذي يحفظ القران قد جمع القران»، و قال ابن حجر: «و بتقدير صحته فمراده بجمعه حفظه في صدره» «3».
و بمثل هذه الرواية اعتمد من زعم أن عليا لم يجمع القران، و لكن الذي لا مراء فيه أن لزوم ابن عم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عليا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم مسألة لا تستحق النقاش، و وافر ذاكرته حيث أسلم و هو صغير دال على صفاء نفسه و قريحته، و قد كان هو المبلغ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في حجة العام التاسع بسورة براءة، و هي من
__________________________________________________
(1) معرفة القراء الكبار (1/ 24)، مرجع سابق.
(2) ابن أبي داود في المصاحف (1/ 180).
(3) فتح الباري (9/ 12)، مرجع سابق.(1/390)
اخر ما نزل «1»، و هو من كتاب الوحي المعدودين... كل هذا يرجح لنا حفظه للقران قبل، و إنما تحمل الرواية المقبولة منها على محمل اخر عند المؤلف هو أن يراجع علي القران بعد أن وثق أنه قد كمل، و أن الوحي قد انقطع، و هذا اللائق به، و ببيئته المحيطة.
5- عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه:
و تقدم تقرير حفظه في الكلام على العرضة الأخيرة من الفصل الثاني، و قد اشتهر بذلك بين الصحابة فعن قيس بن أبي حازم قال سئل علي عن عبد اللّه بن مسعود فقال: قرأ القران و وقف عند متشابهه و أحل حلاله و حرم حرامه.. «2».،
و قد قرأ على النبي صلّى اللّه عليه و سلم حبا من النبي صلّى اللّه عليه و سلم لسماعه، «فقراءة ابن مسعود عليه في هذا الموضع لإسماعه إياه لا لأجل التصحيح و التلقين» «3»، و حسب ابن أم عبد أن يكون أستاذ معاذ بن جبل إمام العلماء.
و شأنه في الترتيل وجودة الأداء عظيم كأنه يقرأ الوحي غضا طريا كما قرر ذلك النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و عن أبي عثمان النهدي: صلّى بنا ابن مسعود المغرب ب «قل هو اللّه أحد» و اللّه لوددت أنه قرأ بسورة البقرة من حسن صوته و ترتيله «4».
و كان له أسلوبه البديع في إقراء الناس فعن عبد اللّه بن مسعود أنه كان يقرئ الرجل الاية ثم يقول: لهي خير مما طلعت عليه الشمس أو مما على الأرض من شي ء حتى يقول ذلك في القران كله، و في رواية كان ابن مسعود إذا أصبح أتاه الناس في داره فيقول: على مكانكم ثم يمر بالذين يقرئهم القران
__________________________________________________
(1) صحيح البخاري (4/ 1709)، ابن حبان (15/ 17)، مرجعان سابقان.
(2) انظر: مجمع الزوائد (9/ 157)، مرجع سابق.
(3) ابن تيمية (16/ 482)، مرجع سابق.
(4) ابن أبي شيبة (1/ 314)، خلق أفعال العباد ص 72، مرجعان سابقان.(1/391)
فيقول: أيا فلان بأي سورة أتيت؟ فيخبره في أي اية فيفتح عليه الاية التي تليها ثم يقول: تعلمها فإنها خير لك مما بين السماء و الأرض. قال: فنظر الرجل اية ليس في القران خير منها ثم يمر بالاخرى فيقول اية مثل ذلك حتى يقول ذلك لكلهم «1».
و قد ورّث علمه لتلامذته، فقد مر خباب بن الأرت بحلقته فقال: يا أبا عبد الرحمن! أيستطيع هؤلاء الشباب أن يقرؤوا كما تقرأ؟ قال: أما إنك لو شئت أمرت بعضهم يقرأ عليك قال: اقرأ يا علقمة...، فقرأت خمسين اية من سورة مريم فقال عبد اللّه: كيف ترى؟ قال: قد أحسن. قال عبد اللّه: ما أقرأ شيئا إلا و هو يقرؤه ثم التفت إلى خباب و عليه خاتم من ذهب فقال: أ لم يأن لهذا الخاتم أن يلقى؟ قال: أما إنك لن تراه علي بعد اليوم فألقاه «2».
6- أبي بن كعب رضي اللّه عنه:
سيد القراء و إمامهم، و قد قرأ عليه النبي صلّى اللّه عليه و سلم بصفة خاصة فقال له: «إن اللّه أمرني أن أقرأ عليك» قال: اللّه سماني لك؟ قال اللّه: «سماك لي» قال:
فجعل أبي يبكي «3»، و من حكم قراءة النبي صلّى اللّه عليه و سلم على أبي أن ينبه «الناس على فضيلة أبي في ذلك، و يحثهم على الأخذ منه، و كان كذلك فكان بعد النبي صلّى اللّه عليه و سلم رأسا و إماما مقصودا في ذلك مشهورا به» «4»، و عن عاصم بن بهدلة قال: قلت للطفيل بن أبي بن كعب: إلى أي معنى ذهب أبوك في قول رسول اللّه له أمرت
__________________________________________________
(1) عبد الرزاق (3/ 367)، الطبراني في الكبير (9/ 135)، مرجعان سابقان و انظر مجمع الزوائد (7/ 166)، مرجع سابق.
(2) صحيح البخاري (4/ 1595)، مرجع سابق.
(3) مسلم (1/ 550)، البخاري (4/ 1896)، مرجع سابق.
(4) شرح النووي (16/ 19)، مرجع سابق.(1/392)
أن أقرأ القران عليك فقال ليقرأ علي فأحذو ألفاظه «1»، و ذلك «لفضيلة أبي و اختصاصه بعلم القران» «2».
7- و كان أبو عبيدة بن الجراح معدودا:
فيمن جمع القران العظيم «3» و حسبنا به معلما لأهل اليمن (نجران) للقران الكريم، و كان معلما للقران في المدينة فعن أبي ثعلبه الخشني رضي اللّه عنه قال:
لقيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فقلت: يا رسول اللّه! ادفعني إلى رجل حسن التعليم فدفعني إلى أبي عبيدة ابن الجراح ثم قال: «قد دفعتك إلى رجل يحسن تعليمك و أدبك».. «4»..
8- و منهم عبد الرحمن بن عوف:
فقد أم بالنبي صلّى اللّه عليه و سلم فعن المغيرة بن شعبة قال: عدل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أنا معه في غزوة تبوك قبل الفجر فعدلت معه... فأقبلنا نسير حتى نجد الناس في الصلاة قدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم حين كان وقت الصلاة و وجدنا عبد الرحمن قد ركع بهم ركعة من صلاة الفجر فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم مع المسلمين وراء عبد الرحمن بن عوف...
لما سلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال لهم أحسنتم أو قد أصبتم «5». فما لهم يقدمون ابن عوف إلا لاستحقاقه ذلك؟.
__________________________________________________
(1) السبعة ص 55، مرجع سابق.
(2) ابن تيمية (16/ 482)، مرجع سابق.
(3) سير أعلام النبلاء (1/ 8)، مرجع سابق.
(4) الطبراني في الكبير (1/ 157)، مرجع سابق، و انظر: مجمع الزوائد (5/ 189)، مرجع سابق.
(5) ابن حبان (5/ 603).(1/393)
9- سالم مولى أبي حذيفة:
و هو من المذكورين في حديث «خذوا القران...»، و قد قال النبي صلّى اللّه عليه و سلم فيه لحسن صوته: «الحمد للّه الذي جعل في أمتي مثل هذا» «1».
10- و منهم عبد الله بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما:
فقد قال: جمعت القران فقرأت به كل ليلة فبلغ النبي صلّى اللّه عليه و سلم فقال أقرأه في شهر... الحديث «2».
11- أبو موسى الأشعري رضي اللّه عنه:
و قد تقدم ذكر عدد من جمع عليه القران، و من تلاميذه عامر بن عبد قيس، و كان مشهورا بالإقراء فعن الحسن قال: كان عامر بن عبد قيس إذا صلى الصبح تنحى في ناحية المسجد فقال: من أقرئه؟ قال: فيأتي قوم فيقرئهم حتى إذا طلعت الشمس و أمكنت الصلاة قام يصلي إلى أن ينتصف النهار ثم يرجع إلى منزله فيقيل ثم يرجع إلى المسجد إذا زالت الشمس فيصلي حتى يصلى الظهر، ثم يصلى حتى يصلي العصر، فإذا صلى العصر تنحى في ناحية المسجد ثم يقول:
من أقرئه؟ قال: فيأتيه قوم فيقرئهم حتى إذا غربت الشمس صلى المغرب ثم يصلي حتى يصلي العشاء الاخرة، ثم يرجع إلى منزله فيتناول أحد رغيفيه، فيأكل ثم يضطجع هجعة خفيفة ثم يقوم فإذا كان السحر تناول رغيفه الاخر، فيأكله ثم يشرب عليه شربة من ماء ثم يخرج إلى المسجد «3».
__________________________________________________
(1) ابن ماجه (1/ 425)، مرجع سابق، و قال في مصباح الزجاجة (1/ 158)، مرجع سابق: «هذا إسناد صحيح».
(2) ابن حبان (3/ 33)، النسائي في الكبرى (5/ 24)، ابن ماجه (1/ 42).
(3) الزهد لابن أبي عاصم ص 224، مرجع سابق.(1/394)
12- أبو أيوب الأنصاري رضي اللّه عنه:
فقد أخرج ابن أبي داود بسند حسن عن محمد بن كعب القرظي قال: جمع القران على عهد رسول اللّه خمسة من الأنصار معاذ بن جبل و عبادة بن الصامت و أبي بن كعب و أبو الدرداء و أبو أيوب الأنصاري «1»، و قد أراد عمر إرساله إلى الشام ليقرئ أهلها، فلما كان زمن عمر كتب إليه يزيد بن أبي سفيان إن أهل الشام قد كثروا و ملؤوا المدائن و احتاجوا إلى من يعلمهم القران و يفقههم فأعني برجال يعلمونهم فدعا عمر الخمسة فقال: إن إخوانكم قد استعانوني من يعلمهم القران، و يفقههم في الدين فأعينوني يرحمكم اللّه بثلاثة منكم إن أحببتم و إن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا، فقالوا: ما كنا لنتساهم هذا شيخ كبير لأبي أيوب، و أما هذا فسقيم لأبيّ فخرج معاذ و عبادة و أبو الدرداء، فقال عمر: ابدؤوا بحمص فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة، فإذا رأيتم ذلك فوجهوا إليه طائفة من الناس فإذا رضيتم منهم فليقم بها واحد، و ليخرج واحد إلى دمشق و الاخر إلى فلسطين «2».
13- عبادة بن الصامت رضي اللّه عنه:
كما تقدم، و هو من الذين كانوا يقرئون القران على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أهل الصفة.
14- أبو الدرداء رضي اللّه عنه:
كالسابق، و كان أبو الدرداء مقرئ الشام و رئيسا لجامعة قرانية عظيمة، و سنذكر طرفا من كيفية إقرائه ليستبين كيف كان يأخذ أهل الشام عنه و كيف
__________________________________________________
(1) فتح الباري (9/ 53)، مرجع سابق.
(2) سير أعلام النبلاء (2/ 6 و 2/ 344)، مرجع سابق.(1/395)
سادت قراءته: فقد قال سويد بن عبد العزيز التنوخي: كان أبو الدرداء إذا صلى الغداة في جامع دمشق اجتمع الناس للقراءة عليه، فكان يجعلهم عشرة عشرة، و يجعل على كل عشرة منهم عريفا، و يقف هو قائما في المحراب يرمقهم ببصره و بعضهم يقرأ على بعض، فإذا غلط أحدهم رجع إلى عريفهم، فإذا غلط عريفهم رجع إلى أبي الدرداء فسأله عن ذلك.
و كان ابن عامر عريفا على عشرة، و كان كبيرا فيهم، فلما مات أبو الدرداء خلفه ابن عامر، و قام مقامه مكانه، و قرأ عليهم جميعهم فاتخذه أهل الشام إماما، و رجعوا إلى قراءته، و عن أبي عبيد اللّه مسلم ابن مشكم، قال لي أبو الدرداء: اعدد من يقرأ عندي القران، فعددتهم ألفا و ستمائة و نيفا، و كان لكل عشرة منهم مقرئ، و كان أبو الدرداء يطوف عليهم قائما يستفتونه في حروف القران، فإذا أحكم الرجل منهم تحول إلى أبي الدرداء، فقد بلغ تلاميذه ألفا و ستمائة و نيفا يقرئهم جميعا في يوم واحد بطريقة فذة، كأنه أسس بها جامعة قرانية لها نظمها الإدارية المختلفة «1».
15- معاذ بن جبل رضي اللّه عنه:
و هو الذي ورد في حديث أنس و عبد اللّه بن عمرو السابقين، و قد كان شيخ الناس في القران و إمام العلماء، و الناس يصدرون عنه لولا أنه لم يعمّر فعن أبي إدريس الخولاني قال: دخلت مسجد حمص فإذا حلقة فيها نيف و ثلاثون رجل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فجعل الرجل يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول كذا و كذا و ينصت له الاخرون، و فيهم فتى أدعج براق
__________________________________________________
(1) جمال القراء و كمال الإقراء (2/ 454)، مرجع سابق، و انظر: سير أعلام النبلاء (2/ 353)، مرجع سابق.(1/396)
الثنايا فإذا اختلفوا في شي ء انتهوا إلى قوله، فلما انصرفت إلى منزلي بت بأطول ليلة قلت: جلست في مجلس فيه كذا و كذا من أصحاب النبي عليه السلام لا أعرف منازلهم، و لا أسماءهم، فلما أصبحت غدوت إلى المسجد فإذا الفتى الأدعج قاعد إلى سارية فجلست إليه: فقلت: إني أحبك للّه تعالى قال: فأخذ بحبوتي ثم قال: اللّه إنك لتحبني في اللّه؟ قلت: اللّه إني لأحبك في اللّه تبارك و تعالى. قال: أفلا أحدثك بما سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم؟ قلت:
بلى! قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول: «المتحابون في اللّه يظلهم اللّه في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله»، فبينا نحن كذلك إذ مر رجل ممن كان في الحلقة فقمت إليه فقلت: إن هذا حدثني حديثا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فهل سمعته؟ قال:
ما كان ليحدثك إلا حقا فما هو؟ فأخبرته فقال: سمعت هذا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و ما هو أفضل منه. قلت: يرحمك اللّه و ما الذي أفضل منه؟ قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يأثر عن اللّه تعالى: «حقت محبتي للمتحابين في، و حقت محبتي للمتواصلين، في و حقت محبتي للمتزاورين في، و حقت محبتي للمتباذلين في» قلت: من أنت يرحمك اللّه؟ قال: أنا عبادة بن الصامت. قلت: فمن الفتى؟
قال: معاذ بن جبل «1».
ولكنه تتلمذ على يد ابن مسعود رضي اللّه عنه ابتداء: فعن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال: جاء معاذ إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلم فقال: يا رسول اللّه أقرئني. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «أقرئه» فأقرأته ما كان معي ثم اختلفت أنا و هو إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فقرأه معاذ فكان معلما من المعلمين على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم «2».
__________________________________________________
(1) المختارة (8/ 309)، مرجع سابق.
(2) ابن أبي شيبة (6/ 131)، سير أعلام النبلاء (4/ 74)، مرجع سابق.(1/397)
16- خباب بن الأرت رضي اللّه عنه:
و كان مقرئا من أوائل البعثة فعن أنس بن مالك رضي اللّه عنه أن رجلا من بني زهرة لقي عمر قبل أن يسلم و هو متقلد بالسيف فقال: إلى أين تعمد؟ قال: أريد أن أقتل محمدا قال: أفلا أدلك على العجب يا عمر؟ إن ختنك سعيدا و أختك قد صبوا و تركا دينهما الذي هما عليه. قال: فمشى عمر إليهم ذامرا حتى إذا دنا من الباب قال: و كان عندهما رجل يقال له خباب يقرئهما سورة طه فلما سمع خباب بحس عمر دخل تحت سرير لهما.. «1». الحديث.
و يتضح مدى حفظ خباب من إحالة ابن مسعود عليه فقد جاءه بعضهم فسأله أن يقرأ عليهم طسم المائتين فقال: ما هي معي ولكن عليكم من أخذها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم خبّاب بن الأرتّ، فأتينا خبّاب ابن الأرتّ فقرأها علينا «2»، و حكم على مدى جودة و حفظ أصحاب ابن مسعود رضي اللّه عنه.
17- أسيد بن حضير:
و قد كان من القراء المعدودين المشهورين في عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلم فعن أسيد بن حضير أنه قال: يا رسول اللّه بينما أنا أقرأ الليلة سورة البقرة إذ سمعت وجبة من خلفي فظننت أن فرسي انطلق فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: قرأ يا أبا عتيك فالتفت فإذا مثل المصباح مدلى بين السماء و الأرض و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول: «اقرأ يا أبا عتيك» فقال: يا رسول اللّه فما استطعت أن أمضي فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «تلك الملائكة نزلت لقراءة سورة البقرة أما إنك لو مضيت لرأيت العجائب» «3»، و قد
__________________________________________________
(1) الحاكم (4/ 65)، مرجع سابق.
(2) أحمد (1/ 419).
(3) ابن حبان (3/ 58)، مرجع سابق.(1/398)
كان شديد التأثر بالقران فعن عائشة أنها قالت: كان أسيد بن حضير من أفاضل الناس، و كان يقول: لو أكون كما أكون على حال من أحوال ثلاث لكنت من أهل الجنة و ما شككت في ذلك: حين أقرأ القران، أو حين أسمعه يقرأ، و إذا سمعت بخطبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و إذا شهدت جنازة... و ما شهدت جنازة قط فحدثت نفسي سوى ما هو مفعول بها و ما هي صائرة إليه «1» و في ترجمة إبراهيم بن جابر الصحابي: أنه كان من جملة العبيد الذين نزلوا على النبي صلّى اللّه عليه و سلم أيام حصاره الطائف فأعتقه و بعثه إلى أسيد ابن حضير و أمره أن يمونه و يعلمه.
18- مصعب بن عمير رضي اللّه عنه:
فقد كتبت الأوس و الخزرج إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ابعث إلينا مقرئا يقرئنا القران فبعث إليهم مصعب بن عمير العبدري، فنزل على أسعد بن زرارة فكان يقرئهم القران فروى بعضهم أن مصعبا كان يجمع بهم ثم خرج مع السبعين حتى وافوا الموسم مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم «2»، و عن البراء ابن عازب قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير و ابن أم مكتوم و كانا يقرئان الناس، فقدم بلال و سعد و عمار بن ياسر، ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلم ثم قدم النبي صلّى اللّه عليه و سلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشي ء فرحهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم حتى جعل الإماء يقلن: قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فما قدم حتى قرأت سبح اسم ربك الأعلى في سور من المفصل «3».
«و كان مصعب يسمى المقرئ بالمدينة، و في الاستبصار لابن قدامة المقدسي لما قدم مصعب ابن عمير المدينة نزل على أسعد بن زرارة فكان يطوف به على دور
__________________________________________________
(1) الضياء في المختارة (4/ 275)، مرجع سابق.
(2) طبقات ابن سعد (1/ 220)، مرجع سابق.
(3) البخاري (3/ 1428)، مرجع سابق.(1/399)
الأنصار يقرئهم القران و يدعوهم إلى اللّه عز و جل فأسلم على يديهما جماعة منهم سعد بن معاذ و أسد بن حضير و غيرهما» «1».
19- عبد الله بن أم مكتوم رضي اللّه عنه:
و ما سبق يدل على ذلك، و هو صاحب قصة عبس... و هنيئا له مقامه.
20- عثمان بن أبي العاص:
و تقدمت قصته في المبحث الثاني من الفصل الثاني، و كانت تعرض المصاحف عليه للتصحيح فعن أبي نضرة قال: أتينا عثمان بن أبي العاص في يوم جمعة لنعرض مصحفا لنا بمصحفه فجلسنا إلى رجل يحدث ثم جاء عثمان بن أبي العاص فتحولنا إليه «2».
و من أخباره رضي اللّه عنه: أنه تزوج امرأة من نساء عمر بن الخطاب فقال: و اللّه ما نكحتها حين نكحتها رغبة في مال و لا ولد ولكن أحببت أن تخبرني عن ليل عمر رضي اللّه عنه فسألها كيف كانت صلاة عمر بالليل قالت: كان يصلي العتمة ثم يأمر أن نضع عند رأسه تورا من ماء نغطيه و يتعار من الليل فيضع يده في الماء فيمسح وجهه و يديه ثم يذكر اللّه ما شاء أن يذكر ثم يتعار مرارا حتى يأتي على الساعة التي يقوم فيها لصلاته «3»، و عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم على المنبر و معه كتاب فقال: لأعطين هذا الكتاب رجلا يحب اللّه و رسوله و يحبه اللّه
__________________________________________________
(1) (الكتاني) عبد الحي الإدريسي الحسني الفاسي: نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية (1/ 40)، دار الكتاب العربي- بيروت.
(2) ابن أبي شيبة (7/ 491)، مرجع سابق.
(3) الطبراني في الكبير (9/ 43)، مرجع سابق، و في مجمع الزوائد (9/ 73)، مرجع سابق: «رواه الطبراني و رجاله ثقات».(1/400)
و رسوله قم يا عثمان بن أبي العاص فقام عثمان بن أبي العاص فدفعه إليه «1»، و عن أبي نضرة قال: أتيت عثمان بن أبي العاص في أيام العشر و كان له بيت قد أخلاه للحديث فمر عليه بكبش فقال لصاحبه: بكم أخذته؟ فقال: باثني عشر درهما فقلت: لو كان معي اثنا عشر درهما اشتريت بها كبشا فضحيت و أطعمت عيالي فلما قدمت اتبعني بصرة فيها خمسون درهما فما رأيت دراهم قط كانت أعظم بركة منها أعطاني و هو لها محتسب و أنا إليها محتاج «2»، و عن عثمان بن أبي العاص الثقفي: أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال له: «أم قومك» قال قلت: يا رسول اللّه إني أجد في نفسي شيئا قال أدنه فجلسني بين يديه ثم وضع كفه في صدري بين ثديي ثم قال تحول فوضعها في ظهري بين كتفي ثم قال: أم قومك.. «3»..
21- غيرهم رضي اللّه عنه:
1- عمرو بن سلمة: و تقدمت قصته في المبحث الثاني من الفصل الثاني.
2- شريح الحضرمي: كان من أفضل أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلم «4»، فعن السائب بن يزيد أن شريحا الحضرميّ ذكر عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «لا يتوسّد القران» «5».
__________________________________________________
(1) الطبراني في الأوسط (1/ 239)، مسند الحارث (2/ 624)، مرجعان سابقان، و انظر: مجمع الزوائد (9/ 371)، مرجع سابق.
(2) الطبراني (9/ 42)، مرجع سابق، و في مجمع الزوائد (9/ 371)، مرجع سابق: «رواه الطبراني و رجاله رجال الصحيح».
(3) مسلم (1/ 341)، مرجع سابق.
(4) الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/ 702)، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1412 ه.
(5) أحمد 3/ 449، النسائي في الكبرى 1/ 412، و الصغرى 3/ 256، مراجع سابقة.(1/401)
3- سعد بن المنذر الأنصاري: و قد قال: يا رسول اللّه أقرأ القران في ثلاث قال نعم قال و كان يقرؤه حتى توفي «1».
- عبد اللّه بن سعد بن خيثمة كنيته أبو خيثمة الأوسي الأنصاري ممن شهد بدرا و العقبة و جوامع المشاهد و كان من المعدودين في القراء و المشهورين في البراز توفى بالمدينة «2».
5- أبو زيد المذكور في حديث أنس: و ليس هو سعد بن عبيد بن النعمان لأن هذا أوسي و أنس خزرجي و قد قال: إنه أحد عمومته و عند ابن أبي داود بإسناد على شرط البخاري إلى ثمامة عن أنس أن أبا زيد الذي جمع القران اسمه قيس بن السكن قال و كان رجلا منا من بني عدي بن النجار أحد عمومتي و مات و لم يدع عقبا و نحن ورثناه، و كان عقبيا بدريا «3».
6- سعد بن عبيد: و هو الذي قال فيه أبو أحمد العسكري: لم يجمع القران من الأوس غير سعد بن عبيد و قال ابن حبيب في المحبر: سعد بن عبيد أحد من جمع القران على عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلم «4»، و عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان سعد بن عبيد يسمى على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم القاري «5».
__________________________________________________
(1) الطبراني في الكبير (6/ 51)، الزهد لابن المبارك ص 452، مرجعان سابقان، و صرح ابن لهيعة في إسناديهما بالتحديث.
(2) مشاهير علماء الأمصار (1/ 26)، مرجع سابق.
(3) فتح الباري (9/ 53)، و انظر: الإتقان (1/ 195)، مرجعان سابقان.
(4) الإتقان (1/ 195)، مرجع سابق.
(5) رواه الطبراني في الكبير (6/ 53) مرسلا، مرجع سابق، و انظر: مجمع الزوائد (9/ 402)، مرجع سابق.(1/402)
7- قيس بن أبي صعصعة: ذكره ابن أبي داود فيمن جمع القران و هو خزرجي يكنى أبا زيد «1».
8- ثابت بن قيس بن شماس: و أخرج أبو داود من طريق مرسلة قال النبي صلّى اللّه عليه و سلم: «أ لم تر ثابت بن قيس لم تزل داره البارحة تزهر بمصابيح» «2».
9- سلمان الفارسي: فعن خليد العصري قال لما ورد علينا سلمان أتيناه لنستقرئه فقال إن القران عربي فاستقرئوه عربيا فكان زيد بن صوحان يقرئنا فإذا أخطأ أخذ عليه سلمان و إذا أصاب قال: أيم اللّه «3».
10- زياد بن لبيد الأنصاري البياضي: من بني بياضة بن عامر بن زريق قال الواقدي: خرج إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أقام معه بمكة حتى هاجر مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إلى المدينة فكان يقال لزياد مهاجري أنصاري شهد العقبة و بدرا و أحدا و الخندق و المشاهد كلها مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و استعمله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم على حضرموت «4» و قد ورد ما يشير إلى تقدمه و حفظه فعن أبي الدرداء قال: كنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: «هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شي ء» فقال زياد ابن لبيد الأنصاري: يا رسول اللّه! و كيف
__________________________________________________
(1) فتح الباري (9/ 53)، مرجع سابق. ملحوظة مهمة: وجدت أن ابن حجر في الفتح و السيوطي في الإتقان يعزوان لابن أبي داود ما ليس في كتابه المصاحف، و الظاهر أن عزوهما غير المصرح به إنما هو لكتاب الشريعة إما شريعة المقاري و هو الأرجح كما يظهر من اسمه، و إما شريعة التفسير، و له ثالث هو كتاب فضائل القران، و رابع هو كتاب نظم القران- انظر: كتاب المصاحف (1/ 57)... فيحتمل العزو لها جميعا.
(2) تحفة الأحوذي (8/ 157)، مرجع سابق.
(3) ابن أبي شيبة (6/ 410)، مرجع سابق.
(4) الاستيعاب (2/ 533)، مرجع سابق.(1/403)
يختلس منا و قد قرأنا القران فو اللّه لنقرأنه و لتقرئنه نساءنا و أبناءنا، و في لفظ للحاكم: قال زياد: بأبي و أمي و كيف يذهب أوان العلم و نحن نقرأ القران و نعلمه أبناءنا و يعلمه أبناؤنا أبناءهم إلى أن تقوم الساعة فقال: «ثكلتك أمك يا زياد إني كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة هذا التوراة و الإنجيل ثم اليهود و النصارى فماذا يغني عنهم» «1».
11- و منهم و بر بن مشهر الحنفي: فعنه رضي اللّه عنه أن مسيلمة بعثه هو و ابن سعاف الحنفي و ابن النواحة حتى قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال وبر بن مشهر رضي اللّه عنه: كانا هما أسن مني فتشهدا أنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أن مسيلمة من بعده قال فأقبل علي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فقال: «بم تشهد يا غلام؟» فقلت: أشهد بما شهدت به و أكذب بما كذبت به قال: «فإني أشهد عدد ترب الدهناء و ترب يثرب أن مسيلمة كذاب». قال وبر رضي اللّه عنه: شهدت بما شهدت به. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم:
«خذوهما» قال فأخذا فأخرج بهما إلى البيت يحبسان فقال رجل: هبهما لي يا رسول اللّه ففعل فخرجا و أقام وبر بن مشهر ثم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يتعلم القران حتى قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و رجع صاحباه فلما توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قدم وبر رضي اللّه عنه فنزل على أمه بعرقبا فسمع به مسيلمة فأرسل إليه فقال: لا يراني اللّه تعالى أمشي إليه أبدا فأرسل إليه إذا لأدمينك في حجر أمك فأبى فأصرف عنه حتى جاء خالد بن الوليد رضي اللّه عنه فغزاه و غزا معه و قتل مسيلمة و خرج وبر.. «2»..
12- و هناك أسماء أخرى غير مشهورة و منها: أبان بن سعيد بن العاص فقد ذكر ابن حجر في الإصابة عن الواقدي أن صحابيا يقال له وردان أسلمه النبي صلّى اللّه عليه و سلم
__________________________________________________
(
1) الحاكم (1/ 179)، الترمذي (5/ 31)، مرجعان سابقان.
(2) الاحاد و المثاني (3/ 308)، مرجع سابق، و انظر ترجمته في الإصابة (6/ 598)، مرجع سابق.(1/404)
إلى أبان بن سعيد بن العاص ليمونه و يعلمه القران «1»... و يؤكد هذا استعمال عثمان لأبان في نسخ المصاحف.
13- و ذكر في التراتيب الإدارية «2» عددا من المعلمين للقران على عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و الأصل في معلم القران أن يكون حافظا له على ما هو معلوم، فمنهم: رافع بن مالك الأنصاري ترجمه في الإصابة فذكر عن ابن إسحاق أنه أول من قدم المدينة بسورة يوسف، و أن الزبير بن بكار روى في أخبار المدينة أن رافعا لما لقي المصطفى صلّى اللّه عليه و سلم بالعقبة أعطاه ما أنزل إليه في العشر سنين التي خلت فقدم به رافع إلى المدينة ثم جمع قومه فقرأ عليه في موضعه قال و عجب المصطفى صلّى اللّه عليه و سلم من اعتدال قلبه «3».
14- و منهم خالد بن سعيد بن العاص ففي ترجمة لأزرق بن عقبة الثقفي من عبيد الحارث بن كلدة الثقفي أنه ممن نزل على النبي صلّى اللّه عليه و سلم في حصار الطائف و أنه أسلم و أعتقه و سلمه لخالد بن سعيد بن العاص ليمونه و يعلمه «4».
15- و منهم عمرو بن حزم بن زيد الأنصاري قال في الاستبصار في أنساب الأنصار: استعمله رسول اللّه على نجران و هو ابن سبع عشرة سنة ليفقههم في الدين و يعلمهم القران و يأخذ صدقاتهم و ذلك سنة عشر «5».
16- و ذكر أبو القاسم الهذلي منهم أيضًا غير من تقدم: طلحة بن عبد اللّه، و سعد بن أبي وقاص، و عمرو بن العاص، و أبو برزة، و معاوية بن أبي سفيان «6».
__________________________________________________
(1) الإصابة (6/ 602)، مرجع سابق.
(2) نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية (1/ 44)، مرجع سابق.
(3) الإصابة (2/ 444).
(4) الإصابة (1/ 46).
(
5) نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية (1/ 44)، مرجع سابق.
(6) الكامل ص 40 وجه ب، و كذا عدهم الكردي في تاريخ القران ص 69. انظر: تاريخ القران و غرائب رسمه و حكمه ص 8.(1/405)
17- و قد يقال بأن حارثة بن النعمان منهم: فعن عروة عن عائشة عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: دخلت الجنة فسمعت قراءة فقلت: من هذا؟ فقيل: «حارثة بن النعمان» فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «كذلكم البر» و كان برا بأمه، و في لفظ: كان أبر الناس بأمه «1».
18- و من النساء الحافظات في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عائشة و لذا كانت تضبط الايات و عددها: فعنها أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان يصلي جالسا فيقرأ و هو جالس فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين أو أربعين اية قام فقرأ و هو قائم ثم ركع ثم سجد ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك «2»، و هي نفت عن نفسها الحفظ الكامل في أوائل زواجها برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم حين رميت بحادث الإفك إفكا و زورا و هي الطاهرة المطهرة فقالت: «فقلت و أنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القران» «3»، و النبي صلّى اللّه عليه و سلم إنما توفي بعد حادثة الإفك بخمس سنوات على الأقل... فعائشة العالمة التي يصدر عن فتواها كبار الأئمة من الصحابة أفما كانت تحفظ القران؟.
19- حفصة بنت عمر بن الخطاب:
20- و أم سلمة: و يدل على ذلك شدة عنايتهن باتخاذ المصاحف.
و تعلمت حفصة الكتابة من الشفاء بنت عبد اللّه فعن الشفاء قالت: دخل علي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أنا عند حفصة فقال لي: «ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة» «4».
__________________________________________________
(1) الإصابة (1/ 618)، مرجع سابق، و قال ابن حجر: «إسناده صحيح».
(2) البخاري (1/ 376)، مسلم (1/ 505)، مرجعان سابقان.
(
3) مسلم (4/ 2135)، ابن حبان (10/ 20)، مرجعان سابقان.
(4) أبو داود (4/ 11)، النسائي في الكبرى (4/ 366)، مرجعان سابقان.(1/406)
21- أم ورقة بنت عبد اللّه بن الحارث: فقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول عنها:
انطلقوا بنا نزور الشهيدة و أذن لها أن يؤذن لها مؤذن، و أن تؤم أهل دارها في الفريضة و كانت قد جمعت القران «1»، و كان من شأنها: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان يزورها و يسميها الشهيدة و لما غزا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بدرا قالت له: أ تأذن لي فأخرج معك أداوي جرحاكم، و أمرض مرضاكم لعل اللّه يهدي لي شهادة قال: «إن اللّه مهد لك شهادة»، و كان قد أمرها أن تؤم أهل دارها و كان لها مؤذن فغمها غلام لها و جارية كانت دبرتهما فقتلاها في إمارة عمر فقال عمر صدق رسول اللّه كان يقول: «انطلقوا بنا نزور الشهيدة».
22- أمّ هشام بنت حارثة بن النعمان فعنها قالت: لقد مكثنا سنة أو سنتين كان تنّورنا و تنّور النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم واحدا سنتين أو سنة و بعض سنة و ما أخذت ق و القران المجيد إلّا على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان يقرأ بها كلّ يوم جمعة على المنبر إذا خطب النّاس و في لفظ: كان يعلم الناس يقرأها كل جمعة على المنبر «2».
و هل يفهم من كلامها حفظها الكامل للقران الكريم، أو جعل الحفظ بدهية في حياتها؟ احتمال.
و أما بعد النبي صلّى اللّه عليه و سلم فقد كثرت الحافظات من التابعيات، و من أشهرهن:
حفصة بنت سيرين أم الهذيل الفقيهة الأنصارية روت عن أم عطية، و روي عن إياس بن معاوية قال: ما أدركت أحدا أفضله عليها، و قال: قرأت القران و هي بنت ثنتي عشرة سنة و عاشت سبعين سنة فذكروا له الحسن و ابن سيرين فقال: أما أنا فما أفضل عليها أحدا «3».
__________________________________________________
(
1) ابن خزيمة (3/ 89)، البيهقي في الكبرى (3/ 130)، مرجعان سابقان.
(2) مسلم (2/ 595)، الحاكم (1/ 421)، المسند المستخرج على مسلم (2/ 458).
(3) سير أعلام النبلاء (4/ 507)، مرجع سابق.(1/407)
23- و عدّ ابن أبي داود في كتاب الشريعة من المهاجرين أيضًا تميم بن أوس الداري، و عقبة بن عامر، و من الأنصار معاذا الذي يكنى أبا حليمة، و فضالة بن عبيد، و مسلمة بن مخلد، و غيرهم و صرح بأن بعضهم إنما جمعه بعد النبي صلّى اللّه عليه و سلم وعد بعض المتأخرين من القراء سعد بن عبادة» «1».
24- و لما تقدم فقد ذكر أبو عبيد في كتاب القراات القراء من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلم فعد من المهاجرين الخلفاء الأربعة و طلحة و سعدا و ابن مسعود و حذيفة و سالما و أبا هريرة و عبد اللّه بن السائب و العبادلة و عائشة و حفصة و أم سلمة «2».
فعدة المذكورين من المشتهرين بأنهم أئمة للقراءة و الإقراء نافت على خمسين صحابيا.
و لو ذهب المرء يعدد المشهورين بالحفظ بعد النبي صلّى اللّه عليه و سلم من الصحابة فإنهم سيستطيلون إلى المئات... و هناك من القراء الذين لم تعرف أسماء كثير منهم:
أصحاب بئر معونة، و أصحاب اليمامة، و كثير من أهل أحد... فذلك ما لا يقل عن مائة و عشرين حافظا بالإضافة إلى هؤلاء الخمسين.
لا تنافي بين ذكر هذا العدد الكثير و ما اشتهر من قلة حفاظ الصحابة رضي اللّه عنهم:
«لا تنافي بين ذكر هذا العدد الكثير المصرح باسمه و بين ما اشتهر من الذين جمعوا القران هم عشرة؛ إذ قد وجه البعض هذه الشهرة بأنها محمولة على جمعهم له بأوجه القراات و السبعون من أصحاب بئر معونة، و غيرهم من المذكورين تصريحا أو تلميحا مما سبق كانوا يحفظونه بدون أوجه القراات، و قد نظم بعضهم العشرة فقال:
__________________________________________________
(1) فتح الباري (9/ 52)، مرجع سابق.
(
2) الإتقان (1/ 195)، و نقل ذلك صاحب مناهل العرفان (1/ 169)، مرجعان سابقان.(1/408)
لقد جمع القران في عهد أحمد علي و عثمان و زيد بن ثابت
أبي أبو زيد معاذ و خالد تميم أبو الدرداء و ابن لصامت»
«1» و عند الباحث أن هؤلاء العشرة تفرغوا للإقراء و اشتهروا به بخلاف غيرهم الذين شغلوا بأمور أخرى.
و لن يتوسع البحث في الكلام عن الطبقة الثانية من الصحابة و هم الذين أخذوا عن الصحابة رضي اللّه عنهم، و ما أكثرهم- فضلا عن التابعين- و الإحصاء المذكور عن تلاميذ أبي موسى يوضح الانتشار الهائل للقران الكريم، و من هؤلاء الصحابة من ذكرهم الذهبي في الطبقة الثانية في طبقاته كأبي هريرة و ابن عباس و عبد اللّه ابن السائب ابن أبي السائب مقرئ مكة، و هو من صغار الصحابة «2» و قال فيه مجاهد: كنا نفخر على الناس بقارئنا عبد اللّه بن السائب «3».
__________________________________________________
(1) حاشية البجيرمي على تحفة الطلاب (1/ 208)، مرجع سابق.
(2) سير أعلام النبلاء (3/ 388)، مرجع سابق.
(3) ابن أبي شيبة (6/ 139)، مرجع سابق.(1/409)
المبحث الرابع: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم جمع القران:
و المراد بالجمع هنا هو كتابة ايات القران و ترتيب سوره عند كتابته، و قد يطلق على هذا الباب من العلم تأليف القران كما قال الإمام البخاري «باب تأليف القرانط أي جمع ايات السورة الواحدة أو جمع السور مرتبة في المصحف «1»، و قد استعملت كلمة تأليف فيما قاله عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه: خرجت أتعرّض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قبل أن أسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد فقمت خلفه فاستفتح سورة الحاقّة فجعلت أعجب من تأليف القران قال فقلت: هذا و اللّه شاعر كما قالت قريش قال فقرأ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ (الحاقة: 40- 41) قال: قلت كاهن قال: وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (الحاقة: 42- 47) إلى اخر السّورة قال فوقع الإسلام في قلبي كلّ موقع «2»، و تنحصر معالم تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم لهذا الموضوع في المطالب التالية:
المطلب الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم كتابة القران.
المطلب الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم ترتيب ايات القران الكريم، و سوره.
المطلب الثالث: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم تحزيب القران.
المطلب الرابع: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم عد الاي (علم الفواصل).
و غير غائب عن القارئ الكريم أن هذه المطالب تمثل تأصيلا لعلوم مستقلة من علوم القراءة.
__________________________________________________
(1) فتح الباري (9/ 39)، مرجع سابق.
(2) أحمد (1/ 17)، مرجع سابق، و في مجمع الزوائد (9/ 62).(1/410)
المطلب الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم كتابة القران:
1- أمرهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم بكتابة القران، و تطبيق المقتضى الفعلي لتسميته كتابا مع أنه لم يكن كاتبا صلّى اللّه عليه و سلم، و اشتد في ذلك حتى منع ابتداء من كتابة غير القران معه فعن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: «لا تكتبوا عني غير القران و من كتب عني غير القران فليمحه» «1»، و قد استقر الاصطلاح الكتابي نسبيا إلى عهد البعثة كما جاء عن زياد بن أنعم المعافري قال: قلت لعبد اللّه بن عباس: معاشر قريش هل كنتم تكتبون في الجاهلية بهذا الكتاب العربي تجمعون فيه ما اجتمع، و تفرقون ما افترق هجاء بالألف و اللام و الميم، و الشكل و القطع، و ما يكتب به اليوم قبل أن يبعث اللّه النبي صلّى اللّه عليه و سلم؟ قال: نعم «2»...
2- علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم تسمية ما يكتب فيه القران بالصحف في قوله سبحانه و تعالى:
رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (البينة: 2) «يعني ما تتضمنه الصحف من المكتوب فيها و هو القران، و يدل على ذلك أنه كان يتلو عن ظهر قلبه لا عن كتاب» «3»، و في ذلك تعليم ظاهر بأن يكتب القران في صحف.
3- عن زيد بن ثابت رضي اللّه عنه قال: كنا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم نؤلف القران من الرقاع.. «4»..
4- و أنكر عليهم صلّى اللّه عليه و سلم ابتداء الكتابة لغير القران بصيغ أشد فعن ابن عباس و ابن عمر رضي اللّه عنهم قالا: خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم معصوبا رأسه فرقي المنبر فقال:
«ما هذه الكتب التي يبلغني أنكم تكتبونها؟ أكتاب مع كتاب اللّه؟ يوشك أن
__________________________________________________
(1) مسلم (4/ 2298)، الحاكم (1/ 216)، ابن حبان (1/ 265)، المختارة (9/ 82)، مراجع سابقة.
(2) المحكم (1/ 26)، مرجع سابق.
(3) فتح القدير (5/ 475)، مرجع سابق.
(4) ابن حبان (1/ 320)، الحاكم (2/ 249)، الترمذي (5/ 734)، أحمد (5/ 184)، مراجع سابقة.(1/411)
يغضب اللّه لكتابه فيسري عليه ليلا فلا يترك في ورقة و لا في قلب منه حرفا إلا ذهب به» فقال بعض من حضر المجلس: فكيف يا رسول اللّه بالمؤمنين و المؤمنات؟
قال: «من أراد اللّه به خيرا أبقى في قلبه لا إله إلا اللّه» «1»، و عن أبي موسى رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «إن بني إسرائيل كتبوا كتابا و اتبعوه و تركوا التوراة» «2»، و عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: كنا قعودا نكتب ما نسمع من النبي صلّى اللّه عليه و سلم فخرج علينا فقال: «ما هذا تكتبون» فقلنا: ما نسمع منك. فقال:
«أكتاب مع كتاب اللّه امحضوا كتاب اللّه و أخلصوه» قال: فجمعنا ما كتبناه في صعيد واحد ثم أحرقناه بالنار.. «3»..
جمع القران في عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلم:
و هذه الأدلة المتعاضدة بصحيحها و سقيمها تدل على أن تأليف القران من الرقاع أي جمعه كان أمرا معتادا في حياة النبي صلّى اللّه عليه و سلم كما تدل عليه لفظة (كنا)، و هو ما يعني أن القران قد ألف في حياة النبي صلّى اللّه عليه و سلم أي جمع.
الإذن لهم بكتابة غير القران:
1- ثم أذن لهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم بكتابة غير القران من بعد فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: ما كان أحد أعلم بحديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم مني إلا ما كان من عبد اللّه بن عمرو فإنه كان يكتب بيده و يعيه بقلبه و كنت أعيه بقلبي و لا أكتب بيدي و أستأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في الكتابة عنه فأذن له «4»، و عن رافع بن خديج رضي اللّه عنه قال: خرج
__________________________________________________
(1) الطبراني في الأوسط (7/ 288)، مرجع سابق، و انظر: مجمع الزوائد (1/ 151)، مرجع سابق.
(2) الدارمي (1/ 135)، الطبراني في الأوسط (5/ 359).
(3) أحمد (3/ 12)، مرجع سابق.
(4) أحمد (2/ 403)، و انظر: مجمع الزوائد (1/ 151)، مرجع سابق.(1/412)
علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فقالوا: «تحدثوا و ليتبوأ من كذب علي مقعده من جهنم» قلت: يا رسول اللّه! إنا نسمع منك أشياء فنكتبها. قال: «اكتبوا و لا حرج» «1».
2- و بعد أن أذن لهم بكتابة غير القران معه ربما ترخصوا فكتبوا التفسير الذي سمعوه من النبي صلّى اللّه عليه و سلم أو استنبطوه بما دل على الجزم به عندهم، فيعدها من لا يعلم قراءة و هما فعن أبي يونس مولى عائشة أنه قال ثم أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا و قالت إذا بلغت هذه الاية فاذني حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى فلما بلغتها اذنتها فأملت علي حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى و صلاة العصر و قوموا للّه قانتين قالت عائشة سمعتها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم «2» فما الذي سمعته؟ أيقرأ تلاوة أم يقرأ قراءة تفسير؟... و تفصيل ذلك في الفصل الخامس عند الكلام على القراءة التفسيرية- إن شاء اللّه تعالى-.
3- و كانوا يعرضون ما يملي عليهم من كتاب بعد إملائه فعن زيد ابن ثابت رضي اللّه عنه قال: كنت أكتب الوحي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و كان إذا نزل عليه الوحي أخذته برحاء شديدة و عرق عرقا شديدا مثل الجمان، ثم سرى عنه فكنت أدخل عليه بقطعة الكتف أو كسرة فأكتب و هو يملي علي فما أفرغ حتى تكاد رجلي تنكسر من ثقل القران حتى أقول لا أمشي على رجلي أبدا فإذا فرغت قال اقرأ فأقرأه فإن كان فيه سقط أقامه ثم أخرج به إلى الناس «3».
4- و كان الصحابة رضي اللّه عنهم يجتهدون في كتابة القران عنه صلّى اللّه عليه و سلم كما قال علي رضي اللّه عنه قال: ما كتبنا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إلا القران و ما في هذه الصحيفة.. «4»..
__________________________________________________
(1) و قال الطبراني في الكبير (4/ 276).
(2) مسلم (1/ 437)، مرجع سابق.
(
3) الطبراني في الأوسط (2/ 257)، و الكبير (5/ 142).
(4) البخاري (3/ 1160)، ابن حبان (1/ 551)، مرجعان سابقان.(1/413)
و مما يدل على انتشار الكتابة: ما جاء عن ابن عباس رضي اللّه عنه قال: كانت المصاحف لا تباع كان الرجل يأتي بورقة عند النبي صلّى اللّه عليه و سلم فيقوم الرجل فيحتسب فيكتب ثم يقوم اخر فيكتب حتى يفرغ من المصحف «1».
5- و قد اتخذ لكتابة الوحي عددا كبيرا من صحابته و اشتهر أمرهم، و ممن ذكرهم عبد اللّه بن الزبير رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم استكتب عبد اللّه بن الأرقم فكان يكتب إلى الملوك، فبلغ من أمانته عنده أنه كان يكتب إلى بعض الملوك فيكتب ثم يأمر به أن يطينه ثم يختم لا يقرأ لأمانته عنده و استكتب أيضًا زيد بن ثابت فكان يكتب و يكتب إلى الملوك أيضًا فكان إذا غاب عبد اللّه بن الأرقم و زيد بن ثابت و احتاج أن يكتب لإنسان كتابا يقطعه أمر من حضر أن يكتب و قد كتب له عمر بن الخطاب و عثمان بن عفان و علي بن أبي طالب و زيد بن ثابت و المغيرة بن شعبة و معاوية بن أبي سفيان و خالد بن سعيد بن العاص و غيرهم ممن قد سمي من العرب «2»، و قد أفردت بأخبارهم المصنفات في كتاب النبي صلّى اللّه عليه و سلم و من أكبرها: «المصباح المضي ء لابن حديدة، و قد أوصلهم العراقي في ألفيته إلى (42) كاتبا» «3».
ولكن المكتوب المجموع (المؤلف) في عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلم هل بقي مع زيد و أمثاله من الكتبة أو كان رسميا مع النبي صلّى اللّه عليه و سلم؟ النصوص تدل على الأول، و لذا احتيج إلى جمع مصحف رسمي في عهد أبي بكر رضي اللّه عنه.
و ما سبق يدل على أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم علمهم كتابة القران:
__________________________________________________
(1) البيهقي في الكبرى (6/ 16)، مرجع سابق.
(2) الطبراني في الكبير (5/ 108)، مرجع سابق.
(
3) فقه النوازل قضايا فقهية معاصرة (2/ 104).(1/414)
و بهذا الاعتبار يكون النبي صلّى اللّه عليه و سلم قد علمهم كتابة القران «1» أي أمرهم و تابعهم مع أنه بقي لا يكتب على اخر حياته على الراجح، و على إثر ذلك نشأ فن رسم المصحف.
و أشار إليهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم بكتابة المصحف بين دفتين:
و واضح مما سبق أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم أشار إليهم بكتابة القران في مكان واحد مما يبين التبكير في كتابة القران و جمعه و أنه ليس من أمر أبي بكر بل بإشارات النبي صلّى اللّه عليه و سلم كما تقدم و من ذلك قوله صلّى اللّه عليه و سلم: «بل قوم يأتون من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين فيؤمنون به و يعملون بما فيه أولئك أعظم منكم أجرا» «2»، و لعل هذا الحديث و أمثاله هو الذي احتج به عمر في إقناع أبي بكر بجمع القران، و لعله ذكره به، و بنحوه من الأدلة مما يشير إلى جمع القران كاملا في مصحف.
و قد علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم أن ايات القران المجيد كتبت في الملأ الأعلى (التنزيل الجملي) كما قال اللّه سبحانه و تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (البروج: 21- 22)، و هذا يشير إلى ضرورة كتابته كذلك في الأرض، و من الإشارات القرانية لذلك كما في قوله جل جلاله: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (البينة: 2) ففي ذلك إشارة واضحة لتلاوة القران من صحف مطهرة، فكان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم «يكتبه كتبته بإملائه إيّاه عليهم، و هل يخفى على متصوّر معنى صحيحا في قلبه أنّ ذلك كان تنبيها على كتبه و ضبطه بالتّقييد في الصّحف، و لو كان ما ضمنه اللّه
__________________________________________________
(
1) في موضوع رسم المصحف يرجع إلى كتبه المتعددة: و من أخصر هذه الكتب و أجمعها: (ابن وثيق) أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الأموي الأندلسي ت 654 ه: الجامع لما يحتاج إليه من رسم المصحف، تحقيق د. غانم قدوري حمد، ط 1، 1408 ه- 1988 م، بغداد- العراق.
(2) خلق أفعال العباد ص 88، مرجع سابق.(1/415)
من حفظه لا عمل للأمّة فيه لم يكتبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بعد إخبار اللّه له بضمان حفظه، و لكن علم أنّ حفظه من اللّه يحفظنا و تيسيره ذلك لنا و تعليمه لكتابته و ضبطه في الصّحف بيننا «1».
تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم تسمية القران المكتوب بالمصحف:
فقد سماه النبي صلّى اللّه عليه و سلم بالمصحف صريحا في قوله صلّى اللّه عليه و سلم: «من سره أن يحب اللّه و رسوله فليقرأ في المصحف» «2»، و قد كانت تسمية المصحف شائعة عندهم، و من ذلك ما جاء عن عبد اللّه بن عمرو رضي اللّه عنهما أنّ رجلا أتى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بابن له فقال:
يا رسول اللّه إنّ ابني هذا يقرأ المصحف بالنّهار و يبيت باللّيل. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «ما تنقم أنّ ابنك يظلّ ذاكرا و يبيت سالما» «3»..
على أي حرف كتب القران في عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلم؟:
الظاهر أن المصحف في عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلم كتب على قراءة العامة و لذا كان الصحابة في عهد أبي بكر يبحثون عن المكتوب بأمر النبي صلّى اللّه عليه و سلم و يستشهدون على كتابته بين يدي النبي صلّى اللّه عليه و سلم شاهدين، و أما ما «وقع من اختلاف مصاحف الأمصار في عدة واوات ثابتة في بعضها دون بعض، و عدة هاات و عدة لامات، و نحو ذلك فهو محمول على أنه نزل بالأمرين معا، و أمر النبي صلّى اللّه عليه و سلم بكتابته لشخصين، أو أعلم بذلك شخصا واحدا، و أمره بإثباتهما على الوجهين» «4».
__________________________________________________
(
1) أحكام القران لابن العربي (2/ 332) عند تفسير قوله جل جلاله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ....
(2) شعب الإيمان (2/ 408)، مرجع سابق، و رواه (أبو نعيم) في حلية الأولياء و طبقات الأصفياء (7/ 209).
(3) أحمد (2/ 173)، مرجع سابق و هو في مجمع الزوائد (2/ 270).
(4) فتح الباري (9/ 30)، مرجع سابق.(1/416)
تواتر المصحف كما هو يضاف إلى التواتر القراني:
و لذا كان أكبر دليل يضاف إلى التواتر القراني ليجعل القطع بصحة القران مع التناقل الشفوي اضطراريا أن مصاحف المسلمين هي «التي اجتمع عليها السلف المرضيون و الخلف المتبعون، فمن قرأ بحرف و لا يخالف المصحف بزيادة أو نقصان أو تقديم مؤخر أو تأخير مقدم و قد قرأ به إمام من أئمة القراء المشتهرين في الأمصار فقد قرأ بحرف من الحروف السبعة التي نزل القران بها، و من قرأ بحرف شاذ يخالف المصحف و خالف في ذلك جمهور القراء المعروفين فهو غير مصيب و هذا مذهب أهل العلم الذين هم القدوة و مذهب الراسخين في علم القران قديما و حديثا» «1».
معنى جعل (رسم المصحف) ركنا من أركان القراءة:
و صار بموجب هذا الإلحاح الشرعي على كتابة المصحف، و التعليم لضرورة الكتابة لا بد من التزام المكتوب المتيقن من كتابته أمام الرسول صلّى اللّه عليه و سلم لأنه الضابط للتلقي، مع أمن عدم التغيير بكثرة الحفاظ، و كثرة الترداد، ثم تداعى الصحابة رضي اللّه عنهم على إثر ذلك لجمع هذا المكتوب في مكان واحد هو المصحف الذي أشار النبي صلى اللّه عليه و سلم بكتابته باكرا و ذلك في زمان أبي بكر، ثم تداعوا- بعد- لكتابة نسخ متعددة منه و توزيعه على الافاق ليكون ضابط الشرعية لأي قراءة تتلقى و ذلك زمن عثمان، و لذا أشار العلماء سلفا و خلفا إلى ضرورة التزام رسم المصحف، و أن «الرسم دليل علمي» «2»، و من أوائل من أشار إلى لزوم اتباع خط المصحف الإمام الطبري «3».
__________________________________________________
(1) لسان العرب (9/ 41)، مرجع سابق.
(2) نيل الأوطار (2/ 228)، مرجع سابق.
(3) الطبري (2/ 328)، مرجع سابق.(1/417)
و عمم عثمان رضي اللّه عنه المصاحف في عهده لذلك تعميما رسميا بحيث يكون في كل أفق مصحف كتبته الجماعة:
إذ «علم أن الوهم لا يعرى منه بشر، و أن في الناس منافقين يظهرون الإسلام و يكنون الكفر، فجمع من حضره من الصحابة رضي اللّه عنهم على نسخ مصاحف مصححة كسائر مصاحف المسلمين و لا فرق، إلا أنها نسخت بحضرة الجماعة فقط، ثم بعث إلى كل مصر مصحفا يكون عندهم فإن وهم واهم في نسخ مصحف و تعمد ملحد تبديل كلمة في المصحف أو في القراءة رجع إلى المصحف المشهور المتفق على نقله و نسخه، فعلم أن الذي فيه هو الحق» «1».
و ليس اشتراط الرسم لأنه توقيفي و النبي صلّى اللّه عليه و سلم قد علمه بنفسه؛ إذ هو أمي فكيف يفعل ذلك؟... بل المراد هو الضبط للمنقول المتلقى و هو ما كان يؤكد عليه ابن حزم- رحمه اللّه تعالى- معتبرا كل ما ورد من قراءة خلاف المتلقى فهو تفسير أو نحو ذلك أو كذب «2».
كما أنه ليس المراد من اشتراط موافقة خط المصحف أن يكون المصحف إماما في القراءة:
بل هو تابع في القراءة للمشافهة لزيادة الضبط و محاصرة المشافهة، و لدرء ادعاء الزيادة عليه أو النقصان منه على ما هو مفهوم ذاتي لمعنى (قران)، و لأنه تابع للمشافهة فإنه لا يتابع إجماعا من الناحية الصوتية في عدد من الكلمات التي رسمت خلاف النطق نحو السموات، الربا، الحياة.
__________________________________________________
(1) الأحكام لابن حزم (4/ 552)، مرجع سابق، و انظر نحو هذا التقرير: ابن العربي (2/ 332) عند تفسير اية براءة، مرجع سابق.
(2) انظر: الأحكام لابن حزم (4/ 556)، مرجع سابق.(1/418)
و كانت المصاحف قد انتشرت بينهم:
فعن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأه «1»، و بذا صار لمعظم الصحابة مصاحفهم الشخصية التي تنسب إليهم نسبة تملك.
المصاحف الشخصية المنسوبة للصحابة رضي اللّه عنهم:
«و هناك مصاحف أخرى منسوبة إلى مجموعة من الصحابة ذكرها السجستاني في المصاحف نذكر منهم: عبد اللّه بن عباس- عمر بن الخطاب- حفصة بنت عمر عائشة بنت أبي بكر- أم سلمة- عبد اللّه ابن عمرو- عبد اللّه بن الزبير «2».
و الحقيقة أن هذه المصاحف ليست إلا مصحفا شخصيا ينسب إلى الصحابي نسبة تملك، و قد تكون أجزاء من القران الكريم كتبها كل واحد منهم بناء على ما سمع من الرسول صلى اللّه عليه و سلم عليه السلام، و أطلق عليها اسم المصاحف مجازا لأن جمع المصحف لم يكن لأحد من الصحابة قبل أبي بكر و إلا لما تكلف عناء جمعه على المنهج الصارم في عهد أبي بكر «3»، و كل هذه المصاحف ما اكتمل إلا بعد جمع أبي بكر رضي اللّه عنه للقران في مكان واحد.
و أما ما يعزى إليها من قراات مخالفة للقراات العامة المتناقلة، أو من ترتيب مخالف فعليه الملحوظات التالية:
1- الشك الكبير في صحة الروايات الواردة فيها؛ فإن الروايات الواردة اتية إما مما أسنده ابن أبي داود في كتاب المصاحف و معظمها منقطع أو معضل «4»، أو
__________________________________________________
(1) الطبري (7/ 257)، مرجع سابق.
(2) انظر المصاحف (1/ 400)، مرجع سابق، و انظر: معجم القراات القرانية (1/ 29)، مرجع سابق.
(3) و انظر: معجم القراات القرانية (1/ 29)، مرجع سابق.
(4) انظر: كتاب المصاحف 1/ 246 و ما بعدها.(1/419)
تكون استنباطا، أو مما رواه الفضل بن شاذان في كتاب الفهرست و أمثاله يقول:
أخبرنا الثقة من أصحابنا «1» و هذا سند منقطع لقرون... و الشك في بقاء هذه المصاحف التي رتبت ترتيبا اخر كبير بعد أن أمر عثمان بإحراق المصاحف و كان أشهر من وافقه علي ابن أبي طالب رضي اللّه عنه، و قد لوحظ أن أكثر الروايات التي تذكر مخالفة مصحف ابن مسعود رضي اللّه عنه للمصحف الإمام تعود للشيعة... و هذا فيه ما هو ظاهر.
2- بحث ظاهرة تعدد المصاحف يتم من وجهين: من حيث ثبوت نسبتها ثم ما نسب إليها من قراات، فقد تعامل معها كثرة من الباحثين على أنها حقائق مسلمة، و ذلك يفتقر إلى الإسناد الصحيح، و لا يعني ذلك أن الباحث يميل إلى نفي ما ورد بالكلية بل المراد أن ما أسند و ما لم يسند مما نقل يطرأ عليه الشك في عينه لا في أصله، و لذا فتعامل كثرة من الباحثين على أن ما نقل كله صحيح فيه نظر كبير إن لم يرجح نفيه، و مما يؤلم أن يجعل بعض من الباحثين جميع ما ورد في كتب التفسير و القراات قراات صحيحة- تأثرا بمنهج المستشرقين في قبول كل ما نقل-؟ «2» و لا يعني هذا نفي وجودها بالكلية... و قد قال الجصاص- رحمه اللّه تعالى- مبينا خطورة القول بما يشاع من القراءة بما ينسب إلى مصحف عبد اللّه:
«و في القول بهذا المصحف خروج عن الملة، و يكون معنى قولهم أنه في حرف عبد اللّه أن ذلك كان من القران في حرف عبد اللّه ثم نسخت التلاوة و بقي الحكم، لأنه
__________________________________________________
(1) الفهرست (1/ 41)، مرجع سابق.
(2) انظر مقدمة كتاب (معجم القراات القرانية) الصفحة (ز) فقد أشارا الكاتبان إلى الحاجة لإعداد معجم قرائي يضم بين دفتيه كل ما صحت به القراءة عن الرسول صلّى اللّه عليه و سلم، و أن هذا هو ما فعلاه فلا يدرى أي معيار للصحة اعتمداه... على أن على منهج المعجم ملاحظات كثيرة يبدو أن عدم تخصص الجامعين أو عدم إلمامهما بالقراات سندا متلقى سبب لذلك مع أن الجهد المبذول جهد هائل مشكور.(1/420)
لو كان المراد أنه ثابت في حرف عبد اللّه بعد وفاة الرسول عليه السلام لما جاز أن يكون نقله إلينا إلا من الوجه الذي نقل إلينا منه سائر القران، و هو التواتر و الاستفاضة حتى لا يشك أحد في كونه منه» «1».
3- و قد أكثر صاحب كتاب المباني من نقل الردود على من يقر بوجود هذه المصاحف المخالفة في الترتيب لمصحف العامة، حتى نقل عن المصحف المنسوب لأبي قوله: «ليس يعرف لأبي مصحف يخالف هذا المصحف إلا ما ينسب بخبر الواحد دون الجمع الذي يلزم اليقين و إنما كانت قراءته هذه القراءة التي عليها العامة»... إلى أن يقول: «و قد ذكر بعض مشايخنا رحمهم اللّه أنه رأى مصحفا منسوبا إلى أبي خالف ببعض حروفه حروف هذا المصحف، لكنا لا نأمن أن يكون من جهة بعض من يحب الافتخار بالغريب، فإن هذه بلية قد أضرت بالدين، و أخلت بمصالح المسلمين» «2».
المطلب الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم ترتيب ايات القران الكريم و سوره:
أولا: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم ترتيب ايات القران الكريم
و هذه مسألة بدهية، و لذا كان الصحابة رضي اللّه عنهم يميزون أرقام الايات و أماكنها دون أن يختلف فيهم اثنان في تحديد المكان، حتى قال السيوطي- رحمه اللّه تعالى-:
«الإجماع و النصوص المترادفة على أن ترتيب الايات توقيفي لا شبهة في ذلك» أي
__________________________________________________
(1) (الرازي) أحمد بن علي الرازي الجصاص ت 370 ه الفصول في الأصول (2/ 252)، تحقيق: د. عجيل جاسم النشمي، وزارة الأوقاف و الشئون الإسلامية، الكويت، ط 1، 1405 ه.
(
2) (ابن عطية) عبد الحق بن غالب بن عبد الملك بن عطية أبو محمد الغرناطي ت 546 ه: مقدمتان في علوم القران (و هما مقدمة كتاب المباني، و مقدمة ابن عطية ص 47- 48، نشرهما المستشرق الدكتور ارثر جفري- و وقف على تصحيح الطبعة الثانية: عبد اللّه إسماعيل الصاوي- مكتبة الناجي بالقاهرة، و انظر: معجم القراات القرانية ص 38.(1/421)
بتعليم النبي صلى اللّه عليه و سلم «1» و قال مكي- رحمه اللّه تعالى-: «ترتيب الايات في السور بأمر من النبي صلى اللّه عليه و سلم و لما لم يأمر بذلك في أول براءة تركت بلا بسملة» «2»، و قال القاضي أبو بكر في الانتصار: «ترتيب الايات أمر واجب، و حكم لازم فقد كان جبريل عليه السّلام يقول ضعوا اية كذا في موضع كذا» «3».
و من ذلك قول النبي صلّى اللّه عليه و سلم: أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الاية هذا الموضع من هذه السورة إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى إلى اخرها «4»، و عن ابن الزبير رضي اللّه عنهما قال: قلت لعثمان وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً قد نسختها الاية الاخرى فلم تكتبها أو تدعها قال يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه «5»، و عن عمر رضي اللّه عنه قال: ما سألت النبي صلّى اللّه عليه و سلم عن شي ء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بإصبعه في صدري و قال: تكفيك اية الصيف التي في اخر سورة النساء «6»، و ما تقدم في حفظ عشر ايات من سورة الكهف أولا أو اخرا، و من ذلك النصوص الدالة على ذلك إجمالا ما ثبت من قراءته لسور عديدة و تحيد الصحابة لها بعدد الايات، و من أشهر ما يدل على ذلك نزول القران خمسا خمسا، «و تدل قراءته لها بمشهد من الصحابة أن ترتيب اياتها توقيفي و ما كان الصحابة ليرتبوا ترتيبا سمعوا النبي صلّى اللّه عليه و سلم يقرأ على خلافه فبلغ ذلك مبلغ التواتر» «7».
__________________________________________________
(1) الإتقان (1/ 167).
(2) الإتقان (1/ 168).
(3) بواسطة الإتقان (1/ 168).
(4) أحمد (4/ 218)، مرجع سابق، و حسّن إسناده الهيثمي في المجمع (7/ 49)، و السيوطي في الإتقان (1/ 168)، مرجعان سابقان.
(5) البخاري (4/ 1646)، مرجع سابق.
(6) مسلم (1/ 396)، ابن حبان (5/ 444)، مرجعان سابقان.
(7) الإتقان (1/ 169)، مرجع سابق.(1/422)
ملحظ منهجي:
و ها هنا ملحظ ضروري أن الباحث اضطر إلى ذكر ذلك اضطرارا تبعا لبعض العلماء الذين يذكرونها، ولكن الظاهر أن منهج قراءة القران الكريم ليس بحاجة إلى الاستدلال بهذه النصوص المتوافرة؛ و إن كان يستأنس بها؛ فالدليل الكلي لإثبات هذه حقيقة التوقيفية النبوية التعليمية لترتيب ايات القران الكريم و التلقي أمما عن أمم، و شعوبا عن شعوب و هو ما يسمى بالتواتر القراني، و حال تثبيت هذا الاحتياج لهذه الأدلة فإنا سنحتاج إلى أن نثبت بالمنهج الحديثي أن ايات سورة البقرة هي الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ..... (البقرة: 1- 286) و ذلك ما لا يقوله أحد، و ذلك ما أكده الباقلاني في الانتصار حيث قال: «الذي نذهب إليه أن جميع القران الذي أنزله اللّه و أمر بإثبات رسمه و لم ينسخه و لا رفع تلاوته بعد نزوله هو هذا الذي بين الدفتين الذي حواه مصحف عثمان، و أنه لم ينقص منه شي ء و لا زيد فيه، و إن الأمة ضبطت عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم ترتيب اي كل سورة و مواضعها و عرفت مواقعها كما ضبطت عنه نفس القراات و ذات التلاوة» «1».
ثانيا: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم ترتيب سور القران:
الصحيح أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم هو الذي علم الصحابة رضي اللّه عنهم ترتيبها:
خلافا لما ذهب إليه بعض أهل العلم «2» من أن ترتيب السور اجتهادي، و يدل على ذلك:
1- النزول الجملي للقران الكريم إلى السماء الدنيا يقتضي ترتيب سوره:
فقد ذكر «أبو بكر الأنباري في كتاب الرد: أن اللّه تعالى أنزل القران جملة إلى سماء
__________________________________________________
(1) انظر: الإتقان (1/ 169)، فتح الباري (9/ 40).
(2) انظر: الإتقان (1/ 170)، مرجع سابق.(1/423)
الدنيا ثم فرق على النبي صلّى اللّه عليه و سلم في عشرين سنة و كانت السورة تنزل في أمر يحدث و الاية جوابا لمستخبر يسأل، و يوقف جبريل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم على موضع السورة و الاية، فاتساق السور كاتساق الايات و الحروف فكله عن محمد خاتم النبيين عليه السلام عن رب العالمين فمن أخر سورة مقدمة أو قدم أخرى مؤخرة فهو كمن أفسد نظم الايات و غير الحروف و الكلمات» «1»، و قال الكرماني: «ترتيب السور هكذا هو عند اللّه في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب و عليه كان يعرض على جبريل عليه السّلام كل سنة ما كان يجتمع عنده منه و عرضه عليه في السنة التي توفي فيها مرتين» «2»، و في ذلك قيل:
و ليس ترتيب النزول كالأدا فهو و في الأدا الترتيب بالوحي اقتدى
كما هو عليه مستطر و ذاك في في لوحه المحفوظ نعم المستطر
السور في القول الأحق و الحق في الاي عليه متفق «3»
2- قال اللّه جل جلاله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ
(القيامة: 17) فهذه «الاية تبين ضرورة أن جميع القران كما هو من ترتيب حروفه و كلماته و آياته و سوره حتى جمع كما هو فإنه من فعل اللّه عز و جل و توليه جمعه أوحى به إلى نبيه عليه السلام و بينه عليه السلام للناس» «4».
3- الأحاديث التي تدل على الترتيب نحو:
ما جاء عن عائشة أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: «من أخذ السّبع الأول، (و في لفظ الطول) من القران فهو حبر» «5»..
و هذا حديث دال أصرح الدلالة على أن ترتيب سور القران توقيفي محض.
__________________________________________________
(1) الإتقان (1/ 171)، مرجع سابق.
(
2) البرهان في متشابه القران ص 115 للكرماني.
(3) تاريخ القران و غرائب رسمه و حكمه ص 75.
(4) الأحكام لابن حزم (4/ 551).
(5) أحمد (6/ 72)، مرجع سابق، و كذلك رواه البيهقي في السنن الصغرى (1/ 550)، مرجع سابق.(1/424)
4- ضرورة المناسبة في الترتيب القائم:
فلا يظهر أن اجتهاد الأصحاب رضي اللّه عنهم قد فكّ هذه المناسبة؛ إذ المتبادر حال الاجتهاد أن يكون مقياسه وضع المدني بجوار المدني و ليس الواقع كذلك، أو وضع السور بحسب ترتيب النزول، و ليس الواقع كذلك أيضا، أو وضع السور بحسب الأحكام الفقهية أو القصص القراني المتشاكل و ليس كذلك أيضا، أو وضع السور بحسب الطول و القصر في أرقام الايات أو في مقدارها و ليس كذلك فإن فهذا ما يمكن خطوره على الاجتهاد البشري... فلم يبق إلا المناسبة الملتمسة من هذا التشاكل غير الظاهر للبشر إلا بتأمل دقيق، و قد دون كبار العلماء الدواوين للمناسبة و اعتبروها من وجوه الإعجاز القراني.
5- لا حجة في اختلاف مصاحف الصحابة في ترتيب السور:
لأنه- حال وجود هذه المصاحف- قريب من اختلافهم في العدد أو القراات من حيث هو اختلاف قد سوغه عدم اكتمال القران إلا بوفاة النبي صلّى اللّه عليه و سلم بل عدم اكتمال السورة إلا بعد طول مدة أحيانا على ما هو معلوم ضرورة، و لم يلزم الناس القراءة يومئذ بتوالي السور، و ذلك أن الواحد منهم إذا حفظ سورة أو كتبها ثم خرج في سرية فنزلت سورة أخرى فإنه كان إذا رجع يأخذ في حفظ ما ينزل بعد رجوعه و كتابته، و يتابع ما فاته على حسب ما تسهل له أكثره أو قله، فمن ثم يقع فيما يكتبه تأخير المقدم و تقديم المؤخر «1»، ثم للشك في ترتيب المنقول عن هذه المصاحف.
و بعد سوق ما يظهر من الأدلة و معرفة دلائلها فما زال المرء حائرا في كيفية قبول الرأي القائل بأن التأليف لسور القران كان اجتهادا: إذ كيف يعقل ذلك مع
__________________________________________________
(1) تاريخ اداب العرب ص 41، مرجع سابق.(1/425)
أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قسم المصاحف إلى سبعة أقسام متساوية تقريبا بحيث يحوي كل قسم سورا معينة ثم يقال بأن هذا الترتيب حادث بعده صلّى اللّه عليه و سلم فعن أوس بن حذيفة رضي اللّه عنه قال: قدمنا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم وفد ثقيف قال فأنزلنا في قبة له، و نزل إخواننا الأحلاف على مغيرة بن شعبة- قال- كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يأتينا بعد العشاء فيحدثنا و كان أكثر حديثه يشكي قريشا و يقول: «و لا سواء كنا بمكة إلا مستضعفين مستذلين فلما أتينا المدينة كانت الحرب سجالا علينا و لنا» قال:
فأبطأ علينا ذات ليلة فأطول فقلنا: يا رسول اللّه! أبطأت علينا فقال: «إنه طرأ علي حزب من القران فكرهت أن أخرج حتى أقضيه» فسألنا أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كيف كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يحزّب القران فقالوا: كان يحزبه ثلاثا و خمسا و سبعا و تسعا و إحدى عشرة و ثلاث عشرة و حزب المفصل «1»، و ذلك لا يمكن أن يكون بالتعادل إلا أن يكون على وفق التأليف الحالي للمصحف، «فعلم من هذا أن في عصر الصحابة كان ترتيب القران مشهورا على هذا النمط المعروف الان» «2»، و قال ابن حجر: «فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الان كان في عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلم» «3»، و سئل ربيعة: لم قدمت البقرة و ال عمران و قد نزل قبلهما بضع و ثمانون سورة و إنما نزلتا بالمدينة؟ فقال ربيعة: قد قدمتا و ألف القران على علم ممن ألفه و قد اجتمعوا على هذا بذلك فهذا مما ننتهي إليه و لا نسأل عنه، و قال مالك: إنما ألف القران على ما كانوا يسمعونه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم» «4».
__________________________________________________
(
1) ابن أبي شيبة (2/ 242)، و قال العراقي في المغني (2/ 276)، مرجع سابق: «و إسناده حسن».
(2) عون المعبود (4/ 190)، مرجع سابق.
(3) فتح الباري (9/ 43)، مرجع سابق.
(4) القرطبي (1/ 60)، مرجع سابق.(1/426)
و أما ما رواه حذيفة رضي اللّه عنه في تقديم النساء على ال عمران في صلاة الليل فأي حجة فيه، و ترتيب السور في التلاوة غير ملتزم لأنه لا يفسد نظم القران كما سبق، على أن هذه الرواية قد ورد ما يخالفها فقد قال حذيفة رضي اللّه عنه فيما رواه أبو داود:... فقرأ فيهن البقرة و ال عمران و النساء و المائدة أو الأنعام «1».
و قال ابن حزم تأكيدا على ذلك: «ما رويناه بالأسانيد الصحيحة أنه صلّى اللّه عليه و سلم كان لا يعرف فصل سورة حتى تنزل بسم اللّه الرحمن الرحيم و أنه صلّى اللّه عليه و سلم كانت تنزل عليه الاية فيرتبها في مكانها... فصح بهذا أن رتبة الاي و رتبة السور مأخوذة عن اللّه عز و جل إلى جبريل ثم إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلم لا كما يظنه أهل الجهل أنه ألف بعد موت النبي صلّى اللّه عليه و سلم و لو كان ذلك ما كان القران منقولا نقل الكافة، و لا خلاف بين المسلمين و اليهود و النصارى و المجوس أنه منقول عن محمد صلّى اللّه عليه و سلم نقل التواتر، و يبين هذا أيضًا ما صح أنه صلّى اللّه عليه و سلم كان يعرض القران كل ليلة في رمضان على جبريل فصح بهذا أنه كان مؤلفا كما هو عهد الرسول صلّى اللّه عليه و سلم و قوله صلّى اللّه عليه و سلم:
«تركت فيكم الثقلين كتاب اللّه و أهل بيتي»،... و أمر صلّى اللّه عليه و سلم عبد اللّه بن عمرو بقراءة القران في أيام لا تكون أقل من ثلاث فكيف يقرأ و يجمع و هو غير مؤلف؟
هذا محال لا يمكن البتة» «2».
و لعل السبب في هذا الخلاف يعود إلى أمرين:
أولهما:
طغيان المنهج الحديثي في معالجة القضايا المتعلقة بعلوم القران الكريم، و لا شك أن هناك نقاط التقاء كثيرة بين المنهجين الحديثي و القرائي، ولكن لا ريب أيضًا أن هناك نقاط افتراق أصلية.
__________________________________________________
(1) أبو داود (1/ 231)، مرجع سابق.
(2) الإحكام لابن حزم (6/ 265)، مرجع سابق.(1/427)
و ثانيهما:
أن التزام ترتيب الايات في السور واجب ضروري، و السبب واضح غير منتبه إليه هو: اختلال نظم السورة المكونة من ايات بغير ذلك، بخلاف ترتيب سور القران فإن التزام ترتيبها حفظا أو تلاوة غير واجب شرعا و واقعا و السبب واضح غير منتبه إليه هو عدم اختلال نظم القران المكون من سور بذلك.
الخلاف لفظي:
لم يتصور الباحث وقوع خلاف في تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلم لهم هذا الموضوع، و أنه توقيفي إلا أن الزركشي- رحمه اللّه تعالى- أحكم الأمر حين قال: «و الخلاف بين الفريقين لفظي لأن القائل بالثاني يقول إنه رمز إليهم بذلك ليعلمهم بأسباب نزوله و مواقع كلماته و لهذا قال مالك: إنما ألفوا القران على ما كانوا يسمعونه من النبي صلّى اللّه عليه و سلم مع قوله بأن ترتيب السور باجتهاد منهم فال الخلاف إلى أنه هل هو بتوقيف قولي أو بمجرد استناد فعلي» «1».
لا حرج في التنكيس:
و الظاهر من تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلم ألا حرج في التنكيس إذا كان يتعلق بالسور بأن يبدأ القارئ بسورة متأخرة في ترتيب المصحف، فإن الغالب أن يبدأ الناس بحفظ المفصل، و أما ما ورد عن ابن مسعود أنه قيل له إن فلانا يقرأ القران منكوسا قال: ذلك منكوس القلب «2»، فمحمول على تنكيس الايات لا السور خلافا لأبي عبيد «3».
__________________________________________________
(1) البرهان (1/ 157)، مرجع سابق.
(
2) شعب الإيمان (2/ 433)، مرجع سابق، و قال في مجمع الزوائد (7/ 166)، مرجع سابق: «رواه الطبراني و رجاله ثقات».
(3) انظر كلامه في: شعب الإيمان (2/ 433)، مرجع سابق.(1/428)
و أما ما ورد عن الحسن و ابن سيرين أهما كانا يقران القران من أوله إلى اخره و يكرهان الأوراد، و قال ابن سيرين: تأليف اللّه خير من تأليفكم، و تأويل الأوراد أنهم كانوا أحدثوا أن يجعلوا القران أجزاء كل جزء منها فيه سورة مختلفة من القران على غير التأليف ولكن جعلوا السورة الطويلة مع أخرى دونها من الطوال ثم كذلك حتى يختموا الجزء «1»، فوجه الكراهة فيه ظاهر من حيث مخالفته لترتيب سور القران الكريم مع إرادة ختمه... إذ الأصل التزامه حال التلاوة مع إرادة الختم بخلاف مقام التعليم.
المطلب الثالث: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم تحزيب القران:
المراد بالحزب:
المراد بالحزب هنا هو ما يجعله الرجل على نفسه من قراءة «2»، فهو الطائفة من السور أو من الايات التي يلزم الرجل قراءتها أو حفظها، و (الأحزاب) مأخوذة من قولهم: حزب فلان أي جماعته، لأن الحزب طائفة من القران «3»، و قد يقال له الجزء لأن القران يجزأ إليه أي يقسم، و قد يقال له الورد، و الورد: «النّوبة في ورود الماء» «4» لأن القران يروي ظمأ القلوب «5».
كيف علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم ذلك:
و قد علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم أن يقسموا القران إلى أحزاب أو أجزاء أو أوراد ليكون أنشط لهم على التلاوة أو الاستذكار أو المراجعة و التعاهد، فعن أوس بن حذيفة
__________________________________________________
(1) شعب الإيمان (2/ 433)، مرجع سابق.
(2) عون المعبود (4/ 190)، مرجع سابق.
(3) جمال القراء و كمال الإقراء (1/ 124)، مرجع سابق.
(4) النهاية في غريب الحديث (1/ 376)، مرجع سابق.
(5) جمال القراء و كمال الإقراء (1/ 124)، مرجع سابق.(1/429)
رضي اللّه عنه قال: قدمنا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم وفد ثقيف- إلى أن قال: فأبطأ علينا- أي الرسول صلّى اللّه عليه و سلم- ذات ليلة فأطال فقلنا: يا رسول اللّه! أبطأت علينا. فقال: «إنه طرأ علي حزب من القران فكرهت أن أخرج حتى أقضيه» فسألنا أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كيف كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يحزب القران؟ فقالوا: كان يحزبه ثلاثا و خمسا و سبعا و تسعا و إحدى عشرة و ثلاث عشرة و حزب المفصل «1» و في رواية للطبراني فيما ذكر العراقي: «فسألنا أصحاب رسول اللّه كيف كان رسول اللّه يجزئ القران؟
فقالوا: كان يجزئه ثلاثا فذكره مرفوعا». ففي هذه الرواية أضيف التحزيب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و في رواية ابن ماجة: قال أوس: فسألت أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: كيف تحزبون القران؟ «2»، فأضاف التحزيب إليهم، لا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم «3» و هذا يدل على أنهم قد اكتسبوا التحزيب من النبي صلّى اللّه عليه و سلم تعلما.
و علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم أن يحددوا للحزب القراني وقتا دائما:
فإن ذهب وقت الحزب فينبغي أن يؤديه المرء مهما كانت شواغله، كما في قوله صلّى اللّه عليه و سلم: «إنه طرأ علي حزب من القران فكرهت أن أخرج حتى أقضيه»، و معنى طرأ كما قال الخطابي: يريد كأنه أغفله عن وقته ثم ذكره فقرأه «4»، و قيل معناه: ورد و أقبل يقال طرأ يطرأ مهموزا إذا جاء مفاجأة كأنه فجأة الوقت الذي كان يؤدي فيه ورده من القراءة.
__________________________________________________
(1) ابن أبي شيبة (2/ 242)، و رواه الطبراني في الكبير (1/ 220)، مرجعان سابقان، و قال العراقي في المغني (2/ 276)، مرجع سابق: «و إسناده حسن»، و كذا حسنه ابن كثير في فضائل القران (4/ 519) (ملحق بالتفسير).
(
2) ابن ماجه (1/ 427)، و أحمد (4/ 9 و 4/ 343)، و الاحاد و المثاني (3/ 218)، مراجع سابقة.
(3) و انظر: شرح مشكل الاثار (4/ 401)، مرجع سابق.
(4) عون المعبود (4/ 190)، مرجع سابق.(1/430)
طريقة النبي صلّى اللّه عليه و سلم في التحزيب:
ظهر من الرواية السابقة أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم يقسم القران إلى سبعة أحزاب، و كل حزب مذكور إنما هو منزل واحد من سبع منازل.
و أما ما اصطلح عليه المتأخرون من تقسيم القران إلى ثلاثين حزبا و سموها أجزاء، «فإن أول ما جزئ القران بالحروف تجزئة ثمانية و عشرين و ثلاثين و ستين هذه التي تكون رؤوس الأجزاء و الأحزاب في أثناء السورة و أثناء القصة، و نحو ذلك كان في زمن الحجاج و ما بعده، و روى أن الحجاج أمر بذلك و من العراق فشا ذلك، و لم يكن أهل المدينة يعرفون ذلك» «1»، «و اشتهرت الأجزاء من ثلاثين كما في الربعات بالمدارس و غيرها» «2».
و لأن هذا التحزيب حادث فإن المرء ليأمل أن تعيد مجمعات مطابع المصاحف النظر في هذا و أن يشار مع هذا إلى ما يدل على تقسيم القران أسباعا و يبين أنه طريقة النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و هو يكون ما بين أربعة إلى خمسة أجزاء بالاصطلاح الحادث، و من فوائده العظيمة غير موافقة النبي صلّى اللّه عليه و سلم و الصحابة رضي اللّه عنهم في تحزيبهم، أن يكون التحزيب بالسور فهو الهدي الأكمل.
و حديث أوس «يوافق معنى حديث عبد اللّه بن عمرو رضي اللّه عنهما في أن المسنون كان عندهم قراءته في سبع و لهذا جعلوه سبعة أحزاب و لم يجعلوه ثلاثة و لا خمسة و فيه أنهم حزبوه بالسور و هذا معلوم بالتواتر...» «3».
__________________________________________________
(1) ابن تيمية (13/ 409)، مرجع سابق.
(2) ابن كثير (1/ 8)، مرجع سابق.
(3) ابن كثير (1/ 8)، مرجع سابق.(1/431)
و كان ثم تقسيم رباعي للقران الكريم:
و ذلك من الناحية النظرية لا من حيث التلاوة، ولكنه منسجم مع هذا التقسيم السباعي، و يدل على توقيفية ترتيب السور فقد قال صلّى اللّه عليه و سلم: «أعطيت مكان التوراة السبع، و أعطيت مكان الزبور المئين، و أعطيت مكان الإنجيل المثاني، و فضلت بالمفصل» «1».
و ذكر النبي صلّى اللّه عليه و سلم لهم هذه الأقسام مفردة فعن عائشة- رضي اللّه تعالى عنها- عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: «من أخذ السبع الطول فهو خير» «2» يعني بذلك السبع الطوال من القران «3». و اصطلح بعض الصحابة رضي اللّه عنهم على تسمية ما زاد عن الثلاثين بالمئين تقريبا كما جاء عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال: أقرأني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم سورة من المئين من ال حم الأحقاف و كانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين اية سميت المئين... الحديث «4».
و الثاني هي:
السور التي تقصر عن المئين و تزيد على المفصل كأن المئين جعلت مبادئ و التي تليها مثاني، و هي إلى براءة و هي من المئين أي ذوات مائة اية، قال في المجمع أول القران السبع الطول ثم ذوات المئين أي ذوات مائة اية ثم المثاني ثم المفصل انتهى، و المئين جمع «5».
__________________________________________________
(1) شرح مشكل الاثار (4/ 408) و قال المحقق: إسناده حسن.
(2) سعيد بن منصور في سننه (2/ 266). انظر: صحيح الجامع الصغير و زيادته (2/ 1036) برقم 5979، و انظر تخريجه في: لمحات الأنوار رقم 719، مرجع سابق.
(3) شرح مشكل الاثار (4/ 408)، مرجع سابق، و قال المحقق: «إسناده حسن».
(4) معجم الشيوخ ص 162، مرجع سابق.
(5) تحفة الأحوذي (8/ 380)، مرجع سابق.(1/432)
و كما كان التقسيم السباعي قائما على عدد معين من السور؛ فإن التقسيم الرباعي كذلك أيضًا... فليس في التقسيمين اعتماد على قدر الايات كما هو الحال في التحزيب و التجزئ الحادث.
و كانت سور كل قسم من الأقسام الأربعة واضحة عند الصحابة رضي اللّه عنهم:
فعن أبي وائل قال: غدونا على عبد اللّه فقال رجل: قرأت المفصل البارحة فقال: هذا كهذ الشعر إنا قد سمعنا القراءة و إني لأحفظ القرناء التي كان يقرأ بهن النبي صلى اللّه عليه و سلم ثماني عشرة سورة من المفصل و سورتين من ال حم «1»، فقوله في ثماني عشرة سورة دليل على معرفة سور المفصل و عددهن، و كذلك فيه دليل على أنه صلّى اللّه عليه و سلم علمهم أن «المفصل ما بعد ال حم» «2».
و كان المفصل أول ما نزل من القران:
فقد قال ابن مسعود رضي اللّه عنه: أنزل اللّه عز و جل على رسوله صلّى اللّه عليه و سلم المفصل بمكة، فكنا حججا نقرؤه لا ينزل غيره «3».
و اختلفوا في أول المفصل:
فقيل من «القتال و قيل من الحجرات و قيل من ق» «4»، و رجح الطحاوي رحمه اللّه تعالى- أن الحجرات ليست من المفصل «5».
__________________________________________________
(1) البخاري (4/ 1924)، مسلم (1/ 564)، ابن حبان (6/ 341)، مراجع سابقة.
(2) شرح النووي (6/ 107)، مرجع سابق.
(3) شرح مشكل الاثار (4/ 397)، مرجع سابق، و قال المحقق: «إسناده قوي».
(4) شرح النووي (6/ 107)، مرجع سابق.
(5) انظر: شرح مشكل الاثار (4/ 400)، مرجع سابق.(1/433)
و على كل حال فالمفصل هو «ما بعد ال حم سمي مفصلا لقصر سوره و قرب انفصال بعضهن من بعض» «1».
المطلب الرابع: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم عد الاي (علم الفواصل):
كل ما سبق من الأدلة بالإضافة إلى الدليل الأصلي الأساس و هو التلقي تدل على أن علم العدد علم توقيفي لا مدخل للاجتهاد فيه إلا بصورة طفيفة تسببت في تنوع عدد الايات مع الاتفاق الكامل على فحواها؛ فالراوي في الاثار السابقة صحابي تعلم من النبي صلّى اللّه عليه و سلم هذا القدر من الايات و هو ما يعني ضمنا تعلمه لموضع كل اية.
و كذلك فإن كثيرا مما سبق من الأحاديث التي تعين عددا معينا من الايات بالإضافة إلى التلقي تدل على أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم علمهم عدد الايات تفصيليا، و أشار صاحب الكشاف في تفسير أول البقرة إلى توقيفية علم العدد: «فإن قلت فما بالهم عدوا بعض هذه الفواتح اية دون بعض؟ قلت: هذا علم توقيفي لا مجال للقياس فيه كمعرفة السور...» «2».
و ما يقال عن علل هذا العدد يبقى مجرد استنباط كقولهم لم يعدوا الوتر لأنها حرف واحد، و لا طس لأنها خالفت أختيها بحذف الميم و لأنها تشبه المفرد...
و كلها مجرد علل استنباطية تشبه العلل التي يقول عنها أهل العلم: علة نحوي!.
و لشدة تعلمهم رضي اللّه عنهم كيفية عد الاي من النبي صلّى اللّه عليه و سلم صار ذلك بالنسبة لهم بديهية حتى بات مقايسا يقيسون به الأطوال الزمنية فعن عائشة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم
__________________________________________________
(1) شرح النووي (6/ 106)، الديباج على صحيح مسلم (2/ 415)، مرجعان سابقان.
(2) (الزمخشري) أبو القاسم جار اللّه محمود بن عمر الخوارزمي (467- ت 538 ه): الكشاف (1/ 7)، دار المعرفة، بيروت.(1/434)
كان يصلّي إحدى عشرة ركعة كانت تلك صلاته تعني باللّيل فيسجد السّجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين اية قبل أن يرفع رأسه و يركع ركعتين قبل صلاة الفجر ثمّ يضطجع على شقّه الأيمن حتّى يأتيه المؤذّن للصّلاة «1»، و عن أنس ابن مالك رضي اللّه عنه أنّ نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و زيد بن ثابت تسحّرا فلمّا فرغا من سحورهما قام نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إلى الصّلاة فصلّى قلنا لأنس كم كان بين فراغهما من سحورهما و دخولهما في الصّلاة قال قدر ما يقرأ الرّجل خمسين اية «2».
و هكذا كان التابعون يعلمون أصحابهم علم العدد فكان أبو عبد الرحمن يقرئ عشرين بالغداة، و عشرين بالعشي، و يعلمهم أين الخمس و العشر، و كان يقرئ خمسا خمسا «3».
و في حديث حذيفة في قيام الليل و أحاديث مقادير قراءته في الصلوات ما يدل على توقيفية هذا العلم حيث قال رضي اللّه عنه: صليت مع النبي صلّى اللّه عليه و سلم ليلة فافتتح البقرة فقرأ فقلت: يركع عند المائة فمضى، فقلت: يركع عند المائتين، فمضى فقلت:
يصلي بها في ركعة فمضى. فافتتح النساء فقرأها، ثم افتتح ال عمران فقرأها، يقرأ مترسلا إذا مر باية فيها تسبيح سبح، و إذا مر بسؤال سأل و إذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع... الحديث «4».
و كذلك ما ورد في عدد الاي التي يقرؤها النبي صلّى اللّه عليه و سلم في صلاته و ذلك كثير، فعن أبي برزة هو نضلة بن عبيد الأسلمي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان يقرأ في صلاة الغداة بالستين إلى المائة «5».
__________________________________________________
(1) البخاري (1338)، مرجع سابق.
(2) البخاري (1/ 210)، مرجع سابق.
(3) السبعة ص 69، مرجع سابق.
(4) مسلم (1/ 536)، أبو عوانة (1/ 460)، مرجعان سابقان.
(5) البخاري (1/ 201)، مسلم (1/ 447)، مرجعان سابقان.(1/435)
و قد كان الصحابة رضي اللّه عنهم يعقدون أصابعهم عدا للاي في صلواتهم كما قال الإمام الشاطبي- رحمه اللّه تعالى-:
همو بحروف الذكر مع كلماته و آياته أثروا بأعدادها الكثر
و هاموا بعقد الاي في صلواتهم لحض رسول اللّه في حظها المثري
فبين «مبلغ اهتمامهم بمعرفة أعداد حروف القران و كلماته و آياته- و أنهم بمعرفة ذلك كله صاروا ذوي ثروة علمية أكسبتهم شرفا و نبلا و ثروة واسعة في الأجر عند اللّه تعالى، فإن الحافز لهم على معرفة هذا إنما هو اهتمامهم بالقران من جميع نواحيه، و حرصهم على ألايسقط منه حرف أو تضيع منه كلمة بله الاية، و في معرفة عدد حروف القران معرفة قدر الأجر الموعود به على تلاوة القران، و حسبك بذلك حافزا على معرفة عدد حروف القران و كلماته، و إن كان في معرفة عدد الاي فوائد تزيد على معرفة عدد الحروف و الكلمات، و قد روى هذا العقد عن ابن عمر و ابن عباس و عائشة من الصحابة و عن عروة و عمر بن عبد العزيز و غيرهم من التابعين» «1».
و الجزء الوحيد من علم الفواصل الذي دخله الاجتهاد هو الذي نقل الاختلاف فيه بين علماء العدد.
و قرر أهل العلم قاعدة في أبواب المقادير، و أنها تعليمية فقالوا «المقادير لا تعرف إلا بالسماع» «2».
__________________________________________________
(1) عبد الفتاح القاضي: بشير اليسير شرح ناظمة الزهر في علم الفواصل ص 12 للإمام الشاطبي، طبعة 1397 ه/ 1977 م.
(2) حاشية ابن عابدين (1/ 541)، مرجع سابق.(1/436)
الفصل الخامس: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم القران الكريم على أحرفه المنزلة:
و يدور هذا الفصل حول الرخصة التي رخص اللّه عزّ و جلّ في قراءة القران الكريم على أحرفه المنزلة، توسعة من اللّه سبحانه و تعالى، و زيادة فضل، و اختصاصا بأمة النبي صلّى اللّه عليه و سلم، فتقرأ الأمة بما تيسر من ذلك، و يفصل المبحث الأول كيف علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم ذلك، كما يبين هذا الفصل أن القراءة على هذه الأحرف لا تخرج عن التلقي، و أنها توقيفية ترجع إلى تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلم ابتداء و ليست بالتشهي أو الهوى (و يفصل ذلك المبحث الثاني)، كما يحاول الفصل أن يميط اللثام عن أكبر حقائق نقل القران الكريم و هي التواتر القراني الذي يعبر عن نقل القران الكريم أمة عن أمة دون شائبة خلل (و يفصل ذلك المبحث الثالث)، و في الفصل بيان للحقائق التي تجلي بعض الاستشكالات التي أوردت على المنهجية الشرعية لتناقل القران الكريم.
و من ثم فمباحث هذا الفصل هي:
المبحث الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم قراءة القران بما تيسر من الأحرف السبعة.
المبحث الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم أن القراءة سنة يأخذها الاخر عن الأول.
المبحث الثالث: المنهجية الشرعية لتناقل القران الكريم (التواتر في نقل ألفاظ القران).(1/437)
المبحث الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم قراءة القران بما تيسر من الأحرف السبعة:
يناقش هذا المبحث القضايا الأساسية في الأحرف السبعة، من مشروعية القراءة على عدة أشكال لفظية، مع أن الشكل الواحد منها كاف شاف، و يبين من خلال ذلك العلاقة بين القران و القراات، و من أنه لا تناقض بينها جميعا في المعنى في اخر الأمر، و لذا انقسم هذا المبحث إلى المطالب الثلاثة التالية:
المطلب الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم مشروعية قراءة القران على سبعة أحرف.
المطلب الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم أن الحرف الواحد شاف كاف.
المطلب الثالث: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم عدم التناقض المعنوي بين هذه الأحرف.
المطلب الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم مشروعية قراءة القران على سبعة أحرف:
علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم أنه قرأ القران على جبريل عليه السّلام على سبعة أحرف:
فعن ابن عباس رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «أقرأني جبريل على حرف فلم أزل أستزيده حتى انتهى إلى سبعة أحرف» «1».
و بين النبي صلّى اللّه عليه و سلم كيف بدأ أمر مشروعية الإقراء على سبعة أحرف حيث جاء ملكان إليه فعن سليمان بن صرد رضي اللّه عنه قال: أتى محمدا صلّى اللّه عليه و سلم الملكان فقال أحدهما: اقرأ القران على حرف فقال الاخر زده فما زال يستزيده حتى قال اقرأ على سبعة أحرف «2».
__________________________________________________
(1) البخاري (3/ 1177)، مسلم (1/ 561)، مرجعان سابقان.
(2) الطبراني في الأوسط (2/ 39)، أحمد (5/ 124)، مرجعان سابقان، و هو في مجمع الزوائد (7/ 153)، مرجع سابق.(1/438)
شيوع تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلم لذلك بين الصحابة:
و قد انتشر ذلك بينهم و اشتهر حتى لم يحص من سمعه من النبي صلّى اللّه عليه و سلم فعن أبي المنهال سيار بن سلامة قال: بلغنا أن عثمان رضي اللّه عنه قال يوما- و هو على المنبر-: أذكر اللّه رجلا سمع النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: «أنزل القران على سبعة أحرف كلها شاف كاف» لما قام فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «أنزل القران على سبعة أحرف كلها شاف كاف» فقال عثمان رضي اللّه عنه:
و أنا أشهد معهم «1».
و هذا يدل على شدة احتفاء النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و حرصه على تعميم إخبارهم بهذا، و من أبرز حكم ذلك: ألا يظنوا بالقران الاختلاف في ألفاظه، أو يكفر بعضهم بعضا إذا اختلف التصويت بألفاظه بينهم، و هو ما وقع من بعض رعية عثمان حيث انتشر الإسلام دون تعليم مكافئ مقابل هذا التوسع الأفقي، فلجأ عثمان لإشاعة شرعية القراات المختلفة بتعميم المصاحف، و كان ذلك من أعظم مناقبه رضي اللّه عنه.
ثم ذاعت هذه الجزئية من التعليم القراني حتى صارت من العلم العام بينهم.
و لذا ذكر عدد من أهل العلم أن حديث الأحرف السبعة يعد من المتواتر الحديثي «2»، فقد بلغ «مبلغا عظيما من التواتر لم يتيسر وجودة الكثير من الأحاديث المتواترة. ألا ترى إلى قولة (قاموا حتى لم يحصوا)» «3».
__________________________________________________
(1) مسند الحارث (2/ 734)، مرجع سابق، و هو في مجمع الزوائد (7/ 152)، مرجع سابق.
(2) النشر (1/ 15)، و انظر: يوسف إبراهيم النور: مع المصاحف ص 25، مرجعان سابقان.
(3) النشر (1/ 15)، و انظر: يوسف إبراهيم النور: مع المصاحف ص 25، مرجعان سابقان.(1/439)
و كان النبي صلّى اللّه عليه و سلم قد علمهم ابتداء أن القران نزل على ثلاثة أحرف:
فعن سمرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «أنزل القران على سبعة أحرف و في رواية ثلاثة أحرف» «1»، و عنه رضي اللّه عنه قال: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: كان يأمرنا أن نقرأ القران كما أقرئناه، و قال: «إنه أنزل على ثلاثة أحرف فلا تختلفوا فيه فإنه مبارك كله فاقرؤوه كالذي أقرئتموه» «2».
و علمهم صلّى اللّه عليه و سلم أن المراد من إنزال القران على سبعة أحرف:
التخفيف و التيسير على الأمة فعن حذيفة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال:
«
لقيت جبريل عند أحجار المرى فقلت: يا جبريل إني أرسلت إلى أمة أمية الرجل و المرأة و الغلام و الجارية و الشيخ القاسي الذي لم يقرأ كتابا قط قال إن القران أنزل على سبعة أحرف» «3».
و هل علمهم صلّى اللّه عليه و سلم جمع القراات؟.
جمع القراات معناه أن تقرأ الاية و تعيد موضع الاختلاف فتقرأ جميع ما فيه من أوجه منزلة، إما بأن تعيد من أول الاية في كل وجه أو تعيد موضع الاختلاف فقط «4».
و يمكن استنباط أصل الجمع من حديث المدارسة فإن قوله في الحديث:
(يعرض القران على جبريل مرة..) «معناه يختمه ختمة واحدة، و يلزم منه أنه يقرأ في هذه الختمة سائر ما أنزل عليه قبلها، و يدخل فيه أحرف القران المختلفة، لأنه
__________________________________________________
(1) الحاكم (2/ 243)، الطبراني في الكبير (7/ 206)، مرجعان سابقان.
(2) الطبراني في الكبير (7/ 152)، مرجع سابق.
(3) المختارة (3/ 373)، الترمذي (5/ 194)، أحمد (5/ 400)، مراجع سابقة.
(4) انظر: النشر (2/ 100)، الطيبة ص 61، مرجعان سابقان.(1/440)
قران، فلا وجه لإخراجها من العرض»، كيف و المقصود هو استذكار النبي صلّى اللّه عليه و سلم لما أنزل عليه، و منه الأحرف المختلفة المنزلة.
و السؤال: كيف كان صلّى اللّه عليه و سلم يعرض الأوجه المختلفة في الموضع الواحد من مواضع الاختلاف عندما يمر به؟ و هو يختم ختمة واحدة فقط؟
بالجمع أي أنه يكرر ذلك الموضع بسائر ما فيه من أحرف، سواء كرر نفس الموضع و اكتفى بذلك، أو أعاد من أول الاية، كل ذلك محتمل و كله سائغ، و ليس في الخبر الثابت ما يبين لنا تفصيل ذلك، لكن يكفينا هذا القدر، فإنه دل على أن أصل (جمع القراات) ثابت من فعل النبي صلّى اللّه عليه و سلم «1».
و مثل ذلك عندما كان النبي صلّى اللّه عليه و سلم يقرئهم هذه الأحرف المختلفة كيف كان يصنع؟ هل كان يجمع ما في الاية من قراات في وقت واحد، أم كان يلتزم بالإفراد كما يقول بعض أهل العلم «2»، و قد قيل في سبب تخصيص أنس المذكورين في حديث الحفظ بالذكر أنهم جمعوا القران بأوجه القراات.
و من ثم فلا يوجد مانع شرعي من الأخذ به عند قراءة القران مطلقا، في الصلاة و خارج الصلاة، للقارئ أن يفعل ذلك شرط صحة النية، و سلامة القصد، و أمن المفسدة لأنه داخل في الرخصة الثابتة في عموم قوله صلّى اللّه عليه و سلم: «فاقرأوا منها ما تيسر» أي اقرأوا من هذه الحروف المنزلة ما تيسر لكم، فهذا مما تيسر، بل هو اليوم أيسر من الإفراد «3».
__________________________________________________
(1) انظر: سنن القراء ص 36، مرجع سابق.
(2) سنن القراء ص 36، مرجع سابق.
(3) سنن القراء ص 40، مرجع سابق.(1/441)
التلفيق بين القراات المتناقلة:
و لأن الكل من عند اللّه، فإن للقارئ أن يلفق بين القراات بشرط عدم تركيب قراءة جديدة لم يقرأ بها، و قد قرر ابن العربي- رحمه اللّه تعالى- أن للقارئ أن يقرأ القران بأي قراءة متناقلة، و لا «يلزم أن يعيّن المقروء به منها، فيقرأ بحرف أهل المدينة، و أهل الشّامّ، و أهل مكّة، و إنّما يلزمه ألا يخرج عنها، فإذا قرأ اية بحرف أهل المدينة، و قرأ الّتي بعدها بحرف أهل الشّام كان جائزا، و إنّما ضبط أهل كلّ بلد قراءتهم بناء على مصحفهم، و على ما نقلوه عن سلفهم، و الكلّ من عند اللّه» «1»، فإذا «ابتدأ بقراءة أحد القراء، فينبغي أن يستمر على القراءة بها ما دام مرتبطا، فإذا انقضى ارتباطه فله أن يقرأ بقراءة أحد من السبعة، و الأولى دوامه على الأولى في هذا المجلس» «2»، «و هذا معنى ما ذكره أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه»، و قال الأستاذ أبو إسحاق الجعبري: «و التركيب ممتنع في كلمة و في كلمتين إن تعلق أحدهما بالاخر و إلا كره» «3»، و بين ابن الجزري تفصيل الجواز، و التفريق بين مقام القراءة للقران مطلقا و مقام الرواية المقيدة فقال: «إن كانت إحدى القراءتين مترتبة على الاخرى فالمنع من ذلك منع تحريم كمن يقرأ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ (البقرة: 37) بالرفع فيهما أو بالنصب اخذا رفع ادم من قراءة غير ابن كثير و رفع كلمات من قراءة ابن كثير... بما لا تجيزه العربية و لا يصح في اللغة، و أما ما لم يكن كذلك فإنا نفرق فيه بين مقام الرواية و غيرها فإن قرأ بذلك على سبيل الرواية فإنه لا يجوز أيضًا من حيث إنه كذب في
__________________________________________________
(1) أحكام القران لابن العربي (4/ 358)، مرجع سابق.
(2) التبيان في اداب حملة القران للنووي ص 49، مرجع سابق.
(3) النشر في القراات العشر (1/ 18)، مرجع سابق.(1/442)
الرواية و تخليط على أهل الدراية، و إن لم يكن على سبيل النقل و الرواية بل على سبيل القراءة و التلاوة فإنه جائز صحيح مقبول لا منع منه و لا حظر و إن كنا نعيبه على أئمة القراات العارفين باختلاف الروايات من وجه تساوي العلماء بالعوام، لا من وجه أن ذلك مكروه أو حرام إذ كل من عند اللّه نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين... و قد روينا في المعجم الكبير للطبراني بسند الصحيح عن إبراهيم النخعي قال: قال عبد اللّه بن مسعود: «ليس الخطأ أن يقرأ بعضه في بعض، ولكن الخطأ أن يلحقوا به ما ليس منه» «1».
المطلب الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم أن الحرف الواحد شاف كاف:
علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم أن كل حرف من هذه السبعة يتحقق به القران، فالحرف الواحد منها شاف كاف، ف (شاف) أي يشفي من الريب، لا يقصر بعضه عن بعض في الفضل، و قوله (كاف) أي كاف في نفسه، غير محوج إلى غيره «2» فلا تفضيل بينها، و لا تمييز إلا بحسب الرغبة النفسية و الميل القلبي كما جاء عن قتادة قال: قال لي أبيّ بن كعب: اختلفت أنا و رجل من أصحابي في اية فترافعنا فيها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال: اقرأ يا أبي فقرأت ثم قال للاخر: اقرأ فقرأ فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم: «كلاكما محسن مجمل». فقلت: ما كلانا محسن مجمل. قال: فدفع النبي صلى اللّه عليه و سلم في صدري فقال لي: «إن القران أنزل علي فقيل لي على حرف أو على حرفين قلت بل على حرفين ثم قيل لي على حرفين أو ثلاث فقلت بل على ثلاثة حتى انتهى إلى سبعة أحرف كلها شاف كاف ما لم تخلط اية رحمة باية عذاب أو اية عذاب باية رحمة فإذا كانت عزيز حكيم فقلت سميع عليم فإن اللّه سميع
__________________________________________________
(1) النشر في القراات العشر (1/ 18)، مرجع سابق.
(2) المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز ص 110، مرجع سابق.(1/443)
عليم» «1»، و عن أبي سعيد رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «إن القران أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف» «2».
و ينبني على هذا الحقائق التالية:
تكييف العلاقة بين الأحرف السبعة و القران الكريم:
1- يتضح من هذه الروايات تكييف العلاقة بين الأحرف السبعة و القران الكريم: فيتحقق القران الكريم بواحد من هذه الأحرف، و لا يشترط للمرء أن يقرأها كلها حتى يختم القران بل يختم القران الكريم بواحد منها، و يوضح هذا أكثر ما جاء عن أم أيوب عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: «نزل القران على سبعة أحرف أيها قرأت أصبت» «3»، و ما جاء عن أبي بن كعب رضي اللّه عنه- و فيه-: «إن اللّه يأمرك أن تقرأ أمتك القران على سبعة أحرف فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا» «4».
و من ثم: فليس من مقتضيات حفظ القران حفظه بجميع الأحرف التي أنزل عليها، بل يكفي لحفظه، و المحافظة على ماهيته حفظه على حرف واحد، و هذا هو مبرر القائلين بذهاب هذه الأحرف ما عدا حرفا واحدا.
2- و على هذا ف «الأحرف السبعة ليست متفرقة في القران كلها و لا موجودة فيه في ختمة واحدة، فإذا قرأ القارئ برواية واحدة فإنما قرأ ببعض الأحرف السبعة لا بكلها» «5».
__________________________________________________
(1) الجامع لمعمر بن راشد (11/ 219)، مرجع سابق.
(2) الطبراني في الأوسط (6/ 142)، مرجع سابق، و عن معاذ نحوه عند الطبراني (20/ 150).
(3) ابن أبي شيبة (6/ 137).
(4) مسلم (1/ 562)، المسند المستخرج على صحيح مسلم (2/ 415)، مرجعان سابقان، و الأضاة المستنقع من مسيل ما غيره، و الأضنين جمع أضاة و أضا و هي الغدير.
(5) فتح الباري (9/ 28)، مرجع سابق.(1/444)
3- كل حرف مستغن عن الاخر، و لا يحتاج إليه، و لا يفتقر إليه، و إن كان بعضها قد يزيد في إيضاح بعض، فعلى قول من يقول باندثارها ما عدا حرفا واحدا فلا ضير على القران الكريم، فالختمة الواحدة الكاملة للقران الكريم تتحقق برواية قرائية واحدة، و لا يحتاج إلى جمع القراات جميعا لإتمام ختمة قران، كما لا يحتاج إلى جمع الأحرف السبعة.
و بناء على هذا تستبين العلاقة أيضًا بين القران و القراات:
فالقراءة من حيث إطلاقها على مجموع المقروء محلا و لفظا و وضعا هو القران، أما القراءة من حيث إطلاقها على الموضع المختلف فيه فهي قراءة و هي وجه من أوجه القران المقروء فتؤول إلى القران فهو الأصل و هي أحد أوجهه فالعلاقة التغاير الذي محصلته الاتحاد في أصلية القران إذ القراءة منبثقة عنه، و الافتراق في أن القران يتحقق بوجه واحد من الأوجه المختلف فيها التي تسمى قراءة.
و لذا كان النبي صلّى اللّه عليه و سلم يسمي ذلك كله قرانا، أي هو قران بهذه الوجه من القراءة أو بذاك فقد قرأ رجل عند عمر فغير عليه فقال: قرأت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فلم يغير علي قال: فاجتمعا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: فقرأ أحدهما على النبي صلّى اللّه عليه و سلم فقال له: «أحسنت» قال: فكأن عمر وجد في نفسه من ذلك فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلم: «يا عمر إن القران كله صواب ما لم يجعل مغفرة عذابا أو عذابا مغفرة» «1» فسمى القراءة المختلف فيها قرانا.
و وضح أهل العلم حقيقة التغاير بين القران و القراءة فقال الإمام الذهبي رحمه اللّه تعالى- و هو يتكلم عن القراات: «و من ادعى تواترها فقد كابر
__________________________________________________
(1) أحمد (4/ 30)، مرجع سابق، و قال مجمع الزوائد (7/ 151)، مرجع سابق: «رواه أحمد و رجاله ثقات».(1/445)
الحس، أما القران العظيم سوره و آياته فمتواتر و للّه الحمد محفوظ من اللّه تعالى لا يستطيع أحد أن يبدله و لا يزيد فيه اية و لا جملة مستقلة و لو فعل ذلك أحد عمدا لا نسلخ من الدين قال اللّه تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (الحجر: 9) «1»، و كذلك قرر ابن الجزري شيخ القراء فقال: «و نحن ما ندعي التواتر في كل فرد مما انفرد به بعض الرواة أو اختص ببعض الطرق و لا يدعي ذلك إلا جاهل لا يعرف ما التواتر» «2»...
و أساس هذه الحقيقة: أن القران هو كل أحرف الوفاق و هي الغالب الأعم، ثم يتحقق بوجه واحد من أحرف التنوع الصوتي (الاختلاف)، و هي متواترة عند أهل كل قطر.
المختلف فيه من علم القراءة محصور منضبط:
و بناء على هذا أيضًا يقال: «إن القراءة بمعنى المختلف فيه عبارة عن مواضع محصورة محدودة لا يخرج عن نطاق اختلافات صوتية لغوية (لهجية) في الغالب، و هذا ما جعل ابن قتيبة يذهب إلى أن اللهجات ليس من الاختلاف الذي يتنوع في اللفظ و المعنى لأن هذه الصفات المتنوعة في أدائه لا تخرجه عن أن يكون واحدا» «3».
__________________________________________________
(1) سير أعلام النبلاء (10/ 171)، مرجع سابق.
(2) منجد المقرئين و مرشد الطالبين ص 14.
(3) خلق أفعال العباد ص 87، مرجع سابق.(1/446)
المطلب الثالث: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم عدم التناقض المعنوي بين هذه الأحرف:
و كان النبي صلّى اللّه عليه و سلم يبين لهم أن هذه الأحرف السبعة تتنوع من حيث معانيها إلى معان معروفة دون تناقض فعن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال له:
«
إن الكتب كانت تنزل من السماء من باب واحد و إن القران انزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف حلال و حرام و محكم و متشابه و ضرب أمثال و أمر و زجر فأحل حلاله و حرم حرامه و اعمل بمحكمه وقف عند متشابهه و اعتبر أمثاله فإن كلا من عند اللّه و ما يذكر إلا أولو الألباب» «1»، فاخر الحديث تثبيت لعدم الاضطراب و التناقض في أول الحديث، و تبيين لأشكال المعاني التي ترجع إليها هذه الأحرف، فهي كالحرف الواحد في الانسجام و عدم الاضطراب، فالمسلمون متفقون «على أن الأحرف السبعة لا يخالف بعضها بعضا خلافا يتضاد فيه المعنى و يتناقض بل يصدق بعضها بعضا كما تصدق الايات بعضها بعضا» «2».
«و قد استمر أهل القراات على أن يعملوا بالروايات التي صحت عندهم مما وافق المصحف و أنهم في ذلك قارئون للقران من غير شك و لا إشكال، و إن كان بين القراءتين ما يعده الناظر ببادئ الرأي اختلافا في المعنى لأن معنى الكلام من أوله إلى اخره على استقامة لا تفاوت فيه بحسب مقصود الخطاب و هذا كان عادة العرب..» «3».
و ترجع الاختلافات في هذه الأحرف السبعة إلى ثلاثة محاور، ليس في شي ء منها تضاد بين القراات المختلفة «4»:
__________________________________________________
(1) ابن حبان (3/ 20)، الحاكم (1/ 739)، مرجعان سابقان.
(2) ابن تيمية (13/ 401)، مرجع سابق.
(3) الموافقات في أصول الشريعة (2/ 83).
(4) الأحرف السبعة للداني ص 47.(1/447)
الأول: اختلاف اللفظ مع أن المعنى واحد:
نحو اللغات (اللهجات) الواردة في القراات كالإظهار و الإدغام، و الفتح و الإمالة، و صلة ميم الجمع و إسكانها، و نحو: السراط بالسين و الصراط بالصاد و الزراط بالزاي، و أكلها، و في الأكل بإسكان الكاف و بضمها و إلى ميسرة بضم السين و بفتحها... و هذا النوع هو الغالب الأعم في القراات حتى مال عدد من كبار العلماء إلى أن اختلاف القراات لا يعدو أن يكون لغات.
الثاني: اختلاف اللفظ و المعنى جميعا مع جواز أن يجتمعا في شي ء واحد لعدم تضاد اجتماعهما فيه:
نحو: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (الفاتحة: 4) بألف و ملك بغير ألف لأن المراد بهاتين القراءتين جميعا هو اللّه سبحانه و تعالى و ذلك أنه تعالى مالك يوم الدين و ملكه فقد اجتمع له الوصفان جميعا فأخبر سبحانه و تعالى بذلك في القراءتين و نحو: بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (البقرة: 10) بتخفيف الذال و بتشديدها لأن المراد بهاتين القراءتين جميعا هم المنافقون و ذلك أنهم كانوا يكذبون في إخبارهم و يكذبون النبي صلّى اللّه عليه و سلم فيما جاء به من عند اللّه تعالى فالأمران جميعا مجتمعان لهم فأخبر اللّه تعالى بذلك عنهم و أعلمنا أنه معذبهم بهما، و نحو قوله تعالى: كَيْفَ نُنْشِزُها (البقرة: 259) بالراء و بالزاي لأن المراد بهاتين القراءتين جميعا هي العظام و ذلك أن اللّه تعالى أنشرها أي أحياها، و أنشزها أي رفع بعضها إلى بعض حتى التأمت فأخبر سبحانه أنه جمع لها هذين الأمرين من إحيائها بعد الممات، و رفع بعضها إلى بعض لتلتئم فضمن تعالى المعنيين في القراءتين تنبيها على عظيم قدرته...(1/448)
الثالث: اختلاف اللفظ و المعنى مع امتناع جواز أن يجتمعا في شي ء واحد لاستحالة اجتماعهما فيه، مع عدم التناقض العام:
كقراءة من قرأ: وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا (يوسف: 110) بالتشديد لأن المعنى و تيقن الرسل أن قومهم قد كذبوهم و قراءة من قرأ فَقَدْ كَذَّبُوا بالتخفيف لأن المعنى و توهم المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به من أنهم إن لم يؤمنوا بهم نزل العذاب بهم فالظن في القراءة الأولى يقين و الضمير الأول للرسل و الثاني للمرسل إليهم و الظن في القراءة الثانية شك و الضمير الأول للمرسل إليهم و الثاني للرسل...
و هكذا فهم السلف أن معنى هذه الأحرف أنها في الأمر الواحد الذي لا يختلف حلا و حرمة:
فلا تناقض بينها معنى كما قال الزهري تعليقا على حديث الأحرف السبعة:
«بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر الذي يكون واحدا لا يختلف في حلال و لا حرام» «1» بل «كلها شاف كاف» فكل «حرف من هذه الأحرف السبعة شاف لصدور المؤمنين، لاتفاهما في المعنى، و كونها من عند اللّه و تنزيله و وحيه، كما قال اللّه سبحانه و تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ (فصلت: 44) و هو كاف في الحجة على صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لإعجاز نظمه، و عجز الخلق عن الإتيان بمثله» «2».
__________________________________________________
(1) مسلم (1/ 561)، المسند المستخرج على صحيح مسلم (2/ 414)، مرجعان سابقان.
(2) شرح السنة (4/ 512)، مرجع سابق.(1/449)
المبحث الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم أن القراءة سنة يأخذها الاخر عن الأول:
إذا كان القران قد نزل من عند اللّه على سبعة أحرف؛ فإن هذا يعني أنه لا دخل للاجتهاد البشري في كلام اللّه جل جلاله، و إلا لما سمّي كلامه، و لذا يروم هذا المبحث أن يؤكد على هذه الحقيقة، و يتم ذلك من خلال تقسيم المبحث إلى المطالب الخمسة الاتية:
المطلب الأول: التلقي و التوقيفية في القراات.
المطلب الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم عدم التنازع في رواية القراءة ما دامت قد ثبتت عنه.
المطلب الثالث: أين الأحرف السبعة؟.
المطلب الرابع: القراءة التفسيرية.
المطلب الخامس: القراءة بالمعنى.
المطلب الأول: التلقي و التوقيفية في القراات:
التوقيفية معناها التعليمية «1»، و هو مصطلح شرعي يدل على ضرورة الوقف عند الشي ء المحدد الذي أتى به الشرع و علمه النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و عدم إدخال الاجتهاد البشري فيه، و يظهر التأكيد عليها في:
تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم وجوب الالتزام بأداء اللفظ القراني كما تعلّم:
تدل الروايات الواردة في الأحرف السبعة جميعا على أن القراات المتعددة «كذلك أنزلت»، و «كذلك أقرأنيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم»، و «اقرؤوا كما علمتم»،
__________________________________________________
(1) حاشية العدوي (1/ 77)، مرجع سابق.(1/450)
و كل هذه الألفاظ المتعددة تتضافر على التأكيد على أمر واحد هو أن القراات توقيفية منزلة من عند اللّه عزّ و جلّ ليس لأحد أن يقرأ بمحض اجتهاده فيأتي بما يظنه مرادفا، أو يقرأ بهيئة مختلقة من عند نفسه، و على أن منهج الإقراء المعتمد هو التلقي و التناقل، و ليس غيره.
و معنى «هكذا أقرأني جبريل» «أنه أقرأه مرة بهذه، و مرة بهذه» «1»، كما قالوا:
كان صلى اللّه عليه و سلم يأمرنا أن نقرأ القران كما أقرئناه و قال: إنه أنزل على ثلاثة أحرف فلا تختلفوا فيه فإنه مبارك كله فاقرؤوه كالذي أقرئتموه «2».
و أمر صلى اللّه عليه و سلم بالتزام كل شخص ما علّم فعن حذيفة رضي اللّه عنه قال: لقي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم جبريل و هو عند أحجار المرى فقال: «إن أمتك يقرؤون القران على سبعة أحرف فمن قرأ منهم على حرف فليقرأ كما علم و لا يرجع عنه» «3»، و عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال: أقرأني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم سورة الرحمن فخرجت إلى المسجد عشية فجلس إلي رهط فقلت لرجل اقرأ علي فإذا هو يقرأ أحرفا لا أقرؤها فقلت من أقرأك؟ فقال: أقرأني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فانطلقنا حتى وقفنا على النبي صلى اللّه عليه و سلم فقلت: اختلفنا في قراءتنا، فإذا وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فيه تغير و وجد في نفسه حين ذكرت الاختلاف فقال إنما هلك من قبلكم بالاختلاف فأمر عليا فقال: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما علم فإنما أهلك من قبلكم الاختلاف قال فانطلقنا و كل رجل منا يقرأ حرفا لا يقرؤه صاحبه «4».
__________________________________________________
(1) القرطبي (1/ 48)، مرجع سابق.
(2) الطبراني في الكبير (7/ 152)، مرجع سابق.
(3) أحمد (5/ 385)، مرجع سابق، و هو في مجمع الزوائد (7/ 151)، مرجع سابق.
(4) ابن حبان (3/ 22)، الحاكم (2/ 243)، مرجعان سابقان.(1/451)
و كان يصف ما قرأه المرء مما علّم بأنه حسن جميل، فعن زيد بن أرقم قال:
جاء رجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فقال: «أقرأني عبد اللّه بن مسعود سورة و أقرأنيها زيد و أقرأنيها أبي فاختلفت قراءتهم فقراءة أيهم اخذ؟ فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فقال علي رضي اللّه عنه: «ليقرأ كل إنسان كما علم فكل حسن جميل» «1».
و التوقف عند ما علمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم سواء كانت القراءة سماعا كما تدل عليه الأدلة السابقة أو عرضا كما قال علي رضي اللّه عنه: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما أقرأني فإنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف «2».
و كان إنكارهم في مخالفة النبي صلّى اللّه عليه و سلم في أداء ألفاظ القران الكريم قد بلغ حدا عظيما، فعن عمر بن الخطاب قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلببته بردائه فقلت:
من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ قال أقرأنيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فقلت كذبت فإن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قد أقرأنيها ما قرأت فانطلقت به أقوده إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «أرسله اقرأ يا هشام» فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «كذلك أنزلت، ثم قال: اقرأ يا عمر» فقرأت القراءة التي أقرأني فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «كذلك أنزلت إن هذا القران أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه» «3»، و عن أبي بن كعب قال ثم كنت جالسا في المسجد فدخل رجل فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل اخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه فلما قضى
__________________________________________________
(1) الطبراني في الكبير (5/ 198)، مرجع سابق و هو في مجمع الزوائد (7/ 154)، مرجع سابق.
(2) معجم الشيوخ ص 162، مرجع سابق.
(3) البخاري (4/ 1909)، مسلم (1/ 560)، مرجعان سابقان.(1/452)
الصلاة دخلا جميعا على النبي صلّى اللّه عليه و سلم فقلت يا رسول اللّه إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ثم قرأ الاخر قراءة سوى قراءة صاحبه فقال لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «اقرا» فقرأ فقال: «أحسنتما» أو قال: «أصبتما» (و حسن قراءتهما) قال فلما قال لهما الذي قال كبر علي فلما رأى النبي صلّى اللّه عليه و سلم ما غشيني ضرب في صدري فكأني أنظر إلى ربي فرقا، و في لفظ: «فلما سمعت النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال الذي قال سقط في نفسي من الأمر و كبر علي و لا إذ في الجاهلية ما كبر علي فلما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ما بي ضرب في صدري ففضت عرفا فكأنما أنظر إلى اللّه عز و جل فرقا» فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «يا أبي إن ربي أرسل إلي أن اقرأ القران على حرف» فرددت عليه أن هون على أمتي مرتين فرد علي أن اقرأه على سبعة أحرف و لك بكل ردة رددتها مسألته يوم القيامة فقلت اللهم اغفر لأمتي ثم أخرت الثانية إلى يوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم «1»، و في لفظ قال النبي صلّى اللّه عليه و سلم لأبي و لابن مسعود: «بلى كلاكما محسن مجمل» فقلت ما كلانا أحسن و لا أجمل قال فضرب صدري.. «2».،
و في هذا نفور شديد ظاهر، حتى قال ابن مسعود رضي اللّه عنه: «إن هذا القران أنزل على حروف، و اللّه إن كان الرجلان ليختصمان أشد ما اختصما في شي ء قط».
و هذه التوقيفية عبر عنها أئمة السلف بأن القراءة سنة:
أي يجب أن تتبع دون ابتداع، في لفظها و لا في أدائها، فعن أبي عبد الرحمن السلمي عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال: «اتبعوا و لا تبتدعوا فقد كفيتم»، و قال حذيفة رضي اللّه عنه: «اتقوا اللّه يا معشر القراء و خذوا طريق من كان قبلكم فو اللّه لئن استقمتم لقد سبقتم سبقا بعيدا و لئن تركتموهم يمينا و شمالا لقد ضللتم ضلالا
__________________________________________________
(
1) مسلم (1/ 562)، ابن حبان (3/ 15)، مرجعان سابقان، و ما بين العارضتين من المسند المستخرج على صحيح مسلم (2/ 415)، مرجع سابق.
(2) النسائي في الصغرى (1/ 567)، أبو داود (2/ 76)، مرجعان سابقان.(1/453)
بعيدا» «1»، و قال عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه: «إني سمعت القرأة فرأيتم متقاربين فاقرؤا كما علّمتم، و إياكم و التنطع و الاختلاف و إنما هو كقولك هلم و أقبل و تعال»، و عن زيد بن ثابت رضي اللّه عنه قال: «القراءة سنة فاقرؤه كما تجدونه»، و عن محمد بن المنكدر قال: «القراءة سنة يأخذها الاخر عن الأول»، و كذلك قال عمر بن عبد العزيز، و عن عامر الشعبي قال: القراءة سنة فاقرؤا كما قرأ أولوكم، و عن عروة بن الزبير قال: إنما قراءة القران سنة من السنن فاقرؤه كما علمتموه «2»، و قال: عروة بن الزبير، إنما قراءة القران سنة فاقرؤوا كما علمتموه، و قيل لطلحة بن مصرف: «يا أبا عبد اللّه إن بعض أصحاب النحو يقولون: إن في قراءتك لحنا، قال: ألحن كما لحن أصحابي أحب إلي من أتابع هؤلاء» «3».
كما كانوا يحظرون على الإنسان أن يقرأ بما لم يتقدمه فيه أحد فعن الأصمعي قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: لولا أنه ليس لي أن أقرأ إلا بما قد قرئ به لقرأت حرف كذا كذا و حرف كذا كذا، و عن الأصمعي قال: قلت لأبي عمرو بن العلاء و بركنا عليه في موضع و تركنا عليه في موضع أيعرف هذا؟ فقال ما يعرف إلا أن يسمع من المشايخ الأولين «4».
و في ذلك يقول أبو مزاحم الخاقاني- رحمه اللّه تعالى-:
أيا قارئ القران أحسن أداءه يضاعف لك اللّه الجزيل من الأجر
فما كل من يتلو الكتاب يقيمه و ما كل من في الناس يقرئهم مقري
و إن لنا أخذ القراءة سنة عن الأولين المقرئين ذوي الستر
__________________________________________________
(1) البخاري (6/ 2656)، مرجع سابق.
(
2) انظر تخريج ما سبق في السبعة ص 46- 50، مرجع سابق، و انظر: فتح الوصيد في شرح القصيد (1/ 80- 81)، مرجع سابق.
(3) الكامل ص 14 وجه أ، مرجع سابق.
(4) السبعة ص 48، مرجع سابق.(1/454)
المطلب الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم عدم التنازع في رواية القراءة ما دامت قد ثبتت عنه:
و كان صلّى اللّه عليه و سلم يعلمهم عدم التنازع في رواية القراءة ما دامت قد ثبتت عنه: فعن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «أنزل القران على سبعة أحرف و مراء في القران كفر» «1».
و يعلمهم صلّى اللّه عليه و سلم تصويب قراءة كل واحد منهم ما دام قد تلقاها من النبي صلّى اللّه عليه و سلم:
فعن عمرو بن العاص أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «أنزل القران على سبعة أحرف على أي حرف قرأتم أصبتم فلا تماروا فإن المراء فيه كفر» «2».
و كان صلّى اللّه عليه و سلم يشدد في ذلك تشديدا عظيما حتى جعل المراء و الجدال في القران كفرا فقال لهم: «لا تجادلوا في القران فإن جدالا فيه كفر» «3».
و في معنى النهي عن المراء و الجدال الواردين فيما سبق يقول «الحليمي: و هذا و اللّه أعلم أن يسمع الرجل من الاخر قراءة أو اية أو كلمة لم تكن عنده فيعجل عليه، و يخطئه فينسب ما يقرأ إلى أنه ليس بقران، و يجادله في ذلك، أو يجادله في تأويل ما يذهب إليه، و لم يكن عنده و يخطئه و يضلله لا ينبغي له إن فعل ذلك فإن اللجاج ربما أزاغه عن الحق و لا يقبله، و إن ظهر له وجه فيكفر، فلهذا حرم المراء في القران و سمي كفرا لأنه يشرف بصاحبه على الكفر و إن ذلك لو كان في نفي حرف، أو إثباته، أو نفي كلمة، أو إثباتها لكان الزائغ من الممارين عن الحق بعد
__________________________________________________
(1) الطبراني في الأوسط (6/ 96)، مرجع سابق.
(
2) أحمد (4/ 169)، مسند الحارث (2/ 732)، مرجعان سابقان، و هو في مجمع الزوائد (7/ 150)، مرجع سابق.
(3) مسند الطيالسي ص 302، شعب الإيمان (2/ 417)، مرجعان سابقان.(1/455)
ما تبين له كافرا» «1» و عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمع النبي صلّى اللّه عليه و سلم قوما يتمارون في القران فقال: «إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب اللّه بعضه ببعض و إنما ترك كتاب اللّه يصدق بعضه بعضا و لا يكذب بعضه بعضا ما علمتم منه فقولوا و ما جهلتم فكلوه إلى عالمه» «2»، فالمراء هنا هو «الإصرار على التغليط، و التضليل، و ترك الإذعان لما يقام من الحجة فأما المباحثة التي لا يكاد المشكك ينصح إلا بها فليست بحرام» «3».
عثمان رضي اللّه عنه ذكر الأمة بالمشروعية العامة لكل القراات ما دامت ثابتة عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم حتى لا يقع أحد في التكفير:
و هذا الاختلاف و التغليط في أحرف القران حدث في زمن عثمان بن عفان فإن حذيفة بن اليمان قدم من غزوة فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين أدرك الناس قال: و ما ذاك؟ قال: غزوت فرج أرمينية فإذا أهل الشام يقرؤون بقراءة أبى بن كعب، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، و إذا أهل العراق يقرؤون بقراءة عبد اللّه بن مسعود فيأتون بما لم يسمع أهل الشام، فيكفر بعضهم بعضا «4» فأراد عثمان أن يبين للناس جواز القراءة بذلك كله دون إنكار أو مراء، و لذا استشهد الناس على سماعهم حديث الأحرف السبعة، كما جاء عن أبي المنهال سيار بن سلامة قال: بلغنا أن عثمان قال يوما- و هو على المنبر-:
أذكر اللّه رجلا سمع النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: «أنزل القران على سبعة أحرف كلها شاف كاف» لما قام فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال:
__________________________________________________
(1) شعب الإيمان (2/ 417)، مرجع سابق.
(
2) شعب الإيمان (2/ 417)، مرجع سابق.
(3) شعب الإيمان (2/ 417)، مرجع سابق.
(4) انظر: فتح الباري (9/ 18)، مرجع سابق.(1/456)
«أنزل القران على سبعة أحرف كلها شاف كاف» فقال عثمان رضي اللّه عنه: و أنا أشهد معهم «1».
و علمهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم قواعد جامعة في هذا الباب:
فسمع صلّى اللّه عليه و سلم قوما يتمارون في القران فقال: «إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب اللّه بعضه ببعض و إنما ترك كتاب اللّه يصدق بعضه بعضا و لا يكذب بعضه بعضا، ما علمتم منه فقولوا و ما جهلتم فكلوه إلى عالمه» «2»، و عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: «نزل القران على سبعة أحرف، المراء في القران كفر ثلاث مرات فما علمتم فاعملوا به و ما جهلتم منه فردوه إلى عالمه» «3».
فظهر من ذلك عدة قواعد جامعة:
1- نزل القران على سبعة أحرف.
2- المراء في القران كفر، و يظهر ذلك في موضوعنا بنفي قراءة يسندها قارئها إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بحسب مناهج الإقراء المعتبرة.
3- فما علمتم فاعملوا به و ما جهلتم منه فردوه إلى عالمه، و من حيث موضوع البحث: ما علمه المرء من قراءة قرأ بها، و ما لم يعلمه مما سمعه فأنكره في نفسه لجهله به، و صاحبه متأهل لأن يروي مثل ذلك فلا ينكره أما في عهد الصحابة فللتلقي المباشر من النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و مدار القراات مخصور على عدد قليل منهم، و أما بعده فلوجود أهل الفن الذين يعرفون و ينكرون فيرجع الأمر إليهم.
__________________________________________________
(1) مسند الحارث (2/ 734)، مرجع سابق، و هو في مجمع الزوائد (7/ 152)، مرجع سابق.
(2) شعب الإيمان (2/ 417)، مرجع سابق.
(
3) ابن حبان (1/ 275)، أحمد (2/ 300)، مرجعان سابقان، و في مجمع الزوائد (1/ 187)، مرجع سابق: «رواه كله أحمد بإسنادين و رجال أحدهما رجال الصحيح و رواه البزار بنحوه».(1/457)
4- التيقن من عدم التناقض المعنوي بين القراات المتعددة، كعدم تناقض وصف اللّه بعدة أوصاف مثل: عليما حليما غفورا رحيما.
5- الخلافات بين القراات منحصرة منضبطة: فقد قال ابن مسعود رضي اللّه عنه:
«إني سمعت القراء فوجدتهم متقاربين فاقرأوا كما علمتم» «1»، و التقارب هنا يدل على أن الخلاف بين القراات محدودة جدا و منحصرة فهي متقاربة بينها.
فنفي قراءة من صحابي لاخر مع إثبات تلقيها من النبي صلّى اللّه عليه و سلم خطأ رده النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و بعد جيل الصحابة يكون الخطأ هو نفي قراءة مع تلقي أهل المصر لها بالقبول.
6- يجب عند الاختلاف في القراءة أن يكفوا: و ليقوموا حتى لا يخطئ بعضهم بعضا في قراءة ثابتة مما قد يؤدي إلى التكفير فعن جندب بن عبد اللّه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلم قال: «اقرؤا القران ما ائتلفت قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه» «2»: فقوله: «فإذا اختلفتم» فيه نهي عن القراءة إذا وقع الاختلاف في كيفية الأداء فمنع هذا من قراءة أخيه، و اتهمه باختلاقها، و أمرهم بأن يتفرقوا عند وقوع مثل هذا الاختلاف، و يستمر كل منهم على قراءته و مثله ما تقدم عن ابن مسعود لما و رقع بينه و بين الصحابيين الاخرين الاختلاف في الأداء فترافعوا إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلم فقال كلكم محسن، و ما وقع لأبي كذلك «3»، و هذا أولى من الحمل على الاختلاف في فهم معانيه «4»، و ذلك لأن الاختلاف في استنباط فروع الدين منه و مناظرة أهل العلم في ذلك على سبيل الفائدة و إظهار الحق و اختلافهم في
__________________________________________________
(1) النسائي في الصغرى (1/ 566)، مرجع سابق.
(
2) البخاري (4/ 1929)، مسلم (4/ 2053)، ابن حبان (3/ 5)، مراجع سابقة.
(3) و انظر: فتح الباري (9/ 101)، مرجع سابق.
(4) انظر: فتح الباري (9/ 101)، مرجع سابق.(1/458)
ذلك ليس منهيا عنه بل هو مأمور به و فضيلة ظاهرة، و قد أجمع المسلمون على هذا من عهد الصحابة إلى الان «1»، و قال الزمخشري: «و لا يجوز توجيهه بالنهي عن المناظرة و المباحثة فإنه سد لباب الاجتهاد، و إطفاء لنور العلم، و صد عما تواطأت العقول و الاثار الصحيحة على ارتضائه، و لم يزل الموثوق بهم من علماء الأمة يستنبطون معاني التنزيل و يستثيرون دقائقه و يغوصون على لطائفه و هو ذو الوجوه فيعود ذلك تسجيلا له ببعد الغور و استحكام دليل الإعجاز، و من ثم تكاثرت الأقاويل و اتسم كل من المجتهدين بمذهب في التأويل» «2»، بل يكون النهي عن الاختلاف نهي عن اختلاف لا يجوز أو اختلاف يوقع فيما لا يجوز كاختلاف في نفس القران بأن ينفي هذا قراءة الاخر، و العكس أو في معنى منه لا يسوغ فيه الاجتهاد أو اختلاف يوقع في شك أو شبهة أو فتنة و خصومة أو شجار و نحو ذلك «3».
و بذلك أوصى عبد اللّه بن مسعود تلاميذه:
إذ لما أراد أن يأتي المدينة جمع أصحابه فقال: و اللّه إني لأرجو أن يكون قد أصبح اليوم فيكم من أفضل ما أصبح في أجناد المسلمين من الدين و الفقه و العلم بالقران، إن هذا القران أنزل على حروف و اللّه إن كان الرجلان ليختصمان أشد ما اختصما في شي ء قط فإذا قال القاري: هذا أقرأني قال: أحسنت و إذا قال الاخر: هذا أقرأني قال كلاكما محسن... و اعتبروا ذاك بقول أحدكم لصاحبه كذب و فجر و بقوله إذا صدقه صدقت و بررت إن هذا القران لا يختلف و لا يستثنى و لا يتفه لكثرة الرد فمن قرأه على حرف فلا يدعه رغبة عنه، و من قرأه على شي ء من
__________________________________________________
(1) شرح النووي على مسلم (16/ 218)، مرجع سابق.
(
2) فيض القدير (2/ 63)، مرجع سابق.
(3) شرح النووي على مسلم (16/ 218)، مرجع سابق.(1/459)
تلك الحروف التي علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فلا يدعه رغبة عنه فإنه من يجحد باية منه يجحد به كله فإنما هو كقول أحدكم لصاحبه اعجل وحي هلا «1».
المطلب الثالث: أين الأحرف السبعة؟:
بحث هذه المسألة ينبني على معرفة معنى الأحرف السبعة:
و قد أجهد أهل العلم أنفسهم في القديم و الحديث في محاولات تحديد المراد من الأحرف السبعة بدقة، و ما زالت المطبعات تقذف بجديد تأليف في هذا الباب، حتى قال بعضهم: «و هكذا يستمر الأئمة في تقليب الوجوه و المعاني و يحاولون فهم المراد بالسبعة الأحرف في الحديث و إنى أرجّح أن هذا الحديث من متشابه الحديث الذي يصعب معناه على وجه يخلو من الأشكال و لعله مهما أستأثر اللّه بعلمه» «2».
و القول بأنها من المشكل الذي استأثر اللّه بعلمه قاله السيوطي «3» من قبل، و خلاصة البيان في نظر الباحث أن يقال: إما أن العدد مقصود، و إما أنه غير مقصود و أن المراد السعة و التيسير فالمراد منه ظاهر لكن تحديده بدقة هو غير متوفر مهما قيل فيه ولكن لم لا يكون من التيسير: جمع أكبر قدر من المعاني و اللغات في أصغر حيز، و لذا قال «اقرؤوا ما تيسر منه» فهي قاعدة أولى و قعد أخرى فقال: «كلها شاف كاف» أي كل واحد منها شاف كاف للمطلوب الشرعي لغة و أصولا وفقها و عقيدة، و كون الواحد منها ينوب عن الاخر... و لو كانت الأحرف السبعة على هذا المفهوم حرفا واحدا لازداد حجم القران. __________________________________________________
(1) أحمد (1/ 405)، مرجع سابق، و هو في مجمع الزوائد (7/ 153)، مرجع سابق.
(2) مع المصاحف ص 28، مرجع سابق.
(3) الإتقان (1/ 130)، مرجع سابق.(1/460)
و غير ضائر عدم التحديد ما دام المعنى واضحا و مظاهره متمثلة في القراات فيقال الأحرف السبعة هي: «ما يشمل اختلاف اللهجات و تباين مستويات الأداء، ناشئة عن اختلاف الألسن، و تفاوت التعليم و كذلك ما يشمل اختلاف بعض الألفاظ و ترتيب الجمل بما لا يتغير به المعنى المراد» «1» فليس ثم حاجة للحصر... و يصعب الجزم بتحديد مدلول دقيق أكثر من ذلك.
و القائلون بأن المراد منها لغات لهم وجهتان:
إما لغات بمعنى اختلاف الكيفيات التصويتية أي الاختلاف اللهجي، و هو ما يدل عليه تعليل ابن قتيبة في بيان حكمة الأحرف السبعة «2» مع أن تفسيره لها مخالف لتعليله، و إما اللغات بمعنى المترادفات، و قد ذهب إلى هذا عدد كبير من أهل العلم بل يكاد من قال بأن المصحف العثماني كتب على حرف واحد يقول بهذا الرأي، و من أشهرهم: ابن جرير الطبري «3»، و على قولهم هذا فإن الأحرف السبعة قد ذهبت بإجماع الصحابة زمن عثمان رضي اللّه عنه، إلا شيئا يسيرا يتعلق بموضعين بكلمتين في ثلاثة مواضع من القران الكريم، جاء فيهما الترادف هما:
فَتَبَيَّنُوا في سورتي النساء و الحجرات جاءت قراءة أخرى متناقلة لحمزة و الكسائي، و خلف العاشر هي [تثبتوا]، و لَنُبَوِّئَنَّهُمْ جاءت في العنكبوت قراءة هؤلاء أيضًا [لنثوينهم ] «4».
__________________________________________________
(1) تاريخ القران ص 42، مرجع سابق.
(2) و من اخر من قال بهذا: حسن ضياء الدين عتر في كتابه: الأحرف السبعة في القران بعد بحث و ترجيح.
(3) و من اخر من قال بهذا: الأستاذ محمد محمد الشرقاوي في مقال له بعنوان: الأحرف السبعة التي أنزل عليها القران بمجلة الأزهر- المجلد الثالث و الثلاثون- العدد الحادي عشر 1962 م.
(4) انظر: حرز الأماني (الشاطبية) في سور النساء ص 86، العنكبوت ص 127، و كذلك طيبة النشر في سورة النساء ص 70، و العنكبوت ص 90.(1/461)
و الرأي الثالث الشهير أن الأحرف بمعنى سبعة أوجه مختلفة، و من أشهر القائلين بهذا ابن قتيبة في تفسيره لها، و أبو الفضل الرازي، و ابن الجزري رحمهم اللّه تعالى-.
استبعاد أن تكون الأحرف السبعة محض لهجات:
و القول بأنها ليست محض لغات (لهجات) له وجاهته؛ إذ التيسير المتكأ عليه في كونها كذلك منخرم بأمور:
1- أن من القراات التي ترجع إلى الأحرف السبعة ما ليس بلغات.
2- أن ذلك محكوم بالتلقي، فيلزم الثبات عليه مع التلقي، فيصعب التيسير المراد «1».
3- أن قبائل العجم أولى بهذه الحكمة من العرب، و اشتد ابن حزم كعادته في الإنكار على من اتكأ على هذه الحكمة فقال: «كذب هؤلاء مرتين إحداهما على اللّه تعالى، و الثانية على جميع الناس كذبا مفضوحا جهارا لا يخفى على أحد، أما كذبهم على اللّه عز و جل فإخبارهم بأنه تعالى إنما جعله يقرأ على أحرف شتى لأجل صعوبة انتقال القبيلة إلى لغة غيرها فمن أخبرهم بها عن اللّه تعالى أنه من أجل ذلك حكم بما صح أنه تعالى حكم به... و أما كذبهم على الناس فبالمشاهدة يدري كل أحد صعوبة القراءة على الأعجمي المسلم بلغة العرب التي بها نزل القران أشد مراما من صعوبة قراءة اليماني على لغة المضري و الربعي على لغة القرشي» «2».
__________________________________________________
(1) انظر كلام القاري في عون المعبود (4/ 253)، مرجع سابق.
(2) الإحكام (4/ 556)، مرجع سابق.(1/462)
استبعاد القول بأن الأحرف السبعة مترادفات سبع:
و واضح من الأحاديث أن الأمر لم يتعلق بالمترادفات اللغوية حال وجودها في القران الكريم، و ذلك لمعرفة عمر و غيره بالسور التي كان يقرؤها من أنكروا عليه، فلو كانت مترادفات لكثرت، و لما أنكروا؛ إذ تصبح سورا جديدة لا معروفة عند السامع.
و القائل بالترادف يعسر على الأمة و يقلب الحكمة، إذ الترادف مستلزم لحفظ الأصل، و إذا كان بعض من ذهب المذهب يقول: «و الذي وقر في أفهام الصحابة أن ذلك لا يتأتى بالتشهي في انتقاء المترادفات، أو الاختيار الشخصي في تطويع القران للغة... و لو قد كان ذلك لما قال كل من عمر و هشام حين تجادلا في الموضوع أقرأني النبي صلى اللّه عليه و سلم، بل المرجع الأول و الأخير في ذلك» «1»، فإن العسر يبلغ مبلغا كبيرا كما هو ظاهر.
و هذا كله حال تفسير الأحرف السبعة بالمترادفات، و هذا التفسير غير مرضي و لا متفق عليه.
المتبقي من الأحرف السبعة:
و بناء على اختلافهم في تحديد ماهية الأحرف السبعة اختلفوا في بقائها كلها، أو بقاء بعضها، فمنهم من ذهب إلى بقاء الأحرف السبعة برمتها كما يميل إليه ابن حزم «2»، و منهم من ذهب إلى بقاء حرف واحد و ذهاب ستة أحرف حيث يتحقق القران بواحد منها و هو موجود و ذلك شاف كاف كما ذهب إليه الطبري.
__________________________________________________
(1) انظر: مقال للأستاذ محمد محمد الشرقاوي: الأحرف السبعة التي أنزل عليها القران بمجلة الأزهر، مجلد 33، عدد 11- 1962 م.
(2) الإحكام لابن حزم (1/ 71)، مرجع سابق، و يسمي الأحرف قراات.(1/463)
و القول ببقاء ما يحتمله رسم المصحف و تناقلته القراات المتناقلة من الأحرف السبعة هو المتبقي و ليس كل الأحرف السبعة، و لا حرفا واحدا هو الذي ارتضاه كثير من المحققين، و نكتفي بهذا في هذا الموضوع لكثرة من بحثه.
و أما العلاقة بين القراات المتناقلة و الأحرف السبعة:
فالأحرف السبعة أساس لشرعية هذه القراات؛ إذ القراات من الأحرف السبعة، و العلماء مجمعون على ذلك، فالذي يعنينا من الأحرف السبعة أنها تعطي التأصيل الشرعي للقراات أي تكسبها المشروعية كما ظهر من ذكر النبي صلّى اللّه عليه و سلم لوصف الأحرف السبعة مع بيان مشروعية القراءة التي قرأ بها أحد المختصمين من الصحابة و لم يشذ عن هذا إلا الطبري تنظيرا لا تطبيقا، حيث ذهب إلى أن عثمان كتب المصحف على حرف واحد، فلما ورد عليه القراات المتناقلة قال: «فأما ما كان من اختلاف القراءة، في رفع حرف و جرّه و نصبه، و تسكين حرف و تحريكه و نقل حرف الى اخر، مع اتفاق الصورة».
فمن معنى قول النبي صلّى اللّه عليه و سلم: «امرت أن أقرأ القران على سبعة أحرف بمعزل» «1»، ولكنه قال عند التطبيق كلاما وصفه مكي بأنه نقض أيضًا به مذهبه و ذلك في كتاب القراات له: «كل ما صح عندنا من القراات أنه علمه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لأمته من الأحرف السبعة التي أذن اللّه له، و لهم أن يقرؤا بها القران، ليس لنا أن نخطئ من قرأ به إذا كان موافقا لخط المصحف، فإن كان مخالفا لخط المصحف لم نقرأ به، و وقفنا عنه، و عن الكلام فيه» «2».
__________________________________________________
(1) الطبري (1/ 31)، مرجع سابق.
(2) الإبانة عن معاني القراات ص 60، مرجع سابق.(1/464)
ولكن هل ترجع هذه القراات إلى حرف واحد؟:
نسب القرطبي إلى كثير من أهل العلم أن هذه القراات راجعة إلى حرف واحد من تلك السبعة «1»، ولكن القول بأن القراات المتناقلة ترجع إلى حرف واحد إما أن يكون مرادهم عدم وجود المترادفات؛ إذ الأحرف السبعة هي المترادفات عندهم، فبقي لفظ... و ذلك محض تخمين لا يرجع إلى أساس علمي عند النظر كما ظهر، و إما أن يريدوا شيئا ليس له معنى، و من ثم فالكاتب يجزم أن نفي بقاء الأحرف السبعة، أو إثباته مجرد تخمين.
و الأسلم أن يقال إنه بقي من الأحرف السبعة ما يحتمله رسم المصحف و يحكم به التلقي، و لا يؤثر ذلك على حقيقة حفظ القران، فالقران متحقق بأحدها، فالذي عليه المحققون أن الذي جمع في «المصحف هو المتفق على إنزاله، المقطوع به المكتوب بأمر النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و فيه بعض ما اختلفت فيه الأحرف السبعة لا جميعها» «2».
و على هذا فقد علمهم صلّى اللّه عليه و سلم أن القراات التي أقرأهم بها جزء مما تيسر من الأحرف السبعة «3».
كتابة المصحف على قراءة العامة في كل مصر:
و كتابة المصحف إنما كانت على قراءة العامة في كل مصر أرسل إليها مصحف، و عندما نقول قراءة العامة في كل مصر، فلا يتوهم أن كل مصر تختلف قراءته تماما عن المصر الاخر، بل القران متماثل و ذلك مادي محسوس، ولكن
__________________________________________________
(1) القرطبي (1/ 46)، مرجع سابق.
(2) فتح الباري (9/ 30)، مرجع سابق.
(3) انظر: الإبانة عن معاني القراات ص 34.(1/465)
قراءة كل مصر تختلف عن غيرها اختلافا يسيرا في أمور محصورة مضبوطة كما سبق، فلا يهول في الاختلاف كأن كلا منهما كتاب متميز عن الاخر.
و قد زال المراء في قراات القران بنسخ المصاحف و تعميمها، ولكن ليس بجمع القران على قراءة واحدة، بل بإعطاء الشرعية للقراات المختلفة مادامت توافق خط المصحف بعد مجيئها تلقيا «1»، و قد دفع ابن حزم ذلك دفعا شديدا، و قال بعض المحققين: المراد بكون عثمان رضي اللّه عنه جمع الناس على حرف واحد هي واحدة جنسية لا نوعية، أي لا أنه أخذ حرفا واحدا و ترك بقية الحروف «2».
ثم وجد الكاتب أن بعض كبار المحققين المعاصرين ارتضى الرأي ذاته في سبب نسخ المصاحف حيث قال: «و فى رأينا أن نشر القران بعناية عثمان كان لهدفين:
أولهما أن إضفاء صفة الشرعية على القراات المختلفة- التي كانت تدخل في إطار النص المدون، و لها أصل نبوي مجمع عليه- و حمايتها، فيه منع لوقوع أي شجار بين المسلمين بشأنها.
و ثانيهما باستبعاد ما لا يتطابق تطابقا مطلقا مع النص الأصلي، وقاية المسلمين من الوقوع في انشقاق خطير فيما بينهم، و حماية للنص ذاته من أي تحريف نتيجة إدخال بعض العبارات المختلف عليها نوعا ما، أو أي شروح يكون الأفراد قد اضافوها لمصاحفهم بحسن نية» «3».
__________________________________________________
(1) و هذه المسألة: اشتمال المصاحف العثمانية على حرف واحد أو على سبعة أحرف «مسألة كبيرة اختلف العلماء فيها» كما يقول ابن الجزري، و ليس من نطاق البحث تفصيلها بل له الإشارة إليها. و انظر فيها: النشر في القراات العشر (1/ 33)، مرجع سابق.
(2) فقه النوازل قضايا فقهية معاصرة (1/ 34)، مرجع سابق.
(3) محمد عبد اللّه دراز (دكتور): مدخل إلى القران الكريم (عرض تاريخي و تحليل مقارن) ص 25، و انظر: هل واحد عثمان بن عفان القراات أم عمم شرعيتها؟ للكاتب.(1/466)
معنى قولهم قرأ بحرف فلان:
و من نافلة القول التأكيد على أن القراات السبع ليس هي الأحرف السبعة الواردة في الحديث فأما قول الناس: «قرأ فلان بالأحرف السبعة، فمعناه أن قراءة كل إمام تسمى حرفا، كما يقال: قرأ بحرف نافع، و بحرف أبي و بحرف ابن مسعود. و كذلك قراءة كل إمام تسمى حرفا، فهي أكثر من سبعمائة حرف لو عددنا الأئمة الذين نقلت عنهم القراءة من الصحابة فمن بعدهم» «1».
و بناء على ما تقدم من العلاقة بين القراات و الأحرف السبعة:
أفأقرأهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم بتخفيف الهمز و الأوجه الواردة فيها أم كانت سنة تقريرية؟:
الجواب: هذا يعود إلى ما تقدم في أصول التجويد، و أول أصوله: اللغة العربية... و الهمز أو تخفيفه لغتان مشهورتان عند العرب، و اللغة الحجازية بالتخفيف لا بالتحقيق...
فاستبعاد القراءة بالتخفيف كاستبعاد نطق الهمز، كاستبعاد النطق بأي حرف عربي... و هذا خلف غريب من القول... نتج عن الخلط بين مناهج العلوم، و بين منهج علم الإقراء و منهج علم الحديث على الخصوص.
و نقل القرافي في الذخيرة أنه تستحب القراءة بتسهيل الهمزة لأن ذلك لغة النبي صلى اللّه عليه و سلم؛ لأن العلماء اجمعوا على أن لغة النبي صلّى اللّه عليه و سلم لغة قريش و لغة قريش عدم تحقيق الهمز فيكون ذلك لغة النبي صلّى اللّه عليه و سلم صحيح «2».
__________________________________________________
(1) الإبانة عن معاني القراات ص 44، مرجع سابق.
(2) الحاوي للفتاوى في الفقه و علوم التفسير و الحديث و الأصول و النحو و الإعراب و سائر الفنون (ص 222).(1/467)
و أما الأوجه المتعددة فهي أوجه لغوية صرفة: و فيها التوسعة لعدم النص على وجه بعينه، و إن كان النبي صلّى اللّه عليه و سلم لا ريب قد أقرأ بأوجه في ذلك بحسب المنهج القرائي.
و قد يسأل: أدخل الاجتهاد في القراءة باتباع الرسم المصحفي في قراءة حمزة عند الوقف على الهمز؟
و الجواب: قول الشاطبي:
و قد رووا أنه بالخط كان مسهلا ففي اليا يلي و الواو و الحذف رسمه «1».
«
يريد أن بعض أهل الأداء رووا عن حمزة أنه كان يتبع في الوقف على الهمز رسم المصاحف العثمانية الصحيحة، و قيد ذلك الداني و الناظم و جماعة من المتأخرين بشرط صحته في العربية، فتبدل الهمزة بذلك الشرط بما صورت به، فما صورت ألفا تبدل ألفا، و ما صورت واوا تبدل واوا، و ما صورت ياء تبدل ياء، و ما لم تصور تحذف» «2»، و كل ذلك بشرط الصحة لغة، و لذا أنكر ابن الجزري موافقة الرسم دون الصحة في اللغة «3»، و حصر أهل العلم الكلمات التي جاز فيها ذلك «4».
و لفقه الصحابة لذلك لم يضعوا للهمزة صورة بعينها في رسم المصحف؛ إذ «كل الحروف المذكورة له صورة في الخط يعرف الحرف بها اصطلاحا متفقا عليه،
__________________________________________________
(1) حرز الأماني (الشاطبية) ص 43، مرجع سابق.
(2) الشيخ علي محمد الضباع: إرشاد المريد إلى مقصود القصيد ص 71، تحقيق و تقديم: إبراهيم عطوة عوض، ط 1، 1404 ه/ 1974 م.
(3) النشر في القراات العشر (1/ 462)، مرجع سابق.
(4) انظر في ذلك مثلا: علي محمد توفيق النحاس (دكتور): الرسالة الغراء في الأوجه المقدمة في الأداء عن العشرة القراء ص 41، راجعها: الشيخ عبد الرازق السيد البكري- و مها القصيدة الحسناء، ط 1، 1412 ه/ 1991 م.(1/468)
لا تتغير تلك الصورة، إلا الهمزة فإنها لا صورة لها تعرف بها، و إنما يستعار لها صورة غيرها، فمرة يستعار لها صورة الألف، و مرة صورة الواو، و مرة صورة الياء، و مرة لا تكون لها صورة» «1»، و ذلك كله قائم على أساس أن الصحابة كتبوا المصحف على الظاهرة اللغوية «2».
القراءة بالقياس (بالاجتهاد):
و هنا ترد مسألة القراءة بالقياس، إذ لما كان اعتماد القراء على نقل القراءة خاصة أجمعوا على منعها بالقياس المطلق و هو الذي ليس له أصل في القراءة يرجع إليه و لا ركن وثيق في الأداء يعتمد عليه، و تقدمت قاعدة التوقيف في القراءة، و أن القراءة سنة متبعة «فاقرأوا كما علمتم»، و إن كان القياس على إجماع انعقد، أو أصل يعتمد فيصار إليه عند عدم النص و غموض وجه الأداء؛ فإنه مما يسوغ قبوله و لا ينبغي رده لا سيما إذا دعت الضرورة (و مست الحاجة إليه)، (و مما يقوي وجه الترجيح و يعين على وجه التصحيح)، بل لا يسمى ما كان كذلك قياسا على الوجه الاصطلاحي، (بل هو في التحقيق) «نسبة جزئي إلى كلي كمثل ما اختير في تخفيف بعض الهمزات» «3».
و لهذا التفصيل فقد نفى الشاطبي- رحمه اللّه تعالى- القياس المطلق بقوله:
و ما لقياس في القراءة مدخل فدونك ما فيه الرضا متكفلا «4»
__________________________________________________
(1) الرعاية لتجويد القراءة و تحقيق لفظ التلاوة ص 95، مرجع سابق.
(2) يراجع: غانم قدوري الحمد: رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية- ط 1، 1402 ه- 1982 م، حيث أن الكتاب معقود لإثبات أن الرسم العثماني قائم على أسس تاريخية و لغوية.
(3) شرح طيبة النشر في القراات العشر (2/ 147)، و انظر: النشر في القراات العشر (1/ 17).
(4) حرز الأماني (الشاطبية) ص 57، مرجع سابق.(1/469)
ولكنه أثبت القياس المقيد بقوله: فاقتس لتنضلا «1»
كما يدخل القياس (الاجتهاد) كثيرا في الوقف اصطحابا للمعنى و الوجه النحوي، و مما يظهر ذلك اختلاف النحاة و القراء تبع لهم في الوقف على كلا و نعم و بلى، و لما أراد مكي بن أبي طالب بيان اختياره في ذلك قال: «فهذا الذي ذكرنا، هو الذي عليه أهل المعاني من النحويين، و الحذاق من القراء، و هو الاختيار عندنا، و به اخذ» «2».
و هل أقرأ النبي صلّى اللّه عليه و سلم بالإمالة؟.
و الجواب: اختلف في أصالة الإمالة و الفتح و فرعيته في اللغة العربية «3»، حتى كان اضطراب أقوال الأقدمين من القراء و النحاة في أصالة الفتح أو الإمالة دليلا على أنهم أدركوا أن الإمالة أحيانا تكون لها الأصالة «4»، و القول بأصالة الإمالة يتفق مع المخطوطات الكوفية القديمة للخطوط العربية حيث كتبت الألف في رمى مثلا (ى)، «و ليس هناك من تعليل لهذه الظاهرة إلا قدم نطق رمى بالإمالة» «5».
و أشهر من رويت عنه الإمالة من القراء: حمزة و الكسائي، و عاصم من رواية شعبة، و أبو عمرو فأما حمزة فسنده إلى على بن أبي طالب سند كله شيوخ كوفيون، و الكوفة نزل بها رجال من قبيلة أسد التي اشتهرت بالإمالة، و أفرادها يقرؤن القران بلهجتهم في الإمالة.
__________________________________________________
(1) حرز الأماني (الشاطبية) ص 53، مرجع سابق.
(2) شرح كلا و بلى و نعم و الوقف على كل واحدة منهن في كتاب اللّه عز و جل ص 45 لمكي بن أبي طالب.
(3) انظر: في الدراسات القرانية و اللغوية: الإمالة في القراات و اللهجات العربية ص 55.
(4) الإمالة في القراات و اللهجات العربية ص 64، مرجع سابق.
(5) الإمالة في القراات و اللهجات العربية ص 62، مرجع سابق.(1/470)
و أما الكسائي فكان مولى هؤلاء الأسديين و ربيبهم فهذا سبب إكثار حمزة و الكسائي من الإمالة، إذ كان ذلك- في جماع من القول- «بهدى من شيوخهما الذين عنهم يقران، و بيئتهما التي كانا فيها يضطربان و يعيشان» «1»، و قد قيل للكسائي: إنك تميل ما قبل هاء التأنيث فقال: هذا طباع العربية.
و أما عاصم فقرأ على شيخين كبيرين: على أبي عبد الرحمن السلمي عن علي، و هو يؤثر الفتح، و أقرأ قراءته هذه لحفص، و الاخر هو زر بن حبيش عن ابن مسعود، و يؤثر عنه الإمالة، و أقرأ قراءته هذه لشعبة «2»... و على ما ذكرنا عن هؤلاء القراء تعليل ظهور الإمالة عند غيرهم.
و الإمالة في هاء التأنيث و ما شابهها من نحو (همزة، و لمزة، و خليفة، و بصيرة) هي لغة الناس اليوم و الجارية على ألسنتهم في أكثر البلاد شرقا و غربا و شاما و مصرا لا يحسنون غيرها و لا ينطقون بسواها يرون ذلك أخف على لسانهم و أسهل في طباعهم و قد حكاها سيبويه عن العرب «3».
فلا يرد هذا السؤال: هل كان النبي صلّى اللّه عليه و سلم يقرأ بالإمالة.. «4». أصلا لأنه سؤال عن صفة ذاتية للحرف عند قطاع عريض من العرب الفصحاء، و قد ورد عن «إبراهيم النخعي قال: كانوا يرون أن الألف و الياء في القراءة سواء يعني بالألف و الياء و التفخيم و الإمالة فدل ذلك دلالة قاطعة على تساوي اللغتين و أنهما عند كل الصحابة رضوان اللّه عليهم في الفشو و الاستعمال سواء، فلا وجه لاختيار شي ء من ذلك و تفضيله على الاخر» «5».
__________________________________________________
(1) انظر: الإمالة في القراات و اللهجات العربية ص 127، مرجع سابق.
(2) غاية النهاية (1/ 348)، مرجع سابق، و انظر: الإمالة في القراات و اللهجات العربية ص 123، مرجع سابق.
(3) النشر في القراات العشر (2/ 82)، مرجع سابق.
(4) راجع: الإمالة في القراات و اللهجات العربية ص 55، مرجع سابق.
(5) جمال القراء و كمال الإقراء 2/ 504 بتصرف، مرجع سابق.(1/471)
و أما ما ورد عن زيد بن ثابت أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال أنزل القران بالتفخيم كهيئة الطير عذرا أو نذرا و الصدفين ألا له الخلق و الأمر و أشباهها «1»، فهو- حال صحته- قد بين المعنى و أن المراد بالتفخيم المعنوي و لذا أدخل قوله سبحانه و تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ (الأعراف: 54)، و ليس المراد تحريك السواكن دون سكونها، و لا الفتح دون الإمالة.
و كل ما سبق أمثلة لما يستنكره بعضهم اليوم و يستوحشون من وجوده في القراات، و المرء عدو ما جهل... و يقاس عليه ما لم يذكر كصلة ميم الجمع.. و في الأصل تفصيل كثير في هذا الباب.
و أما كراهة الإمام أحمد- رحمه اللّه تعالى- لبعض القراات:
فهي كراهة قلبية و ليس تحريما أصليا لعدم شيوع ما سمع على لسانه في عصره، و ذلك كما يميل البعض إلى قراءة دون قراءة «و أثنى أحمد على قراءة أبي عمرو غير أنه كره إدغامه الكبير...» «2»، «و نقل عن أحمد أنه كان يختار قراءة نافع من طريق إسماعيل بن جعفر، قال: فإن لم يكن فقراءة عاصم من طريق أبي بكر بن بكر بن عياش، و أثنى على قراءة أبي عمرو بن العلاء، و لم يكره قراءة أحد من العشر إلا قراءة حمزة و الكسائي لما فيها من الكسر الإدغام و التكلف و زيادة المد، قال الأثرم: قلت لأبي عبد اللّه إمام كان يصلي بقراءة حمزة أصلي خلفه قال: لا يبلغ به هذا كله ولكنها لا تعجبني قراءة حمزة» «3»، و يعود الإعجاب و عدمه هنا إلى التفضيل القلبي، و الصحيح جوازه و لذا قال سويد: مضيت أنا
__________________________________________________
(1) المستدرك (2/ 264)، و قال: «هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه».
(2) المبدع (1/ 445)، مرجع سابق.
(3) المغني (1/ 292)، مرجع سابق.(1/472)
و أحمد بن رافع إلى أحمد بن حنبل رحمه اللّه فقال: ما حاجتكما؟ قلنا: نحن نقرأ قراءة حمزة و بلغنا أنك تكره قراءته، فقال أحمد رحمه اللّه: حمزة قد كان من العلم بموضع، ولكن لو قرأتم بحرف نافع و عاصم، فدعونا له و خرجنا و خرج معنا الفضل بن زياد، فقال لنا: إني لا أصلي به و أقرأ قراءة حمزة، فما نهاني عن شي ء منها قط «1»، و حمزة هو الذي صار عظم أهل الكوفة إلى قراءته من غير أن تطبق عليه جماعتهم... و درس سفيان على حمزة القران أربع دراسات، و سفيان هنا هو الثوري و هو من هو فقها «2»...
و على الرغم من تفضيل أحمد لقراءة عاصم إلا أن عاصما قد وصف في ترجمته بما ينسب لحمزة، فعن شريك قال: كان عاصم صاحب همز و مد و قراءة شديدة «3»، فما عابه على حمزة هو فيمن فضله، و إنما كان حمزة يفعل ذلك تعليما للمبتدئ ليأخذهم بالتأني و الترتيل، و ينهاهم مع ذلك عن تجاوز الحد.
و قال محمد بن الهيثم النخعي: صليت خلف حمزة رحمه اللّه فكان لا يمد في الصلاة ذلك المد الشديد، و لا يهمز الهمز الشديد.
و قال سليم: قال حمزة: ترك الهمز في المحاريب من الأستاذية، و حمزة يقول في مسألة الهمز و السكت: إنا جعلنا هذا التحقيق ليستمر عليه المتعلم «4».
__________________________________________________
(1) جمال القراء و كمال الإقراء (2/ 471)، مرجع سابق.
(2) طبقات القراء (1/ 113).
(3) سير أعلام النبلاء (5/ 258)، مرجع سابق.
(4) جمال القراء و كمال الإقراء (2/ 471)، مرجع سابق، و يراجع كلام السخاوي القيم في الدفاع عن ابن عامر و حمزة.(1/473)
ملحوظات هامة:
أولا: أصل المد هو المتواتر القراني:
أصل المد، أو اصل الإمالة أو أصل الغنة ينتمي إلى التواتر القراني لأنه جزء من الصوت الأساسي للكلمة، بخلاف التفصيل الدقيق فينتمي إلى التواتر القرائي، و قد يتساهل في أمره، و لذلك اختلفت فيه كتب القراات، و نظير ذلك الأوجه الجائزة في تخفيفات الهمز.
ثانيا: لا يقرأ بكل ما في الكتب الضابطة لعلم القراات:
بل فيها ما ينتمي إلى الشواذ «1»... ولكن المعالم الكبرى لجمهرة التفصيلات في مسائل القراات متفق عليها بين هذه الكتب، فقد تختلف هذه الكتب في ترقيق راء في بضعة كلمات ولكنها متفقة في جمهرة تفاصيل الترقيق و التفخيم، و هي تفاصيل لا تؤثر بحال على الصوت الأساسي للكلمة، و لا على تواتره، و لا على معناه... و من اللافت للنظر أن التفاصيل المختلف فيها تنتمي غالبا للغات العربية (اللهجات) و لا تخرج عنها. و إذا كانت كتب القراات المتخصصة لا يقرأ بكل ما فيها، فكيف بما ورد في ثنايا كتب الحديث أو التفسير أو الحديث؟.
ثالثا: علم التحرير يضبط الجائز من الأوجه المتعددة السائغة في اللغة فيما هو موغل في تفصيلات النطق بالحروف:
الأوجه المتعددة و التي استخرجها علم (تحرير القراات) تنتمي إلى السنة التقريرية في القراءة على أوجه اللغة العربية مما يدخل في القياس المقيد الجائز في
__________________________________________________
(1) (الصفاقسي) على النوري: غيث النفع في القراات السبع ص 6 بذيل سراج القارئ المبتدئ و تذكار المقرئ المنتهي.(1/474)
علم القراات، ولكن علم التحرير ضبط السائغ في اللغة العربية مما ورد عن الرواة و أهل الأداء منها، و ليست العملية خاضعة للضرب الحسابي على نحو ما يظهر في شرح ابن القاصح للشاطبية «1»، و قد بين صاحب غيث النفع ضرورة ذلك و اتخذه منهجا له فقال: «ماشيا في جميع ذلك على طريقة المحققين كالشيخ العلامة أبي الخير محمد بن محمد الجزري الحافظ رحمه اللّه من تحرير الطرق، و عدم القراءة بما شذ، و بما لا يوجد كما يفعله كثير من المتساهلين القارئين بما يقتضيه الضرب الحسابي؛ فإن ذلك غير مخلص عند اللّه عز و جل، و كان شيخنا رحمه اللّه يحذرني من ذلك كثيرا و يقول ما معناه إياك أن تميل إلى الراحة و البطالة و تقرأ كتاب اللّه بما يقتضيه الضرب الحسابي كما يفعله أهل الكسل» «2» على أن هذه الأوجه كلها أوجه تصويتية و ليست إبدالا لكلمة مكان أخرى، بل الخلاف بينها داخلي في تخفيف حرف أو طروء أنواع التغيير الصوتي الداخلي عليه هو لا غيره مما يخضع لقواعد العربية كتبادل الفتح و الإمالة الصغرى و الكبرى على الألف...
المطلب الرابع: القراءة التفسيرية:
هي التي وردت في ثنايا كلام السلف أثناء قراءتهم للقران في وعظ أو في مجلس تفسير، أو علم، دون فاصل بين ما هو من القران و ما هو من كلامهم فيتوهم السامع أنه قراءة، و ليس كذلك و هذا النوع يشبه الحديث المدرج، فتسمية الحديث المدرج بالحديث فيه تجوز كبير، و كذلك تسمية هذا النوع بالقراءة.
__________________________________________________
(1) سراج القارئ المبتدئ و تذكر المقرئ المنتهي عند الكلام على أوجه حمزة على التخفيف الرسمي في هؤلاء مثلا- باب وقف حمزة و هشام.
(2) غيث النفع في القراات السبع ص 6، مرجع سابق.(1/475)
أصل القراءة التفسيرية:
كان النبي صلّى اللّه عليه و سلم قد منع من كتابة غير القران معه كما فصل الباحث، ثم أذن لهم بعد ذلك، امرا لهم بأن يخلصوا القران ثم أطلق الإذن لهم، و بعد أن أذن لهم بكتابة غير القران معه ربما ترخصوا فكتبوا التفسير الذي سمعوه من النبي صلّى اللّه عليه و سلم أو استنبطوه بما دل على الجزم به عندهم، فيعدها من لا يعلم قراءة وهما كما جاء عن أبي يونس مولى عائشة- رضي اللّه تعالى عنها- أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا و قالت إذا بلغت هذه الاية فاذني حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى فلما بلغتها اذنتها فأملت علي حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى و صلاة العصر و قوموا للّه قانتين قالت عائشة سمعتها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم «1»، فما الذي سمعته أيقرأ تلاوة أم يقرأ قراءة تفسير؟ و يدل لذلك اختلاف الألفاظ بين الصحابة فقد جاء هذا الحديث عن البراء ابن عازب قال: نزلت هذه الاية حافظوا على الصلوات و صلاة العصر فقرأناها ما شاء اللّه ثم نسخها اللّه فنزلت حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى فقال رجل كان جالسا عند شقيق له: هي إذن صلاة العصر؟ فقال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت و كيف نسخها «2»، و مثله عن عمرو بن رافع مولى عمر بن الخطاب حدثهما أنه كان يكتب المصاحف في عهد أزواج النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: فاستكتبتني حفصة مصحفا و قالت إذا بلغت هذه الاية من سورة البقرة فلا تكتبها حتى تأتيني بها فأملها عليك كما حفظتها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال فلما بلغتها جئتها بالورقة التي أكتبها فقالت اكتب حافظوا على الصلوات و الصلاة
__________________________________________________
(1) مسلم (1/ 437)، مرجع سابق.
(2) مسلم (1/ 438)، مرجع سابق.(1/476)
الوسطى و صلاة العصر و قوموا للّه قانتين «1»، و في لفظ: أن حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها مصحفا فقالت: إذا بلغت هذه الاية حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى فلا تكتبها حتى أمليها عليك كما سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقرؤها فلما بلغتها أمرته فكتبها حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى و صلاة العصر و قوموا للّه قانتين «2»... و اختلاف ألفاظ الروايات و عدم استقرارها يوضح تمام التوضيح أنها قراات تفسير، و يشبه ذلك قوله صلّى اللّه عليه و سلم يوم الأحزاب:
«شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ اللّه بيوتهم و قبورهم نارا» «3».
فبالتأمل يظهر للباحث المتجرد على أن كلام أمهات المؤمنين يراد به التفسير اختلاف ألفاظ الروايات في إثبات تفسير الصلاة الوسطى فيكون معنى قولهن سمعتها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أي التفسير عند قراءة الاية، و ليس الترتيل بقراءتها ضمن الاية، و حكمها في الأخير حكم المرفوع أو الموقوف من الأحاديث بحسب كل، و يدل على ذلك دلالة لا شبهة فيها رواية: صلاة الوسطى صلاة العصر «4»، و هذا لفظ التفسير كما هو ظاهر، و يؤيده ما رواه أبو عبيد بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه كان يقرؤها حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى صلاة العصر بغير واو «5».
و يوضح هذه المسألة أكثر:
أن الصحابة رضي اللّه عنهم كانوا يتجوزون في ذكر أن كذا من القران مع بقاء حدوده اللفظية واضحة كما في حديث عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال: لعن اللّه الواشمات
__________________________________________________
(1) ابن حبان (14/ 228)، مرجع سابق.
(2) الطبري (2/ 562)، مرجع سابق.
(3) مسلم (1/ 436)، مرجع سابق.
(4) سعيد بن منصور في سننه (3/ 913)، مرجع سابق.
(5) أبو عبيد في الفضائل ص 293، مرجع سابق.(1/477)
و المستوشمات و النامصات و المتنمصات و المتفلجات للحسن المغيرات خلق اللّه قال فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب و كانت تقرأ القران فأتته فقالت ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات و المستوشمات و المتنمصات و المتفلجات للحسن المغيرات خلق اللّه فقال عبد اللّه و ما لي لا ألعن من لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و هو في كتاب اللّه... الحديث «1».
و لأن القراءة الشاذة- في الغالب- تكون تفسيرا للقراءة المشهورة... سميت قراءة هنا مجازا: كما قال أبو عبيد في الفضائل: «القصد من الشاذة تفسير المشهورة و تبيين معانيها كقراءة عائشة و حفصة: و الصلاة الوسطى صلاة العصر» «2».
و مثل ذلك ما قرره الغزالي- رحمه اللّه تعالى- في المنسوب إلى ابن مسعود من قراءة فصيام ثلاثة أيام متتابعات حيث قال: «تحمل على أنه ذكرها في معرض البيان لما اعتقده مذهبا فلعله اعتقد التتابع حملا لهذا المطلق على المقيد بالتتابع في الظهار» «3»، و حملوا جميع ما جاء من الروايات مخالفا لخط المصحف إذا تيقنت صحنه على وجه التفسير، لا أنه من التلاوة «4».
و جعل السيوطي هذا النوع شبيها بالحديث المدرج فقال:
«و ظهر لي سادس يشبهه من أنواع الحديث المدرج و هو ما زيد في القراات على وجه التفسير كقراءة سعد بن أبي وقاص و له أخ أو أخت من أم أخرجها سعيد بن منصور» «5».
__________________________________________________
(1) مسلم (3/ 1678)، مرجع سابق.
(2) فضائل القران لأبي عبيد ص 289، مرجع سابق.
(3) المستصفى ص 81، مرجع سابق.
(4) شرح الهداية ص 8، مرجع سابق.
(5) الإتقان (1/ 207)، مرجع سابق.(1/478)
و أبرز مثال يمكن اصطحابه هنا لتقريب هذا الموضوع:
ما جاء في حديث أبي سفيان عن ما حدث بينه و بين هرقل؛ إذ فيه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال لهرقل: «فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك اللّه أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) (ال عمران: 64) «1»، فالواو هنا حكم عليها بأنها زيادة على الاية سابقا خضوعا لمنهج التواتر القراني؛ إذ وقعت (و يا أهل الكتاب الخ) هكذا بإثبات الواو في أوله، كأنها داخلة على مقدر معطوف على قوله أدعوك فالتقدير أدعوك بدعاية الإسلام و أقول لك و لاتباعك امتثالا لقول اللّه تعالى يا أهل الكتاب.. «2»..
و لذا قال مجاهد- رحمه اللّه تعالى-:
«لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم أحتج أن أسأل ابن عباس عن كثير من القران مما سألت» «3»، و كلام مجاهد هنا يدل دلالة واضحة على أن «القراات الشاذة» التي تنسب إلى مصحف ابن مسعود تفسير من ابن مسعود و ليست بقراءة قرانية.
و مثال ذلك ما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما: «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج مع نظائر لهذه الحروف كثيرة» «4»، و قرر ابن حزم
__________________________________________________
(1) البخاري (1/ 9)، مرجع سابق.
(2) فتح الباري (1/ 39)، مرجع سابق.
(3) الترمذي (6/ 411)، مرجع سابق.
(4) انظر: القرطبي (1/ 84)، مرجع سابق.(1/479)
- رحمه اللّه تعالى- قاعدة جامعة لمثل هذه المواضع فقال: «كل ما ورد من قراءة خلاف المتلقى فهو تفسير أو نحو ذلك أو كذب» «1».
بدهية القراات التفسيرية:
و لأن القراات التفسيرية معروفة معلومة صارت بديهية في كلام كثير من أهل العلم، و فيها قالوا:
و السبعة القراء ما قد نقلوا بغيره فمتواتر، و ليس يعمل
في الحكم ما لم يجر مجرى التفاسير، و إلا فادر
قولين إن عارضها المرفوع قدمه. ذا القول هو المسموع «2»
و لذا طبع في نفوس المسلمين أن كتاب اللّه لم يشب أي لم تخالطه شائبة من قول بشر كما حدث في كتب اليهود و النصارى- فهو ما بين الدفتين لا ويادة و لا نقصان- فعن عبد اللّه بن عبّاس قال: يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب و كتابكم الّذي أنزل على نبيّه صلّى اللّه عليه و سلّم أحدث الأخبار باللّه تقرؤنه لم يشب.. «3»..
__________________________________________________
(1) انظر: الأحكام لابن حزم (4/ 556)، مرجع سابق.
(2) محمد يحي بن الشيخ أمان المدرس بمدرسة الفلاح الملكية: التيسير شرح منظومة التفسير للشيخ عبد العزيز الزمزمي ص 77.
(3) البخاري (2/ 953)، مرجع سابق.(1/480)
المطلب الخامس: القراءة بالمعنى:
أصل القول بذلك: يعود القول بجواز القراءة بالمعنى إلى:
1- اطّراح المنهج القرائي في ثبوت اللفظ القراني، و هذا كاف عما بعده؛ إذ كيف يتأتى القول بجواز القراءة بالمعنى مع كل ما تقدم مما يدل على أن التوقيفية و التلقي هو المنهج القرائي لا غير؟.
2- الاستدلال بأدلة لا أصل لها أو بأدلة ضعيفة.
3- الاستدلال بأدلة صحيحة توهم ذلك، مع أن حقيقتها غير ذلك...
و كل الأدلة خارج نطاق المنهج القراني و القرائي، و تشبث بها المستشرقون «ليؤكدوا أن نظرية القراءة بالمعنى كانت بلا ريب أخطر نظرية في الحياة الإسلامية لأنها أسلمت النص القراني إلى هوى كل شخص يثبته على هواه» «1».
الأدلة التي اعتمدوها على القول بجواز القراءة بالمعنى:
أولا: بتأويل الأحرف السبعة بمترادفات سبع بحسب اللغات:
و أيدوا قولهم هذا ببعض الروايات منها: منها: ما جاء عن أبي بن كعب رضي اللّه عنه قال النبي صلّى اللّه عليه و سلم:... حتى بلغ سبعة أحرف قال ليس فيها إلا شاف كاف قلت غفور رحيم عليم حكيم سميع عليم عزيز حكيم نحو هذا ما لم يختم اية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب «2»، و مثله عن أبي بكرة رضي اللّه عنه أن جبريل عليه السّلام قال: كل شاف كاف ما لم يختم اية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب نحو قولك تعال و أقبل و هلم و اذهب و أسرع و اعجل «3»، و نحو ذلك من الروايات.
__________________________________________________
(1) صبحي الصالح (دكتور): مباحث في علوم القران ص 107، ط 3، 1964 م، دار العلم للملايين- بيروت.
(2) النسائي في الصغرى (1/ 567)، أبو داود (2/ 76)، مرجعان سابقان.
(3) أحمد (5/ 51)، مرجع سابق.(1/481)
الجواب على الاستدلال بهذه الروايات و أمثالها:
1- ليس في ذلك دليل ظاهر على الدعوى؛ إذ غاية ما فيها أنها مثلت الجواز في تعدد القراات، و عدم تضارب المعاني على الرغم من ذلك بهذين المثالين، فقوله: «سميعا عليما و غفورا رحيما...» و نحو ذلك «أراد به ضرب المثل للحروف التي نزل القران عليها أنها معان متفق مفهومها مختلف مسموعها لا تكون في شي ء منها معنى و ضده و لا وجه يخالف وجها خلافا ينفيه» «1».
2- و قرر القرطبي ذلك أيضًا نقلا عن ابن الأنباري فقال: «هذا الحديث يوجب أن القراات المأثورة المنقولة بالأسانيد الصحاح عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم إذا اختلفت ألفاظها و اتفقت معانيها كان ذلك فيها بمنزلة الخلاف في هلم و تعال و أقبل فأما ما لم يقرأ به النبي صلّى اللّه عليه و سلم و أصحابه و تابعوهم رضي اللّه عنهم فإنه من أورد حرفا منه في القران بهت و مال و خرج من مذهب الصواب» «2».
3- كما أن لهذا الحديث مدلولا اخر يتصل بعدم الغلو و التنطع في الإقراء، و يدل على التسامح و عدم الفزع عند وقوع الخطأ في اللفظ القراني أو في أدائه، و مثل ذلك ما روي عن عبد اللّه ابن مسعود رضي اللّه عنه: ليس الخطأ أن تقرأ بعض القران في بعض و لا أن تختم اية «غفور رحيم» «بعليم حكيم» أو «بعزيز حكيم» ولكن الخطأ أن تقرأ ما ليس فيه أو تختم اية رحمة باية عذاب «3»، و لعل هذا يتكلم عن الوقوع لا عن الجواز ابتداء، و لذا تكلم العلماء على الوقوع المفسد «4» و أن ضابطه تغير المعنى...
__________________________________________________
(1) التمهيد (8/ 283)، مرجع سابق.
(2) القرطبي (19/ 42)، مرجع سابق.
(3) عبد الرزاق (3/ 364)، مرجع سابق.
(4) و راجع: كتاب الخطأ في القراءة للنسفي- مخطوط عند الباحث مصور عن كتب خانة- الهند.(1/482)
4- و هذا ما قرره ابن مسعود ذاته عندما أراد أن يوضح أن الاختلاف اللفظي بين الأحرف السبعة لا يؤدي إلى التناقض فقال: «و اعتبروا ذاك بقول أحدكم لصاحبه كذب و فجر و بقوله إذا صدقه صدقت و بررت إن هذا القران لا يختلف و لا يستشنى و لا يتفه لكثرة الرد فمن قرأه على حرف فلا يدعه رغبة عنه»، و بين لهم ضرورة التوقيفية فقال: «إن هذا القران أنزل على حروف و اللّه إن كان الرجلان ليختصمان أشد ما اختصما في شي ء قط فإذا قال القاري هذا أقرأني قال أحسنت و إذا قال الاخر قال كلاكما محسن...» «1».
و لذا قال ابن تيمية: «و أما من قال عن ابن مسعود أنه كان يجوز القراءة بالمعنى فقد كذب عليه، و إنما قال قد نظرت إلى القراء فرأيت قراءتهم متقاربة، و إنما هو كقول أحدكم أقبل و هلم و تعال فاقرؤوا كما علمتم» «2»، و بين الجزري عذره- إن صح ما نقل عنه- فقال: «و أما من يقول إن بعض الصحابة كابن مسعود كان يجيز القراءة بالمعنى فقد كذب... نعم كانوا ربما يدخلون التفسير في القراءة إيضاحا و بيانا لأنهم محققون لما تلقوه عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قرانا فهم امنون من الالتباس و ربما كان بعضهم يكتبه معه لكن ابن مسعود رضي اللّه عنه كان يكره ذلك و يمنع منه» «3».
5- و قال ابن عطية: «لم تقع الإباحة في قوله عليه السلام: «فاقرؤا ما تيسر منه» بأن يكون كل واحد من الصحابة إذا أراد أن يبدل اللفظة من بعض هذه اللغات جعلها من تلقاء نفسه، و لو كان هذا لذهب إعجاز القران... و إنما وقعت
__________________________________________________
(1) أحمد (1/ 405)، مرجع سابق، و هو في مجمع الزوائد (7/ 153).
(2) ابن تيمية (13/ 397)، مرجع سابق.
(3) النشر في القراات العشر (1/ 32)، مرجع سابق.(1/483)
الإباحة في الحروف السبعة للنبي صلّى اللّه عليه و سلم ليوسع بها على أمته فأقرأ مرة لأبي بما عارضه به جبريل و مرة لابن مسعود بما عارضه به أيضًا...» «1».
6- حتى من مال إلى تفسير الأحرف السبعة بالمترادفات فإنه يقرر أن:
«الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي أي أن كل أحد يغير الكلمة بمرادفها في لغته بل المراعى في ذلك السماع من النبي صلّى اللّه عليه و سلم و يشير إلى ذلك قول كل من عمر و هشام:
أقرأني النبي صلّى اللّه عليه و سلم» «2».
ثانيا: و استدلوا بما ورد: عن أبي الدرداء:
أنه أقرأ رجلا إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (الدخان: 43- 44) فقال الرجل: طعام اليتيم فقال أبو الدرداء: الفاجر «3»، و الظاهر أن الرجل قال طعام اليثيم بالثاء كما في مقدمة المباني و الحاكم و تصحفت- و ذلك ظاهر- ولكن ما كان لأبي الدرداء أن يضيق من قلب الهمزة ياء، و ذلك وارد في العربية، قريب استعماله في قراات بعض القراات المتناقلة كحمزة- و إن كان يسهلها و لا يقلبها-، فيترجح أن الرد لا ليقرأ بل هو تفسير ليدرك المعنى، و هذا واضح.
و مثل ذلك يقال فيما روي عن ابن مسعود أقرأ رجلا طعام الأثيم فلم يفهمها؛ فقال له: طعام الفاجر، و يزاد بأن بعض الناس رووها قراءة و ليست كذلك، على حد تعبير ابن العربي: «فجعلها النّاس قراءة» «4»، و أما ما ورد عن مالك فالصحيح أن المنقول عنه: «أنّه لا يقرأ في الصّلاة بما يروى عن ابن مسعود. و قال ابن شعبان: لم
__________________________________________________
(1) القرطبي (1/ 47)، مرجع سابق.
(2) فتح الباري (9/ 27)، مرجع سابق.
(3) الحاكم (2/ 489)، مرجع سابق.
(4) أحكام القران لابن العربي (4/ 1692) عند تفسير قوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ.(1/484)
يختلف قول مالك إنّه لا يصلّى بقراءة ابن مسعود فإنّه من صلّى بها أعاد صلاته؛ لأنّه كان يقرأ بالتّفسير» «1» و من أبرز أدلة عدم كونها قراءة أنها «لو صحّت قراءته لكانت القراءة بها سنّة، ولكنّ النّاس أضافوا إليه ما لم يصحّ عنه؛ فلذلك قال مالك: لا يقرأ بما يذكر عن ابن مسعود، و الّذي صحّ عنه ما في المصحف الأصليّ» «2».
و قال بعضهم: «باب الحجة في الصلاة بقراءة ابن مسعود و أبي و غيرهما ممن أثني على قراءته» «3»، و احتج لذلك بنحو حديث: «خذوا القران من أربعة من ابن أم عبد فبدأ به و معاذ بن جبل و أبي بن كعب و سالم مولى أبي حذيفة» «4».
فهذه حجة مؤكدة على أخذ القراءة من ابن مسعود كما سبق على هيئة تفصيلية أكثر، ولكن ما هي قراءة ابن مسعود: أهي ما يتناقله القراء عبر منهج التلقي الصارم أم ما تتضمنه بعض الروايات الحديثية من نفي للمعوذتين و نحوها؟
و الجواب ظاهر، و هل قراءة الناس في العراق إلا عن ابن مسعود ولكننا نقرأ المتناقل المتلقى عنه لا ما أورد على خلاف متهج التلقي القراني، على أن حرف عبد اللّه الصحيح أنه موافق لمصحفنا يدلك على ذلك أن أبا بكر بن عياش قال:
قرأت على عاصم، و قرأ عاصم على زر، و قرأ زر على عبد اللّه.
ثالثا: و مما قد يستدلون به:
ما روي عن الأعمش قال سمعت أنس بن مالك يقول في قول اللّه عز و جل و أقوم قيلا قال و أصدق فقيل له إنها تقرأ و أقوم فقال: أقوم و أصدق
__________________________________________________
(1) أحكام القران لابن العربي (4/ 1692) عند تفسير قوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ.
(2) أحكام القران لابن العربي (4/ 1692) عند تفسير قوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ.
(3) نيل الأوطار (2/ 261)، مرجع سابق.
(4) البخاري (3/ 1385)، مسلم (4/ 1913)، مرجعان سابقان.(1/485)
و اخذ «1»، و الجواب: أن هذا كالسابق فإنما كان يقرؤها تفسيرا لا قراءة، و لعل الأعمش فهم ذلك حيث قال سمعت أنس بن مالك يقول في قول اللّه عز و جل و أقوم قيلا... لم يقل قرأها كذا، أو تلاها فأراد التفسير كما ذكر ذلك ابن كثير «2».
القراءة بالمعنى تخالف حقيقة القران:
و كما أن القراءة بالمعنى تخالف منهج التلقي القراني، فكذلك تخالف ماهية القران: من حيث إنه كلام اللّه الذي لا يؤديه بشر إلا بلفظه، و القارئ بالمعنى يزعم أنه يحكيه بمعناه لا بلفظه.
و أنه معجز بالنظم، و القارئ بالمعنى يقرأ نظم بشر، و هذا من أوضح الأدلة على منع تغير اللفظ ففي «ذلك ما أبان أن نظم القران ليس من عند جبريل ولكنه من عند اللطيف الخبير» «3».
و القارئ بالمعنى يجعله كلام بشر، و القران يدفع ذلك و ينفيه، و بجعل القارئ به مفتريا محتقبا إثما و زورا.
و القارئ بالمعنى يجعله غير محفوظ الألفاظ، و القران يمنع ذلك قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ (يونس: 15)، وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (الحاقة: 44- 46)، و القران يجب ترتيله، و القارئ بالمعنى لا يلتزم لفظه فكيف يجب ترتيله؟.
__________________________________________________
(1) الطبري (29/ 131)، أبو يعلى (7/ 88)، مرجعان سابقان.
(2) ابن كثير (4/ 436)، مرجع سابق.
(3) شعب الإيمان (1/ 194)، مرجع سابق.(1/486)
و القران مكتوب كذلك في اللوح المحفوظ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (البروج: 21- 22) و القراءة بالمعنى تجعله متعدد الجهات بما لا يحصى...
قال أبو بكر الأنباري: «و قد ترامى ببعض هؤلاء الزائغين إلى أن قال من قرأ بحرف يوافق معنى حرف من القران فهو مصيب إذا لم يخالف معنى و لم يأت بغير ما أراد اللّه و قصد له... و لا يلتفت إلى قائله لأنه لو قرأ بألفاظ تخالف ألفاظ القران إذا قاربت معانيها و اشتملت على عامتها لجاز أن يقرأ في موضع الحمد للّه رب العالمين الشكر للباري ملك المخلوقين و يتسع الأمر في هذا حتى يبطل لفظ جميع القران و يكون التالي له مفتريا على اللّه عز و جل كاذبا على رسوله صلّى اللّه عليه و سلم» «1».
و الصحابة لم يكونوا يغيرون مواضع الايات، و لا يتركون اية قد وضح نسخ الحكم فيها فكيف هم فاعلون مع نصوص الايات ذاتها كما قال ابن الزّبير: قلت لعثمان ابن عفّان وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً قال: قد نسختها الاية الاخرى فلم تكتبها أو تدعها قال يا ابن أخي لا أغيّر شيئا منه من مكانه «2».
زيادة نقل عن بعض أهل العلم:
و سئل ابن الصلاح- رحمه اللّه تعالى- في مسألة القراءة بالمعنى فقال السائل:
أيجوز لقارئ أن يقرأ في كتاب اللّه تعالى مكان اتينا أعطينا و فتجسسوا فتخبروا و سولت زينب و أن يستبدل تاء القسم بواوه أو بائه و أن يقرأ مكان موسى موشى منقوطا على أصل العبرانية و أن يحرك الدال في قوله تعالى المص و كهيعص بإحدى الحركات الثلاث... و ما يجري هذا المجرى، و أن يقرأ القران علي المعنى أعني يستبدل كل كلمة شاء بلفظ اخر يفيد معناها؟.
__________________________________________________
(1) انظر: تفسير القرطبي (19/ 41)، مرجع سابق.
(2) البخاري (4/ 1646)، مرجع سابق.(1/487)
فأجاب: «أما القراءة بمجرد المعنى من غير تقييد بنقل من ذاكره عن من تقدمه فذلك إفراط في الزيغ زائد و كان وقع (من) ابن شنبوذ و ابن مقسم، و وثب عليهما بمر الإنكار أهل العلم بالقران، و استتيبا و كفا فليتق اللّه الجليل عظم جلاله و لا يستجرئ على كتابه فقد علم ما علم على المحرف له» «1».
من قال بالقراءة بالمعنى يكفّر لتغييره كلام اللّه جل جلاله:
و لذلك كله فإن الذي يقول بالقراءة بالمعنى يكفّر عند أهل العلم كما قال أبو بكر الأنباري: «فإذا قرأ قارئ تبت يدا أبي لهب و قد تب ما أغنى عنه... في جيدها حبل من ليف فقد كذب على اللّه جل و علا، و قوله ما لم يقل، و بدل كتابه، و حرفه و حاول ما قد حفظه منه، و منع من اختلاطه به و في هذا الذي أتاه توطئة الطريق لأهل الإلحاد ليدخلوا في القران ما يحلون به عرا الإسلام و ينسبونه إلى قوم كهؤلاء القوم الذين أحالوا هذا بالأباطيل عليهم و فيه إبطال الإجماع الذي به يحرس الإسلام و بثباته تقام الصلوات و تؤدى الزكوات و تتحرى المتعبدات و في قول اللّه تعالى: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ دلالة على بدعة هذا الإنسان و خروجه إلى الكفر» «2».
الإشارة إلى ما وقع من ابن شنبوذ:
و قد ذكر ابن النديم في ترجمة ابن شنبوذ أن «اسمه محمد بن أحمد بن أيوب بن شنبوذ، و كان دينا فيه سلامة و حمق قال لي الشيخ أبو محمد يوسف بن الحسن السيرافي أيده اللّه عن أبيه أنه كان كثير اللحن قليل العلم، و قد روى قراات كثيرة
__________________________________________________
(1) فتاوى و مسائل ابن الصلاح في التفسير و الحديث و الأصول و الفقه و معه أدب المفتي و المستفتي (1/ 231).
(2) انظر: القرطبي (1/ 84)، مرجع سابق.(1/488)
و له كتب مصنفة في ذلك و توفي سنة ثمان و عشرين و ثلثمائة في محبسه بدار السلطات، و مما كان يقرأ به: إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فامضوا إلى ذكر اللّه، و قرأ و كان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا، و قرأ فلما خر تبينت الناس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين، و قرأ و الليل إذا يغشى و النهار إذا تجلى و الذكر و الأنثى...
و يقال أنه اعترف بذلك كله ثم استتيب و أخذ خطه بالتوبة فكتب يقول: أنا محمد بن أحمد بن أيوب قد كنت أقرأ حروفا تخالف مصحف عثمان المجمع عليه و الذي اتفق أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم على قراءته ثم بان لي أن ذلك خطأ، و أنا منه تائب و عنه مقلع، و الى اللّه جل اسمه منه بري ء إذ كان مصحف عثمان هو الحق الذي لا يجوز خلافه و لا يقرأ غيره» «1».
__________________________________________________
(1) الفهرست 2/ 47، مرجع سابق.(1/489)
المبحث الثالث: المنهجية الشرعية لتناقل القران الكريم «التواتر في نقل ألفاظ القران»:
تمهيد:
و هذا المبحث من أجل المباحث، و قد عني به العلماء الأعلام عناية شديدة، و أفاضوا فيه كثيرا، إلا أنه قد وقع في عبارات كثير منهم اضطراب شديد، و ذلك يرجع لعدة أسباب:
1- منها غموض معنى التواتر في حد ذاته حتى إنه عرضت فيه شبه لبعض الباحثين عنه جعلتهم حيارى في أمره.
2- الخلط بين مناهج العلوم: حيث فهم بعضهم أن معنى التواتر القراني و التواتر القرائي هو معنى التواتر الحديثي تماما، و بناء على ذلك كرروا مصطلح (الأسانيد المتواترة) في بيان علم القران و علم القراءة «1»، و هذا فيه قصور شديد، و يسهل الاعتراض عليه تماما، و لذا قال الذهبي:
«و من ادعى تواترها فقد كابر الحس» «2»، و المراد أنه إذا ادعى تواتر القراات بحسب التواتر الحديثي...
3- و منها ظن بعضهم أن خبر الاحاد لا يفيد العلم، و إنما يفيد العلم الخبر المتواتر مع أن خبر الاحاد قد يفيد العلم، و ذلك إن احتفت به قرائن توجب ذلك.
4- و منها: أن بعضهم حصر حصول اليقين بالتواتر الحديثي، و من فعل ذلك فإنه يحجّم دائرة واسعة تجتمع فيها ركائز علمية كثيرة يحدث منها اليقين.
__________________________________________________
(1) كثر هذا جدا. انظر مثلا: سنن القراء و مناهج المجودين ص 110، مرجع سابق.
(
2) سير أعلام النبلاء (10/ 171)، مرجع سابق.(1/490)
5- و منها اعتماد بعضهم على أخبار رويت في ذلك لقول بعض المحدثين فيها أخبار صحيحة الإسناد تطعن بطريق أو بأخرى في دقة وصول القراءة القرانية إلينا، مع أن الحكم بصحة الإسناد لا يقضي الحكم بصحة الخبر و هو أمر مقرر في علم أصول الأثر «1».
6- و منها: عدم التفريق بين مراتب الأصوات في حروف القران، و هي:
أ- الفونيمات: و هي الأصوات الجامدة التي لا يعقل نطق الكلمة بدونها.
ب- الألفونات: و هي المصوتات (حروف المد و اللين) في مرتبتها التي لا تعقل اللغة العربية بدونها، فلا تعقل العربية بدون شي ء من المد الزائد عن الأصلي قبل الهمز و السكون... فهذه لا يبحث عن تواترها لأنها من ذاتيات الحرف و مكوناته.
ج- التصويت بما هو زائد على ذلك، و قيام بعض الأصوات مقام بعض، كسكون ميم الجمع يقوم مقامه صلة الميم، و كتحقيق الهمز يقوم مقامه تخفيف الهمز، و كبعض الكلمات التي حل محلها غيرها بإبدال أو تقديم و تأخير... فهذه محل بحث التواتر القرائي.
د- ما يدخل ضمن نطاق علم التحرير، و هو البحث عن الأوجه المتعددة لاجتماع الكلمات الممالة مع الراات المرققة و المفخمة لورش مثلا، و الأوجه المتعددة لتخفيف الهمز وقفا... فهذه كلها أوجه موغلة في الأداء... و البحث فيها لغوي صرف، و إن كان أصلها قائم على التعليم المباشر من النبي صلّى اللّه عليه و سلم.
__________________________________________________
(1) التبيان للجزائري ص 127.(1/491)
و سنتكلم في هذا الكتاب- بصورة مختصرة- عن التواتر القراني حيث نذكر أن القران الكريم تناقلته الأمة عن الأمة على هيئة لا يمكن لعاقل بعدها أن يقول:
نقص من القران شي ء أو زاد، و أما موضوع التواتر القرائي فلعلنا نعرضه بصورة مفصلة في كتاب اخر، و يمكن مراجعة الأصل للتوسع.
و مطالب هذا المبحث تنحصر في المطلبين التاليين:
المطلب الأول: التواتر القراني.
المطلب الثاني: من أهم اثار منهج التواتر القراني (المنهج القراني في إثبات ما هو قران).
المطلب الأول: التواتر القراني:
التواتر القراني أعظم أنواع التواتر بلا مقارنة مع التواتر الحديثي حيث تتناقل القران الأمة عن الأمة، و قد فهم الصحابة رضي اللّه عنهم ضرورة التناقل للقران الكريم اخرا عن أول فعن أبي الدرداء قال: كنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شي ء قال فقال زياد بن لبيد الأنصاري: يا رسول اللّه! و كيف يختلس منا و قد قرأنا القران فو اللّه لنقرأنه و لنقرئنه نساءنا و أبناءنا، و في لفظ للحاكم: قال زياد: بأبي و أمي و كيف يذهب أوان العلم، و نحن نقرأ القران و نعلمه أبناءنا و يعلمه أبناؤنا أبناءهم إلى أن تقوم الساعة... الحديث «1».
فقد حاز نقل القران أعلى درجات التوثيق بحيث بلغ مبلغا يضطر إلى التأكد من أنه هو كما أنزله اللّه جل جلاله، بل فاق أقوى وسائل النقل قطعية «لأنه المعجز في
__________________________________________________
(1) الحاكم (1/ 179)، الترمذي (5/ 31)، مرجعان سابقان.(1/492)
إثبات نبوة النبي صلّى اللّه عليه و سلم و طريق معرفته متوقف على القطع، و لذلك وجب على النبي صلّى اللّه عليه و سلم إشاعته و إلقاؤه على عدد التواتر» «1».
و لأهمية موضوع التواتر القرانيأراد الجويني تأليف كتاب فيه فقال: «و لا ينبغي أن ينسبنا الناظر و المنهي إلى هذا المقام إلى تقصير فيما يتعلق بمحل الإشكال في نقل القران العظيم فإنه قطب عظيم لم يشف القاضي «2» فيه الغليل في كتاب الانتصار و إن عد ذلك من أجل مصنفاته و في نفسي أن أجمع من ذلك ما تقر به الأعين إن شاء اللّه تعالى» «3».
مدلول التواتر:
التواتر لغة
هو التتابع بين شيئين مع وجود انقطاع، لكن لفظ التواتر صار واردا عرفا على التتابع دون انقطاع كما قال السرخسي: «مأخوذ من قول القائل تواترت الكتب إذا اتصلت بعضها ببعض في الورود متتابعا» «4».
و أما المدلول الاصطلاحي للفظ التواتر:
فتلخصه مجلة الأحكام العدلية في التالي:
«مادة 1677: التواتر هو خبر جماعة لا يجوز العقل اتفاقهم على الكذب» «5».
و العلاقة بين المعنى الاصطلاحي و اللغوي:
أن اليقين يستلزم تتابع المخبرين على الإخبار بشي ء معين.
__________________________________________________
(1) الإحكام (2/ 127)، مرجع سابق.
(2) يعني القاضي ابن الباقلاني، و كتابه الانتصار لنقل القران.
(3) البرهان (1/ 427)، مرجع سابق.
(4) أصول السرخسي (1/ 282)، مرجع سابق.
(5) مجلة الأحكام العدلية ص 338، و انظر: الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي (2/ 285).(1/493)
إفادة التواتر لليقين مطلقا:
«أكثر العقلاء على انه إذا تواتر الخبر أفاد العلم اليقين سواء كان خبرا عن أمور موجودة في زماننا كالإخبار عن البلدان البعيدة أو عن أمور ماضية كالأخبار عن وجود الأنبياء عليهم السلام و غيرهم في القرون الماضية» «1»، و لذا حقق العلماء أن ضابط الخبر المتواتر إفادة العلم، و قرر الدهلوي بأنه ليس ميزان التواتر عدد الرواة و لا حالهم ولكن اليقين الذي يعقبه في قلوب الناس «2».
و من هنا نخلص إلى تقرير أن المتواتر القرائي يفيد العلم بضوابط التواتر التي لا يشترط فيه تحديد حد للعدد، و لئن وجد التفاوت بين الخبر المتواتر و بين غيره من المحسوسات و البديهيات فللتفاوت في العلوم أو لكثرة الاستعمال فلا يخرجه ذلك عن اليقين، و تفاوت اليقين لا يعني طروء الشك فيه كتفاوت الخيرية في الأنصار كما قال صلّى اللّه عليه و سلم: «أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الأخيار» «3».
تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم أن القران كتاب لا ريب فيه (قطعية وصول القران إلينا):
صار من البدهيات العالمية أن يقال: إن القران الكريم وصل إلينا وصولا مقطوعا به، فهو كتاب لا رَيْبَ فِيهِ (البقرة: 2)، و قد جعل أهل العلم هذه البدهية من المسلمات عند نقاش أي مسألة تحتاج إليها، أو ترتكز عليها، فيقال عند ذلك «لأن القران ثبت بطريق مقطوع به و هو التواتر» «4».
__________________________________________________
(1) انظر: المحلى، الإبهاج 2/ 287، الإحكام للامدي 2/ 31، البرهان 1/ 368، روضة الناظر 2/ 93، التبصرة في أصول الفقه ص 292، المحصول في علم الأصول 4/ 232.
(2) انظر: الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف ص 50 للدهلوي.
(3) الموافقات (2/ 35)، مرجع سابق، و الحديث رواه البخاري (3/ 1380)، مسلم (4/ 1785)، مرجعان سابقان.
(4) المبدع (1/ 444)، مرجع سابق.(1/494)
و لذا فلا خلاف أن كل ما هو من القران يجب أن يكون متواترا في أصله و أجزائه... لأن هذا المعجز العظيم الذي هو أصل الدين القويم و الصراط المستقيم مما تتوفر الدواعي على نقل جمله و تفاصيله فما نقل احادا و لم يتواتر يقطع بأنه ليس من القران قطعا... و لأنه لو لم يشترط لجاز سقوط كثير من القران المكرر و ثبوت كثير مما ليس بقران «1»، و لذا عرف الأصوليون القران بأنه «ما نقل بين دفتي المصحف نقلا متواترا» «2»، و أجمع الأصوليون كافة على أن القران لا يثبت إلا بالتواتر «3».
نوع التواتر القراني:
أما التواتر القراني فهو العلم العام، أو خبر العامة عن العامة كما سماه الشافعي «4»، فالتواتر الذي عناه أهل العلم في نقل القران الكريم هو التواتر الذي يورث العلم الاضطراري مما تستعصي أعداد نقلته عن العد لكثرتهم، و ليس التواتر الحديثي الذي يعود إلى عدد محدود، فقد «صح بنقل الكافة الذي لا مجال للشك فيه أن هذا القران هو المكتوب في المصاحف المشهورة في الافاق كلها وجب الانقياد لما فيه، و لا خلاف بين أحد من الفرق المنتمية إلى المسلمين من أهل السنة و المعتزلة و الخوارج و المرجئة و الزيدية في وجوب الأخذ بما في القران و أنه هو المتلو عندنا نفسه» «5»، و الناقلون له هم يكادون أن يكونوا كل أفراد الأمة الإسلامية،
__________________________________________________
(1) الإتقان (1/ 209)، مرجع سابق.
(2) القول الجاذ لمن قرأ بالشاذ ص 55.
(3) القول الجاذ لمن قرأ بالشاذ ص 57، مرجع سابق.
(4) (الشافعي) محمد بن إدريس الشافعي أبو عبد اللّه ت 204 ه: جماع العلم ص 55، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1405 ه.
(5) الأحكام لابن حزم (1/ 92)، مرجع سابق.(1/495)
مع أن أغلبهم عالم بما نقله علما ضروريا، فمن لم يكن في ذلك من حفظه، فهو من كتابه الذي توجد منه عدة نسخ في بيته، «لأن الأمة رضي اللّه عنها لم تزل تنقل القران خلفا عن سلف و السلف عن سلفه إلى أن يتصل ذلك بالنبي عليه السلام المعلوم وجوده بالضرورة، و صدقه بالأدلة و المعجزات و الرسول أخذه عن جبريل عليه السلام عن ربه عز و جل فنقل القران في الأصل رسولان معصومان من الزيادة و النقصان و نقله إلينا بعدهم أهل التواتر الذين لا يجوز عليهم الكذب فيما ينقلوه و يسمعونه لكثرة العدد» «1».
فالقران هو الذي ينقله العامة و الخاصة، و الذكور و الإناث، و المسلمون و يعرفه الكفار في شرق الأرض و غربها... مكتوب في المصحف المعروف... لا يستطيع أحد له حولا و لا فيه تبديلا.
تواتر المشافهة و تواتر الرسم:
و هذا التواتر القراني تعضده ركيزة أخرى: هي تواتر رسم المصحف تواترا عاما شائعا بما لا يستطاع وصفه، و رسم المصحف ركن ضابط للتلقي و ليس حاكما عليه، و لذا جوزوا مخالفة الرسم فيما ثبت تواترا، و المصحف هو المصحف الذي لم يختلف من يوم أن كتب على الرغم من كثرة الخصوم و ضرواتهم في الخصومة له حتى قال بعض المستشرقين: «بذلنا جهودا كبيرة خلال ثلاث أجيال في تتبع مخطوطات القران الكريم من أقدم ما هو محفوظ في دور الاثار و المكتبات العالمية، حتى الأوراق المفردة المقطوعة من مصاحف قديمة فقدت، و قارنا كل ذلك بالمصاحف المطبوعة، لكي نحصل على أي اختلاف بين المصاحف من مصحف عثمان إلى يومنا، و لو كان اختلافا في اية أو جملة أو كلمة، فلم نجد أي
__________________________________________________
(1) القرطبي (1/ 72)، مرجع سابق.(1/496)
اختلاف، مما جعلنا نعتد مستيقنين أن القران الذي نطق به محمد باق إلى اليوم كما نطق به لم يتبدل فيه شي ء!!» «1».
فهذا هو منهج الإقراء، و منهج إثبات شي ء مقروء على أنه من القران، فلا نأتي بمنهج علم اخر لنثبت به شيئا من القران غيره.
و لهذا المنهج القراني الصارم رد الإمام الغزالي على من جعل (متتابعات) من القران بقوله: «أن جعله من القران فهو خطأ قطعا لأنه وجب على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أن يبلغه طائفة من الأمة تقوم الحجة بقولهم و كان لا يجوز له مناجاة الواحد به» «2».
و لهذا المنهج القراني الصارم: تم تشذيذ كل ما يسمى قراءة مما يتناقل، و يأتي عن طريق غير طريق منهج التناقل القراني أو القرائي، و الشذوذ هنا هو السقوط بمرة من النسب القراني المجيد، سواء كانت القراءة المذكورة ثابتة عن ضعيف أم عن أوثق الثقات.
و من الاثار المستغربة الناتجة عن الخلط بين مناهج العلوم: أن ترد الزيادة الشاذة في الحديث، و تقبل أو يتوقف فيها في القران كما تقدم في مناقشة رواية أبي الدرداء: (و الذكر و الأنثى) في الفصل الثاني حيث خالف رجال سند هذا الحديث كل الأمة الإسلامية في هذه الرواية، و ليست المخالفة لأربعة أو لخمسة من الثقات حتى تصير رواية الأقل شاذة لمخالفتها رواية الأكثر على ما هو مقرر في مصطلح الحديث... فكيف لا يشذذ ما ورد في هذا الحديث؟.
__________________________________________________
(1) هذا كلام المستشرق المعروف ماسينيون، و نقل هذه العبارة تلميذه محمد المبارك عنه مشافهة في زيارة له في بيته بباريس. انظر: حسني أدهم جرّار: محمد المبارك العلم و المفكر و الداعية ص 157، دار البشير- مؤسسة الرسالة، ط 1، 1419 ه- 1998 م.
(2) المستصفى ص 81، مرجع سابق.(1/497)
و قد قال الشافعي: «من متناقض القول الجمع بين قبول رواية القراءة الشاذة في القران، و بين رد الزيادة التي ينفرد بعض الرواة الثقات مع العلم بأن سبيل إثبات القران أن ينقل استفاضة و تواترا» «1».
و لذا قال السخاوي ردا على من يزعم وجود سورة تسمى الخلع، أو ينفي المعوذتين: «فهذا أيضًا مما أجمع المسلمون على خلافه» «2»، و قرر الإمام الفخر الرازي ذلك فقال: «إن المسلمين أجمعوا على أن ما بين الدفتين كلام اللّه تعالى، و كلام اللّه لا يجوز أن يكون لحنا و غلطا، فثبت فساد ما نقل عن عثمان و عائشة رضي اللّه عنهما» «3». و حسب المرء شذوذا و نكرا في فعله أن يخالف إجماع المسلمين جميعا فيما حفظوه سطرا و صدرا.
و هذا هو منهج السلف رحمهم اللّه عزّ و جلّ، و من نصوصهم في ذلك:
قال خلاد بن يزيد الباهلي: قلت ليحي بن عبد اللّه بن أبي مليكة: إن نافعا حدثني عن أبيك عن عائشة رضي اللّه عنها أنها كانت تقرأ «إذ تلقونه، و تقول: إنما هو ولق الكذب، فقال يحي: ما يضرك إلا أن تكون سمعته من عائشة رضي اللّه عنها، نافع ثقة على أبي، و أبي ثقة على عائشة رضي اللّه عنها، و ما يسرني أن قرأتها هكذا ولي كذا و كذا. قلت:
و لم؟ و أنت تزعم أنها قالت؟ قال: لأنها غير قراءة الناس و نحن لو وجدنا رجلا يقرأ بما ليس بين اللوحين ما كان بيننا و بينه إلا التوبة أو تضرب عنقه نجي ء به عن الأمة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم و تقولون أنتم: حدثنا فلان الأعرج عن فلان الأعمى ما أدري ماذا؟ أن ابن مسعود يقرأ غيرها في اللوحين؟ إنما هو و اللّه ضرب العنق، أو التوبة «4».
__________________________________________________
(1) البرهان للجويني (1/ 426)، مرجع سابق.
(2) جمال القراء و كمال الإقراء (1/ 39)، مرجع سابق.
(3) مفاتيح الغيب (22/ 75)، مرجع سابق.
(4) القول الجاذ لمن قرأ بالشاذ ص 58، مرجع سابق.(1/498)
و من غريب مواقف بعض الفقهاء لوهلهم عن بعض الحقائق أن ابن القيم حكى تشنيع أحمد في قراءة حمزة لكثرة الإمالة و المد فيها، و تلك لا تعدو أن تكون لغات، و أما هذه المنسوبة للصحابة، مع ما فيها من انفراد راو قد يكون وهم، أو انقلب عليه الحديث، و اخر شي ء فيه أنه شذ عن الأمة بهذا الحديث...
و على الرغم من ذلك فلا يشنع عليه، على أنه قد تقدم وجه كلام أحمد في ذلك.
و لذا يكفي في مناقشة كل جزئية مماثلة أن نقول: إن منهج إثبات القران الكريم سورا و ايات منهج مستقل عن مناهج إثبات الحديث: منهج القران هو بالتلقي لحروفه و ألفاظه فما خالفه فإما و هم أو كذب، أو له تأويل صحيح...
فإثبات قران برواية حديثية مثلها كمثل اختلاق قران عند غلاة الروافض من رواية رووها.
و مما ينبغي التأكيد عليه أن إجماع الصحابة على المصحف في عهد عثمان لا يمس قراءة ثابتة بل أجمعوا على تعميم المصحف حتى لا يقول قائل، أو يسول لنفسه أحد بالزيادة أو النقص لا أنهم قد اطرحوا شيئا من القران الكريم... و أما أنهم اطرحوا شيئا من القراات فمحتمل و لا يضر بحسب ما كيفه البحث من العلاقة بين القران و القراات.
فينبغي عدم الخلط بين منهج القراء و منهج المحدثين:
كما ينبغي النظر بعين الاعتبار إلى عوامل التفرقة بينهما مع كثرة بنود الاشتراك كذلك كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «لماذا لا يجوز أن تكون العصمة في الحفظ و البلاغ ثابتة لكل طائفة بحسب ما حملته من الشرع فالقراء معصومون في حفظ القران و تبليغه و المحدثون معصومون في حفظ الحديث و تبليغه و الفقهاء معصومون في فهم الكلام و الاستدلال على الأحكام و هذا هو الواقع المعلوم الذي(1/499)
أغنى اللّه به عن واحد معدوم» «1»، و قال ابن الجزري: «أوقفت عليه- أي كلام أبي شامة في احادية سند القراات- شيخنا الإمام واحد زمانه شمس الدين محمد بن أحمد الخطيب بيبرود الشافعي فقال لي: معذور أبن شامة حيث أن القراات كالحديث مخرجها كمخرجه إذا كان مدارها على واحد كانت احادية، و خفى عليه أنها نسبت إلى ذلك الإمام اصطلاحا و إلا فكل أهل بلدة كانوا يقرؤنها أخذوها أمما عن أمم و لو انفرد واحد بقراءة دون أهل بلدة لم يوافقه ذلك أحد بل كانوا يجتنبونها و يأمرون باجتنابها» «2».
كثرة الروايات الموضوعة و أثرها في علوم القران:
ينبغي التنبيه هنا إلى أن علوم القران تأثرت كغيرها بكثرة الموضوعات، فضلا عن الأوهام و الشذوذ اللذين يعتريان الراوي عند الرواية، ثم جاء من أولع بتجميع الأخبار و لو كانت باطلة... و ربما عدّ ذلك من الإنصاف للحقيقة؛ إذ تجري عليها مناهج السبر و التقسيم الأصولية، أو مناهج علم المصطلح الحديثية الصارمة، أو مناهج تخريج المناط و تحقيقه و تنقيحه الأصولية، أو مناهج التواتر القراني... فتبين الموضوع من الوضاعين، و الوهم و الشذوذ من الثقات، و المنكر من الضعاف... و هذا هو العذر في التجميع، و لعله ينتمي إلى المناهج العلمية و المناهج الموضوعية بسبب وثيق، ولكنه فتح باب الطعن للطاعنين بسبب قبول كل ما يوري و توجه همهم إلى كثرة الأخبار وسعة الاثار مع أنه كثير ما يدخلها الخلل بكثرة النسيان و كثرة الكذب و تلاعب الأغراض و الأهواء و كثرة ما يدس فيها على الصحابة و السلف بطرق غريبة «3».
__________________________________________________
(1) منهاج السنة النبوية (6/ 461).
(2) منجد المقرئين و مرشد الطالبين 67، مرجع سابق.
(3) انظر: كتاب الجواب المنيف (في الرد على مدعي التحريف في الكتاب الشريف) ص 109، مرجع سابق.(1/500)
و بتأمل ذلك فيما روي عن ابن عباس فقط في التفسير- دعك مما رواه في مجال القراات عن أبي بن كعب- يظهر أن السقيم في ما ينسب إلى ابن عباس أصبح «غالبا على الصحيح، حتى ذكر علماء الحديث، نقلا عن الإمام الشافعي: أنه لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا نحو مائة حديث» «1».
المطلب الثاني: من أهم اثار منهج التواتر القراني:
أولا: منع كل ما يخالف المصحف المحفوظ في الصدور المكتوب في السطور:
ف «ما يخرج من مصحف عثمان كقراءة ابن مسعود- أي المنسوبة إليه- و غيرها فلا ينبغي أن يقرأ بها في الصلاة لأن القران ثبت بطريق التواتر» «2» بل قالوا «و إن قرأ بقراءة تخرج عن مصحف عثمان لم تصح صلاته، و تحرم لعدم تواتره» «3» و تقدم ذلك، و معنى هذا: عدم قبول أي قراءة حديثية لم تثبت بمنهج التواتر القراني.
و من الأمثلة التي يستغنى بها عن غيرها في هذا الموضوع:
الخبر الوارد عن مصحف أبي بن كعب، و أن عدد سوره ست عشرة و مائة لأنه كتب في اخره سورتي الحفد و الخلع فيما رواه عنه ابن سيرين قال: كتب أبي بن كعب في مصحفه فاتحة الكتاب و المعوذتين، و اللهم إنا نستعينك و اللهم إياك نعبد و تركهن ابن مسعود، و كتب عثمان منهن فاتحة الكتاب و المعوذتين، و نحوه أخرج الطبراني في الدعاء عن عبد اللّه بن زرير الغافقي قال: قال لي عبد الملك بن مروان: لقد علمت ما حملك على حب أبي تراب إلا أنك أعرابي جاف فقلت: و اللّه لقد جمعت القران
__________________________________________________
(1) التفسير و رجاله ص 335.
(2) المغني (1/ 292)، مرجع سابق.
(3) الإنصاف 2/ 58، مرجع سابق.(1/501)
من قبل أن يجتمع أبواك و لقد علمني منه علي بن أبي طالب سورتين علمهما إياه رسول اللّه ما علمتهما أنت و لا أبوك اللهم إنا نستعينك و نستغفرك، و نثني عليك و لا نكفرك و نخلع و نترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد و لك نصلي و نسجد و إليك نسعى و نحفد نرجو رحمتك و نخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق «1».
و الجواب عن ادعاء أن هاتين سورتين:
1- تأويل هذه الأخبار الصحيح- إن صحت و صحتها بعيدة- أن ذلك دعاء وهم الراوي فبات يسميه سورة، و يحسبه قرانا، و ابن سيرين لم يدرك أبيا ليأخذ منه، و كيف انتقل مصحف أبي إلى ابن سيرين، و قد خرقت المصاحف و حرقت؟
إلا ما قامت الدولة بنشره بين المسلمين، و هو ما اجتمع عليه أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و يدل على أن ذلك دعاء ما أخرجه البيهقي أن عمر بن الخطاب قنت بعد الركوع فقال: بسم اللّه الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك- إلى قوله: ملحق «2»، و مثله ما جاء عن عبد الرحمن بن سويد الكاهلي قال: كأني أسمع عليا رضي اللّه عنه في الفجر حين قنت و هو يقول اللهم إنا نستعينك و نستغفرك «3».
2- و البسملة لا تدل على أنهما سورتان، فالبسملة تدخل في أكثر الأمور العملية على ما هو معلوم بالاضطرار في حياة المسلمين، فحالها كدخول جملة اللّه أكبر في الدعاء و هي تكبيرة في الصلاة.
3- و أما ما أخرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة عن أبي بن كعب أنه كان يقنت بالسورتين فذكرهما و أنه كان يكتبهما في مصحفه... فكلمة (قنوت)
__________________________________________________
(1) لم أجده مسندا في كتب الحديث المشهورة بعد لأي.
(2) و راجع جلاء الأفهام ص 362 ففيه بيان أن هذا كان من دعاء عمر و أبي في قنوت رمضان بعد الركوع.
(3) البيهقي في الكبرى (2/ 204).(1/502)
تصريح بأنهما دعاء، و أما الكتابة فتؤكد ما قرر عن أبي سابقا من تجوزه في كتابة تفسير أو حديث أو قراءته ضمن قراءة القران، و إلا فأين معارضته التي سيكفّر بها الناس لو لم يجعلوا هاتين السورتين ضمن ما يقرؤون؟.
4- و لذا ورد عن ابن مسعود أنه كان يأمر بهذا الدعاء في قنوت الوتر «1».
5- و مثل ذلك تماما تلك الرواية المذكورة عن عبد اللّه بن زرير الغافقي، فإن قوله: ما علمتهما أنت و لا أبوك و قوله أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم علمهما علي بن أبي طالب ربما «أرشدك إلى أنهما من العلوم الخاصة التي لا يعرفها كل الناس فيكونان ليسا من القران لأن القران لا يخص به واحد دون اخر» «2»... فتتم محاكمتهما في ضوء التواتر القراني.
6- و هذا ما فعله القاضي ابن الباقلاني حيث حاكم هذه الروايات في كتاب الانتصار إلى منهج نقل القران الكريم، فقال: «أن كلام القنوت المروي أن أبي بن كعب أثبته في مصحفه لم تقم الحجة بأنه قران منزل بل هو ضرب من الدعاء و أنه لو كان قرانا لنقل نقل القران، و حصل العلم بصحته».
7- و مثل ذلك في انهما دعاء ما أخرجه الطبراني بسند صحيح- كما يقول السيوطي- عن أبي إسحاق قال أمنا أمية بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد بخراسان فقرأ بهاتين السورتين إنا نستعينك و نستغفرك، و يؤكد هذه الوجهة ما أخرجه البيهقي و أبو داود في المراسيل عن خالد بن أبي عمران أن جبريل نزل بذلك على النبي صلى اللّه عليه و سلم و هو في الصلاة مع قوله ليس لك من الأمر شي ء الاية لما قنت يدعو على مضر «3»...
__________________________________________________
(1) ابن أبي شيبة (2/ 95)، مرجع سابق.
(2) كتاب الجواب المنيف (في الرد على مدعي التحريف في الكتاب الشريف) ص 151، مرجع سابق.
(3) الإتقان (1/ 179)، مرجع سابق.(1/503)
8- فال الأمر إلى أحد احتمالين: إما التجوز في لغة السلف في تسمية الشي ء المحدد سورة من التسوير، خاصة أنه كتب في مصحف كما تكتب كثير من التوضيحات الخاصة بالمصاحف الان في أولها أو في اخرها، و حقيقة ذلك أنه دعاء، و إما الوهم في كلام الراوي و فعله...
و هذا حال صحة هذه الأخبار و عدم شذوذها عن إجماع المسلمين... و ذلك تنزل شديد «1».
ثانيا: و من الاثار الهامة للتواتر القراني:
أننا لو قبلنا هذه الأخبار لاحتجنا إلى البحث عن حديث أو أحاديث تفرد لنا كلمات القران كلمة كلمة... و هذا خلل في فهم مناهج العلوم.
و إلا فسيأتي يوم يقول فيه: إن عدم مجي ء القران مرويا في الحديث أنه لم يثبت، و لذا فرواية «حديث عبد اللّه بن سلام الذي يسمى بالمسلسل بقراءة سورة الصف قال في المنح: هذا صحيح متصل الإسناد و التسلسل و رجاله ثقات و هو أصح مسلسل روي في الدنيا» «2»... كله زيادة في الملاحة العلمية لا غير، و لا يعني أن هذا الحديث هو سبب ثبوت سورة الصف، بل ثبتت بمنهج التلقي و التواتر القراني.
ثالثا: و من اثار التواتر القراني: تأويل كل رواية تخالف التواتر القراني لو صح سندها:
و المراد ليس الاطّراح الكلي، بل قد ينظر في تأويلها، فقد يعتري بعض سامعيها الغلط و الوهم فيبنون عليها نتائج غير صحيحة:
__________________________________________________
(1) و من أهم أسباب انتشار هذه الأخبار إقبال بعض أهل العلم على الجمع، و الولع بالغرائب في الجمع لما صح و ما شذ و ما كان فيه نكارة سند أو متن... و من طرائف الأمر هنا أن السيوطي راح بعد هذا السرد يقرر الخلاف هل السور في مصحف أبي ست عشرة و مائة أو أقل؟.
(2) تحفة الأحوذي (9/ 147)، مرجع سابق.(1/504)
و أبرز ما يبين ذلك مسألة المعوذتين: و نلخصها في التالي:
1- فقد ثبتت المعوذتان تواترا قرانيا و تلقيا متناقلا حسب منهج الإقراء في الإثبات عند جميع فرق المسلمين من السنة و الشيعة و الخوارج و غيرهم، و منهج الإقراء كاف في رد كل ما خالف ذلك.
2- على أن الحديث النبوي قد وسمهما بالقرانية، فسماهما: ايات فيما جاء عن عقبة بن عامر و كان من رفعاء أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و سلم قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم:
«أ لم تر ايات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط قل أعوذ برب الفلق و قل أعوذ برب الناس» «1»، و هذا استئناس إذا لا نحتاج أن تثبت في الحديث هذه التسمية حتى نتأكد من قرانيتهما، بل نقل الكافة عن الكافة هم المعول.
3- و قد ثبتت هذه القضية بموازين علم الحديث لا علم الإقراء فسميتا سورتين و طلب التعوذ بهما كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أنزلت علي سورتان فتعوذوا بهن فإنه لم يتعوذ بمثلهن يعني المعوذتين «2»، و مثل ذلك عن عقبة بن عامر قال: بينا أقود برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في نقب من تلك النقاب إذ قال ألا تركب يا عقيب فأجللت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أن أركب مركب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ثم قال ألا تركب يا عقبيب فأشفقت أن يكون معصية فنزل و ركبت هنيهة و نزلت و ركب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ثم قال: ألا أعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس فأقرأني قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (الفلق: 1) و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (الناس: 1) فأقيمت الصلاة فتقدم فقرأ بهما ثم مر بي فقال: كيف رأيت يا عقيب؟ اقرأ بهما كلما نمت و قمت «3».
__________________________________________________
(1) مسلم (1/ 558)، مرجع سابق.
(2) أحمد (4/ 144)، مرجع سابق.
(3) ابن خزيمة (1/ 267)، النسائي في الصغرى (8/ 253)، النسائي في الكبرى (4/ 438)، مراجع سابقة.(1/505)
4- و في لفظ بصيغة الإقراء: فعنه رضي اللّه عنه قال أهديت للنبي صلّى اللّه عليه و سلم بغلة شهباء فركبها و أخذ عقبة يقودها به فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لعقبة: اقرأ قال و ما أقرأ يا رسول اللّه قال: «اقرأ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) (الفلق: 1)» فأعادها علي حتى قرأتها فعرف أني لم أفرح بها جدا قال: «لعلك تهاونت بها فما قمت يعني بمثلها» «1»، و في لفظ عنه رضي اللّه عنه قال: أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و هو راكب فوضعت يدي على قدمه فقلت أقرئني سورة هود أقرئني سورة يوسف فقال: «لن تقرأ شيئا أبلغ عند اللّه عز و جل من قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (الفلق: 1)» «2».
5- و في لفظ قرنهما مع سورة الإخلاص: فقرأهن النبي صلّى اللّه عليه و سلم حتى ختمها ثم قال: «ما تعوذ بمثلهن أحد» «3»، و في لفظ: عنه رضي اللّه عنه قال: لقيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فقال: «يا عقبة بن عامر ألا أعلمك سورا ما أنزل في التوراة و لا في الزبور و لا في الإنجيل و لا في الفرقان مثلهن لا تأتي ليلة إلا قرأت بهن فيها و ذكر الثلاث» «4».
6- و لعل كونهما تعوذا في الوقت ذاته أدخل لبسا جعل عقبة يسأل عنهما النبي صلّى اللّه عليه و سلم شبيه بما رواه ابن عباس رضي اللّه عنهما: كان النبي صلّى اللّه عليه و سلم يعوذ الحسن و الحسين و يقول: «إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل و إسحاق أعوذ بكلمات اللّه التامة من كل شيطان و هامة و من كل عين لامة» «5» أم هما من القران الكريم فعن عقبة بن
__________________________________________________
(1) النسائي في الصغرى (8/ 252)، مرجع سابق.
(2) النسائي في الصغرى (8/ 254)، مرجع سابق.
(3) النسائي في الكبرى (4/ 439)، مرجع سابق.
(4) أحمد (4/ 158)، مرجع سابق.
(5) صحيح البخاري (3/ 1233)، مرجع سابق.(1/506)
عامر قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عن المعوذتين أمن القران هما فأمنا بهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في صلاة الفجر «1».
7- و لعل ترتيب ذلك تمّ كالتالي: لما سمع عقبة النبي صلّى اللّه عليه و سلم يتعوذ بهما طرأ عليه اللبس حيث سمع عقبة النبي صلّى اللّه عليه و سلم يتعوذ بهما ابتداء فعنه قال: بينا أنا أسير مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم- كنت أقود برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ناقته في السفر- بين الجحفة و الأبواء إذ غشيتنا ريح و ظلمة شديدة فجعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يتعوذ ب أعوذ برب الفلق- أعوذ برب الناس و يقول يا عقبة تعوذ بهما فما تعوذ متعوذ بمثلهما- ثم قال فقال لي يا عقبة ألا أعلمك خير سورتين قرئتا فعلمني قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ قال: فلم يرني سررت بهما جدا- و سمعته يؤمنا بهما في الصلاة- فلما نزل لصلاة الصبح صلى بهما صلاة الصبح للناس فلما فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من الصلاة التفت إلي فقال يا عقبة كيف رأيت- «2» و هذا دمج لروايتين عند أبي داود.
8- و ورد التصريح بتلقين النبي صلّى اللّه عليه و سلم إياهما لبعض أصحابه رضي اللّه عنهم: فقد قال بعض أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في سفر و الناس يعتقبون و في الظهر قلة فحانت نزلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و نزلتي فلحقني من بعدي فضرب منكبي فقال فقرأهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و قرأتها معه قال: إذا أنت صليت فاقرأ بهما «3»، و لعل المذكور هنا هو عبد اللّه الأسلمي.
__________________________________________________
(1) الحاكم (1/ 366)، مرجع سابق.
(2) أبو داود (2/ 73)، مرجع سابق.
(
3) و قال ابن حجر في الفتح (8/ 742): «و إسناده صحيح»، و قال في مجمع الزوائد (7/ 148): «رواه أحمد و رجاله رجال الصحيح».(1/507)
9- و عن أبي مسعود رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: لقد أنزل علي ايات لم ينزل علي مثلهن المعوذتين «1»، و عن جابر رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «اقرأ يا جابر» قال قلت: ما أقرأ بأبي و أمي أنت؟ قال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ فقرأتهما فقال صلّى اللّه عليه و سلم اقرأ بهما و لن تقرأ بمثلهما «2».
10- لم يرد عن ابن مسعود رضي اللّه عنه أي إنكار لكتابتهما في مصاحف المسلمين عند تكليف زيد بنسخ المصاحف، و لم يشنّع ابن مسعود على قصور زيد و من معه في الكتابة من هذا الباب على الرغم من أن خصومته لتولية زيد كانت مشهورة، و إنما ورد إنكار ابن مسعود لذلك في مساق اخر.
11- التخمين بأنهما ليستا قرانا عند ابن مسعود جاء من سفيان بن عيينة فعن زر قال: قلت لأبي إن أخاك يحكهما من المصحف فلم ينكر قيل لسفيان: بن مسعود؟ قال: نعم! و ليسا في مصحف بن مسعود كان يرى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يعوذ بهما الحسن و الحسين و لم يسمعه يقرؤهما في شي ء من صلاته فظن أنهما عوذتان و أصر على ظنه و تحقق الباقون كونهما من القران فأودعوهما إياه «3»، و هذا الظن مردود، و خاصة تلك التي ورد التصريح فيها بنفي ابن مسعود قرانيتهما فالشذوذ فيها ظاهر، و كذلك النكارة في المتن... و لذا يرى الباحث اطراح ظاهر متن مثل هذه الروايات لأنها لا تقابل بما تناقله المسلمون و تلقوه عبر منهج الإقراء المعتمد...
و قد اعتمد بعض الأئمة هذا النفي عن ابن مسعود لقرانيتهما، و راح يبين شذوذه في ذلك عن باقي المسلمين.
__________________________________________________
(
1) قال في مجمع الزوائد (7/ 149): «رواه الطبراني في الأوسط و رجاله ثقات».
(2) ابن حبان (3/ 76)، مرجع سابق.
(3) أحمد (5/ 130)، مرجع سابق.(1/508)
تعارض ذلك مع أصلين كبيرين:
و عند الباحث أن بعض هذه الروايات صريحة في النفي عن ابن مسعود رضي اللّه عنه على أنها تحتاج زيادة سبر في أسانيدها، ثم في شذوذ المتن أو كونه محفوظا... على الرغم من ذلك فإنها تعارض صراحة أصلين كبيرين:
أحدهما: حفظ ابن مسعود رضي اللّه عنه و تقدمه على جميع المسلمين في ذلك بما فيهم أبي عند بعض أهل العلم كما تقدم شرحه في الكلام عن العرضة الأخيرة من الفصل الثاني، و إكماله لحفظ القران الكريم في حياة النبي صلّى اللّه عليه و سلم، فكيف يفهم قبول ظاهر هذه الروايات الغريبة، مع كثرة ما وضعه الزنادقة و أدخلوه في علوم الإسلام من إرجاف و تشكيك، و تلويث... هذا خلف من القول، و أي شي ء يكون لو ردّ متن هذه الروايات عند رؤيته لا يستقيم على حال مع حال ابن مسعود و حال الصحابة حوله، أو كان يغيب ذلك عن عمر حين بعثه مقرئا لأهل الكوفة؟ بل أكان ذلك يغيب عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم حين أمر بالأخذ عنه؟.
و ثانيهما: أن إنكار ابن مسعود رضي اللّه عنه لهما لم يكن زمن النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و لا و من أبي بكر و لا عمر فما الذي استجد؟...
و ما لابن مسعود لا ينكر على عمر؟ و قد كان عمر يقرأ بالمعوذتين في الوتر «1»، و لو مثل ذا حدث لأشعل الدنيا لهيبا إنكارا أو إثباتا... فأين ذاك؟... ثم تلاميذه الذين تتلمذ عليهم أهل الكوفة... مالهم يقرؤون بهما... أتشهيا؟.
و لذا أنكر أهل العلم صحة ما ورد عن ابن مسعود، و من ذلك قول النووي: «و فيه- أي حديث عقبة- دليل واضح على كونهما من القران ورد
__________________________________________________
(1) ابن أبي شيبة (2/ 94)، مرجع سابق.(1/509)
على من نسب إلى ابن مسعود خلاف هذا» «1»، و قال في المجموع شرح المهذب:
«أجمع المسلمون على أن المعوذتين و الفاتحة من القران، و أن من جحد منهما شيئا كفر، و ما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح» «2»، و قال ابن حزم:
«و كل ما روي عن ابن مسعود من أن المعوذتين و أم القران لم تكن في مصحفه فكذب موضوع لا يصح و إنما صحت عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود، و فيها أم القران و المعوذتان» «3».
ثم رجع ابن حجر إلى منهج الإقراء يعتمده للجواب عن الموضوع برمته فقال: «إلا أن في الإجماع على كونهما من القران غنية عن تكلف الأسانيد بأخبار الاحاد» «4» و ليته فعل ذلك ابتداء.
و أما ما ذكر عن عبد اللّه رضي اللّه عنه أنه كان ينكر أن تكون فاتحة الكتاب من الكتاب فهو الذي يدفعنا إلى التأكيد على الحقيقة السابقة، على أن الباحث لم يجد نصا يمكن أن يناقش فيه إنكار ابن أم عبد للفاتحة، و نكتفي بما قاله ابن قتيبة في كتابه تأويل مشكل القران، فقال: «و أما فاتحة الكتاب فإني أشك فيما روى عن عبد اللّه من تركه إثباتها في مصحفه، فإن كان هذا محفوظا فليس يجوز لمسلم أن يظن به الجهل بأنها من القران، و كيف يظن به ذلك و هو من أشد الصحابة عناية بالقران، و أحد الستة الذين انتهى إليهم العلم... و هو مع هذا متقدم في الإسلام بدري لم يزل يسمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يؤم بها... و هي السبع المثاني، و أم الكتاب... ولكنه ذهب فيما يظن أهل النظر إلى أن القران إنما كتب و جمع بين
__________________________________________________
(1) شرح النووي (6/ 96)، مرجع سابق.
(2) المجموع شرح المهذب (3/ 350).
(3) المحلى (1/ 13)، مرجع سابق.
(4) فتح الباري (8/ 743)، مرجع سابق.(1/510)
اللوحين مخافة الشك و النسيان، و الزيادة و النقصان، و رأى ذلك لا يجوز على سورة الحمد لقصرها، لأنها تثنى في كل صلاة و كل ركعة، و لأنه لا يجوز لأحد من المسلمين ترك تعلمها و حفظها كما لا يجوز تعلم غيرها و حفظه إذ كانت لا صلاة إلا بها، فلما أمن عليها العلة التي من أجلها كتب المصحف ترك كتابتها و هو يعلم أنها من القران» «1».
رابعا: من اثار التواتر القراني:
نسبة طروء الخطأ و الوهم على من روي عنهم روايات و لو صحيحة تخالف التواتر القراني: كما سبق.
خامسا: من اثار التواتر القراني:
رد كل ما اشتبه أمره في كل رواية حديثية إليه:
و مما يوضح ذلك: ما ورد في ايتي براءة، و اية الأحزاب: فقد قال زيد بن ثابت رضي اللّه عنه: نسخت الصحف في المصاحف ففقدت اية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقرأ بها فلم أجدها إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم شهادته شهادة رجلين و هو قوله مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ (الأحزاب: 23) «2».
و قال أيضا: فتتبعت القران أجمعه من الرقاع و الأكتاف و العسب و صدور الرجال حتى وجدت من سورة التوبة ايتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (التوبة: 128) «3».
__________________________________________________
(1) تأويل مشكل القران ص 34.
(2) البخاري (3/ 1033)، مرجع سابق.
(3) البخاري (4/ 1720)، مرجع سابق.(1/511)
و قد يتعلق بذلك فيقال: إن الواحد يكفي في نقل الاية و الحرف كما فعلتم فإنكم أثبتم بقول رجل واحد و هو خزيمة بن ثابت واحده اخر سورة براءة و قوله:
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ... (الأحزاب: 23) «1».
و الجواب: أما معنى قوله: «و صدور الرجال»: أي كأساس للمكتوب:
و هذا- في نظر الكاتب- أولى من قول من قال: «أي حيث لا أجد ذلك مكتوبا» «2»، لأن القران مكتوب، و عمل زيد في الجمعين في عهد أبي بكر و عثمان رضي اللّه عنهما قائم على التعضيد للمقروء (القران)، بالمكتوب (الكتاب)، و للمكتوب بالمقروء، فتكون الواو بمعنى مع أي أكتبه من المكتوب الموافق للمحفوظ في الصدر «3».
و معنى قوله: «فقدت اية كذا فوجدتها مع فلان..» أنه كان يتطلب نسخ القران مما كتب بأمر النبي صلّى اللّه عليه و سلم، فلم يجد كتابة تلك الاية مع ذلك الشخص، و إلا فالاية كانت محفوظة عنده و عند غيره، و هذا المعنى أولى مما ذكره مكي و غيره: أنهم كانوا يحفظون الاية، لكنهم أنسوها فوجدوها في حفظ ذلك الرجل فتذاكروها و أثبتوا لسماعهم إياها من النبي صلّى اللّه عليه و سلم «4» و هو أولى أيضًا من غيره من الأقوال «5».
فالمراد: أي لم أجدهما مكتوبتين أما الحفظ فعام منتشر، فليس فيه ما يقتضي الثبوت بغير التواتر؛ إذ كان قصدهم أن ينقلوا من عين المكتوب بين يدي النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و لم يكتبوا من حفظهم «6».
__________________________________________________
(1) القرطبي (1/ 56)، مرجع سابق.
(2) كما قال ابن حجر. انظر: فتح الباري (9/ 15).
(3) و قد وجدت ابن حجر ذكر ذلك. انظر: فتح الباري (9/ 15).
(4) المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز ص 51، مرجع سابق.
(5) القرطبي (1/ 56)، مرجع سابق.
(6) المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز ص 57، مرجع سابق.(1/512)
خامسا: و من القواعد الكلية في التواتر القراني: أنه إذا كان لا بد في القران في مجموعه و تفاصيله من التواتر، فإذا نقل ما يضاد ذلك أو يجرحه فلا بد فيه من التواتر أيضًا أو الاستفاضة على الأقل:
لتوفر الدواعي عند المسلمين و الكفار على ذلك، و كم رام أعداء القران الطعن فيه، و اللغو فيه، فلم يفلحوا... و أساس ذلك أن «كل أمر خطير ذي بال يقتضي العرف نقله إذا وقع تواترا إذا نقله احاد فهم يكذبون فيه منسوبون إلى تعمد الكذب أو الزلل» «1».
و لذا قال الجويني: «و تمام البيان فيه أنا إنما نكذب المنفرد بالنقل في كلى متواتر قطعا لو وقع أو في تفصيل يقضي العرف التواتر فيه ثم لا بد أن يتواتر نقيض ما نقله المنفرد بنقله» «2».
و هل يؤثر في التواتر القراني جحود البعض؟.
الجواب: لا! لا يؤثر؛ لأن الجحود قد يوجد مع اليقين فإن بعض الناس يبحثون عن الإنكار لذات الإنكار، و مثل ذلك لا يضر القران في شي ء، بل هو من عوامل تثبيته حين تكون المعارضة خاسرة، و هي كذلك دوما، و تحدث اللّه عن هؤلاء و بين حقيقة جدالهم في قوله جل جلاله: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (غافر: 56) و هذا ينبثق من خطة أعدها المخاصم الألد ذكرها اللّه عزّ و جل ّ في: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ.
__________________________________________________
(1) البرهان (1/ 426)، مرجع سابق.
(2) البرهان (1/ 426)، مرجع سابق.(1/513)
فهل يؤثر حجود هؤلاء و أولئك على معرفتنا بوجود القاهرة و إن لم نشاهدها؟ لا... و كذلك هنا... على أن التواتر القراني تواتر محسوس لوجود المصحف في بيت كل مسلم من أكثر من مليار مسلم بحمد اللّه سبحانه و تعالى، و كذلك كان الأمر قبل ثورة الطباعة، و أساس ذلك تلاوة كل المسلمين له.
و لذا إذا قيل: «ما معنى لا رَيْبَ فِيهِ (البقرة: 2) و قد علمتم أن خلقا يشكون في ذلك فكيف يصح ذلك و إن أراد لا ريب فيه عندي و عند من يعلم فلا فائدة في ذلك؟، فجوابنا أن المراد أنه حق يجب ألايرتاب فيه و هذا كما يبين المرء الشي ء لخصمه منه بعد البيان أن يقول هذا كالشمس واضح و هذا لا يشك فيه أحد كما يقال عند إظهار الشهادتين أن ذلك حق و صدق و إن كان في الناس من يكذب بذلك» «1»، و كما قال بعض أساطين العلم في أروربا: «صحة القران التي لا تقبل الجدل تعطي النص مكانة خاصة بين كتب التنزيل، و لا يشترط مع نص القران في هذه الصحة لا العهد القديم و لا العهد الجديد... لسبب بسيط و هو أن القران قد ثبت في عصر النبي صلّى اللّه عليه و سلم (و أنه) لم يتعرض لأي تحريف من يوم أن أنزل على الرسول صلّى اللّه عليه و سلم حتى يومنا هذا» «2».
______________________________________
(1) (القاضي عبد الجبار) قاضي القضاة عماد الدين أبي الحسن عبد الجبار بن أحمد ت 415 ه: تنزيه القران عن المطاعن ص 5، مصور دون ذكر معلومات.
(2) الإسلام و الوجه الاخر للفكر الغربي (قراات) ص 95 نقلا عن موريس بوكاي في كتابه (القران الكريم و التوراة و الإنجيل و العلم)، مرجع سابق.(1/514)
وختاما:
فقد حاول هذا الكتاب أن يصف معالم الجامعة القرانية النبوية منذ تأسست بمشرق الوحي حتى اكتملت باكتمال الدين، و نزول ختم الرسالة في أكبر عيد للمسلمين لما نزل قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً... و رأينا المدى العظيم الذي بلغ به سيد ولد ادم صلّى اللّه عليه و سلم القران و حرض و جهد كما قال عمر رضي اللّه عنه، كما عاينا الركائز و النظم الإدارية التي اعتمدها لإنجاح الرسالة، و تبليغها لأهل الأرض إلى يوم القيامة، و ظهرت لنا المنهجية النبوية في تعليم القران الكريم محضة لم تشبها أكدار الزمان، و تطورت الأحداث و الحدثان... و عشنا معه صلّى اللّه عليه و سلم و هو يعلّم القران على هيئة فردية، و في صورة جماعية... في قاعات المحاضرات الخاصة و العامة «الحلقات القرانية»، و في المراكز الرئيسية للإقراء، و خارج نطاقها... كما رأينا ضخامة غرس المخرجات التعليمية التي زرعتها يده، و سقتها تربيته، و كيف وصل بعض أصحابه (تلاميذه) رضي اللّه عنهم إلى إنشاء جامعة قرانية مستقلة يدرس فيها ما لا يقل عن ألف و ستمائة طالب يوميا كما في حالة أبي الدرداء رضي اللّه عنه:
و حدثتني يا سعد عنهم فزدتني حنينا فزدني من حديثك يا سعد
هواههم هوى لم يعرف القلب غيره فليس له قبل و ليس له بعد
و ليس من زيادة حديث عن هذا الموضوع الجليل إلا الدخول إلى رياضه النضرة، و قراءة الكتاب من أوله إلى اخره... فما كان فيه من صواب فمحض توفيق اللّه عزّ و جلّ و الائه، و ما كان من خطأ فذنب أقعد كاتبه، كما أقعد السابقين، و تقصير أبوء بهما... سائلا اللّه أن يغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا هو.(1/515)
و لعل الكتاب يمثل دعوة إلى أمور منها:
1- إعادة تطبيق المنهجية النبوية كاملة في تعليم القران الكريم، فهو دعوة للمقرئين، و طلاب القران الكريم، و للمؤسسات القرانية الحكومية و الأهلية.
2- المطالبة بإدخال نص تفصيلي يجعل من الواجبات الدستورية للدولة الإسلامية تبليغ القران الكريم لمشارق الأرض و مغاربها، فلا ينبغي أن تكون للرياضة وزارة خاصة و يقل القران المجيد عن أن تكون له الرعاية ذاتها، و إن كانت المقارنة هنا غير قائمة... و المراد الاعتناء بالجوانب القرانية اللفظية الخاصة وفق المنهجية النبوية، و إلا فالأصل صدور كل تصرفات الأمة عن هدي القران الكريم...
و القران المجيد بحمد اللّه- تعالى ذكره- محل اهتمام حكومي و أهلي لا يختلف عليه اثنان، كما هو محل حفاوة عامة من قبل المسئولين في الدول الإسلامية.
3- تعاون المؤسسات العلمية القرانية على عقد مؤتمرات قرانية تؤسس لمجمع قراني عالمي هدفه الأساسي نشر القران الكريم تلقينا و تعليما و كتابة بالروايات المتناقلة، و رعاية الأنشطة الإعلامية و التعليمية و التوجيهية التي تسهم في ذلك، و القيام بإعداد المناهج المبسطة الميسرة التي يمكن إدماجها ضمن مناهج التعليم العالي لجميع الكليات الدراسية ذات التخصصات الفنية و العلمية بحيث يكون حيزها من المنهج التعليمي مناسبا غير مخل بأصل تخصص هذه الكليات...
و إن كنا نرى اثار الحفظ الإلهي ماثلا في قيام المؤسسات الكثيرة في أرجاء العالم بهذه المهام.
و بعد: فإن هذا السير كان في أفنان ندية أحيط الزائر السائر فيها بثلاثة... ما اجتمع ذكرهم إلا اخضر الزمان العبوس، و ابتهج اليقين في كل فؤاد يؤوس...:
الرسول صلى اللّه عليه و سلم، القران المجيد زاده اللّه رفعة و علوا، الصحابة رضي اللّه عنهم... و لقد صدقنا(1/516)
اللّه وعده... إذ يشعر القلب بذلك في زمن البأساء الشديدة و القرح المجهد... و أنّى لعبد اجتمع له العيش معهم صافيا بلا كدر أن يملك نفسه عن عبرات الشوق:
و لمّا دنونا لتوديعهم بكوا لؤلؤا، و بكينا عقيقا
أداروا علينا كؤوس الفراق و هيهات من سكرها أن نفيقا
تولوا فأتبعتهم أدمعي فصاحوا: الغريق و صحت: الحريقا
و قد بقى كثير مما عزم الكاتب على تسطيره تلخيصا لمعالم المنهجية النبوية القرانية، و بيانا للحياة الجامعية القرانية التي تنبض بالعلم و التعليم، و النشر القراني... و لعله أن يأتي في طبعات لاحقة- أو بإكمال ناصح من النصحة لكتاب اللّه المجيد... بيد أني راج ممن يطلع عليه- من أهل اللّه و خاصته أو ممن يحبونهم- أ، يسددوا هذه المحاولة العلمية عسى أن ينفع اللّه بها الأمة في الدارين...
فهذا تمام ما تيسرت كتابته يصحبه عجز صاحبه و ذنبه... «و إلى اللّه- تعالى ذكره- جزيل الضراعة و المنة بقبول ما منه لوجهه، و العفو عما تخلله من تزين و تصنع لغيره» «1» امين.
و صلى اللّه على نبينا محمد، و على اله و صحبه أجمعين، و لا حول و لا قوة إلا باللّه، و حسبنا اللّه و نعم الوكيل، على اللّه ربنا توكلنا، و الحمد للّه رب العالمين.
الدكتور عبد السلام مقبل المجيدي
__________________________________________________
(1) من خاتمة كتاب الشفا للقاضي عياض (2/ 312)، مرجع سابق.(1/517)
«فهرس المراجع»
1- إبراهيم أنيس (دكتور): الأصوات اللغوية، ط 4، 1971 م، مكتبة الأنجلو المصرية- القاهرة.
2- في اللهجات العربية، مكتبة الأنجلو المصرية- القاهرة، ط 8، 1990 م.
3- إبراهيم بن محمد بن عبد اللّه بن مفلح الحنبلي أبو إسحاق ت 884 ه:
المبدع في شرح المقنع، المكتب الإسلامي، بيروت، 1400 ه.
4- إبراهيم محمد إسماعيل عوضين: موقف الدكتور محمد محمد حسين من الحركات الهدامة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1406 ه/ 1985 م.
5- (أبو الحسين) محمد بن علي بن الطيب البصري أبو الحسين ت 436 ه: المعتمد في أصول الفقه، تحقيق: خليل الميس، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1403 ه.
6- (أبو السعود) محمد بن محمد العمادي ت 951 ه: تفسير أبي السعود المسمى إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، دار إحياء التراث العربي- بيروت.
7- (أبو المحاسن) يوسف بن موسى الحنفي أبو المحاسن: المعتصر من المختصر من مشكل الاثار، عالم الكتب، مكتبة المتنبي، بيروت، القاهرة.
8- (أبو حيان) محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الأندلسي الغرناطي (654- 754 ه): البحر المحيط، ط 2 1411 ه- 1990 م، دار إحياء التراث العربي- بيروت.
9- (أبو داود) سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي (202 ه- 275 ه):
سنن أبي داود، مراجعة: محمد محيي الدين عبد الحميد.(1/519)
10- (أبو شامة) شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الدمشقي المقدسي ت 665 ه: إبراز المعاني من حرز الأماني، دار صادر- بيروت.
11- كتاب البسملة، (دراسة و تحقيق) مخطوطة رسالة جامعية مقدمة لنيل درجة الماجستير من جامعة القران الكريم و العلوم الإسلامية، إعداد: عدنان عبد الرزاق الحموي، إشراف الأستاذ الدكتور أحمد إسماعيل البيلي.
12- المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز- حققه: طيار التي قولاج 1395 ه- 1975 م، دار صادر، بيروت.
13- (أبو عبيدة) معمر بن المثتى التيمي: مجاز القران، ط 1، الخانجي الكتبي بمصر 1954 م. حققه د. محمد فؤاد سزكين
14- (أبو عوانة) يعقوب بن إسحاق الأسفرائيني ت 316 ه: مسند أبي عوانة، تحقيق: أيمن بن عارف الدمشقي، دار المعرفة، بيروت، ط 1، 1998 م.
15- (أبو نعيم) أحمد بن عبد اللّه بن إسحاق الأصبهاني (ت 430 ه):
حلية الأولياء و طبقات الأصفياء، 1405 ه، دار الكتاب العربي- بيروت.
16- المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم، محمد حسن محمد حسن إسماعيل الشافعي، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1996 م.
17- مسند الإمام أبي حنيفة، تحقيق: نظر محمد الفاريابي، مكتبة الكوثر، الرياض، ط 1، 1415 ه.
18- (أبو يعلى) أحمد بن علي بن المثنى الموصلي التميمي (210- ت 307 ه):
مسند أبي يعلى، مراجعة: حسين سليم أسد، 1404 ه- 1984 م، دار المأمون للتراث- دمشق.(1/520)
19- (أبو يوسف) يعقوب بن إبراهيم الأنصاري القاضي ت 182 ه: الاثار، دار الكتب العلمية، بيروت، 1355 ه.
20- ابتسام مرهوان لصفار (دكتورة): معجم الدراسات القرانية، ساعدت جامعة بغداد على نشره رقم تسلسل التعضيد 4 لسنة 83- 1984 م.
21- (أطفيش) محمد بن يوسف بن عيسى أطفيش: شرح النيل و شفاء العليل (في الفقه الأباضي)، مكتبة الإرشاد.
22- (ابن أبي العز) صدر الدين محمد بن علاء الدين علي بن محمد الحنفي ت 792 ه: شرح العقيدة الطحاوية، ط 9، 1408 ه- 1988 م، خرج أحاديثها محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي- بيروت.
23- (ابن أبي حاتم) عبد الرحمن بن محمد بن بن إدريس بن مهران الرازي أبو محمد ت 327 ه: علل الحديث، تحقيق: محب الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت 1405 ه.
24- (ابن أبي داود): عبد اللّه بن سليمان بن الأشعث السجستاني أبو بكر ت 316 ه: كتاب المصاحف، دراسة تحقيق و نقد: الدكتور: محب الدين عبد السبحان واعظ، إصدار وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية- قطر، ط 1، 1416 ه- 1995 م.
25- (ابن أبي شيبة) عبد اللّه بن محمد بن أبي شيبة الكوفي أبو بكر ت 235 ه: الكتاب المصنف في الأحاديث و الاثار، تحقيق: كمال يوسف الحوت، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1409 ه.
26- (ابن أبي عاصم) أحمد بن عمرو بن الضحاك الشيباني أبو بكر ت 287 ه: الاحاد و المثاني، مراجعة: د. باسم فيصل أحمد الجوابرة، 1411 ه- 1991 م، دار الراية الرياض.(1/521)
27- الزهد، تحقيق: عبد العلي عبد الحميد حامد، دار الريان للتراث، القاهرة، ط 2، 1408 ه.
28- كتاب السنة، حققه: محمد ناصر الدين الألباني، ط 3، 1413 ه- 1993 م، المكتب الإسلامي- بيروت.
29- (ابن أم قاسم) الحسن بن قاسم المرادي ت 749 ه: المفيد في شرح عمدة المجيد في النظم و التجويد، تحقيق: د. علي حسين البواب، مكتبة المنار، 1407 ه- 1987 م، الزرقاء- الأردن.
30- (ابن الأثير) المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن الأثير الجزري:
النهاية في غريب الأثر، مراجعة طاهر أحمد الزاوي محمود محمد الطباخي، 1399 ه- 1979 م، دار الفكر- بيروت.
31- (ابن الأثير) عز الدين علي بن محمد الجزري، أبو الحسن (555 ه- 630 ه): أسد الغابة في معرفة الصحابة، دار الفكر.
32- (ابن الجارود) عبد اللّه بن علي بن الجارود أبو محمد النيسابوري ت 307 ه: المنتقى من السنن المسندة، تحقيق: عبد اللّه عمر البارودي مؤسسة الكتاب الثقافية، بيروت، ط 1، 1408 ه- 1988 م.
33- (ابن الجزري) شمس الدين محمد بن محمد بن محمد بن علي أبو الخيرات 833 ه: التمهيد في علم التجويد، تحقيق غانم قدوري الحمد- ط 3، 1409 ه- 1989 م مؤسسة الرسالة- بيروت.
34- طيبة النشر في القراات العشر، ضبطه و صححه و راجعه: محمد تميم الزعبي، توزيع مكتبة دار الهدى، المدينة المنورة.(1/522)
35- غاية النهاية في طبقات القراء، بعناية ج. برجستراسر، دار الكتب العلمية- بيروت.
36- منجد المقرئين و مرشد الطالبين- دار زاهد المقدسي، تفضل بقراءته بعد طبعه: الشيخ محمد حبيب اللّه الشنقيطي، و الشيخ أحمد محمد شاكر.
37- النشر في القراات العشر، أشرف على تصحيحه و مراجعته- علي محمد الضباع، دار الكتاب العربي.
38- (ابن الجعد) علي بن الجعد بن عبيد أبو الحسن الجوهري البغدادي ت 230 ه: مسند ابن الجعد، تحقيق: عامر أحمد حيدر، مؤسسة نادر، بيروت، ط 1، 1410 ه- 1990 م.
39- (ابن الجوزي) عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد اللّه ابن حمادي بن أحمد بن جعفر أبو الفرج ت 597 ه: زاد المسير في علم التفسير، المكتب الإسلامي بيروت، 1404 ه، ط 3.
40- صفوة الصفوة، تحقيق: محمود فاخوري- د. محمد رواس قلعه جي، دار المعرفة، بيروت، ط 2، 1399 ه- 1979 م.
41- غريب الحديث، تحقيق: د. عبد المعطي أمين قلعجي دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1985 م.
42- (ابن العربي) محمد بن عبد اللّه أبو بكر: أحكام القران، تحقيق: علي محمد البجاوي- دار الجيل- بيروت.
43- (ابن الفراء) محمد بن أبي يعلى محمد بن الحسين بن الفراء ت 521 ه:
طبقات الحنابلة، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت.(1/523)
44- (ابن القاصح) علي بن عثمان بن محمد بن أحمد بن الحسن العذري البغدادي أبو البقاء ت 801 ه: تلخيص الفوائد و تقريب المتباعد في شرح عقلية أتراب القصائد، مراجعة الشيخ عبد الفتاح القاضي، ط 1، 1949 م، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر.
45- سراج القارئ المبتدئ و تذكر المقرئ المنتهي، دار الفكر للطباعة و النشر و التوزيع.
46- (ابن القيم) شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي أبو عبد اللّه ت 751 ه: إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق: طه عبد الرؤف سعد، دار الجيل، بيروت، 1973 م.
47- زاد المعاد في هدي خير المعاد، حقق نصوصه و خرج أحاديثه، و علق عليه: شعيب الأرنؤوط، و عبد القادر الأرنؤوط، ط 8، 1405 ه- 1985 م، مؤسسة الرسالة، بيروت.
48- الفروسية، تحقيق: مشهور بن حسن بن محمود بن سلمان، دار الأندلس، السعودية- حائل، ط 1، 1414 ه- 1993 م.
49- الفوائد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1393 ه- 1973 م.
50- الفوائد المشوق إلى علوم القران، 1987 م، دار مكتبة الهلال، بيروت.
51- (ابن المبارك) عبد اللّه بن المبارك بن واضح المروزي أبو عبد الرحمن ت 181 ه: الجهاد، تحقيق: نزيه حماد، الدار التونسية، تونس، 1972 م.
52- كتاب الزهد، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية- بيروت.(1/524)
53- (ابن الملقن) عمر بن علي بن الملقن الأنصاري ت 804 ه: خلاصة البدر المنير في تخريج كتاب الشرح الكبير للرافعي، تحقيق: حمدي عبد المجيد إسماعيل السلفي، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1410 ه
54- (ابن النديم) محمد بن إسحاق أبو الفرج ت 385 ه: الفهرست، دار المعرفة، بيروت، 1398 ه- 1978 م.
55- (ابن بدران) عبد القادر بن بدران الدمشقي ت 1346 ه: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، د. عبد اللّه بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1401 ه.
56- (ابن تيمية) أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس ت 728 ه:
الاستقامة، تحقيق: د. محمد رشاد سالم جامعة الإمام محمد بن سعود، المدينة المنورة، ط 1، 1403 ه.
57- اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، تحقيق: محمد حامد الفقي مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، ط 1، 1369 ه.
58- الفتاوى الكبرى، تحقيق: حسنين محمد مخلوف، دار المعرفة، بيروت، ط 1، 1386 ه.
59- مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية، جمع و ترتيب: عبد الرحمن بن قاسم العاصمي النجدي الحنبلي، دار عالم الكتب- الرياض، 1421- 1991 م.
60- مقدمة في أصول التفسير من تحقيق: الدكتور عدنان زرزور المدرس بكلية الشريعة جامعة دمشق، و الكتاب ضمن كتاب مجموعة الرسائل الكمالية(1/525)
«رقم 1» في المصاحف و القران و التفسير «خمسة كتب»- الناشر: مكتبة المعارف- محمد سعيد حسن الكمال- الطائف: شارع الكمال.
61- منهاج السنة النبوية، د. محمد رشاد سالم، مؤسسة قرطبة، ط 1، 1406 ه.
62- (ابن جني) عثمان بن جني أبو الفتح ت 392 ه: سر صناعة الإعراب، تحقيق مصطفى السقا، 1954 م، مكتبة و مطبعة مصطفى البابي الحلبي.
63- المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراات و الإيضاح عنها تحقيق: علي النجدي ناصف و اخرون، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1415 ه- 1994 م، لجنة إحياء كتب السنة- القاهرة.
64- (ابن الحاج) محمد بن محمد بن محمد العبدري الفاسي أبو عبد اللّه ت 732 ه: المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات و التنبيه على بعض البدعو العوائد التي انتحلت و بيان شناعتها و قبحها، دار الحديث بجوار إدارة الأزهر، 1401 ه- 1981 م.
65- (ابن حبان) محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي ت 354 ه:
صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان ت 354 ه، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت،، ط 2، 1414 ه- 1993 م.
66- مشاهير علماء الأمصار، م. فلا يشهمر، دار الكتب العلمية، بيروت، 1959 م.
67- (ابن حجر) شهاب الدين أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني أبو الفضل ت 852 ه: الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1412 ه- 1992 م.(1/526)
68- تقريب التهذيب، تحقيق: محمد عوامة، دار الرشيد، سوريا، ط 1، 1406 ه- 1986 م.
69- تلخيص الحبير في أحاديث الرافعي الكبير، تحقيق: السيد عبد اللّه هاشم اليماني المدني، المدينة المنورة، 1384 ه- 1964 م.
70- تهذيب التهذيب، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1404- 1984 م.
71- الدراية في تخريج أحاديث الهداية، السيد عبد اللّه هاشم اليماني المدني، دار المعرفة، بيروت.
72- فتح الباري شرح صحيح البخاري، حقق أصولها: عبد العزيز بن باز رقم كتبها و أبوابها و أحاديثها محمد فؤاد عبد الباقي ط 1، 1410 ه- 1989 م، دار الكتب العلمية- بيروت، لبنان، ط 1، 1410 ه- 1989 م.
73- هدي الساري مقدمة فتح الباري، حقق أصولها: عبد العزيز بن باز رقم كتبها و أبوابها و أحاديثها محمد فؤاد عبد الباقي ط 1، 1410 ه- 1989 م، دار الكتب العلمية- بيروت، لبنان، ط 1، 1410 ه- 1989 م.
74- المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، تحقيق المحدث الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي.
75- (ابن حزم) علي بن أحمد بن حزم الأندلسي أبو محمد ت 456 ه:
الإحكام في أصول الأحكام، دار الحديث، القاهرة، ط 1، 1404 ه.
76- المحلى، دار الافاق الجديدة، بيروت، لجنة إحياء التراث العربي.
77- (ابن خالويه) الحسين بن أحمد بن خالويه أبو عبد اللّه ت 370 ه:
الحجة في القراات السبع، تحقيق: د. عبد العال سالم مكرم، دار الشروق، بيروت، ط 4، 1401 ه.(1/527)
78- (ابن خزيمة) محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي أبو بكر ت 311 ه: صحيح ابن خزيمة، مراجعة: د. محمد مصطفى الأعظمي (1390 ه- 1970 م)، المكتب الإسلامي- بيروت.
79- (ابن خلكان) شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان أبو العباس ت 681 ه: وفيات الأعيان و أنباء أبناء الزمان، حققه د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت.
80- (ابن دقيق العيد) تقي الدين أبو الفتح بن دقيق العيد ت 702 ه: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، دار الكتب العلمية، بيروت.
81- (ابن راهواه) إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن راهواه الحنظلي (161، ت 238 ه): مسند إسحاق بن راهواه، مراجعة: عبد الغفور بن عبد الحق البلوشي 1412 ه- 1991 م، مكتبة الإيمان، المدينة المنورة.
82- (ابن رجب) عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي أبو الفرج ت 795 ه:
التخويف من النار و التعريف بحال دار البوار، مكتبة دار البيان، دمشق، ط 1، 1399 ه.
83- (ابن رشد الحفيد) محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي أبو الوليد ت 595 ه: بداية المجتهد و نهاية المقتصد، دار الفكر، بيروت.
84- (ابن سعد) محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري (168 ه- ت 230 ه):
الطبقات الكبرى، دار صادر بيروت.
85- (ابن عبد الهادي) محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن قدامة المقدسي أبو عبد اللّه ت 744 ه: العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت.(1/528)
86- (ابن عابدين) محمد أمين: حاشية رد المحتار على الدر المختار: شرح تنوير الأبصار، دار الفكر، بيروت، ط 2، 1386 ه.
87- (ابن عبد البر) يوسف بن عبد اللّه بن عبد البر النمري أبو عمر ت 463 ه: الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار و علماء الأقطار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي و الاثار و شرح ذلك كله بالإيجاز و الاختصار، ط 1، القاهرة المحرم 1414 ه- تموز (يوليو) 1993 م.
88- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1412 ه.
89- التمهيد لما في الموطأ من المعاني و الأسانيد، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي، محمد عبد الكبير البكر، وزارة عموم الأوقاف و الشؤون الإسلامية، المغرب 1387 ه.
90- (ابن عطية) عبد الحق بن غالب بن عبد الملك بن عطية أبو محمد الغرناطي ت 546 ه: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق و تعليق: عبد اللّه ابن إبراهيم الأنصاري، السيد عبد العال السيد إبراهيم، ط 1، 1406 ه- 1985 م.
91- مقدمتان في علوم القران (و هما مقدمة كتاب المباني، و مقدمة ابن عطية)، نشرهما المستشرق الدكتور ارثر جفري- و وقف على تصحيح الطبعة الثانية: عبد اللّه إسماعيل الصاوي- مكتبة الناجي بالقاهرة.
92- (ابن عقيل) بهاء الدين عبد اللّه بن عقيل العقيلي ت 769 ه: شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد في حاشيته عليه المسماة: منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل، لم تذكر الطبعة و لا الدار.(1/529)
93- (ابن فارس) أحمد بن فارس بن زكريا الرازي أبو الحسين ت 395 ه:
الصاحبي في فقه اللغة و سنن العرب في كلامها، 1910 م، المكتبة السلفية- القاهرة.
94- معجم مقاييس اللغة، بتحقيق و ضبط عبد السلام هارون، ط 1، 1411 ه- 1991 م، دار الجيل.
95- (ابن قاضي شهبة) أبو بكر بن أحمد بن محمد بن عمر بن قاضي شهبة ت 851 ه: طبقات الشافعية، تحقيق: د. الحافظ عبد العليم خان، عالم الكتب، بيروت ط 1، 1407 ه.
96- (ابن قانع) عبد الباقي بن قانع أبو الحسين (265 ه- 351 ه): معجم الصحابة، تحقيق: صلاح بن سالم المصراتي، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة المنورة، ط 1، 1418 ه.
97- (ابن قتيبة) عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة الدينوري أبو محمد ت 273 ه: تأويل مشكل القران، شرحه و نشره السيد: أحمد صقر، المكتبة العلمية.
98- تأويل مختلف الحديث، مراجعة: محمد زهري النجار، 1972 م- 1393 ه، دار الجيل- بيروت.
99- (ابن قدامة) موفق الدين عبد اللّه بن أحمد بن قدامة المقدسي الدمشقي أبو محمد ت 620 ه: روضة الناظر و جنة المناظر، مكتبة المعارف- الرياض.
100- الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد بن حنبل، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 5، 1408 ه- 1988 م.(1/530)
101- المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1405 ه.
102- (ابن كثير) عماد الدين إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي أبو الفداء ت 774 ه: تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب، تحقيق: عبد الغني بن حميد بن محمود الكبيسي، دار حراء، مكة المكرمة، ط 1، 1406 ه.
103- تفسير القران العظيم، تقديم: محمد عبد الرحمن المرعشلي، إعداد:
مكتب تحقيق دار احياء التراث العربي، أعد فهارسها: رياض عبد اللّه عبد الهادي ط 1، 1417- 1997 م، دار إحياء التراث العربي- بيروت.
104- فضائل القران بذيل تفسير القران العظيم، تقديم: محمد عبد الرحمن المرعشلي- إعداد: مكتب تحقيق دار احياء التراث العربي- أعد فهارسها: رياض عبد اللّه عبد الهادي- دار إحياء التراث العربي بيروت- ط 1، 1417 ه/ 1997 م.
105- (ابن ماجة) محمد بن يزيد القزويني أبو عبد اللّه ت 275 ه: سنن ابن ماجه، مراجعة: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر- بيروت، عدد الأجزاء 2.
106- (ابن مجاهد) أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد التميمي البغدادي أبو بكر ت 324 ه: كتاب السبعة في القراات، تحقيق: د. شوقي ضيف، دار المعارف القاهرة، ط 2، 1400 ه.
107- (ابن معين) يحيى بن معين أبو زكريا ت 233 ه: تاريخ ابن معين (رواية الدوري)، تحقيق: د. أحمد محمد نور سيف، مركز البحث العلمي و إحياء التراث الإسلامي، مكة المكرمة، ط 1، 1399 ه- 1979 م.
108- (ابن مفلح) محمد بن مفلح بن محمد المقدسي أبو عبد اللّه ت 762 ه:
الاداب الشرعية و المنح المرعية، عالم الكتب.(1/531)
109- الفروع و تصحيح الفروع، تحقيق: أبو الزهراء حازم القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1418 ه.
110- (ابن منجويه) أحمد بن علي بن منجويه الأصبهاني أبو بكر ت 428 ه:
رجال صحيح مسلم، تحقيق: عبد اللّه الليثي، دار المعرفة، بيروت، ط 2، 1407 ه.
111- (ابن منده) محمد بن إسحاق بن يحيى بن منده ت 395 ه: الإيمان، تحقيق: د. علي بن محمد بن ناصر الفقيهي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1406 ه.
112- (ابن منظور) محمد بن مكرم بن علي ت 711 ه: لسان العرب، اعتنى بتصحيحها: أمين محمد عبد الوهاب، و محمد الصادق العبيدي، ط 1، 1416 ه- 1995 م، دار إحياء التراث العربي و مؤسسة التاريخ العربي- بيروت.
113- (ابن هشام) عبد اللّه بن يوسف الأنصاري النحوي الأنصاري (ت 761 ه): مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا- بيروت، طبعة بدون 1407 ه- 1987 م.
114- (ابن هشام) عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري أبو محمد ت 213 ه: السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق: طه عبد الرؤف سعد، دار الجيل، بيروت، ط، 1411 ه.
115- (ابن وثيق) إبراهيم بن محمد الأموي الأندلسي أبو إسحاق ت 654 ه: الجامع لما يحتاج إليه من رسم المصحف، تحقيق د. غانم قدوري حمد، ط 1، 1408 ه- 1988 م، بغداد- العراق.
116- أحمد الدمنهوري: حلية اللب المصون، مكتبة اليمن الكبرى- صنعاء، الطبعة لم تذكر.(1/532)
117- أحمد عبد العزيز الزيات: شرح تنقيح فتح الكريم، ط 1، 1418 ه/ 1997 م.
118- أحمد علي الإمام (دكتور): الصحبة و الصحابة، منشورات مجمع الفقه الإسلامي، الخرطوم.
119- مفاتح فهم القران: تفسير لغريبه، و تأويل لمشكله، دار المنى، دمشق، ط 1، 1421 ه- 2000 م.
120- أحمد مختار عمر (دكتور): دراسة الصوت اللغوي، عالم الكتب- القاهرة، 1418 ه- 1997 م.
121- أحمد مصطفى علي القضاة: الشريعة الإسلامية و الفنون، دار الجيل، بيروت، و دار عمار في عمان، ط 1، 1408 ه.
122- أحمد مكي الأنصاري (دكتور): سيبويه و القراات دراسة تحليلية معيارية مثلا، توزيع دار المعارف 1392 ه/ 1972 م.
123- من الدراسات القرانية: نظرية النحو القراني نشأتها و تطورها و مقوماتها الأساسية، دار النشر لم تذكر، ط 1، 1405 ه.
124- (الأزدي) الربيع بن حبيب بن عمر الأزدي البصري: الجامع الصحيح مسند الإمام الربيع بن حبيب، تحقيق: محمد إدريس- عاشور بن يوسف، دار الحكمة، مكتبة الاستقامة، بيروت، سلطنة عمان، ط 1، 1415 ه.
125- (الأزدي) معمر بن راشد الأزدي ت 151 ه: الجامع (منشور كملحق بكتاب المصنف للصنعاني، تحقيق: حبيب الأعظمي المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1403 ه(1/533)
126- (الأزهري) محمد بن أحمد أبو منصور ت 370 ه: تهذيب اللغة، 1964 م- القاهرة.
127- (الإسكندري) ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير المالكي ت 683 ه:
كتاب الانتصاف فيما تضمنه من الاعتزال بذيل الكشاف، دار المعرفة، بيروت.
128- (الأسنوي) جمال الدين عبد الرحيم ابن الحسين الأسنوي ت 772 ه:
زوائد الأصول، ط 1 1413- 1993 م، دراسة و تحقيق: محمد سنان سيف الجلالي، مكتبة الجيل الجديد- صنعاء.
129- نهاية السول في شرح منهاج الأصول- للقاضي ناصر الدين عبد اللّه بن عمر البيضاوي، عالم الكتب.
130- (الأشموني) أحمد بن محمد بن عبد الكريم: منار الهدى في بيان الوقف و الابتدا، ط 2، 1393 ه/ 1973 م.
131- (الأصبحي) مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي ت 179 ه: المدونة الكبرى، دار صادر، بيروت، الإيمان.
132- موطأ الإمام مالك، مراجعة: محمد فؤاد عبد الباقي- دار إحياء التراث العربى، مصر.
133- (الأصبهاني) إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي (ت 457 ه- 535 ه):
دلائل النبوة، تحقيق: محمد محمد الحداد، 1409 ه، دار طيبة- الرياض.
134- (الأصبهاني) عبد اللّه بن محمد بن جعفر بن حيان الأصبهاني أبو محمد ت 369 ه: العظمة، تحقيق: رضاء اللّه بن محمد إدريس المباركفوري دار العاصمة، الرياض، ط 1، 1408 ه.(1/534)
135- أكرم بركات العاملي: حقيقة مصحف فاطمة عند الشيعة، دار الصفوى، بيروت، ط 1، 1418 ه/ 1997 م.
136- (الألباني) محمد ناصر الدين (ت 1421 ه): أحاديث المزارعة و المؤاجرة و الرد على المفترين على الصحابة و التابعين و العلماء ضمن كتاب البرهان في رد البهتان و العدوان، إشراف: أعضاء قسم التصحيح في المكتب الإسلامي، ط 1، بيروت 1413 ه/ 1992 م.
137- سلسلة الأحاديث الصحيحة و شي ء من فقهها و فوائدها، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 4، 1405 ه- 1985 م.
138- صحيح الجامع الصغير و زيادته، أشرف على طبعه: زهير الشاويش، ط 14083 ه- 1988 م، المكتب الإسلامي- بيروت.
139- (الالوسي) محمود شكري البغدادي ت 1275 ه: روح المعاني في تفسير القران العظيم و السبع المثاني- دار الفكر- بيروت، 1417 ه- 1997 م- قرأه و صححه: محمد حسين العرب.
140- (الامدي) علي بن محمد الامدي أبو الحسن ت 631 ه: الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق: د. سيد الجميلي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1404 ه.
141- (الأنباري) محمد بن القاسم بن بشار الأنباري أبو بكر ت 328 ه:
كتاب إيضاح الوقف و الابتداء في كتاب اللّه عزّ و جل، تحقيق محي الدين عبد الرحمن رمضان، 1971 م، مجمع اللغة العربية- دمشق.
142- الزاهر في معاني كلمات الناس، تحقيق: د. حاتم صالح الضامن، اعتنى به: عز الدين البدوي النجار- ط 1، 1412 ه- 1992 م، مؤسسة الرسالة بيروت.(1/535)
143- (الأندرابي) أحمد بن أبي عمر: قراات القراء المعروفين بروايات الرواة المشهورين، حققه و قدم له: الدكتور: أحمد نصيف الجنابي، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط 3، 1407 ه- 1986 م.
144- (الأنصاري) زين الدين زكريا الأنصاري الشافعي أبو يحيى ت 926 ه:
الدقائق المحكمة في شرح المقدمة المقدمة (شرح المقدمة الجزرية في التجويد)، و يليه متن الجزرية- لشمس الدين محمد بن محمد الجزري المتوفي سنة 833 ه- ضبط و مراجعة: عبد اللّه عمر البارودي- دار الجنان- ط 1، 1411 ه/ 1990 م.
145- المقصد لتلخيص ما في المرشد في الوقف و الابتدا- بذيل منار الهدى ط 2، 1393 ه/ 1973 م.
146- (الأهدل) محمد بن أحمد بن عبد الباري: الكواكب الدرية شرح الشيخ محمد بن أحمد الرعيني الشهير بالحطاب على متممة الأجرومية، ط 1، 1410 ه- 1990 م- مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت.
147- (الباقلاني) محمد بن الطيب ت 403 ه: إعجاز القران، قدم له و شرحه و علق عليه: الشيخ محمد شريف سكر، بيروت- دار إحياء العلوم، ط 1، 1408 ه- 1988 م.
148- (البجيرمي) سليمان بن عمر بن محمد البجيرمي: حاشية البجيرمي على الخطيب في الفقه الشافعي (تحفة الحبيب على شرح الخطيب)، دار الفكر، بيروت.
149- حاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب (التجريد لنفع العبيد)، المكتبة الإسلامية، ديار بكر- تركيا.
150-(1/536)
151- (البخاري) محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن المغيرة الجعفي أبو عبد اللّه، (194 ه- ت 256 ه): خلق أفعال العباد، مراجعة: د. عبد الرحمن عميرة، دار المعارف السعودية- الرياض 1398 ه- 1978 م.
152- صحيح البخاري، مراجعة د. مصطفى ديب البغا، 1407 ه- 1987 م، دار ابن كثير، اليمامة، بيروت.
153- (البزار) أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار أبو بكر ت 292 ه:
البحر الزخار، تحقيق: د. محفوظ الرحمن زين اللّه، مؤسسة علوم القران، مكتبة العلوم و الحكم، بيروت، المدينة، ط 1، 1409 ه.
154- (البغوي) حسين بن مسعود الفراء ت 516 ه: شرح السنة، تحقيق زهير الشاويش و شعيب الأرناؤط، المكتب الإسلامي، ط 2، 1403 ه- 1983 م.
155- (البقاعي) برهان الدين أبو الحسن إبراهيم بن عمر (ت 885 ه): كتاب الضوابط و الإشارات لأجزاء علم القراات، تحقيق: د. محمد مطيع الحافظ، دار الفكر دمشق، ط 1، 1416 ه/ 1996 م.
156- نظم الدرر في تناسب الايات و السور، 1413 ه، 1992 م، ط 3، المكتبة التجارية، مكة المكرمة.
157- بكر بن عبد اللّه أبو زيد (دكتور): فقه النوازل قضايا فقهية معاصرة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1416 ه/ 1996 م
158- معجم المناهي اللفظية و يليه فوائد في الألفاظ، دار العاصمة، الرياض، ط 3، 1417 ه/ 1996 م.
159- (بلا شير) ريجيس: القران: نزوله، تدوينه، ترجمته، و تأثيره، نقله إلى العربية: رضا سعادة، ط 1، 1974 م، دار الكتاب اللبناني- بيروت.(1/537)
160- (البهوتي) منصور بن يونس بن إدريس البهوتي: كشاف القناع عن متن الإقناع، تحقيق: هلال مصيلحي مصطفى هلال، دار الفكر، بيروت، 1402 ه.
161- (البيضاوي) ناصر الدين عبد اللّه بن عمر بن محمد بن علي الشيرازي أبو الخير ت 685 ه: تفسير البيضاوي المسمى بأنوار التنزيل و أسرار التأويل، تحقيق عبد القادر عرفات حسونة، دار الفكر، بيروت، 1416 ه- 1996 م.
162- (البيهقي) أحمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي أبو بكر ت 458 ه: السنن الصغرى، د. محمد ضياء الرحمن الأعظمي مكتبة الدار، المدينة المنورة، ط 1، 1410- 1989.
163- السنن الكبرى، مراجعة: محمد عبد القادر عطا، 1994 م- 1414 ه، مكتبة دار الباز- مكة المكرمة.
164- شعب الإيمان، تحقيق: محمد السعيد بسيوني زغلول دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1410 ه.
165- (التبريزي) يحي بن علي التبريزي أبو زكريا ت 502 ه: شرح القصائد العشر، علق عليه: السيد أحمد الخضر، مكتبة الثقافة الدينية- القاهرة.
166- (الترمذي) محمد بن سؤرة السلمي الترمذي أبو عيسى ت 279 ه:
الجامع الصحيح سنن الترمذي، مراجعة: أحمد محمد شاكر و اخرون، دار إحياء التراث العربي- بيروت.
167- مختصر الشمائل المحمدية، اختصره و صححه: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر و التوزيع، الرياض، ط 4، 1413 ه.(1/538)
168- (التفتازاني) سعد الدين مسعود بن عمر الشافعي ت 792 ه: التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه- ضبطه، و خرج آياته، و أحاديثه:
الشيخ زكريا عميرات ط 1، 1416 ه- 1996 م، دار الكتب العلمية، بيروت.
169- (الثعالبي) عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الجزائري: الجواهر الحسان في تفسير القران، دار القلم، بيروت.
170- (الجرجاني) عبد القادر بن عبد الرحمن الجرجاني: دلائل الإعجاز في علم المعاني، صحح أصله الأستاذ محمد عبده، و الأستاذ محمد محمود التركزي، وقف على تصحيح طبعه: السيد محمد رشيد رضا- 1402 ه- 1982 م، دار المعرفة- بيروت.
171- (الجرجاني) علي بن محمد بن علي: التعريفات، حققه، و قدم له، و وضع فهارسه: إبراهيم الأبياري، ط 1، 1405 ه- 1985 م، دار الكتاب العربي- بيروت.
172- (الجصاص) أحمد بن علي الرازي الجصاص أبو بكر ت 370 ه:
أحكام القران، تحقيق: محمد الصادق قمحاوي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405 ه.
173- الفصول في الأصول، تحقيق: د. عجيل جاسم النشمي، وزارة الأوقاف و الشئون الإسلامية، الكويت، ط 1، 1405 ه.
174- (الجويني) عبد الملك بن عبد اللّه بن يوسف الجويني إمام الحرمين ت 478 ه: البرهان في أصول الفقه، ت 478 ه، تحقيق: د. عبد العظيم محمود الديب، دار الوفاء، المنصورة- مصر، ط 4، 1418 ه.
175- الورقات، تحقيق: د. عبد اللطيف محمد العبد.(1/539)
176- جمعية المجلة: مجلة الأحكام العدلية، تحقيق: نجيب هواويني، كارخانه تجارت كتب.
177- جولد تسهير: مذاهب التفسير الإسلامي، ترجمة عبد الحليم النجار، 1956 م، مكتبة الخانجي- مصر.
178- (حاجي خليفة) مصطفى بن عبد اللّه القسطنطيني الرومي الحنفي ت 1067 ه: كشف الظنون عن أسامي الكتب و الفنون، 1992 م- 1413 ه، دار الكتب العلمية- بيروت.
179- (الحاكم) محمد بن عبد اللّه بن البيع النيسابوري أبو عبد اللّه ت 405 ه: المستدرك على الصحيحين، مراجعة: مصطفى عبد القادر عطا، 1411 ه- 1990 م، دار الكتب العلمية- بيروت، الطبعة لم تذكر.
180- حسن ضياء الدين عتر: الأحرف السبعة و منزلة القراات منها، دار البشائر الإسلامية- بيروت، ط 1، 1409 ه- 1988 م.
181- المعجزة الخالدة، ط 2، 1409 ه- 1989 م، مكتبة الطالب الجامعي- مكة.
182- (الحصري) محمود خليل ت 1401 ه: أحكام قراءة القران الكريم، ضبط نصه و علق عليه: محمد طلحة بلال منيار- دار البشائر الإسلامية بيروت- ط 2، 1417 ه/ 1996 م.
183- حسني أدهم جرّار: محمد المبارك العلم و المفكر و الداعية، دار البشير- مؤسسة الرسالة، ط 1، 1419 ه- 1998 م.
184- حسني شيخ عثمان: حق التلاوة كتاب منهجي تطبيقي لتعلم تجويد القران و تعليمه على رواية حفص عن عاصم، مكتبة المنار، ط 6، 1405 ه.(1/540)
185- (الحموي) أحمد بن عمر بن محمد بن أبي الرضا الحموي أبو العباس ت 791 ه: القواعد و الإشارات في أصول القراات، د. عبد الكريم محمد الحسن بكار، دار القلم، دمشق، ط 1، 1406 ه.
186- (الحميدي) عبد اللّه بن الزبير أبو بكر ت 219 ه: مسند الحميدي، مراجعة: حبيب الرحمن الأعظمي، 1381 ه، دار الكتب العلمية- بيروت.
187- (الخادمي) محمود بن محمد بن مصطفى الخادمي: بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية و شريعة نبوية في سيرة أحمدية، دار إحياء الكتب العربية.
188- (الخراساني) سعيد بن منصور أبو عثمان ت 227 ه: سنن سعيد بن منصور، تحقيق: د. سعد بن عبد اللّه بن عبد العزيز ال حميد.
189- كتاب السنن، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، الدار السلفية، الهند، ط 1، 1982.
190- (الخطيب) أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي أبو بكر ت 463 ه:
تاريخ بغداد، دار الكتب العلمية، بيروت.
191- الجامع لأخلاق الراوي و اداب السامع، تحقيق: د. محمود الطحان، مكتبة المعارف، الرياض، 1403 ه.
192- الكفاية في علم الرواية، تحقيق: أبو عبد اللّه السورقي، إبراهيم حمدي المدني، المكتبة العلمية، المدينة المنورة.
193- (الخلال) أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد الخلال أبو بكر ت 311 ه:
السنة، تحقيق: د. عطية الزهراني، دار الراية، الرياض، ط 1، 1410 ه.
194- خالدون الأحدب (دكتور): زوائد تاريخ بغداد على الكتب السنة، دار القلم- دمشق ط 1، 1996 م- 1417 ه.(1/541)
195- (الدارقطني) علي بن عمر بن أحمد البغدادي أبو الحسن ت 385 ه:
ذكر أسماء التابعين و من بعدهم ممن صحت روايتهم عن الثقات عند البخاري و مسلم، دراسة و تحقيق: بوران الضناوي، و كمال يوسف الحوت، ط 1، 1406 ه 1985 م، مؤسسة الكتب الثقافية.
196- سنن الدارقطني، السيد عبد اللّه هاشم يماني المدني، دار المعرفة، بيروت، 1386 ه- 1966 م.
197- (الدارمي) عبد اللّه بن عبد الرحمن أبو محمد (181 ه- 255 ه):
سنن الدارمي، تحقيق: أحمد فواز زمرلي، خالد السبع العلمي، 1407 ه، دار الكتاب العربي- بيروت.
198- (الداني) عثمان بن سعيد أبو عمروت 444 ه: الأحرف السبعة، تحقيق د. عبد المهيمن الطحان 1408 ه، مكتبة المنارة، مكة المكرمة.
199- التحديد في الإتقان و التجويد، دراسة و تحقيق: الدكتور غانم قدوري حمد ساعدت جامعة بغداد على طبعه، مكتبة دار الأنبار- مطبعة الخلود- بغداد، ط 1، 1407 ه- 1988 م.
200- التيسير في القراات السبع، صححه أوتوبرتزل.
201- المحكم في نقط المصاحف، تحقيق د. عزة حسن، 1960 م، مديرية إحياء التراث القديم، وزارة الثقافة و الإرشاد- دمشق.
202- المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار، تحقيق محمد أحمد دهمان، 1940 م، مكتبة الدراسات الإسلامية- دمشق.
203- (الدسوقي) محمد عرفه الدسوقي: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، تحقيق: محمد عليش، دار الفكر، بيروت(1/542)
204- (الدمياطي) الشيخ أحمد بن محمد الشهير بالبنا (ت 1117 ه):
إتحاف فضلاء البشر في القراات الأربع عشر، صححه علي محمد الضبّاع، 1359 ه مطبعة عبد الحميد أحمد حنفي بمصر.
205- (الدهلوي) أحمد بن عبد الرحيم ولي اللّه الدهلوي ت 1176 ه:
الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة دار النفائس، بيروت، ط 2، 1404 ه.
206- الفوز الكبير في أصول التفسير، نقله من الأصل الفارسي إلى اللغة العربية و وضع عناوينه الجانبية: سلمان الحسيني الندوي- دار البشائر الإسلامية بيروت- 1407 ه/ 1987 م.
207- (الديريني) عبد العزيز أحمد الدميري: التيسير في علوم التفسير، و بهامشه ألفية أبي زرعة العراقي في تفسير غريب ألفاظ القران، صورة عند الباحث عن مخطوطة بدار الكتب المصرية برقم 7 ك.
208- (الديلمي) شيرويه بن شهردار بن شيرويه الديلمي الهمذاني أبو شجاع ت 509 ه: الفردوس بمأثور الخطاب، تحقيق: السعيد بن بسيوني زغلول دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1986 م.
209- (الذهبي) شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان أبو عبد اللّه ت 748 ه:
سير أعلام النبلاء، إشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، ط 2، 1404 ه- 1984 م، مؤسسة الرسالة.
210- طبقات القراء، تحقيق: د. أحمد خان 1418 ه- 1997 م، دار الفيصل.
211- الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة، تحقيق: محمد عوامة، دار القبلة للثقافة الإسلامية، جدة، ط 1، 1413 ه- 1992 م.(1/543)
212- معرفة القراء الكبار على الطبقات و الأعصار، تحقيق: بشار عواد معروف و شعيب الأرناؤوط و صالح مهدي عباس، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1404 ه.
ملحوظة: كتاب طبقات القراء، و كتاب معرفة القراء الكبار هما كتاب واحد لمحققين مختلفين، و هناك اختلاف في اسم هذا الكتاب... و الأول أكمل و يقع في ثلاث مجلدات، و الثاني يتضمن بعض اللفتات المفيدة من قبل المحققين و هو يقع في مجلدين.
213- المعين في طبقات المحدثين، د. همام عبد الرحيم سعيد، دار الفرقان، عمان- الأردن، ط 1، 1404 ه.
214- (الرازي) محمد بن أبي بكر بن عبد القادر ت 721 ه: مختار الصحاح، مراجعة: محمود خاطر، مكتبة لبنان بيروت 1415 ه- 1985 م.
215- (الرازي) محمد بن عمر بن الحسين الرازي ت 606 ه: المحصول في علم الأصول، تحقيق: طه جابر فياض العلواني، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، ط 1، 1400 ه.
216- (الراغب) الحسين بن محمد الأصفهاني أبو القاسم ت 502 ه:
المفردات في غريب القران، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة- بيروت.
217- مقدمة التفسير، طبعت على نفقة: محمد سعيد الرافع- صاحب المكتبة الأزهرية- الطبعة الأولى سنة 1329 ه- طبعت بمطبعة الجمالية بمصر.
218- (الرحيباني) مصطفى بن سعد بن عبدة: مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى، المكتب الإسلامي.
219- (الروياني) محمد بن هارون الروياني أبو بكر ت 307 ه: مسند الروياني، تحقيق: أيمن علي أبو يماني، مؤسسة قرطبة، القاهرة، 1416 ه، ط 2.(1/544)
220- (الزرقاني) محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني ت 1122 ه: شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1411 ه.
221- (الزرقاني) محمد عبد العظيم: مناهل العرفان في علوم القران، ط 3، 1943 ه، دار إحياء الكتب العربية.
222- (الزركشي) بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد اللّه الشافعي ت 794 ه:
البحر المحيط، قام بتحريره عبد القادر عبد اللّه العاني، راجعه: د. عمر سليمان الأشقر- ط 2، 1413 ه- 1992 م، دار الصفوة.
223- البرهان في علوم القران، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 1، 1957 م، دار إحياء الكتب العربية- القاهرة.
224- المنثور في القواعد، تحقيق: د. تيسير فائق أحمد محمود وزارة الأوقاف و الشئون الإسلامية، الكويت، ط 2، 1405 ه.
225- (الزركلي) خير الدين الزركلي: الأعلام، الطبعة العاشرة 1992 م.
226- (الزمخشري) جار اللّه محمود بن عمر الخوارزمي أبو القاسم ت 538 ه:
أساس البلاغة، دار الكتب المصرية- القاهرة، 1922 م.
227- الفائق في غريب الحديث، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، علي محمد البجاوي، ط 2، توزيع دار الباز.
228- الكشاف عن حقائق التنزيل و عيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار المعرفة، بيروت.
229- (الزيلعي) عبد اللّه بن يوسف أبو محمد الحنفي الزيلعي ت 762 ه:
نصب الراية لأحاديث الهداية، تحقيق: محمد يوسف البنوري، دار الحديث، مصر، 1357 ه.(1/545)
230- زين بن إبراهيم بن محمد بن محمد بن بكر ت 970 ه: البحر الرائق شرح كنز الدقائق، دار المعرفة، بيروت.
231- (الساعاتي) أحمد عبد الرحمن البنا: الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد ابن حنبل الشيباني، مصر 1374 ه.
232- (السبكي) عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي أبو نصر ت 771 ه: طبقات الشافعية الكبرى، د. عبد الفتاح محمد الحلو د. محمود محمد الطناحي، هجر للطباعة و النشر و التوزيع و الإعلان، الجيزة، ط 2، 1992 ه.
233- (السبكي) علي بن عبد الكافي السبكي ت 756 ه: الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1404 ه.
234- عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح، دار البيان العربي، بيروت، ط 4، 1412 ه- 1992 م.
235- (السخاوي) علم الدين علي بن محمد السخاوي أبو الحسن ت 643 ه:
جمال القراء و كمال الإقراء، تحقيق: الدكتور على حسين البواب، مكتبة التراث، مكة المكرمة، ط 1، 1408 ه/ 1987 م.
236- فتح الوصيد في شرح القصيد، دراسة و تحقيق،- رسالة لنيل درجة العالمية العليا ( (الدكتوراه)) إعداد الطالب: أحمد عدنان الزعبي- بإشراف:
الأستاذ الدكتور أحمد علي الإمام- العام الجامعي 1418 ه/ 1998 م.
237- هداية المرتاب و غاية الحفاظ و الطلاب في تبيين متشابه الكتاب، حققه عبد القادر الخطيب الحسني، مطبوعات مركز جمعة الماجد للثقافة و التراث بدبي، دار الفكر المعاصر- بيروت، ط 1414، 1 ه- 1994 م.(1/546)
238- (السرخسي) محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي أبو بكر ت 490 ه:
أصول السرخسي، تحقيق: أبو الوفا الأفغاني، دار المعرفة، بيروت، 1372 ه
239- (السعدي) محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل السعدي أبو عبد اللّه ت 643 ه: اختصاص القران بعوده الى الرحمن الرحيم، تحقيق: عبد اللّه بن يوسف الجديع، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1989 م.
240- (السمرقندي) محمد بن أحمد بن أبي أحمد السمرقندي ت 539 ه:
تحفة الفقهاء، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1405 ه.
241- (السندي) نور الدين بن عبد الهادي أبو الحسن ت 1138 ه: حاشية السندي على النسائي، مراجعة: عبد الفتاح أبي غدة 1406 ه- 1986 م، مكتبة المطبوعات الإسلامية- حلب.
242- (السيواسي) محمد بن عبد الواحد السيواسي ت 681 ه: حاشية على كتاب الهداية للمرغيناني، دار الفكر، بيروت، ط 2.
243- (السيوطي) جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر أبو الفضل ت 911 ه:
الإتقان في علوم القران، المكتبة الثقافية، بيروت.
244- ألفية السيوطي في علم الحديث، صححه و شرحه أحمد شاكر، المكتبة العلمية.
245- تدريب الراوي في تقريب النواوي، ط 4، حققه و راجع أصوله: عبد الوهاب عبد اللطيف الأستاذ المساعد بكلية أصول الدين- جامعة الأزهر، دار نشر الكتب الإسلامية
246- تنوير الحوالك شرح موطأ مالك، 1389- 1969 م، المكتبة التجارية الكبرى- مصر.(1/547)
247- الحاوي للفتاوى في الفقه و علوم التفسير و الحديث و الأصول و النحو و الإعراب و سائر الفنون ت 911 ه، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403 ه/ 1983 م.
248- الديباج على صحيح مسلم، مراجعة: أبو إسحاق الحويني الأثري- دار ابن عفان- الخبر- السعودية.
249- شرح سنن ابن ماجه (و مع حاشية السيوطي حاشية عبد الغني فخر الحسن الدهلوي) قديمي كتب خانة، كراتشي.
250- طبقات الحفاظ، ط 1، 1403 ه- 1983 م، دار الكتب العلمية- بيروت.
251- قطف الأزهار في كشف الأسرار، تحقيق د. أحمد بن محمد الحمادي، إصدار وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية- قطر، 1414 ه- 1994 م.
252- لباب النقول في أسباب النزول، دار إحياء العلوم العربية- بيروت، ط 6، 1408 ه- 1988 م.
253- المزهر في علوم اللغة و أنواعها، الطبعة لم تذكر، المكتبة العصرية، صيدا- بيروت.
254- (الشاشي) الهيثم بن كليب الشاشي أبو سعيد ت 335 ه: المسند للشاشي، تحقيق: د. محفوظ الرحمن زين اللّه مكتبة العلوم و الحكم، المدينة المنورة، ط 1، 1410 ه.
255- (الشاطبي) إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي أبو إسحاق ت 790 ه: الموافقات في أصول الشريعة، المقدمة الثالثة، توزيع عباس أحمد الباز، الطبعة لم تذكر.(1/548)
256- (الشاطبي) القاسم بن فيرة بن خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي أبو القاسم أو أبو محمد ت 590 ه: حرز الأماني و وجه التهاني (متن الشاطبية)، ط 1، 1412 ه- 1992 م، المكتبة الثقافية- بيروت.
257- (الشافعي) محمد بن إدريس أبو عبد اللّه الشافعي ت 204 ه: أحكام القران، تحقيق: عبد الغني عبد الخالق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1400 ه.
258- الأم، دار المعرفة، بيروت، ط 2، 1393 ه.
259- جماع العلم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1405 ه
260- الرسالة، تحقيق: أحمد محمد شاكر القاهرة، 1358 ه- 1939 م.
261- مسند الشافعي، دار الكتب العلمية، بيروت.
262- (شعلة) محمد بن أحمد بن محمد ابن أحمد بن محمد بن الحسين الموصلي أبو عبد اللّه ت 656 ه شرح شعلة على الشاطبية المسمى كنز المعاني شرح حرز الأماني، المكتبة الأزهرية للتراث.
263- (الشنقيطي) محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي: أضواء البيان في إيضاح القران بالقران، عالم الكتب- بيروت.
264- نثر الورود على مراقي السعود- تحقيق و إكمال تلميذه الدكتور: محمد ولد سيدي ولد حبيب الشنقيطي- الناشر: محمد محمود محمد الخضر القاضي- دار المنارة جدة ط 1، 1415- 1995 م.
265- مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر لابن قدامة، دار القلم، بيروت.
266- (الشوكاني) محمد بن علي بن محمد (ت 1255 ه): إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، دار المعرفة- بيروت.(1/549)
267- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، دار المعرفة- بيروت.
268- السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، تحقيق: محمود إبراهيم زايد و اخرون، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 4، 1405 ه.
269- فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير، دار الفكر، بيروت.
270- نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار، دار الجيل، بيروت، 1973 ه.
271- (الشيباني) أحمد بن حنبل الشيباني أبو عبد اللّه ت 241 ه: علل أحمد ابن حنبل، تحقيق صبحي البدري السامرائي، مكتبة المعارف، الرياص، ط 1، 1409 ه.
272- فضائل الصحابة، تحقيق: د. وصي اللّه محمد عباس مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1403 ه- 1983 م.
273- مسند الإمام أحمد بن حنبل، مؤسسة قرطبة، مصر.
274- (الشيرازي) إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز ابادي الشيرازي أبو إسحاق ت 476 ه: التبصرة في أصول الفقه، د. محمد حسن هيتو، دار الفكر، دمشق، ط 1، 1403 ه.
275- طبقات الفقهاء، تحقيق: خليل الميس، دار القلم، بيروت.
276- اللمع في أصول الفقه، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1405 ه، 1985 م.
277- صبحي الصالح (دكتور): مباحث في علوم القران، ط 3، 1964 م، دار العلم للملايين- بيروت.(1/550)
278- (الصفاقسي) على النوري: غيث النفع في القراات السبع بذيل سراج القارئ المبتدئ و تذكار المقرئ المنتهي، دار الفكر للطباعة و النشر.
279- (الصيداوي) محمد بن أحمد بن جميع الصيداوي أبو الحسين ت 402 ه:
معجم الشيوخ، تحقيق: د. عمر عبد السلام تدمري، مؤسسة الرسالة، دار الإيمان، بيروت، طرابلس، 1405 ه.
280- طالب عبد الرحمن (دكتور): نحو تقويم جديد للكتابة العربية (المقدمة)، كتاب الأمة رقم 69، ط 1، المحرم 1420 ه، السنة التاسعة عشرة، وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية- قطر.
281- الطاهر بن عاشور: التحرير و التنوير، بدون ذكر للدار و لا للطبعة.
282- طاهر الجزائري الدمشقي (1268 ه- 1328 ه): التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقران على طريق الإتقان، اعتنى به عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية- حلب.
283- (الطبراني) سليمان بن أحمد بن أيوب، مسند الدنيا أبو القاسم ت 360 ه: الروض الداني (المعجم الصغير)، تحقيق: محمد شكور محمود الحاج أمرير، المكتب الإسلامي، دار عمار، بيروت، عمان، ط 1، 1405- 1985 م.
284- مسند الشاميين، مراجعة: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1405 ه- 1984 م.
285- المعجم الأوسط، مراجعة: محمود الطحان، مكتبة المعارف- الرياض، 1405- 1985 م.
286- المعجم الكبير، مراجعة: حمدي عبد الحميد السلفي، مكتبة العلوم و الحكم، الموصل، 1404 ه- 1983 م.(1/551)
287- (الطبري) محمد بن جرير الطبري أبو جعفر ت 310 ه: جامع البيان في تأويل القران، ط 3، 1388 ه- 1968 م، شركة مكتبة و مطبعة مصطفى البابي الحلبي و أولاده بمصر.
288- (الطحاوي) أحمد بن محمد بن سلامة أبو جعفر ت 321 ه: شرح مشكل الاثار، حققه و ضبط نصه و خرج أحاديثه و علق عليه شعيب الأرناؤوط، ط 1، 1415 ه/ 1994 م.
289- شرح معاني الاثار، مراجعة محمد زهري النجار، ط 1، 1410 ه- 1990 م، دار الكتب العلمية- بيروت.
290- مختصر اختلاف العلماء، تحقيق: د. عبد اللّه نذير أحمد، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط 2، 1417 ه.
291- (الطيالسي) سليمان بن داود الفارسي البصري أبو داود ت 204 ه:
مسند الطيالسي، دار المعرفة، بيروت.
292- عامر السيد عثمان: كيف يتلقى القران؟ اداب التلاوة و أحكام التجويد ص 7، دار ابن كثير، بيروت، مكتبة دار التراث، المدينة المنورة، ط 2، 1406 ه/ 1986 م.
293- (العبدري) محمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري أبو عبد اللّه ت 897 ه: التاج و الإكليل لمختصر خليل، دار الفكر، بيروت، ط 2، 1398 ه.
294- (عبد الرزاق) بن همام الصنعاني أبو بكر ت 211 ه: المصنف، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1403 ه.
295- عبد الحميد صالح حمدان (دكتور): طبقات المستشرقين، مكتبة مدبولي.(1/552)
296- عبد السلام مقبل المجيدي: تلقي النبي صلّى اللّه عليه و سلم ألفاظ القران الكريم، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط 1، 1421 ه- 2000 م.
297- عبد الصبور شاهين (دكتور): تاريخ القران، دار القلم 1966 م.
298- عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ (دكتور): سنن القراء و مناهج المجودين، مكتبة الدار، المدينة المنورة، ط 1، 1414 ه.
299- عبد الفتاح أبو غدة: الرسول المعلم و أساليبه في التعليم، ط 2، 1417 ه/ 1997 م دار البشائر الإسلامية بيروت.
300- عبد الفتاح إسماعيل شلبي (دكتور): الإمالة في القراات و اللهجات العربية ط 1، مكتبة نهضة مصر، القاهرة 1957 م.
301- الاختيار في القراات منشؤه و مشروعيته و تبرئة الإمام الطبري من تهمة إنكار القراات المتواترة، مطبوعات جامعة أم القرى.
302- في الدراسات القرانية و اللغوية: رسم المصحف العثماني و أوهام المستشرقين في قراات القران الكريم دوافعها، و دفعها، دار المنارة جدة- ط 3، 1410 ه/ 1990 م.
303- عبد الفتاح القاضي ت 1403 ه: بشير اليسر شرح ناظمة الزهر في علم الفواصل للإمام الشاطبي، 1397 ه- 1977 م، مطبوعات الأزهر- مصر.
304- الوافي في شرح الشاطبية في القراات السبع، ط 5- 1414 ه- 1994 م، مكتبة السوادي- جدة، مكتبة الدار- المدينة المنورة.
305- عبد اللّه بن محمد الحبشي اليمني (معاصر): معجم الموضوعات المطروقة في التأليف الإسلامي و بيان ما ألف فيه، دار البارودي للطباعة و النشر و التوزيع، إصدارات المجمع الثقافي، أبو ظبي، طبعة 1997 م- 1418 ه.(1/553)
306- عبد المعطي محمد رياض طليمات: الحلقات القرانية، دراسة منهجية شاملة، ط 1، 1417 ه- 1997 م، إصدار برنامج تحفيظ القران الكريم- جدة.
307- عبد الهادي الفضلي (دكتور): القراات القرانية، ط 2، دار القلم- بيروت.
308- عبد المهيمن الطحان (دكتور): الإمام أبو عمرو الداني كتابه جامع البيان، مكتبة المنارة، ط 1، 1408 ه- 1988 م.
309- عبد الوهاب حمودة: القراات و اللهجات، ط 1، 1948 م، مكتبة النهضة المصرية- القاهرة.
310- عبده الراجحي (دكتور): اللهجات العربية في القراات القرانية، 1969 م، دار المعارف بمصر.
311- (العدوي) علي الصعيدي العدوي المالكي: حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني، تحقيق: يوسف الشيخ محمد البقاعي، دار الفكر، بيروت، 1412 ه.
312- (العراقي) عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن أبو الفضل ت 806 ه:
المغني عن حمل الأسفار في الأسفار بتخريج ما في الإحياء من الأخبار، دار المعرفة، بيروت (في هامش الإحياء).
313- (العز) عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمى أبو محمد ت 660 ه: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، دار الكتب العلمية، بيروت.
314- (العسكري) الحسن بن عبد اللّه بن سعيد العسكري أبو أحمد ت 382 ه:
تصحيفات المحدثين تحقيق: محمود أحمد ميرة المطبعة العربية الحديثة، القاهرة، ط 1، 1402 ه.(1/554)
315- (العسكري) الحسن بن عبد اللّه بن سهل بن سعيد أبو هلال ت بعد 395 ه: الفروق في اللغة، لجنة إحياء التراث العربي في دار الافاق الجديدة، دار الافاق- بيروت، ط 1403، 5 ه- 1983 م.
316- (العظيم ابادي) محمد شمس الحق العظيم ابادي أبو الطيب: عون المعبود شرح سنن أبي داود، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1415 ه.
317- (العكبري) محب الدين عبد اللّه بن أبي عبد اللّه الحسين بن أبي البقاء عبد اللّه بن الحسين أبو البقاء ت 616 ه: التبيان في إعراب القران، المحقق: علي محمد البجاوى، إحياء الكتب العربية.
318- (عليش) محمد بن أحمد بن محمد: فتح العلي المالك، دار المعرفة، بيروت.
319- علي محمد الضباع: إرشاد المريد إلى مقصود القصيد، تحقيق و تقديم:
إبراهيم عطوة عوض، ط 1، 1404 ه/ 1974 م.
320- علي محمد توفيق النحاس (دكتور): الرسالة الغراء في الأوجه المقدمة في الأداء عن العشرة القراء ص 41، راجعها: الشيخ عبد الرازق السيد البكري- و منها القصيدة الحسناء، ط 1، 1412 ه/ 1991 م.
321- عماد الدين خليل (دكتور): الإسلام و الوجه الاخر للفكر الغربي (قراات) نقلا عن موريس بوكاي في كتابه (القران الكريم و التوراة و الإنجيل و العلم)، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1418 ه/ 1997 م.
322- عودة خليل عودة (معاصر): التطور الدلالي بين لغة الشعر، و لغة القران، مكتبة المنار- الزرقاء- الأردن، ط 1، 1405 ه- 1985 م.
323- (الغافقي) محمد بن عبد الواحد بن إبراهيم ت 619 ه: لمحات الأنوار و نفحات الأزهار وري الظمان لمعرفة ما ورد من الاثار في ثواب قارئ القران،(1/555)
تحقيق د. رفعت فوزي عبد المطلب، دار البشائر الإسلامية- بيروت، ط 1، 1418 ه- 1997 م.
324- غانم قدوري حمد (دكتور): الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، وزارة الأوقاف و الشؤون الدينية، مطبعة الخلود- بغداد، ط 1، 1406 ه- 1986 م.
325- رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية- ط 1، 1402 ه- 1982 م.
326- (الغزالي) محمد بن محمد الغزالي أبو حامد ت 505 ه: إحياء علوم الدين، دار المعرفة، بيروت.
327- جواهر القران، تحقيق: د. محمد رشيد رضا القباني، دار إحياء العلوم، بيروت، ط 1، 1985 م.
328- المستصفى من علم الأصول، دار الفكر- بيروت.
329- (الفارسي) الحسن بن أحمد بن عبد الغفار أبو علي ت 377 ه:
الحجة في علل القراات السبع، تحقيق علي النجدي ناصف، ود. عبد الحليم النجار، ود. عبد الفتاح شلبي، دار الكتاب العربي، 1965 م، المجلد الأول.
330- (الفاكهي) محمد بن إسحاق بن العباس الفاكهي أبو عبد اللّه ت 275 ه:
أخبار مكة في قديم الدهر و حديثه، تحقيق: د. عبد الملك عبد اللّه دهيش دار خضر، بيروت، ط 2، 1414 ه.
331- (الفراء) يحي بن زياد ت 207 ه أبو زكريا: معاني القران، دار السرور- تحقيق: أحمد يوسف نجاتي، محمد علي النجار.
332- (الفريابي) جعفر بن محمد بن الحسن الفريابي ت 301 ه: صفة المنافق، بدر البدر، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت، ط 1، 1405 ه.(1/556)
333- فضل حسن عباس (دكتور): إتقان البرهان في علوم القران، ط 1، 1997 م، دار الفرقان.
334- (القاضي عبد الجبار) عماد الدين عبد الجبار بن أحمد أبو الحسن ت 415 ه: تنزيه القران عن المطاعن، طبعت على نفقة: محمد سعيد الرافع- صاحب المكتبة الأزهرية- ط 1 1329 ه- طبعت بمطبعة الجمالية بمصر.
335- (القرطبي) محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي أبو عبد اللّه: الجامع لأحكام القران، 1405 ه- 1985 م، دار إحياء التراث العربي- بيروت.
336- (القضاعي) محمد بن سلامة بن جعفر ت 454 ه أبو عبد اللّه: مسند الشهاب، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، مؤسسة الرسالة، ط 2، 1407 ه- 2986 م.
337- (القفال) محمد بن أحمد الشاشي القفال ت 507 ه: حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء، تحقيق: د. ياسين أحمد إبراهيم درادكة، مؤسسة الرسالة، دار الأرقم، بيروت، عمان- الأردن، ط 1.
338- (القنوجي) صديق بن حسن خان: أبجد العلوم الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم، ت 1307 ه، تحقيق: عبد الجبار زكار، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978 م.
339- (القيسراني) محمد بن طاهر بن القيسراني ت 507 ه: تذكرة الحفاظ (أطراف أحاديث كتاب المجروحين لابن حبان)، تحقيق: حمدي عبد المجيد إسماعيل السلفي، دار الصميعي، الرياض، ط 1، 1415 ه.
340- (القيسي) مكي بن أبي طالب حموش ابن محمد بن مختار القيرواني القرطبي أبو محمد ت 437 ه/ 1045 م: الإبانة عن معاني القراات، قدم له(1/557)
و حققه، و علق عليه، و شرحه، و خرج قرااته: الدكتور عبد الفتاح إسماعيل شبلي: المكتبة الفيصلية، مكة المكرمة.
341- التبصرة في القراات السبع، تحقيق: الدكتور المقرئ محمد غوث الندوي- نشر و توزيع الدار السلفية- ط 2، 1402 ه- 1982 م.
342- الرعاية (لتجويد القراءة و تحقيق لفظ التلاوة) تحقيق الدكتور: أحمد حسن فرحات- دار عمار الأردن- ط 2، 1404 ه/ 1984 م.
343- شرح كلا و بلى و نعم و الوقف على كل واحدة منهن في كتاب اللّه عز و جل ص 45، ضمن كتاب مجموعة الرسائل الكمالية «رقم 1» في المصاحف و القران و التفسير «خمسة كتب»- الناشر: مكتبة المعارف- محمد سعيد حسن الكمال- الطائف: شارع الكمال.
344- (الكاساني) علاء الدين ت 587 ه: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 2، 1982.
345- (الكتاني) عبد الحي الإدريسي الحسني الفاسي: نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية، دار الكتاب العربي- بيروت.
346- (الكرماني) محمود بن حمزة بن نصر الكرماني ت 500 ه: البرهان في متشابه القران، تحقيق أحمد عز الدين عبد اللّه خلف اللّه، دار صادر- بيروت، ط 2، 1417 ه- 1996 م.
347- (الكسي) عبد بن حميد بن نصر أبو محمد ت 249 ه: المنتخب من مسند عبد بن حميد، مراجعة: صبحي البدري السامرائي- محمود محمد خليل الصعيدي، مكتبة السنة- القاهرة، 1408 ه- 1988 م.(1/558)
348- (الكناني) أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل الكناني ت 840 ه: مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه، تحقيق: محمد المنتقى الكشناوي، دار العربية، بيروت، ط 2، 1403 ه.
349- (الكيا الهراسي) عماد الدين بن محمد الطبري (ت 504 ه): أحكام القران، ط 1، 1403 ه- 1983 م، دار الكتب العلمية- بيروت.
350- لؤي محمد قبيصي علي الشريف: القسطاس المستقيم في بيان مدى مشروعية صدق اللّه العظيم عقب تلاوة القران الكريم، المجموعة المتحدة للطباعة، القاهرة، ط بدون.
351- لبيب السعيد: الجمع الصوتي الأول للقران الكريم، دار الكتاب العربي- القاهرة.
352- (المارغني) إبراهيم بن أحمد التونسي: دليل الحيران على مورد الضمان في فني الرسم و الضبط، و هو شرح على منظومة محمد بن محمد الشريشي ثم الفاسي الشهير بالخراز- دار الكتب العلمة بيروت، ط 1، 1415 ه/ 1995 م.
353- (المباركفوري) محمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم أبو العلا: تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، ط 1، 1410 ه- 1990 م، دار الكتب العلمية- بيروت.
354- (المحاملي) الحسين بن إسماعيل الضبي أبو عبد اللّه ت 330 ه: أمالي المحاملي، تحقيق د. إبراهيم القيسي، المكتبة الإسلامية، عمان، ط 1، 1412 ه.
355- (المحبوبي) عبد اللّه بن مسعود المحبوبي البخاري الحنفي: التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه، ضبطه و خرج آياته و أحاديثه: الشيخ زكريا عميرات، ط 1، 1416- 1996 م، دار الكتب العلمية- بيروت.(1/559)
356- محمد الشهير بالحداد ابن علي ابن خلف الحسيني المالكي الأزهري شيخ القراء و المقارئ: الكواكب الدرية فيما ورد في إنزال القران على سبعة أحرف من الأحاديث النبوية و الأخبار المأثورة في بيان رسم المصاحف العثمانية للقراات المشهورة و نصوص الأئمة الثقات في ضابط المتواتر من القراات و ما يناسب ذلك، طبعة بمطبعة مصطفى البابي الحلبي و أولاده بمصر- محرم 1344 ه.
357- محمد الصادق عرجون عميد كلية أصول الدين، جامعة الأزهر: بحث علمي لنقد مزاعم حول قراات القران في رسالة: (أصوات المد في القران الكريم) بكلية الاداب- جامعة الإسكندرية، اتحاد الطلاب بكلية أصول الدين، اللجنة الاجتماعية 1386 ه- 1966 م.
358- محمد الفاضل ابن عاشور: التفسير و رجاله، ضمن كتاب مجموعة الرسائل الكمالية «رقم 1» في المصاحف و القران و التفسير «خمسة كتب» الناشر:
مكتبة المعارف- محمد سعيد حسن الكمال- الطائف: شارع الكمال.
359- محمد بخيت المطيعي (ت 1354 ه): الكلمات الحسان في الحروف السبعة و جمع القران، ط 1، 1323 ه، المطبعة الخيرية- القاهرة.
360- محمد طاهر عبد القادر الكردي المكي: تاريخ القران و غرائب رسمه و حكمه، شركة مكتبة و مطبعة مصطفى البابي الحلبي و أولاده بمصر.
361- محمد عبد القادر هنادي (دكتور): ظاهرة التأويل في إعراب القران الكريم: دراسة تحليلية لموقف النحاة من القراات القرانية المتواترة التي تتعارض مع القواعد النحوية، جامعة الملك عبد العزيز، كلية الاداب، جدة، ط 1، 1408 ه/ 1988 م.(1/560)
362- محمد عبد اللّه دراز (دكتور): مختصر مدخل إلى القران الكريم (عرض لقضايا القران- جمعه انتشاره محتواه مصدر علاقته بالكتب السابقة)، ترجمة و تلخيص: محمد عبد العظيم علي- دار الدعوة القاهرة- ط 1، 1417 ه/ 1996 م.
363- مدخل إلى القران الكريم (عرض تاريخي و تحليل مقارن)، و هو في المختصر- ترجمة: محمد عبد العظيم علي- مراجعة: دكتور السيد محمد بدوي، دار المعرفة الإسكندرية.
364- النبأ العظيم، اعتنى به و خرج أحاديثه: عبد الحميد الدخاخيني، ط 1، 1417 ه- 1997 م، دار طيبة- الرياض.
365- محمد محمد عبد اللطيف (يلقب نفسه بابن الخطيب): الفرقان، الطبعة لم تذكر- دار الكتب العلمية- بيروت.
366- محمد مطيع الحافظ (دكتور): شيخ القراء الإمام ابن الجزري، دار الفكر المعاصر، ط 1، 1416 ه- 1995 م.
367- محمد مكي نصر: نهاية القول المفيد في علم التجويد، طبع بمطبعة مصطفى البابى الحلبي و أولاده بمصر: راجع هذه النسخة و صححها على محمد الضباع حفظه اللّه ربيع الثاني 1349 ه.
368- محمد يحي بن الشيخ أمان المدرس بمدرسة الفلاح الملكية: التيسير شرح منظومة التفسير للشيخ عبد العزيز الزمزمي، مطبعة مصطفى بن محمد صاحب المكتبة التجارية الكبرى بمصر.
369- محمود السعدني: ألحان السماء، كتاب اليوم يصدر عن دار أخبار اليوم أول كل شهر، عدد يناير 1996 م.(1/561)
370- (المرداوي) علي بن سليمان المرداوي أبو الحسن ت 885 ه:
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، محمد حامد الفقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
371- (المزي) جمال الدين يوسف بن الزكي عبد الرحمن أبو الحجاج ت 742 ه: تهذيب الكمال، مراجعة: بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة- بيروت 1400 ه- 1980 م.
372- (المغربي) محمد بن عبد الرحمن المغربي أبو عبد اللّه ت 954 ه:
مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، دار الفكر، ط 2، بيروت، 1398 ه.
373- (مسلم) بن الحجاج النيسابوري أبو الحسين ت 261 ه: صحيح مسلم، مراجعة: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي بيروت 1374 ه- 1954 م.
374- (المقدسي) محمد بن أحمد ت 390 ه: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، تحقيق: غازي طليمات، وزارة الثقافة و الإرشاد القومي، دمشق، 1980 م.
375- (المقدسي) محمد بن عبد الواحد بن أحمد الحنبلي أبو عبد اللّه ت 634 ه: الأحاديث المختارة، تحقيق: عبد الملك بن عبد اللّه دهيش، مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، 1410 ه.
376- (ملا جيون) أحمد بن أبي سعيد بن عبيد اللّه الحنفي الصديقي الميهوي (ت 1130 ه): نور الأنوار و بهامشه كشف الأسرار، ط 1 1406 ه- 1986 م، دار الكتب العلمية- بيروت.(1/562)
377- (المناوي) محمد عبد الرؤوف المناوي ت 1031 ه: التوقيف على مهمات التعاريف، تحقيق: د. محمد رضوان الداية، دار الفكر المعاصر، دار الفكر، بيروت، دمشق، ط 1، 1410 ه.
378- فيض القدير شرح الجامع الصغير المكتبة التجارية الكبرى، مصر، ط 1، 1356 ه.
379- (المنذري) عبد العظيم بن عبد القوي المنذري أبو محمد ت 656 ه:
الترغيب و الترهيب من الحديث الشريف، تحقيق: إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1417 ه
380- (المهدوي) أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي ت 440 ه: في توجيه القراات: شرح الهداية، تحقيق و دراسة الدكتور: حازم سعيد حيدر- مكتبة الرشد- الرياض، ط 1، 1416 ه/ 1995 م.
381- كتاب هجاء مصاحف الأمصار، تحقيق: محي الدين عبد الرحمن رمضان.
382- (الميداني) عبد الرحمن حسن حبنكة: ضوابط المعرفة و أصول الاستدلال و المناظرة، ط 4، 1414 ه- 1993 م، دار القلم- بيروت.
383- (النحاس) أحمد بن محمد بن إسماعيل المرادي النحاس أبو جعفر ت 339 ه: الناسخ و المنسوخ، تحقيق: د. محمد عبد السلام محمد، مكتبة الفلاح، الكويت، ط 1، 1408 ه.
384- (النسائي) أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن ت 303 ه: السنن الكبرى، مراجعة: د. عبد الغفار سليمان البنداري- سيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية- بيروت، 1411 ه- 1991 م.(1/563)
385- فضائل القران، تحقيق: د. فارروق حمادة، دار إحياء العلوم، بيروت، ط 2، 1992 م.
386- المجتبى من السنن، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية حلب، ط 2، 1406- 1986.
387- (النسفي) عمر بن محمد بن أحمد النسفي أبو حفص: اللحن في القراءة، مصورة مخطوطة للشيخ في ملك الباحث، و الصورة مستجلبة من مخطوطات كتب خانة بالهند.
388- نظام الدين البلخي (و لجنة من العلماء): الفتاوى الهندية، دار الفكر.
389- (النووي) محيي الدين يحيى بن شرف بن مري النووي أبو زكريا ت 676 ه: التبيان في اداب حملة القران، الوكالة العامة للتوزيع، دمشق، ط 1، 1403 ه- 1983 م.
390- روضة الطالبين و عمدة المفتين، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1405 ه.
391- صحيح مسلم بشرح النووي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 1392 ه.
392- المجموع شرح المهذب، تحقيق: محمود مطرحي، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1417 ه- 1996 م.
393- (النويري) محمد بن محمد بن محمد بن أبو القاسم: شرح طيبة النشر في القراات العشر، تحقيق و تعليق: عبد الفتاح السيد سليمان أبو سنه خبير التحقيق بمجمع البحوث الإسلامية، مراجعة لجنة إحياء التراث الإسلامي، بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، 1406 ه- 1986 م.(1/564)
394- القول الجاذ لمن قرأ بالشاذ- مطبوع في مقدمة شرح طيبة النشر، تحقيق و تعليق: عبد الفتاح السيد سليمان أبو سنه خبير التحقيق بمجمع البحوث الإسلامية، مراجعة لجنة إحياء التراث الإسلامي، بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، 1406 ه- 1986 م.
395- (الهذلي) علي بن جبارة أبو القاسم: الكامل، مصورة مخطوطة عن نسخة في ملك الشيخ سعيد عبد اللّه المدرس بجامعة أم القرى.
396- (الهروي) القاسم بن سلام أبو عبيد ت 224 ه: غريب الحديث، دار الكتاب العربي، بيروت، 1396 ه، تحقيق: د. محمد عبد المعيد خان.
397- فضائل القران، حققه: مروان العطية محسن خرابة وفاء تقي الدين، دار ابن كثير- دمشق، ط 1، 1415 ه- 1995 م.
398- كتاب لغات القبائل الواردة في القران الكريم، ضمن كتاب مجموعة الرسائل الكمالية «رقم 1» في المصاحف و القران و التفسير «خمسة كتب»- الناشر: مكتبة المعارف- محمد سعيد حسن الكمال- الطائف: شارع الكمال.
399- (الهيتمي) شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي بن حجر ت 973 ه:
الفتاوى الفقهية الكبرى، المكتبة الإسلامية، عمان.
400- المنهاج القويم شرح المقدمة الحضرمية في الفقه الشافعي.
401- (الهيثمي) نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي أبو الحسن ت 807 ه:
بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث، للحارث بن أبي أسامة ت 282 ه، تحقيق د. حسين أحمد صالح الباكري، 1413 ه- 1992 م، مركز خدمة السنة و السيرة النبوية- المدينة المنورة.
402- مجمع الزوائد و منبع الفوائد، دار الريان للتراث، دار الكتاب العربي، القاهرة، بيروت، 1407 ه.(1/565)
403- موارد الظمان إلى زوائد ابن حبان، محمد عبد الرزاق حمزة، دار الكتب العلمية، بيروت.
404- (الواحدي) علي بن أحمد النيسابوري أبو الحسن ت 468 ه: أسباب النزول، تعليق و تخريج. د. مصطفى ديب البغا، ط 1، 1408 ه- 1988 م، دار ابن كثير- دمشق.
405- (الوزير) محمد بن إبراهيم الوزير ت 840 ه: إيثار الحق على الخلق، دار الكتب العلمية- بيروت.
406- (اليحصبي) عياض بن موسى اليحصبي ت 544 ه أبو الفضل:
الشفا تعريف حقوق المصطفى، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان.
407- يوسف إبراهيم النور: مع المصاحف دون ذكر لبقية المعلومات.
408- يوسف أحمد نصر الدجوي: كتاب الجواب المنيف (في الرد على مدعي التحريف في الكتاب الشريف)، طبع بمطبعة النهضة الأدبية «لصاحبها محمود حماده»، بدون.
409- يوسف خليفة أبو بكر (دكتور): أصوات القران: كيف نتعلمها، و نعلمها، دار المركز الإسلامي الأفريقي للطباعة، ط 2، 1414 ه- 1994 م.
و من المراجع الاخرى:
410- مجلة الأزهر- المجلد الثالث و الثلاثون- العدد الحادي عشر 1962 م.
مصورة مخطوطة لمجهول عن باب وقف حمزة و هشام ضمن مجموع قرائي يمتلك الباحث صورة منه، و الصورة مستجلبة من مخطوطات كتب خانة بالهند.(1/566)
«الفهرس الموضوعي»
الموضوع الصفحة الإهداء 3
المقدمة 5
الفصل الأول: شخصية النبي صلّى اللّه عليه و سلم التعليمية:
و فيه ثلاثة مباحث المبحث الأول: طبيعة الوظيفة الرسالية لسيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلم: و فيه ثلاثة مطالب: 16
المطلب الأول: الوظيفة العامة للنبي صلّى اللّه عليه و سلم 16
المطلب الثاني: تحليل دلالات الوصف الإجمالي للوظيفة النبوية 22
المطلب الثالث: تفصيل الوظيفة الرسالية للنبي صلّى اللّه عليه و سلم 25
المبحث الثاني: وظيفة التلاوة: و فيه أربعة مطالب: 32
المطلب الأول: مدلول التلاوة 32
المطلب الثاني: علاقة التلاوة بالتعليم: و المراد هنا هل التلاوة وظيفة تعليمية في ذاتها؟ و ما خصائصها الدالة على ذلك؟ 36
المطلب الثالث: المنهج المقرر للتلاوة و التعليم 45
المطلب الرابع: قيامه بوظيفة تعليم القران على أوسع نطاق 55
المبحث الثالث: حكم تعلم القران الكريم و تعليمه: و فيه مطلبان 66(1/567)
المطلب الأول: على النبي صلّى اللّه عليه و سلم 66
المطلب الثاني: على الأمة 67
الفصل الثاني: أصول تعليم النبي صلّى اللّه عليه و سلم أصحابه ألفاظ القران:
و فيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم كيفية تعلمه لكلام اللّه القراني: و فيه ثلاثة مطالب: 82
المطلب الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم كيفية نزول ألفاظ القران و تلقيها 82
المطلب الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم أماكن القراءة 87
المطلب الثالث: مقتضيات ذلك: إلزامهم الاقتداء به في هيئة تلاوته للفظ القراني 91
المبحث الثاني: وسائل تعليم ألفاظ القران الكريم كما وضعها النبي صلّى اللّه عليه و سلم: و فيه ستة مطالب: 95
المطلب الأول: الحلقات القرانية 96
المطلب الثاني: تعليمهم هيئة التعلم الواجبة لألفاظ القران الكريم (التلقي) 105
المطلب الثالث: العرضة الأخيرة 114
المطلب الرابع: التعليم القراني العام 129
المطلب الخامس: التدرج في التعليم 141
المبحث الثالث: وسائل النشر التعليمية لألفاظ القران الكريم في عموم المجتمع المسلم كما قام بها النبي صلّى اللّه عليه و سلم: و فيه أربعة مطالب: 146(1/568)
المطلب الأول: وسائل النشر العامة 146
المطلب الثاني: (الصلاة) وسيلة لنشر القران و تعليمه 154
المطلب الثالث: منح قراء القران الصدارة في الألقاب العلمية و قيادة الناس 160
المطلب الرابع: تعليمهم تسمية السور و ألقابها 169
المبحث الرابع: القواعد التربوية المصاحبة لعملية الإقراء (من حيث اللفظ): و المراد هنا الاداب اللازمة للقارئ كقارئ كما وضعها النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و ذلك ينحصر في أربعة مطالب: 173
المطلب الأول: الانفعال بالقران الكريم 173
المطلب الثاني: لزوم أبجديات منهج التلقي 178
المطلب الثالث: تعليمهم تعظيم القران الكريم 178
المطلب الرابع: تعليمهم الهيئة التي يكون عليها قارئ القران إذا أراد القراءة 184
الفصل الثالث: جماع منهجية النبي صلّى اللّه عليه و سلم في تحفيظ الألفاظ و ترتيلها: و فيه ستة مباحث و هي:
المبحث الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم أساسات الدرس القراني «منهج الحلقات القرانية»: و فيه أربعة مطالب: 194
المطلب الأول: القراءة نظرا من المصحف 194
المطلب الثاني: القراءة عن ظهر قلب 197(1/569)
المطلب الثالث: التعاهد (المراجعة) 202
المطلب الرابع: تعليمهم مقدار الورد اليومي 211
المبحث الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم ماهية التجويد و حكمه: و فيه ثلاثة مطالب: 216
المطلب الأول: الأصول الشرعية لعلم التجويد 216
المطلب الثاني: مكونات علم التجويد- كما علمها النبي صلّى اللّه عليه و سلم- 222
المطلب الثالث: حكم التجويد كما علمه النبي صلّى اللّه عليه و سلم 227
المبحث الثالث: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم أهمية التجويد و ضوابطه الشرعية: و فيه ثلاثة مطالب: 233
المطلب الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم أهمية التجويد 233
المطلب الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم اجتناب اللحن 239
المطلب الثالث: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم ضوابط التجويد 242
المبحث الرابع: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم ترتيل ألفاظ القران الكريم: و فيه ثلاثة مطالب: 247
المطلب الأول: الترتيل و أركانه 247
المطلب الثاني: مثال على فروع الترتيل التي علمها النبي صلّى اللّه عليه و سلم (المد) 255
المطلب الثالث: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم مراتب الترتيل 260
المبحث الخامس: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم مراتب الأداء الأعلى من التجويد: و فيه أربعة مطالب: 269(1/570)
المطلب الأول: تعليمهم تزيين التصويت بألفاظ القران الكريم 269
المطلب الثاني: تعليمهم التغني بألفاظ القران الكريم 275
المطلب الثالث: تعليمهم الترجيع لألفاظ القران الكريم 282
المطلب الرابع: القراءة بالألحان 290
المبحث السادس: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم الملحقات بأحكام التجويد: و فيه أربعة مطالب: 301
المطلب الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم أحكام الابتداء 301
المطلب الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم أحكام الختم 310
المطلب الثالث: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم أحكام الوقف 330
المطلب الرابع: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم أحكام الجهر و الإسرار بقراءة القران الكريم 333
الفصل الرابع: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم جمع القران الكريم حفظا و كتابة:
و فيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: أثر عامل السن في أسلوب تعليمه (منهجية النبي صلّى اللّه عليه و سلم في تعليم الصغار): 338
المبحث الثاني: تعليمهم صفات حامل القران (القارئ): و فيه مطلبان 343
المطلب الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم تلقيب القراء و المقرئين بألقاب مميزة 343
المطلب الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم صفات حامل القران الذي يستحق هذه الألقاب 352(1/571)
المبحث الثالث: أصحاب (تلاميذ) النبي صلّى اللّه عليه و سلم من أئمة الإقراء (المخرجات التعليمية): و فيه مطلبان: 369
المطلب الأول: مؤشرات و قواعد عامة في عدد حفاظ القران الكريم في عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلم 369
المطلب الثاني: من أشهر أئمة الإقراء من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلم على سبيل التفصيل 385
المبحث الرابع: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم جمع القران: و فيه أربعة مطالب: 410
المطلب الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم كتابة القران 411
المطلب الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم ترتيب ايات القران الكريم و سوره 421
المطلب الثالث: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم تحزيب القران 329
المطلب الرابع: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم عد الاي (علم الفواصل) 434
الفصل الخامس: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم قراءة القران على أحرفه المنزلة:
و فيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم القراءة بما تيسر من الأحرف السبعة: و فيه ثلاثة مطالب: 438
المطلب الأول: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم مشروعية قراءة القران على سبعة أحرف 438
المطلب الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم أن الحرف الواحد شاف كاف 443
المطلب الثالث: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم عدم التناقض المعنوي بين هذه الأحرف 447(1/572)
المبحث الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم أن القراءة سنة يأخذها الاخر عن الأول:
و فيه خمسة مطالب: 450
المطلب الأول: التلقي و التوقيفية في القراات 450
المطلب الثاني: تعليمه صلّى اللّه عليه و سلم عدم التنازع في رواية القراءة ما دامت قد ثبتت عنه 455
المطلب الثالث: أين الأحرف السبعة؟ 460
المطلب الرابع: القراءة التفسيرية 475
المطلب الخامس: القراءة بالمعنى 481
المبحث الثالث: المنهجية الشرعية لتناقل القران الكريم (التواتر في نقل ألفاظ القران): و فيه مطلبان: 490
المطلب الأول: التواتر القراني 492
المطلب الثاني: من أهم اثار منهج التواتر القراني (المنهج القراني في إثبات ما هو قران) 501
و ختاما 515
فهرس المراجع 519
الفهرس الموضوعي 567(1/573)