إثبات الشفاعة لصاحب المقام المحمود
والرد على الدكتور مصطفى محمود
إعداد
د. محمود عبده عبد الرازق
دكتوراه الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده اللَّه فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسولهS : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }
[الأحزاب/71:70] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [الحشر/18] .
أما بعد ..(1/1)
فقد أحزننا والله ما قرأناه وعلى غير ما عهدناه من الدكتور مصطفى محمود أن ينكر لصاحب المقام المحمود شفاعته فى العصاة من المسلمين ويردد بذلك مذهب الخوارج المنحرفين والمعتزلة القائلين بإنفاذ الوعيد والموجبين على رب العالمين ألا يرحم من شاء من عباده الموحدين وألا يقبل فيهم شفاعة الشافعين حتى ولو كان الشافع هو سيد الأنبياء والمرسلين ، وقد تجاهل سيادته موقف أهل العلم والإيمان منذ أن مات رسول الله S حتى الآن ، وتجاهل أيضا المسؤولين المتخصصين فى أصول الدين ، فبدلا من أن يرجع إلي فضيلة المفتى فى هذا العصر أو لجنة الفتوى من العلماء فى مصر أو يرجع إلى فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر لطلب العلم عند اختلاط الأمر أو حتى المشورة فربما تمنعه مكانته المشهورة أن يكون طالب علم وهو فى هذه المنزلة ، سلك سيادته بجرأة شديدة ما ذهب إليه أصحاب الضلالات البعيدة ، ربما دون علم منه بأن ما يردده هو مذهب الخوارج بعينه ، ولكنه أطلق العنان لاجتهاده المحدود ، وتهجم على قواعد السنة بلا حدود ، وشكك فى أصح الكتب على غير المعهود من المحبين لسيد الأنبياء والمرسلين وطعن فى صحيح الإمام البخارى أمير المؤمنين فى الحديث رحمه الله ، ونحن وإن كنا لانشكك فى نواياه ، إلا أنه أصبح فتنة لكثير من الجاهلين المثقفين الأميين فى أصول الدين ، وقد كلمنى كثير من إخوانى المسلمين بعد أول مقالة له أن أكتب ردا تفصيليا عليه ، فقلت لهم : خير رد عليه ألا نلتفت إليه ، فلا نريد أن نشغل أنفسنا بما يستنزف جهدنا وجهد غيرنا ، ولكن سيادته أعاد الكرة مرة ومرتين وراوغ بعد ذلك فى مقالتين حتى طفح الكيل وبان الميل وخيم الليل بالجهل على كثير من الأذهان ، ثم فاجأنا بعد ذلك أنه لا ينكر السنة ولكن المفاجاة أن السنة عنده هو ما يراه موافقا لهواه من كلام رسول الله S أما قسم الحديث فى جامعة الأزهر وجميع الجامعات فى العالم الإسلامى فأصبح أمرا مطويا فى سالف(1/2)
الزمان لايقبل سيادته منهم أدلة ولا برهان ، فكان لا بد من إظهار هذه الأمور فى الرد على فضيلة الدكتور :
أولا : أن سيادته سلك منهج المعطلين المشبهين من المعتزلة والمتكلمين عندما عطلوا الأدلة بحجة نفى التشبيه عن الله فجمعوا بين جريمتي التمثيل والتعطيل ، ولما حوصروا اضطروا للتأويل بغير دليل ، وطعنوا فى السنة وتدوينها والتشكيك فى أخبارها ، وهذا ما حدث من فضيلته عندما خلط الأمور فى مقالته حيث سوى بين الشفاعة عند الله وما يتعلق بأحكامها وبين الشفاعة التى تحدث من الرعية لحكامها ، وقاس بينهما بقياس المماثلة الذى استخدمه أصحاب الملل الباطلة فى قياس الغائب على الشاهد ولم يوحد الله ويفرده عمن سواه فى مسألة الشفاعة ، فالشفاعة عند المخلوق ليست كالشفاعة عند الله ، فالمخلوق أحيانا يقبل الشفاعة إلزاما ، إما لوجود مصلحة تسعى إليها قرابته ، أو إلزاما من حزبه لتبقى عليه سيادته ، أو لفضل من المملوك على المالك ، أو قدرته علي زوال أوصاف أذن بزوالها الخالق ، أو التحكم فى نقاط ضعفه بإزاعة أخباره ، وكشف ما هو مستور من سوء أسراره ، فيضطر الحاكم أو المالك إلى قبول الشفاعة من المحكوم ، والتغاضى عن العدل أو إنصافه المظلوم ، راغما بغير إذنه مجبرا شافعا مكرها لا مخيرا ، وهذه هى الفوضى والمحسوبية التى أشار إليها فضيلة الدكتور لما قاس الخالق على المخلوق وعقد الأمور .
أما رب العزة والجلال فمن هو صاحب الفضل عليه ؟ ومن الذى ساعده فى إنشاء الخلق وافتقر إليه ؟ سبحانه لاشريك له فى ملكه ولا ظهير له فى تدبير خلقه ، إن العقلاء يقبحون الشرك ويعلمون أن الله على كل شئ قدير وكل شئ إليه فقير وكل أمر عليه يسير لا يحتاج إلى شئ : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }
[الشورى/11] .(1/3)
فإذا أخبرنا الله عنه نفسه أنه سيقبل الشفاعة فى الموحدين من المسلمين ولو اقترفوا بعض أنواع العصيان علمنا أنها لا تماثل شفاعة الإنسان للإنسان ، ولذا قال الله فى أعظم آية فى القرآن : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } [البقرة/255] فلن يقبل الشفاعة من أحد ولا فى أحد إلا إذا جاء إلى الله عبدا موحدا ، مشابها فى سلوكه عبده ونبيه محمدا S ، خالصا من شوائب التشبيه والشرك مقرا لله بالخلق والأمر والملك ، وهذا شرط الشفاعة الذى حدده سيد الخلق لما قال فيما ثبت عنه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه عند البخارى برقم (99) : ( أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ ) .
ولما كان أعبد الخلق وإمام الموحدين وسيد الأنبياء والمرسلين هو سيدنا رسول الله S ، فقد فضله الله على من سبق من الأنبياء بالمقام المحمود ، وجعله أملا للموحدين فى اليوم الموعود ، ونسأل الله جميعا أن يكون شفيعا لنا وللدكتور مصطفى محمود إذا رجع عن دعواه وتاب إلى الله قبل أن يلقاه .(1/4)
ثانيا : لا مانع أن يجتهد سيادته فى إعمال فكره لخدمة الدين والأخذ بأيدى المسلمين إلى عليين ، وترك سبيل المتواكلين المعتمدين على شفاعة النبى S مع تماديهم فى العصيان ، لكن إعمال الفكر والنظر بالمعقول يكون ممدوحا إذا أدى إلى إظهار الدين والعمل بالمنقول ، أعنى الكتاب والسنة ، وليس من شيمة المسلم أن يجعل المنقول مطية للمعقول ويضرب أدلة الكتاب والسنة ويخالف إجماع الأمة ، فطريقة الموحدين من أهل السنة تقوم على إظهار ما جاء فى النقل من أوجه الكمال ، وأن العقل مطية للنقل يعمل الفكر ويبذل الجهد ليضع النص فوق الرؤس عاليا خفاقا ويقوم خادما له وداعيا إليه سعيدا بما ناله من شرف الخدمة ، وأنه لا تعارض بين العقل الصريح والنقل الصحيح بل العقل يشهد للنقل ويؤيده ، فالذى خلق العقل هو الذى أرسل إليه النقل ومن المحال أن يرسل إليه ما يفسده ، فهو سبحانه أعلم بصناعته لعقل الإنسان وأعلم بما يصلحه على طول الزمان ، فإذا وضع نظاما لتشغيل صنعته وألزم الإنسان العمل بشرعته ، كان من المحال أن يضل الإنسان أو يشقى أو يعيش معيشة ضنكا ، إذا اتبع منهج الكمال كما قال رب العزة والجلال : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } [طه/123] ولو فرضنا أنه ظهر خلل أو تعارض بين العقل والنقل ، فذلك لسببين لا ثالث لهما : إما أن النقل لم يثبت فينسب الإنسان إلى دين الله ما لم يؤثر أنه مسموع ، من أنواع الضعيف والموضوع ، وإما أن العقل لم يفهم النقل ولم يدرك خطاب الله على النحو الصحيح ، وهذا ما حدث من فضيلة الدكتور عندما خلط الأدلة وعقد الأمور .(1/5)
ثالثا : ادعى سيادة الدكتور أن الشفاعة التى وردت فى الآيات تخالف ما جاء فى الأحاديث من كلمات فقال فى عنوان ثالث المقالات ( وما هم بخارجين من النار ) دون تحقيق منه فى الاستدلال ، فهى تعنى المخلدين من الكفار وجميع الآيات التى أوردها ساقها فى غير موضعها ، فلو كنت تقصد بها يا فضيلة الدكتور أهل الكبائر من المسلمين فهذا باطل وخلط للأمور لأن جميع ما ذكرته ورد فى الكافرين والمشركين المخلدين ، فالآية الأولى :
{ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ }
[المائدة/37] .
قدمتها يا سيادة الدكتور على نحو مبتور ، حيث يظن القارئ من كلامك أنها وردت فى حكم العصاة من المسلمين ، ولكنها فى الحقيقه وردت فى الكفار المخلدين ، الذين لا تنفهم شفاعة الشافعين ولا قرابة المقربين ، وهذا لا يخفى على عامة المسلمين فضلا عن الأساتذة المتخصصين ، قال تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ } [المائدة/37:36] .
وهذا ما سيقال لك فى بقية الآيات التى أوردتها ، ولولا ضيق المقام لاستعرضتها ، كما أن منهج الوقوف على قوله تعالى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } ليس من شيم المسلمين .(1/6)
رابعا : بعدما تبين أن الآيات السابقة التى أوردها سيادته إنما هى فى الكافرين والمشركين ، وليست فى أصحاب المعاصى من المسلمين ، فلا قيمة لما قاله فى اتهام المحدثين : ( وهذه الثوابت القرآنية تتناقض تماما مع مرويات الأحاديث النبوية فى كتب السيرة عن إخراجه لمن يشاء من أمته من النار مما يؤكد أن هذه الأحاديث موضوعة ولا أساس لها من الصحة ولا يمكن أن تكون قد صدرت عن النبى ) وتنبه أيها القارئ البصير ، ودقق النظر وأمعن التفكير فى حديث الشفاعة يوم المصير ، فقد أنكره فضيلته بغير علم منه بالأسانيد وهو فى الحقيقة حديث متواتر ، فإن كان يعلم معنى الحديث المتواتر فتلك مصيبة ، وإن كان يجهل فالمصيبة أعظم ، وينبغى لأمثاله من المشاهير قبل أن يتكلموا أن يتعلموا أو يسألوا ليعلموا ويفهموا ، فالبخارى ليس وحده الذى انفرد بإخراج أحاديث الشفاعة وإثباتها ، ولم يخل كتاب من كتب السنة من ذكرها ، وأنت الوحيد يادكتور خالفت الأمة بإجماعها وتصر على رد الشفاعة وإنكارها ، كفرقة المعتزلة وأشياعها من الخوارج المارقين .(1/7)
خامسا : ليس فى صحيح الإمام البخارى حديث واحد يخالف ما جاء فى القرآن أو صحيح المنقول ، وقد تلقته سائر الأمة من وقت البخارى إلى الآن بالرضى والقبول ، حتى العامه لو أخطأ أحدهم فى شئ فإنه يقول : ( هو احنا غلطنا فى البخارى ) ولو سألته : من البخارى ؟ قال : لا أعرف ، فكيف تقول يا فضيلة الدكتور : ( وما يقوله البخارى مناقض للقرآن لا يلزمنا فى شئ ويسأل عنه البخارى ولا نسأل نحن فيه ، ولم يكن البخارى رضى الله عنه وأرضاه هو الوحيد الذى خاض فى موضوع السيرة النبوية لكن كتاب السير كثيرون وقد تناقضوا واختلفوا بين بعضهم البعض وامتلأت كتب السير بالموضوع والمدسوس من الأحاديث والعجيب والمنكر من الإسرائيليات ) ألا يميز فضيلته بين كتب السيرة وكتب الحديث ؟ قال ابن القيم رحمه الله فى الطرق الحكمية 1/107 : ( والذي يشهد الله ورسوله به أنه لم تأت سنة صحيحة واحدة عن رسول الله S تناقض كتاب الله وتخالفه البتة ، كيف ورسول الله S هو المبين لكتاب الله وعليه أنزل ، وبه هداه الله وهو مأمور باتباعه ، وهو أعلم الخلق بتأويله ومراده ولو ساغ رد سنن رسول الله S لما فهمه الرجل من ظاهر الكتاب لردت بذلك أكثر السنن وبطلت بالكلية فما من أحد يحتج عليه بسنة صحيحة تخالف مذهبه ونحلته إلا ويمكنه أن يتشبت بعموم آية أو إطلاقها ويقول هذه السنة مخالفة لهذا العموم والإطلاق فلا تقبل ، حتى إن الخوارج ردت من الأحاديث الدالة على الشفاعة وخروج أهل الكبائر من الموحدين من النار بما فهموه من ظاهر القرآن ، وردت كل طائفة ما ردته من السنة بما فهموه من ظاهر القرآن ) .(1/8)
ثم عيب عليك يا فضيلة الدكتور أن تطعن فى تدوين السنة وأن تعلم أو لا تعلم أن الرسول لما نهى عند تدوين السنة فى عصره كان ذلك للحفاظ على القرآن وعدم اختلاط المكتوب من كلام الله بالمكتوب من كلام رسول الله S كما أن الصحابة كانوا يحفظون السنة ويتناقلوها فيما بينهم لا يفرقون بين العمل بمقتضى القرآن أو السنة ، ثم لما مات أكثرهم انكب التابعون وتابعوهم على جمع كلام الرسول خشية ذهابه ، فلا تشوش على دينك بجهلك ولا تقف ما ليس لك به علم ، وارجع إلى قسم الحديث فى جامعة الأزهر ليعلموك ويزيلوا أميتك فى علم مصطلح الحديث .
سادسا : أذكر فضيلة الدكتور بما أغفله تعمدا أو جهلا لأقوال الأئمة الأعلام الذين شرفهم الله بالدفاع عن الإسلام ضد الخوارج المارقين الذين قال فيهم سيد الأنبياء والمرسلين : ( يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ) [ أخرجه البخارى برقم (3344) (3610) (3611) (4351) (4667) (5057) (5058) (6163) (6930) (6931) (6932) (6933) (6934) أما تخريجه بأسانيده من بقية كتب السنة ، فالمساحة المتاحة لاتكفى لذكره بأى حال من الحوال ] .(1/9)
أذكر فضيلته ببعض ما كان يجب أن يرجع إليه قبل أول مقال ، قال الآمدى فى غاية المرام فى علم الكلام 2/309 : ( وأما إنكار الشفاعة للمذنبين والعصاة من المسلمين ، فذلك إنما هو فرع مذهب أهل الضلال في القول بوجوب الثواب ولزوم العقاب على الله تعالى ، وقد بينا ما في ذلك من الخلل وأوضحنا ما فيه من الزلل ، فإن الثواب من الله تعالى ليس إلا بفضله والعقاب ليس إلا بعدله ، وهو المتحكم بما يشاء في خلقه : { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [الأعراف/54] وما ذكروه من الآيات والظواهر السمعيات ، فمحمول على الكافرين المستحلين لما يأتونه المستوجبين لما يقترفونه ، دون العصاة من المؤمنين ومن أذنب ذنبا من المسلمين ، ودليل التخصيص في ذلك قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا } [النساء/116] ومع قيام الدليل المخصص لها يمتنع القول بتعميمها ) .
وقال ابن أبى العز الحنفى فى شرحه للعقيدة الطحاوية ص258 : ( النوع الثامن شفاعته في أهل الكبائر من أمته ممن يدخل النار فيخرجون منها وقد تواترت بهذا النوع الأحاديث ، وقد خفي علم ذلك على الخوارج والمعتزلة فخالفوا في ذلك جهلا منهم بصحة الأحاديث ، وعنادا ممن علم ذلك واستمر على بدعته ) .(1/10)
وهذا نص كلام شيخ الإسلام ابن تيمية الذى زعمت زورا أنه يوافقك الرأى فى نفى الشفاعة فى عصاة الأمة حيث قال عن رسول الله S : ( وله من الفضائل التى ميزه الله بها على سائر النبيين ما يضيق هذا الموضع عن بسطه ومن ذلك المقام المحمود الذى يغبطه به الأولون والآخرون وأحاديث الشفاعة كثيرة متواترة منها فى الصحيحين أحاديث متعددة وفى السنن والمساند مما يكثر عدده ، وأما الوعيدية من الخوارج والمعتزلة فزعموا أن الشفاعة إنما هى للمؤمنين خاصة فى رفع بعض الدرجات وبعضهم أنكر الشفاعة مطلقا ) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية 1/314 .
وقال فى موضع آخر : ( فمن أنكر شفاعة نبينا S فى أهل الكبائر فهو مبتدع ضال كما ينكرها الخوارج والمعتزلة ، ومن قال إن مخلوقا يشفع عند الله بغير إذنه فقد خالف إجماع المسلمين ونصوص القرآن ) السابق 27/341 .(1/11)
وهذا أيضا كلام تلميذه ابن القيم حيث قال فى كتابه طريق الهجرتين 1/568 : ( رد الخوارج والمعتزلة النصوص المتواترة الدالة على خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة وكذبوا بها ، وقالوا لا سبيل لمن دخل النار إلى الخروج منها بالشفاعة ولا غيرها ، ولما بهرتهم نصوص الشفاعة وصاح بهم أهل السنة وأئمة الإسلام من كل قطر وجانب ورموهم بسهام الرد عليهم ، أحالوا بالشفاعة على زيادة الثواب فقط لا على الخروج من النار ، فردوا السنة المتواترة قطعا ، وصاروا مضغة في أفواه الأمة وعارا في فرقها ، فإن أمر الشفاعة أظهر عند الأمة من أن يقبل شكا أو نزاعا ..ولكن إنما أتى القوم لأنهم في غاية البعد عما جاء به الرسول S ، أجانب عنه ليسوا من الورثة وأما الخوارج فكذبوا الصحابة صريحا ، وأما المرجئة فإنهم يجوزون أن لا يدخل النار أحد من أهل التوحيد ، وهذا بخلاف المعلوم المتواتر من نصوص السنة بدخول بعض أهل الكبائر النار ثم خروجهم منها بالشفاعة ) ويمكن لفضيلة الدكتور أن يرجع إلى هذه المواضع من كتب التراث : البيهقى فى شعب الإيمان 1/281 والتحفة العراقية ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 10/7 وكتابه التصوف والسلوك 11/661 وكتاب الروح لابن القيم 1/135 ويمكن لفضيلة الدكتور أن يستقصى على الكمبيوتر فى المكتبة الألفية للسنة النبوية ألاف المواضع فى إثبات الشفاعة والرد على المعتزلة والخوارج ، ولو أراد أن يرى بعينه لأريناه .
سابعا : من خلال العلاقة الحميمة بين سيادة الدكتور وأعلام الصوفية ، أذكره بأنه خالف بقوله إجماعهم وضيع بمقالته آمالهم فمنع شفاعة الحبيب لهم وياللحسرة التى حلت بهم ، قال الكلاباذى فى معتقد شيوخ الصوفية الأوائل فى كتابه التعرف لمذهب أهل التصوف ص54 : ( قولهم في الشفاعة أجمعوا على الاقرار بجملة ما ذكر الله تعالى في كتابه وجاءت به الروايات عن النبيS في الشفاعة ) .(1/12)
ثامنا : قول فضيلته : ( والقرآن هو الكتاب الوحيد الذى تولى رب العالمين حفظه بنفسه من أى تحريف ، وقال فى كتابه المحكم { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } ولم يقل لنا رب العالمين أنه حفظ كتاب البخارى أو غيره من كتب السيرة ) .
ما أوجهه للدفاع عن سنة صاحب المقام المحمود إلى فضيلة الدكتور مصطفى محمود وغيره من المنكرين والمشككين فى قواعد الدين بحسن النية طبعا ، أن القول بالاكتفاء بالقرآن فقط ورد السنة بأسرها قول باطل بالضرورة العقلية لأنه هدم للدين من أساسه ، وبرهان ذلك أن الله أمر فى القرآن بالصلاة والزكاة فى مواضع كثيرة منها : { إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } [المعارج/25:19] .
ومعلوم أنه لم يرد فى القرآن تفصيل لكيفية الصلاة وأعدادها المقبولة عند الله أو المقدار المحدد فى الزكاة ، سواء زكاة المال أو الزروع أو عروض التجارة ، فلا بد من الأخذ بالسنة لبيان الأحكام وهذه المسألة لا يقدر أحد على النزاع فيها كما قال فى آخر مقال : (ليس إنكارا للسنة ) .(1/13)
لكن المحك أن فضيلة الدكتور مصطفى محمود ادعى أن القرآن هو المحفوظ فقط ، أما سنة الحبيب محمد S التى جمعها البخارى أمير المؤمنين فى الحديث أو غيره بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة ، فليس هذا هو الضابط المعتمد عند سيادة الدكتور ، والسؤال الآن الذى يتوجه لفضيلته : على أى ضابط نعرف الصحيح من صحيح البخارى ونحكم على الضعيف كما حكمت ؟ هل عقلك هو الفاصل أو عقل الدكتور مشتهرى الذى شكك فى قواعد السنة أيضا على صفحات مجلة الجيل ؟ أو ما يراه غيركما من أمثالكما ؟ حاول أنت أولا أن تضع الضوابط المنطقية والقواعد الأساسية لفرز السنة دون أن ترجع فى حديث واحد إلى علماء الحديث ، فهؤلاء كما قدمت كتاب سير ولا عبرة بقواعدهم عندكم ، جرب أنت وغيرك ممن هو على منهجك فإن اتفقتم على الأحاديت التى يجب أن تدين بها الأمة فنحن وجميع العقلاء معكم ؟ أو اكتبوا لنا سنة جديدة نفهم بها القرآن بدلا من سنة الحبيب ، وتذكروا بعد ذلك أنكم ستدعون الناس إلى سنتكم لا سنة محمد S ويكفى أن أذكرك بما قاله أبو طالب المكى وإن كان من الصوفية : ( فإنا قوم متبعون نقفوا الأثر غير مبتدعين بالرأى والمعقول نرد به الخير .. وفى رد أخبار الصفات بطلان شرائع الإسلام من قبل أن الناقلين إلينا ذلك هم ناقلوا شرائع الدين وأحكام الإيمان ، فإن كانوا عدولا فيما نقلوه من الشريعة فالعدل مقبول القول فى كل ما نقلوه ، وإن كانوا كذبوا فيما نقلوا من إخبار الصفات فالكذب مردود القول فى كل ما جاءوا به ) قوت القلوب 2/124 .
وأقول لفضيلة الدكتور : حفظ دين الإسلام ليس فى حفظ القرآن فقط كما أكدت فى كلامك بل هو قائم على أمرين لازمين تكفل الله بهما :(1/14)
الأمر الأول : حفظ دستور الإسلام على الدوام من جهتين ، الجهة الأولى حفظ القرآن بإعجاز تركيبه وبلاغة كلماته ، كنظم معجز يتحدى العالم أجمع ، والجهة الثانية حفظ السنة التى تميزت فيها الأمة الإسلامية عن غيرها فى براعة نادرة بالأسانيد ووضع قواعدها التى تميز بين المقبول والمردود أو الصحيح والضعيف مما نسب إلى رسول الله S ، وهو ما عرف بعلم مصطلح الحديث ، والذى ظهر من مقالة سيادة الدكتور مدى ضعفه الشديد وبضاعته المزجاه فى هذا العلم .(1/15)
قال ابن منده فى كتابه فضل الأخبار وشرح مذهب أهل الآثار 2/29 عن فضل علماء الحديث الذين حفظوا بالأسانيد سنة النبى S : ( هم أئمة الدين وحفاظه .. وإليهم انتهى علم الأسانيد وبهم تلزم الحجة على من خالفهم ، ويقبل انفرادهم إذ كانوا المقدمين في عصرهم لمعرفتهم بما جاء عن الرسول ثم عن الصحابة من بعده وعن التابعين ومن بعدهم بإحسان رضى الله عنهم ) وقال ابن حزم فى الإحكام فى أصول الأحكام 1/95 : ( قال تعالى : { إِنَّا نَحنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَوَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } وقال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ } [الأنبياء/45] فأخبر تعالى أن كلام نبيه Sكله وحي والوحي بلا خوف ذكر ، والذكر محفوظ بنص القرآن فصح بذلك أن كلامه Sكله محفوظ بحفظ الله عز وجل مضمون لنا أنه لا يضيع منه شيء ، إذ ما حفظ الله تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيع منه شيء فهو منقول إلينا كله ) وقد حذرنا رسول الله ممن حاول أن يجعل دستور الإسلام الممثل فى الكتاب والسنة قرآنا بلا سنة فمن حديث المقدام بن معد كرب قال رسول الله S : ( أَلا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ ) صحيح ، أخرجه أبو داود فى كتاب السنة برقم (4604) 4/200 ، وقد روى عن علقمة عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أنه قال : ( لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله ، قال علقمة : فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن ، فأتته فقالت : ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله ، فقال عبد(1/16)
الله : وما لي لا ألعن من لعن رسول الله S وهو في كتاب الله ، فقالت المرأة : لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته ، فقال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ، قال الله عز وجل : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [الحشر/7] فقالت المرأة : فإني أرى شيئا من هذا على امرأتك الآن ، قال : اذهبي فانظري ، قال : فدخلت على امرأة عبد الله فلم تر شيئا ، فجاءت إليه فقالت : ما رأيت شيئا ، فقال : أما لو كان ذلك لم نجامعها ) متفق عليه أخرجه البخارى فى كتاب فضائل القرآن برقم (5002) ومسلم فى كتاب فضائل الصحابة برقم (2463) وكلام ابن مسعود رضى الله عنه واضح فى التزامة بالسنة قولا وعملا كالتزامه بمقتضى أحكام القرآن ، وروى أيضا عن عمران بن حصين رضى الله عنه أنه كان جالسا مع أصحابه ، فقال له رجل من القوم :
( يا أبا نجيد إنكم لتحدثوننا بأحاديث ما نجد لها أصلا في القرآن ، فغضب عمران وقال للرجل : أوجدتم في كل أربعين درهما درهم ، ومن كل كذا وكذا شاة شاة ، ومن كل كذا وكذا بعيرا كذا وكذا ، أوجدتم هذا في القرآن ؟ قال : لا قال : فعن من أخذتم هذا ؟ أخذتموه عنا وأخذناه عن نبي الله S وذكر أشياء نحو هذا ) أخرجه أبو داود فى كتاب الزكاة برقم (1561) وأخرجه ابن عبد البر فى جامع بيان العلم وفضله 2/234 ، وأخرجه الطبرانى فى الكبير برقم (369) 18/165 ، ورقم (547) 18/219 ، وانظر زاد المعاد لابن القيم طبعة مؤسسة الرسالة 1/37 .(1/17)
ونحن لو أغفلنا السنة فى الاحتجاج وطعنا فى قواعدها وعلومها كما يدعو فضيلة الدكتور مصطفى محمود وكما فعل أهل التشيع والخوارج وأهل الضلال من الاعتزال ، فإن الأحكام التى نستخلصها بمفردنا من القرآن دون ضوابط ستختلف من فرد إلى آخر وستصبح الأحكام فوضى ، كل يرى برأيه ما يحلوا له فينزع الآية من كتاب الله ليضعها على ما يوافق هواه ، كالذى يدعو إلى أن يكون الوقوف بعرفة فى سائر أيام الأشهر الحرم بدلا من يوم التاسع من ذى الحجة فقط ، وآخر يريد فقها جديدا لا يرجم الزانى فيه ولا يقتل المرتد وغير ذلك من دعاة التشويش على السنة ، فكان لابد لحفظ دين الإسلام من حفظ السنة وتحديد قواعدها بمنهج شامل متكامل ، وهذا بحمد الله منة من الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد خصها الله بأعظم علم قام به العلماء فى التاريخ من جهة الضبط فى النقل عن الآخرين بقواعد علم الحديث .
الأمر الثانى : أن الله حفظه واقعا مرئيا بوجود من يطبقه على نفسه من المؤمنين ، وهؤلاء هم حجة الله على غيرهم من المنحرفين ، فقد يدعى أحدهم أن القرآن منهج مثالى لا يصلح فى هذا الزمان ، أو يمكن أن يطبق فى مكان دون مكان ، فقال رسول الله S فيما أخرجه مسلم عن ثوبان ، فى وجود طائفة تلتزم أحكام القرآن ، فى واقعية مستمرة إلى آخر الزمان ، حتى ولو كانوا قلة بين بنى الإنسان : ( لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ ) انظر حديث قم (1920) .(1/18)
تاسعا : قول سيادة الدكتور : ( وقرأنا فى أكثر من كتاب من كتب السيرة أن النبى عليه الصلاة والسلام مات ودرعه مرهونة عند يهودى وهو كذب وافتراء لا يعقل .. فما حكاية هذه الدرع المرهونة عند يهودى إلا أن تكون إسرائيليات مدسوسة ) أقول اتقى الله يادكتور : { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا } [الإسراء/36] فحديث الدرع لم يرده فى تاريخ الإسلام من المنتسبين لأهل السنة إلا أنت ، وهو حديث صحيح أخرجه البخارى برقم (4467) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : ( تُوُفِّيَ النَّبِيُّ S وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلاثِينَ ) تعنى ثلاثين صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ لأَهْلِهِ ، وأخرجه عن ابْنِ عَبَّاسٍ الترمذى برقم (1214) والنسائى برقم (4651) وابن ماجة برقم (2483) وأحمدعن أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ برقم (27040) .
ولو أردت المزيد فارجع إلى كتب السنة لا إلى كتب السير ، فهل يصدق العقلاء من القراء أن هؤلاء جميعا نقلوا بالسند الصحيح ما هو مكذوب على رسول الله ، وفات جميع المسلمين من العامة والمتخصصين على طول الأيام والسنين ما توصل إليه فضيلة الدكتور فى حديث الدرع ؟(1/19)
عاشرا : نظرا لعامية الصحافة وانشغالها بأحزابها ، ظن أصحابها أن الكلام فى أصول الدين كالكلام عن سائر الأخبار أو التهاون فى نقلها ، ففتحوا الصحافة بأبوابها لكل ما يثير قراءها ويسحب من السوق أعدادها فتكلم على صفحاتها كثير من غير المتخصصين ، وأظهروا للجميع بمقالاتهم أنهم من الجاهلين بأصول الدين وقواعده ، ولم يعلم هؤلاء الكتاب أن الأمر سيكون من حيث لا يشعرون عليهم لا لهم وأن طبيعة القرآن والسنة كالماء الذى يبقى بعد زوال الخبث من فوقه وكالذهب إذا سعى أحد لخدشه ازداد بريقا ولمعانا ، هكذا ضرب الله مثلا للقرآن والسنة ، فقال سبحانه وتعالى : { أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ } [الرعد/17] .
فجعل الله الوحى كالماء الذى ينزل من السماء يطهرُ الأرضَ ويذهبُ الزبدَ جفاء ، أو كجودة المعادن فى الأصالة والنقاء ونفع الناس ودوام البقاء ، وكل العلوم الإسلامية فاضت من هذا النبع الصافى وترعرعت فى أحضانه ، ومقياس أصالتها ونقاء معدنها وما فيها من نفع حقيقى للإنسانية يقاس بمقدار التمسك بالأصول القرآنية والنبوية مصداقا لقول الله تعالى :
{ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد/17] .
فالسنة بقواعدها باقية ما بقي الكتاب تزداد قوة بحفظ الله ورعايته .(1/20)
وأقول فى نهاية الأمر سامحك الله يافضيلة الدكتور ، فقد شغلت سائر المسلمين وشغلتنا بما خالفت فيه علماءنا وهو متفق عليه فى ديننا ، واستنفذت جهدنا وعطلتنا من كثرة القيل والقال بيننا ، ولو أنك بذلت جهدك فى برنامج العلم والإيمان لأسعدتنا وأرحتنا ، فقد عهدنا فيك الإيمان بالتخصص والتحقيق ، والنظر فى الأمور العلمية بفهم دقيق ، ولك من المحاسن ما يثبت للمسلم الإيمان العميق ، فهلا تبت إلى الله قبل اليوم الموعود ، ورجعت إلى ما وضعه المحدثون من الضوابط والقيود ، واتبعت صاحب المقام المحمود ، فاللهم شفعه فى الدكتور مصطفى محمود . وكتبه / د. محمود عبده عبد الرازق
??
??
??
??(1/21)