قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت الأربعين التي له عليه، وكتبها لي بخطه، وروى لنا عن عبد الله بن النحاس، والصدر البكري، وخطيب مردا، وابراهيم بن خليل، وضياء الدين صقر، والكفرطابي وجماعة.
محمد بن مسعود، صلاح الدين
اجتمعت به غير مرة بالقاهرة وبقلة الجبل، وأنشدني كثيراً من شعره، ومما أنشدنيه من لفظه لنفسه في شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين وسبع مئة بالقاهرة:
صرفُ الزبيبي لصرف همّي ... نص على نفعه طبيبي
آهٍ على سكرةٍ لعلي ... أن أخلط الهمَّ بالزبيبي
محمد بن مسعود بن أوحد بن الخطير
الأمير ناصر الدين بن الأمير بدر الدين، أحد أمراء الطبلخانات بدمشق، وسيأتي ذكر والده.
كان فيه شمم، وبه عن الخنا صمم، يأخذ نفسه بعظمةٍ زائدة، ويرى أنها على أبناء نوعها سائدة، لا يُذعن لأحد، ولا يذل لكبير اعترف له بالفضل أو جحد. تمتد آماله ولا تقف عند غاية، ويحدّث نفسه بأمور ما لها نهاية. يتجمل في ملبوسه ومركوبه ومسكنه، ويجعل النظافة والصلف من دأبه وديدنه. طويل الروح في المخاصمة لا يرجع عمّن حاوره ولو حزّ غلاصمه، يركب في خدم وحشم وحفدة، ويجمّل الموكب الذي أمّه وقصده.
ولم يزل راقياً في أوج شبابه، صاعداً في معارج عيشه الذي انتهى الى انتهابه، الى أن اخترق حمامُه، وانهدّ بالموت يذبله وشمامه.
وتوفي رحمه الله تعالى في بكرة الجمعة سادس عشري جمادى الآخرة سنة ثلاث وستين وسبع مئة.
ومولده بدمشق في سنة ست وعشرين وسبع مئة.
مات والده رحمه الله تعالى وهو أمير عشرة فلم يزل يسعى ويبذل الى أن أخذ إمرة الطبلخاناة بعد توجهه الى مصر، وأخذ لأولاده إقطاعات جياداً في حلقة دمشق، وكان سعيد الحركات مجتهداً في تحصيل الأملاك وغيرها، ويغالي في الخيول والملبوس وفي رخت الإمرة، ويركب وينزل في جماعة من مماليكه وجنده وأولاده، وكان يمنّي نفسه ويعدها أموراً عالية من الولايات والمناصب، ولو عاش وأمهله الدهر لنال ما يطلب لحُسن تأتيه وجميل سلوكه.
وكان والده رحمه الله تعالى يثق بعقله ويركن إليه دون إخوته، وكان قد رغب الى الأمير سيف الدين تمر المهمندار وخطب منه قطلو ملك ابنة الأمير شرف الدين موسى ابن الأمير علاء الدين علي ابن الأمير سيف الدين منكوتمر، وكتبت أنا الصداق له من رأس القلم وهو: الحمد لله الذي أيّد هذا الدين بناصره، وشيد قواعده بشدّ أواخيه وإحكام أواصره، وخصّه بكرم أبوّته وطيب عناصره.
نحمده على نعمه التي منها الهداية الى اتباع السنة، والعناية بما يؤديه الى سلوك الطرق التي توصل الى الجنة، والرعاية لأعمال تكون النفس بها يوم الفزع الأكبر مطمئنة.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تخفف بين سرادق العرش أعلامها، وتُشرق في الحنادس المظلمة أقمارها، وقد كمل نورها وتمامها، وتورق غصون الإيمان بأدلتها إذا انشقت عن زهرات اليقين أكمامها.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي حضّ على النكاح، وحث على تجنّب السفاح وحصّ قوادم الباطل، وراش جناح النجاح، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين حافظوا على اقتفاء آثاره، وبلغوا الأمة ما وصل إليهم من سُننه وأخباره، وكاثروا النجوم الزاهرة بمهاجريه وأنصاره، صلاة لا تُحط البوارق من رضوانها لثاماً، ولا تشق السوابق من غفرانها غماماً ما عُقد نكاح، وفُقد سفاح، وسلم تسليماً كثيراً الى يوم الدين وبعد: فإن النكاح من مزايا هذه الأمة ومحاسنها التي تجلو بأنوارها الحنادس المدلهمّة، والسنة بذلك طافحة، وفي كل مكان منها نافجة نافحة، فمن ذلك ما هو في بيانه ووضوحه كالعلم، وهو قوله عليه السلام " تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم " .
وكان المقر الكريم العالي المولوي الأميري الناصري محمد بن الأمير المرحوم بدر الدين مسعود بن الخطير ممن طاب فرعاً وأصلاً، وحوى الفضلين حكماً وفصلاً، وحاز المنقبتين قلماً ونصلاً، وتفرّد بالمحاسن التي فضلها للعيان مشهود، وروضها بغمام الكمال مجود، وحوضها لك ناهل مورود، وحديثها في الناس مشهور، وما أصدق من روى حديث ابن مسعود، ومحله في السيادة أثيل وأثير، وباع رمحه في البأس طويل ولسان السيف من غيره قصير ومناقب بيته فعمدة كل خطيب وصفُ بني الخطير:(2/454)
من النفر الغرّ في قومهم ... فطالوا أصولاً وطابوا جدودا
أناروا الليالي وهزّوا العوالي ... وشادوا المعالي وزانوا الوجودا
لفضل الخطير انتهى مجدُهم ... فلا زال في كل عصر جديدا
إذا غاب بدر بدا كوكب ... منازلهُ تستديم السعودا
وناصرهم فضلُه بيّن ... فما تلتقي لعلاه حسودا
فيا هل عناه الذي قال في ... سواه فعن وصفه لن يحيدا
أمير أمير عليه الندى ... جواد بخيل بأن لا يحيدا
فلذلك تمسك بالسبب المتين من السنة، وآثر الاتصال بمن حجابها بيض السيوف وحجّابها زُرق الأسنة، ورغب الى المقر الشريف العالي المولوي الأميري السيفي تمر أمير مهمندار:
غدا في الزمان كبير الأنا ... م بتدبيره تستقيم الدول
بعقلٍ رصين ودين متين ... وفضل مبين وجود كمل
وما نظرت مقلة مثله ... على من مضى في الملوك الأُول
إذا أشكل الأمر في حاله ... أبان الهدى للورى فانفصل
وخطب الجهة المصونة الخاتون قطلوملك ابنة الأمير المرحوم شرف الدين موسى لأنها في كفاية كنفه، وظل حجره وتصرفه، ومهاد بره وتلطفه، وعناية إقباله عليها وتعرفه:
لا يبعث النجم طرفاً نحو مطرفها ... وكيف يلحظ طرفاً بالعفاف عمر
ولا تجوز الصبا من دون مضربها ... ولا تمر عليها وهي عند تمر
محمد بن مسكين
الإمام عز الدين القرشي الزهري.
توفي في جمادى الأولى سنة عشر وسبع مئة بالمصاحبة بمصر ودفن بالقرافة.
وكان من أعيان الفقهاء، متزهداً مدرّساً بالمدرسة المجاورة لقبر الشافعي رضي الله عنه. ووليها بعده القاضي مجد الدين حرمي، وكان الشيخ عز الدين بن مسكين قد عين لقضاء الشام فما اختار فراق الوطن. وروى عن الرشيد العطار.
محمد بن مسلم
بتشديد اللام، ابن مالك بن مزروع الزيني ثم الدمشقي الصالحي، الشيخ الإمام العالم، بركة الإسلام، قاضي القضاة شمس الدين أبو عبد الله الحنبلي.
سمع الكثير وله حضور على ابن عبد الدايم، وسمع من الشيخ شمس الدين وطبقته، وخرّج له ابن الفخر مشيخةً في مجلدة، وسمعها منه خلق، وخرّج له ابن سعد الأربعين المتباينة الأسانيد، وخرّج له المزّي تساعيّات، وخرج له الذهبي جزءاً، وأجاز له من مصر جماعة من أصحاب البوصيري.
كان من قضاة العدل في أحكامه، ومن أئمة الهدى في نقضه وإبرامه، مطّرح التكلّف في أحواله، متوخي الصدق والحق في أقواله، عمّر الأوقاف وضبطها، وحاسب العمال وأمسك القواعد وربطها، وحرّر الإسجالات، وتوقف في العدالات، ولازم الورع والتحري، ومنع الظلمة من التعدي والتجري، وباشر أمور الحكم بقوة وصلابة في الدين، وكف يد الظلمة والمعتدين، فهو كما قال أبو الطيب:
قاضٍ إذا اشتبه الأمران عنّ له ... رأي يفرق بين الماء واللبن
القائل الصدق فيه ما يضرّ به ... والواحد الحالتين السرّ والعلن
ولم يزل على حاله الى أن حج، وقبض عليه بالمدينة الشريفة، ونقل الى الدار الآخرة والملائكة به مطيفة.
وتوفي رحمه الله تعالى في الثالث والعشرين من ذي القعدة سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وستين وست مئة في صفر.
توفي والده وكان ملاحاً في سوق الخيل، وله ست سنين، وحفظ القرآن، وتعلم الخياطة، واشتغل، وتفقّه، وبرع في الفقه والعربية، وتصدر لإقرائهما وتخرج به فضلاء. ولم يطلب تدريساً ولا فُتيا، ولا زاحم على الدنيا.
وسمع شيخنا الذهبي بقراءته الأجزاء، وكان ربما يكتب الأسماء والطباق ويذاكر، وبقي مدة على الخزانة الضيائية. ولما توفي قاضي القضاة تقي الدين سليمان عين للقضاء، وأثني عليه عند السلطان بالعلم والنسك والسكينة، فولاه القضاء، فتوقف، وطلع إليه الشيخ تقي الدين بن تيمية الى بيته، وقوّى عزمه، ولامه، فأجاب بشرط أن لا يركب بغلة، ولا يأتي موكباً، فأجيب، وكانت قراءة تقليده، سادس عشر صفر سنة ست عشرة وسبع مئة.(2/455)
وكان ينزل من الصالحية الى الجوزية ماشياً، وربما ركب حمار مكار، وكان مئزره سجادته، ودواة الحكم زجاجة، واتخذ فرجية مقتصدة من صوف، وكبّر العمامة قليلاً، ونهض بأعباء الحكم بعلم وقوة، وعمّر الأوقاف، وحاسب العمال، وحكم إحدى عشرة سنة، وشهد له أهل العلم والدين أنه من قضاة العدل.
وحجّ مرات، وانتصر لابن تيمية، فحصل له أذى، فتألم وكظم، وسار للحج بنيّة المجاورة فمرض من العلا، ولما وصل المدينة تحامل حتى وقف مسلّماً على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أدخل الى منزل، فلما كان في السحر توفي رحمه الله تعالى ودفن بالبقيع.
محمد بن مصطفى بن زكريا
ابن خواجا بن حسن، فخر الدين التركي الصُلغري، بالصاد المهملة واللام الساكنة والغين المعجمة، وبعدها راء، الدوركي، بالدال المهملة والواو الساكنة والراء والكاف، وصُلْغر: فخذٌ من الترك، ودورك: بلد من الروم.
كان شيخاً فاضلاً في الأدب، وممن ينسل إليه من كل حدب، فقيهاً في مذهب أبي حنيفة، نبيهاً وهمته في الرتب منيفة، نظم القدوري في الفقه نظماً جيداً وضبط فروعه مقيداً، ونظم قصيدة في النحو استوعب فيها أكثر الحاجبية سرداً، وأتى فيها بأحكام كثيرة، طرّزها للنحو حلة وبرداً.
وكان خطه يخجل العقود المنظمة والرياض التي برودها بالأزهار مسهّمة، يتلو القرآن غالب وقته، وله فيه نغمة طيبة أشهى من سجع الحمام في روض أينع في نبته، مع تواضع زانه وقوّم ميزانه.
ولم يزل على حاله الى أن أضر، ولازم لحين أجله وأصر.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
ومولده بدورك سنة إحدى وثلاثين وست مئة.
أخبرني شيخنا العلامة أثير الدين قال: أخذنا عنه لسان الترك ولسان الفرس، وكان عالماً باللسانين يعرفهما إفراداً وتركيباً، أعانه على ذلك مشاركته في العربية. وله قصائد كثيرة منها قصيدة في قواعد لسان الترك، ونظم كثيرة في غير فن، وأنشدني كثيراً منها.
ودرّس بالحسامية الفقه على مذهب أبي حنيفة، وكان قد تولى الحسبة بغزة قديماً، وقد أدّب بقلعة الجبل بعض أولاد الملوك.
قلت: هو السلطان الملك الناصر محمد، قال: وعمي في آخر عمره.
وأنشدني من قصيدة مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم:
قيل اتخذ مدح النبي محمد ... فينا شعارك إن شعرك ريّقُ
وعلى بنانك لليراعة بهجةٌ ... وعلى بيانك للبراعة رونق
يا قطب دائرة الوجود بأسره ... لولاك لم يكن الوجود المطلق
مذ كنت أوله وكنت أخيره ... في الخافقين لواء مجدك يخفق
كل الوجود الى جمالك شاخص ... فإذا اجتلاك فعن جلال يطرق
كنت النبيّ وآدمٌ في طينه ... ما كان يعلم أي خلق يخلقُ
فأتيت واسطعة لعقد نبوّة ... منها أنار عقيقها والأبرق
محمد بن مظفر بن عبد الغني
الشيخ الفقيه محيي الدين القصاع.
كان ممن حصّل وقرأ القراءات والفقه والأصول، وتميز. وسمع كثيراً من ابن جعوان وغيره.
وتوفي بطرابلس رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وست مئة.
محمد بن معالي بن فضل الله
ابن معالي بن بركات بن محمد بن أبي نصر بن الملاق، الشيخ زين الدين أبو عبد الله بن الملاق، بتشديد اللام، الرّقي.
كان مباشراً في ديوان السكر أقام بدمشق أربعين سنة، وولي أبوه الوزارة والقضاء بالرقة. وجدهم أبو نصر بن الملاق، نقله المعتصم من بغداد الى الرقة وولاه الخطابة بها.
قال شيخنا البرزالي: قرأت عليه جزء البانياسي بالإجازة عن جماعة من البغداديين منهم الشيخ شهاب الدين السهروردي، وعبد السلام الداهوي، وعلي بن الجوزي، وعبد اللطيف بن الطبري، وإسماعيل بن باتكين.
وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وست مئة بعد رحيل التتار عن دمشق.
ومولده بالرقة في شعبان سنة اثنتين وعشرين وست مئة.
محمد بن المفضل
ابن فضل الله، الرئيس الصدر الكبير، الديّن، محيي الدين المصري الكاتب.(2/456)
كان صدراً في المجالس، وبدراً في الحنادس، نبيهاً نبيلاً، وجيهاً جليلاً، ديّناً خيّراً مهيباً، صيّناً وقوراً أريباً، يلازم الصلوات الخمس في الجامع الأموي، لا يخلّ بذلك ولو حال بينه وبين الجامع سنا الأسنة في عِثير السنابك.
ولم يزل على حاله الى أن توفّى الله المُحيي فمات، ونزل به من عِداه الشمات.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع عشري جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وسبع مئة، ودفن في تربة بني هلال بالصالحية وعمره ستة وأربعون سنة.
كان أولاً يعرف بكاتب قبجق، وكان صاحب ديوان الأمير سيف الدين تنكز، ومن جملة كتاب الإنشاء بدمشق، ومستوفي الأوقاف، ولم يكن عنده مخدومه في أبناء جنسه له نظير، محله عنده عظيم الى الغاية. وكان يحب الصالحين والفقراء وبودهم ويبرهم، وسار في دمشق سيرة جميلة حميدة، وكان مغرى بتحصيل المصاحف، فيقال إنه وجد في تركته أربع مئة مصحف.
وهو عم القاضي علم الدين بن قطب الدين ناظر جيش الشام، وهو الذي خرجه ودرّبه.
محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج
أقضى القضاة، الإمام العالم شمس الدين القاقوني، نسبة الى قاقون الساحل، الحنبلي نائب قاضي القضاة جمال الدين المرداوي الحنبلي وزوج ابنته.
كان قد برع في الفروع ونال الغاية فيها من الشروع، ومهد في الأحكام وبهر في الأحكام، يستحضر فروعاً كثيرة من مذهبه كلها غرائب، ويرسل منها في أغراضه سهاماً صوائب.
ولم يزل على حاله الى أن خاب الأمل في ابن مفلح، وانقطع الرجاء فيه من المفسد والمصلح، وكانت له جنازة حافلة، وساعة بالتعجب كافلة، وتوفي رحمه الله تعالى يوم الخميس ثاني شهر رجب الفرد سنة ثلاث وستين وسبع مئة.
ومولده تقريباً بعد عشر وسبع مئة.
محمد بن مكرَّم
بتشديد الراء، ابن علي بن أحمد الأنصاري الرويفعي الأفريقي، ثم المصري، القاضي الفاضل جمال الدين أبو الفضل، من ولَدِ رُويفع بن ثابت الصحابي رضي الله عنه.
سمع من يوسف بن المخيلي، وعبد الرحيم بن الطفيل، ومرتضى بن حاتم، وابن المقيّر، وطائفة. وتفرد وعُمّر وكبر وأكثروا عنه، وكان فاضلاً وعنده تشيّع بلا رفض. خدم في ديوان الإنشاء بالقاهرة، وأتى في عمله بما يخجل النجوم الزاهرة، وله شعر غاص على معانيه وأبهج به نفسَ من يعانيه. وكان قادراً على الكتابة لا يمل من مواصلتها، ولا يولّي عن مناصلتها. لا أعرف في الأدب وغيره كتاباً مطولاً إلا وقد اختصره، وزوّق عنقوده، واعتصره، تفرد بهذه الخاصة البديعة، وكانت همته بذلك في بُرْد الزمان وشيعه.
ولم يزل على حاله الى أن خبا من عمره مصباحه ونُسخ بدجا الموت من الحياة صباحه.
وتوفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
ومولده في أول سنة ثلاثين وست مئة.
وكان قد ولي نظر طرابلس، وهو والد القاضي قطب الدين بن المكرم، وقد تقدم ذكره.
وكتب عنه شيخنا الذهبي.
وأخبرني من لفظه شيخنا العلامة أثير الدين قال: ولد المذكور يوم الإثنين الثاني والعشرين من المحرم من السنة المذكورة، وهو كاتب الإنشاء الشريف، واختصر كتباً، وكان كثير النسخ، ذا خط حسن، وله أدب ونظم ونثر، قال: وأنشدني لنفسه سادس ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وست مئة:
ضع كتابي إذا أتاك الى الأر ... ض وقلّبه في يديك لماما
فعلى ختمه وفي جانبيه ... قُبلٌ قد وضعتهن تؤاما
كان قصدي بها مباشرة الأر ... ض وكفيك بالتثامي إذا ما
قال: وأنشدني المذكور لأبيه:
الناس قد أثموا فينا بظنهم ... وصدّقوا بالذي أدري وتدرينا
ماذا يضرّك في تصديق قولهم ... بأن نحقّق ما فينا يظنونا
حملي وحملك ذنباً واحداً ثقةً ... بالعفو أجملُ من إثم الورى فينا
وبه الى المكرم:
توهّم فينا الناس أمراً وصمّمت ... على ذاك منهم أنفسٌ وقلوبُ
وظنوا وبعضُ الظن إثم وكلهم ... لأقواله فينا عليه رقيب
تعالي نحقق ظنهم لنريحهم ... من الإثم فينا مرة ونتوب
قلت: هذا معنى مطروق للقدماء. ومنه قول الأول:
قم بنا تفديك نفسي ... نجعل الشك يقينا
فإلى كم يا حبيب ... يأثم القائل فينا(2/457)
وأخذ هذا من قول القائل:
ما أنس لا أنس قولها بمنى ... ويحَك إن الوشاةَ قد علموا
ونمّ واش بنا فقلت لها ... هل لك يا هند في الذي زعموا
قالت لماذا تُرى فقلت لها ... كي لا تضيع الظنون والتهمُ
وقلت: أنا كأني قد حضرتهما وسمعت خطابهما:
هذا محب وما يخلّصه ... في دينه أن وشاتُه أثموا
فواصليه واصغي لمغلطةٍ ... يقبلها من طباعُهُ الكرمُ
يا ويح وصلٍ أتى بمغلطة ... إن كنت لم ترع عندك الذممُ
ولكن المكرّم في معناه زيادة على من تقدمه، وقوله: ثقة بالعفو من أحسن متممات البلاغة.
وأنشدني شيخنا أثير الدين قال: أنشدنا فتح الدين أبو عبد الله البكري، قال: أنشدنا ابن المكرم لنفسه:
بالله إن جُزت بوادي الأراك ... وقبّلَتْ عيدانُه الخضرُ فاك
ابعث الى المملوك من بعضها ... فإنني والله ما لي سواك
وأنشدت له:
وفاتر الطرف ممشوق القوام له ... فعل الأسنة والهندية القضبِ
في حُسنه الفرد أوصاف مركبة ... الخَلقُ للترك والأخلاق للعرب
قلت: ما أعرف في كتب الأدب شيئاً من المطوّلات إلا وقد اختصره جمال الدين بن المكرم رحمه الله تعالى، فمما اختصره: كتاب الأغاني ورتبه على حروف المعجم، وكتاب الحيوان للجاحظ فيما أظن، واليتيمة للثعالبي، والذخيرة لابن بسام، ونشوان المحاضرة، ومفردات ابن البيطار، واختصر تاريخ ابن عساكر، وتاريخ الخطيب، وذيل ابن النجار عليه، واختصر كتاب التيفاشي وسماه سرور النفس في عشرة كبار، وجمع بين كتاب صحاح الجوهري والمحكم لابن سيده وكتاب الأزهري، فجاء في سبعة وعشرين مجلداً وسماه لسان العرب، وأراني ولده قطب الدين أول النسخة، وقد قرظه من أهل ذلك العصر جماعة يصفونه بالحسن، منهم الشيخ بهاء الدين بن النحاس، والقاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، فيما أظن، وشيخنا العلامة شهاب الدين محمود، رحمهم الله أجمعين.
وأنشدني شيخنا العلامة أثير الدين تقريظاً لهذا الكتاب، ورأيته بخطه:
أجَلْتُ لحاظي في الرياض الدمايث ... ونزهت فكري في فنون المباحث
وشاهدت مجموعاً حوى العلم كله ... بأول مكتوب وثانٍ وثالث
فيا حسنه من جامع لفضائل ... جليل على نيل المعارف باعث
لحاز لسان العرب أجمع فاغْتدى ... نهاية مرتاد ومطلب باحث
به أزهرت للأزهري رياضُهُ ... فأنوارها تجلو دياجي الحوادث
وصحت به للجوهري صحاحه ... فلا كسر يعروها ولا نقد عابث
وساد به بين الأنام ابن سيده ... فمحكمُه ما فيه عيث لعايث
وبرَّ ابن بريٍّ وصحّت بنقده ال ... صحاح استقلّت في براثن ضابث
وللجزريّ ابن الأثير نهاية ... إذا قرئت أزرت بسبع المثالث
وكل محل إذ تقادم عهده ... وليس المصلّي في السباق برايث
وإن جمال الدين جمّل كتبَهم ... بإصلاح ما قد أوهنوا من رثائث
لقد فاقهم علماً وزاد عليهم ... وأني يباري الريح عرْجُ الأباعث
تجمّع فيه ما تفرق عندهم ... وأربى عليهم بالعلوم الأثائث
بنثرٍ كشبه الزهر غبّ سمائه ... ونظمٍ كمثل الزهر بالسحر نافث
له قدمٌ في ساحة الفضل راسخٌ ... ومجد قديم ليس فيه بحادث
ونسبة علم كابراً بعد كابر ... فمن خير موروث الى خير وارث
حفيظ لأسرار الملوك أمينها ... عليم بتصريف الخطوب الكوارث
به افتخرت قحطان واشتد أزرها ... وباهت به الأملاك أبناءُ يافث
سقى جدثاً قد حله ابنُ مكرّم ... ملث من الغرّ الغوادي المواكث
ولا برحت روح الجمال مقيمةً ... لعذرٍ لدى الغيد الحسان الأراعث
وأخبرني ولده القاضي قطب الدين أبو بكر رحمه الله تعالى في ديوان الإنشاء بقلعة الجبل أن والده مات وقد ترك بخطه خمس مئة مجلد.
محمد بن مكي بن....(2/458)
القاضي الفاضل الشاعر بدر الدين وكيل بيت المال بطرابلس وكاتب الإنشاء بها.
كان من مشايخ الأدب والقائمين بإحياء شعار العرب، له المقاطيع الرائقة، والأبيات الفائقة، وكان يعرف فنوناً أخر، وعلوماً إذا تكلم فيها قلت بحْرٌ زخَر. وكان من رجالات الزمان دُربة ودهاء، وخبرة تباعد منها الجهل وتناءى.
ولم يزل بطرابلس على حاله، الى أن كسف الحِمامُ نورَ بدره وألحفهُ غمامةَ قبره.
ورد الخبر الى دمشق بوفاته في أواخر شهر ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، رحمه الله تعالى.
كان يكتب خطاً حسناً، أخبرني قاضي القضاة شرف الدين محمد بن النهاوندي قاضي صفد قال: قال لي: بدر الدين بن مكي بطرابلس: فتحت بدمشق دكان كتبي، وكنت أتّجر فيها، يعني في المجلدات، وأتبلغ من عِرض المكسب فأدّخر من المجلّدات ما أحتاج إليه الى أن حصلت من ذلك ما أردت من الكتب، وفضل لي رأس المال والقوت تلك المدة. أو كما قال.
وقال بدر الدين رحمه الله: كنت أنا وشمس الدين الطيبي نمشي في وحل فقلت: المشي خلف الدواب صعبٌ فقال: في الوحل والماءِ والحجاره فقلت: لأن هذا له رشاش فقال: وربما تزلق الحماره وأخبرني المولى شرف الدين حسين بن ريان قال: كنت أنا وهو جالسين في مكان فيه شباك بيني وبينه، فلما جاءت الشمس رددته، فقال:
لا تحجب الشمس عن أمرٍ تحاوله ... فإن مقصودها أن تبلغ الشرفا
فقلت:
في الشمس حرٌ لهذا الأمر نحجبها ... وحسبنا البدرُ في أنواره وكفى
وأنشدني من لفظه قال: أنشدني ابن مكي لنفسه:
أهواه كالبدر لكنْ في تبدّله ... والغصن في ميله عن لوم لائمه
سمحٌ بمهجته ما ردّ نائله ... كأنما حاتم في فصّ خاتمه
قلت: معنىً جيدٌ مطبوع، وما أحسن قوله: رد نائله.
ومن شعره أيضاً:
كأن الشمس إذا غرُبت غريق ... هوى في البحر أو وافى مغاصا
فأتبعها الهلال على غروب ... بزورقه يريد لها خلاصا
وكتبت أنا إليه، رحمه الله تعالى في سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة في المحرم:
أنفحةُ روضةٍ أم عَرفُ مسك ... يضوع أو الثناء على ابن مكي
إمام في الفتاوى لا يجارى ... وفردٌ في البيان بغير شك
إذا ما خطّ سطراً خلت روضاً ... تبسّم عن غمام بات يبكي
ويحكي نثره درّاً فأما ... إذا حققت ما يحتاج يحكي
له نظم يروق ألذّ وقعاً ... على الأسماع من أوتار جنك
كأن كلامه نفثات سحرٍ ... تغازلني بها لحظات تركي
وآنقُ في النواظر من رياض ... نواضر بل جواهر ذات سلك
لقد فاق الأنام بفضل جود ... وفرط زيادة زِيْنَتْ بنسك
شهدتُ بأنه في الدهر فردٌ ... وقولي فيه لم يحتج مزكي
حملت له لواء ولاء صدقٍ ... لأعرف في الأنام بحمل رنكي
فلو منّ الإله بجمع شملي ... به لعدمت ما بين من تشكّ
يقبّل الأرض لا زالت قبلة الأمل، وكعبةَ العلم والعمل، وروضة الفضل إذا همى، والجود إذ همل، لأن دارها تخجل دارة الحمل، وتربها يفوق الأفق إذ بدره لما كمل نقص، وبدرها ما نقص لما كمل، تقبيلاً يؤدي به الواجب، ويداوي به قلباً سكنه مولانا فإنه كبير وما خرج عن الواجب:
ترابكم وحقّ أبي تراب ... أعزُّ عليّ من عيني اليمين
وينهي الى العلم الكريم بعد الأدعية التي تجر الإجابة برفعها، والعبودية التي أبان المنطق شرف حملها ووضعها، والأثنية التي لا تغرّد الحمائم الصادحة إلا بسجعها:
ومالي لا أثني على وابل الحيا ... إذا الروض أثنى بالنسيم على القطر(2/459)
أنه من حين بلغته هذه الفضائل البدرية، والفوائد التي نسماتها سحرية، وكلماتها سحرية، يعتلج في خاطره التطفل على خطابها، والتوصل الى عرائس إنشائها، ليكون من خُطّابها، والوقوف بذلّ التلمذة وفقر الحاجة على بابها، والدخول الى جنّات كرمها وحبّات كرمها ليجني ثمرها متشابهاً، والاعتراف يدفع في صدره ويبجل على قدره باجتلاء ليلة قدره، ويقول له القصور لا تطل فما أنت من سكان هذه القصور، ولا تزد مع نقصك، فما وشاح ألفاظك مما يدور على هذه الحضور، ولا تلح فما غابُ أقلامك مما يصم الليث الهصور:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
فأغفل المملوك مراودته مدة، وكابد من جزم حظه خفضاً لشدته مدّة وشدّة. هذا وغريم الشوق يلح، والإقدام يمرض تارة ويصح، الى أن انتهز فيها فرصة حمل فيها على جيوش الخجل فأمالها، وطعن في صفّ الممانعة برمح قلمه إما عليها وإما لها، فتهجم هذه الخدمة والضراعة، وخدم أسوة الطلبة ليكون من أهل الجماعة:
وكاد سروري لا يفي بندامتي ... على تركه في عمري المتقادم
وعطفها على استدعاء جرت العادة به للأصاغر، واستمطر به الإحسان الذي ملأ كل كفّ فارغ، وأطبق كل فم فاغر. وسأل صدقات مولانا التي عمّت وما خصت، وشرّعت المكارم للمتأدبين ونصت، الكتابة فيه بالإجازة للمملوك، وإن كان صغير القدر، والإجابة الى ما سأله لعله أن يكون من أهل بدر، فإنه لم يقل إلا علماً بأنه لم يُقَل، ولم يخاطب إلا طمعاً في الجواب الذي هو ألذ من الإغفاء في ساهر المقل، وأن يتصدق فيه بذكر مولده وذكر أشياخه الذين أخذ عنهم ومن رآه واجتمع به من الأعيان الذي إذا قال السائل من هم، كان مولانا منهم، وكتابة ما يراه من مقاطيعه التي هي قطع الرياض، وزهر الغياض، وقطر الحياض، الى غير ذلك مما يقتضيه الرأي الكريم والجود الذي إذا جاد البحر بالدر النثير جاد هو بالدر النظيم، لا زال بابه حرماً وسحابه ينهل كرماً بمنه وكرمه. وجهّزت الاستدعاء. فجاء جوابه بعد مديدة يخبر بوصوله. وإنه عقيب ذلك توجه الى اللاذقية فيما يتعلق بأشغال الدولة، وإنه عقيب ذلك يجهز الجواب، ثم ما لبث أن مرض وجاء الخبر بوفاته رحمه الله تعالى.
محمد بن مكي
الأمير ناصر الدين ابن الأمير مكي.
توفي والده رحمه الله تعالى في أوائل سنة خمس وسبع مئة، وهو من جملة أمراء الطبلخاناه بدمشق، وإقطاعه إقطاع جيد، فطلبه من الأمير سيف الدين أرغون شاه جماعة، فكتب به لابنه ناصر الدين محمد المذكور، وتقدير عمره عشرون سنة، فجاءه منشوره بذلك، وكان قبل ذلك أمير عشرة، فما متّع بشبابه ولا بالإقطاع.
وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل شعبان سنة خمسين وسبع مئة.
محمد بن المنجا
ابن عثمان بن أسعد بن المنجّا، الشيخ الإمام العالم الفاضل الصدر الأصيل شرف الدين أبو عبد الله ابن الشيخ العلامة الكبير زين الدين أبي البركات التنوخي الحنبلي.
سمع من الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، وابن علان، وابن البخاري، وابن الواسطي وجماعة وحدّث.
وكانت فيه خلالٌ جميلة من العلم والدين والمروءة والشجاعة وعلوّ الهمة والتودد، وقضاء الحقوق.
توفي رحمه الله تعالى رابع شوال سنة أربع وعشرين وسبع مئة، ولم يكمل الخمسين.
محمد بن المنذر
القاضي الرئيس فخر الدين.
كان أولاً في دمشق يباشر في ديوان الجيوش ولما حضر معين الدين بن حشيش الى دمشق ناظر الجيش عوضاً عن ابن حميد، انتقل القاضي شمس الدين بن حميد الى وظيفته بدمشق، وتوجه ابن المنذر الى طرابلس ناظر الجيش، وأقام بها مدة، وقع بينه وبين نائبها، فتوجه الى مصر وعاد الى مكانه ووظيفته في ذي القعدة سنة أربع عشرة وسبع مئة وأقام بها مدة.
ثم إنه نُقل الى نظر جيش حلب، وأقام هناك مدة عوضاً عن القاضي جمال الدين بن ريان.
ثم إنه توجه الى مصر ووقع منه كلام في حق القاضي فخر الدين ناظر الجيوش بالديار المصرية فجهزه الى صفد ناظر المال، وولده ناظر الجيش بها، فأقام بها مدة، ثم إنه جهز الى طرابلس.
ولم يزل بها الى أن توفي رحمه الله تعالى.
محمد بن منصور بن موسى
الشيخ شمس الدين أبو عبد الله الحاضري الحلبي المقرئ النحوي.(2/460)
قرأ القراءات على الكمال الضرير، والشيخ علي الدهان، والعربية على ابن مالك جمال الدين، وكان له تصدير في الجامع، وكان متوسطاً في النحو والقراءات.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر صفر سنة سبع مئة وكتب في الإجازات.
محمد بن منصور بن إبراهيم
ابن منصور الحلبي، الإمام العالم الصدر الصاحب بدر الدين الجوهري، نزل الديار المصرية.
سمع من إبراهيم بن خليل بحلب، ومن الكمال العباسي. وابن عزّون، وابن عبد الوارث، والنجيب، وعدة بمصر. وتلا بالروايات على الصفي خليل، وتفقه، وشارك في فضائل.
وكان ينطوي على خير وعبادة ودين، وله جلالة وصورة، ذكر في وقت الوزارة، وكان له خلق حاد، وحدث بدمشق ومصر.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع عشرة وسبع مئة.
محمد بن منصور
القاضي شمس الدين موقّع غزة، أقام بها مدة طويلة يباشر التوقيع وكتابة الجيش، ثم إنه نقل الى توقيع صفد عوضاً عن القاضي بهاء الدين بن غانم لما نقل الى طرابلس في سنة ست وعشرين وسبع مئة، وتوجه الى غزة مكانه القاضي جمال الدين بن رزق الله، ثم إن ابن منصور عمل على العود الى غزة، لأن صفد لم توافقه. وكان له في غزة متاجر من الكتّان والصابون وغير ذلك، وحصّل نعمة وافرة ودنيا صالحة. ثم إن الأمير سيف الدين تنكز عزله من غزة بعلاء الدين علي بن سالم، وقد تقدم ذكره في حرف العين، وبقي ابن منصور بطّالاً. وكان الأمير سيف الدين طينال قد ناب في غزة في وقت، على ما تقدم في ترجمته، وابن منصور موقّعها، فعرفه من ذلك الوقت، فلما بطل سأل طينال من تنكز في أن يكون ابن منصور في جملة كتاب الدرج بطرابلس، فرسم له بذلك، وتوجه ابن منصور الى طرابلس.
وكان رجلاً داهية سيوساً، يكتب خطاً حسناً، وله نظم لا بأس به، غير أنه لم يكن فيه طبقة، مع ما فيه من اللحن.
وتوفي رحمه الله تعالى...
أنشدني من لفظه القاضي زين الدين الصفدي قال: أنشدني من لفظه القاضي شمس الدين محمد بن منصور وقد أعيد الصاحب تقي الدين توبة الى الوزارة:
عتبت على الزمان وقلتُ مهلاً ... أقمت على الخنا ولبست ثوبه
ففاق من التجاهل والتعامي ... وعاد الى التُقى وأتى بتوبه
قلت: صوابه: فأفاق.
محمد بن موسى
القاضي الفاضل، الأديب الكاتب البارع شرف الدين المقدسي، كاتب الإنشاء بالديار المصرية، المعروف بكاتب أمير سلاح.
كا كاتباً بارعاً، ناظماً ناثراً، يأتيه المعنى على وفق إرادته ضارعاً، إذا نظم قلت العقودُ ينظم جواهرها، أو السماء يُطلع زواهرها، أو الرياض يجلو أزاهرها. يتلعب بالعقول سحره الحلال، يترشّف السمع منه كؤوساً ليست نشوتها مما يجري في الجديال. ونثره أحسنُ من رقم البرود، وآنقُ من حلول الكواكب في منازل السعود، وخطه يسرّ النواظر، ويُزري بالرياض النواضر، تخال سطوره فوق طروسه فتيت مسك على كافور، أو طرز صبح تطلعت من تحت أذيال ديجور. كأن جيماته وجنات خيلانُها تلك النقط، أو محاريب فيها قناديل لا تخبو نور معانيه ولا يقط، وكأن ألفاته ألفت الاعتدال فهي قدودُ الخرّد الغيد، أو قضبان بانٍ تميس من مرور النسيم، والهمزات من فوقها حمائم ذات تغريد:
فلو أعيد ابن هلال لحكى ... مشياً على الرأس إليه القلما
وقال في هذا برود أحرفٍ ... كنت أراها في كتابي أنجما
ولم يزل على حاله الى أن سكنت شقاشقه، وقرطست عن عرض الحياة رواشقه.
توفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
وكان قد خدم الشجاعي وأمير سلاح، وبه يعرف في القاهرة.
أخبرني من لفظه شيخنا العلامة أثير الدين قال: هو رجل حسنُ الأخلاق، كريم العشرة، محتمل، فيه كرم، وله خط حسن ونثر كثير ونظم.
وجالسته مراراً، وكتبت عنه، وقرأ علينا من نظمه ونثره كثيراً، وقد خمّس شذور الذهب. في صنعة الكيمياء تخميساً حسناً يقضي له بسبق النظم وجودة حوك الكلام، ومطابقة الفصل. وأنشدني قال: أنشدني من لفظه لنفسه:
اليوم يوم سرور لا شرور به ... فزوج ابن سماء بابنة العنب
ما أنصفَ الكأس من أبدى القطوب لها ... وثغرها باسم عن لؤلؤ الحبب
قلت: قد تقدم لهذا المعنى نظائر في ترجمة صدر الدين بن الوكيل.
وبه قال أنشدني من لفظه لنفسه:(2/461)
صرّف بصرف الحميّا ما حمى طرباً ... فإن فيها لسم الهم درياقا
دنياك معشوقة والراح ريقتها ... فارشف مراشِفها إن كنت عشّاقا
وبه قال: أنشدني له يخاطب الشجاعي، وكان كاتبه:
أيا علم الدين الذي عينُ علمه ... تُريه المعالي نثرها ونظامها
قذفت لنا يا بحر أي جواهر ... وها هي فالبس فذّها وتؤامها
ومنها:
رأى الملكُ المنصورُ أنك صالحٌ ... لدولته يُلقى إليك زمامها
فولاكها إذا كنت في الرأي شيخها ... وكنت إذا نادى الصريخ غلامها
فما احتفلت إلا وكنت خطيبها ... ولا استبقت إلا وكنت إمامها
فلو غاب بدر الأفق نُبت منابه ... بل الشمس لو غابت لقُمت مقامها
نهضت بعبء الملك والأمرُ فادح ... وسُسْت الرعايا مِصرها وشآمها
ولمّا خمس شذور الذهب كتب إليه ابن الوحيد:
لقد رقّ تخميس الشذور فأصبحت ... مداماً ولكن كرمُها حضرة القدسي
هي الشمس والأشعار في جنب حُسنها ... نجوم وما قدْرُ النجوم مع الشمس
وكتب إليه شمس الدين بن دانيال:
إذا ناب في التقبيل عن شفتي طرسي ... وعن بصري في رؤيتي لكم نفسي
وواصلني منكم خيال مخصّص ... بروحي في حلم فما لي وللحسّ
ومن لي بمرآك الجميل الذي به ... لعيني غنًى عن طلعة البدر والشمس
على أنني مستأنسٌ بعد وحشتي ... بأنسِ ولي الدولة الأرخن النفس
غدوت به بعد البطالة عاملاً ... ولا مثلما أعملت في زاده ضرسي
وإن ابنه الشيخ الخطير لمسعفي ... بما شئت من رفد جزيل ومن أنس
وأقسم ما للأب والابن عندهم ... حياة بلا روح تجيء من القدس
ومن شعر شرف الدين القدسي:
يا ليلة بت أستجلي محياها ... كأنما بتّ أستجلي حميّاها
أولت يداً ثم ألوت بي فقلت إذاً ... ما كان أرخصها عندي وأغلاها
بيوسف الحسن جزء من محاسنه ... فاعجب لها وهي كثر كيف جزّاها
طال النهار انتصاراً فانطوت قصراً ... كأن في شفقيها كان فجراها
منها:
يدير من لحظه أو لفظه لُطفاً ... لو نستطيع لها شُرباً شربناها
والزير والبم والمثنى ومثلثه ... محرّكات من الأوتار أشباها
ومنه في مليح اسمه سالم:
وأهيف تهفو نحو بانةِ قدّه ... قلوب تبثّ الشجو فهي حمائم
عجبت له إذ دام توريد خدّه ... وما الورد في حالٍ على الغصن دائم
وأعجب من ذا أن حية شعره ... تجول على أعطافه وهو سالم
ومنه:
بي فرط ميل الى الغزلان والغزل ... فكيف لا يُقصر العذال عن عذلي
مالوا عليّ ولاموا في الهوى عبثاً ... من لم يمل سمعه مذ كان للملل
أضحى الغرام غريمي في هوى رشأ ... يغنيه عن كحله ما فيه من كحَل
فالبدر من حسنه قد راح ذا كلف ... والوردُ من خدّه قد راح ذا خجل
تشاغل الناس في الأسمار بي وبه ... وإنني عن حديث الناس في شغل
وأنشدني له قاضي القضاة شيخ الإسلام تقي الدين السبكي، رحمه الله تعالى، قال: وأنشدني بعضها من لفظه:
ما مِلتُ عنك لجفوةٍ ومَلال ... يوماً ولا خطر السلوّ ببالي
يا مانحاً جسمي السقام ومانعاً ... جفني المنام وتاركي كالآل
عمّن أخذت جواز منعي ريقك ال ... معسول يا ذا المعطف العسّال
عن شعرك الفحام أن عن ثغرك ال ... نظام أم عن طرفك الغزالي
فأجابني أنا مالكٌ أهل الهوى ... والحسن أضحى شافعي وجمالي
وشقائق النعمان أضحى نابتاً ... في وجنتيّ حماه رشقُ نبالي
والصبر أحمد للمحب إذا ابتُلي ... في الحب من محن الهوى بسؤالي(2/462)
وعلى أسارى الحب في سجن الهوى ... بين الملاح عُرفت بالقفّال
وقتلتُ معتزليّ في شرى الهوى ... وطرفت بالتنبيه عين السالي
وتفقّه العُشّاق فيّ وكل من ... نقل الصحيح أجزْتُهُ بوصال
والجوهري غدا بثغري ساكناً ... يحمي الصحاح بقدّي الميّال
وشهود جسمي لو نظرت إليهم ... بين الأنام عجبت من أفعالي
جرح البكاءُ عيونهم وقلوبهم ... وزكوا لقذف الدمع في الأطلال
والشاهد المجروح عندي صادق ... هل في قضاة العاشقين مثالي
وعلى رحيق الثغر صارمُ مقلتي ... ولّيته، ولكل ثغرٍ والي
وعلى مقامات الغرام شواهدٌ ... جسمي الحريري والبديع جمالي
ولبست من حُلل الجمال مفصّلاً ... حسن الملابس مدهش الغزالي
ولحسني الكشاف من جمل الضيا ... لمعاً لإيضاح الفصيح مقال
وأتى المطرّز نحو خدي راقماً ... طُرُز العذار وحاز في أشكالي
والواقديّ بنار هجري والجفا ... وكّلتُه فلكل سالٍ صال
وبلفظي الفراء يفري قلبَ من ... وافى بناظر ناظري بنصال
ومَصارعُ العشاق بين خيامنا ... ومقاتل الفرسان يوم نزال
ورفضْتُ نوم العاشقين فكلّ من ... ذكر الغرام فدمعه متوالي
ولديّ سلوان المطاع سفاهة ... لمتيّم أوثقتُه بحبالي
وخصصت إخوان الصفا برسائل ... ولهم صفا ودي وهم آمالي
والبيهقي بوجه كل معنّف ... في موقف التوديع والترحال
وبوجهي النقاش راح مفسّراً ... صورَ الملاحة من دليل دلال
ورقيبي الكلبي قد أخسأتُهُ ... بوقوفه في باب ذلّ سؤالي
ومجاهدٌ أضحى عليّ مقاتلاً ... خوفاً من الرقباء والعُذّال
وأبو نعيم منعم في حليتي ... إذ بات يمليها على النقّال
ومحاسني قُوت القلوب تكرّماً ... ومناقب الأبرار حُسْن فعالي
وتطلعي زاد للسير ومبسمي ال ... ضحّاك والمنثور حُسن لآلي
وبخدي الزهري جنّات المنى ... أضحى بها الثوري من عمّال
وبمنطقي قسّ الفصاحة ناطقٌ ... في فترة الأجفان للضلال
وقميص حُسني قُدّ من قُبُل الورى ... بيدي اليمين وتارة بشمالي
والثعلبي رأى الوجوه بجهده ... وحلا له في النقل وجهُ الحال
ولحسني الأنساب يرويها عن ال ... عدل الزكيّ بصحة النُقّال
فيراه للتمييز نصباً واجباً ... ورفعت عنه الهجر من أفعالي
ولي الخلافة في المِلاح بلحظي ال ... سفّاح والمنصور في أقوالي
وعلى محلّي بالجمال رواية ... في رايةٍ نُشرت ليوم جدال
ومدينة العلَم السخاوي أصبحت ... في راحتي فعُرفت بالبذّال
قال الأوائل ما رأينا مثله ... غصنٌ رطيب مثمر بهلال
قد عمّه الحسن الغريب وخاله ... ما في البرية منه قلبٌ خال
فوصلت عُشّاقي فلام معنّفي ... فأجبته هذا الذي يبقى لي
القوم أبناء السبيل وعندنا ... تعطى زكاة الحُسن كالأموال
قد طالما نقلوا حديث محاسني ... فهم عُدولي صحة ورجال
هذي القصيدة بالأئمة شرفت ... قدري وفقت بها على أمثالي
وكأنها العقد الثمين وهم بها ال ... در النظيم مكللاً بلآلي
قلت: قصيدة فريدة فائقة رائقة، إلا أنها فيها ألفاظ غير قاعدة، والتسامح يسكن قلقها.
محمد بن ناصر بن علي
القاضي الرئيس فخر الدين بن الحريري، بالحاء والرائين المهملات.(2/463)
كان أولاً كاتب الأمير شهاب الدين قرطاي نائب طرابلس، أقام بها مدة ثم إنه عاد إليها مع مخدومه، وعمّر بها أملاكاً، ولم يكن لأحد معه فيها حديث. ولما انتقل مخدومه الى دمشق ثانياً عاد معه، ولما مات استمر بطّالاً مدة. ثم إنه باشر استيفاء النظر بدمشق مع الصاحب أمين الدين لما قبض على علم الدين إبراهيم المستوفي في صفر سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. ولما عزل الصاحب أمين الدين بالصاحب علاء الدين الحرّاني نقل القاضي فخر الدين الى نظر الديوان بطرابلس فتوجه إليها وأقام بها مدة.
ثم إنه توجّه في نوبة الفخري الى الديار المصرية وخرج منها مستوفي النظر بدمشق مع الصاحب علم الدين بن القطب، فأقام بها مدة يسيرة على ذلك، وانتقل الى نظر الجيش عوضاً عن القاضي فخر الدين بن العفيف فأقام بها قليلاً، وأعيد القاضي فخر الدين بن العفيف الى نظر الجيش، فأقام بدمشق مدة بطالاً. ثم إنه توجه الى الديار المصرية في سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
ثم إنه تولى كتابة السر بطرابلس بعد عزل القاضي شهاب الدين بن القطب المصري، وأقام بها من أوائل سنة ثمان وأربعين وسبع مئة الى أن توفي رحمه الله تعالى بطرابلس يوم الأربعاء مستهل جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وسبع مئة.
وكان رحمه الله تعالى أبيض أشقر سميناً فيه بشاشة وكيس ولطف ودماثة أخلاق ودهاء، وكان قد مشى بالفقيري، بالطاسة والأزار العسلي في وقت، وخلف عدة أولاد كل منهم اسمه محمد.
اجتمعت به غير مرة بدمشق والقاهرة.
محمد بن نبهان
الشيخ الصالح الزاهد العابد الورع القدوة شيخ البلاد الحلبية.
كان فقيراً، بالله غنياً، خلياً من الدنيا وإن كان بسعادة الآخرة ملياً، مقيماً بزاوية في بيت جبرين معروفة بهم من قديم، موصوفة بإضافتها إليهم، لا يزال فيها للفقراء منهم خديم، واشتهر هذا الشيخ محمد بتلك الناحية، وأشرقت شمس عرفانه في سمائها المصحية ولا أقول الصاحية، وتبلّجت وجوه بركاته الضاحية، وعرف بالخير وقصد من كل أرض، وإنما يسقط الطير وكان يطمع كل من يرد عليه من أمير ومأمور، وذي قلب خراب من التقوى ومعمور، ولم يُسمع أنه قبل لأحد شيئاً قلّ ولا جلّ، ولا حرم ولا حل، لأنه كانت لهم أرض قليلة يزرعونها ويتبلغون مما يستغلّونها ويستَغْلونها، وإنما كانت أخلاف البركات عليهم تدُر، واللطف الخفيّ يقر فيهم ولا يفر.
وكان الشيخ محمد كما قال الغزّي:
هو حيلة الدنيا وبقراط العلا ... وشكيمة الناجي وحرز المتّقي
أمواله لموفّرٍ ومقصّر ... ومقالهُ لمحصّل ومحقّق
ولم يزل الشيخ محمد، رحمه الله، على هذه الطريق الى أن جاء الأمير سيف الدين طشمر حِمّص أخضر الى حلب نائباً، فاشترى لزاوية الشيخ أرضاً ووقفها على الزاوية، فامتنع الشيخ من ذلك وامتعض، وارتمى الى عدم القبول وارتمض. فقال الأمير: إنما هذا للزاوية، وليس هو لك، فبعد لأي ما قبل ذلك، وهو غير راض. ثم إن الأمير سيف الدين طقزتمر لما جاء الى حلب نائباً أيضاً وقف على الزاوية أرضاً أخرى فاتّسع الرزقُ بذلك على أولاده، وفاض الخير عليهم ببركات الشيخ.
ولم يزل على حاله حتى تنبّه الأجل لابن نبهان من رقدته، وعجّل الله له بالرحمة في أول نقدته.
وجاء الخبر بوفاته رحمه الله تعالى في شعبان سنة أربع وأربعين وسبع مئة، وصلي عليه بالجامع الأموي صلاة الغائب.
ولم نسمع عن الشيخ إلا صلاحاً وخيراً، وكان نُواب حلب جميعهم يعظّمونه، ويجلّونه، ويكرمونه، ويقبلون شفاعاته ويعملون بإشاراته، وكان منقطعاً عن الناس، منجمعاً.
وأخبرني القاضي ناصر الدين كاتب السر بدمشق قال: كان الشيخ محمد كثير التلاوة، وله كل يوم ختمة، ومن يراه يحسبه أنه لا يتلو شيئاً.
كتب إليه القاضي شهاب الدين بن فضل الله في جملة كتاب:
قيل جبريلُ مُنزَل لابن نبها ... ن محوط بمحكم التنزيل
قد تبدّى محمد في رُباها ... علماً للسائرين وابن السبيل
بوقار كأنه الليل خوفاً ... وجبينٍ يُنير كالقنديل
ليس يخشى الضلال من أمّ منه ... حضرةً أشرفت على جبريل(2/464)
وأما أنا فلم يتفق لي لقاؤه، ولكن اجتمعت بولده الشيخ علي وقدم الى دمشق متوجهاً الى الحج في سنة سبع وأربعين وسبع مئة.
ولما مات الشيخ محمد قلت أرثيه رحمه الله تعالى:
تنبّه صرفُ الدهر من بعد غفلةٍ ... وخصّ ابن نبهان بمطعم صابه
ومات فأحيا الذكر من بعده الثنا ... عليه كنشر الروض غب سحابه
فمن لقرى الأضياف من بعد فقده ... فقد طالما راق الجنا من جنابه
أقول وبعض القول يعطي تمامه ... كأنّ بني نبهان يوم مصابه
محمد بن نجيب
ابن محمد بن يوسف، الشيخ شمس الدين أبو عبد الله، الكاتب المجوّد والمحرّر المعروف بالخلاطي، إمام التربة القيمرية بالقباقبيين بدمشق.
سمع من ابن أبي اليسر، وحدّث.
وكان حسن الهيئة كريم الأخلاق، يكتبُ المنسوب، وكتب الناس عليه بعد الشهاب غازي المجوّد، وعنده قطع كثيرة من الخط المنسوب. وتوجّه الى القاهرة وأقام بالخانقاه مدة وعاد.
وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع عشري ذي القعدة سنة سبع وعشرين وسبع مئة، ودفن في مقابر الشيخ أرسلان.
ومولده سنة ستين وست مئة.
محمد بن نصر الله
ابن عبد الوهاب، القاضي الرئيس علاء الدين الجوجري، بجيمين بينهما واو وبعد الجيم الثانية راء المالكي الحاكم بالقاهرة.
درّس الفقه على مذهب مالك بالجامع الحاكمي، وناب في الحكم عن قاضي القضاة تقي الدين الآخنائي المالكي، وكان ناظر خزانة الخاص.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة تاسوعاء سنة ست وثلاثين وسبع مئة، ولعله قد تجاوز السبعين.
وولي نظر الخزانة بعده القاضي محيي الدين بن بنت الأعز.
محمد بن نصر الله بن محمود
شهاب الدين، الشيباني العطار.
سمع من ابن مسلمة في سنة ثمان وأربعين وست مئة الجزء الذي كان عنده موافقات ابن عساكر، وسمع أيضاً من العراقي، وفرج الحبشي، ولم يحدث.
وتوفي رحمه الله تعالى في ربيع الأول سنة تسع وتسعين وست مئة.
محمد بن نصر الله بن يوسف
ابن أبي عبد الله، الشيخ الصالح عز الدين القرشي الأبزاري المصري رئيس المؤذنين بحرم النبي صلى الله عليه وسلم.
كان عنده ثبتٌ وإجازات تركها بمصر، وغالب مسموعاته بقراءة المكين الحصني.
توفي رحمه الله تعالى ثالث عشري شهر ربيع الآخر سنة عشر وسبع مئة عند فراغه من أذان الفجر بالمنارة الجديدة، من غير مرض ولا عرض، وكان له مشهد عظيم.
محمد بن هاشم
ابن عبد القاهر بن عقيل بن عثمان، ينتهي الى عليّ بن عبد الله بن العباس، الشريف شمس الدين أبو عبد الله بن الشريف تاج الدين بن الكاتب بهاء الدين.
روى عن عمّ والده الفضل بن عقيل، وعن ابن الزبيدي. وحدث بصحيح البخاري مرات، وكان اسمه مضمناً في إجازة ابن عساكر، وحدث عن أبي روح الهروي بها.
وتوفي في شهر رمضان سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة ست وست مئة.
محمد بن الهمام
ابن ابراهيم بن الخضر بن همام بن فارس، ناصر الدين القرشي.
أخبرني شيخنا العلامة أبو حيان، قال: هو صاحبنا، كان له سماع في الحديث، وقد حدّث عن النجيب الحرّاني. وكان ذا خطّ حسن وصورة حسنة كريماً محبّاً في الفقراء إماماً للأدباء، حسن النغمة بالقرآن، وإنشاء الشعر، باشاً بأصحابه، يحب من يأكل طعامه ومَن يجتمع به. وكان يعرف الحساب واشتغل بالخدم، وناب في نظر البيمارستان المنصوري، وكان الفقهاء معه في الجوامك على أحسن حال.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وسبع مئة.
محمد بن أبي الهيجاء بن محمد
الأمير الفاضل عز الدين الهذباني الإبلي، متولي دمشق.
قدم الشام شاباً، واشتغل، وجالس العز الضرير. وكان جيّد المشاركة في التاريخ والأدب والكلام.
قال شيخنا الذهبي: وهو معروف بالتشيع والرفض، وكان شيخاً كردياً مهيباً، يلبس عمامة مدوّرة، ويرسل شعره على أكتافه. ولي دمشق وكان جيّد السياسة.
توفي رحمه الله تعالى بالسوّادة التي في رمل مصر سنة سبع مئة.
ومولده بإربل سنة عشرين وست مئة.
محمدالأمير الكبير بدر الدين
بن الوزيري، توفي بدمشق بدار الجاولي ظاهر دمشق في يوم الأربعاء سادس عشر شعبان سنة ست عشرة وسبع مئة ودفن برأس ميدان الحصى.(2/465)
كان عنده معرفة وله فضيلة، وتكلم في الديار المصرية في أمر الأوقاف والقضاة والمدرسين، وناب بدار العدل عن السلطان مدة، صاحب الميسرة وأمير مئة ومقدم ألف. وخلّف تركة عظيمة، ثم إنه صرف عن ذلك ونقل الى دمشق.
محمد بن يحيى
المنصور بالله، أبو عصيدة بن الواثق الدهَنتاتي، بفتح الهاء وسكون النون وبعدها تاء ثالثة الحروف وبعدها ألف وتاء أخرى. تملك تونس بإشارة المرجاني في آخر سنة أربع وأربعين وست مئة.
كان شريف النفس مهيباً، جيّد الرأي أديباً، صالحاً ديّناً، حميد السيرة صيّناً، ظريفاً شكله ذريعاً أكله، ينفق في جنده، ولا يرد أحدهم على رفده.
ولم يزل على حاله حتى رمي أبو عصيدة باليوم العصيب، ورماه الحمام بسهمه المصيب.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وسبع مئة.
ولم يعهد الى أحد، فقام بعده ابن عمه، فقُتل بعد أيام، توثّب عليه المتوكل خالد بن يحيى من بني عمه وتملك، ثم خلع بعد يومين.
ومات أبو عصيدة رحمه الله تعالى شاباً، وإنما لقب بذلك لأنه عمل في سماط عصيدة عظيمة في وعاء سعته تفوق العبارة، في وسطها بركة واسعة مملوءة سمناً، ويليها خندق عسل ثم خندق من دهن ثم خندق من دبس ثم خندق من زيت ثم خندق من رب خرنوب، سبعة خنادق، والله أعلم، وكان عسكره نحواً من سبعة آلاف.
محمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن أحمد
الشيخ الإمام العلامة أبو عبد الله القرطبي المالكي الأشعري، نزيل مالقة ومحدثها وفقيهها ووزيرها.
وكان أشعرياً، وكان آخر من حدث عن والده بالسماع، وسمع من الدباج والشلوبين، وابن الطيلسان. وكان من جملة محفوظاته المقامات.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع عشرة وسبع مئة.
ومولده بقرطبة سنة ست وعشرين وست مئة.
محمد بن يحيى بن أحمد
ابن علي بن يَس، الشيخ شمس الدين الحِميري المعروف والده بابن المعلم.
سمع من ابن عبد الدائم وروى عنه، وسمع من عمر الكرماني. وكان له ملك يرتزق منه.
وسمع منه شيخنا علم الدين البرزالي.
توفي رحمه الله تعالى في العشر الأوسط من صفر سنة أربع عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وخمسين وست مئة.
محمد بن يحيى بن موسى
الشيخ شرف الدين بن نجم الدين بن تاج الدين أبي البركات الصائغ المعروف بابن صفّ عذاره.
وكان شيخنا أوصى بثلث ماله أن يُشترى به وقفٌ للصدقة فكان أربع مئة دينار وكسوراً، ووقف وقفاً على من يقرأ صحيح البخاري كل سنة في شهر رمضان بالإسناد.
توفي رحمه الله تعالى في أول ذي الحجة سنة تسع وسبع مئة.
محمد بن يحيى بن محمد بن عبد الرحمن
الشيخ الإمام المفتي المدرس بدر الدين ابن القاضي جمال الدين بن الفُويرة الحنفي، تقدم ذكر أخيه علاء الدين علي، وسوف يأتي ذكر والده جمال الدين إن شاء الله تعالى في مكانه من حرف الياء.
اشتغل كثيراً، ورقى من الحفظ محلاً أثيراً، تفنن في العلوم وتفند عما سوى ذلك من ملاذ المشارب والطعوم، وحصّل رأس مال جيد من الفقه وأصوله، وأنفق ولم يخش ذهاب محصوله.
ولم يزل على حاله الى أن فار وفاض أجل الفويرة، وسبق أقرانه، وما جدّ في سيره.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الثلاثاء، الثالث والعشرين من شعبان سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وتسعين وست مئة.
وكان له حلقة إشغال في الجامع الأموي عند شباك الكاملية في الحائط الشمالي، ودرس بالخاتونية البرانية وبمجلس الرأس، وخطب بالزنجليّة وسمع عن جماعة، وحدث.
وكان قد انتشا له ولد تقدير عمره ست عشرة سنة، وحج وهو صغير مع والده سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، وحفظ الكتاب العزيز، وسمع الحديث، وحفظ شيئاً من الفقه، فمات في شهر صفر من سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، ففجع فيه والده وأهله، وحزن والده عليه حزناً عظيماً، ولم يعش والده بعده إلا هذه المدة اليسيرة، ولحقه الى الله تعالى.
وكان الشيخ بدر الدين رحمه الله تعالى رفيقاً للقاضي فخر الدين المصري يجاريه في الإشغال فناً بعد فن، خلا أن ذلك كان شافعياً وهذا حنفياً، وكان كثيراً ما يمشي هو وشمس الدين محمد بن زين الدين المقرئ الصفدي، فكان الناس يسمونها القط والفأر.(2/466)
وحضرت يوماً عنده في حلقة إشغاله، وأوردت عليه أن لفظه طَهُور صيغة مبالغة في تكرير الفعل من الفاعل مثل صبور وقتول، وأكول وشروب، فكيف يسلب الماء الطهورية بالمرة الواحدة، على ما تقدم في ترجمة تقي الدين أبي الفتح السبكي مما نظمته وأجاب عنه نظماً، فأعجب الشيخ بدر الدين هذا الإيراد وزهزَهَ له، ولم يجب عنه، ولم يكن في طباعه مع كثرة علومه وتفننه إقامة وزن الشعر.
أخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: كان بدر الدين بن الغويرة ينشد قول الشاعر:
معاوي إننا بشر فأسجحي
بإثبات الياء بعد الحاء.
محمد بن يحيى بن أحمد بن سالم
الأمير بدر الدين بن الخشاب ابن العدل زين الدين القرشي الدمشقي.
دخل بدر الدين هذا في الجندية، وباشر الشدّ في ديوان سلار في بلاد صفد وقضى من السعادة في هذه المباشرة ما لا يوصف، وحصّل جملاً، وبقي فيما بعد من أعيان مقدمي حلقة صفد. ثم إنه ترامى الى الأمير سيف الدين تنكز، فأمّره عشرة، وجعله مشدّ الديوان بصفد ووالي الولاة، وحضر إليها في سنة أربع وعشرين وسبع مئة. ثم إنه نقله الى دمشق على شد الدواوين بها عوضاً عن الأمير علم الدين سنجر الطرقجي، فوصل إليها في جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة بإعانة الصاحب غبريال له. ثم إن الصاحب عُزل في أيامه وتولى هو مصادرته.
ولم يزل على وظيفة الشد الى أن عزل منها، وصودر في ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. وأقام في الترسيم نحواً من أربعة أشهر. ثم إنه أفرج عنه، وتولى فيما أظن بعد ذلك بيروت بواسطة سيف الدين قرمشي، لأنه كان مزوّجاً بأخت قرمشي. ثم إنه نقله الى ولاية نابلس، وتقلب في المباشرات كثيراً.
ولم يزل على حاله في دمشق الى أن توفي رحمه الله تعالى في شوال سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
وكان يحب المباشرات ولو كانت، مهما كانت عالية أو سافلة.
وكان فيه كرم وخدمة لأرباب الدولة ما عليها مزيد. وكان مع اتساع دائرته لا يخرج فلساً لبقل حتى يضبطه في تاريخه عنده في تعليق وكان عجباً في هذا الباب.
محمد بن يحيى بن فضل الله
القاضي بدر الدين بن القاضي محيي الدين.
توجه الى الديار المصرية صحبة والده، وعاد معه الى دمشق، ثم توجه معه ثانياً الى الديار المصرية، وأقام بها الى أن أخرجه أخوه القاضي علاء الدين الى كتابة السر بالشام عوضاً عن أخيه القاضي شهاب الدين بن فضل الله، فوصل الى دمشق في أوائل شهر رجب الفرد سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
وكان عاقلاً ساكناً كثير الإطراق، ملازم الصمت، لا يفوه بكلمة تودي الى الإحراق أو الإغراق، يخدم من يقصده ولا يلتفت الى من يزحمه أو يحسده، فأحبّه الناس وخضعوا، وطأطأوا رؤوسهم له واتّضعوا، وارتشفوا كؤوس محبّته وارتضعوا. وكان خطه جيداً يزين به مهارقه، ويودع الدرّجيد دَرْجه ومفارقه.
ولم يزل على حاله الى أن خسف بدره في ليلة تمامه، وأدار الغصن عذبته لنوح حمامه.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشر من شهر رجب الفرد سنة ست وأربعين وسبع مئة.
ومولده سنة عشر وسبع مئة.
وهو شقيق أخيه القاضي شهاب الدين، وخلّف نعمة طائلة، وعمر أملاكاً مليحة عند قناة صالح داخل باب توما، وكان أحب الإخوة الى والده القاضي محيي الدين.
وكان أخوه القاضي علاء الدين وهو أصغر سناً منه قد أدخله بعد موت والدهما الى دار العدل، وجلس في أيام السلطان الملك الناصر محمد ووقّع في الدست، ولما توجه القاضي علاء الدين الى الكرك صحبة الناصر أحمد، وتسلطن الملك الصالح إسماعيل، سدّ هو الوظيفة الى أن عاد أخوه، ثم إن أخاه جهزه الى دمشق صاحب ديوان الإنشاء، ولما مات رحمه الله تعالى كتبت الى أخيه القاضي علاء الدين أعزيه فيه على لسان الأمير عز الدين طقطاي الدوادار ارتجالاً من رأس القلم وهو:(2/467)
يقبّل الأرض لا ساق الله إليها بعدها وفدَ عزاء، ولا أذاقها فَقْدَ أحبّةٍ ولا فراق أعزاء، ولا أعدمها جملة صبر تفتقر منه الى أقل الأجزاء وينهي ما قدره الله تعالى من وفاة المخدوم القاضي بدر الدين أخي مولانا، جعله الله وارث الأعمار، وأسكن من مضى جنّات عدن، وإن كانت القلوب بعده من الأحزان في النار، فإنا لله وإنا إليه راجعون، قول من غاب بدره وخلا من الدست صدره، وعمّ مصابه فهو يتأسى بالناس، وعدم جَلَده فقال للدمع: اجرِ فكم في وقوفك اليوم من باس، وهذا مصاب لم يكن مولانا فيه بأوحد، وعزاء لا ينتهي الناس فيه الى غايةٍ أو حدّ:
علينا لك الإسعاد إن كان نافعاً ... بشقّ قلوب لا بشق جيوب
فما كان الدست الشريف إلا صدراً نزع فيه القلب، أو نجوماً بينما بدرها يشرق نوراً إذا به في الغرب، وما يقول للملوك إلا إن كان البدر قد غاب فإن النير الأعظم واف، وبيتكم الكريم سالم الضرب، وإنما أدركه بالوهم خفي زحاف، وما بقي إلا الأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في الصبر والاحتساب، وبتسليم الأمر الى صاحبه الذي كتب هذا المصرع على الرقاب: وفي بقائك ما يسلي عن الحزن، وظلّ مولانا بحمد الله تعالى باق على بيته، وما نقص عددٌ ترجع جملته الى مولانا، وكلنا ذلك الدارج، والله لا يذيقه بعدها فقد قرين ولا قريب، ويعوض ذلك الذاهب عما تركه في هذه الدار الفانية من الدار الباقية، بأوفر نصيب إن شاء الله تعالى.
وقلت أرثيه، ولم أكتب بذلك لأحد:
لفقدك بدْرَ الدين قد مسنا الضّر ... وأظلم أفقُ الشام واستوحشت مصر
وشُقّق حبيبُ الروح واستعبر الحيا ... ولُطّم خد الورد وانصدع الفجر
وكادت لنوح الوُرق في غسق الدجى ... تجف على الأغصان أوراقها الخضر
لك الله من غادٍ الى ساحة البلى ... ومن بعده تبقى الأحاديث والذكر
كأن بني الإنشاء يوم مصابه ... نجوم سماء خرّ من بينها البدر
محمد بن يحيى بن محمد
الشيخ الإمام الصدر الكبير شمس الدين بن قاضي حرّان الحراني الحنبلي، ناظر الأوقاف بدمشق.
كان صدراً محتشماً نبيلاً.
توفي رحمه الله تعالى في الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن بتربة ابن الصباب بالصالحية، وعمل عزاؤه بكرة الجمعة بمحراب الصحابة بجامع دمشق.
وتولى نظر الأوقاف عوضه القاضي عماد الدين بن الشيرازي مضافاً الى نظر الجامع.
محمد بن يحيى
المعمّر الصالح كمال الدين، ابن القاضي محيي الدين بن الزكي القرشي.
حدث عن ابن النحاس، ودرس بأماكن.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
محمد بن يعقوب بن بدران
الإمام المسند المقرئ أبو عبد الله بن الجرايدي - بالجيم - الأنصاري الدمشقي ثم القاهري، نزيل بيت المقدس.
أجاز له السخاوي، وسمع بمصر سنة أربع وأربعين، وبعدها من ابن الجميزي، وسبط السلفي، والمنذري، والرشيد العطار وتلا بالسبع مفردات على الكمال الضرير، وسمع منه الشاطبيّة، ومن ولد الشاطبي، وجود الخط، ودخل اليمن، وروى بأماكن.
روى عنه شيخنا البرزالي والواني، وشيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وجماعة.
واستوطن القدس ثماني سنين، وبه توفي سنة عشرين وسبع مئة.
ومولده بدمشق سنة تسع وثلاثين وست مئة.
محمد بن يعقوب بن زيد
الشيخ الإمام العالم شمس الدين أبو عبد الله البلفيائي الشافعي المحدث.
كان قد رافق شيخنا العلامة تقي الدين قاضي القضاة السبكي في سنة خمس وسبع مئة، وسمع معه على ابن الصواف، وسمع بالقاهرة، وما برح يسمع الى أن مات. وكان عدلاً فاضلاً ورعاً وديّناً.
توفي رحمه الله تعالى في ثاني عشري جمادى الأولى سنة خمس وعشرين وسبع مئة ودفن بالقرافة، وكان الجمع متوفراً.
محمد بن يعقوب
الشيخ الإمام العالم الأديب بدر الدين، ابن النحوية، الأديب، نسبة الى النحو.
كان أديباً لبيباً، فاضلاً أريباً، حمى سرح النحو بحماة، وشاد ركنه وحماه، له يد في النحو طولى، وذهن بلغ به من الغوامض سولا بما أصفه وهو ابن النحوية، والفرع فيه ما في الأصل، وزيادة مَحويّة، وتصانيفه تشهد له بالتقدم وتحكم بأن مجده آمنٌ من التهدّم.(2/468)
ولم يزل على حاله الى أن أصبح لقىً بين يدي المنايا، وحكمت فيه الرزايا.
وتوفي رحمه الله تعالى.
اختصر الشيخ بدر الدين المصباح الذي لبدر الدين بن مالك في المعاني والبيان والبديع، وسماه ضوء المصباح وهذه تسمية حسنة.
قلت: وهذه التسميات تحتاج ذوقاً، كما اختصر ابن سناء الملك كتاب الحيوان للجاحظ، وسمّاه روح الحيوان، البرق السامي، وسمي سنا البرق، وصنف شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي كتاباً سماه النور في مسائل الدور واختصره فسماه قطف النور. واختصرت أنا ديوان السّراج وسميته لمع السّراج. وشرح الشيخ بدر الدين ضوء المصباح في مجلدين وسماه إسفار الصباح عن ضوء المصباح. وكتبته بخطي وفي البديع مثلٌ مثّل بها، وفيها نظر، وعندي في التسمية أيضاً نظر، وشرح أيضاً ألفية ابن معط شرحاً حسناً وسماه حرز الفوائد وقيد الأوابد.
أنشدني من لفظه الشيخ الإمام العلامة نجم الدين القفحازي قال: أنشدني من لفظه لنفسه شيخنا بدر الدين محمد بن النحوية ما كتبه ارتجالاً على قصيدة أحضرها بعض شعراء العصر يمدح فيها صاحب حماة:
لا ينشدَنْ هذا القريض متيم ... خوداً يحاذر من أليم صدودها
فتملّه وتصدّه وتظنه ... أن قدْ أغار على فريد عقودها
قلت: لا يقال: إلا حاذرت كذا، ولا يقال إلا صدّ عنه، اللهم إلا أن يكون حمل ذلك على المعنى، فيكون حاذرت بمعنى خفت، وتصدّه بمعنى تجفوه، وفي هذا ما فيه. وقد بلغني من قاضي القضاة جلال الدين القزويني أنه قال: اجتمعت ببدر الدين بن النحوية في العادلية وسألته عن قول أبي النجم:
قد أصبحت أم الخيار تدعي ... عليّ ذنباً كلّه لم أصنع
في تقديم حرف السلب وتأخيره، فما أجاب بشيء، أو كما قال. وقد تكلم ابن النحوية في هذا البيت في إسفار الصباح كلاماً جيداً، والسبب في ذلك أنه ما يلزم كل من وضع مصنفاً أن يستحضر جميع مسائله متى طُلب ذلك منه، لأنه حالة التصنيف يراجع الكتب المدونة في ذلك الفن ويطالع الشروح فيحرر الكلام ذلك الوقت، ثم إنه يشذ عنه، وهذا الشيخ علاء الدين الباجي كان إماماً علامة في فنونه، وقد وضع كتاباً في الجبر والمقابلة، قال لي عماد الدين الدمياطي: سألته مسألة في الجبر والمقابلة فما أجاب.
قلت: وهذا لا ينقص من قدر الباجي.
محمد بن يعقوب بن عبد الكريم
القاضي ناصر الدين بن الصاحب شرف الدين، كاتب السر الشريف بحلب ودمشق.
سألته عن مولده فقال: تقريباً في سنة سبع وسبع مئة بحلب.
كان من رجالات الدهر عزماً وحزماً، وسياسة ودُربة بالسعي وفهماً. ينال مقاصده ولو كانت عند النعائم، ويتناول الثريا قاعداً غير قائم، وكتب ما يصبح به طرسه، وكأنه حديقة، وينظم بسرعة لا يقف فيها قلمه يُخال البرق رفيقه.
باشر كتابة السر بحلب ودمشق مرتين، وخرج من كل منهما وهو قرير العين. وكان محظوظاً من النواب الذين يباشر بين أيديهم، وله عندهم الوجاهة التي لا تعدوه عند غضبهم وتعدّيهم، يشكرونه في المجالس، ويثنون عليه عند أرباب السيوف وأصحاب الطيالس ويقبلون شفاعته ما عسى أن تكون، ويثقون الى ما عنده من التأني والسكون:
فأمرهم رُدّ الى أمره ... وأمره ليس له ردّ
ومع هذا فكان ساكناً وادعاً، راداً على من اتصف بالشر رادعاً، أخلاقه تعلم النسمات حسن الهبوب، ويُغفر لها ما يعدّه الناس للدهر من الذنوب.
ولم يزل على حاله الى أن اعتلّ، ورماه الموت بدائه وانسلّ.
وتوفي رحمه الله تعالى بكرة الأحد سادس ذي القعدة سنة ثلاث وستين وسبع مئة، ودفن بتربته بمقابر الصوفية، وكانت جنازته حافلة.
قال لي: قرأت القرآن على الشيخ تاج الدين الرومي، وعلى الشيخ ابراهيم القبج. وقرأ الحاجبية على ابن إمام المشهد، وقرأ مختصر ابن الحاجب، وحفظ التنبيه، وأذن له الشيخ كمال الدين محمد بن الزملكاني بالإفتاء، ودرّس في حلب بالنورية وغيرها، واشتغل على ابن خطيب جبرين قاضي حلب في الأصول، وقرأ في الهيئة على أمين الدين الأبهري، وكان يستحضر من كليّات القانون جملة، وعلى ذهنه من العلاج جملة وافرة، ويستحضر من قواعد المعاني والبيان مواضع جيدة.(2/469)
وولي في حياة والده نظر الخاص المرتجع عن العربان، ثم نُقل الى كتابة الإنشاء بحلب. وكان الأمير سيف الدين أرغون نائب حلب يقرّبه ويحبه ويحضر عنده في الليل، ويقول له: يا فقيه، ودخل به الى توقيع الدست في حلب، وتولى تدريس المدرسة الأسدية بحلب سنة أربع وأربعين وسبع مئة، ثم إنه ولي كتابة السر بحلب عوضاً عن القاضي شهاب الدين بن القطب سنة تسع وثلاثين وسبع مئة، وتولى قضاء العسكر بحلب في أيام الأمير سيف الدين طرغاي الجاشنكير نائب حلب.
ولما توفي زين الدين محمد بن الخضر كاتب سرّ دمشق طلب الأمير سيف الدين يلبغا من السلطان أن يكون القاضي ناصر الدين عنده بدمشق كاتب سر، فرسم له بذلك، ووصل الى دمشق في رابع عشر جمادى الأولى سنة سبع وأربعين وسبع مئة، فباشر كتابة سرّ دمشق وبيده تدريس الأسدية بحلب الى أن مات بدمشق، وبيده أيضاً قضاء عسكر حلب وهو بدمشق الى أن نزل عنه لمن بذل له شيئاً، ثم إنه تولى تدريس المدرسة الناصرية الجوّانية بدمشق، وتدريس المدرسة الشامية الجوانية ومشيخة الشيوخ.
وكان يزعم أنه سمع على سنقر مملوك ابن الأستاذ حضوراً في الرابعة، كذا قال لي من فمه، وعندي في ذلك شيء، فإن سنقر المذكور توفي سنة ثمان وسبع مئة، وناصر الدين فمولده على ما أخبرني في سنة سبع وسبع مئة، فهذا الحضور في الرابعة على سنقر لا يتصور.
وكان ينظم سريعاً، ويكتب خطّاً حسناً، وحصّل لأولاده الإقطاعات الجيدة من إمرة العشرة الى ما دونها، ولمماليكه ولألزامه، والرواتب الوافرة على الديوان، وعلى الجامع الأموي واقتنى من الكتب النفيسة المليحة جملةً وافرة، ومن الأصناف من القماش والجوهر واللؤلؤ وغير ذلك جملاً، واقتنى الأملاك الجيدة والبساتين المعظمة في دمشق وغالب بلادها، وفي حلب وغالب معاملاتها.
وكان رجلاً سعيداً محظوظاً الى الغاية، إلا أنه لم يكن فيه شرٌ، ولا تسرع يملك نفسه، ويكتم أذاه وغيظه ولا يواجه أحداً بسوء.
ولما كان في سنة ستين وسبع مئة رسم له بكتابة سر حلب عوضاً عني، وجُعل القاضي أمين الدين بن القلانسي عوضاً عنه بدمشق، وحضرتُ أنا على وظائف ابن القلانسي، وذلك في أوائل سنة ستين.
ولم يزل بحلب الى أن حضر السلطان الملك المنصور محمد بن حاجّي الى دمشق في واقعة الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي في سنة اثنتين وستين وسبع مئة، فولي القاضي ناصر الدين كتابة سر دمشق عوضاً عن القاضي أمين الدين بن القلانسي في ثاني عيد الأضحى، فباشر كتابة السر الى أن مات رحمه الله تعالى.
وباشرت معه كتابة الإنشاء بدمشق مدة ولايته الأولى وما فارقته فيها في سفر، ولا حضر، وبيني وبينه بداءات ومراجعات في عدة فنون، وكلها في أجزاء التذكرة التي لي، من ذلك ما كتبه إليّ وقد وقع مطر عظيم:
كأن البرق حين تراه ليلاً ... ظُبىً في الجوّ قد خُرطت بعنف
تخال الضوء منه نار جيشٍ ... أضاءت والرعود حسيس زحف
وكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك:
يحاكي البرق بشرك يوم جُود ... إذا أعطيت ألفاً بعد ألف
وصوت الرعد مثل حشا عدوّ ... يخاف سطاك في حيف وحتف
ثم كتب هو إليّ:
لئن أوسعت إحساناً وفضلاً ... وجُدتَ بنظم مدح فيك لائق
فهذا الفضل أخجل صوب سحبٍ ... وهذا البشر أخجل بشر بارق
وكتب هو إليّ أيضاً:
وكأن القطر في ساجي الدجا ... لؤلؤ رصّع ثوباً أسودا
وإذا ما قارب الأرض غدا ... فضةً تشرق من بعده المدى
فكتبت أنا الجواب إليه:
ما مُطرنا الآن في المرج سدى ... ورأينا العذر في هذا بَدا
نظر الجوّ لما تَبْذلُه ... فهو يبكي بالغوادي حسدا
وكتب هو إليّ أيضاً:
طبّق الجوّ بالسحاب صباحاً ... ومُطرنا سحّاً مغيثاً وبيلا
نسخ الريّ كل قحط ويبس ... بغمام أهدى لنا سلسَبيلا
ارتشفنا منه الرضاب فخلنا ... عن يقين مزاجه زنجبيلا
فكتبت أنا الجواب إليه بديهاً:
جلتِ الأرضُ بعد قحط ويبسٍ ... من بكاء الغمام وجهاً جميلا
وتثنى القضيب فيها رطيباً ... وتمشّى النسيم فيها عليلا(2/470)
هكذا كل بلدة أنت فيها ... يجعل الغيثُ في حماها مسيلا
وكتب هو إليّ بعد ذلك:
أوضح الله للبيان سبيلا ... بك يا أقومَ المجيدين قيلا
إن تثنى القضيب في الروض عجباً ... وتبدى نضاره مستطيلا
فبأقلامك المباهاة فخراً ... كل غصن رطب وخداً صقيلا
ولئن زدْت في ثنائي فإني ... شاكر فضلك الجزيل طويلا
لم أنس بالمرج مرّ لنا ... به حللنا في غاية الشدّهْ
تقابل الرعدَ منه خيمتُنا ... بسورة الانشقاق والسجدهْ
وكتبت أنا إليه:
ما أنس لا أنس يوم المرج حين غدت ... أمطاره بدموع العين تمتزج
كم في الختام فتوق كالعيون غدت ... أجفان رفرفها بالريح تختلج
وكتبت إليه في السنة الثانية، ونحن بالمرج أصف حرّ الظهائر:
مرج دمشق عجب أمره ... في الطيب والكره غدا خارجا
كم نسج الحرّ به للندى ... وكان مرجاً فغدا مارجا
وكتب هو إليّ ملغزاً: أيها العالم الذي فاق علماء زمانه، وعلا قدراً في معانيه وبيانه، وقام بصلاحه عماد الأدب بعد هوانه: ما اسم شيء سداسي الحروف، ظرف للعشرات والألوف، لا تنفك علتاه الصورية والغائية عن عاطف ومعطوف، يمنع من القنص ويُتخذ كاتخاذ القفص، ولا يوصف جلده ببهق ولا برص، أعجمي المسمى، حرم دان لمن تأمله ورُزق حزماً، إن صُحّف نصفه كان من علل العروض، وأتى عقاباً ليعملة غير ركوض، وربما دخل تصحيفه في ألقاب الإعراب وأتى مشكوراً من ذوي السيادة والآداب، وإن اعتبر نصفه الثاني فهو مرادف قريب، واستُحب من الحبيب، وإن قُلب كان للرؤساء مكاناً، وربما أضيف الى قبيلة إذا أردت بياناً، فاكشف لنا أيها العالم عن معمّاه، فما برحت تكشف عن وجوه الإعجاز حجابها، وتكسف نور الشمس وترفع جلبابها، وتنزع عن المعميات بنور بصيرتك ثيابها.
فكتبت أنا الجواب إليه، وهو في حرمدان: يا فريداً جمع الله فيه فنون الآداب، ووحيداً علا عن الأشكال والأضراب، وخبراً بل بحراً زخرت بالعلوم أمواجه، وبل للإضراب. نزّهت بصري وبصيرتي في هذه الحدائق التي لاتزال العيون إليها محدّقة، ولا تبرح كواكبها في سماء بلاغة لا يسبح قمرها في الطريقة المحترقة، فرأيتك قد ألغزت في ظرف، حوى حُسن الشكل والظُرف، وفي الألف والنون والتركيب ولا يُمنع من الصرف، وسدساه الأولان ثلثا حرف وسدساه الآخران حرف يعبّر بألفاظه عن بابك المعمور للخائف، لأنه حرم قريب لا يوجد به حائف، حِرز لما يودع فيه، وهذا الوصف له من أجلّ الوظائف، ذو جلَد على الغربة، فبينا هو بالبلغار إذا هو بالطائف، ليس بعربي، وعهده بالعجم قد تقادم، وليس هو من بني آدم. وإذا قلبته وجدت به آدم، ولا يفوه بكلمة، ومتى عكس ثلثاه نادم، يتلون ألواناً، وما ضمّ جسده حسدا، ونصفه مرح إذا قُلب، وسدساه داء، وكله يرى ما بين جنبيه لا جفنيه رمدا، يماثل قول المحاجي الأديب، مأمن للخائف قريب. وله خواص أُخر عجيبة وصفات بعيدة إلا عن ذهنك الصافي فإنها قريبة.
هذا ما ظهر للمملوك منه، وكُشف له من الغطاء عنه. فإن وافق الصواب فهو بسعادتك وبركات خاطرك، يا شيخ الشيوخ ويُمن إرادتك، وإلا فالعذر ظاهر في القصور، وشرّ الطير يأوي الخراب وخيرها يأوي القصور. والله يمتّع الأنام بهذه الكلم اللؤلؤيات، ويمنع بفضله من تحدي لمعارضة هذه الآيات البيّنات، بمنه وكرمه.
محمد بن يوسف بن عبد الله
الحزري شمس الدين، يُعرف بابن الحشّاش، وبالخطيب.
قال شيخنا البرزالي: كان أبوه صيرفيّاً بالجزيرة.
وقال كمال الدين الأدفوي: كان ذا فنون، وكان محسناً الى الطلبة. قدمت من الصعيد في سنة ست وسبع مئة، فوجدته يدرّس بالمدرسة الشريفية، وتؤخذ عليه دروس كثيرة، فسألته أن يرتّب لي درساً، فاعتذر بضيق الوقت، ثم قال: ما لك شغل؟ فقلت: لا، فقال: تحضر بعد العصر، فإن اتفق أن تجدني اقرأ. ففعلت ذلك، فلم يخلُ يوماً من الخروج إليّ، فقرأت عليه قطعة من المنتخب في أصول الفقه، وخصّني بوقت مع كثرة أشغاله وانتصابه للإقراء الى نصف النهار.(2/471)
وكان حسن الصورة، مليح الشكل، حلو العبارة، عالماً بفنون من الفقه على مذهب الشافعي، والأصولين، والنحو، والمنطق، والأدب، مشاركاً في هندسة وغيرها من الرياضيات. قدم قوص مجرداً، فوجد بها الشيخ شمس الدين الأصبهاني حاكماً، فقرأ عليه فنونه، ثم إنه قدم مصر، واشتغل بها، وأعاد بالمدرسة الصاحبية، وأقام بالقاهرة، وولي تدريس الشريفية، وانتصب للإقراء، فقرأ عليه المسلمون واليهود وغيرهم. وكان يلقي دروساً، وتقرأ عليه طائفة، وصحب الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وارتفعت منزلته عنده مدة، ثم إنه وقع بينه وبين الشيخ نصر المنبجي فحطّ عند بيبرس من قدره، وشهد عليه بعض طلبته. وكان خطيباً بالقلعة، فعُزل عنها، وتولى الخطابة بالجامع الطولوني مدة، ثم لما عاد السلطان الملك الناصر سنة تسع وسبع مئة مشى حاله.
وتولى المدرسة المعروفة بالمعز بمصر.
وله تصانيف منها شرح التحصيل في ثلاث مجلدات، وشرح منهاج البيضاوي في مجلدة لطيفة ليست بطائل، صنّفه في آخر عمره، واعتذر في خطبته بالكِبَر، وله أجوبة على أسئلة المحصول، وشرح ألفية ابن مالك.
وكان فيه مروة وكرم أخلاق على الإطلاق، يسعى في حوائج الناس بنفسه، ويبذل جاهه لمن يقصده، ويسعفه بأربه. وله ديوان خُطب وشعر كثير.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بمصر في سادس ذي القعدة سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وقد جاوز الثمانين.
ومن شعره:
لم أصْبُ للبرق من تيماء يأتلق ... إلا وللقلب من حُبّيكم عُلَقُ
يعتاض من حرّ أنفاسٍ تلهّبه ... ثم استقل ولي في طيّه حرَقُ
يا لامع البرق إما لُحت معترضاً ... لا تستقرّ كقلب هزّهُ القلق
إني أخال خفوقاً منك في عجَل ... يهدى وقلبيَ لا يهدا به الفرَق
ويا نسيم الصبا هل لَبْثة بربى ... نجدٍ على غفلة الواشين تتفق
وسل أُهيليه عن قلبي وما صنعوا ... به فإني بما ترويه لي أثق
وعُد إليّ بما ضُمّنت من خبر ... وفي دجا الليل من ظلمائه رمق
ومل إليّ دُوين القوم مستتراً ... كي لا ينمّ علينا نشرُك العبق
أبثكم أن لي من بعدكم كبداً ... أمست إليكم بنار الشوق تحترق
أهوى المنام لمسرى طيفكم كلفاً ... به عسى مقلتي بالطيف ترتمق
وهل يخوض الكرى جفناً تقسّمه ... كما يشاء الغرام الدمع والأرق
إن أحتكم أنا والأشواق نحوكم ... يشهد بدعواي جفن من دمي شَرِقُ
لا تسمعوا فيّ أقوال الوشاة ولا ... تُصغوا سماعاً بما قالوه واختلقوا
قالوا: نَبَتْه الليالي في تقلّبها ... عن حبكم، فتناساكم وما صدقوا
ومنه:
يعيذك من نار حوتها ضلوعه ... مشوق أحاديث البُعاد تروعه
بعدت فلما يعرف النوم جفنه ... ولم يدر هل كان السكون يريعه
وكيف يلذ العيش بعدك مَن غدا ... من العمر في محل وأنت ربيعه
وها نَبْت فوديه يلوح مصوّحا ... ويبدو كمبيّض الهشيم فروعه
أقول وقد حمّلت بثّي إليكم ... نسيماً وظني أنه لا يضيعه
لعل النسيم الحاجريّ إذا قضى ... رسائله يُقضى إليّ رجوعه
ومستخبر عن حال قلبي وما الذي ... سرى منه لما بنت، قلت: جميعه
ويسألني عن ناظري ما الذي ترى ... تأخر عندي منه، قلت: دموعه
منها:
وإني متى ما ضم شملي وشملكم ... ويدعو بنا داعي الهوى لا أطيعه
فما كل حين لي دموع أريقها ... ولا كل وقت لي فؤاد تريعه
ومن شعره:
سل عن أحاديث أشواقي إذا خطرت ... رسلَ النسيم فقد أودعتها لُمعا
واستوضح البارق النجديّ عن نفسي ... بعد النوى فسيحكيه إذا لمعا
واستحك من طير غصن البان بث جوى ... أمليته فسيُمليه إذا سجعا
ومذ رمتنا النوى والله ما هدأت ... أشجان قلبي وطرفي قطّ ما هجعا(2/472)
وليس يمسك من بعد النوى رمقي ... إلا أماني قلبي أن نعود معا
محمد بن يوسف
ابن الحافظ زكي الدين محمد بن يوسف بن محمد بن يدّاس - بالياء آخر الحروف والدال المهملة المشددة، وبعد الألف سين مهملة - الشيخ الإمام العالم المرتضى بهاء الدين أبو الفضل بن أبي الحجاج بن البرزالي الإشبيلي الأصل، الدمشقي، الشافعي.
أحضره والده على جماعة، منهم السخاوي، وابن الصلاح، وكريمة، وعتيق السلماني، والمخلص بن هلال، والتاج ابن أبي جعفر، ومحاسن الجوبري، والمرجّى ابن شقيرة.
ثم توفي والده شاباً، وخلّفه، وله خمسة أعوام، فربي في حجر جده الإمام علم الدين القاسم بن أحمد اللورقي، وقرأ عليه القرآن وشيئاً من النحو، وكتب الخط المنسوب، وبرع فيه، ونسخ جملة من الكتب، وأجاز له طائفة من شيوخ بغداد ومصر والشام.
وقرأ عليه ولده شيخنا علم الدين البرزالي شيئاً كثيراً، منها الكتب الستة بالإجازات وحدّث بمصر وبدمشق وبالحجاز، وبرع في كتابة الشروط وكتب الحكم للقضاة، ورزق حظوة مع التصوّن والديانة والتقوى والتعبّد.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شوال سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة ثلاث وثلاثين وست مئة.
محمد بن يوسف بن يعقوب
ابن أبي طاهر الإربلي ثم الدمشقي الذهبي.
أجاز له أبو محمد بن البُنّ، وجماعة. وسمع من ابن المسلّم المازني، وأبي نصر بن عساكر، وابن الزبيدي، وابن اللتي، وابن مكرّم، والزكي البرزالي، وعدة. وخُرّجت له مشيخة، وذيّل عليها شيخنا الذهبي.
وكان مكثراً. وسمع السنن الكبير للبيهقي سنة اثنتين وثلاثين على المرسي. وكان شيخاً عامياً.
سقط من السُلّم فمات لوقته في شهر رمضان سنة أربع وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وعشرين وست مئة.
وكان قد تفرّد بأشياء.
محمد بن يوسف بن محمد
ابن المهتار المصري، العدل الجليل ناصر الدين أبو عبد الله بن الشيخ مجد الدين المصري ثم الدمشقي الشافعي.
سمع من ابن الصلاح، والمرجّى بن شقيرة، ومكي بن علان، وجماعة. وأجاز له ظافر بن شحم، وابن المقير. وتفرّد بأجزاء.
وكان نقيب قاضي القضاة إمام الدين القزويني.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سادس عشري ذي الحجة سنة خمس عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة سبع وثلاثين وست مئة.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليه الآداب والاعتقاد للبيهقي وعلوم الحديث والطوالات للتنوخي، وقطعة من الأجزاء. وحدّث بالزهد للإمام أحمد بكماله، وانفرد برواية علوم الحديث لابن الصلاح عن مصنّفه مدة سنين، وبقطعة كبيرة من سنن البيهقي وبالطوالات للتنوخي.
وأجاز له من دمشق السخاوي، وشيخ الشيوخ ابن حمويه، وابراهيم بن الخشوعي، وعبد الحق بن خلف وجماعة من الديار المصرية فخر القضاة ابن الحباب، وظافر بن شحم، وسبط السلفي، وابن رواج، وعلي بن زيد التسارسي، وعلم الدين بن الصابوني، وابن الجمّيزي، والسراج محمد بن يحيى بن ياقوت، وهبة الله بن محمد المقدسي، وهم من أصحاب السلفي.
محمد بن يوسف...
محيي الدين المقدسي المصري النحوي...
محمد بن يوسف بن عبد الغني
ابن تُرشَك - بالتاء ثالثة الحروف والراء والشين المعجمة وبعدها كاف - الشيخ تاج الدين المقرئ الصوفي البغدادي.
حفظ القرآن العظيم في صباه بالروايات، وأقرأه، وسمع الكثير من ابن حصين. وإجازاته عالية. وروى وحدّث، وسمع منه خلق ببغداد وبدمشق وبغيرها من البلاد.
وكان ذا سمت حسن، وخُلق طاهر، ونفس عفيفة رضيّة، وصوت مطرب الى الغاية. وقدم دمشق مراراً، وحدث، وحجّ غير مرة، ثم عاد الى بلده، وأضرّ بآخرة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة خمسين وسبع مئة.
ومولده ببغداد في شهر رجب الفرد سنة ثمان وستين وست مئة.
محمد بن يوسف بن علي
ابن يوسف بن حيان، الشيخ الإمام العالم العلامة الفريد الكامل، حجة العرب، مالك أزمّة الأدب، أثير الدين أبو حيان الأندلسي الجبّائي الجيّاني، بالجيم والياء آخر الحروف مشددة، وبعد الألف نون.(2/473)
كان أمير المؤمنين في النحو، والشمس السافرة شتاءً في يوم الصحو، والمتصرّف في هذا العلم، فإليه الإثبات والمحو، لو عاصر أئمة البصرة لبَصرهم، وأهل الكوفة لكفَّ عنهم اتّباعهم الشواذ وحذّرهم، نزل منه كتاب سيبويه في وطنه بعد أن كان طريداً، وأصبح به التسهيل بعد تعقيده مفيداً، وجعل سرحة شرحه وجْنة راقت النواظر توريدا. ملأ الزمان تصانيف، وأمال عُنق الأيام بالتواليف. تخرّج به أئمة هذا الفن، وروّق لهم في عصره منه سُلافة الدن، فلو رآه يونس بن حبيب لكان بغيضا غير محبّب، أو عيسى بن عمر لأصبح من تقعيره وهو محدّب، أو الخليل لكان بعينه قذاه، أو سيبويه لما تردّى من مسألته الزنبوريّة برداه، أو الكسائي لأعراه حُلّة جاهه عند الرشيد وأناسه، أو الفرّاء لفرّ منه ولم يقتسم ولد المأمون تقديم مداسه، أو الزيدي لأظهر نقصه من مكامنه، أو الأخفض لأخفى جملة من محاسنه، أو أبو عبيدة لما تركه ينصبّ لشعب الشعوبية، أو أبو عمرو لشغله بتحقيق اسمه دون التعلّق بعربية، أو السكّري لما راق كلامه في المعاني ولا حلا، أو المازني لما زانه قوله:
إن مصابكم رجلا
أو قطرب لما دبّ في العربية ولا درج، أو ثعلب لاستكنّ بمكره في وكره وما خرج، أو المبرّد لأصبحت قواه مفتّرة، أو الزجاج لأمست قواريره مكسّرة، أو ابن الوزان لعدم نقده، أو الثمانيني لما تجاوز حدّه، أو ابن بابشاذ لعلم أن قياسه ما اطّرد، أو ابن دريد ما بلع ريقه ولا ازدرد، أو ابن قتيبة لأضاع رَحْله، أو ابن السراج لمشّاه إذا رأى وحله، أو ابن الخشاب لأضرم فيه ناراً ولم يجد معها نورا، أو ابن الخباز لما سجر له تنورا، أو ابن القواس لما أغرق في نزعه، أو ابن يعيش لأوقعه في نزعة، أو ابن خروف لما وجد له مرعى، أو ابن إياز لما وجد لإوازّه وقعا، أو ابن الطراوة لم يكن نحوه طريّا، أو الدبّاج لكان من حلّته الرائقة عريّا.
وعلى الجملة فكان إمام النحاة في عصره شرقاً وغرباً، وفريدَ هذا الفن الفذّ بُعداً وقرباً، وفيه قلت:
سلطان علم النحو أستاذنا ... الشيخ أثير الدين حبرُ الأنام
فلا تقل زيد وعمرو فما ... في النحو معه لسواه كلام
خدم هذا العلم مدة تقارب الثمانين، وسلك من غرائبه وغوامضه طُرقاً متشعبة الأفنانين.
ولم يزل على حاله الى أن دخل في خبر كان، وتبدّلت حركاته بالإسكان.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بمنزله خارج باب البحر بالقاهرة، في يوم السبت بعد العصر، الثامن والعشرين من صفر سنة خمس وأربعين وسبع مئة، ودفن من الغد بمقبرة الصوفية خارج باب النصر، وصُلّي عليه بالجامع الأموي بدمشق صلاة الغائب في شهر ربيع الآخر.
ومولده بمدينة مطخشارش في أخريات شوال سنة أربع وخسين وست مئة.
وقلت أنا أرثيه - رحمه الله تعالى:
مات أثير الدين شيخ الورى ... فاستعر البارق واستعبرا
ورقّ من حزن نسيم الصّبا ... واعتلّ في الأسحار لما سرى
وصادحات الأيك في نوحها ... رثته في السجع على حرف را
يا عينُ جودي بالدموع التي ... يُروى بها ما ضمّه من ثرى
واجرِ دماً فالخطب في شأنه ... قد اقتضى أكثر مما جرى
مات إمامٌ كان في فنه ... يُرى أماماً والورى من ورا
أمسى منادى للبلى مفرداً ... فضمّه القبر على ما ترى
يا أسفاً كان هُدىً ظاهراً ... فعاد في تربته مضمرا
وكان جمع الفضل في عصره ... صحٌ فلما أن قضى كُسّرا
وعُرّف الفضل به بُرهة ... والآن لما أن مضى نُكّرا
وكان ممنوعاً من الصرف لا ... يطرق مَن وافاه خطب عرا
لا أفعل التفضيل ما بينه ... وبين مَن أعرفه في الورى
لا بدلٌ عن نعته بالتقى ... ففعله كان له مصدَرا
لم يدّغم في اللحد إلا وقد ... فك من الصبر وثيق العُرا
بكى له زيد وعمرو فمِن ... أمثلة النحو ومَن قد قرا
ما أعقد التسهيل من بعده ... فكم له من عُسرة يسّرا(2/474)
وجسّر الناس على خوضه ... إذ كان في النحو قد استبحرا
من بعده قد حال تمييزُه ... وحظّه قد رجع القهقرى
شارك مَن قد ساد في فنه ... وكم له فن به استأثرا
دأب بني الآداب أن يغسلوا ... بدمعهم فيه بقايا الكرى
والنحو قد سار الرّدى نحوه ... والصّرف للتصريف قد غيّرا
واللغة الفصحى غدت بعده ... يُلغى الذي في ضبطها قرّرا
تفسيره البحر المحيط الذي ... يُهدي الى ورّاده الجوهرا
فوائد من فضله جمّة ... عليه فيها نعقد الخنصرا
وكان ثبتاً نُقلُه حجةٌ ... مثل ضياء الصبح إن أسفرا
ورَحْلة في سنّة المصطفى ... أصدق مَن تسمع إن أخبرا
له الأسانيد التي قد علت ... فاستغلت عنها سوامي الذُرا
ساوى بها الأحفاد أجدادهم ... فاعجب لماض فاته مَن طرا
وشاعراً في نظمه مُفلقا ... كم حرّر اللفظ وكم حبّرا
له معانٍ كلما خطّها ... تستر ما يُرق في تُستَرا
أفديه من ماض لأمر الردى ... مستقبلاً من ربّه بالقِرى
ما بات في أبيضِ أكفانه ... إلا وأضحى سندساً أخضرا
تُصافح الحورَ له راحةٌ ... كم تعبت في كل ما سطّرا
إن مات فالذكر له خالد ... يحْيا به من قبل أن يُنشرا
جاد ثرىً واراه غيث إذا ... مسّاه بالسقيا له بكّرا
وخصّه من ربّه رحمة ... تورده في حشره الكوثرا
وكان قد قرأ القرآن على الخطيب أبي محمد عبد الحق بن علي بن عبد الله نحواً من عشرين ختمة، إفراداً وجمعاً، ثم على الخطيب الحافظ أبي جعفر أحمد الغرناطي المعروف بالطبّاع بغرناطة، ثم قرأ السبعة الى آخر سورة الحجر على الخطيب الحافظ أبي علي الحسين بن عبد العزيز بن محمد بن أبي الأحوص بمالقة.
ثم إنه قدم الإسكندرية، وقرأ القراءات على عبد النصير بن علي بن يحيى المريوطي.
ثم قدم مصر فقرأ بها القراءات على أبي الطاهر إسماعيل بن هبة الله المليجي، وسمع الكثير على الجم الغفير بجزيرة الأندلس وبلاد إفريقية والإسكندرية، وبادر مصر والحجاز، وحصل الإجازات من الشام والعراق وغير ذلك، واجتهد في طلب التحصيل والتقييد والكتابة، ولم أر في أشياخي أكثر اشتغالاً منه، لأني لم أره قط إلا يُسمع أو يشتغل أو يكتب، ولم أره على غير ذلك. وله إقبال على الطلبة الأذكياء، وعنده تعظيم لهم، ونظم ونثر، وله الموشحات البديعة.
وهو ثبت فيما ينقله، محرر لما يقوله، عارف باللغة، ضابط لألفاظها.
وأما النحو والتصريف، فهو إمام الناس كلهم فيهما، لم يذكر معه في أقطار الأرض غيره في حياته.
وله اليد الطولى في التفسير والحديث والشروط والفروع وتراجم الناس وطبقاتهم وحوادثهم، خصوصاً المغاربة، وتقييد أسمائهم على ما يتلفظون به من إمالة وترقيق وتفخيم، لأنهم يجاورون بلاد الإفرنج، وأسماؤهم قريبة من لغاتهم، وألقابهم كذلك، وقيّده وحرّره، وسأله شيخنا الذهبي أسئلة فيما يتعلق بذلك، وأجابه عنها.
وله التصانيف التي سارت وطارت وانتشرت وما انتثرت، وقرئت ودُريت، ونُسخت وما فسخت، أخملت كتب الأقدمين، وألهمت المقيمين بمصر والقادمين، وقرأ الناس عليه، وصاروا أئمة وأشياخاً في حياته، وهو الذي جسّر الناس على مصنّفات ابن مالك - رحمه الله تعالى - ورغّبهم في قراءتها، وشرح لهم غامضها، وخاض بهم لججها، وفتح لهم مُقفَلها. وكان يقول عن مقدمة ابن الجاجب: هذه نحو الفقهاء.
وكان التزم أن لا يقرئ أحداً إلا إن كان في كتاب سيبوية أو في التسهيل لابن مالك أو في تصانيفه، ولما قدم من البلاد لازم الشيخ بهاء الدين - رحمه الله - كثيراً، وأخذ عنه كتب الأدب.(2/475)
وكان شيخاً حسن العمّة، مليح الوجه، ظاهر اللون مشرَباً حمرة، منوّر الشيبة، كبير اللحية مسترسل الشعر فيها، لم تكن كثّة. عبارته فصيحة بلغة الأندلس، يعقد القاف قريباً من الكاف على أنه لا ينطق بها في القرآن إلا فصيحة. وسمعته يقول: ما في هذه البلاد من يعقد حرف القاف.
وكانت له خصوصية بالأمير سيف الدين أرغون كافل الممالك، ينبسط معه، ويبيت عنده في قلعة الجبل. ولما توفيت ابنته نُضار طلع الى السلطان الملك الناصر محمد، وسأل منه أن يدفنها في بيته داخل القاهرة في البرقية، فأذن له في ذلك، سيأتي ذكرها - إن شاء الله تعالى.
وكان أولاً يرى رأي الظاهرية، ثم إنه تمذهب للشافعي - رضي الله عنه - بحث على الشيخ علم الدين العراقي المحرر للرافعي، ومختصر المنهاج للنووي، وحفظ المنهاج إلا يسيراً، وقرأ أصول الفقه على أستاذه أبي جعفر بن الزبير، بحث عليه من الإشارة للباجي ومن المستصفى للغزالي، وعلى الخطيب أبي الحسن ابن فصيلة، وعلى الشيخ علم الدين العراقي، وعلى الشيخ شمس الدين الأصبهاني، وعلى الشيخ علاء الدين الباجي. وقرأ أشياء من أصول الدين على شيخه ابن الزبير، وقرأ عليه شيئاً من المنطق، وقرأ شيئاً من المنطق على بدر الدين محمد بن سلطان البغدادي، وقرأ عليه شيئاً من الإرشاد للعميدي في الخلاف. ولكنه برع في النحو، وانتهت إليه الرئاسة والمشيخة فيه، وكان خالياً من الفلسفة والاعتزال والتجسيم، وكان أولاً يعتقد في الشيخ ابن تيمية، وامتدحه بقصيدة، ثم إنه انحرف عنه لمّا وقف على كتاب العرش له.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: وجرى على مذهب كثير من النحويين في تعصّبه للإما علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - التعصّب المتين قال: حُكي لي أنه قال لقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة إن علياً - رضي الله عنه - عهد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق أتراه ما صدق في هذا؟ فقال: صدق، قال: فقلت له: فالذين سلّوا السيوف في وجهه، يبغضونه أو يحبونه؟ وغير ذلك.
قال: كان سيئ الظن بالناس كافة، فإذا نُقل له عن أحد خير لا يتكيف به وإذا كان شراً يتكيّف به ويبني عليه، حتى ممن هو عنده مجروح، فيقع في ذم مَن هو بألسنة العالم ممدوح، وبسبب ذلك وقع في نفس جمع كثير منه ألم كثير. انتهى.
قلت: أنا لم أسمع منه في حق أحد من الأحياء والأموات إلا خيراً، وما كنت أنقم عليه شيئاً إلا ما كان يبلغني عنه من الحط على الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، على أنني ما سمعت في حقه شيئاً، نعم سمعته كان لا يثق بهؤلاء الذين يدعون الصلاح، حتى قلت له يوماً: يا سيدي، فكيف نعمل في الشيخ أبي مدين؟ فقال: هو رجل مسلم ديّن، وإلا ما كان يطير في الهواء، ويصلي الصلوات في مكة كما يدّعي فيه هؤلاء الأغمار.
وكان فيه - رحمه الله تعالى - خشوع، يبكي إذا سمع القرآن، ويجري دمعه عند سماع الأشعار الغزلية. وقال كمال الدين المذكور، قال لي: إذا قرأت أشعار العشق أميل إليها، وكذلك أشعار الشجاعة تستميلني، وغيرهما، إلا أشعار الكرم ما تؤثر فيّ، انتهى.
قلت: كان يفتخر بالبخل كما يفتخر غيره بالكرم، وكان يقول لي: أوصيك احفظ دراهمك، ويقال عنك بخيل ولا تحتج الى السُفَّل.
وأنشدني من لفظه لنفسه:
رجاؤك فَلْسا قد غدا في حبائلي ... قنيصا رجاء للنتاج من العقم
أأتعب في تحصيله وأضيعه ... إذاً كنت معتاضاً من البر بالسقم
قلت: والذي أراه فيه أنه طال عمره وتغرّب، وورد البلاد، ولا شيء معه، وتعب حت حصّل المناصب تعباً كثيراً، وكان قد جرّب الناس، وحلب أشطر الدهر، ومرت به حوادث، فاستعمل الحزم، وسمعته غير مرة يقول: يكفي الفقير في مصر أربعة أفلس، يشتري له طُلْمة بايتة بفلسين، ويشتري له بفلس ربيباً وبفلس كوز ماء، ويشتري ثاني يوم ليموناً بفلس يأكل به الخبز. وكان يعيب علي مُشتري الكتب، ويقول: الله يرزقك عقلاً تعيش به، أنا أي كتاب أردته استعرته من خزائن الأوقاف، وإذا أردت من أحد أن يعيرني دراهم ما أجد ذلك.
وأنشدني له بإجازة:
إن الدراهم والنساء كلاهما ... لا تأمننّ عليهما إنسانا
ينزعن ذا اللبّ المتين عن التقى ... فترى إساءة فعله إحسانا
وأنشدني له من أبيات:(2/476)
أتى بشفيع ليس يمكن ردّه ... دراهم بيض للجروح مراهم
تصيّرُ صعبَ الأمر أهونَ ما يُرى ... وتقضي لُبانات الفتى وهو نائم
ومن حزمه قوله - رحمه الله تعالى:
عُداتي لهم فضل عليّ ومنّة ... فلا صرف الرحمن عني الأعاديا
هم بحثوا عن زلّتي فاجتنبتها ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
وقد مدحه كثير من الشعراء والكبار الفضلاء، فمنهم القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر:
قد قلت لما أن سمعت مباحثا ... في الذات قررها أجلُّ مفيد
هذا أبو حيان، قلت: صدقتم ... وبررتم هذا هو التوحيدي
وكان قد جاء يوماً الى بيت الشيخ صدر الدين بن الوكيل فلم يجده، فكتب بالجص على مصراع الباب، فلما رأى ابن الوكيل ذلك قال:
قالوا أبو حيان غير مدافع ... ملك النحاة، فقلت: بالإجماع
اسم الملوك على النقود وإنني ... شاهدت كُنيته على المصراع
ومدحه شرف الدين بن الوحيد بقصيدة مطوّلة، أولها:
إليك أبا حيان أعملت أينقي ... وملت الى حيث الركائب تلتقي
دعاني إليك الفضل فانقدت طائعاً ... ولبّيت أحدوها بلفظي المصدّق
ومدحه نجم الدين إسحاق بن ألمى التركي، وسأله تكملة شرح التسهيل، وأرسلها إليه من دمشق، وأولها:
تبدّى فقلنا وجهه فلق الصبح ... يلوح لنا من حالك الشعر في جنح
منها:
بدأت بأمر تمم الله قصده ... وكمّله باليمن فيه وبالنُجح
وسهلت تسهيل الفوائد محسنا ... فكُن شارحاً صدري بتكملة الشرح
ومدحه مجير الدين عمر بن اللمطي بقصيدة، أولها:
يا شيخ أهل الأدب الباهر ... من ناظم يُلفى ومن ناثر
ومدحه نجم الدين يحيى الإسكندري بقصيد، أولها:
ضيف ألمّ بنا من أبرع الناس ... لا ناقض عهد أيامي ولا ناس
عارٍ من الكِبر والأدناس ذو ترف ... لكنه من سرابيل العلا كاس
ومدحه نجم الدين الطوفي بقصيدتين، أول الأولى:
أتراه بعد هجران يصل ... ويرى في ثوب وصل مبتدِلْ
قمر جار على أحلامنا ... إذ تولاها بقدّ معتدلْ
وأول الثانية:
أعذروه فكريم مَن عذَر ... قمَرته ذات وجه كالقمَرْ
ومدحه بهاء الدين محمد بن شهاب الدين الخيمي بقصيدة، أولها:
إن الأثير أبا حيان أحيانا ... بنشره طيّ علم مات أحيانا
ومدحه القاضي ناصر الدين شافع بقصيدة، أولها:
فضضتُ عن العذب النمير ختامها ... وفتحت عن زهر الرياض كمامها
ومدحه جماعة آخرون، يطول ذكرهم.
وكتبت أنا إليه من الرحبة في سنة تسع وعشرين وسبع مئة:
لو كنت أملك من دهري جناحين ... لطرت لكنه فيكم جنى حَيني
يا سادة نلتُ في مصرٍ بهم شرفا ... أرقى به شُرُفا تنأى عن العين
وإن جرى لسما كيوان ذِكر عُلا ... أحلّني فضلهم فوق السّماكين
وليس غير أثير الدين أثّله ... فسادَ ما شاد لي حقا بلا مَيْن
حبر ولو قلت: إن الباء رُتبتُها ... من قبل، صدّقك الأقوام في ذين
أحيا علوماً أمات الدهر أكثرها ... مذ جُلّدت خُلّدت ما بين دفين
يا واحد العصر ما قولي بمتّهم ... ولا أحاشي امرأ بين الفريقين
هذي العلوم بدت من سيبويه كما ... قالوا وفيك انتهت يا ثاني اثنين
فدُم لها وبودي لو أكون فدى ... لما ينالك في الأيام من شَيْن
يا سيبويه الورى في الدهر لا عجب ... إذا الخليل غدا يفديك بالعين
يقبّل الأرض ويُنهي ما هو عليه من الأشواق التي برّحت بألمها، وأجرت الدموع دما، وهذا الطرس الأحمر يشهد بدمها، وأربت بسحّها على السحائب، وأين دوام هذه من ديمها، وفرقت الأوصال على السقم لوجود عدمها:
فيا شوق ما أبقى ويا لي من النوى ... ويا دمع ما أجرى ويا قلب ما أصبا(2/477)
ويذكر ولاءه الذي تسجع به في الروض الحمائم، ويسير تحت لوائه مسير الرياح بين الغمائم، وثناؤه الذي يتضوّع كالزهر الكمائم، ويتنسم تنسّم هامات الربا إذا لبست من الربيع ملونات العمائم.
ويشهد الله على كل ما ... قد قلته والله نعم الشهيد
فكتب هو الجواب عن ذلك، ولكنه عُدم مني.
وأنشدته يوماً لنفسي:
قلت للكاتب الذي ما أراه ... قط إلا ونقّط الدمع شكله
إن تخطّ الدموع في الخد شيئاً ... ما يُسمّى؟ فقال: خط ابن مقله
وأنشدني هو من لفظه لنفسه:
سبق الدمعُ بالمسيل المطايا ... إذ نوى من أحبّ عني رحله
وأجاد الخطوط في صفحة الخد ... ولِم لا يجيد وهو ابن مقله
وأنشدني في مليح نوتي:
كلفْتُ بنوتيّ كأن قوامَه ... إذا ينثني خوط من البان ناعم
مجاذفه في كل قلب مجاذب ... وهزاته للعاشقين هزائم
وأنشدته أنا لنفسي:
إن نوتيّ مركبٍ نحن فيه ... هام فيه صبّ الفؤاد جريحه
أقلع القلب عن سلويَّ لما ... أن بدا ثغره وقد طاب ريحه
وأنشدته أنا لنفسي أيضاً:
نوتيّنا حُسنُهُ بديع ... وفيه بدر السماء مغرى
ما حكّ برّا إلا وقلنا ... يا ليت أنّا نحكّ برّا
فأعجباه - رحمه الله - وزهزه لهما.
وأنشدني هو لنفسه في مليح أحدب:
تعشّقته أحدباً كيّساً ... يحاكي نجيباً حنين البُغام
إذا كدت أسقط من فوقه ... تعلّقت من ظهره بالسنام
فأنشدته أنا في ذلك لنفسي:
وأحدب رحت به مغرما ... إذ لم تشاهد مثله عيني
لا غرو أن هام فؤادي به ... وخصره ما بين رِدفَين
وأنشدني من لفظه في مليح أعمى:
ما ضرّ حُسن الذي أهواه أن سنا ... كريمتيه بلا شين قد احتجبا
قد كانتا زهرتي روض وقد ذوتا ... لكن حسنهما الفتّان ما ذهبا
كالسيف قد زال عند صقله فغدا ... أنكى وآلم في قلب الذي ضُربا
وأنشدته أنا لنفسي في ذلك:
ورب أعمى وجهه روضة ... تنزُّهي فيها كثير الديون
في خدّه ورد غنينا به ... عن نرجس ما فتّحته للعيون
وأنشدته أيضاً لنفسي في ذلك:
أيا حُسن أعمى لم يخف حدَّ طرفه ... محبٌ غدا سكران فيه وما صحا
إذا طار خد بات يرعى خدوده ... غدا آمناً من مقلتيه الجوارحا
وكتبت إليه استدعاء، وهو: المسؤول من إحسان سيدنا الإمام العلامة لسان العرب، ترجمان الأدب، جامع الفضائل، عمدة وسائل السائل، حجة المقلّدين، زين المقلدين، قطب المولّين، أفضل الآخرين، وارث علوم الأولين، صاحب اليد الطولى في كل مكان ضيق، والتصانيف التي تأخذ بمجامع القلب، فكل ذي لب إليها شيّق، والمباحث التي أثارت الأدلة الراجحة من مكامن أماكنها، وقنصت أوابدها الجامحة من مواطئ مواطنها، كشّاف مُعضلات الأوائل، سبّاق غايات قصّر عن شأوها سحبان وائل، فارع هضبات البلاغة في اجتلاء اجتلابها وهي في مرقى مرقدها، سالب تيجان الفصاحة في اقتضاء اقتضابها من فَرْق فرقدها، حتى أبرز كلامه جنانَ فضل جنانُ من بعده عن الدخول إليها جبان، وأتى ببراهين وجوهٍ حورُها " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " وأبدع خمائل نظم ونثر، لا تصل الى أفنان فنونها يد جان، أثير الدين أبي حيان محمد:
لا زال ميت العلم يحييه وهل ... عجب لذلك من أبي حيّان
حتى ينال بنو العلوم مرامهم ... ويُحلّهم دار المُنى بأمان(2/478)
إجازة كاتب هذه الأحراف ما رواه - فسح الله في مدّته - من المسانيد والمصنفات والسنن والمجاميع الحديثية والتصانيف الأدبية، نظماً ونثراً الى غير ذلك من أصناف العلوم على اختلاف أوضاعها، وتباين أجناسها وأنواعها، مما تلقّاه ببلاد الأندلس وإفريقية والإسكندرية والديار المصرية والبلاد الحجازية وغيرها من البلدان، بقراءة أو سماع أو مناولة أو إجازة خاصة أو عامة، كيف ما تأدّى إليه، وإجازة ما له أدام الله إفادته من التصانيف في تفسير القرآن العظيم والعلوم الحديثية والأدبية وغيرها، وما له من نظم ونثر، إجازة خاصة، وأن يثبت بخطّه تصانيفه الى حين هذا التاريخ، وأن يجيزه إجازة عامة لما يتجدد له من بعد ذلك على رأي مَن يراه ويجوّزه، منعماً متفضلاً إن شاء الله تعالى.
فكتب الجواب هو - رحمه الله تعالى: أعزّك الله ظننت بالإنسان جميلاً فغاليت، وأبديت من الإحسان جزيلاً وما باليت، وصفت من هو القتام يظنه الناظر سماء، والسراب يحسبه الظمآن ماء، يا بن الكرام وأنت أبصر من يشيم، أمع الروض النضير يُرعى الهشيم، أما أغنتم فواضلك وفضائلك، ومعارفك وعوارفك، عن نغبة من دأماء، وتربة من يهماء، لقد تبلّجت المهارق من نور صفحاتك، وتأرّجت الأكوان من أريج نفحاتك، ولأنت أعرف بمن يُقصد للدراية، وأنقد بمن يعتمد عليه في الرواية، لكنك أردت أن تكسو من مطارفك، وتتفضل من تالدك وطارفك، وتجلو الخامل في منصة النباهة، وتنقذه من لَكْن الفهاهة، فتشيد له ذكرا، وتُعلي له قدرا، ولم يمكنه إلا إسعافك فيما طلبت، وإجابتك فيما إليه ندبت، فإن المالك لا يُعصى، والمتفضل المحسن لا يقصى.
وقد أجزت لك - أيّدك الله - جميع ما رويته عن أشياخي بجزيرة الأندلس وبلاد إفريقية وديار مصر والحجاز وغير ذلك بقراءة أو سماع ومناولة وإجازة بمشافهة وكتابة ووجادة، وجميع ما أجيز لي أن أرويه بالشام والعراق وغير ذلك، وجميع ما صنّفته واختصرته وجمعته وأنشأته نثراً ونظماً، وجميع ما سألت في هذا الاستدعاء.
فمن مروياتي: الكتاب العزيز، قرأته بقراءات السبعة على جماعة، من أعلاهم الشيخ المسند المعمر فخر الدين أبو الطاهر إسماعيل بن هبة الله بن علي بن هبة الله المصري ابن المليجي آخر من روى القرآن بالتلاوة عن أبي الجود. والكتبُ الستة، والموطّأ ومسند عبد ومسند الدارمي ومسند الشافعي ومسند الطيالسي والمعجم الكبير للطبراني، والمعجم الصغير له، وسُنن الدارقطني وغير ذلك.
وأما الأجزاء فكثير جداً.
ومن كتب النحو والآداب، فأروي بالقراءة كتاب سيبويه والإيضاح والتكملة والمفصّل وجُمل الزجاجي وغير ذلك. والأشعار الستة والحماسة وديوان حبيب وديوان المتنبي وديوان المعري.(2/479)
وأما شيوخي الذين رويت عنهم بالسماع أو القراءة، فهم كثير، وأذكر الآن منهم جملة، فمنهم: القاضي أبو علي الحسن بن عبد العزيز بن أبي الأحوص القرشي، والمقرئ أبو جعفر أحمد بن سعد بن أحمد بن بشير الأنصاري، وإسحاق بن عبد الرحيم بن محمد بن عبد الملك بن درباس، وأبو بكر بن عباس بن يحيى بن غريب البغدادي القوّاس، وصفي الدين الحسين بن أبي المنصور بن ظافر الخزرجي، وأبو الحسين محمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري، ووجيه الدين محمد بن عبد الرحمن بن أحمد الأزدي بن الدهان، وقطب الدين محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن القسطلاني، ورضيّ الدين محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطبي اللغوي، ونجيب الدين محمد بن أحمد بن محمد بن المؤيد الهمداني. ومحمد بن مكي بن أبي القاسم بن حامد الأصبهاني الصفار، ومحمد بن عمر بن محمد بن علي السعدي الضرير ابن الفارض، وزين الدين أبو بكر محمد بن إسماعيل بن عبد الله بن الأنماطي، ومحمد بن إبراهيم بن ترجم بن حازم المازني، ومحمد بن الحسين بن الحسن بن إبراهيم الداري بن الخليلي، ومحمد بن عبد المنعم بن محمد بن يوسف الأنصاري بن الخيمي، ومحمد بن عبد الله بن عمر العنسي عُرف بابن النن، وعبد الله بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد العزيز الطائي القرطبي، وعبد الله بن نصر الله بن أحمد بن رسلان بن فتيان بن كامل الخرّمي، وعبد الله بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن فارس التميمي، وعبد الرحيم بن يوسف بن يحيى بن يوسف بن خطيب المزة، وعبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد العلي المصري السكري، وعبد العزيز بن عبد المنعم بن علي بن نصر بن الصيقل الحراني، وعبد العزيز بن عبد القادر بن إسماعيل الفيالي الصالحي الكتاني، وعبد المعطي بن عبد الكريم بن أبي المكارم بن منجا الخزرجي، وعلي بن صالح بن أبي علي بن يحيى بن إسماعيل الحسيني البهنسي المجاور، وغازي بن أبي الفضل بن عبد الوهاب الحلاوي، والفضل بن علي بن نصر بن عبد الله بن الحسين بن رواحة الخزرجي، ويوسف بن إسحاق بن أبي بكر الطبري المكي، واليسر بن عبد الله بن محمد بن خلف بن اليسر القشيري، ومؤنسة بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب بن شاذي، وشامية بنت الحافظ أبي علي الحسن بن محمد بن محمد التيمية، وزينتب بنت عبد اللطيف بن يوسف بن محمد بن علي البغدادي.
وممن كتبت عنه من مشاهير الأدباء: أبو الحكم مالك بن عبد الرحمن بن علي بن أبي الفرج المالقي، وأبو الحسن حازم بن محمد بن حازم الأنصاري القرطاجني، وأبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن يحيى بن عبد الله الهذلي التطيلي، وأبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن زنون المالقي، وأبو عبد الله محمد بن عمر بن جبير الجلياني العكّي المالقي، وأبو الحسين يحيى بن عبد العظيم بن يحيى الأنصاري الجزار، وأبو عمرو عثمان بن سعيد بن عبد الرحمن بن تولو القرشي، وأبو حفص عمر بن محمد بن أبي علي الحسن المصري الوراق، وأبو الربيع سليمان بن علي بن عبد الله بن ياتينن الكومي التلمساني، وأبو العباس أحمد بن أبي الفتح نصر الله بن باتكين القاهري، وأبو عبد الله محمد بن سعيد بن حمّاد بن مُحسن الصنهاجي البوصيري، وأبو العباس أحمد بن عبد الملك بن عبد المنعم العزازي.
وممن أخذت عنه من النحاة: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن الخُشني الأُبّذي، وأبو الحسن علي بن محمد بن علي بن يوسف الكتاني بن الضائع، وأبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير بن محمد بن الزبير الثقفي، وأبو جعفر أحمد بن يوسف بن علي بن يوسف الفهري اللبلي، وأبو عبد الله محمد بن ابراهيم بن محمد بن نصر الله الحلبي بن النحاس.
وممن لقيته من الظاهرية: أبو العباس أحمد بن علي بن خالص الأنصاري الإشبيلي الزاهد، وأبو الفضل محمد بن محمد بن سعدون الفهري الشنتمري.
وجملة الذين سمعت منهم نحو من أربع مئة شخص وخمسين.
وأما الذين أجازوني فعالم كثير جداً من أهل غرناطة ومالقة وديار إفريقية وديار مصر والحجاز والعراق والشام.(2/480)
وأما ما صنفته: فمن ذلك البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم، إتحاف الأريب بما في القرآن من غريب، كتاب الإسفار الملخَّص من كتاب الصفّار شرحاً لكتاب سيبويه، كتاب التجريد لكتاب سيبويه، كتاب التذييل والتكميل في شرح التسهيل، كتاب التنخيل الملخّص من شرح التسهيل، كتاب التذكرة، كتاب المبدع في التصريف، كتاب الموفور، كتاب التقريب، كتاب التدريب، كتاب غاية الإحسان، كتاب النكت الحسان، كتاب الشذا في مسألة كذا، كتاب الفصل في أحكام الفصل، كتاب اللمحة، كتاب الشذرة، كتاب الارتضاء في الفرق بين الضاد والظاء، كتاب عقد اللآلي، كتاب نكت الأمالي، كتاب النافع في قراءة نافع، الأثير في قراءة ابن كثير، المورد الغمر في قراءة أبي عمرو، الروض الباسم في قراءة عاصم، المزن الهامر في قراءة ابن عامر، الرمزة في قراءة حمزة، تقريب النائي في قراءة الكسائي، غاية المطلوب في قراءة يعقوب، المطلوب في قراءة يعقوب، النيّر الجليّ في قراءة زيد بن علي، الوهّاج في اختصار المنهاج، الأنور الأجلى في اختصار المحلّى، الحلل الحالية في أسانيد القرآن العالية، كتاب الإعلام بأركان الإسلام، نثر الزهر ونظر الزُهر، قطر الحبي في جواب أسئلة الذهبي، فهرست مسموعاتي، نوافث السحر في دمائث الشِّعر، تحفة النّدُس في نحاة أندلس، الأبيات الوافية في علم القافية، جزء في الحديث، مشيخة ابن أبي منصور، كتاب الإدراك للسان الأتراك، زهو المُلك في نحو الترك، نفحة المسك في سيرة الترك، كتاب الأفعال في لسان الترك، مُنطق الخرس في لسان الفرس.
ومما لم يكمل تصنيفه، كتاب مسلك الرشد في تجريد مسائل نهاية ابن رشد، كتاب منهج السالك في الكلام على ألفية ابن مالك، نهاية الإعراب في علمي التصريف والإعراب رجز، مجاني الهصر في آداب وتواريخ لأهل العصر، خلاصة التبيان في علمي البديع والبيان رجز، نور الغبش في لسان الحبش، المخبور في لسان اليخمور.
قاله وكتبه أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان.
وأنشدني الشيخ أثير الدين من لفظه لنفسه في صفات الحروف:
أنا هاوٍ لمستطيل أغنّ ... كلما اشتدّ صارت النفس رخوه
أهمس القول وهو يجهر سبّي ... وإذا ما انخفضت أظهر عُلوَه
فتح الوصل ثم أطبق هجرا ... بصفير والقلبُ قلقَلَ شجوه
لان دهراً ثم اغتدى ذا انحرافٍ ... وفشا السرّ مذ تكررت نحوه
وأنشدني أيضاً لنفسه:
يقول لي العذولُ ولم أُطعْهُ ... تسلّ فقد بدا للحب لحيَهْ
تخيّل أنها شانت حبيبي ... وعندي أنها زَيْن وحِليَه
وأنشدني لنفسه أيضاً:
شوقي لذاك المحيا الزاهر الزاهي ... شوقٌ شديدٌ وجسمي الواهن الواهي
أسهَرْت طرفي ودلّهت الفؤاد هوىً ... فالطرفُ والقلب مني الساهر الساهي
نبهتَ قلبي وتَنهى أن تبوح بما ... يلقاه وا شوقه للناهب الناهي
بهرتَ كل مليح بالبهاء فما ... في النيّرين شبيهُ الباهر الباهي
لهجتُ بالحب لما أن لهوت به ... عن كل فويحَ اللاهج اللاهي
وأنشدني من لفظه لنفسه:
راض حبيبي عارض قد بدا ... يا حُسنَه من عارض رائض
وظن قوم أن قلبي سلا ... والأصل لا يُعتدّ بالعارض
وأنشدني من لفظه لنفسه:
تعشّقتُه شيخاً كأن مشيبه ... على وجنتيه ياسمين على ورد
أخاد العقل يدري ما يراد من النهى ... أمنت عليه من رقيب ومن صدِ
وقالوا: الورى قسمان في شرعة الهوى ... لسود اللحى ناسٌ وناسٌ الى المرد
ألا إنني لو كنت أصبو لأمردٍ ... صبوت الى هيفاء مائسة القدّ
وسود اللحى أبصرت فيهم مشاركاً ... فأحببت أن أبقى بأبيضهم وحدي
وأنشدني من لفظه لنفسه:
ألا ما لها لُخْصا بقلبي عوابثا ... أظن بها هاروتَ أصبح نافثا
إذا رام ذو وجد سلوّاً منعنه ... وكنّ على دين التصابي بواعثا
وقيدنَ من أضحى عن الحب مُطلقا ... وأسرعت للبلوى بمن كان رائثا(2/481)
بروحي رشا من آل خاقان راحل ... وإن كان ما بين الجوانح لابثا
غدا واحداً في الحسن للفضل ثانيا ... وللبدر الشمس المنيرة ثالثا
وأنشدني لنفسه، ومن خطه نقلت:
أسحرٌ لتلك العين في القلب أم وخْز ... ولينٌ لذاك الجسم في اللمس أم خزّ
وأملودُ ذاك القدّ أم أسمرٌ غدا ... له أبداً في القلب عاشقه هزّ
فتاة كساها الحسن أفخر حُلّة ... فصار عليها من محاسنها طرز
وأهدى إليها الغصن لينَ قوامه ... فماس كأن الغصن خامره العز
يضوع أديم الأرض من نَشر طيّها ... ويخضرّ من آثارها تُرْبُه الجرْز
وتختال في بُرد الشباب إذا مشت ... فيُنهضها قدٌّ ويقعدها عجز
أصابت فؤاد الصبّ منها بنظرة ... فلا رُقية تُجدي المصاب ولا حرز
وأنشدني إجازة في مليح أبرص، ومن خطه نقلت:
وقالوا الذي قد صرت طوع جماله ... ونفسك لاقت في هواه نزاعَها
به وضحٌ تأباه نفس أولي النهى ... وأفظع داء ما ينافي طباعَها
فقلت لهم لا عيب فيه يشينه ... ولا علّة فيه يروم دفاعَها
ولكنها شمس الضحى حين قابلت ... محاسنه ألقت عليه شعاعها
وأنشدني من لفظه لنفسه في فحّام:
وعُلّقته مسوّد عين ووفرة ... وثوب يعاني صنعة الفحم عن قصد
كأن خطوط الفحم في وجناته ... لطاخة مسك في جنيّ من الورد
وأنشدني إجازة، ومن خطه نقلت:
سأل البدر هل تبدّى أخوه ... قلتُ يا بدر لن يُطيق طلوعا
كيف يبدو وأنت يا بدر باد ... أوَ بدران يطلعان جميعا؟
وأنشدني من لفظه لنفسه موشحة عارض بها شمس الدين محمد بن التلمساني:
عاذلي في الأهيف الآنسِ ... لو رآه كان قد عَذَرا
رشأ قد زانه الحَوَر ... غصنٌ من فوقه قمر
قمر من سحبه الشعر ... ثغر في فيه أم دُرَر
جال بين الدرّ واللعسِ ... خمرةٌ من ذاقها سكرا
رجّة بالردف أم كسل ... ريقة بالثغر أم عسل
وردة بالخد أم خجل ... كُحل بالعين أم كَحَل
يا لها من أعين نُعُسِ ... جلبت لناظري سهرا
مُذ نأى عن مقلتي سني ... ما أُذيقا لذّة الوسن
طال ما ألقاه من شجني ... عجباً ضدان في بدني
بفؤادي جذوة القبس ... وبعيني الماء مُنفَجرا
قد أتاني الله بالفرج ... إذ دنا مني أبو الفرج
قمرٌ قد حلّ في المهج ... كيف لا يخشى من الوهج
غيرُه لو صابهُ نفَسي ... ظنّه من حره شررا
نصب العينين لي شركا ... فانثنى والقلب قد ملكا
قمر أضحى له فلكا ... قال لي يوماً وقد ضحكا
أنت جئت من أرض أندلسي ... نحو مصر تعشق القمرا
وأما موشّحة ابن التلمساني، فهي:
قمر يجلو دجا الغلس ... بهر الأبصار مُذ ظهرا
آمنٌ من شُبهة الكلف ... ذُبت في حبّيه بالكلف
لم يزل يسعى الى تلفي ... بركاب الدلّ والصلف
آه لولا أعين الحرس ... نِلْت منه الوصل مقتدرا
يا أميراً جار مذ وليا ... كيف لا ترثي لمن بليا
فبثغر منك قد جُليا ... قد حلا طعماً وقد حلِيا
وبما أوتيتَ من كَيَس ... جُدْ فما أبقيت مُصطَبرا
بدرُ تمّ في الجمال سني ... ولهذا لقّبوه سَني
قد سباني لذة الوسن ... بمحيّا باهرٍ حسن
هو خِشفي وهو مفترسي ... فاروِ عن أعجوبتي خبرا
لك خدّ يا أبا الفرج ... زينَ بالتوريد والضّرج
وحديثٌ عاطر الأرَج ... كم سبى قلباً بلا حرج(2/482)
لو رآك الغصن لم يمسِ ... أو رآك البدر لاستترا
يا مُذيباً مهجتي كمَدا ... فُقت في الحُسن البدور مدى
يا كحيلاً كحلة اعتمدا ... عجباً أن تُبرئ الرّمدا
وبسقم الناظرين كُسي ... جفنك السّحار وانكسرا
وأنشدني من لفظه لنفسه أيضاً:
إنْ كان ليلٌ داجوخاننا الإصباحْفنورها الوهّاجيُغني عن المصباح
سلافة تبدو ... كالكوكب الأزهرْ
مزاجها شهدٌ ... وعَرفُها عنبر
يا حبذا الوِردُ ... منها وإن أسْكر
قلبي بها قد هاجْفما تراني صاحْعن ذلك المنهاجوعن هوى يا صاح
وبي رشا أهيفْ ... قد لجّ في بُعدي
بدر فلا يُخسَف ... منه سنا الخد
بلحظه المرهَف ... يسطو على الأُسْد
كسطوة الحجّاجفي الناس والسفّاحفما ترى من ناجمن لحظه السفاح
علّل بالمسك ... قلب رشاً أحور
منعّم المسكِ ... ذو مبسم أعطر
ريّاه كالمسك ... وريقه كوثرْ
غصنٌ على رجراجطاعت له الأرواحفحبّذا الآراجإن هبّت الأرواح
مهلاً أبا القاسم ... على أبي حيان
ما إن له عاصم ... من لحظك الفتّان
وهجرك الدائم ... قد طال بالهيمان
فدمعه أمواجوسرُه قد لاحلكنه ما عاجولا أطاع اللاح
يا رُبّ ذي بُهتان ... يعذل في الراح
وفي هوى غزلان ... دافَعْتُ بالراح
وقلت لا سلوان ... عن ذاك يا لاحي
سبع الوجوه والتاجهي منية الأفراحفاختر لي يا زجاجقمصال وزوج أقداح
وأنشدني من لفظه لنفسه القصيدة الدالية، التي نظمها في مدح النحو والخليل وسيبويه، ثم خرج منها الى مديح صاحب غرناطة وغيره من أشياخه، وأولها:
هو العِلم لا كالعلم شيء تراوده ... لقد فاز باغيه وأنجح قاصده
وهي قصيدة جيدة تزيد على المئة بيت. حُكي لي أن الشيخ أثير الدين - رحمه الله تعالى - نظمها وهو ضعيف، وتوجه إليه جماعة يعودونه، وفيهم شمس الدين بن دانيال، فأنشدهم الشيخ - رحمه الله تعالى - القصيدة المذكورة، فلما فرغت، قال ابن دانيال: يا جماعة، أخبركم أن الشيخ قد عوفي، وما بقي عليه باس، لأنه لم يبق عنده فضلة، قوموا باسم الله.
وأنشدني من لفظه لنفسه - رحمه الله تعالى - قصيدته السينية التي أولها:
أهاجك ربع حائلُ الرسم دارسه ... كوحي كتاب أضعف الخط دارسه
محمد بن يوسف بن عبد الله
شمس الدين، الشاعر الماهر الخياط الدمشقي الحنفي.
شاعر لا يُجارى، ومكثر لا يُبارى، قادر على صوغ القريض، وارتجال النظم الذي يشفى به المريض، طويل النفَس إذا نظم، مديد الباع إذا رقم، ذو قصائد قد طوّلها، ومدائح سوّرها وهمُه وسوّلها، ولم يكن له غوص على المعاني البديعة، ولا احتفال بطريق المتأخرين التي هي عليه وعلى أمثاله منيعة. ومع ذلك فكان بين فكيه مقراض للأمراض، وكنانة نبل أنفذ من السهام في الأعراض، لا يكاد يسلم أحد من هجوه، ولا ينجو طاهر الذيل من نجوه. وكان هجوه أجودَ من مدحه، وأوقع في النفوس لكدّه فيه وكدحه، ولكنه ذاق وبال هذا وأوذي أكثر مما آذى، إلا أنه كان كثير التلاوة، يلازم الصلاة في الحضارة والبداوة، وحج غير مرة، وقرن البعرة بالدرة.
وحججت أنا وهو في عام خمسة وخمسين وسبع مئة، ولما وصلنا الى مُعان مزّق الله من الخياط عمره، وأذهب شعره وشعره، وأتاه من نايات المنايا ما بطّل زمرَه، فدفنّاه على قارعة الطريق، وانكفّ ذاك اللسان الذي كأنه مبرد وما حمل التطريق، وجعلناه سراً مودعاً من البرية في صدر، ووضعنا الشمس في الأرض ليلة البدر، فلو كان الرفّاء موجوداً لرثى الخياط وأبّنه، ونقله بلبنه الطيب الى مقبره وجبّنه.
وعلى كل حال فقد راح الى الله وأراح، وحمل كارة أهاجيه وهو كاره وقلّ من حمل كارة واستراح، والله يسامحه في يوم عَرضه، ويعطّف عليه قلب من أخذ من عِرضه، حتى إنه يسامحه ويحالله، ويصادفه فيصادقه ويخالله.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في معان، ليلة الرابع عشر من المحرم سنة ست وخمسين وسبع مئة.(2/483)
وسألته عن مولده، فقال: في شهر رجب سنة ثلاث وتسعين وست مئة بدمشق.
كان في مبدأ حاله يتردد الى شمس الدين الصائغ، ويقرأ عليه، ويجتمع بالمجير الجوخي، ثم إنه تردد الى شيخنا العلامة شهاب الدين محمود، وكتب عنه كثيراً، وكان يثني عليه ويميل إليه.
ونظم في سنة عشرين وسبع مئة قصيدة جيمية مديحاً في قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى وأولها:
أما ولواحظ الحدق السواج ... لقد أصبحت منها غير ناجي
فقرّظها شهاب الدين محمود، وأثنى عليها، وكتب عليها فضلاء العصر، وانصقل نظمه وجاد، وشعره كثير يدخل في ست مجلدات.
وسافر الى الديار المصرية، ومدح أعيانها، واتصل بالأمير سيف الدين ألجاي الدوادار، وكان يبيت عنده. ومدح السلطان الملك الناصر بأبيات قرأها عليه قاضي القضاة جلال الدين القزويني، فرسم له براتب في كل يوم درهمين.
وأنشدني من لفظه غالب شعره لما نظم الشيخ جمال الدين بن نباتة قصيدته التائية الطنانة في الشيخ كمال الدين بن الزملكاني - رحمه الله تعالى - جعل غزلها المقدّم على المدح في وصف الخمر، وأولها:
قضى وما قُضيت منكم لُباناتُ ... متيّم عبثتْ فيه الصبابات
نظم الشيخ شمس الدين محمد بن الخياط قصيدة أخرى في وزنها ورويّها، ومدح بها الشيخ كمال الدين أيضاً، وجاء منها في الآخر ما أنشدنيه من لفظه:
ما شان مدحي لكم ذكرُ المُدام ولا ... أضحت جوامع لفظي وهي حانات
ولا طرقت حِمى خمّارة سحرا ... ولا اكتست لي بكاس الراح راحات
وإما أُسكر الجُلاس من أدب ... تدور منه على الأكياس كاسات
عن منظر الروض يُغنيني القريضُ وعن ... رقص الزجاجات تُلهيني الجزازات
عشوت منها الى نور الكمال ولم ... يدُر على خاطري دير ومشكاة
وكان الشيخ جمال الدين بن نباتة إذا جاء الى دار السعادة، يقال له: إن ملك الأمراء في القصر، فيحتاج أن يروح الى القصر الأبلق ماشياً، وقال في ذلك:
يا سائلي في وظيفتي عن ... كُنه حديثي وعن معاشي
ما حال مَن لا يزال يطوي ... مسافة القصر وهو ماشي
فقال شمس الدين جوابه، وأنشدنيه من لفظه:
يا شاعراً يخطئ المعاني ... فيما يعاني من المعاش
أنت شبيه الحمار عندي ... مركّب الجهل وهو ماش
وقد كان كتب ابن نباتة صداقاً، فخُلع عليه، فلبسه ودار به في البلد، فقال شمس الدين الخياط في ذلك، وأنشدنيه من لفظه:
ما خِلعة العقد على شاعرنا ... يوم الهنا شقاء وعَنا
رأيته فيها وقد أرخى له ... ذؤابة تُبدي عليه الحزنا
فقلت: مَن هذا الذي سواده ... سوّده بين الورى؟ قال: أنا
نباتة كان أبي، فقلت: ما ... أنبته الله نباتاً حسنا
وأنشدني من لفظه لنفسه أيضاً:
ما خلعة ابن نباتة إلا كمن ... ألقى الرياض على الكنيف المنتن
ومنها:
واختصّ عمّته بفضل ذؤابة ... هي في القلوب قبيحة في الأعين
فكأنها ذنب لكلب نابح ... تحت الدجا من فرط داءٍ مُزمن
فالله يجعلها له كفن البِلى ... ويكون غاية كل سوء يقتني
حتى يقول مسيّر في هجوه ... هذا لعَمر أبيك شرّ مكفّن
ونظم ابن نباتة ما يُكتب على دواة فولاذ:
معنى الفضائل والندى والباس لي ... والسيف مُشتهر بمعنى واحد
بالنفس أضرب في نضار ذائب ... والناس تضرب في حديد بارد
فقال شمس الدين الخياط، وأنشدنيه من لفظه:
قل للذي وصف الدواة وحسنها ... ما جئتَ عن لفظي بمعنى زائد
أسخنت عينك في نضار ذائب ... وذبحت نفسك بالحديد البارد
وكان قد سلّطه الله عليه، كلما نظم شيئاً ناقضه فيه، فهما فرزدق وجرير عصرهما، ولولا خوف التطويل لأوردت كثيراً من ذلك.
وأنشدني من لفظه له:
قصدت مصراً من ربا جلّق ... بهمّة تجري بتجريب
فلم أر الطرّة حتى جرت ... دموع عيني في المزيريب
وأنشدني من لفظه له:(2/484)
خلّفت بالشام حبيبي وقد ... يممت مصراً لعَنا طارق
والأرض قد طالت فلا تبعدي ... بالله يا مصرُ على العاشق
وأنشدني من لفظه له:
تركت لقوم طِلابَ الغِنى ... لحبّ الغناء ولهو الطرب
وعندي من زَهرٍ فضة ... وعندي من خندريس ذهب
قلت: أين هذا من قول النصير الحمامي:
أصبحت من أغنى الورى ... مستبشراً بالفرح
عندي خمرٌ ذهب ... أكتاله بالقدح
وقد ولّدت أنا من هذا معنى آخر، ونقلته الى أوراق الخريف، وقلت:
لمَ لا أكون غنياً بالخريف ولم ... أحتج الى غيره في اللهو والطرب
وكل دوحةِ بستان إذا عبثت ... بها الصَّبا نُثرت كوماً من الذهب
ولكن قول النصير أكتاله بالقدح غاية في الحسن.
وأنشدني شمس الدين الخياط له:
يا أهل مصر أنتم للعلا ... كواكب الإحسان والفضل
لو لم تكونوا لي سعوداً لما ... وافيتكم أضرب في الرمل
وأنشدني من لفظه له:
كم تُظهر الحسن البديع وتدّعي ... وبياضُ شكلكَ في النواظر مظلمُ
هل تَصدُق الدعوى لمن في وجهه ... بالذقن كذّبه السواد الأعظمُ
وأنشدني من لفظه له:
حتّام شخصي بين هذا الورى ... حيّ وفضلي عندهم ميْتُ
أبني بيوت الشعر في جِلّق ... وليس يُبنى لي بها بيت
وأنشدني من لفظه وقد أعطاه قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى جائزة:
لم يُجزني القاضي على قدْر شعري ... بل حباني مضاعف الأبيات
فلهذا أعدّها صدقات ... من عطاياه لا من الصدقات
وأنشدني من لفظه له:
ويلاه من ظبي له وجنةٌ ... شاماتها تلعب بالأنفس
لو لم تكن في خده جنة ... لما اكتسى بالعارض السندسي
وأنشدني من لفظه له:
يا كعبة الحُسن التي رُميتْ لها ... في كل قلب بالهوى جمراتُ
قد تم ميقات الصدود وقصدنا ... لو تمّ منك لوصلنا ميقات
وأنشدني من لفظه له:
قد طال فكري في القريض الذي ... من نفعه لست على طائِلِ
أمّرني زوراً فصرت امرأ ... صاحب ديوان بلا حاصلِ
وأنشدني من لفظه له في الفلوس:
يا ليت شعري أي خير يُرتجى ... للمعتفي من هذه الأزمان
لو لم يكن عُدمُ الدراهم قد بدا ... ما كان صار الفلس بالميزان
وأنشدني له في المشمش:
حبّذا مشمش يروق لطرفي ... منه حُسنٌ حديثه مشهور
قد بلاني بحبه وهو مثلي ... أصفر الجسم قلبه مكسور
وأنشدني له أيضاً:
يا أيها البحر الذي في وِرده ... رِيٌّ لقلب الحائم المتعطّش
أشكو إليك هوان شعر لم يقم ... لي رُخصه بغلو سعر المشمش
وأنشدني له أيضاً:
يا مَن به ادرأ عن مهجتي ... من حادث الأيام ما أختشي
قد أقبل الصيف وما في يدي ... من درهم للتوت والمشمش
وأنشدني له أيضاً:
لوزيُّ جلّق شيء ... يذوبُ قلبي عليه
كالسلسبيل ولكن ... كيف السبيل إليه
وأنشدني من لفظه له ما يكتب على باب:
نحن إلفان ما افتقرنا لبُغض ... لا ولا في اجتماعنا ما يُريب
نكتم السر بيننا في زمان ... كاتم السر في بنيه غريب
وأنشدني من لفظه له أيضاً:
مَن ذا الذي يُنكر فضلي وقد ... فزت من الحسن بمعنى غريب
عندي لمن يخذله دهره ... نصر من الله وفتح قريب
وكتب هو - رحمه الله تعالى - على كتابي جنان الجناس:
سرّ الفصاحة في كتابك ظاهرٌ ... وله ضياء الحسن عنك بديع
وكذا الثناء المحض في أثنائه ... بنوافج الذكر الجميل يضوع
فلذاك يُحفظ في الصدور لفضله ... وسواه يُنسى ذكره ويضيع
لله روض في جنان جناسه ... هو للقلوب وللعيون ربيع(2/485)
كم أثمرت أغصانه بفوائدٍ ... كم طاب فيها للفؤاد ولوع
ما زال يمطره الجنان سحائباً ... يُضحي بها القرطاس وهو مَريع
في طيّه نشر العلوم تأرجت ... أرجاؤه فتعطّر المجموع
سِفرٌ عن الفضل المحقق سافرٌ ... وله على القمر المنير طلوع
بيّنتَ فيه لنا الأصول فأينعت ... لجنى العقول من الأصول فروع
وشرعتَ في حلّ الرموز وقد حلا ... للفهم في ذاك الشروع شروع
لم يبق في علم المعاني ناطق ... إلا وبان به لديك خضوع
فابن الأثير ولو تأثّل مجده ... وعصى لكان لِما بنيت يُطيع
سيّرت أمثالاً لها حكم فما ... لنجومها مثل النجوم رجوع
أعليت بُنيان البديع مشيّدا ... ما لم يشيّد للزمان بديع
وأذبت لابن أبي الحديد جوانحا ... لم تُطفَ منها للحريق دموع
وأدرت أفلاكاً على أمثاله ... أضحت تروق بحسنها وتروع
وطعنت في ابن سنان عند خفاجة ... لغة فأودت بالصدور صدوع
وأنرت ما لا نوّر المصباح في ... علم البيان وفي سناه لموع
وتخلّف المعتز إذ زلّ ابنه ... وبدا بمنطقه لديك خشوع
هذا كتاب قد كبتّ به العدى ... فجنابه عن حاسديه منيع
أتعبت مَن يسري وراءك في النهى ... ومتى تساوى ظالع وضليع
ورفعت قدر العلم حين وضعته ... فتشرّف الموضوع والمرفوع
نثر حكته من الكواكب نثرةٌ ... فيها لصفحة أوجِهِ ترصيع
ونظام شعر دونه الشعرى وإن ... أمست ومنزلها عليه رفيع
شعر يروق طباقه وجناسه ... والسبر والتقسيم والتصريع
يسمو حبيباً بالمكارم إن بدا ... ويرى الوليد لديه وهو رضيع
وهي أطول من هذا، وهذا القدر منها كاف.
وله قصيدة أخرى نظمها على كتابي نصرة الثائر على المثل السائر.
وكتبت أنا على قصائد نظمها في قاضي القضاة جلال الدين القزويني وأولاده بدر الدين وجمال الدين وتاج الدين وصدر الدين - رحمهم الله: وقفت على هذه القصائد التي تدبّجت، والمدائح التي طاب ثناؤها فتأرّجت، والقوافي التي ما لوت جيدها الى غير شاعرها ولا عرّجت. فألفيتها قيد النواظر، وتنزّهت منها في روضة أخملت الخمائل النواضر، وعلمت أنها تحفة القادم وزاد المسافر وحضرة المحاضر، لو عقل الناس تلعُّبها بالمعاني وفنونها، لعلّقوها على كعبة مجاميعهم فقد علّقت العرب دونها، قد أحكمها ناظمها رصفاً، ورقّت لفظاً، وراقت معنى وشاقت وصفاً. ومزّق بها هذا الخياط أقوال ذلك الرّفا، ونبت كل قضيب في روضها فشلّ من باعِ الشعر أكفّا:
أكرم بها من قواف ... وبدرها وجمالِه
وصدرها إن تبدّى ... في تاجه وجلاله
ما للكادّ التّعب ظفر بممنوحها، ولا للشكر مندوحة عن ممدوحها، وما أظنه إلا أُدخل الجنة بسلام، ولقي جلاله وكرمه وجه ذي الجلال والإكرام، فالله يمتّع الوجود برقيّ بدره درج منبره، ويشنّف الأسماع بما يتحفها لفظه من جوهر، ويجعل الفتاوى متفيأة ظل قلمه، ويديم عليه مواد نعمه، إن شاء الله تعالى.
محمد بن يونس بن فتيان
الفاضل أبو زرعة الكناني المقدسي الشافعي.
كان شاباً فهماً ذكياً، حفظ كتباً وتفنن، وقدم الى دمشق سنة أربعين وسبع مئة. وسمع من أبي العباس الجزري والمزي والذهبي، ونسخ ومهر.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة تسع وأربعين وسبع مئة في الطاعون.
ومولده في حدود سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
محمود بن أحمد
ابن محمد بن نصر بن أبي الرضا، الشيخ العدل نور الدين أبو القاسم البعلبكي المعروف بابن رضي.
كان إمام المدرسة النورية ظاهر بعلبك، وكاتب الحكم. كتب لجماعة من القضاة أكثر من خمسين سنة. وتردد الى دمشق مرات في شهادات.
توفي - رحمه الله تعالى - في حادي عشر شوال سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وثلاثين وست مئة ببعلبك.(2/486)
محمود بن أوحد بن الخطير
شرف الدين أخو الأمير بدر الدين مسعود بن الخطير الآتي ذكره - إن شاء الله تعالى - في مكانه.
طلبه السلطان الملك الناصر محمد الى مصر بعد مقام أخيه الأمير بدر الدين مدة بالقاهرة، في شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وأعطاه طبلخاناه، وولاه الحجوبية بمصر تحت يد أخيه، ولما قُبض على تنكز - رحمه الله تعالى - وجهز أخاه الأمير بدر الدين مسعود نائباً الى غزة، جهز الأمير شرف الدين الى دمشق حاجباً صغيراً، فأقام بدمشق على الحجبة الى أن رُسم لأخيه الأمير بدر الدين مسعود بالحضور الى دمشق، فرسم للأمير شرف الدين بأن يتوجه الى صفد، فتوجّه إليها، كل ذلك في سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
ولما مات السلطان وجرى ما جرى، وولي النيابة بمصر الأمير سيف الدين قوصون، طلب الأمير بدر الدين مسعود الى مصر، وطلب أخاه أيضاً، فتوجّها إليه، وعملا الحجوبية بمصر ثانياً. ثم إن الأمير بدر الدين خرج بعد قوصون الى الشام، وأقام الأمير شرف الدين محمود على الحجبة بمصر الى أن توفي - رحمه الله تعالى - في شهر ذي القعدة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر.
ومات له ابنان وبنت وجماعة من أولاد أولاده وأولاد مماليكه في الطاعون.
وكان قد ولي شد الأوقاف بدمشق أيام تنكز في سابع صفر سنة ثلاثين وسبع مئة عوضاً عن نجم الدين بن الزيبق، ولما توجه الى مصر في التاريخ المتقدم، تولى شد الأوقاف عوضه ناصر الدين محمد بن بكتاش.
محمود بن أبي بكر بن أبي العلاء
المحدّث الفرضي شمس الدين أبو العلاء البخاري الكلاباذي الحنفي الصوفي.
تفقه ببخارى، وسمع بها، وقدم العراق، وسمع من محمد بن أبي الدنية، ومحمد بن عمر المريح، وابن بلدجي، وابن الدّباب وطائفة. وبالموصل من الموفق الكَواشي وجماعة. وبماردين ودُنيسر، وقدم دمشق، وسمع بها، ورحل الى مصر، وأكثر بها، وكتب الكثير بخطه المليح الحلو، وصنّف في الفرائض تصانيف، وكان فيها بارعاً، له أصحاب يشغلون عليه فيها. وكان ديّناً نزِهاً ورِعاً متحريّاً، سوّد معجماً لنفسه، وكان لا يمس الأجزاء إلا على وضوء وطهور.
وروى له الدمياطي، وسمع منه أشياخنا: المزي، وأبو حيان، وابن سيد الناس، والبرزالي، وقطب الدين. وسمع منه المقاتلي، والمجد الصيرفي.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بماردين في أواخر شهر ربيع الأول سنة سبع مئة.
ومولده سنة أربع وأربعين.
محمود بن أبي بكر بن حامد
ابن أبي بكر بن محمد بن يحيى بن الحسين، الشيخ الفقيه الإمام العالم المحدث اللغوي، صفيّ الدين أبو الثناء الأرموي الصوفي.
كان من أعيان طلبة الحديث، اشتغل وحصّل، وكتب الكثير ونسخ من الأجزاء والكتب الحديثية جملة. وسمع بالقاهرة جزء ابن عرفة على النجيب عبد اللطيف، وسمع بدمشق من عبد العزيز بن عبد الحارثي وجماعة من أصحاب ابن طبرزد والكندي. وقرأ مسند الإمام أحمد ببعلبك على ابن علان، وسافر الى القاهرة والإسكندرية، وسمع منه شيوخهما.
وكان يحفظ التنبيه، ورجع الى دمشق. وكان يطالع كتب اللغة، وجمع الصحاح والأزهري والمحكم وذيّل على النهاية، وكان يقرأ الحديث فصيحاً بسرعة، ثم إنه تغيّر ذهنه، وحصل له مرض بالسوداء، وكان يحاضر في بعض الأوقات، ويتكلم كلاماً حسناً، وفي بعض الأوقات يشتم من يخاطبه. وسافر الى الحجاز وحلب والقدس، وهو بهذا المرض.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في حادي عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، ودفن بالباب الصغير.
ومولده بالقرافة سنة سبع وأربعين وست مئة.
وسمع منه شيخنا الذهبي جزء ابن عرفة وغيره. وهو أخوه الشيخ المعمر شهاب الدين محمد القرافي - رحمهما الله تعالى.
محمود بن رمضان
شرف الدين بن والي الليل.
قال كمال الدين الأدفوي: رأيته والياً بأدفو ثم أسنا. وله نظم، ومدحني بقصيدة.
وتوفي بمصر - رحمه الله تعالى - سنة تسع عشرة وسبع مئة.
ومن شعره:
هجرتموني بلا ذنب ولا سبب ... وحبكم منتهى الآمال والطلب
ورمت بالقرب منكم راحةً فغدا ... قلبي يبعدكم في غاية التعب
ومذ أطعت هواكم ما عصيت لكم ... أمراً ولا ملت في حبي عن الأدب(2/487)
فما لطرفي لا يغشاه طيفكم ... بُخلاً عليّ وأنتم أكرم العرب
محمود بن طي
الشيخ جمال الدين العجلوني المعروف بالحافي.
كان إنساناً حسناً فقير الحال ذا عيال، أقام بصفد مدة، وكان يعرف بعض عربية، وينظم شعراً لا بأس به، وصحب عفيف الدين التلمساني زماناً، وأخذ عنه ذلك المذهب. وكان مع فقره وتصوفه حادّ الأخلاق.
أنشدني كثيراً من شعره وكثيراً ما رواه لي عن عفيف الدين التلمساني، وكان لعله يحظ أكثر ديوان العفيف. وبحثت معه غير مرة. وكنت أردّ مقالته، وشعّب ذهن جماعة بصفد، وأعان الله على إنقاذهم، وكان يرتزق بشهادة القسم في خاص السلطان.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بصفد في سنة أربع وعشرين وسبع مئة. وقد قارب السبعين سنة.
وكتبت أنا إليه مرة، وقد توجه الى قرية تُسمي عَلْما من قرى صفد، ومعه شخص يعزّ علي:
ألا هل تُرى نازلين ُبا عَلْما ... أحطتم بما يلقى مشوقكم عِلما
فلو شاء حملي الريح نحو خيامكم ... أتاكم بصبّ قد براه الهوى سقما
وما ضرّكم رعي العهود التي مضت ... فكم قد رعى طرفي لبعدكم نجما
شُغلت بكم عن غيركم لا عدمتكم ... فطرفٌ يرى إلا محاسنكم أعمى
وعلّمني دمعي وجوهر ثغركم ... إذا غبتم عن مقلتي النثر والنظما
ولا عجب أن جاء صبري مُحاقُه ... وحسنكم قد أخجل القمر التمّا
منعتم جفوني لذة الغمض في الدجا ... فما ذاق طرفي بعدكم للكرى طعما
فكيف قضيتم بعدكم إن أدمعي ... لعيني غسل وهي لم تبلغ الحلما
أظنكم طهّرتم بمدامعي ... عيوني لما أن رأت غيركم قِدما
ولما شكت عيني إليكم سُهادها ... حكمتم عليها أن تدوم وأن تدمى
ومَن كنتم أحبابه يا سروره ... ويا سعده إن صح لك أو تمّا
ويا فوز قلب أصبحت خطراته ... الى حبكم تسمو، وصب لكم يسمى
وإن كان عذّالي عموا عن جمالكم ... فلي أُذن عن كل ما نقلوا صمّا
فكتب هو الجواب إليّ عن ذلك، ولكني لم أجده عند تعليقي هذه الترجمة.
وأنشدني من لفظه لنفسه تخميس قصيدة جيمية للعفيف التلمساني:
بالناظر الفاتر الوسنان ذي الدعج
وما بخدّ الذي تهوى من الضّرج
قم يا نديمُ فما في الوقت من حرج
انظر الى حسن زهر الروضة البهج ... واسمع ترنّم هذا الطائر الهزج
لي الهنا قد وفت سعدي بما وعدت
ودارها قربت من بعدما بعدت
فانظر تشاهد أنوار الجمال بدت
تُجلى الرياض وقينات الحمام شدت ... والزهر يحرق عرف المندل الأرج
نُسَيمة القرب من ذاك الجمال سرت
فكم فؤاد بها سرّت وكم أسرت
وخاطر بلبلته عندما خطرت
فعاطِني يا رشيقَ القد ما اعتصرت ... يد الملاحة لي من طرفك الغنج
عزت فعزّ علينا نيل مطلبها
لما تسامت علوّاً في تمرتبها
وفي لحاظك معنى عن تطلبها
فما المدامة في سلب العقول بها ... بالسُكر أسلبُ من عينيك للمُهج
صهباء تذهب بالتبريح والترح
وتُبدِل الهمّ والأوهام بالفرح
يا طيب في ساحتي حاناتها مرحي
وإن تُرد مزجها لا تمزجن قدحي ... دعه برقة وجدي فيك يمتزج
يا ويح روحي تمادت في مآربها
واستعذبت ما تلاقي من مُعذّبها
مسلوبة قد براها عشقُ سالبها
مرّت ليالي صدود لو جمعت بها ... دمعي جرت سفنٌ منه على لجج
أشفقت من فيض آماقي على غرقي
ولم يخلّ الضنى مني سوى رمقي
وبُدِّل النومُ بالتسهيد والأرق
كم قد فتحت لضيف الطيف من حُرَق ... باب المنى فانثنى عنه ولم يلج
عليك مُذ كنتَ لي ما زلت معتمدا
لما أجلّك بالتعظيم معتقدا
ولم أحل عن عهود بيننا أبدا
وكم بذلت جميعي مجتهداً ... وصنت سرّك في قلب عليك شج
أضحى وجودي منسوباً الى العدم
وسرُ وجودي بسقمي غير مكتتم(2/488)
كم قد تبرّمت من شوقي ومن ألمي
وشمت برقاً على الجرعاء من إضم ... قلبي عليك وطرفي غير مختلج
لي البشارة أحلامي بكم صدقت
وبالرضا أحسن الأحوال قد نطقت
وكان ما صار بالحسنى التي سبقت
وهذه ليلة من لؤلؤ خُلقت ... حسناً وإن ظهرت في صبغة السبج
أكرم بها ليلةً عظّمت حرمتها
ودمت أشكر مهما عشت نعمتها
ولم أخف من صروف الدهر نقمتها
جلت ثناياك ذات الظلم ظلمتها ... ولم يكلها لضوء الشمع والسّرج
لما تجنّبت عن علمي وعن عملي
شوقاً لرؤياك يا سولي ويا أملي
أفنى فِناك فنائي وانقضى أجلي
فصار ثبتك في محوي يحقق لي ... إيجاب سلبي من ستر ومن بهج
ومذ تجلّيت في كل المظاهر لي
ولاح معناك لي في السهل والجبل
حققت رؤياك كشفاً بالعيان جُلي
فلم أقل للصّبا من بعدها احتملي ... للحيّ شخصي ولا لي في الخيام لُجي
محمود بن سلمان بن فهد
الشيخ الإمام العالم العلامة الأديب الكامل البارع الناظم الناثر القاضي الرئيس الجليل شهاب الدين أبو الثناء الحلبي الدمشقي الحنبلي، صاحب ديوان الإنشاء بدمشق.
سمع من الرضيّ بن البرهان، ويحيى بن عبد الرحمن بن الحنبلي، والشيخ جمال الدين بن مالك، وابن هامل المحدّث، وغيرهم. وكان يذكر أن له إجازة من يوسف بن خليل، وتفقه على ابن المنجا وغيره. وقرأ العربية على ابن مالك، وتأدّب بالشيخ مجد الدين بن الظهير الإربلي الحنفي، وسلك طريقه في النظم وحذا حذوه وأربى عليه، وإن كان قد تلا تلوه، لأنه كان إذا نظم أخذ الكلمات حروفاً، فإذا ركّبها صارت في الآذان شنوفاً، يرشف السمعُ منه مدامه، ويتعلم التغريدَ منها الحمامة، ويُسطرها فيرى الناس بدرها وقد استفاد تمامه، وزهرَها وقد شق الربيع كمامَه، وروضها وقد جادته الغمامه. وإذا نثر فضح الدر في السلوك، ورصّعه في تيجان الملوك، فكم من تقليد هو في يد صاحبه للسعد إقليد، وكم منشور فيه توليد، وهو بوجنة السيادة توريد، وكم من توقيع هو قنديل يضيء لمن حواه أو هو في كأس مسرّته قنديد. وخطه من أين للوشي رقمه أو للعِقْد نظمه أو للروض زهره أو لطرف الحبيب سِحره، أو للنجوم طرائقه، أو لخطوط إقليدس دقائقه، أو للفكر الصحيح حقائقه، قد نمّق أوضاعه المتأنّقة، ونسخ محاسن من تقدّمه بحروفه المحقّقة:
ينمنِمُ الخطّ لا يجتاب أحرُفَه ... والوشي مهما حكاها منه يجتابُ
لو لم يكن مستقيماً بعدما سجدت ... فيه المعاني لقلت السطرُ محرابُ
أملى تصانيف في أكمامها ثمرٌ ... تجنيه بالفهمِ دون الكف ألبابُ
وكان - رحمه الله تعالى - ممن أتقن الفنين نظماً ونثرا. وبرع في الحالين بديهة وفكرا. وكان هو يزعم أن نثره أحسنُ من نظمه، وأن بدره فيه أكمل منه في تمّه.
والذي أراه أنا، وأبرأ فيه من العناية والعنا، أن نظمه أعذب في الأسماع، وأقرب الى انعقاد الإجماع، لأنه انسجم تركيباً وازدحم تهذيباً، فسحر الألباب، ودخل بالعجب من كل باب، وإن كان نثره قد جوّده، وأجراه على قواعد البلاغة وعوّده، فإن شعره أرفع من ذلك طبقة، وأبعدُ شأواً على من رام أن يلحقَهْ، وهو يحذو فيه حذو سبط التعاويذي. وقصائده مطوّلة فائقة، ليس يرتفع فيها ولا ينحطّ، بل هي أنموذج واحد ليس فيها ما يُرمى. ولم يكن بغوّاص على المعاني ولا يقصد التورية، فإنها جاءت في كلامه قليلة، ومقاطيعه قليلة، ولكن قصائده طويلة طائلة هائلة، لعلها تجيء في ثلاثة مجلدات أو أربعة، ولم يجمعها أحد، وهي كما قال ابن الساعاتي:
ناطقاتٌ بكل معنىً يضاهي ... نُكَتَ السّحر في عيون الملاح
من نسيب يهزّ عاطفة المج ... د ومدح يلين قلب السماح
وأما نثره فيجيء في ثلاثين مجلدة. وكان أخيراً بالديار المصرية، يُنشئ هو ويكتب ولده القاضي جمال الدين إبراهيم، فيجيء المنشور أو التوقيع فائقاً في خطه ولفظه.(2/489)
وعلى الجملة فلم أر مَن يصدق عليه اسم الكاتب غيره، لأنه كان ناظماً ناثراً، عارفاً بأيام الناس وتراجمهم ومعرفة خطوط الكتّاب، وله الروايات العالية بأمها كتب الأدب وغيره، ورأى الأشياخ وأخذ عنهم. وعُيّن في وقت بالديار المصرية لقضاء الحنابلة.
وهو - رحمه الله تعالى - أحد الكلمة الذين عاصرتهم وأخذت عنهم. وكان يكتب الإنشاء أولاً بدمشق، ثم إن الصاحب شمس الدين بن السلعوس نقله الى الديار المصرية لما توفي القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، وتقدم ببلاغته وكتابته وإنشائه وسكونه وتواضعه.
وأقام بالديار المصرية الى أن توفي القاضي شرف الدين بن فضل الله بدمشق، فجُهز مكانه الى دمشق صاحب ديوان الإنشاء، فأقام بها الى أن توفي - رحمه الله تعالى - ليلة السبت ثاني عشري شعبان سنة خمس وعشرين وسبع مئة بدار الفاضل بدمشق داخل باب الناطفانيين، وصُلي عليه ضحى يوم السبت بالجامع الأموي، وصلى عليه نائب الشام الأمير سيف الدين تنكز والأعيان برّا باب النصر، ودفن التي عمّرها لنفسه بالقرب من مسجد ابن يغمور، وصُلي عليه بمكة والمدينة.
ومولده في شعبان سنة أربع وأربعين وست مئة.
وكان محباً لأهل الخير والصالحين، مواظباً على النوافل والتلاوة والأدعية، يستحضر ذلك، ويذكر الموت دائماً، وعنده خوف من الله - تعالى - وعليه سكينة كبيرة ووقار.
ولما مات رحمه الله تعالى كنت بالديار المصرية فقلتُ أرثيه، ولم أكتب بها الى أحد:
ما حُزن قلبي في البلوى بمحدودِ ... ولا فؤادي في السّلوى بمعدودِ
فلا تذمَّ امرأ يبكي الدماء على ... أبي الثناء شهاب الدين محمود
يا ساري الليل يبغي الفضلَ مجتهداً ... ارجع وحُطَّ عن المهريّة القُود
مات الإمام الذي كنا نؤمّ له ... فيما نؤمّله من غير تفنيد
وأقفرت ساحةُ الآداب واندرستْ ... معالم العلم منه بعد تشييد
أما ترى كيف كتّاب الأنام غدت ... أوراقُهم وهي فيه ذات تسويد
هو الإمام الذي لما سما كرماً ... ألقت إليه المعاني بالأقاليد
طوفان علم جرَت فيه السّفينة من ... آدابه واستوت منه على الجودي
فليس باغي معاليه بذي ظَفَرٍ ... وليس راجي أياديه بمردود
كأن أقلامه في الكفّ بانُ نَقىً ... حمائم السّجع منها ذات تغريد
فيرجع الطّرس من نقش عليه بدا ... كأنّه نقش كفّ الكاعب الرود
كم قلّد الدهر عقداً من قصائده ... بدُرّ لفظٍ بديع الرّصفِ منضود
وكم حبا الملكَ تيجان البلاغة من ... تلك التواقيع أو تلك التقاليد
وكم أفاد المعاني من بلاغته ... ما زانها باختراعاتٍ وتوليد
فصال إذ صان سرّ الملك منفرداً ... على الأعادي بكيدٍ غير مكدود
فلا قوامُ القَنا يهتزّ من مرح ... ولا خُدود المواضي ذات توريد
وليس يُسمَع للأبطال همهمةٌ ... رعودها خار منها كل رِعديد
تدبير مَن حلبَ الأيام أشطرها ... مهذّب الرأي في عزم وتسديد
أراه إن قام ذو فضلٍ بمنصبه ... قال البيانُ له قُم غير مَطرود
أمّا ترسُّلُه السهل البديع فقد ... أقام في شاهقٍ بالنّجم معقود
أنسى الأنام به عبد الرحيم كما ... راح العماد بقلبٍ غير معمود
تراهُ إن أعمل الأيام مُرتَجلاً ... قال البيانُ لها يا سُحبَنا جودي
يُملي ويكتبُ من رأس اليراع بلا ... فِكرٍ فيأتي بسحرٍ غير معهود
إذا سمعنا قوافيه وقد نجزَت ... تقول من طرَبٍ ألبابنا عيدي
شاعَت فضائلُهُ في الناس واشتهرت ... وبات يُنشدها الرُكبانُ في البيد
يا مَن رجعتُ به في الناس معرفةً ... من بعد ما زال تنكيري وتنكيدي(2/490)
ساعدت فيكَ حمامُ الأيكِ نائحةً ... فقصّرت فيك عن تَعداد تَعديدي
لهفي عليك وهل يُجدي التلهّف أو ... يفكّ أسرَ فؤادٍ فيك مصفود
وحُرقَتي فيك لا يُطفي تلهّبها ... دمعي ولو سال في خدّي بأخدود
فلا جفَت قبركَ الأنواءُ وانسجمت ... عليه يا خير ذي صمتٍ وقد نودي
وكنتُ قد قرأت عليه المقامات الحريرية وانتهيت منها الى آخر المقامة الخامسة والعشرين في سنة ثلاثة وعشرين وسبع مئة، فكتب هو عليها: قرأ عليّ المولى الصدر فلان الدّين، نفعه الله بالعلم ونفع به، من أوّل كتاب المقامات الى آخر الخامسة والعشرين قراءة تُطرب السامع وتأخذ من أهواء القلوب بالمجامع، وسأل منها عن غوامض تدلّ على ذكاء خاطره المتّقد، وصفاء ذهنه العارف منه بما ينتفي وينتقد. ورويتها له عن الشيخ الإمام مجد الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن الظهير الإبلي، وساق سنده الى الحريري ثم إنه كتب لي على آخرها وقد كمّلت قراءتها عليه بدمشق في ثاني عشر شهر الله المحرّم سنة أربع وعشرين وسبع مئة: قرأ عليّ المولى الكبير الرئيس العالم الفاضل المُتقِن المُجيد نظماً ونثراً المحسن في كل ما يأتي به من الأنواع الأدبية بديهة وفكراً. فلانُ الدين نفعه الله بالعلم ونفع به كتاب المقامات الحريرية قراءة دلّت على تمكنه من علم البيان واقتداره على إبراز عقائل المعاني المستكنّة في خدور الخواطر مجلوّة لعيان الأعيان. وإنه استشفّ أشعة مقاصدها بفكره المتّقد، وفرّق بين قيم فرائدها بخاطره المنتقد، فما تجاوز مكاناً إلا وأحسن الكلام في حقيقته ومجازه، ولا تعدّى بياناً إلا وأجمل المقال في تردد البلاغة بين بسط القول فيه وإيجازه، ورويته له عن فلان، وذكر السند على العادة.
وكتب هو لي أيضاً على كتاب الحماسة: قرأ عليّ الصدر فلان الدين قراءة مطّلع من البلاغة على كنوزها، مميّز في الصناعة بين لُجين بديعها وإبريزها: باحثٍ عن إبراز مقاصدهم التي لا توجد في كلام مَن بعدهم، عالم بقيم فرائدهم التي إذا ساواها بغيرها نُقّاد الأدباء بسرح الامتحان والسبك نقدهم. ثم ذكر سنده فيها، على العادة.
وكتب هو أيضاً على كتابه أهنا المنائح في أسنى المدائح مما نظمه هو في مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم: قرأ عليّ المولى فلان الدين أيّده الله تعالى هذا الكتاب والزيادات الملحقة في آخره من نظمي أيضاً قراءةً دلّت على وفور علمه، وثبْت رويّته في استنباط المعاني وقوة إدراكه وسرعة فهمه، وشهدتْ بتمكّنه في هذه الصناعة، وأنبأتُ عما يُجريه فكره من مواد البراعة على لسان اليراعة، وأذنتُ له أن يرويها عني، وغيرها مما قرأه عليّ وما لم يقرأه من نظمي ونثري ومسموعاتي وإجازاتي.
وكتبتُ أنا في آخر كتابه حسن التوسل الى صناعة التّرسّل بعدما قرأته عليه في شهر رجب سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة: قرأت هذا الكتاب على مصنّفه الشيخ الإمام:
العالمُ العلامة الحبر الذي ... بهرت عجائبه بني الآداب
ودنت لديه المشكلاتُ وطالما ... جمحت أوابدُها على الطُلاب
من كل قافيةٍ تهزّ معاطف ال ... أيّام من سُكر بغير شراب
ورسالةٍ غلبت عُقول أولي النُهى ... وتلعّبت بالسحر للألباب
الألمعي أخي الفواضل والنّدى ... الكامل الأدوات والأسباب
المفوّه، المدبّر، المشير، السفير، يمين المُلك، يمين الملوك والسلاطين، شهاب الدين أبي الثناء محمود صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالشام المحروس:
لا برِحَت أبكارُ أفكاره ... تُجلى لنا في حبر الحِبر
وروضة الآداب مفترّة ... من لفظه عن يانع الزهّر
ابن المولى الوليّ الصالح السعيد زين الدين سلمان بن فهد رحمهما الله تعالى في مجالس آخرُها التاريخ المذكور، وقد رأى أن ينظمني في سلك خدَمه ويُفيض عليّ كما أفاض عليهم ملابس نعمه، ويحشُرني في زمرة الآخذين عنه ويُقبسني أنوارَ كماله في التهذيب الذي لم تطمح النفسُ الأبية أن تقبسها إلا منه.
وكتبتُ أنا على أول هذا الكتاب:
إذا كُنتَ بالإنشاء حلْف صبابةٍ ... فقُم واتخذ حُسن التوسل واسطَهْ(2/491)
به ختم الآدابَ مُنشيه للورى ... ولكن غدا في ذلك العقد واسطه
إمامٌ له في العِلم والجسم بسطةٌ ... وكفٌ غدت في ساحة الفضل باسطَهْ
فطوبى لمن أضحى نزيلَ مقرّه ... وقابلَه يوماً وقبّل باسطَهْ
فلما وقف هو عليها كتب إليّ رحمه الله تعالى:
أذا الدّرّ أم ذا الزّهر لو كان حاضراً ... محاسنه حسّانُ أصبح لاقطَهْ
وذا البدر حيثُ البدر في كبدِ السّما ... على حبّه أطيار عقلي ساقطَه
تفضّلت غرسَ الدّين لما تقبّلت ... علومُك أعمالاً من النقص حابطَه
وشيّدت إذ قيّدتَ فينا ضوابطاً ... قواعدُها لولا وجودُك هابطَه
وقرأت عليه بعض ديوان أبي الطّيب. وقرأت عليه ألفية ابن مالك ورواها لي عن المصنّف.
ولما قرأت عليه قوله في كتاب حُسن التّوسل:
فلم أرَ مثلَ نشرِ الروض لما ... تلاقينا وبنت العامريّ
جرى دمعي وأومضَ برق فيها ... فقال الروضُ في ذا العام ريّي
أخذتُ في الزهزهة لما في هذين البيتين من الجناس المركب، وبالغتُ في الثناء عليهما فقال لي: خُذ نفسك بنظم شيء في هذه المادة، فامتنعتُ فقال: لابد من ذلك، فغبت عنه يومي، وجئته في اليوم الثاني وأنشدته لنفسي في هذه المادة:
بقول الشافعيّ اعْمَل تُحقّقْ ... مُناك فما ترى كالشّافعيّ
فكم في صحبه من بحر علمٍ ... ومن حَبْرٍ ومن كشّاف عِيّ
فقال: حسن، وعجّب بهما الحاضرين. ثم قال: إلا أن قافيتي أنا رائيّة، فغبتُ عنه يومي وأتيته في غد، وأنشدته لنفسي:
أرى في الجَودريّة ظَبي أُنس ... فيا شَغفي به من جو دريّ
لبارق فيه سحّتْ سُحبُ دمعي ... فقال الروضُ إنّ الجودَ ريّ
وأنشدته لنفسي أيضاً:
أقول لمُقلتي لما رَمَت في ... فؤادي حسرةً من عنبريّ
سلمتِ وبات قلبي في عذابٍ ... ألم يخشى فؤادك عن بريّ
فقال: حسنٌ لسنٌ، وزاد في الإعجاب بذلك، ثم قال: إلا أن قافيتي أنا مؤسّسة، يعني أن فيها الألف، فأتيته في اليوم الثاني وأنشدته لنفسي أيضاً:
مليكٌ كم سحاب سحّ لي من ... نداهُ الهامعيّ الهامريّ
وقال السّيف في يُمناهُ لما ... رأى الأعداء: من ذا الهام ريّي
فقال: أجدتَ، ولكن أنا بيتاي في غزل، وهذان في مديح، فغبت عنه يومي، وجئته في اليوم الثاني وأنشدته لنفسي:
مليحٌ جاء بعد الحجّ يُذكي ... غَرامي بالنّسيم الحاجريّ
تلظّت منهُ أشواقي بقلبي ... وقالت: عند هذا الحاج رييّ
فزاد في تقريظهما والثناء عليهما، فقلت: يا سيدي، والله ما يلحقك أحد في بيتك، ولو كان المطوّعي أو البُستي. قال: ولمَ ذاك؟ قلت: لأنك شاعرٌ مجيدٌ فحلٌ وقعتَ على المعنى بكراً فلم تدع فضلة لغيرك ليأتي به في تراكيبك العذبة الفصيحة ومعناه الحسن البليغ، فبالغ في الجبر والصدقة.
وأنشدني من لفظه لنفسه:
قُل لي عن الحمّام كيف دخلتها ... يا مالكي لتسُرَّ خِلاً مُشفقا
أدخلتَها وأولئك الأقوام قد ... شدّوا المآزِر فوق كثبانِ النّقا
فاستحسنتُهما، وأنشدته لنفسي مضمّناً في اليوم الثاني:
مليحٌ أتى الحمّام كالبدر في الدُجا ... ومبسمُه يُزري بزهرِ الكواكب
وأردافُهُ من تحت مئزره حكَت ... بياض العطايا في سَواد المطالبِ
فأعجبه هذا التضمين كثيراً، وأنشدني يوماً له:
إذا كان من أهواهُ روحي وراحتي ... ولُقياهُ أرجى من حياتي وأرجحُ
وأظمأني منهُ الزّمانُ بفقدِه ... فلا شكّ أن الموت أروى وأروحُ
فاستحسنتُهما، وأنشدته لنفسي في اليوم الثاني:
لئن كان ما بي عنك في الحبّ خافياً ... فلا شكّ أن الله أعلى وأعلم
وإن كنتَ في إنسانِ عيني ممثَّلاً ... ففي خاطري ذكراكَ أغرى وأغرم
وإن كنتَ أذكيتَ الجوى بمدامعي ... فنارُ الهوى في القلب أضرى وأضرَم(2/492)
وإن كنت تختارُ المنى في منيّتي ... فوالله إنّ الموت أسلى وأسلَم
فقال: نفَسٌ جيد دالّ على التمكّن والقدرة، ولكن اجتهدْ إذا عارضت أحداً أن يكون قولك في وزنه ورويّه، فأنشدته في اليوم الثاني:
لئن طلبتُ نفسي السّلوَّ عن الذي ... تلفْتُ به فالصّبرُ أنجى وأنجَحُ
فقُل للحَيا الهتانِ أمسِك ولا تَرُم ... مُساجلَتي فالدّمع أسمى وأسمحُ
فقال رحمه الله تعالى: أجدتَ بارك الله فيك.
وأنشدني يوماً لنفسه قوله:
غريبٌ سبَوا نَومي ولم تدرِ مُقلتي ... كما سلبوا قلبي ولم تشعُر الأعضا
وطلّقت نومي والجفونُ حواملٌ ... فمن أجلِ ذا في الخدّ أبقَت لها فرضا
فغبتُ عنه وأنشدني في اليوم الثاني:
سننتَ السُهادَ بمنعِ الكَرى ... فأظهرتَ في حالة بِدعتَيْن
وصيّرتَ تكرارَ دمعي على ... خُدودي من فوقها فرضُ عيْن
فأعجباه كثيراً.
وأنشدني قوله أيضاً مما كتب به الى الملك المظفّر صاحب حماة:
أمّلتُ أنك لا تزالُ بكلِّ مَنْ ... ناواكَ من كلِّ الأنام مُظفّرا
ورجَوتُ أن تطأ الكواكب رِفعةً ... من فوق أعناقِ الورى وكذا جرى
فغبتُ عنه وأنشدته في اليوم الثاني:
أمّلت أن تتعطفوا بوصالكم ... فرأيتُ من هجرانكم ما لا يُرى
وعلِمتُ أن بعادكُم لا بدّ أن ... يَجري له دمعي دماً وكذا جرى
فأعجباه كثيراً وزهزهَ لهما.
وأنشدني من لفظه لنفسه يعارض ابن الخِيَمي:
قضى، وهذا الذي في حبّهم يجبُ ... في ذمّة الوجد تلكَ الروح تحتسِبُ
ما كان يوم رحيل الحيّ عن إضَمٍ ... لروحِهِ في بقاءٍ بعدَهُم أرَبُ
صبٌّ بكى أسفاً والشّملُ مجتمِعٌ ... كأنه كان للتفريقِ يرتقبُ
نأوْا فذابت عليهم روحُه أسفاً ... ما كان إلا النوى في حتفه سببُ
طوبى لمن لم يبدَّلْ دينَ حبِّهم ... بل ماتَ وهو الى الإخلاص منتسبُ
لو لم يمُت فيهم ما عاشَ عندَهم ... حياتُه من وفاةِ الحب تكتسبُ
بانوا وفي الحيّ ميتٌ ناح بعدَهم ... وُرْقُ الحمام وسحّت دمعَها السُّحُبُ
وشقّ غصنُ النّقا من أجله حَزَنا ... جيوبَه وأديرت حوله العُذبُ
وشاهدَ الغيثُ أنفاساً يصعّدها ... فعاد والبرقُ في أحشائه لهبُ
لو أنصفوا وقفوا حِفظاً لمهجتِه ... إن الوقوفَ على قَتلى الهوى قُرَبُ
يا بارقَ الثّغر لو لاحَت ثغورُهُم ... وشِمْت بارقها ما فاتكَ الشّنبُ
ويا قضيبَ النقا لو لم تجد خبراً ... عند الصَّبا منهم ما هزّك الطّربُ
ويا حيا جادَهم إن لم تكُن كلِفاً ... ما بالُ عينيكَ منها الماءُ ينسكبُ
بالله يا نَسمات الرّيحِ أين همُ ... وهل نأوْا أو دموعي دونَهم حُجُبُ
بالله لمّا استقلوا عن ديارهم ... أحنّت الدار من شوقٍ أم النجبُ
وهل وجدتَ فؤادي في رحالِهم ... فإنه عندَهُم من بعضِ ما سلبوا
نأوا غِضاباً وقلبي في إسارِهم ... يا لَيتَهُم غصَبوا روحي ولا غَضِبوا
عساك أن تعطفي نحوي معاطفَهم ... فالغصنُ بالريح ينأى ثم يقتربُ
وإن رجعتِ إليهم فاذكُري لهُم ... أني شرّقت بدمعِ العين مُذ غرَبوا
ثم اذكُري سفحَ دمعي في معاهدِهم ... لا يُذكَر السَّفْح إلا حن مغترب
قلت: فأعجبتني هذه القصيدة وهزّت أعطافي طرباً، لما هزأت بالروض وقد مرّت به نسمة الصبا وفارقته. وتوفي رحمه الله تعالى فأنشدتها يوماً بالقاهرة لبعض الأصحاب الأفاضل فألزمني بنظم شيء في هذه المادة، فاستعفيت، فلم يسعف بالإعفاء، فقلتُ مع اعترافي بأنه شهاب في أوجه، وأنا في حضيض من الحظ:
يا حيرةً مُذ نأوا قلبي بهم يجبُ ... ولو قضى ما قضى بعضَ الذي يجبُ(2/493)
سرتُم وقلبي أسيرٌ في حُمولكُم ... فكيف يرجعُ مُضناكُم وينقلبُ
وأيُّ عيشٍ له يصفو ببعدكُم ... فالجسمُ منسبِكٌ والدّمع منسكبُ
ناحَت عليّ حَمامات اللّوى وونَت ... ولو رثَتْني ما في فِعلها عجَبُ
تملي عليّ حمامات اللّوى ورثت ... ولو رثتني ما في فعلها عجب
والغَيثُ لما رأى ما قد مُنيتُ به ... فكلّه مُقَلٌ بالدمع تنسكبُ
بالله يا صاح روّحْني بذكرِهم ... وزِدْ عسى أن يخفّ الوجدُ والوصَبُ
ويا رسولي إليهم صِفْ لهم أرَقي ... وأنّ طرْفي لضيفِ الطّيفِ يرتقبُ
واسْأل مواهبهُم للعين بعضَ كرى ... عساي أن يهبوا لي بعض ما نهبوا
ولطّفِ القولَ لا تسأم مُراجعةً ... واشْكُ الهوى والنّوى قد ينجح الطّلبُ
عرّض بذِكري فإن قالوا أتعرفهُ ... فسَل لي الوصلَ وأنكرني إذا غضبوا
ذكّرهُمُ بليالٍ قد مضت كرَماً ... وهم نُجومي بها لا السبعة الشُهُبُ
همُ الرّضا والمُنى والقصدُ من زمني ... وكل ما أرتجي والسّول والأربُ
وهم مُرادي على حالَيْ وفاً وجَفاً ... وبُغيتي إن نأوا عنّي أو اقتربوا
وهم ملاذي إذا ما الخَطبُ خاطبَني ... وهم عياذي إذا ما نابَتِ النّوَبُ
هم روحُ جسمي الذي يحيا لشقوتِه ... بهم فإن حياتي كلها تعبُ
هم نورُ عيني وإن كانت لبُعدِهم ... أيامَ عيشيَ سوداً كلها عطبُ
إن يحضُروا فالبُكا غطّى على بصري ... فهم حضورٌ وفي المَعنى همُ غُيُبُ
وإن يغيبوا وأهدَوا طيفَهم كرَماً ... فالسّهدُ من دون ما يهدونَهُ حجُبُ
فلو فرضت انقطاعَ الدّمع لم أرهمْ ... وصدّهُم عني الإجلالُ والرّهَبُ
فما تملّت به عيني بلِ امتلأت ... بأدمعٍ خجِلَت من دونها السُحُبُ
لم تُتركِ التُرك في شمسٍ ولا قمرٍ ... حُسناً لغيرهم يُعزى وينتسبُ
لكنهم لم يفوا أن عاهدوكَ على ... ودٍّ وما هكذا في فعلها العربُ
خلا الغزالُ الذي نفسي به علقت ... فكم لهُ من يدٍ في الفضلِ تُحتَسَبُ
له لطافة أخلاقٍ تعلِّمُ مَن ... لا يعرفُ الوجدَ كيف الذلّ والحرَبُ
ولحظهُ الضيّق الأجفانِ وسّعَ لي ... هُمومَ وجدٍ لها في أضلُعي لهبُ
سُيوفُ أجفانه المرضى إذا نظرت ... تغري الجوانح لا الهنديةُ القضبُ
إذا انثنى سلبُ الألباب معطفه ال ... بادي التأوّد لا الخطيّة السلُبُ
وإن بدا فبُدورُ الأفقِ في خجلٍ ... تُرخى على وجهها من سُحبها نقبُ
يا برقُ لا تبتَسِم من ثغره عجَباً ... قد فاتَ معناكَ منه الظلْمُ والشّنبُ
ويا قضيبَ النّقا لو هزّ قامتَهُ ... لكُنتَ تسجدُ إجلالاً وتقتربُ
شمعي ضِيا فرقه والوردُ وجنته ... والريقُ خمري لا ما يعصرُ العنبُ
ومذ رشفتُ لماهُ وهو مبتسمٌ ... ما راقَ لي بعده خمرٌ ولا حبَبُ
قلت: وقد سقتُ في ترجمة ابن الخيمي في تاريخي الكبير قصيدته البائية والقصيدة التي نظمها ثانياً لما تحاكم هو ونجم الدين بن إسرائيل الى شرف الدين بن الفارض، وغير ذلك مما نظمه العفيف التّلمساني وغيره.
وأنشدت يوماً أيضاً بعض الأصحاب الأغرّة بالقاهرة قولَ شيخنا شهاب الدين أبي الثّناء محمود رحمه الله تعالى، وهو:
تثنّى وأغصانُ الأراك نواضرٌ ... فنُحتُ وأسراب من الطّيرِ عكفُ
فعلّم باناتِ النّقا كيف تنثني ... وعلّمت ورقاءَ الحِمى كيف تهتِفُ(2/494)
فألزمني بنظم شيء في هذا المعنى، فقلت: هذا يتعذر، لأن هذا استوفى المعنى ولم يترك فيه فضلاً، وجوّد النظم فألفاظه في غاية الفصاحة وتراكيبه في غاية الانسجام، فقال: لابد من ذلك، فقلتُ أنا مختصراً:
لم أنسهُ في روضةٍ ... والطّيرُ يصدحُ فوقَ غُصن
فأعلّم الوُرق البُكا ... ويعلم البانُ التثنّي
وأنشدته يوماً أيضاً من قصيدة:
وإن تُرِدْ عِلمَ بديعِ الهوى ... بين الورى فأتِ فعنديَ المُرادُ
الأبيات كلها، وقد تقدمت هذه القصيدة في ترجمة الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل بن علي صاحب حماة، فأعجبه ذلك، وألزمني نظم شيء في هذه المادة، فنظمت ولكن ذاك بنى وأنا هدمت:
أنا والحبيبُ ومَن يلومُ ثلاثةٌ ... لهُم بديعُ الحبِّ أصبحَ ينتمي
فلي الجِناسُ لأن دمعي عن دَمي ... يجري ألستَ تراهُ مثلَ العندمِ
وله مُطابقةُ التواصل بالجَفا ... ولعاذليه لزومُ ما لم يلزمِ
وقلت أنا أيضاً في هذه المادة:
لا تعجَبوا منه فما حُسنُه ... إلا بليغٌ حِرْتُ في وصفهِ
إن كان قد أوجزَ في خصرهِ ... فإنه أطنَبَ في رِدفهِ
وما أتى بالواوِ في صُدغِه ... إلا وقد رتّب في عِطفهِ
ولفّ في البُردةِ أعطافهُ ... حتى يطيبَ النشْرُ من لفّهِ
وأنشدني شيخنا المذكور رحمه الله لنفسه:
رأتْني وقد نالَ مني النّحولُ ... وفاضَتْ دموعي على الخدّ فَيضا
فقالت بعيني هذا السّقامُ ... فقلتُ صدقتِ وبالخَصْرِ أيضا
قلت: هو من قول الأرّجاني:
غالطَتْني إذ كسَت جسمي الضّنا ... كُسوةً أعرَت من اللّحمِ العِظاما
ثم قالت أنت عندي في الهوى ... مثل عيني، صدقَتْ ولكن سِقاما
وأنشدني لنفسه الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة:
ومَلولة في الحبّ لما أن رأتْ ... أثرَ السّقامِ بعظْمي المُنهاضِ
قالت: تغيّرنا. فقلتُ لها: نعم ... أنا بالسّقامِ وأنتِ بالأعراضِ
قلت: لا يقال إلا عظم مهيض، وأما منهاض فما أعرفه ورد في فصيح الكلام، والسقام لا علاقة له بالعظم إنما هو باللحم والجلد معاً تبعاً لذلك.
ومن نظم شيخنا شهاب الدين ما كتب به الى القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر، رحمه الله تعالى، ومن خطه نقلت:
هل البدرُ إلا ما حواهُ لثامُها ... أو الصبحُ إلا ما جلاهُ ابتسامُها
أو النارُ إلا ما بَدا فوقَ خدّها ... سَناها وفي قلبِ المحبِّ ضِرامُها
أقامَت بقلبي إذ أقام بحُسنها ... فدارتُها قلبي وداري خِيامُها
مَهاةُ نقى لو يُستطاع اقتناصُها ... وكعبةُ حُسنٍ لو يُطاقُ استِلامها
إذا ما نضتْ عنها اللثامَ وأسفرتْ ... تقشّع عن شمسِ النهار غَمامُها
نهايةُ حظي أن أقبّل تُربَها ... وأيسَرُ حظٍّ للثامِ التِثامُها
تُريك مُحيّا الشمس في ليلِ شعرها ... على قيدِ رمحٍ وجهُها وقَوامُها
وتزهى على البَدر المُنير بأنّها ... مدى الدهر لا يخشى السرار تَمامُها
تغنّي على أعطافها وُرقُ حليها ... إذا ناح في هيفِ الغُصونِ حمامُها
تردد بين الخمر والسحر لحظُها ... وحزَهُما والدرّ أيضاً كلامُها
كِلانا نَشاوى غير أن جفونَها ... مُدامُ المعنّى والدلالُ مُدامُها
وليلة زارت والثريا كأنها ... نِظاماً وحُسناً عقدُها وابتسامُها
فحيّت فأحْيَت ما أماتَ صُدودها ... وردّت فردّ الروحُ فيّ سلامُها
فقالت بعيني ذا السَّقام الذي أرى ... فقلتُ وهل بلوايَ إلا سقامُها
وأبْدتْ ثَناياها فقُلْ في خَميلةٍ ... بَدا نورُها وانشقّ عنها كمامُها
وأبعدتَ لا بل سَمط درّ تَصونهُ ... بأصدافِ ياقوتٍ لماها خِتامُها(2/495)
وقالت وما للعين عهدٌ بطيفها ... ولا النوم مُذْ صدّت وعزّ مرامُها
لقد أتعبَتْ طيفي جُفونُك في الدُجا ... فقلت سَلي جفنَيْكِ أين منامُها
وما علمت أن الرُقادَ وقد جفت ... كمثلِ حياتي في يديها زمامُها
وكم ليلة مرّت وفيها نُجومها ... كأني راعٍ ضلّ عنه سوامُها
كأن الذّراري والهلال ودارة ... حوَتْهُ وقد زان الثريا التِئامُها
حَبابٌ طفا من حولِ زورَق فضّة ... بكفّ فتاةٍ طافَ بالرّاح جامُها
كأن نُجوماً في المجرّة خُرّدٌ ... سَواقٍ رماها في غدير زحامُها
كأن رياضاً قد تسلْسَل ماؤها ... فشقّت أقاحيها وشاقَ خزامُها
كأن سَنا الجوزاء إكليلُ جوهرٍ ... أضاءت لياليه وراقَ انتظامها
كأن لدى النسرين في الجوّ غلمةً ... رُماة رمى ذا دون هذا سِهامُها
كأن سُهيلاً والنجوم وراءه ... صلاةُ صُفوفٍ قام فيها إمامها
كأن الدجى هيجاء حربٍ نُجومُه ... أسنتها والبرق فيها حُسامُها
كأن النجوم الهاديتُ فوارسٌ ... تساقط ما بين الأسنّةُ هامها
كأن سنا المريخ شعلةُ قابسٍ ... تلوحُ على بُعدٍ ويخفى ضِرامُها
كأن السُّها صبٌّ سها نحو إلفه ... يُراعي الليالي جفنه لا ينامُها
كأن خفوق القلب قلبُ متيّمٍ ... رأى بلدةً شطت وأقوى مقامُها
كأن ثريا أفقهِ في انبساطها ... يمين كريمٍ يُخافُ انضِمامُها
كأن بفتح الدين في جوده اقتدَت ... فروّى الروابي والإكامَ رِكامُها
كأن بيُمناه اقتدى يُمن نَوئِها ... فعمّت غواديها وأخصبَ عامُها
كأن به من لفظه قد تشبّهت ... ففاق عُقودَ الدرِّ حُسناً نِظامُها
كريمَ المُحيّا لو يُقابل وجهه ... سحابةُ صيفٍ لاستهل جِهامُها
به جبرَ الله البلادَ وأهلُها ... ولولاهُ ما شام السعادة شامُها
به عصم الله الأقاليم إذ غدا ... بأقلامه بعد الإله اعتصامها
بآرائه وهي السديدةُ أُحكمت ... عُراها فلا يُخشى عليها انفصامُها
به الدولة الغرّاء أشرق نورُها ... فجابَ البَرى وانجابَ عنها ظلامُها
بما نشرت من عدله في بلادها ... يزيدُ على عُمر الدهورِ دوامُها
إليه انتهى علمُ البيان وإنهُ ... لفي كل أنواع العلوم إمامُها
تميتُ العِدا قبل الكتائب كُتبُه ... فألفاظه وهي الحياةُ سِهامُها
له عزمة في الله للكُفرِ حرّها ... وللدين منها يَردُها وسلامُها
إذا الخيلُ صلّت في الحديد جيادُها ... وعبّت نهاراً في النّجيع صيامها
وأضحت وكالأمواجِ في بحر نقعها ... تدفّقها أو كالجبال اضطرامُها
تلا رأيهُ آيَ الفتوحِ على العِدا ... فولّت وقد أضحت عِظاماً عظامُها
ففي سورةِ الفتح المُبين ابتداؤها ... ومن آية النّصر العزيز اختتامُها
فردّ جيوشَ الشّركِ بعد اصطلائه ... لظاها وقد أحنى عليه اصطلامها
جوادٌ بما شاءَ العفاةُ كأنما ... لها في يديه حُكمها واحتكامُها
تقيٌّ له في الحقّ نفسٌ أبيّة ... وإن كُفَّ بالصّفحِ الجميلِ انتقامها
كريمٌ عريقٌ أصله وبنفسه ... مع الأصل دون الناس سادَ عصامُها
إذا ألِفَ الآراء ألّفَ وضعها ... فليس بمغنٍ للعِدا منه لامُها
روى زينةَ الدنيا فأضحى لزهده ... سواءٌ عليها ريّها وأوامُها(2/496)
وأعرض عنها وهي في عصر حُسنها ... وقد زاد فيه وجدُها وغرامُها
ولا زُهدَ إلا وهي بيضاءَ غضّة ... يروقُ العيونَ الشّائماتِ وشامُها
يُسرّ اصطناعَ البرّ في الناس جاهِداً ... ليَخفى وهل يُخفي الشموس اكتتامُها
ويغتنم الأخرى بدنياه عالماً ... وقد حازَها إن النجاةَ اغتنامُها
تقاسمت الأوقاتُ دنياه فاغتدتْ ... وقد أحرز الأجرَ الجميلَ انقسامها
فقامت بأوقات الصلاة صلاتُها ... وصان ذمارُ الكافرين صيامُها
رأيتُ عُلاه فوق نظمي وإنني ... بليغٌ ولكن أين مني مرامُها
فعُدتُ به من خُطّة العجزِ دونها ... وما كنتُ يوماً قبل ذاك أسامُها
فلا زالت الدنيا وأيامها به ... برغم العدا عمّ الوجوه وشامها
ومن إنشائه البديع وحوكه الذي قصّر عنه الحريري وبعُد عن البديع كتاب في وصف الخيل: وينهي وصول ما أنعم به من الخيل التي وجد الخير في نواصيها واعتدّ حصنها حصوناً يعتصم في الوغى بصياصيها.
فمن أشهبَ غطاه النهار بحلّته، وأوطأه الليل على أهلّته، يتموّج أديمه ريّاً ويتأرجح رياً، ويقول من استقبله في حُلى لجامه: هذا الفجر قد أطلع الثريا، إن التقت المضائق انساب انسياب الأيم، وإن انفرجت المسالك مرّ مرور الغيم. كم أبصر فارسُه يوماً أبيض بطلعته، وكم عاين طرفُ السنان مقاتل العدا في ظلام النقع بنور أشعته، لا تستنّ داحس في مضماره، ولا تطلع الغبراء في شق غباره، ولا يظهر لاحق من لحاقه بسوى آثاره، تسابق يداه مرامي طَرْفه، ويدرك شوارد البروق ثانياً من عطفه.
ومن أدهم حالك الأديم، حالي التشكيم، له مقلةُ غانيةٍ وسالفةُ ريم، قد ألبسه الليل بُرده، وأطلعَ بين عينيه سعده، يظن من نظر الى سواد طرّته، وبياض حُجوله وغرّته أنه توهم النهار نهراً فخاضه، وألقى بين عينيه نقطة من رشاش تلك المخاضة. ليّن الأعطاف، سريع الانعطاف، يقبل كالليل ويمرّ كجلمود صخر حطّه السيل، يكاد يسبق ظله، ومتى جارى السهمَ الى غرض سبقه قبله.
ومن أشقر وشّاه البرقُ بلهبه، وغشّاه الأصيل بذهبه، يتوجّس ما لديه برقيقتين وينفض وفرتيه عن عقيقتين، وينزل عذارُ لجامه من سالفتَيه على شقيقتين. له من الراح لونُها، ومن الريح لينها، إن حرى فبرق خفقْ، وإن أُسرج فهلالٌ على شفق، لو أدرك أوائل حرب ابني وائل لم يكن للوجيه وجاهه، ولا للنعامة نباهه، وكان تركُ إعارة سكابِ لوماً وتحريمُ بيعها سفاهة، يركض ما وجد أرضاً، وإذا اعترض به راكبه بحراً وثبَ عرضاً.
ومن كُميت نهد، كأنّ راكبه في مهد، عندميّ الإهاب. يزلّ الغلامُ الخف عن صهواته، وكأن نغم الغريض ومعبد في لهواته. قصير المطا، فسيح الخُطا، إن ركب لصيد قيّد الأوابد، وأعجل عن الوثوب الوحوش اللوابد، وإن جنِبَ الى حرب لم يزورّ من وقع القنا بلبانه، ولم يشك لو علم الكلام بلسانه، ولم يُر دون بلوغ الغاية وهو في عرض راكبه ثانياً من عنانه، وإن سار في سهل اختال براكبه كالثمل، وأن أصعد في جبل طار في عقابه كالعُقاب، وانحطّ في مجاريه كالوعل، متى ما ترْقَ العين فيه تسهّل، ومتى أراد البرقُ مجاراته قال له الوقوف عند قدره ما أنت هناك فتمهّل.
ومن حبشيّ أصفر بروق العين ويشوق القلب بمشابهة العين، كأن الشمس ألقت عليه من أشعتها جلالاً، وكأنه نفر من الدُجا فاعتنق منه عُرَفاً واعتلق حجالاً، ذي كفل يزين سرجه، وذيل يسدّ إذا استدبرته منه فرجَه، قد أطلعته الرياضة على مراد راكبه وفارسه، وأغناه نضار لونه ونضارته عن ترصيع وتوشيع ملابسه، له من البرق خفة وطئه وخطفُه، ومن النسيم طروقه ولطفه، ومن الريح هزيزها إذا ما جرى شأوين وابتلّ عطفُه، يطيرُ بالغمز، ويدرك بالرياضة مواضعَ الرّمز، ويغدو كألف الوصل في استغناء مثلها عن الهمز.(2/497)
ومن أخضر حكاه من الروض تفويفه، ومن الوشي تقسيمه وتأليفه، قد كساه الليل والنهار حلتَيْ وقار وسناً، واجتمع فيه من البياض والسواد ضدّان لما استُجمعا حَسُنا، ومنحه الباري حلة وشيه، ونحلَتْه الرياح ونسماتها قوة ركضه وخفةَ مشيه، يعطيك أفانين الجري قبل سؤاله، ولما لم يُسابقه شيء من الخيل أغراه حبُّ الظفر بمسابقة خياله، كأنه تفاريق شيب في سواد عذار، أو طلائع فجر خالط بياضه الدُجا فما سجى، ومازج ظلامه النهار فما انهار ولا أنار، ينحال لمشاركة بينه وبين الماء في السير كالسيل، ويدل بسبقه على المعنى المشترك بين البروق اللوامع وبين البرقية من الخيل. ويكذّب المانوية لتولد اليُمن بين إضاءة النهار وظلمة الليل.
ومن أبلق ظهره حرم وجريُه ضرمٌ، إن قصد غاية فوجود الفضاء بينه وبينها عدم، وإن صُرّف في حرب فعمله ما يشاء البنان والعنان وفِعله ما يريد الكفّ والقدم. قد طابق الحُسنُ البديع بين ضدّي لونه، ودلّت على اجتماع النقيضين علة كونه، وأشبه زمن الربيع باعتدال الليل فيه والنهار، وأخذ وصف حُلّتي الدُجا في حالتي الإبدار والإسرار، لا تكلّ مناكبه، ولا يضلُّ في حجرات الجيوش راكبه، ولا يحوج ليلَه المشرق لمجاورة نهاره الى أن تُسترشد فيه كواكبُه، ولا يجاريه الخيال فضلاً عن الخيل، ولا يمل السّرى إلا إذا ملّه مُشبهاه النهار والليل، ولا تتمسك البروق اللوامع من لحاقه بسوى الأثر، فإن جهدت فبالذيل، فهو الأبلق الفرد، والجواد الذي لمجاريه العكس وله الطّرد، قد أغنته شُهرة لونه في جنسه عن الأوصاف، وعدل بالرياح عن مباراته سلوكُها من الاعتراف له جادةُ الإنصاف، فترقّى المملوك الى رتب العزّ من ظهورها، وأعدّها لخطبة الجنان إذ الجهاد عليها من أنفَس مهورها، وكلِف بركوبها فكل ما أكمله عاد، وكل ما ملّه شرِه إليه، فلو أنه زَيدُ الخيل لما زاد، ورأى من آدابها ما دلّ على أنها من أكرم الأصائل، وعلم أنها ليوميَ حربه وسلمه جنة الصّايد وجُنّة الصائل. وقابل إحسان مُهديها بثنائه ودعائه، وأعدّها في الجهاد لمقارعة أعداء الله وأعدائه، والله تعالى يشكر برّه الذي أفرده في الندى بمذاهبه، وجعل الصافنات الجياد من بعض مواهبه، بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى.
ومن إنشائه رسالة في البُندق، وذكر الأربعة عشر واجباً، وهي من بدائع أعماله وما أظن أحداً يأتي بنظيرها، وقد سُقتها بكمالها في تاريخي الكبير، وسُقت كثيراً من نثره ونظمه.
وكتب إليه ناصر الدين حسن بن شاور المعروف بابن النقيب:
يا فاضلاً وافى محلّي زائِراً ... متفضّلاً والفضلُ للمتقدّمِ
ومشرّفي ومشنّفي بسلامه ... وكلامه ومبجلي ومعظمي
أنت الشهابُ الثاقبُ الذهن الذي ... أضحت ذكاء الى ذكاهُ تنتمي
والواضح الخطّ المحقّق أصله ... والطاهر القلم الموقع والفمِ
شعر كثير الدّرّ أو تبرغدَت ... في حجلةٍ منه ذراري الأنجم
مولاي زوّدني فإني راجلٌ ... من لفظكَ العالي المحل المُعلَم
وابعثْ إليّ بفذّ شيء منهما ... وامْنُن عليّ وجُدْ بذلك وانعمِ
فأجابه بقوله:
يا سيّداً لما وطئتُ بساطَهُ ... حدّثتُ آمالي بفيضِ الأنجمِ
أنت الذي روّى المسامعَ والقَنا ... ذي من فضائله وتلك من الدّمِ
كم قد منعتَ بأخذ كلِّ مدرّع ... حامي الحقيقة معلّماً من معلّم
وفتحتَ من حصن بشدّك في الوغى ... بالرمحِ ثغرَ الفارسِ المُستلئم
وافيتَ ربعكَ ظامئاً مستمطراً ... أنواءَ شعركَ في شعارِ مسلّم
فبعثتَ لي وطفاءَ لو لم يُغضِ من ... خطفاتٍ وامِض برقها طرفَي عَمي
ميميّة لما لثمتُ سطورَها ... حسدتْ على تقبيلها عيني فمي
يا ناصر الدين الذي شرفَت به ال ... آدابُ إذ أضحت إليه تنتمي
يا مالكاً حُزني على زمن مضى ... في غير خدمته كحزن متيّمِ(2/498)
سيّرتَ إنعاماً شغلتَ بشكره ... عبداً يرى إيجابَ سكرِ المُنعمِ
وكتب إليه السّراج الورّاق ملغِزاً في سجّادة:
يا إماماً ألفاظُه الغرّ في الأس ... ماعِ تُزري بالدرّ في الأسماطِ
وشهاباً تجاوز الشهبَ قدراً ... فغدتْ عن عُلاهُ ذات انحطاطِ
أي أنثى وطئَت منها حَلالاً ... مستبيحاً ما لا يُباح لواطِ
لم أحاول تقبيلها غير خمسٍ ... حالَ زُهدي فيها وحال اغتباطِ
وهي مملوكةٌ وعند أناسٍ ... وهي ستّ على اختلافِ التعاطي
وهي في صورةٍ خُماسية ما ... قهقهت ولا دَنت للبواطي
ومصيبُ الإيمان يسعى إليها ... طالبَ الله وهو عبد خاطِ
وأرى أن تحلّها بيمين ... ويسار فقد غدَت في رباطِ
فكتب إليه الجواب، ومن خطه نقلتهما:
يا سِراجاً لما سمت باسمه الشم ... س غدا البدر دونها في انحطاطِ
أنت بحرٌ نداك موجٌ وألفا ... ظك درّ وصنعُ يُمناك شاطي
لا تلمني إذا نظمت معاني ... ك فمن دُرّ فيكَ كان التعاطي
أنت ألغزتَ في اسم ذات رقاعٍ ... لم تجاهد وكم غدت في رِباطِ
حازها تابعُ المجلّي فجا ... ز السّبقَ من دونه بغير اشتراطِ
مذ علاها في أول الصفّ أضحى ... كسليمان فوقَ ظهرِ البساطِ
وأنشدني من لفظه لنفسه علاء الدين ألطنبغا الجاولي مما كتب به الى شيخنا رحمه الله تعالى:
قال النحاةُ بأن الاسمَ عندهمُ ... غيرُ المسمّى وهذا القولُ مردودُ
الاسم عينُ المسمّى والدليل على ... ما قلتُ أن شهابَ الدين محمودُ
وكتب إليه شهاب الدين العزاري مترجماً:
إذا ما شئت تلبس ثوب فخرٍ ... وتسحبُ ذيل مكرمة وحمد
فكُن في سؤددٍ وعليّ فضلٍ ... كمحمود بن سلمان بن فهدِ
فكتب هو الجواب إليه عن ذلك:
أتاني من شهاب الدين برٌّ ... أبرّ به على شكري وحمدي
فصِرتُ به ولم أكُ جاهلياً ... لأحمدَ طولَ دهري عبدَ ودِّ
وشرّفني بنظمٍ كلُ بيتٍ ... تفرّد منه واسطَة لعِقد
وأطلع في سماء الطّرسِ منهُ ... كواكبُ كلهنّ نجوم سعدِ
وأفحمني مما استمكنتُ أني ... أجاوب نقده إلا بوعد
كساني في الثّناء أجلّ مما ... كساهُ سوايَ بشارُ بن بُردِ
فلا برحَت فوائده إذا ما ... هفا بي الفكر يهدى لي فيُهدي
محمود بن شروين
الأمير نجم الدين وزير الشرق والغرب.
وفد على السلطان الملك الناصر محمد في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، وكان في تلك البلاد وزير بغداد، ولما سلّم على السلطان وقبّل الأرض ثم قبّل يده حطّ في يد السلطان حجر بلخش وزنه أربعون درهماً قوّم له بمئتي ألف درهم، ثم إن السلطان أمّره مئة، وأعطاه تقدمة ألف. ولما توفي وصّى بأن يكون بعده وزيراً، فرتّب وزيراً في أول دولة المنصور أبي بكر، وعامل الناس بالجميل.
ولم يزل كذلك الى أيام الملك الصالح اسماعيل، فحظي عنده، وتقدم كثيراً ولازمه ونادمه، ولما وليَ الكامل شعبان عزله عن الوزارة وأبعده، فلما تولّى الملك المظفر حاجّي أعاده الى الوزارة.
ولم يزل على ذلك الى أن أُخرج الى الشام في أوائل شهر رجب أو أواخر جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة هو والأمير سيف الدين بيدمر البدري، والأمير سيف الدين طغاي تمر النجمي الدوادار بغتة على الهجن. فلما وصلوا الى غزة لحقهم الأمير سيف الدين منجم فقضى أمر الله فيهم.
محمود بن عبد الرحمن بن أحمد
ابن محمد بن أبي بكر بن علي، وينتمي الى علاء الدولة الهمذاني، الشيخ الإمام العالم العلامة المحقق المفتن الفريد الحجة، جامع أشتات الفضائل، وارث علوم الأولين، حجة المتكلمين، إمام الفقهاء، شمسُ الدين أبو الوفاء بن جمال الدين أبي القاسم بن مجد الدين الأصبهاني.(2/499)
بحرٌ يتدفق بالعلوم أمواجه، وحبر فضله في كل فن تضيء شموسه ولا أقول يتقد سراجه، وملكٌ يجبى إليه من كل علم متّسعِ الأقطار خَراجُه، لو رآه الرازي علم أنه ما رأى زيّه، وصحّ أن المعقول هجر القطبين مصريّهُ وشيرازيّه، ولو أنصفه النصير الطوسي لما بني الرصد إلا لكواكبه، ولا سار مع الجيوش إلا خدمة لمواكبه، وما عسى أن أصفَ مَن هو إمام في كل علم، وأُثني على من بيده زمام كل حلم، تصانيفه تشهد له بأنه فريد أوانه ووحيد زمانه، برع في الشرعيات لما شرع، وبزع في العقليات شمساً نورها محا ظلام الجهل فانقشع، علامة في كل علم له علامة، وأستاذ ترى كل شيخ في فنه غلامه. اشتغل في البلاد الشرقية وورد الى الشام فأنسى الناس المحاسن الدمشقية:
ورد اللوى سحَراً فعطّر جيبَهُ ... بالجزع طُبّاق هناك وشيحُ
حتى غدَت نفحاتُه وكأنّما ... يُهدى بهنّ لكُلّ جسمٍ روحُ
وقرأ عليه الأئمة، وشهد له الأعلام أنه عالم هذه الأمة.
ثم إن السلطان طلبه الى القاهرة، وأطلع في آفاقها نجومه الزاهرة، فوردها وهي بحر بالفضلاء يتموّج، وزهرٌ بالفضائل يتأرّج، فأقام بها ينشر مُلاءات فضائله، ويعلّم الزمان بأخلاقه الزكية رقّة بُكرهِ وأصائله.
ولم يزل على حاله الى أن كحل بالأصبهاني جفن الضريح، وغادر قلب الزمان عليه وهو جريح.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر.
وسألته عن مولده فقال: ولدت بأصبهان في سابع عشر شعبان سنة أربع وسبعين وست مئة.
وورد الى دمشق بعد حجّه وزيارة القدس في صفر سنة خمس وعشرين وسبع مئة، وظهرت فضائله للناس وعظّمه الشيخ تقي الدين بن تيمية، وقال يوماً في حقه: اسكتوا حتى نسمع كلام هذا الفاضل الذي ما دخل البلاد مثلُه.
وكان يلازم الجامع الأموي ليلاً ونهاراً، وسكن في باب الناطفيين، وأكبّ على التلاوة والسمع والإشغال للطلبة عند قبر زكريا، وتولى تدريس الرواحية، ودرّس بها في ثاني عشر شعبان يوم الأحد من السنة المذكورة بعد الشيخ كمال الدين بن الزملكاني فيما أظن، وكان درساً حافلاً حضره الأعيان والشيخ تقي الدين بن تيمية، وأثنى الأعيان على فضائله.
ولم يزل بدمشق الى أن طلبه السلطان الى الديار المصرية، فتوجه إليها على البريد في منتصف شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وكان السفير له في ذلك الشيخ مجد الدين الأقصرائي شيخ خانقاه السلطان بسرياقوس، وكان السلطان يشتهي يرى الغرباء من تلك البلاد، ولما وقعت بطاقته من بُلبيس بقي متطلعاً الى قدومه ساعة فساعة، فتوجه الشيخ شمس الدين الى سرياقوس ونزل بالخانقاه الى عند الشيخ مجد الدين فأضافه، وعمل له السماعات، ودخل به الحمام، فلما أبطأ خبره على السلطان وعلم أنه اشتغل عنه ولم يدخل الى السلطان إلا بعد ثلاثة أيام أو أربعة، نزل من عين السلطان ومجّه، ولم يلق بقلبه ولم يتجدد له شيء.
ونزل الى القاهرة، لكنه فيه رياسة العلم، وكان الشيخ ما يعرف اللغة التركية، فقعد به ذلك، إلا أنه راج باللغة العجمية عند الأمير سيف الدين قوصون، وبنى له الخانقاه العظيمة بالقرافة، وجعله شيخها، ثم إنه قرّبه عند السلطان، فكان يحضر عنده في بعض الأوقات.
وسألته في سنة خمس وأربعين وسبع مئة بمنزله بالخانقاه المذكورة لما كنت بالقاهرة عن مبتدأ حاله فقال: قرأت القرآن والفقه على والدي، والعربية أيضاً على الشيخ نصير الدين الفاروثي، وعلى الشيخ جمال الدين بن أبي الرجا شيخ في تربة علي بن سهل الصوفي، وقرأت شيئاً من المعقول على صدر الدين تُركا، والمولى جمال الدين تركا، وشيئاً من الطب والخلاف، وقرأت عليه نكت الأربعين للنّسفي، وصنّف في تلك البلاد شرح المختصر لابن الحاجب للخواجا رشيد، وشرح مطالع سراج الدين الأرموي لقاضي القضاة عبد الملك، وشرح تجريد النصير الطوسي باسم علي باشا، وصنّف أكثر من ربع العبادات على مذهب الشافعي مضافاً إليه مذهب أبي حنيفة ومالك الى الاعتكاف، وشرح قصيدة الساوي في العروض وتفسير آية الكرسي ومختصراً في المنطق سمّاه ناظر العين، كل ذلك صنفه بتبريز.(2/500)
ثم إنه انتقل الى دمشق في التاريخ المذكور وشرح فيها مقدمة ابن الحاجب، وتفسير قوله تعالى: " شهد الله أنه لا إله إلا هو " ، وتفسير " إن الله وملائكته يصلّون على النبي " الآية، وتفسير " يا أيها الناس إن كنتم في ريبٍ من البعث " .
ثم إنه توجه الى مصر في التاريخ المذكور وصنّف فيها شرح البديع للساعاتي في الأصولين باسم السلطان الملك الناصر، وشرح ناظر العين، وشرح المنهاج للبيضاوي، وشرح طوالع القاضي ناصر الدين البيضاوي وتعاليق على مسائل. ثم صنّف مختصراً في أصول الدين، وشرح فصول النسفي، وتفسير سورة يوسف، وسورة الكهف.
ثم إنه شرع في تفسير مستقل وصل فيه الى حين اجتماعي به في سابع عشر شوال سنة خمس وأربعين وسبع مئة الى قوله تعالى: " مَن يُطع الرسول فقد أطاع الله " . وقال لي: كنت قد فسّرت جملة كبيرة، ولكن في فتنة قوصون عدمت المسوّدات فأنا الآن أغرمها.
وقال لي بعض الجماعة إنه يمتنع من الأكل في كثير من الأوقات لئلا يحتاج الى الدخول الى الخلا خوفاً من ضياع الزمان بلا كتابة في التفسير.
وكان خطّه قوياً وقلمه سريعاً، ورأيته يكتب في هذا التفسير من خاطره من غير مراجعة، وكان قد شرع قبل ذلك في مختصر لطيف في أصول الدين، وجيز اللفظ، كثير الفوائد والمباحث.
وسمع البخاري مرتين على الحجّار بقراءة شيخنا البرزالي، وسمع على أشياخ ذلك العصر، وأذن لجماعة كثيرة بالشام ومصر في الإفتاء، وانتفع به الناس في الشام ومصر كثيراً، وأجاز لي بخطه في سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
ولما بلغتني وفاته رحمه الله تعالى قلت أرثيه:
أيها العاذل لا تلح ... فعندي ما كَفاني
كيف لا تسفح عيني ... دمعها أحمر قاني
أظلمت عينيّ لمّا ... فقدتُ شمس الزّمان
وغدا جَفني قريحاً ... باكياً مما دَهاني
لم يُفدهُ كُحْلٌ ... بعدَ فقدِ الأصبهاني
محمود بن محمد بن إبراهيم بن جملة
الشيخ الإمام الورع الخطيب جمال الدين بن جملة، خطيب الجامع الأموي بدمشق.
كانت له طريقة، سلكها فجعل مجازها حقيقة، لازم بها الخطابة وركن، ولزم مكانه بالجامع فما تحرّك منه بعدما سكن، واقتصر به على خاصة نفسه وملازمة خطابته وهواه ودرسه، لا يتردد الى أمير ولا كبير ولا صغير، بل الأمراء يحضرون إليه، ويتطفلون عليه، ويلتمسون بركاته، ويعدّون سكناته وحركاته، وإشاراته عند نوّاب الشام مشهورة مقبولة، وربوع أوقاته بالخيرات مأهولة:
حسُنَت وطابت في الورى أخبارُه ... وأصحّها راوي العُلا أصحاحا
وكأن درّاً فاه راوي مدحه ... مهما روى وكأن مسكاً فاحا
قد سخّر الأرواح خالقها له ... إن لم يكن قد سخّر الأشباحا
فإذا علا يوماً ذؤابةَ منبرٍ ... نثروا على كلماته الأرواحا
وأما جنازته فكانت آية بلغت من الاحتفال الغاية، وجازت الحد في الكثرة والنهاية، حُملت على الأصابع ولم تصل إليها الرؤوس، وتناهب الناس آثاره، واجتلوا نعشه منصة وهو فيها عروس.
وما زال على حاله الى أن انفرد ابن جملة عن جملة الأحياء وأصبح في مماته من أعجب الأشياء.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم الإثنين العصر الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة أربع وستين وسبع مئة.
وكان قد ولي الخطابة بعد الخطيب تاج الدين بن جلال الدين القزويني في سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
محمود بن علي بن محمود
ابن مقبل العراقي، تقي الدين الدّقوقي الحنبلي، الإمام المتقن محدّث بغداد، شيخ المستنصرية.
أسمعه أبوه من المؤرخ علي بن أنجب، وعبد الصّمد بن أبي الجيش، وابن أبي الدنيّة وجماعة، من ذلك كل جامع المسانيد من محمد بن أبي الدنية، وطلب هو بنفسه يسيراً، وكان يحدّث الناس على كرسي ببغداد، ويحضره خلق عظيم ويأتي بكل نفيس، وله نثر ونظم ومعرفة بالنحو واللغة، وكان يعظ في الأعزّية.
وكان متقناً متحرّياً جهوريّ الصوت محبوباً الى الناس لفضله وعلمه. وليَ مشيخة المستنصرية بعد ابن الدواليبي.
توفي - رحمه الله تعالى - في أوائل المحرّم من سنة ثلاث وثلاثين، أو أواخر الحجة من سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، ولم يخلّف درهماً، وحُمل نعشه على الرؤوس.(3/1)
ومولده سنة ثلاث وستين وست مئة.
محمود بن عزّي بن مشعل
الشيخ الفقيه الفاضل جمال الدين البصروي.
كان فقيهاً جيداً حفظ التنبيه ثم حفظ الوجيز، وكان يكرر عليه وينقل منه كثيراً.
توفي في سابع عشري شعبان سنة خمس وعشرين وسبع مئة ببصرى ودفن بها.
محمود بن محمد بن عبد الرحيم
ابن عبد الوهاب، الشيخ بهاء الدين، الكاتب المجوّد المتقن المحرر السلمي، المعروف بابن خطيب بعلبك.
كان فرداً في زمانه، وندرةً في أوانه. كاتبٌ أين الرياض من حروفه القاعدة، والعقود من سطوره التي تبيت العيون في محاسنها ساهدة، كم روّض قلمُه طرساً، وجلا على الأبصار عرساً، وخضع له الكُتّاب فلا تسمع إلا همساً، ألفاته أحسنُ اعتدالاً من القدود الرشيقة، ولاماته أظرف انعطافاً من الأصداغ المسوّدة على الخدود الشريقة، وعَيْناته أسحر من العيون الدُّعْج، ونوناته أسلبُ للقلب من الحواجب البُلج:
خطٌّ كأن العيونَ ناشدَة ... سود أناسيهنّ من كُتبه
أقلامه كنّ للورى قصَباً ... والسّبقُ للمحتوى على قصبه
كتب عليه جماعة من أولاد الأعيان، وبرع في الكتابة منهم شرذمة مختلفة الأديان.
وكان فيه ديانة وعفّة وصيانة، وتقوى تمنعه من التطلّع الى أولاد الناس وأمانة.
ولم يزل على حاله الى أن جرى القلم بحلول حَينه، وودّ كل كاتب لو فداه بإنسان عينه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم الثلاثاء سلخ شهر ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وسبع مئة بمنزله في العُقيبة بدمشق، ودفن بمدرسة الشيخ أبي عمر بالصالحية.
ومولده في إحدى الجماديين سنة ثمان وثمانين وست مئة.
وكان يخطب جيداً بصوت طيّب، وأقام بدمشق مدة سنين، وكان محبوباً لكرم أخلاقه وعفّته. وكان من أحسن الأشكال، تام الخلق، وصف خطّه للأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى، فأحضره وأمره بأن يكتب له نسخة بالبخاري، فاعتذر له بأنه مشغول بتكتيب أولاد الناس، فقال: أنا أصبر عليك، فأغفله مدة تزيد علي سنة، وطلبه فأحضر له منه مجلداً، فرماه على الأرض وضربه ضرباً كثيراً مبرحاً، ودفع إليه المجلّد، ورأيته، أعني المجلد، في بعلبك وهو نسخ شيء عجيب الى الغاية.
وقلت أنا في الشيخ بهاء الدين:
إن ابن الخطيب وابن هلال ... ليس ذا مثلَ ذا على كل حال
أيُّ نون أمسكتَ من خطّ هذا ... فهي من حُسنها بألفِ هلال
محمود بن محمد بن محمد
ابن نصر الله ابن المظفر بن أسعد بن حمزة، الصدر الرئيس العدل الكبير الفاضل الأصيل محيي الدين، أبو الثناء ابن الصدر الكبير شرف الدين ابن الصدر جمال الدين بن أبي الفتح التميمي الدمشقي بن القلانسي.
كان أحد الصدور الأعيان، كان له إشغال وتحصيل، وكان فيه خيرٌ وتواضع وملازمة لداره وعدم اختلاط بالناس، وباشر نظر ديوان البيوت وأوقاف الحرَمين.
وكان قد سمع من ابن البخاري وعبد الواسع الأبهري.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في عشري ذي الحجة سنة ثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة سبع وسبعين وست مئة.
محمود بن مسعود بن مصلح
الإمام العلامة ذو الفنون قطب الدين أبو الثناء الفارسي الشيرازي الشافعي المتكلم صاحبُ التصانيف.
كان أبوه طبيباً، وعمه من الفضلاء، فقرأ عليهما وعلى الشمس الكتبي والزكي البرشكاني، ورتب طبيباً في البيمارستان وهو حدث.
وسافر الى النصير الطوسي ولازمه وبحث عليه الإشارات وقرأ عليه الهيئة وبقية الرياضي وبرع.
واجتمع بهولاكو وأبغا، وقال له أبغا: أنت أفضل تلامذة النصير وقد كبر، فاجتهد لا يفوتك شيء من علمه. قال: قد فعلت، وما بقي لي به حاجة.
ثم إنه دخل الروم فأكرمه البَروانه، وولاه قضاء سيواس وملطيّة، وقدم الى الشام رسولاً من جهة الملك أحمد، فلما قُتل أحمد ذهب قطبُ الدين، فأكرمه أرغون، ثم إنه سكن تبريز مدة، وأقرأ المعقولات وسمع شرح السنّة من القاضي محيي الدين، وروى جامع الأصول في رمضانين، قرأه الصدر القونوي عن يعقوب الهذباني عن مصنفه.
وكان من أذكياء العالم وممن ساس الناس وداهن وسالم، مدّ يد الباع في كل الفنون، سديد الرأي في مخالطة الملوك والتحرّز من العيون. صنف التصانيف المفيدة وأودعها الذخائر العتيدة، وكان لفلك الفضائل قطباً، ولشمس العلوم شرقاً وغرباً:(3/2)
بجودٍ يهمل السحب احتقاراً ... إذا ما امتدّ بينهما الهُمولُ
وأخلاقٍ كأبكار الغواني ... إذا اشتملت عليهنّ الشَمولُ
ولم يزل على حاله الى أن دارت رحى المنون على قُطبه، وجعلت شخصه في الثرى تِرباً لتُربه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في رابع عشري شهر رمضان سنة عشر وسبع مئة.
ومولده بشيراز سنة أربع وثلاثين وست مئة.
وكان الشيخ قطب الدين ظريفاً مزّاحاً لا يحمل هماً، وهو بزي الصوفية، وكان يجيد اللعب بالشطرنج ويلعب به، والخطيب على المنبر وقت اعتكافه.
وكان حليماً سمحاً لا يدّخر شيئاً، بل ينفق ما معه على تلامذته ويسعى لهم، وصار له في العام ثلاثون ألف درهم، وقصده صفي الدين عبد المؤمن المطرب فوصله بألفي درهم، وفي الآخر لازم الإفادة، فدرّس الكشّاف والقانون والشِّفا وعلوم الأوائل.
وكان القان غازان يعظّمه ويعطيه، وكان كثير الشفاعات، وإذا صنّف كتاباً صام ولازم السهر ومسوّدته مبيضته.
وكان يحب الصلاة في الجماعة ويخضع للفقير، ويوصي بحفظ القرآن، وإذا مُدح يخشع ويقول: أتمنى لو كنت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن لي سمع ولا بصرٌ رجاء أن يلمحني بنظرة.
مرض نحو شهرين، ولما مات رحمه الله أدّيت عنه ديونه.
وكان يتقن الشعبذة، ويضرب بالرباب ويورد من الهزليات ألواناً بحضور خربندا، وفي دروسه، وكانت أخلاقه جميلة ومحاسنه وافرة.
ومن تصانيفه غرّة التاج حِكمة، وشرح الإشراق للسهروردي، وشرح الكليات وشرح مختصر ابن الحاجب وشرح المفتاح للسكاكي.
محمود بن مسعود
السلطان علاء الدين بن شهاب الدين صاحب الهند.
كان ملكاً عظيماً بنى بدلّي منارة عظيمة ارتفاعها مئة وخمسون ذراعاً مرجّلة الأساس عظيمة البناء، عرضها من أسفل رميةُ سهم، ويراها الناس من مسيرة يومين.
ولم يزل في ملكه الى أن وصل الخبر الى مكة بوفاته، وصُلي عليه بها صلاة الغائب سنة خمس عشرة وسبع مئة.
وتسلطن بعده ولده غياث الدين فدام سنة، وخرج عليه أخوه قطب الدين مبارك وتملّك، وسجن غياث الدين، ودام قطب الدين مبارك في الملك الى سنة عشرين وسبع مئة، وقُتل، وتسلطن مملوكهم خسرو التركي.
محمود بن ديوانا
كان قد ظهر في تبريز بمشيخة وصلاح، وخضع له المغول وغيرهم، وكانت له زاوية في توريز.
حكى الإربلي عز الدين الطبيب نقلاً عن التاج عبد الله الطيبي ما معناه أن آل فرَنك أحد أولاد القانات كان مرشحاً للملك، وكان محباً للفقراء، فأتى يوماً الى زاوية الشيخ محمود ديوانا ومدّ له سماطاً، وعمل له سَماعاً، ورقص الشيخ محمود وطاب ودار في الطابق، وجذب آل فرنك إليه، وألقى كلاهه عن رأسه وألبسه طاقية كانت على رأسه وقال: قد ولّيتك السلطنة، ورقص ورقص معه. فنقلت هذه الكلمة الى غازان، فضرب عنق آل فرنك بين يديه.
وكان قسيم الغصن في تثنيه، وشقيق البدر أو ثانيه.
وأمر بإحضار الشيخ محمود ديوانا، فلما رآه قال: أهلاً بالشيخ الذي قد صار يولّي الملوك بطاقية، وأمر به فشُدّ بين دفتين، ونُشر حتى وقع نصفين بقسمة صحيحة سواء بسواء.
المحوجب
شمس الدين محمد بن يوسف الجزري.
مختارالأمير الكبير الطواشي
ظهير الدين المعروف بالبُلبيسي الخازن دار بقلعة دمشق.
كان حسن الشكل، حسن الأخلاق، فيه وقار وسكون، وحفظ القرآن، وكان يتلوه بصوت حسن.
أنشأ مكتباً للأيتام قبالة القلعة، ووقف عليه الجامكية. وكان له خبز بطبلخاناه. وولي التقدمة على المماليك السلطانية بمصر مكان الطواشي فاخر.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في آخر شعبان سنة ست عشرة وسبع مئة بقلعة دمشق، ودفن برّا باب الجابية بتربته التي عمّرها، ووقف عليها أوقافاً وقرر فيها مقرئين بالنوبة ليلاً ونهاراً.
اللقب والنسب
ابن مخلوف
محيي الدين محمد بن علي. وقاضي القضاة علي بن مخلوف.
ابن مراجل
علاء الدين علي بن عبد الرحيم.
المرداوي
موسى بن محمد.
ابن المرحّل
الشيخ شهاب الدين عبد اللطيف بن عبد العزيز. والشيخ صدر الدين محمد بن عمر، وأخوه عبد الوهاب.
والمغربي
مالك بن عبد الرحمن.
وزين الدين
محمد بن عبد الله ابن مختار الحنفي محمد بن مختار.
المَرجاني(3/3)
عبد الله بن محمد.
ابن المخرميّ
ابراهيم بن الحسن.
ابن المرواني
أحمد بن حسن، وأخوه علاء الدين علي بن حسن، وابنه ناصر الدين محمد بن علي.
المراكشي
فخر الدين عبد الله بن محمد.
وتاج الدين
محمد بن ابراهيم.
والمريني
الأمير علاء الدين مغلطاي.
المريني
السلطان عثمان بن إدريس.
والمريني
عثمان بن يعقوب، وولده السلطان علي بن عثمان.
مريم بنت أحمد
ابن أبي بكر محمد بن إبراهيم بن أحمد، الدمشقية، أم عبد الله، بنت الجمال.
كانت امرأة صالحة خيّرة، حضرت على الفقيه محمد بن عبد الملك بن عثمان المقدسي، وأجازها الكاشغري، وابن القبيطي، وجماعة.
وتوفيت - رحمها الله تعالى - ثالث عشري جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولدها سنة خمس وثلاثين وست مئة.
وهي أخت الإمام محكب الدين عبد الله المقدسي المحدّث، وزوجة الشيخ أحمد بن أبي محمد العطار إمام مغارة الدم.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليها جزءاً من فوائد أبي عروبة الحراني وغير ذلك.
ابن مزهر
القاضي فخر الدين محمد بن مظفر.
وشرف الدين
يعقوب بن مظفّر.
ابن مُزَيْز
تاج الدين الحموي أحمد بن إدريس.
وعز الدين
عبد العزيز بن إدريس.
المزّي
المؤقِّت محمد بن أحمد.
والمزي
يوسف بن عبد الرحمن.
المستكفي بالله
أمير المؤمنين، أبو الربيع سليمان بن أحمد.
مسعود بن أحمد
ابن مسعود بن زيد، الشيخ الإمام العالم، المفتي الحافظ، المجوّد فخر المحدّثين، قاضي القضاة بالديار المصرية، سعد الدين الحارثي، العراقي، الحنبلي. والحارثية قرية قريبة من بغداد، المصري المولد.
سمع من الرضي بن البرهان، والنجيب عبد اللطيف، وابن علاق، وطبقتهم. وبدمشق من جمال الدين الصيرفي، وابن أبي الخير، وابن أبي عمر، وعدّة.
وعُني بهذا الشأن، وكتب العالي والنازل، وخرّج وصنّف، وتميّز وتفرّد، ودرّس بالناصرية بالقاهرة، وبالصالحية، وبالجامع الطولوني.
وولي القضاء بالديار المصرية في ثالث شهر ربيع الآخر سنة تسع وسبع مئة، فأقام في ذلك سنتين ونصفاً، وسار فيه سيرة مرضية، وكان متيقظاً فيه محتاطاً متحرزاً، وقدّم الفضلاء والنبلاء من كل طائفة.
قال كما الدين الأدفوي: قال لي القاضي شمس الدين بن القمّاح: تكلمت معه في المذهب، فقال: كل ما يلزم القول بالجهة أقول به. قال وحكى لي بعض أصحابنا أنه دخل المدرسة الكاملية ليجتمع بالشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، فلما رآه الشيخ قام وقال: داعية، ولم يجتمع به. انتهى.
وشرح جملة من سُنن أبي داود شرحاً جيداً، وشرح قطعة من المقنع في مذهبه ولم يكمله، أتى فيه بفوائد ومباحث ونقول كثيرة، ولو كمل لانتفع الناس به.
وكان قد قدم الى دمشق على مشيخة دار الحديث النورية، ثم إنه ضجر ورجع وحدث بدمشق ومصر.
وكان رئيساً فصيح الإيراد، عذب العبارة، قويّ المعرفة بالمتون والرجال صيّناً، وافر الحرمة، فاخر البزّة. وكان أبوه من التجار.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بالقاهرة سحر الأربعاء رابع عشر ذي الحجة إحدى عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وخمسين وست مئة.
وخلفه في الفقه ولده الإمام شمس الدين عبد الرحمن.
مسعود بن أوحد بن الخطير
الأمير الكبير بدر الدين، أمير حاجب بالديار المصرية في أيام الملك الناصر محمد وفيما بعد، ونائب السلطنة بغزة غير مرة، ونائب طرابلس غير مرة، وأكبر مقدمي الألوف بالشام.
كان عريقاً في الرئاسة، غريقاً في الحشمة والنفاسة، كريم الودّ والإخاء، كثير البذل لأصحابه والسخاء، وكان بابه حرمَ اللاجي، وقبلة الراجي، لا يخبأ جاهه عن قاصده، ولا ماله عن وافده. كثير الاتّضاع كأن من يجالسه أخوه من الرضاع، ألطف من النسيم إذا سرى، وأرأف بالضعيف من والديه إذا عاينا به أمراً منكراً. وكان به للملك الناصري جمال، وهو لمن استجار به ثِمال، بل كان في ذلك الأفق بدر كماله، وزينة موكبه في يمينه وشماله، وصاحب رأيه الذي كم أسفر وجهه عن جماله. وحكّمه الملك الناصر في الديار المصرية فحكم بالعدل، وأفاض نِيل نَيْله بالجود والبَذل، وزان دولته بحسن سيرته، وصفاء باطنه وطُهر سريرته:(3/4)
يتكفّل الأيتامَ عن آبائهم ... حتى ودِدْنا أننا أيتامُ
يتجنّب الآثامَ ثم يخافُها ... فكأنما حسناته آثامُ
قد شرّد الإعدام عن أوطانه ... بالبذل حتى استُطرفَ الإعدامُ
ولم يزل يتنقل في الممالك تنقل البدور، ويتوقّل في هضبات المعالي توقّل العقبان والنسور، الى أن اختار المقام بدمشق فأجيب، وسكن ما بقلبها من الوجيب، وكان في حِماها للناس رحمة، ولكل من نزلت به بليّة نعمة، يمدّ عليهم ظل شفقته، وينشر لهم جناح رحمته، فما يبالون بمن عدل أو جار، ولا يحفلون بمن بعُد أو زار، حتى نزل الأمر الخطير بابن الخطير، ورأى الناسُ بالبكاء لموته كيف يكون اليوم المطير.
وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الثلاثاء سابع شوال سنة أربع وخمسين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وثمانين وست مئة ليلة السبت سابع جمادى الأولى بحارة الخاطب بدمشق.
وأخذ إمرَة العشرة بدمشق سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. وقرّبه الأمير سيف الدين تنكز وأدناه وأحبّه، ثم إنه جهّزه الى باب السلطان صحبة أسندَمُر رسول جوبان سنة سبع وعشرين وسبع مئة، فلما رآه السلطان أعجبه شكله وسمته ووقاره، ورسم له بالمقام عنده، وأعطاه طبلخاناه، فجعله حاجباً. ولم يزل في الحجوبية الى أن أمسك الأمير سيف الدين أُلماس أمير حاجب سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، فولاه السلطان مكانه أمير حاجب، ولم يكن بمصر إذ ذاك نائب سلطنة إلا أمير حاجب، فكان يعمل النيابة والحجوبية، وقيل: إن السلطان لما أعطاه إمرة الحجوبية كان على حركة للصيد فأعطاه جملاً حمله دراهم، تقدير سبعين ألف درهم إنعاماً عليه، وقال له: هذا برسم إقامة الرّخت وحركة الصيد، وأحبّه السلطان والناس أجمعون من الأمراء والمشايخ وأمراء الخاصكية، وكان يمشي في خدمته الأمراء الكبار.
ولم يزل على حاله في وجاهةٍ حتى أمسك الملك الناصر محمد الأمير سيف الدين تنكز، فرسم للأمير بدر الدين بنيابة غزة، فحضر إليها في مستهل صفر سنة إحدى وأربعين وسبع مئة، فأقام فيها سبعة أشهر، ثم إنه نقله الى دمشق، فحضر إليها في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا. فلما اتفق للأمير سيف الدين قوصون ما اتفق أيام الملك الأشرف كجك طلب الأمير بدر الدين الى مصر، وأعاده الى وظيفة الحجوبية وكان بها أمير حاجب في مستهل صفر سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
ولما انفصل قوصون خرج الى غزة ثانياً نائباً، وأقام بها شهرين، ثم حضر الى دمشق ثانياً وأقام بها مدة، وهو أكبر مقدمي الألوف. ثم إنه رُسم له بالتوجه الى غزة نائباً ثالث مرة، فتوجه إليها في شهر رجب أو أوائل شعبان سنة سبع وأربعين وسبع مئة، ولم يزل بها الى أن جرى للأمير سيف الدين يلبُغا ما جرى وقُتل، فرُسم للأمير بدر الدين بنيابة طرابلس، فتوجه إليها في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وعاد منها الى دمشق في أواخر شعبان سنة تسع وأربعين وسبع مئة، فإنه عُزل بألجيبغا الخاصكي، ولما اتّفق حضور ألجيبغا الى دمشق وقتله أرغون شاه، على ما مرّ في ترجمته، في سنة خمسين وسبع مئة، وخلت دمشق من نائب يقوم بأمرها سدّ الأمير بدر الدين النيابة ونفّذ مهمات الدولة، وكاتبه الملك الناصر حسن في البريد وسدّ ذلك على أحسن ما يكون.
ثم إن السلطان رسم له بالعود الى طرابلس نائباً بعد أن وُسِّط ألجيبغا وأياز بسوق الخيل في دمشق، على ما تقدم في ترجمتهما.
فتوجه إليها في أوائل جمادى الأولى سنة خمسين وسبع مئة.(3/5)
ولم يزل بطرابلس الى أن طُلب الى مصر، فدخل الى دمشق نهار عيد الفطر سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، وخرج منها متوجّهاً بطُلبه الى مصر، فلما وصل الى الرملة ورد المرسوم عليه بعوده الى دمشق، فعاد إليها ودخلها في عاشر ذي القعدة، وأقام مدةً بغير إقطاع، ثم إنه أعطي أخيراً خبز نوروز. ولم يزل كذلك الى أن توجه في نوبة بيبغاروس صحبة الأمير سيف الدين أرغون الكاملي نائب الشام والعسكر الشامي، وأقاموا على لدّ، وحضر الأمير عز الدين طقطاي الدوادار وهم على لُدّ ومعه تقليده الشريف بنيابة طرابلس مرة ثالثة، فلبسه هناك، وخدم به، وأقام هناك الى أن حضر السلطان الملك الصالح صالح من مصر ودخل الى دمشق وهو مع نائب الشام، ثم إنه توجه الى حلب صحبة الأمير سيف الدين شيخو، والأمير سيف الدين طاز الى حلب في طلب بيبغاروس، وأقاموا بحلب مدة، فاستعفى الأمير بدر الدين هناك من نيابة طرابلس، وثقل عليهم، فأعفون، واستقر على حاله بدمشق.
وفي يوم عيد رمضان حُمل الجَتْر على رأس السلطان على العادة في مثل ذلك، ولما عادت العساكر المصرية صحبة السلطان الى القاهرة فوّضت إليه نيابة الغيبة بدمشق، ولم يتحرك السلطان في تلك المدة بحركة في دمشق إلا برأيه وترتيبه، لقِدم هجرته ومعرفته بمصطلح الملك من الأيام الناصرية.
ولم يزل على حاله بدمشق الى أن توفي - رحمه الله تعالى - في التاريخ المذكور وصلى عليه نائب الشام وأعيان الأمراء والقضاة. وكانت جنازة حافلة، ودفن في الصالحية بتربتهم.
وكان قد حدّث عن ابن دقيق العيد.
ولما توفي - رحمه الله تعالى - قلت أنا أرثيه:
يا ذلّتي وشقاي بعد مسعود ... وطولَ حزني وتعدادي لتعديدي
ويا نواحي الذي يملا نواحي جي ... رون استعدْ واستزد لي فوق مجهودي
مات الأمير الذي كان الزمان إذا ... سطا لجأنا لظلٍ منه ممدودِ
ولّى وزال وقد أضحت مناقبه ... بين الأنام له تقضي بتخليدِ
كانت لياليه أعراساً لناظرها ... حُسناً وأيامه أيام تعييدِ
وكان للملك عطفٌ من عزائمه ... يختال في حلتي نصرٍ وتأييد
زها به الملك من مصرٍ الى حلب ... وهزّ عجباً به أعطاف أُملود
وشيّدت ركنَه منه سياسته ... وبات من ذاك في استيعاب تمهيد
تُغني بسالته يوم الكريهة عن ... لباس سابغةٍ من نسج داوود
تكادُ أسيافُه تقضي على مهج ال ... أعداء في حربها من غير تجريد
ويصبحُ الرمح في يُمنه ذا هيفٍ ... ووجنة السيف تمسي ذات توريد
يمحو ببيض أياديه الكريمة ما ... للدهر من ظلماتٍ في الورى سودِ
أضحت به غزةٌ في عزّة فتحت ... باباً لنيل المعالي غير مردود
كذا طرابلس إذا صار نائبها ... بادَت نوائبها عنها الى البيد
وجاور البحر فيها مثله وربا ... على عجائبه بالفضل والجود
خلائقٌ مثل روض زهره خضِلٌ ... ونسمةُ الصبح فيه ذات ترديد
وطاب ريّاً كما طابت أرومته ... أصلاً تفرّع عن آبائه الصيد
وما تواضع إلا زاد رفعته ... علوّ مجد بفرع النجم معقود
وزان أيامه من بعدما عطلت ... بجوهرٍ تزدهي منه بتنضيد
فالتاج في رأسها راقتْ جواهره ... والشّنْف في أذنها والطوق في الجيد
يا حاجباً كان عين الله تحرسه ... من عين عادٍ مع المعدوم معدود
أخليت أفق دمشقَ من سناك فطر ... ف النجم ما بين تصويت وتصعيد
تبكي الكواكب بدراً كان يؤنسها ... بنوره ثم أضحى تحت جُلمود
أبقى بنيهِ رواةَ الجود عنه لنا ... فنحن في سندٍ فيه ابن مسعود
لا زال تسقي ثراهُ سُحبُ مغفرةٍ ... تسري له في طريقٍ غير مسدودِ(3/6)
ولما كان الأمير بدر الدين - رحمه الله تعالى - بطرابلس نائباً أهدى الى الأمير سيف الدين أرغون شاه، وهو نائب دمشق، شيئاً من القلقاس وقصب السكر والمحمّضات، فكتبتُ أنا الجواب إليه عن ذلك وهو: يقبّل الباسطة الشريفة العالية المولوية الأميرية الكبيرية البدرية، لا زالت أياديها تنقل الغوارب، وتبعث نفوس محبيها على التوسع في نيل المآرب، وتخصّهم من تُحفها بما يجمع لهم بين لذة المناظرة والمآكل والمشارب، وينهي بعد دعاءٍ تفسحت له بين النجوم المضارب، وولاءٍ أعلامه خفّاقةُ الذوائب بين المشارق والمغارب، ورود المشرف الكريم أعلاه الله تعالى قرينَ ما أنعم به مولانا أعزّ الله أنصاره من هدايا طرابلس المحروسة، وتفضل بما يتوق به الى معاهدها المأنوسة، فوقف المملوك منه على روض تدبّج، وكافور بعنبر الليل تسبّج. ورأى بحر فضله وهو بأمواج سطوره مدرّج، وبهت لرصف سطوره التي كأنها نبت عذار في هامش الخدّ مخرَّج، فلثم المملوك منه موقع الاسم الكريم، وقبّل منه خدَّ كعابٍ وسالفة ريم، ووصل ما أنعم به من الهدية الكريمة، فمن قلقاس يقصّر ابن قلاقس عن نعته، ويعجز البحتري لو أنه قواف عن نحته، كل رأس منه يعود في طبخه كالمُخّ، وتمشي النفس إليه وهو في رقعة الخوان مشي الرخ، رؤوسه كرؤوس العدا المحزوزة غلّفتها الدماء والهضاب، وأصابعه كأصابع العذارى إذا انغمست في الخضاب، يتفرّى العنبر عن كافوره، وينصدع الديجور منه بصبح بدا في سفوره، وينزل في اللهاة ليناً ونعومة وانملاساً، ويزدرد الحلقوم لذاذة يخطفها من العيش اختلاساً، ويكاد من نضجه يقول لطاهيه وآكله إذا شبّها وقاسا:
وإن سألوك عن قلبي وما قاسى ... فقل قاسى، فقل قاسى
ومن قصب سكرٍ كل عود له دونة غصن البان، وصفرةٌ استعارها من العاشق إذا صدّ عنه الحبيبُ أو بان، وحلاوة ذوق لولاها لما شبّهه إلا بالمرّان، وما ئيةٍ كريق الحبيب الذي ردّ الردى وصدّ الصدى عن القلب الحرّان، فشكراً لجزرات الهند وما أهدت منه لأرض العجم والعرب، وعُجباً للونه وطعمه ووصفه فما يُدرى هل هو قصبُ ذهب، أو قصب ضرَب، أو قصب طرب، وبخٍ بخٍ لجُرعه التي تمر بالحلق والازدراد نائم لم يتنبّه، وزاهٍ زاه لحالاته المتناقضة فإن حزّه كحزّ رقاب العدا ومصّه كمص شفاه الأحبة، ومن أترجٍ أصفر وكبّاد أحمر، هذا لونه لون الوجل، وهذا له حمرة الخدّ الخجِل، هذا تحرّج متضرّج، وهذاك تهيّج وما تدبّج، لا تنهض بأوصافهما قوائم المسودات والمبيّضات، ولا يقربُ منهما الفواكه الحلوة لأنها تقول: ما لنا وللدخول في هذه المحمّضات، فالله يشكر هذه الأيادي التي جادت له بالبستان والقصر، ومتّعته وهو في الشام بالمحاسن التي ادّكر بها أوقات مصر، بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى.
وكان الأمير بدر الدين - رحمه الله تعالى - قد جهّز إلي من طرابلس ثوب صوف أزرق مربّعاً في غاية الحسن قرين كتاب منه. فكتبتُ أنا الجواب إليه أشكر إحسانه وهو: يقبّل الأرض، وينهي ورود المرسوم الكريم أعلاه تعالى، فوقف المملوك له قائماً، وقبّل شفة عنوانه اللعساء لاثماً، وتوهم أن هذا طيف خيال من فرحه وأنه كان حالماً، ووضعه على رأسه وعينيه، وفضّه فقبّل الأرض وكرر ذلك، كأن مولانا - أعزه الله تعالى - حاضر والمملوك بين يديه، ورآه متوّجاً بالاسم الكريم فعلم أن طالعه مسعود، وفاح أرجه فقال: هذا إما لطخ عنبر أو مس عود، ونزّه ناظره في تلك الحديقة التي تجدولت بالسطور وتطوّلت ببياض طرسها وسواد نقشها فقصر عنها كافور النهار ومسكُ الديجور، وعلم أن كاتبها حرسه الله تعالى قد تأني فيها وتأنق، ودبّجها بأنواع المنثور فقابل المملوك ما فيها من الجبر والصدقة بدعاء يرفعه، والملائكة بين سُرادق العرش تضعه، والله الكريم لعلمه بإخلاصه يستجيبُ له لما يسمعه، فإن المملوك ما توهّم أن العبد يرعى له المولى حقوقه، ولا أن المملوك يجري بين أيديهم ذكر السوقة، ووصل ما تصدق به مولانا ملك الأمراء أعز الله أنصاره من الصوف الأزرق المربّع:
فيا فخري به لما أتاني ... ويا شرفي به بين الصفوفِ
فزُرقته تُحاكي لازَورداً ... على لون السّما والبحر توفي
ولم أرَ قبله ثوباً رفيعاً ... غدا دِرعاً أردّ به حُتوفي(3/7)
يقول مساجل الأثواب فخراً ... لقد أعيا الحريري وصفُ صوفي
يا له من مربّع يودّ المملوك لو وصفه بألف مخمّس، وذي لون أزرق يحسُن أن يكون سماءً تتبرّج فيها " الجواري الكُنّس " ، ما أحسن لونه الأزرق لأن البدر أهداه، وما أحكم نسجه فإن صانعه أتقن ما ألحمه فيه وسدّاه، وما أثقله من سحابه فإن الغمائم تخجل من أيادي من أسداه. كم نال المملوك به من مسرة بخلاف ما يزعمه المنجمون في التربيع، وكم استجلى من لونه الأزرق سوسناً فكأن الزمان به زمان الربيع، وتعجّب له من مربّع يُحكمه أهل التثليث ويطيبُ الثناء على صانعه وأصله خبيث، ونشره المملوك من طيّه فرآه بحراً وجندرته أمواجه، وقال: هذا خليج جاء من بحر لا ينحرف عن الجود معاده ومعاجُه، فكل أمره عجيب، وكل ما فيه غريب، حتى إنه في غاية اللين وإن كان يصنعه عُبّاد الصليب. وقد غفر المملوك به من ذنوب الدهر ما مضى وما بقي، وجعل تاريخ قدومه عيداً وما ينكر تاريخ المسعودي ولا الأرزقي، والله يوزع المملوك شكر هذه الصدقات التي عمّ سحابها وأغرق، وروى جودها عن نافع بن الأزرق، فقد نوّهت بقدره، ونوعت له أسباب جبره، ويُديم الله أيام مولانا ملك الأمراء لمماليك أبوابه وغلمانه، ويغفر بإحسانها لهم ذنوب زمانهم، فإنهم من ظلّه الوارف في أمانه، بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى.
مسعود بن سعيد
ابن يحيى، سعد الدين المصري الجيزي المعروف بابن الحماميّة.
كان صوفياً أديباً، سمع من الحافظ العطار، وكان شيخاً حسناً، حسن المحاورة يكتب خطاً حسناً. وكان واسع الصدر، كثير الاحتمال، صحبَ بيدرا مملوك الأشرف، وكانت له صورة في أيامه، وكان مع ذلك متواضعاً، دخل عليه يوماً ولده، فأساء عليه الأدب وسبّه وشتمه شتماً قبيحاً، فلما فرغ قال له: ما نصطلح؟ وكتب له ورقة بأربعين درهماً.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة تسع عشرة وسبع مئة.
ومولده تخميناً سنة تسع وثلاثين وست مئة.
وكانت وفاته بالجيزة.
أنشدني من لفظه شيخنا أثير الدين، قال: أنشدني المذكور لنفسه:
علام أُلامُ في حلو الشمائل ... ويعذُبُ في الهوى عذلُ العواذِلْ
غزالٌ هِمتُ من غزلي عليه ... إذا وافى بجفنَيْهِ يُغازِل
له وجهُ الغزالةِ حين تبدو ... ضُحىً من فوق غصنِ البان مائل
نبيّ جمالِ حُسن كم أقامت ... له الألحاظُ فينا من دلائل
مسعود بن أبي الفضائل
علم الدين المعروف بابن حشيش الكاتب.
نقل طرائق خاله معين الدين هبة الله بن حشيش وزير المعظم بن الصالح أيوب وكاتبه. وكان قد رتّبه كاتب الوزارة بدمشق مدة، ثم اجتذبه الأشرف موسى صاحب حمص وحظي عنده، وله فيه أبيات:
والله لولا الأشرف السلطانُ عنترة الجيوش
ما كان ابن حشيش بين الناس إلا كالحشيش
ولما توفي الأشرف صاحب حمص استمر علم الدين مسعود كاتب درج النواب بمعلوم من ديوان السلطان، ثم نقل الى كتابة الدرج بدمشق.
أقام مدة ثم إنه توفي سنة ست وتسعين وست مئة بدمشق، وسيأتي ذكر ولده القاضي معين الدين هبة الله بن حشيش.
مسعود بن قراسنقر
الأمير سعد الدين بن الجاشنكير، أخو الأمير سيف الدين قطلوبك، وقد تقدم ذكره.
كان قد ولي الحجوبية بدمشق مدة، ثم إنه تولى القدس مدة.
ومات - رحمه الله تعالى - بدمشق ثاني شهر ربيع الآخر سنة تسع عشرة وسبع مئة، ونقل بعد ست ليال الى القدس ودفن هناك في تربةٍ كان عمّرها له.
مسعود بن محمد بن محمد
الإمام الفاضل قوام الدين ابن الشيخ برهان الدين ابن الشيخ الإمام شرف الدين الكرماني الحنفي.
قدِم دمشق في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة، ونزل الخاتونية بالقصّاعين، وحضر عنده الجماعة، ودخل الى تنكز، وتردد إليه الطلبة، وكان يعرف الفقه والأصول العربية، وكان عنده بحث ونظر وجدال، ولوالده وجدّه مصنّفات في العلوم.
الألقاب والأنساب
ابن المشهدي
محمد بن عمر.
ابن مصدّق
الحسين بن عليّ.
ابن مُصعب
نور الدين أحمد بن إبراهيم.
المطروحي
الأمير جمال الدين آقوش.
المطعّم
عيسى بن عبد الرحمن.
ابن المطهّر
الشيخ جمال الدين الحسين بن يوسف.(3/8)
ابن معبد
الأمير علاء الدين علي بن محمود. وأخوه الأمير بدر الدين محمد بن محمود.
المظفر بن محمد
ابن جعفر الصّدر الكبير الأمير فخر الدين بن الطّرّاح، قد تقدّم ذكر أخيه قوام الدين الحسن بن محمد في مكانه من حرف الحاء.
كان عارفاً بتحصيل الأموال وعمارة الأرضين.
ولي نيابة واسط والحلة والكوفة مدة طويلة، وكان كريماً شجاعاً فاضلاً ينظم وينثر، وله خبرة تامة بمباشرة الديوان.
ولم يزل على ذلك الى أن قُتل ببغداد، وكان عليه ديوان أكثر من مئة ألف درهم، وصودر أهله وأقاربه وأتباعه، وكان يكاتب السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاوون، وقد مرّ طرف من ذكره في ترجمة أخيه قوام الدين.
مظفر بن عبد الله
ابن مظفر بن قرناص الشيخ فتح الدين أبو الفتح بن بدر الدين بن قرناص الخزاعي الحموي.
سمع بدمشق من ابن أبي اليسر سنة سبعين وست مئة.
وحدّث عنه، وسمع منه ابن طويل وجماعة.
وكان من أعيان بلده وعدولها، وله نظم.
وولي نظر المعرّة، ونظر الجامع بحماة، وله مُلك يقوم بأمره.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في نصف المحرّم سنة ثلاثين وسبع مئة بحماة.
الألقاب والأنساب
ابن المعلم
رشيد الدين الحنفي إسماعيل بن عثمان. وفخر الدين محمب بن محمد. وشمس الدين محمد بن يحيى. وتقي الدين يوسف بن إسماعيل.
ابن معضاد
محمد بن ابراهيم.
ابن المغازي
ضياء الدين عيسى بن أبي محمد.
مغلطاي
الأمير علاء الدين الناصري الجمالي، المعروف أولاً بمغلطاي خُرُزْ، بضم الخاء المعجمة والراء وبعدها زاي.
كان من أكبر مماليك السلطان الملك الناصر محمد، أمير مئة مقدم ألف.
ولاه السلطان الوزارة بعد الصاحب أمين الدين في رابع عشري شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبع مئة، كان أستاذدار وأمير منزل، وتولى الوزارة مضافة الى ذلك، ولم يجتمع ذلك قبله لغيره.
وكان خيّراً كريماً عديم الشر حليماً، لا يستكثر شيئاً على أحد، ولا يظلم مَن اعترف ولا جحد، وعمّر داراً ومدرسة وتربة على التقوى إن شاء الله مؤسسة، وذلك بدرب الملوخية داخل القاهرة. إلا أنه في الآخر تزلزلت عند السلطان مكانته، وخانته إعانته فمرض وتعلل وظمئ الى العافية وما تبلل، وكلّ حدّ سعده وتغلل، وتردى حلة الإدبار وتجلل، وتوجه الى الحجاز، وانتقلت حقيقة حياته الى المجاز.
وتوفي - رحمه الله تعالى - عائداً بعقبة إيلات سنة ثلاثين وسبع مئة، ولم يزل على الوزارة الى أن مات رحمه الله تعالى.
وكان أستاذ داره سيف الدين مازان وخزنداره سيف الدين طُراي هما المتحدثان في القطع والوصل والاستخدام والانفصال، ولما ولي الوزارة طلب الصاحب شمس الدين غبريال من دمشق الى مصر وجعله ناظر الدولة معه، فأقام معه الى أن سعى في عوده الى الشام بعد سنتين، وكان إذا توقف الأمير سيف الدين أرغون النائب في العلامة على توقيع براتب أو بإقطاع أو بشيء من غير ذلك، يقول الوزير: لأي شيء ما كتبت عليه؟ فيقال له: يا خوند، أستكثر ذلك على صاحبه، فيقول: هو ما هو كثير عليه، إقطاعه تعمل في السنة ألف ألف درهم، ويعلّم هو على التوقيع.
وكان قد حضر الى دمشق متوجهاً لكشف القلاع الحلبية في شهر رجب سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
مغلطاي
الأمير علاء الدين البيسري، أحد أمراء دمشق.
كان أميراً جيداً، وله معرفة بالطيور وأمراضها.
ودفن بالجبل، وصلى عليه نائب السلطة الأفرم بسوق الخيل، وكانت وفاته في ثاني جمادى الأولى سنة سبع وسبع مئة.
مغلطاي
الأمير علاء الدين بن أمير مجلس.
حضر الى دمشق من القاهرة، وكان في دمشق أمير مئة مقدم ألف، وكان الأمير سيف الدين يحبه ويكرمه.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، ودفن بجبل قاسيون.
مغلطاي
الأمير علاء الدين الخازن النائب بقلعة دمشق.
توفي بها في عاشر صفر سنة ست وثلاثين وسبع مئة، ودفن في تربته بسفح قاسيون.
وكان رجلاً جيداً محباً للخير، وله برّ ووقف، وخلّف تركةً جيدة.
مغلطاي بن قليج(3/9)
ابن عبد الله، الشيخ الإمام الحافظ القدوة علاء الدين البكجري - بالباء ثانية الحروف وبعد الكاف جيم وراء وياء النسبة - الحنفي مدرّس الحديث بالظاهرية بين القصرين بالقاهرة.
شيخ حديث، يعرف القديم والحديث، ويطول في معرفة الأسماء الى السماء بفرع أثيث، وينتقي بمعرفته الطيب من الخبيث، ولي الظاهرية شيخاً للحديث بها بعد شيخنا العلامة فتح الدين بن سيد الناس، وعبث المصريون به لأجل ذلك، ونظموا الأشعار والأزجال والبلاليق والأكياس، ونفضوا ما عندهم في ذلك ولم يغادروا بقايا نفقات ولا فضلات أكياس.
وكان كثير السكون، والميل الى الموادعة والركون، جمع مجاميع حسنة، وألّف تواليف أتعب فيها أنامله، وكدّ أجفانه الوسنة.
ولم يزل على حاله الى أن ابتلعته المقابر، واستوحشت له الأقلام والمحابر.
وجاء الخبر الى دمشق بوفاته في سلخ شهر رمضان المعظم سنة اثنتين وستين وسبع مئة.
ومولده بعد التسعين وست مئة.
كان يلازم قاضي القضاة جلال الدين القزويني وانتفع بصحبته كثيراً، فلما مات الشيخ فتح الدين محمد بن سيد الناس - رحمه الله تعالى - في سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، تكلم القاضي له مع السلطان، فولاه تدريس الحديث بالظاهرية مكانه، وقام الناس وقعدوا لأجل ذلك، ولم يبال بهم.
ولما كان في سنة خمس وأربعين وسبع مئة وقف له الشيخ صلاح الدين العلائي رحمه الله تعالى على تصنيف له وضعه في العشق، وكأنه تعرّض فيه لذكر عائشة الصدّيقة رضي الله عنها، فقام في أمره وكفّره، واعتقل أياماً، فقام في حقه الأمير بدر الدين جنكلي بن الباب وخلّصه.
وكان قد حفظ الفصيح لثعلب، وكفاية المتحفظ، وسمع من علي بن عمر الوالي، ويوسف بن عمر الختني، ويوسف الدبابيسي، وغيرهم، ووضع شيئاً في المؤتلف والمختلف، وعمل سيرة مختصرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ النسائي بنفسه، ودرّس بجامع القلعة بالقاهرة بواسطة قاضي القضاة جلال الدين.
وكان ساكناً جامد الحركة يلازم المطالعة والكتاب والدأب، وعنده كُتب كثيرة وأصول صحيحة.
كتب إلي من القاهرة وأنا بدمشق في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة:
سلام كما ازدانت بروض أزاهرُ ... وذكرٌ كما نامت عيونٌ سواهرُ
تحية من شطت به عنك داره ... وأنت له عينٌ وسمعٌ وناظرُ
فيا سيد السادات غير مدافع ... ويا واحد الدنيا ولا من يفاخر
لك الشرف الأسمى الذي لاح وجهه ... كما لاح وجه الصبح والصبح سافر
لئن سهرت في المكرمات أوائل ... لقد شرفت بالمأثرات أواخر
سجايا استوت منهن فيك بواطنٌ ... أقامت عليهن الدليل ظواهر
يقبّل الأرض عبدٌ كتب هذه الخدمة عن ودّ لا أقول كصفو الراح، فإن فيها جُناحا ولا كسقط الزند، فربما كان شحاحاً، ولكن أصفى من ماء الغمام، وأضوا من قمر التمام، مستوحش من خدمتكم كثيراً، ومعلن بالثناء وإن كان المملوك حقيراً، ومستعرض خدمتكم وحاجتكم ليحصل له الشرف بمناجاتكم، ويتطلب منكم الدعاء بظهر الغيب، فإنه متقبل ولاسيما منكم بلا ريب.
والمملوك أجلّ خدمتكم أن يكتب إليكم لما يقدحه خاطره، ويسفره ناظره، لكون باعه قصيراً في هذا العلم وغيره، وجبركم أوجب هذا الإدلال.
فكتبت أنا الجواب إليه في ورق أحمر وهو:
سطورٌ تبدّت أم رياض نواضرُ ... تحار لها مما حوته النواظرُ
أتينا فخلناها أزاهر روضةٍ ... وما هي إلا في السماء زواهر
وما شاهدت عيني سواها رسالةً ... يغازلني منها حسانٌ سواحر
يحقق ما فيها من الحسن باطناً ... لأهل المعالي زخرفٌ وهو ظاهر
صناعة من تمسي البلاغة فوق ما ... يحاوله من نظمه وهو قادر
وما كل من عانى الترسّل ناثرٌ ... ولا كل من يعزى له النظم شاعر
أيا حافظاً قد ضاع عرْفُ حديثه ... وما ضاع بل قد أحرزته الدفاتر
تفضّلت بدأً بالتحية عالماً ... بأني عن غايات فضلك قاصر
وباعك قد أمسى مديداً على العلا ... وبحركَ في النّظم المنقّح وافر(3/10)
إذا افتقر المنشي الى بعض فقرةٍ ... فعندك من حُرّ الكلام ذخائر
وما شئت إلا أن فضلك بعدما ... ترحلت يرويه عطاءٌ وجابر
فلا تلزمني بالجواب وبالجوى ... لبعدك يكفيني الحنين المسامر
وشوقي الى ما فاتني من فضائل ... لها تقصت عندي البحور الزواخر
وإني إذا ما غنّت الوُرق نادب ... وإني إذا نام الخليّون ساهر
فلا زالت العلياء حاليةَ الطُّلى ... بألفاظك الحسنى فهنّ جواهر
يقبّل الأرض التي تضع الملائكة بها الأجنحة، ويدّخر بها من بركات الدعاء نفائس الأسلحة، تقبيل من عدم أنسه، وفقد من السرور فصله ونوعه وجنسه، وعلم أن بهجته من الزمن كانت عارية فاستردّها، وكذلك العواري. وتبيّن أن الفراق جعل القلب مملوك الجوى والعبرات جواري، وتحقق أن الدهر ناقد فأعدم كل مسلم للنوى شرط البخاري.
وكنا كما نهوى فيا دهرُ قُلْ لنا ... أفي الوَسعِ يوماً أن نعود كما كنّا
على أن المملوك يصبّر نفسه على فراق مولانا ويتجلد، ويعلل قلبه باجتماع الشمل فإنه ألِف العَود وتعوّد، ويحمل الأمر في هذا البين على الظاهر ولا يتأوّل، ويتمسّك في بُعده بما قاله الأول:
أأحباب قلبي والذين بذكرهم ... وترداده طولَ الزمان تعلّقي
لئن غاب عن عيني بديعُ جمالكم ... وحار على الأبدان حكمُ التفرّق
فما ضرّنا بُعدُ المسافة بيننا ... سرائرُنا تسري إليكم فنلتقي
وينهي ورود المشرفة الشريفة، لا بل كنز الفصاحة التي لو أنفق البليغ مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدّها ولا نصيفه، بل كعبة الحسن التي لا تزال الألباب بها طائفة، والعيون مطيفة، لا بل الغادة الحسناء التي تقرر بها الاستحسان في مذهب أبي حنيفة، فوجد مقام الجواب عنها ضنكاً، ووقف لها واستوقف وبكى واستبكى وقال:
لك الفضل سبّاقاً به كلَّ غايةٍ ... وما لك فيه من شبيهٍ ولا مثلِ
وقد كنتُ مسعوداً لو أني سابق ... بكبْتي عن شوقي ولكن بكت قبلي
وقد شجع المملوك نفسه وأرسل الجواب في هذا الورق الأحمر لأمر يرجو فيه خيراً، ولأن الحمرة دليل الخجل إذا نشرت بين يدي مولانا الذي حمد البيان عند صباحه سُرىً وسيراً، ولأنها متى أوردت حديث بديع قال لها حفظ مولانا ونقده: لا يصح حديث جاء فيه ذكر الحُميرا، ولمولانا علوّ الرأي في الإتحاف بهذه الفوائد، والمحاسن التي لا تزال غصون رياضها للمتطفلين على الآداب موائد، والله تعالى يخرق ببقاء مولانا العوائد بمنّه وكرمه.
مغلطاي
الأمير علاء الدين المرتيني، بفتح الميم وسكون الراء وبعدها تاء ثالثة الحروف وياء آخر الحروف، ونون.
ولي نيابة قلعة دمشق مرات، وولي الحجوبية بدمشق أيضاً وغير ذلك.
وتوفي بقلعة دمشق نائباً في شعبان سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق، وكان قد جاء الخبر بوفاة ابن له بالقاهرة بأيام قلائل، فمات رحمه الله تعالى عقيب ذلك.
وكان قد ولي قلعة دمشق في وقت جمادى الأولى سنة ست وثلاثين وسبع مئة، وذلك بعد الأمير سيف الدين بنغجار.
مغلطاي
الأمير علاء الدين أمير آخور السلطان الملك الناصر حسن.
كان شديد الباس قويّ النفس في دفع الإلباس، لا يصبر على ذلة، ولا يصاحب إلا العزمة المشمعلة، كثير الحسد، لا يرحم عدوّه ولو كان بين ماضغي أسد. وكان يتنفس الصعداء في حق الدولة، ويظن أنه فارس الجو وصاحب الجولة، ويرى أنه أحق بها منهم وأجدر، وأنه أولى بذلك وأقدر، فمازال يعمل على إبعاد من كرهه منهم، وذهاب الحكم في الأمر والنهي عنهم، وساعدته الأقدار على مراده، وحكم فيهم بيض سيوفه وسمر صعاده، وزاد في التشفي وإظهار حقوده، وتلظّت نار غضبه بوقوده:
حتى لو ارتشق الحديد أذابه ... بالوقد من أنفاسه الصعداء
ثم إن مدة حكمه ما امتدت، وشدة جبروته ما اشتدت، فكبا جواد سعده في وسط ميدانه، وخرّ بناؤه المشمخر بعد علوّ أركانه، فانقلبت الدولة عليه كما قلبها، وجُلبت البلية إليه كما جلبها، ونزل من الثريا الى الثرى، وكان أمام الملوك فأصبح وراء السوقة من الورى، وانحط منهبطاً الى سيدوك، وقال له القدر: هذا القدر الذي لا يعدوك:(3/11)
فيا لها من محنة عاجلت ... قريبةُ العرس من المأتم
ثم إنه أُفرج عنه من اعتقاله، وحكم الدهر له بانتقاله، فما فرح بالفضاء حتى عثر بالقضاء، وناح عليه حمام حَمامه، وبكاه الغيث بأجفان غمامه.
وتوفي بدمشق رحمه الله تعالى عاشر شهر رمضان سنة خمس وخمسين وسبع مئة.
كان يشاقق الأمير سيف الدين منجك الوزير، ويسمعه الكلام الفجّ في كل وقت، وكان الوزير يتقيه، فلما توجه الأمير بيبغاروس الى الحجاز، عمل مغلطاي على إمساك الوزير، لأنه انفرد به، وقلب ذلك الحزب وأباده، وسيّر الى الطريق وأمسك النائب بيبغا، وهو أخو الوزير، وتفرّد بتدبير الحال، وطلع من الإصطبل وصار رأس نوبة، وسكن الأشرفية. وكان قد تزوج بابنة الأمير سيف الدين أيتمش نائب الشام، وأخرج الأمير سيف الدين شيخو الى الشام على أنه يتوجه الى طرابلس، ثم إنه سيّر الى دمشق فأمسكه، وجهّزه الى الاسكندرية، وأخرج الأمير علاء الدين علي المارداني الى دمشق، وأخرج غيره، وأراد إمساك أحمد الساقي نائب صفد، فجرى ما ذكرته في ترجمته، واستوحش الأمير سيف الدين أرغون الكاملي نائب حلب، فعمل على إمساكه، وتخبّط أمر الشام ومن فيه، وتعب الناس به، وصاروا منه في أمر مريج، وزاد في الإقدام على القبض والنقل، وإخراج الأمراء من الديار المصرية.
ولم يزل شرّه يتفاقم، وضرره يتعاظم، الى أن خُلع السلطان الملك الناصر حسن في يوم الإثنين ثامن عشري جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وذلك بعد ركوبهم الى قبة النصر، وأجلسوا السلطان الملك الصالح صالحاً على الكرسي، ثم إن السلطان أمسكه في رابع يوم من مُلكه، وهو ثاني شهر رجب الفرد، وأمسك معه جماعة، منهم الأمير سيف الدين منكلي بغا الفخري، وجُهّزوا الى الاسكندرية، وفي مغلطاي يقول القائل:
سلطاننا في مغلطا ... ي أطاع أمرَ الخالقِ
وشفى القلوب بحبسه ... وأذلّ كلَّ منافقِ
وخبيصةَ البحر اغتدى ... وخراه منه نقانقي
ولم يزل مغلطاي معتَقلاً الى أن أفرج السلطان الملك الصالح عنه وعن الوزير منجك، فوصل الأمير علاء الدين مغلطاي الى دمشق في حادي عشري شهر ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وسبع مئة متوجهاً الى طرابلس ليكون بها مقيماً بطّالاً، وأقام بها قليلاً، فحصل له ضعفٌ وتعلّل، فسأل من السلطان أن يحضر الى دمشق ليتداوى بها ويقيم يها، فرسم له بذلك، فحضر الى دمشق وأقام بها أياماً قلائل، وهو في مرضه الى أن مات في تاريخه المذكور، رحمه الله تعالى.
وكانت مدة حكمه ثمانية أشهر ويومين، لأنه أمسك الوزير منجك في رابع عشري شوال سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، وأمسك هو في ثامن عشري جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وذلك ثمانية أشهر، لا بل ثمانية أيام حسوماً.
وقلت أنا في أمره لما أُمسك:
مَغالطُ مغلطاي مشتْ قليلاً ... وروّجها الزمان له فراجتْ
وعاجتْ عن قليلٍ واضمحلّت ... وما جاءت بخير حين ماجت
اللقب والنسب
ابن المغيث
إسماعيل بن عبد العزيز.
ابن مكتوم
تاج الدين أحمد بن عبد القادر.
ابن المكرّم
أبو بكر بن محمد. وجمال الدين محمد بن مكرّم.
ابن مكي
محمد بن محمد. وأخوه أحمد.
المقصّاتي المقرئ
أبو بكر بن عمر.
المقدسي
بهاء الدين إبراهيم بن عبد الرحمن.
المقريزي
محي الدين عبد القادر بن محمد.
المقاتلي
فخر الدين عثمان بن بلبان.
ابن مقاتل الزجّال
علي بن مقاتل.
ابن مقلّد
حاجب العرب علي بن مقلّد.
بني المُغَيزل
جماعة: منهم زين الدين أحمد بن محمد، وفخر الدين عبد الله بن أحمد، وبهاء الدين عبد الصمد بن عبد اللطيف، وفخر الدين محمد بن عبد الكريم، وصلاح الدين يوسف بن محمد، وناصر الدين عبد الرحمن بن أحمد.
ملك آص
الأمير سيف الدين.
كان أولاً بالديار المصرية جاشنكيراً، وقدم الى دمشق، ولم يزل على حاله، وباشر شدّ الدواوين بدمشق. ثم إنه سأل الإعفاء، فأجيب الى ذلك، وباشر عمارة التربة التي لأرغون شاه تحت قلعة دمشق. وكان قبل ذلك كله قد باشر نيابة جعبر، وجرت له واقعة مع العرب، ونجّاه الله منها، ثم إنه عاد الى دمشق.(3/12)
ولما أمسك السلطان الملك الناصر حسن الوزير منجك، أمر بإمساك الأمير سيف الدين ملك آص والأمير شهاب الدين بن صبح، لأنهما اتّهما بميلهما الى الوزير، فأمسكا بدمشق في يوم الخميس عشري القعدة سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، واعتُقلا في قلعة دمشق.
ولما كان في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة أفرج عنهما، فأعيدا الى طبلخاناه بعد ذلك، فأقام الأمير سيف الدين ملك آص على حاله.
ولما حضر بيبغاروس الى دمشق انتمى إليه ملك آص، وبقي في خدمته، وندبه في أشغال ومهمات، فلما وصل السلطان الملك الصالح صالح الى دمشق أمر بإمساك جماعة، منهم الأمير ساطلمش الجلالي، والأمير زين الدين مصطفى البيري، والأمير علاء الدين علي بن البشمقدار، والأمير سيف الدين ملك آص، والأمير حسام الدين حسام مملوك أرغون شاه، وذلك في يوم الأربعاء خامس شوال سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، وتوجهوا بهم الى الإسكندرية واعتُقلوا بها جميعاً. ولم يزالوا بها.
ولما كان في يوم الأربعاء من شهر رجب الفرد سنة أربع وخمسين وسبع مئة وصل الى دمشق الأمير سيف الدين ملك آص والأمير سيف الدين ساطلمش الجلالي ومن كان معهما في الحبس، وقد أفرِج عنهم ورُسم لهم بالإقامة في دمشق بطّالين.
ولم يزل ملك آص في دمشق بطّالاً الى أن كتب له الأمير علاء الدين أمير علي المارداني نائب الشام وسأل من السلطان أن يرتّب له على الأموال الديوانية مرتّب، فرسم له بذلك، ورتّب مقدار شهرين.
ثم إنه توفي - رحمه الله تعالى - في ثامن عشر شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبع مئة، ودُفن رحمه الله تعالى في تربته المليحة المجاورة لداره بجوار جامع يلبغا في سوق الخيل.
ملِكْتَمُر
الأمير سيف الدين الحجازي الناصري، أحد المقدّمين أمراء الألوف، أصهار السلطان الملك الناصر محمد، أظنه تزوّج بابنة السلطان التي كانت أولاً مع الأمير سيف الدين طغاي تمُر الناصري.
كان في حركاته أشبه شيء بالقضيب إذا ماس، وهبّ به نسيم السحر بارد الأنفاس، ووجهه كالبدر إذا بدا، والشمس إذا رام الحائر بها الهدى، إذا التفت فلا تلتفت الى الغزال النافر، ولا تحتج مع جبينه الى الصبّاح السافر، مع جود من أين للغمام كرمُه إذا سفح، أو البحر نواله إذا طفح، وخلق كأنه نسيم ورْد هبّ في سحره، وجرّ ذيله المبلول على زهره، فهو كما قال أبو تمام في وليده وتغزّل به في قصيده:
مليٌّ بأن يسترقّ القلو ... بَ على هزله وعلى جدّه
وأن يوجد السّحر في طرفه ... وأن يُجتنى الوردُ من خدّه
يشفّ القلوب وإن أكذبَ ... الظنون وأخلفَ في وعده
بما أشبه البدرَ من حُسنه ... وما شاكل الغصنَ من قدّه
وألسنةُ الحمد مجموعةٌ ... على شكره وعلى حمده
وجرتْ له بعد أستاذه الناصر أمور، وكُسف بدره وسط الديجور، وغرُب نجماً، ثم بزغ في سماء السعادة قمراً تمّا.
ولم يزل بعد ذلك في مدارج صعود، ومطالع سعود، الى أن غُصّ من بريق السيف بريق، وأمسكه الأجَل في المشيق.
وكانت قتلته في حادي عشري شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وسبع مئة.
ولم يكن عند أستاذه الناصر أحدٌ في منزلته ولا مَن يُدانيه في علوّ مرتبته.
قال لي القاضي شرف الدين النشّو: لو أن هذا الحجازي يلازم خدمة السلطان ويواظبها أخذ منه شيئاً كثيراً الى الغاية.
وقال لي الشيخ شهاب الدين أحمد العسجدي: اجتمعتُ به فرأيت على ذهنه مسائل فقهية يسأل عنها، وذهنه جيّد.
وقال لي كاتبه مجد الدين رزق الله: إنه يلعب بجميع الملاهي، بالعود والدفّ وغير ذلك. وحكى لي أنه يصفُّ له ثلاثة أرؤس خيلاً وأن هيهمز نفسه فيعدّيها في الهواء الى الأرض من ذلك الجانب من غير أن يضع يده على شيء منها.(3/13)
ولقد رأيته وهو في القاهرة وفي صلاة الجمعة مع السلطان بجامع قلعة الجبل، وما يكاد يستقرّ على الأرض لا قائماً ولا قاعداً، لا يزال في حركة يتموج وينعطف كالغصن، وكان من محبة السلطان فيه ما يدعه ينزل يوم السبت الى الميدان للعب بالكرة، بل يدعه ينزل يوم الثلاثاء ويلعب بالكرة هو وخاصيّته من الجمداريّة الذين يألف بهم ويميل إليهم من مماليك السلطان، وكان يقول له: يا ملكتمر لما تلعب تبرقَع حتى لا تؤثّر الشمس في وجهك، ولا يدعه يحضر الخدمة إلا في بعض الأوقات القليلة حتى لا يراه أحد.
وكان الحجازي في جملة من أمسكهم قوصون وحبسهم في واقعة المنصور أبي بكر، ولما حضر الناصر أحمد من الكرك أخرجه م الحبس، وقتل قوصون، وأبان في واقعة الكامل عن فروسية ورُجلة، على ما تقدّم في ترجمة الأمير شمس الدين آق سنقر.
وكان الحجازي أحد من قام بدولة الملك المظفّر حاجّي، ولم يزل في غاية العظمة والوجاهة الى أن تنكّر له الملك المظفر بسبب لعب الكرة وتحزّبهم، وكأنه أضمر الغدر، فجاء أحد من اتفق معه الى السلطان وعرّفه أنهم قد عزموا يوم الإثنين عشري شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين على الركوب الى قبة النصر ليفعلوا كما فعلوا بالملك الكامل، فطلبه السلطان الملك المظفّر عشية الأحد العصر، وأمسكه أمسك الأمراء الستة المذكورين في ترجمة آقسُنقر، ويقال إن الأمير سيف الدين منجك وغيره من الخاصكية ضربوه بالسيوف وبضّعوه، فقال الأمير شمس الدين آقسنقر وقد أمسكوه أيضاً: هذا المسكين ما هو مسلم؟ فضربوه بالسيوف وقطّعوه.
وكان الأمير سيف الدين ملكتمر شاباً طويلاً حسن الوجه، خفيف الحركة، زائد الكرم، قلّ من يحضر بين يديه ويخرج بغير خلعة ولا إنعام سواء كان ربّ سيفٍ أو قلم أو ربّ صناعة. وحكى لي بعض الفقهاء أنه وهبه مرة ألف دينار ولم يجتمع به إلا مرة واحدة.
وكان أخيراً قد لفّ عليه أولاد الأمراء يركبون معه وينزلون في خدمته ويأكلون على سماطه ويأخذون إنعاماته وإطلاقاته، ولهذا أُمسك معه جماعة منهم واعتُقلوا، وكان السبب في إمساكه وإمساك غيره، شجاع الدين أغرلو المقدّم ذكره.
وقلت أنا فيه رحمه الله تعالى:
بغا أغرلو على الحجازي ... وكان للمُلك كالطراز
مضى شهيداً وعاش هذا ... يرتع في اللؤم والمغازي
فمصرُ والشام في التها ... ب البرق اليماني على الحجازي
ملكتَمُر
الأمير سيف الدين السعيدي.
أظنه الذي جهّزه القان بوسعيد الى الملك الناصر محمد بن قلاوون هو والأمير سيف الدين أرغون شاه، وحضر في وقت الى الشام وأقام به ثم طُلب الى مصر وأقام بها الى أن أمسك الأمير سيف الدين صرغتمش، فرسم السلطان الملك الناصر حسن بإخراجه الى قلعة المسلمين.
فخرج وهو مريضٌ، فلما وصل الى حماة توفّي الى رحمة الله تعالى في العشر الأول من ذي القعدة سنة تسع وخمسين وسبع مئة.
ملكتمر
الأمير سيف الدين المعروف بالدم الأسود.
كان أمير ستين فارساً بدمشق، وسكن بالعقيبة عند حمام الجلال.
توفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وسبع مئة.
اللقب والنسب
ابن الملاق
محمد بن علي.
ابن ملّي
الشيخ نجم الدين أحمد بن محسن.
المنجّا بن عثمان
ابن سعد بن المنجا بن بركات بن المؤمّل، العالم العلامة المفتي زين الدين أبو البركات ابن الصدر عز الدين ابن الإمام الكبير الأوحد العلامة وجيه الدين التنوخي المعري الأصل، الدمشقي المولد، الحنبلي.
حضر على جعفر الهمداني، وابن المقيّر، وسالم بن صصرى، وسمع من السخاوي، والتاج القرطبي، والرشيد بن مسلمة، وتفقّه على أصحاب جدّه، وعلى أصحاب الشيخ الموفّق، وقرأ الأصول على كمال الدين التفليسي وغيره، وبرع في المذهب.
وتفقّه عليه ابن الفخر، وابن أبي الفتح، وابن تيمية، وجماعة من الأئمة.
وشرح كتاب المقنع في الفقه شرحاً جيّداً في أربع مجلّدات، وفسّر الكتاب العزيز ولكنه لم يبيّضْهُ، وألقاه كلَّه دروساً، وشرع في شرح المحصول ولم يكمله واختصر نصفه. وكانت له في الجامع الأموي حلقة للاشتغال والفتوى نحو ثلاثين سنة متبرّعاً. وكان يصوم الخميس والإثنين، ويذكّر من حين يصلي الصبح الى أن يصلي الضحى.(3/14)
وكان له مع الصلوات تطوّعٌ كثير، وفي آخر الليل تهجّد، ويفطّر الفقراء عنده في بعض الليالي وفي شهر رمضان كله.
وسمع صحيح مسلم على السخاوي.
وكان له مُلكٌ وثروة وحرمة وافرة، وسأل الناس الشيخ جمال الدين بن مالك أن يشرح لهم ألفيته فقال: زين الدين يشرحها لكم. وكان قد قرأ على ابن مالك وأجاز لشيخنا الذهبي جميع مرويّاته.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وتسعين وست مئة.
ومولده سنة إحدى وثلاثين وست مئة.
اللقب والنسب
المنبجي
الأديب بدر الدين محمد بن عمر. ومحمد بن خلف.
ابن منتاب
شمس الدين محمد بن داود.
منتصر بن الحسن بن منتصر
الشيخ ضياء الدين الكناني العسقلاني المحتد، الأدفوي المولد والدار، خطيب أدفو.
سمع من الشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي، وأبي عبد الله بن النعمان، وغيرهما. وقرأ الفقه، ثم ورد الى البلاد فقيرٌ من السعودية فصحبه وتصوّف، وعمّر رباطاً بأدفو.
قال كمال الدين الأدفوي: وكان كثير المروءة، كثير المكارم والحلم، يبذل ماله ونفسه وجاهه في حوائج الناس. وكان صحيح الاعتقاد وكان كل يوم جمعة يصلي الصبح بغلس، ويخرج الى المقابر يزور ويقرأ ويدعو، لا يخلّ بذلك ولا ينقطع عن الصلوات الخمس بالجماعة إلا لضرورة. وكان يحفظ مسائل من الفقه والكلام، ويستحضر تواريخ وتراجم الناس وأنسابهم، وكان من أحسن الناس خطابةً يُشجي سامعه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وقال: قرأت عليه جزءاً من الشّفاء.
اللقب والنسب
بنو المنجا
عز الدين المحتسب محمد بن أحمد. وقاضي القضاة علاء الدين بن المنجا. ووجيه الدين محمد بن عثمان. وشرف الدين محمد بن المنجا. وعز الدين محمد بن أحمد ناظر الجامع.
ابن المنذر
فخر الدين محمد بن المنذر.
منصور بن جمّاز
منصور بن جمّاز بن شيخة الحسيني صاحب المدينة الشريفة النبوية.
قتل رحمه الله تعالى سنة خمس وعشرين وسبع مئة في رابع عشر شهر رمضان، قتله في البرية شابٌ من أقاربه.
وكان قد كبر وأسنّ وشاخ، وله مدة في إمرة المدينة من حياة والده، لأن والده كان قد كبر وعجز، وكان يخطَب لهما معاً الى أن مات والده، واستقر في إمرة المدينة بعده ولده الأمير بدر الدين كُبيش.
منصور بن عبد الكريم
ابن أحمد الشيخ الصالح أبو أحمد السَراوي المعروف بابن العجمي وبابن الحمصي.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: كان شيخاً صالحاً أقام بدمشق مدةً في بستان جوار دار الطُعم، حضرت يوماً عنده فذكر أن والده كان تاجراً من أهل تبريز، وأنه قرأ القرآن ولازم التجارة مع والده الى أن بلغ عشرين سنة، فترك ذلك وحصل له إقبال على الطاعة. وجاور وحضر واقعة حمص سنة ثمانين وست مئة، ورأى الملائكة فيها، وأنه نظم قصيدة على حرف التاء أكثر من ألفي بيت في السلوك، قال: وأنشدني بعضها، وكان اجتماعي به في جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين وست مئة.
ثم إنه بعد ذلك انتقل الى حمص، وتولى بها مشيخة الخانقاه الى أن توفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة.
اللقب والنسب
المنصور
جماعة: صاحب ماردين غازي بن قرا أرسلان.
والمنصور
حسام الدين لاجين.
والمنصور
أبو بكر بن محمد.
والمنصور الكبير
والد المملوك سيف الدين قلاون.
ابن منعة
محمد بن أحمد.
المنفلوطي
شرف الدين محمد بن عبد المنعم.
منكلي بُغا
الأمير سيف الدين الناصري.
كان سلحداراً من أكبر خاصكية السلطان الملك الناصر محمد، وكان شكلاً مليحاً طوالاً، تامّ الخَلق كبير الذقن، وكان من خوشداشية الأمير سيف الدين أرغون النائب، وهو أمير مئة مقدّم ألف، وزوّجه السلطان أخيراً بزوجته بنت بُرقطاي قريب القان أزبك، فأقامت عنده قليلاً.
وتوفي عنها في سنة ثلاثين أو أوائل إحدى وثلاثين وسبع مئة.
ثم تزوّجها الأمير سيف الدين موصون أخو قوصون.
منكلي بغا
الأمير سيف الدين الفخري الناصري.(3/15)
كان في جملة أمراء دمشق، ولما توجّه العساكر الى مصر في نوبة السلطان أحمد، توجه هو صحبة الفخري، وأقام في القاهرة، ثم جعل أمير جاندار.
وكان حسن الشكل بسّاماً، فيه خيرٌ ومروءة وتعصّب لمن يخدمه.
ولم يزل على ذلك الى أن رُسم له في أيام المظفّر حاجي بنيابة طرابلس، فحضر إليها على البريد ووصل الى دمشق في ثاني عشري المحرّم سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وحضر معه الأمير شجاع الدين أغرلو، ليقرّه في النيابة ويعود، فأقام بها نائباً الى أن جرى للأمير سيف الدين يلبغا ما جرى من هروبه وإمساكه، على ما يأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى، فطلب منكلي بغا الفخري الى مصر، وجاء في طلبه الأمير سيف الدين طشبغا الجمدار، ووصل الى دمشق وتوجّه منها الى القاهرة في ثامن عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وأقام بمصر، من أكبر أمراء المشور، وزادت عظمته لما أمسِك الأمير سيف الدين منجك الوزير، لأنه هو الذي عضد الأمير علاء الدين مغلطاي أمير آخور على إمساك الوزير.
ولم يزل في زيادة عظمة الى أن خُلع الملك الناصر حسن وتولى الملك الصالح صالح، فأُمسك منكلي بغا المذكور في ثاني شهر رجب من السنة المذكورة.
ولم يزل في الاعتقال بالإسكندرية الى أن وصل الخبرُ الى دمشق بوفاته في جمادى الأولى سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة. ووجدَت له أموال عظيمة.
منكلي بغا
الأمير سيف الدين.
أنشأه الملك الصالح إسماعيل، وصار من أكبر الخاصكية، وحضر من مصر ليتوجّه بالأمير بدر الدين أمير مسعود بن الخطير في أيام الملك المظفّر حاجي ليرتّبه في نيابة طرابلس ويعود، وأحضره من غزة وتوجه به الى طرابلس وأقرّه فيها وعاد الى دمشق فأقام بدمشق مدة ثلاثة أيام.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني عشر شهر رجب سنة ثمان وأربعين وسبع مئة.
منكبرس
الأمير الكبير ركن الدين أبو سعيد الجمالي التركي الساقي، وأحد غلمان الأمير جمال الدين إيدغدي العزيزي.
كان بطلاً شجاعاً مهيباً من أمراء الدولة المنصورية والأشرفية، ولي نيابة غزة في دولة المنصور لاجين.
سمع منه شيخنا الذهبي بحضرة ابن الظاهري، وشهد الوقعة، فجاءته ضربة في وجهه، فصرخ في أصحابه وحمل بهم في التتار، فجاءه سهمٌ واشتغل عنه أصحابه، ثم عادوا إليه فوجدوه مستنداً الى رمحه، فلما سقط عجزوا عن دفنه.
وكانت قتلته في سنة تسع وتسعين وست مئة.
منكوتمر
الأمير سيف الدين مملوك السلطان حسام الدين لاجين.
كان عند مخدومه جزءاً لا يتجزّا، ولدناً صلبت قناته وإن لام مهَزّا، لا يخرج عما يراه، ولا يضرب به جبلاً إلا قطعه وفراه، قد حكم عليه وملكه، وأدار عليه فلكه، وهو لا يرى خلافَه، ولا يرشف إلا سُلافه، فكان عنده:
نافذ الأمر لو يجير من النق ... ص بدور الدّجي لدام التّمام
فسلك في النيابة ما لا يجب، وترك كل أمير من الأكابر وقلبه من الخوف يجب، وجسّر أستاذه على إمساك جماعة، وهوّن عليه أمانيّه وأطماعه، فتغلّثت الخواطر من الأمراء الأكابر، وتوحّشوا بعد الأنس وأيقنوا أن السجون لهم مقابر. فقتلوا السلطان، كما مرّ في ترجمته، وجرّوا هذا ملكتمر على حزّ رقبته، على ما تقدّم في ترجمة لاجين، وذلك سنة ثمان وتسعين وست مئة.
وبنى المدرسة التي داخل القاهرة، ودرّس بها في شوال سنة سبع وتسعين وست مئة. وكان قد ولي كفالة الممالك بالقاهرة بعد إمساك قراسُنقر وجماعته في منتصف ذي القعدة سنة ست وتسعين وست مئة.
الألقاب والأنساب
ابن مُنيّر
فخر الدين عبد الواحد بن منصور.
ابن مهاجر
الشاعر أحمد بن عبد الله.
ابن المهتار
مجد الدين أحمد بن محمد. ومجد الدين عليّ بن يوسف. وناصر الدين محمد بن يوسف.
المهدي(3/16)
كان قد خرج بعض الزنادقة من مدينة حماة وتوجّه الى بلاد النُصيرية ودخل بلد جبلة، وورد الى دمشق محضرٌ من طرابلس، مضمونه أنه لما كان يوم الجمعة ثاني عشري ذي الحجة سنة سبع عشرة وسبع مئة بعد صلاة الجمعة حضرت النصيرية الكفرة الفجرة الى مدينة جبلة، وعُدّتهم أكثر من ثلاثة آلاف، يقدمهم شخص تارة يدّعي أنه محمد بن الحسن المهدي القائم بأمر الله تعالى، وتارة يدّعي أنه علي بن أبي طالب فاطر السماوات والأرض، وتارة يدعي أنه محمد بن عبد الله، وأن البلاد بلاده، والمملكة الإسلامية مملكته وأن المسلمين كفرة، وأن دين النصيرية هو الحق، وأن السلطان الملك الناصر محمد صاحب البلاد مات من ثمانية أيام، واحتوى المذكور على عقول جماعة من مقدّمي النصيرية، وعيّن لكل إنسان منهم تقدمة ألف، ونيابة قلعة من قلاع المسلمين من المملكة الإسلامية، وفرّق عليهم إقطاعات الأمراء والحلقة، وافترقت الطائفة المذكورة ثلاث فرق على مدينة جبلة، فرقة ظهرت قبلي البلد بالشرق فخرج عليهم عسكر المسلمين فكسّرهم وقتل جماعة عدتهم مئة وأربعة وعشرون، وقتل من المسلمين نفر يسير، وهربت الفرقة المذكورة، وجرح من المسلمين منهم جمال الدين مقدّم العسكر بجبلة. وفرقة ثانية ظهرت قبلي جبلة بالغرب على جانب البحر، وفرقة ثالثة ظهرت شرقيّ جبلة بشمال، وكثروا على المسلمين وكسروهم، وهجموا على جبلة، ونهبوا الأموال، وسبوا الأولاد، وهتكوا النساء، وقتلوا جماعةً من المسلمين بجبلة، ورفعوا أصواتهم لا إله إلا عليّ، ولا حجاب إلا محمد، ولا باب إلا سلمان، وسبّوا أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم. وبقي الشيوخ والنساء والصبيان يصيحون وا إسلاماه، وا سلطاناه، وا امراءاه، ولم يكن لهم مُنجد في تلك الحالة إلا الله تعالى، وجعلوا يتضرّعون ويبتهلون. وجرى في هذا اليوم أمر عظيم.
ثم إن الشخص المذكور جمع الأموال المذكورة المأخوذة وقسّمها على مقدميهم، وقال إنه لم يكن للمسلمين ذكرٌ ولا خبرٌ ولا دولة، ولو كنت في عشرة بقضيبٍ واحد لا بسيفٍ ولا بترس ولا برمح، انتصرتُ عليهم وقتلتهم، وأظهر دين النصيرية ونادى في البلاد المقاسمة عليهم بالعشر، وأمر بخراب المساجد، وجعلها خمّارات، وأمسك النصيرية جماعة من المسلمين بجبلة، وأرادوا قتلهم، وقالوا لهم: آمنوا بمحمد بن الحسن، وقولوا لا إله إلا عليّ، فمن قالَها حقن دمه وصان ماله وأعطي فرماناً.
وكانوا في اليوم المذكور قبل دخوله جبلة كبسوا ذوق سليمان التركماني وذوق تركمان من جهة حلب، وأخذوا أموالهم وأولادهم وحريمهم، وكان الغالب على الجمع المذكور طائفة العبديين، ومنهم الشخص المذكور، وطائفة من الحرانية وجماعة من بلد المرقب والعليقة، والمنيعة. وفي عشية اليوم المذكور، وصل الأمير بدر الدين التاجي مقدم عسكر اللاذقية، وبات يحرس جبلة وأولاده حضور معه، ومعه العسكر، وكان قد عزم المذكور على دخول جبلة مرة ثانية، والشخص المذكور في جامع بجبلة بخيله ورجاله بقرية اسمها الصريفة من عمل جبلة. وقد ثبت المحضر المذكور على قاضي جبلة، وقيل إن المذكور كان يريهم خياماً وعساكر في البحر ويقول لجمعه هؤلاء الملائكة يقاتلون معكم وينصرونكم. ثم إن العسكر الطرابلسي ركب معهم إليهم فأبادوهم، وقتلوا منهم جماعة وقُتل كبيرُهم المذكور، وأراح الله منهم.
مهدي
الأمير عز الدين والي حلب.
ذُكر أنه كان وتّاراً يصنع الأوتار بحلب ويبيعها للقطّانين، ثم إنه توصل وعمل الجندية، ثم أخذ عشرة، وعمل ولاية حلب، ثم شدّ الدواوين بحلب.
وكان حسن الشكل مليحَ الذقن والحواجب، أسود الشعر، حلو العبارة، عليه قبول.
حضر مع بيبغاروس الى دمشق، ثم إنه أُمسِك مع من أمسك وحضر مع الجماعة الذين جُهّزوا مع الأمير فارس الدين ألبكي، واعتُقلوا بقلعة دمشق.
ثم إنه أخرج ووسّط في ثالث شوال سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة في سوق الخيل هو ونائب صفد برناق وحاجي أخو أحمد نائب صفد وأسنبغا الرسولي نائب جعبر وأسنَ بك بن خليل الطرقي، على ما تقدّم في ترجمة ألطّنبغا برناق.
مهلهل بن سعيد
الفقيه نجم الدين الخليلي.
كان شاهداً عاقداً فقيهاً مدرّساً بالفرخشاهية الشافعية ومدرسة سبع المجانين، وكان ضعيف البصر، معروفاً بخدمة القاضي شرف الدين بن فضل الله.(3/17)
توفي رحمه الله تعالى في سادس عشر جمادى الأولى سنة عشر وسبع مئة.
ابن مهمندار العرب
يوسف بن سيف الدولة.
مهنا بن عيسى بن مهنا
أمير آل فضل عرب الشام. من بيتٍ أولهم من رجل من طيّ بن سلسلة بن عُنين بن سلامان، نشأ هذا الرجل في أيام أتابك زنكي وأيام ولده نور الدين الشهيد، وفد عليه فأكرمه وشاد بذكره، والى هذا عنين يُنسب كل عرب عنين من كان من ولده أو من حلفائه أو من استخدمه الأمراء الذين من ولده، وهم يزعمون أنهم من ولد جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك من العبّاسة بنت المهدي أخت الرشيد هارون.
كان هذا الأمير حسام الدين مهنّا طويل النجاد، كثير الرماد، عزير العتاد، ينخرط في سلوك الملوك، وتقصّر الشمس عن بلوغ مجده إذا كانت في الدّلوك، يتطفّل الملوك على وفادته، ويرون سعادتهم دون سعادته، يبالغون في إنعاماته، ويزيدون فيما يجرونه في إقطاعاته.
لم يزل معظَّماً عند ملوك المغل والإسلام، مفخماً إذا نشرت في الحروب مطويات الأعلام، أجار قراسُنقر والأفرم والزردكاش، وردهم بعد موتهم الى الانتعاش.
ولم تُحفر له ذمة، ولم يبال بالسلطان أمدحه أم ذمّه، وتشرّد بسببهم عن وطنه، وبعد لذلك عن عطنه، وتمادت الأيام والليالي على ما فعل، واشتغل السلطان بأمره واشتعل، وأتعب العساكر في تطلّبه، وكل البريد من تقاضي وعوده وتقلّبه، وحفيت الأقلام بما تخطّ الرسائل، وتنمّق الاستعطاف والوسائل، ونفذت بيوت الأموال في ترضّيه، وتقضّت الأعمار في تقاضيه:
الى كم ترد الرسل عما أتوا له ... كأنهم في ما وهبتَ مُلامُ
فإن كنتَ لا تعطي الذّمام طواعة ... فعوذُ الأعادي بالكريم ذمامُ
وإن نفوساً أمّمَتْك، منيعةٌ ... وإن دماءً أمّلتْك حرامُ
إذا خاف ملك من مليكٍ أجَرْتَه ... وسيفَك خافوا، والجوار يُسامُ
إلا أنه فاز في الوفاء بالثّناء السموألي، وفاح بعد وفاته الذكر المندليّ، ولم يزل يدافع بوعوده، ويمني السلطان بوصاله بعد صدوده مدة تزيد على الاثنتين وعشرين سنة، والسلطان يرى كل سيئة يأتي بها حسنة، الى أن داس بساطه، وأوفد عليه اغتباطه، فسُرَّ بمقدمه، ولم ينل قطرة من دمه، وأفاض عليه أنعُماً أخجل البحار مددُها، وأملّ الأنفاس والأنفال عددها، وعاد الى بيوته سالما، وظن الناس به أنه كان في هذه الحركة حالما.
ولم يزل بعد ذلك على حاله الى أن ركب مطية الشرجع، وعزّ على ذويه المآب والمرجع.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشر ذي القعدة سنة خمس وثلاثين وسبع مئة بالقرب من سلمية، ودُفن بتربةٍ له في قرية بينها وبين سلمية مسافة بريد، وحزن العرب عليه، وأقاموا له مأتماً عظيماً، واجتمع الرجال لذلك والنساء من البلاد والقرى، ولبسوا السّواد، وعاش نيفاً وثمانين سنة.
وقلت أنا لما توفي رحمه الله تعالى:
أمسى مهنا بالممات منغّصا ... فمصابُه عمّ الأنام وخصّصا
كم شقّ منه على الصوارم والقنا ... إدراكُ مطلوبٍ وقد شقّ العصا
وأقام في نجدٍ بحصن مانع ... لا تستطيع له الجيوش تخلّصا
حتى إذا وافت منيّته، وقد ... أمسى به ظلُ الحياة مقلّصا
جرّت عليه الريح ذيلَ هوانه ... لم يدرِ ضربَ الرمل أو طرْقَ الحصى
وهؤلاء آل فضل هم جمهرة العرب، وجمهرة الحرب والحرَب، وسحبُ السّماح إذا جرّ الكرم ذيله وانسحب.
ومهنّا جده: هو الأمير مانع بن حُديثة بن فضل بن ربيعة الطائي الشامي التدمري، كان أمير عرب الشام في دولة طغتكين صاحب دمشق، ولم يصرّح لأحد من هذا البيت بإمرة على العرب بتقليد من السلطان إلا من أيام العادل الكبير أبي بكر أخي السلطان صلاح الدين، أمّر منهم حُديثة، ثم إن ابنه الكامل قسم الإمرة نصفين لمانع بن حُديثة ولغنّام أبي طاهر بن غنّام، ثم إن الإمرة انتقلت الى أبي بكر بن علي بن حُديثة، وعلا فيها قدره، وبعدَ صيتُه.(3/18)
ولما كان من البحرية ما كان، ساقت تصاريف الدهر الملك الظاهر بيبرس الى بيوتهم وهو طريدٌ شريد، ولم يكن معه سوى فرس واحد يعوّل عليه، فسأل علي بن حُديثة فرساً يركبه فلم يُعطه شيئاً، وكان ذلك بمحضر من عيسى بن مهنا، فأخذه عيسى إليه، وضمّه وآواه وأكرمه وقراه، وخيّره في رباط خيله، فاختار منها فرساً، فأعطاه ذلك وزوّده، وبالغ في الإحسان إليه، فعرفها الظاهر له، ولما تسلطن الظاهر، انتزع الإمرة من أبي بكر بن علي، وجعلها لعيسى بن مهنا، وأتاه أحمد بن طاهر بن غنّام وسأله أن يشركه معه في الإمرة، فأرضاه بأن يعطيه إمرة ببوق، وبقي أبو بكر بن علي شرداً طريداً، تارة بنجد، وتارة بأطراف الشام الى أن مات. وأمّنه الملك الظاهر غير مرة وحلف له فما وثق به واطمأنّ إليه.
وعلتْ درجة عيسى بن مهنا عند الظاهر ولم يزل معظّماً الى أن مات.
ثم إن الإمرة صارت لولده الأمير حسام الدين مهنا هذا في أيام الملك المنصور قلاوون، وعلت مكانته أكثر من مكانة أبيه.
قال شيخُنا شهاب الدين محمود: حضرت طرنطاي المنصوري، وهو مخيّم بالخربة، وقد حضره أحمد بن حجّي أمير آل مَري يدّعي بألف بعير أخذتها آل فضل لعربه، ومهنّا حاضر، وكل منهما جالس الى جانب من طرنطاي فألحّ أحمد بن حجي في المطالبة واحتدّ وارتفع صوته، ومهنا ساكت لا يتكلم، فلما طال تمادي أحمد في الضجيج وتمادى مهنا في السكوت، أقبل طرنطاي على مهنا وقال: ما تقول يا ملك العرب، فقال: وما أقول؟ نُعطيهم ما طلبوا، هم أولاد عمّنا، وإن كانت لهم عندنا هذه البُعيرات، أعطيناهم حقّهم، وإن كان ما لهم شيء، فما هو كثير إذا أعطينا بني عمّنا من مالنا. فقال أحمد: ألا قل، تكلم، وزاد في هذا ومثله، ومهنا ساكت، فلما زاد، رفع مهنا رأسه إليه وقال: يا أحمد: إن كان كلامك عليك هيّناً فكلامي أنا عليّ ما هو هيّن، وهذه الأباعر أقل من أن يحصل فيها كلام، وأنا أعطيك إياها. ثم قام فقال طرنطاي، هكذا والله يكون الأمير.
ولم يزل مهنا على إمرته الى أن جاءت الدولة الأشرفية. ولما خرج الأشرف لفتح قلعة الروم مرّت العساكر بسرمين إقطاع مهنا، فأكلت زروعها وآذَتْ آهلَها، فشكوا الى مهنّا أذية العساكر، فشكا الى الأشرف، فعزّ على الأشرف، واستنقص همّته وقال: كم جهد ما أوذوا حتى تواجهني بالشكوى، وما كان يغتفر هذا الفعل لهذا الجيش العظيم الخارج لأجل إذلال العدو وقصّ جناح الكفر. وأسمعه من هذا ومثله، ثم لما كان الفتح ركب الأشرف في الفرات في خواصه، ومعه جلساؤه من بني مهدي وكانوا يضحكونه، فجاء مهنا بن عيسى فأمر بمدّ الإسقالة له ليدخل، فلما دخل عليها غمز عليه فحرِّكت الإسقالة فوقع في الماء وتلوّث بالطين، فهزأت به بنو مهدي، وضحك الأشرف ومن حوله، وطوى مهنا جوانحه على ألمها، ثم إنه استأذن في الانصراف الى بيوته، فأذن له وقال: الى لعنة الله، فأسرّها مهنا في نفسه ولم يُبْدِها، وركب من وقته وتوجه الى أهله وأقام عندهم على حذر، ثم لما عاد الأشرف ونزل بحماة، بعث إليه مهنا بخيل وجمال، فقبلها وخلع على رسوله وبعث إليه خلعة سنيّة ليطَمْئِنه بذلك ثم يكسبه، فلما جاءت إليه، لبسها إظهاراً للطاعة، وارتحل لوقته ضارباً وجه البرية، فلم يتمّ للأشرف ما أراده منه. وعاد الى مصر وفي نفسه من إمساك مهنا وإخوته وبنيه. وظن مهنا أن لا حقد عنده، فلم يلبث الأشرف أن خرج الى الكرك وخرج منها على أنه يتصيّد كباش الجبل، فعمل له مهنا ضيافةً عظيمة، فحضرها الأشرف وأكل منها، ولما فرغ من ذلك أمسك مهنا ومعه جماعة، وجهزهم الى مصر وحبسهم في برج القلعة، وضيّق عليهم إلا في الراتب لهم.
وكان مهنا في الحبس لا يأكل إلا بعد مدة، وإذا أكل أكل ما يُقيم رمقه، ويصلي الصبح، ويُدير وجهه الى الحائط ويصمت ولا يكلم أحداً حتى تطلع الشمس، ثم يقوم بعجلة وسرعة ويأخذ كفاً من حصى وتراب كان هناك، ثم يزمجر ويرمي به الى الحائط كالأسد الصّائل. فلما خرج الأشرف الى الصيد، ترك ذلك الفعل، فقيل له في ذلك، فقال: قُضي الأمر، ولم يُر منبسطاً إلا في ذلك الحين.(3/19)
قال القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله: حدّثني الأمير مظفّر الدين موسى بن مهنا قال: لما كنا في الاعتقال كان عمي محمد بن عيسى مغرى بدخول المرتفق والتطويل فيه، وكان المرتفق مقارباً لدور حريم السلطان أو لبعض الأمراء، فقلت له في ذلك فقال: يا ولد مهنا، لعلي أسمع خبراً من النسوان، فإنهن يتحدّثن بما لا يتحدث به الرجال. فبينما نحن ذات يوم، وإنما بمحمد قد خرج وقال بشراكم، قد سمعت صائحة النساء تقول: واسلطاناه، فقلنا له: دعنا مما تقول، فقال: هو ما أقول لكم. وكان لنا صاحب من العرب تنكّر وأقام بمصر، وكان يقف قبالة مرمى البُرج الذي نحن فيه ويومئ إلينا ونومئ إليه، غير أنه لا يسمعنا ولا نسمعه، فلما كنا في تلك الساعة ومحمد يحدثنا، وإذا بصاحبنا قد جاء وأومأ ثم مدّ يده الى التراب وصنع فيه هيئة قبر ونصب عليه عوداً، عليه خرقة صفراء كأنها صنجق سلطاني ثم نكسها وقعد كأنه يبكي، ثم وقف قائماً ورقص، فتأكّد الخبر عندنا بموت الأشرف. فلما فُتح علينا من الغد سألنا الفتّاح والسجانين فأنكروا، ثم اعترف لنا بعضهم، فكان ذلك أعظم سرور دخل على قلبنا.
ولما خرجوا من السجن شكوا احتياجهم الى النساء، فأطلق لهم جماعة من الجواري الأشرفيات، ولم يكن مرادهم بذلك إلا التشفي، وأُعيد الجماعة الى أهلهم إلا مهنا، فإنه أخّر مدة ثم جُهّز، ولما خرج من دمشق لحقه البريد من دمشق الى ثنيّة العقاب بأن يعود، فامتنع وتوجّه الى أهله، وكانوا قد ندموا على إطلاقه، ثم إنه قدم مصر بعد ذلك مرات وهو كالطائر الحذر الذي نُصبت له الأشراك في كل مكان، وآخر مرة قدمها في أوائل الدولة الناصرية الأخيرة سنة عشر وسبع مئة، وكان بلرلغي الكبير مملوك مهنا وهو الذي قدمه، فلما وجده قد أمسك تحدث فيه مع السلطان، وقال هذا مملوكي وقدمته ليعطى إقطاعاً في الحلقة فأعطى فوق حقّه حتى جعلتموه ملكاً من الملوك، وأنا أريد أن تأخذ كل ماله ومماليكه وتعطيه إياه برقبته ليكون عندي الى أن يموت، فوُعد بذلك. ثم إن بلرلغي مات في ذلك الوقت، فقيل له: قد مات، فعزّ ذلك عليه من عدم قبول شفاعته مع ما كان يمت به من سوابق الخدم للسلطان لما كان في الكرك.
وخرج مهنا وقد طار خوفاً ورعباً، ولما اجتمع بقراسُنقر، وكانت بينهما صداقة مؤكدة قديمة، وكل منهما مستوحش، فجدّدا الأيمان والعهود على المضافرة، وأن لا يسلّم واحد منهما صاحبه. ولما توجه قراسنقر الى حلب زاره مهنا وخلا به، فأراه قراسنقر كتاباً من السلطان إليه فيه إعمال الحيلة على إمساك مهنا، فقال له مهنا: فما أنت صانع، قال: أنا أطيعه فيك وأجاهره، وهو يجعلني وكدَه ودأبه، فمَن يحميني منه إن قصدني، قال له مهنا تجيء إلينا. فتحالفا على ذلك. ثم إن مهنا وفّى لقراسُنقر لما توجه إليه - على ما مرّ في ترجمة قراسنقر وأجاره.
وأما زوجة مهنا عائشة بنت عساف، فإنها بالغت في خدمة قراسنقر، وكانت تقول لمهنا: يا مهنا، ذكر الدهر، لا تدعه. وكذلك محمد بن عيسى بن علي الأفضل بن عيسى بن مهنا أخو مهنا، فما كان رأيه إلا التقرب بإمساك قراسنقر والجماعة الى السلطان، فكانت عائشة تقول: تعساً لأم ولدت الفضل بن مهنا. وكتب مهنا الى السلطان يستعطفه ويقول: هؤلاء مماليكك ومماليك أبيك وكبار بيتكم، وقد هربوا من الموت، وسألوا أن تكفّ عنهم وتهبهم البيرة لقراسنقر، الرحبة للأفرم، وبهسنا للزردكاش، وإذا حصل مهمٌ جامعٌ للإسلام حضروا إليه وجاهدوا بين يديك، على ما مرّ في ترجمة قراسنقر.(3/20)
وما اطمأنّوا، وجهّزهم مهنا الى خربندا وقال له: متى حميت هؤلاء كنت أنا في طاعتك وخفرت الرّكب العراقي، وسيّرهم مع ابنه سليمان، وجهّز معهم لخربندا ومن حوله خيولاً مسوّمة من جهته، فقوبلوا بالإكرام والرعاية، وخلع على سليمان، وأطلق له أموالاً جمة، وجهّزت لمهنا خلع وإنعامات وبرالغ بالبصرة له ولأهله، ومعها الحلة والكوفة وسائر البلاد الفراتية، واشتدت الوحشة بينه وبين السلطان الملك الناصر محمد، فأعطى الإمرة لأخيه فضل، وتظاهر مهنا بالمنافرة والمُباينة والوحشة، وحضر الى خربندا، فأكرمه غاية الإكرام وأجلّه نهاية الإجلال، وقرر أمر الركب العراقي، وأعطى عصاه خفارة لهم وتأميناً، وضاع الزمان وامتدّت الأيام والليالي في المراوغة من مهنا، وهو يعد السلطان أنه يحضر إليه ويُمنّيه ويسوّف به من وقت الى وقت، والبريد يروح ويجيء، والرُسل تتردد مثل الأمير بهاء الدين أرسلان الدواردار والأمير علاء الدين الطّنبغا نائب حلب والشيخ صدر الدين بن الوكيل، وما ألوى ولا عاج، ثم كان أولاده وإخوته يتناوبون الحضور الى السلطان وهو ينعم عليهم بمئين ألوف وبالإقطاعات العظيمة والأملاك، وهم يمنّونه حضوره ويعدونه بقدومه، ومهنا لا يزداد إلا حذراً. والسلطان لا يزداد إلا طمعاً في حضوره، ومع ذلك في هذه المدة جميعها ما تنقطع المراسلات بينهما والمكاتبات والشفاعات، وإذا ظهرت للمسلمين مصلحة نبّه مهنا عليها وأشار إليها، وكان السلطان يقبل نُصحه.
ثم لما كان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، توجّه مهنا بنفسه من ذاته الى السلطان، ووصل الى دمشق يوم الجمعة رابع ذي الحجة من السنة، ودخل الديار المصرية، فأكرمه السلطان غاية الإكرام وأنعم عليه بإنعامات كثيرة الى الغاية. وعاد مهنا راجعاً الى بلاده، وكان دخوله قلعة الجبل نهار الأحد عشري الحجة، وعاد الى دمشق فدخلها سادس المحرم سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. ولم يزل بعد ذلك الى أن توفي في التاريخ المذكور.
وله من الأولاد جماعة، وهم: موسى وسليمان وأحمد وفياض وحمام وهيازع وحيار وجويف وقارا وشُعبه وتوبَلة وعنقا.
ومن سيادة مهنا ما حكاه لي زغبان بن عبد المؤمن الشقاري التدمري حاجب الأمير معيقل بن فضل يومئذ، قال: كان قد دفن الأمير فضل دفيناً في الأرض من الذهب مبلغه اثنا عشر ألف دينار، ثم إنه طلبه في وقت ولم يجده في المكان الذي دفنه، وإنه اتهم به محمد بن نجام حاجبه، ولم يذكر له ذلك، وإن ابن نجام بلغه ذلك، فخاف ابن نجام من الأمير فضل، وتوجّه الى مهنا، وشكا حاله إليه فأعطاه مهنا اثني عشر ألف دينار، فأخذها ابن نجام وأحضرها الى فضل، فأبى أن يأخذها، وقال: ما مهنا أكرم مني، أنا ما طالبتُك بها ولا أخذها، فردّها ابن نجام على مهنا، فقال: أنا خرجتُ عنها وهي لك، ولم يأخذها.
ابن المهندس
محمد بن محمد بن إبراهيم.
ابن الموازيني
المسند شمس الدين محمد بن علي.
موسى بن إبراهيم
ابن يحيى، الإمام المحدّث المفتي نجم الدين الشقراوي ثم الصالحي الحنبلي الشروطي، شيخ العالمية.
روى عن الحافظ الضياء، وإسماعيل بن ظفر، وقرأ الكثير ونسخ وجمع. وكان حلو المحاضرة.
توفي رحمه الله تعالى في مستهل جمادى الأولى سنة اثنتين وسبع مئة.
وكان قد قرأ الكتب الكبار، وسمع الناس بقراءته كثيراً، وحدّث، وكتب كثيراً، واشتغل كثيراً. وكان مفتياً، وله نظمٌ، وكان ينقل كثيراً من اللغة وعنده جملة من التاريخ، وكان يفتي في مذهب.
موسى بن أحمد
ابن الحسين بن بدران بن أحمد، القاضي الرئيس الكبير، قطب الدين بن ضياء الدين، أبو البقاء، ابن شيخ السلامية، ناظر الجيوش الإسلامية بالشام ومصر، الخاقاني، نسبة الى الفتح بن خاقان وزير المتوكل.
كان وقوراً مهيباً، فاضلاً لبيباً، يحبّ الفضلاء، ويربّ النبلاء، ويحسن الى الفقراء، ويواسي همّ كبار الأمراء.
رأى من العز والوجاهة، وعلوّ المرتبة والنباهة ما لا رآه غيره، ولا قُدّ لمثله سيره.
باشر نظر الجيوش بمصر والشام، وتألّق برق سُعوده حتى انتجعه كلُ أحد وشام، فلاح بدرُ سياده، وفاح زهر سعاده، حتى كأن أبا تمام، عناه بقوله دون الأنام:
جُعلت نظام المكرمات فلم تُدرْ ... رحى سُودد إلا وأنت لها قطبُ(3/21)
بجودك تبيضّ الخطوب إذا دجتْ ... وترجع عن ألوانها الحجج الشهبُ
لم يزل في تقدّم وتكريم، وترقٍّ الى غايات مجدٍ يحتقر معها كل غاية تعظيم، الى أن أمسى من ترابٍ فراشه، وبطل حتى المعاد معاشه.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الثلاثاء ثاني ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة إحدى وستين وست مئة.
كان أولاً صاحب ديوان الجيش والقاضي بدر الدين بن العطار ناظراً في زمن الأفرم، ولما جاء السلطان الملك الناصر محمد الى دمشق من الكرك، وتجه بالعساكر الى مصر، توجه معه القاضي قطب الدين، وعاد الى الشام وهو ناظر الجيش، ولم يزل كذلك الى أن غضب السلطان على القاضي فخر الدين ناظر الجيش فجهز طلب القاضي قطب الدين، فتوجه إليها هو والأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك، وذلك في أوائل سنة اثنتي عشرة وسبع مئة في شهر ربيع الأول، وولاه نظر الجيش بالديار المصرية.
ولم يزل هناك الى أن عُمل روك الشام، فحضر الى دمشق بأوراق الروك في شهر ذي الحجة سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. واستمر ناظر الجيش بالشام الى أن حضر القاضي معين الدين بن حشيش على وظيفة النّظر، وعزل القاضي قطب الدين تقدير أربعة أشهر. ثم إنه ورد مرسوم السلطان بأن يكون القاضي معين الدين شريكاً للقاضي قطب الدين في النّظر، وأن يكون لكل منهما معلوم مستقل نظير الأصل. وكان القاضي قطب الدين يعلّم أولاً.
ولم يزالا كذلك الى سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، فطلب القاضي معين الدين الى الديار المصرية لينوب عن القاضي فخر الدين في نظر الجيش عند توجهه الى الحجاز، وانفرد القاضي قطب الدين أخيراً بالنظر، الى أن توفي رحمه الله تعالى في التاريخ. ورأى من السعادة والعزّ والوجاهة والتمكن والتقدم في أيام تنكز ما لا رآه غيره، ولما تنكّر الأمير تنكز على المتعممين وعلى صهره الصاحب شمس الدين عبريال توفي رحمه الله تعالى، ولم ير منه ما يكرهه.
وكان الأدباء والفضلاء والشعراء يترددون الى محله ويقضي حوائجهم، وله نظمٌ ونثر.
أنشدني من لفظه ولده الشيخ عز الدين حمزة، قال: أنشدني والدي لنفسه مواليا:
الحب في الله يا محبوب لي مفسوحْ ... فداوِ الوصل من أضحى به مجروحْ
وارحمْ محبّاً على فرشِ الضّنا مطروحْ ... دمع مسفوح، وجفن بالبُكا مقروح
وبه قال أنشدني له:
بالله دعْ عنك هجراني ودعْ ذا الصدْ ... فقل تطاول بي الهجران فوق الحدْ
كم ذا تجورُ عليّ يا رشيقَ القدْ ... مسلم أنا، ما أنا كافرٌ ولا مرتدْ
وأنشدني من لفظه القاضي شهاب الدين بن فضل الله، ومن خطّه نقلت، قال: أنشدني من لفظه لنفسه القاضي قطب الدين:
ما اخترتُ مقامي برُبا لبنانْ ... فرداً ومشرّداً عن الأوطانْ
إلا لأراك أو أرى من نظرتْ ... عيناه الى جمالك الفتّانْ
وكتب الشيخ علاء الدين علي بن غانم الى القاضي قطب الدين، رحمهما الله تعالى، وهو بالقاهرة سنة اثنتي عشرة وسبع مئة:
يا غائباً بينه وبيني ... من شقّة البعد لي حجابُ
هجرت حتى ولا سلام ... ولا كلامٌ ولا كتابُ
فكم بعثنا له كتاباً ... ما عاد عنها ولا جواب
عليه قد حقّ كلُ عتب ... وما عسى ينفع العتاب
فقد أحبائي عن يقين ... بغير شك هو العذاب
فكتب القاضي قطب الدين إليه الجواب:
أقسمت بالله أن شوقي ... بضيق عن حصره كتابُ
وأنني إذ نأيت عنكم ... دموعُ عيني لها انكباب
وأن كتبي وإن تراخت ... فإن ودي له إياب
وإن يكن حُقّ كل عتب ... يا حبذا ذلك العتاب
موسى بن أحمد بن محمد
ابن ابراهيم، الصدر، كمال الدين أبو الفتح ابن قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: سمعت منه ببعلبك أحاديث من جزء ابن عرفة عن النجيب الحرّاني، وله إجازة من السّبط. وكان رجلاً عاقلاً عارفاً بالأمور. درّس بالمدرسة النجيبية في حياة والده، وبعده مدة، وولي نظر الدواوين الحكمية.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم السبت سابع عشري شهر ربيع الأول سنة ثلاث وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون عند قبر والده.(3/22)
ومولده بالقاهرة سنة إحدى وخمسين وست مئة.
قلت: وهذا كمال الدين موسى كان السبب في عزل والده، وبذنبه عُزل، قيل: إنه شكا يوماً عليه غريم ودفعه الى قاضي القضاة ابن الصائغ على مبلغ ست مئة درهم، فاستحيا القاضي ووزنها، فتوجه كمال الدين موسى الى والده وقال: اليوم تفضّل قاضي القضاة ووزن عني ست مئة درهم، فقال والده: والله لو وزن ستة آلاف دينار ما أنصفك، يعني والده أنك أنت السبب في عزل أبيك وولايته. وفيه يقول مجد الدين بن الظّهير:
وكيف يؤتى رشدَه حاكمٌ ... حكّم في لحيته موسى؟
موسى بن أحمد
الشيخ مجد الدين الأقصرائي، شيخ الشيوخ بسرياقوس.
كان شيخاً كريم النفس الى الغاية، له بالمكارم أتمّ عناية، يهبُ ما يملكه، ويأتي على ما في يده ويتركه، ريّض الأخلاق حتى كأنها مرّ النسيم، أو كأس رحيق مختوم مزاجها من تسنيم، كثير الاحتمال، غزير التضرع والابتهال، له أوراد يسردها من الذّكر عقيب الصلوات، وأحوال تتنزّل عليه في أوقات الخلوات، قلّ أن ترى العيون له نظيراً، أو تجد له شبهاً في الملوك وإن كان فقيراً:
يصبو إليه قلبُ من هو عند أرْ ... باب القلوب معشّقٌ مقبولُ
يهواه لا يُصغي لقول مفنّد ... أبداً ولا يثنيه عنه عَدول
كلٌ يهيم بحبه وكذاك مَن ... ملك الإرادة أمره المفعول
ولم يزل على حاله الى أن عرق جبينه، ونبا حسه وربا أنينه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربعين وسبع مئة.
وكان له سماع من عبد الله الصّنهاجي، ومن أبي الحسن علي بن جابر اليمني.
وكان في الإسكندرية، ثم ولي مشيخة خانقاه الأمير سيف الدين بكتمر الساقي بالقرافة، ثم إن السلطان نقله الى الخانقاه التي له بسرياقوس.
وكان آيةً في الكرم، وعليه روحٌ وأنس زائد إذا دار في السماع، وله ذكر يورده هو وجماعة الصوفية عقيب كل صلاة بحيث أنه يتصل الذكر عقيب المغرب بأذان العشاء الآخرة. وقلت له في ذلك، فقال: أنا اختصرت لأجل هذا الجمع، ولما كنت بالاسكندرية كان الورد أكثر من هذا.
وكان السلطان يعظّمه ويحمل إليه في كل شهر مبلغ سبعة آلاف درهم، للشيخ منها ألفان، والباقي للفقراء. وكان يفعل ذلك معهم في كل شهر، يطلع الى الخانقاه، ويقيم عندهم اليومين والثلاثة ويعود يجلس بين الفقراء ويقضي أشغال الناس، وكان الناس قد عرفوا ذلك منه، وكانوا يؤخرون أشغالهم الى أن يطلع الى خانقاه سرياقوس، وهذا الإنعام كان خارجاً عن أوقاف الخانقاه، لكنه قطع ذلك قبل موته بسنوات.
ولبستُ منه خرقة التصوف في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، وقال: لبستُ الخرقة الصوفية من يد الشيخ العارف الكامل كمال الدين العجمي، وهو لبسها من يد الشيخ أبي منصور العراقلية وهو لبسها من يد الشيخ بدر الدين العراقلية، وهو لبسها من يد الشيخ أوحد الدين الكرماني وهو لبسها من يد الشيخ أبي الغنائم ركن الدين السجاسي، وهو لبسها من يد الشيخ قطب الدين الأبهري، وهو لبسها من يد الشيخ ضياء الدين أبي النجيب السهروردي، وهو لبسها من يد الشيخ أحمد الغزالي، وهو لبسها من يد الشيخ أبي الفرج الزنجاني، وهو لبسها من يد الشيخ أحمد الأسود، وهو لبسها من يد الشيخ أبي العباس النهاوندي، وهو لبسها من يد الشيخ أبي عبد الله بن خفيف، وهو لبسها من يد الشيخ أبي العباس النهاوندي، وهو سمع تلقين الذّكر من أبي القاسم الجُنيد البغدادي وصحبه، وهو لبسها من سريّ السقطي وصحبه، وهو من معروف الكرخي وصحبه، وهو من داود الطائي وصحبه، وهو من حبيب العجمي وصحبه، وهو من الحسن البصري وصحبه، وهو من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وصحبه، وهو من سيد المرسلين والآخرين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وطريق أخرى: لبسها الشيخ أحمد الغزالي من يد الشيخ أبي بكر الزجّاج النّيسابوري، وهو لبسها من يد الشيخ محمد النساج، وهو لبسها من الشيخ أبي بكر الشبلي، وهو لبسها من الجنيد البغدادي رضي الله عنهم.
موسى بن أبي بكر
الأمير بدر الدين ابن الأمير سيف الدين الأزكشي.(3/23)
جهّزه الأمير جمال الدين الأفرم الى الرحبة نائباً، فأقام بها الى أن نزل عليها خربندا ومعه عساكر المغل وقراسنقر والأفرم وسليمان بن مهنا، ونصبوا عليها المجانيق فقاتل وصابر ورابط وحصّن القلعة وثبت، جزاه الله خيراً عن الإسلام الى أن رحل خربندا بمن معه من المغل، وقد تقدّم شيء من طرق ذلك في ترجمة ذلك وفي ترجمة جوبان رحمه الله تعالى، ثم إنه عُزل وحضر الى دمشق.
وبقي على إمرته الى أن توفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة خمس عشرة وسبع مئة بداره في القبيبات، وحضر الأمير سيف الدين تنكز جنازته.
موسى بن أبي بكر
شرف الدين، ملك التكرور.
وصل الى الديار المصرية في أول شهر رجب سنة أربع وعشرين وسبع مئة بسبب الحج، وصحبه جمعٌ كثير، ونزل بالقرافة الكبرى، واستأذن في الصعود الى القلعة لتقبيل يد السلطان، فأذن له، فطلع في طائفة يسيرة، ولما وصل أمر بتقبيل الأرض فامتنع، فأُلزم، ففعل ذلك على كره، ولم يمكَّن من الجلوس. فلما خرج ووصل الى باب القلعة قُدّم له حصان أشهب بزنّاري أطلس أصفر، وبعد ذلك خلع عليه السلطان خلعةً سنية، وأمر له بمركوب، وسيّر هو الى السلطان أربعين ألف دينار، وصيّر الى نائب السلطنة نحو عشرة آلاف دينار، وهيأ له السلطان من الهُجن والنياق وآلات الحج أشياء كثيرة، وكذلك فعل به نائب السلطنة.
وكان شاباً مليح الشكل حسن الوجه، له رغبةٌ في العلماء، وهو فقيه مالكي المذهب، وقيل: إنه كان معه تقدير عشرة آلاف تكروري وجاء معهم ذهب كثير حتى نزل الذهب في تلك المدة درهمين، وحصل للناس بهم نفع كثير، وذكروا أن تحت يده أربعة عشر ملكاً، وسعة ملكه ثلاث سنين.
وحكي لي عنه الشيخ شمس الدين بن الأكفاني رحمه الله تعالى رئاسة كبيرة، ووصل إليه منه جملة كثيرة من الذهب، وقال: كانت تحية من يدخل إليه أن يضع عمامته ويكشف رأسه، وهناك رماد مفروش فيأخذ من ذلك الرماد ويرشّه على رأسه.
موسى بن رافع
ابن مفرّج بن رافع بن عبد الواحد بن أحمد، الشيخ الصالح الحمصي.
كان من أهل الخير والصّلاح، ومن أهل القرآن والفهم والمعرفة.
سمع من ابن هامل، وحدّث عنه.
وتوفي في شهر ربيع الآخر سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وستين بحمص.
موسى بن عبد الرحمن بن سلامة
القاضي الرئيس بهاء الدين المدلجي المصري أحد كتّاب الإنشاء بالديار المصرية.
تولى خطابة المدينة النبوية في ذي الحجة سنة ست وعشرين وسبع مئة.
موسى بن علي بن موسى
ابن يوسف ابن الأمير محمد شرف الدين الزّرزاري.
أخبرني من لفظه شيخنا أثير الدين قال: هذا المذكور مولده بإربل في ثالث عشري جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وست مئة.
وذكر لي أن أباه قاضي القضاة بإربل، وأن جدّه أيضاً كان قاضياً.
وهو رجل ساكن النفس حسن الصورة، عنده فضائل من فقه وأدب وغير ذلك. وذكر لي أنه سمع الحديث، وأنه قرأ على الكواشي التفسير الصغير، وسمع عليه كثيراً من التفسير الكبير وأنه سمع ببغداد من ابن الفويرة والقلانسي. وذكر لي أنه نظم الوجيز وأنشدنا منه أبياتاً.
وأنشدنا لنفسه من أبيات:
تواضع تكن كالنجم استبان لناظر ... على صفحات الماء وهو رفيعُ
ولم يكُ كالدخان يرفع نفسه ... الى طبقات الجو، وهو وضيع
قال: وأنشدنا لنفسه، وقد تردّد الى بعض أهل الجاه بمصر مراراً:
لئن عاد موسى واقفاً باب هامان ... على كبره حتى انقضت منه عامان
فقد قام في أبواب فرعون قبله ... على كفره، في مصر موسى بن عمران
قلت: أظنه المعروف بالقطبي، ويلقّب ضياء الدين، كان يخطب بجامع الأمير كراي بالحُسينية، ومتصدّراً لإقراء السبع بالجامع الظاهري بالحسينية أيضاً، وكان من العلماء الصلحاء. واتفق الناس على الثناء عليه.
وتوفي رحمه الله تعالى وهو ساجد في الصلاة في حادي عشر شهر رجب سنة ثلاثين وسبع مئة، وكانت جنازته حافلة الى الغاية، ودفن بزاوية الشيخ ابن معضاد.
وحدّث عن ابن عزّون، والنجيب عبد اللطيف، ومن في طبقتهما. وأجاز لي في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بالقاهرة.
موسى بن علي بن قلاوون
أمير موسى ابن الملك الصالح ابن السلطان الملك المنصور.(3/24)
كان أحد الأمراء بمصر، وكان شكلاً محبباً حسناً، فبلغ السلطان محمداً عمه عنه أمر، فخافه وندب الأمير علاء الدين أيدغدي شقير والأمير سيف الدين بكتمر الحاجب للتوجه إليه والقبض عليه، فتغيّب، وخرج السلطان وزاد غضبه وقال: هذا هو في القاهرة وما لحق يخرج منها، وأمر بإحراقها، فوقف الأمير سيف الدين أرغون النائب وباس الأرض وتضرّع، وسأله إبطال ذلك وأن ينزل الجماعة ويتطلبوه، وتوجه المذكورون وأمسكوا مملوكاً صغيراً من الكتابية وضربوه فأقرّ أن الفقيه الذي لهم توجه هو والأمير، فأمسكوا الفقيه وعاقبوه، فأخذهم ودلّهم على المكان الذي هو فيه، وأتى بهم الى دار أستاذر دار الفارقاني، فكبسوا داره وفتّشوا جميع داره ولم يجدوا أحداً وحلف أنه ما رآه، فبقي هناك مكان لا يؤبه، له صورة خرستان، فقالوا: افتحوا هذا، فحلف بالله والطلاق وبنعمة السلطان أن ما فيه ما يطلبونه، فقال بكتمر أنا ما أقد أقول للسلطان إنه بقي مكان ما دخلنا إليه، ففتحوه فإذا بأمير موسى هناك، فشتم أمير موسى لبكتمر الحاجب، وسبّه، وبالغ في ذلك وهو ساكت، وأرادوا إخراجه فقال: ما أخرج من هنا حتى تحلفوا لي بأن هذا صاحب هذه الدار لا يكلمه السلطان ولا يؤذيه، فإنني والله ما أعرفه ولا أكلت معه خبزاً، وإنما الفقيه هو صاحبه، وأنا الذي طرحت شرّي عليه ورميت أذاي عليه، فحلفوا على ذلك بالله وبالطلاق، وأخذوه من هناك، وطلعوا به الى السلطان. فلما كان بعد ثلاثة أيام، سيّر السلطان الى دار أمير موسى وقال: اعملوا عزاءه، فدار جواريه بين القصرين وفي الشارع مدة يطفن بالدرادك، وأما أستاذ دار الفارقاني، فإنه سُمّر وبقي من بكرة الى العصر، ووقف الأمراء وشفعوا فيه، فأفرج عنه وعاش بعد ذلك سنتين وكان ذلك في سنة...
موسى بن علي
الشيخ الإمام الكاتب المجوّد المتقن شيخ دمشق نجم الدين المعروف بابن البُصَيص - بياء موحّدة وصادَين مهملتين وبينهما ياء آخر الحروف.
شيخ الكتّاب في زمانه، ونادرة عصره وأوانه، تفرّد في الدنيا بكتابة المزدوج وأتقنه وكل من تقدّمه فيه سمج، وآخترع قلماً آخر سماه المعجز، وأتى فيه بمحاسن إذا أطنب فيه الواصف ظنّ أنه موجد، وكان خطه كأنه حدائق ذات بهجة، وسطوره من حسنها تفدى بكل مهجة، لو عاينه الولي التبريزي لم يكن له تبريز، أو ابن العديم لاعترف له بالتعجيز:
كأن المعاني في محاريب طرسه ... قناديل ليل، والسطور سلاسلُ
كواكب عجم في أهلّة أحرف ... بدورُ المعالي بينهنّ كواملُ
كتب عليه جماعة من الأعيان وسادوا، وأبانوا بفضلهم مقادير رتبهم فأبانوا من تقدمهم وأبادوا.
ولم يزل على حاله الى أن غار في الثرى نجمه، وهيل عليه ترابه ورجمه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة ست عشرة وسبع مئة.
ومولده بحماة سنة إحدى وخمسين وست مئة.
وكتب الأقلام السبعة وجوّدها، وأقلامه الرطبة كلها لم يلحقه فيها أحد. وممن كتب عليه: الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، والشيخ بدر الدين بن المحدّث، والقاضي علاء الدين بن الآمدي، وجماعة آخرون.
وكتب هو شيئاً كثيراً الى الغاية من الدروج والقطع والطراز الذي في الطّارمة، والذي على باب دار السعادة، والذي في الظاهرية الجوانية والذي على باب الأمير سيف الدين بهادر آص، كل ذلك بخط يده، وقد تغير طراز دار السعادة مرات وأعاد عليه الدهانون، وأصوله باقية ومعالم حسنها بادية. وكان يكتب على الطاسات وعلى ما يُنقش، ويطعّم كل سطر بدرهم ويكتب في اليوم جملة من ذلك مستكثرة.
وكان يعمل بالفأس في بستانه ويعمّر باللبن وغيره، ويكتب تلك الكتابة المليحة الرطبة، ورزق الحظوة في خطه واشتهر، وكان مأموناً على أولاد الناس، عفيفاً خيّراً ديّناً.
وقلت أنا فيه:
يشهد لابن البُصيص خط ... يسلب ممن يراه عقلهْ
بأنه النجم في عُلاه ... وما رأى مثله ابن مقله
وله شعر في الحقيقة على رأي التصوف، وكان قليل البضاعة من العربية. ومن شعره ما نقلته من خطه على ما تراه من اللحن الفاحش وفساد المعنى:
ألا كل شيء ما خلا الله نافد ... وكل وجود قد بدا فهو بائدُ
تفكر في هذا الوجود ووضعه ... وفي حركات الفلك وهي سوامد(3/25)
وفي حركات النيّرات بأفقها ... وفي كل جرم لا يُرى متباعد
وما ذاتها في رقةٍ وكثافة ... وهل هي شيء دائم متوالد
ترى كل ما في الكون لابد زائل ... له محدث باق وذلك نافد
وإيجادنا فيه وذلك آية ... تدلّ على فرد تفرّد واحد
وكم آية غابت فليس تُرى لنا ... تدلّ على وتر التفرّد ماجد
شهيد على الأشياء ليس بغائب ... على كل شيء من نواحيه شاهد
تحققتُ حقاً أنه لي محرك ... على أنه سبحانه لي واجد
فعشت سعيداً ثم أُنقل مكرماً ... الى واحد إنعامه متزايد
وإني مهما عشتُ شاكرُ أنعم ... عليّ توالتْ من نوالك حامِد
فحسبي تشريفاً أراه محقّقاً ... بأنك ربي ليس فيه معاند
موسى بن علي بن بيدو
ابن نوغاي تمر بن هولاكو القان المغلي.
نشأ بسواد العراق، يقال إنه كان نسّاجاً، فلما مات بوسعيد توثّب علي باشا وطلب موسى هذا وسلطنه، وسار به الى أذربيجان، وعملا مصافا مع أرباكاوون المذكور في حرف الهمزة وابن الرشيد مع ذلك، وانتصر موسى وتملّك بتوريز، ثم إن المغل تناخت مع الشيخ حسن، وعملوا مصافا يقل فيه جمع موسى، وقتل علي باشا، وتقهقر موسى، وبقي في جبال الأكراد نحو أربعة أشهر ومعه محمد بيك والأمير حافظ، ومعه أيضاً الوزير نجم الدين ابن شروين، وقصدوا بغداد ودخولها، وقتلوا طوغان، وكان من كبار الظلمة المقدّمين، له سطوة وشجاعة، فاستخفّ بهم وبرز للقتال، فقُتل هو وجماعة، وطيف برأسه ورأس الأمير نصرت شاه معاً.
ثم حشد موسى وقصد أذربيجان، فتصابر الفريقان أياماً وليالي، ثم كبس أصحاب حسن بإعانة خلقٍ من الأكراد موسى، فاستجار موسى بأمير من الأكراد - وكان قد أحسن إليه - فأجاره. ثم إنه غدر به وحمله الى حسن فهمّ باستبقائه، فقام عليه الأمراء وقتلوه، قصّفوا ظهره، فمات في سنة سبع وثلاثين وسبع مئة، وقيل: إنهم قطعوا أنفه أولاً ثم ذبحوه.
وكان موسى حسن الشكل جيد العقل صحيح الإسلام، وكانت قتلته يوم الأضحى بالأردو، هو من أبناء الأربعين. وكان قد نشأ عند نصراني بدقوقا يتعلّم الحياكة.
قال شيخنا شمس الدين الذهبي: رأيت القاضي حسام الدين الغوري يثني على عقله ودينه.
موسى بن علي بن أبي طالب
ابن أبي عبد الله بن أبي البركات العلوي الحسيني الدمشقي الحنفي، عز الدين أبو القاسم الموسوي، من ذرية إبراهيم ولد موسى الكاظم.
سمع حضوراً من الفخر الإربلي، وسمع الموطأ من مكرّم القرشي، وسمع من السخاوي، وابن الصلاح، وأبي طالب بن صابر، وعدة.
وتفرّد وأكثر عنه الطلبة، وسكن مصر، وحضر المدارس.
وكان مليح الشكل حسن البزّة، تفرّد عن جدّه مدرس المعينية رشيد الدين النيسابوري، وأخذ عنه شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وشيخنا الذهبي والشيخ تقي الدين بن رافع والواني.
ومات وهم يسمعون عليه صحيح مسلم، فانتهوا الى نصف الكتاب، وتوفي رحمه الله تعالى سنة خمس عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وعشرين وست مئة.
موسى بن علي بن منكوتمر
الأمير شرف الدين ابن الأمير علاء الدين ابن الأمير سيف الدين. قد تقدّمت ترجمة جدّه منكوتمر.
كان الأمير شرف الدين المذكور أحد أمراء الطبلخات بطرابلس، ولكنه أضيف الى عسكر دمشق، وإذا كان أوان يَزَكِه توجّه الى طرابلس وعمل يزكه وعاد الى دمشق.
وكان شاباً ظريفاً مطبوع الحركات والسكنات، نظيف اللباس، طيب الرائحة، كأن غصن بان أو قضيب ريحان.
ولم يزل على حاله الى أن توفي في عشري شهر الله المحرم سنة سبع وخمسين وسبع مئة.
موسى بن محمد
ابن موسى بن يونس كمال الدين بن بهاء الدين ابن العلامة الفريد كمال الدين بن يونس قاضي الموصل وابن قاضيها.
توجه الى السلطانية في مهم له فأدركه أجله بها في جمادى الأولى سنة خمس عشرة وسبع مئة.
وكان فاضلاً إماماً علامة، وولي قضاء الموصل بعده ولده.
موسى بن محمد بن أبي الحسين
الشيخ الفاضل المؤرخ المعمّر المسند بقية المشايخ، قطب الدين أبو الفتح ابن شيخ مذهبه أبي عبد الله اليونيني البعلبكي.(3/26)
سمع من أبيه، والشرف الإربلي، وشيخ الشيوخ عبد العزيز، والرشيد العطار، وأبي بكر بن مكارم، وابن عبد الدائم، وعدة، وأجز له ابن رواج، ويوسف الساوي وجماعة.
وكانت له صورة كبيرة وجلالة، وفيه مروءة وعنده كرم ومعرفة تامة بالشروط، وصار شيخ بعلبك بعد أخيه أبي الحسين، وروى الكثير بدمشق وبعلبك، واختصر مرآة الزمان على نصف النصف، وذيّل عليها في أربع مجلدات.
ثم إنه أسنّ وكبر وعجز وتعلل.
وتوفي رحمه الله تعالى في شوال سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده في صفر سنة أربعين وست مئة.
موسى بن محمد بن أبي بكر
ابن سالم بن سلمان المرداوي الحنبلي.
كان فقيهاً صالحاً حسن الهيئة مليح الشيبة.
قدم دمشق وحفظ المقنع وألفية ابن معطي، وحصّل كتباً، وكان يطالع وقنل، وسمع من خطيب مردابها، وبدمشق من ابن عبد الدائم، وعمر الكرماني، وجماعة. ومرض بالفالج مدة طويلة وانقطع عشرين سنة لا يقدر أن يصلي إلا بمن يعينه في السجود ويجلسه.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس شهر رجب سنة تسع عشرة وسبع مئة.
وملده سنة خمس وأربعين وست مئة.
موسى بن محمد بن يحيى
عماد الدين اليوسفي المصري، المعروف بابن الشيخ يحيى، أحد مقدّمي الحلقة بالديار المصرية.
كان مشهوراً بالمروءة، معروفاً بالعصبية التي هي في حنايا جوانحه مخبوءة، يصحب الأكابر، ويغالطهم بالمودة ويكابر، ويلازم صحبة الأعيان ويثابر، لم تفته صحبة رب سيفٍ ولا قلم، ولا حامل عِلم ولا رافع عَلم، يتقرّب إليهم بالخدم ويسعى على رأسه في قضاياهم لا على القدم:
تلذّ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذّ له الغرامُ
وكان يعاني شيئاً من النظم والنثر على عاميته، ويأتي به طباعاً من غير تكلف سجيته، فيأتي من ذلك بما يُضحك الثكالى، وينشط القلوب للتعجب بعد أن كانت كُسالى، على أنه يأتي في ذلك بما يشبه التورية والاستخدام، والاستعارة والجناس الناقص والتام، فما كنت أنا ولا شيخنا الحافظ فتح الدين محمد بن سيد الناس نقضي العجب من ذلك، ونقول له: يا سيدنا سبحان من وسع عليك في هذا الفن المسالك، فيعجبه ذلك، ويقول: والله هذا ولم أقرأ المقامات ولا حفظت شيئاً من شعر المتنبي، ولا اشتغلت بشيء من العربية ولا العلم، فنقول له: هذه مواهب وقرائح.
ولم يزل على حاله الى أن وهى ركن العماد، ومال الى خراب عمره وماد.
وتوفي بالقاهرة رحمه الله تعالى في أوائل سنة تسع وخمسين وسبع مئة بالقاهرة.
وجمع لنفسه تاريخاً كبيراً، يجيء في خمس عشرة مجلدة، وله غير ذلك.
وكان يصحب الكبار مثل القاضي كريم الدين الكبير، واختص بجمال الكفاة وبالوزير علم الدين بن زنبور وبالأمير سيف الدين أيتمش نائب الكرك وصفد، وبالأمير بدر الدين جنكلي بن البابا، وبالحاج أرقطاي لما عمل النيابة بدمشق ومصر، وبغيرهم، واختص أخيراً بالأمير سيف الدين شيخو وسيف الدين صرغتمش.
وكان يكتب إلي قصائد وغيرها، فأحتاج الى أن أجيبه عن ذلك، ومما كتبته إليه:
دار عماد الدين شوقي لها ... يجلّ أن يذكر بين العباد
ما راق طرفي بعدها منزل ... لأنها في الحسن ذات العماد
وكتبت إليه:
أوحشتني يا عمدتي ... وعلى الحقيقة يا عمادي
يا من غدا وشعاره ... بين الورى بذل الأيادي
وله محاسن نشرها ... متضوع في كل ناد
ومكارم بحديثها ... فينا ترنّم كل شاد
ومروءة أبناؤها ... مشهورة بين العباد
يكفي محبك أنه ... من بعد بعدك في جهاد
محنٌ يذوب بنارها ... صمّ الصخور من الجماد
وصبابة إن قلت قلّت ... فهي تصبح في ازدياد
والصبر كنت أظنه ... ممن يوصلني ببلادي
وحياتكم لم يرض أن ... يشقى وخالف في المبادي
وكذا الكرى من عهدكم ... للآن لم يعرف وسادي
والله لم يخرج معي ... من عندكم إلا ودادي
فعدمت إلا أدمعاً ... تحكي بصيّبها الغوادي
ووجدت كل بلية ... حاشاكم إلا فؤادي(3/27)
فغدوت أنشده وأط ... لب عوده، ولمن أنادي
وأظنه في ربعكم ... تجدونه بين الرماد
أفسدتموه بفضلكم ... لما غدا وفق المراد
يا دهر زدت من النوى ... وأطلت في هذا البعاد
ما آن أن تحنو، فقد ... أشمت بي كل الأعادي
موسى بن مهنا
الأمير مظفر الدين ابن الأمير حسام الدين أمير آل فضل، تقدم ذكر والده مهنا وعمه فضل وأخويه سليمان وأحمد في أماكنهم.
كان والده مهنا يقول: فرحت بأربع: عقل موسى، وشجاعة سليمان، وكرم أحمد، وحُسن فيّاض.
وكان ما من أحد من العربان الأمراء إلا وقد أكل إقطاع التتار إلا موسى، فإنه كان السلطان يغضب عليهم ويطردهم من بلاده، وما يأكل إلا إقطاع السلطان. وكان يتنقل في إمرة آل فضل في حياة أبيه، وأخذها مرة من عمه الأمير شجاع الدين فضل.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقعرة فجأة بعد صلاة العشاء الآخرة في العشر الأواخر من جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
وبموسى هذا كان يُكنّى أبوه مهنا، فيقال يا أبا موسى. ونقل من القعرة بعد موته الى تدمر ودفن بها.
موسى بن يحيى بن فضل الله
الأمير صلاح الدين، تقدم نسبه في ترجمة أخيه القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله في حرف الهمزة.
كان من أحسن الأشكال، وممن لا شبهة في حسن صورته ولا إشكال، مترَّك الوجه والعين، تنصرف النفوس الى رؤيته ولم تلتفت الى الورق ولا العين.
أدخله والده القاضي محيي الدين في جملة أرباب السيف، ولم يُر أن يُهدى الى وظيفة الكتاب في يقظة ولا طيف، فجمّل به المواكب، وكمّل به الكواكب، ثم إنه عُدّ في جملة الأمراء، وكاد يستخدم الجلة من الوزراء.
ولم يزل في مطالع سعوده، ومعارج صعوده، الى أن فسد صلاحه، ولم يسفر بالحياة صباحه.
وتوفي رحمه الله في صفر سنة ستين وسبع مئة.
ومولده سنة عشرة وسبع مئة.
هذا الأمير صلاح الدين توجه مع والده وإخوته الى الديار المصرية، وهو بزي الأتراك، فأعطاه السلطان الملك الناصر محمد إقطاعاً في حلقة مصر. وهو شقيق القاضي علاء الدين صاحب دواوين الإنشاء الشريف، أخذ له في أيام الناصر أحمد إمرة عشرة بمصر، ثم أخذ له إمرة عشرين. وكان مقيماً عند أخيه، وبعد كل فترة من السنين يحضر الى دمشق لكشف أملاكه وتعلّقاته، ويعود الى الديار المصرية، وكان من أحسن الأشكال وأظرفها.
ولما توفي رحمه الله تعالى، وجد عليه أخوه القاضي علاء الدين وجْداً عظيماً. وكتبت أنا إليه من دمشق المحروسة أعزيه فيه:
قد شبّ جمر الأسى في القلب واشتعلا ... مذ قيل لي إن موسى قد قضى الأجلا
موسى بن يحيى الذي قد كان طلعته ... كأنها الشمس لما حلّت الحمَلا
موسى بن يحيى بن فضل الله ذو نسب ... به الى عمر الفاروق قد وصلا
ذاك الأمير صلاح الدين خير فتى ... قد زيّن الدهر والأيام والدولا
قد كان موكب مصر يستنير به ... إذا غدا بنجاد السيف مشتملا
قد كان بدراً تضيء الليل طلعتُه ... إذا بدا، أفلا أبكي وقد أفلا
وكان ظلاً عليناً وارفاً وبه ... نلقى الردى، أفلا نأسى إذا انتقلا
لولا وفاة صلاح الدين ما وجدت ... لها المنايا الى أرواحنا سبلا
فأعظم الله فيه أجر فاقده ... ولا استخف به من حزنه جبلا
والله يبقيه في أمنٍ وفي دعة ... والله أكرم مدعو إذا سُئلا
فإنه في نهايات العلا، فإذا ... أراد غاية مجد في الورى نزلا
موسى
الأمير شرف الدين الحاجب بحلب.
أقام زماناً بحلب أمير حاجب، الى أن كرهه الأمير سيف الدين الكاملي، ولما عاد الى حلب نائباً ثاني مرة كتب فيه فتوجه الى قلعة الروم نائباً.
ثم نُقل الى نيابة البيرة فأقام بها الى أن توفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة ست وخمسين وسبع مئة بالبيرة، وتوجه عوضه الأمير جمال الدين آقوش الحاجب بحلب.
موفقية
ستّ الأجناس بنت أحمد بن عبد الوهاب بن عتيق بن وردان المصرية، مسندة القاهرة.(3/28)
سمعت من الحسن بن دينار، وعبد العزيز بن النقّار، والعلم بن الصابوني، وطائفة، وتفرّدت بسماع أجزاء.
أخذ عنها شيخنا فتح الدين بن سيد الناس، والواني، وابن الفخر، وسائر الطلبة.
وتوفيت رحمها الله تعالى سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
ومولدها سنة ثلاثين وست مئة.
اللقب والنسب
الموفّقي
نائب غزة، الأمير ركن الدين بيبرس.
الموفّق
محمد بن محمد.
الموفق
ناظر الدولة هبة الله، ثم تسمى بعبد الله بن سعيد الدولة.
ابن المولى الحموي
عبد الرحمن بن علي.
المؤيّد
صاحب حماة إسماعيل بن علي.
المؤيّد
صاحب اليمن داود بن يوسف.
والمؤيد ابن خطيب عقربا
عليّ بن إبراهيم.
ابن ميسّر
الصاحب عز الدين أحمد بن محمد.
ابن مينا
شمس الدين محمد بن محمد.
حرف النون
ناصر بن منصور
ابن شرف، القاضي الإمام ناصر الدين التغلبي الزُرعي الشافعي.
كان رجلاً جيداً، كريم النفس، حسن الخلق، تام الشكل، مشكور السيرة، نزهاً عفيفاً.
كان أولاً خطيباً بزرع، ثم ولي القضاء بها، وولي قضاء أذرعات، وقضاء عجلون ونابلس وحمص، وولي قضاء صفد وقضاء طرابلس، وما باشر بلداً إلا وحصل الثناء عليه.
توفي رحمه الله تعالى بنابلس في ثالث عشر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ناصر بن أبي الفضل
ابن اسماعيل، الفقيه المقرئ ابن الهيتي الصالحي، ابن شرف الدين الشافعي.
كان مليح الصورة في صباه، مطرب الصوت، يقرأ القرآن في التُرب والختم، وحفظ التنبيه، ثم إنه، على ما ذكره شيخنا الذهبي، صحب الباجربقي وابن المعمار البغدادي والنجم بن خلكان، وتزندق، واستخف بأمور الدين، وتفوّه بعظائم، وتزهد وتوجه الى مكة، ثم الى بغداد، ثم إنه فرّ منها لما همّوا بقتله، ثم هرب من ماردين، فشهدوا عليه بكفر ثان بحلب، فأمسكه قاضيها الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، وبعثه مقيّدا الى دمشق، فأقيمت عليه البيّنة عند قاضي القضاة شرف الدين المالكي، فما أبدى عذراً وسكت، لكنه تشهد وصلى ركعتين وتلا القرآن ثم ضرب عنقه، وما كفّن ولا غُسل.
وكانت قتلته في يوم الثلاثاء حادي عشري شهر ربيع الأول سنة ست وعشرين وسبع مئة، وكان عمره نحواً من ستين سنة.
قلت: قال لي جماعة إنهم لما توجهوا به ليضربوا عنقه أنشد:
إن كان سفك دمي أقصى مرادهم ... فما غلت نظرة منهم بسفك دمي
ابن نبهان
الشيخ محمد بن نبهان. وولده الشيخ علي بن محمد.
نجم الحطيني
اسمه أيوب بن أحمد، وإنما اشتهر بالنجيم الحطيني، وحطين بكسر الحاء المهملة وتشديد الطاء المهملة وبعدها ياء آخر الحروف ونون.
كان أفّاكاً، جريئاً على الأهوال فتّاكاً، لا يقدّم خوفاً من خالق ولا مخلوق، ولا يبالي بعد إدراك غايته أهو سابق أم مسبوق، يفتك نهاراً جهاراً، وإذا نزل بدار قوم رحل بخزية وترك عارا، ما حلّ في ناحية إلا ملأها فجورا، وكان له النّقص فيها زائراً ومَزورا، يفرّ من الشام الى مصر، ويخفر الذمة ويخون الإصر.
ولم يزل يذهب ويحور، ويظلم نفسه وغيره ويجور، ويفوت كلَّ زرية ودمه كما يقال يفور، حتى وقع بأعماله، وقطع الدهر بخيبة آماله:
وساقه البغي الى صرعة ... للحين لم تخطر على باله
وكان المذكور شيطاناً من الشيطاين، وإبليساً من الأباليس، يسفك الدماء، ولا يقف عند خطة شرعٍ ولا غيره.
أول ما اتصل بخدمة الشيخ شمس الدين محمد بن أبي طالب شيخ الربوة المقدّم ذكره في المحمدين، وكان الشيخ شمس الدين شيخ الخانقاه التي بحطين، فاتفق أن جاء إليهم فقير بات في الخانقاه، فرأى نجيم هذا معه ذهبا، فلما كان في الليل نبهه نجيم، وقال له: قم فقد طلع الصباح، فقام فوجد الليل باقياً، فقال: لا عليك أنا أخفرك حتى تطلع من هذا الوادي، فخرج به وعرّج عن الطريق وذبحه وأخذ ما معه. وجرى لشيخه مع كراي نائب صفد ما ذكرته في ترجمته.
وهرب نجيم الى الديار المصرية، ودخل الى الصعيد واتصل ببعض الولاة وجرت له هناك واقعة أخرى من هذا النمط حدثني بها الشيخ شمس الدين بن الأكفاني وأُنسيت أنا كيفيتها.(3/29)
ثم إنه حضر بعد ذلك الى الشام فوجد شيخه الشيخ شمس الدين شيخ الربوة بدمشق، وأراد أن يعود الى صحبته، فأبعده ولم يقرّبه، ولا أراه وجهاً لما تقدم منه.
وحدثني الشيخ شمس الدين بن أبي طالب قال: كنت أتحقق جرأته وإقدامه وكنت أخافه على نفسيه وأحذره، فما أنام في مقام الربوة حتى أتحصن وأحكم غلق الأبواب، فأكون في بعض الليالي نائماً، فما أشعر به إلا وقد أنبهني من نومي بإزعاج وبيده سكين ويقول لي: يا أفخاذ الغنمة، أو يا أفخاذ النعجة، إيش أعمل بك الساعة؟ فأقول له: اتق الله وخفْه، وأترفق له وأتلطف حتى يدعني ويمضي، ومن رأى الربوة وحصانتها تعجب من فعل المذكور.
ولم يزل بدمشق حتى أن أتى السلطان الملك الناصر محمد من الكرك الى دمشق سنة تسع وسبع مئة، فداخل مماليك السلطان والخاصكية واتصل بهم.
حدثني الشيخ نجم الدين بن الكمال خطيب صفد رحمه الله تعالى، قال: لم نشعر يوماً بالنجيم إلا وعليه تشريف هائل، وقد جاء يسلّم علينا، فقلنا له: من أين لك هذا؟ قال: من السلطان، ومهما كان لكم من الحوائج قضيتها، قلنا له: عرّفنا بهؤلاء أصحابك، فقال: لا والله، متى عرفتموهم أنحستموني عندهم، ولكن أنا أقضي أشغالكم، قال: وقال لي إنني أنام في القصر الأبلق بين صناديق الخزانة الخاص، وأرى السلطان في منامه وقيامه، وليس بيني وبينه غير صندوق.
ثم إنه عمل ملحمة وعتقها وذكر فيها حلية واحدة من مماليك السلطان اسمه جولجين. وقد تقدم ذكره في حرف الجيم، وذكر فيها أنه يلي الملك، وذكر فيها آثاراً وعلائم توصل الى رؤيتها في الحمّام، أو سأل عنها من البابكية، ولعب بعقل ذلك المسكين الى أن توهم أن ذلك يقع، وكان يقول له ولخوشداشيته أوقعوا الفعل، فيظهرون له الخوف، فيقول لهم: إذا لم تقتلوا السلطان، أنا أقتله لكم، فما قدّر الله تعالى ذلك، وتوجه معهم الى مصر وأقام عندهم سنتين.
ثم إنه جاء الى حطين فاطلع السلطان على القضية، فوسط جولجين ومعهم جماعة، ثم بعث أخذ النجيم على البريد من صفد وجهزه الى دمشق مسمراً، وكان الموكب واقفاً في سوق الخيل بدمشق، وقد أقبل جمله، وهو مبرقع، فتوهم الناس أنه بكتمر الحاجب.
وكان وصوله الى دمشق مسمراً في يوم السبت سادس عشري شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة وسبع مئة. وقلت أنا فيه:
لابد في الاسم من معنى يخصصه ... بذلك اللفظ فافهم حكمه الأزلي
كنجم حطين شاء الله رفعته ... لكنها بمسامير على جمل
نجمة التركماني
خرج على الدولة وتحرم وتجرم، وأخاف السبل، وأخذ القفول، وروّع الناس ببلاد ماردين والموصل وسنجار، جهزت إليه الفداوية، فوقعوا عليه، وضربوه بالسكاكين مرات وينجو ويقوم ويعود الى الحالة الأولى.
ثم إنه في مستهل جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، انضوى الى زبيد الأحلاف لما أبعدوا عن الرحبة، وجاء الى الشيخ حسن بن هندو حاكم سنجار، وأخذ منه عسكراً وتوجه به وبالأحلاف ومقدّمهم محمد بن عبيد الزبيدي الى الرحبة، ولم يكن بها يومئذ يزك من عسكر دمشق، فأغار على الرحبة وقتل بها، وسفك الدماء، وأسر، وأثخن الجراح، ونهب الأموال والمواشي، وأبان في ذلك اليوم، فكان يوهم أنه يرمي شخصاً بالنّشاب ويفوّق السهم الى شخص بعينه، ثم يطلق السهم على غيره. وبالغ في أذى الرعية، وعاد الى سنجار، فتوجهت العساكر إليه من دمشق وحلب وحماة، وحاصروا سنجار، ثم إن حاكم سنجار أظهر الطاعة وحلف هو ونجمة لصاحب مصر وأظهرا التوبة والإنابة. ثم إن الفداوية وقعت عليه وضربته خمس ضربات فأمسك الفداوية، وحزّ رؤوسهم، وعلقها على باب سنجار. ثم إنه عوفي بعد مدة، ونزح من سنجار، وتوجه الى ماردين وأقام هناك يعبث ويغير ويؤذي ويعتمد كل قبيح، الى أن قتل هو وولداه ونوابه، وحزّ رؤوسهم صاحب ماردين، وجهزها الى باب السلطان صحبة سيف الدين تيتمر أمير آخور، صاحب ماردين، فلما وصل الى حلب قال الأمير سيف الدين بيبغاروس نائب حلب: أي كلاب هؤلاء حتى يتوجهوا برؤوسهم الى باب مولانا السلطان ليسوا أمراء توامين ولا ملوكاً، هؤلاء حرامية قطاع طريق، وباب مولانا السلطان أجلّ من ذلك، وترك الرؤوس في حلب، وجهز أمير آخور صاحب ماردين بما على يده من المكاتبة، وكان ذلك في شوال سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة.
وقلت أنا فيه:(3/30)
إذا بغى المرء لم تُحمد عواقبه ... وقلّ باغٍ نجا من قبضة العطب
كنجمةَ التركماني بات جثّته ... في ماردين وصار الرأسُ في حلب
الألقاب والأنساب
ابن النّجيبي
أبو بكر بن أيبك.
ابن النجار
محمد بن أسد.
ابن النّحاس
جماعة، منهم الشيخ بهاء الدين النحوي محمد بن ابراهيم. وكمال الدين الحلبي إسحاق بن أبي بكر. وبهاء الدين بن النحاس الحنفي الحلبي أيوب بن أبي بكر. وعلاء الدين والي دمشق علي بن إبراهيم بن خالد، وولي أبوه أيضاً مدينة دمشق. وأمين الدين محمد بن أبي بكر. وشهاب الدين يوسف بن محمد.
وابن نحلة
علاء الدين علي بن يحيى.
ابن النحوية
الشيخ بدر الدين محمد بن يعقوب.
نسب خاتون
ابنة الملك الجواد مظفر الدين يونس بن شمس الدين ممدود ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليها نسخة أبي مسهر عن إبراهيم بن خليل، ولا أعلم أنها روت غيرها. وكانت سمعت أيضاً من خطيب مردا، وابن عبد الدائم، وكانت كبيرة السن معمرة.
لم تزل شيخة برباط بلدق الى حين وفاتها. وكانت كثيرة الإقامة عند الحنابلة بالدير تحبهم وتؤثرهم، وعندهم سمعت الحديث.
وتوفيت رحمها الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة سبع وتسعين وست مئة.
الألقاب والأنساب
ابن النشابي
عماد الدين حسن بن علي. وناصر الدين محمد بن الحسن.
النشائي
الوزير ضياء الدين أبو بكر بن عبد الله.
النشّو
ناظر الخاص عبد الوهاب.
النشّائي
عز الدين عمر بن أحمد.
ابن النشو
محمد بن عبد الرحيم.
نصر بن سلمان بن عمر
الشيخ الإمام القدوة المقرئ المحدّث، النحوي، الزاهد، العابد، القانت، الرباني، بقية السلف المنبجي، نزيل القاهرة وشيخها.
سمع بحلب من إبراهيم بن خليل، وبمصر من الكمال الضرير، وتلا عليه بعدة كتب، وعلى الكمال بن فارس، وتصدّر في أيام مشايخه، وشارك في العلوم وتفنن، ثم إنه تعبّد وانقطع، وتردد إليه الكبار وكان يهرب منهم، وارتفع ذكره جداً في دولة تلميذه الجاشنكير، وكان ممن يؤذي الشيخ تقي الدين بن تيمية، وهو الذي أحرف الجاشنكير عنه.
قال ابن أخته الحافظ عبد الكريم: ما دخلت عليه قط إلا وجدته مشغولاً بما ينفعه في آخرته، وكان يتغالى في الشيخ محيي الدين بن عربي، ولا يخوض في مزمناته.
قال شيخنا الذهبي: ولقد جلست معه بزاويته، فأعجبني سمته وعبادته.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الثلاثاء بعد العصر سادس عشر جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وثلاثين وست مئة بمنبج.
نصر بن محمد بن محمد
السلطان أبو الجيوش ابن السلطان ابن الأحمر الأنصاري المغربي.
خرج على أخيه واعتقله وقتله وتملّك. وكانت دولته أربع سنين. ثم وثب عليه ابن أخته الغالب بالله وقهره، وقرر أبا الجيوش أميراً بوادي آش، فدام به نحواً من عشر سنين.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
نصير بن أحمد بن علي
المناوي الحمّامي.
كان عامياً إلا في النظم الذي يأتي بسحره، ويدير على الألباب كؤوس خمره، وكان في تلك الحلبة في جيادها المعدودة، وسوابقها التي تذر الرياح الهوج وأنفاسها مكدوده، قعدت معه التورية وجادت، ورأست على كلام غيره وسادت، معانيه بليغة وألفاظه فصيحة، وأبكاره برزت حاسرة ولم تخش فضيحة، وتراكيب كلماته في كل ما يأتي به في غاية الانسجام، ومقاصده مليحة تطوف على النفوس منها بالأنس جام، جاراه فحول عصره وجاراهم، وكتبوا إليه فأجابهم وباراهم وما ماراهم، وربما أربى في اللطف على مجاريه، ولو لم يكن حمامياً لما عرف حرّ الأشياء وباردها وأخذ الماء من مجاريه، كم ألغز فألغى ذكر من تقدم، وأوجز فأوجب أن الذي أداره على الأسماع كأس السلاف المقدم، وأعجز من أعجب السامعين، فقالوا ما غادر هذا الشاعر بعده من متردم، يقول من يسمع مقاطيعه الرائعة، أو يفكر في مقاصده اللائقة:
أحروف لفظٍ أم كؤوس مدامة ... وافت ونشوة سامع أو شاربِ
مما يضم السلك في جيد المها ... ة الرود، لا ما ضم حبل الحاطب(3/31)
تحلو شمائل حسنها مجلوة ... كالروض تحت شمائل وجنائب
وكان في مصر يرتزق بضمان الحمامات، ويقيم بلاغة من فضالة تلك القمامات، عادة جرى الدهر على قاعدتها مع الأدباء، وغادة لم تغن الأيام من كان كفؤها من الألبّاء.
ولم يزل على حاله حتى أصبح للأعداء رحمة، وبكته معانيه الجمة.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة أربع وسبع مئة.
ومولده بمنية بني خصيب سنة تسع وست مئة.
أخبرني شيخنا العلامة أبو حيان، قال: كان المذكور أديباً بمصر كيّس الأخلاق يتحرّف باكتراء الحمامات، وأسنّ وضعف عن ذلك، وكان يستجدي بالشعر. وكتبت عنه قديماً وحديثاً.
وأنشدني قال: أنشدني المذكور من لفظه لنفسه:
لا تفُه ما حييت إلا بخير ... ليكون الجواب خيراً لديكا
قد سمعت الصدى وذاك جماد ... كل شيء تقول، ردّ عليكا
قلت أنا: قوله: إن الصدى جماد فيه نظر، لأن الصدى هو الصوت العائد عليك عندما يقرع صوتك ما يقابلك من حائط أو غيره، ولكن يمكن أن يتمحّل له وجه ضعيف. والنصير رحمه الله تعالى أخذ هذا من قول ابن سناء الملك:
بان عليها الذل من بعدهم ... ونراه حتى كاد أن لا يبين
فإن تقل أين الذين اغتدوا ... يقل صداها لك أين الذين
وأخذه ابن سناء الملك من الأرجاني حيث قال:
سأل الصدى عنه وأصغى للصدى ... كيما يجيب، فقال مثل مقاله
ناداه أين ترى محطّ رحاله ... فأجاب أين ترى محط رحاله
وقال، أنشدني له أيضاً:
أقول للكزس إذ تبدّت ... في كف أحوى أغنّ أحور
خرّبت بيتي، وبيت غيري ... وأصل ذا كعبك المدوّر
وبه قال، أنشدني له:
إن الغزال الذي هام الفؤاد به ... استأنس اليوم عندي بعدما نفرا
أظهرتها ظاهريات وقد ربضت ... فيها الأسود رآها الظبي فانكسرا
وبه قال: أنشدني له:
قالوا افتضحت بحبه ... فأجبت لي في ذا اعتذار
من لي بكتمان الهوى ... وبخده نمّ العذار
قلت: أحسن منه وأصرح قول الآخر:
لافتضاحي في عوارضه ... سبب والناس لوّام
كيف يخفى ما أكابده ... والذي أهواه نمّام
وبه قال: أنشدني له:
ما زال يسقيني زلال رضابه ... لما خفيت ضنىً وذبت توقدا
ويظنني حياً، رويت ريقه ... فإذا دعا قلبي، يجاوبه الصدى
وبه قال: أنشدني له:
ماذا يضرك لو سمحت بزورة ... وشفعتها بمكارم الأخلاق
وردعت نفسك حين تمنعك اللّقا ... وتقول هذا آخر العشاق
وبه إجازة، قال: أنشدني لنفسه:
إني لأكره في الأنام ثلاثة ... ما إن لهم في عدها من زائد
قرب البخيل، وجاهلاً متعاقلاً ... لا يستحي، وتودّداً من حاسد
ومن البلية والرزية أن ترى ... هذي الثلاثة جمّعت في واحد
وأنشدني من لفظه القاضي جمال الدين إبراهيم ابن كاتب سر حلب، قال: أنشدني من لفظه لنفسه:
لي منزل معروفه ... ينهلّ غيثاً كالسحب
أقبل ذا العذر به ... وأكرم الجار الجنب
وبه قال: أنشدني لنفسه:
رأيت فتى يقول بشطّ مصر ... على درج بدت والبعض غارق
متى غطى لنا الدرج استقينا ... فقلت: نعم وتنصلح الدقائق
قلت: في قوله الدقائق هنا نظر، وقد أشبعت القول في فساد ذلك في كتابي المسمى فضّ الختام عن التورية والاستخدام.
وبه قال: أنشدني له:
ومذ لزمت الحمام صرت فتى ... خلاً يداري من لا يداريه
أعرف حرّ الأشيا وباردها ... وآخذ الماء من مجاريه
قلت: لما كتب أبو الحسين الجزار الى النصير قوله:
حسن التأني مما يعين على ... رزق الفتى والحظوظ تختلف
والعبد مذ كان في جزارته ... يعرف من أين تؤكل الكتف
كتب النصير الحمامي بيتيه المذكورين، وقد أربى النصير على أبي الحسين، لأن الجزار أتى بمثل واحد، والحمّامي أتى بمثلين.(3/32)
وقال النصير للسراج الورّاق: قد عملت قصيدة في الصاحب تاج الدين، وأشتهي أنك إذا قرئت عليه تزهزه لها وتشكرها، وسيّرها الى الصاحب، فلما أنشدت بين يديه بحضرة السراج، قال الوراق بعدما فرغ من إنشادها:
شاقني للنصير شعرٌ بديع ... ولمثلي في الشعر نقد بصير
ثم لما سمعت باسمك فيه ... قلت: نعم المولى ونعم المصير
فأمر له الصاحب بدراهم وسيّرها إليه. وقال: قل له: هذه مئتا درهم صنجة، فلما أدى الرسول الرسالة، قال: قبل الأرض بين يدي مولانا الصاحب، وقل نسأل صدقاتك أن تكون عادة، فلما سمع الصاحب بذلك أعجبه، وقال: يكون ذلك عادة.
وكتب النصير الى السراج يتشوق:
وكدّرت حمامي بغيبتك التي ... تكدّر من لذاتها صفو مشربي
فما كان صدر الحوض منشرحاً بها ... ولا كان قلب الماء فيها بطيّب
قلت: وهذان مثلان أيضاً يتعلّقان بالحمّام.
وكتب أيضاً يستدعي:
من الرأي عندي أن تواصل خلوة ... لها كبد حرّى وفيض عيون
تراعي نجوماً فيك من حرّ قلبها ... وتبكي بدمع فارح وحزين
غدا قلبها صبّاً عليك، وأنت إن ... تأخرت أضحى في حياض منون
وكتب ناصر الدين بن النقيب الى النصير، وقد حصل له رمد:
يقولون لي عين النصير تألمت ... ولازمه في جفنه الحكّ والأكلُ
فقلت: أعين الرأس أم عين غيره ... فلعلو شيء لا يداوى به السفل
فقالوا: به العين التي تحت صلبه ... فقلت: لها التشيف عندي والكحل
وميل بماء الريق يبتلّ سفله ... فيدخل سهلاً غير صعب وينسلُ
وأغسلها بالبيض واللبن الذي ... علي بتقطيري له تجب الغسلُ
فإن شاء وافيتُ الأديب مدانيا ... ولم أشتغل عنه وإن كان لي شغل
فكتب النصير الجواب:
أيا من له في الطب علم مباشر ... وما كل ذي قول له القول والفعلُ
أتيت بطبٍ قد حوى البيع والشرا ... تبيّن لي في ذلك الخرج والدخل
وإن كان لي بطبّك إنه ... بسقمي صعب ليس هذا به سهلُ
فلا عدِم المملوك منك مداوياً ... وما زال للمولى على عبده الفضل
وكتب ابن النقيب إليه وهو بقرية في خطه:
رغبت في كسر أجر ... وفي اغتنام مثوبهْ
وهان ما كان فيه ... من السراج صعوبهْ
ولست في أرض شام ... ولست في أرض نوبه
وبيننا رمي سهم ... غلطت بل رجم طوبه
فكتب النصير الجواب:
رُحماك يا خير مولى ... ففي العتاب عقوبهْ
وأنت إن زدت عتباً ... يغدو غلامك قوبه
والعبد مازال يهوى ... لا بل يحب الرطوبه
تموّز فكرك والعب ... دُ فكره فيك طوبه
قلت: ما كان يليق ذكر تموز وهو من شهور الروم، وطوبة وهو من شهور القبط.
وكتب النصير الى السراج الوراق:
كنت مثل الغزال والله يكفي ... صرتُ في وجهه إذا جئت كلبا
ولعمري لا ذنب لي غير أني ... تُبتُ لله ظن ذلك ذنبا
وهو لو جاءني وقد تبت حتى ... يبتغي حاجة فلن أتأبّى
فكتب الوراق الجواب، ومنه:
وأتى الظبي مرسَلاً منك فاستغ ... ربْتُ لما دعوتَ نفسك كلبا
ولكم جئت عادياً خلفه تل ... هث عَدواً للصيد بُعداً وقربا
غير أني نظرت عين صفي الد ... ين كادت أن تشرب الظبي شربا
فاترك التوبة التي قد رآها ... لك وزراً كما زعمت وذنبا
واجتهد في رضاك عنه وقرّب ... كل نائي المدى تنلْ منه قربا
فلكم رضت جامحاً في تراضي ... ه وذللت بالسفارة صعبا
وكتب الى السراج أيضاً ملغزاً في نون:
ما اسمٌ ثلاثي يرى واحداً ... وقد يُعدّ اثنين مكتوبه
يظهر لي من بعضه كله ... إذ كل حرف منه مقلوبه
أضف ثمانين الى ستة ... إن شئت لا يعدوك محسوبه(3/33)
اطلبه في البر وفي البحر لا ... فات حجى مولى مطلوبه
فكتب الوراق الجواب:
يا سالب الألباب عن سحره ... بمعجز أعجز أسلوبُهْ
ألغزت في اسم وهو حرفٌ وقد ... يخفى علينا فيك محجوبه
وهو اسمُ أنثى مرضع، طفلها ... غيرُ لبان الناس مشروبه
مطّرد منعكسٌ شكله ... سيّان في العين مقلوبه
قلت: قول النصير: أضف ثمانين الى ستة وهمٌ منه، لأن النونين بمئة والواو بستة فيكون ذلك مئة وستة.
وكتب النصير الى الورّاق ملغزاً في سيل:
أيا مَن له ذهنٌ لدى الفكر لا يخبو ... ومن لم يزل يحنو ولم يزل يحبو
قصدتُ سراج الدين في ليل فكرة ... يكاد جوادُ العقل في سيلها يكبو
ليرشد في شيئاً به يدرك المنى ... له قلب صبٍ كم فؤاد به صبُّ
إذا ركب البيداً يخشى ويُتّقى ... ولم يثنه طعن ولم يثنه ضربُ
بقلب يهد الصخر يوم لقائه ... ومن أعجب الأشياء ليس له قلب
فكتب الوراق الجواب:
أراك نصير الدين عذّبت خاطري ... وقد راق لي من لغزك المنهل العذبُ
وأثبتّ قلباً منه ثم نفيته ... وأعرفه صبّاً وهام له قلبُ
وأعرف منه أعيناً لا تحفّها ... جفون كعادات الجفون ولا هُدب
ومن وصفه صبُّ كما أنت واصف ... صدقت ولولاه لما عرف الحب
فدونك ما ألغزته لي مُبيّنا ... وذلك ما يحتاجه العُجم والعُرب
وكتب النصير إليه أيضاً:
أتى فصل الخريف عليّ جداً ... بأمراض لواعجها شدادُ
وأعذر عائي إن لم يعدني ... وربّ مريض قومٍ لا يعاد
فأجاب الورّاق:
خلائقك الربيع فليس تخشى ... خريفاً في الجسوم له اعتياد
ولا والله لم أعلمه إلا ... صحيحاً والصحيح فما يعادُ
وكتب النصير إليه أيضاً:
أيها المحسن الذي وهب الله ... تعالى الحُسنى له وزيادَهْ
ضاع ما كان من وصولات وصلي ... فتصدق بكتبها لي مُعاده
أين تلك الطروسُ نظماً ونثراً ... منك تأتي على سبيل الإفادهْ
كل طرس يحلى عروساً بدرّ ال ... قول كم من عقد وكم من قلاده
كان عيشي إذا أتاني رسولٌ ... منك يحيي خلاً أمتّ وداده
شهد الله ليس لي غير ذكرا ... ك وإلا خرست عند الشهاده
فكتب الوراق الجواب:
لم يغب عن سواد عيني حبيبٌ ... حلّ من قلبي المشوق سواده
فكأني ولا أذوق له رز ... ءاً جريرٌ وذاك عند سواده
ذو بيان أدنى بلاغته تُن ... سيك قساً وعصره وإياده
جوهري الألفاظ كم قلّد الأج ... ياد عقداً من نظمه وقلاده
فعبيدٌ أدنى العبيد لديه ... ولبيد عن نظمه ذو بلادَه
ولأزجاله ابن قُزمان يعنو ... فلتوشيحه يقرّ عُباده
فات دار الطراز منه خلال ... لَوبها للسعيد تمت سعاده
يا صديقي الذي غدا راغباً ف ... ي وللأصدقاء فيّ زهاده
هجروني كأنني مصحف أو ... مسجد قد أقيم أو سجّاده
دمت نعم النصير لي ما تغنّت ... ساجعاتٌ على ذُرا ميّاده
وكتب النصير الى الوراق:
يا أيها المولى السرا ... ج وماجداً أعلى مناره
يا من تجاوز فضله ... حدَّ القياس مع العباره
يا من يلوح بوجهه ... حسنٌ لناظره نضاره
يا بدر تمّ كم علي ... ه غدت من الفضلاء داره
كم في الورى معنى تني ... ر ولم أقل طوراً وتاره
وإذا مدحناه فما ... فيه صفات مستعاره
لمبشري إن زرتني ... بشرى ويحظى بالبشاره
يا واعدي في السبت ه ... ذا السبت جاء وشنّ غاره(3/34)
متصدقاً زرني فذا ... يوم التصدق والزياره
فكتب الجواب عن ذلك:
مولاي يا حول الخلا ... ئق والعبارة والإشاره
ومنمّقاً في الطرس رو ... ضاً كاد أن يجري غضاره
قد كنت يوم السبت ذا ... عزم على قصد الزياره
لو لم تشنّ عليّ آلامي كفاك الله غاره
وكتب النصير ملغزاً في النار:
وما اسم ثلاثي به النفع والضرر ... له طلعة تُغني عن الشمس والقمر
وليس له وجه وليس له قفا ... وليس له سمع وليس له بصر
يمد لساناً يختشي الرمح بأسه ... ويسخر يوم الضرب بالصارم الذكر
يموت إذا ما قمت تسقيه قاصداً ... وأعجب من ذا أن ذاك من الشجر
أيا سامع الأبيات دونك شرحها ... وإلا فنم عنها ونبّه لها عمر
فكتب الوراق الجواب:
أراك نصير الدين ألغزت في الذي ... يعيد لمسك الليل كافور في السحرْ
رأى معشر أن يعشقوها ديانة ... وتالله لا تبقي عليهم ولا تذَرْ
وكل على قلب لهم ران اسمها ... فمسكنهم فيها ومأواهم سقر
وقد وصفوا الحسناء في لهجة لها ... كما وصفوا الحسناء بالشمس والقمر
ولو لم تكن ما طاب خبزٌ لآكل ... ولا لذّ ماء في حماك لمن عبر
وكتب النصير الى الوراق ملغزاً في ديك:
أيا من لديه غامض الشعر يكشفُ ... ومن بدره بادي السنا ليس يُكسَفُ
عساك هدىً لي إنني اليوم ذاهل ... عن الرشد فيما قد أرى متوقف
أرى اسماً له في الخافقين ترفّع ... أخا يقظة ذِكراً ولا يتعفّف
رأيت به الأشياء تبدو وضدّها ... فكان لهذا الأمرلا يتكيّف
فعرّفه ذو السمع وهو منكر ... ونكّره ذو اللب وهو معرّف
فجاوب لأحظى بالجواب فإنه ... إذا جاوب المولى العبيد يشرّف
فكتب الوراق الجواب:
إليك نصير الدين مني إجابة ... بها أوضح المعنى الحفيّ وأكشف
رأيتك قد ألغزت لي في متوجٍ ... بتذكاره أسماعنا تتشنف
ينبّه قوماً للصلاة ومعشراً ... عبادتهم آسٌ وكاسٌ وقرقف
له كرم قد سار عنه وغيرة ... وعرفٌ به من غيره ظل يُعرف
حظيّاً تراه وادعاً في ضرائر ... يزيّنه تاج وبُردٌ مفوَّف
وفي قلبه كيدٌ ولكن صدره ... غدا ضيقاً مثلي بذلك يوصف
وكتب إليه النصير ملغزاً في نعامة:
ومفردٍ جمعاً يُرى ... بحذف بعض الأحرف
اسم نعى أكثره ... فقال باقيه أكفف
تراه يعدو مسرعاً ... في بُرده المفوّف
فكتب الوراق الجواب:
لو قلت فيمن قد نعى ... مات لصدقتك في
وكل باغ كالذي ... يبغي رهين التلف
ألغزت في اسم طائر ... في الأرض عنا ما خفي
يفحص فافحص عنه يا ... ربّ الفنون تعرف
وهو لعمري في السما ... ء يُقتفى ويقتفي
وكتب النصير الى الوراق، وعنده أحمد الزجّال:
عندنا من غدا بحبك مغرى ... وله فيك عشقة وغرام
موصلي يهوى الملاح إذا ما ... جاء صبح اللحى وولى الظلام
فهو لا ينتهي عن الشيب بالش ... يب فماذا تقول يُجدي الملام
لا تسلّي منه الفؤاد مدامٌ ... عن حبيب ولو تغنى الحمام
لو تبدّى لعينه ابن ثماني ... ن غدا وهو عاشق مستهام
يستبيه من العيون بياض ... ومن الألعس الشفاه ابتسام
قرّ عيناً وطب فديتك نفساً ... عنده أنت أنت بدر تمام
فكتب الوراق الجواب:
حبذا من بنات فكرك عذرا ... ء لها من فتيق مسكٍ ختامُ
خلت ميم الروي وقد ضا ... ق ومن ذاق، قال فيه مدام
ولها من عقود لفظك حلي ... لم يحُز مثل درّه النظّام(3/35)
أذكرت بالشباب عيشاً خليعاً ... نبت فوديه بعد آس ثمام
كيف لا كيف لا ولم أر صعباً ... قط يأتي إلا وأنت زمام
وبما فيك من تأتٍ ولطفٍ ... أنا شيخ للموصلي غلام
فهو نعم المولى ونعم النصير ال ... مرتضى أنت صاحبا وإمام
وكتب النصير أيضاً إليه ملغزاً في كُنافة:
يا واحداً في عصره بمصره ... ومن له حسن الثناء والسنا
تعرف لي اسماً فيه ذوق وذكا ... حلو المحيا والجنان والجنى
والحلّ والعقد له في دسته ... ويجلس الصدر وفي الصدر المنى
إن قيل يوما: هل لذاك كنية ... فقل لهم: لم يخل ذاك من كنا
فكتب الوراق الجواب:
لبّيك يا نعم النصير والذي ... أدنت به المنية لي كل المنى
عرّفتني الاسم الذي عرفته ... وكاد يخفى سره لولا الكنى
له من الحور الحسان طلعة ... تقابل المرآة منها الأحسنا
وخِدنه بعض اسمه طيرٌ غدا ... أصدق شيء إن بلوت الألينا
وهو لسان كله وبعد ذا ... منظره عند الكلام ألكَنا
وفي خوان المجد كان مألفي ... عند الصيام ربّ فاجمع بيننا
وكتب النصير أيضاً الى الوراق مع ظروف يقطين في فرد:
يا مَن لدفع الردى غدا جُنّهْ ... ومن له في قبولها المِنّهْ
هدية في الإناء يتبعها ... خير نبي وهكذا السُنّه
إذا بدا ظرفها بغلطته ... يود فتح الأديب لو أنّه
فكتب الوراق الجواب:
يا من غدا لي من العدا جُنّهْ ... ومن بحمامه لنا جنّهْ
جاء بها الفرد وهو ممتلئ ... مثل فؤاد الحماة بالكنّه
وكل ظرف منها بنوه على ال ... فتح فحقق في حبه ظنه
وكتب النصير الى الوراق أيضاً:
رُبّ راوٍ عن النبي حديثاً ... مسنداً شافياً كلاماً فصيحا
قال: قال النبي قولاً صحيحاً ... قلت: قال النبي قولاً صحيحا
وفهمت الذي أشار إليه ... وسمعت الذي رواه صريحاً
قال لي: يا أديب أنت فقيه ... قلت: لا، قال: حُزت ذهناً مليحا
فكتب الوراق الجواب:
إن فعلاً جعلته أنت قولاً ... ليس فيه يحتاج منكم وضوحا
فابْن منه مضارعاً يظهر الخا - في ويبدو الذي كنيت صريحا
وتراه يبدو لعينيك معت ... لاً وقد قلت فيه قولاً صحيحا
وهو فعلٌ لم تأته أنت يا شي ... طان فافهم مقاتلي تلويحا
وقال النصير يصف حمّامه:
حمّام الأديب العارف ... ما يجري، وحالو واقف
بها اسطول وما فيها أسطال ... والماء يتّزن بالقسطال
والعمال رأيتو بطال ... والاسكندراني ناشف
وماريت فيها بلان ... يسرّح لهد بالإحسان
والزبال يعرّ القوسان ... قال والخاتمه يصّالف
ذي دونه وقيّمها دون ... مبنية على مئة مجنون
والماء في المجاري مخزون ... والأنبوب معوج تالف
وتابوت على فسقيّة قلت ... مت بالكلية
خذوا من نصير الدية ... وإلا اثنيناً متناسف
وما أحسن ما كتب به ابن دانيال وهو:
لئن فخرتْ بالمكرمات بنو مصر ... فإنك بين الناس أجدر بالفخرِ
فما زلت ذا النادي النديّ لقاصد ... كثير رماد القِدر مرتفع القدرِ
ونارك للعافين دائمة اللظى ... لها لهب يبدو كألوية حُمر
وبيتك بيتٌ لم يزره مدنس ... فيذهب إلا وهو معه على طهر
وكم سقت ياقوتاً إليه وجوهراً ... لزينته حتى نسبت الى أمر
فلا زلت ذا الرمح الطويل تهزه ... يمينك عند النقع للبيض والسمر(3/36)
وتسلب أسلاب الرجال وإنه ... لسلب فتى لم يأت ذاك على عذر
وكم لك من مشمولة قد عصرتها ... معتقة للشرب طيبة النشر
وكم تائب وفاك يكشف رأسه ... فحققت منه أنه جاء عن عذر
قلت: لقد جوّد هذا النظم ابن دانيال، وحقق أن مثله لا ينال. وقوله: ومشمولة قد عصرتها هو قول القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر بعينه ملغزاً في لسان الحرير الذي يستعمله المصريون في عمائمهم، وأبدع في ذلك غاية الإبداع، وهو:
ومشمولة راقت ورقّت فأصبحت ... على الشرب تزهى حين تهدى الى الكاس
وما عُصرت يوماً برجلٍ وكم لها ... إذا ما أديرت من صعود الى الراس
معتقة ما شمّست بعد عصرها ... لإثم وكم فيها منافع للناس
ابن النصيبي
تاج الدين محمد بن أحمد. وضياء الدين محمد بن محمد.
النصيبي القوصي
محمد بن محمد بن عيسى.
ابن النصير
كاتب الحكم علاء الدين علي بن محمد.
نُضار
بضم النون - بنت محمد بن يوسف، وهي ابنة الشيخ العلامة أثير الدين أبي حيان.
حجّت وسمعت بقراءة شيخنا البرزالي على بعض الرواة، وحدثت بشيء من مروياتها وحضرت على الدمياطي، وسمعت على جماعة، وأجازها من الغرب أبو جعفر بن الزبير، وحفظت مقدمة في النحو.
وعمل شيخنا أثير الدين والدها لما توفيت فيها كتاباً سماه النضار في المَسلاة عن نَضار. وكان والدها يثني عليها ثناء كثيراً.
وكانت تكتب وتقرأ، وقال لي والدها: إنها خرّجت جزء حديث لنفسها وإنها تعرب جيداً، وأظنه قال لي: إنها تنظم الشعر. وكان يقول دائماً: ليت أخاها حيّان مثلها.
وتوفيت رحمها الله تعالى في جمادى الآخرة سنة ثلاثين وسبع مئة في حياة والدها، فوجد عليها وجداً عظيماً ولم يثبت، وطلع الى السلطان وسأله أن يدفنها في بيته بالبرقية داخل القاهرة، فأذن له في ذلك، وانقطع عند قبرها ولازمه سنة.
ومولدها في جمادى الآخرة سنة اثنتين وسبع مئة.
ولما توفيت كنت بالرحبة فكتبت الى والدها بقصيدة أولها:
بكينا باللجين على نُضار ... فسيل الدمع في الخدين جار
فيا لله جارية تولت ... فنبكيها بأدمعنا الجواري
الألقاب
ابن نفيس
علي بن مسعود.
ابن النقيب
محمد بن سليمان.
النعمان بن دولات شاه
ابن علي الخوارزمي الشيخ علي.
وصل الى دمشق في شهر رمضان سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وأقام بها أياماً، وتوجه الى باب السلطان بالقاهرة، وحج من هناك، وأقام بالقاهرة مدة سنة ونصف، ورجع الى مخدومه القان أزبك.
وكان فاضلاً، طاف البلاد، واجتمع بالفضلاء، وحصّل المنطق والجدل والطب، وعاد الى بلده سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، واتصل بملكها وخدم عنده طبيباً، وصار رئيس الأطباء ببيمارستان خوارزم.
ثم إنه أرسله الى طقطاي بن بركة ملك دشت القبجاق، فحظي عنهد، ولما مات وولي أزبك أعطى للنعمان مالاً كثيراً ليعمر من بعضه خانقاه بالقدس، ويفرق البعض على المجاورين.
ومولده سنة سبع وخمسين وست مئة.
وكان قد استصحب من كتب الطب شيئاً كثيراً من دمشق لما عاد الى بلاده.
نعمون بن محمود
ابن نعمون بن عزيز، الشيخ نجم الدين أبو محمد بن الشيخ الصالح غرس الدين الحراني الحنبلي المؤذن بالجامع الأموي.
سمع من ابن أبي اليسر، والجد بن عساكر، وجماعة. وحدّث وحج، وله نظم وأشياء مما تليق بالمئذنة.
توفي في تاسع شعبان سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة إحدى وستين وست مئة.
وكان خفيف الروح مع الديانة.
النسب واللقب
النمراوي
عز الدين الفقيه عبد العزيز بن عبد الجليل.
ابن نوح
الشيخ عبد الغفار بن أحمد.
النهاوندي
شرف الدين محمد بن عثمان، ووالده جلال الدين بن أبي بكر.
نوروز
نائب القان غازان محمود.(3/37)
كان ديّناً مسلماً عالي الهمة، وهو الذي اجتهد وحرص وبالغ في أمر غازان حتى أسلم، وملّكه البلاد، ثم إنه وقع بينهما، فقتل غازان أخا نوروز وأعوانه، فجهز لقتاله النوين خطلوشاه، فتغلل جمع نوروز، واحتمى بهراة، فقاتل أهلها عنه، ثم إنهم عجزوا عن نصرته، فقتل نوروز في سنة ست وتسعين وست مئة، وبعث برأسه الى غازان.
نوروز
الأمير سيف الدين.
كان في مصر معظّماً الى أن عاد الأمير سيف الدين طاز من الحجاز فأقام قليلاً ورسم بإخراجه الى دمشق على إقطاع الأمير سيف الدين شيخو القازاني الساقي، وحضر إليه على ثلاثة أرؤس من خسل البريد، ووصل الى دمشق في رابع عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وأقام بها أميراً الى أن ورد المرسوم على الأمير سيف الدين أرغون الكاملي نائب الشام بإمساكه، فاعتقله بقلعة دمشق، وجرى ما جرى في واقعة بيبغاروس، وكان اعتقاله في حادي عشري شعبان من السنة المذكورة.
ثم أُخرج عنه وتوجه الى مصر فيما أظن، ثم أعيد الى دمشق، ولم يزل الى أن كانت واقعة بيدمر، وحضر السلطان الملك المنصور محمد بن حاجي، فقطعت إمرته.
ولما كان في العشر الأوسط من شوال سنة اثنتين وستين وسبع مئة توفي رحمه الله تعالى.
اللقب والنسب
النور الحكيم
عبد الرحمن بن عمر.
نوغاي
الأمير سيف الدين الجمدار.
أمر السلطان الملك الناصر محمد بإمساكه بدمشق في ذي الحجة سنة تسع وسبع مئة.
ولم يزل في الاعتقال بقلعة دمشق الى أن توفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة، ودفن بالباب الصغير، وبقي الحرس على قبره أياماً.
نوغاي
الأمير سيف الدين الجمدار.
كان أميراً قديم الهجرة بدمشق، فلما توفي الأمير علاء الدين علي بن قراسنقر أُعطي إقطاعه، وتقدمته على الألف.
وأقام على ذلك مدة بدمشق الى أن توفي رحمه الله تعالى ليلة الجمعة ثاني عشر شعبان سنة ست وخمسين وسبع مئة. ودفن قبالة جامع كريم الدين بكرة الجمعة، فخلّف عليه ديوناً كثيرة، وأعطي إقطاعه للأمير زين الدين قطليجا الدوادار.
الألقاب والنسب
ابن أبي النوق
عثمان.
النويري
شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب. وفخر الدين عثمان بن يوسف. وعماد الدين ناظر الكرك وصفد وغيرها محمد بن محمد بن يعقوب.
حرف الهاء
هارون بن موسى بن محمد
رشيد الدين، المعروف بابن المصلّي الأرمنتي.
قال كمال الدين الأدفوي: اجتمعت به ولم يعلق بذهني منه شيء، وله شعر كثير يأتيه من جهة الطبع، ليس يُعرف له اشتغال، وكان إنساناً حسناً فيه لطافة.
وتوفي رحمه الله تعالى بأرمنت سنة ثلاثين وسبع مئة.
وأورد له قوله:
حثّها الشوق حثيثاً من وراها ... فتراها عانقت تُرب ثراها
واعتراها الوجد حتى رقصتْ ... طرباً أسكرني طيبُ شذاها
غنّني يا ساقي الراح بها ... ليس يُغني فاقتي إلا غناها
منها في ذمّ الحشيش ومدح الخمر:
واملَ لي حتى تراني ميّتاً ... إن موت السُكر للنفس حياها
ليس في الأرض نباتٌ أنبتت ... فيه سرٌ حيّر العقل سواها
رامت الخضراء تحكي سُكرها ... قتلوها بعد تقطيع قفاها
قال: وكان في قبلي الدمقرات قرية تسمى ببوية وفيها ببرويّة، فقال فيها الرشيد المذكور:
بدويّه في بَبويَهْ ساكنا ... صيّرت عندي المحبة ماكنا
اسمها ست العربْ ... هيّجت عندي الطّرب
أنا قاعد بين جماعة نستريح
عبرت وحده لها وجه مليح
بقوام اعدل من الغصن الرجيح
في الملاحة زايدا
ووراها قايدا
لو تكون لي رايدا
كنت نعطيها ألف دينار وازنا ... وابن في داخل بيوتي ماذنا
وترى مني العجب ... في تصانيف الأدب
نفرت مني كما نفر الغزال
واسفرت لي عن جبين يحكي الهلال
ورنت أرمت بعينيها نبال
ثم قالت يا فلان
خذ من احداقي أمان
معك في طول الزمان
فأنا والله مليحه فاتنا ... ومن الحُساد ما أنا آمنا(3/38)
والملوك واهل الرتب ... ياخذوا من الحسب
قلت يا ستي أنا هوني نموت
ادفنوني عندكم جوّا البيوت
والعذارى حولها يمشوا سكوت
ثم قالوا كلّميه
يا عُريبه وارحميه
ذا غريب لا تهجريه
يشتهر حالك يصير لك كاينا ... يقتلوه أهلك وتبقى ضامنا
ذا الحديث فيه العطب ... ليس ذا وقت الغضب
قالت امض لا يكن عندك ضجر
واصطبر واعمل على قلبك حجر
ما طريقي سابله من جا عَبر
ذي العذارى يعرفوك
ما تراهم يسعفوك
ظلموني وأنصفوك
قم وعاهدني فما أنا خاينا ... وأنا الليلة لروحي راهنا
مرّ وعبّي لي الذهب ... فترى عقلك ذهبْ
عاهدتني وبقيت في الانتظار
واورثتني الذل بعد الانكسار
والدجا قد صار عندي كالنهار
عندما غاب القمر
واظلم الليل واعتكر
جف قلبي وانكسر
وعُريبا في حديثي واهنا ... أمنه في سربها مطّامنا
والفؤاد مني اضطرب ... ونشف ذاك الطرب
صرت نرى النجم الى وقت الصباح
إذ بدا ذا الكوكب الدرّي ولاح
وإذا هي قد أتت ست الملاح
والعذارى في عتاب
مع عريبا في ضراب
ثم قالت ذا الكلاب
ينبحوا تأتي الرجال الظاعنا ... بالسيوف وبالرماح الطاعنا
يدركوني في الطلب ... يجعلوا رأسي ذنبْ
اللقب والنسب
ابن هارون المغربي
عبد الله بن محمد.
هاشم بن عبد الله بن علي
الشيخ الإمام الفاضل نجم الدين أبو محمد التنوخي البعلبكي الشافعي، مدرّس المدرسة الصارمية.
اشتغل بالعلم مدّة عمره، وكتب بخطه، ونسخ وحصّل الأجزاء والكتب، وقرأ على الشيوخ، وسمع بقراءة شيخنا البرزالي على الشيخ تاج الدين الفزاري وغيره. وتوجه في الجفل الى القاهرة، وسمع مع المقاتلي. وولي المدرسة المذكورة بعد عماد الدين ابن قاضي القضاة علم الدين الأخنائي، ودرّس بها في تاسع شهر رجب الفرد سنة...
وتوفي رحمه الله تعالى يوم السبت العشرين من جمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ودفن بمقبرة الباب الصغير، وحضر جنازته جماعة من الفقهاء.
ومن شعره:
ولقد سمعت بسكّر من وصلكم ... فعساكم أن تجعلوه مكررا
وأظنه حلواً لذيذاً طعمه ... إذ كنت أسمع بالوصال ولا يرى
ومن شعره:
لا تركننّ الى الخريف فجوّه ... كدرٌ وخفقُ نسيمه خطّافُ
يجري مع الأبدان جري صديقها ... من لطفه ومن الصديق يخاف
ومنه في المشمش اللوزي:
أنكر العاشقون صفرة لوني ... بعدما كان كالزبرجد أخضر
ما دروا أنني عشقت فلوني ... اكتسى صفرة وقلبي تكسّر
الهاشمي
نور الدين علي بن جابر. وشمس الدين محمد بن هاشم.
هبة الله بن عبد الرحيم
ابن ابراهيم: شيخ الإسلام، ومفتي الشام، وأحد الأئمة الأعلام، قاضي القضاة شرف الدين أبو القاسم ابن القاضي نجم الدين ابن القاضي الكبير شمس الدين أبي الطاهر بن المسلّم الجُهني الحموي البارزي الشافعي، قاضي حماة، صاحب التصانيف.
سمع من أبيه وجدّه، وابن هامل، والشيخ ابراهيم بن الأرموي يسيراً، وتلا بالسبع على التادفي، وأجاز له نجم الدين الباذرائي، والكمال الضرير، والرشيد العطار، وعماد الدين بن الحرستاني، وعز الدين بن عبد السلام، وكمال الدين بن العديم.(3/39)
برع في الفقه وغير ذلك، وتشعبت به في الفضائل الطرق والمسالك، وانتهت إليه الإمامة في زمانه، وتفرد برئاسة العلم في أوانه. وكان بحراً من بحور العلم الزخّارة، وحبراً من أحباره، الذين توقدوا للهدى مثل الكواكب السيارة، تستحي ذُكاء من ذكائه، وتفيض علومه حتى يأخذ الغمام منها ملء زكائه، مكباً على الطلب لا يفتر ولا يني ولا يقول السأم لنفسه طالبي بالتي هي أحسن ولا يني قد جانب ملة الملل، وتحقق أن الإخلال بذلك من الفساد والخلل، هذا مع الصون والرزانة والتواضع الذي زاده رفعة وزانه، والوقار الذي خفّت الجبال أن تكون وزانَه، والحلم الذي هو زينة العلم، وطراز الحرب والسلم، والمحاسن التي ما محا سناها ضوء صباح ولا حوتها الوجوه الصِّباح:
تراه إذا ما زرته متواضعا ... جليلاً على حشد الندي وحفله
وتعرف منه الفضل من قبل نطقه ... كما يُعرف الهندي من قبل سلّه
وتبصر منه أمةً وهو واحد ... وما زاد في ذي عدة مثل نبله
إذا كان في أفق وأظلم حادث ... سرى خائف العشواء في ضوء عقله
ولم يزل على حاله بحماة الى أن ترك القضاء، وذهب بصره فشكر القدر والقضاء. ثم إن البارزي أضمره الضريح وأخفاه، واستكمل الأجل واستوفاه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة.
فتوفي رحمه الله تعالى عن ثلاث وتسعين سنة، وحج مرات، وحدّث بأماكن، وحمل الناس عنه علماً جماً، وأذن لجماعة بالإفتاء.
وبلغني أن الشيخ برهان الدين بن تاج الدين الفزاري كان يقول: أشتهي أن أروح الى حماة، وأقرأ التنبيه على القاضي شرف الدين البارزي.
وكان يرى الكف عن الخوض في الصفات، ويثني على الطائفتين، واقتنى من الكتب شيئاً كثيراً بحيث إنه كان عنده من كل شيء نسختان وثلاثة.
وكان إذا سمع بتصنيف لأحد من أهل عصره جهّز الدراهم واستنسخ ذلك. وباشر القضاء بلا معلوم لغناه عنه، وما اتخذ درّة ولا عزّر أحداً قط، ولا ركب بمهماز ولا مقرعة، وعُيّن مرات لقضاء مصر فاستعفى، وكانت جلالته عجيبة مع تواضعه.
وكان قد أخذ الفقه عن والده وجده وجدّه، عن القاضي عبد الله بن إبراهيم الحموي، وعن فخر الدين بن عساكر، وأخذ القاضي عب الله عن القاضي أبي سعد بن أبي عصرون، عن الفارقي، عن أبي إسحاق الشيرازي، عن القاضي أبي الطيب، وأخذ فخر الدين عن قطب الدين مسعود النيسابوري، عن عمر بن سهل السلطان، عن الغزالي، عن إمام الحرمين، عن أبيه، عن أبي بكر القفّال.
ووقف القاضي شرف الدين كتبه وهي تساوي مئة ألف درهم. ولما توفي رحمه الله تعالى أغلقت أسواق حماة لمشهده.
وله من النصانيف: تفسيران، وكتاب بديع القرآن وكتاب شرح الشاطبية وكتاب الشرعة في السبعة وكتاب الناسخ والمنسوخ، ومختصر جامع الأصول في مجلدين، والوفا في شرف المصطفى، والإحكام على أبواب التنبيه، وغريب الحديث كبير، وشرح الحاوي، أربع مجلدات، ومختصر التنبيه، والزبدة في الفقه، وكتاب المناسك، وكتاب عروض وغير ذلك.
وله مما يقرأ طرداً وعكساً: سور حماة بربّها محروس.
قلت: وهذا في غاية الحسن، لأنه فصيح الألفاظ، عذب منسجم، ليس عليه كلفة، وفي القرآن العظيم من هذا النوع وهو قوله تعالى: " كلٌ في فلك " وقوله تعالى: " ربّك فكبّر " .
ومما جاء منه في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: " يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارقَ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية " .
وفيه تسامح ما، ومنه قولهم: كبّر رجاء أجر ربك وقول الحريري في مقاماته:
آسِ ارملاً إذا عرا ... وارعَ إذا المرء أسا
الأبيات.
وقول القاضي ناصح الدين الأرّجاني:
مودته تدوم لكل هولٍ ... وهل كلٌ مودته تدوم
وقوله أيضاً وهو مطلع قصيدة:
دام علا العماد
ومما ينسب الى القاضي الفاضل رحمه الله أبداً لا تدوم إلا مودة الأدباء وقوله القائل:
أرانا الإله هلالاً أنارا
وقول الآخر: مودتي لخلّي تدوم، وكما قال العماد الكاتب: سر فلا كبا بك الفرس فقال له الفاضل رحمه الله تعالى: دام عُلا العماد.
وقد يكون هذا النوع كل كلمتني قلبهما واحد، كقولك: أرضٌ خضراء، فيها أهيف، ساكب كاس، وكقول ابن النبيه:(3/40)
لبقٌ أقبل فيه هيفُ ... كل ما أملك إن غنّى هبه
وتارة تكون كل كلمة قلب نفسها، كقول سيف الدين بن قزل المشد:
ليلٌ أضاء هلاله ... أنّى يضيء بكوكب
هبة الله بن علي
ابن السديد، مجد الدين الشافعي.
اشتغل بالفقه على الشيخ بهاء الدين القفطي، وكان يطالع تفسير ابن عطية كثيراً. وبنى مدرسة بإسنا، ووقف بساتينه عليها.
قال كمال الدين الأدفوي: اتفق عند انتهاء عمارتها حضر الشيخ تقي الدين الى أسنا لزيارة بهاء الدين القفطي، فسأله مجد الدين أن يلقي الدرس بها، فألقى الشيخ درساً، وكان شيخنا تاج الدين الدشناوي في خدمة الشيخ من قوص، فقال لمجير الدين: إذا فرغ الدرس قل للشيخ يا سيدي بدستور سيدي آخذ الدرس؟ فيبقى ذلك إذناً من الشيخ، فقال: لا، هذه مدرستي، وأقول له: أنا هذا الذي قلت، فيسكت أو يقول: لا، فينقل عني.
وكان يردّس بها ويعمل للطلبة طعاماً طيباً عاماً ويقول لمن تتفق غيبته يا فلان اليوم الفوائد والموائد:
ارضَ لمن غاب عنك غيبته ... فذاك ذنبٌ عقابه فيه
وانتهت إليه رئاسة بلده، وخطب بأصفون.
وتوفي رحمه الله في بلده سنة تسع وسبع مئة.
هبة الله بن محمود
ابن أبي القاسم بن أبي الفضائل بن أبي القاسم بن محمد، الشيخ الإمام الزاهد العالم الكامل الفقيه أمين الدين بن قرناص الخزاعي الحموي الشافعي.
اشتغل بالفقه، وسمع جزء ابن عرفة من شيخ الشيوخ الأنصاري، وحدث بحماة وحلب ودمشق، وحج، وحدّث بمنى.
كان مدرساً بحماة، فترك التدريس وصحب الفقراء، وأعرض عن المناصب، وغير ملبوسه.
قال شيخنا علم الدين: قرأت عليه جزء ابن عرفة.
وتوفي رحمه الله تعالى: سلخ شهر ربيع الآخر سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وأربعين وست مئة.
وتأسّف صاحب حماة كونه لم يحضر جنازته لأنه كان غائباً عن حماة، وكان قد عاده في مرضه.
هبة الله بن مسعود بن أبي الفضائل
القاضي الفاضل معين الدين بن حشيش. قد تقدم ذكر والده في مكانه من حرف الميم.
كان فاضلاً أديباً عاقلاً لبيباً، ذا حافظة وذاكرة، ونظم كثّر الاستحسان له شاكره، عارفاً بوقائع الناس وأيامهم وتراجم أعيانهم وأعلامهم، يسرد من ذلك ألوفاً، ويقول لسان حاله: خُلقتُ لذا ألوفاً، آيةً في الحافظة عجيبة، متى دعاها الى شيء كانت له مجيبة، قد أتقن القلمين إنشاء وحساباً، وبلغ فيها الغايتين مآلاً ومآباً، وباشر الجيش شاماً ومصراً، ووهب الله بهيبته تأييداً ونصراً، ودبّر فأقبل ما أدبر، ورحّب المضائق بما نمّق قلمه وحبّر:
ورمى الى الغرض البعيد بفكره ... فأصاب حتف كوامن ودقائق
يقظ لأعقاب الأمور مجرّبٌ ... طبّ بأدواء الممالك حاذقِ
تنقل من الشام الى مصر مرات، ونال من السلطان مكارم ومبرّات.
ولم يزل على حاله بمصر أخيراً الى أن جمدت حواسه، وخمدت أنفاسه.
وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وستين وست مئة.
ودفن بالقرافة في تربة القاضي فخر الدين ناظر الجيش، وكانت جنازة حافلة.
وكان ينظم شعراً جيداً، وليس له نثر جيد، اللهم إلا إن ترسّل وكتب بلا سجع، فإنه يأتي في ذلك بالمثل السائر والبيت المطبوع، ويأتي بالشاهد على ما يحاوله وذلك في غاية البلاغة والفصاحة، يوفي المقام في ذلك حقّه، وكان عجباً في القوة الحافظة.
كان في مبدأ أمره كاتباً في الدبّاغة، حتى إنه كتب الى الأعسر أو لغيره من مشدّي دمشق ممن كان له الحكم في ذلك الوقت:
يا أميراً حاز الحيا والبلاغة ... قلتلتني روائح الدّباغهْ
ثم إنه نقل الى طرابلس وخدم في الجيش بها، وكان يساعد ابن الذهبي كاتب الإنشاء بطرابلس، فاشتهر وعرف بالأدب، فأحبّه الأمير سيف الدين أسندمر نائب طرابلس ولم يزل الى أن توجّه أسندمر مع السلطان الملك الناصر محمد من دمشق الى القاهرة سنة تسع وسبع مئة، فسعى له عند السلطان الى أن استخدمه بديوان الجيش بالديار المصرية.(3/41)
وكان قد حضر معين الدين الى دمشق في جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وسبع مئة ناظر الجيش عوضاً عن القاضي شمس الدين بن حميد وأقام بدمشق الى أن حضر القاضي قطب الدين من الديار المصرية، فتوجه القاضي معين الدين الى مصر، ولم يزل الى أن أمسك القاضي قطب الدين ناظر الجيش بالشام في سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، فحضر القاضي معين الدين عوضه في نظر الجيش بالشام، ووصل الى دمشق خامس جمادى الآخرة سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، فانفرد بذلك قليلاً. ثم إنه شورك بينهما في النظر بمعلوم لكل منهما نظيرُ الأصل، وكان القاضي قطب الدين هو الأكبر والعلامة له أولاً، ولم يزل بدمشق الى سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ولما عزم القاضي فخر الدين على الحجاز طلب السلطان معين الدين ليسد الوظيفة في الجيش عن القاضي فخر الدين، فأقام بالديار المصرية الى أن مات في التاريخ.
وكان يكتب خطاً قوياً ولابد له إذا كتب اسمه هبة الله بن حشيش أن ينقط الشين خوفاً من التصحيف.
اجتمعت به في دمشق وفي مصر مرات، وأنشدني له كثيراً، ومما أنشدني له شيخنا علم الدين البرزالي إجازة قوله:
طيف ألمّ وطرف الهمّ وسنانُ ... وناظرٌ لارتقاب الوصل يقظان
سرى وموكبه شوقي وموطنه ... خدّي وذلكما طِرفٌ وميدانُ
حتى تضمنه الطرف السهيد وقد ... غطى شهيد الكرى للدمع طوفان
فلم يزل دون تهويم يمتّعنا ... بالوصل زوراً وطرف النجم سهران
فكم تلقى بصدري فرحةً فرشت ... له السرائر فالأحشاء أوطان
إذا تمشى الى جرح الجوارح يأ ... سوه فكم طُفئت للوجد نيران
فشق باللطف عن قلبي وعزّل عن ... ه ما يشقّ فقلبي اليوم فرحان
وراح يخلع جلباب السرور على ... وقتي وقد مرّ دهر وهو عُريان
أهلاً به من خيالٍ عاد لي أملي ... به وعاودني رَوحٌ وريحان
فالعيش رغدٌ ودار الأنس دانية ... وجيرة الحي بعد الهجر جيران
ورُقبة البدر سُهدٌ والمنى حلُمٌ ... تحلو لنا ومغاني الحي أوطان
فهذه منح الطيف المُلمّ بنا ... سراً فليت بواقي السر إعلان
وكتب من طرابلس الى الشيخ شهاب الدين أحمد بن غانم:
خيالك لما بان ركبُك ما بانا ... لأن له في ناظر العين أوطانا
إذا ما اشتكى قلبي لهيب غرامه ... لدمع يجاريه تأجج نيرانا
نعمت بما ترضون لي يا أحبتي ... ولم أخشَ أشواقاً إليكم وهجرانا
وعذب عذابي فيكم وتحرّقي ... وكم من عزيز في محبتكم هانا
فكتب شهاب الدين بن غانم الجواب إليه:
رقادي لما بنْت يا منيتي بانا ... فكيف يزور الطيف مني أجفانا
وقلبي مذ ودّعت لا علم لي به ... وآخر عهدي أنه عندكم كانا
على أن ما شطّت نوى من غدت له ال ... سرائر من صدري ربوعاً وأوطانا
وحاشى لمثلي أن يُرى متشكياً ... صدوداً وأن يخشى ببعدك هجرانا
وما زال توحيدي وشخصك والهوى ... بقلبي سكّاناً أقاموا وجيرانا
ومن شعره قصيدة في المجون، وجوّدها، أولها:
لا والأيورِ الصُّلعِ
منها يقول:
ما وقع الكسّ على ... قلب الخصيّ بموقعِ
هدية بنت علي بن عسكر
الشيخة أم محمد البغدادية، اللّبان أبوها، الهرّاس جدها.
كانت امرأة صالحة، كثيرة الصلاة والنوافل. روت عن ابن الزبيدي، وابن اللتي، وجعفر الهمداني، وغيرهم.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليها مسند الدارمي، ورافقتها في السفر من دمشق الى القدس، وقرأت عليها بعجلون، والبيت المقدس، وبلد الخليل عليه السلام، وبالأردن عند جسر دامية، وغير ذلك، وكانت تتردد الى بيتنا وتقيم عندنا الأيام المتوالية. وسمع منها جماعة من الطلبة.
ثم إنها توفيت رحمها الله تعالى بالقدس في ثامن عشر جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
الألقاب والأنساب
الهذباني
نجم الدين الحسن بن هارون. ونور الدين علي بن محمد.(3/42)
الهكاري
الشيخ شهاب الدين أحمد بن أحمد. عماد الدين داود بن محمد.
ابن هود
الشيخ بدر الدين الحسن بن علي.
الهرغي
تقي الدين عبد الله بن محمد.
ابن الهمام
ناصر الدين محمد بن الهمام.
أولاد ابن هلال
الصاحب تقي الدين أحمد بن سليمان. ومعين الدين الحسين بن محمد. وفخر الدين عبد الرحمن بن عبد العزيز. ومخلّص الدين عبد الواحد بن عبد الحميد. ونجم الدين علي بن محمد. وأمين الدين محمد بن محمد بن عمر.
ابن الهيتي
صلاح الدين ناصر بن أبي الفضل.
حرف الواو
ابن والي الليل
محمود بن رمضان.
الوتار القوّاس
علي بن إسماعيل.
وحيد الدين إمام الكلاسة
يحيى بن أحمد.
ابن ورّيدة
عبد الرحمن بن عبد اللطيف.
وهبان بن علي
ابن محفوظ بن أبي الحياء السبتي، الشيخ زين الدين أبو الكرم المؤذن بباب السلطان، الجزري.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: روى لنا عن ابن باقا الجزء الثالث من البيوع من مسائل الإمام أحمد الأثرم، قرأته عليه بمنزله في علوّ خان مسرور بالقاهرة.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة أربع وست مئة بجزيرة ابن عمر.
الألقاب والأنساب
ابن واصل
قاضي القضاة محمد بن سالم.
الواني
الشيخ برهان الدين إبراهيم بن محمد بن أحمد المؤذن. وشرف الدين عبد الله محمد بن إبراهيم.
والواني
علي بن عمر بن أبي بكر.
والواني
محمد بن إبراهيم.
الواسطي
الشيخ عماد الدين أحمد بن إبراهيم. وتقي الدين عبد الرحمن بن عبد المحسن.
ابن الواسطي
القاضي شهاب الدين غازي بن أحمد. وموفق الدين محمد بن إبراهيم. والمسند شمس الدين محمد بن علي.
الوادعي
علي بن المظفر.
الوردي
القاضي زين الدين.
ابن الوردي
عمر بن مظفر. وأخوه القاضي جمال الدين يوسف بن المظفر.
وليّ الدولة
أبو الفرج.
ابن الوحيد الكاتب
محمد بن شريف.
ابن الوزيري
بدر الدين محمد.
أبو الوليد المالكي
محمد بن أحمد.
الوطواط الوراق
محمد بن إبراهيم.
حرف الياء
يحيى بن إبراهيم
الملك الناصر صاحب سنجار.
قتله القان خربندا، وقتل معه الوزير سعد الدين الساوجي، والوزير مبارك شاه في سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
يحيى بن أحمد
ابن خذاذاذ الخلاطي الشافعي، وحيد الدين، أبو حامد الروحي.
شيخ القراء، إمام الكلاسة بالجامع الأموي.
توفي رحمه الله تعالى حادي عشري جمادى الأولى سنة عشرين وسبع مئة.
قرأ بالروم على الصائن البصري. وولي إمامة الكلاسة نحو خمس عشرة سنة، وقبلها كان يؤم بمشهد ابن عروة. وولي مشيخة الخانقاه الأسدية، وبها مات رحمه الله تعالى.
وكان إماماً عارفاً بفن القراءات، وبلغ الثمانين من عمره، وحضر جنازته خلق عظيم.
يحيى بن أحمد بن يوسف
ابن كامل، السيد العدل الرضي عماد الدين بن شهاب الدين الشريف الحسيني، عرف بالبصراوي، ناظر ديوان الأشراف.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: كان رجلاً جيداً متواضعاً عدلاً من أهل السنّة، روى لنا عن ابن الصلاح، وابن مسلمة، وسمع من ابن البراذعي، وعتيق السلماني، والسخاوي، وغيرهم.
وتوفي رحمه الله تعالى ثاني عشر شهر ربيع الأول سنة خمس وسبع مئة.
ومولده في شهر رمضان سنة ست وعشرين وست مئة.
يحيى بن أحمد بن عبد العزيز
ابن عبد الله بن علي بن عبد الباقي بن علي بن الصواف الجذامي الإسكندراني، الشيخ الفقيه الإمام المحدث المقرئ العدل شرف الدين أبو الحسين ابن المحدث نجيب الدين أبي الفضل.
حصل له صمم وكفّ بصره سنتين، وعُمّر، وكان يروي الخلعيات عن ابن عماد، وسمع من جده أبي محمد عبد العزيز، ومن ناصر بن عبد العزيز الأغماتي، وعبد الخالق بن إسماعيل التنّيسي، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن الجباب، ومرتضى بن العفيف، وجماعة. وقرأ القرآن بالروايات على ابن الصفراوي.(3/43)
قال شيخنا علم الدين البرزالي: وأجاز لنا في سنة إحدى وسبعين وست مئة، ثم قرأت عليه جزء السلفي بسماعه من ناصر الأغماتي، والخامس من الخلعيات بسماعه من ابن العماد.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشري شعبان سنة خمس وسبع مئة.
ومولده بالإسكندرية في أحد الربيعين أو الجماديين سنة تسع وست مئة.
يحيى بن أحمد بن نعمة
ابن أحمد بن جعفر بن حسين بن حمّاد، الشيخ الإمام بقية السلف محيي الدين أبو زكريا ابن الشيخ الإمام الصالح كمال الدين المقدسي الشافعي، إمام مشهد علي بالجامع الأموي.
أول سماعه بالقدس في شعبان سنة أربعين وست مئة، سمع من والده مكي بن علان والمرسي والفقيه محمد اليونيني وشيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري وإسماعيل العراقي والنجم البلخي وابن خطيب القرافة وابن عبد الدائم وجماعة، وأجاز له السخاوي والفرضي وعتيق السلماني وابن الصلاح والعزّ بن عساكر وعمر بن البرادعي وجماعة.
وكان له اشتغال بالعلم في أول عمره، وعنده سكون وسلامة صدر، وأعاد بدمشق والقاهرة، وكان صالحاً مباركاً موصوفاً بالخير والدين.
توفي رحمه الله تعالى سادس عشري شهر رمضان سنة ست عشرة وسبع مئة ومولده سنة ثلاثين وست مئة تقريباً.
يحيى بن إسحاق
ابن خليل بن فارس، القاضي الفقيه الإمام محيي الدين أبو زكريا ابن القاضي الإمام العالم كمال الدين أبي محمد الشيباني الشافعي.
كان شيخاً حسناً مباركاً، ولي القضاء بشيزر وزُرع وأذرعات، وكان حسن السيرة، كثير التواضع فقيهاً، اشتغل وحصّل وكتب، وكان من أصحاب الشيخ شرف الدين بن المقدسي.
وسمع الحديث من والده، ومن الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، وأحمد بن أبي الخير، والقطب خطيب القدس، وجماعة.
وخرّج له شيخنا الذهبي جزءاً، وحدّث به.
توفي رحمه الله تعالى سلخ شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وأربعين وست مئة، ودفن بجبل قاسيون.
يحيى بن إسماعيل
ابن محمد بن عبد الله، القاضي الصدر الرئيس النبيل شهاب الدين ابن القاضي عماد الدين بن القاضي شرف الدين ابن الصاحب فتح الدين بن القيسراني المخزومي، تقدم ذكر والده القاضي عماد الدين، وذكر غيره من بينهم.
كان القاضي شهاب الدين قد طبع على الرئاسة، وجمع في أجزائه من السيادة والسياسة، يتجمّل في مركوبه وملبوسه، ويتحمل المضض من نكد دهره وبؤسه، لا يشكو والدهر قد عضّه بنابه، ولا يظهر الشماته، ولا يُظهر الشماته بعدو ولا يقول في شده: ليت ما بنا به، ولا يتلفظ بسوء في حق من آذاه ويقول: من أطلق لسانه فليس بنابه. تخف الجبال الراسيات لوقاره، وتتعجب السلافة من لطفه وهي في خزف الدّن وقاره، أخلاقه كنسيم الصّبا، فالخمائل منها في خمول، ومحاسنه كثيرة العدد وعلى ظهر الزمان منها حُمول، وبشرٌ يتعجب من دوامه جليسه، وتواضع يشهد بالرفعة له أنيسه.
شيمة حرةٌ وظاهرُ بشرٍ ... راح من خلفه السماحُ يشفُّ
هذا الى كرم يضطرب موجه، ويشهد لمؤمّله بالفوز فوجه.
ولاه السلطان الملك الناصر محمد كتابة السر بالشام إكراماً للأمير سيف الدين تنكز، وتوهّم فيه التقصير، فبدا منه كل أمر معجز، فنفّذ مهمات البريد، وصان أسراره، وصال على أعاديه بكتبه التي يجهزها على الحرارة، حتى دخل في عين تنكز وملأ قلبه، وجعل إليه إيجابه وسلبه، وألقى إليه مقاليد دولته. وروى الليث عنه أسانيد صولته، فتقدم في تلك الدولة ورأس، وجنى من ثمرات الشكر مما غرس، فكان إذا جلس في صدر ديوانه كأنه كسرى في إيوانه مقدد وسؤدد، وستور من الجلالة عليه ترخى، وأطنابٌ من المهابة تُمدد:
بصفاته سجع الحمام وهزّ عط ... فيه قضيبُ البانةِ الأملودُ
سلك المكارم والممالك عزمُهُ ... فغدت وليس لنظمها تبديدُ
من معشر مولودهم في مهده ... يُرجى ومن قبل الفطام يسودُ
وكان خطّه أبهى من الروض وأبهج، وسطوره في طروسه آنقُ من بحر كافور بالمسك قد تموج، قد صغت حروفها وقعدت ووضعت تيجان الحسن على رؤوسها وعقدت.(3/44)
إلا أن الزمان قطع عليه اللذة، وارتجع حسنته الفذة، فأمسك السلطان تنكز، فانحل نظام السّعد، وزالت تلك المحاسن و " لله الأمر من قبلُ ومن بعدُ " ، وأصابه في تلك المحنة شؤبوب، ومرّ عليه من لامع برقها ألهوب، إلا أنها كانت شدة خفيفة ومحنة عفيفة، فانقشع غيمها، وانجمع ضيمها. ثم إنه أُرسل سعده بعد فترة، ورفع على رأسه جترة، وقالت له الأيام:
لُحْ في العلا كوكباً إن لم تلُحْ قمراً ... أو قم بها ربوةً إن لم تقُم علَما
فعاد الى توقيع الدّست، وحطّت نغمة نغمته في الدُوكاة بعد أن طلعت في الرّست.
ولم يزل على حاله الى أن انطوى بعدما تألق، وتعلّى روحه الى الجنة وتعلّق.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأحد ثاني عشر شهر رجب سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، ودفن بمقابر الصوفية عند والده رحمه الله تعالى.
ومولده تقريباً سنة سبع مئة ومات بعلّة الاستسقاء بعدما عالج لواعجه قريباً من عشرة أشهر، وصبر على الامتناع من رؤية الماء وشربه جملة كافية.
وقلت أنا فيه:
قلت إذا استسقى الرئيس الذي ... بالجود عمّ الغرب والشرقا
عهدي أن البحر يسقي الورى ... مالي أرى البحر قد استسقى
وكان القاضي شهاب الدين - رحمه الله تعالى - قد ورد مع والده الى دمشق من حلب، وقد رُسم له من مصر أن يكون مع والده مُقيماً بدمشق، وأن يكون والده موقّعاً بالدست، وأن يكون هو كاتب إنشاء، فباشر ذلك على أتمّ ما يكون من التجمّل في ملبسه ومملوكه ودوابه ومركوبه الى غير ذلك، حتى كان القاضي محيي الدين بن فضل يقول: هذا المولى شهاب الدين بن القيسراني يجمّل هذا الديوان.
وكان يكتب الرقاع مليحاً الى الغاية. ولم يزل على ذلك الى أن توفي والده رحمه الله تعالى، على ما تقدم في ترجمته، فرتّبه الأمير سيف الدين تنكز في توقيع الدست مكان والده. ولم يلبث بعد ذلك إلا قليلاً حتى كتب فيه الى السلطان وسأل له أن يكون كاتب السر بدمشق، فأجابه السلطان الى ذلك. وكان تنكز يحبه ويميل إليه ويعتمد عليه اعتماداً كثيراً، حتى إنه كان في السفر لا يُمسك قلماً ولا يكتب على شيء، لا مطالعة الى باب السلطان ولا غيرها، بل يسطّر قبل سفره ما يحتاج إليه من المطالعات وأوراق الطريق والمراسيم التي على الخزانة بالتسافير والإنعامات والمُطلقات وجميع ما يكتب الى النواب والى غيرهم ممن هو في باب السلطان، يفعل ذلك وثوقاً به.
ولم يزل كذلك الى أن أُمسك تنكز ورسم السلطان بعزل كل من هو من جهة تنكز، فأمسكه الأمير سيف الدين بشتاك، وأخذ منه تقدير عشرين ألف درهم وأفرج عنه. وأقام بعد ذلك بطّالاً الى أن توفي السلطان.
وجاء الفخري وملك دمشق، فاستخدمه في كتابة الدست بدمشق. وتوجه مع الفخري والعساكر الى الديار المصرية، وعاد الى الوظيفة المذكورة، وأقام عليها بدمشق الى أن توفي القاضي بدر الدين محمد بن فضل الله كاتب السر بدمشق، فكتب الأمير سيف الدين يلبغا وكان يومئذ نائب دمشق في القاضي شهاب الدين بن القيسراني وسأل من السلطان أن يكون كاتب سرّ بدمشق، فما قدّر الله له بذلك. وحضر بريدي يطلبه الى باب السلطان فتوجه الى الديار المصرية، فرسم له بأن يكون كاتب إنشاء بالقاهرة فأقام على ذلك قليلاً، ورسم له الملك الكامل بأن يكون موقع الدست قدام السلطان، فعمل ذلك مديدة. ثم إنه خرج الى دمشق على عادته موقع الدست، فأقام على ذلك الى أن مرض بعلة الاستسقاء، ومات في التاريخ المذكور، رحمه الله تعالى.
وكان شكلاً حسناً تامّ الخلق، مليح العمّة، نظيف اللباس، عطر الرائحة، محبوب الشخص، حسن الودّ، صحيح الصحبة، يملك أمر نفسه في حالتي الخير والشر، لا يظهر عليه غضب ولا كراهةُ أحد، يعامل صاحبه وعدوّه بظاهر حُسن وبشاشة، كثير الاحتمال، صابراً على أخلاق من يصحبه أو يعاشره، كثير الآداب والرئاسة، وكان أخيراً وهو كاتب السر يصوم الإثنين والخميس، ويتعبّد ويذكّر، لا يقابل أحداً بما يكرهه. لم أر مثله، صحبته مدة تزيد على ثلاث وعشرين سنة، ما رأيت منه سوءاً قط ولا ما أكرهه، فجزاه الله عن الصحبة خيراً.(3/45)
وكان يحب الفقراء والصالحين، ويتودد إليهم ويقضي حوائجهم، وعمّر العمائر المليحة الغريبة العجيبة، ولم أر أحداً حاز مثل ذهنه في العمائر واستعمال الصنّاع والصبر على ما عندهم من المكاسرة والمدافعة.
وقلت أنا أرثيه، رحمه الله تعالى:
مات يحيى فكيف يحيا اللبيبُ ... وبه كانت الحياة تطيبُ
لم يمت إنما الرئاسة ماتت ... والمعاني تخرّمتها شعوب
كان للناس والأنام جمالاً ... فهو للبدر في التمام نسيب
كان والله كاملاً في المعاني ... وحماه للمعتفين رحيب
كان في جوده فريداً فأما ... إن ذكرت الوفا فأمرٌ عجيب
يملأ العين شكله وتسرَّ النف ... س أوصافه فما تستريب
ورئيس إن قلت فيه رئيس ... ما له في الأنام قطّ ضريب
خُلق كالنسيم إن مرّ وَهْناً ... في خلال الأزهار وهو رطيب
ومحيّاً لو أن بدراً رآه ... لاعتراه بعد الطلوع مغيب
وحياء كأنه إذ يُحيّا ... عند ردّ السلام منك مُريب
واحتمال لكل ضيم عظيم ... حيث رأس الوليد منه يشيب
وإذا نال حظوةً من مليك ... فلكل الأصحاب منه نصيب
هو في منصب يسامي الثريّا ... ونداه من المنادي قريب
لم يشنْ لفظه بغيبة شخص ... يحضر الشخص عنده أم يغيب
من سراةٍ إن سار عنهم ثناءٌ ... مادَ منه غصنٌ وماج كثيبُ
إن مخزوم في قريش لريحا ... نٌ شذاه يوم الفخار يطيب
جدّهم خالدٌ وخالد جدٌ ... لهم والجناس شيء عجيب
كلهم كاتبٌ رئيسٌ كريمٌ ... عالم فاضلٌ سريٌ نجيب
كتب السرّ عند تنكز دهراً ... وهو ذاك الملك العظيم المهيب
فأخاف العدا وسرَّ الموالي ... فلهذا يثني وهذا يثيب
وعلى كتبه حلاوة لفظ ... مقتضاه البيان والتهذيب
في طروس لنا تشفّ بياضاً ... وسطور مدادها غربيب
دبّر الملك بُرهةً ليس فيها ... ما تراه سوءاً ولا ما تعيب
يتلقى أغراض كلِّ مهمّ ... فترى رأيه سهاماً تصيب
وإذا جُهّز البريد بأمر ... فيه خوف فبالأمان يؤوب
ليس إلا اللفظ الذي هو سحر ... ولمعناه في القلوب دبيب
ولبعض الكلام رونقُ حُسنٍ ... منه تُنسى البلوى وتُمحى الذنوب
أيها الذاهبُ الذي سار عنّا ... وغمامُ الدموع منا يصوب
إن يكن شقّ فيك للصبح جَيب ... فلكم شُقِّقَتْ عليك جيوب
كان دهري سِلماً فمذْ غبت عني ... نشأت بينه وبيني حروب
كنت لا أختشي إذا اعتلّ يوماً ... من أذى خطبه وأنت طبيب
آه وا لوعتي وطول نحيبي ... مع علمي أن ليس يُجدي النحيب
غير أني قضيت للودّ حقاً ... برثاءٍ له عليّ وجوب
كم أيادٍ أولَيتَنيها ونُعمى ... ومحلّ الإحسان محْلٌ جديب
جعل الله بقعة أنت فيها ... روضٌ عفو فهو الكريم الوهوب
وكتبت أنا إليه من الديار المصرية أهنئه بكتابة السر بالشام في جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة:
كم عدو يموت أيام يحيى ... ومحبّ في العز والسعد يحيا
هذه دولة تقول الليالي ... لعُلاها أهلاً وسهلاً ورعيا
طالما اشتاقها الزمان بنفسٍ ... هي للمجد والمكارم ظميا
جِمجَمَ الدهرُ مدة بسواها ... وهو منها يُسرّ في القلب أشيا(3/46)
أطلعت في سما دمشق شهابا ... منه شمس النهار في الأفق خَزْيا
أين من يطلب المعالي وتأبى ... من رئيس تأتي لمغناه سعيا
لو أراد الزمان يأتي بمثلٍ ... لعلاه بين البريّة أعيا
كاتب السر سرَّ كل محبّ ... وأعاد الجميل فينا وأحيا
بسجايا من السحائب أندى ... وجناتٍ من الحدائق أفيا
ذو سكون وعفة ليس يشكو ... من خُطاه وجهُ الثرى قطّ وطيا
صرّفِ الآن دهرنا يا شهاب ال ... دين مهما أردت أمراً ونهيا
ومر السعد بالذي تشتهيه ... فهو يأتي في الحال ما اخترت جَريا
فلك الحمدُ والمآثر إرث ... عن كرامٍ زكوا مماتاً ومَحيا
أنت من عصبةٍ كرامٍ نماهم ... خالدُ بن الوليد في كل عَليا
عملوا صالحاً وحازوا المعالي ... فهم الفائزون أخرى ودُنيا
بك تزهى دمشق فامنع حماها ... فلها من علاء في العز بُقيا
قلم في بيان كفك يسعى ... فوق طرس أم حاك في الخط وشيا
كل سطر كأنه إذ تبدّى ... شفةٌ بالمدادِ الأسودِ لَميا
ينثر الدرّ بل يُري السحر حقاً ... حين يُملي عليه فكرك وحيا
فإذا ما أعملتَهُ في مهمٍّ ... يستبيح الأعداء قتلاً وسبيا
هذه الدولة التي كنت أرجو ... أن أرى لي بها مع السعد لُقيا
ويسر الفؤاد نيلُ الأماني ... وأرى طعم صبره صار أرْيا
لا أراني لها الزمان انفصالاً ... ما اشتكى عاشق من الحب نأيا
يقبّل الأرض ويهنئ نفسه والأنام، ومملكة الشام والأيام، وبيض الطروس وسُمر الأقلام وأرباب الطيالس وأصحاب الأعلام، بهذه الرتبة التي طلع في سمائها شهاباً توقّد نوره وكات سرٍّ كثرت بمعاليه في ديوان الإنشاء شموسه وبدوره، ووجدت الأقلام لها في ميدان البلاغة مجالاً، وبلغت المعالي من قربه أمانيها فلم تعدم بمن تهوى اتصالاً:
وزاد المرهفات ضياءَ عزمٍ ... فصار على جواهرها صِقالا
وأبصرت الذوابل منه عدلاً ... فأصبح في عواملها اعتدالا
فالله يرزقنا معاشر الأرقاء شكر هذه النعمة التي أقمر بها ليل الأمل والتحف الدهر منها برداء المحاسن واشتمل، وانتشق خمائل فضلها من كانت الأيام أخرته حتى خمل، وانتصف فيها من كانت واقعته تذكّر الناس بأيام صفّين والجمل:
وأضحى فضلها في الناس باد ... يدار بها على الشرب العُقارُ
فهذه الأيام التي كانت بها الآمال في الضمائر أجنّة، وهذه الأوقات التي جرت إليها سوابق الأماني مُطلقات الأعنة، وهذه الدولة التي جرت في رياض حماها جداول السيوف تشقّ رياحين الأسنّة، ليس فيها ما يقال له: كمُلَت لو أن ذا كمال.
فأنتم يا بني القيسراني فضلكم مثل جدكم خالد، ونجمُ من عاندكم هابط ونجم سعودكم صاعد، وجنان الفضل ترون فيها " مُتكئين فيها على الأرائك " وتحيتكم فيها المحامد، وأيديكم تضرب من البلاغة في الذهب الذائب إذا ضرب غيركم من العي في الحديد البارد، وبنان حسانكم ينهلّ بالنّدى فهو جائد وبنانُ غيركم جامد. زينتم الوجود من عصر نور الدين الشهيد سُقي ضريحه رحمة وبرّاً، وبدأت حسنات الأيام بوجودكم من هناك وهلم جرّا، كم قد تجمل منكم منصب الصحابة بوزير، وكم جلس منكم كاتب سرّ بين يدي صاحب السرير، وكم حلّيتم بدرر إنشائكم جيد قاضٍ وعنق أمير، وكم روى الإحسان منكم عن نافع وابن كثير.
أما فضائلكم فإنها ملأت الدفاتر، وأقرّت بالتقصير عنها مآثر البواتر.
وأما تشددكم في الدين فقد تفيأ الظل من سدرة المنتهى، وبلغ غايةً لم تكن الشمس في علوّ المنزلة أختَها.(3/47)
وأما مكارمكم فما عهد الناس مثلها من البرامك، ولا اجتلوا مثل أقمارها في الدياجي الحوالك. وكيف لا يجد الناس بكم صفاء الأيام وفي وجودكم لذة العيش، أم كيف لا ينشقون أرج الخزامى وبنو مخزومٍ ريحانة قريش، فالله لا يُخلي الوجود من حسناتكم التي تفيد كل بهجة وتحيي من موت الفضائل كل مهجة.
بقاؤكم عصمةُ الدنيا وعزّكم ... سترٌ على بيضة الأيام منسدل
إن شاء الله تعالى.
وكتبت إليه وأنا بدمشق أتقاضاه وعداً بإقطاعٍ عند بعض الأمراء لفتاي:
يا سيداً دأبي الثناء المجتبى ... عليه بالتصريح والرمز
أصبحتُ من جودك أغنى الورى ... لكنني أحلم بالخبز
وكتبت أنا إليه عند وصولي الى القاهرة أصف له مشقة كابدناها في الطريق بالرمل وغيره، ونحن صحبة ركاب الأمير سيف الدين تنكز في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وهو مشتمل على نظم ونثر سقته جميعه في الجزء الحادي عشر من التذكرة.
يحيى بن سليمان
ابن علي، الإمام العالم محيي الدين الرومي الحنفي المعروف بالأسمر.
مدرّس المدرسة الركنية، تولاها بعد الفقيه الفاضل شمس الدين محمد بن المعلم الحنفي.
وكان شيخاً فاضلاً، وله حلقة إشغال تفيد الطلبة بالجامع الأموي، وقرأ عليه جماعة من الفقهاء.
وتوفي رحمه الله تعالى ثالث شهر رمضان سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
يحيى بن صالح
ابن عتيق، القاضي محيي الدين الزواوي المالكي.
كان فقيهاً فاضلاً ناب عن القاضي المالكي مدة بدمشق ثم عزله ثم أعاده.
واستمر الى أن مات في أوائل شوال سنة عشر وسبع مئة.
يحيى بن عبد الله
ابن عبد الملك، الشيخ العلامة البارع، شيخ الشافعية أبو زكريا الواسطي.
قرأ الفقه والأصلين، وبرع في الفقه وتخرج به الأصحاب، ودرّس بالشرابية بواسط. تفقّه على والده وحدّث ببغداد بكتاب مطالع الأنوار النبوية في صفات أفضل البرية، وكان يقال هو فقيه العراق في زمانه.
تفقه عليه ابن عبد المحسن، وشمس الدين محمد بن القاسم الملحمي الواعظ، والمجد عبد الله بن إبراهيم الدقيقي وغيرهم.
وله سماع من الفاروثي صحيح البخاري بفوت. وأجاز له الشيخ عبد الصمد، والكمال بن وضّاح، وابن أبي الدينة، وله مؤلف في الناسخ والمنسوخ في الحديث وغير ذلك.
توفي بواسط في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة.
يحيى بن عبد الرحمن
الشيخ المحدث الكاتب المجوّد المحرر الموسيقار نظام الدين بن النور الحكيم الجعفري.
كان يكتب طبقه، ويتقدم بحسن أوضاعه كل من سبقه، فإذا رأيت خطه في المهارق أنساك سحر الأحداق وزهر الحدائق، وكان له عناية بالحديث، وسماع القديم والحديث، قرأ بنفسه، وأسمع أولاده، ورحل بهم عن أوطانه، وفارق أحباءه وبلاده.
وكان موسيقاراً يتقن اللحون والأنغام، ويقرّ له في هذه الصناعة ربُّها ويخضع له ولو أنه الضرغام، فإذا أورد لحناً أعرب فيه عن أستاذيته، وفتن أهل الغرب بمشرقيته، وسلب عقولهم بمشرفيته:
ما كان حين يُغنّي في مجالسهم ... إلا نسيم الصّبا والقوم أغصانُ
قدم من العراق الى الشام، وانتجع بارق الملك الناصر وشام، وتوجه الى الديار المصرية، وطلب العود الى دمشق لما عند نفسه الأبيّة من الحرية، ثم إنه عاد الى عراقه وادّكر أوطانه لطيب أعراقه.
ولم يزل هناك يكتب عن الملوك وينظّم درّ رسائلهم في السلوك الى أن انتظم النظام في سلك الأموات وعدّ بعد حياته من الرُفات وفات.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة إحدى وستين أو سنة ستين وسبع مئة. ورد خبر موته من بغداد.
كان هذا نظام الدين قد وصل من بغداد مع الوزير نجم الدين بن شروين وناصر الدين خليفة بن علي شاه لما وفدوا على السلطان الملك الناصر.
حكى لي من لفظه قال: دخلنا مصر، واستقر نجم الدين بن شروين أمير مئة مقدّم ألف، وناصر الدين خليفة طلبه الأمير سيف الدين تنكز من السلطان، فسيّره إليه، وأعطاه إمرة طبلخاناه في دمشق، وبقيت أنا عند الأمير سيف الدين قوصون، إذ طلبني يقول لي: يا شيخ نظام الدين، قول لنا ذلك البيشوره، قول لنا ذلك القول، قول لنا ذلك الساذج الذي لحنته أنت: فقلت أنا في نفسي: متى فترت يا يحيى أداروك هؤلاء مغنياً لا غير، فطلبت من السلطان العود الى دمشق، فجهزني إليها.(3/48)
ولما ورد من باب السلطان أعطاه الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى مشيخ ةالربوة، فأقام بها مدة يُسمع أولاده الحديث ويقرأ بنفسه على الأشياخ الى أن طلب العود الى بغداد، لأجل أملاكه، وكان أولاً يكتب الإنشان عن حكام بغداد، ولما عاد إليها استمر كذلك وكانت الكتب ترد عن حكام بغداد الى ديوان الإنشاء بخطه.
وكان والده النور حكيماً يطبّ ملوك المغل وغيرهم. وكان نظام الدين يكتب المنسوب ويضع الكوفي والمعقلي من أحسن ما يكون وأجوده، ووضع أشياء بخطه في بيت القاضي شهاب الدين يحيى بن القيسراني، وهي في غاية الإتقان، وأراني درجاً قد كتب فيه منازل الحج من بغداد الى مكة، وصوّر ذلك، وشجّره في خرقة كتّان، وهو من أحسن الأوضاع في التحرير والإتقان.
وكان أستاذاً في علم الموسيقى، له فيه أقوال وأعمال ينقلها عنه أربابُ هذا الفن في الشام ومصر وكان إذا خلا بمن أحب من الأكابر اندفع وغنى من غير آلة أشياء غريبة، سمعته غير مرة، وكان ينظم أيضاً.
نقلتُ من خط الشيخ الإمام العلامة صلاح الدين العلائي قال: نقلتُ من خط نظام الدين المذكور قوله:
أيها المالك الذي زيّن المُل ... كَ بفضلٍ يسمو على الوزراء
وبجودٍ قد أخجل المُزن منه ... وبعلم يُربي على العلماء
ما اسم شيء مناسب الأجزاء ... مستطيلٌ إذا سعى في فِناء
مستديرٌ لكونه فلكاً في ... ه نجومٌ طوال في سماء
عمّ حيناً مشارق الأرض والغر ... ب وطاف الدنيا بالاستيلاء
مُنزلٌ غير أنه ليس قرآ ... ناً وآياته بلا إحصاء
ذو عيون له فمٌ وعليه ... شاربٌ وهو مفرطٌ بالحياء
صيته أن ليس عنه غناءٌ ... صوته مطربٌ بغير غناء
فتراه طوراً على جبل عا ... لٍ وطوراً يُرى ببئر الماء
تارة كالجماد يُلفى على الأر ... ض وطوراً يطيرُ وسط الهواء
منه برّ ومنه بحرٌ وفيه ... كل نفس تولدت بسواء
وهو ركنُ الدنيا وغوث البرايا ... وملاذ الورى وعون الرواءِ
وحياة النفوس في حلبة السب ... ق مبيد الأنام في الهيجاء
فيه نونٌ وأول الاسم ميم ... ألفٌ تلوه بغير مراء
صاحب الأولياء في أول العم ... وأوفى في خدمة الأنبياء
واصطفى كل من تصوف حتى ... عُدّ في الأولياء والأصفياء
فبلقياه قام بالفرض قومٌ ... وبرؤياه سنّ كل سناء
كم له منّةٌ على كل نفس ... وله ضنّةُ على نُفساء
واحدٌ في صفاته ثاني اثني ... ن لتخمير طينة الأشياء
ثالثٌ إن يُعدّ في عالم الكو ... ن وإن شئت رابع الخلفاء
ما له خامسٌ ولكن في الخا ... مسِ منه عكسٌ بغير خفاءِ
عجب الناس من تناقض ما في ... ه مع الاعتدال والاستواء
ظاهرٌ طاهرٌ خفيٌّ حفيٌّ ... زائد ناقصٌ مريء مُراءِ
صاعدٌ نازل أمينٌ خؤون ... ناصرٌ قاصر شديدُ العناء
فابن ما ألغزتُ يا واحد العص ... ر كُفيت الروى وشر البلاء
وكتب الشيخ صلاح الدين رحمه الله تعالى الجواب عنه، ونقلت من خطه:
يا إماماً حلّى عقود العلائي ... كونه واسطاً لها ببهاء
قد بدا لُغزُك اللطيف بديعاً ... مشرقاً منه أنجم الجوزاء
هو في دقة الهواء ولكن ... حاز وصف الزلال عند الصفاء
فهو درّ والدر في الماء يلقى ... فلهذا لم يعدُه بتناء
نوّع الوصف ما لغزت فأضحى ... كل فكر لديه في إعياء
كيف لا والذي تضمّن بحرٌ ... من بيان يعزّ في الإحصاء
ظاهرٌ لفظه ولكن معاني ... ه تناهت في دقة وخفاء
وينابيعه تسحُّ زلالاً ... بمعينٍ من ألطفِ الأشياء(3/49)
ليس يخفى أني أشرتُ الى ما ... ضمّن اللغز في أتم جلاءِ
فابق كنزاً للطالبين مفيداً ... والْقَ عزّاً ودُم بكل سناء
يحيى بن عبد الرحيم
الأرمنتي المعروف بابن الأثير الشافعي.
كان من الفقهاء المباركين، درّس بمدرسة سيوط سنين كثيرة، وتولى الحكم بأطفيح وبمنفلوط وكانت سيرته حميدة، وهو من بيت علم ورئاسة وجلالة وأصالة.
وتوفي بسيطو في سنة ثمان وسبع مئة رحمه الله تعالى.
يحيى بن عبد الرحيم بن زكير
محيي الدين القوصي الشافعي.
كان معتبراً جيّد الإدراك حسن الفهم.
سمع من تقي الدين بن دقيق العيد، وبدر الدين بن جماعة، وجلال الدين أحمد الدشناوي، وأخذ عنه الفقه، وأجازه بالإفتاء. ودرّس بقوص سنين كثيرة.
قال كمال الدين الأدفوي: حضرتُ عنده الدرس ست سنين أو ما يقاربها، وكان درساً مفيداً فيه تحقيق وقلة غلط، يتقنه ويحرر الكلام فيه، وقرأ النحو والأصول على جلال الدين، وتولى الحكم بقنا، وناب في قوص، وكان حميد السيرة محمود الطريقة، ولم يعب الناس عليه إلا أنه كان يداوم مسألة الحيلة في المعاملات، يبيع السجادة ونحوها بآلاف ويشتريها بما يعطيه في المعاملات التي قررت قبل المعاقدة. وكان يقول: إذا طولبتُ بها في غدٍ، قلت هذا الشافعي وأصحابه جوّزوا ذلك، وأنا مقلّد.
ولم يزل الى أن صُودر وأُخذ منه مال، وتضعضع وبقي في قوص.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثماني عشرة وسبع مئة.
يحيى بن عبد اللطيف
ابن محمد بن سند، محيي الدين بن سراج الدين التاجر الكارمي.
كان هذا محيي الدين لطيفاً ظريفاً غاية في الكرم.
قال كمال الدين الأدفوي: لم ترَ عيني أكرم منه، عزيز النفس، يحفظ من النظم والنثر كثيراً، وزر اليمن، وكان له حظ عند السلطان الملك الناصر محمد، وكان محبوباً عند الخاص والعام، صحب جملة من الصالحين، وكان جماعة من أصحابه يلومونه على كثرة العطاء والنفقة، فيقول: قال لي جماعة ممن لهم كشف: تموت سعيداً.
توفي رحمه الله تعالى بمصر سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة وعمره ستة وأربعون عاماً.
يحيى بن عبد الوهاب
ابن عبد الرحيم، الشيخ الفقيه النحوي تاج الدين الدمنهوري الشافعي.
كان مصدّراً لإقراء العربية بجامع الصالح خارج باب زويلة وبالجامع الظافري بالقاهرة، بلغ السبعين من عمره، وله مصنفات، ووقف كتبه بالجامع الظافري.
كان قد غلب عليه التدين والانقطاع.
وتوفي رحمه الله تعالى ثالث عشر جمادى الأولى سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
يحيى بن علي
ابن تمام بن يوسف بن موسى، الشيخ صدر الدين أبو زكريا السبكي الشافعي.
هو عمّ شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي.
كان قد ولي قضاء المحلة وعدة مناصب. وروى عن ابن خطيب المزة، وسمع منه حفيده قاضي القضاة تقي الدين أبو الفتح محمد ابن عبد اللطيف وغيره.
وكان إماماً عارفاً بأصول الفقه، ومدرساً بالسيفية، وتولاها بعده ابن أخيه العلامة تقي الدين.
وتوفي رحمه الله تعالى في حادي عشري صفر سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
يحيى بن علي بن أبي الحسن
ابن أبي الفرج بن طاهر بن محمد، الشيخ الإمام المسند الفقيه الفاضل المنشئ محيي الدين بن الحداد الحنفي.
كان ناظماً ناثراً، قاعداً بفن الترسّل ماهراً، كتب الإنشاء بطرابلس زماناً، ونال من طول المدة في عمره أماناً، الى أن تخلى عن المباشرة، وملّ المصاحبة من إخوانه والمعاشرة وانقطع بدمشق مُقبلاً على شانه، عالماً بخيانة إخوانه، وزمانة زمانه.
ولم يزل الى أن عُدّ فيمن أركبته المنايا على الأعواد، ولم يحمل التطريق ابن الحداد.
وتوفي رحمه الله تعالى بمنزله في الكفتيّين داخل دمشق بعد العشاء الآخرة ليلة الاثنين حادي عشري شوال سنة سبع وخمسين وسبع مئة، ودفن بمقابر الصوفية الى جانب الشيخ جمال الدين الحصيري الحنفي.
ومولده سنة ست وستين وست مئة بدمشق، وأصله رقّي.
وكان قد تولى بالقاهرة نظر القنود، ثم دار الوكالة في سنة سبع عشرة وسبع مئة، فلما توفي شمس الدين الطيبي كاتب الإنشاء بطرابلس تولى مكانه، وخرج من القاهرة في أواخر سنة سبع عشرة وسبع مئة.(3/50)
أخبرني ولده الأمير ناصر الدين محمد، أحد البريدية بدمشق قال: توجهت مع والدي الى عند قاضي القضاة تقي الدين السبكي - رحمه الله تعالى - وقال له وأنا أسمع: إن والده أحضر الى الشيخ محيي الدين النواوي - رحمه الله تعالى - بالرواحية وهو أمرد ليشتغل عليه، فقال له: هذا صبي أمرد، وأنا مذهبي أن النظر الى الأمرد حرام مطلقاً، ولكن توجه به الى تاج الدين الفزاري، فأخذه والده وجاء به الى الشيخ تاج الدين وهو يشتغل في الجامع الأموي، أو كما قال.
وكتب الإنشاء بطرابلس نحواً من أربعين سنة، وكانت له مباشرات بالشام في دمشق وبعلبك وحمص وحماة وحلب في غير ما وظيفة من وظائف الديوان.
وكان قد كتب هو إليّ لما ورد دمشق:
يا إماماً قد فاق سحبان بل قس ... سَ إيادٍ قل لي أأنت خضر
أنت للفضل قبلةٌ ولأهل ال ... علم نجم يُهدي وللدين بَدر
فإذا ما نطقت أفنيت أفكا ... ر البرايا ولم يحرْ لك فكر
وإذا ما وضعت في الطرس خطّاً ... باهر الحسن جلّ بل حلّ سحر
وإذا ما نظمت شعراً فللشع ... رى حياء منه وللشعر فخر
وإذا ما نحوت نحواً فمن زي ... دٌ من الماهرين فيه وعمر
أخجل النظم منك نظمٌ وأودى ... نثرة الشهب من مقالك نثر
أترى أنت عالم بولائي ال ... محضِ أم بينه وبينك ستر
ليس شكل من الصواب فلو حقّ ... قت قربي ما عاقني عنك بحر
وعلى الحالتين بعدٌ وقرب ... لك عندي حبٌ وحمدٌ وشكر
فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك:
لك مني حمد يفوق وشكرٌ ... لي منه على مدى الدهر سكرُ
وولاء عقدتُ منه لواءً ... منه طي في الخافقَين ونشر
ودعاء حقٌ بغير ادّعاءٍ ... فيه من سرعة الإجابة سرّ
وثناءٌ أعليت منه بناءً ... فهو أفقٌ نجومه منك زهر
قد تفضّلت بادياً بقريضٍ ... كلُّ بيت فيه من الحسن قصرُ
فهو ينهل في انسجام ويحلو ... فعلي كل حالةٍ فهو قطر
وكأن السطور روض مريع ... والمعاني كأنها فيها زهرُ
أنت يا بن الحداد صغت المعالي ... لك طوقاً فيه كلامك درُّ
بك قد أشرقت دمشق وتاهت ... فلها من سناك فجرُّ وفخر
أنت فيها بحرٌ وقد سبق القو ... ل ضميري فقلت إنك حبرُ
كيف يُدعى بالبحر من كل بحر ... مستمدٌ من فضله مستمرّ
فابق في نعمةٍ تفيد البرايا ... فضلَ علمٍ يغشاه زيدٌ وعمرو
يحيى بن فضل الله
ابن المجلي بن دعجان، القاضي الكبير الرئيس محيي الدين أبو المعالي القرشي العدوي العُمري، كاتب السر السلطان بالشام، أولاً، وبمصر أخيراً.
تقدم ذكر أخيه القاضي شرف الدين عبد الوهاب، وذِكرُ ولديه القاضي شهاب الدين أحمد، والقاضي بدر الدين محمد وذكر أخيه بدر الدين محمد بن فضل الله كلّ منهم في مكانه.
كان سعيد الحركات إذا تحرك، سديد السكنات، كأن القدر تكفّل له بحُسن العقبى وتدرّك، متعه الله تعالى بالمناصب والأولاد، والسعادة التي لها الجبال أوتاداً، فرأى في مناصبه ما لا رآه غيره، وفي أولاده من السعد ما لم يزجر به لغيرهم طيره. وكتب الخطّ الذي تودّ الرياضُ لو كانت أوراقه، والعقود لو نُظمت مثل سطره في حُسن اللباقة. ما أعتقد أنه خدم الترك مثله، ولا نبت في وادي أغراضهم إلا بانُهُ وأثله، قد درِبَ مقاصدهم وألفها، وفرّع مرامي مراميهم وعرفها، طال عمره في السعادة وخدمته في آخر عمره بالحسنى وزيادة.
وكان يرعى حقّ من خدمه، ويعلي كعب صاحبه وقدمه، ولم يكن فيه لأحد أذى، ولا رأى غيره من عينه قذى، منجمعٌ عن الناس، لا يجتمع بأحد في مآتم ولا أعراس، شُغله بخويصة نفسه، والاعتزال عن أبناء جنسه. وكان شديد الحزم، مديد الهمة والعزم:
لا يقرع السنَّ للفوات ولا ... يعضّ حرّ البنان من ندمه
يقلّ قدرُ الأنام عنه كما ... يصغر جنب الزمان في عظَمه(3/51)
ولم يزل على حاله الى أن انهار به جُرفه، وتهدّم من عمره شُرفه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة بالقاهرة، ودفن بالقرافة، وكانت جنازة عظيمة، ثم إنه نقل تابوته الى دمشق، ودفن بتربتهم التي في الصالحية في شهر ربيع الأول سنة تسع وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة.
وكتبت أنا الى ولده القاضي علاء الدين كاتب السر أرثيه بقصيدة وهي:
يا قاصد الفضل عُد قد مات مُحييه ... وغاب من كان بين الناس يُبديه
وأوحشَ الدست ذاك لصّدرٍ حين مضى ... فطالما كانت الأسرار تأويه
كم دبر الملك بالآراء فامتنعت ... ثغوره وحماهُ من أعاديه
ورفّة السُمر والبيض الصفاح فما اح ... تاج الشجاعُ لأن تجري مذاكيه
وكم كتابٍ له أردى الكتائب لم ... ما بات في ساحة الديوان يُمليه
مهما نسيتُ فما أنسى توجّعه ... لي من زماني إذ خانت لياليه
ولُطفه كلما وافيتُ مجلسَه ... كأنما نسماتُ الروض لي فيه
يا ذاهباً ترك الأسماع من حَزَنٍ ... تودّ لو أنها صُمّت لناعيه
ومن مضى والورى تدري محاسنه ... حتى لقد شكر الله مساعيه
أقسمتُ ما خدم الأملاك مثلُك في ... سرّ تبيتُ من الأعدا تُراعيه
ولا يوفّي الأمور الباهظات إذا ... ما أظلم الرشد حقاً أنت تدريه
ربّيْت فيما مضى من دهرنا دولاً ... من غير عجزٍ ولا كبرٍ ولايته
وكم وصلت لمن قد بات ملتجئاً ... إليك رزقاً رآه لا يواتيه
يُجنى عليك ولم تُظهر مؤاخذةً ... لأجل ذلك تعلو من تناويه
وما برحتَ عظيم القدر ذا شرفٍ ... عند المليك الذي جلّت أباديه
وقد مضَيت الى الله الكريم وما ... يضيعُ مثلك ضيفاً عند باريه
قدمت في مثل شهر الصوم حضرته ... بُشراك بُشراك خيرٌ بتَّ تجنيه
فقِرَّ عيناً بمن خلّفتَ من ولدٍ ... فإن حقّك كل الناس يدريه
ولم يمت من بنوه سادةً نجُبٌ ... كلٌ على حدةٍ يحيي معاليه
لاسيما وعلاءُ الدين ثالثهم ... يفوه بالمسك من أضحى يسمّيه
كفاية ووقار في رسوخ نهىً ... فما أرى أحداً في ذا يوفّيه
أما الكتابةُ فاسأل كلَّ يانعة ... من الحدائق إن كانت تحاكيه
أو العبارةُ فاسأل كل بارقة ... من الدياجر إن كانت تجاريه
أو الترسّل فاسأل كل هاطلة ... من السحائب إن كانت تباريه
أو الخلائق فاسأل كل نافحةٍ ... من النواسم إن كانت تضاهيه
نظمٌ كأن سلاف الدنّ شعشعها ... فينا ضُحىً وأدارتها قوافيه
وكل سجع لو أن البحر يعرف ما ... يأتي به لاستحتْ منه لآليه
يا من سردت معانيه وأقسمُ ما ... تدري الليالي له مثلاً فتحويه
اصبر على فقد مولى كلُّ ذي أدب ... إن كان يُنصفُ لا ترقا مآقيه
وسلّم الأمر في هذا لخالقه ... تنلْ من الله ما تغدو تُرجّيه
فأنت أولى بصبر القلب في حزنٍ ... ما غير فضلك فينا من يُعانيه
ولم أر فيمن عاصرته من كتب النسخ وخرّج التخاريج والحواشي أحلى ولا أظرف ولا آنق من القاضي محيي الدين بن فضل الله ومن الشيخ فتح الدين بن سيد الناس، نعم والقاضي جمال الدين إبراهيم بن شيخنا شهاب الدين محمود، ولكن القاضي محيي الدين رعشت يده في آخر عمره، وارتجت كتابته أخيراً، ورأيت بخطه المثل السائر، والوشي المرقوم وهما في غاية الحُسن.(3/52)
وأول ما كتب الإنشاء بدمشق في أيام أخيه القاضي شرف الدين عبد الوهاب سنة إحدى وستين وست مئة، ثم إنه جهّزه الى حمص، فأقام بها سنتين، ونُقل الى دمشق، فأقام مدة، ثم أعيد الى حمص وأقام بها قريباً من خمس سنين، ثم إنه نقل الى دمشق، ولما توجه أخوه الى كتابة السر بمصر وأقام بها الى أيام السلطان حسام الدين لاجين حصل للقاضي شرف الدين استرخاء، فجهّز السلطان أحضر القاضي محيي الدين سنة سبع وتسعين وست مئة، فأقام بمصر ينوب عن أخيه تسعة أشهر، ثم إنه طلب العود الى دمشق، فأعيد إليها.
ولم يزل بدمشق كاتب سر الى أن حضر السلطان من الكرك الى دمشق، وتوجه الى مصر سنة تسع وسبع مئة وهو معه، وعاد الى دمشق على وظيفته الى أن حضر أخوه القاضي شرف الدين عوضه بدمشق، ثم إنه عُطّل من المباشرة مدة، وأُخذ منه مبلغ مئة ألف درهم، وبقي مدة بلا خدمة، ثم رسم له أن يكون موقّعاً في الدست قدام الأمير سيف الدين تنكز، فلبث بعد ذلك الى أن باشر صحابة ديوان الإنشاء بعد القاضي شمس الدين ابن الشهاب محمود في رابع عشر ذي القعدة سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
وأقام على ذلك الى أن طلبه السلطان الملك الناصر الى مصر، وولاه كتابة السر بها لما بطُلتْ حركة القاضي علاء الدين بن الأثير، وطُلب معه القاضي شهاب الدين، وولده، والقاضي شرف الدين أبو بكر حفيد شهاب الدين محمود، فوصلوا الى القاهرة في تاسع عشر المحرم سنة تسع وعشرين وسبع مئة، وأعيد شرف الدين الى كتابة سرّ دمشق عوضاً عن محيي الدين، وأقام بالقاهرة مدة الى سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وكان شرف الدين قد طلع مع تنكز الى مصر، فرُسم لشرف الدين أن يكون كاتب السرّ بمصر، وأن يتوجه القاضي محيي الدين وأولاده مع تنكز الى دمشق، وذلك في نصف شعبان من السنة المذكورة، ولم يلبث شرف الدين في المنصب إلا ريثما حجّ السلطان وعاد معه، فرسم لشرف الدين بعوده الى كتابة سر دمشق، وطُلب القاضي محيي الدين وأولاده الى مصر ثانياً، واستمر القاضي محيي الدين على ذلك الى سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، فزاد ضعفه، وكبُرت سنّه، فطلب من السلطان أن يعود الى دمشق ليموت بها، فرسم له بالتوجه الى دمشق، وألزم ولده القاضي شهاب الدين بالتوجه معه، وكُتب له توقيع عظيم في قطع الثلاثين بأن يستمر على صحابة الديوان بالممالك الإسلامية، وأن يكون جميع المباشرين لهذه الوظيفة من بالباب فمن دونه نوابه، وأنه حيث حلّ يقرأ القصص والمظالم والولايات والعزل والرواتب وغير ذلك، ويوقع فيما يراه، وتُجهز الى مصر ليُعلّم عليها العلامة الشريفة، ورسم بعود أولاده معه خلا القاضي علاء الدين فإنه كان في صحابة ديوان الإنشاء الشريف بمصر.
وتجهز القاضي محيي الدين وجماعته للسفر، وشدّت المحفة على البغال لتدمن على حملها، ولم يبق إلا سفره، فأُثقل في المرض، وانقطع جملة كافية. فلبث أياماً قلائل، وتوفي في التاريخ المذكور.
ولم أر في عمري من نال سعادته في مثل أولاده وأملاكه ووظائفه وعمره، وكان السلطان قد بالغ أخيراً في احترامه وتعظيمه، وكتب له في أيام الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار توقيعاً بالجناب العالي، فقبّل الأرض واستفعى من ذلك وكشطها، وقال: ما يصلح للمتعمم أن يُعدّى به المجلس العالي.
وأجاز لي بخطه في القاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
يحيى بن محمد بن علي
ابن زيد بن هبة الله رشيد الدين أبو طالب، الفقيه الحنفي، الأديب الشاعر.
حدّث بشيء من شعره، ورواه ولده أبو المحاسن يوسف والفقيه ظهير الدين علي بن عمر الكازروني وابن الغوطي.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة إحدى وسبع مئة.
ومن شعره:
إن كنتَ من أهل الصبابة والجوى ... فاسمع ولا تبخل بنفسك في الهوى
من لا يذلّ لمن يحب فحظه ... من حبه إما الصدود أو النوى
فاخضع له إن شئت عزّة قربه ... فلقد هديت، فلا تكن ممّن غوى
يحيى بن محمد بن علي
ابن أبي القاسم، محيي الدين ابن العدل بدر الدين العدوي الدمشقي ابن السكاكري.
مولده سنة إحدى وخمسين وست مئة.
وتوفي بدمشق في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، ودفن بمقبرة باب الفراديس.
فاق في كتابه الشروط وسمع الحديث من جماعة، وتزوج بقريب من المئة امرأة.(3/53)
يحيى بن محمد بن سعد
ابن عبد الله بن سعد بن مفلح، الشيخ الإمام الصالح المعمر، مسند وقته سعد الدين أبو زكريا ابن الصاحب البليغ شمس الدين الأنصاري المقدسي الصالحي الحنبلي.
سمع حضوراً في الثالثة من ابن اللتي، وسمع في الخامسة من جعفر الهمذاني، واسمه في الطباق عليهما سعد، وبه يسمى أيضاً، ما كان له أخ واسمه سعد، وسمع من أبيه، والشرف المرسي، والكفرطابي، وابن عبد الدائم، وجماعة، وأجاز له ابن روزبه، والقطيعي، والأنجب الحمّامي، وابن صباح المخزومي، وعلي بن مختار العامري، وعبد المحسن السطحي، وأبو القاسم ابن الصفراوي، وخلقٌ كثير.
وتفرّد في وقته وروى الكثير على سداد وخير، وتواضع وحضور ذهن، وحسن خلق، وأكثر عنه ولده المحدّث شمس الدين.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع عشري ذي الحجة سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة إحدى وثلاثين وست مئة.
يحيى بن محمد بن عبد الرحمن
القاضي الرئيس جمال الدين بن الفويرة، تقدم ذكر ولديه علاء الدين علي والشيخ بدر الدين محمد الحنفي في مكانيهما.
كان القاضي جمال الدين رئيساً في نفسه، يتودد الى الناس، ويخدمهم، ويتجمّل معهم.
توفي رحمه الله تعالى في أول جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
يحيى بن مصطفى
الأمير جمال الدين، أحد الأمراء العشرات بدمشق، ابن الأمير زين الدين مصطفى البيري.
كان شاباً طوالاً حسن الوجه والقامة، فيه خيرٌ ودين، يلازم صلاة المغرب بالجامع الأموي.
ولم يزل على طريقة جيدة، الى أن توفي رحمه الله تعالى في أواخر شهر رجب الفرد سنة سبع وخمسين وسبع مئة.
وكان كماً، بقل عذاره، تألم له والده والناس أيضاً.
يحيى بن يوسف
ابن أبي محمد بن أبي الفتوح، الشيخ المعمر المسند شرف الدين أبو زكريا المقدسي ثم المصري.
روى شيئاً كثيراً بالإجازة من ابن رواج وابن الجميزي والمرسي والمنذري وغيرهم، وأكثر عنه شهاب الدين أحمد بن أيبك الدمياطي، والقاضي تقي الدين أبو الفتح السبكي وأقاربه، وشمسُ الدين محمد بن علي بن أيبك السروجي، وكانت الإجازة قد أخذها له أخوه محيي الدين محمد النحوي.
وكان شيخاً حسناً لا بأس به، يتعاسر في التحديث.
توفي رحمه الله بمصر سنة سبع وثلاثين وسبع مئة عن نيّف وتسعين سنة.
يحيى الملك
إمام الدين البكري القزويني، صاحب الديوان بالعراق.
توفي رحمه الله تعالى بالحلّة سنة سبع مئة، ونقل الى بغداد، ودفن بمدرسته بدرب فراشا، وتولى بعده ابنه افتخار الدين مكانه.
يزدار
الأمير سيف الدين أحد أمراء الطبلخاناة بدمشق.
توفي رحمه الله تعالى تقريباً في شهر رجب سنة سبع وأربعين وسبع مئة.
يعقوب بن إبراهيم
الشيخ الفقيه شرف الدين ابن الشيخ الإمام صدر الدين ابن الشيخ محيي الدين أحمد بن عقبة بن هبة الله بن عطاء بن ياسين بن عبد الله بن زهر البصروي ثم الصالحي.
سمع شيئاً من مسند الإمام أحمد بن حنبل على الشيخ شمس الدين بن أبي عمر والشرف السراج.
وكان فقيهاً، وله شعر، وفيه خيرٌ ودين وصلاح، وكان قائماً بعياله.
توفي رحمه الله في مستهل شعبان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
ومولده في خامس عشري شعبان سنة اثنتين وأربعين وست مئة.
يعقوب بن عبد الكريم
الرئيس الكبير الصاحب شرف الدين ناظر حلب وطرابلس.
كان رئيساً نبيلاً، سؤوساً جليلاً، سمح اليد، لا يبالي بما وهب، ولا يفكر في الدهر أنام عنه أم تيقّظ له وهبّ، يتلقى الواردين عليه بالإحسان، ويكرمهم بكرامتي اليد واللسان.
وكان يخدم الأمير سيف الدين تنكز وحاشيته وجماعته وغاشيته وكان يرعاه إذا ورد من دمشق أو صدر، ويكرم نزله إذا صعد أو انحدر.
وقضّى في حلب سعادة عُظمى، وأياماً نظمها الدهر في سلك السرور نظماً، وتنقّل منها الى بلد طرابلس مرات، والتقى من حروب الزمان كرّات، وطُلب الى مصر غير مرة، وعاد منها ووجوه عداه مغبرّة.
يلاقي العِدا بالقصم، والوفد بالغنى ... وحُسّاده بالكبت، والداءِ بالحسم
خبيرٌ بأخلاق الزمان يروضها ... بلين الهُوينى أو بعارضة الحزم
وكان يحب الفضلاء، ويقرّب النبلاء.
ولم يزل على حاله الى أن جفّت مواد لهواته، وأكمل مدة حياته.(3/54)
وتوفي - رحمه الله تعالى - في إحدى الجماديين سنة تسعٍ وعشرين وسبع مئة بحماة.
كان أولاً مباشراً نظر الجيش بحلب قبل عود الناصر من الكرك الى دمشق، ثم إنه توجه الى طرابلس سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. ثم إنه تولى نظر حلب، فأقام بها في سعادة ورياسة وسيادة الى أن عزِل في سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
وتوجه الى نظر طرابلس فأقام بها الى سنة سبع وعشرين وسبع مئة، ثم إنه عاد الى نظر حلب، ثم إنه نقل الى نظر طرابلس فأقام بها دون السنة، ومرض وتعلّل، فتوجه الى حماة ليتداوى بها، وأقام بها مدة عليلاً، وكان صاحب حماة الملك المؤيد يعوده ويزوره ويصله، ولما مات مشى في جنازته، وكان يخدمه لما عليه من الخدمة والمكارمة.
وفيه يقول جمال الدين بن نباتة:
قالت العَليا لمن حولها ... سبقَ الصاحب واحتلّ ذُراها
فدعوا كسبَ المعالي إنها ... حاجة في نفسِ يعقوب قضاها
وكتب إليه شهاب الدين أحمد بن المهاجر يهنّيه بقدومه الى حلب بعد القاضي جمال الدين ابن ريّان، ومن خطه نقلت:
أبدت سروراً وهذا بعضُ ما يجب ... وكيف لا وقدوم الصاحب السببُ
وأسفرت من محيا البشر عن حسنٍ ... له إذا ما انتهى من وصفه حسبُ
وأقبلت تتهادى من غلائل في ... تيهٍ أنّ ممّن حاكها الطربُ
تقول للبرق إذ تفترّ باسمةً ... لقد حكيتَ ولكن فاتك الشنب
وتنشد الدوحُ إذ تهتزّ ناسمة ... بيني وبينك يا دوح الحمى نسبُ
لك البشارة يا شهباءنا فلقد ... أمسى وأصبح من حسادك الشهبُ
لقد علوتِ به قدراً ولا عجبٌ ... فإنه رجلٌ تعلو به الرتب
يكفيك من ذي المعالي أن منصبه ... قد زال عنه العنا والبؤس والنّصب
وأن مجلسه المأنوس منه زها ... روضاً فآض إليه الحُسن ينتسبُ
ما غاب عنه جمال من حوى شرفاً ... إليه آل التقصّي وانتهى الطلب
يعقوب بن مظفر
ابن مزهر، الصاحب شرف الدين. هو أخو القاضي فخر الدين أحمد بن مظفر.
كان الصاحب شرف الدين من أشياخ الكتّاب المعروفين بالنهضة والكفاية، كثير البرّ لأهله وأقاربه ومن يلوذ به، وكان المباشرون يخافونه ويخشون منه.
باشر النظر بدمشق وحلب وطرابلس وصفد وغير ذلك من المناصب.
توفي - رحمه الله تعالى - بحلب في شعبان ثامن عشرة سنة أربع عشرة وسبع مئة.
ومولده بنابلس سنة ثمان وعشرين وست مئة.
وكان وصوله الى حلب في هذه المرة ناظر الدواوين بها في مستهل شعبان، فأقام بها ثمانية عشر يوماً وتوفي رحمه الله.
يعقوب
الأمير محيي الدين ابن الملك الأشرف عبد الحق ابن السلطان الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب.
كان جندياً وله إقطاع وعدة أولاد، وعليه ديون كثيرة، وكان يحفظ شعراً كثيراً.
وتوفي بالمزة ظاهر دمشق في ثامن ذي الحجة سنة ست وعشرين وسبع مئة.
يلبسطي
الأمير سيف الدين.
لما توفي الأمير سيف الدين بلبان البدري نائب حمص عيّن الأمير يسف الدين يلبسطي المذكور للنيابة، وخلع عليه في خامس عشر ذي القعدة سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وتوجه إليها وأقام بها.
يلبغا
الأمير الكبير سيف الدين اليحيوي الساقي الناصري نائب حماة وحلب ودمشق، ابن الأمير سيف الدين طابُطا، وقد تقدم ذكره في حرف الطاء.
كان جميل المحيا، قد طال رِيّاً وطاب رَيّاً، بثغر يفترّ عن أقحوانه، وقوامٍ يهزّ منه رمحاً لدناً، غلطتُ، بل غصن بانه، كريم السجايا والأخلاق، عديم النظر في مجموع محاسنه على الإطلاق، لا يكاد يمنع سائله ولا يرد وسائله، هذا الى إقدام زلّت عنه الأقدام، وشجاعة يُردُّ عنها عنترة بوجه دام:
قمرٌ يروقك في سحاب بنوده ... ضحكَ السيوفِ من البروق الخُلّب
طبّ بأدواء الممالك راضها ... بندى يد سمحٍ وسيف مقضبِ
ذو سطوة تسعُ البُغاة وتحتها ... حلمٌ يفيض على المسيء المذنب
بسماحة وحماسة قد بيّنا ... أن ليس يمنعُ مهلكٌ من مطلبِ(3/55)
خرج على الملك الكامل، ورماه بالذل الشامل، وأراد أن يفعل مثلها بالمظفر، فخرّ صريعاً لليدين وللفم وقد تعفّر، وكان يظن الثانية مثل الأولى، فعادت صحيحات العيون من أمانيه حُولاً، وحزّ رأسُه عن جسده وما نفعه مثقّف سُمره ولا موضون زرده.
وكانت قتلته بقافون في العشر الأواخر من جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين وسبع مئة.
كان الأمير سيف الدين يلبغا من أكبر الأمراء الخاصكية، ولم يكن عند أستاذه الملك الناصر محمد أعز منه، وكانت الإنعامات التي تصل إليه لم يفرح أحد بمثلها، يطلق له الخيل بسروجها وعُددها وآلاتها: الزركش والذهب المصوغ في سروجها مرصعاً بالجواهر الثمينة خمسة عشر خمسة عشر فرساً، والأكاديش من الجشار مئتين مئتين، وتجهَّز إليه التشاريف: الأطلس والحوايص الذهب والطرز الزركش وغير ذلك من التشاريف التي يحتاج هو الى أن يعطيها من عنده لمن يُحضر إليه ذلك.
حكى لي الحاج حسين أستاذداره قال: جرى يوماً بين يدي السلطان ذكر عشرين ألف دينار، فقال يلبغا: والله يا خوند أنا عمري ما رأيت عشرين ألف دينار، فلما خرج من عنده، طلب القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص وقال: أحضر إليّ الساعة خمسةً وعشرين ألف دينار، وخمسة تشاريف أطلس أحمر وطرزها وكلوتاتها وحوايصها، فلما حضر ذلك قال: احمل التشاريف الى عند يلبغا، وقل له: إذا جاء الجمدارية بالذهب اخلع عليهم التشاريف، وطلب خمسة جمدارية وحمّل كل واحد منهم خمسة آلاف دينار، وقال: توجهوا بهذا الذهب الى يلبغا، فأحضروها، وخلع هو عليهم تلك الخلع، وبنى له الإصطبل الذي في سوق الخيل تحت القلعة ظاهر القاهرة، ولم يعمّر قبله مثله، وأنفق عليه ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وكان يهندس الصنّاع فيه بنفسه، ولما فرغ مدّ فيه سماطاً عظيماً، وخلع على أمراء الدولة تشاريف وخيولاً. وبالجملة فكانت إنعاماته عليه وإطلاقاته له خارجة عن الحد.
وكان هو والأمير سيف الدين ملكتمر الحجازي قد توليا تمريض السلطان لما مات. ثم إن يلبغا سأل في أيام الصالح إسماعيل أن يكون نائب حماة، فأُجيب الى ذلك، وجاء إليه عوضاً عن الأمير علاء الدين ألطنبغا المارداني، وتوجه المارداني الى نيابة حلب عوضاً عن الأمير سيف الدين طقزتمر، وجاء طقزتمر الى نيابة دمشق، وذلك في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
ولما مات الأمير علاء الدين ألطنبغا المارداني في حلب، رسم للأمير سيف الدين يلبغا بنيابة حلب، ولما ملك الملك الكامل طلب طقزتمر من دمشق الى مصر ليكون لها نائباً، ورسم للأمير سيف الدين يلبغا بنيابة دمشق، فدخل إليها يوم السبت ثاني عشر جمادى الأولى سنة ست وأربعين وسبع مئة، وتوجه الأمير سيف الدين أرقطاي الى حلب نائباً، وأقام يلبغا اليحيوي على حاله بدمشق، وأرجف الناس كثيراً بأن الملك الكامل يريد إمساك يلبغا، وذلك بعد إمساك الأمير سيف الدين آل ملك وسيف الدين قماري، فاستوحش الأمير سيف الدين يلبغا من ذلك وبرّز الى الجسورة بظاهر دمشق في خامس عشر جمادى الأولى سنة سبع وأربعين وسبع مئة، وأقام هناك أياماً، وحضر إليه الأمير حسام الدين البشمقدار نائب حمص، والأمير سيف الدين آراق نائب صفد، والأمير سيف الدين أسندمر نائب حماة، والأمير بيدمر البدري نائب طرابلس، واجتمع الكل عنده بظاهر دمشق، وعسكر دمشق جميعه، واجتمعوا وأجمعوا على خلع الكامل، وظاهروه بالخروج عليه، وكتبوا إليه مطالعة بذلك، فكان ما كان من أمر الكامل، على ما مرّ ذكره في ترجمته.
ولما تولى الملك المظفر حاجي أقرّ سيف الدين يلبغا على حاله في نيابة دمشق وجعل ابنه أمير محمد أميراً بطبلخاناه، وأعطى دواداره الأمير عز الدين طقطاي طبلخاناه، وعمّر يلبغا قبة النصر عند مسجد القدم مكاناً كان قد برز إليه، وكان قد عمّر قبل ذلك القيسارية التي هي برّا باب الفرج، وعمّر الحمامين اللذين بحكر العنابة برّا الجابية بدمشق، وشرع في عمارة الجامع الذي بسوق الخيل على نهر بردى في أول سنة ثمان وأربعين وسبع مئة.(3/56)
وفي ثامن عشري شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وسبع مئة ورد إليه الخبر على البريد على يد الأمير شمس الدين آقسنقر المظفري أمير جاندار بكتاب من السلطان الملك المظفر بإمساك الأمراء الستة الذين تقدم ذكرهم في ترجمة الأمير شمس الدين آقسنقر الناصري، وفيه إعلامه بالواقعة وإطابة خاطره وتسكينه. فكتب الجواب بالدعاء للسلطان وجهّز أستاذداره سيف الدين أشتقتمر معه، واستوحش يلبغا من هذه الواقعة كثيراً، واستدعى أمراء دمشق بعد ذلك بيومين، وهو في دار السعادة، وعرّفهم ما جرى، وكتب الى نواب الممالك بالصورة، وجهّز الأمير سيف الدين ملك آص الى حماة وحمص وحلب، وجهز الأمير علاء الدين القاسمي الى طرابلس. وجاءه ليلة الجمعة من زاده وحشة فلم يصبح له بدار السعادة أثر غير نسائه، وانتقل الى القصر الأبلق، ونزل والده وإخوته وألزامه ومن معه من مماليكه بالميدان، وكان يركب وينزل الى يوم الأربعاء، فجاءه الأمير سيف الدين آراي أمير آخور بكتاب السلطان الملك المظفر يطلبه الى مصر ليكون رأس أمراء المشور، وأن نيابة الشام قد أنعم بها على الأمير سيف الدين أرغون شاه نائب حلب، وقال سيف الدين آراي ذلك بغمة لأمراء دمشق، فتحللت عنه العزائم، وفلّت الآراء، فتجهز وطلع الى الجسورة ثانياً على العادة التي فعلها في السنة الماضية، وكان ذلك بعد العصر خامس عشر جمادى الأولى، وأقام الى بعد الصلاة من يوم الجمعة سادس عشر جمادى الأولى، وكانت الملطفات قد جاءت من السلطان الى أمراء دمشق بإمساكه في عشية الخميس، فأنزلوا الصنجق السلطاني من القلعة، واجتمع عسكر دمشق تحته، ولما علم بذلك ركب بسلاحه في جماعته. ولما عاين أوائلهم هرب بمماليكه وأهله، وهرب معه أيضاً الأمير سيف الدين قلاوون، والأمير ناصر الدين بن جمق، وتبعه الأمير علاء الدين بن طغريل أمير حاجب، والأمير شهاب الدين بن صبح وغيرهما من عسكر دمشق، وعادوا بعدما أوصلوه الى ضمير، وقتل من العسكر جماعة.
ثم إن الأمير فخر الدين أياز نائب صفد وصل بعسكر صفد الى دمشق في بكرة الأحد ثامن عشر جمادى الأولى، وخرج العصر بعسكر دمشق أيضاً وصفد وتوجه بهم الى حمص وجدّوا، وكان العرب قد أنكَوه ومنعوا منه الماء، واقتطعوا بعض نقله، وجدّ في طلبه سلار بن تتر البدوي وأخوه بُريد، ومنعوه النوم والقرار، وكلَّ هو ومن معه، وملّوا من حمل السلاح ليلاً ونهاراً، وحمي الحديد عليهم، وعاينوا الهلاك، واختلف مماليكه عليه، فقال لهم: بالله وسّطوني أو اضربوا عنقي. كل هذا وهم ما بين القريتين الى أمهين وصدد، ولما سمعت ذلك قلت:
تفرق شمل السعد عن يلبغا وقد ... بغا وغدا في عكسه متورّطا
فقال له السيف الذي شدّ وسطهُ ... وقد بالغ الأعراب في الجور والسّطا
تلذذ بقتلٍ فيه للنفس راحةٌ ... وإن رُمت أهنأ العيش فابغِ توسُّطا
وقال له مماليكه: أنت قلت لنا إن نائب حماة معك، توجّه بنا إليه، فلم يرَ إلا المطاوعة، فعبر على ظاهر حمص وتوجه الى حماة، فخرج إليه الأمير سيف الدين قلطيجا الحموي النائب بحماة، فتلقّاه ودخل به الى حماة، ثم إنه أمسكه وأمسك والده وأخويه قراكز وأسندمُر، وعز الدين طقطاي الدوادار وسيف الدين جوبان وقلاوون ومحمد بن جمق، وقيّدهم وجهّز سيوفهم الى السلطان. ثم بعد ذلك جهّز الأمير سيف يلبغا ووالده مقيَّدَين الى مصر، فلما وصلا الى قاقون تلقاهما الأمير سيف الدين منجك، فأطلعه الى قلعة قاقون هو ووالده وحبسهما في بيتين منفردين، ثم أُنزل والده من قلعة قاقون، وجُهّز وحده على البريد الى السلطان، وطلع الى الأمير سيف الدين يلبغا مشاعليّان، فأحسّ بذلك، وسألهما الوضوء وصلاة ركعتين، ولما فرغ من ذلك قال لهما: بالله هوّناها عليّ. فقالا له: يا خوند إن أردت ذلك فدعنا ندير كتافك، فمكّنهما من نفسه، وخنقاه، فسمع الناس شهقته من أسفل القلعة. ثم إنه حُزّ رأسه وجعل في عسل، وجُهّز الى باب السلطان، ثم دفنت جثته بقاقون، رحمه الله تعالى وسامحه وعفا عنه، وذلك في العشر الأواخر من جمادى الأولى في السنة المذكورة.
وقلت أنا في ذلك:
إن في يلبغا لكلِّ لبيبٍ ... عبرةً أصبحت على الدّهر تُتلى(3/57)
ما تساوى العزُّ الذي قد رآهُ ... في دمشق بذلّ قاقون أصلا
وقلت أيضاً:
ألا إنما الدنيا غرورٌ وباطلُ ... فطوبى لمن كفّهاه منها تفرغا
وما عجبي إلا لمن بات واثقاً ... بأيام دهرٍ ما رعَت عهد يلبغا
ثم إن الأمير سيف الدين منجك وصل الى حماة، وجهز إخوة يلبغا وجماعته الذي أُمسكوا مقيّدين الى باب السلطان.
وخلّف الأمير سيف الدين يلبغا اثني عشر ولداً، أكبرهم أمير محمد وعمره تقدير سبع سنين، وكان له زوجتان: أخت صمغار وأخت بُزلار، وكان يحبها كثيراً، وأم محمد وهي أخت الخوندة أُردو.
وكان يتلو القرآن جيداً، ويلازم تلاوته في المصحف، ويحب أهل القرآن ويجالسهم، ويحب الفقراء. ولم يكن فيه شرٌ ولا انتقام. وقبل خروجه من دمشق أحضر إليه قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي الى القصر، ووقف أملاكه وخصّ الجامع الذي أنشأه بدمشق بمبلغ ستين ألف درهم في كل سنة من صلب ماله، رحمه الله تعالى. ومضى كأن لم يكن.
ولم أر مثل ما ناله من السعادة التي فاضت عنه على والده ووالدته وإخوته وأقاربه ومماليكه، لأن والده كان أمير مئة مقدم ألف، وأخواه أميري طبلخاناه، وولده أمير طبلخاناه، وذو قرابته الأمير شهاب الدين شعبان أمير طبلخاناه، ودواداره الأمير عز الدين طقطاي أمير طبلخاناه، ومملوكه سيف الدين جوبان أمير عشرة، وبقية مماليكه جماعة منهم لهم الإقطاعات الجيدة القوية في الحلقة. واعتنى بجماعة من أهل حماة وحلب ودمشق، وخلّص لهم الطبلخانات.
وعلى الجملة فكانت سعادة زائدة عن الحد، لكنها ختمت بهذا الشرّ الكبير الذي فاض عنه على ذويه، فلا قوة إلا بالله العلي العظيم.
بقدر الصعود يكون الهبو ... طُ فإياك والرُتبَ العاليه
ومن جملة ما أرى من العز أنه كان قد توعّك وحصل له سوء مزاج، فكان عند السلطان في المرقد وهو جالس ورجلاه الى ركبتيه في حجر السلطان وهو يكبّسهما بيده ويرش الماورد على وجهه، ويتولى تمريضه وطبّه وعلاجه وخدمته بنفسه. وكان ولد السلطان وهو إبراهيم أكبر من أبي بكر قد مرض بالجدري فمات إبراهيم ودفن ولم يره أبوه ولا عاده شُغلاً منه بتمريض يلبغا، فهذا نهاية في العز.
ومن جملة الذلّ الذي رآه أن تولى خنقه في قلعة قاقون مشاعليّان ودفن في أرض قاقون جسداً بلا رأس، اللهم خلّصنا من شرور هذه الدنيا الغرارة.
وقلت أنا فيه وقد التزمت الزاي المشددة:
دعِ الدّهرَ يُعلي من أراد الى السُهى ... ودافعه من وقتٍ لوقت وجَزِّهِ
فقد نال منه يلبغا فوق ما ابتغى ... وقصّته تُجلى على المتنزّه
وأُنزل من عند الثريا الى الثرى ... وأمسكه صرفُ الرّدى في محزّه
وألحفه العيشُ الغليظُ رداءَهُ ... على لطفِ معناه ورقّة بزّه
فلا سعدَ إلا ما رأيناه نالهُ ... ولا ذلَّ إلا ما رأى بعد عزّه
اليلداني
أبو محمد الصحراوي عبد الرحمن بن عبد المولى.
يلقطلو
بنت أبغا الخاتون.
كانت امرأة ديّنة صيّنة تقيّة نقيّة، محبّة للخير وأهله، وكانت عمّة غازان وخربندا، وكانت بين المغل جليلة القدر نبيهة الذكر، وافرة الحُرمة، مسموعة الكلمة، ذات شهامة وفروسية، وكانت مزوّجة بعرب طي، ومنازلها لا تبعد من أطراف بلاد الإسلام، ولما مات زوجها المذكور ركبت بنفسها وقتلت قاتله وقطعت رأسه وعلّقته في قلادة فرسها، وبقي الرأس على هذا زماناً طويلاً حتى كُلّمت فيه فألقته، وقيل إنما ألقته بأمر اليرلغ، ولم تتزوج بعد عرب طي، وحرص الأفرم على زواجها وكتب إليها في ذلك وأخذ كتب السلطان وسلار إليها فيه، وبذل لها حمص وبلادها صداقاً عنه فنهرت رسله وردّتهم بالخيبة، وقالت: أنا أنصح أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ما أنصح فلان وفلان وفلان، فإن كانت مناصحاتي للمسلمين هي التي أطمعت الإفرم فيّ فما بقيتُ أناصحهم، وكيف تجاسر الأفرم عليّ، ومن هو الأفرم؟ وأنا أقل كوتلجي عند مثل الأفرم.
وقدمت هذه يلقطلو الى الشام وتوجهت الى الحج في سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.(3/58)
قال القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله: وكنت حاجّاً في تلك السنة فكنت أرى منها امرأة تعد برجال حزماً وعزماً وكرماً، وعليها سيماء الجلالة ووسامة الملك، وتصدقت بأموال كثيرة، قيل إنها تصدقت في الحرمين بثلاثين ألف دينار، وكانت تركب في الطريق محفة، وتركب الخيل، وتشدّ في وسطها التركاش ويُشال عليها الجتر، وكانت تضرب حلقات صيد وتتصيد طول الطريق. وكانت بحر كرم وغاية إحسان، ولما قدمت دمشق خرج الأمير سيف الدين تنكز للقيّها ولاطفها حتى دخلت دمشق بغير جتر على رأسها.
اليمني
الشيخ تاج الدين عبد الباقي، اسمه محمد بن أحمد.
ابن يمن
قاضي القضاة الحنفي.
ينجي
الأمير سيف الدين السلاح دار.
كان من جملة الأمراء بدمشق، ولما جاء الفخري وملك دمشق كان هو فيها مقيماً في شدّ الدواوين، وكان يصدّ الفخري وغيره عن أشياء كثيرة من طلب الناس.
ومرض مدة بعد ذلك وتوفي - رحمه الله تعالى - في أوائل سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
ينغجار
الأمير سيف الدين الناصري أخو الأمير سيف الدين آرغون الدوادار الناصري.
كان سكنه على بركة الفيل في حكر الخازن، وأُخرج الى الشام سنة ثلاثين وسبع مئة فيما أظن، وأقام بدمشق مدة، وولي نيابة قلعة دمشق مدة، وولي الرحبة، وولي نيابة بعلبك مديدة في أيام الأمير سيف الدين يلبغا.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بدمشق في ثامن عشر جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين وسبع مئة.
يوسف بن إبراهيم بن جملة
الشيخ الإمام العالم الفقيه قاضي القضاة بالشام، الحوراني المحجّي الشافعي الأشعري.
كان قد تفقّه مدة لابن حنبل رضي الله عنه، ثم إنه انتقل الى مذهب الشافعي، وتميّز وناظر الأقران، وأخذ عن الشيخ صدر الدين بن الوكيل، وعن قاضي القضاة شمس الدين بن النقيب، وعن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني. وصار من الأعيان، ونظر القمر الى جماله وهو خزيان، وجالد فرسان البحث وجادلهم، وفضّ على الطلبة ما عنده في خزانة علمه وجاد لهم.
ولما باشر قضاء الشام وتولى بحكمه الأوامر والأحكام، باشر ذلك بصلف وأمانة، وعفاف لم تتطرق إليها جناية ولا خيانة، وكان ذا مهابة وسطوة على المريب، وشدة وطأة على القريب والغريب:
قاضٍ إذا التبس الأمران عنّ له ... رأيٌ يفرّق بين الماء واللبنِ
القائل الصدق فيه ما يضَرّ به ... والواحد الحالتين السرّ والعلن
الفاصل الحكم عيَّ الأولون به ... ومُظهر الحقّ للساهي وللذّهن
وكان فيه ديانة وحسن عقيدة، وله محاسن كل منها بيت القصيدة.
وكان في أيام نيابته لقاضي القضاة جلال الدين بدمشق قد قام على الشيخ تقي الدين بن تيمية في مسألة الزيارة، وسدّد سهمه إليه وأطلق زياره، وانتصب لهذا الأمر، وأوطأ قدميه على الجمر، ولم يُصلّ على جنازته، وتبرأ من حيازته.
ولم يزل على حاله الى أن وقعت له تلك الواقعة التي كان فيها غرضاً للسهام الرواشق، ووقته في وقتها كل غاسق، ودخل الى دار السعادة وهو قاضي القضاة وخرج منها وهو فاسق، واعتُقل في القلعة مدة، وحلّت به في هذه الواقعة كل شدة، ثم إنه أفرج عنه بعد مدة، وأعطي تدريس المسروريّة بعد أن كاد يموت غمّاً، كما جرى لسيبويه في المسألة الزنبورية.
ولم يزل بعد ذلك على حاله الى أن غاض ماء حياته، وفاض دمع باكياته.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، ودفن بوادي العظام عند أهله.
ومولده سنة ستّ وثمانين وست مئة.
وكان قد درّس بالدولعيّة، وخرّج له شيخنا علم الدين البرزالي عن الفخر علي وجماعة.
ولما توفي قاضي القضاة علم الدين الأخنائي ولي هو بعده قضاء القضاة بدمشق، وذلك في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، لأن الأمير سيف الدين تنكز كتب في أمره للسلطان بعناية ناصر الدين الدوادار، وباشر القضاء على أحسن ما يكون من الصّلف والعفة. وكان فصيحاً بليغاً شديد العارضة في البحث.(3/59)
ثم إن حمزة التركماني أحرف الأمير سيف الدين تنكز عنه وأغراه، ولم يزل به الى عقره وقال عنه إنه رشا ناصر الدين الدوادار بالذهب على القضاء، وهذا أمر أنا وغيري نستبعده من الجانبين. وكان تنكز قد فوّض إليه الأمر في الشيخ ظهير الدين لأنه لم يصح ما نقله عنه، فبالغ ابن جملة في تعزير الظهير واستقصى، والاستقصاء شؤم، فعُقد له مجلس في يوم الجمعة تاسع عشري شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وقد بيّت القضية له حمزة، فدخل وهو قاضي القضاة في الشام، وخرج وهو فاسق قد حكم بعزله وسجنه في القلعة. وكانت واقعة غريبة في تلك الأيام لم يعهد الناس مثلها.
أنشدني إجازة لنفسه القاضي زين الدين عمر بن الوردي:
دمشق لا زال ربعُها خَضِراً ... بعدلها اليوم يُضربُ المثلُ
فضامنُ المكْسِ مطلقٌ فرحٌ ... فيها وقاضي القضاة معتقلُ
وقلت أنا في ذلك:
العفو يا ربّ من بلاءٍ ... قوى الورى ما تطيقُ حَمله
أمرٌ جرى في الوجود فرداً ... يا عجباً وهو لابن جَملَه
وأقام في الحبس خمسة عشر شهراً الى أن شفع فيه موسى بن مهنا، وتحدث الأمير سيف الدين تنكز مع قاضي القضاة شرف الدين المالكي في عاشر صفر سنة ست وثلاثين وسبع مئة في إخراجه من الاعتقال، فقال القاضي: يكتب خطه، ويُشهد عليه أن الحُكم الذي صدر منه في حقه صحيح، فلم يُجب الى ذلك، وتردّد الرسول إليه في ذلك غير مرة، ثم إنه أجاب الى أنه يمشي الى مجلس المالكي ويسلم عليه، فخرج من القلعة يوم الإثنين ثالث عشر صفر الى دار القاضي المالكي، ثم الى الجامع، ثم الى أهله بالمدرسة المسرورية.
وولي القضاة بعده القاضي شهاب الدين بن المجد عبد الله.
ولما خرج من الاعتقال أُعطي تدريس الدولعيّة، ثم تمرّض، وخلت المدرسة الشامسة البرانية، فدرّس بها أياماً بعد ذلك زين الدين بن المرحّل، وكانت وفاته بالمسرورية.
وكنت بالديار المصرية لما رسم السلطان الملك الناصر بولايته قاضي القضاة، فكتبت له تقليده بذلك ونسخته: الحمد لله الذي أعلى منار الشرع الشريف بجماله، وجلّى دُجاه بمن تحسدُه البدور في الأفق ليالي التمام على كماله، وشيّد ركنه بمن يقصر باع السيف في جلاده عند جداله، وحفظ قواعده بمن إذا أمسك قلم فتاويه تفيّأت الأحكام تحت ظلاله، وأحيا سنّته بمن تتضح به سنن حرامه وحلاله، ونشر لواء فضله بمن إذا ظمئ البحر المحيط فقُلْ دع ذا فإنك عاجز عن حاله.
نحمده على نعمه التي ادخرت لأيامنا الشريفة حَبراً عزّ بوجوده اجتماع المثلين، واقتطف ثمار العلوم فما داناه أحد في الفروع ولا وصل معه الى الأصلين، وطال بالعلم ثم بالحلم وزاد في تطوّلاته ولم يقتصر على الطولين، وأجمع الناس على استحقاقه، فلم تكن المسألة فيه ذات قولين.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ندّخرها ليوم القضاة والفصل، ونعلم أنها أصل الإيمان وما سواه فرعٌ والقياس ردُّ فرع الى أصل، ونعتمد على بركات فضلها في الأمر والنهي والقطع والوصل، وننال بإخلاصها على أعداء الدين عز العزم ونصر النّصل.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله خير من قضى ومضى، وأعدل من مضى، وسيف شرعه إذا استقبله مُشكل حكم فيه ومضى، وأشرف من ساس الناس بحلقة الرضى وحكمة المرتضى، وأعز من أغضى الشيطان لظهور ملّته على جمر الغضا.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير من اتّبع شرعه في أحكامه، وخاف مقام ربّه فشكر الله له حسن مقامه، وقصر خطاه على ما أمهره ونهاه، فلم يكن له إقدام على حركة أقدامه، واستبرأ لدينه في قضاياه فما أخطأت سهامه مرامي مَرامه، صلاة تتألق بأنوارها البروق اللامعة، وتتعلق بأستارها الخلائق في الواقعة، ما قبّلت ثغورُ الأقلام خدودَ المهارق الساطعة، ورقّمت إبَرُ الغمام برودَ الحدائق اليانعة، وسلّم تسليماً كثيراً الى يوم الدين.
وبعد: فإن منصب الشرع الشريف لا شك في عموم نفعه، ولا مَرية في أن السوابق جرت لنصبه، والعوالي جُرّت لرفعه، ولا ريب في أن شمم كلِّ عرنين ينقاد صاغراً لوضعه، ما حكمنا في شيء حتى نعود الى أمره ونعوذ، ولا خرجنا في السياسة عن حكمه لا على سبيل السهو ولا بحكم الشذوذ، ولا برز أمره بحكمٍ إلا وقال: سيفنا المنصور له دائم النفوذ.(3/60)
وكانت دمشق المحروسة كالشامة في وجنة الشام، وكالجوهرة التي أصبحت واسطة عقد الملك في الانتظام، هذا الى ما جاء في فضلها في السنّة، وثبت لنا في الخارج أنها أنموذج الجنة، قد شغر منصب حكمها الشافعي من قاضٍ يسوس الرعايا، ويجتهد في أحكامه حتى تدلّه الألمعية على المقاتل الخفايا، ويتوسم وجوه الخصوم وكلامهم فيكون ابن جلا وطلاع الثنايا، أمهلْنا آراءنا الشريفة هذه الفترة، واستخرنا الله تعالى فيمن نحليه بهذا الطوق أو نخصّه بهذه الدرّة، وذكر بين أيدينا الشريفة جماعة كل منهم جلّ إلا أن يكون قد جلّى، واستوعب الشروط المعتبرة، وكان بذلك الاستيعاب مُحلّى، فأشار مَن إشارته كالسهم الذي يصيب الإشارة، وبركةُ رأيه خالصة من حظوظ النفس الأمّارة، وعيّن من عزّت به الشريعة الشريفة منالاً، وزان رتبتها الجليلة فازدادت به جمالاً، وحمى حوزتها لأنه فارس البحث وجدّلهم وجدّ لهم ونسف مغالط النسفي ولو كانت جبالاً، ونقّى ونقّح كلام من مضى فكم قيّد مطلقاً يمرح وأطلق مقيّدا برَسف، وجلس في حلقة دروسه وكأنما تطلع من محراب داود ويوسف، يغرق المُزني في وابل فضله الصيّب، ويفوق عَرفُ عرفانه على القاضي أبي الطيّب، ويتلوّن الصباغ في شامله من عجزه، ويعترف الغزالي بأنه لم يكن من نسج طرزه، قد صاغ أصوله وابن الحداد في الفروع، والتذّ بكراه وصاحب التنبيه لا يذوق لذّة الهجوع، وأنفق من محصوله وابن الحاجب في ضيعة من صيغة منتهى الجموع.
وكان المجلس العالي القضائي الجمالي هو مُظهر هذه الضمائر والمقصود بهذه الأدلة والأمائر، لا تليق هذه الصفات إلا بذاته، ولا تحسن هذه النعوت إلا بأدواته. فلذلك رُسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني المالكي الناصري الناضري، لا زال الرعايا بعدله في أمان، ومواقع اختياره ترتاد لهم الكافي الكافل من رب السيف والطيلسان، أن يفوّض إليه القضاة الشافعية بالشام المحروس ولاية أُحكم عقدها، وانتظم عِقدها، وتبلج عُرفُها وتأرّج عَرفُها. فليأمر بالمعروف وينْهَ عن المنكر، ويسير سيرة عمرية تُتلى محاسنها وتشكر.
وليأخذ بحق المظلوم ممن ظلمه، ويجر لسان قلمه بما قامت به البيّنة فعلمه، وليتّبع الحق إن كان مع المشروف أو الشريف، ويطلب رضى الله تعالى في خذلان القوي ونصرة الضعيف.
وليُسوّ بين المتخاصمين في موقفهما عنده، ويسمع الدعوى إذا تمت والجواب إذا أكمل قصده، وليُلِن جانباً لمن حضره، ويتمسك بآداب الشرع التي حضّه عليها وأمره.
وليتحرّز من أمر الشهود في كل شيء ولينقّب عن أحوالهم فإن منهم من يموت على الشهادة وهو حي، ويتبعهم بألمعيّته في كل أمر، ويسمع شهادتهم بفطنة إياس وذكاء عمرو.
والأيتام فليولّ عليهم من يراقب الله في أموالهم، ويخشى الله في معاملاتهم، فكفى ما بهم من سوء حالهم، ولا يركن في أمرهم إلا لمن اختبره المرة بعد المرة، وعلم أن عفته لا تسامحه في التماس الذّرة.
والأوقاف فليُجرِ أمورها على النظام البارع ولا يتعدّ بها شروط الواقفين، فإن نصّ الواقف مثل نصّ الشارع.
والأيامى فليزوجهنّ من أكفائهن شرعاً، ويمنع من يُلبسهن من العَضْل دَرعاً. والأنكحة الأهلية يستوضح عقودها، والخلية يعتبرها شهودها. ومال المحجور عليه يودعه حرزاً يُحفظ فيه، ومال الغائب، وكذلك المجنون والسفيه.
ووقائع بيت المال المعمور فلتكن مضبوطة النظام، محفوظة الزّمام، مقطوعة الجدل والخصام. ونوابه في البلاد والجهات والنواحي المتطرفات هو المطلوب عند الله بجنايتهم، والمحاسب على ما اجترحوه من ولايتهم. فلا يولّي من يراه فقيهاً " وإذا تولّى سعى في الأرض ليُفسد فيها " ، ولا من اتّصف بالجهل، ورأى زينة المال والأهل، بل يتحرّ في أمورهم، ويتّبع معاملتهم في غيبتهم وحضرهم، فأنت أدرى بما إليه الأمر يؤول، وكلكم راع وكل راع مسؤول.
والوصايا كثيرة ومنك تُعرف، وإليك ترجع وتصرف. فما نُعلّم عوانك الخمرة، ولا نعرّف صنّاعَك كيف تصنع الشذرة، فما تحتاج الى أن نسردها، بل نجمعها ولا نفردها، وهي تقوى الله عز وجلّ التي مَنْ تمسّك بها فاز قِدحُه، وأمِن سَرحُه، وتعيّن ربحه وتبيّن نُجْحه.
والله تعالى يتولاك، ويعينك على ما أولاك، ويزيدك مما أولاك.(3/61)
والخطّ الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه حجة في ثبوت العمل بما اقتضاه. والله الموفِّق بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى.
يوسف بن أحمد
ابن عبد العزيز بن محمد بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن طاهر، الشيخ الإمام الفاضل الصدر الكبير بهاء الدين أبو المحاسن ابن الصدر كمال الدين بن العجمي الحلبي، سبط الصاحب كمال الدين بن العديم.
قال شيخنا البرزالي: روى لنا جزءَ ابن عرفة عن النجيب عبد اللطيف الحرّاني، وسمع كثيراً، وقرأ الفقه، واشتغل وحصّل وكتب المنسوب، ودرّس بحماة وولي كتابة الإنشاء بدمشق، وحكم بحماة نيابة.
وكان صالحاً ديّناً مشكوراً محبَّباً الى الناس.
توفي - رحمه الله تعالى - سابع عشري جمادى الآخرة سنة ست عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وخمسين وست مئة.
ودفن بتربة خاله، قبالة جوسق ابن العديم ظاهر دمشق.
وتوفي بعده ولده القاضي عزّ الدين محمد بعشرة أيام، فإنه توفي - رحمه الله تعالى - تاسع شهر رجب سنة عشر وسبع مئة وولي بعد القاضي بهاء الدين بن العجمي تدريس النجيبية القاضي نجم الدين الدمشقي الشافعي نائب الحكم.
يوسف بن أحمد بن جعفر
ابن عبد الجبار الفقيه الإمام العالم الفاضل جمال الدين الشاطبي الشافعي.
كان فاضلاً اشتغل بفنونه وحصّل فضائل، وله نظم ونثر، وفيه أمانة ونهضة وديانة، وشهد له القاضي بدر الدين بن جماعة وغيره بأهلية التدريس والاشتغال والإفادة.
وولي خطابة جامع جرّاح مدة يسيرة، وكان يخطب بإنشائه.
وأدركه أجله دون الأربعين.
توفي - رحمه الله تعالى - حادي عشر شهر رمضان سنة سبع عشرة وسبع مئة.
يوسف بن أحمد بن إبراهيم
علم الدين الخطيب القناوي الشافعي الأديب.
كان من الرؤساء الأعيان الكرماء الأجواد الأذكياء.
قرأ الفقه على جلال الدين أحمد الدشناوي، وكانت له معرفة جيدة بحلّ الألغاز، ونظم فيها أشياء كثيرة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شهر رجب سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وله لغز في لابس، الثاني من قوله:
يبين إن صحّفت مع قولِ لا ... وهو إذا صحّفته لا يبين
وله لغزٌ في مغني:
ما اسمٌ إذا عكستهُ ... يُطربُ إن سمعتَهُ
يُنعِمُ بالوصل متى ... صحّفت ما عكسْتَهُ
وله لغز في زغل:
وما لغزٌ إذا فتّشت شعري ... تراه مسطّراً فيه مسمى
وإن تعكسهُ كان من التحرّي ... إذا حققته فيالبير يُرمى
وفاعله إذا نمّوا عليه ... فيخشى أن تُزال يداهُ حتما
قال كمال الدين الأدفوي: تولى الخطابة ببلده، وناب في الحكم في مواضع شتى، منها دشنا وفاو من بلاد قوص، والمنشأة، وطوخ من بلاد إخميم. وكان يكرم الوارد.
يوسف بن أحمد بن أبي بكر
ابن علي بن إسماعيل بن عمرو بن عبد المجيد، المسند المُعمّر، بقية الرواة، أبو علي الغسّولي المعروف بابن غالية.
سمع من موسى بن عبد القادر، والشيخ الموفق، وتفرّد في وقته.
وسمع منه خلق، فسمع منه شيوخنا الذهبي والبرزالي والمزي، وسمع منه المقاتلي، وابن النابلسي، والمحبّ الصدر أبو بكر بن خطيب حماة، والشهاب بن عُدَيْسة، ونجم الدين القحفازي، وخلق.
قال شيخنا الذهبي: كان شيخاً ساكناً فقيراً متعفّفاً، بدت منه هنات وسط عمره، ثم إنه كبر وصلحت حاله، وكان حجّاراً، ثم عجز ولزم بيته.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة سبع مئة.
وجبي له الكفن، ومولده بقاسيون سنة اثنتي عشرة وست مئة.
يوسف بن أحمد بن محمد بن عمر
الفقيه محب الدين المقدسي الحنبلي.
كان يشهد تحت الساعات بدمشق، ولديه فضيلة، وفيه إقدام وشهامة، ودخل بلاد الروم وغيرها، وسمع من خطيب مَرْدا، ولم يحدّث.
توفي - رحمه الله تعالى - في ثاني عشر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وست مئة.
يوسف بن أحمد بن يوسف
ابن عبد الله بن علي بن الحسين بن عبد الخالق بن شكر، الصدر نجم الدين بن علم الدين بن تاج الدين بن الصاحب صفيّ الدين بن شكر المالكي.
كان مدرباً بمدرسة جدّه بالقاهرة.
توفي - رحمه الله تعالى - في حادي عشر جمادى الأولى سنة عشر وسبع مئة.
يوسف بن أحمد بن محمد(3/62)
ابن يوسف بن عبد الغني الجذامي الإسكندري الفقيه، المالكي، الأديب صدر الدين، عرف بابن غنّوم - بغين معجمة ونون مشددة وواو بعدها ميم - موقّع الثغر.
كان فاضلاً ذكياً. كتب للقضاة زمناً طويلاً، ثم إنه انقطع بمنزله، وخمّس قصائد للصرصري.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
ومولده بالإسكندرية سنة ستّ وسبعين وست مئة.
قال كمال الدين الأدفوي أنشدني لنفسه، وقد سألته أن ينشدني شيئاً من شعره:
يا مَن يُسائل عن شعري ليرويه ... مهلاً فليس شعاري نظمَ أشعارِ
مُذ حلّ زائر هذا الشيب صيّرني ... بعد الصّبا وإزاري ذِكرُ أوزاري
قال: وأنشدني له أيضاً:
وبي غريب الدار مُستأنسٌ ... أسالَ دمعي منهُ خدّ أسيلْ
فإن أمُت شوقاً الى وصله ... ففي سبيل الله وابن السبيلْ
قال: وأنشدني له:
قُم نقترع بكر المدامة بُكرةً ... في روضة حسُنت وراقَتْ مَنْظرا
فالرّاح سيفٌ قاطعٌ لهمومنا ... أو ما تراه بالحَباب مُجوهَرا
قال: وأنشدني له أيضاً:
جَلا مسواكُ ثغرك خيرَ درّ ... فجلّ بذاك واكتسبَ المَزايا
وأنشد صحبهُ تيهاً وفخراً ... أنا ابن جلا وطلاعُ الثّنايا
يوسف بن أسعد بن علم السعداء
القاضي الرئيس صلاح الدين ابن القاضي سعد الدين بن العسّال.
شاب أنبته الزمان في رياض السؤدد وغرس، وفرح به الجودُ لما نبغ ورأس، لم أر في سنّة من حاز رياسته، ولا من ملك سعادته وسيادته، واتصف بلزوم المكارم، وحمل عن رفاقه الكلف والمغارم، هذا الى صورة أبدعها الجمال، وقامةٍ كالغصن إذا هبّت عليه الصّبا فماد ومال، يجلس في ديوانه، ويُرى إذا احتبى في إيوانه:
بوجهٍ يملأ الدنيا جمالاً ... وكفٍّ تملا العليا نَوالا
قصف غصنه، وأسلمه الى الحِمام حصنُه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة.
كان قد زوّجه الصاحب شمس الدين غبريال بابنته، واحتفل بأمره ودخل به الى ديوان الإنشاء بدمشق، وأحضر له توقيعاً من السلطان بمعلوم جيّد من العين والغلة والخبز واللحم والعَليق والكسوة. وكان مطبوعاً ظريفاً خيّراً كريماً رئيساً فيه حشمة، وتودد وحسن صحبة.
ولم يزل في خير وسعادة الى أن أُمسك الصاحب شمس الدين، فأُمسك هو أيضاً جملة جماعته، وصودر وناله بعض أذى وعصر، ثم طُلب الى مصر، وعاد بطالاً من كتابة الإنشاء.
وكان قد عمّر قاعة صغيرة، فصنعتُ أنا له أبياتاً كتبت فيها وهي:
دار يدرُّ نَداها ... إذا رأت زائريها
وينزل الضيفُ منها ... بجنّة يرتضيها
تكاد من فرط جود ... تهتزّ بالضّيف تيها
فكلُ طالع سعدٍ ... تراه من نازليها
وللورى في بناها ... أزاهرٌ تجتنيها
وكم بدورٍ تمامٍ ... من أهلها تجتليها
والشّمسُ في أُفقها من ... بنائها وبنيها
لا غروَ إن أدهشَتنا ... وحُسن يوسف فيها
يوسف بن أسعد
الأمير صلاح الدين الدوادار.
كان في مبدأ أمره نصف عامل في بيروت على ما قيل، ثم إنه بطّل الكتابة وتوصّل بالجندية الى أن صار دوادار الأمير سيف الدين قبجق، ثم آل أمره الى أخذ الأمرة بحلب، وولي بها الحجوبية في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا الحاجب، ثم ولي بها شدّ الدواوين، ثم طلب الى مصر مرات، ثم إن السلطان ولاه ثغر الاسكندرية عوضاً عن بكتمر والي الولاة في شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبع مئة، ثم إنه ولي منفلوط بالصعيد، ثم إنه جُعل مشدّ الدواوين بالقاهرة أيام وزارة الجمالي.
ثم عزل وبقي في مصر أميراً، ثم إن السلطان جهّزه رسولاً الى القان بوسعيد، فعاد وقد أشاع الناس أنه يكون وزيراً، فلما وصل الى مصر سُعي علي، فبطل ذلك، فسعى له الأمير سيف الدين بكتمر الساقي لما مات الأمير شهاب الدين المهمندار، فرسم له السلطان بالمهمندارية، فأقام فيها قليلاً.(3/63)
ولما توفي الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار جعله السلطان دواداراً مكانه، وكان القاضي شرف الدين أبو بكر بن الشهاب محمود قد رُسم له بعده بيويميات يسيرة بكتابة السر بمصر، فقاسى شرف الدين منه شدائد، وأنكاداً كثيرة، وتوجها صحبة السلطان الى الحجاز سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وهما في ذلك، النكد والشرّ، ولما حضرا من الحجاز أقام القاضي شرف الدين قليلاً وهو يعمل عليه الى أن عُزل وأُخرج الى دمشق، وبقي صلاح الدين في الدوادارية، وقد استطال على الناس أجمعين، واستطار شرّه خصوصاً على الكُتّاب، فحسّنوا للسلطان أن يخرج كاشف الثغور الحلبية، فتعلّل، وانقطع في بيته مدة شهرين، ولما قام ودخل الى السلطان عزله في ثاني عشر شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، وحضر الى صفد أميراً، فأقام بها، ونقل الى طرابلس، ثم نقل الى حلب، وجُعل بها والي البر فيما أظن، ثم إنه حج بعدما نقل من حلب الى طرابلس.
وورد الخبر الى دمشق بوفاته في جمادى الأولى سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
وكان يكتب خطاً حسناً، وله مشاركة كثيرة في تواريخ وتراجم الناس، وكان كافياً ناهضاً فيما يتولاه، خبيراً بما يفوّض إليه، إلا أنه كان مفرط الشّح الى الغاية.
لو مات من عطشٍ والكوزُ في يده ... وكان ممتزجاً بالشّهدِ ما شرِبا
إلا أنه رحمه الله تعالى، وقف داره وهي عظمى بحلب مدرسة على فقهاء المذاهب الأربعة، ووقف كتّاب أيتام بالمدينة.
وكان يدّعي النظم، أنشدني من لفظه صلاح الدين خليل بن رمتاش بصفد، قال: أنشدني من لفظه صلاح الدين الدوادار وقال إنهما له:
ما اللعبُ في النار في الميلاد في سفَهٍ ... لكنما هو للإسلام مقصودُ
يُراد كبتَ النّصارى أن ربهُم ... عيسى بنَ مريم مخلوقٌ ومولود
وكانت عنده كتب عظيمة من كل فن، وكان إذا كان بطّالاً مثل مثل الزلال الحلو البارد، فإذا ولي ولو حراسة الدرب مثلاً انسلخ من ذلك اللطف ولبس لمن يعرفه ولمن لا يعرفه جلد النمر، وتحدث بحراسة الدرب في كل ما في الدولة من الوظائف، قال له يوماً الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب حلب لما ولي الشدّ بعد بطالته: يا صلاح الدين ما في الدنيا مثلك إذا كنت بطّالاً.
قلت: ولهذا لم تكن تطول له مدة في ولايته.
يوسف بن إسماعيل
ابن عبد الكريم بن عثمان، الشيخ الجليل المسند تاج الدين الحلبي.
سمع من الضياء صقر الحلبي وغيره.
وتوفي رحمه الله تعالى بكرة الخميس ثامن عشر شوال سنة تسع وعشرين وسبع مئة. أجاز لي رحمه الله في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، وكتب عنه الشيخ تقي الدين محمد بن رافع.
يوسف بن إسماعيل بن عثمان
ابن محمد، الشيخ الإمام تقي الدين ابن الشيخ الإمام، العلامة رشيد الدين المعروف بابن المعلم.
كان فقيهاً، درّس بالمدرسة البلخية مدرسة والده بدمشق، وكتب في الفتوى، ثم إنه توجه هو ووالده في الجفل الى الديار المصرية، وأقاما هناك مدة بجوار الجامع الأزهر.
وتوفي في خامس جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وسبع مئة. وفقده والده، ثم إنه عاش بعده شهراً واحداً ولحقه بالوفاة رحمهما الله تعالى.
يوسف بن أبي بكر
الصّدر الرئيس الكبير القاضي ضياء الدين بن خطيب بيت الآبار الدمشقي.
صدرٌ صدره رحيب، ورئيس ما له في زمانه ضريب، وكبير يكون الجبل الراسخ عنده صغيراً، وكريم لا يزال الجود على ماله مُغيراً، ذو مروءة يسعى أجرُها بين الصفا والمروة، ونفس ما ترى أن تحلّ في المجلس إلا في الذروة، منزله كعبة الوُرّاد، وخوانه منهلُ الروّاد، كان أهل الشام به يجدون الجدا، ويجتلون من وجهة قمر الهدى، ويحتلون من بابه في مراتع الندى.
إن جادَ للعافي أجاد وإن سعى ... في ضيق طرق للسعادة وُسِّعا
عن نشره فاحَ النسيم معنبِراً ... وبشُكرِهِ غنّى الحمام مرجّعا
انتقل من الشام الى الديار المصرية بطلب السلطان، ونسي بإقباله عليه ما ألفه شبابه في نعيم الأوطان، وباشر الوظائف الكبار فسدّها، وأصلح فسادها وأحكم عقدها بكفاية وأمانة، وعناية وإعانة، خلا أن الزمان خانه أخيراً، وأراه بعد عزّه يوماً كان من الذلّ عبوساً قمطريراً.(3/64)
فأقام في بيته عاطلاً، ولم يزل الدهر ببلوغ أمانيه مماطلاً الى أن أمسى منزل الضياء وقد أظلم، وراح الى من هو بسريرته علم.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ذي الحجة سنة إحدى وستين وسبع مئة.
ومولده تقريباً سنة تسع وثمانين وست مئة.
كان أولاً بدمشق في ديوان تنكز، وفيه سيادة وعنده رياسة، داره مألوف الضيفان، ومأوى الأصحاب والإخوان، متى جاء الإنسان الى منزله وجد كل ما يختاره إن كان هو حاضراً أو لم يكن، يجد جميع ما يحتاج إليه الى أن يروح ولو أقام جمعة وأكثر.
ولما تولى قاضي القضاة جلال الدين القزويني قضاء الديار المصرية في سنة سبع وعشرين وسبع مئة، طلبه من السلطان، فأحضره على البريد، فولاه نظر الصدقات الحكمية والأيتام، وكان يحضر دار العدل مع القضاة.
وساد في القاهرة ورأس، وأحبه المصريون لمكارمه ومروّته وحلمه، وولاه السلطان الملك الناصر محمد مطابخ السكر وولاه نظر الأهراء مع ما بيده، وتولى نظر البيمارستان المنصوري، فسلك فيه أحسن السلوك، ورافق فيه الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك، وبعده الأمير علم الدين الجاولي، وبعده الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا، ووقع بينهما، وعُزل منه في الأيام الصالحية إسماعيل، ثم تولاه، ورافق فيه الحاج أرقطاي نائب مصر.
وكان قد تولى أيام الملك الناصر محمد حسبة القاهرة ومصر.
وكان قبل ذلك محتسب القاهرة مع البيمارستان، ولما كان الغلاء في سنة ستّ وثلاثين وسبع مئة جمع له السلطان بين الحسبتين.
ولما خرج القاضي جلال الدين من القاهرة الى قضاء الشام تعصّب شرف الدين النشو عليه، وساعده عليه غيره، وأخذوا منه الحسبتين والصدقات وأبقوا عليه البيمارستان.
فلما كانت أيام الصالح إسماعيل ولاه نظر الدولة مع البيمارستان، فباشر ذلك مديدة، ولم يتناول معلوماً، وطلب الإعفاء، فأعفاه، ثم ولاه الجوالي مع حسبة القاهرة والبيمارستان، ثم إنه وقع بينه وبين الأمير بدر الدين جنكلي، فعزل من الجميع في أواخر دولة الصالح ولزم بيته.
فلما كان في أيام الكامل تولى نظر البيمارستان والحسبة بالقاهرة، ثم إن علاء الدين بن الأطروش نازعه في وظائفه هذه مرات، وتولاها، ثم تعاد عليه، ثم إن الأمير سيف الدين صرغتمش اعتمد عليه في الأوقاف بمصر والشام، وكان يدخل به كل قليل الى السلطان الملك الناصر حسن، ويخرج من عنده بتشريف، وزادت عظمته ووجاهته، وبالغ في إكرامه وتقديمه على الناس كلهم.
ولما أمسك صرغتمش قُبض عليه، وضُرب وعُصر، وأخذ منه شيء قليل، وأخرجوه الى قوص، فتوجه إليها، وأقام بها سنة وأكثر، ثم رُسم بعوده الى القاهرة، فأقام بها في بيته بطالاً الى أن توفي.
وكان شكلاً تاماً غليظاً، عليه مهابة وله عبسة، وهو مع أصحابه الذين نعرفهم من ألطف ما يكون، وما رأيت أكثر رياسة منه، ومع ذلك طاهر اللسان، لا يذكر أحداً إلا بخير، ويعامل صديقه وعدوه بمعاملة واحدة. يملك نفسه ولا تظهر عليه كراهة لأحد، وصدره على طعامه متسع، وكل لأهل الشام نِعْمَ الذخيرة، انتفعوا به كثيراً.
وقلت لما بلغتني وفاته بالقاهرة في ذي الحجة سنة إحدى وستين وسبع مئة، رحمه الله تعالى:
ما لنا في سوء عيشٍ ... عمّنا فيه الشقاءُ
وعلى الدنيا ظلامٌ ... أترى مات الضياءُ
وكان الشيخ شهاب الدين أحمد بن أيبك الدمياطي قد خرّج له أربعين حديثاً عن أشياخه الذين سمع منهم في صغره، وحدّث بها في داره برأس حارة زويلة بالقاهرة في سنة خمس وأربعين وسبع مئة، وكنت فيمن سمعها عليه، وكتبت أنا عليها تقريظاً نظماً ونثراً، من جملة ذلك:
كريمٌ ساد بالأفضال حتى ... غدا في مجده بادي السّناء
له ذكرٌ يطبّق كل أرض ... فيملأ جوّها طيبُ الثناء
فما تخفى عُلاهُ على بصير ... وإن تخفى فذو حسدٍ مرائي
وهَبني قلت هذا الصبح ليل ... أيعمى العالمون عن الضياء
ولما كنت بالقاهرة سنة خمس وأربعين وسبع مئة كتبت له عن السلطان الملك الصالح إسماعيل - رحمه الله تعالى - توقيعاً بنظر الجوالي بالقاهرة ومصر والوجهين قبلياً وبحرياً، ونسخته:(3/65)
الحمد لله الذي جمّل أيامنا الشريفة بضيائها، وكمّل دولتنا القاهرة بمحاسن أوليائها، وجعل نعمنا الغامرة تكاثر الغمام بآلائها، وضوّا ممالكنا العامرة بمن يجمّل النظر فيما يتولاه من نواحيها وأرجائها.
نحمده على نعمه التي لا تزال تجول وتجود، وتروم اختصاصنا بالمزيد من كرمها وترود، وتؤم حرمنا بأفضالها فتصول بنصول النصر على الأسود وتسود، وترد على حمانا الرحب فتجود بوافر أحسابها على أهل التهائم والنجود.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ترغم من الكفار معاطسهم، وتجذّ بحدّها منابت بهتانهم ومغارسهم، وتحسم بحسامها أبطال باطلهم وفوارسهم، وتهدم بإقامة منار الإسلام معابد ضلالهم وكنائسهم.
ونشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله الذي أعرض عن متاع الدنيا، ورغب فيما أعدّ الله له في الآخرة من المقام المحمود والدرجة العليا، وشُغل بذكر الله تعالى في اليقظة وقلبه في الرؤيا، وقام في نصرة الحق يسعى فشكر الله مقاماً وسعياً.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين سلكوا بهداه خير سبيل وفازوا لما اتّبعوه بالفخر المعظم والمجد الأثيل، ونصروا الدين الحنيف بطعن الأسمر المثقف، وضرب الأبيض الثقيل، وعزّ وجود مثلهم لما ضرب مثلهم في التوراة والإنجيل، صلاة لا يبلغ العدد أمدها، ولا يُنفذ الزمن مُددها، ما تبسّم ثغر صباح عن لعس ظلام، وتنسم روض أرض عن نفس شيخ أو ريح خزام، وسلّم تسليماً كثيراً الى يوم الدين.
وبعد فإن المناصب تعلو بمن يلي أمرها، وتشرف على غيرها بمن يعظّم الناس لأجله قدرها، وتفوق بمن يُطلع في ليالي التمام والكمال بدرها، وتكبُر بمن إذا تحدث فيها أجرى بالأموال والأمواه بحرها، وتفخر بمن إذا تولى نظرها جمع نفعها ومنع ضرها، ونظر الجوالي التي في الوظائف الدينية عدادها، والى القُرَب السنيّة معاجها ومعادها، والى الشرع الشريف ميلها واستنادها، وبسيفنا الذي تجرده مهابتنا انتصارها واعتضادها، لأنه استخراج مالٍ قد تقرر شرعاً، وأخصب في الحل مرعىً، ودرّ بالبركات ضرعاً، واتسع به الإسلام صدراً لما ضاق به الكفر ذرعاً، وقرّت به عيون الدين، وكيف لا تقر العين إذا أخذت من عدوها وهو لا يستطيع منعاً، لا يدخل الحول على ذمّي إلا جاء إليه من يطلب الجالية، وأحاط به الذلّ الذي يقول معه " ما أغنى عنّي مالَيَه " ، وتجددت له حال حالكة وحالة الإسلام حالية، على أن أهل الذمة في الذلة ماهرون، وتمام المصيبة أنهم يعطون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.(3/66)
وكان المجلس العالي القضائي الضيائي أبو المحاسن يوسف ممن جمّل الدول، وأسعفته الأيام بمراده حتى كأنها له من جملة الخول، وفخر زمانه بوجود مثله، وشهد حتى حسّاده بوفور فضله، وأجرى الله تعالي نهر دُرْبته فكان غير آسن، وبهر حُسن أوصافه حتى صدق من قال: إن يوسف أبو المحاسن، ورفع الله خبره فانتصب تمييزاً، ومضت له مدة في الشام والسعدُ يقول: هذا في مصر يكون عزيزاً، وخُطب الى الديار المصرية فوردها وحلّ بها فحلّ الأمور تصرفاً وعقدها، وولي المناصب العلية، وباشر الوظائف السنيّة، أحسن نظره في الأوقاف وأجرى أمورها على أجمل الأوصاف، ونظر في أموال الأيتام فنما حاصلهم وربا، وأجمل المعاملة لهم فما انتهى لهم سبب إلا أتبع سبباً، وتولى نظر البيمارستان المنصوري فغمره بحسن النظر وعمره، وأثّر فيه بنياناً لألأ الضياء شمسه وقمره، وزاد أوقافه ريعاً وملكاً، ونظم درّ تدبيره الجميل سلكاً، وباشر الحسبة الشريفة، فكانت بمعارفه أليق وأشبه، وأصبح قدرها بولايته أنبل وأنبه، وروّع أصحاب الغش بمهابته، وما لكل محتسب عند الناس حسبه، الى غير ذلك من نظر الأهراء التي ملأها حبّاً، وصبّ الله البركات فيها بنيته الطاهرة صبّاً، ونظر دار القنود التي حلّت بحديثه فيها، وتميز ارتفاعها جُملاً تعجِز واصفيها. هذا الى صدر رحيب، وخلق ما له مُشاكل ولا ضريب، وثناء هو في الذكر أبو الطيب، ووجه الى القلوب حبيب، فكأنه كعبة قصّاد، ومنزل روّاد، ومنهل ورّاد، وحِلبة جود سبق فيها حاتماً هذا الجواد. قد تورّع عن المناصب الدنيوية، وعرضت عليه أيامنا الشريفة وأيام والدنا الشهيد فلم يكن له فيها رغبة ولا نيّة، وندبناه لنظر دولتنا الشريفة، ورقيناه ذُرا شرفاتها المنيفة، فجعل نجوم أموالها أهلّة، وأمطر سحائبها المستهلّة، وأعرض عنها فما باشرها إلا تحلّة، ولوى جيده عنها واستعفى، ورنّق الإهمال في ناظره حتى أغفى، فأجبنا قصده وأعفيناه، وعلمنا تورّعه فآثرنا راحته إلا بما استثنيناه، وخبأنا له عندنا ما يناسب مراده ويوافق اجتهاده، ويعاضد اعتماده، عِلماً بإعراضه عن العرض الأدنى، وزهداً فيما وزرُه يبقى وحطامه يفنى.
فلذلك رُسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطان الملكي الصالحي العمادي أن يفوّض إليه نظر الجوالي بمصر والقاهرة المحروستين والوجه القبلي والوجه البحري مضافاً الى ما بيده.
فليباشر ما فُوّض إليه مباشرة عهدت من حسن اعتماده وشُهدت من وافر اجتهاده، وهو بحمد الله غنيٌ عن الوصايا التي تشير إليها أنامل الأقلام، وتخفق بها من قعقعة الطروس أعلام، فما نعلّم عوانه فيها خمرة، ولا نُطلع في أفق هذا التوقيع نجماً، ولو شاء أطلع شمس الصواب وبدره، ولكن تقوى الله تعالى ملاك الأمور المهمّة، والوصايا التي إذا راعاها الإنسان لم يكن أمره عليه غُمّة، فليجعلها لعينه نصباً ولقربه من الله قُربى.
والله تعالى يُديم صونه، ويجدد في كل حال عونه.
والخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه، حجة في ثبوت العمل بما اقتضاه، والله الموفّق بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى.
يوسف بن أبي البيان
رشيد الدين مقابل الاستيفاء بصفد.
كان شيخاً قديم الهجرة، وكان يهودياً أولاً، وخدم عند أرجواش، ثم عند التلاوي، وأسلم اختياراً من غير إكراه، لأنه كان يجتمع بالشيخ تقي الدين بن تيمية، والشيخ صدر الدين بن الوكيل.(3/67)
وكان شيخاً وادعاً لا شرّ فيه، يحتمل الأذى ولا يكافي عليه، قال: قال لي يوماً الشيخ تقي الدين بن تيمية: يا رشيد، قال ابن حزم: أول كذبة كذبها بنو إسرائيل أنهم زعموا أنهم دخلوا الى مصر في زمن يوسف الصديق، وهم اثنان وسبعون نفساً، وخرجوا منها مع موسى لما فروا من فرعون ست مئة ألف، قال: وكنت إذ ذاك يهودياً، فقلت له: يا سيدي هذا ابن حزم كان نبياً؟ فقال: لا. قلت: ولا كان من الصحابة؟ قال: لا. قال: ولا من آل بيت النبي؟ قال: لا. قلت: هذا ابن حزم ما كان يعرف اثنين واثنين أربعة؟ فقال: لأي شيء؟ قلت: ما يعلم مولانا أن قطعة الشطرنج أربعة وستون بيتاً، وإذا وضعت في الأول عدداً واحداً وفي الثاني اثنين وفي الثالث أربعة وفي الرابع ثمانية وهلمّ جراً، هكذا تضاعف العدد في كل بيت فبلغ العدد أخيراً ثمانية عشر ألفاً ست مرات، وأربع مئة وستة وأربعين ألفاً، خمس مرات، وسبع مئة وأربعة وأربعين ألفاً أربع مرات، وثلاثة وسبعين ألفاً ثلاث مرات، وسبع مئة وتسعة آلاف مرتين، وخمس مئة واحداً وخمسين ألفاً وست مئة وخمسة عشر عدداً، ومع ذلك فبنو إسرائيل إنما عدّوا الرجال، وأما النساء والصبيان والأشياخ الذين هرموا فلم يذكرونهم. فقلت له: إنا يا مولى رشيد الدين: قوم يخرجون في عدة ألف ألف نفس على القليل هاربين على وجوههم من فرعون، على ماذا حملوا زادهم؟ وأي ماءٍ إذا نزلوا عليه كفاهم، هذا بعيد من العادة. فلم يحر جواباً. فقلت له: أنا أتبرع لك بالجواب، وهو أنهم كان معهم موسى صلوات الله عليه، وبيده العصا التي يضرب بها الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عيناً، وعناية الله تعالى بهم تحملهم وتعينهم على ما يحتاجون إليه من كل شيء، وعلى الجملة فالذي استبعده ابن حزم لا ينكر، لأن هذا عدد كثير على ما يزعمونه.
وكان هذا رشيد الدين يحفظ كثيراً من ديوان العفيف التلمساني، وأظنه رآه واجتمع به، وكان بيني وبينه صحبة ومودة.
ولما توفي - رحمه الله تعالى - بصفد في ثالث عشري شهر رجب الفرد سنة إحدى وأربعين وسبع مئة، وكان قد عدّى الثمانين. حكى لي قال: رأيت في النوم كأنني قد أكلت اثنين وثمانين مثقالاً من الدرياق، والأطباء يقولون: إن كل مثقال لسنة، فلعلي أعيش هذا العدد، فعدّى الثمانين، وربما تجاوز عدد المثاقيل، وكان شيخاً طوالاً، ولم يتزوج عمره.
ولما توفي رحمه الله تعالى أخبرني بوفاته القاضي جمال الدين عبد الله الكاتب، وهو ابن أخت المتوفى، وهو إذ ذاك شابٌ يانع غض الشبيبة، فاشتغل خاطري عامة ذلك النهار بالقاضي رشيد الدين رحمه الله تعالى، فلما نمتُ رأيتني في المنام وأنا كأني أنشد الحكيم الفخر الطبيب ابن أخت رشيد الدين أيضاً وهو إذ ذاك شابٌ أيضاً:
الناس إما قادمٌ في مهده ... أو راحلٌ في نعشه يُتحاشى
هذا لزهرةِ هذه الدنيا أتى ... غضّاً وهذا قد ذوى وتلاشى
فانتبهتُ وأنا أذكرهما، وأعجبني هذا المعنى، ونظمت فيه في اليقظة، فلم ألحق هذه الطبقة، لكن فيه مقابلة أربعة بأربعة. وهو:
أرى أن البريّة وفد زهرٍ ... وفعلهم تطابق بالتساوي
فهذا قد أتى في المهد غضّاً ... وهذا راح فوق النعش ذاوي
يوسف بن حمّاد
الشريف جمال الدين الحسيني المشهدي الإمامي، شيخ الشيعة ومفتيهم.
حجّ مرات، وجاور بمكة، وله نظم.
مات في المعترك سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
يوسف بن دانيال
ابن منكلي بن صرفا، القاضي الإمام الفاضل بدر الدين ابن القاضي ضياء الدين.
تقدم ذكر والده في حرف الدال، التركماني الكركي قاضي الشوبك.
كان فقيهاً فاضلاً، قرأ على الشيخ تاج الدين، وعلى ولده. وأقام بالكرك مدة يُفتي ويدرّس، ثم ولي القضاء بالشوبك.
وكان حسن الشكل مليح الهيئة، فيه كرم ومروّة، وسمع من الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، وابن البخاري، ومن والده وغيرهم. وحدّث بدمشق والكرك والشوبك.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ثاني شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
يوسف بن داود بن عيسى
ابن محمد بن أيوب، الملك الأوحد نجم الدين أبو المحاسن ابن الملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر ابن الملك المعظم شرف الدين ابن الملك العادل أبي بكر.(3/68)
كان من أعيان أولاد الملوك وأكابرهم المشهورين بالفضل والديانة والجلالة والمكانة والتقدم في المجالس عند الملوك، وكان يُحسن الى الضعفاء والمرضى، يفرّق عليهم الأكحال والأدهان وغير ذلك بالقدس.
وتوفي سنة ثمان وتسعين وست مئة بالقدس، ودفن برباطه بالقدس عند باب حطّه.
ومولده في سنة ثمان وعشرين وست مئة.
يوسف بن رزق الله
القاضي جمال الدين الموقع، هو ابن أخت القاضي شرف الدين بن فضل الله وأخيه القاضي محيي الدين.
أظنه باشر الجيش مدة، ثم إنه انتقل الى كتابة الإنشاء، ورُسم له في وقت بكتابة الدرج في حماة عوضاً عن نجم الدين بن قرناص، ولكن لم يمكّن من المباشرة. ثم إن الأمير سيف الدين تنكز جهّزه الى غزة موقعاً، فأقام بها مدة، ثم إنه نقل الى توقيع صفد، وأقام بها مدة، ثم إن تنكز نقم عليه وعزله، وأقام بطّالاً، عزله بعلاء الدين بن نصر الله، ولما أُمسك تنكز طلع القاضي جمال الدين الى مصر، وعاد الى الوظيفة بصفد.
ولم يزل بها الى أن توفي - رحمه الله تعالى - في شهر ربيع الآخر سنة خمس وأربعين وسبع مئة. وكان قد ثقل سمعه، وأما باقي حواسه فإنه تمتع بها، ولعله قارب التسعين، وهمّته كما كان ابن ثلاثين سنة.
وكان فيه كرم ومروّة وعشرة، ودُفن بصفد ومات له بدمشق ولدان كانا شابين مليحين، صبر على مصيبتهما، واحتسب.
وأنشدني من لفظه لنفسه في سنة أربعين وسبع مئة بدمشق:
بدا لنا ينفخ عُثنونه ... وكبّر العِمّة واللّحيه
وعنفص الأنف لأفسو به ... فجئتُ أفسو طلعت خريه
يوسف بن سليمان
ابن أبي الحسن بن إبراهيم، الفقيه الأديب الشاعر الخطيب الصوفي الشافعي النابلسي.
نشأ بدمشق وقرأ بها الأدب على الشيخ تاج الدين اليماني، وقرأ النحو على الشيخ نجم الدين القحفازي وغيره، وحفظ التنبيه فيما أظن.
كان شاعراً قادراً على الارتجال، ماهراً في الإقامة على المعاني الجيدة والارتحال، ينظم القطعة على ما يُطلب منه بديهاً، ويجيد الإتيان بها والتصرّف فيها.
وكان لذيذ المفاكهة، جميل التخلف والمواجهة، صحب الناس وعاشرهم وجاملهم بالودّ وكاشرهم، وحاسنهم وما خاشنهم، وشاجنهم وما شاحنهم، وصافاهم وما نافاهم، فاشتمل الرؤساء على ودّه، والتقطوا من منادمته جنيّ ورده، وكان كما قال الحريري:
وعاشرت كل جليس بما ... يُلائمه لأروق الجليسا
فبين الرواة أدير الكلا ... م وبين السُقاة أدير الكؤوسا
وكان مليح النادرة، سريع الجواب في البادرة، وتنسّك في آخر عمره وحسُن حاله في نهاية أمره، وخطب فأشجى القلوب، وندّم على ما ندّ من الذنوب.
ولم يزل على حاله أن خلا من مقامه المنبر، وما ذكره صاحبه إلا استعبر.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ثامن عشر شهر ربيع الآخر سنة خمسين وسبع مئة في طاعون دمشق، انقطع يومين لا غير.
وحج في سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، ثم إنه حج في سنة سبع وأربعين وسبع مئة، عقيب موت ولده سليمان، فإنه حصل له ألم كبير بوفاته، وما رأى لنفسه دواء غير الحج.
وكان شاعراً يجيد المقاطيع لفظاً ومعنى، وله في ذلك بديهة مطاوعة، وفكرة متسرعة، وكان القاضي شهاب الدين بن فضل الله قد جدّد رسوم البدرية التي في أرض مَقْرى، وعمّرها في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا، وقرر فيها خطبة يوم الجمعة، وجعل هذا جمال الدين خطيباً بها، فهو أول من خطب بها، وكان أول يوم خطب به يوماً مشهوداً، اجتمع له القضاة والعلماء ووجوه الناس والأعيان، وعمل القاضي شهاب الدين ذلك النهار طعاماً كثيراً، وخلع فيه الخلع السنيّة، وخطب جمال الدين المذكور خطبة جيدة فصيحة الألفاظ بليغة المعاني، واستمر الى أن مات - رحمه الله - وهو يخطب من إنشائه.
وكتبت له توقيعاً بالخطابة، ونسخته:(3/69)
رُسم بالأمر العالي لا زال يكسو المنابر جمالاً، ويُكسب أقمار الوجوه من الخطباء كمالاً، أن يرتّب المجلس السامي جمال الدين في كذا ثقة ببلاغته التي يرف على مياهها ريحانُ القلوب، وفصاحته التي يكاد لفظها لمن يذوق يذوب، وبراعته التي إذا قال: أيها الناس فقد غزا الأسماع بجيش غير مغلوب، وعظاته التي إذا فاه بها بكى الناس ليوسف بأجفان يعقوب، وعبارته التي نسج منها ابن المنيّر على خير أسلوب، ومقاصده التي قطف ابن نباتة زهره من روضها المحبوب، لأنه في هذا العصر بحمد الله تعالى أفضل مَن عفّ ومن برّ، وأفصحُ خطيب لو كُلف مشتاق فوق ما في وسعه لسعى إليه المنبر.
فليباشر ذلك مباشرة يعقد على فخرها الإجماع، وتُشنّف بدرّها الأسماع، ويثق من إحسان هذه الدولة ببلوغ مناه، وإزالة عناه، وإزاحة ما يحجب غناه. فطالما خلت وظيفة كان يظنها له ملاذاً، وشغر منصب استسقى منه رذاذاً، ولاح رزق قلب وجهه في سمائه، وهذه الولاية تقول: " يوسفُ أعرضْ عن هذا " ، الى أن لمع به شهاب تألق، وأغدق وابل جوده الذي فاض وترقرق، فرقاه خطيباً، وهزّ بلطفه المنبر غصناً رطيباً، وضوّع أرجاءه بأرجه حتى قيل إنه ضمّخ طيباً فليُجر بعظاتها الراجزة سحب المدامع، ويوقظ البصائر بإرشاده من كل ذي طرف هاجع، ويُميل عِطف من يسمعه فإنه على غصن منبره بليل حُلّته بلبلٌ ساجع. وليستدرج القلوب الطائرة الى لقط حب التوبة، ويستخرج خبايا الندم على ما فات، فكم للنفوس من أوبة بعد عظيم الحوبة، ويغسل درن الذنوب بذكر الممات فكم لصخر القساوة به من لين وذوبة. وإذا وعظ فلا يعظ إلا نفسه التي يمحضها النصيحة، وإذا ذكّر فليذكر في ذلك الجمع انفراده إذا سكن ضريحه، فإن ذلك أوقعُ في نفس السامع، وأجلبُ لسحّ الجفن الهامي بالدمع الهامع، وليأخذ لذلك طيبه العاطر وزينته، ويرقى درج منبره بوقاره الذي لا تُزعزع الرياح سكينته، وليبلّغ السامعين بإفهام واقتصاد، ويذكّرهم بتقوى الله تعالى والموت والمَعاد.
وليأت بأدب الخطيب على ما يعلمه. ويحذر من تقعير اللفظ الذي يكاد أن يُعربه فيُعجمه، وتقوى الله تعالى جُنّة واقية، وجنة راقية، وسنّة باقية، فليلبس حلّة شعارها ويُعلي منازه منارها، والله يليّن لمقاله جامد القلوب، ويمنح بعظاته ما سود الصحف من الذنوب.
والخط الكريم أعلاه، حجة بمقتضاه، والله الموفق بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى.
وكان القاضي محيي الدين بن فضل الله لما تولى كتابة السر بعد شمس الدين بن الشهاب محمود قد رتّب جمال الدين المذكور في ديوان الإنشاء كاتب الغيبة على الموقعين، وكان يحضر الديوان بكرةً وعصراً، ويكتب اسم من تغيّب، ويؤخد من كل من غاب من جامكيته ما يخص كل يوم، ولازم الديوان مدة فتاقت نفسه ليكون من جماعة الجماعة في الموقعين، وأخذ يرشّح نفسه لذلك وينجمع عن الناس، وخلع ذلك الثوب الذي كان لبسه، فسلّطوا عليه الفخر عثمان النصيبي الذي كان يدخل الى تنكز، ويُمسخر بالناس عنده، فدخل يوماً الى تنكز وقال: يا خوند هناك صبي وما أقدر أعمل شغلاً إلا به، فقال: اطلبوه، فطلب في الحال، فأحضر، وأخذ عثمان يمسخر وينزل في قذاله، فتألم جمال الدين المذكور لذلك ألماً عظيماً وكاد يسافر من دمشق، وتيقظ له جماعة الشعراء في ذلك العصر، ونظموا فيه مقاطيع كثيرة، وجمعها زين الدين عمر بن الحسام الشاعر، وعملها صورة مقامة، وكتب بها نسخ كثيرة، ومما نظم في هذه الواقعة:
يوسف الشاعر من نقصه ... يروم جهلاً رتبة الفاضل
تطلّب التوقيع في جلّق ... فجاءه التوقيع في الساحل
وأنشدني من لفظه في فرس أدهم:
وأدهم اللون فات البرقَ وانتظرَهْ ... فغارت الريحُ حتى غلّبتْ أثرَهْ
فواضعٌ رجلَه حيث انتهت يده ... وواضع يده أنّى رمى بصره
شهمٌ تراه يُحاكي السهم منطلقاً ... وما له غرض مستوقف خبره
يعقّر الوحش في البيداء فارسه ... وينثني وادعاً لم يستثر غبره
إذا توقّل قطب الدين صهوته ... أبصرتَ ليلاً بهيماً حاملاً قمره
وأنشدني أيضاً لنفسه:
قد مضتْ ليلةُ الوصال بحالٍ ... قصّرت عن محصّل الأزمان(3/70)
أخبرتنا أن الزمان جميعاً ... قد تقضّى في ليلة الهجران
وأنشدني من لفظه لنفسه:
يعيبون من أهوى بكسرة جفنه ... وعندي لهذا العيب قد تمّ حُسنُهُ
فقلتُ وما قصدي سوى سيف جفنه ... إذا دام فتك السيف يكسَر جفنهُ
وأنشدني أيضاً ما قاله في بستان الصاحب شمس الدين:
ودولاب يحنّ بجسّ عودٍ ... على وترٍ يساسُ بغير جسِّ
فلما أن بدت منه نجوم ... حكى فلكاً يدورُ بسعدِ شمسِ
وأنشدني من لفظه له في مليح ينظر في مرآة:
سَقياً لمرآة الحبيب فإنها ... أمسَت لطلعته البهيّة مَطلعا
واستقبلت قمرَ السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقت معا
وأنشدني من لفظه وكان الغزّي يدّعيهما:
كأن السحاب الغرَّ لما تجمّعت ... وقد فرقت عنا الهموم بجمعها
نياق ووجه الأرض قعب وثلجها ... حليب ومرّ الريح حالب ضرعها
وأنشدني أيضاً، والغزّي يدّعيهما:
ونوّار خشخاش بكرنا نزوره ... وقد دُهش الرائي لحسن صفوفه
تغنّى به الشحرورُ من فرط وجده ... فنقّط بالياقوت ملء دفوفه
وكنت قد سمعت له وأنا بصفد في حدود العشرين وسبع مئة:
كأن ضوء البدر لما بدا ... ونوره بين غصون الغصونْ
وجهَ الحبيب زار عشّاقه ... فاعترضَتْ من دونه الكاشحونْ
ونظم زين الدين عمر بن داود الصفدي أيضاً في ذلك قطعة، وقد تقدمت في ترجمته فأعجبني نظم جمال الدين، وقلت أنا فيه:
كأنما الأغصانُ لما انثنت ... أمام بدر التّمّ في غيهبهْ
بِنتُ مليك خلف شِباكها ... تفرّجت منه على موكبه
وقلت أيضاً:
وكأنما الأغصان تثنيها الصّبا ... والبدرُ من خللٍ يلوحُ ويُحجبُ
حسناء قد عامت وأرخَت شعرَها ... في لجّة والموج فيه يلعب
وقلت أيضاً:
وكأنما الأغصان في دوحها ... يلوحُ لي منها سنا البدر
ترسٌ من التّبر غدا لامعاً ... يقيسه أسودَ بالشّبر
وكتبت أنا إليه ملغزاً في مكوك الحايك:
أيا مَن فاق في الآداب حتى ... أقرّ بفضله الجمُّ الغفيرُ
وأجرزَ في النّهى قصبات سبقٍ ... فدون محله الفلكُ الأثير
وأطلع في سماء النّظم زهراً ... يلوح فمَن زهيرٌ أو جرير
قطعت أولي النُهى في البحث سبقاً ... فما لك في مناظرة نظيرُ
إذا أغربت في الإعراب وجهاً ... فكم ثلجت بما تبدي الصدور
وإن قيل المعمّى والمورّى ... فذهنك نافد فيه بصيرُ
وها أنا قد دعوتك للتّحاجي ... لأنك في الحجى طبٌ خبيرُ
فما ساعٍ يُرى في غير أرض ... ولا هو في السّما مما يطيرُ
تراه مردّداً ما بين طردٍ ... وعكسٍ قصّرت عنه الطيور
ويلطَم كلما وافى مداهُ ... ويُسحب وهو مغلول أسيرُ
وتُنزع كل آونةٍ حشاهُ ... ويُلقى وهو للبلوى صبور
ويُرشف بعد ذلك منه ثغر ... ولا عذبٌ هناك ولا نميرُ
إذا ما سار أثّر في خطاه ... طرائق دونَها الروض النّظيرُ
يجرّ إذا سعى ذنباً طويلاً ... ويفتر حين يعلوه قصور
ويُسمع منه عند الجري صوتٌ ... له في صدره منه خَرير
قليل المكثِ كم قد بات تُطوى ... له من شقّة لما يطيرُ
ويفترش الحرير ويرتديه ... غطاء وهو مع هذا فقير
وتظهر في جوانبه نجوم ... وفي أحشائه فلكٌ يدور
فأوضح ما ذكرت فغيرُ خافٍ ... على مجموع فضلك ما أشير
ودُم في نعمة وسعود جدٍ ... وعزٍ ما سقى روضاً غديرُ
فكتب الجواب في أسرع وقت:(3/71)
أوجهُك لاحَ أم قمرٌ مُنيرُ ... وذكرُك فاح أم نشرٌ عبيرُ
طلعت طلوع شمس الصحو صُبحاً ... على فرس حكي فلكاً يسيرُ
ويا لله روضاً ضمن طرسٍ ... زهير في جوانبه جرير
رميت به إليّ فقلت هذا ... شعاع الشمس مأخذه عسير
أراني رمزه الوضاح حسناً ... ينبهني على أني حقير
وإني ملحَق بأقل صنفٍ ... إذا ما حقّق الجمُّ الغفيرُ
فمذ صحّفته فكري مَلولٌ ... ومذ نشرته باعي قصير
هو المأسور بالماسور لكن ... له في أسره مرح كثير
نشيط أيّدٌ ويقاد طوعاً ... بخيط متنه واهٍ طريرُ
يُراع لأن مهجته يَراعٌ ... له في الجوف من خوف صغير
يحور الى يمين من شمال ... وما يغنى بذا لكن يخور
غدا يسعى بأربعة سراعٍ ... وليس لمشيه بهم نظير
يخالف بين رجليه فيجري ... وترفعه يداه فيستطير
له نول يسير لكل حي ... وميت فيه إحسانٌ كثير
إذا أسدى إليه الخير مُسدٍ ... جزاهُ عليه وهو بذا قدير
كذاك صفاتك الحُسنى ولكن ... بدأت تطوّلاً وبنا قصور
ففخراً ثم ستراً ثم قَصراً ... فأين الثّمدُ والبحر الغزيرُ
وكتب هو يوماً متقاضياً:
إلى بابك العالي توجهتُ موقناً ... بسرعة نيل القصد قبل التوجهِ
وعادتُنا منك النجاح لقاصدٍ ... نحاك وأنت الجاهُ للمتجوّه
ومن مسّ دهر من تأوّه من له ... سواك وأنت الجبرُ للمتأوّه
فلاقاه بالحمد امرؤٌ وهو مطنب ... لخلق ولست القصدُ للمتفوّه
واقترح علينا يوماً القاضي شهاب الدين بن فضل الله معارضة أحمد بن حسن الموصلي في موشحه الذي أوله:
باسمٌ عن لآلٍناسمٌ عن عطرنافرٌ كالغزالسافرٌ كالبدرِ
فكان الذي نظمه ولم يلتزم قوافيه في الأغصان ولا الحشوات، فقال:
زائرٌ بالخيالزائلٌ عن قربيباهرٌ بالجمالناهر بالعُجبِ
أي غصن نضير ... نزهة للنظرْ
لحظُ عيني خفير ... منه ورد الخفَرْ
يا له من غرير ... في هواه غرَرْ
ساحرٌ بالدّلالِساخرٌ بالصبِّفائقٌ في الكماللائقٌ بالحبِ
بشذا المسكِ فاحْ ... ثغرُ هذا الغزالْ
باسمٌ عن أقاحْ ... أو فريد اللآلْ
ردّ نور الصّباح ... كظلام الليالْ
ريقهُ حين جالفي لماهُ العذبصرتُ بين الزّلالوالهوى في كرب
ذو قوام رطيبْ ... منه تُجنى الحُرَقْ
رام ظلم القضيب ... فاشتكي بالورق
فتثنّى الحبيب ... ورنا بالحدق
مثل بيض النّصالمن سواد الهدبوالعوالي أمالبالقوام الرّطب
لو رآه القسوس ... حسّبته المسيح
وهو يحيي النفوس ... بالكلام الفصيحْ
ما تبينُ الشموس ... عند هذا المليح
خلِّ عنك الغزاليرتعي في الكثبثم قل للهلاليحتجب في الغرب
ثغره في بريق ... إذ جلاه بريق
كل حُر رقيق ... للماه الرّقيق
خده والشقيق ... ذا الهذا شقيق
قد بدا فيه خالكسواد القلبإذ غدا في اشتعالفوق نار الحب
ما لصبّ صبا ... في هواهُ نصيب
منه قبل الصِّبا ... قد علاني الشّيب
يا نسيم الصَّبا ... جُزْ بأرض الحبيب
واجتهد أن تنالمنه طيب القُربثم عد بالنوالمن هدايا حبي
جائرٌ قد ظهر ... عدله في القوام
في الوجود اشتهر ... مثل بدر التّمام
فيه يحلو السهر ... ويمر المنام
صدّ تيهاً وقالوهو يبغي حربيلحظ عيني نبالقلت آه وا قلبي
وكان الذي قلته أنا:
جامح في الدّلالجانح للهجرخاطر في الجمالعاطر في النشرِ
غصنٌ بانَ رطيب ... قد زها بالطّرب(3/72)
ينثني في كثيب ... بالصّبا عن كثب
ما لقلبي نصيب ... منه غير النّصَبْ
قمر في كمالفوق غصن نضرطالعاً لا يزالفي دياجي الشعر
كم جَلا بالسّنا ... فرقُه لي الصّباح
وحلا في الجَني ... مبسمٌ عن أقاح
إن رَنا وانثنى ... أو تبدّى ولاح
يا حياءَ الغزالوافتضاح السمرواختفاء الهلالوكسوف البدر
خاله كالرقيب ... للعِذار الرّقيم
وسط نار تُذيب ... حول روض وسيم
يتشكّى اللهيب ... في النعيم المقيم
ذاق برد الظلالفي لهيب الجمرواهتدى في الضّلالببروق الثّغر
غضنٌ بانَ يميس ... في رياض الزهرْ
ريقه الخندريس ... في زلالٍ ظهرْ
فيه درٌ نفيس ... في عقيقٍ بهر
جفنه حين صالفي حنايا صدريلو كفاني النّباللاكتفى بالسَّحر
شقّ قلب الشّقيق ... منه خدٌ أنيق
والقوام الرّشيق ... فيه معنىً دقيق
كم سقاني الرحيق ... من فم كالعقيق
بعد ذاك الزلالما حلا لي صبريوالقوام المُمالقام فيه عُذري
يوسف بن سيف الدولة
أبي المعالي بن زمّاخ - بالزاي والميم المشددة وبعد الألف خاء مشددة - ابن بركة بن ثمامة بن أبي المعالي بن سيف الدولة بن حمدان التغلبي المصري المعروف بابن مهمندار العرب، بدر الدين.
كان شيخاً متجنّداً فاضلاً، شاعراً مؤرخاً، صنّف تصانيف منها كتاب في الأنساب، ومنها كتاب في البديع سمّاه الآيات البيّنات.
أنشدني الشيخ العلامة أثير الدين، قال: أنشدني المذكور لنفسه:
وليلة مثل عين الظّبي وهي معي ... قطعتها آمناً من يقظة الرُقَبا
أردفتُها فوق دهم الليل مختفياً ... والصبحُ يركض خلفي خيله الشهبا
حتى دهاني وعين الشمس فاترة ... وقد جذبت بذيل الليل ما انجذبا
ما هي بأول عادات الصباح معي ... ليلُ الشباب بصبح الشيب قد هربا
وبه قال: أنشدني له:
أعلى الورى همماً أوفاهُم ذمماً ... أسناهم كرماً في كل مبتذل
ماضي العزيمة وهّاب الكريمة دفّ ... اع العظيمة، وثّابٌ بلا فشل
مُعطي الألوف ومِطعام الضيوف ومط ... عانُ الصفوف ومُردي الحادث الجلل
بادي الوسامة، دفّاع الظلامة حمّ ... الُ الغرامة ذو عِلم وذو عملِ
صافي السرائر، صوّام الهواجر قوّ ... امُ الدياجر والإصباح والأصل
تأتي الوفود إليه لا إلى أحد ... ومَن رأى البحر لا يأتي الى الوشلِ
الدهر جسمٌ وأعضاء جسمه دولٌ ... وأنت وحدك فيه جوهر الدول
وأنشدني الشيخ فتح الدين سيد الناس، والشيخ أثير الدين كلاهما، قال: أنشدنا لنفسه:
فلا تعجب لحُسن المدحِ مني ... صفاتك أذكرت حكمَ البوادي
وقد تُبدي لك المرآة شخصاً ... ويُسمعك الصّدى ما قد تُنادي
وأنشدني الشيخ أثير الدين قال: أنشدني له:
ما شيمةُ العرب العَرْباء شيمتُكم ... ولا بهذا عُرِفنَ الخرّدُ الغيدُ
كانت سُليمى ولبنى والرّباب إذا ... أزمعنَ هجراً أتتهنّ المواعيد
ودار بينهما فحوى مُعاتبةٍ ... أرقُّ مما أراقته العناقيد
وآفة الصبِّ مثلي أن يبثّ جوىً ... لمن يحبُّ ولا يُلوى له جيد
ومن شعره:
إن كنتَ تفخر أن تفوهَ بوصفه ... حُسناً ومثلك من يفوقُ قريضُهُ
سَل عن سواد الشّعر نرجسَ طرفه ... يخبرْكَ بالليل الطويل مريضه
ومنه:
ما إن عجبتُ لكون نيلك فاتني ... لسواد لحظي وهو بحرٌ مزبدُ
لكنني متعجّب كيف اختفى ... بين الأيادي البيض حظ أسود
ومنه:
كنا إذا جئنا لمن قبلكم ... أنصف في التّرحيب قبل القيامْ
واليوم صِرنا حين نأتيكم ... نقنع منكم بلطيفِ الكلام(3/73)
لا غيّر الله بكم خيفةً ... من أن يجيء من لا يردّ السلام
وأنشدني الشيخ قطب الدين عبد الكريم إجازة، قال: أنشدني لنفسه:
مسائل دورٍ شيبُ رأسي وهجرُها ... فكل على كل له سببٌ يُنبي
فأحلِفُ لولا الهجرُ ما شاب مفرقي ... وتُقسم لولا الشيب ما كرهتْ قربي
قلت: كنت قد سمعت أنا الشيخ العلامة تقي الدين أحمد بن تيمية ينشد هذين البيتين، ويترنّم بهما، فأعجباني، ونظمت المعنى مختصراً وقلت:
مسألة الدور بنا ... عجبت من وجودها
صدّت لشيبٍ قد بدا ... والشيبُ من صدودها
ولما خاض السلطان الملك الظاهر بيبرس الفرات ورمى بنفسه وبالجيوش فيه، قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر - رحمه الله تعالى:
تجمّع جيش الشّرك من كل وجهة ... وظنوا بأنّا ما نُطيق لهم غلبا
وجاؤوا الى شاطي الفرات وما دروا ... بأن جياد الخيل تقطعها وثْبا
وجاءت جنود الله في العُدد التي ... تُميس به الأبطال يوم الوغى عُجبا
فعُمنا بسدٍّ من حديد سباحةً ... إليه فما اسطاع العدو له نقْبا
ولما سمع ابن مهمندار العرب ذلك، قال: أنشدني الشيخ أثير الدين، قال: أنشدني لنفسه:
لو عاينتْ عيناك يوم نزالنا ... والخيل تطفح في العجاج الأكدر
وسنا الأسنّة والضياء من الظبى ... كشفا لأعيننا قتام العثير
وقد اطلخمّ الأمر واحتدم الوغى ... ووهى الجبان وساء ظن المجتري
لرأيت سداً من حديد مائراً ... فوق الفرات وفوقه نارٌ تري
ورأيت سيل الخيل قد سدّ الرُبا ... ومن الفوارس أبحُراً في أبحر
ظفرتْ وقد منع الفوارس مدّها ... تجري ولولا خيلُنا لم تطفر
حتى سبقنا أسهُماً طاشت لنا ... منهم إلينا بالخيول الضّمر
لم يفتحوا للرمي منهم أعيُناً ... حتى كُحلنَ بكل لدنٍ أسمر
فتسابقوا هرباً ولكن ردّهم ... دون الهزيمة رمح كلّ غضنفر
ملؤوا الفضاء فعنْ قليل لم ندع ... فوق البسيطة منهم من مُخبر
سدّت علينا طُرقنا قتلاهم ... حتى جنحنا للمكان الأوعر
ما كان أجرى خيلنا في إثرهم ... لو أنها برؤوسهم لم تعثرِ
من كل أشهب خاض في بحر الدِّما ... حتى بدا لعيوننا كالأشقر
كم قد قلعنا صخرةً من صرخةٍ ... ولكم ملأنا محجراً من محجر
وجرى دماؤهم على وجه الثّرى ... حتى جرت منها مجاري الأنهر
والظاهر السلطان في آثارهم ... يُذري الرؤوس بكل عضبٍ أبتر
ذهب العجاج مع النّجيع بصقله ... فكأنه في غمده لم يُشهر
إن شئت تمدحه فقف بإزائه ... مثلي غداة الروع وانظم وانثر
قلت: هذه الأبيات الأخيرة الأربع ليست من رواية الشيخ أثير الدين.
وكتب ناصر الدين ابن النقيب الى بدر الدين بن مهمندار العرب:
أيوسُفُ بدر الدين والحُسنُ كله ... ليوسف يُعزى أو الى البدر يُنسب
أتيت أخيراً غير أنك أول ... تعدّ من الآحاد شعراً وتُحسب
وأحسن ما في شعرك الحرّ أنه ... به ليس تستجدي ولا تتكسّب
وتوفي بدر الدين - رحمه الله - في حدود السبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وست مئة.
ومن شعره العذب، ونظمه الذي كأنه في الصّقال عضب، قوله:
عسى الليالي وفي قولي عسى خدع ... تردّ لي من زماني بعض ما ذهبا
بانوا بأبهى من الدنيا وزينتها ... عندي وأكرم مطلوب إذا طلبا
كالغصن منثنياً كالظبي ملتفتاً ... كالشمس مبتسماً كالبدر منتقبا
كم بتّ أرشفُ صغراً حشوه درر ... وكلما زدتُ لثماً زادني لهبا
منها في المديح:
مَن حاتمٌ وعطايا جوده جملٌ ... وجودُ ذا جمل تترى ولا عجبا(3/74)
لكن هو الحظّ ذكر الغيث سار وما ... هَمى لجيناً على عافٍ ولا ذهبا
وسار جدواه في الدنيا وساكنها ... فأدبر الفقرُ عنهم ممعناً هربا
فاضمُم يديك على مالٍ حباك به ... تعوّد البذل، لو قيّدته وثبا
وارفقْ بنفسك لا تعديكَ راحته ... فتغرق الناس من بعض الذي وهبا
يوسف بن شاذي
ابن داود بن شيركوه بن محمد بن شيركوه بن شاذي، الأمير صلاح الدين ابن الملك الأوحد ابن الملك الزاهر ابن الملك المجاهد، تقدّم ذكر والده الأوحد في مكانه من حرف الشين.
كان الأمير صلاح الدين من أحسن الناس صورة، وهو أمرد، وعمل الإمرة من أحسن ما يكون. وكان ذهنه في العمائر وغيرها ذهناً جيداً صحيحاً، ليس في دمشق أحسن من بستانه، ولا من العمارة التي رتّبها فيه. وكان الأمير سيف الدين تنكز قد مال إليه، وأحبّه، وكان يطلع الى بستانه، ويأكل ضيافته فيه، وكانت تكون شيئاً عظيماً.
ولما أمسك السلطان تنكز وأمسك بعده الأمير سيف الدين بشتاك الأميرين سيف الدين ألجيبغا، وسيف الدين طيبغا حاجي وأودعهما الاعتقال بقلعة دمشق لاختصاصهما بتنكز داخل الأمير صلاح الدين الرُعب والفزع، فانقطع في بستانه بالمرض جمعة.
ومات - رحمه الله تعالى - في صفر سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
وكان قد لبس خلعة الإمرة في يوم الخميس عاشر شهر رجب الفرد سنة ثماني عشرة وسبع مئة لأنه كان قد توجّه الى مصر بتقدمة حسنة مليحة، فرُسم له بالإمرة.
يوسف بن عبد الله
ابن محمد بن عطاء بن حسن بدر الدين أبو المحاسن العدل ابن قاضي القضاة شمس الدين الأذرعي الحنفي الصالحي.
كان فقيهاً فاضلاً مهيباً. سمع من ابن الزبيدي، وجمال الدين بن الحصيري. وحدّث عنه ابن الخبّاز.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة ست وتسعين وست مئة.
ومولده سنة تسع عشرة وست مئة.
يوسف بن أبي عبد الله
ابن يوسف بن سعد جلال الدين أبو المحاسن النابلسي الدمشقي الشافعي.
كان قاضياً مفتياً، سمع من خالد الحافظ - وكان عمه - ومن مجد الدين الإسفراييني، والمرسي، وشيخ الشيوخ وطائفة.
وأم بالشامية، وأعاد بها، وعرف بجودة النقل، وولي قضاء بعلبك، وكان حميد الأحكام.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في حدود عشر وسبع مئة.
ومولده قبل الأربعين وست مئة.
يوسف بن عبد الرحمن
ابن يوسف بن علي بن عبد الملك بن أبي الزهر، الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ الفريد الرحلة، إمام المحدّثين جمال الدين أبو الحجاج المزي بن الزكي القضاعي الكلبي، الحلبي المولد، خاتمة الحفّاظ، ناقد الأسانيد والألفاظ.
طلب الحديث في أول سنة خمس وسبعين وست مئة، وهلمّ جرا الى آخر وقت، لا يفتر عن الطلب والاجتهاد والرواية والتسميع.
سمع من أصحاب ابن طبرزد، والكندي، وابن الحرستاني، وحنبل، ثم ابن ملاعب الرّهاوي، وابن البنا، ثم ابن أبي لقمة، وابن البن، وابن مكرّم، والقزويني، ثم ابن اللتي، وابن صبّاح، وابن الزبيدي. وأعلى ما سمع بإجازة عن ابن كليب، وابن بوش، والجمّال، وخليل بن بدر، والبوصيري، وأمثالهم، ثم المؤيّد الطوسي، وزاهر الثقفي، وعبد المعزّ الهروي. وسمع الكتب الأمهات المسندة، والكتب الستة، والمعجم الكبير، وتاريخ الخطيب، والنّسب للزبير، والسيرة والموطأ من طرق، والزهد، والمستخرج على مُسلم، والحلية والسُنن للبيهقي، ودلائل النبوة، وأشياء يطول ذكرها. ومن الأجزاء ألوفاً. ومشيخته نحو الألف.
وسمع أبا العباس بن سلامة، وابن أبي عمر، وابن علان، والشيخ محيي الدين النووي، والزواوي، والكمال عبد الرحيم، والعز الحراني، وابن الدّرجي، والقاسم الإربلي، وابن الصابوني، والرشيد العامري، ومحمد بن القواس، والفخر بن البخاري، وزينب، وابن شيبان، ومحمد بن محمد بن مناقب، وإسماعيل بن العسقلاني، والمجد بن الخليلي، والعماد بن الشيرازي، والمحيي بن عصرون، وأبا بكر بن الأنماطي، والصّفي خليلاً، وغازياً الحلاوي، والقطب بن القسطلاني وطبقتهم، والدمياطي شرف الدين، والفاروثي، واليونيني، وابن بلبان، والشريشي، وابن دقيق العيد، والظاهري، والتقي الإسعردي، وطبقتهم. وتنازل الى طبقة سعد الدين الحارثي، وابن نفيس، وابن تيمية.(3/75)
ولم يتهيّأ له السماع من ابن عبد الدائم، ولا الكرماني، ولا ابن أبي اليسر، ونحوهم. ولا أجازوا له، مع إمكان أن تكون له إجازة المرسي، والمنذري، وخطيب مردا، واليلداني، وتلك الحلبة.
وحفظ القرآن، وعُني باللغة، فبرع فيها، وأتقن النحو والتصريف.
وكان شيخنا الحجة جمال الدين أبو الحجاج شيخ الزمان وحافظ العصر، وناقد الأوان، لو عاصره ابن ماكولا كان له مشروباً ومأكولا، وجعل هذا الأمر إليه موكولا، أو الحاكم لقال: لأمرُهُ دائم النفوذ، وكان الى حرمه يعود وعليه يعول وبه يعود، أو ابن نقطة، لأغرقته بحاره الزّخّارة، ورأى خطه المستقيم خارجاً عن دائرته، وبدره لا يدخل معه في هذه الدّارة، أو ابن عساكر لعلم أنه ليس من أبطاله، ولا عدّه الطّلبة من أتباعه ولا رجاله.
أتقن أسماء الرجال، وحرّر صيغها، وتجاوز الغاية، ومن أول ما خطا بلغها، وكان أمره في ذلك عجباً عاجباً، وإذا أمّ مقصداً في ذلك لم يجد له دونه حاجباً، كأنما عناه السّراج الورّاق بقوله:
أين إمامٌ في الحديث مثله ... تضربُ آباطاً إليه الإبلُ
ذاد عن السُنّة كل مفترٍ ... به جلي الدُجا وحُلّ المُشكل
وكان في علم الرجال أوحداً ... بحيث قال العلم: هذا الرجل
أتقنهم معرفةً يقول ذا ... مستعملٌ وقول ذاك مهمَل
وأما اللغة، فأبو عبيدة يكون عبده، والأصمعي أصمّ عيّه من يسمع كلامه بعده.
وأما النحو، فليس لأبي علي معه حجة، ولا لابن خالويه عنده قولٌ يتوجه.
وأما التصريف فما ابن جنّي عنده ابن آدم، ولا المازني من رجاله إن صادفه، أو صادم.
ولم يزل على حاله الى أن خلت منه الربوع، وجرت الجفون عليه دماً بعد الدموع.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ثاني عشر صفر سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
ومولده بظاهر حلب في عاشر ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وست مئة.
ودفن بمقابر الصوفية.
وكان فيه حياءٌ وسكون، وحلم واحتمال، وقناعة واطّراح تكلّف، وترك التجمل والتودد الى الناس، مع الانجماع عنهم، وعدم الكلام إلا أن يُسأل فيجيب ويُجيد، وكلما طالت مجالسة الطالب له ظهر فضله، لا يتكثّر بفضائله، ولا يغتاب أحداً. وكان يصعد الى الصالحية ماشياً، لا يركب بغلاً ولا حماراً، وهو في عشر التسعين، ويستحمّ بالماء البارد في الشيخوخة، إلا أنه كان قد امتحن بأمر المطالب، وتتبّعها، فعثر به جماعة من الشياطين، وأكلوا معه، فكان لا يزال في فقر لأجل ذلك.
وحجّ، وسمع بالحرمين والقدس ودمشق ومصر وحلب وحماة وحمص وبعلبك، والإسكندرية وبُلبيس وقطيا، وغير ذلك. وأوذي مرة، واختفى مدة من أجل سماع تاريخ الخطيب. وأوذي مرة أخرى لأجل قراءة شيء من كتاب أفعال العباد مما يتأوّله الفضلاء المخالفون، وحبس.
ولما توفي ابن أبي الفتح حصل له من جهاته حلقة الخضر والحديث بالناصرية، فأضاءت بذلك حاله، واتسع رزقه، ثم إنه ولي دار الحديث الأشرفية بعد ابن الشُريشي سنة ثماني عشرة وسبع مئة، التزم بمذهب الشافعي، وأشهد عليه بذلك، وذكر الدّرس بالأشرفية في ثالث عشري الحجة من السنة المذكورة. وقال الشيخ تقي الدين بن تيمية: لم يلِ هذه المدرسة من حين بنائها الى الآن، أحق بشرط الواقف منه، وقد وليها جماعة كبار مثل ابن الصّلاح ومحيي الدين النواوي وغيرهما، لأن الواقف قال: فإن اجتمع من فيه الرواية، ومن فيه الدراية قدّم من فيه الرواية.(3/76)
وأخبرني من لفظه شيخنا الذهبي، ونقلته من خطه، قال: ما رأيت أحداً في هذا الشأن أحفظ من الإمام أبي الحجاج المزي، وسمعته يقول في شيخنا أبي محمد الدمياطي إنه ما رأى أحفظ منه، وكان الدمياطي يقول: إنه ما رأى شيخاً أحفظ من زكي الدين عبد العظيم، وما رأى الزكي أحفظ من أبي الحسن علي ابن المفضّل، ولا رأى ابن المفضّل أحفظ من الحافظ عبد الغني، ولا رأى عبد الغني أحفظ من أبي موسى المديني، إلا أن يكون الحافظ أبا القاسم بن عساكر، فقد رآه، ولم يسمع منه، ولا رأى ابن عساكر والمديني، أحفظ من أبي القاسم اسماعيل بن محمد التيمي، ولا رأى إسماعيل أحفظ من أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي، ولا رأى ابن طاهر أحفظ من أبي نصر ابن ماكولا، ولا رأى ابن ماكولا أحفظ من أبي بكر الخطيب، ولا رأى الخطيب أحفظ من أبي نعيم وأبي حازم العبدوي، ولا رأياً أحفظ من الدارقطني وأبي عبد الله بن مندَه، ومعهما الحاكم. وكان ابن مندة يقول: ما رأيت أحفظ من أبي إسحاق بن حمزة الأصفهاني. وقال ابن حمزة: ما رأيت أحفظ من أبي جعفر أحمد بن يحيى بن زهير التُستَري وقال: ما رأيت أحفظ من أبي زُرعة الرازي. وأما الدارقطني فما رأى مثل نفسه، وكان الحاكم يقول: ما رأيت أحفظ من أبي علي النيسابوري ومن أبي بكر الجعابي، وما رأى الثلاثة أحفظ من أبي العباس بن عقدة، ولا رأى ابن عُقدة، ولا رأى أبو علي النيسابوري مثل النسائي، ولا رأى النسائي مثل إسحاق بن راهويه، ولا رأى أبو زرعة أحفظ من أبي بكر بن أبي شيبة، وقد رأى أبو علي النيسابوري مثل ابن خزيمة، ولا رأى ابن خزيمة مثل أبي عبد الله البخاري، ولا رأى البخاري - فيما ذكر - مثل علي بن المديني، ولا رأى أيضاً أبو زرعة والبخاري وأبو حاتم وأبو داود مثل أحمد بن حنبل، ولا مثل يحيى بن معين، وابن راهويه، ولا رأى أحمد ورفاقه مثل يحيى بن سعيد القطّان، ولا رأى هو مثل شعبة وسفيان ومالك، ولا رؤوا مثل أيوب السخستياني، نعم، ولا رأى مالك مثل الزُهري، ولا رأى مثل ابن المسيّب، ولا رأى ابن المسيب أحفظ من أبي هريرة رضي الله عنه، ولا رأى أيوب مثل ابن سيرين، ولا رأى مثل أبي هريرة، نعم، ولا رأى الثوري مثل منصور، ولا رأى منصور مثل إبراهيم، ولا رأى إبراهيم مثل علقمة، ولا رأى علقمة كابن مسعود، فيما زعم.
وقال شيخنا الذهبي: لم يسألني ابن دقيق العيد إلا عنه. وقال الذهبي أيضاً: وكان قد اغترّ في شبيبته، وصحب عفيف الدين التلمساني، فلما تبيّن له ضلاله هجره وتبرّأ منه. وقال الذهبي: وكان يترخّص في الأداء من غير أصول، ويُصلح كثيراً من حفظه، ويسامح في دمج القارئ ولغط السامعين، ويتوسّع، وكأنه يرى العمدة على إجازة المُسمع للجماعة، وله في ذلك مذاهب عجيبة، وكان يتمثّل بقول ابن مندة: يكفيك من الحديث شمّه.
وصنّف كتاب تهذيب الكمال في أربعة عشر مجلداً. كسف به الكتب المتقدمة في هذا الشأن، وسارت به الرُكبان، واشتهر في حياته، وصنّف كتاب الأطراف للكتب الستة في ستة أسفار، وخرّج لجماعة.
قال الذهبي: وما علمته خرّج لنفسه لا عوالي ولا موافقات ولا معجماً، وكل وقت ألومه في ذلك فيسكت، وقد حدّث بكتابه التهذيب خمس مرات، وحدّث بالصحيحين مرات، وبالمسند ومعجم الطبراني وبدلائل النبوة ويكتب جمّة، وحدّث بسائر أجزائن العالية وبكثير من النازلة.
وقال الذهبي أيضاً: أعلى ما عنده مطلقاً الغيلانيات وجزء ابن عرفة وابن الفرات بإجازة.
وسمع منه الذهبي سنة أربع وتسعين، وأخذ عنه صحيح البخاري غير مرة. واستملى منه العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وقاضي القضاة عز الدين بن جماعة، وشيخنا ابن سيد الناس، ومحب الدين وأولاده، وشمس الدين السروجي، وابن الدمياطي وابن عبد الهادي وابنا السفاقسي، والشيخ تقي الدين بن رافع، وسبط التنيسي، وخلائق. وتخرّج به جماعة كشيخنا علم الدين البرزالي، والشيخ صلاح الدين العلائي، والشيخ عماد الدين بن كثير، وابن عبد الهادي، وابن العطار، وابن الفخر، وابن الجعبري، وغيرهم.(3/77)
وقال شيخنا الحافظ فتح الدين بن سيد الناس في حقه: ووجدت بدمشق الإمام المقدم، والحافظ الذي فاق من تأخر من أقرانه ومن تقدم، أبا الحجاج المزي بحر هذا العلم الزاخر، القائل من رآه: كم ترك الأوائل للأواخر، أحفظ الناس للتراجم، وأعلم الناس بالرواة من أعارب وأعاجم، لا يخص بمعرفته مصراً دون مصر، ولا ينفرد علمه بأهل عصر دون عصر، معتمداً آثار السلف الصالح، مجتهداً فيما نيط به في حفظ السّنة من النصائح، معرضاً عن الدنيا وأشباهها، مقبلاً على طريقه التي أربى بها على أربابها، لا يبالي ما ناله من الأزل، ولا يخلط جدّه بشيء من الهزل، وكان بما يضعه بصيراً، وبتحقيق ما يأتيه جديراً، وهو في اللغة إمام، وله بالقريض إلمام، وكنت أحرص على فوائده لأحرز منها ما أحرز، وأستفيد من حديثه الذي إذا طال لا يملل، وإن أوجز وددت أنه لم يوجز، وهو الذي حداني على رؤية الشيخ تقي الدين بن تيمية.
قلت: وكان معتدل القامة، مشرباً حمرة، قوي التركيب، متع بذهنه وبحواسه، ولم أر بعد الشيخ فتح الدين بن سيد الدين من يحكم ترقيق الأجزاء وترميمها مثل الشيخ جمال الدين، ولم يستعر مني شيئاً فأعاده إلا وقد نبّه فيه على نكتة كنت محتاجاً إليها حتى في إجازة الشيخ فتح الدين بن سيد الناس لي. وفيه قلت:
درتُ على أشياخ عصري فيا ... فخري بما نلتُ ويا عزّي
وذقتُ طعم الكل في علمهم ... فلم أجد أحلى من المزي
وسمعتُ صحيح مسلم على البندينجي، وهو حاضر بقراءة ابن طغريل، وعدة نسخ حاضرة صحيحة، يقابل بها فيردّ الشيخ جمال الدين - رحمه الله - على ابن طغريل اللفظ، فيقول ابن طغريل: ما في النسخة إلا ما قرأت، فيقول من في يده بعض تلك النسخ الصحيحة: هو عندي، كما قال الشيخ، أو هو مظفّر عليه أو مضبّب أو في الحاشية تصحيح ذلك، ولما تكرر ذلك، قلت أنا له: ما النسخة الصحيحة إلا أنت.
وقرأت عليه من لفظي ديوان خطب ابن نُباتة والأربعين النووية، وسمعت عليه من الأجزاء كثيراً، وسمع هو شيئاً من شعري بدار الحديث، وقرأت عليه كتاب الشمائل للترمذي بعدما كتبته بخطي، ولم أر في أشياخي بعد شيخنا أثير الدين في العربية مثله خصوصاً في التصريف واللغة، إلا أنه مع إتقانه لأسماء الرجال وله فيها هذا المصنف العظيم، لم يكن يعتني بتراجم العالم من الخلفاء والملوك والأمراء والوزراء والقضاة والعلماء والقراء والأطباء والأدباء والشعراء، ولا له فيها مشاركة البتّة، وإنما كان يعتني برجال الحديث لا غير، ولقد سألته مرة عن القالي بالقاف، والفالي بالفاء، فقال: لا أعرف إلا الفالي بالفاء فعلمت أنه ليس له عناية بغير رواة الحديث، وإلا فأبو علي القالي بالقاف مشهور بين صغار الأدباء، ولكن عندي من الشيخ جمال الدين فوائد وقواعد في أسماء رجال الحديث، لم آخذها إلا عنه، ولا وجدتها في كتاب، وكان أسماء الرجال الذين يجيء ذكرهم في سماعاته وطرقه يجيد الكلام في طبقاتهم وأحوالهم وقوتهم وضعفهم ولينهم، وكان في ذلك بحراً لا يشق ثبجه وعجاجاً لا ينحط قتامه.
ولما كان في سنة خمس وسبع مئة. تكلم الشافعية وغيرهم مع الشيخ تقي الدين بن تيمية وبحثوا معه في القصر الأبلق، وبحث معه صفي الدين الهندي ثم كمال الدين بن الزملكاني، وخرجوا، وانفصلت القضية، فلما كان بعد ذلك في يوم الإثنين ثاني عشري شهر رجب الفرد قرأ الشيخ جمال الدين المزي فصلاً في الردّ على الجهمية من كتاب أفعال العباد تصنيف البخاري، وكانت قراءته لذلك تحت قبة النسر في المجلس المعقود لقراءة الصحيح، فغضب لذلك بعض الفقهاء الحاضرين، وقالوا: نحن المقصودون بهذا، ورفعوا الأمر الى قاضي القضاة الشافعي، فطلبه، وحبسه، فبلغ ذلك الشيخ تقي الدين بن تيمية، فتألم لذلك، وأخرجه من الحبس بنفسه، وخرج الى القصر الأبلق، واجتمع هو وقاضي القضاة هناك وردّ عن المزي، وأثنى عليه، وغضب قاضي القضاة، وأعاد المزي الى الحبس بالقوصية، فبقي أياماً، ثم أُفرج عنه، ونادى الأفرم في دمشق أنه أي من تكلم في العقائد حلّ ماله ودمه.
وكنت قد كتبت أنا له توقيعاً بمشيخة دار الحديث النورية عوضاً عن الشيخ علم الدين البرزالي - رحمه الله تعالى - وذلك في المحرم سنة أربعين وسبع مئة، ونسخته:(3/78)
رسم بالأمر العالي، لا زالت أوامره المطاعة تزيد العلم الشريف جمالاً، وتزينه بمن يفيده كمالاً، أن يرتب المجلس السامي الشيخي الجمالي في كذا ثقة بأنه الثقة، والعالم الذي لغيره المقت وله المقة، والمحدّث الذي متى فاه بما عنده بادر كل أحد بالقبول وصدقه، والحبر الذي إذا تكلم نسخ كلام من تقدم بأقواله المحققة، والحافظ الذي اجتحف سيله ابن نقطة فأغرقه، والناقد الذي كدر على ابن معين صفوه ورنّقه، والمصنّف الذي شيب من ابن أبي شيبة مفرقه، والمسند الذي لو عاصره عبد الرزاق حرمه الرحلة إليه مما رزقه، والمتأخر الذي لا يعرف بعد الدارقطني مثله، وربما تقدمه في فنّه المحرر وسبقه.
فليباشر ما فوض إليه مباشرة يتضوّع من نشر السنة بها النشر، ويكون للحديث الشريف حفظ يدوم الى الحشر، مجتهداً في البيان للطلبة، والإعانة لهم على سلوك المعرفة، فمحجّتها بالغموض منتقبة، لأن تهذيب كماله ليس للبدر في تمامه كما له، وأطرافه سار في الأطراف، فما ينكره علماء الحديث ولا رجاله، وإتقانه للأسماء إتقان تزأر في غابة أسوده وأشباله، ومحله من الحفظ محل يعزّ على صاحب الاستيعاب مناله، وإعرابه لو عاصره أبو البقاء لم يظفر بلبابه، وتصريفه لو عاينه ابن جني ما دخل سوقه على تصنيفه الملوكي برفع حجابه، ولغته لو سمعها ابن الأعرابي ما نقل شيئاً عن أعرابه.
ولينزّل الطلبة منزل البنين في الحنوّ عليهم عند الهفوة، ولا يكن فيه قسوة المعلمين على من في ذهنه فترة، ولم يكن من الفهم في الذروة، وليجْلُ عليهم حسن وجه الإقبال، وإذا كان المؤمنون إخوة فيوسف أحسن الإخوة، حتى يوضح لهم ما أبهم من الأسانيد المظلمة، والأسماء التي هي لتساوي صورها مبهمة، والألفاظ التي هي لولا القرائن موهمة.
ولينبّه على الصحيح إذا ورد، والحسن إذا أضاء وجهه لمن انتقد، والضعيف إذا اعتلّ متنه ولم يصح له سند، والموضوع الذي لا يعرفه إلا من امتاز برتبته وانفرد، وليحرر لهم الألفاظ إذا رواها، ويحقق مخارجها الصحيحة الفصيحة التي فاخر بها هذا اللسان العربي وباهى، ويحترز في أدائها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: " نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها " عاملاً في ذلك بشرط الواقف أثابه الله فيما يبدي ويعيد، ولا يتعدّ ما قرره، فإن الله تعالى يرى عمله، وقد استفاض في الواقف أنه شهيد، والوصايا كثيرة، وعنه تصدر بالإفادة جميع وفودها، ومن أفق فضائله تتألق كواكب سعودها، وتقوى الله عز وجل ملاك أمرها، وسداد ثغرها، فلا يتعرّ منها منكبه، ولا يتعدّ عنها مركبه، والله تعالى يمدّ في أجله، ويبلّغ كلاً من الطلبة في بقائه غاية أمله.
والخط الكريم أعلاه حجة في ثبوت العمل بما اقتضاه، والله الموفق بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
يوسف بن عبد الغالب
ابن هلال الإسكندري العلاف.
كان عامياً، ولكن له النظم الحلو، وروى عنه الفضلاء، وكتبوا شعره.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في بلده سنة عشرين وسبع مئة.
ومن شعره، وقيل إنه لابن الوحيد:
وخضراء لا الحمراء تفعل فعلها ... لها وثباتٌ في الحشا وثباتُ
تؤجج ناراً وهي في العين جنة ... وتعطيك طعم المرّ وهي نبات
ومنه:
كم قلت للحائك الظريف وفي ... يمينه طاقة يخلّصها
هل لك في ردّ مهجةٍ لفتى ... ليس له طاقة يخلّصها
يوسف بن عبد المحمود
ابن عبد السلام، الشيخ الإمام العالم جمال الدين البتّي الحنبلي.
كان من فضلاء العراق ببغداد.
توفي - رحمه الله تعالى - في حادي عشر شوال سنة ست وعشرين وسبع مئة.
وكان إليه المرجع في القراءات والعربية.
يوسف بن عمر بن الحسين
الشيخ العدل المعمر بدر الدين الختني - بالخاء المعجمة وفتح التاء ثالثة الحروف وبعدها نون - المصري.
حضر في الرابعة على ابن رواج وتفرد به، وسمع من صالح المدلجي، والمرسي، والبكري، وابن اللمطي، وتفرّد بأشياء، وله مشيخة، روى منها عن نيّف وستين نفساً، وأكثر الطلبة عنه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الثلاثاء منتصف صفر سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
ومولده في سنة خمس وأربعين وست مئة.
يوسف بن محمد
ابن مظفّر بن حماد، جمال الدين الحموي الشافعي، مفتي حماة وخطيبها بالجامع الكبير.(3/79)
حدّث بجزء ابن الأنصاري عن مؤمّل البالسي، والمقداد القيسي.
وكان على قدم متين من العلم والعمل والتعبّد ونشر العلم.
وكان فقيهاً شافعي المذهب، مشاركاً في الأصلين والنحو، أديباً شاعراً قدم القاهرة، وحدّث بشيء من شعره، وكتب عنه الفضلاء.
أنشد شيخنا العلامة أثير الدين أبو حيان، قال: أنشدنا أبو المحاسن يوسف لنفسه:
وددت لو كان يهوى عاذلي ليرى ... حال المحبّ على الأشواق والفكر
يتلو الملام على سمعي فيكذبه ... قلبي بناءً على ما قد رأى بصري
يا فاضح الغصن من عطفيه في هيف ... ومخجل الظبي من عينيه بالحور
إني ومدمعُ عيني سائلٌ أبداً ... حرمت جفني لذيذ النوم بالسهر
عسى توفي غريم الحب قبلته ... فيلتقي الحسن بين الغصن والقمر
وعلّ طيفك يسري نحو عاشقه ... إن استقرّت به تهويمة السحر
وأنشدنا أيضاً له:
ولما أن قضى أجلي بهجر ... وسرت كليم وجدٍ لا محاله
بجانب خدّه آنست ناراً ... ولكني وجدتُ بها ضلالهْ
وتوفي - رحمه الله تعالى - في آخر نهار الأحد سابع ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة عن أربع وستين سنة، وتأسف الناس عليه، رحمه الله تعالى.
يوسف بن محمد
الشيخ الإمام العالم صلاح الدين بن المغيزل الحموي الشافعي، مفتي حماة وخطيبها.
كان كهلاً، مفنّناً في العلوم مناظراً، له محفوظات وفضائل، وحدث عن الشيخ شمس الدين بن قدامة.
حكي لي شمس الدين بن النّصيبي بحلب، قال: بحث يوماً صلاح الدين بن المغيزل هو والشيخ صدر الدين بن الوكيل بحضور ابن البارزي قاضي حماة من بكرة الى أن قال المؤذن للظهر: الله أكبر، فقال القاضي شرف الدين: طوّل الله في عمريكما للمسلمين، سروراً بهما، أو كما قال.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة تسع عشرة وسبع مئة بحماة.
يوسف بن محمد
صلاح الدين ابن الملك الحافظ غياث الدين ابن الملك السعيد شاهنشاه ابن الملك الأمجد بهرام شاه بن فروخ شاه بن شاهنشاه بن أيوب.
سمع جزء إسماعيل الصفّار على إسماعيل العراقي حاضراً في الثالثة سنة ست وأربعين وست مئة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في خامس عشري ذي القعدة سنة خمس وسبع مئة.
يوسف بن محمد بن عثمان
السيف، الناسخ، الدلال على الكتب بجسر اللبّادين بدمشق.
أصله من سرخس، رأيته غير مرة ينادي على الكتب، وينسخ، وهو شيخ قد أنقى.
وكان رزيّ الحال. كتب كثيراً من الدواوين المتأخرة، خصوصاً ديوان ابن قزل المشدّ وديوان ابن محاسن الشوّاء.
وكان يقول: أنا قبّلت قُبلة بألف درهم، يفتخر بذلك.
توفي - رحمه الله تعالى - سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
يوسف بن محمد بن منصور
ابن عمران المحدث الفاضل أبو الفضل الهلالي الحوراني.
كتب أحكام الضياء، وقرأه على ابن الكمال، وحفظ متوناً جمة، وقرأ الحديث على ابن عبد الدائم، وصحب محموداً الزاهد الدمشقي، وسمع بمصر من الرشيد العطار، وكتب عنه الجماعة، وكان يقرأ على كرسي بالجامع من حفظه، وربما قرأ في القرى، فيهبونه.
وكان ديّناً قانعاً.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة عشر وسبع مئة.
يوسف بن محمد بن يعقوب
ابن إبراهيم، القاضي الإمام العالم شهاب الدين بن الصاحب محيي الدين بن النحاس الحلبي الحنفي.
كان صدراً كبيراً، خلف والده في تدريس المدرستين الريحانية والظاهرية، وباشر في حياة والده نظر الخزانة، وباشر بعد موته نظر الجامع مدة، وكان معيّناً للمناصب الكبار.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ذي الحجة سنة ثمان وتسعين وست مئة.
يوسف بن محمد بن عبيد الله
القاضي صلاح الدين كاتب الدرج السلطاني بالقاهرة.
كان كاتباً مأموناً، اعتمد عليه القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر ومن بعده. ولم يزل مقدّماً عند كاتبي السر واحداً بعد واحد الى آخر أيام القاضي علاء الدين بن الأثير، وكان يستكتبه في المهمات، وكان يلازم الديوان، تطلع الشمس وتغرب عليه وهو في الديوان، أقام كاتب درج مقدار خمس وخمسين سنة.(3/80)
وكان ساكناً خيّراً، ليس فيه شر البتة، محتملاً أذى رفاقه، رأيتهم وهم يسبونه في وجهه، ولا يرد عليهم، خصوصاً القاضي قطب الدين بن المكرم، كان يقول له: لعن الله والديك يا كلب يا ابن الكلب، يا عبد النّحس يا ابن الأمة، ولا يردّ عليه حرفاً. هذا وهو المقدّم على الجميع.
وكان أسمر اللون، قطط الشعر، صغير الذقن.
ولما حصل الفالج للقاضي علاء الدين بن الأثير، طلبه السلطان الملك الناصر محمد ليكتب بين يديه شيئاً في السر على أن يجعله كاتب سر، فلما أخذ الأمير سيف الدين ألجاي الدوادارية، ودخل به في دهليز القصر، أحدث في سراويله، فأعفي من الدخول، وكبرت سنّه، وعورت عينه، وانهدّت أركان قواه، وهو ملازم الخدمة، فكنت أقول له: لو وفرت نفسك وقعدت في بيتك كان خيراً، وكان يقول: أخاف أنهم يقطعون معلومي. ولم يكن أحد يقدم على ذلك لقدَم هجرته، وثبوت قدمه في الخدمة، ولكن كل ذلك من ضعف نفسه، وكان يكتب خطاً رديئاً ضعيفاً.
ولم يزل على حاله حتى توفي - رحمه الله تعالى - في سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
وكان معلوم القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر قد رُسم به للقاضي شهاب الدين محمود، ولم يزل عليه الى أن خرج الى دمشق كاتب السرّ، فأعطى المعلوم للقاضي صلاح الدين بن عبيد الله، ولما توفي رسم بالمعلوم للقاضي جمال الدين إبراهيم بن الشهاب محمود.
يوسف بن محمد بن محمد
ابن عبد الرحمن بن علوان، القاضي الأصيل بهاء الدين بن القاضي محيي الدين الإسكندري الحلبي.
كان مشهوراً بقضاء سرمين وأعمالها، وكان له هيئة حسنة، وعنده كرم، وله معروف وفيه رئاسة ومروءة.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: وروى لنا عن ابن قميرة وابن رواحة وابن خليل بحلب ودمشق والقاهرة وسرمين.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سادس عشري شهر رجب سنة سبع مئة.
ومولده في شعبان سنة تسع وثلاثين وست مئة بحلب.
وكانت وفاته بدمشق، ودفن بمقبرة الصوفية.
يوسف بن محمد بن منصور
الشيخ الصالح المحدث الهلالي العامري الكفيري الفرّا.
كان رجلاً صالحاً، يقرأ الحديث على كرسي بالجامع الأموي، ويصلي بمسجد آدم عليه السلام، وله كتب وأجزاء، سمع بقراءته من ابن عبد الدائم، وبمصر من الرشيد العطار، وحدث عنهما، وصحب الشيخ محموداً الدشتي، وسمع بعض تصانيفه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شهر رجب الفرد سنة عشر وسبع مئة.
ومولده تقريباً سنة خمس وثلاثين وست مئة.
يوسف بن محمد بن أحمد
ابن صالح بن صارم بن مخلوف، القاضي نور الدين بن تقي الدين بن جلال الدين بن تقي الدين الأنصاري الخزرجي المعروف بالفيومي.
اجتمعتُ به بالديار المصرية، وبصفد، وبدمشق غير مرة. أعرفه وهو شاهد العمائر في خدمة الأمير سيف الدين بكتمر الساقي بالديار المصرية، ثم إنه ورد الى صفد، وكان في ديوان نائبها الأمير سيف الدين طشتمر الساقي. ثم توجه معه الى حلب. ثم إنه عاد الى مصر. واجتمعت فيها به سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
وكتب هو إليّ لما قدمت القاهرة في هذه السنة:
وجدنا أُنسَ مولانا فلما ... وجدنا الأنس لم نقنع بذاكا
وهام الطرف مني في انتظار ... يروم من الصبابة أن يراكا
عجزت عن المزار فكنتَ ممن ... نواك به كُفينا من نواكا
ولا عتبٌ على شيخ ضعيفٍ ... إذا ما قام لم يملك حراكا
فعش لمسرّة الأحباب إنّا ... إذا ما عشت عشنا في ذراكا
وكان قد كتب إلي بالقاهرة في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة أبياتاً جيدة، ضاعت من يدي، وكتبت أنا الجواب في وزنها ورويّها وهو:
أهديت لي من نظمك الناضر ... زهر رُباً أفديه بالناظر
نظمته شعراً فألهى الورى ... عن كل معنىً حسن نادر
فجاء في لطف نسيم الصّبا ... إذا سرى وهناً على حاجر
يكاد من رقّة ألفاظه ... يُشرب في كأس الطّلا الدائر
من كل معنىً فائقٍ لم يدر ... في فكر نظّام ولا ناثر
من أين أبدعت المعاني التي ... فيه وما مرّت على خاطر
لو كان في عصرٍ مضى ما رأى ال ... ناس البكا في المنزل الداثر(3/81)
فلا روى العشاق مع وجدهم ... نسيب مجنون بني عامر
ولا رأى الناس غزال الحمى ... يروق فيه غزل الحاجري
ولم يمثل بسوى لفظه ... شواهد في المثل السائر
فأنت أولى الناس فينا بأن ... تُعرف بالسّاحر لا الشاعر
علوت نور الدين في ذروة ... تسمو على الواقع والطائر
لأن ما تنظمه لم يكن ... لأول فينا ولا آخر
شعر متى ابتاعه مفلسٌ ... بنفسه لم يكُ بالخاسر
تالله قد بالغتَ في وصف ما ... يقلّ في الباطن والظاهر
لأنني في أدبي قاصرٌ ... أسبح في بحر النّهى الزاخر
وليس ما أجمع مستحسناً ... في أدب البادي ولا الحاضر
وربما يختار مولاي أن ... يكون من دون الورى جابري
فاسلم ودم ما ابتسمت روضة ... بكى لها جفن الحيا الماطر
وأنشدته يوماً لغزاً في قصب السّكر، وهو:
عجبت لمعسول الرّضاب مهفهف ... يحاكي أنابيب القنا حال نبته
تناقض معناه الغريب فبوله ... على الرأس راسٍ والشوارب في استه
وأنشدني هو من لفظه لنفسه فيه:
في حلب أبصرت أعجوبةً ... تُخرج أذكى الناس من عقله
شخصاً رشيق القدّ عذب اللمى ... لا تقدر الروم على مثله
وهو بلا عقل جريح الحشا ... والدود لا يشبع من أكله
لا يبرح البول على رأسه ... والقيد لا ينفكّ عن رجله
له عيون وهو أعمى وفي ... عينيه أولاد على شكله
يا من سما بين الورى قدرُه ... اكشف لنا عنه وعن أصله
وأنشدني من لفظه لنفسه في العُصفر:
أشبّه عصفراً في الروض يُزهى ... وتشبيهي لهيئته مقارب
ككنز فيه بلّور عليه ... دنانير ومهلكها عقارب
يوسف بن محمد بن نصر
ابن أبي القاسم الشيخ الفقيه جمال الدين المقرئ.
سمع من ابن علاق والنجيب الحراني.
أجاز لي بخطه بالقاهرة، في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وستين وست مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى.
يوسف بن محمد بن سلميان
ابن أبي العز بن وهيب بن عطاء، الشيخ الفقيه الإمام الصدر الكبير جمال الدين أبو المحاسن ابن الشيخ الإمام شمس الدين أبي عبد الله ابن الشيخ قاضي القضاة صدر الدين، الأذرعي الأصل الحنفي.
كان مدرساً بالعذراوية والإقبالية للطائفة الحنفية، ثم إنه تركهما في آخر عمره لولده صدر الدين علي، وولي نظر الجامع الأموي، وتوكّل لجماعة من الأمراء، ودرس قديماً بمدارس الحنفية بالقدس.
وسمع بالقاهرة من الرضي بن البرهان الواسطي، وله إجازة من عثمان بن خطيب القرافة، وعبد الله بن الخشوعي، والعماد بن عبد الهادي، والصدر البكري، وأبي طالب بن السروري، وحدّث. وكان حسن الأخلاق، وفيه مودة وكرم.
توفي - رحمه الله تعالى - ثالث عشر صفر سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة إحدى وخمسين وست مئة.
يوسف بن مظفر
ابن عمر بن محمد بن أبي الفوارس، الفقيه الإمام العالم جمال الدين المعري بن الوردي، أخو القاضي الفاضل زين الدين عمر بن الوردي، وقد تقدّم ذكره في حرف العين. وكان القاضي جمال الدين هذا هو الأكبر.
وكان فقيهاً جيداً، قرأ التنبيه، واشتغل بالحاوي الصغير كثيراً. وكان ينقل من الرافعي، ومن الروضة كثيراً. ذكر لي جماعة أنه كان فقيه النفس، وكان جواد بما يملكه، اشتغل على القاضي شرف الدين البارزي، وتنقّل في القضاء بالبلاد الحلبية، وربما أنه تعدى السبعين سنة، وكان ضعيف العربية.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في أواخر ذي القعدة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون حلب.
يوسف بن موسى
ابن محمد بن مسعود، بهاء الدين بن الشيخ تاج الدين المراغي المعروف بابن الحيوان.
كان شاباً ذكياً فاضلاً، وله شعر واشتغال ومحفوظ، ولازم ابن الباجربقي بعدما تمفقر، وكان يعظم الباجربقي، وامتدحه بقصيدة.(3/82)
قال البرزالي: وسمع على جماعة من شيوخنا.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شوال سنة تسع وتسعين وستّ مئة.
يوسف بن موسى بن أحمد
القاضي الرئيس الصدر صلاح الدين ابن القاضي قطب الدين ابن شيخ السلامية.
كان شاباً نشأ غصناً في رياض سعادة، وطلع بدراً بين الكواكب الوقّادة، قطف زهرة دنياه الغضة، وأمطرت السما عليه ذهباً وفضة، وفاز بلذات ما كان غيره يراها في الأحلام، ورأس على صغر سنّه على كل من في الشام. وكان تنكز يحبه ويكرمه، ويوفر جانبه ويعظمه.
ولم يزل الى أن ذوى غصنه اليانع، وسقت قبره من العيون الغيوثُ الهوامع.
وتوفي - رحمه الله تعالى - تاسع عشر ذي الحجة سنة ثلاثين وسبع مئة.
وكان قد تزوج ابنة الصاحب شمس الدين غبريال في جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة وسبع مئة.
يوسف بن أبي نصر
ابن الشقاري، الأمير المسند عماد الدين أبو الحجاج الدمشقي.
سمع الصحيح من ابن الزبيدي، وابن الصلاح، والناصح بن الحنبلي، والفخر الإربلي، والرشيد بن الهادي، والسخاوي.
وولي إمرة الحاج مرات عديدة، وأنفق في ذلك وفي وجوه البر أموالاً كثيرة.
وكان سليم الباطن وقف بالنّيرب تربة مليحة بقبّة، وخانقاه ومسجداً، ووقف على ذلك أماكن. وحدّث بالصحيح غير مرة، وقرأ عليه شيخنا الذهبي الصحيح في عشرة أيام.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة عشر وست مئة.
يوسف بن هبة الله
الإسرائيلي، الشيخ جمال الدين بن الحلبي الطبيب الفاضل المعروف في القاهرة بالصفدي، لأنه سكن صفد مدة.
وله كلام جيد على آيات تدل على ذكائه واطلاعه.
توفي - رحمه الله تعالى - سنة ست وتسعين وست مئة.
يوسف بن هلال
ابن أبي البركات جمال الدين الحلبي الحنفي أبو الفضائل الطبيب الصفدي.
أخبرني العلامة أبو حيان من لفظه، قال: كان المذكور فيه تعبّد واعتكاف في شهر رمضان بجامع الحاكم، وكان يؤثر الفقراء ويطبّهم ويبرّهم بالشراب والطعام الذي يواتيهم في مرضهم، وأنشدنا لنفسه بالكاملية يوم الأحد تاسع المحرم سنة إحدى وثمانين وست مئة:
بكمال حسنك يا مخاطب ذاتي ... بلوائح أخفى من اللحظات
أنعم عليّ بترك ما هو عكس ما ... قد جلّ عن حصر وعن كلمات
يا قهوة مني إلي شربتها ... عندي إذا حظرت على الأموات
ارتجت الأرضون ثم تشققت ... عن كل ميت فيه كل حياة
هي روح سر السر فهي إذا بدت ... تستغرق الأرواح في الأوقات
من دونها موتٌ وفيها عيشةٌ ... فالروح أول نقدةٍ يا أتِ
ماذا أقول وما أصرّح واصفاً ... قد قلت في الحركات والسّكنات
فوصفت ظاهرها بما أظهرته ... والسر في سري ولا بصفات
قال شيخنا الذهبي: كان أديباً عالماً، له أرجوزة في الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بالقاهرة ثالث عشري المحرم سنة ست وتسعين وست مئة.
قلت: الظاهر أنه هذا الذي تقدم آنفاً، وإنما وهِمَ أثير الدين في اسم أبيه.
يوسف بن يوسف
ابن إسرائيل بن يوسف بن أبي الحسن الفقيه الفاضل بدر الدين ابن الشيخ المقرئ جمال الدين الصالحي الحنفي.
كان فقيهاً مشتغلاً بالفقه والأصول، حسن المناظرة، باشر إعادة المدرسة الظاهرية وغيرها.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سادس عشر شهر ربيع الآخر سنة خمسٍ وعشرين وسبع مئة، وله من العمر سبع وثلاثون سنة، ورثاه العماد القطان بقصيدة.
يوسف حَوْك
النصراني الزغلي.(3/83)
كان من أهل الكرك. أول ما عرفت من أمره أنه أمسكه والي الشقيف من بلاد صفد بزغل، وجهّزه الى صفد، وكان النائب بها إذ ذاك الأمير سيف الدين أرقطاي في شهور سنة أربع وعشرين وسبع مئة، فدخل إليه، وطلب الخلوة به، فقال له: أحضر لي صائغاً خلوة، فلما حضر قال له: قصّ من هذه النحاسة التي معك شيئاً، فقصّ ذلك قدراً زنته أربعة خمسة دراهم، ووضعها في البوتقة، ولما ذابت، ألقى عليها شيئاً مما معه مثل الذّرود، فصارت فضة حجر، ليس فيها ريبة ولا شبهة، فقال النائب للصائغ: ما تقول في هذه؟ فقال: هذه فضة حجر طلغم ليس فيها شيء، فأطلعه الى القلعة، واعتقله بها. وبقي خائفاً من الأمير سيف الدين تنكز، لا هو الذي يخرجه من الاعتقال، ولا هو الذي يتمكّن منه ليعمل له الذي توهّمه فيه. ولم يزل يوسف معتقلاً بقلعة صفد الى أن كتب ذلك قصّة وجهّزها في سنة ثلاثين وسبع مئة أو ما قبلها الى تنكز، وطلب فيها الحضور، فأحضره تنكز من صفد، ودخل إليه، وعمل بين يديه كما عمل قدّام نائب صفد، وكان تنكز سعيد الحركات والآراء، فقال له: أحقّ ما عملت هذه الصنعة بين يدي مولانا السلطان، فكتي مطالعة بصورة الحال، وجهّزه تحت الترسيم الى السلطان الملك الناصر، فدخل إليه، وعمل ذلك العمل أيضاً، فطار عقل السلطان به، وقال له: أنا أعمل الذهب أيضاً.
وبقي عند السلطان ينام في المرقد، ويركب من خيل النّوبة، وينزل الى القاهرة، وأوهم الناس، وأخذ منهم الذهب، ومن بكتمر الساقي ومن الخدّام شيئاً كثيراً من الذهب، وصار يقول لهم: كل من أحضر لي خمسة مئة دينار أخذها خمسة آلاف، فطمع الناس، وأعطوه ذهباً كثيراً، وهو يأخذ الجميع، ويدكه في الفحم، ويحرّك به البوتقة، ويفرّغ ذلك ذهباً أحمر لا مرية فيه:
أعيا الفلاسفة الماضين في الحقب ... أن يصنعوا ذهباً إلا من الذهب
أو يصنعوا فضة بيضاء خالصة ... إلا من الفضة المعروفة النّسب
وبلغ في أمره أن كان السلطان يطلب له الخمر من الأقباط، ويشربه قدّامه، ويقول له: يا خوند ما أقدر على الزئبق ورائحته إلا بهذا، وكان يحتمل له السلطان هذا مع كراهيته في الخمر، وشرع يدافعه من وقت الى وقت، الى أن قال له: هذا يريد حشيشة ما رأيتها إلا في جبال الكرك، فجهزه تحت الترسيم على خيل البريد الى الكرك، ولو قدر هناك على الهروب هرب. لكن الترسيم الذي عليه، احتفظوا به، وأحضروه.
ثم إنه هرب من القاهرة، وتطلبه السلطان، وأمسك أناساً ضمنوه، وقتلهم بالمقارع، وبالغ في طلبه الى أن أمسك في الصعيد، وأحضر الى السلطان في أواخر الحجة سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، فسلّمه الى والي القاهرة، فقتله من بعد صلاة الجمعة الى المغرب ألف شيب، فأصبح وقد ورم جسده جميعه، وسُمّر على جمل، وطيف به، وهلك.
والذي كان في ذهني منه أنه كان قد ظفر من أحد ببعض شيء من إكسير، فكان يعمل بين يدي أولياء الأمر منه قليلاً قليلاً، والذي يتعيش به على الناس كله من الزغليات، ولهذا كان لا يعمل إلا ثلاثة دراهم أو أربعة.
يونس بن إبراهيم
ابن عبد القوي بن قاسم بن داود، فتح الدين الكناني العسقلاني أبو النون الدبابيسي، مسند الديار المصرية.
قرأت عليه جميع القدر المسموع من كتاب القناعة لابن أبي الدنيا من أول الجزء الأول الى قوله: فكأنما ملئت غنىً، وذهب عني ما كنت أجده بسماعه من الشيخ أبي الحسن بن أبي عبد الله بن المقير سنة اثنتين وأربعين وست مئة، وجزءاً فيه ثلاثة أحاديث من رواية الشيخ أبي أحمد عبيد الله بن محمد بن أحمد الفرضي بسماعه من ابن المقير، وجزءاً فيه الأسانيد الحسنة المختارة من رواية الشيخ أبي غالب شجاع بن فارس الذهلي الحافظ عن شيوخه بسماعه من ابن المقير، وجزءاً فيه أحاديث منتقاة من أصول الشيخ الجليل أبي الرجاء محمد بن أحمد الجركاني، وجزءاً فيه أحاديث عن مشايخ الإمام أبي طاهر السلفي، وجزءاً فيه موعظة الأوزاعي للخليفة بإجازته من ابن المقير، وجزءاً فيه خطب الإمام علي بن أبي طالب في وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بإجازته من ابن المقير، وجزءاً فيه مجلس من مجالس القاضي أبي المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني عن شيوخه بإجازة المسمع من السبط.
وسمعت عليه بقراءة غيري أجزاء أُخر كثيرة.(3/84)
وكان قد سمع بإفادته عمه المحدث داود وابن أبي الحسن علي بن عبد الله بن المقير. وأجاز له ابن المقير، وفخر القضاة أبو الفضل أحمد بن محمد بن الحباب، وأسعد بن عبد الغني بن قادوس، وحمزة بن عمر بن أوس، وشعيب بن يحيى بن أحمد الزعفراني، وظافر بن طاهر بن شحم المطية، وأبو الحسن علي بن محمود الصابوني، وعبد الوهاب بن ظافر بن رواج الجوشني، والفقيه بهاء الدين أبو الحسن علي بن هبة الله بن بنت الجميزي الشافعي، وعبد الرحمن بن مكي بن الحاسب سبط السلفي، وعبد العزيز بن عبد المنعم بن النّقار، وأبو الرضا علي بن زيد بن علي التّسارسي، ومحمد بن أبي الحسن بن يحيى بن ياقوت، ومحمد بن إبراهيم بن الحبّاب، وأبو المنصور مظفر بن عبد الملك بن عبد القوي، ومنصور بن سند بن الدباغ، وأبو البركات هبة الله بن محمد المقدسي، ويوسف بن عبد المعطي بن المخيّلي، ويوسف بن محمود الساوي، وأبو علي الحسن بن إبراهيم بن دينار، وأبو بكر محمد بن الحسن السفاقسي، وأبو الفضل المرجا بن أبي الحسن بن شقيرة، ويعقوب بن محمد الهذباني، ومنصور بن أبي القاسم الجهني، وعبد العزيز بن عبد الوهاب بن عوف، وعبد القوي بن عزون، وابنه إسماعيل، وأحمد بن يحيى بن صباح، وعبد الحق بن عبد الله بن علاق، والحسن بن علي الفارسي، وأبو طالب محمد بن علي بن الخيمي، ومحمد بن إبراهيم التلمساني، ويوسف بن عبد الكافي بن الكهف، ومحمد بن محمود الأموي، وزهير بن محمد المهلبي، وعبد المنعم بن رضوان بن مناد. وله رواية عن غير هؤلاء.
وحدّث بالكثير، وسمع منه أبو الحجاج المزي سنة ثلاث وثمانين، وأبو محمد البرزالي، وسمع منه الحافظ أبو العلاء الفرضي.
وكان شيخاً أمياً ساكناً ديّناً، له جلد على إسماع الحديث، وتفرّد بغالب شيوخه، وعلا سنده، وانتفع الناس به، وازدحم الطلبة عليه، وهو آخر من حدث بالقاهرة عن ابن المقيّر، وعن خلق من أصحاب السلفي بالإجازة.
وأجاز لي سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بالقاهرة، وأذن في الكتابة عنه الشيخ شهاب الدين أحمد العسجدي.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بالقاهرة في مستهل جمادى الأولى سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وثلاثين وست مئة تقريباً بالقاهرة.
قلت أنا فيه:
إن الرواية تحتاج العلوّ فمن ... يسمع على صغرٍ يصعد بتأسيس
ولم يكن لي في الإسناد مرتبة ... تعلو وقد حصلت لي بالدبابيسي
يونس بن إبراهيم
ابن سليمان، الشيخ الإمام الفاضل بدر الدين الصرخدي الحنفي خطيب صرخد.
كان فاضلاً فقيهاً أديباً عارفاً بالنحو واللغة، وأقام بالمدرسة العزية التي بالكجك بدمشق مدة منقطعاً عن الناس بنفس شريفة تقنع بالقليل. طُلب في أواخر عمره لخطابة صرخد، فأجاب، وفرح به أهله، وذكر أنه سمع من الصريفيني.
وتوفي بصرخد في ذي الحجة سنة ثمان وتسعين وست مئة.
ومن شعره:
ظمئت الى سلسال حسنك مقلة ... رويت محاجرها من العبرات
تشتاق روضاً من جمالك طالما ... سرحت به وجنت من الوجنات
حجبوك عن عيني وما حجبوك عن ... قلبي ولا منعوك من خطراتي
هل ينقضي أمد البعاد ونلتقي ... بلوى المحصّب أو على عرفات
وتضمنا بعد البعاد منازل ... بالخيف أو بمنى على الجمرات
وأفيق من ولهي عليك وينقضي ... شوقي إليك وتنطفي جمراتي
يونس بن أحمد
ابن أبي الجن، ينتهي نسبه الى الحسين بن علي رضي الله عنهما.
كان كبير الأشراف بدمشق، يدعى ناصر الدين.
توفي - رحمه الله تعالى - سنة ست وعشرين وسبع مئة.
سمع من خطيب مردا، وروى عنه. وقصده الطلبة، وسمعوا عليه لشرفه ونسبه.
وكان جيداً متودداً، له شهرة بين الناس.
يونس بن أحمد بن صلاح
الشيخ الإمام المفتي شرف الدين أبو النون القرقشندي الشافعي.
كان فقيه مصر، وسمع من عبد الهادي قطعة من الموطأ، وطلب السماع عليه، فامتنع. وكان معيداً بزاوية الشافعي بجامع مصر.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في حادي عشري شهر ربيع الآخر سنة خمسٍ وعشرين وسبع مئة، ودفن بالقرافة.(3/85)
وقع في وقتٍ بينه وبين الشمس المحوجب نزاع في مسألة، وانفصلا من غير تراضٍ، فجاء إليه المحوجب ثاني يوم، واستغفر له، وقال: رأيت الشافعي في النوم، وقال: لا تنازعه فإنه ينقل مذهبي.
يونس بن حمزة
ابن عباس الإربلي، الشيخ الصالح الكبير المعمر أبو محمد العدوي القطّان، الساكن بالصالحية.
كان مشهوراً بطول العمر، روى بالإجازة العامة عن داود بن معمر بن الفاخر، وكان يمكن أن يروي عمّن هو أقدم منه، ولكن لم يقدم الطلبة على ذلك، لأنه ذكر أن مولده سنة ست وستّ مئة بإربل.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في نصف ذي القعدة سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وحضر جنازته خلق كثير.
يونس بن عبد المجيد
ابن علي بن داود الهذلي، القاضي سراج الدين الأرمنتي.
كان من الفقهاء الفضلاء، الأدباء الشعراء، المحمودين السيرة في القضاء.
سمع من الشيخ مجد الدين بن أبي الحسن بن علي بن وهب القشيري، والحافظ أبي الحسين يحيى بن علي العطار، وعمر بن موسى العامري، وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة.
وحدث بقوص وغيرها، واشتغل على مجد الدين القشيري، وأجازه بالفتوى، وورد مصر للاشتغال، وأعاد بالمدرسة المعروفة بزين التجار، كان هو والفقيه نجم الدين بن الرفعة معيدين بها، قال نجم الدين بن الرفعة: كنت مرة في الإعادة، فصار الطلبة يأتون إليّ، ولا يجلسون إليه، حتى وصلت الحلقة إليه، فقام، وأخذ سجادته على كتفه، ونظر إليّ، وقال: أروح الى الجامع، آخذاً دروساً في الأصول والنحو، يعني أنك ما تدري هذا.
وكان حسن المحاضرة، مليح المحاورة، صنّف المسائل المهمة في اختلاف الأئمة، وكتاب الجمع والفرق.
ولاه قاضي القضاة تقي الدين بن بنت الأعز القضاء بإخميم، وعملها، ثم أقره الشيخ تقي الدين مدة، ونقله الى البهنسا، فأقام بها فوق عشرين سنة، ثم ولاه قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة بلبيس والشرقية، ونقله الى قوص بعد كمال الدين السبكي.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بقوص من لسعة ثعبان في خامس عشر شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ومولده بأرمنت سنة أربع وأربعين وست مئة.
وكان لأبيه نظم وأدب.
قال كمال الدين الأدفوي: أنشدته ارتجالاً حين خرج من عند ابن جماعة:
سراج الدين سر في طيب عيش ... قرير العين محمود الفعال
وقد كملت مسرّتكم وتمّت ... وقيت النّقص من عين الكمال
قال: ورأيت بخطه على كتاب:
الحال مني يا فتى ... تغني عن الخبر المفيد
وبغير سكين ذبح ... ت وأدرجوني في الصعيد
وكان كذلك لم يخرج من قوص، وكان يروي التنبيه والمهذّب بالسند.
قال: وأنشدني لنفسه في شروط الكفاءة:
شرط الكفاءة حرّرت في ستّة ... ينبيك عنها بيت شعر مفردُ
نسبٌ، ودينٌ، صنعة، حرية ... فقد العيوب، وفي اليسار تردّدُ
قلت: الكفاءة عند الشافعي واجبة، فلا يجوز لأحد من الأولياء أن يزوج المرأة من غير كفء إلا برضاها ورضا سائر الأولياء، فإن رضوا بإسقاط الكفاءة، صحّ النكاح، خلافاً للإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، حيث ذهب الى أن الكفاءة شرط في الصحة، وسبيل من سلك الطريق القطعي في بطلان مذهبه أن يقول: فقد تزوج علي بن أبي طالب بفاطمة رضي الله عنهما، وأبوها سيّد البشر.
والكفاءة سبعة أمور: وهي الدين، والنسب، والصنعة، والحرية، والتنقي من العيوب، واليسار على أحد الوجهين، وأن لا يكون الزوج مولىً للزوجة أو أهلها، فموالي قريش ليسوا أكفّاء لقريش، وفي وجه أنهم أكفاء لأن موالي القوم منهم.
وقال كمال الدين الأدفوي: وأنشدني لنفسه في التعارض بين الاحتمالات، وتقديم بعضها على بعض:
مجازٌ وإضمارٌ ونقل وبعده اش ... تراك، وقبل الكل رتبة تخصيص
متى ما يكن إثنان منها تعارضا ... فقدم ما قدمت واحظ بتلخيص
قال: وأنشدني له:
إن ترمك الأقدار في أزمةٍ ... أوجبها أجرامك السالفه
فافزع الى ربك في كشفها ... ليس لها من دونه كاشفه
ومن شعره:
وشادن زار بعد يأسٍ ... كالغيث وافى على قنوط
وبات يجلو عليّ كأساً ... جاءت بحلّ الدم العبيط(3/86)
ولم نثلّث إذا ختلسنا ... إلا بإثم بنا محيط
فقلت والليل في شبابٍ ... عاجله الصبح بالوخوط
مشمّر ذيله لسير ... تشمير ذي الرحلة النشيط
بالله يا صبح لا تزرنا ... والصبح حربٌ لقوم لوط
ومن شعره:
يا أهل ودي وما أهلاً دعوتكمُ ... بالحقّ لكنها العادات والدرب
أبدعة ظهرت في الحب حادثة ... بالغدر أم رجعت عن دينها العرب
ومنه:
أيا ميُّ إن البين أعمى بصيرتي ... فلم أدر بعد اليوم رَشداً ولا غيّا
وإني لأسقي حيّكم من مدامعي ... وأعجبُ من ذا ميت قد سقى الحيّا
وقلبه موالياً فقال:
لما بدت بين أتراب لها من طيْ ... خودٌ طوت ثوب صبري بعد نشره طيْ
قلت سقيتُ بدمعي حيّكم يا ميْ ... قالت: عجب ما رأينا ميت يسقي الحيْ
ومنه:
يا صاحبيّ ديار عَلوهْ ... ظهر الهوى الخافي المموّهْ
والصبّ يوثقه الجوى ... وتخلّف الرفقاء جفوه
فقفا وإلا فالهوى ... يستوقف المشتاق عنوه
وسلا على قدريكما ... فأعزُّ ما في الحب سلوهْ
لا بأس أن يشكو المعا ... هدَ، أو يبثّ الدار شجوه
يا سطوة البين المش ... تّ وهل لغير البين سطوه
خلّفتني أشكو الصفا ... شكوى الخليل خليل صفوه
بتأوهٍ أعيا الصدا ... لو كان ينجو من تأوّه
بأبي أُوَيْطان تسقّي ... تُ الهوى فيهنّ قهوه
بلواحظ شهدت سرا ... ها بقلبي ألف غزوه
وأنا المطيع الحب إلا ... في تأمّره بخلوه
سافرت في العلياء حتى ... صرت شهوة كل شهوه
لا أستجيب لغير مد ... ح الشيخ شمس الدين دعوه
يونس بن عيسى
ابن جعفر بن محمد، القاضي شرف الدين الهاشمي الأرمنتي.
كان من الفضلاء النبلاء، قليل الكلام، كثير الاحتشام، واسع الصدر، رئيساً ساكناً.
سمع من أبي العباس أحمد بن محمد القرطبي، واشتغل بالفقه على خال أمه الرضي الأرمنتي، وعلى الشيخ جلال الدين الدشناوي.
وتولى الحكم بعدة أماكن منها: دشنا، وأدفو، وأسنا، وأسوان، وقمولا وما معها من القرى، ونقادة. وناب بقوص قريباً من ثلاثين سنة، وأهلها راضون عنه.
وله معرفة بالفرائض والحساب والوراقة، ودرس بالمدرسة العزية ظاهر قوص، وأعاد بالمدرسة الشمسية مدة.
قال كمال الدين الأدفوي: وكان حلو الخلوة، ينبسط ويتبسّم، وفيه قعدد، وعليه مهابة، فقيه النّفس يتكلم على الوسيط كلاماً حسناً. ولما حج آخر حجة اجتمع بقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، وتحدث معه، فأعجبه سمته، وأحسن إليه، وأضافه ضيافة حسنة كبيرة، وخطر له أن يولّيه الشرقية، فذكرت له، فقال: أنا في آخر العمر، ما أخرج من وطني، وأيضاً فأنا في قوص أي من ولي أقرّني على حالي، والكدّ على غيري.
وقع من علوّ، فمات - رحمه الله تعالى - بعد ساعة، سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
اليونيني
الشيخ شرف الدين علي بن محمد. وقطب الدين موسى بن محمد.
تمّ الكتاب بحمد الله تعالى وعونه وحسن توفيقه، نهار الجمعة الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين وتسع مئة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، بخط العبد الفقير المعترف بالذنب والتقصير، الراجي عفو ربه القدير أبو بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر العِواجي نزيل مكة المشرفة.
عفا الله عنه بمنّه وكرمه، آمين، آمين.(3/87)